الكتاب: منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري المؤلف: حمزة محمد قاسم راجعه: الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عني بتصحيحه ونشره: بشير محمد عيون الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق - الجمهورية العربية السورية، مكتبة المؤيد، الطائف - المملكة العربية السعودية عام النشر: 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] ---------- منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري حمزة محمد قاسم الكتاب: منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري المؤلف: حمزة محمد قاسم راجعه: الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عني بتصحيحه ونشره: بشير محمد عيون الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق - الجمهورية العربية السورية، مكتبة المؤيد، الطائف - المملكة العربية السعودية عام النشر: 1410 هـ - 1990 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري تأليف حمزة محمد قاسم راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون الجزء الأول مكتبة دار البيان ص. ب 2854 - هاتف 229045 دمشق - الجمهورية العربية السورية مكتبة المؤيد ص. ب 10 - هاتف 7321851 الطائف - المملكة العربية السعودية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 حقوق الطبع محفوظة للمؤلف بيروت 1410 هـ - 1990 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 تقديم الكتاب لصاحب الفضيلة خادم السنة النبوية الشيخ عبد القادر الأرناؤوط بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذا الكتاب العظيم الذي جمعه أمير المؤمنين في الحديث، الِإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، المتوفى سنة (256) هـ حيث قوّى عزمه على ذلك أستاذُه أمير المؤمنين في الحديث والفقه الِإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة (238) هـ حيث قال الِإمام البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح، فجمعه وسمَّاه (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله علمه وآله وسلم وسننه وأيامه) والتزم أن لا يورد فيه إلا حديثاً صحيحاً، وقصد من جمعه لهذا الجامع الذبَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه، والرد على الجهمية والمعطلة وبعض الطرق المنحرفة. ولما انتهى من جمعه عرضه على شيخه الِإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلى بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة. وقد اتفق العلماء على أن هذا الجامع أصح كتاب في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد اعتنى بهذا الجامع الصحيح كثير من أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين: فشرحه علماء كثيرون، واختصره أئمة آخرون، لا مجال لذكر أسمائهم لكثرتها. ولقد سمت هِمَّة الأستاذ الجليل فضيلة الشيخ حمزة محمد قاسم فاختصر الجامع الصحيح اختصاراً وسطاً، ثم قرَّر بعد اختصاره أن يشرحه شرحاً مبسطاً يستفيد منه طلاب العلم، فقام بذلك حق قيام، جزاه الله تعالى خيراً، وسمى شرحه هذا (منار القاري في شرح مختصر البخاري) واعتمد في شرحه على الأئمة المتقدمين الذين شرحوه من الفقهاء والمحدثين. وإن الأخ في الله الشارح لهذا الجامع الصحيح حفظه الله. درس على أفاضل من علماء المدينة وتخرج من القسم العالي (1) من مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، ولقد أتى في شرحه لكتابه هذا بما قاله العلماء في المذاهب الأربعة وسواها، وذكر ما قاله الجمهور من الفقهاء ومن خالفهم في ذلك. وفي شرحه لأحاديث العقائد ذكر توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد الِإلهية والعبادة، دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل، بأسلوب سهل، على عقيدة السلف الصالح، وأهل السنة والجماعة التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وهي العقيدة   (1) وقد تحدث عن هذا القسم الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه "بناة العلم في الحجاز"، كما تحدث عنه الدكتور محمد العيد الخطراوي في كتابه عن مدرسة العلوم الذي سيصدر قريباً (المؤلف). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 السليمة، والطريقة المستقيمة التي ينبغي على كل مسلم أن يسلك سبيلها، وأن يسير على نهجها. وقد بحث حفظه الله تعالى في القضاء والقدر بحثاً جيداً على طريقة أهل السنة والجماعة، وأقوال الأئمة المجتهدين، والعلماء المحققين. وبين بوضوح كل ما يتعلق بالعقائد، والأحكام، والمعاملات، والحدود، والأخلاق، وعرَّف السنة والبدعة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين، وما استقر عليه عمل الصحابة، وقد توسَّع في المعاملات، والطب، والأدب، والرقاق، والاعتصام بالكتاب والسنة، فنقل أشياء جديدة عرفت في عصرنا الحاضر، في المواضيع الاجتماعية والأمور الطبية التي يستفيد منها طلاب العلم والشباب المثقف في هذا العصر. وقد ختم شرحه هذا بآخر حديث ختم به الِإمام البخاري رحمه الله صحيحه هذا، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". فكان ختاماً حسناً، وشرحاً واضحاً يستفيد منه العام والخاص، فجزاه الله تعالى خيراً. إن الشارح حفظه الله جاء إلى دمشق الشام ليقوم بطبع هذا الكتاب وتفضل علي وزارني في داري جزاه الله تعالى خيراً. وأطلعنى على عمله المبارك، فقدَّمه إليّ، وطلب مني أن أقرأ كتابه هذا، وأن أراجعه وأنظر في أحاديثه وشرحه، وأن أبدي ملاحظاتي عليه، فاستجبت لذلك على ضعفي، وقرأته من ألفه إلى يائه، ومن أوله إلى آخره، فوجدته كتاباً جيداً نافعاً إن شاء الله لطلاب العلمٍ والقراء الذين يطلعون عليه، وقد رتبه ترتيباً حسناً، ونظمه تنظيماً دقيقاً، وشرحه شرحاً جيداً لا لبس فيه ولا غموض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فوضعت عليه بعض الملاحظات، وعلقت بعض التعليقات على الأحاديث النبوية، وربما أبدلت حديثاً بحديث، أو ذكرته بلفظه جاء في المصادر التي نقل عنها، وَرَجعت في ترجيح أقوال العلماء إلى قول أهل السنة والجماعة، وأهل العلم بالسنة من المحققين والمدققين من المتقدمين والمتأخرين، هذا وقد أضاف حفظه الله بعمله هذا إلى المكتبة الِإسلامية كتاباً حافلاً بالخير والبركة جعله الله تعالى في صحيفة أعماله، وصحيفة من شارك فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الاعتقاد الصحيح، والسبيل المستقيم، وأن يوفقنا لاتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطريقته وهديه، وأن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. دمشق 17 ربيع الأول 1409 هـ الموافق 27 تشرين الأول 1988 م خادم السنة النبوية عبد القادر الأرناؤوط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 كلمة شكر وتقدير ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه العظام، وآلائه الجسام؛ والحمد لله الذي وفقني لخدمة سنة المصطفى خير الأنام، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، ما توالت الأيام وتتابعت السنون والأعوام. وبعد. يسرني في هذه اللحظة المباركة التي أقدم فيها كتابي هذا إلى القراء، أن أوجه خالص شكري وتقديري وامتناني إلى صاحب الفضيلة المحدث الكبير، والعالم السلفي الجليل، الشيخ عبد القادر الأرناؤوط على تفضله مشكوراً بمراجعة أحاديث هذا الكتاب سنداً ومتناً، وتدقيق معانيها وفقهها وأحكامها وتذييل حواشيه بإرشاداته القيمة وتعليقاته العلمية المفيدة وآرائه الصائبة، فأفاض عليه من غزارة علمه، وسعة اطلاعه، ما هو جدير بفضيلته وأهل له، وكل تعليق ختم بـ (ع) فهو لفضيلته. جزاه الله عن الحديث وأهله خير الجزاء، ونفع به الِإسلام والمسلمين. ويطيب لي في هذه المناسبة السعيدة، أن أنوه بالجهود الكبيرة التي بذلها الأستاذ الجليل السيد بشير محمد عيون صاحب دار البيان في خدمة هذا الكتاب، حيث قام بإعداده وطبعه وإخراجه، وأشرف عليه في جميع مراحله، وعني كل العناية بتحقيق نصوصه وتدقيق ألفاظه وكلماته، وراجعه مرات ومرات، فله مني وللأستاذ الفاضل السيد حسن السماحي الذي قام بتصحيحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وترقيمه جزيل الشكر وعاطر الثناء، وعميق التقدير، وأتمنى لهؤلاء السادة الأفاضل كل نجاح وتوفيق فيما يبذلونه من نشاط واسع في خدمة الكتب الدينية وإحياء التراث الإسلامي، وعلى الأخص ما يتعلق منه بالحديث النبوي الشريف والسنة المحمدية المطهرة وعقيدة السلف الصالح. سدد الله خطاهم ووفقهم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. دمشق 12 ربيع الأول سنة 1409 هـ المؤلف حمزة محمّد قاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الكتاب الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله. أرسله الله بالهدى ودين الحق على فترةٍ من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس. وصلّى الله على سيدنا محمدٍ الذى أرسله الله إلى الثقلين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً. وبعد فإنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشرف العلوم علم السنة المحمدية، ودراسة أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ودراية، فقهاً وأحكاماً، فالكتاب والسنّة توأمان. وقد كان جبريل ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن. فهي وحي إلهي منزل، وهي المرجع الأول في تفسير القرآن الكريم، والمصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. ولذلك كان لعلم الحديث مكانته السامية، وكان لأهل الحديث مكانتهم المرموقة بين العلماء. ويكفيهم شرفاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نوَّه بشأنهم، ودعا لهم بالوجاهة بين الناس، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: "نَضَّرَ اللهُ امرءاً سَمِعَ مِنَّا حديثاً فَحَفِظَهُ حتَّى يُبلغَه، فرُبَّ حامِل فَقهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْه، وَرُب حَامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيْهٍ" أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وقد استجاب الله تعالى دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لأهل الحديث كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: فما من أحد يطلب حديثاً إلا وفي وجهِه نضرةٌ. والمراد أنه لا يوجد أحد من طلاب الحديث إلاّ وقد منحه الله تعالى نشاطاً وقوةً في جسمه، وصفاءً في لونه، وبهجةً في صورته ووجاهةً بين الناس. وإنما دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدعوة المباركة، لأنه سعى في تجديد سنة المصطفى، فكان جزاؤه من جنس عمله، أفاده القسطلاني. قال بعض السلف: ويرجى لأهل الحديث أن يفوزوا بنضرة النعيم في الدار الآخرة. ولا عجب فأهل الحديثِ هم خلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على سنته. وقد كانت أمنية عمري أن يمنَّ الله عليَّ بخدمة "صحيح البخاري" وما زال هذا الحُلُم يراود مخيلتي سنين طوالاً، حتى وافتني الفرصة، وتحقق الأمل، فوفّقني الله تعالى إلى تأليف هذا المختصر الذي لخصته من صحيح البخاري، ووضعت عليه شرحاً وسطاً يقع في خمس مجلدات أو في خمسة أجزاء، تحرّيت فيه أن يكون محقِّقاً للغرض، مشتملاً على ما لا بدَّ منه، من ترجمة بعض الرواة، وشرح معنى الحديث، وبيان فقهه وأحكامه، وتخريجه (1)، ومطابقته للترجمة. وحرصت أن يكون - قدر الإمكان - بأسلوب سهل، وعبارة واضحةٍ، قريبةٍ من القراء، وفي متناول مداركهم. وبذلت جهدي في تحْقيقه معتمداً على أوثق المصادر الإسلاميّة. فإنْ أصبت فبفضل من الله (وما توفيقي إلا بالله) وإنْ أخطأت فالمؤلفون عُرْضة للزلل، ومن ألَّف فقد استُهدِف. وسميته "منار القاري شرح مختصر البخاري" أسأل اللهَ ربَّ العرش العظيم، أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويمنحه القبول، وينفع به القرّاء.   (1) اعتمدت في ذلك على شرح العيني غالباً، وفي بعضه على "جامع الأصول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وإنّي لأطمع أن يشملني قوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وَأَصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) اللَّهم إني أسألك أن تمنّ علينا وعلى والدينا وأوْلادنا وآل بيتنا ومشايخنا وأقاربنا وأصدقائنا، وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات بعفوك وغفرانك، ورحمتك ورضوانك. (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وصلّى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. حمزة محمّد قاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 "لمحات عن البُخاري وكتابه الجامع الصحيح" " الإمام البخاري: ترجمته، حياته، مؤلفاته " عصر البخاري : ظهر البخاري في القرن الثالث الهجري الذي ازدهرت فيه العلوم الإِسلامية، وأصبح لها مراكز متعددة بالمدينة ومكة (1) والبصرة والكوفة وبغداد عاصمة الخلافة ومركز العلوم والحضارة، في ذلك العصر الذي نمت فيه المذاهب الفقهية وتطورت علوم القرآن من تفسير وغيره، وأُلفت الكتب المتعددة في السيرة والتاريخ والطبقات، ووضعت علوم العربية لخدمة القرآن الكريم. أما علوم الحديث: فقد بلغت في هذا العصر قِمَّة مجدها، وظهر فيه أعلام السنة وكبار المحدثين، منهم أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ومُسْلم بن الحجاج والترمذي وابن ماجة وأبو داود، كل هؤلاء ظهروا في هذا العصر الذهبي للعلوم الإِسلامية وألفوا المسانيد والمجاميع وتركوا تراثاً إسلامياً ضخماً في الحديث وعلومه. ولم يكن هذا العصر عصر بداية الحديث وتدوينه وإنما كان عصر تطوره وازدهاره، أما بداية تدوينه فقد كانت في القرن الثاني الهجري، عندما أمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث خشية ضياعه، وكتب إلى واليه أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم كتاباً يأمره فيه أن ينظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته فيكتبه خوفاً من أن يندرس هذا العلم بذهاب العلماء (2) فكان   (1) الإمام البخاري للدكتور تقي الدين الندوي. (2) ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين ج 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أوَّل من استجاب لهذه الدعوة إمام المحدثين في ذلك العصر محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهري، فكتب فرائد في علم الحديث، حتى عدّه بعضهم واضع مصطلح الحديث. وكان أوَّل من جمع الأحاديث والآثار. ثم اقتفى المحدثون أثره ونهجوا نهجه، واقتصروا في أوَّلِ الأمرِ على مجرد تدوين الحديث وجمعه، ثم خطوا خطوة جديدة انتقلوا فيها من مرحلة التدوين إلى مرحلة التنسيق والترتيب الفقهي، فوزعوا الأحاديث على أبواب الفقه الإسلامي، فهذا كتاب الصلاة وأبوابها، وهذا كتاب الزكاة وأبوابها، وهذا كتاب الصوم وأبوابه، وهكذا إلى آخره. وكان من الروّاد الأوائِل في تنسيق الأحاديث وترتيبها ابن جريج ومالك وعبد الله بن المبارك وعبد الرزّاق (1)، ثم جاء من بعدهم النسائي وابن ماجة وغيرهم، وفي مقدمتهم الإمامان الجليلان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم ابن الحجاج القشيري. البخاري، نسبه، ولادته، نشأته : البخاري هو حجة الإسلام وقدوة الأَنام وأمير المحدثين الأَعلام، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة بن "بَرْدِزْبَة" (2) الجعفي، أَسلم جدّه المغيرة على يد ابن اليمان الجعفي والي بخارى، ولذلك نسب إليه. وكان والده إسماعيل من ثقات المحدثين، كما ترجم له ابن حبان، وذكر عنه البخاري أنه سمع من مالك، وصحب ابن المبارك، وكان محدِّثاً ورعاً صالحاً تقياً. ولد البخاري عند صلاة الجمعة من اليوم الثالث عشر من شوال سنة 194 هـ ببلدة بخارى من أسرة كريمة، وأراد الله أن ينشأ يتيماً في حجر أمّه، وكانت صالحة فأَنفقت   (1) الإمام البخاري للدكتور الندوي أيضاً. (2) بردزبة بفتح الباء وكسر الدال ومعناه "الفلاح أو المزارع باللغة الفارسية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 عليه من مال أبيه، وأحسنت تربيته فنشأ نشأة علمية صالحة، ولاحظته العناية الإِلهية منذ صغر سنه، فقد روي أنّه ذهبت عيناه في صغره، فأخذت أمُّه تضرع إلى الله تعالى، وتبتهل إليه حتى استجاب دعاءها وردّ إليه بصره، وأسلمته أمه إلى الكتاب، فحفظ فيه القرآن الكريم، وظهرت عليه آثار النجابة، ورزقه الله تعالى قلباً واعياً، وحافظة قوية، وألهمه حفظ الحديث، فأخذ منه بحظٍ وافر وهو لم يبلغ العاشرة من عمره، وتردد على علماء بلده، وما إنْ بلغ السادسة عشرة حتى حفظ عدداً كبيراً من كتب الأئمة وكيع وابن المبارك وغيرهم من أعلام عصره. رحلاته العلمية : كان البخاري واسع الطموح قوي الرغبة في طلب العلم، أفنى عمره كله في رحلته الطويلة بين العواصم الإسلامية للالتقاء بالمحدثين والسماع منهم، فبدأ رحلته بالحج برفقة أمّه وأخيه أحمد الذي كان أكبر منه سنّاً، وأقام بمكة زمناً، ثم طاف على معظم مراكز الحديث في العالم الإِسلامي وسمع من مشايخه في خراسان والحجاز ومصر والشام، ودخل المدينة المنوّرة، وصنَّف في روضتها الغراء كتابه "التاريخ الكبير" وقال رحمه الله: قلّ اسم في التاريخ إلاّ وله عندي قصة. ودخل بغداد ثماني مرات، وكان يجتمع فيها كل مرة بالِإمام أحمد، فيحثه على الإقامة فيها. كثرة شيوخه : لا شك أن هذه الرحلة الطويلة كانت سبباً في كثرة مشايخ البخاري وكلهم من أعلام المحدثين ذوي الثقة والعدالة. قال رحمه الله تعالى: "كتبت عن ألف وثمانيْن نفساً، ليس منهم إلاّ صاحب حديث. وكان بعض مشايخه رحمه الله من التابعين، وبعضهم من أتباع التابعين، وهم الطبقة الوسطى من مشايخه. تلامذته : أخذ عن البخاري وسمع منه خلق كثيرٌ حتى قال الفربري: سمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 منه كتاب البخاري سبعون ألف رجل، وكان من أعْلام تلاميذه الترمذي والنَسائي ومسلمٌ وابن خزيمةِ وأبو زُرعة. سعة حفظه : كان رحمه الله في الحفظ نادرة زمانه، وأعجوبة دهره، ولم يكن له نظير في عصره، بل كان آية من آيات الله في أرضه، رُوِى عنه أنه كان ينظر في الكتاب فيحفظه من نظرة واحدة، قال رحمه الله تعالى: أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائَتَيْ أَلفِ حديثٍ غير صحيح، وروى أبو العباس البغدادي "أن البخاري لما قدم بغداد اجتمع به محدثوها وأَرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مائة حديث قلبوا متونها وأسانيدَها، وجعلوا إسناد هذا لهذا ودفعوا لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم أن يلقوا ذلك إلى البخاري، فلما انعقد المجلس من كبار علماء العراق وخراسان، قام إليه رجل فسأله عن حديث منها، فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقى إليه واحداً واحداً (1)، والبخاري يقول: لا أَعرفه، ثم قام إليه ثان وثالث ورابع حتى فرغوا كلهم، فالتفت إلى الأَول فقال: أمَّا حديثك الأول فقلت: كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا، وصوابه كذا، حتى أَتى على تمام العشرة فرد كل متنٍ إلى إسْنَادِهِ، وفَعَل بالآخرين مثل ذلك، قال الحافظ: فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنّه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه. ثناء أهل العلم عليه : لقد أجمع علماء الإِسلام على أن البخاري قد فاز بقَصَب السبق، وتفوّق على غيره في علم الحديث حتى أصبح يلقَّب بأمير المؤمنين في الحديث، وشهد له بذلك أهل العلم في جميع العصور قديماً وحديثاً، فقال الإمام أحمد رحمه الله: ما أخرَجَت خراسان مثل محمد بن إسماعيل، رواه الخطيب بإسناد صحيح.   (1) المقدمة لابن حجر العسقلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 واعترف له بالفضل جميع أئِمة عصره، فقال الدارمي: لقد رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أَجمع من محمد بن إسماعيل. وقال قتيْبة بن سعيد: جالست الفقهاء والزهاد والعباد، فما رأَيت منذ عقلْت مثل محمد بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة. وأما مكانته في الحديث وعلو منزلته بين المحدثين، فقد قال عنه الحافظ ابن كثير: البخاري إمام المحدثين في زمانه، والمقتدى به في أَوانه، والمقدم على سائِر أقْرانه. وقال السبكي: البخاري إمام المسلمين وقدوة المؤْمنين، وشيخ الموحدين، والمعوَّل عليه في حديث سيد المرسلين، وكتب إليه أهْل بغداد شعراً قالوا فيه: المُسْلِمُونَ بِخَيْرٍ مَا بَقِيْتَ لَهُمْ ... وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِيْنَ تُفْتَقَدُ وقال فيه أبو مصعب: لو أدركتَ مالكاً ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلت كلاهما واحدٌ. وهكذا اشتهر البخاري، وأصبح حديث الدنيا، وتطلعت إليه الأنظار، وأجع العلماء على محبته وتقديره، واشتاقت إلى رؤيته القلوب، وشخصت الأبصار حتى قال أبو سهيل: أكثر من ثلاثين عالماً من علماء مصر يقولون: حاجتنا في الدنيا النظر إلى وجه محمد بن إسماعيل. وقال يحيى بن جعفر: لو قَدِرْتُ أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم. صفات البخاري وشمائله : كان البخاري رحمهُ الله ربعة القوام، عظيم الحياء والشجاعة والورع والزهد، كثير الجود وتلاوة القرآن، أنفق المال الذي ورثه عن والده على طلبة العلم، وكان شغوفاً بتلاوة القرآن يختم في رمضان في كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 يوم ختمةً قال محمد ابن أبي حاتم. وفاة البخاري : عاد البخاري أخيراً إلى مسقط رأسه (بخارى) وتلقَّاه أهلها بالحفاوة والتقدير. إلاّ أنَّ أميرها خالد بن أحمد الذهلي سأله أن يحضر إلى منزله ليحدِّث أولاده بالجامع الصحيح، فامتنع، وقال كلمته المشهورة: لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانتْ له حاجة فليحضر إلى مجلسي. فغضب عليه الوالي، ونفاه عن بخارى. فدعا عليه بقوله: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم، فلم يأت شهر على ذلك الوالي حتى عُزِّرَ به، وأركب على أتان ونودي عليه في أسواق بخارى. أما البخاري فإنه سار إلى سمرقند بدعوة من أهلها، فوقعت بسببه فتنة، فتوقف بقرية خَرْتَنْك، على ثلاثة فراسخ من سمرقند، ومرض هناك ووافاه أجله المحتوم، ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين من الهجرة النبوية. مؤلفات البخاري كثيرة منها: 1 - الجامع الصحيح أو صحيح البخاري. 2 - الأدب المفرد. 3 - القراءة خلف الإِمام. 4 - التاريخ الكبير. 5 - التاريخ الأوسط. 6 - التاريخ الصغير. 7 - خلق أفعال العباد. 8 - أسامي الصحابة. 9 - كتاب الضعفاء. قال القسطلاني: وسارت مؤلفات البخاري مسير الشمس، ودارت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الدنيا، فما جحد فضلها إلاّ الذي يتخبطه الشيطان من المس. الجامع الصحيح - أو صحيح البخاري: صحته: لا شك أن هذا الجامع الصحيح المشهور بصحيح البخاري هو أجل كتب الإِسلام بعد كتاب الله شاناً وأعلاها منزلة، وأصح كتب الحديث على الإطلاق، وهو الكتاب الذي خلّد اسم البخاري، ودخل به التاريخ من أوسع أَبوابه، وأصبح ذكره على كل لسان على مر العصور والأَزمان، لأنه خطا في كتابه هذا خطوةً عظيمة وانفرد بميزة لم يشاركه فيها غيره، حيث اقتصر فيه على أصح الصحيح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واشترط في الأحاديث التي أخرجها شرطاً لم يشترطه سواه، وقد كان المحدثون قبله لا يعنون إلا بجمع ما وصل إليهم من الحديث، تاركين البحث عن رواته إلى القرّاء، فلما ظهر البخاري أراد أن يجرِّد الصحيح من الأحاديث في كتاب على حدة، ليريح الطالب من عناء البحث، فأَلَّف كتابه هذا الذي اقتصر فيه على الحديث الصحيح، الذي ينطبق عليه شرطه هو دون سواه، قال ابن الصلاح: أوَّلُ من صنف الصحيح أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ... ثم إِن كتاب البخاري أصح الكتابين وأكثرها فوائد. فصحيح البخاري أصح من صحيح مسلم، لأن شرط البخاري أَقْوى، فقد اشترط فيما يخرجه من الأحاديث " اللقيا " بين الراوي ومن روى عنه، بينما لم يشترط مسلم سوى " المعاصرة بينهما "، ولهذا قال العسقلاني: أما رجحان البخاري من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة. أهـ. ولهذا أجمعوا على أنه أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قال البخاري رحمه الله تعالى: سمعت شيخي إسحاق بن راهويه يقول: لو جمعتم كتاباً مختصراً في الصحيح من سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوقع ذلك في نفسي أو في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح" ورأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبّرين فقال: أنت تذب عنه الكذب (1)، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح. وقد تحرى في صحته ما أمكنه التحري وبذل في ذلك أقصى الجهد ومكث فيه سنوات طويلة، قال رحمه الله: " صنفت الجامع في ست عشرة سنة، وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله، ما أدخلت فيه حديثاً حتى استخرت الله تعالى، وصليت ركعتين وتيقنت صحته. وأكد ابن الصلاح أن الأحاديث التي انفرد بها البخاري ومسلم أحاديث مقطوع بصحتها، تفيد (2) العلم اليقينى لتلقي الأمة كلَّ واحد من كتابيهما بالقبول، ويقول الأستاذ أحمد محمد شاكر " الحق (3) الذي لا مرية فيه عند أهْل العلم بالحديث من المحققين، أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعْف "، أهـ. ولقد كان من العوامل التي ساعدت البخاري على أن يكون الرائد الأَوَّلَ في تجريد الأحاديث الصحيحة كما قال أحمد أمين في ضحى الإِسلام: أنه رزق خصلتين بارزتين مكَّنتاه من غرضه:   (1) مقدمة البخاري للحافظ بن حجر. (2) المقدمة لابن الصلاح. (3) سرح ألفية الحديث لفضيلة الأستاذ أحمد مَحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الأولى: حافظة قويّة لاقطة خاصةً (1) فيما يتعلق بالحديث، فقد بالغ الرواة في كثرة ما كان يحفظه عن ظهر قلبه من أَحاديث بسندها، فروي عنه أنه كان يحفظ في صباه سبعين ألف حديث وأكثر، ولا يجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا ويعرف مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم وأوصافهم، ومهما كانت هذه الأخبار التي رويت عنه فإنها تدلنا على قدرته في الحفظ، وكان يستعين على حفظه بالتقييد، فقد رووا عنه أنه كان يقول ما تركت حديثاً في البصرة إلا كتبته. الثانية: مهارة فائِقة في تعرف الرجال ونقدهم، وقد وضع في ذلك كتابه " التاريخ " لتمييز الرجال، ورووا عنه أنه قال: قَلَّ اسْمٌ قي التاريخ إلا وله عندي قصة. أما عدد أحاديث صحيح البخاري: فقد ذكر ابن الصلاح (2) أنها سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً بالأحاديث المكررة (3)، وقيل إنها بإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث وتبعه النووي في مختصره ... وقال القاري (4): الذي حققه الحافظ في شرح البخاري، أن جملة أحاديثه مع التعاليق والمتابعات والشواهد والمكررات تسعة آلاف وإثنان وثمانون حديثاً، وبإسقاط المكرر تبلغ أَحاديثه المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أَلفين وستمائة وثلاثاً وعشرين، وتبلغ ثلاثيات البخاري وهي أعلى الأسانيد مع المكرر اثنين وعشرين حديثاً، وبإسقاط المكرر ستة عشر حديثاً.   (1) ضحى الإسلام للأستاذ أحمد أمين. (2) علوم الحديث للإمام ابن الصلاح. (3) وقد أحصى أحاديثه الأستاذ المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي فبلغت (7563). (4) المرقاة شرح الشكاة للقاري ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 أما ثناء الناس عليه: فقد أَجمع علماء الإِسلام على تلقي هذا الكتاب الصحيح بالقبول، لأنه الكتاب المبارك الذي جمع بين دُفتَيْهِ السنّة الصحيحة، ولا شك أن صاحبه رحمه الله تعالى عندما أسماه " الجامع المسند الصحيح " قد عنى بالفعل أن يكون هذا الكتاب مطابقاً لعنوانه، فنفَّذ ما وصفه به بكل دقة وعناية، والتزام، ولهذا حظي الكتاب بما لم يحظ به غيره، من تقدير علماء الإسلام وإعجابهم به شرقاً وغرباً، فأثنوا عليه بالغ الثناء، ووصفوه بما يليق به، فقال الذهبي في تاريخ الِإسلام: أما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الإسلام، وأفضلها بعد كتاب الله وهو أعلى في وقتنا هذا إسناداً للناس. وقال شيخ الإِسلام ابن تيميّة: ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن (1). وشارك الشعراء في الثناء على هذا الكتاب العظيم، والتغني بمدحه فقال العجلى: كأنَّ البخاري في جمعه ... تلقى من المصطفى ما كتبْ فلله خاطره ما وعَى ... وساق فرائده وانتخبْ وقال الجرجاني في وصفه: أسانيدُ مثلُ نجوم السماء ... أمَامَ متونٍ كمثل الشُّهُبْ به قام ميزانُ دينِ النبي ... ودانَ له العُجْمُ بعد العربْ وخير طريق إلى المصطفى ... ونور مبين لكشف الريبْ صحيح البخاري لو أنصفوه ... لما خط إلاّ بماء الذهبْ (2) نفعنا الله به ووفقنا للعمل بما فيه والله أعلم.   (1) الإمام البخاري للدكتور الندوي. (2) شرح القسطلاني ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 قال البخاري: بسم الله الرحمن الرحيم 1 - " باب كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1)   (بسم الله الرحمن الرحيم) 1 - " باب كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أقول وبالله التوفيق: جرت عادة المصنِّفين على إطلاق لفظ الباب على مجموعة من المسائل العلمية المشتركة في حكم واحد، وعلى هذا جرى البخاري حيث ذكر في هذا الباب الأحاديث المتعلقة بالوحي، وكيف بدأ وتدرج من مرحلة إلى أخرى، ومن رؤيا منامية إلى وحي صريح. كما ذكر فيه الأحاديث المتعلقة بالوحي المحمدي وتقرير صحته وثبوته وصدقه. ولا شك في أن تصدير البخاري. كتابه بباب بدء الوحى أمر في غاية المناسبة، والإِبداع والتوثيق العلمي. فإنّ فيه إشارة صريحة إلى أن ما بين دفتيه من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وحى إلهي، وكذلك السنة الصحيحة كلها. قال يحيى بن كثير: كان جبريل ينزل بالسنَّة كما ينزل بالقرآن، أخرجه الدارمي، وقال عز وجل: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله ". أما الوحي فله معنيان معنى لغوي ومعنى شرعي وإنْ شئتَ قلت: له في اللغة معان عديدة، وله شرعاً معنى واحد. فالوحي لغة يأتي لعدة معان وهي: (أ) الإشارة الحسية باليد والعين وغيرهما، كما قال الشاعر:   (1) حديث "إنما الأعمال بالنيات ... " سيأتي شرحه وافياً صفحة (145). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 نظرت إليْها نظرةً فَتَحَيَّرَتْ ... دَقَائِق فِكْري فِى بَدِيْع صِفَاتِهَا فَأوحَى إِلَيْهَا الطرفُ أنَّي أحبّهَا ... فأثَّر ذَاكَ الوَحيُ في وَجنَاتِهَا ومنه قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا). (ب): الكتابة كقول لبيد (1): فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّي رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُها (فالْوُحِىُّ جمع وَحْيٍ وهو الكتابة)، وإنما سميت الإِشارة والكتابة وحياً لدلالتهما على المعنى بسرعة لا يدانيهما فيها غيرهما. والعرب تسمي السرعة وحياً، فيقولون: تَوَحَّى الرجل إذا جاء بسرعة، فهما يرجعان إلى أصل واحد وهو السرعة. (جـ) الإِلهام القلبي وهو ما يلقيه الله في قلب الإنْسان من علم، أو أمر، أو نهي. كما قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). (د) التسخير الغريزى للحيوان (2) كقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ): أي أنَّ الله سخرها عن طريق الغريزة أنْ تصنع هذه الأشياء العجيبة. (هـ) الوسوسة الشيطانية، ومنه قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ). وإنما سمي " الإلهام " و " التسخير الغرْيزي " و " الوسوسة الشيطانية " وحياً، لأنّها إعلام في خفاء، والعرب تسمي الإعلام الخفي   (1) ديوانه: 297 (2) الوحي المحمدي للسيد رشيد رضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَحْياً، قال الكسائي: تقول وحيت إليه إذا كلمته بكلام تخفيه عن غيره. أما الوحي شرعاً: فهو إعلام الله تعالى لنبيٍّ من أنبِيَائه بالشريعَة الْمنْزَلَةِ عليه، وما يتعلق بها من أخبار وأحكام سواءً كان هذا الإِعلام الإِلهي مَناماً أو إلهاماً أو كلاماً بواسطة أو بغير واسطةٍ. وِإنما سمي إعلام الله لأنْبِيَائِهِ وحياً لأمرين: أولاً: لأنه يأتي غالباً إِلى الأنبياءِ في سرِّية وخفاءٍ، وأصل الوحي في اللغة " الإِعلام الخفي ". ثانياً: أنه غالباً مما يتم في سرعةٍ شديدةٍ حتى أنَّ القسطلاني قال: والتلقي من الملك، وفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أُلقي إليه كأنه في لحظة واحدة، بل أقرب من لمح البصر، ولذلك سمي وحْياً لأن الوحي في اللغة الإِسْراع. والحاصل أنه سُمِّيَ وحياً لما يتصف به غالباً من الخفاءِ والسرعة، حتى قال بعضهم: الوحي شرعاً هو إلقاء الله تعالى الكلام أو المعنى في نفس النبي بخفاء وسرعة. ولكن هذا التعريف في الحقيقة، لا ينطبق على الوحي في كل الأَحوال، فليس كل وحي يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرعة وخفاء، فقد يأتي أحياناً عَلانيةً، ويلقاه جبريل أمام أصحابه، فيرونه ويشاهدونه، ويسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويجيبه - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أظهرهم، وَيقولُ لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ". وقد تطول مدة نزول الوحي، ويستغرق فترة من الزمن، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فالسرية والسرعة ليست صفة لازمة للوحي، ولا حالة مطرِّدَة فيه، وإنما هي حالة أغلبية والله أعلم. أنواع الوحي: قال ابن القيم: وكمل الله له - صلى الله عليه وسلم - من مراتب الوحي مراتب عديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أحدهما: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدء وحيه (1)، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه (2) من غير أن يراه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلاّ بطاعته ". الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي ما يقول، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً. الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده، عليه فيلتبس به الملك حتى أن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد. وحتى إن راحلته لتبرك به إِلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرّة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليها حتى كادت ترضها. الخامسة: أن يرى الملك في صورته (3) التي خُلق عليها فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين، كما ذكر الله ذلك في سورة النجم. السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج. من فرض الصلاة وغيرها.   (1) واستمر على هذه الصورة ستة أشهر من ربيع الأول إِلى رمضان، حيث نزل عليه الوحي الصريح، وأتاه جبريل في غار حراء. (2) وهو ما يسمى بالإلهام، ومعناه إلقاء العلم الإلهي في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون سبب ظاهرى، من إدراك حس أو نظر واستدلال. (3) وهو نادر جداً، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يره على صورته الأصلية إلا مرتين، مرة سأل ربه أن يريه كذلك، فظهر له كما هو، فسد الأفق، ومرة أخرى عند سدرة المنتهي، ليلة المعراج، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد، وجاء فيه أنه رآه - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى، له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق. أخرجه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 السابعة: كلام الله له، منه وإليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله تعالى موسى بن عمران، وكلَّم أيضاً نبينا - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، قال ابن القيم: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحاً، " مباشرة دون حجاب " وهذا على مذهب من يقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - رأَى ربه (1) تبارك وتعالى، وهي مسألة خلافية بين السلف والخلف، وقد بدأ الخلاف في هذه المسألة منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، فعائِشةُ وجماعة من الصحابة يقولون: لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه، وابنُ عباس ومن وافقه يقولون: رأى - صلى الله عليه وسلم - ربه، ليلة المعراج، وروى الخلال في " كتاب السنة " عن المروزي أنه قال: قلت لأحمد: يقولون إنَّ عائشة قالت: " من زعم أنّ محمداً رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفرية " فبأي معنى تدفع قولها قال بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: رأيت ربي (2)، وقال ابن كثير: وصرح بعضهم بالرؤية بالعين، واختاره ابن جرير وبالغ فيه (3) وقال النووي في شرح مسلم: الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه (4)، لحديث ابن عباس وغيره، حيث قال " أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وإثبات هذا لا يأخذونه إِلا بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5). عناصر الوحي: لا شك أنّ الوحي يتألف من عنصرين هما: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالسنة توأم القرآن، والمصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي وحي إلهي من أنكرها فقد أنكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكفر بشهادة أن محمداً رسول الله؛ لأنها لا تتحقق إلا بتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، والعمل   (1) زاد المعاد لابن القيم. (2) " مختصر سيرة الرسول " للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. (3) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 3. (4) شرح النووي على مسلم ج 3. (5) والرؤية محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى أن الرؤية بالبصر، فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن قال: إنه رآه بعيني رأسه، ففيه نظر. (ع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بسنته، ومن لم يعمل بالسنة لم يعمل بالقرآن؛ لأنه خالف قوله عز وجل (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). ولا تتحقق طاعة الله إلّا بطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله عز وجل (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أطاعنى فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " أخرجه البخاري. وقال يحيى بن كثير: كان جبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن. وفي الحديث عن المقدام بن معدي كرب قال: قال النبي: - صلى الله عليه وسلم - " ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله " إلى أن قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإنّ ما حرم رسول الله كما حرم الله " أخرجه أبو داود. وقال طاووس رحمه الله تعالى: وقيل: لم يسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحياً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسن به (1). من هو أول الأنبياء ومن أول الرسل؟ لا خلاف بين أهل العلم في نبوة آدم عليه الصلاة والسلام، فقد اتفقوا على أَنه نبي، وأنه أوّل الأنبياء، لثبوت ذلك بالأحاديث الصحيحة، قال الأستاذ الصابوني (2) وقد ورد في السنة الصحيحة ما يدل على نبوته صراحة وذلك في حديثين: الأول: عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر "، رواه الترمذي. الثاني: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله   (1) ترتيب مسند الإمام الشافعي لمحدث المدينة في القرن الثالث عشر الهجري الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة 1257 هـ. (2) النبوّة والأنبياء للأستاذ محمد علي الصابوني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلنا: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: نعم، نبي يكلَّم، قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جَمَّاً غفيراً .. رواه أحمد. قال: ولهذه الأدلة نرى علماء المسلمين متفقين على نبوته، لم يخالف في ذلك أحد، والله تعالى أعلم " قال " وأما رسالته فالأمر فيها مختلَفٌ فيه، فيرى بعض العلماء أنه رسول، وأنه أرسل إلى ذُرِّيته، ويرى الآخرون أنه لم يكن رسولاً، وإنَّما كان نبيّاً، ويستدل هؤلاء بحديث الشفاعة الوارد في صحيح مسلم أن الناس يذهبون إلى نوح يقولون له أنت أوّل رسل الله إِلى الأرض، فلو كان آدم رسولاً لما ساغ هذا القول. والرأي الأرْجح أنه من الرسل. ومن أقوى الأدلة على رسالته قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) فقد روي عن الحسن وابن عباس رضي الله عنهما تفسير الإِصطفاء في الآية بالاختيار للرسالة، كما أخرجه ابن عساكر وابن جرير (1)، وهذا يدل على أن آدم أوّل الرسل، قالوا: إنما لم يذكر اسمه مع الرسل في قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلخ لأن الوحىَ الذي أنزل عليه كان غالباً حول الأمور الكونية (2)، لا التشريعية والله أعلم. ...   (1) تفسير الآلوسي ج 3. (2) فيض الباري على صحيح البخاري للشيخ محمد أنور الكشميري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 1 - عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَام سأل رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يَأتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أحْيَاناً يَأتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ   1 - الحديث: أخرجه الشيخان راوية الحديث: هي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، عقد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل هجرته، وعمرها ست سنوات، ودخل عليها بالمدينة في شوّال من السنة الثانية وعمرها تسع سنوات. ولها مناقب عظيمة، فمن مناقبها أنها حبيبة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأن الوحي كان ينزل عليه في فراشها، ونزلت براءتها من السماء، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرها، ودفن في حجرتها، وكانت من الستة المكثرين من رواية الحديث، وهم أبو هريرة وعائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنهم. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاً ومائتين وعشرة أحاديث في حين أنها لم تتجاوز الثامنة عشرة عند وفاته - صلى الله عليه وسلم -. وكانت مرجعاً للناس في الفقه والفتيا والكتاب والسنة، كما كانت موضعٍ تقدير الخلفاء، توفيت في رمضان سنة خمس وخمسين للهجرة مخلّفة بعدها تراثاً إسلامياً ضخماً يُعَدُّ مصدراً من مصادر التشريع الإِسلامي. معنى الحديث: تُحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها " أن الحارث بن هشام " ابن المغيرة الخزومي شقيق أبي جهل، أسلم رضي الله عنه يوم الفتح، وأصبح من فضلاء الصحابة، خلّف اثنين وثلاثين ولداً منهم عبد الرحمن بن الحارث، أحد الفقهاء السبعة، وحضر اليرموك واستشهد فيها. " سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ " أي أن الحارث ابن هشام رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال ليتعرّف على كيفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الْجَرَس" وَهُوَ أشَدُّهُ علَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وأحْيَاناً   نزول الوحى، لأن الوحي هو مصدر هذا الدين، ولأن التعرف عليه والتأكد منه مما يقوِّي الإيمان ويزيد في اليقين. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد عُني بسؤاله هذا لأهميته، وأجابه عنه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس " أي أن للوحي صوراً مختلفةً، ومن هذه الصور أنه يأتي " في بعض الأوقات " على شكل صوت قوي غريب مبهم، يشبه دقات الجرس. لو سمعه الإِنسان العادي لم يفهم منه شيئاً، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعي هذا الصوت، ويفهم معناه، فور انتهائه. لأنّ الله تعالى الذي علَّم آدم الأسماء كلها قد هداه إلى معناه، وأقدره على فهمه. أما مصدر هذه الصلصلة وصوت من هي؟ فالظاهر أنها صوت المَلَك الوكل بالوحي، لما جاء في رواية أخرى للبخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يأتي الملك أحياناً في مثل صلصلة الجرس " أي يأتي الملك بالوحي أحياناً، فيكلم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بصوت مثل صلصلة الجرس (1). وقد كان هذا النوع من الوحي يأتي بأصوات مختلفة، وربما أَتى كدويّ النحل، وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعونه أحياناً، فقد روى عمر في حديثه أنه - صلى الله عليه وسلم - إِذا نزل عليه الوحي يُسْمَعُ عنده كدويّ النحل، أخرجه الترمذي، والنُسائي والحاكم والبيهقي وأبو نعيم بإسناد جيد، قال القاضي (2): وما جاء مثل ذلك يجري على ظاهره، وكيفيّة ذلك مما لا يعلّمه إلاّ الله سبحانه، ومن أطلعه الله على شيءٍ من ذلك من ملائكته ورسله، قال - صلى الله عليه وسلم - " وهو أشده على " أيْ والوحي على هذه الصورة أشد أنواع الوحي على نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كما أفاده الحافظ أمر   (1) قال الكرماني الجرس شبه ناقوس صغير، أو سطل مقلوب في داخله قطعة نحاس يعلق على البعير منكوساً فإذا تحركت النحاسة فأصابته تحصلُ الصلصلة. (2) أى القاضي عياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلاً فيُكَلِّمُني، فأعيَ ما يَقُولُ" قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ولقَدْ رَأيتُهُ ينزلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ في اليوْمِ الشَّديدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ   " واضح " لأن الفهم من كلام مثل صلصلة الجرس، أَشكل " وأصعب " من الفهم من الكلام العادي بالتخاطب المعهود. قال - صلى الله عليه وسلم - " فيفصِمُ عنّي وقد وعيت عنه ما قال " أي فلا يكاد ينتهي هذا الصوت المبهم الشبيه بالصلصلة وينقطع الإرسال إلا وقد فهِمْتُ ما يعنيه، وماذا قال فيه، لأن الله الذي علم آدم الأسماء كلها قد هدى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأقدره ومكّنه من فهم هذه الصلصلة، ثم قال " وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً " أي وفي بعض الأوقات يصل إليَّ الوحي عن طريق الالتقاء الشخصي بالمَلَكِ الذي يحمله، فيأتي الملك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة إِنسان من البشر، ويراه النبي - صلى الله عليه وسلم - عياناً، ويكلمه ويسمع منه كلاماً واضحاً جليًّا، ويلتقي به حقيقةً لا خيالاً، قال ابن خلدون: وفي هذه الحالة (1) ينتقل الملك من الروحانية المحضة إلى الصورة البشرية، وكان غالباً ما يأتي على صورة دحية الكلبي، أوسم العرب، ولا غرابة في ذلك، فإن الملائكة تتشكل كيف شاءت، لأنّها أجسام نورانية لطيفة قادرة بإذن الله على التشكل بأشكال مختلفة، إلاّ أنها لا تتشكل إلاّ بالصور الشريفة. والملك كما يقول السيد رشيد رضا: قد منحه الله تعالى قوة التصرف في مادته وصورته، فالملائكة تكبر وتصغر كيف شاءت بإقدار الله تعالى لها على ذلك. " فيكلمني فأعي ما يقول " أي فيبلغنى ذلك الملك الوحْي الذي جاء به من عند الله تعالى بكلام صريح واضح، فأفهمه في الحال، وهو معنى قوله: " فأعي ما يقول " لأن المضارع المقترن بالفاء يدل على الحال. "قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم   (1) مقدمة ابن خلدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 عَنْهُ، وإنَّ جَبينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقاً.   عنه" أي فينقطع عنه " وإن جبينه ليتفصد عرقاً " أي يسيل العرق من جبينه بغزارة شديدة، كما يسيل الدم من العِرْقِ المفصود. بسبب ما يكابده من شدة الكرب والمعاناة، وما يبذله من جهد أثناء نزول الوحي عليه، وقد وردت في وصف ما يعانيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي أحاديث كثيرة، ففي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تأخذه عند الوحي الرحضاء " أي يتقاطر منه مثل عرق الحمى " وفي حديث عبادة بن الصامت " كان نبي الله إذا أنزل عليه كرب تربد وجهه " وهذه الشدة التي يعانيها مصداق قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) أي ثقيلاً عند تلقيه وحياً، والالتزام به عملاً ولكن هذه المشقة تهون وتزول متى تكرر نزول الوحي، فتذهب متاعبه ومشقته، وتبقى حلاوته وعذوبته. كما أفاده فضيلة الأستاذ الشعراوي في فتاويه (1) والله أعلم. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: تنوع الوحي إلى أنواع مختلفة، فمن أنواعه: أن يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوتاً مثل صوت الجرس أو دويّ النحل ومنها التقاء الملك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - متمثلاً في صورة إنسان من البشر يبلغه عن الله عز وجل ما شاء الله أن يبلغه له من أمر أو نهي أو خبر أو بشارة أو نذارة أو غيرها. وقد يلتقي به في سمع من الصحابة فيسأله ويُجيبُهُ ثم يعرفهم به - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " هذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم " كما في حديث جبريل المشهور. ثانياً: بيان ثقل الوحي وشدته على النبي - صلى الله عليه وسلم - سيما ما كان منه مثل صلصلة الجرس.   (1) الفتاوى لفضيلة الأستاذ الشعراوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 2 - عَنْ عَائِشَةَ أمِّ الْمُؤْمِنينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أوَّلُ مَا بُدِىءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْي الرؤيَا الصَّالِحَة في النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرى رؤيا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليْهِ الْخَلاءُ،   ثالثاً: إثبات وجود الملائكة وقدرتهم على التشكل بأشكال مختلفة والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أحياناً، وأحياناً " فإنّه يدل على أن للوحي صوراً مختلفة. 2 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي معنى الحديث: تحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث، عن بَدْءِ نزول الوحي على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فتذكر لنا أن أول ما أوحي إليه في البداية هو الرؤيا الصالحة والصادقة، التي اقتصر عليها الوحي مدة ستة أشهر، من ربيع الأول إلى شهر رمضان المبارك حيث جاءه الوحي الصريح. وإنما اقتصر الوحي في بدايته على الرؤيا فقط مراعاةً لسنّة التدرج، وتلطفاً وإيْناساً له - صلى الله عليه وسلم -، ورفقاً به، لئلا يَفْجَأهُ الملك يقظةً فيشق عليه. " فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح (1) " أي فكانت رؤياه - صلى الله عليه وسلم - كلها صحيحة صادقة، لا يرى رؤيا إلاّ تحقَّقَ تفسيرها وظهر، كما يظهر الصباح في هذا الوجود، لأنَّ رؤيا الأنبياء ليست من أضغاث الأحلام، وإنّما هي حق ووحي من الله. وأفئدة الأنبياء كأجهزة الاستقبال (2) المعدة لالتقاط الأنباء في كل حين، فهي مستعدة لتسجيل ما يقذفه الملك فيها يقظة أو مناماً. " ثم حبب إليه الخلاء " أي حَبب الله تعالى لنبيّه العزلة والانفراد عن الناس، والانقطاع لعبادة الله   (1) قال بعضهم: فلق الصبح ضياؤه، وقال الخليل: هو الصبح نفسه، فيكون قوله " فلق الصبح " من إضافة الشيء إلى نفسه لتأكيده، كقولهم عين الشيء وسوّغ ذلك اختلاف اللفظين. (2) هكذا شبه الأستاذ محمد الغزالي قلوب الأنبياء في استقبالها للوحي الإلهي وهو تشبيه لطيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَكَانَ يَخْلُو بغَارِ حِرَاءَ، فَيَتَحنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التُّعَبُّدُ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ في غَارِ حِرَاءَ، فجاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأ، قَالَ: مَا أنَا بِقَارِىءٍ، قَالَ: فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي   تصفيةً لقلبه، وتزكية لروحه، وإبعاداً له عن الباطل وأهله. فاختار - صلى الله عليه وسلم - لنفسه هذه العزلة عن رغبة وعاطفة، حيث وجد فيها لذة الروح، وسلوة النفس، ومتعة القلب، بالأنس بالله تعالى، وذلك من مقدمات نبوته. " فكان يخلو بغار حراء " (1) أي فكان - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى غارٍ منزوٍ في جبل حراء، على يسار الذاهب إلى منى، وعلى بعد ثلاثة أميال من مكة، فينفرد في ذلك الغار، لكْي يجمع بين الخلوة والتعبد والنظر إلى بيت الله الحرام، ولا تجتمع هذه المزايا العظيمة إلاّ في غار حراء الذي يطل على الكعْبة، فيمكنه من النظر إليها، والنظرُ إلى البيت عبادَة. " فيتحنث فيه " أي فيكثر هناك من عبادة الله تعالى ليالي وأياماً عديدة، ولا يمكن القطع في كيفية عبادته - صلى الله عليه وسلم - لأنّه لم يرو شيء عن ذلك في الأخبار الصحيحة، ولكنّ الذي يرجحه المحققون من أهل العلم أنه كان يتعبد بالتفكير والتأمل في هذا الكون ومُبْدِعه، والفكر عبادة " قبل أن يَنْزِعَ إلى أهله " (2) أي فيمكث هناك في غار حراء فترة من الزمن حتى يحن إلى أهله، ويقوى اشتياقه إليهم، ويفرغ زاده " ثم يرجع إلى خديجة " أي فإِذا اشتد به الحنين إلى أهله، وانتهي ما معه من الزاد عاد إِلى خديجة مرَّة أخرى. " فيتزود لمثلها " أي فيأخذ من خديجة زاداً جديداً، يصطحبه معه إلى غار حراء. " حتى جاءه الحق " أي واستمر سيدنا محمد   (1) بالمد والقصر والتذكير والتأنيث والصرف وعدمه. (2) يقال نزع إلى أهله إذا حن إلى رؤياهم، وناقة نازع إذا حنت إلى مرعاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الْجَهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرأ، فقُلْت: مَا أنَا بِقَارِىء، فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرأ، فَقُلْتُ: مَا أنا بقَارِىءٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فَرَجَعَ   - صلى الله عليه وسلم - على الخلوة والتعبد، حتى أشرقت عليه أنوار النبوة، ونزل عليه الوحي الصريح، يوم الاثنين السابع عشر من رمضان، فأتاهُ ملك الوحي جبريلُ عليه السلام -حقيقة لا خَيالاً- مرسلاً من ربِّ العزة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أَتمَّ الأربعين من عمره وتلك سنة الله في الأنبياء، لا يأْتيهم الوحي حتى يتم نضجهم الجسمي والعقلي والنفسي ببلوغ أربعين سنة. قال الشاعر: وَأتتْ عَلَيْهِ أرْبَعُوْنَ فَأشْرَقَتْ ... شَمسُ النُبُوَّةِ مِنْهُ فِي رَمَضَانِ " فقال اقرأ " أي فلم يشعر إِلّا وجبريل شاخصٌ أمامَ عينيْهِ يقول له: اقرأ. قال في فيض الباري: وهذا الأمر بالقراءة من باب التلقين والتلقي، كما يقول المعلم لتَلميذه: اقرأ، ومعناه: خذْ عَنّي ما ألقيه إليك من القراءة. " قال ما أنا بقارىء " أي كيف أستطيع القراءة وأَنا أُمي لا أقدر عليها ولا علم لي بها " قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد " أي فأمسك بي ذلك الملَكُ، وضمني ضمة شديدة، حتى بلغ مني أقصى ما تتحمله الطاقة البشرية. وإنما فعل ذلك إيناساً له، وتقوية لنفسه، وتنشيطاً لقلبه، على تلقي الوحي الإلهي. " ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارىء " أي ثم أطلقني، وأمرني بالقراءة ثانياً، فقلت: ما أنا بقارىء، وهو تأكيد للجواب الأول، ومتضمن لمعناه " فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء " أي ماذا تريد مني أن أقرأ. "فأخذني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيلدٍ فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُوْني فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَديجَةَ وأخبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشيتُ علَى نَفْسِي، فقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللهِ   فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) " أي إِقرأ ما أقولُه لك، وأبلغه إليك مستعيناً باسم الله وحوله وقوته، وِإقداره لك على القراءة، فإن الخالق العظيم الذي وهب الوجود لكل موجود، وأوجد الأشياء على غير مثال سابق، قادرٌ على تمكينك من القراءة دون أن تتوفر فيك أسبابها. (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) وهذا تأكيد للمعنى الأول، وجوابٌ لقوله - صلى الله عليه وسلم - ما أنا بقارىء، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما أنا بقارىء، قال الله تعالى له: وما يمنعك من القراءة وإن كنت أُميّاً لا تملك أسبابها؟. فإِن الذي خلق هذا الإنسان الحي العاقل المفكر من علقة جامدة، قادر على أن يمنحك القراءة والعلم وأنت أمي. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أيْ اقرأ وأنت واثق من أن ربك الكريم الأكرم، الواسع العطاء، الذي أنعم عليك بالنبوة دون كسب واختيار، قادر على أن يمنحك القراءة والعلم، وأنت أُمي لا قدرة لك عليها، ولا تملك اسبابها. فإن النبوة هبة إلهية يمنُّ الله بها على من يشاء من عباده، كما قالت الرسل لمن أنكر عليهم نبوتهم (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). وإن الذي وهبك النبوة دون كسب، هو الذي أكرمك بالقراءة والعلم دون سبب، ليكون ذلك آية واضحة على صدق نبوتك، كما قال الشاعر: كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الأمِّيِّ مُعْجِزَةً ... فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالتَأدِيْبِ فِي اليُتُمِ " فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده " أي فعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآيات، وبهذه الأمور العجيبة إلى خديجة، يضطرب قلبه بين جنبه خوفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مَا يُخْزِيكَ الله أبداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضِّيفَ، وتُعِيْنُ على نوائب الحق. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حتى أتتْ به وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَل بنِ أسَد بْنِ عبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ،   مما وقع له، ويرتعش جسمه فزعاً، لأن الخوف الشديد يرتجف له الفؤاد تلقائياً، ويذهب بالحرارة الباطنة، ويعقبه البرد والقشعريرة، والرِعشة البدنية. وكذلك جميع الانفعالات النفسيّة تنعكسُ على أعضاء الجسم الداخلية والخارجية، ولذلك ارتعد قلبه - صلى الله عليه وسلم - بسبب شدة الخوف، وارتجف جسمه. وإنما قال يرجف فؤاده، ولم يقل: يرجف قلبه، لأن الفؤاد وعاءُ القلب، فإذا حصلت الرجفة للوعاء حصلت لما في داخله من باب أولى، فهو أبلغ " فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع " أي فدخل على خديجة، وجسمه يرتجف وينتفض من القشعريرة وهو يقول: غطوني بالثوب، فغطه خديجة حتى ذهب خوفه، وأحس بالدفء، فهدأ جسمه. " فقال لخديجة وأخبرها الخبر، " أي قصَّ عليها ما وقع له في حراء قائلاً: " لقد خشيت على نفسي " أي لقد خفت على نفسي مما حدث لي اليوم في حراء، وهذه هي طبيعة الإنسان إذا رأى ما يفاجأ به (1)، فقد حكى الله عنٍ موسى أنه خاف من سحر السحرة كما قال تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) " فقالت له خديجة: كلا " أي: لا داعي لهذا الخوف والقلق، فليس الشيء الذي رأيته من الأشياء الكريهة التي تستوجب الخوف والهلع والفزع. " والله ما يخزيك الله أبداً " (2). أي أقسم بالله أنه لن يصيبك هوان أو مكروه، أو ينالك ذلٌّ أو فضيحة مدى   (1) قال علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله فبدا له جبريل فرأى منظراً هاله، إذ لم يتقدم له شيء من ذلك. (2) والخزي هو الهوان والذل والفضيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَكَانَ امْرَأً تنَصَّرَ فِى الْجَاهِليَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ العِبْرانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ما شَاءَ اللهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخَاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ،   الحياة لأنّك على جانب عظيم من مكارم الأخلاق، " وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، " إنك لتصل الرحم " أي تحسن إلى أقاربك بالبذل والعطاء، والخدمة والسماحة، وطلاقة الوجه، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على الإحسان إلى قرابته، ولو كانوا كفاراً. فإنّه لما جيء إليه بالشيماء (1) بنتِ حليمة السعديّة في سبايا هوازن بسط لها رداءه، وقال لها: إن أحْببت أقمت مكرَّمَة مُحَبَبّةَ (2) أو رجعت إلى أهلك، فاختارت أهلها، فأعطاها عبداً وجارية (3). " وتحمل الكَلَّ " بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو في الأصل الثقل ويطلق على الإنسان العاجز عن مؤنة عياله، لثقل أعباء الحياة عليه، أي وتساعد العجزة والضعفاء، وتعينهم، وتحمل عنهم أعباء حياتهم، فإنْ كانوا فقراء أعطيتهم، وبذلت لهم من مالك، وإن كانوا مرضى واسيتهم، وإن كانوا في ضيق فرجته عنهم، ثم إنك تحمل من الصعاب والشدائد ما لا يحمله غيرك، لما فطرك الله عليه من الشجاعة والصبر على المكاره. " وتكسب المعدوم " (4) قال عياض: رويناه عن الأكثر بفتح التاء مضارع كسب، وعن بعضهم بضمها مضارع أكسب. اهـ. أمّا بفتح التاء فمعناه أنّها وصفته - صلى الله عليه وسلم - بحسن الحظ في التجارة، فهي تقول له: إنك تكسب من المال ما لا يكسبه غيرك، وتربح في تجارتك ما لا يربحه سواك، وقد كانت العرب لا سيما قريش يتمدحون بكسب المال.   (1) بفتح الشين وسكون الياء وهي أخته من الرضاعة. (2) بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الياء. (3) شرح الشفا للشهاب الخفاجي، وشرح الشفا لعلي القاري. (4) والمعدوم هو المال الذي يعدم كسبه من الغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فقالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِن ابْنِ أخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ:   وأما بضم التاء فمعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - جواد كريم، يعطي الناس ما لا يعطيهمٍ غيره، وقيل المعدوم هو الإِنسان الضعيف العاجز عن الكسب. سُمِّيَ معدوماً لعجزه عن التصرف فتكون رضي الله عنها قد وصفته بمساعدة العجزة والضعفاء، والبذل لهم من ماله، ويحتمل أنها أرادت كل هذه المعاني، فإنّها كلها تنطبق عليه - صلى الله عليه وسلم - " وتقري الضيف " أي وتقوم بضيافة الضيْف، وتكريمه بما يليق به، والقِرى بكسر القاف: الطعام الذي يقدَّم للضيف، فهي تصفه بإكرام الضيْف، وتقديم الطعام له، والقيام بواجبه، والترحيب به، وطلاقة الوجه عند مقابلته. " وتعين على نوائب الحق " أي وتعين الناس عند وقوع الحوادث، وتقف من ذلك في جانب الحق فتناصر المظلوم، وتأخذ على يد الظالم، وتسعف الملهوف، وتجير من استجار بك، قال العيني: النوائبُ جمع نائبة، وهي الحادثة، والنازلة خيراً أو شراً، وإنما قال: نوائب الحق لأنّها تكون في الحق وفي الباطل، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يعين على باطل، فلا يعين ظالماً على ظلمه. هذا وقد شملت هذه الأوصاف المحاسن كلها. وكأنّها رضي الله عنها أرادت أن تصفه بالكمال الإنساني الذي لا يشوبه نقص. وهكذا الأنبياء كما قال الأستاذ الغزالي: يكملهم الله من جميع النواحي الأخلاقية والنفسية والعقلية، لأن النبوة امتداد في جميع المواهب، بخلاف العظمة أو العبقرية، فإنّها قلما تخلو من شائبة نقص. " فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل " أي ذهبت به إلى ورقة بن نوفل " ابن عم خديجة " لأن والدها خويلد بن أسد ووالده نوفل ابن أسد أخوان " وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية " أي اعتنق النصرانية، وترك عبادة الأوثان، وذلك أنه سافر مع زيد بن نوفل إلى الشام، واتصل بالرهبان، ودرس عليهم وأخذ عنهم النصرانيّة، ولم يكن يوجد من المتدينين إلا قليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 يا ابْنَ أخِى مَاذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَبَر مَا رَأى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى. يَا لَيْتَنِي فيهَا جَذَعاً، لَيْتَنِي أكونُ حَياً إذْ يُخْرِجُكَ قَومُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:   وهو منهم " وكان يكتب الكتاب العبراني " أي يعرف الكتابة العبرية ويجيدها كما يعرف لغَتها لأنها لغة الكتب السابقة، وسميت عبرية لأن إبراهيم نطق بها بعدما عبر النهر فارّاً من النمرود، قال العيني: وكان آدم يتكلم باللغة السريانية، وكذلك أولاده من الأنبياء وغيرهم، غير أن إبراهيم حُوِّلَتْ لغته إلى العبرانية حين عبر النهر. " فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب "، أي يكتب منه الشيء الكثير، من أَيِّ موضع شاء بالعبرانية أو العربية كما أفاده السنوسي، ويُترجم إلى العربية إن شاء. " وكان شيخاً كبيراً قد عمَي " أيْ فقد بصره عندما كَبِرَ سِنَّهُ " فقالت له خديجة يا ابن عَمِّ اسمع من ابن أخيك " ولم تقل من محمد تلطفاً منها وتحبيباً لابن عمها فيه حتى يقبل عليه ويُعْنَى بشأنه " فقال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى " ولم يكن ابن أخيه نسباً، ولكن أراد إشعاره بعظم منزلته لديه، وأنه حل من نفسه في المعزّة والمحبّة منزلة ابن أخيه منه، فأطلق عليه ذلك مجازاً، كقول العرب " يا أخا العرب ". " فأخبره رسول - صلى الله عليه وسلم - " أي قص عليه قصته " فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله علىَ موسى " أي طمأنه وبشره بأنّ ما رآه هو الملك الذي كان ينزل على موسى بالوحي، قال ابن دريد: الناموس هو صاحب سر الوحي، وقال القاري (1): وأهل الكتاب يسمون جبريل بالناموس " يا ليتني فيها جذعاً " بالذال المعجمة المفتوحة والنصْب على الأكثر، أي ليتني أكون شاباً قوياً عندما يخرجك قومك، لأساهم في نصرتك، والدفاع عنك، والجذع من المعز ما   (1) المرقاة شرح المشكاة للقاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوُفِّي، وَفَتَرَ الوَحْيُ.   دخل في سنته الثانية، ومن الإبل ما بلغ الخامسة (1)، ومن الخيل ما بلغ سنتين، واستعير هنا للشابّ القوي، ونصب على الحاليّة أي يا ليتني حَي موجود في مكة حال كوني جذعاً كما أفاده عياض " ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك " أي حين تخرجك قريش، وهذا تنازل في التمني، لأنه لما رأى استحالة كونه شاباً قوياً حين إخراجه، لأنه قد أصبح شيخاً هَرماً كفيف البصر، تنازل عن أمنيته السابقة، وتمنى أن يكون موجوداً، ولو على حالتة الراهنة. ليساعده بالرأي والمشورة والتدبير وحض الناس، على اتّباعه. " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجى (2) هم؟ " وهذا استفهام تعجبي أي كيف تخرجني قريش من مكة مع شدة حبهم لي، وتعلقهم بي، ووصفهم لي بالأمين " قال: نعم لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلاّ عودي ". أي إلاّ عاداه قومه " وإن يدركني يومك أنصرك نصْراً مؤزراً " أي قوياً. " ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي " أي لم يلبث ورقة إلاّ قليلاً حتى مات، وانقطع الوحي. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: إيمان ورقة بن نوفل، وقد ذكر السهيلي أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أنك نبي مرسل، وأنك الذي بشر بك عيسى، وستأمر بالجهاد، وإن يدركني ذلك أجاهد معك. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: " لقد رأيت القس في الجنة، وعليه ثياب الحرير، لأنَّه آمن بي وصدقني " أخرجه البزار. وذكره   (1) أي أن الجذع من الإبل ما بلغ عمره خمس سنوات. (2) بتشديد الياء لأن أصله مخرجوني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ابن مندة في الصحابة والبلقيني في أول من أسلم. ثانياًً: أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء جميعاً وحي إلهي، لقول عائشة رضي الله عنها " أوَّل ما بُدِىءَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا إلخ. ثالثاً: أن أوّل ما نزل من الوحي القرآنى (اقرأ باسم ربك). رابعاً: أن الخائف لا ينبغي أن يُسْألَ حتى يهدأ، حتى قال مالك: المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره، ولذلك فإن خديجة لم تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عنه الخوف. خامساً: أن مكارم الأخلاق سبب للسَّلامة من المكاره لقول خديجة - رضي الله عنها- " والله ما يجزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم " الخ وقد صدقت في قولها، وبرت في قسمها. سادساً: جواز مدح الإِنسان في وجهه بصدق إذا لم يُخْشَ عليه الغرور والإِعجاب بنفسه، لأن السيدة خديجة رضي الله عنها قد مدحت النبي - صلى الله عليه وسلم - بخصال الخير الموجودة فيه. سابعاً: محاولة التخفيف عمن أصابه الفزع، والتسرية عنه، وتطمين قلبه وتهدئة نفسه. ثامناً: في الحديث دلالة على فضل السيدة خديجة ورجاحة عقلها، وحسن تصرفها في المواقف الصعبة. تاسعاً: دل الحديث على وجود الرؤيا الصادقة التي لا بد أن يظهر لها وجود في الواقع، ويقع تفسيرها في اليقظة على حسب تعبيرها، ومنها رؤيا الأنبياء التي هي أعظم أنواع الرؤيا، وأعلاها شأناً، وأشرفها مقاماً، وأصدقها وقوعاً. لأنّها وحي إلهيٌ كما قالت عائشة رضي الله عنها: "أول ما بدىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح. وإذا كانت الرؤيا الصادقة موجودة كما يدل عليه نص الحديث، فكذلك الرؤيا الكاذبة موجودة أيضاً كما يدل عليه مفهوم الحديث، فالرؤيا أنواع مختلفة: منها الأحلام الشيطانية: التي يصورها الشيطان للإِنسان في أثناء نومه أشكالاً مختلفة من الأشباح المخيفة، التي تؤذي النائم، وتثير في نفسه الآلام والمخاوف، وتسبب له القلق النفسي، فقد يرى أسداً يفترسه، أو عدواً يقتله، وما هي إلاّ مجرد خيالات لا تمت إلى الواقع بصلة، وقد نبهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا النوع من الرؤي الشيطانية، وأرشدنا إلى علاجه، وكيف نتخلص منه ونتغلب عليه، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " الحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً وليتعوَّذ من شرها. فإنها لا تضره " وإنّما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعوذ منها مع أنها خيال، لا حقيقة له ليتخلص من تأثيرها النفسي، وما تحدثه من وساوس، وأوهام وآلام نفسية، قد تؤدي بصاحبها إذا استسلم لها إلى الجنون، أو الموت المحقق، لأن الوهم وحش كاسر يقتل صاحبه، ويفتك به. فالتعوذ من هذه الرؤي يقضي على آثارها النفسية، ويخلص المرء من شرها، كما روي عن أبي سلمة رضي الله عنه أنه قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة رضي الله عنه يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحُلُمُ من الشيطانِ ". الخ فما كنت أباليها، أي فما عادت تخيفني لقناعتي نفسياً بعدم تأثيرها سيما بعد الاستعاذة منها. ومنها الأحلام النفسية: التي قد تنشأ عن مؤثرات خارجية، كأن يرى النائم ناراً تحرقه بسبب سقوط أشعة الشمس على عينيه. أو يسمع دقات الساعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فيرى مطارق حديدية تهوي على جسمه، وقد تنشأ عن موثرات عضوية فيرى معسور الهضم عدُواً، يخنقه، وربما نشأت عن رغبات مكبوتة في العقل الباطن، يريد أن ينفِّس عنها بهذه الأحلام، ولم يعرف فرويد وغيره من علماء النفس التحليليين غيرَ هذا النوع من الرؤيا فحصروا الرؤيا كلها فيه، فليست الرؤيا عندهم إلاّ تحقيقاً لرغبات نفسية لم يقدر لها أن تتحقق في الحياة العادية فينفس الإنسان عنها أثناء نومه، ويحاول تحقيقها ولو في النوم. وأنكروا وجود الأنواع الأخرى من الرؤيا، لقصور علمهم، وضيق أفقهم، فذلك هو مبلغهم من العلم، والإِسلام يقرّ هذا النوع من الرؤيا ويضيف إليه أنواعاً كما قال - صلى الله عليه وسلم - " الرؤيا ثلاث، رؤيا صالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث بها المرء نفسه " وعلماء النفس لا يعرفون إلا الأخير، وينطبق عليهم قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) فهم لا يتحدثون إلّا عن هذه الأحلام النفسية، ويحصرون فيه كل الرؤى، في حين أن الرؤيا أنواع مختلفة، منها ما عرفه علماء النفس وتحدثوا عنه. ومنها أيضاً الرؤيا الصادقة: التي يظهر تفسيرها في حياة الانسان، فيقع في اليقظة ما رآه في النوم على حسب التعبير الصحيح الذي تعبر به، وقد أثبت الإِسلام وجودها، وتحدث عنها علماء المسلمين، وهي كما يقولون: إلهام يلقيه الله تعالى في قلب العبد أثناء نومه، أو يلقيه الموكل بالرؤيا، أو ما تراه الروح عند عروجها إلى السماء أثناء النوم. فالأرواح -كما قال الإِمام علي رضي الله عنه- " يُعْرَج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق " (1) وقال الأستاذ سعيد حَوَّى " هذا النوعِ من الرؤيا مهم جداً (2) لأنه يكون مبشراً أو منذراً أو مخبراً أو محذراً "، والرؤيا   (1) كتاب الروح لابن القيم. (2) تربيتنا الروحية للشيخ سعيد حوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الصادقة تشمل الرؤيا الصالحة وغيرها، فإن كانت رؤيا حسنة تسَرُّ لها النفس فهي رؤيا صادقة وصالحة، وإن كانت سيئة تكرهها النفس فهي صادقة غير صالحة، وذلك لأنّ الرؤيا السيئة ليست كلها من الشيطان، بل هي على نوعين: ما يكون منها حقاً بحسب التعبير، فهو رؤيا صادقة، ولو كانت سيئة، وما يكون باطلاً لا يعلم له معنى من طريق التعبير فهو رؤيا شيطانية كاذبة، كما أفاده ابن أبي جمرة. وقد روِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه، أتاه رجل فقال: إنه رأى في المنام كأن رأسه قطع، والرأس يتدحرج، وهو يجري خلفه فزجره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: هذه من الشيطان، أأحَدٌ يقطع رأسه ويبقى حياً (1)؟! ومن أعظم الرؤيا الصادقة رؤيا الأنبياء والفرق بينها وبين رؤيا الآخرين أنها قطعية، ووحي من الله تعالى لا شك فيه، ولهذا كانت حجة شرعية تبنى عليها الأحكام الفقهيّة، بخلاف رؤيا غيرهم، فإنّها تحتمل الصدق والكذب ولا يعتمد عليها في حكم شرعي. عاشراً: جواز ذكر العاهة الموجودة في الشخص لفائدة، كقول السيدة عائشة رضي الله عنها: " وكان شيخاً أعْمى ". الحادي عشر: أنه ينبغي للمستشار أن يوضِّح رأيه، ويدعمه بالأدلة المقنعة، كما فعل ورقة عندما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أو مخرجيّ هم؟ " لم يكتف بقوله " نعم " وإنّما دعّم قوله بالتجربة التاريخية فقال: لم يأت رجل بمثل ما أتيت به إلاّ عُودي، أي إنَّ تلك سنة الله في أنبيائه جميعاً وقد قال قوم شعيب لنبيّهم: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) - (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) ولهذا قيل: لا كرامة لنبيٍّ في وطنه. والمطابقة: في قول عائشة رضي الله عنها " أوّل ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة .. " فهو مطابق لقوله في الترجمة "باب كيف   (1) بهجة النفوس لابن أبي جمرة الأندلسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 3 - عنْ جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا قَالَ وهُوَ يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحي، فقَالَ فِي حَدِيثهِ: بينَا أنا أمشِى إذْ سَمِعتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فرَفَعْتُ بَصَرِي، فإذا الْمَلَكُ الَّذي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ على كُرْسي بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَرُعِبْتُ   كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". 3 - الحديث: أخرجه الشيخان ترجمة راوي الحديث: وهو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري أحد المكثرين من الرواية، روى ألفاً وخمسمائة حديث وأربعين حديثاً، اتفقا على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، توفي بالمدينه سنة (78) هـ. معنى الحديث: أن جابراً رضي الله عنه " قال وهو يحدث عن فترة الوحي " أي عن المدة التي انقطع فيها الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت سنتين ونصف، كما في بعض الأحاديث التي ذكرها السهيلي " فقال في حديثه " الذي يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء " أي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمعت أثناء مسيري بأطراف مكة صوتاً غريباً ينبعث من السماء فأثار ذلك الصوت انتباهي " فرفعت بصري "، أي فشخصت ببصري إلى أعلى كي أتعرّف على مصدر ذلك الصوت " فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض " أي فلما نظرت إلى السماء فوجئت برؤية ذلك الملك الذي سبق له أن جاءني بحراء، وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض قال: " فرعبت منه " أي فأصابني بسبب مشاهدة ذلك الملك خوف، وفزع شديد فقدتُ معه السيطرة على قوايَ الجسمية، كما في رواية مسلم حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "فَجثثتُ فرقاً حتى هويت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 مِنْهُ، فرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) إلى قَولِهِ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)، - فَحَمِىَ الْوَحْيُ وَتَتابَعَ.   إلى الأرض" أي غلب علي الخوف وارتعدت فرائصي حتى سقطت على الأرض " فرجعت فقلتُ: زَمِّلوني " أي فشعرت ببرد شديد، وقشعريرة عظيمة ارتعش لها جسمي بسبب الخوف والفزع الذي أصابني عند مشاهدة الملك الجالس على كرسي بين السماء والأرض فأسرعت بالعودة إلى خديجة ألتمسُ عندها الأمن والطمأنينة، وأقول لها: " زملوني " أي لفوني بالثوب، لأجد في ذلك بعضَ الدفء الذي أستعين به على تلك الرعشة البدنية، والتخْفيف من حدتها. فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) أي يا أيها المتلفف بثيابه لمقاومة تلك الرعشة البدنية التي أصابته عند مشاهدة ملك الوحي خوفاً وفزعاً منه، هدأ من روعك، وتهيأ لما يوحى إليك فإنّا قد بعثناك إلى الناس كافة، فبلِّغهم ما يوحى إليك. " إلى قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) " أي فأنزل الله عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فأمره الله تعالى أن يعظّمه وحده، ولا يرى كبيراً سواه، وأن يتوكل عليه في تبليغ رسالته، ولا يخشى أحداً، لأنه الكبير المتعال، القادر على حمايته ونصرته. كما أمره في قوله عز وجل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) بتطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسات التي كان المشركون لا يتطهرون منها، وبتطهير قلبه عن سائر المعاصي والآثام، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم ختم ذلك بقوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) والرجز بضم الراء على قراءة حفص هي الأصنام، ومعناه: أن الله أمره أن يجرّد نفسه من العبودية لغير الله، والابتعاد عن عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة الباطلة، إذ لا معبود بحق إلاّ الله. " فحمي الوحي " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أى فعاد إليه الوحي بعد ذلك، وقوي، وتتابع أي وتكاثر وتوالى نزوله، تقول العرب حميت النار والشمس، أي اشتدت وقويت حرارتها، ومنه قولهم: " سمي الوطيس ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: انقطاع الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فترة من الزمن، وفي مرسل الشعبي أن فترة الوحي كانت مدة عامين ونصفاً، ولا يثبت. وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": ويعارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة كانت أياماً. ليزول عنه الخوف الذي أصابه في غار حراء عند نزول جبريل عليه لأول مرة، ليطمئن قلبه، ويشتاق إلى الرحمن، ويحن إلى عودته إليه. ثانياً: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أرسل بالمدثر، أي بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) حيث أمره الله تعالى بتبليغ ما أوحى إليه فأصبح منذ نزول هذه الآية رسولاً إلى الناس كافةً كما نبىء باقرأ، عندما نزل عليه في حراء قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ). ثالثاً: مشروعية الطهارة من النجاسة في قوله تعالى (وثيابك فطهر) ولذلك قال الفقهاء: الطهارة من النجاسة شرط في صحه الصلاة، مستدلين بهذه الآية الكريمة. رابعاً: استدل أبو حنيفة بقوله تعالى: (وربك فكبر) على أنه يكفي للدخول في الصلاة مطلق الذكر المشعر بالتعظيم، دون التقيد بلفظ معين لكنّ الأحاديث الصحيحة دلت على أن الصيغة المشروعة في تكبيرة الإِحرام هي لفظ (الله أكبر) لأنّه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي صيغة أخرى غيرها. والمطابقة: في قوله " وهو يحدث عن فترة الوحي " حيث دل ذلك على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 4 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى (لا تُحرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال: كَانَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - يُعَالِجُ من التنزِيلَ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ   وجود فترة من الزمن انقطع فيها الوحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عاوده. 4 - الحديث: أخرجه الشيخان. ترجمة راوي الحديث: وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحد العبادلة الأربعة، بلغ الذروة في التفسير والفقه والأحكام، مع صغر سنه، استجابة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " حتى عُرف بحَبْر الأمة، وكان من الستة المكثرين من الرواية، حنكه النبي - صلى الله عليه وسلم - بريقه، فأصبح لا يجاريه أحد في فتاويه، وُلدَ رضي الله عنه قبل الهجرة بثلاث سنوات، وكان بهيّ الصورة، جميل الطلعة، سمح المحيا، حتى قال عطاء: ما رأيت البدر ليلة الرابع عشر إلاّ ذكرت وجه ابن عباس رضي الله عنهما، وكان عمر رضي الله عنه يعظمه كثيراً ويستشيره، ويستفتيه، كفَّ بصرُه في آخر عمره، وقضى آخر حياته بالطائف حتى توفي بها سنة ثمانٍ وستين من الهجرة، وله من العمر واحد وسبعون عاماً، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاً وستمائة وستين حديثاً، ولما مات صلّى عليه محمد بن الحنفية ابن عمه، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة. معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعاني من نزول الوحي القرآني مشقة عظيمة، بما يبذله من جهد كبير في تلاوة الآيات أثناء نزولها، وكان يتعب نفسه كثيراً بسبب تحريك شفتيه بتلاوتها مع جبريل أثناء نزولها، حيث كان يقرأها كلمة كلمة حرصاً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 شَفَتَيْهِ، فقَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي اللهُ عنهما: فَأنا أحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّكُهُمَا، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) قَالَ: جَمْعَهُ لَك (1) في صَدْرِكَ، وَتَقْرَأهُ (فإذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وأنْصِتْ، (ثم إنَّ عَلَيْنَا   حفظها، خشية أن يتفلت منه القرآن، فكان يرهق نفسه في حفظ ما أنزل عليه من القرآن خشية أن يتفلت منه، " فأنا أحركهما كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما " أي أن ابن عباس حرّك شفتيه أمامهم، وقال: أنا أحرك شفتيّ أمام أعينكم كتحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك أن يؤكد لهم أنه شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، وفي استطاعته أن يمثل لهم ما رآه عملياً، وفي هذا دلالة قوية على أنه يروي هذا الحديث عن مشاهدة وعيان. " فأنزل الله تعالى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) " أي فلما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرك شفتيه أثناء الوحي نهاه الله عن تحريك لسانه بتلاوة القرآن متعجلاً حفظه خشية نسيانه، وتكفل له بحفظه في قوله (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) قال جمعه لك في صدرك أي قال ابن عباس: معناه أن علينا جمعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - " في صدره " يعنى إننا نضمن لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نثبت القرآن ونرسخه في صدره، فيحفظه ولا ينساه أبداً، كما قال تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات إلاّ ما شاء الله (فإذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) قال: فاستمع له وأنصت. أي قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه فاستمع للقرآن، وأنصت إليه، ولا تشغل نفسك بتلاوته أثناء نزوله، وتحرك به لسانك، ولكن اسكت أثناء قراءته عليك، ولا تجهد نفسك في حفظه، فإن علينا جمعه في صدرك " (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثم   (1) كذا بضمير المخاطب في أكثر الروايات، كما أفاده القسطلاني إلا أنه في بعض الروايات بفتح الجيم وسكون الميم، وفي بعضها "جَمَعتَ" بفتح الجيم والميم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بَيَانَهُ) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أنْ تَقْرَأهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أتاهُ جِبْريلُ اسْتَمَعَ، فإذَا انْطَلَقَ جِبْريلُ قَرَأهُ النَّبيُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَرَأهُ".   إن علينا أن تقرأه" ومعنى قوله تعالى (ثم إن علينا بيانه) كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثم إن علينا أن تقرأه ". " إذن" فهو على هذا التفسير ضمان إلهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ القرآن وقراءته كما أنزل، يقول الله تعالى فيه: إن كنت تخشى ضياع القرآن منك فإنّا نضمن لك أن نمكنك من حفظه دون جهد أو عناء فتحفظه من غير حاجة إلى قراءته مع جبريل أثناء نزوله "ثم إن علينا" ثم إنا نضمن لك " أن تقرأه " كله عن ظهر قلب قراءة تامة كاملة كما أنزل، فلا تنقص منه كلمة، ولا تنس حرفاً، وهو مصداق قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) " فكان رسول الله بعد ذلك " أي فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك الوعد الإلهي له بحفظ القرآن وقراءته كما أنزل "إذا أتاه جبريل استمع" أي إذا جاءه جبريل بالوحي القرآني سكت، وأصغى إليه ثقة بوعد الله تعالى، وامتثالاً لأمره عزَّ وجل " فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه " أي فإذا ذهب جبريل، قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مثلما قرأه جبريل تماماً، وذلك لأنّ الله تعالى وعده بذلك، والله لا يخلف الميعاد. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: ما كان يعانيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء الوحي بالقرآن من جهد ومشقة. بسبب قراءة القرآن أثناء قراءة جبريل وتحريك شفتيه معه حرصاً على حفظه. ثانياًً: وعد الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بحفظ القرآن، وقراءته كما أنزل، وهو مصداق قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) والمطابقة: في قول ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 5 - وعن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاس، وكانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وكانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخيرِ من الريح المرسلة.   5 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله أجود الناس " أي أعظم الناس وأكثرهم جوداً على الإطلاق، لأن جوده - صلى الله عليه وسلم - كان خلقياً وشرعياً معاً. فأمّا جوده الخلقي فهو السخاء، وسهولة الانفاق الناشىء عن الطبع والوراثة، وأما جوده الشرعي فهو كما يقولون " إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي خالصاً لوجه الله تعالى دون رياء أو سمعة سواء كان هذا العطاء واجباً كالزكاة، أو مندوباً كالصدقة، وقد جمع الله تعالى في نبينا - صلى الله عليه وسلم - بين كرم الطبع الموروث عن أسرته الهاشمية العريقة، وكرم الشرع الذي أدّبه به ربه، فأحسن تأديبه، وقد وصفه أنس رضي الله عنه بقوله: " كان أجود الناس، وكان أشجع الناس، فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى على نفسه بعد ذلك خوفاً " " وكان أجود ما يكون فى رمضان " أي وكان يتضاعف جوده في هذا الشهر الكريم، فيتصف بأكثر الجود في رمضان " حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن " أي والسبب في زيادة كرمه، ومضاعفة جوده، يرجع إلى أمرين: الأول: التقاؤه بالروح الأمين جبريل عليه السلام. حيث كان يلتقي به كل ليلة من شهر رمضان فكان - صلى الله عليه وسلم - يتوسَّع في البذل والعطاء فرحاً بلقائه، وشكراً لله تعالى على ذلك اللقاء، فكأنه كان يستضيف جبريل بكثرة إنفاقه على الفقراء، كما أفاده السنوسي في شرح مسلم: وقال الشهاب الخفاجي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 " كان - صلى الله عليه وسلم - يُسَرُّ بملاقاة جبريل وإمداده بالبشرى والكرامة فيحسن كما أحسن الله إليه. الثاني: مدارسة القرآن حيث كان يلقاه جبريل في كل ليلة فيدارسه القرآن، أي يتناوب معه قراءة القرآن، فيقرأ جبريل عشراً، ويقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - عشراً آخر، أو يشتركان معاً في القراءة في وقت واحد، على طريقة القراءة الجماعية من المدارسة بمعنى المشاركة في القراءة. أو يكون معنى المدارسة " العرض " ومعناه أن يقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده وجبريل يستمع إليه، كما جاء في بعض روايات البخاري حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن" ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستعمل الطرق الثلاثة. والحاصل أن سبب زيادة جوده أمران: التقاؤه بجبريل، ومدارسته للقرآن: " فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة " أي كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - أكرم وأكثر عطاءً وفعلاً للخير، وأعظم نفعاً للخلق من الريح الطيبة التي يرسلها الله بالغيث والرحمة، تسوق السحاب إلى الأرض الميتة، تحييها بالنبات الذي يتغذى به الحيوان، وينتفع به الإنسان. لأنّها قد تتخلف عن العطاء، أما عطاؤه - صلى الله عليه وسلم - فلا يتخلف أبداً، ولا يقف عند حد، ولأنّها إنما تعطى الدنيا فقط، أما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه يعطي الدنيا والآخرة، لأنه جاء بنعمة الإِسلام التي تتحقق بها سعادة الناس في الدارين، هذا بالإِضافة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مضرب الأمثال في جوده وكرمه، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يُسْألُ شيئاً إلاّ أعطاه" أخرجه أحمد. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: الحث على الجود والإفضال في كل الأوقات -كما أفاده العيني- والزيادة منه في رمضان، وعند الاجتماع بالصالحين اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 6 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِىَ اللهُ عَنْهُما: أنَّ أُبا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب أخْبَرَه أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ في رَكْبٍ مِنْ قُرَيْش وكانُوا تجَّاراً بالشَّامِ في الْمُدَّةِ التي كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مادَّ فِيهَا أبا سُفْيانَ وكُفَّارَ قُرَيْش، فأتَوه وَهُمْ بإيلِيَاء، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَه   السنوسي: ولذلك اعتاد الناس جعل الطعام، ونداء الناس إليه عندما ينزل بهم مَنْ يجب تعظيمه كأكابر العلماء ومن يفرحون به. ثانياً: زيارة الصلحاء وأهل الفضل، ومجالستهم، لأنّها سبب الخير والصلاح. ثالثاً: الإكثار من البذل والعطاء والإحسان وقراءة القرآن في شهر رمضان. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله " فيدارسه القرآن .. " لأن القصد من هذه المدارسة تثبيت الوحي القرآني في صدره - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه ابن ماجه ترجمة ابن عباس وأبي سفيان رضي الله عنهم، أما ابن عباس فقد تقدم. وأما أبو سفيان: فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، ولد قبْل الفيل بعشر سنوات، وأسلم ليلة الفتح، وكان شيخ مكة، وقائد قريش في حروبها، شهد الطائف وحنيناً، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائمها مائة من الإبل، فقئت عينه الأولى في غزوة الطائف، والثانية يوم اليرموك، ونزل المدينة، فمات بها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة عن عمر يبلغ ثمان وثمانين سنة. معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما "أن أبا سفيان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثم دَعَاهُمْ، فَدَعَا بِتَرْجُمَانِه، فقالَ: أيّكُمْ أقْرَبُ نسباً بهذا الرَّجُلِ الَّذي يَزْعُمُ أنهُ نَبِي؟ قَالَ أبو سُفيَانَ: فَقُلْتُ: أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَباً، قَالَ: ادْنُوهُ مِنِّي، وقرَّبُوا أصْحَابَهُ، فاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ   حرب أخبره أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام" أي أن أبا سفيان أخبره أنه بينما كان في رحلة تجارة ببلاد الشام مع جماعة من قريش أرسل إليه هرقل ملك الروم يطلب مقابلته، وسبب ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل (1) مع دحية الكلبي كتاباً إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإِسلام، فلما وصل إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا: نعم. فدعي في نفر من قريش لمقابلته، وكان سبب اجتماع أبي سفيان بهرقل في بلاد الشام، واهتمامه بمقابلته، أنه لما حاربته الفرس نذر إن نصره الله عليهم أن يسير من حمص إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه، فلما انتصر عليهم وفى بنذره، فمُدت له البسط الفاخرة على طول الطريق، من حمص إلى بيت المقدس، وفرشت الورود والرياحين، وسار هرقل في موكب النّصر، حتى وصل إلى بيت المقدس، فلما وصل إليها، كان أبو سفيان موجوداً في مدينة غزة، وصادف ذلك وصول كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، ورؤيته في النجوم أن ملك الختان قد ظهر، فدفعته هذه الأسباب مجتمعة إلى الحرص على الاجتماع بأبي سفيان، ليتعرّف منه على حقيقة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه إلى مجلسه " وأرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش ": أي في مدة الهدنة التي تمّت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفار قريش بعد صلح   (1) كما جاء في رواية مسلم عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل هنا أحد من قوم هذا الرجل إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إنّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فإنْ كَذَبَني فَكَذِّبُوهُ،   الحديبية " فأتوه وهم بإيلياء " أي فاجتمع أبو سفيان وأصحابه بهرقل في مدينة بيت المقدس " فدعاهم وحوله عظماء الروم " أي فدعاهم إلى مقابلته في مجلسه، وحوله علماء الدين، وكبار رجال الدولة، " ثم دعاهم " أي أدناهم منه، وقربهم إليه " ودعا بترجمانه " بفتح التاء وضم الجيم، كما رجحه النووي ويجوز ضم الجيم والتاء كما حكاه الجوهري. أي وأرسل إلى ترجمانه " فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي " أي فلما حضر الترجمان بين يديه قال له هرقل: قل لهؤلاء العرب، أي واحد منكم أقرب نسباً إلى هذا الرجل الذي يدعي النبوة؟ وإنما سأل عن أقرب الناس إليه ليسأله عن صفاته وأخلاقه، لأن القريب أدرى الناس وأعلمهم بأحوال قريبه، ولأنه لا يطعن فيه بما ليس فيه، كما أفاده العيني، ووصفه بالزعم ليشجع المسؤول عنه على أن يتحدث عنه بحرية مطلقة على شرط أن يتحرى الصدق في حديثه عنه، "قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسباً" وهو الواقع، لأن بني هاشم وبني أمية أبناء عمومة، ينحدرون عن أصل واحد. "قال أدنوه مني" أي فأمر قيصر الروم بتقريب أبي سفيان منه وأدناه من مجلسه تكريماً له وحفاوة به، لأنه شيخ مكة وعظيمها جرياً على عادة الملوك في تقدير النبلاء، ووجهاء الناس، وعظماء الرجال، وإنزالهم منازلهم، " وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره " أي وراء ظهره لئلا يمنعهم الحياء منه عن مواجهته بالتكذيب إذا كذب على محمد - صلى الله عليه وسلم - " ثم قال لترجمانه إني سائل هذا عن هذا الرجل " أي عن محمد، " فإن كذبني فكذّبوه " بتشديد الذال، وذلك ليتحرى الصدق في كلامه، ولا يشهد إلّا بالحق " فوالله لولا الحياء من أن يَأثِروا علي كذباً " بكسر الثاء أي لولا الحياء من أن يرووا عني الكذب في بلادي فأعاب به عند قومي " لكذبت عنه " أي لكذبت في الحديث عنه ووصفته بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فَوَاللهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أن يأثِرُوا عَلَيَّ كَذِباً لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أوّلَ مَا سَألنِي عَنْهُ أنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُم؟ قُلْتُ: هُوَ فِينا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ منكُمْ أحدٌ قَطّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فأشْرافُ النَّاسِ اتَبّعَوْه أم ضعفاؤهم؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤهُمْ، قَالَ: أيزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ:   الواقع. " ثم كان أول (1) ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ " أي فكان أوّل سؤال وجهه إلىَّ قولَهُ كيف نسبه فيكم؟ وهل هو ذو نسب شريف أم وضيع "قلت: هو فينا ذو نسب" والتنكير للتعظيم، أي هو ذو نسب رفيع، وأصل عريق في قومه لأنّه من بني هاشم ذروة قريش، وأكرمها نسباً وحسباً، وحسباً في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريش، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " أخرجه الترمذي فهو من تلك الأسرة الهاشمية التي عرفت منذ الجاهلية بكريم الخصال، ومن ذلك النسب الطاهر الشريف، الذي صانه الله تعالى من سفاح الجاهلية، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ". " قال " هرقل: " فهل قال هذا القول أحد قبله قط "؟ أي فهل ادعى أحد من العرب " النبوة " قبل ظهوره " قلت: لا " أي لم يحدث أن ادعى أحد النبوة قبله. " قال " هرقل: " هل كان أحد من آبائه من ملك "؟ أي هل تولّى   (1) يجوز في "أول" الرفع على أنه اسم كان "وإن قال" في تأويل مصدر خبر كان، ويجوز فيه العكس. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أحدْ مِنْهُمْ سُخْطَةً لِدِينهِ بَعْدَ أن يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، ونَحْنُ منه في مُدَّةٍ لا ندري   أحد من آبائه الملك " قلت: لا " أي لم يحدث شيء من هذا. " قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم " أي هل أكثر أتباعه السادة والقادة من أهل الكبر والخيلاء، أم المساكين والأحداث والفقراء. " قلت: بل ضعفاؤهم " أي بل أكثر أتباعه الضعفاء. قال ابن حجر: وهو محمول على الأكثر والأغلب، فإنه غالباً ما يتبعه المستضعفون كبلال وعمار وصهيب وغيرهم الذين لا منافسة ولا حسد عندهم أما أصحاب الحسد كأبي جهل فهم أبعد الناس عنها قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون " ويتكاثر عددهم. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة " بضم السين وسكون الخاء (1) "لدينه" أى هل يعود أحد من أتباعه إلى الكفر بغضاً للاسلام وكراهية له ونفوراً منه " قال: لا " لم يخرج أحد من دينه كراهية له. "قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال"؟ أي قبل أن يدعي النبوة، ويأتيكم بهذا الدين الذي يخالف دين آبائكم ويقول لكم ما قال من الدعوة إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام. " قلت: لا " وذلك لأنه كان معروفاً عندهم بالصدق والأمانة، ولقد شهد له أعداؤه بالصدق حتى بعد أن قال لهم ما قال حيث قال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟!   (1) وهي كراهية الشيء وعدم الرضا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ما هُوَ فَاعِل فِيهَا، ولم يُمْكِنِّي كَلِمَة أدْخِلُ فيهَا شَيْئاً غَيْرَ هذ الكَلِمَةِ، قالَ: فَهَلْ قاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إياهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ سِجَال، يَنَالُ مِنَّا، وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأمرُكُمْ؟   "قال: فهل يغدر"؟ أي ينقض العهد " قال: لا " وإنما اشتهر في حياته كلها بالوفاء. " ونحن فى مدة " أي في هدنةٍ مؤقتة بعشر سنوات وهي صلح الحديبية " لا ندري ما هو فاعل فيها " من الوفاء أو الغدر " قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة " أي لم أجد كلمة أنتقصه فيها غير هذه، على أنها ليست بشيء، لأن شهادتهم له في الماضى بالوفاء يَجعل احتمال وقوع الغدر منه في المستقبل ضعيفاً، فانّ من شب على شيء شاب عليه. قال أبو سفيان: فوالله ما التفت إليها - أي لم يعر هرقل هذه الجملة اهتماماً. " قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال " أي نُوَب، نوبة لنا، ونوبة له " ينال منا " أي مرة ينتصر علينا ومرة ننتصرُ عليه. " قال: فماذا يأمركم؟ " به من العقائد والأعمال " قلت يقول اعبدوا الله وحده " أي يأمرنا بالتوحيد وإفراد الله بالعبادة " ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم " قال أبو السعود: شيئاً نصب على أنه مفعول به، أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، صنماً أو غيره، أو على أنه مصدر أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك جلياً أو خفياً والمراد أنه ينهاهم عن الشرك بأنواعه، وعن عبادة غير الله مطلقاً، " ويأمرنا بالصلاة " المعروفة، "والصدق"، وفي رواية والصدقة، وفي رواية أبي ذر في الجهاد بالصلاة والصدق والصدقة، كما أفاده الحافظ، والمراد بالصدق القول المطابق للواقع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبَدُوا اللهَ وَحْدَه، ولا تشرِكُوا بِهِ شَيْئاً، واتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤكُمْ، ويأمرنا بالصَّلَاةِ، والصِّدْقِ، والعَفَافِ، والصِّلَةِ، فقَالَ لِلترجُمَانِ: قُلْ لَهُ إنِّى سَألْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فذكرتَ أنَهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فكَذَلِك الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَألتُكَ: هَلْ قَالَ أحَدٌ منكُمْ هذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، فذكَرْتَ أنْ لَا، فقلتُ: لَوْ كَانَ أحدٌ قَالَ هذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَتَأسّى بِقَوْل قِيْلَ قَبْلَهُ، وَسَألْتُكَ: هلْ قال مِنْ آبائه   أو للاعتقاد، وهو الأنسب هنا، لأن الإنسان لا يكلف إلاّ بما يعلمه كما في الأصول " والعفاف " أي الكف عن المحارم، وكل ما ينافي المروءة " والصلة " أي الإِحسان إلى الأقارب خاصة وإلى الناس عامة، فيدخل فيه جميع أنواع البر. " فقال للترجمان إني سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، أي وهكذا الرسل يختارهم الله من أشرف القوم نسباً وحسباً، لأن جودة الأخلاق يرثها الرجل من آبائه، وإن من القضايا المسلم بها أن الفرعٍ يشبه أصله، وأن الأصل ينتج مثله، فالأبناء يحملون خصائص آبائهم وراثياً كما ثبت ذلك علمياً، واشتهر أيضاً عند العرب حتى قال شاعرهم. أعْرِف فِيْهِ قِلّةَ النُّعَاس ... وَخِفَّةً في رَأسِهِ مِنْ رأسِ وذوو الأحساب كما قال القاري أبعد عن انتحال الباطل وأقرب إلى انقياد الناس لهم. " وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أنْ لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله " أي لظننت أنه اقتدى بغيره من أدعياء النبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 مِنْ مَلِكٍ، فذكَرْتَ أنْ لا، فَقُلتُ: لوْ كَانَ منْ آبائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ: رَجُل يَطْلُبُ مُلْكَ آبائِهِ، وسَألتُكَ: هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقَد أعْرِفُ أنهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ على النَّاس وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ، وَسَألتُكَ: أشْرَافُ النَّاس اتَبّعَوهُ أمْ ضُعَفاؤهُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَبّعَوهُ، وَهُمْ أتباعُ الرُّسُلِ، وسَألتُكَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أنَهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذَلِكَ أمْرُ الإِيمَانِ حتَّى   " وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه " أي يحاول أن يستعيد ملك أبيه لنفسه، ولكنه ليس من أبناء الملوك حتى يظن به ذلك، وعن جرير رضي الله عنه أنه أتي برجل فأرعد من هيبته، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " هوِّن عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد " أخرجه الحاكم. " وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أنْ لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب " أي ليدع الكذب " على الناس ويكذب على الله "، لأن الكذب على الله أشنع وأعظم جرماً قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ). " وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت: أنّ ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل " قال الأبي: لأن ذوي الرئاسات يأبون تسويد غيرهم عليهم، وتأبى أنفسهم الاتباع، إلا من هداهم الله. " وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإِيمان حتى يتم " كما قال تعالى: (ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 يَتِمَّ، وسأَلْتُكَ: أيرْتَدُّ أحدهم سُخْطَةً لدِينه بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فذَكَرْتَ أنْ لا، وَكذلِكَ الإِيمانُ حينَ يُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وسَألتُكَ: بِمَا يَأمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَهُ يأمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَه، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، ويْنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوثَانِ، ويأمُرُكُمْ بالصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والعَفَافِ، فإن كَانَ مَا تَقُولُ حَقَّاً فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أعلَمُ أنهُ   الكافرون) فلابد أن ينمو عدد المؤمنين، وتتضاعف قواهم البشرية على مر الزمان، حتى تتحقق لدين الله العزة والمنعة. " وسألتك أيرتد أحد منهم سخطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا وكذلك الإِيمان حين تخالط بشاشته القلوب " أي حين تمازج حلاوته قلوب معتنقيه لأن الإِيمان إذا دخل القلب السليم ارتاح له الضمير والوجدان، واطمأنت إليه النفس، فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلا تفارقه كراهية له. " وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر " لأنّ الغدر نقيصة يتنزه عنها فضلاء الناس، فضلاً عن الأنبياء. " وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين " قال القسطلاني أي أرض بيت المقدس، أو أرض ملكه "وقد كنت أعلم أنه خارج" أي وقد سبق لي أن علمت من الإِنجيل والكتب السابقة عن ظهور رسول بعد عيسى، وذلك مصداق قوله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 خَارِج، ولم أكنْ أظُنُّ أنَه منكم فَلَو كُنْتُ أعلم أني أخْلُصُ إليْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَن قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةَ إلى عَظِيم بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأهُ فإذَا فيه: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِن مُحَمَّدٍ عَبد الله وَرَسُولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَام على مَنِ اتَبّع الهُدَى، أما بعدُ: فإني   يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" وفي الفصل العشرين من السفر الخامس من التوراة ما نصه " أقبل الله من سيناء وتجلى من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه وفاران جبال مكة " ولم أكن أظن أنه منكم " ولعله لم يطلع على ما في التوراة، أو لم يفهمه " فلو كنت أعلم أني أخلص إليه " أي أصل إليه " لتجشمت لقاءه " أي لتكلفت عناء السفر إليه " ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه " أي لغسلتُ وجهي من الماء الذي يسيل من قدمه. " ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية الكلبي إلى عظيم بصرى " أي إلى أميرها الحارث ابن أبي شمر الغساني، "فدفعه إلى هرقل"، فأرسله عظيم بصرى إلى هرقل، " فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله " قال القسطلاني: وصف نفسه بالعبودية تعريضاً ببطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن الأنبياء مقرون في أنهم عباد الله، "إلى هرقل عظيم الروم" أي المعظم عندهم، ولم يصفه بالملك، لأنّه معزول بحكم الإسلام، "سلام على من اتبع الهدى" خاطبه بذلك لأنّ هذه هي صيغة التحية المشروعة في مخاطبة الكفار، حيث إنَّ السلام لا يوجّهُ إلاّ لمن آمن بالله، واتبع شريعة الله، " أما بعد " وهي كلمة ينتقل بها من موضوع إلى آخر، ولهذ سميت فصل الخطاب "فإني أدعوك بدعاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أدْعُوكَ بِدِعَايَه الإِسْلامِ، اسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أجرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ تَوَلَّيْتَ فإنَّما عَلَيْكَ إِثْمُ اليَرِيْسِيِيْنَ، و (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ   الإِسلام" أي بدعوته "أسلم تسلم" في الدنيا بالنجاة من الحرب والجزية، وفي الآخرة بالنجاة من النار " يؤتك الله أجرك مرتين " مرة على إيمانك بنبيك عيسى، ومرة على إسلامك (1)، " فإن توليت فإنما عليك إثم اليريسيين " أي إثم أتباعك من عامة الشعب " ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " أي نستوي فيها جميعاً، لأنها تتفق عليها جميع الأديان السماوية " أن لا نعبد إلا الله " وهكذا صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعوة امبراطور الروم وحامي الديانة المسيحية إلى توحيد الله تعالى، وذلك لنفي ألوهية المسيح التي يزعمونها، وإثبات أنه عبد الله، وهي الحقيقة التي قالها المسيح نفسه، كما جاء في القرآن الكريم، وكما جاء في " إنجيل برنابا " عندما سأل الكاهن عن قول الناس فيه فأجابه: بأن فريقاً يقول إنك الله، وآخر يقول إنك ابن الله، ويقول فريق: إنك نبي، فقال يسوع: أيتها اليهودية الشقية إني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض اني بريءٌ من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأنني بشر مولود من امرأة وعرضة لحكم الله، أعيش كسائر البشر (2) اهـ. كما في الفصل الثالث والتسعين. ولما قال لهم كما في إنجيل برنابا - ما قولكم أنتم وأجابه بطرس بقوله: "إنك المسيح ابن الله" غضب " يسوع وانتهره قائلاً: " انصرف عني لأنك أنت الشيطان ". وقد صرح المحققون من علماء المسيحية المعاصرين بنفي ألوهية المسيح. وأنه ليس ابن الله. ومن ذلك ما نشرته جريدة الندوة في عددها (5774) الصادر في   (1) أي على إيمانك بمحمد والدخول في دينه (2) " نظرات في إنجيل برنايا " للأستاذ محمد علي قطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) قَالَ أبو سفْيَانُ: فلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ،   (16/ 3/1398 هـ) تحت عنوان رابطة العالم الإسلامي حيث قالت: وقف الدكتور روبرت إلي رئيس قسم المسيحية بجامعة (رومنتوا موند) الأمريكية يخطب في إحدى الجمعيات متحدثاً عن الدين المسيحي وذكر أن المسيح ليس ابن الله كما يدعون، وليست له أية ألوهية كما يعتقدون وقال إن المسيح لم يدّع هذا في يوم من الأيام، وان هذه الاعتقادات دخيلة على الدين المسيحي" وهذا مطابق لما جاء في القرآن الكريم، حكاية عن عيسى عليه السلام أنه قال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) الخ الآية. " ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله " قال القاري: فلا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحليل والتحريم " فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " أي فقد لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، وأنكم كافرون بالله " فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب " أي اللغط والخصام " وارتفعت الأصوات وأخرجنا " من مَجْلِسهِ " فقلت لأصحابي لقد أمر أمرٍ ابن أبي كبشة " أي لقد عظم شأن محمد الذي كنا ندعوه استهزاءً وسخرية به عندما كان يحدثنا بهذه الكنية فنقول " هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء " وأبو كبشة أبوه من الرضاعة، واسمه الحارث بن عبد العزى " إنه يخافه ملك بني الأصفر " أي أن هذا الذي كنا نستخف به، فندعوه بهذه الكنية، قد وصل إلى هذا المستوى، وعلا قدره، حتى أصبح يخافه ملك الروم، ويعترف له بالفضل والنبوة " فما زلت موقناً أنه سيظهر " أي ينتصر وينشر دينه في المستقبل القريب " حتى أدخل الله علي الإِسلام " ووفقني إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 كثُر عِنْدَه الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الْأصْوَاتُ، وأخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِي: لَقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبي كَبْشَة إنَّهُ يَخَافهُ مَلِكُ بني الأصْفَر، فما زِلْتُ مُوقِنَاً أنه سَيَظْهَرُ حتى أدْخَلَ اللهُ عليَّ الإسْلامَ، وكانَ ابْنُ الناطُور صَاحِبُ (1) إيليَاء وَهِرَقْلَ، أسْقِفَ على نَصَارَى الشَّامِ، يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إيلياء أصْبَحَ خبيثَ النَّفْس، فقالَ لَهُ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قد اسْتَنْكَرْنَا هَيئتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظرٌ في النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَالوهُ: إِنى رَأيت اللَّيْلَةَ حِيْنَ نَظرتُ فِي النُّجُومِ، أن مَلِكَ (2) الخِتَانِ   واعلم أنه إلى هنا ينتهي الجزء الأول من الحديث الذي يرويه أبو سفيان ويبدأ الجزء الثاني منه الذي يرويه الزهري فيقول: " وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقف على نصارى الشام " أي، وكان ابن الناطور وهو أمير بيت المقدس وصديق هرقل رئيساً للديانة المسيحية بالشام " يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح خبيث النفس " أي قلقاً مهموماً " فقال له بعض بطارقته " أي قواده: " قد استنكرنا هيئتك "!! أي لاحظنا عليك تغير وجهك، مما يدل على معاناتك لبعض الهموم النفسية " قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء: ينظر إلى النجوم " أي ينظر إليها، فيستدل بها في زعمه على ما يقع في المستقبل أو في الحال، والحَّزاء: الكاهن المنجم، " فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن مَلِكَ الختان قد ظهر " أي عرفت من النجوم أن مَلِكَ الأمّة التي تختتن قد ظهر، "فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا ليس يختتن إلاّ اليهود، فلا يهمنك شأنهم" لأنّهم لا دولة لهم ولا صولة، "واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من   (1) ويجوز في صاحب الرفع على أنه خبر مبتدأ، أي وهو صاحب إيلياء، والنصب على الاختصاص. (2) " مَلِكَ " قال القسطلاني بفتح الميم وكسر اللام، ولغير الكشميهي " مُلْك " بالضم والإسكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إلَّا اليَهودُ، فلا يَهُمنَّكَ شَأنُهُمْ، واكتُبْ إلى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ على أمرِهِمْ، أتِي هِرَقْلُ بِرَجُل أرسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا اسْتَخْبَرَه هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فانْظرُوا أمخْتَتِن هُوَ أمْ لا؟ فَنَظروا إليْهِ فَحَدَّثُوهُ أنهُ مُخْتَتِن وسألَهُ عَن الْعَربِ، فقالَ: هُمْ يَخْتَتِنُون، فقالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأمَّةِ قدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ لَهُ برُومِيّةَ، وكانَ نَظيراً لَهُ في الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فلم يرم حِمْصَ حَتَّى أتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأيَ هِرَقْلَ، على خُرُوج   اليهود" (1) أي إن كنت تخشى منهم فاستأصلهم، " فبينما هم على أمرهم " أي فبينما هم في حيرة من أمرهم " أتي هرقل برجل أرسله ملك غسان " وهو عدي بن حاتم "يخبر عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أي يتحدث فيقول: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي اتبعه ناس، وخالفه ناس، " فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ أي فلما أحضره هرقل بين يديه، وسأله عن قصَّة هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي أمرهم بالكشف عليه، حتى ينظروا أهو مختتن أم لا؟ "فنظروا إليه" وكشفوا عليه "فحدثوه أنه مختتن" أي فأخبروه أنهم وجدوه مُخْتتناً، " وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون " فعرف أنَّ ما شاهَدَهُ هم العرب، "فقال هرقل: هذا ملَكُ هذه الأمة قد ظهر" أي هذا الذي رأيته في النّجوم معناه أن ملكَ الأمة التي تختتن وهم العرب قد ظهر على هذه الأرض وأنَّ دولتهم ستغْلب على هذه البلاد كلها، " ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية " وهي روما عاصمة إيطالية اليوم، "وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص"   (1) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر فليقتلوه كما أفاده القسطلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وأنَّهُ نَبِي، فَأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَماءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أمَرَ بابوابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ: اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ في الْفَلَاح والرُّشْدِ، وأن يَثْبُت مُلْكُكُمْ، فَتُبايِعُوا هَذَا الرَّجُلَ، فحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلى الأْبوابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رأى هِرَقْلُ نَفْرَتَهمْ، وِإيس من الإِيمان، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إنِّى قُلْتُ مَقَالَتي آنِفَاً أخْتَبِرُ بِها شِدَّتَكُمْ على دِيْنكُمْ، فَقَدْ رأيتُ، فسجدوا له، ورَضُوا عَنْهُ، فكانَ ذلِكَ آخِرَ شَأنِ هِرَقْلَ.   أي لم يكد يصل إليها " حتى أتاه كتاب من صاحبه " في رومِيَّةَ، وكان أسقف روما " يوافق رأي هرقل على خروج النبي وأنه نبي " أي على ظهور النبي الذي بشر به عيسى وأن محمداً هو النبي المبشر به، " فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص " أيْ فأعلن هرقل لعظماء دولته عن عقد اجتماع في قصر عظيم بحمص، لكي يلقي فيهم خطاباً هاماً، " ثم أمر بأبوابها فغلّقت " أي دخل جناحاً خاصاً أغلق أبوابه عليه "ثم اطلع" أي أطل عليهم من الشرفة " فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح "، أي هل ترغبون في الفوز والظفر، " والرشد " بفتحتين، أو بضم الراء وتسكين الشين، وهو إصابة الحق عقيدة وقولاً وعملاً، " وأن يثبت ملككم " أي يبقى ويدوم لكم، " فتبايعوا هذا الرجل " أي تعاهدوا محمداً على الإسلام، " فحاصوا حيصة حمر الوحش " أي ثاروا ثورة الحمر الوحشيه، " إلى الأبواب " أي: وهجموا على الأبواب يريدون الوصول إليه ليفتكوا به " فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم " أي فلما رأى نفورهم من الإِسلام وثورتهم العنيفة عليه "وايس من الإيمان قال: ردوهم علي" أي قال لجنده: ردوهم عني " وقال إني قلت مقالتي آنفاً " أني قلت كلامي الذي قلته لكم الآن " أختبر شدتكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 على دينكم" أي لأختبر صلابتكم في دينكم، وشدة تمسككم به وقوة دفاعكم عنه " فقد رأيت " وفي رواية فقد رأيت منكم ما أحببت " فسجدوا له " على عادة الأعاجم " فكان ذلك آخر شأن هرقل " أي نهاية قصته وموقفه من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يستفاد من الحديث: ما يأتي: أولاً: ملاطفة المكتوب إليه، وتقديره التقدير اللائق المناسب، الذي لا يتجاوز حدود الشريعة الإِسلامية، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عظيم الروم، ولم يقل إلى ملك الروم لأنه أصبح معزولاً بحكم الإِسلام، ولم يقل: إلى هرقل، ليكون فيه نوع من الملاطفة. ثانياًً: تصدير الكتاب بالبسملة ولو كان المبعوث إليه كافراً. ثالثاً: من السنة في الخطابات الإِسلامية أن يبدأ أولاً باسمه ثم باسم المكتوب إليه كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في خطابه إلى هرقل. رابعاً: في الحديث حجة ظاهرة لن يمنع بدء الكافر بالسلام وهو مذهب الشافعى، وأجازه جماعة مطلقاً، وجماعة للاستئلاف أو الحاجة، ولكن قد جاء النهي عنه في الأحاديث الصحيحة، ولا اجتهاد مع النص. خامساً: استحباب أما بعد. سادساً: أن الكتابي إذا أسلم له أجران. سابعاً: مشروعية دعاء الكفار إلى الإِسلام قبل قتالهم، وهو واجب، والقتال قبل الدعوة حرام إن لم تكن بلغتهم الدعوة، وإلا فهي مستحبة كما قال الشافعي، وقال مالك: يجب الانذار مطلقاً، والأول مذهب الجماعة. ثامناً: استقباح الكذب عند جميع الأمم والشعوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تاسعاً: أن الرسل لا تبعث إلا من ذوي الأنساب العريقة. عاشراً: أن صدق الرسالة المحمدية كان معلوماً عند أهل الكتاب علماً قطعياً، لقول هرقل: " وقد كنت أعلم أنه خارج ". الحادي عشر: تكريم قيصر الروم لكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنايته بشأنه، حيث اهتم بقراءته، وعرضه على رعيته، وتتبع أخبار مرسله، وسأل عن صفاته وشمائله، بخلاف كسرى الذي مزق كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمزق الله دولته. قال دحية الكلبي: لقيت قيصر بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بدمشق، فأدخلت عليه خالياً، فتناول الكتاب، فقبّل خاتمه، وفضه، وقرأه، ثم وضعه على وسادة أمامه، ثم دعا بطارقته، ثم خطبهم فقال: هذا خطاب النبي الذي بشر به عيسى، وأخبر أنه من ولد إسماعيل، قال: فنفَروا نفرة عظيمة وحاصوا فأومأ إليهم أني جربتكم لأرى غضبكم لدينكم الخ. وذكر السهيلي (1) " أن هرقل وضع هذا الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، ولم يزالوا يتوارثونه كابراً عن كابر في أعز مكان، وأن ملك الفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين صندوقاً مصفحاً بالذهب، واستخرج منه مقلمة ذهبية، فأخرج منها كتاباً زالت أكثر حروفه فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا به، يعنى بالاحتفاظ به، وقالوا: إنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه " اهـ. ونقل ابن كثير في " البداية والنهاية " عن الشافعي أنه قال: وحفظنا أن قيصر الروم أكرم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعه في مسك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثبت الله ملكه " وهو إخبار منه - صلى الله عليه وسلم - لا دعاء له، لأنه لا يدعو لكافر. فإن صح   (1) شرح السهيلي على سيرة ابن هشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 هذا الخبر فمعناه " أنه سيبقى من دولة الروم بقية، فإن زال سلطانها من الشرق بفتح القسطنطينية، فإنه ستبقى منها بقية في أوروبة، ولا زالت هذه البقية من الروم موجودة حتى الآن في إيطالية وليست " روما " عاصمة إيطالية اليوم سوى مدينة " رومية " المذكورة في حديث الباب: هي المعنية والمقصودة بقوله: ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وقد ذكر ياقوت هذه المدينة في معجم البلدان (1) باسمها القديم " رومية "، وأطال الحديث عنها، فراجعه إن شئت. مطابقة الحديث للترجمة: في اشتماله على صفات من يوحى إليه من الأنبياء ودلالته على إثبات الوحي المحمدي، ورسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ...   (1) معجم البلدان لياقوت الحموي (حرف الراء). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بسم الله الرحمن الرحيم قال البخاري رحمه الله: " كتاب الإِيمان " أقول وبالله التوفيق: لما فرغ البخاري من باب بدء الوحي. شرع في المقاصد الشرعية، وأهمها الإيمان، لأنه أساس الأعمال، والشرط الأول في صحتها، كما يدل عليه قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وغيره من الآيات القرآنية. أما معنى الإيمان: فالإِيمان لغة: مشتق من الأمن بمعنى الاطمئنان إلى الشيء والوثوق به، ثم أطلق على التصديق، تقول العرب: آمَنَهُ إذا صدَّقَه، لأن مَنْ صدق شخصاً أمِنَه من الكذب والخيانة. أما الإيمان شرعاً: فهو عند أكثر أهل السنة مركب من ثلاثة أركان لا بد منها، فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وسائر أهل الحديث إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، هذا هو الإيمان عند السلف، كما في " شرح الطحاوية " فهو يتكون من ثلاثة أركان أو ثلاثة عناصر أو أجزاء. الأول التصديق بالجنان: أي القلب، ومعناه: التصديق القلبي الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وكذلك التصديق بكل ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما عُلِمَ من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام الخمسة مثلاً، وهذا التصديق لا بد منه في صحة الإيمان، ولا يتحقق الإيمان إلا بوجوده، كاملاً، فمن أنكر شيئاً من ذلك فهو غير مؤمن أصلاً، بل هو كافر مخلد في النار، لأنّ التصديق لا يقبل التجزئة أو التفرقة بين الأشياء التي يجب الإيمان بها فإذا صدق بالبعض، وكفر بالبعض كان كافراً ولو كان هذا البعض قضية واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 من قضايا الإِيمان، وأقر بلسانه وأتى بجميع شعائر الإسلام، ولم يصدقه بقلبه، لا ينفعه ذلك، لأن التصديق القلبي هو الركن الأول من أركان الإيمان، ولا يكفي في الإِيمان مجرد الإِقرار باللسان، لأن المنافقين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرّون بألسنتهم، لكنهم لما لم يصدقوا بقلوبهم، نفى الله عنهم اسم الايمان في قوله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). الثاني الإقرار باللسان: أي النطق بالشهادتين مع الاعتراف بأن كل ما أخبر به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو جاء به حق وصدق عن الله تعالى، فمن لم يقر بذلك ويعترف به بلسانه لغير عذر شرعي من خرس أو إكراه فهو جاحد كافر عند الله والناس ولو صدَّق بقلبه، فإن التصديق وحده دون إقرار ممن هو قادر عليه لا يكفي خلافاً لما زعمه الجهم بن صفوان، من أنّ من عرف الله بقلبه وجحد بلسانه ومات قبل أن يقر فهو مؤمن كامل الإِيمان كما أفاده الرازي، وهذا قولٌ باطلٌ، لأن فرعون كان مصدقاً بقلبه، فلم ينفعه ذلك حين أنكر التوحيد بلسانه، فسجَّل الله عليه وعلى قومه الكفر والجحود في محكم قرآنه، ووصفهم بقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). الثالث العمل بالجوارح: وهو أن يؤدي المؤمن كل أركان الإسلام، ويلتزم بفعل الواجبات، وترك المحرمات، فالعمل جزء من الإيمان، وقد أنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكاراً شديداً، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار (1)، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وقال الأوزاعي: كان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان، والدليل من القرآن على أن العمل جزء من الإِيمان قوله تعالى (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ   (1) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الراشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فجعل الأعمال المذكورة التي هي الهجرة والجهاد والنصرة جزءاً من الإيمان الحق، الذي يستحق صاحبه النجاة من النار، والفوز بالجنة ابتداء مع الَأولين الأبرار، أما الدليل من السنة على أن العمل جزءٌ من الإِيمان فهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: " هل تدرون ما الإِيمان بالله؟ شهادةَ أن لا إله إلاّ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم " فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرّف الإِيمان بالشهادة والصلاة والزكاة والصوم، فجعل هذه الأعمال المذكورة جزءاً من الإيمان، قال ابن القيم: فيه أن الإِيمان بالله هو مجموع هذه الخصال من القول والعمل كما علم ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وتابعوهم وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل (1) من الكتاب والسنة اهـ. وهو مذهب السلف الصالح، قال ابن تيمية: " ومن أصول أهل السنة أن الدين والإِيمان قول وعمل (2)، قول القلب (3) واللسان (4) وعمل القلب (5) واللسان والجوارح (6). اهـ. فالعمل جزء من الإِيمان ولكن لا ينتفي الإيمان بانتفائه ولا يبطل باقتراف كبيرة، أو ارتكاب معصية، فأهل السنة لا ينفون عن العاصي الإيمان بالكلية، ولا يخرجونه من الدين، ولا يحكمون عليه بالكفر والخلود في النار، وهم كما قال ابن تيمية: " لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإِيمانية ثابتة مع المعاصي، وقال أيضاً: " ولا يسلبون الفاسق الإِيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة " فالعاصي، ومرتكب الكبيرة لا يسلب من الإِيمان   (1) التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطة. (2) العقيدة الواسطية لابن تيميّة. (3) وهو التصديق القلبي الجازم المساوي لليقين الذي لا يقبل شكاً ولا ريبة بكل ما أخبر به الله تعالى أو أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من وجود الله وصفاته وأفعاله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. (4) قول اللسان هو النطق بالشهادتين، مع الاعتراف بكل قواعد الإيمان المذكورة في الفقرة السابقة. (5) وهو شامل لكل أعمال القلوب من نية وإخلاص وتوكل وخوف ورجاء وغيرها. (6) وهو شامل لجميع العبادات الشرعية من صلاة وحج وصوم ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بالكلية، ولا يدخل في الإِيمان المطلق الكامل الذي يستحق به الجنة ابتداء، وإنما هو مؤمن فاسق. قال ابن تيميّة " هو مؤمن ناقص الإيمان أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الإِيمان " (1) ومعنى ذلك أننا لا ننفي عن العاصي اسم الإِيمان، ونقول إنه كافر خارج عن الملة، ولا نطلق عليه الإيمان دون أن نقيده بالفسق. والدليل على أن العاصي لا ينتفى عنه الإِيمان أَن الله أثبت للقاتل والباغي إخوة الإِيمان، فقال في القاتل: (فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقال في البغاة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) والدليل على أن العاصى لا يدخل في الإِيمان المطلق الكامل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" لأن الله نفى عن هؤلاء العصاة الإِيمان المطلق الكامل الذي يستحقون به النجاة من النار، والفوز بالجنة، ابتداء مع الأوَّلين الأبرار خلافاً للمرجئة والجهمية فإنهم قالوا، لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة وقالوا: إيمان أفسق الناس كإيمان أبي بكر وعمر (2). فالخوارج والمعتزلة غلوا والمرجئة جفوا، أولئك تعلّقوا بأحاديث الوعيد وهؤلاء تعلّقوا بأحاديث الوعد فقط، وهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط الذي تدل عليه أدلة الكتاب والسنة فقالوا: إن الفاسق لا يخرج من الإيمان بمجرد فسقه، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت مشيئة الله إن عفا عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف عنه عذب بقدر ذنوبه، ثم دخل الجنة، فلا بد له من دخول الجنة، فالعاصي معرّض لعقوبة الله وعذابه، وقابل لعفو الله وغفرانه، حيث قال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فهذه الآية صريحة في أن من مات غير   (1) العقيدة الواسطية. (2) التبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مشرك فهو تحت مشيئة الله، وفيها الرد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المرجئة القائلين بأن الذنوب لا تضر، وأن الناس في الإِيمان سواء لا تفاضل بينهم. والحاصل أن المرجئة قالوا: العمل ليس من الإِيمان، أما أهل السنة فإنهم قالوا: الأعمال داخلة في الإِيمان، وكذلك قال المعتزلة والخوارج: العمل جزء من الإِيمان، ولكن الفرق بين أهل السنة من جهة وبين المعتزلة والخوارج من جهة أخرى -كما في " شرح العقيدة الواسطية " (1) أن أهل السنة يقولون: إن الأصل في الإِيمان التصديق، والعمل ليس جزءاً أصلياً في الإِيمان وأما الخوارج فإنهم جعلوا العمل جزءاً أصلياً في الإِيمان، مساوياً للتصديق، فإذا انتفى انتفى الإِيمان فيكون كافراً ويخلد في النار. ومن أوضح الأدلة وأصرحها على بطلان قولهم هذا، ما جاء منصوصاً عليه في السنة الصريحة أنّ من أصول الإيمان .. " أن لا يكفر أحدٌ بذنب " ففى الحديث " عن أنس رضي الله عنه: " " ثلاث من أصل الإِيمان: الكف عَمَّن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإِسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر أمتى الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإِيمان بالأقدار " أخرجه أبو داود، فهل بقي بعد كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام لمتكلم وهل بعد قوله هذا قول لقائل)) ومن الأدلة الصريحة على أن مرتكب الكبيرة لا يخلَّد في النار. حديث أبي ذر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، أو قال: لم يدخل النّار، قال: وإن زنى، وإن سرق؛ قال: وإن " أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. قال الخطابي: والمعنى أن من مات على التوحيد فإن مصيره إلى الجنة، وإن ناله قبل ذلك من العقوبة ما ناله، وأما قوله " لم يدخل النار " فمعناه لم يدخل دخول تخليد، ويجب التأويل بمثله جمعاً بين الآيات والأحاديث والله أعلم. أمّا الإِسلام فإنّه   (1) المنحة الإلهية شرح العقيدة الواسطية، للأستاذ علي مصطفى الأستاذ بكلية أصول الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 لغة الانقياد بالقلب أو باللسان والجوارح، وشرعاً النطق بالشهادتين. مع الإقرار لله بالوحدانية، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، والالتزام بأحكام الشريعة، وَأداء أركانها، فمن فعل ذلك حكمنا بإسلامه، وعاملناه معاملة المسلمين في جميع الأحوال، الشخصية من ميراث ونكاح وطلاق، والصلاة عليه بعد موته، ودفنه في مقابر المسلمين، وعصمة نفسه وماله، في حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أنْ أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلاّ بحق الإِسلام، وحسابهم على الله " أخرجه الشيخان ومعنى قوله: " وحسابهم على الله " كما قال القاري: " أننا نحكم عليهم بظاهر حالهم، فنرفع عنهم ما على الكفار ونؤاخذهم بحقوق الإِسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله يتولى حسابهم -يعني على ما في قلوبهم- فيثيب المخلص، ويعاقب المنافق " اهـ. وإنما يختلف معنى الإِسلام عن معنى الإِيمان إذا اجتمعا في نص واحد، أما إذا افترقا فإن معناهما يكون واحداً ولهذا قال أهل العلم: إذا اجتمعا افترقا، كما في حديث جبريل، حيث دل الإِسلام على الانقياد للأعمال الظاهرة، ودل الإِيمان على الأعمال الباطنة، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا انفرد الإِسلام وحده تضمن معنى الإِيمان. كما في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وإذا انفرد الإِيمان تضمن معنى الإِسلام، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - " الإِيمان بضعٌ وسبعون شعبة ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 2 - " بَابُ الإيمَانِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خمْس " 7 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِي الإسْلَامُ عَلَى خَمس، شَهَادَةِ أنْ لَا   2 - باب الإِيمان، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الِاسلام على خمس " 7 - الحديث: أخرجه الشيخان. ترجمة راوي الحديث: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي، أسلم قديماً قبل البلوغ، وهاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه ببدر وأحد فاستصغره، ولم يأذن له، وأجازه في الخندق، وهو أحد الستة المكثرين في الحديث، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاً وستمائة وثلاثين حديثاً، اتفقا على سبعين ومائة، وانفرد البخاري بواحد وثمانين حديثاً، وكان كثير الاتباع لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الاحتياط والتوقي لدينه، توفى رضي الله عنه سنة 73 هـ، وهو آخر صحابي توفي بمكة. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بني الإِسلام على خمس " أي أن الإِسلام لا يقوم ولا يتحقق كاملاً إلاّ بهذه الأعمال الخمسة، كما لا يقوم البيت من الشعر إلاّ على خمس دعائم، الدَّعامة الوسطى، وبقية الدعائم الأربعة في أطرافه " شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله " روي بالجر والرفع، ومعناه أن أحدها شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، أي أن العمل الأول من أعمال الإِسلام الشهادتان، وهما العنصر الأساسي الذي لا يتحقق إسلام العبد إلاّ بوجوده، فمن لم يأت بالشهادتين لا يكون مسلماً أصلاً، فكما يَسْقُطُ البيت إذا سقطت دعامته الوسطى، كذلك يبطل إسلام المرء إذا لم يأت بالشهادتين. أما إذا أَتى بهما، وقصَّرَ في بقية الأعمال الأربعة، فإنه لا يبطل إيمانه، ولا يكفر وإنما يكون مؤمناً فاسقاً. ومعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 إِلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسولُ الله، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الَزّكَاةِ، والْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".   الشهادتين: أن ينطق العبد بشهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، معترفاً بوحدانية الله، ورسالة محمد بن عبد الله، مصدقاً بقلبه بهما، معتقداً لمعناهما، عاملاً بمقتضاهما، هذه هي الشهادة التي تنفع صاحبها في الدار الآخرة، فيفوز بالجنة، وينجو من النار. أما مجرد النطق بالشهادتين، والانقياد لشرائع الإِسلام ظاهراً مع عدم اعتقادها باطناً، فإن ذلك لا ينفع صاحبه في الدار الآخرة، ولا ينجيه من النار (1). لأنَّ الشهادة التي نطق بها لسانه دون موافقة القلب عليها لا ينطبق عليها معنى الشهادة الذي هو الإِخبار عن أمر متيقن قطعاً، ولا تتوفر فيها شروط الشهادة التي هي العلم واليقين والاعتقاد والصدق والإخلاص، فلا بد في الشهادة من اعتقاد القلب بها، وإيمانه بمعناها، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى للبخاري " بني الإِسلام على خمس، إيمان بالله ورسوله " وفي رواية مسلم " على أن يعبد الله ويكفر بما دونه ". " وإقام الصلاة " أي والثاني من أركان الإِسلام " إقام الصلاة " يعني المحافظة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها بشروطها وأركانها الخ، " وإيتاء الزكاة " أي وثالث أركانه إيتاء الزكاة أي إخراج الزكاة المفروضة، وصرفها لمستحقيها، " والحج " أي ورابع أركان الإِسلام الحج إلى بيت الله الحرام مرة واحدة في العمر على من استطاع إليه سبيلاً " وخامسها " وهو آخر الأركان " صوم رمضان " وسيأتي مفصلاً شرح هذه الأركان.   (1) قال في " فتح المجيد ": فلا بد في الشهادتيْن من العلم واليقين، والعمل بمدلولهما، كما قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل وقول القلب واللسان وعمل القلب واللسان فغير نافع بالإجماع. فإنَّ الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وصدق وإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن أركان الإِسلام تنقسم إلى أربعة أقسام " منها " ما هو عمل لساني قلبي، وهو الشهادتان، إذ لا بد فيهما من نطق اللسان وتصديق الجنان. " ومنها " ما هو عمل بدني، وهو الصلاة والصوم " ومنها " ما هو مالي محض، وهو الزكاة. " ومنها " ما هو عمل بدني مالي، وهو الحج. ثانياً: قال العيني: يدل ظاهر الحديث على أن الشخص لا يكون مسلماً عند ترك شيء من هذه الأركان، لكن الإجماع منعقد على أن العبد لا يكفر بترك شيء غير الشهادتين اتفاقاً، وغير الصلاة عند أحمد، وبعض المالكية اللهم إلاّ إذا تركه جاحداً. والأدلة على كفر تارك الصلاة كثيرة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " أو قال، وهي عامة في كل من ترك الصلاة ولو كسلاً، ومما يؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة " فإنه يدل على عظم شأن الصلاة، وأن مكانها من الدين مكان العمود من الفسطاط - أي الخيمة - فكما أن عمود الفسطاط إذا سقط سقط الفسطاط، فكذلك إذا فقدت. الصلاة سقط دين تاركها (1)، فلم يبق له دين، لأن مجرد ترك الصلاة كفر، يخرج من الملة (2). وهذا دليل على ما ذهب إليه الإِمام أحمد وغيره من أنه إذا تركها كسلاً فهو كافر، فإن قوله عمودها الصلاة يدل على أن المراد فعل الصلاة، وليس المراد الإِقرار بها، فإن المبتدأ والخبر معرفتان يقتضيان الحصر وأنها وحدها عمود الدين. وأما من جحد وجوبها فقد كفر إجماعاً وإن فعلها، أن جحد شيء مجمع عليه ومعلوم من الدين بالضرورة كفر عند أئمة الإِسلام. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.   (1) " حاشية الثلاثة الأصول " للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي الحنبلي. (2) وهناك نصوص أخرى تدل على أن مجرد ترك الصلاة ليس بكفر مخرج عن الملة. (ع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 3 - " بَابُ أمُورِ الإيمَانَ " 8 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - قال: " الإِيمَانُ بضع وَسِتُّوْنَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِن الإيمَانَ ".   3 - باب أمُور الإِيمان باب الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ترجمة راوي الحديث: هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر، أسلم عام خيبر وشهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلمت أمه ميمونة بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - نشأ أبو هريرة يتيماً، وهاجر مسكيناً، وعمل أجيراً ليسرة بنت غزوان، فزوجه الله إيّاها، وقد كان عريف أهل الصُفة. أما مكانته في رواية الحديث. فقد كان رضي الله عنه أكثر الصحابة روايةً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أجمع عليه كافة أهل العلم، وسائر المحدثين، وروى من الأحاديث ما لم يروه غيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد بلغ عدد أحاديثه خمسة آلاف وثلثمائة حديث، وأربعة وسبعين حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على ثلثمائة وخمسة وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين حديثاً ومسلم بمائة وتسعين حديثاً. رُوي عنه أنه لمّا مرض مرض موته دخل عليه مروان فقال: شفاك الله، فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي، فما بلغ مروان وسط الدار حتى مات. وكان ذلك بالمدينة سنة تسع وخمسين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الإِيمان بضع " بكسر الباء وفتحها وهو في الأصل القطعة من الشيء، ثم استعمل في العدد، وأطلق على ما بين الثلاثة إلى العشرة. وخصه الخليل بسبعة " أي أنه بمنزلة السبعة ومعناها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فيعامل معاملتها في التذكير والتأنيث، فيذكر مع المؤنث ويؤنث مع المذكر، فيقال: " بضعة رجال وبضع نسوة " أي سبعة رجال وسبع نسوة " بضع وستون شعبة " بضم الشين وسكون العين وهي في الأصل غصْن الشجرة، تقول: أمسكت بشُعْبةِ الشجرة، أي بغصنها، والمراد بها هنا الخصلة الواحدة من خصال (1) الخير. وقد اختلفت الأحاديث في عدد شعب الإيمان، ففي رواية البخاري " بضع وستون "، وفي رواية مسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه " بضع وسبعون " وهو الراجح، كما قال القاضي عياض وغيره ولهذا قالوا ليس المقصود " تحديد العدد " وإنما المراد به التكثير. والمعنى: كما قال العيني: " إن الإِيمان ذو خصال متعددة، ويتكون من أعمال كثيرة، منها أعمال القلوب كالتوحيد، والتوكل، والرجاء، والخوف، ويدخل في ذلك عواطف الخير من رحمة ومحبة وغيرها " ومنها " أعمال اللسان من ذكر ودعاء، وتلاوة قرآن وغيرها " ومنها " أعمال الجوارح كالصلاة والصوم، وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم ". ومعرفة هذه الشعب على وجه التفصيل ليس بواجب، وإنما الواجب الإِيمان بها إجمالاً لأنّ الشارع لم يوقفنا عليها حداً وعداً، كما رجحه الخطابي والقاضي عياض، ويمكننا التعرف عليها من الكتاب والسنة، كما أفاده في فيض الباري ثم قال - صلى الله عليه وسلم - " والحياء شعبة من الإِيمان "، أي والحياء خصلة من خصال الإِيمان، وهو في الأصل انفعال نفسي يحدث للنفس عند نفورها من القبيح، وشعورها بقبحه، وإحساسها بالخجل منه، تظهر آثاره على الوجه حمرة أو صفرة، ولهذا عرفه بعضهم بأنه رقة تعتري وجه الإِنسان عند فعل القبيح، أو إرادة النفس له. والحياء نوعان: فطري وشرعي. والمراد في هذا الحديث " الحياء الشرعي " الذي هو في الحقيقة حياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك، وهو بهذا المعنى أقوى باعث   (1) فيكون المعنى اللفظي لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الإيمان بضع وستون شعبة " على حد قول الخليل: إن الإيمان سبعة وستون خصْلة من خصال الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 على الخير، ورادع عن الشر، ولذلك كان من الإِيمان، بل من كمال الإيمان. قال العيني: " الحيي يخاف فضيحة الدنيا وفضيحة الآخرة. فينزجر عن المعاصي ويمتثل الطاعات، ولهذا أفرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الحياء بالذكر دون سائر الأخلاق الأخرى، فقال: " الحياء من الإيمان ". ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن الأعمال جزء من الإيمان كما يقول جمهور أهل السنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان بضع وستون شعبة " ومن هذه الشعب أعمال اللسان والجوارح. ثانياً: أن الإِسلام دين أخلاقي، أهم عناصر الأخلاق فيه الحياء، ولهذا قال في فيض الباري (1): " وإنما نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كون الحياء شعبة من الإيمان لكونه أمراً خلقياً يذهل الذهن عن كونه من الإِيمان، فدل على أن الأخلاق الحسنة منه. ثالثاً: أن الحياء من الله، كما قال الحليمي، هو طريق إلى فعل كل طاعة وترك كل معصية، فيفوز صاحبه بكمال الإِيمان في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الحياء من الإيمان، والإِيمان في الجنة -أي يوصل إليها- والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار " أخرجه الترمذي. رابعاً: أن الحياء كما أفاده الماوردي (2) على ثلاثة أوجه، أحدها الحياء من الله تعالى، بامتثال أوامره، والكف عن زواجره - وهو إنما ينشأ عن قوة الدين وصحة اليقين. والثاني: الحياء من الناس، وترك المجاهرة بالقبيح، واجتناب كل ما يدعو إلى إساءة الظن بفاعله ولو كان بريئاً. فقد روي عن حذيفة أنه أتى الجمعة، فوجد الناس قد انصرفوا، فتنكب الطريق عن الناس، وقال: لا خير فيمن لا يستحي من الناس، وذلك لأن الناس لا يعلمون عذره أمّا ربه فإنه مطلع عليه. والثالث: حياء المرء من نفسه بالعفة والصيانة في الخلوة. وذلك ينشأ عن معرفة المرء قدر نفسه، أو تكريمه   (1) " فيض الباري على صحيح البخاري " الشيخ محمد أنور الكشميرى، ج 1. (2) " أدب الدنيا والدين " للماوردي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 4 - " باب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " 9 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عمرو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،   لها، ولهذا قال بعضهم من عمل في السر عملاً يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قَدْر. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله " الإِيمان بضع وستون شعبة " حيث دلَّ ذلك على أنّ الإيمان أمور كثيرة، ومنها أعمال الجوارح. 4 - باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 9 - الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم. ترجمة الراوي: هو عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، الصحابي ابن الصحابي: العابد الزاهد، أسلم رضي الله. عنه قبل أبيه، وهو أصغر من أبيه باثني عشر عاماً فقط، أعطى العبادة كل وقته، وعكف أولاً على القرآن، فكان كلما نزلت آية حفظها وفهمها، ثم عكف على رواية السنة المطهرة، حتى أصبح أحد الستة المكثرين من رواية الحديث، وتوفي سنة خمس وستين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " أي أن المسلم الكامل (1) في إيمانه ودينه هو من حسنت معاملته للناس ابتغاء مرضاة اللهِ، فحافظ على حقوق خلقه، وكف أذاه وشره عن عباده، وآمن يقيناً أن الدين المعاملة، فعامل الناس بالحسنى، ولم يتعد على أحد منهم بلسانه أو يده، ولم يؤذ إنساناً بقوله أو فعله. والمراد من الحديث أن المسلم   (1) فالألف واللام في قوله " المسلم " للكمال كما في قولهم زيد الرجل، أي الكامل في رجولته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ".   الكامل هو من سلم المسلمون من إيذائه لهمٍ، وعدوانه عليهم بأي عضو من أعضائه، سواء كان لساناً أو يداً أو رجلا أو غيرهما، ونجوا من شروره. وإنّما خُصَّ اللسان واليد لكثرة أخطائهما وأضرارهما، فإنّ معظم الشرور تصدر عنهما، فاللسان يكذب ويغتاب، ويسب ويشتم، ويأتي بالنميمة، وشهادة الزور، واليدُ تضرب وتقتل، وتسرق، إلى غير ذلك، قال القاري: (1) وقدم اللسان لأنّ الإِيذاء به أكثر وأسهل، وأشد نكاية، ويعم الأحياء والأموات جميعاً. وإنما اهتم الإِسلام بكفِّ الأذى عن الناس لتوثيق الروابط الاجتماعية بينهم، وصيانة المجتمع عن كل ما يؤدي إلى التفكك والتقاطع والتدابر. " والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه " أي أن المهاجر الكامل الصادق في هجرته هو من ترك كل ما نهي الله عنه من المعاصي، سواء كانت من الأقوال الكريهة، أو الأفعال الذميمة، لأن هذا هو الهدف الأسمى المقصود من الهجرة، ولهذا قال الحافظ (2): كأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: اهتمام الإِسلام البالغ بكف الأذى عن الناس وحسن معاملتهم، حتى أنه حصر الإِسلام الكامل فيه، وحثّ المسلمين عليه، " لأن الدين المعاملة " فالمسلم لا يؤذي أحداً ولو كان كافراً، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية النسائي وابن حبان " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده " وقد أجمعت كل الأديان السماوية على حفظ حقوق الإِنسان وصيانتها، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - " من قتل ذميَّاً لم يرح رائحة الجنة " وإنّما خص اللسان بالذكر لما يصدر عنه من الأفعال التي قد يتساهل المرء بها مع شدة خطورتها، ومن   (1) شرح مشكاة المصابيح للقاري. (2) فتح الباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 5 - " بَاب أيُّ الإِسْلامِ أفضلُ " 10 - عَنْ أبي مُوسَى رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ! أيُّ الإِسْلَامِ أفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ   أشدها ضرراً الغيبة والنميمة، وقد قال المأمون النميمة لا تقرب مودة إلاّ أفسدتها ولا عداوة إلاّ جددتها، ولا جماعة إلا بددتها، وقال الشاعر: مَن نَمَّ فِي النَّاسِ لَمْ تُؤمَن عَقَارِبُه ... عَلى الصَديقِ ولَمْ تُؤمَن أفاعِيْهِ وقد ينطق الإنسان، بالكلمة يظنها يسيرة وهي كبيرة من الكبائر، فقد روى أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا -تريد أنها قصيرة- فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقد قلتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته " أخرجه أبو داود. ثانياً: أن الإِيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية لأنّه لما كمل بحسن المعاملة، فإنه ينقص بسوء المعاملة حتماً. ثالثاً: أن الهجرة إنما تتحقق بترك المعاصي لا بمجرد الانتقال من بلد لآخر لقوله - صلى الله عليه وسلم - " المهاجر من هجر ما نهي الله عنه ". رابعاً: أن ترك المحظورات مقدَّم على فعل المأمورات وأن الدين المعاملة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 5 - باب أي الإِسلام أفضل 10 - الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي. ترجمة راوى الحديث: هو أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري اليمني الصحابي الجليل؛ هاجر إلى الحبشة، واستعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على زبيد وعدن وساحل اليمن، وولاه عمر رضي الله عنه الكوفة والبصرة، وكان من أهل الفتوى، قال ابن المديني: قضاة الأمة أربعة: عمر وعلي وأبو موسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". 6 - " بَابُ إطْعَامِ الطّعَامِ مِنَ الإِسْلَامِ " 11 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرَو رضيَ اللهُ عنْهُمَا: أنَّ رَجُلاً سَألَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الإِسْلامِ خَيرٌ؟ فَقَالَ: "تُطْعِمُ   وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. وكان جيد التلاوة، حسن الصوت بالقرآن، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داود " روى (360) حديثاً اتفقا منها على خمسين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة عشر، توفي بالكوفة سنة خمس وأربعين عن ثلاث وستين سنة رضي الله عنه. معنى الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل " أي الإسِلام أفضل " يعني أي أصحاب الإِسلام أفضل من غيرهم، وأكثر ثواباً من سواهم. " قال: من سلم السلمون من لسانه ويده " وفيه مبتدأ محذوف للعلم به تقديره هو من سلم المسلمون، ومعناه خبر المسلمين - وأفضلهم إيماناً، وأكثرهم مثوبة وأجراً من سلم الناس من أذى يده ولسانه (1). ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: الترغيب في حسن المعاملة للناس، وأن الدين المعاملة. ثانياًً: بيان أفضل المسلمين، وأنه هو من حَسُنت معاملته، وطابت عشرته، وكف عن الناس شره، وهو ما ترجم له البخاري. المطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 6 - باب إطعام الطعام من الإِسلام 11 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وأبو داود، وابن ماجه. معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن عمرو بن العاص في حديثه هذا "أن   (1) يلاحظ أنني اختصرت في شرح هدا الحديث لمشابهته للحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الطَّعَامَ، وَتَقْرأ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ".   رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإِسلام خير؟ " يعني أي أعمال الإِسلام خيرٌ من غيرها، وأفضل من سواها بعد الإِيمان وأداء الأركان " فقال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام " أي أفضل الأعمال بعد الإيمان وأداء الأركان أمران: الأول: الإكثار من إطعام الطعام للضيوف والفقراء ابتغاء وجه الله تعالى، فيدخل في ذلك الضيافة والوليمة والصدقة وغيرها. الثاني: إقراء السلام على كل من لقيْنا، سواء كان عن معرفة أو غير معرفة، قريباً أو بعيداً، وإشاعته على المسلمين جميعاً، لأن السلام لله فينبغي بذله وإفشاؤه لكل مسلم ابتغاء وجه الله دون تمييز بين شخص وآخر ولأنّه تحية الإِسلام لعموم المسلمين. فينبغي أن لا تؤثر فيه العواطف والمجاملات. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل إطعام الطعام الإِسلام، وكونه من أفضل الأعمال شريطة أن يكون لوجه الله تعالى، لا رياءً وسمعة قال السنوسي (1): " أما ما كان لفائدة غير شرعية كالمباهاة والانتفاع والثناء ونحو ذلك، فليس بمقصود، بل ربما كان بعضه محرماً، كالاطعام لبعض اللئام من الظلمة والفساق يستعين بهم على فساده ". ثانياً: أن إفشاء السلام من سنّة خير الأنام، ومن أفضل شرائع الإسلام. لما فيه من التواضع للمسلمين، وخفض الجناح للمؤمنين، وتوثيق الروابط معهم، واكتساب محبتهم ومودتهم فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم ". ثالثاً: أن السلام لا يكون سنة وقربة إلى الله إلَّا إذا كان على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين، دون تخصيص بعضهم به. قال الحافظ (2): "ولا يَخصُّ به أحداً تكبراً أو تصنعاً غير أنه لا يسلم على كافر   (1) شرح السنوسي على صحيح مسلم، ج 1. (2) فتح البارى، ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 7 - " بَابٌ مِنَ الإيمَانِ أنْ يُحبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " 12 - عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يُؤْمِنُ أحَدُكْم حتَى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ".   ابتداءً لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ". والمطابقة: في قوله " إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإِسلام خير قال تطعم الطعام ". 7 - " باب من الإِيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه " 12 - الحديث: أخرجه الستة. ترجمة راوي الحديث: هو أنس بن مالك بن النضر النجاري الأنصاري خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره عشر سنين وشهد بدراً، وجاءت والدته أم سُلَيْم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله خويدمك أنس، ادعُ الله له، فقال - صلى الله عليه وسلم - " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه " أخرجه الطبراني، وفي رواية " وأطل عمره " فكان رضي الله عنه أكثر الصحابة ولداً، وله بستان يحمل في السنة مرتين، وطال عمره حتى قال: لقد بقيت حتى سئمت من الحياة، وأنا أرجو الرابعة وهي غفران ذنبه. وكان رضي الله عنه من المكثرين في الرواية روى (2286) حديثاً اتفقا على (168) حديثاً وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بواحد وتسعين. مات بالبصرة (90) هـ، وهو آخر من مات بها من الصحابة. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدم " أي لا يتحقق الإيمان الكامل لأحد من المسلمين " حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " أي حتى يحب لأخيه الإنسان من الخير والمنفعة ما يحبه ويريده لنفسه، قال ابن الصلاح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 (أي حتى يحب لأخيه أن يساويه في الخير) ولا يصعب ذلك على القلب السليم. وقال ابن العماد: الأولى أن يحمل قوله " حتى يحب لأخيه " على عموم الأخوة، حتى يشمل الكافر والمسلم فيحب لأخيه الكافر ما يحب لنفسه من الدخول في الإسلام، ولذلك ندب الدعاء له بالهداية (1) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لكفار قريش بالخير، ويحبه لهم، ويقول: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ومما يؤكد أن المراد محبة الخير للناس جميعاً، لا فرق بين مسلم وكافر قوله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الإيمان أن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك " أخرجه أحمد في " مسنده " ولكن هذا إذا لم يكن في الخير الذي يصيبهم مَضَرَّة للمسلمين وإلّا دخل ذلك في موالاة أعداء الله. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن عاطفة المحبة للناس وحب الخير لهم جميعاً من كمال الإيمان، ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا تجرد الإنسان من الأنانية والحقد (2) والكراهية والحسد، وأحب لغيره من المباحات ما يحبه لنفسه من السلامة، والأمن، ورغد العيش والهداية والتوفيق. أما المعاصي فليس من الإِيمان أن يحبها لغيره، لأنها شرٌّ لا خير فيها، أما محبة المسلم لأخيه المسلم فإنها آكد وأقوى، ولا يكفى فيها مجرد العواطف النفسية، بل لا بد أن تظهر آثار هذه العواطف في معاملته. ثانياً: التحذير من الحقد والحسد وغير ذلك من المشاعر الكريهة التي تنافي المحبة. المطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. ...   (1) شرح الشبرخيني المالكي على الأربعين النووية. (2) الوافي في شرح الأربعين النووية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 8 - بَابُ حُبِّ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْإيمَانِ 13 - عَنْ أبى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكم حَتَّى أكوُنَ أحَبَّ إليْهِ مِنَ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ ". 14 - وَعَنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ْقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إليْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ والنَاس أجْمَعِين ".   باب حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان 13 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده " الواو: واو القسم، و " الذي " صفة لمحذوف تقديره والله الذي نفسي بيده -خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً " لا يؤمن أحدكم " أي لا يؤمن أحد من المسلمين الإِيمان الكامل " حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده " أي حتى يكون حبه لي أقوى من حبه لأعز الأشياء لديه فيحبني أكثر من والده الذي هو سبب وجوده وولده الذي هو امتداد لحياته من بعده. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - علق وجود الإيمان الكامل على محبته - صلى الله عليه وسلم -. 14 - الحديث: أخرجه الشيخان. معنى الحديث: هذا الحديث معناه كالحديث السابق لأنه مثله غير أنه زاد فيه قوله " والناس أجمعين " ليؤكد أن حب المؤمن لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يصل إليه أي إنسان في هذا الوجود مهما عزت مكانته عنده. ويستفاد من الحديثين: أولاً: أن من كمال الإيمان أن يتغلب حب المسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 9 - " بَابُ حَلَاوَةِ الْإيمَانِ " 15 - عن أنس رضي اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ثَلَاث مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ،   لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على حبه لأي شيء في هذا الوجود، مهما يكن عزيزاً لديه، ولا غرابة لأن العاطفة الدينية إذا قويت تغلبت على الغريزة النفسية، وسادت عليها، فيحب المؤمن نبيه الذي هو سبب هدايته أقوى مما يحب والده وولده، بل أقوى مما يحب نفسه، وهُوَ ما يعرف عند علماء النفس بالعاطفة السائدة، وإذا كان هذا الحب صادقاًْ فإنّه لا بد أن يحمل صاحبه على متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بسنته، لأنّ من البدهيات المعروفة نفسياً، أن كل إنسان يتبع من يحبه، ويطيعه في كل شيء. فالحب الصادق. لا بد أن يؤدى بصاحبه إلى المتابعة كما قال الشاعر: تَعْصِي الإِلهَ وَأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هذا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بَدِيْعُ لَوْ كان حُبُّكَ صَادِقاً لأطَعْته ... إنّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ ولهذا كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمعون بين الحب والعمل معاً. ثانياً: أن من علامات الحب الصادق للنبي - صلى الله عليه وسلم - التمسك بسنته، وكمال متابعته، لأنه لن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من كل شيء إلاّ إذا قدم أمره ونهيه على كل شيء ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به ". مطابقة الحديثين للترجمة: في كونه علق الإيمان الكامل على محبته - صلى الله عليه وسلم -. 9 - باب حلاوة الإِيمان 15 - الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي أيضاً. الراوي: هو أنس بن مالك تقدمت ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأنْ يُحبَّ الْمَرءَ لا يُحِبُّهُ   معنى الحديث: أن للإِيمان حلاوة روحية، ولذة قلبية، لا تعدلها لذة أخرى في هذا الوجود، ولكن لا يتذوق هذه الحلاوة إلاّ من وجدت فيه ثلاث صفات كما قال - صلى الله عليه وسلم - " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ". الصفة الأولى: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " أي أن يتغلب الحب الإِلهي على نفسه، ويسيطر على كل عواطفه ومشاعره، فيكون حبه لله ورسوله أقوى من حبه لوالده وولده وماله وجاهه، بل أقوى من حبه لنفسه ومن كل شهواته النفسية، وهذه هي حقيقة الإِيمان التي إذا بلغها العبد كان هواه تبعاً لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث، ومن علامات ذلك كمال الطاعة، وتمام المتابعة، ولهذا قال ابن قدامة (1) رحمه الله تعالى: " من أحب الله لا يعصيه " ومراده أن الحب الإلهي الكامل يحول دون المعصية، لأن حلاوة الإِيمان وحب الله تمنع عن كل ما يغضب الله. والصفة الثانية " وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله " أي أن يحب أخاه المسلم محبة خالصة ابتغاء مرضاة الله لمزية دينية موجودة فيه، أو فائدة شرعية يستفيدها منه، من علم نافع أو سلوك حسن، أو صلاح أو عبادة. والصفة الثالثة " أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار " أي أن تخالط قلبه بشاشة الإِيمان، فيكره الرجوع إلى الكفر - بعد أن هداه الله إلى الإِسلام، كما يكره أن يلقى في النار لعلمه يقيناً أن الكفر سبب للخلود فيها. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِيمان الكامل يربي في النفس أسمى العواطف الدينية، وهي ثلاث عواطف. عاطفة الحب الإِلهي: وقد أشار إليها   (1) " مختصر منهاج القاصدين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 إلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ إِلَى الْكفْرِ كمَا يَكْرَة أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ". 10 - " بَابٌ عَلَامَةُ الإيمَانِ حُبُّ الْأنصَارِ " 16 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأنصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ   النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ". وعاطفة الحب في الله والبغض في الله، وقد أشار إليهما - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله ". وعاطفة البغض لكل ما حرّم الله، وقد أشار إليها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار ". وكذلك يبغض سائر المعاصي، لأنها تؤدي إليها، فإذا خطرت بباله تصور النار وهي تحرق جسمه، فتنفر نفسه منها حرصاً على سلامته. ثانياًً: قال ابن أبي جمرة: " ظاهر الحديث يدل على أنّ الإِيمان على قسمين: بحلاوة، وبغير حلاوة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " الإِيمان إيمانان، إيمان لا يدخل صاحبه في النار، وإيمان لا يخلد صاحبه في النار "، فالأول ما كان بالحلاوة، والثاني ما كان بغير حلاوة ". وهذا يؤكد أنَّ الإِيمان الكامل له حلاوة روحيّة تفوق كل حلاوة في هذا الوجود، ولهذا قال بعضهم: " إن القلب السليم من أمراض الغفلة والهوى يجد في طعم الإيمان حلاوة العسل. ثالثاً: أن اختيار الأصدقاء هو من كمال الإِيمان، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله " وقد قال عمر رضي الله عنه " لا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره " واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى. 10 - باب علامة الإِيمان حب الأنصار 16 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الأنْصَارِ". 11 - " بَابٌ " 17 - عَن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " آية الِايمان حب الأنصار " أي علامته الظاهرة الواضحة محبة الأنصار من أجل محبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومناصرتهم وتأييدهم له - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحبهم لهذا الغرض كان ذلك علامة واضحة، ودليلاً قاطعاً على كمال إيمانه، لأنه قد أحبهم في الله، ومن أحب في الله وأبغض في الله فقد استكمل الإيمان. " وآية النفاق بغض الأنصار " أي وعلامة النفاق بغض الأنصار من أجَل مناصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن أبغضهم لهذا السبب فهو منافق ولا شك، قال الأبي: فمن أبغضهم من هذه الحيثية فهو منافق، فلا يتناول الحديث من أبغضهم لذواتهم، أو لأسباب أخرى (فإنه لا يكون منافقاً) نعم هو في بغضهم عاصٍ فليجتهد في رد ذلك. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: الترغيب في حب أولياء الرحمن، والاعتراف بفضلهم، والتحذير من بغضهم ومعاداتهم، وقد جاء ما يؤكد ذلك في الأحاديث الصحيحة، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب ". ثانياً: أن عواطف الحب والبغض لها أهميتها في نظر الإِسلام، وأنه يحاسب على البغض كما يثاب على الحب، لكنه لا يحاسب على البغض أو يكون مسيئاً إلاّ إذا استجاب لتلك العاطفة أما إذا قاومها واستعاذ بالله منها، وقصد بمقاومتها وجه الله، فإنه يكون محسناً ويثاب على ذلك. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 11 - " باب " 17 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَة مِنْ أصْحَابِهِ: " بَايِعُوني على أنْ لَا تُشْرِكُوا باللهِ شَيْئاً ولَا تَسرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، ولَا تَقْتُلُوا أوْلَادَكُمْ وَلا تَأتُوا بِبُهْتَان تَفْتَرُونَهُ بين أيدِيكُمْ وأرْجُلِكُمْ، ولا تَعْصَوا في مَعْرُوفٍ،   ترجمة الراوي: هو عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري، شهد العقبتين كما شهد بدراً والمشاهد كلها، وكان طويلاً جسيماً جميلاً، وجهه عمر رضي الله عنه إلى الشام قاضياً ومعلماً، فأقام بحمص، ثم انتقل إلى فلسطين، ومات بها سنة (34) هـ روى (181) حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين، رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: يحدثنا عبادة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في بيعة العقبة الأولى التي تمت بينه وبين نقباء الأنصار وفي السنة الثانية عشرة من البعثة وحوله " عصابة من أصحابه " أي جماعة من الأنصار (1)، وكانوا اثني عشر رجلاً "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً" أي عاهدوني على التوحيد والخلوص من الشرك، وإفراد الله بالعبادة، مقابل أن تكون لكم الجنة. وأصل المبايعة: المعاهدة بين طرفين على الالتزام بشروط معينة. أما المبايعة على الإِسلام فهي عقد إلهي له طرفان وسلعة وثمن، فالطرفان هما: الله تعالى من جهة، والمؤمنون من جهة أخرى، والثمن هو الأعمال الشرعية المطلوبة، والسلعة هي الجنة. " ولا تسرقوا " أي ولا ترتكبوا جريمة السرقة، لأن الإِسلام جاء لحماية الأموال " ولا تزنوا " لأن الإِسلام يحمي أعراض الناس وأنسابهم. " ولا تقتلوا أولادكم " وإنما خص الأولاد لأنهم كانوا في الغالب يقتلون أولادهم خشية الإملاق. " ولا تأتوا يهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم " أي ولا   (1) وهم نقباء الأنصار الذين ابتعثوا من المدينة لمفاوضة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبايعته، ومنهم " عبادة " رضي الله عنه، قال العيني: وهم اثنا عشر رجلاً، وهم العصابة المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فمنْ وفَّى مِنْكُمْ فأجْرُهُ على اللهِ، ومَنْ أصابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ بِهِ في الدُّنيا فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ، ومَنْ أصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ، فَهُوَ إلَى اللهِ، إن شَاءَ عَفَا عَنْهُ وإن شَاءَ عَاقَبَهُ"، فَبَايَعْنَاهُ علَى ذَلِكَ.   تختلقوا الإشاعات الكاذبة، والتهم الباطلة، التي لا أساس لها من الصحة، مثل القذف بالزنا كذباً وزوراً، أو ترويج بعض الإشاعات التي تمس الناس في أعراضهم، من الخيانة، والرشوة، والظلم، فإنّ الأولى أن يحمل هذا النهي على عموم الكذب على الناس، وعلى كل تهمة تنقص من قدرهم، وتخدش من كرامتهم. " ولا تعصوا في معروف " أي ولا تخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أي عمل يأمركم به أو ينهاكم عنه. أو لا تعصوا ولاة الأمور في أوامرهم ونواهيهم، ما دامت لا تتعارض مع الشريعة الغراء، فإنْ أمروا بمنكر، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. " فمن وفّى منكم فأجره على الله " أي فمن وفّى منكم بهذه المعاهدة، وحافظ عليها، ولم يرتكب معصية، من هذه المعاصي التي نهيتكم عنها، فثوابه محقق وسيجده يوم القيامة عند ربه لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد. " ومن أصاب من ذلك شيئاً " أي ومن ارتكب معصية من المعاصي التي تستوجب الحد الشرعي كالزنا والسرقة " فعوقب وبه في الدنيا " أي فنال جزاءه في هذه الحياة، وأقيم عليه الحد في الدنيا " فهو كفارة له " أي فإنّ ذلك الحد يمحو عنه " تلك المعصية " ويسقط عنه عقوبتها في الآخرة، لأن الله أكرم وأرحم من أن يجمع على عبده عقوبتين. " وَمَنْ أصَابَ مِنْ ذلِك شيئاً، ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه " أي من ستره الله في الدنيا، ولم يعاقَبْ على تلك الجريمة، فهو تحت مشيئة الله، وأمره مفوّض إليه، إن شاء غفر له، فأدخله الجنة مع الأولين، وإن شاء عاقبه بالنار على قدر جنايته ثم أدخله الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 12 - " بَاب مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ " 18 - عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ:   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنَّ التوحيد أساس الإِيمان وشرط لقبول جميع الأعمال، وهو كذلك في سائر الأديان السماويّة، ولذلك بدأ به في المبايعة فقال: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ". ثانياً: أن هذه البيعة كانت أول ميثاق إسلامي، بل أول ميثاق عالمي لحماية حقوق الإِنسان في دينه وماله ونفسه وعرضه، فهي ميثاق عظيم لحماية جميع الحقوق الإِنسانية. ثالثاً: أن دين الإِسلام ليس دين عبادة فقط، وإنما هو دين عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاق وغير ذلك من المبادىء والقيم، وهذه المبايعة الإسلامية الخالدة ضَمَّتْ كل هذا. رابعاً: مدى قبح الكذب وخطورته على المجتمع، ولذلك خصه بالذكر دون سائر الأخلاق الذميمة، لأنه يفسد أكثر المعاملات، ولأنه أساس كل رذيلة وخطيئة، وأم الخبائث الأخلاقية: من خيانة وغدر ونفاق، وتدليس وشهادة زور وقذف ونحوها. خامساً: أن الحد الشرعي كفارة للمحدود لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له " وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيثُ يرى أنه لا يسقط عنه عقوبة الآخرة. سادساً: أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه " أي عاقبه ثم أدخله الجنة. سابعاً: مشروعية المبايعة لولي الأمر إذا توفرت فيه شروط الإمامة، وهي الإِسلام والذكورة والبلوغ والعقل والأهلية للقيام بمصالح المسلمين. 12 - " باب من الدين الفرار من الفتن " 18 - الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يُوشِكُ أنْ يَكُونَ خَيْر مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَماً يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ، وَمَوَاضِعَ الْقَطرِ، يَفِرُّ بِدِينهِ مِنَ الفتَنِ ".   ترجمة راوي الحديث: هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان، الذي ينتهي نسبه إلى خِدرة بن عوف الخزرجي الأنصاري كان من شبان الصحابة ومشاهيرهم، غزا اثنتي عشرة غزوة عدا بدر، وروى ألفاً ومائة وسبعين حديثاً، اتفقا منها على ستة وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين حديثاً، توفي سنة أربع وستين من الهجرة رضي الله عنه. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بما شعف الجبال " بفتح الشين والعين، والمعنى: سيأتي عن قريب زمان تسوء فيه الأحوال، وتفسد الدنيا، وتكثر المعاصي ويألفها الناس، ويزول الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويضعف الدين حتى تصبح خير حياة يحياها المسلم حياة العزلة، وخير مال يعيش عليه أن يكون له غنم يرعاها على ذرى الجبال، ويتبع بها مواضع الأمطار " يفر بدينه من - صلى الله عليه وسلم - " أي من أجل أن يهرب من الفتن. ويستفاد منه: كما قال العيني: " فضل العزلة في أيام الفتن إلاّ لمن كان له قدرة على إزالتها، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها وجوباً عينياً، أو كفائياً أما في غير الفتنة فقد قال النووي: ذهب الشافعي والأكثرون إلى تفضيل المخالطة لما فيها من شهود شعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين. والمطابقة: في قوله: يفر بدينه من الفتن. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 13 - " بَابُ قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنا أعْلَمُكُمْ باللهِ، وأنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ " 19 - عنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أمَرَهُمْ أمَرَهُمْ مِنَ الأعْمَال بِمَا يُطيقُونَ، قَالُوا: إنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ إنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأخَّرَ، فَغَضِبَ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ في وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: " إِنَّ أتْقَاكُمْ وَأعْلَمَكُمْ بِاللهِ أنَا ".   13 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أعلمَكُم بالله وأن المعرفة فعل القلب 19 - الحديث: أخرجه البخاري، وهو من أفراده. معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان رؤوفاً بأمته، ميسِّرا عليها، لا يكلف المسلمين إلاّ بما يستطيعون المداومة عليه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على المداومة على الأعمال لا على الإكثار منها، لما تؤدي إليه المداومة على العمل من التفاعل به نفسياً، والتأثر به أخلاقياً، وذلك مقصدٌ أسمى من مقاصد الإسلام. " قالوا: يا رسول الله، إنا لسنا كهيئتك، إنّ الله قد غفر لك " أي أنه ينبغي لنا أن نكثر من العبادات أكثر منك، لتكون سبباً لمغفرة ذنوبنا، أما أنت فقد غُفر لك " فغضب (1) - صلى الله عليه وسلم - حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا " أي ليس الأمر كما تظنون، فلو كان في الاسراف في العبادة وتكليف النفس ما لا يطاق منها طاعة لله لسبقتكم إلى ذلك، لأنني أكثركم علماً بما يرضي الله، وكلما كان   (1) وفي بعض النسخ فيغضب بصيغة المضارع وأكثرها غضب كما أفاده العيني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 14 - " بَابُ تفَاضُلِ أهْلِ الإيمَانِ " 20 - عَنْ أبي سَعِيد الْخُدْرِي: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَدْخُلُ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وأهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى أخرِجُوا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةِ خَرْدَل مِنْ إيمَان،   العبد أكثر علماً كان أكثر طاعة وعبادة وتقوى. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أعلم الناس بالله تعالى هو نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبقية الأنبياء. ثانياًً: أن من السنة الاقتصاد في النوافل على قدر الطاقة لأن إرهاق النفس بالعبادة يؤدي إلى كرهها والانقطاع عنها. والمطابقة: في قوله: " إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ". 14 - باب تفاضل أهل الإِيمان 20 - الحديث: أخرجه الشيخان. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يدخل أهل الجنة الجنة " أي. يدخل المؤمنون من أهل الجنة الجنة، بفضل الله ورحمته ثم بسبب أعمالهم الصالحة، " وأهل النار النار " أي ويدخل المؤمنون من أهل النار النار لمجازاتهم على سيئاتهم " ثم يقول " الله عز وجل: " أخرجوا " من النار " من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان " أي أخرجوا من النار كل من عمل مقدار حبة خردل من أعمال الإيمان بعد التوحيد والتصديق بما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أمَّا من نقص شيئاً من التوحيد، أو أنكر شيئاً مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يدخل في ذلك، ولا يخرج من النار، بل يخلد فيها، لأن التوحيد والتصديق القلبي لا يقبل التجزئة، فمن نقض منه شيئاً فهو كافر مخلد في النار، وقد نبه على ذلك العيني حيث قال: " واعلم أن المراد بالخردلة ما زاد عن أصل التوحيد، وقد جاء في الصحيح بيان ذلك، ففي رواية البخاري "أخرجوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فَيَخْرُجُون منها قدِ اسْوَدَّوا، فيُلْقَوْنَ في نهر الحَيَاةِ فينبتون كما تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى جَانِبْ السَّيْلِ، ألمْ تَرَ أنَهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً".   من قال لا إله إلاّ الله وعمل من الخير" ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيراً " فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة " الذي من غمس فيه حَيي إلى الأبد " فينبتون كما تنبت الحبة " بكسر الحاء، أي كما تنبت البذرة المزروعة " ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية " أي ألا ترى كيف تخرج من الأرض عند بدايتها صفراء اللون جميلة المنظر منعطفة الأوراق، ثم تتمدد وتتفتح أوراقها بعد ذلك، وهذا مما يزيد الرياحين حسناً " كما أفاده القسطلاني. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تفاضل أهل الإيمان في درجات إيمانهم، وذلك بسبب تفاضل أعمالهم، كما ترجم له البخاري، وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهو مذهب أهل السنة والحديث، حجة ظاهرة لهم لأنه دل على أن من المؤمنين من يقل عمله حتى يكون كالخردلة، فينقص إيمانه تبعاً لذلك، وكل شيء قابل للنقص قابل للزيادة. ثانياً: أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار، ولا بخرج من الملة خلافاً للخوارج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ". ثالثاً: أن مرتكب المعاصي معرض للعقوبة في الدار الآخرة، ودخول النار، إلاّ أن يعفو الله عنه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فيخرجون منها وقد اسودوا " خلافاً للمرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإِيمان ذنب، حيث صرح في هذا الحديث أنّ العصاة يدخلون النار حتى تسوّد وجوههم. المطابقة: في كونه يدل على أنّ الإِيمان يتفاوت في القلة والكثرة وهو عين التفاضل كما أفاده العيني. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 21 - عَنْ أبي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " بَينَا أنا نَائِمٌ رَأيت النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَليَّ وَعَلَيْهِمْ خُمُصٌ، مِنْها ما يَبْلُغُ الثَّدْيَ، ومنها مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَليَّ عُمَرُ ابْنُ الخَطَّابِ وعليْهِ قَمِيص يَجُرُّهُ " قَالُوا: فَما أوَّلْتَ ذلِكَ؟ قَالَ: " الدِّينَ ".   21 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص "، أي بينما كنت نائماً رأيت الناس أثناء نومي وهم يمرون من أمامي وعليهم أقمصة مختلفة الأطوال " منها ما يبلغ الثدي " بضم الثاء وكسر الدال وتشديد الياء أي من الناس من تصل قمصهم إلى ثُدِيّهم " ومنها ما دون ذلك " أي ومن هذه القمص ما هو أقصر من ذلك " وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره " أي وعليه قميص طويل يسحبه " قالوا فما أوّلت ذلك " أي بماذا فسّرت ذلك " قال الدين " بالنصب على المفعولية أى فسّرت القميص بالدين، لأنه يستر المؤمن، ويصونه من النار كما يستر القميص البدن. والمطابقة: في قوله " فما أولت ذلك قال الدين ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تفاضل أهل الإيمان في إيمانهم كتفاضل أصحاب القمص (1) في قمصهم فكما أن تلك القمص التي رآها - صلى الله عليه وسلم - في منامه تزيد وتنقص، ومنها الأطول والأقصر، فكذلك الإيمان يزيد وينقص. ثانياًً: أن رؤيا الأنبياء كلها حق، ولذلك استدل النبي - صلى الله عليه وسلم - برؤياه على زيادة إيمان عمر رضي الله عنه.   (1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر القمص المختلفة الأطوال التي يزيد بعضها وينقص بعضها بالدين - أي الإيمان. وفسر طول قميص عمر بزيادة إيمانه فدل على أن الإيمان يزيد وينقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 15 - " بَابُ الْحَيَاءِ مِنَ الإِيمَانِ " 22 - عن ابْنِ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أخَاهُ في الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: " دَعْهُ فإنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ ". 16 - " بَاب " (فإنْ تابُوا وأقَامُوا الصَّلَاةَ وآتوُا الزَّكَاةَ فَخلّوا سَبِيلَهُمْ) "   15 - باب الحياء من الإِيمان 22 - الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ على رجل من الأنصار، وهو يعظ أخاه في الحياء " أي ينصحه أن يخفف من حيائه، وفي رواية يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنك لتستحي، حتى كأنه يقول: قد أضرّ بك، وذلك أن الرجل كان كثير الحياء " وكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك: " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعه " أي اتركه على هذا الخلق الحسن " فإن الحياء من الإِيمان " لأنه يمنع صاحبه عما نهي الله عنه. ويستفاد منه: أن ديننا الإسلامي دين أخلاق، كما أنه دين عقائد وأحكام، ولهذا كان الحياء جزءاً منه، لأنه سبب لجميع الأخلاق الفاضلة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 16 - باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) 23 - الحديث: أخرجه الشيخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 23 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أمِرْتُ أنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فإِذَا فَعَلُوا ذَلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأموَالَهُمْ، إلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ ".   معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله " أي أمرني الله تعالى بقتال الكفار جميعاً حتى يقروا بالشهادتين، ويعترفوا لله بالوحدانية، ولمحمد بالرسالة " ويقيموا الصلاة " المكتوبة " ويؤتوا الزكاة " المفروضة " فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم " أي فإذا نطقوا بالشهادتين، وأدوا شعائر الإِسلام وأركانه العملية، من صلاة وغيرها، فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم. لأنّها أصبحت معصومة بعصمة الإِسلام " إلا بحق الإسلام " وهذا استثناء من العصمة، أي فإن الإِسلام يعصم دماءهم وأموالهم، فلا يحل قتلهم إلا إذا ارتكبوا جريمة أو جناية يستحقون عليها القتل بموجب أحكام الإِسلام، فإنه ينفذ فيهم الحكم الشرعي، فيقتل القاتل قصاصاً، ويقتل المرتد والزاني المحصن حداً كما قال - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة " " وحسابهم على الله " أي وما علينا إلاّ أن نعاملهم بمقتضى الظاهر من أقوالهم وأفعالهم، ونفوض سريرتهم إلى الله تعالى، ولا نتدخل في أحوالهم الأخروية من الجنة والنار، فإن ذلك لله وحده، قال القاري: " نحكم بظاهر حالهم فنرفع عنهم ما على الكفار، ونؤاخذهم بحقوق الإِسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله يتولى حسابهم فيثيب المخلص ويعاقب المنافق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: قتل تارك الصلاة لأن هذا الحديث كما قال الشوكاني دل دلالة صريحة على وجوب قتله، وأنه لا يكون معصوم الدم والمال، إلاّ إذا أقام الصلاة، وقد شرط الله في القرآن التخلية بالتوبة وإقام الصلاة، فقال: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فلا يخلي سبيل من لم يُقِمْ الصلاة " اهـ. فإن تركها جاحداً قتل كافراً بإجماعٍ المسلمين إلاّ أن يكون حديث عهد بالإِسلام، وإن تركها كسلاً قتل حداً عند الجمهور وكفراً عند أحمد، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي إلى أنه لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي. " قال الشوكاني ": والجمهور على أنه يقتل لترك صلاة واحدة. واختلف أصحاب الشافعي: هل يقتل على الفور أم يمهل ثلاثة أيامِ. الأصح الأول (1). ثانياًً: دل الحديث على أن من منع الزكاة إذا كان خارجاً عن قبضة الإِمام قاتله الإِمام حتى يأخذ منه الزكاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بمقاتلة الناس حتى يؤدوا الزكاة. أما من كان ببلاد الإِسلام ومنعها، فإن كان منكراً وجوبها فهو مرتد، تجري عليه أحكام المرتدين. يستتاب ثلاثاً، فإن تاب، وإلّا قتل كافراً، وإن منعها معتقداً وجوبها، وقدر الإمام على أخذها منه أخذها منه وعزره، ولم يأخذ منه زيادة عليها عند أكثرَ أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي كما أفاده ابن قدامة. ثالثاً: أن من نطق بالشهادتين وانقاد لأحكام الشريعة ظاهراً فهو في عصمة الإِسلام، يحرم دمه وماله، ولا يحل قتله إلاّ في قصاص أو حد من حدود الله، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحق الإِسلام. والمطابقة: في كون الحديث مطابق للآية الكريمة في معناها.   (1) وهناك أحاديث أيضاً تدل على أن تارك الصلاة كسلاً لا يخرج من الملة. (ع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 17 - " بَابُ مَنْ قَالَ إنَّ الإيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ " 24 - عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أيُّ الْعَمَلِ أفْضَلُ؟ قَالَ: " إيمانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ " قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: " حَجٌ مَبْرُورٌ ".   17 - باب من قال: إن الإِيمان هو العمل 24 - الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي. معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل "؟ أي سأله رجل وهو أبو ذر رضي الله عنه: أي الأعمال أعظم عند الله أجراً وثواباً " قال: إيمان بالله ورسوله " أي أن أفضل الأعمال على الإِطلاق، الإِيمان بالله ورسوله، والتصديق بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه شرط في صحة جميع العبادات الشرعية، من صلاة، وزكاة وصوم وغيرها " قيل: ثم ماذا "؟ أي فقال أبو ذر: ثم ما هو أفضل الأعمال بعد الإِيمان؟ " قال: الجهاد في سبيل الله " وهو القتال لِإعلاء كلمة الله، لا لأي غرض من الأغراض الأخرى، فإن كان لغرض آخر، من وطنية أو قومية، أو عصبية، فإنه ليس جهاداً " قيل ثم ماذا "؟ أي ثم ما هو العمل الذي يأتي بعد الجهاد في الأفضلية " قال: حج مبرور " وهو الحج الخالص لوجه الله (1) تعالى، المقبول عنده، لخلوصه من الرياء والسمعة والمال الحرام، وقد قُدِّمَ الجهاد على الحج في هذه الرواية، كما قدم الحج في رواية أخرى، والتقديم والتأخير بحسب اختلاف الظروف والأحوال، فقدم الجهاد في أول الإِسلام   (1) من قولهم " برّ يمينه إذا سلمت من الحنث " وكذلك يقال بر حَجُّه إذا سلم من الرياء والمال الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 18 - " بَاب إذا لَمْ يَكُن الإِسْلَامُ علَى الْحَقِيقَةِ، وكَانَ عَلى الإسْتِسْلَامِ أو الْخوفِ مِنَ القَتْلِ " 25 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعطى رَهْطَاً وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ   لحاجتهم إليه، ثم قدم الحج بعد ذلك لأنه فرض عين، والجهاد فرض كفاية. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري على أن العمل ركن من أركان الإِيمان، كما أن القول باللسان والتصديق بالقلب ركنان منه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل في هذا الحديث عن أفضل الأعمال، أجاب بأن أفضل الأعمال، إيِمان بالله ورسوله، فدلّ ذلك على أن الإِيمان عمل، كما أنه تصديق وقول. " قال القسطلاني: وغرض البخاريِ وغيره من هذا الباب إثبات أن العمل من أجزاء الإِيمان رداً على من يقول إن العمل لا دخل له في ماهية الإيمان " اهـ والقول بأن العمل جزء من الإِيمان هو قول أكثر أهل العلم خلافاً لأَبي حنيفة ومن وافقه. ثانياًً: أهمية الجهاد، ومكانته في الإِسلام، حتى أنه يقدم أحياناً على الحج الذي هو أحد أركان الإِسلام الخمسة، وذلك عند الحاجة إليه كما تقدم في هذا الحديث؟ والمطابقة: في اطلاق العمل على الإيمان كما أفاده العيني. 18 - باب إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل 25 - الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. ترجمة راوي الحديث: هو سعد بن أبي وقّاص بن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب، الأب الخامس له، أسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً هُوَ أعْجَبُهْم إليَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَان؟ فَوَاللهِ إنِّى لأرَاهُ مُؤْمِنَاً، فَقَالَ: " أوْ مُسْلِمَاً " فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي   قديماً وهو ابن أربع عشرة سنة، وقال رضي الله عنه: إني لثالث الإِسلام، هاجر إلى المدينة قبله - صلى الله عليه وسلم - وشهد المشاهد كلها، وكان مجاب الدعوة لقوله - صلى الله عليه وسلم - اللهم استجب لسعد إذا دعاك، فكان لا يدعو إلاّ استجيب له كما في حديث الترمذي، وهو فارس الإِسلام وأوّل من رمى بسهم في سبيل الله، وكان رئيس القادة في فتح العراق، فتح المدائن وبني مدينة الكوفة، وصار والياً عليها في عهد عمر وعثمان وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (270) حديثاً اتفقا منها على خمسة عشر وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بثمانية عشر. مات بقصره في العقيق سنة سبع وخمسين هـ وهو يومئذ والي المدينة ودفن (1) بالبقيع. معنى الحديث: يحدثنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى رهطاً " أي الجماعة من المؤلفة قلوبهم، والرهط من ثلاثة إلى عشرة " وسعد جالس فترك رجلاً هو أعجبهم إليّ " أي أفضلهم عندي إيماناً وصلاحاً، " فقلت: يا رسول الله: ما لك عن فلان "؟ أي أي شيء منعك عن إعطائه " فوالله إني لأراه مؤمناً " أي فإني أعتقد إيمانه، وأقطع به، وأقسم عليه " فقال: أوْ مسلماً " بسكون الواو، أي لا تسرع بالحكم عليه بالإِيمان، ولا تقطع له أو لغيره به، لأن الإِيمان أمر غيبي قلبي، ولا يلزم من إسلامه في الظاهر إيمانه في الباطن فقد يكون مسلماً على غير الحقيقة، ناطقاً بالشهادتين، منقاداً لشعائر الإِسلام خوفاً من سلطة المسلمين، وهو في الباطن كافر منكر لعقائد الإِسلام، فلا يكون مؤمناً، ولكنا نسميه مسلماً، ونحكم بإسلامه باعتبار ظاهره، وقد أُمِرْنا أن نحكم بالظاهر. فحسبك يا   (1) شرح العيني على البخاري، ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ما أعْلَمُ مِنْهُ، فعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَك عَنْ فُلَان، فواللهِ إنِّي لأرَاهُ مُؤمِنَاً، فقالَ: " أوْ مُسْلِماً " فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي ما أعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: " يَا سَعْدُ إنِّي لأعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُه أحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أنْ يَكُبَّهُ اللهُ في النَّارِ ".   سعد أن تصفه بالإِسلام، لتكون صادقاً بارَّاً بقسمك في جميع الأحوال، فإن كان مؤمناً حقاً صدق عليه اسم الإِسلام، لأن كل مؤمن مسلم، وإن كان غير مؤمن حقاً صدق عليه اسم الإسلام، باعتبار أن الحكم على ظاهره، والله يتولى السرائر أما إذا وصفته بالإِيمان، وكان إسلامه على غير الحقيقة، أي بلسانه فقط فقد كذبت في وصفك، وحنثت في يمينك " فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه " من الإِيمان والصلاح " فعدت لمقالتي، فقلت: مالك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً فقال: أو مسلماً. فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ومعناه أن سعداً أعاد سؤاله ثلاث مرات وكان - صلى الله عليه وسلم - يجيبه في كل مرة بقوله: " أوْ مسلماً " أي لو قلت إني لأراه مسلماً لكان أفضل " ثم قال: يا سعد إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار " أي ثم خاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون سعد قد أساء الظن بهذا الرجل، وشك في إيمانه بسبب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُعْطِهِ، فقال له: لا تظن أنني لم أعطه لضعف إيمانه، لأنني قد أدع الرجل القوي الإِيمان، فلا أعطيه شيئاً ثقة بإيمانه ويقينه، وأعطي الرجل الضعيف الإِيمان تأليفاً له، لئلا يرتد فيقع في النار. والمطابقة: في قوله " أوْ مسلماً " حيث نهاه عن القطع بإيمانه، لأنه قد يكون إسلامه على غير الحقيقة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِسلام قد يكون على الحقيقة وذلك إذا كان باللسان والقلب معاً، والظاهر والباطن جميعاً فيكون إسلاماً وإيماناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 19 - " بَابُ كُفْرَانِ العَشِير وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ " 26 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرِيتُ النَّارَ، فإِذَا أكثَرُ أهلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ "   وقد يكون الإِسلام على غير الحقيقة، وذلك إذا كان ظاهرياً باللسان فقط، مع إنكار القلب. فلا يكون إيماناً، وإن كان يسمى إسلاماً، باعتبار الظاهر وهو ما ترجم له البخاري بقوله " باب إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة ". ثانياً: أن من أدب الإِسلام أن لا نقطع لأحد بالإِيمان، أو نقسم على ذلك اعتماداً على ما يظهر لنا من إسلامه وانقياده الظاهري لأن الإِيمان أمر قلبي غيبي (1)، وإنما إذا أردنا أن نثني على أحدٍ بالدين، فإننا نصفه بما يظهر لنا من حاله. وهو الإِسلام، لأن هذا هو الذي نعلمه عنه، فنحكم له بأنه رجل مسلم، ولا نقطع بإيمانه، لأنه قد يكون مسلماً في الظاهر كافراً في الباطن. ثالثاً: قال عياض: هذا الحديث أصح دليل على الفرق بين الإِسلام والإِيمان، وأن الإِيمان باطن من عمل القلب، والإِسلام ظاهر من عمل الجوارح لكن لا يكون مؤمن إلاّ مسلماً وقد يكون مسلم غير مؤمن. رابعاً: مشروعية الشفاعة إلى ولاة الأمور وغيرهم كما شفع سعد لهذا الرجل. والمطابقة: في قوله " أوْ مسلماً " حيث نهاه عن القطع بإيمانه، لأنه قد يكون إسلامه على غير الحقيقة. 19 - باب كفران العشير وكفر دون كفر 26 - الحديث: أخرجه الشيخان. معنى الحديث: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على النساء يوم العيد فأراد أن ينتهز فرصة   (1) أي ولا يلزم أن يكون كل من أقر بأركان الإِسلام ظاهراً أن يكون مصدقاً بقلبه، فإنه قد يكون مصدقاً بلسانه كافراً بقلبه، فلا يكون مؤمناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قيلَ أيَكْفُرْنَ باللهِ؟ قَالَ: " يَكْفُرْنَ الْعَشيْرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ لَوْ أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئاً قالَتْ: مَا رَأيْتُ مِنْك خَيْراً قَط ".   وجوده بينهن في نُصْحِهنَّ ووعظهن وتحذيرهن عن بعض المساوىء التي يغلب صدورها منهن، فكان أوّل ما بدأ حديثه أن " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريت النار " أي أطلعني الله تعالى على النار وكشف لي عنها، فرأيتها ببصري رأي العين " فإذا أكثر أهلها النساء " أي فلما نظرت إليها، وشاهدت من فيها من البشر، فوجئت بأن أكثر أهلها النساء، " يكفرن " أي فلما ذكر - صلى الله عليه وسلم - أن أكثر أهل النار من النساء، قالت إحداهن: ولم يا رسول الله؟ فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بقوله " يكفرن " أي إنما كن أكثر أهل النار لأنّهن يكفرن، ولم يبين - صلى الله عليه وسلم - يكفرن بماذا لتذهب أفكارهن كل مذهب، ويشتد خوفهن، وتتطلع نفوسهن لمعرفة هذا الكفر الذي وصفهن به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراد، فلم يكد ينطق بهذه الكلمة حتى " قيل أيكفرن بالله " أي قالت إحداهن أيكفرن بالله؟ " قال: يكفرن العشير " أي ينكرن نعمة الزوج وإحسانه إليهن " لو أحسنت إلى إحداهن الدهر " أي العمر كله " ثم رأت منك شيئاً " واحداً مما تكره " قالت: ما رأيت منك خيراً قط " أي ما وجدت منك شيئاً ينفعني أو يسرني طيلة حياتي كلها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن نكران الجميل من الكبائر كما أفاده النووي، ولولا ذلك لما ترتب عليه هذا الوعيد الشديد، وقد جاء في الحديث " إذا قالت المرأة لزوجها ما رأيت منك خيراً قط فقد حبط عملها " أخرجه ابن عدي وابن عساكر ولكنه حديث ضعيف كما رمز له السيوطي، وذلك لأن في سنده يوسف التميمي، ولا يحل الاحتجاج به كما أفاده المناوي. ثانياً: أن هناك كفراً دون كفر، ومعناه أن الكفر نوعان، كفر يخرج عن الملة، وهو الكفر الاعتقادي، وكفر لا يخرج وهو العملي كجحود نعمة الزوج مثلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 20 - " بَابُ الْمعَاصِي مِنْ أمرِ الْجَاهِلِيَّةِ، ولا يكْفُرُ صَاحِبُها بارْتِكَابِهَا " 27 - عَنْ أبي ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   ثالثاً: ما جبل عليه أغلب النساء من كفران العشير وجحود نعمة الزوج، ومن أغرب ما روي في ذلك قصة المعتمد بن عباد مع زوجته (1) فقد روي أنّه لما تزوج اليرمكية قضى معها حيناً من الدهر في سرور وغبطة، وحدث أن رأت بعض النساء يمشين في الطين فاشتهت ذلك، فأمر المعتمد فسحقت الطيوب. أي فطحنت أنواع الطيب من العود ونحوه، وذرت في ساحة القصر وصب عليها ماء الورد حتى صارت كالطين، فخاضته معِ جواريها. ومرت الأيام فغاضبها المعتمد يوماً، فأقسمت أنّها لم تر منه خيراً قط، فقال لها: ولا يوم الطين فاستحيت واعتذرت (1). والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن الكفر أنواع منها الكفر بالله ومنها كفر العشير كما صرح بذلك الحديث. 20 - باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر (2) صاحبها بارتكابها 27 - الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي. ترجمة راوي الحديث: هو أبو ذر جندب " بضم الجيم والدال " ابن جنادة " بضم الجيم " الغفاري: " نسبة إلى غفار بكسر الغين قبيلة من كنانة أسلم قديماً وكان من رابع أربعة، وعاد إلى قبيلته، ثم هاجر إلى المدينة بعد الخندق، واشتهر بالزهد، حتى أنه كان يرى أنه يحرم على المسلم أن يدخر ما زاد عن   (1) طرائف ونوادر من التراث العربي للدكتور نايف معروف نقلاً عن كتاب دولة النساء للبرقوقي. (2) بفتح الياء وضم الفاء كما أفاده القسطلاني، ويجوز ضم الياء وفتح الياء والفاء المشددة المفتوحة، كما ذكره الحافظ في الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بأمِّهِ، فَقَالَ لي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " يَا أَبَا ذَرٍ أعَيَّرْتَهُ بأمِّهِ!! إِنَّكَ امْرؤ فِيْكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أْيدِيْكُمْ، فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، ولا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبْهُم فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأعينُوهُمْ ".   حاجته، وخالفه في ذلك جمهور الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (281) حديثاً اتفقا منها على اثني عشر وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بسبعة عشر، توفي بالربذة سنة (31) هـ. معنى الحديث: يقول أبو ذر رضي الله عنه " ساببت رجلاً " أي تخاصمت مع رجل " وهو بلال رضي الله عنه، وشتمته " فعيرته بأمه " أي فعبت أمه ووصفتها بالسواد، حيث قلت له: يا ابن السوداء، وخالفت بذلك شريعة الإسلام، التي لا تفرق بين لون ولون، ولا تفضل إنساناً على آخر إلّا بالتقوى كما قال تعالى: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) وكما قال - صلى الله عليه وسلم - " لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى " " فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعيرته بأمه " وهذا استفهام إنكاري (1) تعجبي، أي كيف تعيبه بسواد أمّه، وتستنقصه بذلك، وأنت تعلم أن الإِسلام لا يميز بين الناس بالألوان، وإنما يفاضل بينهم بالتقوى والعمل الصالح " إنك امرؤ فيك جاهلية " أي إن ما فعلته معه من تعيير بسواد أمّه نعرة جاهلية، وأثر من آثار التمييز العنصري الذي كان موجوداً قبل الإِسلام. " إخوانكم خولكم " (2) أي إن هؤلاء الخدم ليسوا في الحقيقة سوى إخوانكم في الدين أو الإِنسانية سخرهم الله لكم   (1) والمقصود من هذا الاستفهام الإنكاري تقبيح تَعْيير المسلم بأمه أو أخته أو أحد أقاربه، سيما النساء، فالتعيير من حيث هو قبيح، فإذا كان بالنساء، كان أقبح اهـ. (2) وهي جملة اسمية مكوّنة من خبر مقدم - وهو إخوانكم - ومبتدأ مؤخر - وهو خولكم - وأصل الجملة خولكم إخوانكم فقدم الخبر لإفادة الحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 21 - " بَابُ (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) فَسَمَّاهُمْ الْمؤمِنين) 28 - عَنْ أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا   حيث " جعلهم الله تحت أيديكم " أي تحت سلطتكم وطوع أمركم " فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس " أي وما داموا إخوة لكم، فإن عاطفة الأخوة تقتضي منكم حسن معاملتهم، والرفق بهم ومراعاة مشاعرهم، وتوفير العيش الكريم لهم، وإطعامهم من طعامكم وإلباسهم من لباسكم " ولا تكلفوهم ما يغلبهم " أي ولا تكلفوهم من الأعمال الشاقة ما لا يطيقونه، ولا يقدرون عليه، " فإن كلفتموهم فأعينوهم " أي فإن كلفتموهم من العمل ما يشق عليهم فيجب عليكم إعانتهم عليه ومساعدتهم ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن مرتكب المعصية لا يكفر، كما ترجم له البخاري، لأن تعيير المرء بأمّه معصية، ومع ذلك لم يسمه - صلى الله عليه وسلم - كفراً، كما نبه عليه ابن بطال، والظاهر من كلامه وكلام العيني أن تعيير المرء بأمّه كبيرة. ثانياً: أن من محاسن الإِسلام إلغاء التمييز العنصري الذي كان في الجاهلية. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يسم تعيير المرء بأمه كفراً، مع أنه كبيرة. 21 - باب (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) فسماهم الؤمنين 28 - الحديث: أخرجه الشيخان، وأبو داود والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ فِي النَّارِ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هذَا الْقَاتِلُ، فَما بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ".   ترجمة الراوي: هو أبو بكرة نُفَيْع - بالتصغير ابن مَسْروحٍ مولى الحارث بن كَلَدَةَ -بفتح اللام- يكنى بأبي بكرة، لأنه تدلى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ببكرة، وكان مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وهو من فضلاء الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة يوم صفين، وانقطع للعبادة بالبصرة حتى توفي بها سنة إحدى وخمسين من الهجرة، روى مائة وثلاثين حديثاً، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بحديث رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما " أي إذا تقابلا بسيفيهما في حرب أو معركة شخصية " فالقاتل والمقتول في النار " أي فكلاهما يستحقان دخول النار، إلاّ أنهما لا يتساويان في العقوبة، فإنَّ القاتل أشد عذاباً، وأكثر مكثاً في النار من المقتول " فقلت هذا القاتل " أي هذا القاتل عرفنا ذنبه الذي استحق به النار " فما بال المقتول " أي فما ذنب المقتول؟ " قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " أي إنه يعاقب بالنار لعزمه وتصميمه على قتل صاحبه. ويستفاد ما يأتي: أولاً: أن قتال المسلم لأخيه بغير وجه شرعي كبيرة من الكبائر. ثانياًً: أن كلا المتقاتلين عاص مستحق للنار، إلاّ أن القاتل أشد معصية وأعظم عقوبة. ثالثاً: أن المسلم يحاسب على ما يستقر في نيته من العزم على المعصية، لقوله " فإنه كان حريصاً على قتل صاحبه ". رابعاً: أن صاحب الكبيرة لا يكفر بفعلها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمي المتقاتلين مسلمين. والمطابقة: في قوله " إذا التقى المسلمان " حيث سماهما مسلمين مع ارتكابهما الكبيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 22 - " بَابٌ ظُلْمٌ دُونَ ظُلْم " 29 - عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قَالَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أينَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنزَلَ اللهُ تعالى: (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْم عَظِيْمٌ).   22 - باب ظلم دون ظلم 29 - الحديث: أخرجه الشيخان. ترجمة الراوي: هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أحد الستة السابقين إلى الإِسلام، شهد بدراً والمشاهد كلها، وهو أول من جهر بالقراءة في مكة، كان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسمته رُوي عنه أنه قال ما نزلت آية إلاّ وأنا أعلم أين نزلت، وفيم أنزلت. روى (848) حديثاً اتفقا منها على أربعة وستين حديثاً، وتوفي بالمدينة سنة 32 من الهجرة. معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " لما نزلت (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) " أي لم يخلطوا إيمانهم بظلم (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) " قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أينا لم يظلم " أي شق على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في رواية أخرى " وقالوا: أينا لم يظلم " أي لم يقترف معصية، لأنّهم فهموا أن المراد بالظلم اقتراف المعاصي، وأنه لا يسلم من الخلود في النار إلاّ من سلم منها، فخافوا على أنفسهم لأنه لا يسلم أحد من الخطايا " فأنزل الله تعالى (إن الشرك لظلم عظيم) " فبين لهم أن المراد بالظلم الذي لا يسلم أحد من الخلود في النار إلاّ إذا سلم منه هو الشرك بالله تعالى. ويستفاد ما يأتي: أولاً: أن صاحب الكبيرة لا يخلد في النار لأنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 23 - " بَابُ عَلامَاتِ النِّفَاقِ " 30 - عن أبِي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاث: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا ائْتُمِنَ خَانَ ".   الحديث دل على أن الظلم الذي يخلّد صاحبه في النار هو الشرك فقط. ثانياًً: أن الظلم نوعان: ظلم أكبر: يخلد صاحبه في النار وهو الشرك بالله تعالى، وظلم أصغر: لا يخلد صاحبه في النار وهو المعاصي وأن هناك ظلم دون ظلم كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن الظلم أنواع كما أفاده المعنى. 23 - باب علامات النفاق 30 - الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي. معنى الحديث: اعلم أولاً أن النفاق نوعان: نفاق اعتقادي يخرج صاحبه عن الإيمان وهو إظهار الإِسلام وإخفاء الكفر ونفاق عملي: وهو التشبه بالمنافقين في أخلاقهم، وهذا لا يخرج صاحبه عن الإيمان، إلاّ أنه كبيرة. وقد تحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن النفاق العملي وبين لنا العلامات المميزة له فقال: " آية المنافق ثلاث " أي من علامات النفاق العملي التي تدل على أن صاحبها يشبه المنافقين في أعمالهم وأخلاقهم أن توجد في المرء هذه الخصال الثلاث أو بعضها: الخصلة الأولى: " إذا حدث كذب " أي أن يشتهر ذلك الإنسان بالكذب في الحديث عامداً متعمداً، فلا يخبرك بشيء إلا تعمد إخفاء الحقيقة والإِخبار بخلاف الواقع الذي يعتقده تضليلاً وتمويهاً وخداعاً. الخصلة الثانية: " إذا وعد أخلف " أي أن يشتهر بخلف الوعد عمداً، بحيث إذا وعد بشيء تعمد الخلف، وعزم عليه في نفسه مسبقاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 24 - " بَابُ صَوْمِ رَمَضَانَ احتِسَاباً مِنَ الإيمَانِ " 31 - عَنْ أبِي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ   وصمم من أول الأمر على عدم الوفاء به. الخصلة الثالثة: " إذا ائتمنٍ خان " أي أن يشتهر بالخيانة بين الناس، فلا يثق به أحد، لأنه إذا أودع سراً أفشاه، وإذا أودع مالاً تصرف فيه خلاف الوجه الشرعي المطلوب منه، وإذا استشير لم ينصح في مشورته، وإذا عهد إليه بعمل لم يؤده. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الكذب نفاق عملي وخصله من خصال المنافقين، وكبيرة من الكبائر، وهو في الأصل الإِخبار بخلاف الواقع، إلا أنه لا يكون كبيرة إلا إذا خالف ما يعتقده صاحبه، أما إذا تحدث بما يعتقده ثم ظهر الواقع خلافه فلا إثم عليه لأنه لا تكليف إلا بعلم. ثانياً: أن خلف الوعد من النفاق، وكبيرة من الكبائر، بشرطين: الأول: أن يكون وعد خير، فإن كان وعد شر. فإن خُلْفَه واجب (1) أو مستحب، وليس من النفاق في شيء، بل هو برٌّ وطاعة. والثاني: أن يكون قد عزم على الخلف مسبقاً، أما إذا نوى الوفاء وحال دونه عذر شرعي فلا شيء عليه. ثالثاً: أن الخيانة من الكبائر ومن أخلاق المنافقين سواء كانت في سر أو وديعة أو وظيفة، وسواء كانت في حق من حقوق الله، أو من حقوق العباد. المطابقة: في قوله " آية المنافق ثلاث " إلخ. 24 - باب صوم رمضان احتساباً من الإِيمان 31 - الحديث: أخرجه الشيخان، ومالك في " موطئه " وأحمد في   (1) وقد أفادَ الحافظ في الفتح: أنه إذا كان الوعد بشر أو باطل فلا ينفذه، ويُستحب إخلافه، وقد يجب، ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة أعظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". 25 - " بَابٌ إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ " 32 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأبشِرُوا، وَاسْتَعِيْنُوا بِالغُدْوَةِ والرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ".   " مسنده ". معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من صام رمضان إيماناً واحتساباً " أي من صام هذا الشهر معتقداً أنه من أعمال الإِيمان منتظراً المثوبة عليه " غفر له ما تقدم من ذنبه " وفي رواية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والمعنى، أن صيامه هذا يكفر جميع ذنوبه السابقة واللاحقة إذا كانت من الصغائر. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: فضل رمضان، وفضل صيامه وكونه يكفر الذنوب المتقدمة والمتأخرة. ثانياًً: أن الصيام الذي هو عمل من أعمال الجوارح جزء من الإِيمان لقوله - صلى الله عليه وسلم - من صام رمضان إيماناً. وإذا كان الصوم جزءاً من الإِيمان، فإن هذا يدل على أن جميع الأعمال الصالحة من الإِيمان أيضاً. وهو ما ترجم له البخاري، أو ما أراد من هذه الترجمة. والمطابقة: في قوله " من صام رمضان إيماناً ". 25 - " باب إنَّ الدين يسر " 32 - الحديث: أخرجه الشيخان. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الدين يسر " أي أن هذا الدين الذي هو دين الإِسلام يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وعدم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفطرة الإِنسانية، وتجردها وخلوها من التكاليف الشاقة، التي كانت في الشرائع السابقة فقد كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب ذنباً لا تقبل توبته إلا بقتله، وإذا أصابته النجاسة لا يطهر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بدن، أما هذا الدين فقد تنزه عن كل ذلك كما قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) ومن سماحة هذا الدين ويسره أن الاستطاعة شرط في جميع تكاليفه الشرعية حيث قال - صلى الله عليه وسلم - " ما أمرتكم به فأدوا منه ما استطعتم " ومن ذلك أيضاً ما شرعه لهذه الأمة من رخص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال كالقصر والإِفطار في السفر. " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " بنصب الدين على المفعولية، قال النووي الأكثر في ضبط بلادنا النصب -أي لا يبالغ أحد في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعدى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يدع وقتاً للراحة وأداء حقوق النفس والجسد والزوجة والولد إلا أرهق نفسه، وانقطع في النهاية لسآمته وملله، وكانت النتيجة عكسية، فإن لكل فعل كما يقوٍل العلماء رد فعل، وردُّ الفعل الذي يترتب على التنطع في الدين سيء جداً، لأنه يؤدي حتماً إلى ترك العبادة وقد ذم الله أقواماً شددوا على أنفسهم، وحبسوها في الصوامع، رهبانية ابتدعوها، وذمهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهي أمته أن يشددوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار- رهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم " رواه أبو داود. وأمر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسط في العبادة حيث قال: " فسدّدوا وقاربوا "، وهو أمر بالسداد، أي بالتوسط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط، كما قال الشاعر: خَيْرُ الأمُورِ الوَسَطُ الوَسِيطُ ... وَشرُّهَا الإفْرَاطُ والتَّفْرِيطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ثم قال - صلى الله عليه وسلم - " وقاربوا " أي إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعاً، فأتوا بما يقارب الأفضل، لأن ما لا يدرك كله، لا يترك جله، فمن لم يستطع أن يصوم يوماً ويفطر يوماً - الذي هو أفضل الصيام، فليأت بما يقارب ذلك، كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ومن لم يستطع ذلك فليصم يوم عاشوراء ويوم عرفة، وستة أيام من شوال. " وأبشروا " أي ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع بل أبشروا بحسن القبول متى حسن العمل وخلصت النية، فإن العبرة بالكيف لا بالكم. " واستعينوا بالغدوة " بضم الغين المعجمة، وهي السير أول النهار إلى الزوال " والروحة " بفتح الراء، وهي السير بعد الزوال إلى الليل. " والدلجة " بضم الدال وإسكان اللام كذا جاءت الرواية ويجوز فتحها وهي السير آخر الليل (1) وقد استعار هذه الأوقات الثلاثة لأوقات النشاط أي واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أرقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تشغلوا بالعبادة كل أوقاتكم لئلا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكلية، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل، وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أدْوَمُهُ، وإن قل- أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح وبعد الزوال وساعة من آخر الليل. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: يُسر هذا الدين، وسهولة أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانياًً: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرط في جميع التكاليف الشرعية. ثالثاً: أن رفع الحرج عن المكلفين أصل من أصول التشريع الإِسلامي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا الدين يسر " وقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ". رابعاً: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر   (1) وقال العيني: وهي بالضم سير آخر الليل، وبالفتح سير الليل اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 26 - " بَابُ الصَّلَاةِ مِنَ الإيمَانِ " 33 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (وَما كانَ اللهُ ليُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).   والإِفطار في السفر، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه ". خامساً: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوع دون إفراط ولا تفريط لهذا الحديث ولما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذكرت عنده الحولاء أنها لا تنام الليل كله، فكره ذلك، وقال: " مَه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ". والمطابقة: في كون الترجمة جزءًا من الحديث. 26 - باب الصلاة من الإِيمان 33 - الحديث: أخرجه أيضاً مسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه. ترجمة الراوي هو البراء بن عازب الأوْسي الأنصاري الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة، ولم يشهد بدراً لصغر سنه، وفتح الري سنة (24) هـ وشهد وقعة الجمل مع علي رضي الله عنه وكذلك سائر مشاهده، ونزل الكوفة حتى مات بها سنة اثنتين وسبعين من الهجرة. روى ثلاثمائة وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: يحدثنا البراء رضي الله عنه " أنه مات على القبلة قبل أن تحول " أي مات على القبلة السابقة - وهي بيت المقدس - قبل أن تُنْسَخَ وتحول إلى الكعبة " رجال " أي عشرة رجال منهم- البراء بن معرور الأنصاري، " وقتلوا " أي وبعضهم استشهد في سبيل الله، " فلم ندر ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 27 - " بَابُ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ " 34 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِذَا أسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ   نقول فيهم" أي فلم نعلم حكم صلاتهم إلى بيت المقدس - سابقاً -، وهل هي مقبولة عند الله تعالى، أم لا. " فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) " أي وما كان الله ليضيع ثواب صلاتكم إلى بيت المقدس، فمتى كنتم تصلون تلك الصلاة إيماناً واحتساباً لا رياء ولا سمعة، فصلاتكم مقبولة (1) لأنّها أثر الإِيمان الراسخِ في القلب المصلح للنفس. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الصلاة عمل من أعمال الإِيمان وجزء من أجزائه لأن الله تعالى قال: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمّى الصلاة إيماناً، وفي هذا دليل على أن الصلاة وغيرها من أعمال الجوارح جزء من الإِيمان خلافاً لمن أنكر ذلك من علماء الإِسلام. ثانياً: أن صلاة المسلمين من الصحابة إلى بيت المقدس قبل النسخ مقبولة مثاب عليها. ثالثاً: قال الحافظ: وفيه بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم، والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر، كما صح من حديث البراء أيضاً، فنزل (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا) إلى قوله (إن الله يحب المحسنين). والمطابقة في قوله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) حيث سمّى الصلاة إيماناً، وهذا يدل على أن الصلاة من الإِيمان كما ترجم له البخاري. 27 - باب حسن إسلام المرء 34 - الحديث: أخرجه البخاري معلقاً، ووصله أبو داود.   (1) تفسير المنار، ج 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَان بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمثَالِهَا إلى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ، والسَّيِّئةُ بِمِثْلِهَا إلَّا أن يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا".   معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله " أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلفها " أي إذا أسلم العبد إسلاماً حقيقياً بقلبه ولسانه، وباطنه وظاهره، فإنّ الله تعالى يمحو عنه كل معصية سبق له ارتكابها قبل إسلامه. " وكان بعد ذلك القصاص " أي ثم يعامل بعد إسلامه بمقابلة كل عمل من أعماله بمثله، خيراً كان أو شراً، فيجازى على الحسنة بالمثوبة، وعلى السيئة بالعقوبة، مع اختلاف مقدار العقوبة في السيئات عن مقدار المثوبة في الحسنات، وهو معنى قوله " الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف " أي فيثاب على الحسنة بعشر أضعافها (1) - وقد تتضاعف المثوبة إلى سبعمائة ضعف كما قال تعالى في ثواب الصدقة: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء) وقد يثاب على الحسنة بغير حساب كما في قوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " والسيئة بمثلها، إلا أن يتجاوز الله عنها " أي ولا يجازي على السيئة إلاّ بمثلها، وقد يعفو الله عنها بفضله وكرمه، ومنّه وإحسانه، فلا يعاقب عليها فاعِلَها. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن الإِسلام الحقيقي يهدم ما قبله من المعاصي صغائر أو كبائر، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا أسلم العبد فحسن اسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان قد زلفها" وهو مصداق قوله تعالى: (قل   (1) وهذا هو أقل ثواب الحسنة، وقد يثاب عليها بغير حساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 28 - " بَابٌ أحَبُّ الدِّينِ إلى اللهِ أَدْوَمُهُ " 35 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا وعِنْدَهَا امْرَأة فَقَالَ: " مَنْ هَذِه؟ " قَالَتْ: فُلَانَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا، قَالَ: "مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقونَ، فَوَاللهِ لا يَمَلُّ   للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الإِسلام يَهْدِم ما كان قبله ". ثانياً: أن كل كبيرة عدا الشرك قابلةٌ للعفو والغفران، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "والسيئة بمثلها إلاّ أن يتجاوز الله عنها" أي إلا أن يعفو الله عنها فلا يعاقب عليها. وهو مصداق قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فما من كبيرة بعد الشرك بالله مهما عظمت إلاّ وعفو الله أعظم منها وقد جاء في الحكم " لا صغيرة إذا قابلك عدله، ولا كبيرة إذا واجهك فضله "، وذلك لقوله تعالى: (قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً، إنّه هو الغفور الرحيم) لكن العبد يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، لأنهما جناحا المؤمن. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 28 - " باب أحبُّ الدين إلى الله أدومه " 35 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي ومالك. معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، دخل عليها وعندها امرأة " أي وعندها امرأة من بني أسد اسمها الحولاء بنت تويت بضم التاء وفتح الواو وبالتاء في آخره، " قال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها " أي فقالت هذه فلانة وسمتها باسمها حال كونها مادحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا" وَكَانَ أحَبَّ الدِّينِ إليهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ".   لها، ذاكرة كثرة صلاتها وعبادتها، وأطنبت في مدحها، وبالغت في الثناء عليها، حتى قالت في رواية: " هذه فلانة أعبد أهل المدينة " وقالت في رواية أخرى: " هذه الحولاء لا تنام الليل فكره ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى عرفت الكراهية في وجهه " أخرجه مالك في الموطأ، فلما قالت عائشة فيها ما قالت، ووصفتها بما لا تستحقه، " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مه " (1) أي كفِّي عن إطرائك لهذه المرأة، ومبالغتك في مدحها والثناء عليْها، بما لا تستحقه من الثناء، لمخالفتها السنة الصحيحة، فإن الدين في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعمل بسننه، وليس من السنة إحياء الليل كله، ولا من الإِسلام التشديد على النفس وإرهاقها بالعبادة، ولكن " عليكم بما تطيقون " أَي افعلوا ما تقدرون عليه من الصيام والقيام، ولا تشقوا على أنفسكم فإنّ الدين يسر، ولن يشادّ هذا الدين أحدٌ إلَّا غَلَبهُ " فوالله لا يمل الله حتى تملوا " أي لا يقطع الله عنكم الثواب حتى تسأموا من العمل، فإذا فتر النشاط قلَّ الثواب، ومتى انقطع انقطع الثواب أيضاً. قالت عائشة رضي الله عنها " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه " أي وكان أحب العبادة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفضلها لديه العبادة المستمرة الدائمة، ولو كانت قليلة، لأن العبادة رياضة روحية، فكلما كانت أدوم كانت أجدى نفعاً وتهذيباً لنفس صاحبها، ومثل العبادة كما يقول الإِمام الغزالي مثل الماء إذا قطر على الحجارة قطرة قطرة ولم يزل كذلك فإنه يثقبها " أي يخرقها " بخلاف ما إذا صب صباً، فإنه لا يؤثر فيها، وهو مصداق قول الشاعر:   (1) " مه " اسم فعل أمر، إن دخله التنوين كان نكرة معناه كف عن الحديث أي حديث كان، وإن لم يدخله التنوين كان معرفة، ومعناه كف عن حديثك هذا، وحيث لم يدخله هنا التنوين فهو اسم معرفة معناه كفي عن حديثك هذا الذي بالغت فيه في مدح هذه المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 29 - " بَابُ زِيَادَةِ الإيمَانِ وَئقْصَانِهِ " 36 - عَنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وفي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، ويَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَةٍ مِنْ خَيْرٍ ".   أمَا تَرَى الحَبْل لِتِكْرَارِهِ ... في الصَخْرَةِ الصَّمَاءِ قَد أثَّرَا ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل العمل الدائم ولو كان قليلاً، لقول عائشة رضي الله عنها " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه ". ثانياً: كراهية قيام الليل كله، وإليه ذهب مالك رحمه الله تعالى، وقال: في رسول الله أسوة حسنة، كما أفاده النووي. والمطابقة: في قوله " وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه ". 29 - " باب زيادة الإِيمان ونقصانه " 36 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يخرج من النار من قال: لا إِله إلَّا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير " أي يخرج من النار بعد استيفاء عقوبته على ذنوبه من نطق بالشهادتين مع اعتقاد معناهما، ولو لم يأت من أعمال الإيمان - بعد التصديق القلبي إلَّا بمقدار وزن شعيرة فقط. وكذلك " يخرج من النار من قال: لا إِله إلَّا الله، وفي قلبه وزن بُرَّة " بضم الباء " من خير " أي مقدار وزن حبة واحدة من القمح. " ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرّة " أي نملة صغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 37 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يا أميْرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيداً، قَالَ: أيُّ آيةٍ؟ قَالَ: (الْيَومَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي،   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِيمان يزيد وينقص، كما ترجم له البخاري، لأن منه ما يزن الشعيرة، ومنه ما يزن البرة، ومنه ما يزن الذرة، وهذه الأشياء متفاضلة، بعضها أكبر من بعض، وذلك يقتضي أن الإِيمان يزيد وينقص، وهو قول الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. ثانياًً: أن العصاة لا يخلدون في النار ما داموا قد ماتوا على التوحيد والإِيمان. والمطابقة: في قوله " وفي قلبه وزن شعيرة، وفي قلبه وزن برة ... إلخ ". 37 - الحديث: الحديث أخرجه الشيخان، والترمذي. ترجمة راوي الحديث: هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب العدوي القرشي يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن لؤي الجد الثامن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أسلم رضي الله عنه سنة ست من الهجرة، ولقب بالفاروق لقول جبريل: إنّ عمر فرق بين الحق والباطل، وبويع له بالخلافة بعد الصديق رضي الله عنه حيث عهد له بها سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فقام يفتح البلدان الكثيرة، والإِصلاحات الكبيرة، واستشهد على يد أبي لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة في محراب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة سنة (23) من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين عاماً على الأصحِ، وكانت مدة خلافته عشر سنوات ونصفاً روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (537) حديثاً اتفقا على ستة وعشرين حديثاً، وكان نقش خاتمه " كفى بالموت واعظاً " رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: يحدثنا عمر رضي الله عنه في حديثه هذا "أنَّ رجُلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ورَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينَاً) قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ".   من اليهود" وهو كعب الأحبار كما أفاده الطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط " قال له: آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً " أي لجعلناه عيداً نحتفل به تقديراً وتكريماً لذلك اليوم، لأهميته الدينيَّة والتاريخية، وإشادةً بفضله، وتذكيراً للناس بمناسبته التاريخيّة العظيمة قال: أيُّ آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي) فهي آية عظيمة جديرة بأن يحتفل بيوم نزولها، لأن الله أتم بهذه الآية المباركة أحكام الدين وشرائع الإِسلام، بعد أن أتم نعمته على المسلمين بالهداية والتوفيق، وفتح البلد الحرام، والقضاء على النفوذ الوثني فيه، واختار لهذه الأمة دين الإِسلام الحنيف، وارتضاه لهم دون سواه، فقال: (إن الدين عند الله الإِسلام) وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإِسلام ديناً فَلن يقبل منه) " قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم " الذي نزلت فيه الآية الكريمة " والمكان الذي نزلت فيه " أي وعرفنا المكان الذي نزلت فيه، فأنت لم تأت بجديد، ولم تنبهنا على شيءٍ كنا نجهلُهُ فهي قد نزلت " على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم جمعة " فأصبح ذلك اليوم عيداً لأنه يوم عرفة وعيداً أيضاً لأنه يوم جمعة، فاجتمع فيه عيدان، كما جاء مصرحاً بذلك في رواية الطبراني حيث قال " وهما لنا عيدان " وفي رواية إسحاق عن قبيصة أن عمر قال: نزلت يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد، وروى ابن عباس رضي الله عنه أنّ يهوديّاً سأله عن ذلك، فقال: نزلت في يوم عيدين يوم جمعة ويوم عرفة أخرجه الترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن آخر آية نزلت في التشريع الإِسلامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 30 - " بَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الإِسْلَامِ " 38 - عن طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ:   والأحكام الفقهية هي قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإِسلام ديناً) من سورة المائدة. ثانياًً: أن في هذه الآية إشارة إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم -َ لأنّه ليس بعد التمام إلَّا النقصان كما قال الشاعر: إذا تَمَّ شيء بدا نقصه ... فحاذر تماماً إذا قيل تمْ ولذلك لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما يبكيك يا عمر " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا أكمل فإنه لا يكمل شيء إلَّا نقص، فقال عليه الصلاة والسلام: " صدقت يا عمر " فكانت هذه الآية، نعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما لبث بعدها إلَّا واحداً وثمانين يوماً. ثالثاً: فضل يوم الجمعة وكونه عيداً أسبوعياً للمسلمين. رابعاً: فضل يوم عرفة ومكانته في الإِسلام. خامساً: استدل أهل السنة بهذا الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص لاشتماله على قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) حيث إن هذا الدين قد كمل بتمام أعماله، وكل شيء كمل بتمام أعماله فإنه ينقص بنقصانها، وفي هذا دليل واضح على زيادة الإِيمان، ونقصانه، كما ترجم له البخاري، وهو مذهب أكثر أهل السنة. والمطابقة: في قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) فإن كل ما يقبل الكمال يقبل النقصان. 30 - " باب الزكاة من الإِسلام " 38 - الحديث: أخرجه مسلم والنسائي في الإِيمان، وأبو داود في الصلاة، والبخاري في الشهادات والصوم وترك الحيل، كما أخرجه هنا في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 جَاءَ رَجُل إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أهْلِ نَجْدٍ ثَائِر الرَأسِ، نَسمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ ولا نَفْقَهُ ما يَقُولُ حتَّى دَنَا، فإِذَا هُوَ يَسْأل عَنِ الإسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: خَمْسُ صَلَواتٍ في الْيَومِ واللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَصِيَامُ رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيرُه؟ قَالَ: لَا، إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ، وَذَكَرَ لَهُ   ترجمة راوي الحديث: هو طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي، أحد العشرة المبشرين بالجنة، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جده السابع، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الفياض، شهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عدا بدر حيث غاب عنها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه مع سعيد بن زيد ليتجسسا عير قريش، وضرب له بسهم، وكان في يوم أحد يقي وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأصيب خنصره وشل، وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإِسلام، والستة أصحاب الشورى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثين حديثاً، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة، توفي يوم الجمل سنة 36 هـ وقبره بالبصرة. معنى الحديث: يقول طلحة رضي الله عنه: " جاء رجل إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد " وهو ضمام بن ثعلبة " ثائر الرأس " أي ثائر شعر الرأس على عادة المسافر ويجوز فيه الرفع على أنه نعت، والنصب على الحالية " نسمع دوي صوته " أي بعد صوته في الهواء، " ولا نفهم ما يقول " أي ولا نفهم قوله، أو نميز كلماته، لأنه كان ينادي من بعد: " حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يعني اقترب منه " فإذا هو يسأل عن الإِسلام " أي يسأل عن أركان الإِسلام وأعماله البدنية والمالية " فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات في اليوم والليلة " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف التقدير: الإِسلام خمس صلوات، والمعنى: أول أعمال الإِسلام الصلوات الخمس في اليوم والليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ قَالَ: هَلْ عليَّ غَيْرُها قَالَ: لَا إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ. قال: فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: واللهِ لَا أزِيدُ علَى هَذَا ولَا أنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " افلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ ".   وهي من الأعمال البدنِية " فقال: هل علي غيرها " أي هل يجب علي من الصلاة غير هذه الصلوات الخمس " قال: لا " أي لا يجب عليك من الصلوات غيرها " إلَّا أن تطوع " الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن إذا أتيْتَ بما زاد على هذه الصلوات الخمس من النوافل فإنه تطوع مستحب تثاب عليه، وقال بعضهم: الاستثناء متصل، والمعنى لا يجب عليك أي صلاة أخرى إلَّا إذا شرعت في صلاة نافلة فيجب عليك إتمامها، وكذلك أي تطوع تشرع فيه من صيام أو غيره. ثم " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وصيام رمضان " أي والثاني من أعمال الإِسلام صيام رمضان " قال: هل عليَّ غيره، قال: لا، إلَّا أن تطوع " وقد تقدم شرحه. " وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة " أي وبين له - صلى الله عليه وسلم - أن من أركان الإِسلام أيضاً الزكاة " قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع " أي لكن إن تصدقت بغيرها فهو تطوع تثاب عليه لا واجب تأثم بتركه " فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص " أي لا أزيد على هذه الفرائض بفعل شيء من النوافل، ولا أترك شيئاً منها " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح الرجل إن صدق " أي إذا صدق في قوله هذا، فأدَّى هذه الأركان، فقد فاز بالجنة، ونجا من النار، ولو لم يأت من النوافل شيئاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من أركان الإِسلام البدنية الصلاة والصوم، ومن أركانه المالية الزكاة، ولم يذكر الحج، ولعله لم يكن فرض بعد. ثانياًً: أن الزكاة من الإِسلام وقد ذكر البخاري عدة تراجم على هذا المنوال فقال في بعضها: " باب الصلاة من الإِيمان " وفي بعضها: "باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 31 - " بَابُ ائباعِ الْجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ " 39 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَن اتَبّع جَنَازَةَ مُسْلِم إِيمَاناً واحْتِساباً، وكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأجْرِ بِقِيرَاطَيْن، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أن تُدْفَنَ، فإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاط ".   اتباع الجنائز من الإيمان" إلى غير ذلك، وغرضه منها ومن الأحاديث المخرجة فيها إثبات قضية من القضايا الإسلامية الهامة، وهي أنَّ العمل جزء من الإيمان، فليس الإِيمان مجرد تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وإنما هو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، كما عليه المحققون من أهل السنَّة. ثالثاً: أن صلاة الوتر ليست واجباً، لأن السائل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل عليه غير الصلوات الخمس قال: لا. والمطابقة: في قوله: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة. 31 - " باب اتباع الجنائز من الإِيمان " 39 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً" أي من شيع جنازة أخيه المسلم، وتبعها من بيت أهلها إلى المسجد معتقداً أن تشييع الجنازة من أعمال الإيمان، مصدقاً بما وعد الله المتبعين من الأجر والمثوبة: راجياً أن ينال ذلك، ورافقها إلى المسجد " حتى يصلى عليها " صلاة الجنازة " ويفرغ من دفنها " أي وخرج معها من المسجد، فشيعها ورافقها إلى مثواها الأخير، واستمر معها حتى دفنت " فإنه يرجع من الأجر قراطين، كل قيراط مثل أحد " أي فإنه يعود بمقدارين عظيمين من الأجر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 32 - " بَابُ سُؤَالِ جِبْريلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الإيْمَانِ وَالإِسْلَامِ والإِحْسَانِ " 40 - عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   كل واحد منهما يكون يوم القيامة مثل جبل أحد حجماً ووزناً. قال ابن دقيق العيد (1): وقد مثلهما في الحديث بأن أصغرهما مثل أحد والأعمال تجسم -يوم القيامة- وتوزن ويكون لها جرم كما يدل على ذلك حديث عدي حيث قال فيه " أخفهما في ميزان يوم القيامة أثقل من أحد " وبقية الحديث ظاهر. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن اتباع الجنائز من الإِيمان كما ترجم له البخاري لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من اتبع جنازة مسلم إيماناً، وغرضه من هذا الباب وأمثاله إثبات أن العمل جزء من الإيمان، قال ابن بطال (2): هذا مذهب جماعة أهل السنة، وإنما أراد البخاري الرد على المرجئة في قولهم إن الإِيمان قول بلا عمل. ثانياًً: أن مشيّع الجنازة لا يثاب بقيراطين إلَّا إذا اتبعها حتى تدفن. والمطابقة: في قوله " من اتبع جنازة مسلم إيماناً ". الحديث: أخرجه الستة. 32 - " بَاب سؤال جبريل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإِيمان والإِسلام والِإحسان " 40 - الحديث: أخرجه مسلم في الإيمان، والترمذي في الإِيمان، وأبو داود، وابن ماجه في السنة، كما أخرجه الطبراني وأبو عوانة، وابن خزيمة، والبخاري في التفسير والزكاة وفي هذا الباب. ترجمة راوي الحديث: تقدمت. معنى الحديث: قال أبو هريرة رضي الله عنه: " كانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً   (1) شرع عمدة الأحكام لابن دقيق العيد. (2) شرح النووى على مسلم، ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَاً بَارِزاً للنَّاس، فَأتَاهُ رَجُلٌ، فقَالَ: ما الإِيمَانُ؟ قَالَ: أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وتؤمِنَ بالبَعْثِ، قَالَ:   بَارزاً" أي ظاهراً لأصحابه، غير محتجب، ولا ملتبس بغيره كما أفاد الحافظ. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - في أول أمره يجلس بين أصحابه كواحد منهم لا يميزه شيء عنهم، فصار الغريب لا يعرفه، فبنوا له " دكاناً " أي دكة مرتفعة، ليعرفه السائل من بين أصحابه " فأتاه رجل " أي مَلَكٌ في صورة رجل، وهو جبريل عليه السلام، جاءه على صورة أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً، كما هو شأنُ الملائكة عند النزول بالوحي، كما تقدم توضيحه في باب كيف كان بدء الوحي " فقال: ما الإِيمان؟ " أي ما هي أركان الإِيمان وعقائده وقضاياه التي لا يصير الإنسان مؤمناً إلَّا إذا صدق بها؟ " قال: أن تؤمن بالله " أي الركن الأول أن تصدق تصديقاً جازماً لا شائبة فيه ولا شك بوجود الله وربوبيته وصفاته ووحدانيته وتعتقد ذلك اعتقاداً راسخاً، " وملائكته " والركن الثاني أن تصدق بوجود الملائكة وهم عالم من خلق الله يتميز بالعصمة الذاتية والطاعة الفطرية، خلقوا من أصل تكوينهم على الطاعة والخير والاستقامة، فلا يقترفون المعصية بطبيعتهم، كما قال تعالى (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) " وبلقائه " أي والركن الثالث من أركان الإِيمان أن تصدق بوجود حياة أخرى بعد الموت، وهي حياة روحية جسمية معاً، خلافاً للمسيحيين في زعمهم أنها روحية فقط، وأن نعيمها وعذابها للأرواح دون الأجسام. أما المؤمنون فيعتقدون أنهم يحيون حياة روحية جسميّة ليحاسبوا على أعمالهم، ويلقوا جزاءهم العادل حيث يثاب الطائع بالجنة، ويعاقب العاصي بالنار. " ورسله " أي والركن الرابع التصديق بجميع الرسل من آدم - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم أرسلوا من عند الله لهداية البشر وأوحي إليهم بدين حق، " وتؤمن بالبعث " أي بإعادة الحياة إلى أجساد الأموات وإخراجهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ما الإِسْلَامُ؟ قَالَ: الإِسْلامُ أنْ تَعْبُدَ اللهَ ولا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، قَالَ: ما الإِحْسَانُ؟ قَالَ: أن تَعْبُدَ اللهَ كَأنكَ تَرَاهُ، فإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا وَلَدَتِ الأمةُ رَبَّها، وِإذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمِ في الْبُنْيَانِ. في خَمْس لَا يعْلَمُهُنَّ إلَّا اللهُ، ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - (إنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: رُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئاً، فَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاس دِينَهُمْ ".   من قبورهم للحشر والحساب، وما بعد ذلك من الميزان والصراط والجنة والنار، وهو تأكيد لقوله " وبلقائه ". " قال: ما الإِسلام؟ " أي ما أركان الإسلام؟ " قال أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " وقد تقدم شرح هذه الأركان في حديث بني الإِسلام على خمس. " قال ما الإِحسان "؟ أي ثم سأل عن المرتبة الثالثة من مراتب هذا الدين فقال: ما الإِحسان؟ أي ما هي الصفة التي إذا تحلى بها المسلم يكون محسناً في عبادته متقناً لها، مؤدياً لها على الوجه الأتم الأكمل. " قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أي للإِحسان مرتبتان، مرتبة عليا، وهي مشاهدة الحق بالقلب أثناء العبادة، كأنما يشاهده العبد ببصره ومرتبة أدنى من ذلك، ولكنها من الإِحسان أيضاً، وهي مراقبة الله تعالى أثناء العبادة واستحضار كونه مطلعاً عليك اهـ كما أفاده الحافظ. " قال: متى الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " أي لست أنا بأعلم بها منك، بل نحن في الجهل بها سيان " وسأخبرك عن أشراطها " أي عن علاماتها الصغرى " إذا ولدت الأمة ربها " أي فمن علاماتها الصغرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 كثرة السراري فيتسرى الرجل جارية تلد له ولداً، فيصبح ذلك الولد سيدَ الأمةِ، وقيل هو كناية عن كثرة العقوق، حتى يعامل الولد أمه معاملة السيد لجاريته. " وإذا تطاول رعاة الإِبل البهم في البنيان " أي ومن علاماتها الصغرى أيضاً أن يتنافس رعاة الإِبل السود في تشييد القصور والمباني العالية. " في خمس لا يعلمهن إلاّ الله " أي وأما العلم بالساعة ووقت قيامها على وجه التحديد فذلك أمر غَيْبي يدخل ضمن الغيبيات الخمسة التي لا يعلمها أحد إلاّ الله " ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله عنده علم الساعة) " أي ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية الكريمة مستدلاً بها على أن الله وحده هو الذي عنده علم الساعة، كما نصت عليه الآية " ثم أدبر " أي ثم ذهب ذلك الرجل " فقال: ردوه، فلم يروا شيئاً " لأنه كان قد اختفى عن أبصارهم " قال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم " أي هذا السائل هو جبريل مَلَك الوحي، جاء ليعلم الناس أركان دينهم، وفي رواية أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال " والذي نفسي بيده ما جاءني قط إلّا وأنا أعرفه إلاّ هذه المرة " وهكذا سلك جبريل في تعليمه طريق السؤال والجواب لأنه أوقع في النفس اهـ. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الإِيمان هو التصديق بجميع القضايا الاعتقادية التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجود الله وربوبيته ووحدانيته وصفاته، والتصديق بالملائكة، والبعث والرسل والكتب السماوية والقدر وجميع الشؤون الغيبية. ثانياً: أن أركان الإِسلام خمسة بعضها لساني قلبي كالشهادتين، وبعضها بدني كالصلاة، وبعضها مالي كالزكاة والحج. ثالثاً: أن الإِحسان وهو مقام المراقبة أغلى مقامات الدين، وهو منهاج النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. رابعاً: ظاهر الحديث أن الإِسلام والإِيمان حقيقتان متباينتان، وأن الإِسلام يطلق على الأعمال الظاهرة. والإِيمان على الأعمال الباطنة. قال الحافظ ابن حجر: "وعن الإِمام أحمد الجزم بتغايرهما، وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 المزني (1) صاحب الشافعي أنهما عبارة عن معنى واحد" قال الحافظ: ولكل من القولين أدلة متعارضة، والذي عليه البخاري أن الإِسلام والإِيمان والدين عبارات مختلفة (2) عن معنى واحد، والناظر في النصوص، يرى أنهما إذا اجتمعا افترقا كما في حديث جبريل هذا، وإذا افترقا اجتمعا فإذا ذكر الإِسلام وحده كان جامعاً لمعنى الإِسلام والإِيمان معاً، وإذا ذكر الإِيمان وحده كان جامعاً لمعنى الإِيمان والإِسلام معاً وهذا يدل على أنهما في الأصل اسمان لحقيقة واحدة كما ذهب إليه البخاري ويرى ابن حجر في ذلك رأياً وسطاً حيث يقول (3): والذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقة شرعية، لكن كل منهما مستلزم للآخر، بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلماً إلّا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمناً كاملاً إلاّ إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإِسلام، أو الإِسلام في موضع الإيمان، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معاً، فهو على سبيل المجاز ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معاً في مقام السؤال حملا على الحقيقة، وكان لكل منهما معنى خاصاً، وإن لم يردا معاً أو لم يكن في مقام سؤال أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز، بحسب ما يظهر من القرائن، قال: وقد حكي ذلك الإِسماعيلي عن أهل السنة والجماعة. خامساً: أن وقت قيام الساعة أمر غيْبي اختص الله بعلمه دون سواه، أما أمارات الساعة فإنها قسمان صغرى، وقد ذكر بعضها في هذا الحديث، وكبرى كالمهدي، والدجال، ونزول عيسى، وقد ذكرت في أحاديث أخرى. سادساً: من آداب العلماء أن لا يجيبَ العالم عما لا يعرفه، وأن يقول لا أدري، لأن العلم أمانة ومسؤولية، وليس التوقف عن الإِجابة نقيصة للعالم، بل هو فضيلة فيه اقتداءً بسيد المرسلين حيث قال: ما المسؤول عنها   (1) فتح الباري، ج 1. (2) شرح العيني، ج 1. (3) فتح الباري، ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 33 - " بَابُ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينهِ وَعِرْضِهِ " 41 - عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشير رَضِيَ الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيّنٌ، وَبَيْنَهُمَا   بأعلم من السائل. سابعاً: الترغيب في السؤال عما ينفع في الدنيا والآخرة، وترك السؤال عما لا فائدة فيه. المطابقة: في قول جبريل " ما الإِيمان، ما الإِسلام، ما الإِحسان ". 33 - " باب من استبرأ لدينه وعرضه " 41 - الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، والترمذي في البيوع وابن ماجه في الفتن، والبخاري في البيوع وفي هذا الباب. ترجمة راوي الحديث: هو النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، ولد بعد أربعة عشر شهراً من الهجرة، وهو أول أنصاري ولد بعد الهجرة، صحابي ابن صحابي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة وأربعة عشر حديثاً، وله في البخاري ستة أحاديث، كان عاملاً على حمص لابن الزبير، فلما تمرد أهل حمص خرج هارباً فقتل في واسط بين دمشق وحمص (؟) سنة خمس وستين هجرية. معنى الحديث: يقول النعمان بن بشير رضي الله عنهما: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلال بين والحرام بين " يعني أن الحلال ظاهر واضح وهو كل شيء لا يوجد دليل على تحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وذلك لأنّ الأصل في الأشياء الإِباحة كما يقول علماء التشريع الإِسلامي لقوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وكذلك الحرام ظاهر واضح، وهو ما دل دليل على تحريمه، سواء كان هذا الدليل من الكتاب كالزنا فإنه حرام بنص القرآن حيث قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 مُشَبَّهَاتٌ، لا يَعْلمها كَثِير مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ فقَدِ اسْتَبْرَأ لِدِينهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في المُشَبَّهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أن يُواقِعَه، ألا وِإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، ألا وِإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، ألا   فاحشة وساء سبيل) أو كان من السنة كأكل الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، فهو محرم بالسنة، أو كان دليل التحريم من الإِجماع كحفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في الطعام إذا علم أو ظهر أنهم يأكلونه فإنه حرام بالإجماع. أو كان الدليل من القياس كتحريم كل (1) إساءة للأبوين قياساً على تحريم التأفف في قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وكتحريم التغوط في الماء الراكد والاغتسال فيه، قياساً على تحريم التبول. من قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه " وهذا القياس يسمى عند علماء الأصول بالقياس الأولوي. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - "وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس " أي وبين الحلال والحرام قسم ثالث وهو المشتبهات - أي الأمور التي تكون غير واضحة الحكم من حيث الحل والحرمة، فلا يعلم الكثيرون هل هي حلال أو حرام، ويدخل في ذلك جميع الأمور المشكوك فيها، مثل المال المشبوه أو المخلوط بالربا، أو غيره من الأموال المحرمة (2) أما إنْ تأكد أن هذا من عين المال الربوي فإنه حرام صرف دون شك. وكذلك لو تأكد أنه من عين المال الحرام كالمغصوب مثلاً أو القمار فإنه حرام أيضاً، ولا يعد من المشتبهات. " فمن اتّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " أي من اجتنبها فقد طلب البراءة لنفسه ديناً وعرضاً، فيسلم له دينه من النقص، وعرضه من القدح والذم والسمعة السيئة "ومن وقع في الشبهات: كراع   (1) " أصول الفقه " لفضيلة العلامة التونسي الشيخ محمد الطاهر النيفر. (2) ومن المتشابه أيضاً ما تعارضت فيه الأدلة الشرعية كيمين الحرام كما أفاده ابن رجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وِإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ الْقَلْبُ".   يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه" أي ومن اجترأ على الشبهات فقد عرض نفسه للخطر، وأوشك على الوقوع في الحرام، مثله في ذلك مثل راع يرعى حول الأرض التي حماها الملك لنفسه، وجعلها خاصة له، فإن هذا الراعي قد تدخل ماشيته في الحمى، فيستحق عقوبة السلطان، كذلك من يتهاون بالشبهات، فإنه على خطر لأنّها ربما كانت حراماً فيقع فيه، وهناك معنى آخر، وهو أنه ربما تساهل في الشبهات فأدى به ذلك إلى الاستهتار واللامبالاة، فيقع في الحرام عمداً، فإن الشبهة تجر إلى الصغيرة. والصغيرة تجر إلى الكبيرة نسأل الله السلامة. " ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمي الله محارمه " أي وإن حمى الله هي المعاصي التي حرمها على عباده، فمن دخل حماه بارتكاب شيء من المعاصي هلك، ومن قاربه بفعل الشبهات كان على خطر، وقد قال الشاعر: إنَّ السلامَةَ مِن لَيْلى وَجَارَتِهَا ... أن لَا تَمُرَّ بِنَا مِنْ حَوْلِ نَادِيْهَا " ألا وإن في الجسد مضغة " أي قطعة لحم صغيرة بقدر ما يمضغ " إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " فكما أن القلب من الناحية الجسمية هو العضو الرئيس في الجسد، ومصدر الحياة فيه لارتباط حركة الدم به، فكذلك هو في نظر الإِسلام مصدر صلاح الإنسان وفساده من الناحية الروحية والدينية، وهو الموجه لسلوك الإِنسان وَأعماله من الأقوال والأفعال فمتى كان القلب سليماً من العقائد الخبيثة كالكفر والنفاق. والإِلحاد، ومن الأمراض النفسية كالكبر والاستعلاء والحقد والحسد والكراهية وغيرها، عامراً بالإِيمان والخوف من الله والحب في الله، صلحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أعمال الجوارح واستقام سلوك الإِنسان دينيا واجتماعياً، والعكس بالعكس، وهو معنى قوله: "إذا صلحت صلح الجسد كله" أي صلحت أعْمال الجسد وسلوكه الظاهري ولهذا جاء في الحديث "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه". ويستفاد منه: ما يأتي: أولاً: أن أحكام الشريعة الإسلامية من حلال وحرام، وواجب ومندوب ومكروه، كلها واضحة جلية لا عذر لأحد في الجهل بها، لأنها ميسورة العلم سهلة المنال ومن جهل منها شيئاً فعليه أن يسأل أهل العلم فذلك واجب. ثانياً: الترغيب في الورع واتقاء الشبهات لكي يسلم للمؤمن دينه وعرضه، وقد قسم ابن المنذر الشبهات إلى ثلاثة أقسام: الأول: شيء يعلمه المرء حراماً، ثم يشك فيه هل هو باق على حرمته أم لا فلا يحل الإِقدام عليه إلاّ بيقين كشاتين ذبح إحداهما كافرٌ، وشككنا في تعيينها. الثاني: أن يكون الشيء حلالاً فيشك في تحريمه كالزوجة، يشك في طلاقها، فلا يعتبر ذلك، ولا أثر له. الثالث: شيء يشك في حرمته وحله على السواء فالأوْلى التنزه عنه، كما فعل رسول الله في التمرة الساقطة، حيث تركها خشية أن تكون من تمور الصدقة اهـ واتقاء هذا النوع الأخير مستحب على أرجح الأقوال، وفعله مكروه، وقد قال سفيان: لا يصيب عبد حقيقة الإِيمان حتى يدع الإِثم وما تشابه منه. ثالثاً: أن من أتى شيئاً يظنه الناس شبهة ويخشى طعن الناس عليه بسببه، وهو يعلم أنه حلال، فإنه يحسن له تركه، لسلامة عرضه، وأن من وقع في أمرٍ يدعو الناس إلى الوقيعة فيه، أن يتخذ ما يصونه عن سوء الظن به، كمن أحدث في صلاته مثلاً، فإنه يستحب له أن يأخذ بأنفه موهماً أنه رعف. رابعاً: أنه يجب على الإنسان أن لا يعرِّض نفسه لمواقف التهم، محافظة على سلامة عرضه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ولهذا قال بعض السلف: من عرّض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به، وقد قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 34 - " بَابُ مَا جَاءَ أنَّ الأعْمَالَ بِالنيةِ والْحِسْبَةِ " (1) 42 - عنْ عمرَ بْنِ الْخَطابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: "الأعْمَالُ بِالنيةِ، وَلِكُلِّ امْرِىءٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ   وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلى ذَمِّهِ ... ذَمُّوْهُ بِالحَقِّ وَبِالبَاطِلِ خامساً: ينبغي للمسلم إذا خشي اشتباه الناس فيه وتوقع سوء الظن منهم أن يشرح لهم حقيقة أمره محافظة على سلامة عرضه، ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج مع صفية من المسجد ووقف يتحدث معها مر رجلان فأسرعا فقال - صلى الله عليه وسلم - " على رسلكما إنها صفية " فقالا: سبحان الله، يا رسول الله، أي هل نظن بك إلاّ خيراً، " فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو قال شيئاً "، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف موقف التهم، والله أعلم. مطابقة الحديث للترجمة: في كونها جزءاً منه. 34 - باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة 42 - الحديث: أخرجه الستة، وسائر كتب الحديث ما عدا الموطأ (2). معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الأعمال بالنية " أي لا تصح جميع العبادات الشرعية إلاّ بوجود النيَّة فيها، سواء كانت من المقاصد كالصلاة والصوم ونحوها، أو من الوسائل كالوضوء والغسل، فإذا وقعت العبادة بدون   (1) هذا الحديث ذكره الإمام البخاري في أول الكتاب، في باب بدء الوحي، ولكن المؤلف حفظه الله تعالى حذفه هناك، وذكره هنا بهذه الرواية، وبهذا اللفظ الذي جاء هنا، مع شرحه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. (ع). (2) أخرجه " الموطأ " ص (401) برواية محمد بن الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 هِجْرَته لِدُنيا يُصِيبها أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجهَا فهِجْرَتة إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".   نية كانت باطلة. أما المعاملات والجنايات، وأعمال القلوب، والأعمال العادية فإنها لا تتوقف صحتها على النية، لأن الأعمال وإن كانت في الأصل تطلق على جميع الأقوال والأفعال الصادرة من الإِنسان عبادة أو معاملة أو غيرها، إلّا أن المراد بها في هذا الحديث العبادات خاصة. " ولكل امرىء ما نوى " أي وإنما يعود على المسلم من عمله ما قصده منه، والحكم في هذه العبارة عامٌّ في جميع الأعمال من العبادات والمعاملات والأعمال العادية فمن قصد بعمله منفعة دنيوية، لم ينل إلاّ تلك المنفعة، ولو كان عبادة، فلا ثواب له عليها. ومن قصد بعمله التقرب إلى الله تعالى، وابتغاء مرضاته، نال من عمله المثوبة والأجر، ولو كان عملاً عادياً كالأكل والشرب والجماع، فإن عمل الدنيا يتحول بحسن النية إلى عبادة فنتائج الأعمال بنياتها إلاّ المحرمات فإن حسن النية لا يبرر اقتراف المعصية، فالحرام حرام، ولو حسنت نية فاعله. ثم ختم النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثه هذا بضرب الأمثلة العملية لبيان تأثير النيات في الأعمال، واختلاف النتائج باختلافها حيث قال: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله " أي فمن قصد بهجرته امتثال أمر ربه، وابتغاء مرضاته، والفرار بدينه من الفتن، فهجرته هجرة شرعية مقبولة عند الله تعالى، مأجور عليها بأجر المهاجرين، ولو مات في طريقه قبل الوصول إلى مهجره كما قال عز وجل: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) " ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها " أي ومن قصد بهجرته منفعة دنيوية وغرضاً شخصياً من مال أو تجارة أو زوجة حسناء، أوْ وَجَاهَة وسمعة، أو مركز يحصل عليه " أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " أي فلا ينال من هجرته إلاّ تلك المنفعة التي نواها، ولا نصيب له من الأجر والثواب. لأنَّه لا هجرة له شرعاً، وإنما هي رحلة عادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن العبادات تتوقف صحتها على النية، سواء كانت مقاصد أو وسائل، وهو مذهب الجمهور، وذهب أبو حنيفة إلى تخصيص النية بالمقاصد فهي التي تحتاج إلى نية، أما الوسائل كالوضوء والغسل فإنه لا تتوقف صحته على النية، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في شرح هذا الحديث: " وقد اتفق العلماء على أن العبادة المقصودة لنفسها، كالصلاة والصوم والحج لا تصلح إلاّ بالنية، وتنازعوا في الطهارة مثل من يكون عليه جنابة، فينساها ويغتسل للنظافة، فقال مالك والشافعي وأحمد: النية شرط لطهارة الأحداث كلها، وقال أبو حنيفة: لا تُشترط في الطهارة بالماء، بخلاف التيمم، وقال زفر: لا يُشترط في هذا ولا هذا. والذين يوجبون النية في طهارة الأحداث يحتجون بهذا الحديث على أبي حنيفة، قال ابن تيمية: وأبو حنيفة يسلم أن الطهارة غير المنْوية ليست عبادة ولا ثواب فيها، وإنما النزاع في صحة الصلاة بها فقوله: " إنما الأعمال بالنيات " لا يدل على محل النزاع إلّا إذا ضمت إليه مقدمة أخرى وهي أن الطهارة لا تكون إلاّ عبادة، والعبادة لا تصح إلاّ بنية (1). فالمسألة مدارها على أن الوضوء هل يقع على غير العبادة -أم لا- والجمهور يحتجون بالنصوص الواردة في ثوابه، كقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء " يقولون ففيه الثواب، والثواب لا يكون إلاّ مع النية فالوضوء لا يكون إلاّ بنية. وأبو حنيفة يقول: الطهارة شرط من شرائط الصلاة فلا تشترط لها النية كاللباس وإزالة النجاسة. وأولئك يقولون: اللباس والإِزالة يقعان عبادة وغير عبادة، ولهذا لم يرد نص بثواب الإِنسان على جنس اللباس والإِزالة، وقد وردت النصوص بالثواب على جنس الوضوء اهـ. والحاصل أن الجمهور يرون أن الوضوء والغسل " لا يقعان إلاّ عبادة يثاب عليهما كسائر العبادات بخلاف أبي   (1) رسالة في شرح هذا الحديث لابن تيمية، طبع دار الجيل، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 حنيفة، فإنه يرى أنّهما يقعان عبادة وغير عبادة، ولذلك لم يوجب النية فيهما، فإنْ نوى صح الوضوء والغسل وأثيْبَ عليهما وإن لم ينو صح الوضوء والغسل، ولم يثب عليهما. فالفرق بين من نوى ومن لم ينو إنما هو في الأجر والثواب، فهذا يؤجر، وذاك لا يؤجر، هذا هو قول أبي حنيفة عن النية في الوسائل، والحاصل أن النية عند المالكية فرض في الوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والصوم، وركن في الحج، وعند الشافعية فرض في الوضوء والغسل والصوم وشرط في الزكاة، وركن في التيمم والصلاة والحج (1) وعند الحنابلة شرط في الوضوء والغسل والتيمم والصلاة والزكاة والصوم، وركن في الحج، وعند الحنفية شرط في التيمم والصلاة والزكاة والصوم والحج، سنة في الوضوء والغسل (2)، قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: " وقال بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد: تشترط لإزالة النجاسة، وهذا القول شاذ، فإن إزالة النجاسة لا يشترط فيها عمل للعبد، بل تزول بالمطر النازل والنهر الجاري ونحو ذلك، فكيف تشترط لها النية، وأيضاً فإن إزالة النجاسة من باب التروك لا من باب الأعمال، ولهذا لو لم يخطر بباله في الصلاة أنه مجتنب النجاسة صحت صلاته إذا كان مجتنباً لها، ولهذا قال مالك وأحمد في المشهور عنه والشافعي في أحد قوليه: لو صلّى وعليه نجاسة لم يعلم بها إلّا بعد الصلاة لم يعد، لأنه من باب التروك (3) ". ثانياً: أن الأعمال العادية كالأكل والشرب والنكاح تتحول بحسن النية وقصد القربة والتقوّي على طاعة الله بإعفاف النفس، وصيانتها عن المآثم إلى عبادة يثاب عليها، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " وإنما لكل امرىء ما نوى " وكما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث   (1) فيض الإله للشيخ محمد أحمد الداه الشنقيطي. (2) فيض الإله للشيخ محمد أحمد الداه الشنقيطي. (3) رسالة ابن تيمية في شرح حديثاً " إنما الأعمال بالنيات "، طبع دار الجيل، بروت، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 43 - عَنْ أبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا أنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهْ صَدَقَة ".   القادم: " إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهو له صدقة ". ثالثاً: أن من نوى عملاً صالحاً لم يعمله لعذر حال بينه وبينه كتب له أجر ذلك كما يدل عليه عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكل امرىء ما نوى " ويؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله يقول للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون يا ربّنا لم يحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا، فيقول الله تعالى: إنه نواه ". مطابقة الحديث للترجمة: أنها جزء منه. 43 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ترجمة راوي الحديث: هو أبو مسعود الأنصاري الخزرجي اسمه عقبة يقال له: البدري، وإن لم يشهد بدراً، لأنه سكنها، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسين حديثاً، اتفقا منها على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بسبعة سكن الكوفة ومات بها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: أن أبا مسعود الأنصاري رضي الله عنه يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا أنفق الرجل على أهله " أي إذا صرف الرجل ماله على أهله الذين يعولهم، وتجب عليه نفقتهم من زوجة وأولاد وغيرهم من أقاربه أي شيء من المال قليلاً كان أو كثيراً " يحتسبها " أي حال كونه يريد بتلك النفقة وجه الله وابتغاء مرضاته، ويقصد بها القربة إليه وامتثال أمره، راجياً منه الأجر والمثوبة، لا لمجرد العاطفة الإِنسانية، أو لكونه ملزماً بالنفقة عليهم " فهو له صدقة " أي فإن ذلك الانفاق يحتسب له عند الله عملاً صالحاً، وحسنة يثاب عليها ثواب الصدقة وليس معناه أن تلك النفقة تعطى حكم الصدقة، وإلا لما جاز الإنفاق على الزوجة الهاشمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 35 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الدِّينُ النَّصِيحَةُ " 44 - عنْ جرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البجلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَايعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وِإيتَاءِ الزَّكَاةِ والنُّصْحِ لِكًلِّ مُسْلِمٍ".   ويستفاد من الحديث: الترغيب في النية الصالحة في جميع الأعمال، ولو كانت عادية، لأن حسن النية فيها يحولها إلى طاعة يؤجر عليها. مطابقة الحديث لترجمة: في قوله " يحتسبها ". 35 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين النصيحة أي أن هذا الدين قائم على النصيحة لا قيام له بدونها، لأنها أساسه وعماده، وهي كما قال الراغب: تحرّي كل قول أو فعل فيه صلاح صاحبه، من قولهم: نصَحت له الود أي أخلصته. 44 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. ترجمة راوي الحديث: هو جرير بن عبد الله البجلي، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان من السنة العاشرة، وبايعه على الإِسلام، ورحب به - صلى الله عليه وسلم - وقال: أكرموه " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " أخرجه الطبراني. وكان رضي الله عنه بهي الطلعة، جميل الصورة استعمله - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، وشهد فتح المدائن عاصمة الفرس، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث، اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة. نزل الكوفة، ثم تحول منها إلى قرقيسيا، فعاش فيها حتى مات بها سنة (51) هـ. معنى الحديث: يقول جرير رضي الله عنه " بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة " من المبايعة وهي معاهدة من له الأمر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 45 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتيت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ: أبَايِعُكَ علَى الإِسْلَامِ، فَشَرَطَ عَلَيَّ " وَالنُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِم ".   المسلمين، من رسول، أو إمام، أو ملك، أو غيره، على السمع والطاعة والوفاء بشروط معينة، ومعناه. عاهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة وأداء أركان الإِسلام " والنصح لكل مسلم " أي وعاهدته أيضاً على النصيحة لكل مسلم ومسلمة، وذلك بالحرص على منفعتهما، وإيصال الخير إليهما، ودفع الشر عنهما بالقول والفعل معاً. والمطابقة في قوله: " والنصح لكل مسلم ". 45 - الحديث: أخرجه الشيخان. معنى الحديث: تقدم. والمطابقة: في قوله: شرط عليّ " والنصح لكل مسلم ". ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: وجوب النصح للمسلمين، ومعاملتهم معاملة حسنة خالصة من المكر والخديعة والغش والخيانة. ثانياً: تحري الخير لهم، والحرص على مصالحهم، والسعي في منافعهم، فإن ذلك من مبادىء الإِسلام، التي أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها البيعة، كما رواه جرير، حيث قال: وشرط عليَّ " والنصح لكل مسلم ". ثالثاً: أن من أهم الحقوق الإِسلامية إرشاد المسلمين إلى الخير، وتعليم جاهلهم، وتنبيه غافلهم، والذب عن أعراضهم، وتوقير كبيرهم، والرحمة بصغيرهم فإنّ هذا كله يدخل في النصح لهم، الذي شرطه النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل مسلم والله أعلم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب العلم " بدأ الإِمام البخاري كتابه هذا " بالوحي " لأنه أصل الدين ومصدره وأساسه، وثنى " بالإِيمان " لأنه كيانه وقوامه، وثلث " بالعلم " لأنه غذاؤه، ثم أَتى بعد ذلك بأحكام العبادات والمعاملات والجنايات وغيرها، لأنها فروع الدين. " والعلم " كما قال ابن خلدون: على نوعين، منه ما هو طبيعي يهتدي إليه الإنسان بتفكيره وهو العلوم الإِنسانية أو الفلسفية، ومنه ما هو نقلي سماعي يأخذه الإِنسان عن الشارع، وهو العلوم الشرعية المستندة إلى الكتاب والسنة، ولا محل للعقل فيه إلاّ في إلحاق الفروع بالأصول، وهو ما يسمى بالقياس الشرعي. ويدخل في العلم الشرعي بمعناه العام معرفة العقائد الإِسلامية والأحكام الشرعية، ومصادرها ومراجعها من حديث وتفسير وفقه وأصول وآثار الصحابة واختلاف العلماء، وعلوم الآلة من لغة ونحو وصرف وبلاغة، وعلم الرجال وأنسابهم وصفاتهم، وأسماء الصحابة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وعلم القراءات ومخارج الحروف إلى غير ذلك من المعارف الإِسلامية. وهو قسمان: فرض عين، وفرض كفاية: فأما فرض العين فهو ما يجب على كل مسلم معرفتِه ذكراً كان أو أنثى. قال ابن القيم (1) " وهو الذي لا يسع مسلماً جهله كأصول الإِسلام الخمسة، وشرائع الإِسلام من وضوء وغيره، والمحرمات التي اتفقت الأديان على تحريمها، وهي المذكورة في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ   (1) سفر السعادة لابن القيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الخ. وأحكام المعاشرة والمعاملة، إلا أن القدر الكافي في فقه المعاملات ما تمس الحاجة إليه " اهـ والحاصل أن العلم الواجب على كل مسلم هو معرفة الله ومعرفة رسوله، ومعرفة قواعد الإِيمان وأركان الإِسلام، وأن يعرف من الأحكام ما تتوقف عليه صحة العبادة، ويعرف من أحكام المعاملات ما يمارسه، ويحتاج إليه، فلا يقدم على شيء من بيع أو شراء أو نكاح أو طلاق حتى يعرف حكم الله فيه، ويسأل أهل العلم عنه. قال الحسن بن الربيع: سألت ابن المبارك عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " طلب العلم فريضة على كل مسلم " فقال: ليس هو الذي يطلبونه، ولكن فريضة على من وقع في شيء من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه. وروى ابن عبد البر عن ابن وهب قال: سُئل مالك عن طلب العلم أهو فريضة على الناس، فقال: لا، ولكن يطلب المرء ما ينتفع به في دينه. وأما فرض - صلى الله عليه وسلم - الكفاية: فهو ما يجب أن يتخصص فيه طائفة من المسلمين فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولو تركه أهل البلد كلهم لأثموا جميعاً، وقد اختلف أهل العلم فيما يدخل في فرض الكفاية من العلوم الإِسلامية والإنسانية والمدنية قال ابن القيم: (1) كل واحد يدخل في ذلك -أي في هذا العلم الذي هو فرض كفاية- ما يظنه فرضاً، فيدخل بعض الناس الطب والحساب والهندسة، وبعضهم المساحة، وبعضهم الصناعة، ومن الناس من يقول: علوم العربية كلها فرض كفاية لتوقف فهم كلام الله ورسوله عليها، ومن الناس من يقول: إن أصول الفقه منها، لأنه العلم الذي يعرف به الدليل ومرتبته وكيفية الاستدلال به، ويرى ابن القيم أن هذه العلوم من باب ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب، وهو قول الغزالي أيضاً حيث يرى أن كل علم لا يُستغنى عنه (2) في قوام أمر الدنيا كالطب الذي هو ضروري لحاجة بقاء الأبدان، والحساب الذي هو   (1) " سفر السعادة " لابن القيم. (2) " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها من العلوم المدنية والإِنسانيّة، فهو فرض كفاية، وهذا ما رجحه علماء المسلمين وقد اتسعت دائرة العلوم الإِسلامية، حتى أن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى عد في مجلس الرشيد ثلاثة وستين علماً، ونقل السيوطي عن القاضي أبي بكر ابن العربي المالكي أنه ذكر في قانون التأويل أن علوم القرآن بلغت أضعاف كلماته أربع مرات. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 36 - " بَابُ مَنْ شِلَ عَنِ الْفُتْيَا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ في حَدِيبهِ فَأتمَّ الحَدِيثَ، ثُمَّ أجَاَب السَّائِلَ " 46 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مَجلِس يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أعرَابِيّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَومِ: سَمِعَ مَا قَالَ فكرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهم: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أيْنَ -أرَاهُ- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ، قَال: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،   36 - باب من سئل عن الفتيا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل 46 - الحديث: أخرجه البخاري فقط. قال القسطلاني: وهو مما تفرد به عن بقية الكتب الستة. معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم " أي يتحدث مع أصحابه " جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ " أي حضر إلى مجلسه الشريف رجل أعرابي، فلما وصِل إليه قال: متى تقوم الساعة؟ وتنتهي هذه الدنيا؟ " فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث " أي استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه مع من يحدثه لئلا تضيع الفائدة " فقال بعض القوم: سمع ما قال وكره ما قال " أي سمع كلام الأعرابي، وكره سؤاله، لأنَّ الساعة لا يعلمها أحد، ولذلك أعرض عن جوابه، ولم يلتفت إليه "وقال بعضهم: لم يسمع" سؤاله لانشغاله بالحديث مع غيره " حتى إذا قضى حديثه " أي ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمر في حديثه الأول حتى انتهي منه، ثم التفت إلى السائل، وسأل عنه " فقال أين -أراه- السائل عن الساعة " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قَالَ: إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فانتظِر السَّاعَة"، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: " إِذَا وُسِّدَ الأمْرُ إِلى غَيْرِ أهْلِهِ فانتظِرِ السَّاعَةَ ".   أي أين السائل عن الساعة؟ "قال: ها أنا يا رسول الله" أي لبيك يا رسول الله أنا حاضر بين يديك، قريب منك " قال: فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة " أي إذا ارتفعَتِ الأمانة، وصار الناس لا يشعرون بالمسؤولية نحو أي حق يتعلق بذمتهم، سواء كان هذا الحق مالاً أو عملاً أو سراً فقد أوشكت تلك الأمة أن تنتهي، ويقضى عليها، فانتظر ساعة نهايتها وزوالها، فإنها قد دنت، أو أوشكت الدنيا على الزوال إذا ارتفعت الأمانة منها. " قال: كيف إضاعتها " أي ما هي الأسباب المؤدية إلى إضاعتها وما علامة ذلك " قال: إذا وسدَ الأمر إلى في أهله فانتظر الساعة " أي إذا أسندت الأمور الهامة التي ترتبط بها مصالح المسلمين من إمارة وقضاء وحسبة وشرطة إلى غير أصحاب الكفاءات الشرعية والإِدارية والعلمية والفنية وسلمت لغير ذوي الاختصاص فقد ضاعت الأمانة وأوشكت الساعة أن تقوم، لأن الولاية أمانة ومسؤولية لا يمكن أن يؤديها إلاّ من كان عالماً بها ناصحاً فيها، مقدراً لمسؤوليته نحوها، فإذا وليها غير أهلها من الجهلة أو الخونة لم يقوموا بأدائها، فتضيع مصالح الناس، وتنتشر الفوضى، ويعم الظلم، وتتفشى العداوة والبغضاء، فينهار كيان المجتمع، ويؤدي ذلك إلى القضاء على الأمة، وعند ذلك انتظر الساعة، إما ساعة تلك الأمة خاصة إذا كان ضياع الأمانة في نطاقها، أو ساعة العالم كله إذا ارتفعت الأمانة من الدنيا كلها، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: وجوب العناية بالسائل وطالب العلم، والاهتمام به، وإجابته على سؤاله (1)، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال،   (1) وقد أمر الله تعالى بالعناية بالسائل وطالب العلم فقال عز وجل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) قال بعض المفسرين: ليس السائل الذي يسأل الطعام، وإنما هو من يسأل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 " أين السائل " فسأل عنه، واهتم به، وتوجه إليه، وهذا هو واجب العالم، فإن كان السؤال مما يمكن الإجابة عليه أجابه، وإلا أقنعه بكل لطف عن عدم إمكانية الإجابة عن سؤاله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر العلماء أن يرحّبوا بطلاب العلم، لأنهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: من الأدب أن لا تسأل العالم ما دام مشغولاً بالحديث مع غيرك، فإذا سئل العالم أثناء حديثه مع الغير أخر الإجابة حتى ينتهي من حديثه لئلا تضيع الفائدة، هذا مع الرفق بالسائل إذا أخطأ في سؤاله، لأن الأعرابي قد أخطأ في سؤاله عن الساعة ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذه أو يعاتبه على سؤاله هذا، بل أجابه بما يمكن الإِجابة عليه، وهو بيان العلامات الدالة عليها، أو الدالة على الساعة الخاصة. ولم يعاتبه أيضاً على سؤاله أثناء حديثه، وإنما اكتفى بتأخير إجابته. ثالثاً: أنه لا حياء في السؤال عن العلم، والإِلحاح فيه وتكراره، لزيادة العلم، لأن السائل كرر السؤال بقوله: وكيف إضاعتها. رابعاً: أن الولايات كلها من قضاء أو إمارة أو شرطة أو غيرها أمانة ومسؤولية يجب إسنادها إلى مستحقيها من ذوي الدين والأمانة والاختصاص، وإلا فسدت البلاد والعباد، وكان ذلك إيذاناً بانهيار الأمة، والقضاء عليها. خامساً: قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن العلم سؤال وجواب، ومن ثَمَّ قيل: السؤال نصف العلم. والمطابقة: في قوله: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة، فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 37 - " بَابُ مَنْ رَفَعَ صَوْئهُ بالْعِلْمِ " 47 - عَنِ ابْنِ عُمَروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفْرَةٍ سَافَرْنَاها، فأدْرَكَنَا وَقَدْ أرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأ، فَجعَلْنَا نَمْسحُ أرْجُلَنَا فنَادَى بأعْلَى صَوْتِهِ: " وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّارِ " مَرَّتَيْنِ أو ثَلَاثاً.   37 - باب من رفع صوته بالعلم 47 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. معنى الحديث: يقول ابن عمرو رضي الله عنهما " تخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها " بين مكة والمدينة كما رواه مسلم " فأدركنا " أي فلحقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقد أرهقتنا الصلاة " أي وقد تأخرنا عن صلاة العصر، حتى أوشكت الشمس على الغروب وكادت تفوتنا " ونحن توضأ " أي ولم ننته بعد من الوضوء " فجعلنا نمسح أرجلنا " أي فاستعجلنا في الوضوء وصرنا نغسل أعضاءنا غسلاً خفيفاً يشبه المسح " فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب " جمع عقب، وهو مؤخر القدم " من النار " أي فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه منذراً لذين لا يغسلون أعقابهمِ بالعذاب الشديد يوم القيامة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب تعليم الجاهل وتنبيهه على خطئه، وتحذيره من التقصير في الواجبات الشرعية سواء كان ذلك عمداً أو سهواً. ثانياً: أن الفرض في الوضوء هو غسل الرجلين خلافاً لمن يرى أن الفرض مسحها فقط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنذر الذين يغسلون أرجلهم غسلاً خفيفاً بهذا الوعَيد الشديد، فكيف بمن يمسحونها. ثالثاً: مشروعية رفع الصوت بالعلم لقوله " فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار ". والمطابقة: في قوله " فنادى بأعلى صوته " إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 38 - " بَابُ قَوْلِ الْمحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأخبَرنا وأنبأنا " 48 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ مِن الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وِإنَّها مِثْلُ الُمسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَاْ هِيَ؟ فوقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ الْبَوَادِي، وَوَقَعَ في نَفسِي أنَها النَّخْلَةُ، فاسْتَحييْتُ ثم قالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهَ؟ قَالَ: " هِي النَّخْلَةُ ".   38 - باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا 48 - الحديث: أخرجه الشيخان. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرح يوماً على أصحابه بعض الأسئلة فقال: " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم " أي هناك شجرة لا يسقط ورقها في الخريف كبقية الأشجار الأخرى وهي تُشْبه المسلم في كثرة خيراتها، وتعدد منافعها، فكما أنَّ المسلم يُنتفَع به في كل شيء، فيكرِم الجار، ويقري الضيف، ويغيث الملهوف، فكذلك هذه الشجرة المباركة ينتفع بكل أجزائها " فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر الوادي " أي فظن الناس أنها من أشجار البادية " ووقع في نفسي أنها النخلة " يعني وخطر في بالي أن هذه الشجرة هي النخلة، لأنها هي التي تدوم خضرتها، ولا يسقط ورقها، ويكثر نفعها، ويستفاد من جميع أجزائها من جذع وثمر، وجريد وليف وغيره، " فاستحييت " أي فمنعني عن الإِجابة توقير غيري من كبار الصحابة " ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة " كما وقع في نفسي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الحوار والنقاش العلمي وتشبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 39 - " بَابُ القِرَاءَةِ والعَرْض على المحدِّثِ " 49 - عنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ على جَمَلٍ فأنَاخَهُ في الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثمَّ قَالَ: أيكُمْ مُحَمَّدٌ، والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِىء بينَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هذا الرَّجُلُ الأبيَضُ الْمُتَّكِىءُ، فَقَالَ لَهُ الرجلُ: ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتُكَ، فقالَ الرَّجُلُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إِني سَائِلُكَ فَمُشَدِّد   الأشياء بنظائرها تحريكاً لعقول الطلبة. ثانياًً فضل النخلة، وكثرة منافعها. ثالثاً: مشروعية قول المحدث حدثنا، وأنه لا فرق بين حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، وسمعت فلاناً وهو مذهب البخاري وذهب آخرون إلى أنه يقول لما سمعه من لفظ الشيخ سمعت أو حدثنا ولما قرأه عليه أخبرنا والأحوط الإِفصاح بالواقع كما أفاده القسطلاني. والمطابقة: في قوله: " حدثنا ما هي ". 39 - باب القراءة والعرض على المحدث قال في المصباح: عرضت الشيء عرضاً، من باب ضرب، والمراد بالعرض هنا قراءة الحديث على الشيخ وهو يسمع. 49 - الحديث: أخرجه الستة. معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد " أي بينما كنا جالسين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده فوجئنا برجل يدخل راكباً على بعيره، فسار به حتى أناخه داخل المسجد، " ثم عقله " بفتح العين والقاف، أي ثنى ساقه وذراعه وربطهما، وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما: فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل، " ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 عَلَيْكَ، فلا تجِدْ عليَّ في نَفْسِكَ، فَقَالَ: سَل عَمّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ: أسْألكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللهُ أرْسَلَكَ إِلى النَّاس كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أنشُدُكَ باللهِ، آللهُ أمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أنشُدُكَ باللهِ آللهُ أمَرَكَ أنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَنّةَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أنْشُدُكَ باللهِ آللهُ أمَرَكَ أنْ تَأخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:   بين ظهرانيهم" أي جالس بين أصحابه مستند إلى وسادة في وسطهم " فقلنا: هذا الرجل الأبيض " أي هو هذا الرجل الأبيض المشرب بحمرة " فقال له الرجل: ابن عبد المطلب " أي فناداه بقوله: يا ابن عبد المطلب " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجبتك " أي سمعتك وتهيأت لِإجابتك " فقال: إني سائلك فمشدد عليك " أي سائلك في لهجة شديدة " فلا تجِدْ عليَّ " أي فلا تغضب علي في نفسك فإني لم أقصد الإِساءة إليك " قال سل عما بدا لك " أي اسأل عن كل ما تحتاج إلى معرفته من أحكام الإِسلام وأركانه فسأجيبك عنه. " فقال أسألك بربك ورب من قبلك " أي أسألك وأستحلفك بربك الذي خلقك وخلق من قبلك من هذا العالم أن تصدُقني الحديث فيما أسألك عنه " آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ " أي هل الله أرسلك إلى الناس جميعاً أو إلى قريش خاصة " فقال: اللهم نعم " أي أقسم بالله واستشهد به علي أن الله أرسلني إلى الناس كافة. " قال: أنشدك " بضم الشين " بالله " أي أسألك بالله ومن سئل بالله فليجب " آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس " بضم النون وفتح الصاد أي هل الله أمرك أن تكلفنا بهذه الصلوات الخمس في كل يوم وليلة " قال: اللهم نعم " أي أقسم على أنّ الله أمرني بذلك. " قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر قال: اللهم نعم ". قال: أنشدك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِما جئْتَ بِهِ، وأنا رَسُولُ مَنْ وَرَائي مِنْ قَوْمِي، وَأنا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ".   بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة " أي الزكاة " فقال: اللهم نعم " أى أقسم على ذلك " فقال الرجل: آمنت بما جئت به " أي فإني منذ الآن أعلن إيماني بما جئت به " وأنا رسول من ورائي من قومي " أي وأنا رسول قومي الموفد إليك من قبلهم لأتلقى منك أركان هذا الدين، وأبلغها لهم " وأنا ضِمام " بكسر الضاد " ابن ثعلبه أخو بني سعد بن بكر " أي من قبيلة بني سعد التي استرضع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتي منها حليمة السعدية مرضعته - صلى الله عليه وسلم -، وكان قدوم ضمام سنة تسع من الهجرة الذي هو عام الوفود. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن لآخذ الحديث عن المحدث طرقه المتعددة، منها العرض عليه كما في هذا الحديث، فإن ضمام كان يعرض (1) على النبي - صلى الله عليه وسلم - أركان الإِسلام - أي يذكرها واحداً واحداً: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعها منه، ويصادق عليها، وهذا هو ما يسمى عند المحدثين بالعرض، قال الحافظ: وهو عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته، وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلَّا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ، دون ما يقرأ عليهم، ولهذا بوَّب البخاري على جوازه، وأورد فيه قول الحسن البصري: لا بأس بالقراءة على العالم، وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك موصولاً أنهما سوَّيا بين السماع من العالم والقراءة عليه. ثانياًً: اشتمل الحديث على بيان بعض أركان الإِسلام. ثالثاً: أنه يجوز الاستحلاف على الخبر للتأكد منه. رابعاً: استدل به ابن بطال على طهارة أبوال الإِبل وأرواثها، لأن ضمام أدخل بعيره المسجد، ولا يؤمن أن يبول فيه، فلو كان نجساً لمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) بكسر الراء يقال عرضَ يعرض، على وزن ضرَب يَضْرِبُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 40 - " بَابُ مَا يُذْكَرُ في الْمُنَاوَلَةِ وَكتَابِ أهْلِ الْعِلْمِ بالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ " 50 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً وَأمَرَهُ أنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إلى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأهُ مَزَّقَهُ، فَحَسِبْتُ   وهو من أقوى أدلة المالكية على طهارتها. والمطابقة: في كون السائل إنما أخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - أركان الإِسلام عن طريق عرضها عليه. 40 - باب ما يذكر في المناولة (1)، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان 50 - الحديث: أخرجه البخاري. معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتابه رجلاً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل مع رجل من الصحابة وهو عبد الله بن حذافة كتاباً إلى كسرى ملك الفرس يدعوه فيه إلى الإِسلام، وأمره أن يسلِّم هذا الكتاب إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين ليوصله إلى كسرى " فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى " أي فأوْصله أمير البحرين إلى كسرى ملك الفرس، وهو أبرويز بن هرمز ابن أنوشروان " فلما قرأه مزَّقه " أي فلما قرأ " أبرويز " كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثارت ثائرته وتهدد وتوعد، وقطَّعه " فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمزَّقوا كل ممزَّق " أي فدعا - صلى الله عليه وسلم - على الفرس أن يمزِّق الله شملهم، ويقضي على دولتهم، ويزيل سلطانهم، فاستجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فسلط على   (1) وهو أن يعطى الشيخ الكتاب للطالب، ويقول له: هذا سماعي من فلان، وقد أجزت لك أن ترويه عني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أنَّ ابنَ المُسَيَّب قال (1): فَدَعَا عَلَيْهِم رَسُولُ اللهِ أنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّق". 51 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كِتَاباً أوْ أرَادَ أنْ يَكْتُبَ كِتَاباً، فَقِيْلَ لَهُ: إنَّهُمْ لا يَقْرَؤونَ كِتَاباً إلَّا مَخْتُوماً، فَاتَّخَذَ خَاتَمَاً مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّد رَسُول الله كأنِّى أنْظرُ إِلى بَيَاضِهِ في يَدِهِ".   " أبرويز " ابنه شيرويه، فطعنه في بطنه، ومزق أحشاءه، ولم تمض سوى سنوات قلائل حتى زال سلطان الفرس نهائياً. 51 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً أو أراد أن يكتب كتاباً فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلَّا مختوماً " أي قال له - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه رضي الله عنهم علِى سبيل المشورة: إنَّ ملوك الأعاجم لا يتراسلون إلَّا بالكتب المختومة توثيقاً وتأكيداً " فاتخذ خاتماً من فضة نقشه: محمد رسول الله " أي فاتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - له خاتماً من فضة مكتوباً عليه محمد رسول الله ليختم به على رسائله، لأنه استحسن ذلك، ورأى حاجته إليه. ْويستفاد من الحديثين: أولاً: مشروعية المراسلات العلمية ونشر الدعوة الإِسلامية والعلوم الشرعية عن طريق الكتابة إلى الأقطار الأخرى. ولهذا كان من طرق نقل الحديث التي جرى عليها المحدثون، ما يسمى عندهم بالمكاتبة. وهي كما عرفها ابن الصلاح: أن يكتب الشيخ إلى الطالب وهو غائب شيئاً من حديثه بخطه، أو يكتب له ذلك وهو حاضر، أو يأمر غيره بأن يكتب   (1) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " قوله: فحسبت، القائل هو ابن شهاب الزهرى راوي الحديث، فقصة الكتاب عنده موصولة، وقصة الدعاء مرسلة، ووجه دلالته على المكاتبة ظاهر ويمكن أن يستدل به على المناولة، من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ناول الكتاب لرسوله وأمره أن يخبر عظيم البحرين بأن هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكن يسمع ما فيه ولا قرأه. (ع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 له ذلك عنه، وهي نوعان: أحدهما: أن تتجرد المكتابة عن الإِجازة. والثاني: أن تقترن بالإِجازة بأن يكتب إليه ويقول: أجزت لك ما كتبته لك، أو ما كتبت به إليك أو نحو ذلك. فأما الكتابة بدون إجازة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين منهم السختياني والليث بن سعد وبعض الشافعية وجعلها أبو المظفر السمعاني وبعض الأصوليين أقوى من الاجازة ومنع بعض الشافعية الرواية بها، قال ابن الصلاح: والمذهب الأول هو الصحيح المشهور بين أهل الحديث (1)، وكثيراً ما يوجد في مسانيدهم قولهم: كتَبَ إلَيَّ فلان قالَ: حدثنا فلانٌ، والمراد به هذا. وذهب غير واحد من علماء المحدثين وأكابرهم إلى جواز إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالمكاتبة، والمختار قول من يقول فيها كتب إلي فلان. قال ابن الصلاح: " أما المكاتبة المقرونة بلفظ الإِجازة فهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة. قلت: وتدخل هذه المكاتبة في مضمون حديث الباب، ويدل عليها دلالة مباشرة. ثانياًً: دل الحديث، على جواز المناولة في الحديث كما ترجم له البخاري، وأقوى أنواعها المناولة المقرونة بالإِجازة، وهي كما عرفها القسطلاني " أن يعطي الشيْخ الكتاب للطالب ويقول له فيه: هذا سماعي من فلان، وقد أجزت لك أن ترويه عنه، اهـ. ولها صور أخرى أيضاً، منها: أن يعير الشيخ الكتاب للطالب لينسخه ويقابل به ثم يعيده للشيخ، أو يعطي الطالب للشيخ الكتاب فينظر فيه الشيخ ويتأمله حتى يتأكد أنه أصل صحيح، وأنه من روايته، ثم يُعيده الشيخ للطالب، ويخبره أنه من روايته، ويأذن له بأن يرويه عنه. قال فضيلة الشيخ أحمد شاكر: فهذه الصور كلها مناولة مقرونة بالإِجازة، وهي أعلى أنواع الإِجازة. اهـ. واختلف المحدثون في حكمها: هل هي كالسماع فيقال فيها حدثنا وأخبرنا أم لا؟ فذهب الزهري وربيعة ويحيى بن   (1) المقدمة لابن الصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 41 - "بَابُ مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ ومنْ رَأى فُرْجَةً في الْحَلْقَةِ فجلَسَ فِيهَا " 52 - عَنْ أبِي وَاقِدٍ اللَّيْثي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ إذْ أقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَاقْبَلَ اثْنَانِ إِلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذهبَ وَاحِدٌ، فوقَفَا على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأما أحدُهُمَا فَرَأى فُرْجَةً في الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وأمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وأمَّا الثَّالِثُ فأدْبَرَ ذَاهِباً، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ   سعيد الأنصاري ومجاهد والشعبي وعلقمة ومالك وابن وهب وابن القاسم وجماعة آخرون، كما أفاده النووي إلى أن هذه المناولة في القوة كالسماع. والصحيح المختار كما قال ابن الصلاح: المنع من إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحو هذه وأنه لا بد من عبارة تشعر بالمناولة، بأن يقول حدثنا فلان مناولةً، أو إجازةً، وهو الذي عليه الجمهور. ومطابقة الحديثين للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يوصل كلامه إلى الملوك عن طريق الكتابة. 41 - باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها 52 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. ترجمة راوي الحديث: هو أبو واقد الليثي اسمه الحارث، واشتهر بكنيته، أسلَم يوم الفتح، وشهد حنين واليرموك، ثم جاور بمكة، روى أربعة وعشرين حديثاً اتفقا على حديث واحد، وهو هذا، وزاد مسلم حديثاً، توفي بمكة سنة ثمانٍ وثمانين من الهجرة، وعمره خمس وستون سنة. معنى الحديث: يحدثنا أبو واقد رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ألا أخْبِرُكُمْ عَنُ النَّفَرِ الثلَاَثةِ، أمَّا أحَدُهُمْ فأوَى إلى اللهِ فآواهُ اللهُ، وأما الآخَرُ فاسْتَحْيَا مِنَ اللهِ فاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وأمَّا الْآخَرُ فأعْرَضَ فأعرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ".   بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر" أي عندما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً في مسجده بين أصحابه، أقبل ثلاثة رجال. والنفر من الثلاثة إلى العشرة من الرجال " فأمّا أحدهم فرأى فرجة في الحلقة " أي فأما الأول منهم فرأى مكاناً خالياً في حلقة النبي - صلى الله عليه وسلم - " فجلس فيها " أي في الحلقة نفسها " وأما الآخر فجلس خلفهم " أي وأما الثاني فلم يجد مكاناً في الحلقة فجلس وراء الجالسين فيها، حيث انتهي به المجلس، " وأما الثالث فأدبر ذاهباً " أي فإنه تولى ذاهباً، ولم يحاول الجلوس خلف الحلقة، " فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة " أي ألا تحبون أن أخبركم عن حال هؤلاء الثلاثة ثم شرع - صلى الله عليه وسلم - في بيان أحوالهم فقال: " أما أحدهم فأوى " بقصر الهمزة " إلى الله فآواه " بمد الهمزة " الله " ومعنى " أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله " أي فأما الأول الذي جلس في نفس الحلقة فإنه قد تقرب إلى الله وانضم إلى حلقة العلم ومجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقربه الله إليه، وأدخله في حيّز مرضاته، فإذا كان يوم القيامة آواه الله إلى ظل عرشه، كما أفاده العيني " وأما الآخر فاستحيا من الله " أي وأما الثاني الذي لم يجد مكاناً في الحلقة " فجلس خلفهم " أي فإنه قد منعه الحياء من الله عن مزاحمه غيره فجلس حيث ينتهي به المجلس، " أستحيا الله منه " وقبل عذره وأشركه مع أهل تلك الحلقة في فضلهم وثوابهم، لأنه تعالى حيي كريم لا يمنع فضله وجوده عمّن منعه الحياء من الله تعالى عن مضايقة غيره مع حرصه على العلم ورياض جناته، فشمله فضل ذلك المجلس، وسعد بمجالسة أهله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 42 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِع " 53 - عن أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَعَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَعِيرِهِ، وأمسكَ انْسَان بِخِطَامِهِ أو بِزِمَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: أيُّ يَوْم هذَا؟ فسكتنَا حتى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيْهِ سوى اسْمِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أليْس يَوْمَ النَّحْرِ، قُلْنَا بَلَى، قَالَ: فأيُّ شَهْرٍ هذَا؟ فَسَكَتنا حتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْر اسْمِهِ، فَقَالَ: أليْس بذي الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ   فإنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم. " وأما الآخر " وهو الذي انصرف ولم يجلس " فأعرض فأعرض الله عنه " أي فإن كان قد انصرف كارهاً فقد باء بسخط الله وغضبه، وإن كان له عذره فقد حُرِمَ من شرف ذلك المجلس وثوابه. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من آداب المجالس العلمية وغيرها أن يجلس القادم حيث ينتهي به المجلس، ويشمل ذلك النوادي الأدبية والمساجد والمجتمعات العامة أو الخاصة، كما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على من جلس خلف الحلقة ولم يزاحم غيره. ثانياًً: أن مجالس العلم هي مجالس الخير ورياض الجنة، من جلس إليها كان في كنف الله تعالى، وفاز برضوانه، وآواه الله إليه. ثالثاً: أنه يستحب لمن وجد فرجة في الحلقة أن يجلس فيها. والمطابقة: في قَوله وأما الآخر فجلس خلفهم. 42 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ربَّ مبلغ أوعى من سامع " 53 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. معنى الحديث: يقول أبو بكرة رضي الله عنه " قعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعيره " يوم النحر بمنى في حجة الوداع " وأمسك إنسان " وهو بلال رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وأعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرامٌ كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أوْعَى له مِنْهُ".   الله عنه " بخطامه أو بزمامه، ثم قال: أي يوم هذا؟ فسكتنا " لأنَّه سأل عن شيءٍ لا يجهله أحد، فظنوا أنه أراد غيره، " فظننا أنه سيسميه سوى اسمه " المعروف لدينا " قال: أليس يوم النحر! قلنا: بلى " هو كما ذكرت " قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى " هو كما ذكرت " قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام " أي فإن حقوق كل واحد منكم أيها الناس من دم أو مال أو عرض محرمة على أخيه في جميع الأديان السماوية " كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " أي إن الله حرم هذه الحقوق الإِنسانية، كما حرم القتال في هذا اليوم من هذا الشهر في هذا البلد منذ خلق السموات والأرض، وإنما شبه تحريم حقوق الإنسان هذه بحرمة يوم النحر في شهر ذي الحجة في هذا البلد الأمين لأن تحريمه كان ثابتاً عند العرب راسخاً في قلوبهم، بخلاف حقوق الإنسان، فإنهم كانوا يجهلونها، ويتهاونون فيها في الجاهلية، فشبه لهم هذه بهذه لتأكيد حرمتها. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ليبلغ الشاهد الغائب " فأمرهم أن لا يكتفوا بسماع حديثه هذا والعمل به فقط، بل عليهم أيضاً أن يقوموا بتبليغه وروايته إلى غيرهم، فليبلغ الحاضر منهم الغائب، ويروي له حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، ليبقى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجوداً في أمته تتداوله الأجيال جيلاً بعد جيل إلى قيام الساعة ولتؤخذ منه المسائل، وتستنبط الأحكام الفقهية على مر الأزمان والعصور " فإن الشاهد عسى أن ييلغ من هو أوعى منه " أي فإنَّ راوي الحديث قد يبلغه إلى من هو أفقه وأقدر على استنباط الأحكام الشرعية منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 43 - " بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخوَّلُهُمْ بالموْعِظَةِ وَالعِلْم كَي لا يَنْفِرُوا " 54 - عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بالْمَوْعِظَةِ في الأيامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا ".   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التبليغ ورواية الحديث، وشرف هذا العلم، وأهله، ورحم الله السيوطي إذ يقول: مَنْ كَانَ مِنْ أهلِ الحَدِيْثِ فَإنهُ ... ذُوْ نَضْرَةٍ في وَجْهِهِ نُورٌ سَطَعْ إِنَّ النبيَّ دَعَا بِنَضْرِةِ وَجْهِ مَنْ ... أدَّى الحَدِيْثَ كَمَا تَحَمَّل وَاتَّبّعْ يشير رحمه الله إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيرهُ ". ثانياً: تقرير حقوق الإِنسان وأنَّها محرمة على أخيه الإِنسان مطلَقاً بصرف النظر عن دينه ومذهبه وعنصره وجنسيته، فلا يجوز الاعتداء عليها بحال من الأحوال، ولم تشرع الحدود الشرعيّة إلَّا لصيانة الدين والنفس والمال والعرض والنسب والعقل، وحماية هذه الحقوق الانسانية كلها، كما هو مقرر في أصُول التشريع الإِسلامي. ثالثاً: أن العلم بالحديث شيء والفقه فيه شيءٌ آخر، فقد يروي المحدث، إلى من هو أفقه منه، وقد يكون المحدث غير فقيه. والمطابقة: في قوله " فإن الشاهد عسى أن يُبلِّغ من هو أوعى منه ". 43 - باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 54 - الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي أيضاً. معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام " أي كان - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه على انتفاع أصحابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 55 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَسِّروا ولَا تعَسِّروا وبَشِّروا ولَا تُنَفِّرُوا ".   واستفادتهم من وعظه وإرشاده لا يكثر عليهم من ذلك، وإنّما يتعهدهم بالموعظة في بعض الأيام دون بعض، ويتحرى الأوقات المناسبة التي هي مظنة استعدادهم النفسي لها، وإنما كان يقتصر على الوقت المناسب " كراهة السآمة علينا " أي خوفاً على نفوسنا من الضجر والملل، الذي يؤدي إلى استثقال الموعظة وكراهتها ونفورها، فلا تحصل الفائدة المرجوة، وقد قال الشاعر: إِنّما تَنْفَعُ المَقَالَةُ في المَرْءِ ... إِذا صَادَفت هُوىً في الفُؤَادِ والمطابقة: في قوله: يتخولهم بالموعظة. 55 - الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. معنى الحديث: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بأمرين، يتوقف على الأول منهما استقامة الإِنسان في ذات نفسه، وعلى الثاني نفعه لغيره، ونهى عن ضدهما، لما يؤدي إليه من نتائج عكسية. أمّا الأمر الأول الذي يرتبط به صلاح الإِنسان واستقامته فهو التيسير، وضده التعسير، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - " يسروا " أي خففوا على أنفسكم بممارسة الأعمال التي تطيقونها، والاقتصاد والتوسط في نوافل العبادات والطاعات من صيام وقيام ونحوه، فأتوا منها ما استطتعم، مع المحافظة على الحقوق البدنية والنفسية والاجتماعية من طعام وشراب ولباس ونوم وراحة وزوجة وولد وغيرها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن لبدنك عليك حقاً، وإنّ لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك -أي ضيفك- عليك حقاً " " ولا تعسروا " أي لا تشددوا على أنفسكم بتكليفها ما لا تطيق من العبادات والطاعات، وإهمال حقوق الجسد والروح وحقوق الأهل والولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 44 - " بَابٌ مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ " 56 - عنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   وغيرها، فإن ذلك يؤدي إلى نتيجة عكسية وخيمة العاقبة، وهي السآمة والملل المؤدي إلى كراهية الأعمال الصالحة، ثم إلى كراهية الدين نفسه. أما الأمر الثاني فهو التبشير الذي يتوقف عليه نجاح الموعظة وانتفاع الغير بها، وضده المبالغة في الترهيب والتخويف، المؤدي إلى النفور، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم - " وبشروا " أي بشروا المؤمنين بفضل الله وثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، كما أفاد القسطلاني " ولا تنفروا " الناس بالإكثار من أحاديث الترهيب وأنواع الوعيد. والمطابقة: في قوله " ولا تنفروا ". ويستفاد من الحديثين: أولاً: استحباب اختيار الأوقات المناسبة للموعظة، وعدم الإكثار منها، ليستفيد بها السامعون، لأن الإكثار منها يُمِلُّهم وينفرهم. ثانياً: أن من السنة الاقتصاد في نوافل الطاعات والعبادات من صيام وقيام وإعطاء النفس حقوقها الطبيعية حتى تقبل على الطاعة في شوق ورغبة فتكون أجدى لها وأكثر نفعاً. ثالثاً: حث المرشدين على تبشير الناس وترغيبهم، وفتح أبواب الأمل والرجاء أمامهم حتى يقبلوا على ربهم في حب ورغبة، ويحسنوا الظن به، مع الاجتهاد في العمل، والاخلاص فيه، فإن حقيقة الرجاء أن يقترن الأمل بحسن العمل. وإلَّا فهو أماني باطلة، لا تجدي صاحبها شيئاً. 44 - باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين 56 - الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجه. ترجمة راوي الحديث: هو معاوية ابن أبي سفيان القرشي الأموي، أسلم مع أبيه يوم الفتح، وظهرت عليه النباهة منذ صغره، نظر إليه أبوه وهو غلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّيون، وإنَّما أنَا قَاسِمٌ، واللهُ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هِذِهِ الأمَّةُ قائِمَةً على أمْرِ اللهِ لَا يَضُرَّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يأتِيَ أمْرُ اللهِ".   فقال: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه فقالت أمه هند: قومه فقط! ثكلتْهُ أمه إن لم يسد العرب قاطبة، تولى الإِمارة عشرين سنة، والخلافة مثلها، وقال فيه عمر رضي الله عنه: هذا كسرى العرب روى (163) حديثاً انفرد البخاري بثمانية، ومسلم بخمسة، وتوفي سنة 60 من الهجرة. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من يرد الله به خيراً " أي خيراً عظيماً، ونفعاً كثيراً، فإن التنكير للتعظيم " يفقهه في الدين " أي يمنحه العلم الشرعي الذي لا يدانيه خير في هذا الوجود في فضله وشرفه، وعلو درجته، لأنه ميراث الأنبياء، الذي لم يُورِّثُوا غيره " وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ". وللفقه في لسان الشرع معنيان، معنىً خاص: وهو معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات والمعاملات والجنايات والأحوال الشخصية. ومعنىً عام: وهو معرفة علوم الدين من توحيد وتفسير وحديث وفرائض وأحكام، وهو المراد هنا " وإنما أنا قاسم " أي وإنما أنا مجرد قاسم للعلوم الشرعية، ومبلغ لها، أبلغها وأنقُلها إليكم عن ربكم " والله عز وجل يعطي " أي والله وحده هو الذي يعطي الحفظ والفهم من يشاء وعلى قدر ما يشاء " ولن تزال هذه الأمة " أي لا تزال طائفة من المسلمين " قائمة على أمر الله " أي ثابتة على دينه إلى قيام الساعة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن العلم الشرعي أشرف العلوم إطلاقاً، لعلاقته بالله. ثانياً: أن الفقه في الدين موهبة ربانية يختلف الناس فيها وكذلك كل الملكات الإِنسانية. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 45 - " بَابُ الْفَهْمِ في الْعِلْمِ " 57 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فأتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ، فَأرَدْتُ أنْ أقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أرنا أصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هِيَ النَّخْلَةُ".   45 - " باب الفهم في العلم " أراد البخاري هنا أن يثبت بالأحاديث الصحيحة أن الفهم قدر زائد على العلم الذي هو مطلق الإدراك، لأنه قوة ذهنيَّة يتوصل بها إلى استنباط الأشياء الدقيقة التي قد يصل إليها الفهم ولا يصل إليها العلم. 57 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتي بجمّار فقال: إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم " بفتح الميم والثاء أي أن هناك شجرة غريبة بين الأشجار الأخرى، تشْبه المسلم في صفاته الطيبة، وفي رواية " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة " إلخ " فأردت أن أقول: هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم: فسكت " أي فنظرت إلى الحاضرين من أجلاء الصحابة وشيوخهم، فوجدت نفسي أصغرهم سناً، فسكت عن الجواب حياءً وتكريماً وتوقيراً لكبار السن منهم. " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هي النخلة " وأجاب بما توقعت وإنما عرف ابن عمر أن تلك الشجرة هي النخلة من " الجُمّار " الذي أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " فأردت أن أقول هي النخلة ". ويستفاد منه: أن الفهم قدر زائد على العلم، وأنه قوة ذهنية يتوصل بها صاحبها عن طريق الاستنباط إلى ما لا يتوصل إليه غيره من العلماء، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 46 - "بَابُ الاغْتِبَاط في الْعِلْمِ" 58 - عَن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا حَسَد إلَّا في اثْنَتَيْنِ، رَجُل آتَاهُ اللهُ مَالاً فسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ في الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا".   استنبط ابن عمر من قرينة الجمّار الذي أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشجرة المسؤول عنها هي النخلة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طرح هذا السؤال بعد إهدائه الجمّار الذي هو رأس النخلة، فدلّ على أنها هي. 46 - " باب الاغتباط في العلم " 58 - معنى الحديث: يشير النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا إلى أن الحسد أنواع مختلفة فمنه حَسَدٌ مذموم محرم شرعاً، وهو أن يتمنى المرء زوال النعمة عن أخيه، وحسد مباح وهو أن يرى نعمة دنيوية عند غيره فيتمنى لنفسه مثلها، وحسد محمود مستحب شرعاً، وهو أن يرى نعْمةً دينية عند غيره فيتمنّاها لنفسه. وهو ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " لا حسد إلاّ في اثنتين " أي أن الحسد تختلف أنواعه وأحكامه حمسب اختلاف أنواعه ولا يكون محموداً مستحباً شرعياً إلاّ في أمرين: "رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته (1) في الحق " أي الأمر الأول أن يكون هناك رجل غني تقي، أعطاه الله مالاً حلالاً، فأنفقه فيما ينفعه وينفع غيره ويرضي ربه من وجوه الخير، فيتمنى أن يكون مثله، ويغبطه على هذه النعمة. " ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " أي والأمر الثاني: أن يكون هناك رجل عالم، أعطاه الله علماً نافعاً يعمل به: ويعلمه لغيره، ويحكم به بين الناس فيتمنى مثله.   (1) هلكته بفتح الهاء واللام كما أفاده القسطلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 47 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ عَلّمْهُ الْكِتَابَ " 59 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: " اللَّهُمَّ علِّمْهُ الْكِتَابَ ".   ويستفاد منه: أن من الحسد ما هو مشروع، وليس بحرام، وهو الغبطة. ومعناها: أن يرى المرء نعْمة عند غيره فيتمنى مثلها، فإن كانت الغبطة في أمر دنيوي من صحة أو قوة أو مركز أو ولد فهي مباحة، وإن كانت في أمر ديني كالعلم النافع أو المال الصالح فهي مستحبة شرعاً. والمطابقة: في قوله " ورجل آتاه الله الحكمة " إلخ. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجة. 47 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم علمه الكتاب " 59 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى صدره أي طوقه بذراعيه، ووضع صدره على صدره تعبيراً عن محبته له، وشفقته عليه، وإيناساً لقلبه، وتبريكاً له بملامسة جسده الشريف ليحصل على العلم النافع، الذي يتفوق به على غيره، ثم أتبع ذلك بالدعاء له " وقال: اللهم علمه الكتاب " أي علمه القرآن حفظاً وفهماً وتفسيراً وتأويلاً وفقهاً وأحكاماً فاستجاب الله دعاءه. ويستفاد من الحديث مما يأتي: أولاً: فضل ابن عباس رضي الله عنهما، وتميزه عن غيره بهذا الدعاء المبارك، الذي استجاب الله فيه دعوة نبيه، فأصبح ابن عباس رضي الله عنهما مضرب الأمثال، وبحر العلوم، وحَبر الأمة، وترجمان القرآن، وتفوق في الفقه على من هم أكثر منه حديثاً وروايةً حتى قال ابن القيم: أين تقع فتاوى ابن عباس واستنباطاته من فتاوى أبي هريرة، وهو أحفظ منه إلاّ أنه يؤدي الحديث كما سمعه. ثانياً: مشروعية الضم والمعانقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 48 - " بَاب متَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ " 60 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أقْبَلْتُ رَاكِبَاً على حِمَارٍ أرتانٍ، وأرنا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِمِنَىً إلى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْض الصَّفِّ، وأرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ في الصَّفِّ، فلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَي".   عند المناسبات، ومنها استقبال المسافر فإنه مما يشرع المعانقة عنده. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه. والمطابقة: في كون الترجة جزءاً من الحديث. 48 - " باب متى يصح سماع الصغير " 60 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " أقبلت راكباً على حمار أتان " بفتح الهمزة والتاء أي على حمار أنثى " وأنا قد ناهزت الاحتلام " أي وأنا غلام كنت قد قاربت البلوغ ولم أبلغ بعد، وكان عمره رضي الله عنهما في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة " ورسول الله يصلّي بمنى إلى غير جدار " أي إلى غير سترة من جدار أو غيره " فمررت بين يدي بعض الصف (1) " أي فمررت وأنا راكب حماري أمام بعض صفوف المصلين في حين أن إمامهم وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سترة له " فلم ينكر ذلك علي " أي فلم ينكر أحدٌ علي مروري هذا. الحديث: أخرجه الستة.   (1) وفي رواية الترمذي: كتب رديف الفضل على أتان فجئنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه بمنى. فنزلنا عنها فوصلنا الصف، فمرت بين أيديهم، فلم تقطع صلاتهم. قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح قال والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قالوا: لا يقطع الصلاة شيء، وبه يقول سفيان وأبو حنيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 61 - عنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيع رضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَجَّةً مَجَّهَا في وَجْهِي وأنا ابْنُ خَمْسِ سِنين مِنْ دَلْوٍ". 49 - " بَابُ فضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ " 62 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ،   61 - معنى الحديث: يقول محمود بن الربيع رضي الله عنه: " عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة مجها في وجهي " أي حفظت في ذاكرتي رشة من الماء رشها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فمه في وجهي "وأنا ابن خمس سنين " أي وأنا حينئذ صبي صغير لم أتجاوز الخامسة من عمري. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: جواز سماع الصغير وتحمله الحديث إذا كان متمكناً من ضبطه، ولا يشترط البلوغ، لأن السلف قبلوا رواية ابن عباس وابن الربيع مع صغر سنهما. ثانياًً: أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، لأن ابن عباس مر أمام بعض الصف بحماره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بغير سترة، ولم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالإِعادة. مطابقة الحديثين للترجمة: في قبول أهل العلم لحديث ابن عباس وابن الربيع وهما صغيران. 49 - " باب فضل من عَلِم وعَلّم " 62 - معنى الحديث: شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا العلم الشرعي المستمد من كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بغيْث عميم، ومطر غزير، نزل على أنواع مختلفة من الأرض في جدبها وخصبها، " فكان منها نقية " أي فكان البعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّة قَبِلَتِ الْمَاءَ، فأنبهتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الكَثِير، وكانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ، أمْسَكَتْ الْمَاءَ، فَنَفعَ اللهُ بهَا النَّاسَ، فَشرَبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى، إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَاتُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِين اللهِ وَنَفَعَهُ ما بَعَثَنِي بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بذَلِكَ رَأسَاً ولَمْ يَقْبَل هُدَى اللهِ الذي أرْسِلْتُ بِه".   منها أرضاً خصبة نقيّة من الحشرات والديدان، التي تفتك بالزرع. " قبلت الماءَ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير " أي شربت مياه الأمطار، فأنبتت النبات رطباً ويابساً، فاستفادت في نفسها نضرةً وجمالاً، وأفادت الإِنسان والحيوان غذاءً وكساءً. " وكانت منها أجادب " أي وكان بعضها أرضاً صلبة مجدبة، لا تنبت زرعاً، ولكن فيها غدْرَانٌ " أمسكت الماء " فكانت بمثابة خزانات ضخمة، حفظت الماء، وأمدت به غيرها " فنفع الله بها الناس، فسقوا " مواشيهم " وشربوا " " منها ما يرويهم " وزرعوا " أي وحولوا الماء إلى أرض خصبة فزرعوها، فهي وإن لم تنتفع بالغيث في نفسها، إلاّ أنها نفعت غيرها من الإنسان والحيوان. " وأصاب منها طائفة أخرى " أي وأصاب ذلك الغيث نوعاً آخر من الأرض " إنما هي قيعان " أي أرض مجدبة مستوية لا غدران فيها " لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ " أي فهي لا تحفظ الماء لاستواء سطحها، ولا تنبت العشب لجدبها وصلابتها فلم تنتفع بذلك الغيظ في نفسها، ولم تنفع غيرها فهي شر أقسام الأرض وأخبثها. ثم بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا في بقية الحديث هذه الأمثلة ووضّحها لنا بقوله: " فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم " أي فتلك (1) الأرض الخصبة النقية هي   (1) وذلك لأن اسم الإشارة يعود إِلى صنفين من الأرض هما: النقية، والأجادب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مثل العالم المتفقه في دين الله العامل بعلمه المعلم لغيره، وتلك الأجادبُ التي تحفظ الماء لغيرها هي مثل العالم الذي يعلم غيره، ولا يعمل بعلمه، فهو كالشمعة تضيء لغيرها. وتحرق نفسها " ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " أي وأمّا القيعان التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فإنها مثل لصنفين من الناس: أولهما: المسلم الجاهل، أو المسلم العالم الذي لم يعمل بعلمه، ولم يعلمه غيره، وهو المقصود بقوله: " من لم يرفع بذلك رأساً ". وثانيهما: الكافر الذي لم يدخل في الدين أصلاً وهو المعني بقوله: " ولم يقبل هدى الله ". الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد ما يأتي: أولاً: أن الناس ازاء هذا العلم الشرعي والاستفادة منه على أربعة أقسام: عالم عامل معلّم لغيره، وهو أشرف الأقسام، ومن ورثة الأنبياء، وعالم يعلّم غيره ولا يعمل بعلمه، فهذا ينفع الناس ولا ينفع نفسه، ويكون علمه حجة عليه، ومسلم جاهل أو عالم لا يعلم غيره، ولا يعمل بعلمه، هذا شرٌ ممن سبق، وكافرٌ لم يدخل في هذا الدين أصلاً فهذا هو أخبث الأقسام وشرها وأشقاها. ثانياً: فضل من علم وعمل وعلّم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بخير أجزاء الأرض وأشرفها وأزكاها وهي " الأرض النقية ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 50 - " بَابُ رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ " 63 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزنَا ".   50 - " باب رفع العلم وظهور الجهل " 63 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن من أشراط (1) الساعة" أي من علامات قرب قيام الساعة " أن يرفع العلم " على مراحل متعددة فيرفع أولاً " العلم النافع المقترن بالعمل الصالح "، حتى لا يبقى منه إلاّ كلمات تتردد على ألسنة العلماء، لا أثر لها في سلوكهم وتصرفاتهم الشخصية، وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوماً رفع العلم فقيل له: كيف يذهب العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه أبناءَنا ونساءَنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هذه التوراة والإنجيل عند اليهود فما تغني عنهم ". وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: لو شئت أخبرتك بأولي علم يرفع من الناس: " الخشوع " يزول هذا، فيتهاون الناس به ولا يعملون بمقتضاه لا حملة العلم ولا غيرهم، ويبقى علم اللسان حجة عليهم. ثم يذهب علم اللسان، فلا يبقى محدث ولا مفسر: إنما هي الكتب في المكتبات، ثم يرفع العلم كله من الكتب والقلوب معاً " ويثبت الجهل ". أي ويتمكن من الناس، ويفشو بينهم "ويشرب الخمر، ويظهر الزنا " أي ويكثر الزنا وشرب الخمور كنتيجة حتمية لارتفاع العلم وانتشار الجهل وزوال الخشية من القلوب. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله " أن يرفع العلم ويثبت الجهل ".   (1) أشراط جمع شرط بفتح الشين والراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 64 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لأحَدِّثَنَّكُمْ حَديثاً لا يُحَدِّثُكُمْ أحدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أن يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ الِّنسَاءُ، وَيَقلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُون، لِخَمْسِينَ امْرَأةٍ القَيِّمُ الوَاحِدُ".   64 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " لأحدثنكم حديثاً " أي أقسم بالله لأحدثنكم حديثاً بالغ الأهمية " لا يحدثكم أحد بعدي " أي أنفرد بهذا الحديث وحدي فلا يحدثكم به من أهل البصرة أحدٌ بعد وفاتي لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة كما أفاده الحافظ " سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن من أشراط الساعة أن يقل العلم " أي يقل العلم الشرعي في هذه الأرض لكثرة موت العلماء كما في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء " " ويظهر الجهل " أي وينشر الجهل في الناس " وتكثر النساء ويقل الرجال " أي يتضاعف عدد النساء بالنسبة إلى عدد الرجال الذين تفنيهم الحروب الدامية، وقيل: تكثر النساء بسبب كثرة الفتوح والسبايا " حتى يكون للخمسين امرأة القيم الواحد " أي حتى لا تجد الخمسون امرأة سوى رجل واحد يكفلهن ويعولهن ويقوم بشؤونهن. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله " يقل العلم ". ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن من علامات الساعة رفع العلم الشرعي، وقلة وجوده، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن من علامات الساعة انتشار الفاحشة كنتيجة حتميّة لكثرة وجود النساء غير المتزوجات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 51 - " بَابُ فضلِ الْعِلْمِ " 65 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " بَيْنَا أنا نَائمٌ أتِيْتُ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ في أظْفَارِي، ثُمَّ أعطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ " قَالُوا: فَمَا أولْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الْعِلْمَ ".   51 - " باب فضل العلم " 65 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن " أي رأيت في أثناء نومي شخصاً جاءني بقدح من لبن " فشربت حتى اني لأرى الري يخرج في أظفاري " أي فشربت وارتويت كثيراً حتى صرت كأني أرى اللبن بعيني يخرج من أصابعي، ويسيل على أظفاري من شدة الري، فالري هنا المراد به اللبن على سبيل الاستعارة " ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب " أي أعطيته ما تبقى مني فشربه " دلوا: فما أولته؟ قال العلم " (1) أي فسرت اللبن بالعلم، لأن العلم كما قال القاري: يصور في ذلك العالم الروحاني بصورة اللبن، بمناسبة أن اللبن أول غذاء البدن وسبب صلاحه، والعلم أول غذاء الروح وسبب صلاحها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل العلم وشرفه. وأهميته بالنسبة للإِنسان، لأنه أفضل غذاء لروحه، كما أن اللبن أفضل غذاء لبدنه. ولأنه ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تبقى لنا من بعده، ولذلك فُسِّر به اللبن الذي تبقى منه وشربه عمر رضي الله عنه. ثانياً: فضل عمر رضي الله عنه وتفوقه في   (1) يجوز فيه النصب والرفع معاً كما أفاده الحافظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 52 - " بَابُ الفُتْيا وهوَ وَاقِفٌ علَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا " 66 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عمرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَفَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنىً لِلنَّاسِ يَسْألونَهُ، فجَاءَهُ رَجُل فقالَ: لمْ أشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قبلَ أنْ أذْبَحَ؟ فَقَالَ: اذْبَحْ ولا حَرَجَ. فجاءَ آخَرُ فَقَالَ: لمْ أشْعُرْ فنَحَرْتُ قَبْلَ أن أرْمِيَ فَقَالَ: ارْمِ ولا حَرَج. فما سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيءٍ قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلا حَرَج ".   علوم الشريعة، لأنّه نَهِلَ من ذلك اللبن الذي شرب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على اختصاصه وامتيازه بقدرٍ زائدٍ من العلم، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - فسر اللبن الذي بقي منه بالعلم، فدل ذلك على فضل العلم. 52 - " باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها " 66 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه " أي وقف - صلى الله عليه وسلم - على راحلته عند الجمرة بعد الزوال من يوم النحر في ذلك المشهد العظيم والجم الغفير يسأله الحجاج ويستفتونه فيما يحتاجون إليه من أحكام الحج، " فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح " أي غفلت ونسيت فخالفت الترتيب بين المناسك، فقدمت الحلق على الذبح " فقال: اذبح ولا حرج " أي لا إثم عليك ولا دم، " فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي " جمرة العقبة " قال: ارم ولا حرج، فما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 53 - " بَابُ مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بإشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأس " 67 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، ويَكْثُرُ الْهَرْجُ، قيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ فقَالَ: هَكَذَا بِيَدِه فَحَرَّفَهَا، كأنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ.   عن شيء قدم ولا أخر إلاّ قال: افعل ولا حرج" أي لا إثم ولا دم عليك. ويستفاد منه يأتي: أولاً: جواز سؤال العالم راكباً أو ماشياً أو واقفاً، وهو ما ترجم له البخاري لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المناسك وهو راكب على بعيره. ثانياًً: أن الترتيب بين أعمال يوم النحر (1) سنة لا واجب، وسيأتي تفصيله في الحج. ثالثاً: أنه يستحب لمن يتصدى للفتوى أن يتحرى الأماكن العامة الحافلة بالناس، ليتمكن من أداء واجبه على الوجه الأكمل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع للناس يسألونه ". 53 - " باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس " 67 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يقبض العلم " أي من علامات الساعة أن يرفع العلم بموت العلماء "ويظهر الجهل والفتن " التي تصيب الناس في دينهم حتى يصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر " ويكثر الهَرْج " بسكون الراء " قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال: هكذا يده فحرفها " أي حركها " كأنه يريد القتل " أي فلما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن معنى الهرْج حرك يده - صلى الله عليه وسلم - كالضارب يشير بذلك إلى أن معناه القتل   (1) وهي رمي جمرة العقبة والنحر والحلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 68 - عَنْ أسْمَاءَ بنتِ أبِي بكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ أتيتُ عَائِشَةَ وهِىَ تُصَلِّي فَقُلتُ: مَا شَأنُ النَّاس؟ فأشَارَتْ إلى السَّمَاءِ، فإذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللهِ! قُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأشَارَتْ بِرَأسِهَا، أيْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حتَّى عَلَانِيَ الغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أصُبُّ على رأسِي الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللهَ   وسفك الدماء. يعني ويكثر في الناس القتل وسفك الدماء وتنتشر الحروب والمعارك الدامية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " فقال هكذا بيده فحركها ". 68 - ترجمة راوية الحديث: هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أخت عائشة من أبيها، وأم عبد الله بن الزبير، ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين عاماً، وهاجرت إلى المدينة بعبد الله، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (56) حديثاً اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بأربعة، وتوفيت بمكة سنة (73) هـ بعد أن عاشت مائة عام. معنى الحديث: تقول أسماء رضي الله عنها " أتيت عائشة وهي تصلي فقلت ما شأن الناس فأشارت إلى السماء " أي جئت إلى عائشة رضي الله عنها وهي تصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الجماعة في غير الأوقات المعتادة للصلوات الخمس، فأثار ذلك انتباهي، وأحسست أن شيئاً قد حدث، فقلت لعائشة: ما بال الناس يصلون جاعة في غير وقت الفريضة، فأشارت بيدها إلى السماء، إشارة معناها انظري إلى السماء تعرفين سبب هذه الصلاة، وهو كسوف الشمس. " فقالت سبحان الله " أي فلما أشارت بيدها إلى السماء، قالت: سبحان الله لتنبِّهني إلى ما حدث بالتسبيح والإِشارة معاً " قلت: آية؟ " أي هذا الكسوف آية من آيات الله يخوف الله بها عباده " فأشارت برأسها أي نعم " أي فأشارت إشارة تفسيرُها نعم " قمت حتى علاني الغشي " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأثْنَى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: مَا مِنْ شَىءٍ لَمْ أكنْ أرِيتُهُ إلَّا رَأيْتُهُ في مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فأوْحَى اللهُ إليَّ أنكُمْ تُفْتَنُونَ في قُبُورِكُمْ مِثْلَ أوْ قَرِيبَاً مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فأمَّا الْمُؤْمِنُ أو الْموْقِنُ لا أدْرِي بأيَّهُمَا قَالَتْ أسْمَاءُ فَيَقُولُ: هُو مُحمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بالبَيِّناتِ والْهُدَى، فأجَبْنَاهُ واتَبّعْنَاهُ، هُوَ محمدٌ ثَلَاثاً، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحاً (1)، قَدْ عَلِمْنَا إنْ كُنْتَ لَموقِنَاً بِهِ، وأمَّا الْمُنَافِقُ أو المُرْتَابُ لا أدْرِي أي ذلِكَ قَالَتْ أسْمَاءُ فَيقُولُ: لا أدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئَاً فَقُلْتُهُ ".   بفتح الغين وسكون الشين أو بكسر الشين وتشديد الياء، أي فدخلت معهم في الصلاة فوقفت وقوفاً طويلاً حتى أصابتني غشاوة، وهي حالة مرضية تحدث عادةً بسبب طول في الوقوف في شدة الحر " فجعلت أصب على رأسي الماء " لتخفيف الحرارة " فحمد الله وأثنى عليه " أي فلما فرغ من صلاته خطب خطة بليغة بدأها بحمد الله والثناء عليه " ثم قال: ما من شيء لم أكن أريته إلاّ رأيته في مقامي هذا " أي ما هناك شيء لم يسبق لي رؤيته والاطلاع عليه إلاّ رأيته في مكاني وزماني هذا " حتى الجنة " بالرفع على أنه مبتدأ وخبرُه محذوف تقديره حتى الجنة مرئية مكشوفة أمامي " فأوحى الله إليّ أنكم تفتنون في قبوركم " بسؤال الملكين " مثل أو قريياً من فتنة المسيح الدجال " أي فتكون فتنة القبر شديدة تشبه فتنة الدجال أو تقرب منها " يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ " المشار إليه وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - أي ماذا تعرف عنه؟ " فأمّا المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد رسول الله " أي فأما من كان في دنياه مؤمناً موقناً حقاً، فإن الله يثبته بالقول الثابت، ويلهمه الجواب   (1) قوله ثم صالحاً أبي صالحاً للتكريم وإهلاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 54 - " بَابُ الرِّحْلَةِ في الْمَسألَةِ النَّازِلَةِ " 69 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   الصحيح رغم هول الموقف، ووحشة القبر، وإبهام السؤال، فيعرف من هو المشار إليه، ويجيب عنه، وإن لم يصرَّحْ باسمه، فيقول: هو محمد رسول الله وذلك هو مصداق قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) قال البَرَاءُ المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر، وبالآخرة المساءلة في القيامة. وقال القفال وجماعة: " في الحياة الدنيا " أي في القبر لأن الموتى في الدنيا إلى أن يبعثوا، وفي الآخرة، أي عند الحساب اهـ. فإذا سئل المؤمن في القبر، وقيل له: ما علمك بهذا الرجل؟ قال: هو محمد رسول الله " جاءنا بالبينات " أي بالآيات القرآنية الواضحة " والهدي " أي وأرشدنا إلى الدين القويم " وأمّا المنافق والمرتاب " أي المتردد " فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته " أي لم أكن على يقين من نبوته وإنما وافقت الناس على قولهم ظاهراً. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قول الراوي " فأشارت برأسها أي نعم ". ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن انتشار الفتن في آخر الزمان والحروب بين المسلمين، وأن ذلك نتيجة حتمية لارتفاع العلم، وظهور الجهل. ثانياًً: إثبات سؤال القبر للمؤمن والمنافق والكافر (1). ثالثاً: الإِجابة عن الفتيا بإشارة اليد والرأس كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول، وكما فعلت عائشة في الثاني. 54 - " باب الرحلة في المسألة النازلة " 69 - ترجمة الراوي وهو عقبة بن الحارث القرشي أسلم رضي الله عنه   (1) ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أنَّه تَزَوَّجَ ابْنَةً لَأبِي إهَابِ بْنِ عَزيزٍ، فأتَتْهُ امْرأة فقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أرْضَعْتُ عُقْبَةَ والتي تَزَوَّجَ بِهَا، فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ، ما أعْلَمُ أَنكِ أرْضَعْتِنِي، ولا أخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِيْنَةِ، فَسَألهُ فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ وقَدْ قِيْلَ، ففارقَهَا عُقْبَةُ، ونَكَحَتْ زَوْجَاً غَيرهُ.   يوم الفتح، وسكن مكة، أخرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم. معنى الحديث: يحدثنا عقبة رضي الله عنه عن نفسه " أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز " أي أنه تزوج بنت هذا الرجل، واسمها غَنِية. بفتح الغين العجمة وكسر النون، " فأتته امرأة " أي فأتته امرأة مُرْضعة " فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج بها " أي فأخبرته بأن المرأة التي تزوجها هي أخته من الرضاعة، لأنّها أرضعتهما معاً " فقال: ما أعلم أنك أرضعتني " أى فاعتذر بأنه لا علم له بذلك " فركب إلى رسول الله بالمدينة فسأله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف وقد قيل " أي كيف تباشرها، وقد قيل بأنها أختك من الرضاعة " ففارقها " اتقاءً للشبهات، أو لفساد النكاح. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب اتقاء الشبهات لأن عقبة إنما فارق هذه المرأة ورعاً واتقاءً للشبهات، وإلّا فشهادة المرأة الواحدة لا تكفي عند الجمهور، خلافاً لأحمد، فإنه قال: تكفي شهادة المرضعة ولو كانت وحدها. ثانياً: مشروعية الرحلة في طلب العلم، كما فعل عقبة رضي الله عنه، وقد قال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن لحفْظِ كلمة تنفعه فيما بقي من عمره لم أر سفره يضيع، ويحكى عن ابن الأعرابي اللغوي المشهور أنه رأى في مجلسه رجلين أحدهما من سنجاب على حدود الصين والثاني من الأندلس، وكان يحيى بن سعيد يسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي. مطابقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 55 - " بَابُ التَّنَاوُبِ في طَلَبِ الْعِلْمِ " 70 - عنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أنا وَجَارٌ لي من الأنْصَارِ في بَنِي أمَيَّة بْن زَيْدٍ، وهيَ مِنْ عَوالِي الْمدِينَةِ، وكُنَّا نتَنَاوبُ النُّزولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَنْزِلُ يَوْمَاً وَأنْزِلُ يَوْماً، فإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وإذا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَربَ بَابِي ضَرْباً شَدِيداً، "فَقَالَ: أثَمَّ هُوَ؟ ففَزِعْتُ، فخَرَجْتُ إِليْهِ، فقَالَ: قَدْ حَدَثَ أمْرٌ عَظِيْم، قَالَ: فدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: طَلَّقَكُنَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟   للترجمة: في قوله: فركب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. 55 - " باب التناوب في طلب العلم " 70 - معنى الحديث: يقول عمر رضي الله عنه: " كنت أنا وجار لي من الأنصار " وهو عتبان بن مالك رضي الله عنه " في بني أمية بن زيد " أي نسكن في هذه القبيلة التي تقع منازلها بالعالية " وكنا نتناوب النزول على رسول الله " أي ينزل مرة وأنزل مرة، لأنّ ظروف العمل لا تمكن كل واحد منا من الذهاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ العلم منه يومياً " فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضرباً شديداً " أي فلما رجع من المدينة دق الباب بشدة على خلاف عادته، " ففزعت " أي فخشيت أن يكون قد وقع مكروه، لأنهم كانوا يتوقعون هجوماً مفاجئاً من ملك غسان " فقال حدث أمر عظيم " فسأله عمر: هل جاءت غسان، فقال عتبان: أعظم من ذلك، طلّق رسول الله نساءه، " فدخلت على حفصهٌ فإذا هي تبكي " أي فنزلت المدينة فوجدت حفصة تبكي " ثم دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - " وكان معتزلاً في مشربة بفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قَالَتْ: لَا أدرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقلْتُ وأنا قَاِئمٌ: أطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لا. فَقُلْتُ اللهُ أكبَرُ.   الميم وسكون الشين وضم الراء، أي في غرفة صغيرة، وقال عمر في رواية فانطلقت، فأتيت غلاماً أسود فقلت: استأذن لعمر قال: فدخل، ثم خرج فقال: قد ذكرتك فلم يقل شيئاً، فانطلقت إلى المسجد، فإذا حول المسجد نفر يبكون، فجلست إليهم، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام واسمه رباح، فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج إليَّ قال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئاً، فانطلقت إلى المسجد فجلست ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي فقال: ذكرتك له فلم يقل شيئاً، قال: فوَلَّيت منطلقاً، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل فقد أذن لك، قال: فدخلت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - متكىء على حصيره، فرأيت أثره في جنبه " فقلت وأنا قائم: أطلقت نساءك؟ قال: لا فقلت: الله أكبر " أي فاطمأنت نفسه، وجاشت مشاعره بهجة وسروراً، فكبر من شدة الفرح. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: عناية الصحابة رضي الله عنهم بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وأخبار المسلمين عامة، سيما أخبار الوحي الإِلهي، وما ينزل به من الشرائع والأحكام، بدليل قول عمر رضي الله عنه " فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ". ثانياً: الترغيب في طلب العلم، والحرص على حضور مجالسه مهما كانت الظروف، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن تمنعهم أعمالهم عن حضور هذه المجالس، حتى أن عمر كان يتناوب مع جاره الأنصاري الحضور إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماع حديثه، وأخذ العلم عنه، فهذا يدل على مشروعية التناوب في العلم لأصحاب الأعمال كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي والترمذي. والمطابقة: في قوله " كنا نتناوب النزول ... إلخ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 56 - " بَابُ الْغَضَبِ في الْمَوْعِظَةِ والتَّعْلِيمِ إذا رَأى مَا يَكْرَهُ " 71 - عنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: " سُلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أبِي؟ قَالَ: أَبوكَ حُذَافَةُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أبيْ يا رسول الله، فقَالَ: أبوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ، فلَما رأى عُمَرُ مَا في وَجْهِهِ، قَال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَتُوبُ إلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَ ".   56 - " باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره " 71 - معنى الحديث: يقول أبو موسى رضي الله عنه: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كرهها " أي كره السؤال عنها لعدم فائدته دينياً ودنيوياً، بل قد تنجم عنه مضرة للسائل أو لغيره " فلما أُكثِرَ " بضم الهمزة وسكون الكاف وكسر الثاء والبناء للمجهول. أي فلما أكثر الناس عليه من هذه الأسئلة التي لا تتعلق بها فائدة شرعية " غضب " لأن من العبث السؤال الذي لا فائدة فيه ولأنهم كانوا يسألونه عن بعض المغيبات والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث لذلك، وإنما بعث لبيان الشرعيات من العقائد والأحكام " ثم قال: سلوني عما شئتم " أي فسوف أجيبكم عما تسألون عنه، ولكن ليس هذا من مصلحتكم " قال رجل من أبي " وكان يقصد من وراء سؤاله هذا أن يتأكد من صحة نسبه المعروف عند الناس " قال: أبوك حذافة " فنسبه إلى أبيه الذي يعرف به بين الناس " فقام آخر فقال: من أبي يا رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبوك سالم " فنسبه إلى أبيه الشرعي المعروف به " فلما رأى عمر ما في وجهه قال: يا رسول الله إننا نتوب إلى الله " من هذه الأسئلة التي أغضبتك، والتي قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 57 - " بَابُ مَنْ أعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثاً لِيُفْهَمَ عَنْهُ " 72 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أنَهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثَلَاثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وِإذَا أتى عَلى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِم، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَاً".   تنشأ عنها مضرة، كأن يكون السائل منسوباً إلى غير أبيه، فيفتضح أمره بسبب هذا السؤال مثلاً. ويستفاد من هذا الحديث ما يأتي: أولاً: أن من حق العالم أن يغضب على السائل إذا سأل عما فيه مضرة، أو لا يتناسب مع الموضوع، فلا ينبغي للطالب أن يخرج من موضوع لآخر أو يسأل في موضوع الدين عن أمور لا علاقة لها به، قال في فيض الباري: وإنما غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه بعث لتعليم الشرائع، فجعل بعضهم يسألونه عن المغيبات. قلت: وأيضاً لأن كثرة هذه الأسئلة قد تؤدي إلى أجوبة تسيء إلى سمعة السائل أو غيره، فما كل مرة تسلم الجرة. ثانياًً: فضل عمر رضي الله عنه ودقة ملاحظته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله فلما أكثر عليه غضب. 57 - " باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه " 72 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً " أي إذا تكلم بالجملة (1) من القول أعادها ثلاث مرات " حتى تفهم عنه " أي من أجل أن يفهمها المخاطبون ويستوعبوا معناها، لأنّ التكرار أعْوَن على الحفظ (2) وقد قال الشاعر:   (1) فالمراد بالكلمة هنا الجملة قال ابن مالك: وكلمة بها كلام قد يؤم. (2) فيض الباري للشيخ محمد أنور الكشميري ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 58 - " بَابُ تعْلِيمِ الرَّجُلِ أمَتَة وَأهْلَه " 73 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْة قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ثَلَاثَةٌ لَهمْ أجْرانِ، رَجُلٌ من أهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إذا أدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَة أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَأدبَها فَأحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا   أمَا تَرَى الحَبْلَ لِتِكرَارِهِ ... في الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قد أثَّرا " وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلّم ثلاثاً " الأوْلى قبلِ الدخول للاستئذان، والثانية بعد الدخول تحية والثالثة عند الخروج وداعاً. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن من أصول التربية التعليمية في الإِسلام إعادة الجملة ثلاث مرات لكي يستوعبها الطالب فإن كان حديثاً نبوياً فمن السنة إعادته ثلاثاً، لأن الثلاثة غاية ما يقع به البيان والأعذار كما قال ابن بطال، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يداوم على ذلك عملياً لكي تقتدي به أمته، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الكلام سرداً وإنما يأتي به كلمة كلمة، فلو اقتصر على مرة واحدة لكفت، ولكن مع ذلك كان يكرر ثلاثاً ليكون أسوةً لغيره. ثانياً: مشروعية السلام ثلاثاً، كما أوضحناه. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله رضي الله عنه " إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ". 58 - " باب تعليم الرجل أمته وأهله " 73 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة لهم أجران " أي ثلاثة أصناف من البشر يضاعف لهم الأجر مرتين " رجل من أهل الكتاب " أي من اليهود والنصارى " آمن بنبيه " الذي أرسل إليه سابقاً، وهو موسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فَأحْسَنَ تَعْلِيمَها، ثمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أجْرَانِ". 59 - " بَابُ عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وتعْلِيمِهنَّ " 74 - عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَال، فَظنَّ أنهُ لَمْ يُسْمِع النِّسَاءَ، فوعَظَهُنَّ   أو عيسى عليهما الصلاة والسلام، " وآمن بمحمد " عندما بلغته دعوته، فله أجران، أجر على إيمانه بموسى أو عيسى، وأجر على إيمانه بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، " والعبد المملوك إذا أدّى حق الله " أي قام بعبادة الله تعالى وأدى ما يكلفه به سيده على أحسن وجه فله أجران أيضاً. " ورجل كانت عنده أمة " أي جارية مملوكة " يطؤها " أي كان يجامعها بحق ملكيته لها. " فأدبها " أي فرباها تربية صالحة "وعلمها " أركان دينها وأحكام شريعتها " ثم أعتقها فتزوجها فله أجران " أجر على تعليمها وعتقها، وأجر على نكاحه لها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل هؤلاء الأصناف الثلاثة، وكونهم تضاعف أجورهم. ثانياًً: فضل تعليم الأمَةِ وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ورجل عنده أمة فأدبها فأحسنَ تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ". 59 - " باب عِظة الإِمام النساء وتعليمهن " 74 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس، رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ومعه بلال فظن أنه لم يُسْمِع النساء " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما كان يعظ أصحابه، خطر بباله أن صوته لم يصل إلى مسامع النساء لجلوسهن خلف الرجال بالمصلى في عيد الفطر، فخرج من بين صفوف الرجال حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وأمَرَهُنَّ بالْصَّدَقَةِ، فجَعَلَت الْمَرْأةُ تُلْقِي الْقُرْطَ والخَاتَمَ، وبِلال يَأْخُذُ في طَرَفِ ثَوْبِهِ. 60 - " بَابُ الْحِرْص على الْحَدِيثِ " 75 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيْلَ يا رَسُول اللهِ مَن أسْعَدُ النَّاس بشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ ظَنَنْتُ يا أبَا هُرَيْرَةَ أنْ لَا يَسْألنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أحَدٌ   التقى بهن " فوعظهن " وذكّرهن الجنة والنار، ونبههن إلى بعض الخطايا التي تقع منهن، " وأمرهن بالصدقة " قائلاً: تصدقن، فإني أريتكنّ أكثر أهل النار وذلك لأنّ الصدقة تطفىء غضب الرب " فجعلت المرأة تلقي القرط " أي تتصدق بالقرط وهو الحلق " والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه " أي يجمع هذه الحلي والصدقات لتدفع لمستحقيها. ويستفاد منه: كما قال النووي: استحباب وعظ الإِمام النساء، وتذكيرهن بالآخرة وأحكام الإِسلام، وحثهنّ على الصدقة إذا لم يترتب على ذلك مفسدة. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي. والمطابقة: في قوله " فوعظهن ". 60 - " باب الحرص على الحديث " 75 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " قيل: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك " أي من الذي يسعد يوم القيامة بشفاعتك، ويفوز بها دون غيره من البشر، وهل هي للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم؟ أم هي خاصة بالمؤمنين فقط "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد ظننت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أوَّلَ مِنْكَ لِمَا رَأيتُ مِنْ حِرْصِكِ عَلَى الْحَدِيثِ، أسْعَدُ النَّاس بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ خَالِصاً مِنْ قَلْبِهِ أو نفسه". 61 - " بَابٌ كَيْفَ يُقْبَض الْعِلْمُ " 76 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بقَبْض الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِم، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالاً، فسُئِلُوا فَأفتَوْا بِغَيْرِ عِلْم، فَضَلُّوا وأضلوا ".   يا أبا هريرة أن لا يسألني (1) عن هذا الحديث أحد أول منك " أي قبلك " لما رأيت من حرصك على الحديث " أي بسبب ما رأيت من حرصك على أخذ الحديث " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه أو نفسه " أي إنما يفوز بشفاعتي يوم القيامة من نطق بالشهادتين معتقداً معناهما، عاملاً بمقتضاهما " إجمالاً " ولو كان عاصياً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: الترغيب في أخذ الحديث وحفظه، والثناء على أبي هريرة رضي الله عنه بذلك. ثانياًً: أن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - تختص بالمؤمنين يوم القيامة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله " لما رأيت من حرصك على الحديث ". 61 - " باب كيف يقبض العلم " 76 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ الله لا يقبض العلم   (1) يجوز في " يسأل " النصب على أن " أن " مصدرية، والرفع على أنها مخففة من الثقيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 انتزاعاً ينتزعه من العباد" أي إن الله لا يرفع العلم من الناس بإزالته من قلوب العلماء ومحوه من صدورهم، أو برفع الكتب العلمية من الأرض " ولكن يقبض العلم بقبض العلماء " أي ولكنه يرفع العلم بموت العلماء " حتى إذا لم يبق عالم " وفي راوية: لم يُبْقِ عالماً، أي إذا مات أهل العلم الحقيقي، ولم يبق هناك أحد منهم، وصل الجهلاء إلى المراكز العلمية التي لا يستحقونها من تدريس وإفتاء ونحوه، " واتخذ الناس رؤوساً جهالاً " أي وجعل الناس من الجهلاء وأدعياء العلم علماء يسألونهم كما جاء في رواية أخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اتخذ الناس رؤساء جهالاً " " فسئلوا " عن الحلال والحرام وأحكام العبادة والمعاملة " فأفتوا بغير علم " أي فأفتوا الناس على جهل، فأحلوا الحرام وحرّموا الحلال، " فضلوا " في ذات أنفسهم عن الحق " وأضلوا " من اتبعهم وأخذوا بفتواهم من عامة الناس. الحديث: أخرجه الخمسة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من الجرأة على الفتوى بغير علم، لما في ذلك من إضلال الناس، فإن المفتي الجاهل يتحمل وزر من أضلّه، بالإِضافة إلى وزره هو، ويدخل في مصداق قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم). ثانياًً: تحذير ولاة الأمور من تعيين الجهلاء في المناصب الدينية لهذا الحديث، وقد قال محمد بن سيرين من التابعين: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ". ثالثاً: أن موت العالم خسارة عظيمة، لأنَّ العلم يرفع بموت العلماء. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 62 - " بَابٌ هَلْ يَجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمَاً عَلَى حِدَةٍ في الْعِلْمِ " 77 - عَن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتِ "النِّسَاءُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فاجْعَلْ لَنَا يَوْمَاً مِنْ نَفْسِكَ، فوَعَدَهُنَّ يَوْماً لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ، وأمَرَهُنَّ فكَانَ فيما قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرأةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَاباً مِنَ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرأةٌ فيْهُنَّ: واثْنَيْنِ؟ فَقَال: واثْنَيْنِ.   62 - "باب هل يجعل للنساء يوماً على حدة في العلم " 77 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد رضي الله عنه " قالت النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلبنا عليك الرجال " أي شغلك عنا الرجال الوقت كله، فأصبحنا لا نجد وقتاً نلقاك فيه ونسألك عن ديننا، لملازمتهم لك سائر اليوم " فاجعل فما يوماً من نفسك " أي فاجعل لنا يوماً خاصاً نلقاك فيه ونأخذ عنك العلم " فوعدهن يوماً " أي فخصص النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً معيناً " فكان فيما قال لهن " في ذلك اليوم " ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها " أي ليسِ منكن امرأة يموت لها ثلاثة من أولادها ذكوراً أو إناثاً فتقدمهم للدار الآخرة قبلها " إلاّ كان لها حجاباً " أي إلاّ كان مصابها فيهم وقاية لها من النار " فقالت امرأة منهن: واثنين؟ فقال: واثنين " أي وكذلك من تقدم اثنين. ويستفاد منه مما يأتي: أولاً: عظم أجر المصيبة في الولد، وكونه لا جزاء لها إلاّ الجنة، فمن فقد ثلاثة أو اثنين وصبر نجا من النار بنص هذا الحديث وكذلك من فقد واحداً، لما جاء في حديث أبي هريرة في الرقاق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احْتسبه إلاّ الجنة. ثانياًً: أنه ينبغى للعالم أن يجعل يوماً للنساء، إذا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 63 - " بَابُ مَنْ سَمِعَ شَيْئَاً فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ " 78 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ (1): " مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها: أوَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيراً) فقال: " إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلَكَ ".   يترتب على ذلك مفسدة، كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " فوعدهن يوماً ". 63 - " باب من سمع شيئاً فراجعه حتى يعرفه " 78 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من حوسب عذب " أي أن كل من حاسبه الله يوم القيامة فلا بد أن يناله شيء من العذاب، لأن الحساب إنما هو مناقشة للعبد في أخطائه، وتوقيفه على جميع ذنوبه، واستقصاء لكل سيئاته، وللعذاب معنيان: أحدهما: نفس المناقشة والثاني ما يفضي إليه من دخول النار. " قالت " عائشة رضي الله عنها: " أوليس يقول الله عز وجل (فسوف يحاسب حساباً يسيراً) " أي فكيف تقول " من حوسب عذب " وقد قال تعالى: (فأمّا من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً) " فقال: إنما ذلك العرْض " بسكون الراء أي إنما ذلك الحساب اليسير شيء آخر وهو العرض، ومعناه تذكير المؤمن على انفراد بأخطائه مع تطمينه بالعفو عنه، كما في الصحيح " إن الله يدني عليه كنفه - أي ستره ويقول له: فعلت كذا وكذا - ثم يطمئنه   (1) اعتمدت في اختصار هذا الحديث على مختصر البخاري المسمى " بالتجريد الصريح " للزبيدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 64 - " بَاب لِيُبْلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الغائِبُ " 79 - عَن أبي شُرَيْحٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ يَقُولُ قَولاً سَمِعَتْهُ أذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ (1) حِيْنَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ   بعد هذا العتاب الرقيق فيقول له: سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفر لك اليوم " ولكن من نوقش الحساب يهلك " أي يعذب لا محالة ويتعرض للهلاك ودخول النار. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من حق طالب العلم أن يسأل فيما اشكل عليه، وأن يراجع كما فعلت عائشة رضي الله عنها، وعلى العالم أن يقابل مراجعته برحابة صدر، وأن يجيبه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: أن الحساب نوعان، حساب مناقشة وهو عسير وشديد، ولا يخلو من العذاب، وحساب عرض ومعاتبة، وهو حساب يسير لا عذاب فيه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قول عائشة يقول الله: (فسوف يحاسب حساباً يسيراً). 64 - " باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب " 79 - ترجمة راوى الحديث: هو أبو شريح بفتح الراء خويلد بن عمرو الخزاعي، أسلم رضي الله عنه قبل فتح مكة، وكان من عقلاء المدينة، وذوي الرأي فيها، روى عشرين حديثاً اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديث. توفي سنة ثمان وثمانين من الهجرة. معنى الحديث: يقول أبو شريح رضي الله عنه: "سمعت رسول الله   (1) أي وشاهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيني وهو ينطق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَماً، ولا يَعْضِدَ بهَا شَجَرَةً، فإن أحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقولُوا: إنَّ اللهَ قَدْ أذنَ لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَأذَنْ لَكُمْ، وِإنَّمَا أذنَ لي فيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بالأمْس، وَلِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ".   - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح يقول قولاً سمعته أذناي، ووعاه قلبي " أي سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً تلقيته منه بإنصات كامل وعناية تامة، وقلب حاضر، حفظه ورسخ فيه، وحواه كما يحوي الوعاء مما وضع فيه، وذلك لما لهذا القول من الأهمية البالغة. " حمد الله " أي استهل النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه هذا أو خطبته البليغة بالثناء على الله تعالى " ثم قال: إن مكة حرّمها الله تعالى " أي حرمها بنفسه، وفي محكم كتابه حيث قال في سورة الحج: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء) وقال أيضاً: (قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) " فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً " أي لا يجوز فيها القتال وإراقة الدماء، ولا يحل للمؤمن أن يفعل ذلك " ولا يعضد بها شجرة " بفتح الياء وسكون العين وكسر الضاد أي ولا يقطع فيها شجرة من الأشجار البرية التي تنبت بنفسها، " فإن أحدٌ ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فإن استباح أحد القتال في مكة مستدلاً على ذلك بقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها يوم الفتح " فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله - صلى الله عليه وسلم - " أي فقولوا له لا حجة لك في قتال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة، لأن قتاله هذا كان رخصة استثنائية خاصة به - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله قد أحل له القتال فيها ذلك اليوم، وأذن له فيه " ولم يأذن لكم " أي ولم يحل لكم القتال فيها أبداً " إنما أذن لي " بالقتال فيها " ساعة من نهار " أي في وقت محدود وجزء معين من يوم الفتح، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 من طلوع الشمس إلى العصر. كما في حديث ابن عمر. " وليبلغ الشاهد الغائب " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من حضر ذلك المجلس أن يبلغ حديثه هذا لمن غاب عنه، ويرويه لغيره حتى يصل إلى مسامع أكبر عدد ممكن من المسلمين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب تبليغ الدعوة، ورواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه للناس. قال ابن بطال: إن كان من خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ العلم ممن كان في زمنه، فالتبليغ عليه متعين - أي فرض عين، يجب على كل من سمع حديثاً منه أن يرويه لغيره، وأمّا من كان بعده فالتعليم عليهم فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. فالحديث أصل في رواية السنة وتبليغها، وإن لم يكن المحدث عالماً بشرحها، فقيهاً في معانيها وأحكامها، لأن المحدث لا يلزم منه أن يكون فقيهاً، ولكن عليه أن يروي الأحاديث التي حفظها لغيره، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ربَّ مبلَّغ أوعى من سامع " وقال في حديث آخر: " رب حامل فقه ليس بفقيه " فإن جمع المحدث بين الرواية والفقه فهو نور على نور. ثانياً: تحريم القتال في مكة، وسفك الدماء فيها، وقطع أشجارها، والاصطياد من صيدها، وسيأتي إيضاح ذلك. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليبلغ الشاهد الغائب "، وإن شئت قلت: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 65 - " بَابُ إِثْمَ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " 85 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلجَ النَّارَ".   65 - " باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - " 80 - ترجمة راوي الحديث: هو الإِمام علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، الخليفة الراشد، أمير المؤمنين رضي الله عنه، وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوجٍ ابنته فاطمة رضي لله عنها أمُّهُ فاطمة بنت أسد، أول هاشمية ولدت هاشمياً، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت أخي في الدنيا والآخرة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأول خليفة هاشمي، وهو أول من أسلم من الصبيان، ولد قبل البعثة بعشر سنين وتربى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، وشهد المشاهد كلها إلاّ تبوك، حيث استخلفه - صلى الله عليه وسلم - على المدينة، وكان فارس الإسلام، وأحد الشجعان المعدودين، بارز " مرحب " يوم خيبر وقتله، وتم الفتح على يديه، ولي الخلافة سنة خمس وثلاثين هـ بعد عثمان رضي الله عنه، واغتاله عبد الرحمن بن ملجم، حيث ضربه الخبيث بسيفه ضربة قاتلة وصلت إلى دماغه، فتوفي منها ليلة الأحد التاسع عشر من رمضان سنة أربعين من الهجرة. روى (586) حديثاً اتفقا منها على عشرين وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر حديثاً رضي الله عنه. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تكذبوا عليّ " أي لا تنسبوا إليّ أيَّ حديث لم يصدر عني، ولا تخبروا عني بخلاف الواقع، فتقولوا: قال، أو فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً لم أقله ولم أفعله، ولا تفتروا علي بالأحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 81 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَن يَقُلْ عَلَىَّ مَا لَمَْ أقُل فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ".   الموضوعة سواء كان ذلك في الخير أو الشر، بسوء نية أو بحسن نية، " فإن من كذّب علي "عامداً متعمداً " فليلج النار " فقد وجب عليه دخول النار، وأمر الله ملائكته بإدخاله إليها، ومتى صدر الأمر الإِلهي بشيءٍ فهو واجب الوقوع، نافذ المفعول لا محالة. قال الحافظ: أو هو بلفظ الأمر، ومعناه الخبر ويؤيده رواية مسلم بلفظ: من يكذب عليَّ يلج النار، فلا بد له من النار ما لم يغفر الله له. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 81 - ترجمة راوي الحديث: هو " سلمة " بفتح السين واللام ابن الأكوع الأسلمي المدني شهد بيعة الرضوان، وكان شجاعاً رامياً عدّاءً يسبق الخيل، قال رضي الله عنه: رأيت الذئب قد أخذ ظبياً فطلبته حتى نزعته منه فقال: ويحك مالك عمدت إلى رزق رزقنيه الله تعالى ليس من مالك تنتزعه مني فقلت: يا عباد الله إن هذا لعجب! ذئب يتكلم، فقال: أعجب منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله وتأبون إلّا عبادة الأوثان، فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت (1) روى (77) حديثاً اتفقا منها على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، وتوفي بالمدينة سنة أربع وسبعين هـ.   (1) ذكر قصة سلمة بن الأكواع هذه ابن عبد البر في الاستيعاب عن ابن إسحاق، وأجدها عند ابن إسحاق عن سلمة وإنما عن راعٍ من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رقم (432) و (435) وقد رواها أحمد في المسند (3/ 83 و84) والحاكم في المستدرك (3/ 467 و468) من حديث أبي سعيد الخدري عن راعٍ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وهو كما قالاه. (ع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 82 - عَنْ أبِي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "تَسَمَّوْا بِاسْمِي، ولا تَكْتَنوا بِكنْيَتي، وَمَنْ رَآنِي في الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فإِنَّ الشيطَانَ لَا يَتَمَثَّل في صورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَأ مَقْعَدَه مِنَ النّارِ".   معنى الحديث: يقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يقل علي ما لم أقل " أي من ينسب إليّ قولاً لم أقله، أو فعلاً لم أفعله " فليتبوأ مقعده من النار " أي فليستعد لدخول النار التي اتخذ لنفسه فيها منزلاً. الحديث: أخرجه البخاري. وهو أول حديث ثلاثي وقع في صحيح البخاري. وسنده هكذا: حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: تحريم الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، وهو كبيرة باتفاق أهل العلم، وقد ذهب أحمد والحُمَيدي وابن الصّلاح إلى أنّه لو كذب في حديث واحد، فسق، ولم تقبل توبته، والمختار كما قال النووي: قبول توبته. والصحيح أنه كبيرة مطلقاً سواء كان في الأحكام أو في الترغيب أو الترهيب ولا يبرره حسن النية والقصد، بأن يقال: فعلت ذلك للدعوة إلى الخير، فإن في الأحاديث الصحيحة ما يغني عن الأحاديث الموضوعة. ثانياًً: أنه يجب على راوي الحديث أن يعرف من النحو ما يمكّنه من النطق الصحيح، قال الأصمعي: أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - " من كذب علي متعمداً ". مطابقة: الحديثين للترجمة في قوله: " فليلج النار " وقوله " فليتبوأ مقعده من النار ". 82 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي " أي لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي للشخص الواحد، فيقال له: محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 66 - " بَابُ كتَابَةِ الْعِلْمِ " 83 - عَنْ هَمَّام بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أخيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَقُولُ: " مَا مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً عَنْهُ مِنِّي إِلَا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو، فإِنَّهُ كَانَ يَكْتُب وَلَا أكتُبُ ".   أبو القاسم. " ومن رآني في المنام فقد رآني " وفي رواية فقد رأى الحق - أي فإن رؤيته هذه رؤية صادقة صحيحة " فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " أي لا يقدر على التشكل بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنّه قد حيل بينه وبين ذلك. وبقية الحديث تقدم شرحه. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تحريم الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم. ثانياًً: النهي عن التكني بكنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال الشافعى: ليس لأحد أن يتكنّى بأبي القاسم سواء اسمه محمد أم لا، وقيل: لا يجمع بينهما، والجمهور على أنّ النهي منسوخ، وأنه كان في وقت حياته - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام حق، لأن الشيطان لا قدرة له على التشكل بصورته - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الملائكة والأنبياء، ولكن متى يقال رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام؟ ومتى يعتبر أن الذي رآه هو النبي - صلى الله عليه وسلم - هناك علامة واضحة تدل على ذلك، قال العيني وضعوا لرؤيته - صلى الله عليه وسلم - ميزاناً، وقالوا رؤيته - صلى الله عليه وسلم - هي أن يراه الرائي بصورة شبيهة بصورته الثابتة بالنقل الصحيح، فلو رآه في صورة مخالفة لصورته التي كان عليها في الحس لم يكن رآه - صلى الله عليه وسلم -. مثل أن يراه طويلاً أو قصيراً جداً أو شديد السُّمرة ونحو ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " فليتبوأ مقعده من النار ". 66 - " باب كتابة العلم " 83 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 84 - عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ، قَالَ: ائتونِي بِكِتَابٍ أكتُبْ لَكُمْ كِتَابَاً   أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثاً عنه منّي" أي لا يوجد أحد من الصحابة روى من الأحاديث أكثر مني " إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب " وهو استثناء منقطع، تقديره لكن الذي كان من عبد الله بن عمرو، وهو الكتابة، لم يكن مني فالخبر محذوف بقرينة السياق، سواء لزم منه كونه أكثر حديثاً لما تقتضيه عادة الملازمة مع الكتابة أمْ لا، والمعنى، لكن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يمتاز عنّي وينفرد دوني بالكتابة فيكتب ما يسمعه، ولا أكتب شيئاً. وقال القسطلاني: ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً فكأنه قال: ما أحدٌ حديثه أكثر مني إلّا أحاديث حصلت من عبد الله. والمطابقة: في قوله: " فإنه كان يكتب ولا اكتب ". الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية كتابة الحديث وتدوينه، لأن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكتبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقره - صلى الله عليه وسلم - على كتابته، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة شرعية على مشروعية ما يقر. ثانياًً: يقول أبو هريرة: إن عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر منه حديثاً مع أن الموجود من أحاديثه أقل، وذلك لأنه سكن مصر والواردون عليها قليل بالنسبة إلى المدينة التي سكنها أبو هريرة. 84 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه " أي اشتدت عليه آلام الحمى في مرضه الأخير الذي توفي فيه، " فقال: اتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً " هكذ الرواية بجزم " أكتب " لوقوعه في جواب الطلب. أي أحضروا لدي أدوات الكتابة من قلم وقرطاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 لا تَضِلوا بَعْدَهُ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا، فاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغْطُ، قَالَ: قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَنّاَزُعُ".   ونحوه لكي آمر بعض أصحابي بتحرير كتاب هام " لن تضلوا بعده " يعني لكي يكون هذا الكتاب هادياً لكم إلى الطريق القويم والصراط المستقيم، فلا تميلوا بعده عن جادة الحق ولا تنحرفوا عن منهج الصواب، والظاهر أنّ هذا الكتاب كان يتعلق بأمر الخلافة ومن يليها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعهد فيه لمن يكون بعده خليفة للمسلمين " قال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع " قال ابن الجوزي: إنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة غلبة المرض عليه فيجد المنافقون سبباً إلى الطعن في ذلك المكتوب " وعندنا كتاب الله حسبنا " أي يكفينا كتاب الله، وإنما لم يتمم عمر هذا الكتاب لأمرين: أولهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد غلبه الوجع. وثانيهما: أنه رأى أن أمره - صلى الله عليه وسلم - هذا إنما كان توجيهاً وإرشاداً وليس على سبيل الوجوب. قال ابن عباس رضي الله عنهما " فاختفوا وكثر اللغط " أي كثر الكلام وارتفعت الأصوات " قال قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع " لأن حالته المرضية لم تعد تسمح له بسماع الكلام الكثير والضجيج والأصوات العالية. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية كتابة العلم، لأن ما أراده النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - داخل في ذلك مهما كان مضمونه، سواء كان الكتاب في بيان بعض الأحكام الشرعية، أو في بيان أسماء الخلفاء من بعده. ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصِ لأحد بالخلافة من بعده، ولم يوجد هناك أي نص أو وثيقة شرعية عهد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد أن يكون خليفة عنه بعد وفاته، وإنما تمت الخلافة لأبي بكر عن طريق الانتخاب والشورى وإجماع الصحابة على مبايعته بالخلافة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 67 - " بَابُ تعْلِيمِ الْعِلْمُ وَالْعِظَةِ باللَّيل " 85 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ، مَاذا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنٍ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ أيْقِظُوا صَوَاحِب الْحُجَرِ فَرُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنيا عَارِيةٍ في الآخِرَةِ".   حتى أن علي بن أبي طالب نفسه قد بايعه بالخلافة كما أَجمع على ذلك المؤرخون وأهل السير. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أكتب لكم كتاباً ". 67 - " باب تعليم العلم والعظة بالليل " 85 - ترجمة راوية الحديث: وهي أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية المخزومي كانت تحت أبي سلمة رضي الله عنه، وتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته في شوال سنة أربع من الهجرة، فكانت نعم الزوجة الصالحة، روت ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثاً، اتفقا منها على ثلاثة وعشرين، وهي آخر أمّهات المؤمنين وفاة توفيت بالمدينة سنة 59 هـ. معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها: " استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال: سبحان الله: ماذا أنزل الليلة من الفتن " أي ما أعظم الفتن التي قدر الله في هذه الليلة ظهورها في المستقبل القريب، وأطلع عليها نبيه - صلى الله عليه وسلم - في منامه " وماذا فتح من الخزائن؟ " أي ما أعظم ما قدر الله تعالى أن يفتح لهذه الأمة من خزائن الأرزاق وكنوز الأموال التي تصل إليها عن طريق المغانم والفتوحات شرقاً وغرباً "أيقظوا صواحب الحجر" أي أيقظوا أمّهات المؤمنين لصلاة الليل " فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية الآخرة " أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 68 - " بَابُ السَّمَرِ في العَلْمِ " 86 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ فِي آخِر حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: " أرأيتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأس مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْض أحَد ".   فكم من امرأة تلبس الثياب الشفافة التي لا تستر جسمها وتفتن الرجال بمحاسن جسدها يعاقبها الله في الآخرة بتعريتها من ثيابها فضيحة لها وتشهيراً بها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التعليم والعظة بالليل، لأنه - صلى الله عليه وسلم - وعظ نساءه فيه. ثانياًً: مشروعية الذكر والتسبيح عند التعجب من شيء أو الخوف منه، كأن يقول: لا إله إلاّ الله، أو الله أكبر، أو سبحان الله، وهو الأكثر. الحديث: أخرجه الترمذي أيضاً. والمطابقة: في قوله " ماذا أنزل الليلة من الفتن ". 68 - " باب السمر في العلم " 86 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء في آخر حياته " أي قبل وفاته بشهر، " فلما سلّم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدٌ " أي فلما سلم - صلى الله عليه وسلم - خطب فينا خطبة قال فيها ما معناه: لقد رأيتم هذه الليلة التي نعيشها الآن فاضبطوا تاريخها فإنّها لا تمضي مائة سنة بعدها إلاّ وينقرض هذا الجيل الموجود من الصحابة، هذا ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديثه هذا، كما فهم ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: " إنما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تخرم ذلك القرن " أي أن ذلك الجيل ينقرض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 69 - " بَابُ حِفْظِ الْعِلْمِ " 87 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الناسَ يَقولُونَ أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثَاً، ثُمَّ يَتْلُو (إنَّ الَّذِيْن يَكْتُمُونَ ما أنزلْنَا من البَيناتِ والْهُدَى -   ولا يبقى منه أحد بعد انتهاء المائة الأولى من هجرته - صلى الله عليه وسلم - وليس المراد منه فناء العالم البشري كله. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز السمر في العلم بعد العشاء تعليماً وتعلماً ووعظاً وتأليفاً لأنه - صلى الله عليه وسلم - وعظ أصحابه بعد العشاء بقصر أعمارهم ليجتهدوا في العبادة. ثانياً: مشروعية قيام الواعظ بعد الصلاة مباشرة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - وعظ أصحابه بعد العشاء. 69 - " باب حفظ العلم " 87 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدَّثت حديثاً، ثم يتلو (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة حديثاً ورواية حتى بلغت أحاديثه (5374) فقال الصحابة: أكثر أبو هريرة، فخشي رضي الله عنه أن يداخلهم الشك في صحة أحاديثه، فقال رضي الله عنه: لولا وجود هاتين الآيتين اللتين توعد الله تعالى بهما كاتم العلم باللعنة لما رويت لكم حديثاً واحداً، ولكني أخشى أن تصيبني هذه اللعنة إن أنا كتمت حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 إلى قَوْلِهِ- الرَّحِيمِ) وَإنَّ إخْوانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وإنَّ إخْوَانَنَا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ في أمْوالِهِمْ، وإنَّ أبا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِشِبَعِ بَطْنِهِ، فَيحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ. 88 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أسْمَعُ مِنكَ حَدِيثَاً كَثِيرَاً أنسَاهُ، قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فَبَسَطتهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ، فَضَمَمْتُهُ، فَما نَسِيتُ شَيْئَاً بَعدَهُ".   ثم بين رضي الله عنه السبب الذي ساعده على حفظ هذا العدد الكثير من الأحاديث التي لم يحفظها غيره، وهو ملازمته للنبي أكثر من سواه، فقال: " إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم (1) الصفق في الأسواق " أي كان يشغلهم عن ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمواظبة على حضور مجالسه ممارستهم للبيع والشراء في أسواقهم التجارية " وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم " أي في بساتينهم وحقولهم " وإنّ أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشبع بطنه " أي مكتفياً بقوت يومه " ويحفظ ما لا يحفظون " لدوام ملازمته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " يحفظ ما لا يحفظون ". 88 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه " لكثرته. " قال ابسط رداءك فبسطته فغرف بيديه " أي فضم كفيه وغرف بهما من الفيض الإِلهي   (1) بفتح أوّله وثالثه، وحكي ضم أوله من الرباعي وهو شاذ كما أفاده القسطلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 89 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وِعَاءَيْن، فَأمَّا أحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وأمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ"   " ثم قال: ضمه " إلى صدرك ليحل فيه من ذلك الفيْض الإِلهي المبارك ما يملأه نوراً وقوةً وملكة في حفظ الحديث تحصيله " فضممته فما نسيت شيئاً بعده " وفي رواية فما نسيتُ شيئاً سمعته منه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله " فغرف بيده ثم قال: ضمه فضممته، فما نسيت شيئاً بعده ". 89 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين " (1) أي صنفين مختلفين من العلم " فأما أحدهما " وهو علم الشريعة المتعلق بالعقائد والأحكام " فبثثته " أي نشرته فيكم وبلغته لكم. " وأما الآخر " أي وأما الصنف الآخر " فلو بثثته فيكم قطع هذا البلعوم " (2) أي فلو بلغته وتحدثت به إلى الناس لذبحت ذبح الشاة، والراجح أنّ هذا العلم هو ما يتعلق بأخبار ولاة السوء كيزيد بن معاوية وغيره، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، ويقول: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد، وقد استجيب دعاؤه فمات سنة 59 من الهجرة. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله " حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين ". ويستفاد من أحاديث الباب ما يأتي: أولاً: أن من الأسباب التي تساعد على كثرة حفظ العلم وتحصيله ملازمة العلماء والتفرغ عن الشواغل والانقطاع   (1) قال الحافظ " وعاءين " أي ظرفين أطلق المحل وأراد الحال أي نوعين من العلم. (2) بضم الباء، وكنى به عن القتل كما أفاده القسطلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 70 - " بَابُ الإِنصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ " 90 - عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، فَقَالَ: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض".   للدراسة كما كان أبو هريرة رضي الله عنه يلزم النبي - صلى الله عليه وسلم - لشبع بطنه، فحفظ ما لا يحفظون، وتفوق على غيره. ثانياً: أن من الأسباب التي مكنت أبا هريرة رضي الله عنه من كثرة الحفظ والتحصيل ما ألقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ردائه من ذلك الفيض الإِلهي المبارك. ثالثاً: أن من العلم ما يجب تبليغه وروايته، وهو ما يحتاج الناس إليه من أحكام دينهم ومنه ما لا يجب كأخبار الفتن وأمراء الجور. 70 - " باب الإِنصات للعلماء " 90 - معنى الحديث: يحدثنا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع " بفتح الحاء أي قال في منى يوم النحر في حجة الوداع: عند جمرة العقبة " استنصت الناس " أي مرهم بالإنصات إليّ والاستماع إلى هذا التحذير الخطير الذي أوجهه إليهم بقلب حاضر وأذن واعية " فقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " أي احذروا أن تحملكم العداوة والبغضاء فيما بينكم على استحلال بعضكم دماء بعض، فإنّ المسلم إذا استحل دم أخيه دون سبب شرعي كفر والعياذ بالله تعالى، أما إذا قاتله دون أن يستحل دمه فإنه يكون فاسقاً كافراً بنعمة الأخوة الإِسلامية. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الإنصات إلى العلماء لا سيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 71 - " بَابُ ما يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إذَا سُئِلَ أيُّ النَّاس أعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إلى اللهِ " 91 - عن أبيّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيباً في بني إسْرائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النَّاس أعْلَمُ؟ فَقَالَ: أنَا أعْلَمُ، فَعَتَب اللهُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إلَيْهِ فأوحَى اللهُ إليْهِ أنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَع الْبَحْرَيْن هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ،   إذا كان الحديث مما تمس الحاجة إليه دينياً أو اجتماعياً أو خلقياً، أو يتعلق بمصلحة من مصالح المسلمين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " استنصت الناس ". ثانياً: تحريم القتال بين المسلمين وأقل ما يقال فيه إنه كبيرة، أما إذا استحله فاعله فإنه يكفر كفراً يخرجه عن الملة الإِسلامية والعياذ بالله تعالى. والمطابقة: في قوله " استنصت الناس ". 71 - " باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فَيَكِل العلم إلى الله " 91 - ترجمة الراوي: هو أبي بن كعب النجاري الأنصاري أقرأُ هذه الأمة من أصحاب العقبة الثانية، شهد المشاهد كلها وأثنى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغزارة العلم حيث قال له: " ليهنك العلم أبا المنذر "، وسماه سيِّد الأنصار، وكان من أصحاب الفتيا، توفي سنة ثلاثين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قام موسى النبي خطيباً فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم" لأنه أفضل أنبياء بني إسرائيل، وكلهم تحت شريعته، وقد اصطفاه الله لرسالته، وأنزل عليه التوراة، التي فيها علم كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ؟ فقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتاً في مِكْتَل فإذَا فَقَدْتَهُ فَهُو ثَمَّ، فانْطَلَقَ، وانطَلَقَ بفَتَاهُ يُوشَعَ بْن نُونٍ، وحَمَلا حُوتاً في مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُؤسَهُمَا وَنَامَا، فانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ سَرَباً.   شيء، وكلّمه تكليماً "فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه" أي فلم يرض الله له قوله هذا، ولامه عليه، لعلو قدره لديه، فكان ينبغي له مهما بلغ من العلم ما ينبغي للعالم وهو أن يقول: الله أعلم، فيكل العلم إلى الله تعالى تواضعاً وتأدباً معه عز وجل " فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي " وهو الخضر عليه السلام " في مجمع البحرين " وهو كما قال البقاعي: ملتقى النيل بالبحر الأبيض عند دمياط " هو أعلم منك " وليس المراد أنه أعلم من موسى على الإِطلاق، وإنما هو أعلم منه ببعض الأمور، قال الحافظ: والحق أن المراد بهذا الإِطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص لقوله بعد ذلك: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمك الله لا أعلمه. قال الحافظ: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكاً بهذه القصة، ولم ينظر فيما خص الله به موسى من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة التي فيها علم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى. والخضر وإن كان نبياً فليس برسول باتفاق. والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو فرضنا أنه رسول فرسالة موسى أعظمُ وأمته أكثر، وغاية الخضر أن يكون كواحدٍ من أنبياء بني إسرائيل، وموسى أفضلهم " فقال يا رب وكيف به " أي وكيف أهتدي إليه وأعثر عليه " فقيل له: احمل حوتاً في مكتل " أي في زنبيل " فإذا فقدته فهو ثم " أي فإن الخضر في ذلك المكان الذي تفقد فيه الحوت " فانطلق " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وكانَ لمُوسَى وفتَاهُ عَجَباً، فانطلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهما، فَلمَّا أصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَداءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفرِنَا هذَا نَصَباً، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسَّاً مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمكَانَ الذي أمِرَ به، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أرأيت إذْا أويْنَا إلى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى: ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا علَى آثارِهِمَا قَصَصاً، فلَمَّا انتهَيا إلى الصَّخْرَةِ، إذا رَجُلٌ مُسَجىً بِثَوْبٍ أو قَالَ: تَسَجَّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَّ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وأنَّي بأرْضِكَ السَّلامُ؟ فَقَالَ: أنَا مُوسَى، فقالَ: مُوسَى بني إسْرائِيلَ؟   أي فسار موسى - صلى الله عليه وسلم - بصحبة فتاه يوشع بن نون " حتى إذا كانا عند الصخرة " التي على الساحل " وضعا رؤوسهما فناما، فانسل الحوت فاتخذ سبيله في البحر سرباً " أي فصار الطريق الذي سار فيه الحوت مثل السرب وهو الشق الطويل الذي لا نفاذ له، لأن الله أمسك عن الحوت جري الماء وجمده فانحاز عنه، وصار كالكوة، ولم يلتئم كما كان، " وكان لموسى وفتاه عجباً " أي ورأى موسى وفتاه منظراً عجيباً " فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال موسى (لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) " أي لقد أصبحنا نشعر بالتعب وشدة الجوع بسبب طول سفرنا فأعطنا بعض الطعام " فقال فتاه: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) " أي هل علمت أننا عندما نمنا تحت تلك الصخرة استيقظت أنا، فرأيت الحوت قد دبت فيه الحياة، فانتفض وألقى بنفسه في البحر، وأردت إخبارك بذلك فنسيت " قال موسى: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) " أي هذا ما كنا نريده ونبحث عنه، وتلك هي ضالتنا المنشودة، لأن الرجل الصالح هو في ذلك المكان الذي فقدنا فيه الحوت (فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا) أي فعادا يتتبعان آثارهما " فلما انتهيا إلى الصخرة إذا رجل مسجى بثوب " أي مغطى بثوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 قَالَ: نَعَم، قَالَ: هلْ أتَبِعُكَ على أنْ تُعَلِّمنْي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشداً: قَالَ: إِنَّكَ لنْ تَسْتَطِيعَ معَي صَبراً، يَا مُوسَى إنِّي عَلى عِلم منْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أنتَ، وأنتَ عَلَى عِلْم عَلَّمَكَهُ اللهُ لا أعْلَمُهُ، قَالَ: سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً ولا أعْصِي لَكَ أمْراً.   " فسلم موسى، فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام؟ " أي كيف سمعت منك كلمة السلام، وأهل هذه الأرض لا يعرفونها " فقال: أن موسى، فقال موسى بني إسرائيل؟ قال (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) " أي هل تأذن لي في صحبتك لأتعلم منك علماً ينفعني وأسترشد به. (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) قال ابن كثير: أي لا تقدر على مصاحبتى لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك " يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت " أي وإنما لا تستطيع الصبر على مصاحبتي لأني أنفرد بعلم مخالف لعلمك، وهو العلم بهذه الأمور التي أوحى الله تعالى بها إلى الخضر وأطلعه عليها، وخصه بها دون موسى (1) والتي من ضمنها علمه بذلك الملِك الذي يغتصب السفن البحرية، والغلام الذي طبع كافراً وبالغلامين اليتيمين اللذين كان أبوهما صالحاً وبالكنز الذي لهما المدفون تحت الجدار " وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه " أي وأنت على علم انفردت به عني لا أعلم منه شيئاً، وهو العلم بالشريعة وبالكتاب الذي أنزل عليك. واختلف أهل العلم في علم الخضر الذي انفرد به عن موسى هل هو علم وحي ونبوة، أم علم فراسة وإلهام وهل هو نبي أم ولي؟ والصحيح أنه نبي، قال في فيض الباري: "الخضر نبي عند الجمهور ليس داخلاً في شريعة موسى. وقال الآلوسي: فيه أقوال ثلاثة فالجمهور على أنه عليه السلام   (1) ويترتب على ذلك أن موسى سيرى من الخضر أموراً غريية ينكرها وهو ما وقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فانْطَلَقَا يمْشِيَانِ علَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ فَمرَّتْ بِهِمَا سَفِينَة فَكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الخِضْرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْل، فجاءَ   نبى وليس برسول، وقيل: هو رسول، وقيل هو ولي، وعليه القشيرى وجماعة، والصحيح ما عليه الجمهور، وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة، وبمجموعها يكاد يحصل اليقين. اهـ. واستدل القائلون بنبوته بقوله كما حكى الله عنه: (وما فعلتة عن أمري) أي وإنما فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى، لأن تنقيص أموال الناس، وإراقة دمائهم لا يكون إلا بنص وأمر إلهي صادر عن وحي سماوي، وذلك للأنبياء خاصة، ولهذا قال العيني: إن قوله: (وما فعلته عن أمري) يدل على أنه فعله بالوحي، فلا يجوز لأحد أن يقتل نفساً لما يتوقع وقوعه منها، لأن الحدود لا تجب إلاّ بعد الوقوع، وكذا الإِخبار عن أخذ الملك السفينة، وعن استخراج الغلامين الكنز، لأنّ هذا كله لا يدرك إلاّ بالوحي. اهـ. قال الآلوسي " وهو أي الاستدلال بهذه الآية الكريمة على نبوة الخضر ظاهر في ذلك، واحتمال أن يكون هناك نبي أمر بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد. ومما اختلف فيه أهل العلم أيضاً مسألة هل الخضر حي الآن أم هو قد مات؟ والصحيح أنه قد مات، فقد سئل البخاري عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان، فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أي قبل وفاته بقليل: " لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ". اهـ والذي في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته: " ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنه وهي يومئذ حية " وهذا أبعد عن التأويل، وسئل شيخ الإِسلام ابن تيميّة عن الخضر فقال: لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "اللهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عُصْفُور فوَقَعَ عَلى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: يا مُوسَى ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلم اللهِ إلا كنَقْرَةِ هذَا الْعُصْفُورِ في البَحْرِ، فَعَمَدَ الخَضْرُ إلى لَوْحٍ مِنْ الوَاحِ السَّفينَةِ فَنزَعَهُ، فَقَالَ موسى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْل عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِم فَخَرَقْتَها لِتُغرِقَ أهْلَهَا، قَالَ: ألَمْ أقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَستَطِيعَ مَعي صَبراً، قَالَ: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسيتُ، وَلا ترهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْراً، فَكَانَتِ الأولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً، فانْطَلَقَا فإذا غُلَام يَلعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ   إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين الخضر حينئذ اهـ (قال ستجدني إن شاء الله صابراً) على ملازمتك " فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما فعرف الخضر فحملوهما بغير نول) أي بغير أجرة " قال فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة " أي فنزل على طرفها " فقال الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ كنقرة هذا العصفور في البحر " وليس النقص هنا على حقيقته، لأن علم الله لا ينقصه شيء، وإنما المراد أن علمي وعلمك بالنسبة إلى العلم الإِلهي كنسبة قطرة الماء إلى هذا البحر، وهذا التشبيه أيضاً ليس على حقيقته وإنما المراد به التوضيح والتقريب للأذهان " فعمد " بفتح العين " الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه " أي فلما بلغت السفينة لجج البحر عَمدَ الخضر إليها بيده عمداً، فاقتلع بفأسه لوحاً أو لوحين من جهة البحر، ولكن الماء لم يدخلها " فقال موسى: قوم حملونا بغير نول " أي بدون أجرة " عمدت " بفتحٍ الميم " إلى سفينتهم فخرقتها " أي مددت يدك إلى سفينتهم، فخرقتها عمداً " لتغرق أهلها " أي ألا تعْلم أن خرقك لهذه السفينة يؤدي إلى دخول الماء إليها فيكون نتيجة فعلك هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 أعلَاهُ فاقْتَلَعَ رَأسَهُ بيده، فقالَ مُوسَى: أقَتَلْتَ نفْساً زكِيَّةً بغَيْر نَفْسٍ؟ قال: ألم اقُل لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً - قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أوكَدُ - فانْطَلَقَا حتَّى إذَا اتيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أهْلَهَا فأبَوْا أنْ   وعاقبته (1) إغراق السفينة بمن فيها. (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً) أي قال الخضر لموسى مذكِّراً له بما قاله له سابقاً: ألم أقل لك إنك لا تقدر على مصاحبتي لأنك لا تطيق السكوت على ما تراه مني من أمور غريبة (قال لا تؤاخذني بما نسيت) أي فاعتذر موسى للعبد الصالح وقال له: لا تلمني على سؤالي هذا، فإنما سألتك ناسياً وغافلاً عن الوعد الذي قطعته لك على نفسي، ولا حرج على الناسي فيما يصدر عنه وقال في الآية التي في سورة الكهف (ولا ترهقني من أمري عُسْراً) أي ولا تشدد علي أثناء مصاحبتي لك بكثرة اللوم والمعاتبة " فانطلقا فإذا بغلام يلعب مع الغلمان " أي فسارا في طريقهما فإذا بهما يجدان صبياً صغيراً لم يبلغ الحلم بعد " فأخذ الخضر برأسه من أعلاه " أي فأمسك الخضر برأس ذلك الصبي " فاقتلع رأسه " أي فانتزع رأسه من جسده " فقال موسى: (أقتلت نفساً زكيَة بغير نفس) " أي فلم يطق موسى صبراً على ما رأى، ووجه إلى الخضر إنكاراً شديداً على فعلته هذه، وقال له: كيف تقتل نفساً بريئة لم تقتل أحداً مع أنها لو قتلت لم تستوجب القتل، لأنها لا تزال صغيرة لم تبلغ الحلم، " وهنا أعاد الخضر على موسى ما سبق أن قاله له بصيغة أقوى وآكد حيث قال له: (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً) فأتى بضمير المخاطب المسبوق بلام الجر لزيادة التأكيد (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل القرية) وهي قرية   (1) فإن اللام في قوله " لتغرق أهلها " ليست للتعْليل لأن الخضر عندما خرق السفينة لم يقصِدْ قطعاً أن يكون فعله هذا سبباً في إغراقها وإهلاك ركابها، ولم يكن موسى يعتقد ذلك، وإنما اللام هنا للعاقبة، لأن موسى أراد أن يقول للخضر إن عاقبة فعلك هذا، والنتيجة الحتمية له هي غراق السفينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 يُضَيِّفُوهُمُا، فَوَجَدَا فيها جِدَاراً يُرِيدُ أن يَنْقَضَّ فأقَامَهُ، قَالَ الْخَضِرُ بِيَده فأقَامَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْراً، قَالَ: هذَا فِرَاقُ بِيْني وَبَيْنكَ. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أمرِهِمَا".   أنطاكية وكانا جائعين. (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) أي فطلبا من أهل تلك القرية الطعام، ولكنهم كانوا بخلاء فشحّوا عليهم (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) أي فامتنعوا عن إطعامهم وضيافتهم (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض) أي فوجدا في تلك القرية جداراً خَرِباً موشكاً على السقوط " قال الخضر بيده فأقامه " قال الطبري (1) ذُكِر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هدمه ثم قعد يبنيه، وعن ابن عباس قال: رفع الجدار بيده فاستقام، ثم قال: والصواب أن صاحب موسى وموسى وجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه صاحب موسى، بمعنى عدل ميله، حتى عاد مستوياً، وجائز أن يكون ذلك بإصلاح بعد هدم، وجائز أن يكون برفع منه له بيده، فاستوى بقدرة الله، وزال عنه ميله بلطفه فقال موسى: (لو شئت لاتخذت عليه أجراً) أي لو أردت أن تأخذ على عملك هذا أجراً لكان من حقك، لا سيما من قوم أشحاء بخلوا علينا ونحن جياع (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي سؤالك هذا هو السؤال الأخير المفِّرق بيننا ثم فسر له هذه الأمور الثلاثة، فقال: أما السفينة فكانت لأناس ضعفاء يعيشون منها وكان هناك ملك ظالم لا يدع سفينة سليمة إلّا اغتصبها، فخرقتها لتنجو منه، وأما الغلام فمطبوع على الكفر وأخشى على والديه أن يحملهما حبهما له على الكفر بالله تعالى. قال الحافظ: فلعل قتل الغلام الذي هو على هذه الحالة جائز في شريعتهم. وأما الجدار فهو لغلامين   (1) تفسير الطبرى ج 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 72 - " بَابُ مَن سأل وهو قائم عالماً جالساً " 92 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   يتيمين تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحاً فأراد الله أن يحفظه لهما، فأقمت ذلك الجدار امتثالاً لأمر ربي " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يَرْحَمُ الله موسى لوددنا لو صبر " أي أحببت وتمنيت لو صبر مع العبد الصالح، ولزمه مدة أكثر " حتى يقص علينا من أمرهما " أي حتى يقص علينا أشياء كثيرة مما وقع لهما. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد منه: فوائد كثيرة: منها. فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، فإن موسى - صلى الله عليه وسلم - رحل مسافات طويلة ولقي النصب في طلبه. ومنها: التأدب مع المعلم، والتلطف في مخاطبته لقول موسى (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً) حيث أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة فاستأذن منه في مصاحبته وأقر أنه يتعلم منه علماً هو في حاجة إليه يستفيد منه ويسترشد به. ومنها: تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، وذلك ليأخذ منه العلم الذي مهر فيه، وان كان دونه في العلم والفضل بدرجات كثيرة، فلا شك أن موسى أفضل من الخضر، ولكن لما كان عند الخضر من هذا العلم الخاص ما ليس عند موسى حرص على التعلم منه (1). ومنها: أنه ينبغي للعالم مهما بلغ من العلم إذا سئل أي الناس أعلم أن يكل العلم إلى الله تواضعاً وتأدباً فيقول: الله أعلم. والمطابقة: في قوله: " فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه تعالى ". 72 - " باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً " 92 - معنى الحديث: يقول أبو موسى رضي الله عنه: "جاء رجل   (1) تفسير للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي القصيمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 جَاءَ رَجُل إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ ما القِتالُ في سَبيلِ اللهِ؟ فَإِنَّ أحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضباً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأسَهُ، قَالَ: وما رَفَعَ إليه رأسَهُ إلَّا أنه كَانَ قائِمَاً فَقَالَ: مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيل واللهِ".   إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما القتال في سبيل الله" أي ما هو الجهاد الصحيح الذي تُنَالُ به الشهادة والفوز بدار الكرامة " فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية " أي فإن البعض يقاتل مدفوعاً بدافع الغضب والرغبة في الانتقام، ويريد أن يثأر من عدوه، والبعض يقاتل أنفةً وغيرة ودفاعاً عن قومه " فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً " أي فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السائل رأسه متهيئاً لإجابته، لأن السائل كان قائماً " فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا " أي من كان غايته ونيته من قتاله أن تصبح كلمة التوحيد هي الكلمة النافذة في هذه الأرض التي لها سلطانها الذي لا يرد، وسيطرتها التي لا تحد " فهو في سبيل الله " أي فهو المجاهد الحقيقي الذي إن قتل نال الشهادة، وإن رجع رجع بأجر وغنيمة. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: إلا أنه كان قائماً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن النية الصالحة شرط لقبول العمل عند الله، فالمقاتل لا ينال الشهادة، ولا يقبل قتاله إلاّ إذا قصد به نصرة الدين، والدفاع عن كلمة التوحيد. ثانياً: أنه يجوز أن يسأل السائل وهو قائم عالماً جالساً لقوله " فرفع إليه رأسه وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائماً " وهو ما ترجم له البخاري. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 73 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) " 93 - عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أنَا أمْشِي مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ علَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَن الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تَسْألوهُ، لا يَجيءُ فيهِ بِشَيءٍ تَكْرَهُونَه، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْألنَّهُ فَقَامَ رَجُل مِنْهُمْ وَقَالَ: يَا أبَا الْقَاسِم! ما الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ إنَّهُ يُوحَى إليْهِ فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).   73 - " باب قول الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) " 93 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه " بينا أنا أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خرب المدينة " بفتح الخاء وكسر الراء، جمع خربة، أي في بعض الأماكن الخربة " وهو يتوكأ على عسيب " أي على عصا من جريد النخل " فمرّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح " أي اسألوه عن الروح ليعجز عن الجواب عنها، فتثيروا - حوله الشكوك والشبهات " وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه " أي لا تسألوه خشية أن يجيبكم بما هو موجود في كتابكم فيخيِّب ظنكم ويقع ما تكرهون " فقال بعضهم لنسألنه " أي والله لنسألنه مهما كانت النتائج " فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت: إنَّهُ يوحى إليه " فعرفت أنه يوحى إليه في تلك الساعة " فلما انجلى عنه " أى فلما انقطع عنه الوحي " قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 74 - " بَابُ مَنْ خصَّ بالْعِلْمِ قَوْماً دُونَ قَوْم كَرَاهية أن لا يَفهَموا " 94 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ علَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: لَبَّيكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: يَا مُعَاذُ، قَالَ: لَبَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاثاً. قَالَ: مَا مِنْ أحَدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَه إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً   أَمْرِ رَبِّي) " أي قل لهم يا محمد إن الروح أمر رباني استأثر الله بعلمه دون سواه (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أي وإن العلم الذي لديكم ليس إلّا شيئاً قليلاً وجزءاً يسيراً لأن علم الإنسان بالغاً ما بلغ، فهو محدود، وعقله أيضاً محدود، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الروح غيب، وسر من أسرار الله القدسية استأثر الله بعلمه، وأودعه بعض مخلوقاته نعرف آثاره، ونجهل حقيقته، وقد وقف هذا الإنسان حسيراً أمام (1) ذلك السر اللطيف لا يدري ما هو: ولا يعرف عنه إلا ما جاء في بعض الأخبار الصحيحة. ثانياً: قلة علم الإنسان وضالته، وأن العقل البشري لا يحيط بكل شيء. 74 - " باب من خص بالعلم قوماً دون قوم " 94 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان معاذ رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي كان راكباً خلفه " على الرحل " وهو كل شيء أعِدَّ   (1) في ظلال القرآن المجلد الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 رَسُولُ اللهِ صِدْقَاً من قَلْبِهِ، إلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أفلَا أخْبِرُ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذَاً يَتَّكِلُوا (1).   للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير، وجمعه أرحل ورحال، كما أفاده في المصباح " قال: يا معاذ بن جبل قال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً " أي ها أنا حاضر بين يديك أجيبك إجابة بعد إجابة وأسعدك إسعاداً بعد إسعاد " قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه " أي لا ينطق أحدٌ بالشهادتين نطقاً مطابقاً لما في قلبه " إلاّ حرمه الله على النار " أي حرم عليه الخلود فيها. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار خلافاً للخوارج لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إلاّ حرمه الله على النار ". فإن أقل ما يدل عليه أن الفاسق لا يخلد في النار. ثانياً: أن من العلم ما يعطى لعامة الناس، ومنه ما يعطى للخاصة فقط كما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصّ بهذا الحديث معاذاً، فدل ذلك على أن من العلم ما لا يقال إلاّ لأهله ممن يتوفر فيهم الذكاء والفهم الصحيح، ولا يُحدِّث به من لا يفهمه، وقد قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله. مطابقة الحديث للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - خص معاذاً بهذا الحديث. ...   (1) أي يعتمدون على مجرد الشهادتين، ويتركون العمل وهو جزء من الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 75 - " بَابُ الْحَيَاءِ في الْعِلْمِ " 95 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أمُّ سُلَيْم رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ اللهَ لَا يَستحييَ مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرأةِ مِنْ غُسْل إذا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا رَأتِ الْمَاءَ، فَغَطَّتْ أمّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَها، وقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرأةُ؟ قَالَ: نَعَمْ تَرِبتَ يَمِينُكِ، فبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا".   75 - " باب الحياء العلم " 95 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها " جاءت أم سليم رضي الله عنها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن الله لا يستحي من الحق ". وهو مقتبس من قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) وإنما قالت ذلك تمهيداً لما تريد أن تطرحه من سؤال يستحي منه النساء، لعلاقته بالحياة الجنسية، ومعنى قولها هذا أنه لا حياء في العلم والدين، ولا في السؤال عما يتعلق به ولو كان في المسائل المتعلقة بالجنس. ثم قالت: " فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت " أي هل عليها غسل إذا رأت الجماع في نومها " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأت الماء " أي نعم يجب عليها الغسل إذا رأت المني في ثوبها " فغطت أمُّ سلمة تعني وجهها " حياءً وخجلاً " فقالت: يا رسول الله وتحتلم المرأة " أى هل تحتلم وتنزل المني كالرجل " قال: نعم " تحتلم وتنزل مثل الرجل " تربت يمينك " ومعناها في الأصل التصقت بالتراب، وهو غير مقصود، ولكنها كلمة جارية على اللسان، ولا يقصد بها الدعاء على المخاطب كما أفاده القسطلاني " فيم يُشبهها ولدها " أي فلماذا يشبهها ولدها لو لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 76 - "بَابُ من استحيا فأمر غيره بالسؤال " 96 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فأمَرْتُ الْمِقْدَادَ أن يَسْأل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَألهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ.   لها ماء، وسيأتي تفصيله في موضعه. الحديث: أخرجه الخمسة أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا حياء في طلب العلم والسؤال عن الدين لأنه حق. ثانياً: أن للمرأة ماء، ومنه يكون الشبه بالأم. والمطابقة: في قولها " إن الله لا يستحيي من الحق، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها ". 76 - "باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال " 96 - معنى الحديث: يقول علي رضي الله عنه " كنت رجلاً مذاءً " صيغة مبالغة، أي كثير المذي وذلك بسبب صحته وقوة جسمه " فأمرت المقداد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعني أن يسأله عن حكم المذي، وماذا يجب فيه، لأنه رضي الله عنه استحيا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال، وابنتُهُ تحتهُ " فسأله المقداد " نيابة عن علي رضي الله عنه " فقال: فيه الوضوء " أي يجب فيه الوضوء بعد غسل الفرج أولاً، لإزالة أثره، لأنه نجس. ويستفاد منه: أولاً: أن المذي يوجب الوضوء مع غسل الذكر، وهو مذهب الجمهور حيث قالوا يجب منه الوضوء مطلقاً. وقال مالك: لا يجب منه الوضوء إلَّا إذا كان عن ملاعبة. ثانياً: مشروعية الإنابة في السؤال والاستفتاء إذا استحيا من مباشرة ذلك بنفسه وهو ما ترجم له البخاري، وكذلك إذا كان عذر آخر يمنعه من السؤال، فإنه يقاس ذلك على الحياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 77 - " بَابُ ذِكْرِ العِلْمِ وَالْفُتْيَا في الْمَسْجِدِ " 97 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَجُلاً قَامَ في الْمَسْجِدِ فقَالَ: يَا رَسُولَ الله مِنْ أيْنَ تَأمُرنَا أن نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يُهِلُّ أهْلُ الْمَدِيْنَةِ من ذِى الحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أهْلُ الشَّامِ من الجُحْفَةِ، وَيُهِلّ أهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ " وَقَالَ ابْنِ عُمَرَ: يَزعُمُونَ   الحديث. أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد والطبراني والطحاوى كما أخرجه البخاري في هذا الباب. مطابقته للترجمة: في كون علي أناب المقداد عنه في السؤال عن المذي لمَّا استحيا أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه لكون ابنته تحته، كما جاء في رواية أخرى عن علي أنه قال: كنت رجلاً مذاءً، فأمرت عمار بن ياسر أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل ابنته عندي فقال يكفي من ذلك الوضوء، وفي رواية أخرى عن عمار: يغسل مذاكيره ويتوضأ أخرجه النسائي. وفي رواية عن المقداد: ليغسل ذكره وأنثييه أخرجه أبو داود. 77 - " باب ذكر العلم والفتيا في المسجد " 97 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رجلاً قام في المسجد فقال: يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل؟ " أي من أي مكان تأمرنا أن نحرم بالحج والعمرة، ونرفع أصواتنا بالتلبية " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة " أي يحرم أهل المدينة وكل من أتى عليها من ذي الحليفة ويبدؤون التلبية من عندها. " ويهل أهل الشام من الجحفة " وهي قرية بالقرب من رابغ محددة بأعلام وضعتها الدولة. " ويهل أهل نجد من قَرْن " بفتح القاف وسكون الراء أي من قرن المنازل "قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: وَيُهِلُّ أهْلُ الْيَمَن مِنْ يَلَمْلَمَ، وكانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. 78 - " بَابُ منْ أجَابَ السّائِل بأكثر مِمَّا سَألِهِ " 98 - عَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهمَا عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رَجُلاً سألهُ مَا يَلْبَسُ الْمحْرِم؟ فَقَالَ: "لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ   ابن عمر: ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أي ويقول بعض الصحابة إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ويهل أهل اليمن من يلملم " وهو جبل في جنوب مكة على مرحلتين منها وفيه دليل على إطلاق الزعم على القول المحقق لأن ابن عمر سمع ذلك من رسول الله، لكنه لم يفهمه. " وكان ابن عمر يقول: لم أفقه هذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي لم أفقه هذه الجملة الأخيرة فصار يرويها عن غيره، لشدة تحريه وورعه. ويستفاد منه: أولاً: مشروعية الفتيا في المسجد، لأن هذا السؤال والجواب قد وقعا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان هذا المسجد الشريف مركز العلم والفتيا لي الفقه والتشريع في الإِسلام بالإضافة إلى كونه مركز القيادة العسكرية والحربية والسياسية والاقتصادية، إلى غير ذلك. ثانياً: بيان المواقيت المكانية للحج، وسيأتي تفصيلها في موضعها. الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود أيضاً. مطابقته للترجمة: في كون هذه الفتيا وقعت في المسجد الشريف. 78 - " باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله " 98 - معنى الحديث: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الألبسة التي يجوز للمحرم أن يلبسها ولما كانت كثيرة يصعب حصرها وعدها، ترك النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ولا الْعِمَامَةَ ولا السَّرَاوِيلَ ولا البُرْنُسَ ولا ثَوْبَاً مَسَّهُ الوَرْسُ أو الزَّعْفَرَانُ، فإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حتى يكونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنَ".   - صلى الله عليه وسلم - الإِجابة عليها وأجاب السائل عن الألبسة المحظورة على المحرم، لأنها محدودة معدودة: وهذا من الأسلوب الحكيم " قال: لا يلبس القميص ولا عمامة ولا السراويل ولا البرنس " وهو لباس مغربي معروف، فأما العمامة فلا يلبسها لأنها محيط، وأما بقية الأشياء المذكورة فإنها تحرم لأنها مخيط والله أعلم " ولا ثوباً مسه الوَرْس " (1) أي ويحرم الثوب الذي أصابه الورس وهو نبت طيب الرائحة " والزعفران " لأنه من الطيب، وهو محرّم على المحرم. ثم ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز لبس الخفين للمحرم بعد قطع أعلاهما إذا لم يجد النعلين بقوله: " فإن لم يجد النعْلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين " أي فيجوز له لبس الخفّين وليقطعهما من أعلاهما حتى يكشفا عن الكعبين، وهكذا فقد أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من سؤاله. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز إجابة السائل بأكثر من سؤاله إتماماً للفائدة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاد في الجواب عن السؤال حيث بين للسائل حكم من لم يجد النعلين وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: بيان محظورات الإِحرام وسيأتي تفصيلها في موضعها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين ... إلخ. ...   (1) الورس بفتح الواو وسكون الراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بسم الله الرحمن الرحيم " كِتَابُ الوُضُوءِ " 79 - " بَاب لا تقْبَلُ صَلَاة بِغيْرِ طُهُورٍ " 99 - عن أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أحْدَثَ حتَّى يَتَوَضَّأ " قَالَ رَجلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: ما الْحَدَثُ يا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ، أو ضُرَاطٌ.   " كتاب الوضوء " 79 - " باب لا تقبل صلاة بغير طهور " 99 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقبل (1) صلاة من أحدث حتى يتوضأ " أي لا تصح صلاة من أحدث حدثاً أصغر حتى يتوضأ لها وضوءًا جديداً. " قال رجل من حضرموت: ما الحدث يا أبا هريرة، قال: فساء أو ضراط " أي فسئل أبو هريرة عن الحدث الموجب للوضوء فأجاب بأنه الحدث الأصغر، وهو الخارج من السبيلين، ومثَّل له بالفساء والضراط، ومنه أيضاً البول والغائط، والمذي والودي.   (1) لا تقبَل بضم أوله وبنائه للمجهول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 80 - " بَابُ الْوضوءِ وَالْغرُّ الْمحَجَّلونَ مِنْ آثارِ الْوضوءِ " 100 - عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: " إنَّ أمَّتِي يُدْعَوْنَ يَومَ الْقِيَامَةِ غُرَّاً محَجّلِينَ منْ آثارِ الْوُضوءِ، فمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أنْ يطِيلَ غرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ "   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الوضوء شرط في صحة الصلاة على كل محدث حدثاً أصغر، وينوب عنه التيمم لعذر. ثانياً: أن الحدث الأصغر الموجب للوضوء هو الخارج من السبيلين كالفساء والضراط مثلاً، وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي. واختلفوا فيما يخرج من غير السبيلين. فذهب أحمد وأبو حنيفة إلى أن كل نجاسة خرجت من الجسد يجب منها الوضوء، سواء كانت من المخرجين أو من غيرهما كالدم والقيء إلاّ البلغم عند أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى وجوب الوضوء من كل ما خرج من المخرجين ولو غير معتاد كالدم والحصا، سواء خرج على وجه الصحة أو المرض، وقال مالك: لا يجب الوضوء إلاّ من الخارج المعتاد من المخرج المعتاد على سبيل الصحة والاعتياد، فلم يوجب الوضوء في سلس البول لأنه لم يخرج على سبيل الصحة، ولا في الدود والحصا، لأنه غير معتاد، ولا في الدم لأنه من غير المخرجين. والمطابقة: في قوله لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. 80 - " باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء " 100 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة " أي أن هذه الأمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المحمدية ينادون يوم القيامة عند الحوض ليشربوا منه شربة لا يظمئون بعدها أبداً، وإنما ينادون أمام الناس تنويهاً بشأنهم، وإشادة بفضلهم " غراً محجلين من آثار الوضوء " والغرة في الأصل بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في قوائمه، وهما في محل نصب على الحال. " والمعنى " أنهم ينادون عند الحوض المورود، وقد أشرقت أنوار الوضوء على جباههم وأيديهم وأرجلهم تشريفاً وتكريماً لهم في ذلك الموقف العظيم " فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل " أي فمن تمكن من إسباغ الوضوء على المكاره، فليحرص على ذلك أشد الحرص، ليزيد من نوره يوم القيامة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب تطويل الغرة (1) وقد اختلف فيه أهل العلم فقال بعضهم: هو الزيادة على محل الفرض، بغسل ما فوق المرفقين والكعبين، وهو مذهب ابن عمر وأبي هريرة وبعض الشافعية. والجمهور على أن تطويل الغرة هو إسباغ الوضوء - أي إتقانه وإتمامه، وكرهوا الزيادة على محل الفرض. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم " ونقل ابن تيمية عن جمع من الحفاظ أن قوله " فمن استطاع منكم أن يطيل غرته " مدرج من أبي هريرة، وكذلك أفاد كلام الحافظ ابن حجر في " الفتح ". ثانياً: فضل الوضوء، لأنّ هذه الأنوار التي تتلألأ على جباه المؤمنين وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة إنما هي من آثار الوضوء كما نص عليه الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. ...   (1) لأنها سبب في تنوير جباه هذه الأمة وأيديهم وأرجلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 81 - " بَاب لَا يَتَوَضَّأ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ " 101 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدَ بْنِ عَاصِم المَازِنيّ الأنْصَارِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ شَكَا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَ الذي يُخَيَّلُ إليْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيءَ في الصَّلَاةِ، فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلُ أو لا يَنْصَرِفْ حتَّى يَسْمَعَ صَوْتَاً أو يَجِدَ رِيحاً".   81 - " باب لا يتوضأ من الشك " 101 - ترجمة راوي الحديث: هو عبد الله بن زيد بن عاصم الخزرجي الأنصاري اتفق البخاري ومسلم على رواية ثمانية. أحاديث عنه، قتل شهيداً يوم الحرة سنة 67 هـ. معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن زيد، رضي الله عنه " أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة " أي شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الرجل الذي يحس أثناء الصلاة كأن شيئاً قد خرج منه، ويشك في خروج الريح منه أثناء ذلك، ما حكمه؟ وهل ينتقض وضوؤه أم لا؟ " فقال لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " أي فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بأن الشَّك في خروج الريح أثناء الصلاة لا ينقض الوضوء فلا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوت الريح، أو يشم رائحته. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً " إلخ حيث بيّن له - صلى الله عليه وسلم - أن الشكّ في الحدث أثناء الصلاة لا ينقض الوضوء، وكذلك إذا شك خارج الصلاة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 82 - " بَابُ التَّخفِيفِ في الْوُضُوءِ " 102 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ في بَعْض اللَّيْلِ، قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فتَوَضّأ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّق وُضُوءاً خَفِيفاً -يُخَفِّفُهُ عَمْرو وَيُقَلِّلُهُ- وقام يُصَلِّي، فَتَوَضَّأتُ نَحوَاً مِمَّاْ تُوَضَّأ ثُمَّ جِئْتُ فقُمْتُ عَنْ يَسارِهِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ- فَحَوَّلَنِي فًجَعَلَنِي عَنْ يَمِينهِ ثم صَلَّى مَا شَاءَ اللهُ، ثم اضْطَجَعَ فَنَامَ، حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أتاهُ الْمُنَادِي، فآذَنَهُ بالصَّلَاةِ، فقَامَ مَعَهُ إلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ.   لا يبطل وضوؤه، سواء كان في الصلاة أو خارجها، لأن السبب واحدٌ فيكون الحكم أيضاً واحداً، وهو مذهب الجمهور ومالك في رواية، وقال مالك في رواية أخرى، يلزمه الوضوء مطلقاً، وقال في رواية ثالثة: إن كان خارج الصلاة يلزمه الوضوء، وإن كان داخل الصلاة لا يلزمه، أما من تيقن الحدث، وشكَّ في الطهارة، فإنه يلزمه الوضوء اتفاقاً، سواء كان داخل الصلاة أو خارجها. ثانياً: أن الشكوك التي تقع في الصلاة إنما هي وساوس لا يعتد بها. 82 - " باب التخفيف في الوضوء " 102 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما " بت عند خالتي ميمونة ليلةً فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل " أي فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عند منتصف الليل ليصلي صلاة التهجد " فتوضأ من شن " بفتح الشين وهو القربة القديمة " وضوءاً خفيفاً " مقتصراً على مرة واحدة، أو مرتين فقط، " وقام يصلي " صلاة التهجد " فقمت عن يساره فحولني فجعلني عن يمينه " أي فسحبني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 83 - " بَابُ إسبَاغِ الْوُضُوءِ " 103 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ،   من يساره، وجعلني عن يمينه " ثم اضطجع فنام حتى نفخ " أي حتى استغرق في النوم، وسُمِعَ صوت شخيره " ثم أتاه المنادي " أي المؤذن " فآذنه بالصلاة " أي فأعلمه بطلوع الفجر ودخول وقت صلاة الصبح " فقام معه إلى الصلاة، فصلى ولم يتوضأ " أي فصلى الصبح بالوضوء الأول، ولم يتوضأ بعد الاستيقاظ من نومه وضوءاً جديداً. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز تخفيف الوضوء وأن أقل الوضوء يجزىء ولو مرة واحدة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في هذه الليلة وضوءً خفيفاً. ثانياً: أن نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان مضطجعاً لا ينقض الوضوء -كما أفاده العيني- وكذلك سائر الأنبياء فيقظة قلوبهم تمنعهم من الحدث. ثالثاً: أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإِمام، حتى أنه روي عن أحمد أنه إن وقف عن يساره بطلت صلاته - كما أفاده العيني والجمهور على خلافه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل صلاة ابن عباس. والمطابقة: في قوله " فتوضأ من شن معلق وضوءاً خفيفاً ". 83 - " باب إسباغ الوضوء " 103 - ترجمة الراوي: هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن حاضنته أم أيمن، أمّره النبي - صلى الله عليه وسلم - على آخر جيش في حياته، كان - صلى الله عليه وسلم - قد وجهه إلى الروم وعمره خمسة عشر عاماً، ومات - صلى الله عليه وسلم - قبل توجهه، فأنفذه الصديق رضي الله عنه وكان عمر يفضله في العطاء على ولده، روى مائة وثمانية وعشرين حديثاً، اتفقا منها على خمسة عشر حديثاً، وانفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 نَزَلَ فبَالَ ثمَّ تَوَضَّأ، وَلم يسبغ الْوضوءَ، فَقلْت: الصَّلَاةَ، يَا رَسولَ اللهِ، فَقَالَ: الصَّلَاة أمَامَكَ، فرَكِبَ، فلمَّا جَاءَ الْمزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأ، فأسْبَغ الْوضوءَ، ثمَّ أقيمَتِ الصَّلَاة، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثمَّ أناخَ كلُّ إنْسَان بَعيرَة في مَنْزِلِهِ ثم أقيمتِ العِشَاء، فصَلَّى وَلَمْ يصَلِّ بَيْنَهمَا".   كل منهما بحديثين توفي بوادي القُرى سنة أربع وخمسين من الهجرة. معنى الحديث: يقول أسامة رضي الله عنه: " دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة " أي أفاض من عرفة يوم حجة الوداع حتى إذا كان بالشعب، بكسر الشين وسكون العين وهو الطريق المعهودة للحاج كما أفاده القسطلاني " نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء " أي وإنما اقتصر فيه على غسل الأعضاء مرة واحدة، فخفف الوضوء لأنه لم يتوضأ للصلاة وإنما توضأ لاستدامة الطهارة " فقلت: الصلاة يا رسول الله " بالنصب على المفعولية أي أتريد الصلاة " قال: الصلاة أمامك " أي صلاة المغرب تصلى أمامك في المزدلفة " فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء " أي أتمه وأكمله "فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت صلاة العشاء فصلى ولم يصل بينهما" نافلة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب اسباغ الوضوء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في المزدلفة، وهو سنته في أغلب أحيانه، ويجوز تخفيف الوضوء، لأنه قد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشِّعْب (1). ثانياًً: مشروعية جمع المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة. والمطابقة: في قوله فتوضأ فأسبغ الوضوء.   (1) فدل ذلك على أن التخفيف جائز، الاسباغ مستحب لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خفف في الشعب لبيان الجواز، وأسبغ في مزدلفة لبيان الاستحباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 84 - " بَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ باليَدَيْنِ مِنْ غرْفَةٍ وَاحِدَةٍ " 104 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أنَّهُ تَوَضَّأ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَمَضْمَضَ بِهَا، واسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أخذَ غَرْفَةً من مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هكَذَا أضَافَهَا إلى يَدِهِ الأخْرَى، فَغَسَلَ بهَا وَجْهَهُ، ثمَّ أخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ اليُمْنَى، ثُمَّ أخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يدَهُ اليُسْرَى، ثم مَسَحَ بِرَأسِهِ، ثمَّ أخَذَ غَرْفةَ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ اليُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثم أخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى، فَغَسَل بِهَا يَعْنِي رِجْلَهُ الْيُسرَى، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ".   84 - " باب غسل الوجه باليدين من غرفة واحدة " 104 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما " توضأ، فغسل وجهه، ثم أخذ غرفة " وهي بفتح الغين المصدر، وبالضم المغروف وهو ملء الكف. "فمضمض بها واستنشق" أي فجمع المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة " ثم أخذ غرفة " واحدة " فغسل بها وجهه " مرة واحدة، " ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه " أي جميع رأسه " ثم أخذ غرفة من ماء فرشّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها، يعني رجله اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ " أي هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ مثل وضوئي هذا. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز غسل الوجه مرة واحدة، وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 85 - " بَابُ مَا يقوُلُ عِنْدَ الخلاءِ " 105 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دخل الخَلاءَ قَالَ: " اللَّهُمَّ انِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ والْخَبَائِثِ ".   الفرض، أمّا الغسلة الثانية والثالثة فهما سنتان، وكذلك الحكم في سائر الأعضاء المغسولة. ثانياً: الجمع بين المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة، وهو حجة للشافعية كما أفاده العيني. ثالثاً: وجوب مسح جميع الرأس. والمطابقة: في قوله ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه. 85 - " باب ما يقول عند الخلاء " 105 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم -إذا دخل الخلاء " بفتح الخاء، وهو موضع قضاء الحاجة، سمِّي بذلك لخلوه في غير أوقاتها، وأصله المكان الخالي، ثم كنوا به عن المرحاض، أى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدخل المكان المعد لقضاء حاجته " قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " أي اللهم إني أستجير وأتحصن بك من ذكور الشياطين وإناثهم، لأنهم هم الخبث والخبائث سموا بذلك لقذارتهم وشرهم وإضرارهم وإيذائهم للبشر، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من شرهم عند دخول الخلاء، لأنّ هذه الأماكن هي مأوى الأرواح الشريرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - " إن هذه الحشوش محتضرة " أي تحضرها الشياطين. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. ويستفاد منه: استحباب هذه الاستعاذة المأثورة عند دخول الخلاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 86 - " بَابٌ لا تُسْتَقبِلُ القِبْلَةَ بِغائِطٍ أوْ بَوْل، إِلَّا عنْد البِنَاءِ: جِدَار أو غيرِهُ " 106 - عنْ أبي أيوبَ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إذَا أتى أحدُكُمْ الغَائِطَ فلا يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ ولا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، ولكنْ شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا ".   ليكون المسلم في حرز منيع وحصن حصين من تلك الشياطين، التي تسكن هناك. ولو أنّ الناس استعملوا هذه التعاويذ المباركة، لتخلصوا مما يعانونه في هذا العصر من الهواجس والوساوس والأمراض الجسميّة والنفسية، نسأل الله أن يحمينا منها، ويقينا شرّها. 86 - " باب لا يستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء " 106 - ترجمة راوي الحديث: هو أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري النجاري، نزل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته، وأقام في منزله شهراً، وأخذ من لحيته - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " لا يصيبك السوء يا أبا أيوب " أخرجه الحاكم وصححه، وكان من النجباء روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (150) حديثاً، اتفقا منها على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة، وتوفي في غزوة القسطنطينية سنة (52) هـ. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا أَتى أحدكم الغائط " أي مكان قضاء الحاجة " فلا يستقبل القبلة ولا يولِّها ظهره " أي لا يستقبلها، ولا يستدبرها ويجعلها وراء ظهره " ولكن شرقوا أو غربوا " أي استقبلوا المشرق أو المغرب وذلك بالنسبة إلى أهل المدينة ومن على خطهم. ويستفاد منه: تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة مطلقاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 87 - " بَابُ الاسْتِنجَاءِ بالْمَاءِ " 107 - عنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خرَجَ لِحَاجَتِهِ أجيءُ أنا وَغُلَامٌ، مَعَنَا إداوَةٌ مِنْ مَاءٍ يَسْتَنْجِي بِهِ.   وهو قول أبي حنيفة وأحمد في رواية سواء كان في الفضاء أو البنيان، وذهب مالك والشافعي إلى تحريم الاستقبال والاستدبار في الفضاء خاصة، لحديث ابن عمر أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس أخرجه الستة، وقال أحمد: يحرم الاستقبال مطلقاً دون الاستدبار لحديث سلمان قال: " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " فلا يستقبل القبلة ". 87 - " باب الاستنجاء بالماء " 107 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء " أي كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لقضاء الحاجة صحبته أنا وغلام آخر لنقوم بخدمته، وإعداد ما يلزم لطهوره فنحضر له " إدَاوَةً " (1) أي إناءً صغيراً من الماء ليستنجي به. أما ذلك الغلام فقيل هو ابن مسعود رضي الله عنه؛ لقول أبي الدرداء رضي الله عنه: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور، يريد ابن مسعود رضي الله عنه، وقيل: هو جابر لقوله رضي الله عنه ذهب رسول الله يقضي حاجته فأتيته بإداوة من ماء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستنجاء بالماء. كما ترجم له   (1) إداوة بكسر الهمزة في أوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 88 - " بَابُ النَّهْي عنِ الاسْتِنْجَاءِ بالْيَمِيْنِ " 108 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شَرِبَ أحَدُكُمْ فلا يَتَنَفَّسْ في الإناءِ، وإذَا أتُى الْخَلَاءَ فلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينهِ، ولا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينهِ".   البخاري خلافاً لمن كرهه كابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم وابن حبيب من المالكية لكونه مطعوماً، وسئل حذيفة عن الاستنجاء بالماء فقال: إذن لا يزال في يدي نتن، أخرجه ابن أبي شيبة، ولكن حديث الباب يدل على مشروعيته وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وأنه من سنته، ولا اجتهاد مع النص. ثانياًً: استحباب خدمة الصالحين، وكونها من الآداب الإسلامية التي عرفها المسلمون منذ عهد النبوة، كما يظهر لنا من فعل أنس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم وغيرهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله " يستنجي بالماء ". 88 - " باب النهي عن الاستنجاء باليمين " 108 - ترجمة راوي الحديث: هو أبو قتادة رضي الله عنه الحارث ابن ربعي - بكسر الراء " السلمي " بفتح اللام، فارس النبي - صلى الله عليه وسلم -، شهد ما بعد أحد من المشاهد، وروى (170) حديثاً، اتفقا منها على أحد عشر حديثاً وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثمانية، وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين من الهجرة. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن التنفس في الإناء أثناء الشرب فقال: " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء " أي فلا يتنفس داخل الإناء، مريضاً كان أو صحيحاً سواء كان المشروب ماءً أو لبناً أو عصيراً أو غيره، حرصاً على النظافة والسلامة العامة، ووقاية من العدوى. ونهي أيضاً عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 89 - " بَابُ الاستِنجَاءِ بالْحجَارَةِ " 109 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اتبَّعْتُ النَّبِيَّ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فكانَ لَا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ (1)   الاستنجاء باليد باليمنى، فقال: " وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه " أى بيده باليمنى " ولا يتمسح بيمينه " أي ولا يستنج بيده اليمنى أيضاً تكريماً لها عن مس الأذى. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه النسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: كراهية الاستنجاء باليد اليمنى في قبل أو دبر وهو مذهب الجمهورَ، حيث حملوا النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يتمسّح بيمينه " على كراهة التنزيه. ثانياً: يكره مس الذكر باليمين. ثالثاً: النهي عن التنفس داخل الإناء أثناء الشرب خشية الإضرار بالآخرين، واختلفوا في حكمه فذهبت الظاهرية إلى أنه حرام، حيث حملوا النهي على التحريم، وذهب الجمهور إلى أنّه مكروه لأن النهي في الحديث نهي إرشاد، فيحمل على الكراهة. والمطابقة: في قوله " ولا يتمسّح بيمينه ". 89 - " باب الاستنجاء بالحجارة " أي هذا باب يذكر فيه مشروعية الاستنجاء بالحجارة بدلاً عن الاستنجاء بالماء، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالاستجمار، فالاستنجاء بالحجارة والاستجمار اسمان لمعنى واحد. 109 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " اتبعْتُ " بتشديد التاء " اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي سرت وراءه " وخرج لحاجته " أى وكان قد خرج لقضاء حاجته " فكان لا يلتفت " أي فكان من عادته وحسن   (1) دنوت منه أي اقتربت منه لأكون على استعداد لخدمته فيما يحتاج إليه واحضار طلباته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مِنْهُ، فَقَالَ: ابغِني أحْجاراً أسْتَنْفِضْ. بِهَا أو نَحْوَهُ، ولا تأتِني بعَظْمٍ ولا رَوْثٍ، فَأتَيْتُهُ بأحْجَارٍ بِطرَفِ ثِيابِي فَوَضَعْتُهَا إلَى جَنْبِهِ، وأعْرَضْتُ عنه، فلَمَّا قَضَى أتْبعَهُ بِهِنَّ".   سلوكه أنه لا يلتفت أثناء سيره إلاّ لضرورة وحاجة لأن كثرة الالتفات دون سبب أو عذر يقتضيه لون من ألوان العبث، وأفعال العُقلاء تصان عن العبث، ثم هو يدل على الحماقة والطيش والرعونة، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك " فقال ابغني أحجاراً أستنفض بها " بالجزم على أنه جواب الأمر، وبالرفع على الاستئناف، والاستنفاض الاستخراج قال في القاموس: استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجي. فالاستنفاض هنا كناية عن الاستنجاء بالحجارة، أي اطلب لي ثلاثة أحجار وأحضرها لكي أستنجي بها " ولا تأتي بعظم ولا روث " أي وأنهاك عن أن تحضر لي شيئاً من العظم أو الروث (1) لأنه لا يجوز الاستنجاء بهما لنجاسة الروث، وعدم صلاحية العظم للانقاء وإزالة النجاسة وتنظيف المحل، قد يكون هذا هو سبب النهي عنهما - أو لأنهما طعام المؤمنين من الجن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن وفد الجن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد إنه أمتك عن الاستنجاء بالعظم والروث، لأن الله تعالى جعل لنا فيه رزقاً، فنهاهم عن ذلك، وقال: " إنّه زاد إخوانكم من الجن " رواه أبو داود (2). قال: " فأتيتهُ بأحجار طرف ثيابي " أي فأتيته ببعض الأحجار أحملها في طرف ثوبي " وأعرضت عنه " أي ابتعدت عنه " فلما قضى " أي فلما انتهي من قضاء حاجته " أتبعه بهن " وهو كناية عن الاستجمار أي فلما   (1) وهو رجيع ذوات الحافر. (2) شرح صحيح البخاري للشيخ قاسم الشماعي الرفاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 90 - " بَاب لا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ " 110 - عنْ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَائِطَ فأمَرَنِي أنْ آتِيَهِ بِثَلاثَةِ أحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، فالتَمَسْتُ الثَّالِثَ، فَلَمْ أجدْهُ، فأخَذْتُ رَوْثَةً فأتَيْتُهُ بهَا، فأخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وألْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ".   فرغ من حاجته استنجى واستجمر بتلك الأحجار التي أحضرتها لديه. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستجمار وجواز الاستغناء بالحجارة عن الماء لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ابغني أحجاراً أستنفض بها " وقد ذهب أحمد وأهل الظاهر إلى أن الاستجمار لا يكون إلاّ بالأحجار خاصة، لأنها هي المنصوص عليها في لفظ الحديث، والجمهور على جواز الاستجمار بكل جامد طاهر منق غير مطعوم ولا محترم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلاّ عن العظم والروث، وذلك لكونهما مطعومين للجن، ولكون العظم غير منق، فكل ما كان مطهراً منقياً غير مطعوم لآدمي فإنّه يجوز الاستجمار به. ثانياً: لا يجوز الاستجمار بالعظم والروث وما في معناهما. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قولة ابغني أحجاراً. 90 - " باب لا يستنجي بروث " 110 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط " أي ذهب لقضاء حاجته " فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين فالتمست الثالث فلم أجده " أي وبحثت عن حجر ثالث فلم أعثر عليه " فأخذت روثة " أي قطعة من رجيع بعض الحوافر كالحمار وغيره " فأتيته بها " أي فأتيته بالحجرين والروثة " فأخذ الحجرين وألقى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الروثة، وقال: هذا ركس" أي الروث نجس، أو لا يجوز استعماله لأنّه طعام الجن، وهو الثابت في الأحاديث الصحيحة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز الاستجمار بالروث إمّا لنجاسته، أو لأنه طعام المؤمنين من الجن، ويلحق به في النهي كل ما يشبهه من المطعومات أو النجاسات، فلا يجوز الاستنجاء بكل مطعوم للآدمي لحرمته، فإن اختص بالبهائم أو غلب فيها لم يحرم. وكذلك لا يجوز الاستجمار بالنجس، وما عدا ذلك فإنه يجوز، سواء كان من الأحجار أو غيرها، وإنما خَصَّ الأحجار بالذكر لكثرة وجودها ولهذا قالوا: يجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق غير محترم. وإنما نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنهيه عن الروث على تحريم الاستنجاء بكل نجس أو بكل مطعوم لآدمي كما ورد النهي عن العظم في الحديث السابق حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تأتني بعظم ولا روث " والمراد بالعظم، العظم وكل ما شابهه من الأشياء اللزجة الملساء التي لا تزيل النجاسة، كالزجاج الأملس، فإنها لا يجوز الاستنجاء بها. ثانياًً: مشروعية التثليث في الاستجمار لقوله رضي الله عنه " فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار " وهو شرط عند الشافعيّة، فلا بد أن يكون، بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة رؤوس، قال في " كفاية الأخيار ": والواجب ثلاث مسحات فإن حصل الإنقاء بها وإلّا وجبت الزيادة إلى الانقاء، وهدو مذهب الظاهرية أيضاً، وقال الجمهور: التثليث سنة، والواجب الانقاء، وسبب اختلافهم تعارض المفهوم وظاهر اللفظ (1) في الأحاديث التي ذكر فيها العدد، فمن كان المفهوم عنده من الأمر إزالة عين النجاسة، لم يشترط العدد، ومن صار إلى ظواهر هذه الآثار واستثناها من المفهوم قال بوجوب العدد في الاستجمار وغيره مما ذكر فيه العدد. الحديث: أخرجه النسائي وابن ماجة أيضاً. والمطابقة: في قوله " وألقى الروثة ".   (1) بداية المجتهد لابن رشد ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 91 - " بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً " 111 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيِ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَوَضَّأ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً مَرَّةَ. 92 - " بَابُ الُوضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ " 112 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الأنْصَارِيِّ: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.   91 - " باب الوضوء مرة مرة " 111 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في بعض الأوقات مرة مرة فغسل كل عضو مرة واحدة وتمضمض مرة واحدة واستنشق مرة واحدة. الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 92 - " باب الوضوء مرتين مرتين " 112 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في بعض الأوقات مرتين مرتين، فغسل كل عضو مرتين، وتمضمض واستنشق مرتين. الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجه. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 93 - " بَابُ الْوُضُوءِ ثَلاثاً ثَلاثَاً " 113 - عنْ عُثمانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ دَعَا بإنَاء فَأفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرارٍ، فَغَسَلَهُمَا، ثمَّ أدْخَلَ يَمِيْنَهُ في الإنَاءِ فَمَضْمَضَ، واستنْثَرَ، ثمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرارٍ، وَيَدَيْه إلى المِرْفَقَيْن ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثمَّ مَسَحَ بِرَأسِهِ، ثمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مَرارٍ إلى الْكَعْبَيْنِ، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأ نَحْوَ وُضُوئِي   93 - " باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً " 113 - ترجمة راوي الحديث: هو الخليفة الراشد عثمان بن عفان بن أبي العاص الأموي، أسلم رابع أربعة، ولقب بذي النورين لأنّه تزوج رقية وأم كلثوم ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعظمه، ويستحي منه ويقول: " ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة " كان رضي الله عنه جواداً كريماً، جهز جيش العسرة بألف دينار، واشترى بئر رومة بعشرين ألف درهم، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ولي الخلافة أول يوم من محرم سنة أربع وعشرين وقتل شهيداً يوم الجمعة 18 ذي الحجة سنة 35 من الهجرة، روى (146) حديثاً أخرج البخاري منها أحد عشر حديثاً، رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: أن عثمان رضي الله عنه " دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما " أي فغسل يديه مجتمعتين أو متفرقتين ثلاث مرات، كما أفاده ابن دقيق العيد " ثم أدخل يمينه فمضمض واستنشق " أي ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فأخذ غرفة واحدة من الماء فتمضمض واستنشق من تلك الغرفة " واستنثر " أي أخرج الماء من أنفه بقوة النفس، " ثم غسل وجهه ثلاث مرار ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار " أي وغسل يديه إلى المرفقين ثلاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فيهما نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".   مرات " ثم غسل رجَليه ثلاث مرار إلى الكعبين " أي ثم كرر غسل رجليه ثلاث مرات أيضاً " ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ نحو وضوئي هذا " أي ثم نسب رضي الله عنه هذه الكيفية التي توضأ بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسندها إليه، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من توضأ مثل وضوئي هذا "، أي في الإِسباغ والإِتقان والإِتمام، وتكرار الغسل ثلاث مرات " ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه " أي لا يفكر أثناءهما في شيء من أمور الدنيا " غفر له ما تقدم من ذنبه " أي كان ذلك سبباً في غفران ذنوبه السابقة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه ويديه ورجليه ثلاثاً. ويستفاد من الأحاديث الثلاثة: أولاً: أن الفرض في الوضوء هو غسل العضو مرة واحدة كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنه لو كانت المرة الواحدة لا تكفي لما اقتصر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن غسْل الأعضاء مرتين أو ثلاثاً سنة لما في حديث ابن زيد وعثمان رضي الله عنهما من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل مرتين وثلاثاً. ثانياً: مشروعية غسل اليدين إلى الكوعين قبل إدخالهما في الإِناء، وهو سنة. ثالثاً: مشروعية الترتيب في الوضوء، ولولا ذلك لا أدخل الرأس بين اليدين والرجلين، وهما مغسولتان. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 94 - " بَابُ الاستنثارِ في الْوُضُوءِ " 114 - عن أبي، هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ تَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر ". 95 - " بَابُ الاسْتِجْمَارِ وِتراً " 115 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فلْيَجْعَلْ في أنْفِهِ مَاءً، ثمَّ لِيَنْثُرْ، ومَنِ اسْتَجْمَرَ فلْيُوتِر، وإذَا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِنْ نَومِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْل أنْ يُدْخِلَهَا في وَضُوئِهِ، فإنَّهُ لَا يَدْرِي أينَ بَاتَتْ يَدُهُ".   94 - " باب الاستنثار في الوضوء " 114 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من توضأ فليستنثر " أي فليخرج الماء من أنفه بقوة النفس لتنقيته من الأقذار الموجودة فيه، " ومن استجمر فليوتر " أي فليستجمر وتراً، وسيأتي إيضاحه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: مشروعية الاستنثار في الوضوء، وهو سنة اتفاقاً. قال العيني: والإِجماع قائم على عدم وجوبه. والمطابقة: في قوله: من توضأ فليستنثر. 95 - " باب الاستجمار وتراً " 115 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر " أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 96 - " بَابُ غَسْلِ الإِعْقَابِ " 116 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنهُ قَالَ: أسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنَّ أبَا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " وَيْل لِلأعْقَابِ مِنَ النَّار ".   فليستنشق في أنفه بالماء ثلاث مرات " ومن استجمر فليوتر " أي ومن استنجى بالحجارة فليوتر بثلاثة أحجار، أو خمسة، أو نحو ذلك " وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه " أي فليغسل يده خارج الإِناء لينظفها من الأقذار قبل أن يدخلها في الماء الذي يتوضأ به " فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " أي فلعل يده قد أصابتها النجاسة أثناء نومه وهو لا يدري. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستجمار وتراً بثلاثة أحجار أو خمسة أو نحوها، كما ترجم له البخاري، وهو سنة عند الجمهور، والواجب هو الإِنقاء، وقال أحمد والشافعى: التثليث واجب (1). ثانياً: مشروعية غسل اليدين قبل إدخالهما في الإِناء لمن استيقظ من النوم استحباباً، وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " من استجمر فليوتر ". 96 - " باب غسل الأعقاب " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على وجوب غسل الأعقاب في الوضوء، جمع عقب بكسر القاف، وهو العظم المرتفع عند مفصل الساق والقدم. 116 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " أسبغوا   (1) قال ابن قدامة في عمدة الفقه: " ولا يجزىء أقل من ثلاث مسحات منقية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الوضوء" أي اجتهدوا في إتمام الوضوء، واحرصوا كل الحرص على غسل جميع الأعضاء غسلاً كاملاً، واستيعاب كل عضو منها بحيث يصيب الماء ذلك العضو كله من أوله إلى آخره، ولا يبقى شيء منه لا يمسه الماء، ولاحظوا المواضع التي لا يصل إليها الماء، وفي مقدمتها الأعقاب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب غسلها، وحذر من تركها دون غسل فقال - صلى الله عليه وسلم - " ويل للأعقاب من النار " أي العذاب الشديد يوم القيامة للذين لا يغسلون أعقابهم -عمداً- عند غسل أقدامهم وقيل: ويل اسم لوادٍ في جهنم والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن استيعاب الأعضاء المغسولة، وغسلها كلها من أولها إلى آخرها فرض من فروض الوضوء، فيجب غسل اليدين من رؤوس الأصابع إلى آخر المرفقين، وغسل الوجه من منابت الشعر إلى آخر الذقن، وغسل الرجلين من رؤوس الأصابع إلى آخر الكعبين فمن ترك شيئاً من العضو دون غسل، فقد ترك الفرض الذي عليه، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توعد الذين يتركون غسل أعقابهم عند غسل أقدامهم بالعذاب الشديد يوم القيامة، والعذاب لا يترتب إلاّ على ترك فرض، ولهذا قال الفقهاء: من ترك شيئاً من العضو المغسول عمداً ولم يغسله كله بطل وضوءه، لأنه ترك فرضاً. ثانياً: ان ترك أي شيء من العضو المغسول في الوضوء عمداً كبيرة من الكبائر لأن هذا الوعيد لا يكون إلاّ لمن ارتكب كبيرة. والمطابقة: في قوله " ويل للأعقاب من النار " لأن هذا العقاب المترتب على ترك غسل الأعقاب يدل على وجوب غسلها، وهو ما ترجم له البخاري. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 97 - " بَابُ الْتَيَمُّنِ في الوُضُوءِ والْغسْلِ " 117 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ التَيّمَّنُ في تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وفي شَأنِهِ كُلِّهِ.   97 - " باب التيمن في الوضوء والغسل " 117 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن " أي كان - صلى الله عليه وسلم -ّ يسرُّه ويطيب له أن يبدأ باليمين في جميع الأعمال الشريفة، فيبدأ بالجهة اليمنى " في تنعله " أي في لبس نعله، فُيلْبسُ رجله اليمنى قبل اليسرى. " وترجله " أي ويبدأ باليمين أيضاً عند تسريح شعر رأسه. " وطهوره " أي ويبدأ باليمين في طهارة الحدث من وضوء أو غسل، فيقدم اليد اليمنى على اليسرى في الوضوء والميامن على المياسر في الغسل " وفي شأنه كله " أي وكذلك يتيامن في جميع الأعمال الشريفة كلبس الخف. والاكتحال، ونحو ذلك. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: استحباب تقديم الميامن على المياسر في الوضوء والغسل وغيره من الأعمال الشريفة. قال ابن المنذر، وأجمعوا على أنَّه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه، ونص الشافعي على أن الابتداء باليسار مكروه، كما أفاده النووي. ثانياًً: قال النووي: وأما ما كان بضد التكريم فإنه استحب فيه التياسر، كالاستنجاء والامتخاط والخروج من المسجد. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 98 - "بَاب الْتِماس الْوضوءِ إذَا حَانت الصَّلَاة" 118 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: رَأيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَحَانَتْ صَلَاةُ العَصرِ، فالْتَمَس النَّاسُ الْوَضُوءَ، فَلَمْ يَجِدُوه، فأتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ فَوَضَعَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ في ذَلِكَ الإناءِ، وَأمَرَ النَّاسَ يَتَوَضَّؤوا مِنْه، فَرَأيْت الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أصَابِعِهِ حتَّى تَوضَّؤوُا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ".   98 - " باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة " 118 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وحانت صلاة العصر " أي وقد دخل وقت صلاة العصر، " فالتمس الناس الوضوء " بفتح الواو أي فطلب الصحابة الماء بعد دخول الوقت، ليتوضؤوا به، فلم يجدوه، وكان ذلك بالزوراء عند المسجد المعروف بمسجد السيدة فاطمة كما رجحه فضيلة الشيخ عطية محمد سالم في تكملة " أضواء البيان " (1) " فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء " أي فجيء إلى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء صغير فيه ماء قليل يصلح للوضوء، فوضع يده في ذلك الإناء المذكور " فرأيت الماءَ ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤوا عن آخرهم " أي فلما وضع - صلى الله عليه وسلم - يده في الإناء حدثت المعجزة العظيمة، فشاهدت الماء يتدفق بقوة من بين أصابعه الشريفة، وتكاثر الماء حتى كفاهم جميعاً فتوضؤوا منه من أوَّلِهم إلى آخرهم، قال قتادة لأنس: كم كنتم قال ثلاثمائة أو زُهاء -بضم الزاي- ثلاثمائة أبي ما يقارب هذا العدد. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي.   (1) تكملة " أضواء البيان " لفضيلة الشيخ عطية سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 99 - " بَاب إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ في إِناءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغسِلْهُ سَبْعَاً " 119 - عن أبي هريْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ في إِنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَاً ".   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يجب طلب الماء للوضوء، إلاّ بعد دخول الوقت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على أصحابه التأخير في طلب الماء إلى ما بعد دخول الوقت، وقد فرّع الفقهاء على ذلك عدم جواز التيمم قبل دخول الوقت، وهو مذهب مالك والشافعي، وأجازه الحنفية. ثانياًً: وجوب المواساة عند الضرورة. ثالثاً: إثبات " المعجزات لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ". والمطابقة: في كونهم لم يطلبوا الماء إلاّ لما حان وقت العصر، وإقرار النبي لهم على ذلك. 99 - " باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً " 119 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا شرب الكلب في إناء أحدكم " أي إذا شرب الكلب من أي إناء فيه سائل، ماء أو غيره، مملوكاً له أو لسواه، كما في رواية أخرى: " إذا ولغ الكلب في الإِناء " أي شرب منه بطرف لسانه، أو أدخل لسانه فيه وحركه، وهذا شامل لجميع الكلاب، سواء كان كلب صيد أو غيره " فليغسله سبعاً " أي فإنه مأمور أن يغسله سبع مرات قبل أن يستعمله في وضوء أو غسل أو غيره. وهذا الحديث وإن اقتصر على الأمر بغسله إلاّ أنه جاء الأمر في حديث آخر بتتريبه كما في رواية أبي داود حيث قال: فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب " وفي رواية عند أحمد ومسلم وأبي داود " وعفروه الثامنة بالتراب ". الحديث: أخرجه الستة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات، وان التسبيع أمر لا بد منه، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يجب التسبيع وإنما يجب غسله فقط، والحديث في دلالة ظاهرة على وجوب غسل الإناء سبعاً كما ذهب إليه الجمهور (1) من الصحابة والتابعين وسائر فقهاء الإسلام، إلاّ أن الحنفية حملوا السبع على الندب (2) واختلفوا في التتريب، فذهب الجمهور إلى وجوبه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب " خلافاً لأبي حنيفة. والحكمة في تتريبه أن ريق الكلب فيه لزوجة فأمر - صلى الله عليه وسلم - بغسله بالتراب لأن فيه طهورية وإزالة لها ويجزىء عن التراب الاشنان والصابون ونحوهما والصابون ونحوه أبلغ (3) وأقوى في الإزالة والإنقاء. ثانياً: نجاسة الكلب ونجاسة سؤره وكل ما خرج منه، وبهذا قال الجمهور، لأن العلة عندهم في غسل الإناء تنجسه بسؤر الكلب الذي وقع فيه، ومما يؤكد أن النجاسة هي العلة الشرعية في الأمر بغسله ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب " (4) فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - " طهور إناء أحدكم " يدل على نجاسة الإناء الذي ولغ فيه الكلب -لأن الطهور والطهارة معناهما إزالة النجاسة، فيكون معنى الحديث أن تطهير الإناء الذي ولغ فيه الكلب، وإزالة النجاسة منه لا تكون إلّا بغسله سبعاً، ومعنى ذلك أن الإناء قد تنجس، وأنه لا يطهر إلاّ بغسله سبعاً، فالعلة إذن هي النجاسة. وذهب مالك إلى طهارة الكلب وسؤره، وقال: العلة في الأمر بغسل- الإناء من شربه فيه شيء آخر غير النجاسة، وأن   (1) الإحكام شرح أصول الأحكام ج 1 للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي المتوفى سنة 1392. (2) ويكفى غسله ثلاثاً كما في عون المعبود ج 1. (3) الإحكام شرح أصول الأحكام للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الحنبلي. (4) أخرجه مسلم وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 120 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتِ الكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ في الْمَسْجِدِ في زمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئَاً مِنْ ذَلِكَ.   هذا الأمر بغسله سبعاً إنما هو أمر تعبدي لم نَطّلِع على حكمته، وسر مشروعيته، ولم تظهر لنا العلة فيه، هذا هو قول مالك وقد كشف الطب عن وجود جرثومة مرضية في الكلب هي جرثومة الكلب التي تنتقل عن طريق العدوى من الكلب المصاب بهذا المرض إلى الإِنسان فيصاب بهذا المرض الخبيث، وبذلك فقد أصبحت العلة في غسل الإناء إنما هي أمر صحي وهو الوقاية من العدوى ولا علاقة لذلك بالنجاسة. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. 120 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد " أي تمر في المسجد وتسير فيه وتقطعه ذهاباً وإياباً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانت تبول فيه كما في رواية أبي نعيم والبيهقي " فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " أي فما كانوا يرشون شيئاً من مواضع بولها. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. ويستفاد منه: كما قال مالك: أن الكلب طاهر، وكذلك سؤره، وكل ما خرج منه، قال مالك: ولولا طهارة الكلاب لما تركها الصحابة تسير في المسجد وتبول فيه على مرأى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك دون أن يأمرهم بإخراجها من المسجد وتطهير مواضع بولها فيه: وقالت الحنفية: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يتركوا الكلاب في المسجد لطهارتها وطهارة أبوالها، ولكن لأن أرض المسجد كانت معرّضةً للشمس والريح، فهما تطهرانها كما عليه أكثر أهل العلم. قال (1) شيخ الإِسلام وغيره: إذا أصابت الأرض   (1) الإحكام شرح أصول الأحكام للشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 100 - " باب مَنْ لَمْ يَرَ الوضوءَ إلا من الْمَخرَجَيْنِ مِنَ الْقبلِ والدُّبرِ " 121 - عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: قَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لا يَزَال الْعَبْد في صَلَاةٍ مَا كَانَ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصلَاةَ مَا لَمْ يُحدِثْ، فَقَال رَجل أعْجَمِي (1): ما الْحَدَث يَا أبا هرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْت -يَعْنِي الضرطَة-.   نجاسة فذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب الأكثر طهارة الأرض، وجواز الصلاة عليها، هذا مذهب أو حنيفة، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، والقول القديم للشافعي، وهذا القول أظهر من قول من لا يطهرها بذلك " اهـ. ويدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن الأرض إذا جفت بالشمس طهرت " والله أعلم. والمطابقة: في قولها كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد ". 100 - " باب من لم ير الوضوء إلاّ من المخرجين من القبل أو الدبر " 121 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث " أبي يعتبر العبد المسلم في صلاة ويحتسب، له أجرها وثوابها مدة كونه داخل المسجد، ما لم يقع منه حدث، أو ما دام لم ينتقض وضوءه بحدث " فقال رجل أعجمي (1) ما الحدث؟ " أي ما هو الحدث الذي ينقض الوضوء، " قال الصوت " أي فأجابه أبو هريرة. بأن الحدث الموجب للوضوء هو ما خرج من أحد   (1) الأعجمي: من لا يفصح وإن كان عربياً، والعجمي: من جنسه العجم وإن أفصح. (ع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 101 - " بَابُ الرَجُلَ يُوَضِّأُ صَاحِبَه " 122 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِى اللهُ عَنْهُ: أنهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لحَاجَةٍ لَهُ، وأَنَّ   السبيلين، ومثل له بالريح، لأنه لا يقع في المسجد غيره. الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجة. ويستفاد منه: كما قال بعضهم: أنه لا يجب الوضوء إلاّ فيما خرج من أحد السبيلين القبل أو الدبر خاصة، كما ترجم له البخاري، وهو مذهب مالك والشافعي. إلاّ أن الشافعي عمم الوضوء في كل ما خرج منهما سواء كان معتاداً أو غير معتادٍ على وجه الصحة أو المرض. ولذلك قال ينقض الوضوء بما خرج منهما، ولو كان غير معتاد كالدود والحصى، ولو خرج على سبيل المرض كسلس البول والغائط. واعتبر مالك الخارج والخرج وصفة الخروج فقال: لا يجب الوضوء إلاّ من الخارج المعتاد، من المخرج المعتاد، على سبيل الصحة والاعتياد، ولذلك أوجب الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي إذا خرجت من الخرجين في حال الصحة، ولم يوجبه في سلس البول والغائط والريح لأنّه خرج في حال المرض، وكذلك قال مالك: لا يجب الوضوء من الدود والحصى إذا خرجا من المخرجين لأنّه خارج غير معتاد. والمطابقة: في قول أبي هريرة لما سئل عن الحدث فقال الصوت. حيث فسر الحدث بما خرج من السبيلين، ومثل له بالصوت أي خروج الريح. 101 - " باب الرجل يوضأ صاحبه " 122 - ترجمة راوي الحديث: هو المغيرة بن شعبة أسلم عام الخندق وشهد الحديبية، روى (136) حديثاً اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُب الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْه، وَمَسَحَ بِرَأسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.   بواحد، ومسلم بحديثين، توفي بالكوفة سنة خمسين من الهجرة. معنى الحديث: يحدثنا المغيرة رضي الله عنه " أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر " أي في غزوة تبوك " وأنه ذهب لحاجة له، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب لقضاء حاجته، فرافقه المغيرة يحمل له الماء الذي يستنجي منه ويتوضأ به، كما في رواية مسلم عن المغيرة رضي الله عنه قال: " فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر " فلما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من قضاء حاجته، وأراد الوضوء، جعل المغيرة يصب عليه الماء وهو يتوضأ " فغسل وجهه " ثلاثاً، كما في رواية أحمد، " ومسح رأسه ومسح على الخفين " بدلاً منْ غسل الرجلين. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الاستعانة بالغير في الوضوء، وأن يوضأ الرجل صاحبه كما ترجم له البخاري، وذلك بأن يصب عليه الماء أثناء وضوئه كما فعل المغيرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. وهل يجوز الاستعانة بالغير مطلقاً في الصب والدلك، أو في صب الماء فقط، كما جاء في نص الحديث، ذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني أبو حنيفة. ثانياً: أن من الآداب الإسلامية التي سنها النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة خدمة الصغير للكبير، ويدخل في ذلك خدمة الطالب لشيخه، والولد لأبيه، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر المغيرة لخدمته تشريعاً لأمته. والمطابقة: في قوله: جعل يصب الماء عليه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 102 - " بَابُ قِراءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ " 123 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَام رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا انتصَفَ اللَّيْلُ أو قَبْلَهُ بِقَلِيل أو بَعْدَهُ بِقَلِيل، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَواتِمَ مِنْ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ" (1).   102 - "باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره " أي هذا باب يذكر فيه جواز قراءة القرآن بعد الحدث - أي جواز قراءته على غير وضوء، وأن الوضوء لا يجب على من يريد قراءة القرآن. 123 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي نام عندها في بيت رسول الله ليلة من الليالي وهو غلام صغير " حتى إذا انتصف الليل " أي فلما كان نصف الليل " استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من نومه ليصلي صلاة التهجد كعادته كل ليلة " فجعل يمسح النوم عن وجهه " أي يمسح بيده على وجهه وعينيه ليطرد النوم عنها ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران " أي ثم قرأ العشر الآيات الأخيرة من سورة آل عمران وهي من قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر السورة على غير وضوء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز قراءة القرآن بغير وضوء كما ترجم   (1) هذا الحديث اختصرناه من حديث طويل تقدم في باب التخفيف في الوضوء، وذكرنا منه ما يتناسب مع الترجمة اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 103 - " بَابُ مَسْحِ الرَّأس كُلِّهِ " 124 - عَنْ عبْدِ اللهِ بْنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ قالَ لَهُ رَجُل: أتستطِيعُ أنْ تُرِيني كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأ؟ فَدَعَا بماءٍ فَأفْرَغَ عَلَى يَدَيْه فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثَلَاثاً، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، ثم غَسَلَ يَدَيْه مَرَّتَيْنِ إلى الْمِرْفَقَيْنِ، ثم مَسَحَ رَأسَهُ بِيَدَيْه، فَأقْبَلَ بِهِمَا وأدْبَرَ، بَدَأ بِمُقَدَّمِ رَأسِهِ حتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلى المَكَانِ الذِّي بَدَأ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.   له البخاري " بشرط أن يكون بدون مس المصحف " وهو مذهب الجمهور. ثانياًً: استحباب قراءة العشر الآيات الأخيرة من سورة آل عمران عند الانتباه من النوم في الليل. والمطابقة: في قوله " ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ". 103 - " باب مسح الرأس كله " 124 - معنى الحديث: يحدثنا الراوي عن ابن زيد رضي الله عنه " أنه قال له رجل أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ " أي هل بامكانك أن تتوضأ أمامي مثل وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فتعلمني كيفية وضوئه عملياً " فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل " أي غسل كفيه خارج الإناء " مرتين " قبل أن يدخلهما فيه " ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين " يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل بعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين " ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر " أي مسح رأسه كله من أوله إلى آخره مقبلاً بيديه ومدبراً، ثم فسر ذلك بقوله " بدأ بمقدم رأسه حى ذهب بهما إلى قفاه " أي مسح رأسه بكفيه من أول رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 104 - " بَابُ اسْتِعْمَالِ فضلِ وَضُوءِ النَّاس " 125 - عن أبِي جُحَيْفَةَ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالْهَاجِرَةِ فأتي بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بهِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْه عَنَزَة.   إلى آخره " ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه " أي ثم مسحه من آخره إلى أوله ورجع بكفيه من قفاه إلى ناصيته. الحديث: أخرجه الخمسة. ويستفاد منه: أن الفرض في الوضوء مسح الرأس كله، ولا يجزىء مسح بعضه وهو مذهب مالك وأحمد لقوله: " فأقبل بهما وأدبر " وفي رواية ابن زيد الأخرى " مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ناصيته إلى قفاه ثم ردّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله " أخرجه ابن خزيمة، وقال أبو حنيفة: يجزىء ربع الرأس، وقال الشافعي يجزىء أقل ما يقع عليه اسم المسح " (2) اهـ كما في الإِفصاح (3). والمطابقة: في قوله " فأقبل بهما وأدبر ". 104 - " باب استعمال فضل وضوء الناس " 125 - معنى الحديث: يقول أبو جحيفة رضي الله عنه: " خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة " أي عند الزوال " فأتي بوضوء " أي بماء   (1) هو أبو جحيفة بن وهب بن عبد الله، وقيل: ابن وهب بن مسلم بن جنادة بن جندب بن حبيب بن سواءة ابن عامر بن صعصعة السوائي العامري، نزل الكوفة، وكان من صغار الصحابة، ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي ولم ييلغ الحلم، ولكنه سمع منه، وروى عنه، وكان جعله علي بن أبي طالب على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، ومات بالكوفة سنة أربع وسبعين. اهـ. " تراجم جامع الأصول ". (2) فلو مسح أي جزء كفاه على مذهب الشافعي. (3) الإفصاح عن معاني الصحاح ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 126 - عن السَّائِبِ بْنِ يَزيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: ذَهَبَتْ بي خَالَتِي إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقِعٌ، فَمَسَحَ رَأسِي ودَعَاْ لِي بالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظرتُ إلى خَاتَمِ النبوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ.   يتوضأ به " فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه " أي فصار الصحابة يأخذون من بقية الماء الذي يتوضأ منه " فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين والعصر ركعتين " لأنه كان مسافراً " وبين يديه عنزة " أي وأمامه عصا صغيرة اتخذها سترة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه. 126 - ترجمة راوي الحديث: هو السائب بن يزيد الكندي حج به أبوه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره سبع سنين، وتوفي سنة إحدى وثمانين من الهجرة. معنى الحديث: يقول السائب رضي الله عنه: " ذهبت بي خالتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إن ابن أختي وقع " (1) بكسر القاف أي مصاب بوجع في قدميه " فمسح رأسي ودعا لي بالبركة " أي بكثرة أنواع الخير والنعم، ومنها الصحة " ثم توضأ فشربت من وضوئه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة " أي بيضة النعامة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله شربت من وضوئه. ويستفاد من الحديثين: طهارة الماء المستعمل في الوضوء، لأنهم أخذوا من فضل وضوئه - صلى الله عليه وسلم - وهو طاهر مطهر عند مالك وأحمد، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه طاهر غير مطهر والله أعلم.   (1) وفي بعض النسخ: وَجِع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 105 - " بَابُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأتِهِ وَفضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأةِ " 127 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوضَّؤُونَ في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَمِيعَاً.   105 - " باب وضوء الرجل مع المرأة " 127 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعاً " أي كان الرجل من الصحابة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ويغتسل مع زوجته من إناء واحد، ويغترفان من الإِناء، ويدخلان أيديهما في الماء كما في الرواية الأخرى حيث قال: " كنا نتوضأ نحن والنساء من إناء واحد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ندلي فيه أيدينا " أخرجه أبو داود. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي ومالك. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم عليه. ثانياً: جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل وطهوريته (1)، لأنهم كانوا يتوضؤون ويغتسلون من إناء واحد فكانوا يدخلون أيديهم فيه، وذلك يؤكد أن كل واحد من الرجل والمرأة قد توضأ أو اغتسل بالماء المستعمل، ولو كان غير مطهر لما تطهروا به. والمطابقة: في قوله " يتوضؤون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعاً " ...   (1) وهو مذهب مالك وأحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة هو طاهر غير مطهر كما في الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 106 - "بَابُ صَبِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ " 128 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي وأنا مَرِيض لا أعْقِلُ، فَتَوَضَّأ، وصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ المِيرَاثُ؟ إِنَّما يَرِثُنِي كَلَالَة، فَنزَلَتْ آيَةُ الْفَرائِض.   106 - " باب صب النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوءه على المغمي عليه " 128 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأنا مريض لا أعقل " (1) أي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورني في مرض شديد ألم بي حتى فقدت الوعي، فصرت لا أفهم شيئاً " فتوضأ وصب عليّ من وضوئه " أي وأفرغ على جسمي من الماء الذي توضأ منه، فأفقت وشعرت ببعض النشاط " فقلت: لمن الميراث إنما يرثني كلالة " أي لمن يكون الميراث من بعدي وأنا لم أخلف ولداً، وليس لي أب ولا أم وإنما يرث إخوتي كل مالي، فكيف يكون ميراثهم " فنزلت آية الفرائض " التي في آخر سورة النساء، وهي قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ (2) إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية رقية المريض، وصب ماء الوضوء   (1) قال الشوكاني: أي لا أفهم، وحذف المفعول إشارة إلى عظم الحال أو لغرض التحميم، أي لا أعقل شيئاً من الأمور. (2) الكلالة الذي لا والد له ولا ولد فيرث إخوته كل ماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 107 - " بَابُ الْغسْلِ والْوُضُوءِ في الْمِخضَبِ والْقَدَحِ " 129 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَامَ مَنْ كَان قَرِيبَ الدَّارِ إلى أهلِهِ، وبقي قَوْمٌ، فَأُتي رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ المِخْضَبُ أنْ يَبْسُطَ فيه كَفَّهُ، فَتَوَضَّأ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمانِينَ وَزيادَةً.   عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك بجابر رضي الله عنه، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: قال ابن بطال: فيه دليل على طهورية الماء المستعمل وفضل الوضوء لأنه لو لم يكن طاهراً لما صب عليه. ثالثاً: بيان ميراث الكلالة في آية الفرائض التي نزلت بسبب سؤال جابر رضي الله عنه. والمطابقة: في قوله " وصب عليه من وضوئه ". 107 - " باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح " 129 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " حضرت الصلاة " أي بينما كان الصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حضرت صلاة العصر " فقام من كان قريباً من المسجد " أي فذهب الذين دارهم قريبة من ذلك المكان إلى الدار ليتوضؤا منها " وبقي قوم " أي وبقي الذين دارهم بعيدة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - "فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخضب من حجارة فيه ماء" أي فأحضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إناء صغير من حجر فيه قليل من الماء، " فصغر المخضب أن يبسط كفه فيه " أي فضاق ذلك الإِناء الصغير على كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد أن يمدها في وسطه. " فتوضأ القوم كلهم، قلنا كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة " أي ثمانين فأكثر. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 130 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا بِقَدَح فِيهِ مَاء، فَغَسَلَ يَدَيْه وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ.   في قوله " فأتي بمخضب من حجارة ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الأواني كلها، سواء كانت حجرية أو خشبية أو من أي جوهر من جواهر الأرض طاهرة لا كراهة في استعمالها. ثانياًً: دل الحديث على معجزة مادية كبيرة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وهي تكاثر الماء ونبعه من بين أصابعه، حتى إن هذا الإناء الصغير كفى لوضوء. هذا العدد الكثير الذي يبلغ ثمانين أو أكثر، وفي رواية أخري قال أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد، دعا بقدح فيه ماء فوضع كفيه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه قال: قلت كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة. أخرجه مسلم. 130 - معنى الحديث: يحدثنا أبو موسى رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بقدح فيه ماء "أي طلب قدحاً فيه ماء. " فغسل يديه ووجهه (1) " من الماء الموجود في ذلك القدح " ومج فيه " أي طرح الماء من فمه في ذلك الإناء " ثم قال لهما: خذا منه وافرغا على وجوهكما ونحوركما (2) يخاطب بذلك أبا موسى وبلالاً رضي الله عنهما وكان ذلك بالجعرانة كما أفاده الحافظ في الفتح. ويستفاد منه يأتي: أولاً: جواز استعمال القدح وغيره من الأواني الخشبية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل القدح، وهو كما قال ابن الأثير: الإناء الذي يؤكل فيه، وأكثر ما يكون من الخشب مع ضيق فيه. ثانياًً: جواز   (1) أي غسل يديه ووجهه تبرداً بالماء لا وضوءاً. (2) كما أخرجه البخاري تعليقاً في " باب استعمال وضوء الناس ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 108 - " بَابُ الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ " 131 - عَنْ أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ، أو كَانَ يَغْتَسِلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأ بِالْمُدِّ.   الشرب من الماء الذي مجّ فيه والإِفراغ منه على الوجوه والنحور. لما جاء في رواية أخرى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهما (1): اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. ثالثاً: تبرك الصحابة بآثاره - صلى الله عليه وسلم - كما دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة. والمطابقة: في قوله " دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ". الحديث: أخرجه الشيخان. 108 - " باب الوضوء بالمد " 131 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد " أي كان يقتصد في الماء الذي يتطهر به، فغالباً ما كان يقتصر في غسله على قدر صاع من الماء، وهو أربعة أمداد، وربما زاد على ذلك، فاغتسل بخمسة أمداد على حسب حاجة جسمه، " ويتوضأ بالمد " وهو رطل وثلث عند الجمهور. وقال فقهاء العراق وأبو حنيفة، هو رطلان، قال في عون المعبود: المد بالضم: ربع الصاع لغة، وقال في " القاموس ": أو ملء كفيَّ الإِنسان المعتدل إذا ملأهما، ومد يده بهما، ومنه سمي مداً، وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة، مع اختلاف بعض الألفاظ.   (1) أي قال لبلال وأبي موسى رضي الله عنهما " اشربا منه " الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 109 - "بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخفيْنِ" 132 - عنْ سَعْدِ ابْنِ أبي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ مَسَحَ عَلى الْخُفَّيْنِ وأنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ سَألَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فقَالَ: نَعَمْ إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئَاً سَعْدٌ عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلا تَسْألْ عَنْهُ غَيْرَهُ.   ويستفاد منه: كما قال الفقهاء: استحباب تقليل الماء في الوضوء بلا حد، والاقتصار على القدر الكافي لحاجة الجسم دون إسراف، ولا نقصان ولا إجحاف. قال في عون المعبود: وليس الغسل بالصاع والوضوء بالمد للتحديد والتقدير، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربما اقتصر على الصاع وربما زاد. روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: " أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد هو الفرق " قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع. وروى مسلم أيضاً من حديثها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمدادٍ، فهذا. يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة. ويكره الإسراف في الماء لحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد قال: أفي الوضوء سرف، قال: نعم وإن كنت على نهر جار " أخرجه أحمد وابن ماجة. والمطابقة: في قوله " ويتوضأ بمد ". 109 - باب المسح على الخفين " 132 - معنى الحديث: أنّ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يمسح على خفيه، ويروي " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين " وأن ذلك من السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سأل عمر عن ذلك فقال: نعم " أي وأن عبد الله بن عمر لما رأى سعداً يمسح على الخفين، وسمعه يروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه، فلما اجتمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 133 - عَنْ عَمْرِو بْنِ أمَيَّةَ الضَّمْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ على الْخُفَّيْنِ.   هو وسعد عند عمر رضي الله عنهم سأله عن المسح على الخفين هل هو مشروع وثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث صحيح فقال عمر، نعم. الحديث الذي يرويه سعد حديث صحيح، ثم قال لولده عبد الله " إذا حدثك شيئاً سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تسأل عنه غيره " أي فخذ حديثه دون تردد، فإنه حديث صحيح ولست في حاجة إلى أن تسأل غيره من الصحابة لثقته وعدالته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " انه مسح على الخفين ". 133 - ترجمة راوي الحديث: وهو عمرو بن أمية الضمري - بفتح الضاد صحابي جليل من فرسان الصحابة روى عشرين حديثاً، وتوفي بالمدينة سنة ستين من الهجرة. معنى الحديث: أن عمرو بن أمية " رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - " بعينه " يمسح على الخفين " ولم يُخبره بذلك غيره والمعاينة أقوى من السماع. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين ". ويستفاد من الحديثين: مشروعية المسح على الخفين، وأنه سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أربعين حديثاً كما قال ابن قدامة، ولهذا صرح جمع من الحفاظ أن المسح على الخفين متواتر ولم يثبت إنكاره إلاّ عن الرافضة (1) والخوارج.   (1) فتح الباري ج 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 110 - " بَابٌ إذَا أدْخلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتانِ " 134 - عنِ الْمغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فَأهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: "دَعْهُمَا فَإِنِّي أدْخلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ"، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.   110 - " باب باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان " 134 - معنى الحديث: يقول المغيرة رضي الله عنه " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر " وذلك في غزوة تبوك بعد نزول آية الوضوء " فأهويت لأنزع خفيه " أي فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ، فمددت يدي لأخلع خفيه عن قدميه ليتمكن من غسلهما " فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " أي فقال لي: اتركهما فإني أريد أن أمسح عليهما بدلاً من غسل الرجلين، لأني لبستهما على طهارة كاملة، فيجوز لي أن أمسح عليهما، ولا حاجة إلى خلعهما، وهو معنى قوله: " فإني أدخلتهما طاهرتين " وفي رواية " فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود. والمطابقة: في قوله " فإني أدخلتهما طاهرتين ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن المسح على الخفين رخصة شرعية وسنة نبوية ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - مسح خفيه بعد نزول آية الوضوء، فدل ذلك على أن المسح عليهما باقٍ لم تنسخه الآية المذكورة، خلافاً للخوارج. ثانياًً: أن من أهم شروط المسح على الخفين. أن يلبسهما على طهارة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " ويشترط أن تكون طهارة مائية كاملة " عند الجمهور " وأجاز أبو حنيفة والمزني والثوري المسح عليهما ولو كانت الطهارة ناقصة، فلو غسل إحدى قدميه وأدخلها، ثم غسل الأخرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 111 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيق " 135 - عَنْ عَمْرِو بْنِ أمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شاةٍ فَدُعِيَ إلى الصَّلَاةِ فَألقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ.   وأدخلها جاز، وأما بقية الشروط فهي أن يكون الخف من جلد ساتراً للكعبين صحيحاً مباحاً، ويحدد المسح عند الجمهور بيوم وليلة خلافاً لمالك حيث أطلق مدة المسح بلا حد. 111 - " باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق " 135 - معنى الحديث: يحدثنا عمرو بن أمية رضي الله عنه " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتز من كتف شاة " أي يقطع اللحم من كتف شاة ويأكله " فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ " أي فقام إلى الصلاة بعد الأكل من لحم تلك الشاة، وصلى دون أن يتوضأ، لأن الأكل من لحم الشاة ليس موجباً للوضوء. ويستفاد منه: أنه لا يجب الوضوء من أكل اللحم، وقد كان ذلك واجباً في أول الإِسلام حيث كانوا يتوضؤون - مما مست النار، ثم نسخ بعد ذلك بهذه الأحاديث الصحيحة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - " احتز من لحم الشاة ثم صلّى ولم يتوضأ ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 112 - " بَابُ مَنْ مَضْمَضَ مِن السَّوِيق وَلَمْ يَتَوَضَّأ " 136 - عَنْ سُوِيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اْللهُ عَنْهُ: أنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إذَا كَانُوا بالصَّهْبَاء، وهِيَ أدْنَى خَيْبَرَْ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بالأزْوَادِ، فَلَمْ يُؤتَ إلَّا بالسَّويقِ، فأمرَ بِهِ فَثُريَ، فَأكلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأكلْنَا، ثم قَامَ إلى الْمَغْرِبِ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأ.   112 - " باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ " 136 - ترجمة الراوي: هو سويد. بضم السين وفتح الواو ابن النعمان الأنصاري الأوسي من أصحاب بيعة الرضوان شهد أحداً وما بعدها من المشاهد. روى سبعة أحاديث ليس في البخاري منها سوى هذا الحديث فقط. معنى الحديث: يحدثنا سويد رضي الله عنه " أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر " أي خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة خيبر " حتى إذا كان بالصهباء وهي أدنى خيبر " أي والصهباء أول قرى خيبر بالنسبة إلى القادم من المدينة " فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلاّ بالسويق " أي أمر بإحضار أطعمة المسافرين، فلم يحضروا بين يديه سوى السويق، " وهو ما يطحن من الحنطة والشعير وُيتزود به في السفر " " فأمر به فثُرِّي " أي رش بالماء " فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضضنا ثم صلّى ولم يتوضأ " أي ثم صلى بعد أكل السويق دون أن يتوضأ. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. ويستفاد منه: أنه لا يجب الوضوء من أكل السويق وغيره مما مست النار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 113 - " بَاب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَنِ " 137 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ لَبَنَاً فَمَضْمَضَ وَقَال: " إِنَّ لَهُ دَسَمَاً ".   وقد كان الوضوء من ذلك واجباً في أوّل الإسلام، ثمَ نسخ بهذا الحديث وأمثاله. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أكل السويق ثم صلى المغرب بعده من غير وضوء. 113 - " باب هل يمضمض من اللبن " 137 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب لبناً فمضمض " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب شيئاً من اللبن فلما أراد أن يقوم إلى الصلاة، مضمض فمه بالماء ونظفه من ذلك اللبن " وقال: إنّ له دسماً " أي إن لِلَّبن دسماً يَعْلَق بالفم، فينبغي لمن شربه أن ينظف فمه منه خشية أن يُحْدِثَ ذلك الدسم في الفم رائحة كريهة يتأذى بها الشارب. أو يبقى منه شيء في الفم فيصل إلى المعدة أثناء الصلاة. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لمن شرب لبناً أو تناول غيره من الأطعمة وأراد الصلاة أن يغسل يديه ويتمضمض قبل أن يصلي سواء كان ذلك الطعام مطبوخاً أو غير مطبوخ تنظيفاً لليد والفم من آثار ذلك الطعام. ولئلا يصل منه شيء إلى المعدة أثناء الصلاة. ثانياً: أنه لا يجب الوضوء من اللبن وغيره من الأطعمة الدسمة لأنّه - صلى الله عليه وسلم - شرب اللبن، ثم صلى ولم يتوضأ كما في الحديث. والمطابقة: في قوله " شرب لبناً فمضمض ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 114 - " بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ " 138 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَتَوَضَأ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجزِىءُ أحَدَنَا الْوُضُوءَ مَا لَمْ يُحْدِثْ.   114 - " باب الوضوء من غير حدث " 138 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ عند كل صلاة "، أي يجدد الوضوء لكل صلاة فرضاً أو نفلاً تطوعاً لا وجوباً رغبة منه - صلى الله عليه وسلم - وترغيباً لأمّته في فضائل الوضوء، وما فيه من تكفير السيئات، واكتساب الحسنات، ورفع الدرجات، " وكان يجزىء أحدنا الوضوء ما لم يحدث " وهذا استدراك معناه: ولم يكن الوضوء لكل صلاة واجباً، وإنما هو مستحب فقط، فقد كان يكفي أحدنا الوضوء الواحد لعدة صلوات، ولا يجب عليه وضوء آخر حتى يحدث. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الوضوء الواحد يجزىء لعدة صلوات ما لم يحدث، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لعكرمة وابن سيرين وغيرهم، حيث أوجبوا الوضوء لكل صلاة لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الخ حيث علّق الأمر بالوضوء على القيام إلى الصلاة، فدل على وجوب تكرار الوضوء لكل صلاة. واستدل الجمهور بحديث الباب وغيره (1) على أن الوضوء إنما يجب على من أحدث وأراد الصلاة دون غيره. وأن هذا هو معنى الآية، لأنّ السنة تفسِّر القرآن، قال الترمذي:   (1) كقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 115 - " بَاب مِنَ الكبَائِرِ أنْ لا يَسْتَتِرَ مِنَ بَوْلِهِ " 139 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أو مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " يُعَذَّبَانِ! وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ "، ثُمَّ قَالَ: " بَلَى كَانَ أحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ   والعمل على هذا عند أهل العلم. ثانياً: استحباب الوضوء لكل صلاة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات " أخرجه الترمذي ويكره الوضوء لغير صلاة، وحديث " الوضوء على الوضوء نور على نور " ضعيف ضعفه ابن حجر. والمطابقة: في قوله " كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة ". 115 - " باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله " أي من الكبائر أن لا يحافظ المسلم على طهارة بدنه، ولا يحترز من النجاسة. 139 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما " مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط " أي ببستان مسوّر " فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما " أي سمع صراخهما من شدة ما يقاسيان من العذاب الشديد " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذبان " أي إنهما يعذبان عذاباً شديداً، وقد سمعت صراخهما من شدة الآلام التي يشعران بها " وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى " أي وما يعذبان من أجل فعل شيء له قدر وقيمة بحيث ترغب فيه النفس وتشتهيه، وإنما هو شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرةً، فَقِيلَ لَهُ.: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: " لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسا ". 116 - " بَابُ ما جَاءَ في غَسْلَ الْبَوْلَ " 140 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أتَيْتُه بِمَاءٍ يَغْسِلُ بِهِ.   حقير لا شأن له، ولكنه مع ذلك هو ذنب عظيم، وكبيرة تؤدي بصاحبها إلى عذاب القبر " كان أحدهما لا يستتر من البول " أي لا يحترز منه، ولا يتطهر من نجاسته (1) " وكان الآخر يمشي بالنميمة " أي ينقل الحديث بين الناس بقصد الإِفساد بينهم " ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منها كسرة " أي نصفاً لأنّه - صلى الله عليه وسلم - سأل لهما الشفاعة، فأجيب بالتخفيف عنهما حتى ييبسا. الحديث: أخرجه الستة. ما يستفاد منه: دل الحديث على أن الطهارة من نجاسة البدن واجبة وأن تركها كبيرة من الكبائر، يترتب عليها. عذاب القبر وكذلك النميمة. والمطابقة: في قوله " ثم قال بلى " أي بلى إنّه ذنب كبير. 116 - " باب ما جاء في غسل البول " 140 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تبرز لحاجته " أي إذا ذهب لقضاء حاجته " أتيته بماء يغسل به " أي يغسل بذلك الماء ذكره، قال القسطلاني: وحذف المفعول به لظهوره، أو للاستحياء من ذِكْرِه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله يغسل به.   (1) ولا يتوقى منه عند بوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 117 - " بَابُ صَبّ المَاءِ على البول في المَسجِدِ " 141 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ أعرَابٌِّي فَبَالَ في الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " دَعُوهُ وَهَرِيْقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أوْ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ ".   ويستفاد منه: وجوب غسل البول عن الذكر بالماء حتى لا يبقى منه شيء وهو ما ترجم له البخاري. 117 - " باب صب الماء على البول في المسجد " 141 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس " أي سلطوا عليه ألسنتهم، وأغلظوا له في القول وفي رواية فزجره الناس " فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه " أي اتركوه حتى يتم بوله، ولا تقطعوه عنه، لأنه ربما أدّى ذلك إلى الإِصابة بحصر البول، أو أدّى انتقاله من مكان لآخر إلى تلويث عدة مواضع من المسجد بدل موضع واحد " وأهريقوا على بوله سجلاً " بفتح السين وسكون الجيم " من ماء " أي وصبوا على موضع بوله دلواً كبيراً من الماء. " إنما بعثتم ميسرين " في تعليم الناس أمر دينهم. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه: أن الأرض تطهر من النجاسة بكثرة صب الماء، وهو مذهب الجمهور وقال أبو حنيفة: لا تطهر حتى تحفر إلى المكان الذي وصلت إليه القذارة إن كانت رخوة يتسرب الماء إلى داخلها. والمطابقة: في قوله: " وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 118 - " بَابُ بَوْلَ الصبيَانَ " 142 - عنْ أمِّ قَيْس بِنْتِ مِحْصَن رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا أتَتْ بابْن لَهَا صَغِيرٍ لمْ يأكلِ الطَّعَامَ إلى رَسُولِْ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأجْلَسَهُ رَسولُ الله في حَجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.   118 - " باب بول الصبيان " 142 - ترجمة راوية الحديث: هي أم قيس بنت محصن أخت عكاشة ابن محصن -واسمها جذامة- صحابية جليلة أسلمت قديماً ودعا لها - صلى الله عليه وسلم - بطول العمر فلم تعرف امرأة من عصرها عمرت مثلها، روت (24) حديثاً. معنى الحديث: أن أم قيس رضي الله عنها " أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره " بفتح الحاء وقد تُكْسَر، أي فوضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجره " فبال على ثوبه فنضحه ولم يغسله " أي فاكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - برش ذلك الثوب بالماء، ولم يغسله. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يجب غسل الثوب من بول الرضيع الذي لم يأكل الطعام إذا كان ذكراً، وإنما يكفي رشه بالماء فقط. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب نضح الثوب من بول الصبي، ولم يغسله ويجب غسله من بول الأنثى، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وابن حزم لهذا الحديث، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام " أخرجه ابن خزيمة والحاكم، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى وجوب غسل الثوب من بول الصبي مطلقاً ذكراً كان أو أنثى وأجابوا عن حديث الباب أن المراد من النضح الغسل، والعرب تسمي الغسل نضحاً كما أكد ذلك الطحاوي واستشهد عليه ببعض كلامهم، وقد استعمل النضح بمعنى الغسل في الأحاديث الصحيحة كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الثوب يصيبه الحيض "تحته ثم تقرصه بالماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 119 - "بَابُ الْبَوْلِ قَائِمَاً وَقَاعِدَاً " 143 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُباطَةَ قَوْم، فَبَالَ قَائِمَاً، ثمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأ.   وتنضحه (1) وأمّا قوله: " ولم يغسله " فقد قال الأصيلي إنه من قول ابن شهاب. ثانياً: استدل به أحمد واسحاق على طهارة بول الصبي. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " فنضحه ". 119 - " باب البول قائماً وقاعداً " أى هذا الباب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز البول قائماً وقاعداً، وإن كان يستحب البول قاعداً، ويكره البول قائماً كراهة تنزيه لا تحريم. 143 - ترجمة الراوي: هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، شهد أحداً والخندق وفتوح العراق، وكان صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يعلمه غيره، روى مائة حديث، اتفقا على اثنى عشر حديثاً، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر، توفي سنة (36) من الهجرة. معنى الحديث: يقول حذيفة رضي الله عنه: " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُباطة قوم " وهي المكان الذي تُلقى فيه الزبالة، وكانوا يجعلونها قريبة من بيوتهم لتكون مرفقاً لهم " فبال قائماً " أي فبال واقفاً على خلاف عادته المعروفة وسنته المألوفة، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - غالباً ما يبول قاعداً ويبول أحياناً وفي النادر   (1) أي تغسله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 120 - " بَاب غَسْلَ الدَّمَ " 144 - عنْ أسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأة إلى النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: أرَأيْتَ إحْدَانَا تَحِيض في الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَع؟ قَالَ: " تَحُتُّه، ثُمَّ تَقْرضه وَتَنْضَحُه وَتصَلي فِيهِ ".   اليسير قائماً لبيان الجواز. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل الحديث على أنه يجوز التبول قائماً مع الكراهة، بمعنى أنه لا يأثم فاعله، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله إلا أنه خلاف الأولى لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كاان يبول غالباً جالساً، ولا يبول قائماً إلاّ نادراً. أهـ كما أفاده ابن القيم في زاد المعاد. والمطابقة: في قوله فبال قائماً. 120 - " باب غسل الدم " 144 - معنى الحديث: تقول أسماء رضي الله عنها: " جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب: كيف تصنع " أي أخبرني عن حكم المرأة يصيب ثوبها دم الحيض ماذا يجب عليها أن تصنع به؟ " قال: تحته " أي تحكه بيدها أولاً " ثم تقرصه " بفتح التاء وسكون القاف وضم الراء. أي ثم تدلك موضع الدم بأطراف أصابعها ليتحلل ويخرج " وتنضحه " أي تغسله بالماء " والمعنى " أنها تزيل ذلك الدم من ثوبها بحكه أولاً ثم بدلكه وغسله حتى تزول آثاره من ثوبها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " وتنضحه " أي تغسله بالماء، وهو ما ترجم له البخاري. ويستفاد منه: وجوب غسل ما أصابه الدم من الثوب، سواء كان هذا الدم قليلاً أو كثيراً، وهو مذهب الشافعي في جميع النجاسات دماً أو غيره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 121 - " بَابُ غَسْلِ الْمَنِيِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنَ المَرْأةِ " 145 - عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خْرُجُ إلى الصَّلَاةِ، وإنَّ بُقَعَ الْمَاءِ في ثَوْبِهِ.   حيث قال: لا يعفى عن شيء من النجاسة، بل يغسل الدم وغيره قليلاً كان أو كثيراً استدلالاً بهذا الحديث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أسماء رضي الله عنها بغسل الثوب من دم الحيض، ولم يفرق بين قليله وكثيره. قال الشافعي، ولا فرق بين الدم وغيره، لأنه كله نجاسة. وفرق مالك بين الدم وغيره من النجاسات، فقال: أما غير الدم، فيجب غسله مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً، وأما الدم فيغسل كثيره ويعفى عن يسيره لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " ما كان لِإحدانا إلاّ ثوب واحد فيه تحيض فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها فقصعته بظفرها أخرجه البخاري وأبو داود، وقال أبو حنيفة: يعفى عن اليسير في سائر النجاسات ويغسل الكثير منها. 121 - " باب غسل المني وفركه " 145 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أغسل المني بالماء من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه " أي فيخرج مسرعاً إلى الصلاة قبل أن يجف ثوبه حتى إن آثار الماء لا تزال بادية عليه. ويستفاد منه: نجاسة المني لأنها رضي الله عنها كانت تزيله من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسله بالماء، ولو لم يكن نجساً لما فعلت ذلك، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة أن المني نجس. وقال الشافعى وأحمد وداود الظاهري: المني طاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 122 - " بَابُ أبوَالَ الإِبلَ والدَّوَابِ وَالْغنَمَ وَمَرَابِضِهَا " 146 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ نَاسٌ مِنْ عُكْل أوْ عُرَيْنَةَ فاجْتَوَوُا الْمَدِينة فأمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِلِقَاحٍ، وأنْ يَشْرَبُوا مِنْ أبوَالِهَا وألبَانِهَا، فانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا الرَّاعِي واستَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبرُ فِي أوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ في آثارِهِمْ، فلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جيءَ بِهِمْ، فأمَرَ بِقَطعِْ أيدِيهِم وأرجُلِهِم، وسُمِّرَتْ أعيُنُهُمْ، وألقُوا في الحَرَّةِ يَستَسقُونَ فلا يُسْقَونَ.   لما جاء في الرواية الأخرى عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تفركه من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قول عائشة رضي الله عنها " كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي - صلى الله عليه وسلم - ". 122 - " باب أبوال الإِبل والدواب والغنم ومرابضها " 146 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " قدم ناس من عكل " وهي قبيلة من تيم " أو عرينة " وهي حيٌّ من قضاعة، أي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من هاتين القبيلتين متظاهرين بالإِسلام " فاجتووا المدينة " أي فأقاموا مدة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ثم شكوا المرض وأنّ جو المدينة لا يلائمهم صحياً " فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح " بكسر اللام جمع لقوح، وهي الناقة الحلوب من الإِبل، أي فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلحقوا بنياق حلوب له خارج المدينة، وأن يذهبوا إليها، ويقيموا عندها " وأن يشربوا من أبوالها وألبانها " لأنّها علاج وشفاء " فلما صحّوا " أي فلما شفوا من مرضهم " قتلوا الراعي، واستاقوا النعم " بفتح النون والعين أي ساقوا الإِبل، وهربوا بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فقابلوا الإحسان بالإساءة، والمعروف بالنكران " فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم " أي كحلت بالمسامير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يشربوا من أبوالها، - وهذا دليل طهارتها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: قال العيني: استدل مالك بهذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه، سواء كان من الإبل أو الغنم أو غيرها من الدواب، وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن والاصطخري والروياني الشافعيان، وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي والزهري وابن سيرين والثوري، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وآخرون كثيرون: الأبوال كلها نجسة إلاّ ما عفي عنه، وأجابوا عنه بأن ما في حديث العُرَنيين قد كان للضرورة، فليس فيه دليل على أنه يباح في غير حال الضرورة، لأنّ ثمة أشياء أبيحت في الضرورات ولم تبح في غيرها كما في لبس الحرير، فإنه حرام على الرجال، وقد أبيح لبسه في الحرب أو للحكة أو لشدة البرد إذا لم يجد غيره، وله أمثال كثيرة في الشرع. وقال ابن حزم صح يقيناً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بذلك على سبيل التداوي (1) من السقم الذي كان أصابهم، وأنهم صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلة ضرورة، وقد قال عز وجل: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المآكل والمشارب. ثانياً: مشروعية معاقبة المحاربين، وهو موافق لقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا) ... إلخ. ...   (1) شرح العيني ج 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 147 - عَنْ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي قَبْلَ أنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ في مَرَابِضِ الْغَنَمِ.   147 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قل أن يبني المسجد " أي قبل أن يتم بناء مسجده الشريف " في مرابض الغنم " أي في مواضع نومها ليلاً، أو في أماكن شربها، يعني أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يرى مانعاً من الصلاة في مباركها عند نومها، أو في المواضع التي تشرب فيها، علماً بأنها لا تخلو من بعرها وبولها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في مرابض الغنم " لأنّه يدل على جواز الصلاة في مرابضها، وطهارة أبوالها كما ترجم له البخاري. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في مرابض الغنم مطلقاً، وهو مذهب الجمهور. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم إلاّ الشافعي فإنه قال: لا أكره الصلاة في مرابض الغنم إذا كان سليماً من أبعارها وأبوالها، وقال ابن بطال: حديث الباب حجة على الشافعي رضي الله عنه (1)، لأن الحديث ليس فيه تخصيص موضع من آخر، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من البعر والبول، فدل على الإباحة. ثانياً: طهارة أبوال الغنم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح الصلاة في مرابضها وهي كما قال ابن بطال " لا تسلم من البعر والبول " فدل على الإباحة، وعلى طهارة البول والبعر. وقال ابن حزم: هذا الحديث منسوخ، لأنّ فيه أن ذلك كان قبل أن يبني المسجد، فاقتضى أنه في أوّل الهجرة، ولكن يرد عليه ما جاء في حديث أبي زرعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه: قال " الغنم من دواب الجنة، فامسحوا رغامها، وصلوا في مرابضها " أخرجه البيهقي.   (1) شرح العيني ج 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 123 - " بَابُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاساتِ في السَّمْنِ وَالمَاءِ " 148 - عَنْ مَيْمُونَة (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ فَأرَةٍ سَقَطَتْ في سَمْنٍ فَقَالَ: " ألْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ " (2).   123 - " باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء " 148 - معنى الحديث: تحدثنا ميمونة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن فأرة سقطت في دمه " أي سأله بعض الصحابة عن حكم الفأرة إذا سقطت في سمن جامدٍ " فقال: ألقوها وما حولها فاطرحوه وكلوا سمنكم " أي وكلوا بقية سمنكم، فإنّه طاهر مباحٍ الأكل، لأن النجاسة لا تسري فيه ما دام جامداً. الحديث: أخرجه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. ويستفاد منه: أن الزيت والسمن وغيره إذا وقعت فيه النجاسة من فأرة ونحوها وكان جامداً طرحت النجاسة وما حولها، وأكل الباقي لأنه طاهر مباح الأكل، أما إذا كان سائلاً فإنه ينجس كله.   (1) هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بُجير بن الهزم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر صعصعة الهلالية العامرية، وأمها هند بنت عون بن زهير بن الحارث من حمير، وقيل: من كنانة، ويقال: إن اسمها كان برة فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة، كانت تحت مسعود بن عمرو الثقفي في الجاهلية، ففارقها فتزوجها أبو رهم بن عبد العزى، وتوفي عنها، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذي العقدة سنة سبع في عمرة القضاء بسرف على عشرة أميال من مكة، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي تزوجها فيه بسرف سنة إحدى وستين، وقيل إحدي وخمسين، وقيل: ثلاث وستين، وقيل ست وستين، وقيل غير ذلك. وصلى عليها ابن عباس، وهي أخت أم الفضل امرأة العباس وأخت أسماء بنت عميس، وهي آخر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل أنه لم يتزوج بعدها. اهـ " تراجم جامع الأصول ". (2) اعتمدت في لفظ هذا الحديث على ما جاء في " مختصر الزبيدي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 124 - " بَابُ الْبَوْلَُ في الْمَاءِ الدَّائِمَ " 149 - عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قَالَ: " لا يَبُولَنَّ أحدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِم لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ".   124 - " باب البول في الماء الدائم " 149 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري " (1) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التبول أو التغوط في الماء الساكن الذي لا يتحرك ولا يجري سواء كان قليلاً أو كثيراً " ثم يغتسل فيه " بالرفع على المشهور، وقال ابن مالك: يجوز الجزم عطفاً على يبولن. فعلى " الرفع " يكون معناه النهي عن البول في الماء الساكن، لأنه قد يحتاج إليه في وضوء أو غسل، فيمنع منه، أو يكره له استعماله وعلى الجزم يكون معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التبول أو التغوط في الماء الساكن لئلا يؤدي إلى نجاسته أو كراهته، ونهانا أيضاً عن الاغتسال والانغماس فيه لئلا يسلبه ذلك طهوريته، أو يؤدي إلى كراهته. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: النهي عن التبول " أو التغوط " في الماء الراكد. وقد اختلفوا في حكمه، فقال مالك: يكره التبول في الماء القليل إذا كان لا يتغير به (2) ويحرم إذا كان يؤدي إلى تغييره قليلاً كان أو كثيراً. وفرّق الجمهور بين القليل والكثير، فقالوا: يحرم في القليل مطلقاً، غيّره أو لم يغيره، ويكره في الكثير إذا لم يغيره، فإن غيره يحرم. ثانياًً: استدل به   (1) وإنما فسره بالذي لا يجري، لأن الدائم من الأضداد، يطق على الساكن والمتحرك فلو لم يفسره لوقع الالتباس. (2) والسبب في اختلافهم أن مالكاً يرى أنّ الماء لا ينجسه إلا ما غيره، بينما يرى الجمهور أن قليل الماء تنجسه قليل النجاسة، ولو لم تغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 125 - " بَابٌ إذَا ألْقِيَ عَلَى ظَهْرِ المُصَلِّي قَذَرٌ أو جيفَة لم تفْسُد صَلَاتهُ " 150 - عنْ عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وأبو جَهْل وأصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ: أيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلا جَزُورِ بَنِي فُلانٍ، فَيَضَعُهُ على ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إذا سَجَدَ، فانبعَثَ أشْقَى الْقَوْمِ، فَجَاءَ بهِ، فَنَظر حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وأنا أَنْظرٌ   الحنفية والشافعية على أن الماء المستعمل في وضوء أو غسل هو ماء غير مطهر، فلا يجوز الوضوء أو الاغتسال فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّما نهي عن استعماله لئلا يسلب طهوريته، وحمل المالكية النهي عن الاغتسال فيه على الكراهة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: قي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ". 125 - " باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذرٌ أو جيفة لم تفسد عليه صلاته " 150 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند البيت. وأبو جهل وأصحاب له " وهم السبعة المذكورون في الحديث الذين دعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يأتي بسلا جزور بني فلان " وهو الجلد الذي يكون فيه ولد الماشية أثناء حملها به. " فانبعث أشقى القوم " أي فتصدى للقيام بهذا العمل الدنيء أشقى هؤلاء الرجال، وهو عقبة بن أبي معيط " فجاء " أي فأتى بسلا ذلك الجزور، " فنظر " أي فانتظر " حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 لا أُغْنِي شَيئاً، لَوْ كَانَ لي مَنَعَة، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ علَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِدٌ لا يَرْفَعُ رَأسَهُ. حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَطرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَفَعَ رَأسَهُ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْش " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أنَّ الدَّعْوَةَ في ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثمَّ سَمَّى فَقَال: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بأبِي جَهْل، وَعَليْكَ بعُتبةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وأمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أبي مُعَيْط "، وَعَدَّ السَّابعَ، فَلَمْ نَحْفَظْهُ، قَالَ: فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأيْتُ الَّذِيْنَ عَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرْعَى فِي القَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.   ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغني شيئاً" أي لا أستطيع أن أدفع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحميه منهم، أو أرد عنه شيئاً " لو كانت لي منعة " أي وكم تمنيت في ذلك الوقت أن لو كانت لي أسرة قوية في مكة، تساعدني على أن أقوم بحماية النبي - صلى الله عليه وسلم - والذود عنه، وأداء واجبي نحوه " قال: فجعلوا يضحكون " سخرية بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفرحاً بما يفعلونه به " ويحيل بعضهم على بعض " بالحاء كما عليه أغلب الروايات، قال الحافظ: يحتمل أن يكون من حال يحيل بفتح الياء إذا وثب على ظهر دابته أي يثب بعضهم على بعض من المرح والبطر، وفي مسلم من رواية زكريا، ويميل بالميم أي من كثرة الضحك، وكذا للمصنف من رواية اسرائيل والله أعلم " فرفع رأسه ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات " أي فلما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركوع دعا على هذه الفئة الخبيثة من قريش بالهلاك لجرأتهم عليه، وإمعانهم في إيذائه، ولأنّ الله تعالى أخبره بأنه لا مطمع في إيمانهم، لأنه قد طبع على قلوبهم فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 خير فيهم، بل في هلاكهم الخير كل الخير لقريش وغيرها من العرب. " فشق عليهم إذ دعا عليهم، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة " أي فصعب على نفوسهم أن يدعو عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك البلد الأمين، وتملكهم الخوف والفزع الشديد، لأنّهم كانوا يعتقدون أن دعوة المظلوم في البلد الحرام مستجابة، سيما إذا كانت في ذلك المقام. " ثم سمّى " أي ثم عيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأشرار، فدعا عليهم بأسمائهم " فقال: اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبي معيط " أي دعا على هؤلاء واحداً واحداً بالهلاك، فاستجاب الله دعاءه، فلم يمض إلا زمن يسير حتى هلكوا عن آخرهم، وأصبحوا كأمس الذاهب. " قال " ابن ميمون: " وعد السابع، فلم نحفظه " أي وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السابع، أو عده عبد الله بن مسعود فلم يحفظ اسمه عمرو بن ميمون راوي الحديث والله أعلم. " قال " ابن مسعود رضي الله عنه: " فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الَّذِيْنَ عدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرعى بالقليب قليب بدر " أي رأيتهم موتى، قد ألقيت جثثهم في بئر بدر. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الطهارة من النجاسة واجبة مع القدرة، ساقطة عند العجز، وهو مذهب مالك رحمه الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ألقيت عليه النجاسة في الصلاة، ولم يكن قادراً على إزالتها، أتم صلاته، ولم يقطعها، ولو كانت النجاسة عند عدم القدرة تفسد الصلاة لقطعها، وقال الجمهور: الطهارة من النجاسة شرط في صحة الصلاة مطلقاً في جميع الأحوال لقوله تعالى: (وثيابك فطهر) وللمالكية فيها قولان مشهوران: الوجوب والسنيّة حال التذكر والقدرة والتمكن. فإن صلى بالنجاسة عامداً قادراً على إزالتها أعاد صلاته وجوباً لبطلانها، وعلى القول بأن إزالة النجاسة سنة تندب الإِعادة، وعلى كلا القولين تندب الإِعادة للناسي والعاجز عنها عند المالكية. ثانياً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 126 - " بَابُ الْبُزَاقِ وَالْمخاطِ وَئحْوِهِ في الثَّوْبِ " 151 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَزَقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ثَوْبِهِ. 127 - بَابُ غَسْلِ الْمَرأةِ أباهَا الدَّم عَنْ وَجْهِهِ " 152 - عنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:   استدل به البخاري (1) على أن من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداءً لا تبطل صلاته لو تمادى فيها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يقطع الصلاة حين ألقيت عليه النجاسة. 126 - " باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب " 151 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " بزق النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه " روي بالزاي، والصاد والسين، وهي رواية ضعيفة أي بصق - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه أثناء الصلاة، ولم يغسله من البصاق. ويستفاد منه: طهارة البصاق والمخاط ونحوه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يغسل ثوبه منه، فدل ذلك على طهارته. ويؤخذ منه أيضاً أن الحركة اليسيرة لا يفسد الصلاة. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: بزق النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه. 127 - " باب غسل المرأة أباها الدم عن وجهه " 152 - الراوي: هو سهل بن سعد الساعدي الأنصاري روى عن   (1) هكذا قال بعض الشراح، ونسبه إلى البخاري، وهو قول بعض المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أنَّهُ سَألهُ النَّاسُ بأيِّ شَيءٍ دُوْوِيَ جُرْحُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مَا بَقِيَ أحَدٌ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، كَانَ عَلى يَجِيءُ بِتُرسِهِ فِيه ماء، وفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَأخذ حَصِيْرٌ، فأحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ.   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (138) حديثاً أخرج البخاري منها تسعة وثلاثين حديثاً، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة (91) هـ. معنى الحديث: أن الناس سألوا سهل بن سعد رضي الله عنه " بأي شيء دووي جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بأي شيء دووي جرحه عندما شُجَّ في غزوة أحد " فقال ما بقي أحد أعلم به مني " أي لم يبق أحدٌ من أهل المدينة أعلم بذلك مني لأنه آخر من مات بالمدينة من الصحابة " كان علي يجيءُ بترسه فيه ماء " أي يحضر الماء في ترسه " وفاطمة تغسل عن وجهه الدم، فأخذ حصير فأحرق فحشي به جرحه " أي أن فاطمة رضي الله عنها غسلت وجهه - صلى الله عليه وسلم - بالماء، ثم أحرقت حصيراً، وأخذت رماده، وحشت جرحه، فوقف الدم في الحال. ويستفاد منه: أولاً: جواز مباشرة المرأة أباها وذا رحمها إذا كان مريضاً أو جريحاً بتمريضه وعلاجه وخدمته، وهو ما عناه البخاري بالترجمة. ثانياًً: أن من الأدوية الطبية المعروفة عند العرب لايقاف الدم الرماد المستخرج من الحصير المحروق، حيث يحشى به الجرح، فيقف النزيف حالاً، لأنه مادة مجففة للدم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: وفاطمة تغسل عن وجهه الدم. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 128 - " بَابُ السِّوَاكِ " 153 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجْدتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ أُعْ أُعْ والسِّوَاكُ في فِيهِ، كَأنَّهُ يَتَهَوَّعُ. 154 - وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بالسِّوَاكِ.   128 - " باب السواك " 153 - معنى الحديث: يقول أبو موسى رضي الله عنه " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يستن بسواك " أي ينظف أسنانه بالسواك، ويبالغ في ذلك حتى يسمع منه صوت " ويقول: أُعْ أُعْ " بضم الهمزة وسكون العين " كأنه تهوع " أي يتقيىء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله: يستن بسواك. 154 - معنى الحديث: يقول حذيفة رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه " أي إذا قام من نوم الليل يَدْلُك أسنانه بالسواك يزيل الرائحة التي تحدث عادة في الفم بعد النوم الطويل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " يشوص فاه ". ويستفاد من الحديثين: أن السواك سنة مؤكدة لمواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليه ليلاً ونهاراً حتى أنه كان يستاك عند استيقاظه من النوم ليلاً، مما يدل على مواظبته عليه في جميع الأوقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 129 - "بَابُ دَفْع السِّوَاكِ إلى الأكْبَرِ" 155 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أرانِي أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فجَاءَنِي رَجُلانِ أحَدُهُمَا أكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِي: كَبِّر، فَدَفَعْتُهُ إلى الأكبر، مِنْهُمَا.   129 - " باب دفع السواك إلى الأكبر " 155 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أراني أتسوك بسواك " أي رأيت نفسي في المنام أني أستاك بسواك " فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر " في السن " فناولت السواك الأصغر " أي فلما انتهيت من السواك ناولته أصغرهما سناً " فقيل لي كبّر " أي فقال لي جبريل عليه السلام: إدفع السواك إلى الأكبر، وقدمه على من هو أصغر منه سناً. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه: أنه يستحب دفع السواك إلى أكبر الحاضرين سناً، وتقديمه على غيره احتراماً له، وتكريماً وتقديراً لسنِّه، فإن من السنة تقديمه على غيره في كل شيء، قال القسطلاني: يستفاد منه تقديم ذي السن في السواك والطعام والشراب والمشي والركوب والكلام، نعم إذا ترتب القوم في الجلوس فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " كبّر ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 130 - " بَابُ فَضل مَنْ بَات عَلى الوُضُوءِ " 156 - عَنِ البَرَاءِ بْنِ عِازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثمَّ اضْطَجِعْ علَى شِقِّكَ الأيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ وَجْهِي إليْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وألجَأتُ ظَهْرِي إليْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إليْكَ، لا مَلْجَأ ولا مَنْجَا مِنْكَ إلَا إِلْيكَ، اللَّهُمَّ آمْنتُ بِكِتَابِكَ الَّذي أنزلْتَ، وَنَبِيِّكَ الذي   130 - " باب فضل من بات على الوضوء " 156 - معنى الحديث: يرغّب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته في الوضوء قبل النوم، والدعاء بهذا الدعاء المأثور، فيقول - صلى الله عليه وسلم - للبراء بن عازب: " إذا أتيت مضجعك " أي إذا أردت أن تذهب إلى فراش نومك " فتوضأ وضوءك للصلاة " أي فتوضأ قبل أن تذهب إلى الفراش وضوءاً كاملاً، كما لو كنت تتوضأ للصلاة، حتى تنام وأنت على طهارة تامة " ثم اضطجع على شقك الأيمن "، لأنه أدعى إلى النشاط والاكتفاء بالقليل من النوم، وأعون على الاستيقاظ في آخر الليل، وأنفع للقلب لأنّه أخف عليه حيث يكون في الجهة العليا " ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك " أي أسلمت روحي عند نومي، وأودعتها ثم أمانة لديك، " وفوضت أمري إليك " أي توكلت في جميع أموري عليك، راجياً أن تكفيني كل شيء، وتحميني من كل سوء، لأنك قلت، وقولك الحق (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) " وألجأت ظهري إليك " أي وتحصنت بجوارك، ولجأت إلى حفظك، فاحرسنِي بعينك التي لا تنام، " رغبة ورهبة إليك " أي وإنما فعلتُ ذلك كله " رغبةً " أي طمعاً في رحمتك " ورهبة " أي خوفاً منك، فامنن علي برحمتك، وقني عذابك " لا ملجأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أرْسَلْتَ، فإنْ متَّ من لَيْلَتِكَ فَأنتَ عَلَى الفِطرةِ، وَاجْعَلهنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّم بِهِ " قَالَ فَرَدَّدتهَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا بَلَغْت اللهمَّ آمَنْت بِكِتَابِكَ الذي أنزلْتَ قلْت: وَرَسولكَ، قَالَ: لا! وَنَبيِّكَ الذي أرْسَلْتَ".   ولا منجا منك إلاّ إليك" أي فإنه لا مفر منك إلاّ إليك، ولا ملاذ من عقوبتك إلاّ بالالتجاء إلى عفوك ومغفرتك يا أرحم الراحمين. " آمنت بكتابك الذي أنزلت " وهو القرآن الكريم " ونبيك الذي أرسلت " وهو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له - صلى الله عليه وسلم - بعد أن علمه هذا الذكر المبارك " فإن مِتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة " أي فإن متَّ في تلك الليلة التي نمت فيها على وضوء، واضطجعت على شقك الأيمن، وتحصنت فيها بهذا الذكر فإنّك تموت على دين الإِسلام وسنة خير الأنام. ويستفاد منه: استحباب الوضوء عند النوم، والاضطجاع على الشق الأيمن وتلاوة هذا الذكر المأثور، وأن من قرأه قبل نومه وبات على وضوء ثم مات من ليلته مات على الإِيمان والسنة، قال العسقلاني: وإنما ندب الوضوء عند النوم لأنه قد يقبض روحه في نومه، فيكون قد ختم عمله بالوضوء، وليكون أصدق لرؤياه، وأبعد عن تلاعب الشيطان به في منامه. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " متّ على الفطرة " لدلالته على أن من مات على وضوء مات على السنة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الغسل " الغسل لغةً: إن كان بضم الغين فهو إراقة الماء على البدن مع الدلك، وأما بكسرها فهو ما يغسل به من ماء وصابون ونحوه، وبفتح الغين اسم للماء الذي يغسل به خاصة، ونقل القاري (1): أنه بالضم مشترك بين الفعل المعروف، والماء الذي يغسل به، ومنه قول ميمونة: " وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسلاً ". أما الغسل شرعاً فهو كما في " المنهل العذب " (2) إيصال الماء إلى جميع ظاهر الجسد مع داخل الفم والأنف بنية رفع الحدث، ومع الدلك عند المالكية. ومن أسبابه: الجنابة وانقطاع دم الحيض والنفاس. والحكمة في الغسل: إزالة الفتور الذي يعقب الجنابة واستعادة القوة والنشاط البدني، ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه بعد اغتساله: " كأني ألقيت عني حملاً " قال ابن القيم (3) " وفي الغسل والوضوء بعد الوطءِ من النشاط وطيب النفس، وإخلاف ما تحلل من الجماع وكمال الطهر، والنظافة، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع، وحصول النظافة التي يحبها الله. اهـ. أمّا من الناحية النفسية فإن الإنسان بعد الجماع يحصل له نوع من التبلد الذهني الذي ينشأ عن ركود الدم (4)، ومن رحمة الحكيم الخبير أنه   (1) المرقاة شرح المشكاة للقاري ج 1. (2) المنهل العذب شرح سنن أبي داود ج 1 (3) زاد المعاد لابن القيم. (4) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 131 - " بَابُ الْوُضُوءِ قَبلَ الْغسْلِ " 157 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأ كما يَتَوَضَّأ للصَّلَاةِ، ثمَّ يُدْخِلُ أصَابِعَهُ في الْمَاءِ، فَيُخَلَل بِهَا أصُولَ الشَّعْرِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ يفيضُ الْمَاءَ على جِلْدِهِ كُلِّهِ.   شرع هذا الغسل الذي يعيد للبدن قوته وللدم حركته، وللنفس الإنسانية نشاطها من جديد، وأما غسل الحائض والنفساء فهو لِإزالة القذارة والرائحة الكريهة. 131 - " باب الوضوء قبل الغسل " 157 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه " قبل إدخالهما في الإِناء لتنظيفهما، مما يحتمل أنه علق بهما من الأقذار، وفي رواية ثم يغسل فرجه، وذلك لئلا يحتاج إلى غسله بعد الوضوء فينتقض وضوءه " ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة " أي مثل وضوئه للصلاة، " ثم يدْخِل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر " أي ثم يبلل أصابعه بالماء، فيحرك بها أصول الشعر ليصل الماء إلى بشرة الرأس، " ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات " أي يغسل رأسه ثلاث مرات، كل مرة بغرفةٍ مستقلة " ثم يفيض الماء على جلده كله " أي ثم إذا انتهي من الوضوء وتخليل الشعر وغسل الرأس ثلاثاً يصب الماء على جسده فيعممه بالماء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي ومالك أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان كيفية غسله - صلى الله عليه وسلم - وأنه يبدأ بغسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 158 - عَنْ مَيمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَوَضَّأ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وما أصَابَهُ مِنَ الَأذَى، ثُمَّ أفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا هَذَا (1) غُسلُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْجَنَابَةِ".   اليدين، ثم الفرج، ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، ثم يخلل شعر رأسه ويغسله ثلاثاً، ثم يعمم جسده بالماء. ثانياً: مشروعية أو استحباب الوضوء قبل الغسل كما ترجم له البخاري. ثالثاً: مشروعية تخليل شعر الرأس واللحية، قال الزرقاني: ثم هذا التخليل غير واجب اتفاقاً، إلاّ إذا كان الشعر ملبداً. بمعنى أنه مستحب، ولكن هذا في الحقيقة هو مذهب الجمهور، أمّا المالكية فمشهور مذهبهم وجوب تخليل اللحية والرأس وغيرهما كما أفاده الخطاب، حيث نقل عن ابن الحاجب أنه قال: الأشهر وجوب تخليل اللحية والرأس وغيرهما. والمطابقة: في قولها: "ثم يتوضأ وضوءه للصلاة". 158 - معنى الحديث: تصف لنا أم المؤمنين السيدة ميمونة رضي الله عنها غُسْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: " توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءه للصلاة غير رجليه وغسل فرجه " الواو لمطلق الجمع، وليست للترتيب، والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ أولاً بغسل فرجه، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة إلّا أنه لم يغسل رجليه، وإنما أخر غسلهما إلى نهاية غسْله. والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ بغسل الفرج قبل الوضوء، كما يدل عليه حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنّه كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فأفرغ على يده اليمنى، ثم غسل فرجه " إلخ " ثم أفاض عليه الماء " أي ثم بعد الفراغ من الوضوء غسل جسده   (1) وفي رواية الأكثرين هذه غسله أي هذه الأفعال المذكورة أو هذه صفة غسله، وهي عليها النسخ التي شرح عليها العيني والحافظ ابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 132 - " بَابُ غُسْلَ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأتِهِ " 159 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ.   كله وصب عليه الماء. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الوضوء قبل الغسل كما ترجم له البخاري وهو سنّة عند الجمهور لهذه الأحاديث، وليس بواجب لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة: " يكفيك أن تفيضي عليك الماء " وذهب داود وأبو ثور إلى وجوبه، ولا دليل عليه في هذا الحديث. ويكون بعد غسل الفرج. ثانياً: تأخير غسل القدمين إلى ما بعد نهاية الغسل لقول ميمونة " ثم أفاض عليه الماء، ثم نحّى رجليه فغسلهما " وهو مذهب الجمهور وبعض المالكية كما أفاده الزرقاني، وذهب الشافعي ومالك في المشهور عنه إلى تقديم غسل الرجلين وفعله في الوضوء، وقالت الحنفية: يؤخرهما إن كان المغتسل يجتمع فيه الماء كما أفاده في " فيض الباري ". 132 - " باب غسل الرجل مع امرأته " 159 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد " الواو واو المعيّة، ويحتمل أن تكون عاطفة والمراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل مع السيدة عائشة من إناءٍ واحد، يغترف منه وتغترف منه، قال الحافظ يحتمل أن يكون " النبي " مفعولاً معه، ويحتمل أن يكون عطفاً على الضمير " من قدح يقال له الفرَق " بفتح الراء كما رواه الحافظ، وقال ابن التين باسكان الراء. وهو ثلاثة آصع. الحديث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 133 - " بَابُ الْغسْلِ بالصَّاعِ وَئحْوِه " 160 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا سُئِلَتْ عنْ غُسْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَتْ بإنَاءٍ نَحْوٍ مِنْ صَاع فاغْتَسَلَتْ وأفَاضَتْ عَلَى رَأسِهَا، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا حِجَاب.   أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز اغتسال الرجل مع زوجته من إناء واحد. قال الترمذي، وهو قول عامة الفقهاء أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد، وقد نقل القرطبي والطحاوي والنووي الاتفاق على جوازه. ثانياً: جواز اغتسال المرأة بفضل طهور الرجل، وجواز اغتسال الرجل بفضل طهور المرأة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنها اجتمعا في الغسل من إناء واحد وذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه إلى المنع من التطهر بفضل طهور المرأة إذا خلت به (1) لحديث الترمذي " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فضل طهور المرأة " قال أبو عيسى: وهو قول أحمد وإسحاق كرها فضل طهورها. اهـ. والمطابقة: في قولها: كنت أغتسل أنا والنبي من إناء واحد (2). 133 - " باب الغسل بالصاع ونحوه " 160 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " سئلت عن غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي سألها عبد الله بن يزيد، وهو أخوها من الرضاعة،   (1) كما أفاده ابن قدامة قال: والثانية أي الرواية الثانية يجوز الوضوء به للرجال والنساء اختارها ابن عقيل، وهو قول أكثر أهل العلم. (2) قال العيني: وفي حديث عائشة تطهر المرأة بفضل الرجل، وأما العكس فجائز، عند الجمهور سواء خلت المرأة بالماء أو لم تخل، وذهب أحمد إلى أنها إذا خلت بالماء واستعملته لا يجوز للرجل استعمال فضلها اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 161 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سَألهُ رَجُلٌ عَنِ الْغُسْلِ فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ. فَقَالَ رَجُل: مَا يَكْفِيني! فَقَالَ جَابِرُ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أوْفَى مِنْكَ شَعْراً وخَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ أمَّنَا في ثَوْبٍ.   ورجح العيني أنه عبد الرحمن بن أبي بكر والله أعلم " فدعت بإناءٍ نحو (1) من صاع " أي فطلبت أن يُحْضِروا لها إناءً يسع مقدار صاع من الماء، والصاع عند الجمهور خمسة أرطال وثلث " فاغتسلت وأفاضت على رأسها " أي فاغتسلت بذلك الماء الذي يبلغ مقداره صاعاً وصبت الماء على رأسها، وعَمَّتْ جسدها كله بالماء، ولم يذكر في هذا الحديث أنها توضأت قبل الغسل إما اختصاراً أو اقتصاراً على القدر الواجب الذي لا يصح الغسل إلاّ به، وهذا يحتمل وجهين: إما أن تكون عائشة اقتصرت على مجرد الغسل ولم تتوضأ بياناً للجواز واقتصاراً على القدر الواجب وإما أن تكون قد توضأت، ولكن الراوي اختصر الحديث. ويستفاد منه: استحباب الاقتصاد في الماء عند الغسل، والاكتفاء بقدر الصاع إذا أجزأ الجسم وكفى لغسل جيع أعضائه، وإلّا فالقدر الكافي بلا حد. دون إسراف في الماء، أو تقتير في غسل بعض الأعضاء بتركها دون غسل أو عدم استيعابها وإتمام غسلها. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فدعت بإناءٍ نحو من صاع ". 161 - معنى الحديث: أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما " سأله رجل عن الغسل " أي سأله عن قدر الماء الذي يستحب له أن لا يزيد عليه في الغسل إن أمكنه وكفاه: " فقال: يكفيك صاع " وهو خمسة أرطال   (1) بالجر صفة لإناء كما أفاده القسطلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 134 - " بَابُ مَنْ أفَاضَ علَى رَأسِهِ ثَلَاَثاً " 162 - عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم رَضي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّا أنا فأُفِيضُ عَلَى رَأسِي ثَلَاثاً " وأشَارَ بِيَدَيْه كِلْتَيْهِمَا.   وثلث، أي قال جابر لهذا السائل وهو أبو جعفر محمد الباقر: يكفيك هذا القدر من الماء " فِقال رجل " وهو الحسن بن محمد بن الحنفية " ما يكفيني " هذا القدر " فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعراً وخير منك " أي كان الصاع من الماء يكفي في الغسل من هو أكثر منك شعراً، وأفضل منك، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " ثم أمّنا " أي صلى بنا إماماً " في ثوب " أي صلى بنا وهو في ثوب واحد فقط. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب تقليل الماء في الغسل بلا حدٍ كما تقدم شرحه في الحديث السابق. ثانياً: جواز الصلاة في الثوب الواحد إذا كان ساتراً. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: يكفيك صاع. 134 - " باب من أفاض على رأسه ثلاثاً " 162 - ترجمة راوي الحديث: هو جبير بن مطعم بكسر العين النوفلي من سادات قريش، وكبار نسابيها، أسلم عام خيبر، وروى ستين حديثاً، اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بواحد، توفي بالمدينة سنة أربع وعشرين هـ. معنى الحديث: أن بعض القوم كما في رواية مسلم قال: أما أنا فأغسل رأسي بكذا وكذا - أي أغسله مرات كثيرة تزيد على ثلاث مرات فأجابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 135 - " بَابُ مَنْ بَدأ بالْحِلَابِ عِنْدَ الغسل " 163 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اغْتَسَلَ من الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ، فَأخَذَ بِكَفَّيْهِ فَبَدَأ بِشِقِّ رَأسِهِ الأيْمَنِ، ثمَّ الأيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأسِهِ.   النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله " أما أنا فأفيض (1) على رأسي ثلاثاً " أي إذا كنت تغسل رأسك أكثر من ثلاث مرات، فليس ذلك من سنتي، لأنني إنما أغسل رأسي ثلاث مرات فقط، ولا أزيد على ذلك، فإن زدتَ فقد خالفت السنة، ولا ينبغي. ذلك. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي. والمطابقة: في قوله: " فأفيض على رأسي ثلاثاً ". ويستفاد منه: أنه يستحب التثليث في غسل الرأس وسائر الأعضاء وهو مذهب الجمهور، قال العيني: ويستنبط منه (2) أن المسنون في الغسل أن يكون ثلاث مرات، وعليه إجماع العلماء، وأمّا الفرض منه فغسل سائر البدن بالإجماع - أي مرةً واحدة، وقال ابن بطال: العدد في ذلك مستحب عند العلماء وما عم وأسبغ أجزأ. 135 - " باب من بدأ بالحلاب عند الغسل " 163 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب " أي كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد الغسل من الجنابة استعد له، فأمر بإحضار ما يلزمه من إناء وماء، وطلب   (1) بضم الهمزة من الإفاضة بمعنى الإسالة كما أفاده العيني. (2) شرح العيني على البخاري ج 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 136 - " بَاب هَلْ يُدخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي الإِناءِ قبلَ أنْ يَغسِلَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ " 164 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أيدِينَا فِيهِ.   إناءً مثل الحلاب، وهو إناء يسع ثمانية أرطال، وسمى حلاباً لأنه يسع قدر حَلْبَةِ الناقة كما أفاده الخطابي، ومنه قول الشاعر: صَاحِ هَلْ رَأيت أو سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... رَدَّ في الضَّرعِ مَا بقِيَ مِنْ حِلابَ (1) " فأخذ بكفيه " الماء " فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر " أي فبدأ بغسل الجانب الأيمن من الرأس، ثم الأيسر منه، " فقال بهما على وسَط رأسه " قال العيني: أي قلب بكفيه على وسط رأسه، والظاهر أن معناه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل شق رأسه، الأيمن أولاً، ثم الأيسر، ثم قلب الماء بكفيه على وسط رأسه، فغسله أخيراً والله أعلم. ويستفاد منه: استحباب الاستعداد للغسل من الجنابة قبل الشروع فيه وإحضار ما يلزم له من إناء وماء، وأن يبدأ بالميامن قبل المياسر في الرأس وسائر الأعضاء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: بدأ بالحِلاَب. 136 - " باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة " 164 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد " يجوز في النبيّ الرفع على العطف،   (1) شرح العيني على البخاري ج 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فيكون المعنى كنت أشترك أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الاغتسال من الماء الموجود في الإِناء الواحد، ويجوز فيه النصب على أنه مفعول معه فيكون معناه كنت أغتسل مع النبيّ من إناء واحد " تختلف أيدينا فيه " أي فأدخل يدي في الإِناء مرة لأغترف منه، ويدخل يده - صلى الله عليه وسلم - في الإِناء مرة ليغترف منه، كما جاء في رواية للبخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، نغرف منه جميعاً " أخرجه البخاري في باب تخليل اللحية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها: " تختلف أيدينا فيه ". ويستفاد من الحديث: كما قال الحافظ: جواز اغتراف الجنب من الماء (1) القليل وأن ذلك لا يمنع من التطهر بذلك الماء، ولا بما يفضل منه. " قال ": وتوجيه الاستدلال به للترجمة أن الجنب لما جاز له أن يدخل يده في الإِناء ليغترف بها قبل ارتفاع حدثه، دل على أن الأمر بغسل يده قبل إدخالها ليس لأمر يرجع إلى الجنابة. اهـ. ...   (1) فتح الباري ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 137 - " بَابٌ إذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَد، وَمْن دَارَ عَلَى نِسَائِهِ في غُسلٍ وَاحِدٍ " 165 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أطيَبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَطُوفُ على نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمَاً يَنْضَحُ طِيباً. 166 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ في السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلِ   137 - " باب إذا جامع ثم عاود، ومن دار على نسائه في غسل واحد " 165 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليطوف على نسائه " أي فيجامعهن كلهن بغسل واحدٍ كما في رواية أنس رضي الله عنه: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف على نسائه بغُسلٍ واحد " أخرجه البخاري " ثم يصبح محرماً ينضح طيباً " أي تفوح منه رائحة الطيب. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز معاودة الجماع بغسل واحد لزوجة واحدة أو لعدة زوجات، وعدم كراهية الإكثار من الجماع عند القدرة عليه. ثانياً: استحباب الطيب عند الجماع، لأنه يزيد الرغبة، قال ابن القيم (1) القوى تزيد بالطيب، كما تزيد بالطعام والشراب. والمطابقة: في قوله: " فيطوف على نسائه ". 166 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: "كان رسول   (1) الطب النبوى لابن القيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 والنهَارِ، وَهُنَّ إحْدَى عَشرَةَ -وفي رِوَاية تِسْعُ نِسْوةٍ- قِيلَ: أوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاِثينَ.   الله - صلى الله عليه وسلم - يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار " أي يباشرهن جميعاً في ساعة واحدة، إما بغسل واحد كما في رواية الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان يطوف على نسائه في غسل واحد أو يغتسل عند هذه وهذه كما كان يفعل أحياناً " " وهن إحدى عشرة وفي رواية تسع نسوة " وهي الأرجح كما أفاده الحافظ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجتمع عنده أكثر من تسع، وتحتمل رواية إحدى عشرة، أنه عد منهن مارية، وريحانة. وهما جواريه لا زوجاته " قيل " أي فقال بعضهم لأنس رضي الله عنه " أو كان يطيقه قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين " رجلاً، وفي رواية أبي نعيم " وأعطي قوة أربعين من رجال أهل الجنة ". والرجل منهم كما في الحديث " يعطى قوة مائة في الأكل والشرب والشهوة " أخرجه النسائي وأحمد والحاكم وصححه. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " كان يدور على نسائه ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للرجل أن يطوف على نسائه جميعاً في وقت واحد لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، وأنه لا بأس بكثرة الجماع لمن يطيقه، كما يجوز له أن يطوف عليهن بغسل واحد لما في حديث الترمذي الذي مرَّ بنا إلاّ أنه يستحب الغسل لكل جماع. ثانياًً: ما أعطي - صلى الله عليه وسلم - من قوة الجماع، وتلك فضيلة من الفضائل. قال ابن العربي المالكي: كان العرب وغيرهم من الأمم يتمدحون بقلة الأكل وكثرة الجماع. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 138 - " بَابُ تخلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتهُ، أفَاضَ عَلَيْهِ " 167 - عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ، وتَوَضَّأ وُضُوءَهُ للصَّلَاةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلل بِيَدِهِ شَعْرَهُ، حَتَّي إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ أفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثم غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. وَقَالَتْ: كُنْتُ أغْتَسِلُ أنَا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْرِفُ مِنْهُ جَمِيعَاً.   138 - " باب تخليل الشعر حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه " 167 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم اغتسل " وقد تقدم شرحه في باب الوضوء قبل الغسْلِ " ثم يخلل بيده شعره " وفي رواية للبخاري ثم يدخل أصابعه الماء فيخلل بها أصول شعره - أي يغمس أصابع يديه في الماء حتى تبتل، ثم يدخلها في شعره، فيحرك بها أصول الشعر ليروي بشرته ويبلها بالماء، " حتى إذا ظنّ أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء " أي فإذا غلب على ظنه أنه أوصل الماء إلى جلدة رأسه صب الماء على رأسه " ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده " أي ثم غسل بقية بدنه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " ثم يخلل بيده شعره ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية تخليل الشعر في الغسل، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 139 - " بَابٌ إِذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْجِدِ أنَّهُ جُنُبٌ يَخرُجُ كما هُوَ ولا يَتَيَمَّمُ " 168 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُفُوفُ قِياماً، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا قَامَ في مُصلَّاهُ ذكر أنَّه جُنُبٌ فقال لنا: مَكَانَكُمْ، ثم رَجَعَ فاغْتَسَلَ ثم خَرَجَ إليْنَا ورَأسُهُ يَقْطرٌ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ.   مستحب أثناء صب الماء أو بعده عند الحنفية والشافعية والحنابلة في الرأس واللحية (1) إذا أمكن وصول الماء إلى البشرة بدونه، وإلّا وجب. وذهبت المالكية إلى وجوبه في الرأس (2) واللحية سواء كان الشعر خفيفاً أو كثيفاً كما أفاده الحطاب. ثانياً: مشروعية التثليث في غسل الرأس، وهو سنة اتفاقاً وألحق به الشافعي سائر الجسد. 139 - " باب إذا ذكر في السجد أنه جنب يخرج كما هو ولا يَتَيَمَّم " 168 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً " أي أقيمت صلاة الجماعة، وسويت الصفوف واعتدل الناس قياماً " فلما قام في مصلاه " أي فلما وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في المكان الذي يصلي فيه " ذكر أنه جنب فقال فما: مكانكم " أي قفوا مكانكم وانتظروني حتى أعود إليكم، " ثم رجع " أي ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد: وعاد إلى بيته " فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر   (1) المنهل العذب ج 3. (2) فالمعتمد عند المالكية أن تخليل الشعر واجب مطلقاً كما في شرح الخطاب على متن الخليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 140 - " بَابُ مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَاناً وَحْدَهُ في الْخلْوَةِ وَمَنْ تسَتر فالتَّسَتُّرُ أفضل " 169 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، ينْظرٌ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض، وكان مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فقالُوا: وَاللهِ مَا يَمْنَعُ موسَى أنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أنه آدَرُ، فذَهَبَ مَرَّة يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فخرَجَ مُوسَى في إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ ثَوْبِى يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظرتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إلى مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللهِ   فكبر" تكبيرة الإحرام ولم يعد الإقامة " وصلينا معه " صلاة الفجر. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من تذكر الجنابة في المسجد فإن عليه أن يخرج منه، ولا يجب عليه التيمم قبل الخروج، وهو مذهب الجمهور كما ترجم له البخاري ودل عليه الحديث خلافاً للثوري وأبي حنيفة حيث قالوا: يجب عليه التيمم قبل الخروج. ثانياً: جواز الفصل بين الإِقامة والصلاة بفعل أو قول يتعلق بمصلحة الصلاة، ولا تجب إعادة الإقامة، وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنابة فخرج من المسجد دون أن يتيمم. 140 - " باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة ... إلخ " 169 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة " أي يغتسل بعضهم مع بعض عراة فيرى كل واحد منهم عورة الآخر، ولا يرون في ذلك بأساً " وكان موسى يغتسل وحده " أي يختلي وينفرد وحده عند الاغتسال يستر عورته عن الناس حياءً واحتشاماً وامتثالاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مَا بِمُوسَى من بَأْسٍ، وأخَذَ ثَوْبَهُ فَطفِقَ بالْحَجَرِ ضَرْباً". فَقَالَ أبو هُرَيرَةُ: واللهِ إنَّهُ لنَدَبٌ بالْحَجَرِ سِتَّة أوْ سَبْعَة ضَرْباً بالحْجَرِ".   لأمر الله لأن شريعته كانت تأمر بذلك " فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنه آدر " أي فقالوا بناءً على ظنهم الكاذب: والله لم يعتزل موسى عنا عند اغتساله إلاّ لأنه آدر - أي منتفخ الخصيتين، فهو يستتر ليخفي عن الناس هذه العاهة الجسمية الموجودة خشية الفضيحة، " فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر " أي فأراد الله تعالى أن يبرأ موسى عليه السلام مما قالوا، ويكشف لهم عن سلامة جسمه من جميع العيوب البدنية، فذهب موسى كعادته ليغتسل وحده، فخلع ثوبه ووضعه على حجر، فهرب الحجر بثوبه، ليتم ما أراده الله " فخرج موسى في إثره " بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى فتحمها، أي فخرج موسى من المكان الذي كان يغتسل فيه يسير وراء الحجر، وهو " يقول ثوبي يا حجر " أي أعطني ثوبى يا حجر، ورأى اليهود موسى وهو عار من ثيابه، وظهرت لهم براءته وسلامته من العيوب الجسمية، والأمراض البدنية " فقالوا: والله ما بموسى من بأس " أي فتبين لهم كذب ظنهم في موسى فأقسموا على خلوه من كل عيب وعاهة. " فطفق بالحجر ضرباً " أي فأخذ موسى بضرب ذلك الحجر ضرباً شديداً لأنه كان سبباً في ظهور عورته " والله إنه لَنَدَبٌ " (1) أي والله إن آثار الضرب ظاهرة على الحجر " ستة أو سبعة " أي بحيث يتبين للناظر عددها ستة آثار أو سبعة آثار. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه اغتسل وحده عرياناً.   (1) بفتح النون والدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 170 - وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " بَيْنَا أيوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانَاً فخرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ من ذَهَب فجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَُّبهُ يا أيوبُ ألمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى، قَالَ: بَلَى وعِزَّتِكَ، ولكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ ".   170 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أيوب يغتسل عرياناً " أي بينما كان يغتسل وحده عرياناً " فخر عليه جراد من ذهب " أي فسقط عليه جراد من الذهب اختباراً له، ومعجزة من معجزاته عليه السلام، " فجعل أيوب يحتثي (1) في ثوبه " أي يجمع تلك القطع الذهبية التي تساقطت عليه في ثوبه " فناداه ربه " معاتباً له " ألم أكن أغنيتك عمَّا ترى؟ قال: بلى وعزتك! ولكن لا غنى لي عن بركتك " أي فأجاب أيوب بذلك الجواب السديد. -ونعم الناصر الجواب الحاضر- فقال: بلى أغنيتني بفضلك الواسع فأنعمت على بالصحة بعد المرض، وبالغنى بعد الفقر، وبالسلامة من العاهات البدنية التي كنت أعانيها مدة من الزمان، فطهّرت جسمي منها ولكن هذا الذهب نعمة من نعمك، وخيرٌ من عندك، فكيف أستغني عن خيرك ونعمتك، وأنا لما أنزلت إلي من خير فقير. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في قوله: " بينا أيوب يغتسل عرياناً ". ويستفاد من الحديثين: جواز التعرّي عند الخلوة، لأنَّ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يدل الدليل على نسخه، وقد قال عز وجل: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده).   (1) بالحاء الساكنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 141 - " بَابُ التَّسَتُّرِ في الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ " 171 - عن أمِّ هَانِىءٍ بِنْتِ أبي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " فقُلْتُ: أنا أمُّ هَانِىءٍ.   141 - " باب التَّستر في الغُسْل عند الناس " 171 - ترجمة راوية الحديث: هي أم هانىء " فاختة " بنت أبي طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخت عليّ رضي الله عنهما، روت ستة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديث، ولها في البخاري حديثان. معنى الحديث: تقول أم هانىء رضي الله عنها: " ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح " أي ذهبت للسلام عليه عندما قدم إلى مكة في غزوة الفتح " فوجدته - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وفاطمة تستره " أي تضع له ستاراً كثيفاً يحجبه عن الناس " فقال من هذه " وفي رواية الموطأ: فسلمت عليه فقال: من هذه؟ " فقلت أنا أم هانىء " أي فعرّفته بنفسي، وذكرت له اسمي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب التستر أثناء الغسل عن أعين الناس، وتحريم الاغتسال أمامهم دون ستار، وقد قال ابن بطال: من دخل الحمام بغير مئزرٍ تسقط شهادته، وهو قول الجمهور. ثانياًً: جواز الاغتسال بحضرة المحرم إذا حال بينهما ساتر من ثوب ونحوه. والمطابقة: في قوله: " وفاطمة تستره ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 142 - " بَابُ عَرَقِ الْجُنُبِ وأنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ " 172 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَهُ في بَعْض طُرُقِ الْمَدِيْنَةِ وَهُوَ جُنُبٌ، قَالَ: فَانْخَنَسْتُ، فَذَهَبْتُ فاْغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ (1) فَقَالَ: " أيْنَ كُنْتَ؟ "، قَالَ: كُنتُ جُنُبَاً فَكَرِهْتُ أن أجَالِسَكَ وأنا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقاَل: " سُبْحَانَ اللهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ ".   142 - " باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس " 172 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب " أي والحال أن أبا هريرة كان في ذلك الوقت جنباً " قال فانخنست " بالخاء المعجمة من الخنوس، وهو الاختفاء أي فتغيبت عن وجهه، وأخفيت شخصي لئلا ألقاه بجنابتي ظناً منه أنّ الجنابة نجاسة ذاتية تمنعه عن مقابلة النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال أين كنت؟ قال: كنت جنباً فكرهت. أن أجالسك. وأنا على غير طهارة " أي فكرهت أن أجالسك وأنا نجس " فقال: سبحان الله " أي فسَبَّحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجباً من ظن أبي هريرة أن الجنابة نجاسة تمنعه عن مقابلته أو مقابلة غيره، وتحول دون مجالسته - صلى الله عليه وسلم - أو مجالسة سواه، لأنّه ظن غير صحيح، فالجنابة إنما تمنع من الصلاة ومس المصحف ودخول المسجد، ولا تمنع من مجالسة المسلمين ومقابلتهم، ولا يصير بها الجنب نجساً، فإن المؤمن طاهر الذات أبداً، سواء كان جنباً أو غير جنب ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن المؤمن لا ينجس " أي لا   (1) هكذا في بعض الروايات، وهو المناسب لما قبله، وفي بعضها فذهب واغتسل اهـ كما أفاده الشرقاوي في شرحه على مختصر البخاري للزبيدي ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 143 - " بَابُ كَيْنُونةِ الْجُنُبِ في الْبَيتِ إذَا توَضَّأ قَبلَ أنْ يَغتسِلَ " 173 - عَن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سَأل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيَرْقُدُ أحَدُنَا وَهُوَ جُنب؟ قَالَ: " نَعَمْ، إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ ". تَتَنَجَّسُ ذاته ولا تصيّره الجنابة نجساً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: طهارة المسلم في جميع الأحوال، فهو طاهر الذات ولو كان جنباً أو ميتاً وجسمه ولعابه وعرقه كله طاهر، سواء كان جنباً أو حائضاً أو نفساء، وسواء كان حياً أو ميتاً، وذهب الشافعي في أحد قوليه: إلى نجاسة الميت، وكذلك الكافر طاهر عند الجمهور، خلافاً للظاهريّة. ثانياًً: أنه ينبغي أن لا يلام المرء على شيء حتى يسأل عنه أولاً. والمطابقة: في قوله: " إن المؤمن لا ينجس ". 143 - " باب كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل " أي هذا باب يذكر فيه أنه يجوز للجنب أن يبقى بجنابته في البيت مكتفياً بالوضوء، وأن ينام بذلك دون أن يغتسل. 173 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه " سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيرقد أحدنا وهو جنب؟ " أي هل يجوز للمسلم أن ينام على جنابة دون أن يغتسل " قال: نعم " يجوز له أن ينام قبل أن يغتسل " إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب " أي لا مانع من أن ينام بجنابته دون غسل، ما دام قد توضأ قبل نومه، وهذا الوضوء أيضاً مستحب لا واجب. فلو نام دون وضوء لا حرج عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 144 - " بَاب إِذَا الْتَقَى الْخِتَانانِ " 174 - عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأرْبَع ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ".   ويستفاد منه: جواز نوم الجنب دون غسل لأنّ الغسل إنما يلزم للصلاة ونحوها، وإن كان النوم على غسل أفضل ويستحب له -إن لم يغتسل- وأراد نوماً أو أكلاً أو شرباً أو معاودة جماع أن يتوضأ عند الجمهور، وقالت الظاهرية: يجب عليه الوضوء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم " في جواب قوله أيرقد أحدنا وهو جنب. 144 - " باب إذا التقى الختانان " 174 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جلس بين شعبها " أي إذا جلس بين أطرافها الأربعة " ثم جهدها " أي جامعها بإدخال تمام الحشفة في الفرج " فقد وجب الغسل " على كِلا الزوجين أنزلا، أم لم ينزلا. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه: أن الجماع يوجب الغسل مطلقاً، ولو لم ينزلا. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّما الماء من الماء " الذي يدل على أنه لا يجب الغسل إلاّ من نزول المنى فإنه منسوخ. والمطابقة: في قوله: " ثم جهدها فقد وجب الغسل " كما أفاده العيني. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحيض والحيض لغة: من حاض السيل: إذا فاض، والماء التدفق بغزارة. ويطلق أيضاً على نفس الجريان، سواء كان الجاري ماءً أو عيره من السوائل، تقول العرب: حاض الوادي إذا سال، وحاضت الشجرة سال منها الصمغ، وحاضت المرأة سال منها دم الحيض، فهو مصدر يطلق على السيلان، واسم يطلق على المادة السائلة. أما الحيض شرعاً: فهو كما في " تيسير العلام ": دم جعله الله من رحمته وحكمته في رحم المرأة غذاء لجنينها، فإذا وضعت تحول إلى لبن يرضعه طفلها، فإذا كانت غير حامل ولا مرضع برز الزائد منه في أوقات معلومة وله ألوان مختلفة حمرة وصفرة وكدرة، ولهذا عرفه خليل بقوله: " الحيضُ دَمٌ كَصُفْرَةٍ أو كُدْرَةٍ خَرَجَ بِنَفْسِهِ مِنْ قُبُل مَنْ تَحْمِلُ عَادَةً " قال الحطاب: يخرج بهذا التعريف دم النفاس لأنّه بسبب الولادة، ودم البكارة لأنه بسبب الافتضاض، ودم الاستحاضة لأنه بسبب علة أو فساد. اهـ. فإن هذه الأنواع ليست حيضاً لأنّها لا تخرج بنفسها، وإنما بأسباب أخرى، وإنما قال: " من قُبُلِ من تحمل عادة " لأن الصغيرة واليائس لا تحيضان. أما الحامل، فإنها تحيض عند المالكية والشافعية، خلافاً للحنفية والحنابلة. والحكمة في الحيض: تغذية الإِنسان في بطن أمه جنيناً وتغذيته باللبن رضيعاً، قال ابن قدامة: فإذا حملت -المرأة- انصرف الحيض لتغذية الجنين بإذن الله تعالى، فإذا وضعت الولد قلبه الله بحكمته لبناً يتغذى به الطفل اهـ. ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 145 - " بَاب كَيْفَ كَانَ بَدءُ الحَيْض وقَولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا شَيءٌ كتبَهُ اللهُ على بَنَاتِ آدَمَ " 175 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: - خَرَجْنَا لا نَرَى إلَّا الْحَجَّ، فَلمَّا كُنْتُ بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَليَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنَا أبْكِى فَقَالَ: " مَا لَكِ أنَفِسْتِ؟ " قَلْتُ: نَعَمْ، قَال: " إِنَّ هذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلى بَنَاتِ آدَمَ، فاقْضِ ما يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أنْ لا تَطُوفي بالبَيْتِ "، وَضَحَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نِسَائِهِ بالْبَقَرِ.   فوائده الدينية كونه علامةً لعدّة المطلقة وبلوغ الأنثى، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار ". 145 - " باب كيف كان بدء الحيض وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا شيء كتبه الله على بنات آدم " 175 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا لا نرى إلا الحج " أي خرجنا في حجة الوداع محرمين بالحجِّ فقط " فلما كنا بسرف " بفتح السين وكسر الراء ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث وهي على عشرة أميال من مكة " حضت فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي " حُزْناً لأننى ظننت أن الحيض يفسد علي حجي " قال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم " أي لا داعي للبكاء، لأَنَّكِ إذا كنت تخافين الملامة على ذلك الحيض الذي أصابك في الحج، فإنّك معذورة، لأن الحيض ظاهرة طبيعية في المرأة منذ بدء هذا العالم البشري، لا قدرة للمرأة على دفعه أو تأجيله، فهو عذر شرعي لا ملامة فيه، وإن كنت تخافين من فساد الحج، فإنه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 146 - " بَابُ غَسْلِ الحَائِض رَأسَ زَوْجِهَا وترجِيله " 176 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أغْسِلُ رَأسَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا حَائِضٌ.   يفسده الحيض، وعليك أن تستمري في أفعال الحج " فاقضي ما يقضي الحاج " أي افعلي ما يفعله الحاج من المناسك " غير أن لا تطوفي بالبيت " طواف الإِفاضة حتى تطهري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الحيض ظاهرة طبيعية في المرأة منذ وجودها على هذه الأرض كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة. أخرجه الحاكم بإسناد صحيح، فهو عذر شرعي. ثانياً: أنه لا يفسد الحج، وإنما يمنع الطواف فقط. والمطابقة: في قوله: إنّ هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ". 146 - " باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله " 176 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أرجِّل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض " أي كنت أسَرِّح شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم أثناء حيضي أحياناً في البيت وأحياناً وهو في المسجد لما جاء في رواية أخرى أنها كانت ترجل تعني رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ مجاور في المسجد يدني لها رأسه وهي في حجرتها فترجله وهي حائض. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد من الحديث: أنه يجوز للحائض تسريح رأس زوجها وغسل شعره سواء كان في البيت أو في المسجد بأن يُخْرِج إليها رأسه فتسرحه. والمطابقة: ظاهرة من لفظ الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 147 - " بَابُ قِراءَةِ الرَّجُلِ في حِجْرِ امْرَأتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ " 177 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّكِيءُْ في حِجْرِي وأنا حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرأ الْقُرْآنَ. 148 - " بَابُ مَنْ سَمَّى النفاسَ حَيْضَاً " 178 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: بَيْنَا أنا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَجِعَةٌ في خَميصَةٍ، إِذْ حِضْتُ فانْسَلَلْتُ   147 - " باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض " 177 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتكىء في حجري " بتثليث الحاء وسكون الجيم وهو ما بين الإِبط والكشح (1) أي كان يستند - صلى الله عليه وسلم - إلى حجري ويضع رأسه في حضني " وأنا حائض " أي أثناء حيضي " ثم يقرأ " أي يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض. ويستفاد منه: جواز قراءة القرآن في حجر الزوجة الحائض لأنّها طاهرة الذات. والمطابقة: ظاهرة من لفظ الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. 148 - " باب من سمّى النفاس حيضاً " أراد البخاري بهذه الترجمة ذكر الأحاديث الدالة على تسمية الحيض نفاساً، ولكنه قلب العبارة، وكان حقه أن يقول " باب من سمّى الحيض نفاساً "، كما أفاده الحافظ.   (1) والكشح من لدن السرة إلى المتن وقيل هو الخصر كما أفاده ابن منظور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فأخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضِي فقَالَ: " أنَفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ: فاضْطَجَعْتُ مَعَهُ في الْخَمِيلَةِ. 149 - " بَابُ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ " 179 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أغْتَسِلُ أنا والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من إنَاء وَاحِدٍ، كِلَانَا جُنُبٌ، وَكَانَ   178 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها: " بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة " بكسر الميم وفتح الصاد كساء مربع من صوف أسود اللون " إذ حضت " أي فاجأني الحيف. والمعنى .. بينما كنت مضطجعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفراش في كساء صوفي واحد لم أشعر إلاّ وقد أتاني الحيض فجأة " فانسللت " أي فانسحبت من الفراش خفية " فأخذت ثياب حيضتي " بكسر الحاء أي الثياب الخاصة بالعادة الشهرية " فقال: أنفست " أي فتَنَبه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: هل أتاك الحيض، وسمى الحيض نفاساً، لأنّ النفاس في الأصل هو خروج الدم مطلقاً كما أفاده القاضي عياض " قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة " أي فعدت إليه مرة أخرى واضطجعت معه في الكساء المذكور. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: أن الحيض كما ترجم له البخاري يسمّى نفاساً لغة وشرعاً وأنه يجوز مباشرة الحائض والاستمتاع بها أثناء الحيض بما فوق الإِزار وسيأتي تفصيله والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنفست " حيث سمي الحيض نفاساً. 149 - " باب مباشرة الحائض " 179 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: "كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 يَأمُرُنِي فأتَّزِرُ فيُبَاشِرُنِي وأنا حَائِضٌ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأسَهُ إليِّ وهُوَ مُعْتَكِفٍ فأغسِلُهُ وأنا حَائِضٌ. 180 - وَعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ إحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضَاً فأرَادَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُبَاشِرَهَا أمَرَهَا   أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - (1) من إناء واحد " أي أغتسل معه من الإناء الواحد وأشاركه فيه فيأخذ غرفة، وآخذ غرفة كما تقدم في بابه " وكان يأمرني فأتزر " بفتح الهمزة وتشديد التاء كما رواه الحافظ، وأصله فأأتزر بهمزة ساكنة بعد همزة مفتوحة فأدغمت الهمزة في التاء على مذهب الكوفيين " فيباشرني وأنا حائض " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر السيدة عائشة أثناء حيضها أن تشد الإِزار على وسطها وتستر ما بين السرة والركبة، ثم يباشرها ويستمتع بجميع جسدها ما عدا ما تحت الإزار وهو ما بين السرة والركبة قال الحافظ في " الفتح " وهو الجاري على قاعدة المالكية في باب سد الذرائع، وذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أن الذي يمتنع من الاستمتاع بالحائض الفرج فقط، وذكر الأدلة الصحيحة الواردة في ذلك " وكان يخرج رأسه وهو معتكف " أي وكان يخرج رأسه لي من المسجد أثناء اعتكافه " فأغسله وأنا حائض " أي وأنا في حال الحيض وقد تقدم شرحه في " باب غسل الحائض رأس زوجها ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " فيباشرني وأنا حائض ". 180 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها في هذه الرواية: " كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يباشرها " أي كان   (1) والنبي مرفوع بالعطف على الضمير البارز وهو أنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أن تَئْزِرَ في فوْرِ حَيْضِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، وأيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْلِكُ إِرْبَهُ. 150 - " بَابُ ترْكِ الْحَائِضِ الصوم " 181 - عَنْ أبِي سعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في أضْحى أو فِطرٍ إلى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدِّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكنَّ أكثَرَ أهْل   النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يستمتع بإحدى زوجاته أثناء حيضها " أمرها أن تتزر " أي أمرها أن تشد الإِزار على وسطها " في فور حيضتها " أي في ابتداء حيضها " ثم يباشرها " فيما فوق الإِزار وما عدا ما بين السرة والركبة " قالت وأيكم يملك إربه " بكسر الهمزة أي لا أحد. منكم يملك شهوته مثله، ومع ذلك كان يباشر فوق الإِزار لا تحته. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " ثم يباشرني ". ويستفاد من الحديثين: أنه لا يجوز مباشرة الحائض إلاّ فيما فوق الإزار وما عدا ما بين السرة والركبة، وهو مذهب الجمهور خلافاً لصاحبي أبي حنيفة وبعض الشافعية حيث قالوا يجوز كل شيء إلاّ الجماع (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " أخرجه مسلم. 150 - " باب ترك الحائض الصوم " 181 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى أو فطر " أي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسجده   (1) أي يجوز الاستمتاع بما بين السرة والركبة فيما عدا الفرج. قال النووي: وهو الأرجح دليلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 النَّارِ"، فَقُلْنَ: بِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأيْتُ مِنْ ناقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أذْهَبَ لِلُبْ الرجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُن "، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ عَقْلِنَا وَدِيْننَا يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ:   في صلاة عيد الأضحى أو الفطر " فمَّر " في طريقه " على النساء " أي فأراد أن ينتهز الفرصة في هذا اليوم في وعظهن وتذكيرهن وترغيبهن في الصدقة، لأنهن كن في أمس الحاجة إليها لوقايتهن من النار، فإن الصدقة تطفىء غضب الرب. ولهذا قال لهن: " يا معشر النساء تصدقن فإنِّي أُريتكن أكثر أهل النار " أي أكْثِرْنَ من الصدقة لوقاية أنفسكن من عذاب الله، لأني اطلعت على النار وشاهدتها بعيني، فرأيت أكثر أهلها النساء لسوء أعمالهن فتصدقن فإن الصدقة تطفىء الخطيئة، وتطفىء غضب الرب " فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن " أي توجهن اللعنة إلى الناس كثيراً، وهي شر دعاء يوجه إلى إنسانِ، لأنّ معناها الطرد من رحمة الله، والإبعاد عن الخير في الدنيا والآخرة " وتكفرن العشير " أي تسترن نعمة الزوج وتجحدن فضله وتنكرن المعروف وتَنْسَيْنَ الجميل " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " أي لا أحد أقدر على سلب عقول الرجال من المرأة لقوة تأثيرها العاطفي وسحر جمالها ودلالها وإغرائها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " وقال الشاعر (1): إنَّ العُيُوْنَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِيْنَ قَتْلَانَا يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبَّ حَتَى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وَهُنَّ أضعَفُ خَلْقِ اللهِ إنْسَانَا "فقلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله، قال: أليست شهادة   (1) هو: جرير والبيت في ديوانه: 1/ 162 من قصيدة مطلعها: بان الخليط ولو طوعت ما بانا وعجز البيت الثاني في الديوان: وهن أضعف خلق الله أركانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 " أليْسَ شَهَادَةُ الْمَرأةِ مِثْلُ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ! " قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أليْسَ إذَا حَاضَتِ الْمَرْأةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ " قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: "فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينهَا". 151 - " بَابُ الْاستحَاضَةِ " 182 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أبي حُبَيْش لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي لا أطْهُرُ أفَأدَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ   المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها " أي فإن اعتبار شهادتها بنصف شهادة الرجل من أجل نقصان عقلها " قال: أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن: بلى قال: فذلك من نقصان دينها " لأنه يفوتها ثواب الصلاة التي تركتها أثناء حيضها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه: من الفوائد أنه يجب على المرأة ترك الصوم أثناء حيضها. فلا يجب عليها ولا يصح منها لأن من شروط وجوب الصوم وصحته الطهارة من الحيض والنفاس. والمطابقة: في قوله: " أليس إذا حاضت لم تصل ". 151 - " باب الاستحاضة " 182 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في حديثها هذا عن حكم دم الاستحاضة فتقول " قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني لا أطهر " وفي رواية " إني امرأة أُستحاض فلا أطهر " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فاتْرُكِى الصَّلَاةَ فإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلي".   أي لا ينقطع عني الدم، كَنَّتْ بعدم الطهر (1) عن استمرار جريان الدم، لأنّها ظنت أنّ الحائض لا تطهر إلاّ إذا انقطع دمها فشكّت في أنه يمنع الصلاة، ولذلك قالت: " أفأدعُ الصلاة " وهو عطف على مقدّر أي هل يكون ذلك الدم في حكم الحيض فأتْرك الصلاة إلى انقطاعه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق " أي إنما ذلك الدم دم استحاضة، وهو دم مرضي ينشأ عن انقطاع عرق في الرحم يسمى العاذل كما في حديث الدارقطني حيث قال: " إنما ذلك عرق انقطع وانفجر (2) " وليس بالحيضة " أي وليس ذلك الدم الذي تسألين عنه حيضاً شرعياً، ولا تجري عليه أحكام الحيض الشرعية، وإنما هو دم مرض حكمه حكم الحدث الدائم (3) من سلس البول والغائط وغيره، لا يمنع شيئاً مما يمنعه الحيض والنفاس من صلاة وصوم ولو نفلاً ونحو ذلك " فإذا أقبلت الحيضة " بفتح الحاء وكسرها كما أفاده النووي، أي فإذا جاء وقت عادتك الشهرية، وهو الوقت الذي كنت تحيضين فيه عادة قبل أن تصابي بالاستحاضة " فاتركي الصلاة " عند حلول ذلك الوقت من أوّل الشهر أو وسطه أو آخره " فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " أي وامكثي تاركة للصلاة والصوم وغيرها من ممنوعات الحيض مدة عادتك الشهرية التي كنت تحيضين فيها قبل إصابتك بالاستحاضة، فإذا انتهي مقدار تلك المدة، وانقضت عدة أيامها فإنك قد طهرت من الحيض، فاغسلي موضع الدم تنطيفاً له واغتسلي وإن لم يذكر الاغتسال إلاّ أنه مراد كما أفاده ابن دقيق العيد،   (1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " ج 1. (2) أيضاً أوجز المسالك ج 1. (3) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وقد جاء الأمر به في رواية أبي أسامة عن هشام حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم اغتسلي وصلّي (1) " وهكذا اختلفت الروايات عن تلامذة هشام (2) ففي بعضها ذكر الاغتسال، وفي بعضها غسل الدم، وكلهم ثقات فتحمل الروايات بعضها على بعض، ويجمع بينها كلها فيقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالاغتسال وغسل الدم معاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن دم الاستحاضة ليس حيضاً شرعياً وإنما هو كالحدث الدائم لا يمنع شيئاً من ممنوعات الحيض والنفاس، فالمستحاضة تصلي وتصوم فرضاً أو نفلاً، ولا يمنعها ذلك عن شيء، ويجوز لها كل ما يجوز لغير الحائض من طواف وقراءة قرآن ومس مصحف ودخول مسجد. والمستحاضة يجوز وطؤها عند الجمهور وهو قول أحمد في رواية، وقال في رواية أخرى يظهر أنها الراجحة عند الحنابلة: لا توطأ المستحاضة إلاّ أن يخاف على نفسه الوقوع في محظور لما روى الخلال في إسناده عن عائشة أنّها قالت: المستحاضة لا يغشاها زوجها - ولأن بها أذى، فيحرم وطؤها كالحائض (3). ثانياًً: أنّ المستحاضة -إذا كانت معتادة- ترد لعادتها ميزت أم لا وافق تمييزها عادتها أو خالفها عملاً بحديث الباب لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فاطمة بنت أبي حبيش أن تعمل بعادتها وأن تعتمد عليها عند الدخول في الحيض والخروج منه، فإذا جاء وقت عادتها الشهرية تنقطع عن الصلاة وتدخل في الحيض وتجري أحكامه عليها وإذا انتهت مدة عادتها تغتسل وتصلّي، وتدخل في الطهر وتجري أحكامه عليها، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - " فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم " صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعمل بعادتها ومما يؤكد ذلك، ويدل دلالة صريحة على أنّ المعتادة ترد إلى عادتها حديث أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة كانت   (1) " أوجز المسالك: شرح موطأ مالك " ج 1. (2) أيضاً " أوجز المسالك " ج 1. (3) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 نهراق الدماء -بضم التاء وفتح الهاء وتسكينها- أي يتصبب منها الدم دون انقطاع في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفِرْ بثوب " أي تشد خرقة عريضة على فرجها " ثم لتصلِّ " أخرجه أبو داود والنسائي فإنّ الحديث صريح في أن المعتادة تعمل بعادتها، فتمكث ممتنعة عن الصلاة وغيرها مدة عادتها، فإذا انتهت تلك الأيام التي كانت تعهدها، وجاوزت مدة الحيض التي كانت معتادة عليها قبلِ إصابتها بالاستحاضة، فإنها تطهر وتغتسل وتصلّي. ومما يدل على ذلك أيضاً حديث أسماء عند أبي داود وغيره ولفظه: " فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد، ثم تغتسل " وحديث أم حبيبة أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدم فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي. فإن هذه الأحاديث ليس فيها إلاّ الرد إلى العادة لا سيما حديث أم سلمة. قال ابن قدامة: وحديث أم سلمة رضي الله عنها إنما يدل على العادة بلا نزاع فيه .. اهـ. ولهذا قال أكثر أهل العلم " المستحاضة ترد إلى عادتها ولو كانت مميزة " فلا اعتبار للتمييز، وإنما تعتبر العادة. قال الزرقاني: " وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وأشهر الروايتين عن أحمد " (1) اهـ. قال ابن قدامة: وظاهر كلام أحمد اعتبار العادة وهو قول أكثر الأصحاب (2) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَدَّ أم حبيبة والمرأة التي استفتت لها أم سلمة إلى العادة ولم يستفصل بين كونها مميزة أو غيرها. وذهب الشافعي على الأصح إلى أنّ المميزة تعمل بالتمييز ولا تعمل بالعادة، إلاّ إذا كانت غير مميزة. وأما المالكية: فقد نسب الزرقاني إليهم أن المستحاضة تعمل بتمييزها   (1) شرح الزرقاني على الموطأ ج 1. (2) المغني، لابن قدامة ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 152 - " بَابُ الاعتكاف للمستحاضة " 183 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: اعتَكَفَتْ معَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - امْرَأةٌ مِنْ أزْوَاجِهِ فكَانَتْ تَرَى الدَّمَ والصُّفْرَةَ والطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي ...   مثل الشافعية، ولكن المسألة عندهم فيها تفصيل فهم يفرقون بين الدخول في الحيض والخروج منه فيعتبرون التمييز في الأول والعادة في الثاني. ويقولون: لا تنتقل المستحاضة بن الطهر إلى الحيض إلا باجتماع ثلاثة أمور. الأول: أن تكون مميزة. الثاني: أن ترى تغير الدم من (1) لون إلى آخر وتغير رائحته. الثالث: أن يحدث هذا التغيُّر بعد انقضاء أقل الطهر وهو خمسة عشر يوماً. وأما بالنسبة إلى الخروج من الحيض فإن المستحاضة في مشهور المذهب تنتقل من الحيض إلى الطهر بانقضاء مدة عادتها وزيادة ثلاثة أيام عليها للاستظهار. قال الباجي: فإن تمادى بها الدم فعن مالك روايتان إحداهما أنها تقيم أيام عادتها ثم تستظهر ثلاثة أيام (2)، والثانية تقيم أكثر الحيض وما يظهر من كتب الفروع أن المالكية اختاروا الاستظهار ومعناه أن تمكث أيام عادتها مع إضافة ثلاثة أيام استظهاراً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ". 152 - " باب الاعتكاف للمستحاضة " 183 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه " أي إن إحدى أمهات المؤمنين اعتكفت   (1) القوانين الفقهية لابن جُزي. (2) شرح الباجي على الموطأ ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 153 - " بَاب هَلْ تُصَلِّي الْمَرأةُ في ثَوْبٍ حَاضَتْ فِيهِ " 184 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: ما كَانَ لِإحْدَانَا إلَّا ثَوْب وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أصَابَهُ شَيء مِنْ دَمٍ قالَت بِرِيقهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا.   مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مستحاضة "فكانت ترى الدم والصفرة " أي فكانت ترى ألواناً مختلفة من الدم فأحياناً ترى الدم الأحمر، وأحياناً ترى الدم الأصفر (1)، حسب قلته وكثرته "والطست تحتها وهي تصلي" أي والحال أن الطست موضوع تحتها يسيل فيه الدم المتدفق منها، وإنما كانت تضعه تحتها لئلا تلوث المسجد وكان الدم يتدفق منها وهي قائمة تصلي. أما التي اعتكفت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء استحاضتها فقد اختلفت الأقوال، ورجح الحافظ أنّها أمّ سلمة لحديث سعيد بن منصور عن عكرمة أن أم سلمة كانت عاكفة وهي مستحاضة، وربما جعلت الطست تحتها. يستفاد منه: أنه يصح اعتكاف المرأة المستحاضة في المسجد كما تصح صلاتها، ويجوز لها المكث في المسجد إن أمن تلويثه، ومثلها دائم الحدث كما أفاده في "المنهل العذب". الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود (2) والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " اعتكفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من أزواجه " أي امرأة مستحاضة. 153 - "باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه " 184 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " ما كان لِإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه " هذا النفي عام شامل لجميع زوجاته - صلى الله عليه وسلم -   (1) قال في " المنهل العذب ": أي ترى الدم الأصفر مرة عند قلة الدم، ومرة ترى الدم الأحمر عد كثرة الدم. والله أعلم. (2) " المنهل العذب " ج 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 154 - " بَابُ الطِّيبِ لِلْمَرْأةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ الْحَيْض " 185 - عَنْ أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:   أي لم تكن زوجة واحدة من أمهات المؤمنين تملك أكثر من ثوب واحد، فكانت تلبس ذلك الثوب أثناء حيضها وطهرها معاً. " فإذا أصابه شيء من دم " أي فإذا أصاب ثوبها شيء من دم الحيض " قالت بريقها فقصعته بظفرها " قال العيني: يعني صبت عليه من ريقها، فقصعته أي دلكته بظفرها، وإنما تكتفي بدلكه بريقها عن غسله إذا كان قليلاً، لأنه معفوٌ عنه، وأما الكثير فقد صح عن عائشة أنها كان تغسله (1) كما أفاده القسطلاني. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قولها: " ما كان لِإحدانا إلا ثوب واحد ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مرت عليهن في أوّل الإِسلام فترة من الزمن كانت الواحدة منهن لا تملك إلاّ ثوباً واحداً كما يدل عليه قول عائشة رضي الله عنها " ما كان لِإحدانا إلاّ ثوب واحد " قال العيني: فإنهم كانوا حينئذٍ في شدة وقلة، ولما فتح الله الفتوح واتسعت أحوالهم اتخذت النساء ثياباً للحيض سوى ثياب لباسهن، كما يدل عليه حديث أم سلمة حيث قالت " فأخذت ثياب حيضتي ". ثانياًً: استدل به البخاري وغيره من أهل العلم على أنه يجوز للمرأة أن تصلي في الثوب الذي تحيض فيه. ثالثاً: جواز إزالة النجاسة بغير الماء إجماعاً. 154 - " باب الطيب للمرأة عند غسلها من الحيض " 185 - ترجمة راوية الحديث: هي أم عطية نُسَيْبَة -بالتصغير- بنت الحارث الأنصارية من فضليات الصحابة رضي الله عنها كانت تمرّض   (1) فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت " كانت إحدانا تحيض ثم تقرص الدم من ثوبها عند طهرها " أخرجه البخاري وابن ماجة ومعنى تقرصه أي تغسله بأطراف أصابعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 كُنَّا نُنهَى أنْ نَحُدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا عَلَى زَوْج أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراًَ، ولَا نَكْتَحِلُ، ولا نَتَطَيَّبُ، ولا نلْبَسُ ثَوْبَاً مَصْبُوغاً إلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وقَدْ رُخِصِّ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيْضِهَا في نُبْذَةٍ مِن كُستِ أظْفَارٍ وكُنَّا نُنْهَى عنِ اتِّباعِ الْجَنَائِزِ.   المرضى وتداوي الجرحى وتغسل الموتى، روى لها البخاري خمسة أحاديث. معني الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " كنا ننهي أن نحد على ميت فوق ثلاثة " أيام أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن ترك الزينة حزناً على ميت من أقاربنا مدة تزيد عن ثلاثة أيام، يقال أحدَّت المرأة إذا لبست ثياب الحزن هجرت الزينة والطيب لفقد عزيز عليها " إلاّ على زوج " أي إلاّ لفقد زوجها، فإن الشارع أوجب عليها أن تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً " ولا تكتحل " إلاّ لمرض " ولا تتطيب ولا تلبس ثوباً مصبوغاً " بالألوان الخلابة الجذابة كالأحمر والأصفر والأزرق الصافي " إلاّ ثوب عصب " وهو المصبوغ بالنبت اليمني المعروف بالعصب، لأنه لا يلفت النظر ولا يخلب البصر. " وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار " " بضم الكاف وسكون السين ويقال له القسط والكسط، وهو نوع من الطيب على شكل ظفر الإِنسان يوضع في البخور، فرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للحائض الحادة أن تضع شيئاً منه بعد غسلها لتطييب الموضع وإزالة الرائحة الكريهة. ويستفاد منه: أنه يستحب للحائض أن تضع شيئاً من الطيب عند غسلها، أو تتبخر بالعود، لأنه لما رخص للحادّة أن تفعل ذلك عند طهرها، دل ذلك على استحبابه لغيرها. ومشروعيته لسواها من باب أولى. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: "رخص لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 155 - " بَابُ دلْكِ الْمَرأةِ نفسَهَا إِذَا تطَهَّرَتْ مِنَ الْمَحِيض وكَيْفَ تغتسِل، وتأخذ فِرصة ممسَّكة فتتبع بها أثر الدم " 186 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله وعَنْهَا: أنَّ امْرأةً سَألتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غسْلِهَا مِنَ الْمَحِيض، فأمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ: " خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فتَطَهَّرِي بِهَا "، قالَتْ: كيْف أتُطَهَّر؟ قَالَ: " سبحَانَ اللهِ، تَطَهَّرِي! " فَاجْتَذَبتُها إِليَّ، فقلْتُ: تَتَبَّعِي بهَا أثَرَ الدَّمَ.   عند الطهر ... في نبذة من كست أظفار ". 155 - " باب دلك المرأة نفسها إِذَا تطهرت من المحيض وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها أثر الدم " 186 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض " أي أن امرأة من الصحابة وهي أسماء بنت شكل -بفتح الشين والكاف- سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الغسل، " فأمرها كيف تغتسل " أي فوصف لها النبي - صلى الله عليه وسلم - كيفية الغسل وأمرها أن تغتسل على هذه الكيفية، فقال لها كما في رواية مسلمٍ: " تطهري فأحسني الطهور، ثم صبي على رأسك ماءً فادلكيه دلكاً شديدا، حتى يبلغ شؤون رأسك، ثم صبي الماء عليك، ثم " قال خذي فرصة من مسك " أي خذي قطعة من القطن فاغمسيها في المسك " فتطهري بها " .. فلما قال لها ذلك " قالت: كيف أتطهر بها؟ " فأعاد عليها اللفظ مرة أخرى " قال: تطهري بها " ولم يشرح لها ذلك " قالت: كيف أتطهر؟ قال: سبحان الله تطهري!! " أي فسبح الله تعجباً من عدم فهمها ثم أعاد الكلمة نفسها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 156 - " بَابُ نقْض الْمَرأةِ شَعْرَهَا عِنْدَ غُسْلِ الْمحِيض " 187 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أحَبَّ أنْ يُهِلَّ بِعُمرةٍ فَلْيُهْلِلْ، فإِنِّي لَوْلا أني أهدَيت لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ "،   ولم يشرحها، لأنه أراد أن يسلك مسلك الإِيجاز في الأمور التي يستحيا منها، ولا يحسن التفصيل عنها إلَّا عند الضرورة، ولعله ترك ذلك لعائشة، فأدركت عائشة ما أراد، فاستجابت لرغبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشرحت لتلك السائلة ما خفي عليها كما قالت رضي الله عنها " فأجتذبتُها إليَّ " أي جذبتها إلي " فقلت لها: تتبعي بها أثر الدم " أي امسحي بتلك القطنة المغموسة في المسك موضع الدم من الرحم لِإزالة الرائحة منه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: أنه يستحب للمرأة عند غسلها من الحيض، وفراغها منه أن تأخذ قطنة فِتغمسها في المسك (1) ثم تمسح بها موضع الدم لتطييب المكان وإزالة الرائحة القبيحة منه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذي فرصة من مسك فتطهري بها ". 156 - " باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض " 187 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في حديثها هذا عن حجة الوداع، فتقول: " خرجا موافين لهلال ذي الحجة " أي خرجنا في آخر ذي القعدة مستقبلين لهلال ذي الحجة وذلك لخمس بقين من ذي القعدة " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحب أن يهل بعمرة فليهلل " أي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اقتربوا من مكة: من أحب أن يهل بعمرة فليهلل، وأمر من   (1) أو غيره من الطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فأهَلَّ بَعْضُهُمْ بِعُمْرَةٍ، وأهلَّ بَعْضُهُمْ بِحَجٍ، وكنُتُ أنا مِمَّنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأدرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأنا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " دَعِي عُمْرَتَكِ وانْقُضِي رَأسَكِ، واْمْتَشِطي وَأهلِّي بِحَجِّ "، فَفَعْلتُ حتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أرْسَلَ مَعِي أَخِي عْبدَ الرَّحْمَنِ بن أبي بَكْرٍ إلى الْتَنْعِيمِ، فأهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَان عُمْرَتِي.   لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة. وأكد ذلك بقوله: " فإِني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة " أي لولا أني سقت الهدي لفسخت الحج وأهللت بالعمرة " فأهل بعضهم بعمرة وأهل بعضهم بحج " أي فأما الذين لم يسوقوا الهدي فإنهم فسخوا الحج، وأهلوا بالعمرة، وأما الذين ساقوا الهدي فإنهم استمروا على إحرامهم بالحج، لأنّه لا يجوز لمن ساق الهدي أن يتحلل حتى ينحر هديه " وكنت أنا ممن أهل بعمرة " أي وكنت أنا من الذين لم يسوقوا الهدي ففسخت الحج، وأهللت بالعمرة " فأدركني يوم عرفة وأنا حائض " أي فجاء يوم عرفة وأنا لا زلت حائضاً، وذلك لأن الحيض جاءها عند دخول مكة بعد إهلالها بالعمرة، واستمر معها إلى يوم عرفة ومنعها من أداء مناسك العمرة، لأن الحائض لا تطوف، قالت " فشكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما حل بي، وكيف أن الحيض استمر معي إلى يوم عرفة، ومنعني من المناسك، وأفسد عليَّ عمرتي " فقال: دعي عمرتك " ومعناه كما يدل عليه ظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها بإلغاء عمرتها ورَفْضِها، لعدم تمكنها من أداء مناسكها، فألغتها كما أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومما يؤكد ذلك أنها أتت بعمرة منفردة بعد حجها، ولو كانت عمرتها هذه باقية لم تبطل، لما احتاجت إلى عمرة أخرى بعد الحج والله أعلم، " وانقضي رأسك " أي واغتسلي للحج، وحُلِّي شعرك عند الغسل، " وأهلِّي بحج " أي وأحرمي بالحج، وارفعي صوتك ملبية به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 " ففعلت حتى إذا كان ليلة الحصبة " بفتح الحاء وسكون الصاد، ويجوز في ليلة الرفع على أن كان تامة، أي حتى إذا جاءت ليلة الحصبة، وهي ليلة النزول من منى كما يجوز فيها النصب على أن كان ناقصة، والمعنى حتى إذا كان الوقت ليلة الحصبة " أرسل معي أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فخرجت إلى التنعيم " وهو موضع على طريق المدينة، على بعد فرسخ من مكة " فأهللت بعمرة مكان عمرتي " أي فأحرمت من التنعيم بعمرة بدلاً عن العمرة التي أفسدها الحيض، وإنما أحرمت من التنعيم لأنه أول الحل، ولا يتعين، وإنما يجب الإحرام من الحل من أي جهة أو موضع كان. الحديث: أخرجه الخمسة بألفاظ متعددة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية نقض المرأة شعرها عند الغسل أي حل شعرها، واختلف في ذلك الفقهاء، فذهبت الحنابلة إلى أنّه يجب نقضه في الحيض والنفاس دون الجنابة، وهو قول الحسن وطاووس لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة عند غسلها: " وانقضي رأسك " أمّا الجمهور فقالوا يستحب للمرأة نقض شعرها، ولا يجب، سواء كان الغسل من الحيض والنفاس أو من الجنابة، لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: إني امرأة أشد ضفر (1) رأسي أوَ أنقضه للجنابة؟ قال: " لا " أخرجه مسلم ولا فرق بين الجنابة والحيض، فلا يجب عليها حله إِلَّا إذا كان عليه طيب يمنع من وصول الماء. ثانياًً: استدل به الحنابلة على أفضلية التمتع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أني أهديت لأهللت بعمرة " ثالثاً: استدل به الكوفيون على رفض العمرة أي إلغائها قبل تمامها، والخروج منها إلى الحج، وجواز ذلك للمرأة إذا حاضت قبل الطواف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعي عمرتك " وقال الجمهور: لا يجوز لها ذلك وإنما تردف عليها الحج فتكون قارنة (2)، وحملوا الحديث عليه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -:   (1) شرح القسطلاني ج 1. (2) شرح العيني ج 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 157 - " بَابٌ لا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ " 188 - عن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ امْرأَةً قَالَتْ: أَتَجْزِىء إِحْدَانَا صَلَاَتهَا إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ: أحرُورِيَّةٌ أنتِ، كُنَّا نَحِيضُ معَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلَا يأمُرُنَا بِهِ، أو قَالَتْ فَلَا نَفْعَلُهُ.   " وانقضي شعر رأسك ". 157 - " باب لا تقضي الحائض الصلاة " 188 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن امرأة " وهي "مُعاذة " بضم الميم العدوية " قالت لها: أيجزىء إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ " أي أتكفيها صلاتها الحاضرة، ولا يجب عليها قضاء الصلوات الفائتة التي فاتَتْها أثناء حَيضِها " فقالت: أحرورية أنت " أي فقالت عائشة رضي الله عنها مستنكرة عليها قولها هذا: هل أنت أيتها المرأة من الخوارج الذين يشددون في الدين، وينسبون إليه ما ليس منه، لأنها لما سألت هذا السؤال الغريب ظنت عائشة أنها حرورية، أي خارجية نسبة إلى حروراء، وهي قرية بقرب الكوفة نشأ الخوارج فيها، " كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به " أى فلا يأمرنا عند انتهاء الحيض بقضاء الصلاة. الحديث: أخرجه الخمسة. ويستفاد منه: أن الحائض إنما تقضي الصوم فقط، ولا تقضي الصلاة، وهو مذهب سائر فقهاء الأمصار عدا الخوارج. والمطابقة: في قولها: " كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 158 - " بَابُ النَّوْمِ مَعَ الْحَائِض وَهِيَ في ثِيَابِهَا " 189 - عَن أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: حِضْتُ وأَنا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الْخَمِيلَةِ، فانْسَلَلْتُ، فخَرَجْتُ مِنْهَا فأخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضَتِي فَلَبِسْتُهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أنُفِسْتِ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي، فأدخَلَنِي مَعَهُ في الْخَمِيلَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، قَالت: وكنتُ أغْتَسِلُ أنا والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الْجَنَابَةِ. 159 - " بَابُ شُهُودِ الحَائِضِ الْعِيدَيْن ودَعْوَة المُسلِمين، ويعْتَزِلْنَ المُصَلَّى " 190 - عن أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:   158 - " باب النوم مع الحائض وهي في ثيابها " 189 - معنى الحديث: تقدم قريباً في " باب من سمَّى الحيض نفاساً، وإنما أعاده للمناسبة ". ويستفاد منه: جواز النوم مع الحائض، والاستمتاع بها فيما عدا ما بين السرة والركبة، وما عدا الفرج عند البعض، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - باشر أم سلمة رضي الله عنها ونام معها وهي حائض، وأدخلها معه في الخميلة، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " وأدخلني معه في الخميلة ". 159 - " باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى " 190 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها "سمعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ. " يَخْرُجُ الْعَواتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أوْ العَوَاتِقُ وَالحُيَّضْ ولْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى "، قيل لَهَا: آلحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ: أليْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وكَذَا وَكَذَا.   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يخرج العواتق" أي يخرج لصلاة العيد وسماع الخطبة النساء جميعاً بما فيهن البنات الأبكار، " وذوات الخدور " وهما شيء واحد، يقال لهن: العواتق، لأنهن لم يملكهن زوج بعد، ولعتقهن من الخدمة في بيوت آبائهن، ويقال لهن ذوات الخدور لصيانتهن في خدورهن، وبعدهن عن الأنظار، " والحيض " أي وكذلك يخرج إليها النساء الحيض، والحاصل أنه يخرج لحضور صلاة العيد النساء جميعاً صغاراً وكباراً ولو كن في حالة الحيض " وليشهدن الخير، ودعوة المؤمين " أي ليحضرن خطبة العيد، ودعاء المؤمنين أثناءها " ويعتزل الحيض المصلى " أي يبقين خارج المصلى، لأنه بمثابة المسجد " قيل: آلحيض؟ " بهمزة الاستفهام ممدودة، أي فقالت حفصة متعجبة: حتى الحيض يحضرن صلاة العيد والخطبة " فقالت: أليس تشهد عرفة " أي قالت أم عطية: وأي غرابة في هذا ألسن يقفن في عرفة " وكذا وكذا " أي ويقفن أيضاً بمنى ومزدلفة. ويستفاد منه: أن الحائض تخرج إلى المصلى في العيدين، وتشهد الخطبة والدعاء، وتبقى خارج المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالحضور للمصلى فيستحب لها ذلك. الحديث: أخرجه الخمسة أيضاً. والمطابقة: في قوله: " والحيّض " *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 160 - " بَابُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدرَةِ في غَيْرِ أيَّامِ الْحَيْضِ " 191 - وعَنْ أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيئَاً.   160 - " باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض " 191 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً " أي كانت أمهات المؤمنين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعتبرن الدم الأصفر أو الدم الذي بين البياض والسواد في غير وقت العادة شيئاً " وهنا اختلف الفقهاء ". ويستفاد منه: كما قال الجمهور: اعتبار التمييز باللون في وقت الطهر - بمعنى أن المرأة إذا جاءها الدم في غير وقت العادة فإنها تميزه بلونه وتعرف إن كان حيضاً أو لا. فإن كان الدم أحمر أو أسود فإنّها تعتبره حيضاً، وتمتنع عن الصلاة والصوم وغيره، وإن كان كدرة أو صفرة اعتبرته دم استحاضة ولا تمتنع عن شيء من الصلاة أو غيرها لقول عائشة: " كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً " (1) وقال مالك: لا اعتبار لِلَّوْنِ أصلاً بل الدم بجميع ألوانه يعتبر حيضاً شرعياً سواء كان في وقت العادة أو في وقت الطهر، لأن معنى قول عائشة " كنا لا نعُد الصفرة والكدرة شيئاً " أي لا نعتبره شيئاً مميزاً للدم (2) ولا علامة فَارِقةً بين دم الاستحاضة ودم الحيض، لأن اللون لا اعتبار له، بهذا فسر مالك قول عائشة هذا، ولكل وجهه والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه. والمطابقة: في قولها: " لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً ".   (1) لأن معناه كما يقول الجمهور: " لا نعد الصفرة والكدرة حيضاً وإنما نعده دم استحاضة ". (2) يعنى لا نعتبر اللون الأصفر ولا اللون الترابي شيئاً مميزاً لدم الاستحاضة عن دم الحيض، بل الدم بجميع الوانه حيض سواء كان حمرة أو صفرة أو كدرة وهي اللون الترابي الذي بين الصفرة والشقرة كما أفاده في المنهل العذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب التيمم " تمهيد: جرياً على عادة المصنفين فقد وضع البخاري التيمم في المكان الملائم له بعد الوضوء والغسل وما يتعلق بهما، وقد فُرض التيمم سنة ستٍ من الهجرة على الأرجح. والتيمم لغة: قصد الشيء، ومنه قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون). وشرعاً: كما قال ابن قدامة: " مسح الوجه واليدين بالصعيد "، وقال الحافظ: " هو القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين بنية استباحة الصلاة. اهـ. وهو من خصائص هذه الأمة التي يسر الله لها أمورها، وجعل لها من الحرج فرجاً، كما قال تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم). والحكمة في التيمم: أن الله جعله حلاً لمشكلة فقدان الماء، أو عدم القدرة عليه، وشرعه تقديراً لظروف الإِنسان، ومراعاةً لأحواله، ومحافظةً على صحته البدنية، حيث جعله بالنسبة للمريض بديلاً عن الماء، ورخص فيه عند وجود المرض بالفعل، أو خشية حدوثه، وقد يعيب بعض المغرضين على المسلمين استعمال التراب لأنّه ناقل للميكروب، ونسوا أنّه يشترط فيه أن يكون طاهراً نقيَّاً، وذلك مما يضمن السلامة التامة. وينوب التيمم عن الوضوء والغسل عند الجمهور. ويجزىء في دخول المسجد ومس المصحف والصلاة فرضاً أو نفلاً، فيستباح به عند الجمهور الفرض الواحد وما شاء من النوافل، ولا يجمع بين فريضتين، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 161 - " كتَابُ التَيّمَّمَ وَقَولُ اللهِ تعَالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) 192 - عَن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْض أسُفَارِهِ حَتَّى إِذا كُنَّا بالبَيْدَاءِ، أو بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطعَ عِقْدٌ لِي، فأقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلى الْتِمَاسِهِ، وأقامَ النَّاسُ مَعَهُ، ولَيْسُوا على ماءٍ، فَأتى النَّاسُ إلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق فَقَالُوا: ألا ترى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ، أقامَتْ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاس ولَيْسُوا   تيمم لفرض صلى بعده نفلاً دون العكس خلافاً لأبي حنيفة (1). 192 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره " وهي غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة، كما ذكره ابن عبد البر وابن سعد وابن حبان، وقيل: إنها غزوة أخرى بعد غزوة المريسيع التي وقعت فيها قصة الإِفك، وأن العقد ضاع في الغزوتين " حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش " موضعان بعد ذي الحليفة " انقطع عقد لي " وكان من جَزْعِ ظفار بفتح الجيم وسكون الزاي وهو خرز يماني يجلب من ظفار على ساحل البحر، " فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه " أي نزل - صلى الله عليه وسلم - هناك للبحث عنه " وليسوا على ماء " إلخ، أي ولا يوجد في ذلك المكان ماء، ولا يحملون معهم ماءً " فأتى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة " إلخ، أي فجاء الناس إلى أبي بكر يشتكون إليه ما صنعتْ بهم عائشة، حيث كانت السبب في إقامتهم بذلك   (1) فإنه يرى التيمم بدل مطلق عن الوضوء، والغسل، يصلى به ما شاء من فرض أو نفل، وسواء كانت فريضتين أو أكثر، سواء كان نفلاً بعد فرض، أو فرض بعد نفل. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 عَلىَ مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء، فجاءَ أبو بَكْرٍ ورَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واضِعٌ رَأسَهُ عَلَى فخِذِي قَدْ نَامَ، فقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أبو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ في خَاصِرَتِي، فلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فأنزلَ اللهُ آيَةَ التيمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَير: مَا هِيَ بأوَّلِ بَركَتِكُم يا آل أبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذي كُنْتُ عَلَيْهِ، فأصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.   المكان على غير ماء (1) " فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس " أي فقال أبو بكر لعائشة مؤنباً لها: لقد كنت السبب في إقامة الناس هنا، وتأخيرهم عن السفر" وقال ما شاء الله " من ألفاظ التأنيب القاسية " وجعل يطعنني " أي ينخسني بيده " فلا يمنعني من التحرك إلَّا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي " أي فنخسني بيده كثيراً، حتى آلمني ألماً شديداً، وهممت أن أقوم من مكاني، ولم يمنعني من ذلك إلَّا وجود رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - على فخذي " فأنزل الله تعالى آية التيمم " التي في سورة المائدة لما جاء في رواية الحميدي عن عائشة أنها ذكرت الحديث ثم قالت فيه: فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) إلخ، "قال أسيد بن حضير ما هي بأول بركتكم   (1) لأنه لولا انقطاع عقدها لما نزل الناس بذلك الموضع الذي لا ماء فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 193 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسَاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فأيُّمَا رَجُلٍ   يا آل أبي بكر" أي أن بركاتكم كثيرة، وهذه إحداها " قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته " أي فأقمنا البعير الذي كنت راكبة عليه، فوجدنا العقد الضائع تحته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " نزلت آية التيمم ". ويستفاد منه: بيان مشروعية التيمم، وسبب مشروعيته، وأنه بدل عن الوضوء والغسل لقوله تعالى في الآية المشار إليها (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) أي جامعتموهن (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فإن قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) يدل على أنه يقوم مقام الوضوء، وقوله: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) يدل على أنه يقوم مقام الغسل. 193 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي " أي خصني الله تعالى من بين النبيين والمرسلين وسائر البشر أجمعين بخصائص كثيرة، ومزايا عديدة - ذكر السيوطي أنها تزيد على المائتين، لكن أبرزها وأهمها وأعظمها وأشملها له ولأمته هذه الخصائص الخمسة: أولها: هذه الخصلة، بل هذه المعجزة العظيمة المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نصرت بالرعب " أي نصرني الله تعالى بإلقاء الخوف في نفوس الأعداء " مسيرة شهر " أي إلى مسافة شهر، وهي أقصى مسافة في عصره بينه وبين أعدائه. ثانيها: هذه الرخصة الاستثنائية التي انفرد بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، دون سائر الأنبياء والأمم الأخرى، وهي التي ذكرها في قوله: " وجعلت لي الأرض مسجداً " أي جعل الله لي ولأمتي هذه الأرض كلها مكاناً صالحاً للعبادة والصلاة فيها بعد أن كان الْمَعْبَدُ في اليهودية والمسيحية شرطاً في صحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 مِنْ أمَّتِي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأحِلَّت لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأعْطِيتُ الشفاعةَ، وكانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلَى النَّاس عَامَّةً".   الصلاة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " وكان من قَبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم " " وطهوراً " أي وجعلت لي الأرض مطهرة من الحدث الأصغر والأكبَرْ، فيتيمم المسلم عند عدم الماء بدلاً عن الوضوء والغسل، " فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل " أي فلا شيء يمنعُه من الصلاة، لأنّه سيجد في أرض الله مسجده، وفي صعيدها طهوره، إن فقد الماء فيصلي بالتيمم حيث كان، كما في حديث أبي أمامة " فأيما رجل أدركته الصلاة فلم يجد ماءً وجد الأرض طهوراً ومسجداً ". ثالثها: أنه " أحلت لي الغنائم " وقد كان الأنبياء السابقون على قسمين، منهم من لم يؤذن له في القتال أصلاً، ومنهم من أذن له، فإن غنم شيئاً أخذته نار من السماء فأحرقته. رابعها: " وأعطيت الشفاعة " العظمى لفصل القضاء، وإراحة الناس من شدة ذلك الموقف الرهيب. خامسها: أني " بعثت إلى الناس عامة " بل إلى الثقلين جميعاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن من خصائص هذه الأمة التي أنعم الله عليها بالإِسلام أن جعل لها الأرض مسجداً وطهوراً، أي مطهرة للمسلم من الحدث والجنابة، فيتطهر بالتيمم بها عند عدم الماء، كما يتطهر بالوضوء والغسل عند وجود الماء، وفيه دليل على أن التيمم بدل مطلق عن الوضوء والغسل، حكمه حكمهما في جواز أداء الفرائض المتعددة به والنوافل ما لم يحدث أو يجد الماء. قال العيني: وهو قول أصحابنا (1) -أي الحنفية- وبه قال إبراهيم وعطاء وابن المسيب   (1) شرح العيني على البخاري ج 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والزهري والليث وداود بن علي، والمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن حزم: " وروينا عن حماد بن سلمة عن الحسن البصري قال: يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد مثل الوضوء ما لم يحدث. اهـ، وذلك لأنَّ التيمم بدل مطلق يرتفع به الحدث إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤداة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " التيمم وضوء المسلم، ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يُحْدِثْ " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي ذر، وقال الترمذي حديث حسن صحيح (1) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً " والطهور اسم للمطهر، فيدل على أن الحدث يزول بالتيمم زوالاً مؤقتاً إلى غاية وجود الماء، فإذا وجد الماء عاد الحدث (2). وقال الجمهور " المالكية والشافعية والحنابلة ": التيمم بدل ضروري تستباح به الصلاة مع قيام الحدث بصاحبه كطهارة المستحاضة، لحديث أبي ذر الذي جاء فيه: " فإذا وجدتَ الماء فأمِسَّه جلدك فإنَّه خير لك " ولو رفع الحدث لم يحتج إلى الماء إن وجده، فهذا يدل على أن الحدث لم يرتفع، لكن أبيح له أداء الصلاة مع قيام الحدث للضرورة كما في المستحاضة، ومما استدلوا به على أن الحدث والجنابة لا يزالان باقيين بعد التيمم ما رواه البخاري عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه أنَّه تيمم من الجنابة في شدة البرد فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صليت بأصحابك وأنت جنب "، فقال: بل سمعت الله يقول: (ولا تَقتلوا أنفسكم) الآية فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولم ينكر عليه. ومحل الشاهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صليت بأصحابك وأنت جنب " فإنَّه أثبت بقاء جنابته مع التيمم. ولكن هذا الحديث ليس نصاً على بقاء الجنابة بعد التيمم، فقد قال فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي " يمكن أن يجاب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو ابن العاص رضي الله عنه: " صليت وأنت جنب " بأنه قال له ذلك قبل   (1) كما في " نصب الراية " للزيلعي. (2) " الفقه الإسلامي وأدلته " ج 1 للدكتور وهبة الزحيلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 أن يعلم عذره بخوف الموت إن اغتسل، وبعد أن علم عذره أقره وضحك (1) اهـ. وأما احتجاجهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - "فإِذا وجدت الماء فأمِسَّه جلدك" فإنّه لا يدل على أن التيمم لا يرفع الحدث أصلاً، وإنما يدل على أنه لا يرفعه نهائياً، وإنما يرفعه مؤقتاً لحين وجود الماء، وهذا هو عين ما يقوله الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم، وحاصل الخلاف بين الفريقين أنهم اختلفوا هل التيمم بدل مطلق أو بدل ضروري. فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى أنّه بدل مطلق وطهارة مطلقة لها حكم الوضوء والغسل تماماً، ولذلك فإنه يجوز التيمم قبل دخول الوقت، لأن التوقيت لا يكون إلَّا بدليل سمعي ولا دليل فيه فيقاس على الوضوء، والوضوء يصح قبل الوقت (2) ويجوز أيضا أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل، فيتيمم لأكثر من فرض، ولغير الفرض من النوافل، لأنه طهور عند عدم الماء، وإذا تيمم للنفل جاز له أن يؤدي به النفل والفرض معاً. وله أن يصلي بالتيمم الواحد فرضين معاً أو أكثر وما شاء من نافلة لأنَّ التيمم عندهم كالوضوء يصلي به من الحدث إلى الحدث، أو وجود الماء (3) اهـ. وقال الجمهور: لا يعدو التيمم عن كونه بدلاً ضرورياً، ولذلك فإنّه لا يصح التيمم إلَّا بعد دخول وقْتِ ما يتيمم له من الصلوات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وطهوره " أخرجه أحمد فجعل - صلى الله عليه وسلم - الأرض طهوراً عند إدراك الصلاة - أي عند دخول وقتها، وإنما جاز الوضوء قبل الوقت لكونه رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه لا يجوز قبله، لكونه طهارةٌ ضرورية (4) كطهارة المستحاضة، فلا يجوز قبل الوقت. كما   (1) " أضواء البيان " لفضيلة العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. (2) الفقه الإسلامي وأدلته ج 1 للدكتور وهبة الزحيلي. (3) " رحمة الأمة في اختلاف الأئمة " لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي. (4) أي فهو لا يرفع الحدث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 162 - " بَابُ التَيّمُّمِ في الْحضرَ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وخاف فوت الصَّلاةِ " 194 - عن أبي جُهَيْم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَل فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ   لا يجوز للمتيمِّم أن يصلي فرضين بتيمم واحد، ولو كانت الفريضتان مَجموعتين في وقت واحد -عند المالكية والشافعية- كالظهر والعصر، ويجوز عند الحنابلة الجمع بين عدة فرائض إن كانت فوائت خلافاً للمالكية والشافعيّة، ويجوز له عند الجمهور أن يجمع بين النوافل وبين فريضة ونافلة إن قدم الفريضة عند المالكية وإن نوى نفلا، أو نوى استباحة الصلاة لم يصل إلَّا نفلاً، قال العثماني الشافعي " ويجوز للمتيمم أن يؤم المتوضئين والمتيممين بالإجماع، وحكِيَ النفي عن ربيعة ومحمد بن الحسن. ثانياًً: أن التيمم يكون بكل أجزاء الأرض من تراب وحجر وحَصىً وغيره، وسيأتي تفصيله قريباً (1). الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ". 162 - " باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة " 194 - راوي الحديث: هو أبو جهيم - بضم الجيم وفتح الهاء عبد الله بن الحارث الأنصاري النجاري من كبار الصحابة روى له البخاري ومسلم حديثين. معنى الحديث: يقول أبو جهيم رضي الله عنه "أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من   (1) وهناك فوئد كثيرة ليس هنا موضع استقصائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أقْبَلَ علَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.   نحو بئر جمل" أي من جهة الموضع المسمى ببئر جمل - بفتح الجيم، وهو موضع قرب المدينة " فلقيه رجل " وهو أبو جهيم راوي الحديث نفسه، " فسلم عليه " أي فسلم الرجل - وهو أبو جهيم على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فلم يرد عليه " أي فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام " حتى أقبل على الجدار " أي حتى توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أقرب جدار إليه، فتيمم عليه " فمسح بوجهه ويديه " أي فضرب - صلى الله عليه وسلم - الجدار بيديه الشريفتين ضربة واحدة مسح بهما وجهه ويديه إلى الكوعين لأن لفظ اليدين وإن كان مجملاً يحتمل أن يكون إلى المرفقين أو إلى الكوعين إلَّا أنه يفسره حديث عمار رضي الله عنه حيث قال: " فضرب - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه وكفيه "، قال الصغاني: ولم يصح من أحاديث صفة التيمم سوى حديثين حديث أبي جهيم وهو مجمل، وحديث عمار في الصحيحين وهو مبين بذكر الكفين، فينبغي أن يفسر هذا بهذا، والله أعلم. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز التيمم في الحضر عند عدم وجود الماء أو فقدان القدرة عليه، وهو ما ترجم لها البخاري. ثانياًً: أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو مذهب أحمد ومن وافقه من أهل العلم، وهو قول مالك رحمه الله تعالى لحديث أبي جهيم هذا، حيث دل على أنّه ضربة واحدة، وحديث عمار الذي قال فيه " فضرب - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ثم مسح بهما وجهه، وكفيه " وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمّار " التيمم ضربة واحدة للوجه واليدين " (1) ولأن اليد إذا أطلقت لا يدخل فيها الذراع بدليل السرقة،   (1) أخرجه أحمد والأئمة الستة بإسناد صحيح كما في " نصب الراية ". (ع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 163 - " بَابُ الْمُتَيَمِّمُ هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا " 195 - عَن عَمَّارِ بْنِ يَاسِر (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنه قَالَ لِعُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أما تَذْكُر أنَّا كُنَّا في سَفَرٍ أنا وَأنْتَ،   والأكمل عند المالكية والحنابلة خروجاً من خلاف من أوجبه ضربتان يمسح بالثانية يديه إلى المرفقين، وكيفية المسح أن يُمِرَّ اليد اليسرى على اليمنى من فوق الكف إلى المرفق ثم على باطن المرفق إلى الكوع، أما الحنفية والشافعية فإنهم يقولون التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين لما رواه أبو أمامة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين " ولأن اليد عضو في التيمم فوجب استيعابه كالوجه (2). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - تيمم وهو بالمدينة. 163 - " باب المتيمم هل ينفخ فيهما " (3) 195 - سبب الحديث ومعناه: جاء في سبب هذا الحديث أن   (1) هو أبو يقظان عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن يام بن مالك بن عنس، وهو زيد بن مذحج العنسي، مولى بني مخزوم وحليفهم، وذلك أن ياسراً والد عمار قدم مكة مع أخوين له يقال لهما الحارث ومالك في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سمية، فولدت له عماراً، فأعتقه أبو حذيفة، فعمار مولى، وأبوه حليف، أسلم عمار قديماً، وكان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة ليرجعوا عن الإِسلام، وأحرقه المشركون بالنار، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر به، فيمر يده عليه، ويقول: يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت على إبراهيم، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وصلى القبلتين، وهو من المهاجرين الأولين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، أبلى فيها، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيب والمطيب، قتل بصفين مع علي بن أبي طالب سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة " تراجم جامع الأصول ". (2) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي. أقول: وهو حديث ضعيف، والصحيح عن عمار ضربة واحدة. (ع). (3) أي هل ينفخ في كفيه بعد ضربهما على الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 فَأمَّا أنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وأمَّا أنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الأرْضَ، ونَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْههُ وَكفَّيْهِ.   رجلاً قال لعمر رضي الله عنه: ربما نمكث الشهر والشهرين فتصيبنا الجنابة ولا ماء ثمةَ أفنتيمَّم؟ فقال له عمر: أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء " أخرجه أبو داود والنسائي. فقال له عمار: " أما تذكر أنّا كنا في سفر " أي أما تذكر أنا كنا معاً في سفر فأصابتنا جنابة، وليس معنا ماء فأدركَتْنَا الصلاة ولم نجد ما نغتسل به، فاختلفنا فيما نفعل إزاء الصلاة " فأما أنت يا عمر فلم تصَل " لأنك لم تجد ماءً تتطهر به من الجنابة " وأما أنا فتمعكت " أي وأما أنا فهداني الله تعالى إلى عمل آخر يقوم مقام الغسل وهو التيمم، فتيممت بدلاً عن الغسل، فمرغت جسمي كله بالتراب ظناً مني أن صفة التيمم كصفة الغسل تماماً، وأنه كما يعمم المغتسل جسمه بالماء، كذلك يجب على المتيمم أن يعمم جسمه كله بالتراب، وإنما عملت باجتهادي لعدم وجود نص شرعي في التيمم، ولذلك اجتهدت رأيي. " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما كان يكفيك هكذا " أي إنما كان يكفيك في التيمم أن تقتصر على هذه الكيفية التي أبينها لك عملياً " ضرب بكفيه الأرض فنفخ فيهما " أي فنفخ في كفيه تخفيفاً للتراب الذي علق بهما " ثم مسح بهما وجهه وكفيه " إلى الكوعين. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن التيمم ضربة واحدة فقط للوجه والكفين، وهو مذهب أحمد ومكحول وعطاء، قال ابن قدامة في العمدة (1): وصفته أن يضرب بيديه على الصعيد ضربة واحدة، فيمسح بهما وجهه   (1) عمدة الفقه لابن قدامة الحنبلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 164 - " بَابُ الصَّعِيدِ الطيَبِ وَضُوءُ الْمُسْلمِ يَكْفِيهِ مِنَ المَاءِ " 196 - عَن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   وكفيه. قال: وإنْ تَيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جازَ. قال المقدسي: وذلك لحديث ابن الصمة، فإنه دل على جواز التيمم بضربتين وحديث عمار يدل على الإِجزاء بضربة، ولا تنافي بينهما، لأن الله سبحانه قال: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) ولم يذكر عدداً فمن ضرب ضربتين أو مسح أكثر من اليد إلى الكوع فقد وفَّى بموجب النص (1). اهـ. وذهب أبو حنيفة والشافعي في الجديد إلى أن التيمم ضربتان واجبتان، الأولى للوجه، والثانية لليدين إلى المرفقين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين " رواه الدارقطني (2). وأما المالكية فقد قال ابن جُزَيّ: " يسن تجديد ضربة لليدين إلى المرفقين (3)، وقيل يجب " قال النفراوي " وعلى كل لو اقتصر على كوعيه فصلى يستحب له الإِعادة في الوقت (4). ثانياً: أن النفخ في الكفين بعد ضربهما بالأرض أو غيرها سنة أو مستحب كما أفاده العيني، والحكِمة فيه إزالة التلويث عن الوجه والكفين، خشية أن يكون علق بهما شيء فيصيب الوجه. والمطابقة: في قوله: " ونفخ فيهما ". 164 - " باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء " 196 - ترجمة الراوي: هو عمران بن حصين رضي الله عنه الخزاعي أسلم عام خيبر، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وهو من فضلاء   (1) العدة في شرح عمدة الفقه لبهاء الدين المقدسي. (2) وقد تقدم قبل أنه حديث ضعيف. (ع). (3) القوانين الفقهية لابن جزي. (4) الفواكه الدواني للنفراوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 كُنَّا في سَفَرٍ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَإنَّا أسْرَيْنَا حتَّى إِذَا كُنَّا في آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعْنَا وَقْعَةً، لَا وَقْعَةَ أحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْها، فَمَا أيقَظَنَا إلَّا حَرُّ الشَّمس، وكانَ أوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ وَفُلانٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ الرابعُ، وَكَان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ لأنَّا لا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ في نوْمِهِ، فلمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأى مَا أصَابَ النَّاسَ، وكَانَ رَجُلاً جَلِيداً، فَكَبَّر، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بالتَّكْبِير، فما زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ   الصحابة وفقهائهم، ومن مزاياه ومناقبه المشهورة أنه كانت الملائكة تسلم عليه، ويرى الحفظة وتكلمه، وكان مجاب الدعوة، روى رضي الله عنه مائة وثمانين حديثاً، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة، قال الذهبي، وكان ممن اعتزل الفتنة، وقال ابن سيرين سقى بطن عمران ابن حصين ثلاثين سنة، كل ذلك يعرض عليه الكي فيأبى حتى كان قبل موته بسنتين فاكتوى، وتوفي عمران سنة اثنتين وخمسين (1) من الهجرة، وله مسند من مائة وثمانين حديثاً. اهـ. معنى الحديث: يقول عمران بن حصين رضي الله عنه: " كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنَّا أسرينا " أي سرنا في آخر الليل " حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة لا وقعة أحلى عند المسافر منها " أي فسرنا مسافة طويلة، فأجهدنا السير وطال علينا السهر، فنزلنا في آخر الليل، ونحن في أشد الحاجة إلى النوم والراحة فنمنا نومة لذيذة حلوة، ليس لدى المسافر أحلى منها " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ فإنا لا ندري ما يحدث له في نومه " أي لا نحب أن نوقظه من نومه، لأننا لا ندري ما يقع فيه من الرؤى، فقد يرى - صلى الله عليه وسلم - رؤيا، والرؤيا من الوحي فكيف نوقظة "فلما استيقظ عمر رأى ما أصاب   (1) سير أعلام النبلاء للذهبي ج 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 بالتَّكْبِيرِ حتى اسْتَيْقَظَ بِصَوْتِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أصَابَهُمْ، قالَ: لا ضَيْرَ -أوْ لا يَضِيرُ- ارْتَحِلُوا، فارْتَحَلَوا، فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأ، ونُودِيَ بالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاس، فلما انْفَتَلَ مِنْ صَلَاِتهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، قال: مَا مَنَعَكَ يا فُلَانُ أن تُصَلِّىَ معَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: أصَابَتْنِي جَنَابَةٌ ولا مَاء، قَالَ: عَلَيْكَ بالصَّعِيدِ فإنَّهُ يَكْفِيكَ، ثمَّ سَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فاشْتكَى   الناس" من النوم عن صلاة الصبحٍ حتى طلعت الشمس " وكان رجلاً جليداً " أي وكان عمر رجلاً قوياً صلباً حازماً " فما زال يكبر " أي فكبر وتابع التكبير، وما زال يتابع التكبير " حتى استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصوته " على صوت عمر رضي الله عنه وعرف ما حدث لهم " قال لا ضَيْر " أي فطمأنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: لا ضير ولا حرج، ولا إثم عليكم في تأخيركم لصلاة الصبح عن وقتها بسبب النوم الذي غلب عليكم، لأن النوم عذر شرعي " ارتحلوا، فارتحلوا، فسار غير بعيد ثم نزل، فدعا بالوضوء " أي فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتقلوا من ذلك المكان، ثم طلب ماء يتوضأ به " فلما انفتل من صلاته " أي فلما انتهي النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته نظر، وتفقد الصحابة، فلما تفقدهم " إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم " فلفت ذلك انتباه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، ودفعه إلى التساؤل عن حاله، وسبب اعتزاله لذلك " قال " للرجل " ما منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد " أي إذا كنت لم تجد الماء، فإن هذا لا يمنعك من الصلاة، بل تيَمَّم بالصعيد الطاهر وصلِّ، " فإنه يكفيك " أي فإن التيمُّمَ بالصعيد الطاهر يكفيك عن الغسل بالماء عند عدم وجوده، لأنَّ الله قد شرع لعباده التيمم بدلاً عن الغسل عند عدم الماء أو عدم القدرة عليه. والصعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 إليْهِ النَّاسُ مِنَ الْعَطَشِ، فنَزَلَ فَدَعَا فُلَاناً، كَانَ يُسَمِّيهِ أبُو رَجَاءٍ، نَسِيَهُ عَوْفٌ، وَدَعَا عَلَيَّاً فَقَال: اذْهَبَا فابْتَغِيَا الْمَاءَ، فانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرأَة بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أو سَطِيحَتَيْن مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فقالا لَها: أيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: عَهْدِي بالْمَاءِ أمْسِ هَذ السَّاعةَ، ونَفَرُنَا خُلُوفٌ، قالا لَهَا: انطَلِقِي إذَنْ، قَالَت: إلى أين؟ قَالا: إلَى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الصَّابِىءُ؟ قالَا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فانطَلِقِي، فجاءَا بِهَا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحَدَّثَاهُ الحدِيثَ، قَالَ: فاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، ودَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -   كل ما صعد على وجه الأرض من تراب أو حجارة أو حصى أو غيره " فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف " وهو عمران بن حصين راوي الحديث نفسه " ودعا علياً، فقال: اذهبا فابتغيا الماء " أي ابحثا عنه " فانطلقا " أي فذهبا يبحثان عن الماء " فتلقيا امرأة بين مزادتين " أي فوجدا امرأة راكبة على بعير مدلية رجليها بين قربتين " فقالا لها: أين الماء؟ فقالت - عهدي بالماء أمس هذه الساعة " أي عهدي بمكان الماء أمس في مثل هذه الساعة " ونفرنا خلوف " أي ورجالنا مسافرون وغائبون، ولا يوجد في ديارنا إلَّا النساء " فقالا لها انطلقي إذن " أي اذهبي معنا " قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: الذي يقال له الصابىء؟ " أي أتعنون برسول الله ذلك الرجل الذي تصفه قريش بالصابىء أي الخارج على دينه، وكانوا يصفونه بذلك ذماً له وطعناً فيه، ونسبة له إلى الكفر والضلال بمفارقة دينه، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما خرج عن دينهم الباطل إلى الدين الحق الذي بعثه الله به، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الحق " فجاءا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثاه الحديث قال: فاستنزلوها عن بعيرها " أي فطلبوا منها أن تنزل عن بعيرها تنفيذاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - "ودعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 بإنَاءٍ فَفَرَّغَ فِيِه مِنْ أفْوَاهِ الْمزَادَنَيْنِ أو السَّطِيْحَتَيْنِ، وأوكأ أفْوَاهَهمَا، وأطْلَقَ العَزَالِي، ونودِيَ في النَّاسِ: اسْقوا واسْتَقُوا، فَسَقَا مَنْ شَاءَ، واستقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرَ ذَاكَ أنْ أعْطى الَّذِي أصَابَتْه الْجَنَابَة إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قالَ: اذْهَبْ فافرِغْهُ عَلَيْكَ، وَهِي قَائِمَةٌ تَنْظر إلى ما يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وأيم اللهِ لَقَدْ أقْلِعَ عَنْهَا، وإِنَّه لَيخَيَّل إِلَيْنَا أنهَا أشَدُّ مِلأة مِنْهَا حين ابْتَدَأ فيهَا، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اجْمَعوا لَهَا، فجَمَعُوا لها مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيْقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَاماً، فَجَعَلُوهَا في ثَوْبٍ، وَحَمَلُوْهَا عَلى بَعِيرِهَا، وَوَضَعوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَها: تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ   النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين" أي ففرغ الماء في ذلك الإِناء من أفواه المزادتين " وأوكأ أفوههما " أي ربط أفواه القربتين العليا " وأطلق العزَالِي " بفتح الزاي وكسر اللام، أي وفتح أفواه القربتين السفلى لكى يخرج الماء منها، " ونودي في الناس اسقوا واستقوا " أي اسقوا دوابكم واشربوا من هذا الماء الذي ساقه الله إليكم " فسقا من شاء، واستقى من شاء " أي فشربوا وسقوا دوابهم ومواشيهم " وهي قائمة تنظر " أي وهي واقفة تشاهد هذه الحوادث العجيبة بعينيها " وايم الله " وهو لفظ من ألفاظ القسم، أصله أيمن الله بضم الميم والنون، فحذفت النون تخفيفاً " قد أقلع عنها " بضم أوله وكسر ثالثه والبناء للمجهول، أي تُركتْ وكف الناس عنها " وإنه ليخيل إلينا أنها أشد مِلْأةً " بكسر الميم وسكون اللام أي امتلاءً " منها حين ابتدأ فيها " ومعنى ذلك أن الراوي يقسمٍ بالله تعالى على أن هاتين القربتين لم ينقصْ من مائهما بعد الشرب منهما شيئاً، بل إنه ليتراءى لأعينهم أن الماء قد زاد بعد شربهم منه عما كان عليه قبل أن يشربوا منه "فجمعوا من بين عجوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 شَيئَاً، وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أسْقَانَا، فَأتتْ أهلَهَا، وَقَدْ احتبست عَنْهُمْ قَالُوا: مَا حبسَكِ يَا فُلَانَةُ؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ، لَقِيَني رَجُلَانِ فَذَهَبَا بي إلى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَه الصَّابِىءُ، ففعل كَذَا وكَذَا، فواللهِ إِنَّهُ لأسْحَرُ النَّاس من بين هذِه وَهَذِه، وقَالَتْ بأصْبَعَيْهَا الْوُسْطى والسَّبَّابَةِ فَرفَعَتُهُمَا إِلى السَّمَاءِ تَعْنِي السَّمَاءَ والأرْضَ، أو إِنَّهُ لَرَسُولُ الله حِقاً، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ   ودقيقة وسويقة" أي فجمعوا لها من أصناف الطعام، والأزواد الموجودة لديهم " وحملوها على بعيرها " أي وأركبوها على بعيرها " قال: تعلمين ما رزئنا (1) من مائك شيئاً " أي لقد علمت يقيناً، وشاهدت ببصرك، ورأيت رأي العين أننا لم ننقص من مائك شيئاً فنكون سبباً في إيذائك وإلحاق الضرر بك " ولكن الله هو الذي سقانا " أي ولكننا قد شربنا من الماء الذي ساقه الله إلينا وسقانا منه وقد أراد - صلى الله عليه وسلم - من كلامه هذا أن يلفت نظر تلك المرأة إلى أنّهم حين شربوا من القربتين لم يضروها بشيء وإنما شربوا من الماء الذي سقاه الله لهم، حيث أن ماء القربتين زاد ولم ينقص، فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - نبهها إليها لتحدث قومها عنها، وهذا ما وقع منها عند رجوعها إليهم كما قال الراوي " فأتت أهلها وقد احتبست عنهم " أي تأخرت عنهم بعض الشيء " فقالوا ما حبسك يا فلانة، قالت: العجب " أي الذي أخرني عنكم أمرٌ عجيب، وقصة غريبة، ثم حكت لهم قصتها فقالت: " لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له الصابىء " أي فذهبا بي إلى محمد بن عبد الله الذي تسميه قريش " الصابىء " أي الخارج عن دينه، وكانوا يصفونه بذلك طعناً فيه وتشنيعاً عليه كما ذكرنا " ففعل كذا وكذا " أي فسقى الجيش كله من هاتين المزادتين دون أن ينقص من مائهما شيئاً، إلى غير ذلك   (1) مَا رَزِئْنَا بفتح الراء وكسر الزاي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 بَعْدَ ذَلِكَ، يُغِيرُونَ على مَنْ حَوْلَهَا مِنَ المُشْرِكِينَ ولا يُصيبُونَ الصِّرْمَ الذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْماً لِقَوْمِهَا: ما أرَى أنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ يَدَعُونَكُمْ عَمداً، فهلْ لكُمْ في الإِسْلامِ؟ فأطَاعُوهَا، فَدَخَلُوا في الإِسْلامِ.   من العجائب التي شاهَدَتْها، وحدثتهم عنها " فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه (1)، أو إنه لرسول الله حقاً " أي إنه لا يخلو من أمرين: إما أن يكون أسحر شخص موجود بين السماء والأرض، أو يكون نبياً ورسولاً صادقاً في نبوته ورسالته، لأن هذه الخوارق إما أن تكون سحراً، أو معجزةً " فكان المسلمون بعد ذلك يغزون مَنْ حولها من المشركين، ولا يصيبون الصِّرم " بكسر الصاد " التي هي فيه " أي ولا يغيرون على بيوت الشعر التي يسكنها قومها " فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً " أي الذي أراه وأعتقده أن المسلمين قد تركوا قتالكم متعمدين قاصدين ذلك حفظاً للجميل ووفاءً لصحبتي معهم، لا صدفة ولا خوفاً منكم " فهل لكم في الإسلام " أي فإني أرغبكم في الإِسلام، وأحثكم عليه وأنصح لكم به ما دامت هذه هي أخلاق المسلمين وشيمهم وهذه معجزات نبيهم - صلى الله عليه وسلم - " فأطاعوها فدخلوا في الإِسلام " أي وشرح الله صدورهم لدين الإِسلام. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التيمُّم بجميع أجزاء الأرض من تراب ورمل وحجارة وغيرها متى كانت طاهرة لأنّ هذا ما يعنيه الصعيد الطيب في لغة العرب وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتيمم بالصعيد في قوله: " عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك " وهو مصداق قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) وفيه حجة للجمهور على جواز التيمم بكل أجزاء الأرض لا   (1) أي وأشارت بأصبعها الوسطى والسبابة إلى السماء والأرض مشيرة بالسبابة إلى السماء وبالوسطى إلى الأرض. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 165 - " بَابٌ إِذَا خاف الْجُنُبُ علَى نفْسِهِ الْمَرضَ أو الْمَوْت، أو خاف الْعَطَشَ تيَمَّمَ " 197 - قَالَ الْبُخَارِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:   فرق بين تراب وغيره، خلافاً للشافعي فالصعيد يشملها جميعاً كما ترجح عند أهل اللغة حتى قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً عند أهل اللغة، ويؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر رضي الله عنه " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " قال النووي: احتج به مالك وأبو حنيفة في جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز، وعند مالك يجوز بالتراب والرمل والحشيش والشجر والثلج، والمطبوخ كالجص والآجر. وقال الثوري والأوزاعي: يجوز بكل ما كان على الأرض حتى الشجر والثلج، ونُقِل عن ابن علية جوازه بالمسك والزعفران. ويجوز التيمم عند الحنفية بالتراب والرمل والحجر الأملس المغسول والجص والنورة، والزرنيخ، والكحل والكبريت والتوتياء والحائط المطيّن والمجصص والياقوت والزمرد، والفيروزج والمرجان والملح الجبلي، ولا يجوز بالزجاج ولا بالذهب والفضة .. إلخ، كما أفاده العيني. ثانياً: معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة التي تجلّت في تكاثر الماء، حتى شرب منه الجيش كله. ثالثاً: تقدير الصحبة وحفظ الجميل الذي يتضح لنا من فعل هؤلاء الصحابة الأوفياء حيث كانوا يغيرون على من حولها ولا يغيرون على قومها. الحديث: أخرجه الشيخان والدارقطني. والمطابقة: في قوله: " عليك بالصعيد الطيب ". 165 - " باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم " أي هذا باب يذكر فيه أن الجنب يجوز له أن يتيمم عند وجود الماء إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ويُذْكَرُ أن عَمْرو بْنَ الْعَاصِ أجنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، فَتَيَمَّمَ وَتَلَا (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَذَكَرَ ذلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّف.   خاف أن يحدث له من الماء ضرر في نفسه إما بحدوث مرض متلف، أو موت محقق أو عطش بأن لا يكون لديه إلاّ قليل من الماء، فإذا اغتسل به عطش ولم يجد غيره، فإنه يجوز له التيمم في هذه الحالات، ولو مع وجود الماء لفقده القدرة على استعماله. 197 - معنى الحديث: أن البخاري رحمه الله يروي هذا الحديث عن عمرو بن العاص معلقاً بدون سند (1) فيقول: " ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة " أي أصابته الجنابة في غزوة ذات السلاسل بسبب الاحتلام وكان ذلك في ليلة باردة شديدة البرد، فخاف على نفسه إن هو اغتسل بالماء البارد في هذا البرد القارس أن يصيبه المرض لا محالة، أو يهلك برودة الماء " فتيمم " بدل أن يغتسل خوفاً على نفسه من المرض أو الموت، وصلّى بالصحابة صلاة الصبح " وتلا (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) أي وقرأ قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ولذلك فإنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، واستدل عمرو بهذه الآية على أنه يجوز له في هذه الحالة التيمم بدلاً عن الغسل وقاية لنفسه من الهلاك، لأن الله تعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) " فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فذكر عمرو ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما حدث له، ورُوي بضم الذال، أي فذكر ذلك الصحابة للنبي   (1) وقد رواه موصولاً أبو داود في سننه، كما أخرجه الحاكم وابن حبان والبيهقي، وحسنه المنذري كما في المنهل العذب ج 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 - صلى الله عليه وسلم - عند رجوعهم، وأخبروه بما وقع من عمرو بن العاص " فلم يُعنف " أي فلم يَلُمْهُ بعد أن سأله وعرف حقيقة أمره ووجهة نظره وصحة فعله، كما جاء في رواية أخرى أنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيمَّمْتُ ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ "، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً " أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للجنب التيمم مع وجود الماء عند الخوف من حدوث المرض أو زيادته (1) لأن عمراً تيمم بدلاً عن الغسل بسبب شدة البرد، خوفاً على نفسه من الهلاك، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله هذا، ولم يعنفه. ثانياًً: جواز الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه موصولاً أبو داود وابن حبان والحاكم والبيهقي. والمطابقة: في قوله: " فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنفه ". ...   (1) أو خشي على نفسه الخطر والهلاك والموت كما ترجم له البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الصلاة " وهي من البدهيات المعروفة عند عموم المسلمين، فلا حاجة إلى تعريفها. ومن مزاياها أنها عماد الدين، وَملاك الفضائل كلها، لما تؤدي إليه من تهذيب النفس، ووقايتها من الخطايا كما قال عز وجل (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) بالإضافة إلى أن للصلاة أثرها الواضح في مقاومة الشدائد، وتفريج الكروب، والتغلب على الأزمات النفسية، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وما من حركة من حركات الصلاة إلاّ وفيها تدريب للنفس على فضيلة من الفضائل. كما قال بعض أهل العلم. وفي بعض الآثار أن الله تعالى يقول: " إنما أقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وقطع نهاره بذكري، وكف نفسه عن الشهوات من أجلي، يطعم الجائع، ويؤوي الغريب، ويرحم المصاب فذلك الذي يضىء نوره في السموات كالشمس، إن دعاني لبيته، وإن سألني أعطيته. وفرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج قبل الهجرة بعام، كما جزم به النووي من بين عشرة أقوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 166 - " بَابٌ كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلَوَات في الإِسْرَاءِ " 198 - عنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ أبو ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدِّث أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتي وَأنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ " فَفَرجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ   166 - " باب كيف فرضت الصلوات في الإِسراء " 198 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فرج " بضم الفاء وكسر الراء " عن سقف بيتي " أي بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة في بيت أم هانىء بمكة لم يشعر إلاّ وقد فُتح السقف، ونزل منه الملك - وهو جبريل عليه السلام، ودخل عليه، وكان ذلك إشارة واضحة إلى قدومه من الملأ الأعلى. أما ما جاء في رواية مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله حدثهم ليلة أسري به قال: " بينا أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعاً إذ أتاني آت، فشق ما بين هذه وهذه " وكيف الجمع بينهما؟ فقد قال العيني: أما على كون العروج مرتين فظاهر، وأما على كونه مرة واحدة فلعله - صلى الله عليه وسلم - بعد غسل صدره دخل بيت أم هانىء، ومنه عُرِجَ به إلى السماء. " قلت " وهذا الاحتمال الأخير يتعارض مع حديث الباب في السياق، والاحتمال الأقرب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل في بيت أم هانىء، فخرج به إلى الحجر أو الحطيم، فشق صدره هناك الخ ما جاء في الحديث حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " فنزل جبريل ففرج صدري " بفتح الفاء الأولى والثانية، وفتح الراء، أي فشق جبريل صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثغرة نحره إلى شِعْرته بكسر الشين " "فاستخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ذَهَبٍ مُمْتَلىءٍ حِكْمَةً وإيمَاناً، فأفْرَغَهُ في صَدْرِي، ثُمَّ أطْبَقَهُ، ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي، فَعرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ الدُّنيا، فَلَمَّا جِئْتُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقَالَ: أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَم، فلمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنيا، فإِذَا رَجُلٌ قَاعِد عَلَى يَمِنيهِ أسْوِدَة،   قلبي" (1) أي فأخرج الملك قلبه الشريف - صلى الله عليه وسلم - حقيقة لا مجازاً، ولا حاجة إلى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق المصدوق، ولا عجب في ذلك، فإن المعراج معجزة من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - والمعجزات كلها أمور خارقة للعادة، خارجة عن نظام العالم، والسنن الكونية، وما هي إلاّ تحديات لقدرة البشر بقدرة الله تعالى. " ثم غسله بماء زمزم " أي ثم غسل الملك قلبه - صلى الله عليه وسلم - بماء زمزم تطهيراً وتقوية له بهذا الماء المبارك، لما فيه من غذاء روحي ومادي معاً " ثم جاء بطست من ذهب " وكان هذا الطست من الأواني الذهبية الموجودة في الجنة فأتى به من هناك تكريماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإعلاءً لشأنه، وحفاوة به " ممتلىء حكمة " بالنصب، على أنه تمييز ملحوظ، أي جاءه بطست ذهبي من الجنة، ممتلىء بالعلم الرباني النافع، المؤدي إلى التوفيق والصواب في القول والعمل " فأفرغه في صدره، ثم ختمه " أي ثم ختم صدره الشريف بعد غسله وتطهيره وإفراغ ذلك الطست فيه، وضمه على العلم الرباني والنور الإِلهي الذي أودعه فيه، لئلا يجد الشيطان إليه سبيلاً. قال - صلى الله عليه وسلم - " فعرج بي إلى السماء الدنيا " أي فأسرى بي أولاً على البراق من مكة إلى بيت المقدس، ثم صعد بي الملكُ من بيت المقدس على المعراج إلى السماء الدنيا، والبراق   (1) والسين هنا إمّا أن تكون للطلب، والمعنى أن الملك حاول إخراج القلب من الصدر، وعمل ذلك حتى أخرجة، أو لتأكيد الفعل والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وعَلَى يسَارِهِ أسْوِدَة، إِذَا نَظرَ قِبَلَ يَمِينهِ ضَحِكَ، وِإذَا نَظرَ قِبَل يَسارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بالنبي الصَّالِحِ والْابنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيْلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأسْوِدَةُ عَنْ يَمِينهِ وشَمَالِهِ نَسَمُ بَنِيْهِ فَأهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أهْلُ الْجَنَّةِ، والأسْوِدَةُ التي عَنْ شِمَالِهِ أهْلُ النِّارِ، فَإِذَا نَظرَ عَنْ يَمِينهِ ضَحِكَ، وِإذَا نَظر قِبَلَ شِمَالِهِ بكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ الثَّانِيَة، فَقَالَ لخَازِنِهَا: افْتَحْ! فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأوَّلُ، فَفَتَحَ، قَالَ أنَسٌ: فذكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ في السَّمَواتِ آدَمَ وِإدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وِإبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلَهُمْ، غَيْرَ أنَّهُ ذَكَرَ أنَّهُ وَجَدَ آدَمَ في السَّمَاءِ الدُّنيا، وإبْراهِيمَ في السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قَالَ أنسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْريل بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَباً بالنَّبِيِّ الصَّالِح   دابة من دواب الجنة (1) دون البغل وفوق الحمار. أما المعراجِ فهو كما قال ابن سيده: شبه سلم تعرج عليه الأرواح وقد اختاره الله مصعداً لنبيه إلى السماء " فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة " أي أشخاص " قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه " بفتح النون والسين أي أرواحهم، حيث تشكلت على صورة أجسامهم (2) " حتى عرج بي إلى السماء الثانية " أي وبعد الأولى صَعِد بي الملك إلى الثانية، وانتقلت من سماء إلى سماء، والتقيت بالأنبياء، " ولم يثبت منازلهم " أي لم يعين - صلى الله عليه وسلم - السماء التي فيها كل نبي منهم إلا السماء الدنيا والسادسة، وفي مسلم فذكر آدم في السماء الأولى، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون   (1) وورد في وصفه أنه يضم حافره عند منتهي طرفه. (2) وذلك لأن الله شكل أرواحهم على صورة أجسامهم كما أفاده العيني. اهـ. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه " أي هؤلاء الأشخاص هي أرواح بني آدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وَالأخِ الصَّالِحِ، فقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحُ وَالأخُ الصَّالِحُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِح وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَباً بالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والابنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْراهِيم - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ ابْن شِهابِ: فأخبَرَنِي ابْنُ حَزْم أنَّ ابْن عَبَّاسٍ وَأبَا حَبَّةَ الأنْصَارِي كَانَا يَقُولانَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ عُرِجَ بي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَىً أسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأقْلَام، قَالَ ابْنُ حَزْم وَأَنَسٌ: قَال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: فَفَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِيَ خَمْسِينَ صَلَاةٍ، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى أمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَإِنَّ أمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ (1) فوَضَعَ شَطرهَا، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى، قُلْتُ: وَضع شَطرهَا، فَقَالَ: راجِع رَبَّكَ فَإِنَّ أمَّتَكَ لَا تُطيقُ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ   في الخامسة، وموسى في السادسة، وابراهيم في السابعة " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فعرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام " أي حتى علوت لمستوى أسمع، فيه حركة أقلام الملائكة وهي تكتب الوحي والأقدار " فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسمين صلاة، قال: فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك .. " أي لا تقدر على أداء خمسين صلاة في كل يوم وليلة، "فراجعت، فوضع   (1) هذه رواية، وفي رواية أخرى فراجعني، والمعنى واحد كما أفاده العيني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 شَطرهَا، فَرَجَعْتُ إليْهِ فَقَالَ: ارجِعْ إلى رَبِّكَ فإنَّ أمَتّك لا تُطيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وهيَ خَمْسُونَ لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى فقَالَ: رَاجِع رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بي حَتَّى انتهَى بِي إلى سِدْرَةِ الْمُنْتَهي وغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدرِي ما هِيَ، ثُمَّ أدْخِلْتُ الجَنَّةَ فَإِذَا فيها حبَائلُ اللؤلُؤِ وِإذَا تُرابُهَا المِسْكُ".   شطرها" أي نقَّصَ جزءاً منها، وما زال - صلى الله عليه وسلم - يراجع ربه، والرب عز وجل يُنقِصُ من عدد الصلوات حتى صارت خمساً، " فقال: هي خمسٌ " أي خمس في عددها " وخمسون " في مضاعفة ثوابها " لا ييدل القول لديَّ " أي هذا هو قضاء الله تعالى ووعده الذي لا يقبل التخلف " ثم أدخلتُ الجنة، فإذا في حبائل اللؤلؤ " أي أسلاك اللؤلؤ المنظوم. الحديث: أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الصلوات الخمس فرضت في السموات ليلة المعراج، كما ترجم له البخاري، وأجمع عليه أهل العلم، إلاّ أنهم اختلفوا في تاريخه، فقيل قبل الهجرة بعام ورجحه النووي، وقال: الزهري وابن اسحاق قبل الهجرة بخمسة أعوام ورجحه القاري. حتى وصلت إلى عشرة أقوال. ثانياًً: إثبات الإِسراء والمعراج، والراجح الذي عليه الجمهور أنه كان يقظة لا مناماً، وبالروح والجسد معاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم" فإن هذا لا يكاد يسمعه أحد إلاّ تبادر إلى ذهنه أن الإِسراء والمعراج بالروح والجسد. والمطابقة: في قوله: " ففرض على أمتي خمسين صلاة ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: فرض اللهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في الْحَضَرِ والسَّفَرِ، فأُقرَّت صلاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الحَضَرِ.   199 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " فرض الله تعالى الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر " أي أوجب الله تعالى جميع الصلوات المكتوبة في أول الأمر ركعتين ركعتين في الحضر والسفر معاً عدا المغرب فإنها ثلاث ركعات، ثم غيّر بعض الصلوات في الحضر " فأقرت صلاة السفر " أي فأبقى الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين كما فرضها أول مرة، " وزيد في صلاة الحضر " في الظهر والعصر والعشاء فصارت أربعاً في الحضر، بعد أن كانت ركعتين، وأصبحت رباعية بعد أن كانت ثنائية. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: ظاهرة حيث بَيّنَ في الحديث كيف فرضت الصلاة ركعتين وهو ما ترجم له البخاري. ويستفاد منه: أن الصلاة فرضت في أول الأمر ركعتين، وقد استدل به أبو حنيفة على أن قصر الرباعية في السفر واجب، لأن صلاة المسافر فرضت من أول الأمر ركعتين. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 167 - " بَابُ الصَّلَاةِ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفاً " 200 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في ثَوْب وَاحِدٍ قَدْ خَالفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. 201 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي في ثَوْبٍ واحِدٍ مُشْتَمِلاً بِهِ في بَيْتِ أمِّ سَلَمَةَ وَاضِعاً طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.   167 - " باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به " 200 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلاة في ثوب واحد فقط هو إزاره ورداؤه " قد خالف بين طرفيه " أي وضع طرفه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. ويستفاد منه: جواز صلاة الرجل في ثوب واحد ساترٍ لعورته، فإن كان واسعاً التحف به ووضع طرفيه على عاتقيه، وإن كان ضيقاً اتزر به، وهو مذهب الجمهور. والمطابقة: في قوله: " صلى في ثوب واحد ". 201 - معنى الحديث: يقول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما، " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى في ثوب واحدٍ مشتملاً به في بيت أمِّ سلمة " (1) أي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيني يصلي في بيت أمّ سلمة رضي الله عنها في ثوب واحدٍ فقط هو إزاره ورداؤه حال كونه ملتحفاً به ساتراً به جسمه " واضعاً طرفيه على عاتقيه " أي واضعاً طرف ثوبه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة:   (1) قال العيني وقوله: " في بيت أم سلمة " إما ظرف لقوله: يصلي أو للاشتمال، أولهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 202 - عَنْ أبَي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ سائِلاً سَألَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ ".   في قوله: مشتملاً به، لأنّ معنى مشتملاً به، أي ملتحفاً به، وهو ما ترجم له البخاري. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في الثوب الواحد دون كراهة، وهو مذهب الجمهور، وذهب طاووس وإبراهيم النخعي وأحمد في رواية - كما أفاده العيني إلى أن الصلاة في ثوب واحد مكروهة إذا كان قادراً على ثوبين، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإنّ الله أحق من تزين له " أخرجه البيهقي. ثانياًً: أنه إذا صلى في ثوب واحدٍ، فإنْ كان واسعاً اشتمل به، وإن كان ضيقاً اتزر به وهو مذهب الجمهور، خلافاً لطاووس والنخعي (1) وابن وهب، ومحمد بن جرير حيث قالوا: السنة أن يأتزر به ولو كان واسعاً. 202 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه هذا " أن سائلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد " أي سأله عن حكم الصلاة في الثوب الواحد هل هي جائزة وصحيحة أم لا؟ " قال: أو لكلكمْ ثوبان؟! " وهو استفهام إنكاري يتضمن الجواب والفتوى، ومعناه أنه إذا لم يكن لكل شخص ثوبان، والصلاة واجبة، فإنها تصح في الثوب الواحد ما دام ساتراً للعورة لأنّ هذا الدين يسر، ولا يكلف الله نفساً إلّا وسعها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في الثوب الواحد بشرط   (1) شرح العيني ج 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 168 - " بَاب إذَا صَلَّى في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلى عَاتِقَيْهِ " 203 - عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا يُصَلِّي أحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شيءٌ ".   أن يكون ساتراً للعورة وأن يكون غير قادر على ثوبين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو لكلكم ثوبان ". ثانياً: يسر هذا الدين وسماحته ومراعاته لظروف الناس وأحوالهم، حيث إنه لما كان بعض الناس لا يجدون ثوبين أجاز لهم الصلاة في ثوب واحد. ثالثاً: في الحديث دليل لمن يقول: إن الصلاة في الثوب الواحد مكروهة لمن يقدر على ثوبين، لأن مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو لكلكم ثوبان " ان من وجد ثوبين لا يصلي في ثوب واحد، وهو مذهب طاووس والنخعي وغيرهم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وأحمد والدارمي والبيهقي والطحاوي. والمطابقة: في قوله: " أو لكلكم ثوبان ". 168 - " باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه " 203 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس كل عاتقيه شيء " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الصلاة في الثوب الواحد الذي لا يستر العاتقين، لأنهما وإن لم يكونا عورة، إلّا أن سترهما أمكن من ستر العورة، لأنه إذا ائتزر بالثوب ليس على عاتقه شيء، لم يأمن أن تنكشف عورته كما أفاده الحافظ. الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. والمطابقة: ظاهرة لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الصلاة في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 204 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أشْهد - أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ صَلَّى في ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ ".   204 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من صلى في ثوب واحد " أي وليس عليه إلاّ ثوب واحد وهو " الإِزار " " فليخالف بين طرفيه " بأن يجعل طرفه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " فليخالف بين طرفيه ". ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: مشروعية ستر العاتقين في الصلاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بسترهما في الحديث الثاني حيث قال: " فليخالف بين طرفيه " ونهي عن كشفهما في الحديث الأول فقال: " لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء " واختلفوا في ذلك. فذهب الجمهور إلى أنه يستحبُّ ستر العاتقين، ويكره كشفهما لمن يقدر على سترهما، وحملوا الأمر على الندب، والنهي على الكراهة (1). وذهب أحمد إلى وجوب سترهما، وتحريم كشفهما للقادر على ذلك، ومن صلى مكشوف العاتقين مع قدرته على سترهما لا تصح صلاته، لأن سترهما مع القدرة شرط في صحة الصلاة. قال ابن قدامة (2): يجب أن يضع المصلي على عاتقه شيئاً من اللباس إن كان قادراً على ذلك، وهو قول ابن المنذر. وقال أكثر الفقهاء لا يجب ذلك، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأنهما ليسا بعورة، فأشبها بقية   (1) قال النووي: قال مالك وأبو حنيفة، والشافعي والجمهور: هذا النهي للتنزيه، فلو صلى في ثوب واحد ساتر عورته ليس على عاتقه منه شيء صحت صلاته مع الكراهة، وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلى أنه لا تصح عملاً بظاهر الحديث. (2) المغني ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 169 - " بَابٌ إِذَا كَانَ الثَوْبُ ضَيِّقَاً " 205 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ أسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فاشْتَمَلْتُ بِهِ، وصَلَّيْتُ إلى جَانِبِهِ، فلمَّا انْصَرفَ قَالَ: " مَا السُّرَى يَا جَابِرُ، فَأخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فلمَّا فَرَغْتُ قَالَ: مَا هَذَا الاشْتَمَالُ الذِي رَأيتُ؟ قَلتُ: كَانَ ثَوْبٌ (1)، قَالَ: فَإِنْ كَان وَاسِعاً فَالْتَحِفْ بِهِ، وِإنْ كَانَ ضَيِّقَاً فاتَّزِرْ بِهِ ".   البدن، قال: ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يصّلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء " رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهم " قال ابن قدامة ": وهذا نهي يقتضي التحريم، ويقدم على القياس، ويشترط ذلك لصحة الصلاة في ظاهر المذهب، قال القاضي: وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه ليس بشرط. اهـ. والله أعلم. ثانياًً: أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة مع ستر العاتق، وهو مذهب الجمهور، والله أعلم. 169 - " باب إذا كان الثوب ضيقاً " 205 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه " خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره "، وذلك في غزوة بواط بالقرب من المدينة " فجئت ليلة لبعض أمري، فوجدته يصلي " أي فوجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قائماً يصلي " وعليَّ ثوب واحد " أي وكنت لابساً ثوباً واحداً، وهو الإِزار " فاشتملت به " أي التحفت به ووضعْت طرفيه على عاتقي "فصليت إلى   (1) يجوز فيه الرفع على أنه فاعل لكان التامة، والنصب على أنه خبر كان الناقصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 206 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رِجَال يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَاقِدِي أزرِهِمْ على أعناقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصبيَانِ وَيُقَالُ للنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ رُؤوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسَاً.   جانبه، فلما انصرف قال: ما السُرّى" أي ما هو السبب الذي دعاك إلى السير في هذه الساعة المتأخرة من الليل " فأخبرته بحاجتي، فلما فرغت، قال: ما هذا الاشتمال " استفهام إنكاري معناه أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه التحافه بالثوب، لأنه ضَيَق وقال له: " فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به " لأنه إذا التحف بالثوب الضيق يخشى أن تنكشف عورته. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً. والمطابقة: في قوله: " وإن كان ضيقاً فاتزر به ". 206 - ترجمة الراوي: وهو سهل بن سعد الساعدي الخزرجي الأنصاري، صحابي ابن صحابي، له رضي الله عنه ولأبيه صحبة، وهو من المعمرين المشهورين عاش حتى أدرك الحجاج، وامتحن معه، وتوفي سنة ثمان وثمانين من الهجرة، وقد بلغ مائة سنة، وكان آخر من مات بالمدينة من الصحابة، قال أبو حازم: سمعت سهل بن سعد يقول: لو مت لم تسمعوا أحداً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي لم تسمعوا محدثاً يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، أو قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا من أهل المدينة. معنى الحديث: يقول سهل رضي الله عنه: " كان رجال يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقدي أزُرِهم " أي كان بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغوا من الفقر والفاقة مبلغاً عظيماً حتى إنهم لا يملكون غير ثوب واحد يأتزرون به، ويرتدونه في الصلاة، فيربطونه حول أعناقهم ليكون رداءً وإزاراً لهم وثوباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 170 - " بَابُ الصَّلَاَةِ في الجُبَّةِ الشامِيَّةِ " 207 - عنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فقالَ: يَا مغُيرَةُ! خُذِ الإدَاوَةَ،   شاملا يستر جسمهم. " كهيئة الصبيان " أي كما كان يفعل الصبيان الصغار في ذلك الزمن " ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حى يستوي الرجال جلوساً " أي ويؤمر النساء أن لا يرفعْن رؤوسهن من السجود حتى ينهض الرجال من السجود، ويعتدلوا في جلوسهم، لئلا يرين عورات الرجال إذا رفعن رؤسهن من السجود قبلهم، كما جاء مصرحاً به في رواية أحمد حيث قال: " كراهية أن يرين عورات الرجال ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " عاقدي أزرهم ". ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في الثوب الواحد، فإنْ كان واسعاً اشتمل به، أي لفَّ جسمه به، وخالف بين طرفيه، فوضع طرفه الأيمن على عاتقه الأيسر، وطرفه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم عقد طرفي الثوب على صدره. وإن كان ضيقاً اتزر به، ولا يلتحف به، لئلا تظهر عورته عند الركوع أو السجود كما قال - صلى الله عليه وسلم - " وإن كان ضيقاً اتزر به ". ثانياً: ما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفقر والفاقة، وخشونة العِيش حتى أنهم لا يجدون إلاّ ثوباً واحداً لا يكاد يستر عوراتهم. 170 - " باب الصلاة في الجبة الشامية " 207 - معنى الحديث: يقول المغيرة رضي الله عنه " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر " أي كنت مسافراً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة من غزواته، وهي غزوة تبوك، وكانت في السنة التاسعة من الهجرة " قال: يا مغيرة خذ الإداوة " بكسر الهمزة، وفتح الدال، وهي وعاء صغير يوضع فيه الماء للوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فأخَذْتهَا، فانْطَلَقَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فَقَضَى حَاجَتَه، وَعَلَيْهِ جبَّة شَامِيَّة، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَة مِنْ كُمِّهَا فضَاقَتْ، فأخْرَجَ يَدَة مِنْ أسْفَلِهَا فَصَبَبْت عَلَيْهِ، فَتَوَضَّأ وضوءَة لِلصَّلَاةِ، وَمَسَحَ عَلَى خفَّيْهِ (1) ثمَّ صَلَّى.   ونحوه " فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عنِّي " أي فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيراً طويلاً وقطع مسافة كبيرة، حتى ابتعد عني واختفى عن عيني، فأصبحتُ لا أراه، " فقضى حاجته " هناك بعيداً عني، " وعليه جبة شامية " أي وكانت عليه جبة منسوجة في بلاد الشام، وهي من تلك الثياب التي يلبسها النصارى، لأنّ بلاد الشام حينذاك كانت تحت حكم الروم، وأهلها من النصارى " فذهب ليخرج يده من كمِّها فضاقت " أي فحاول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج يده من كُمِّها فلم يستطع ذلك لشدة ضيقه " فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة " أي فتوضأ وضوءه الشرعي الذي يفعله للصلاة. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة في ملابس الكفار سواء كانت جبة أو ثوباً أو عباءة أو سروالاً أو سواه ما لم يتحقق من نجاستها، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في الجبة الشامية التي كانت في ذلك العصر من لباس النصارى، فدل ذلك على جواز الصلاة في ملابسهم، والمسألة خلافية بين الفقهاء، فروي عن مالك أنه لا يصلى في ثيابهم، وأنه إن صلى فيها أعاد في الوقت، وروي عن أبي حنيفة كراهية الصلاة فيها ما لم تغسل وأجاز غيرهم الصلاة فيها كما أفاده الحافظ. ثانياً: مشروعية التستر عند قضاء الحاجة، والابتعاد عن الناس، وفي الحديث عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) أي اكتفى بمسح خفيه عن غسل رجليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 171 - " بَابُ كَراهِيَةِ التَّعَرِّي في الصَّلَاةِ وَغَيرها " 208 - عنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ للكَعْبَةِ وعَلَيْهِ إِزَارَهُ فقالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يا ابْنَ أخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ على مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ (1)، قَالَ فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فسَقَطَ مَغْشِياً عَلَيْهِ، فمَا رُؤِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَاناً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   كان إذا ذهب المذهب أبعد" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والترمذي، وقال: حسن صحيح (2) ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب لقضاء حاجته سار إلى مكان بعيد عن الناس، لئلا يروه فيستحب الابتعاد عن الناس عند قضاء الحاجة لئلا يروه ولا يسمعوا له صوتاً، ولا يجدوا رائحة. والمطابقة: في قوله: " وعليه جبة شامية ". 171 - " باب كراهية التعرّي في الصلاة وغيرها " 208 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة " أي يحمل الحجارة مع أعمامه أثناء بناء الكعبة عندما عمرتها قريش قبل الإِسلام وعمره إذ ذاك خمس وثلاثون عاماً كما نص عليه ابن اسحاق " فقال له العباس عمه " خوفاً عليه من الحجارة أن تؤذي منكبيه: " لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك " أي ليتك تفك الإِزار من وسطك، وتضعه على منكبيك وتعقد طرفيه على صدرك ملتحفاً به ليحول بين الحجارة وبين منكبيك "قال فحله فجعله على منكبيه فسقط   (1) أي حتى يكون حائلاً بين جسمك وبين الحجارة. (2) " عون المعبود: شرح أبي داود " ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 172 - " بَابُ مَا يَسْتُر مِنَ الْعَوْرَةِ " 209 - عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنِ اشْتِمَالِ الصَّمَاءِ وأن يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ علَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيءٌ ".   مغشياً عليه" أي فسقط الإِزار، وظهر شيء من عورته - صلى الله عليه وسلم - دون قصد منه، فاشتد عليه الأمر حتى أغمي عليه من شدة خجله وحيائه وخر مغشياً عليه، وعند ذلك نزل الملك فشدّه عليه كما في رواية أخرى في غير الصحيحين. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب ستر العورة، وتحريم التعرّي مطلقاً في الصلاة أو في غير الصلاة، كما ترجم له البخاري، وذلك لأن ستر العورة كما في " فيض الباري ": " أول فرائض الإيمان، وهو شرط لصحة الصلاة، وفرض عين في خارجها ". ثانياًً: عصمته - صلى الله عليه وسلم - عن القبائح قبل البعثة وبعدها، وأنه كان محمياً عن مساوىء الجاهلية قبلِ النبوة. والمطابقة: في قوله: فسقط مغشياً عليه فما رؤي بعد ذلك عرياناً. 172 - " باب ما يستر العورة " 209 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد رضي الله عنه: " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اشتمال الصماء " وهو كما يقول أهل اللغة أن يلف بالثوب جسده كله ويسد المنافذ جميعها فلا يبقى ما يخرج منه يده حتى يصير كالصخرة الصماء، أما الفقهاء فيقولون اشتمال الصماء هو أن يلتحف المرء بالثوب الضيق ثم يضع طرفيه على منكبيه فتنكشف عورته أثناء الصلاة، وهذا الفعل هو المنهي عنه في الحديث. أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الالتحاف بالثوب الضيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 210 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَن بَيْعَتَيْنِ عَنِ اللِّمَاس والنِّبَاذِ، وأنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ، وَأن يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ ". 211 - عَن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في تِلْكَ الْحَجَّةِ في مُؤَذِّنين يَوْمَ النَّحْرِ   في الصلاة، لما يؤدي إليه من انكشاف العورة أثناءها سيما في الركوع " وأن يَحْتَبي الرجل في ثوب واحد ليس على فَرجِهِ منه شيء " وكذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يجلس الرجل على إليتيه وينصب ساقيه ملتحفاً بثوب واحد ضيق فتظهر عورته، أما إذا كان الثوب واسعاً فلا مانع من ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نهي عن اشتمال الصماء " حيث إنه إنما نهى عن ذلك لئلا تنكشف العورة، فدل ذلك على وجوب ما يسترها من الثياب. 210 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين عن اللماس " بكسر اللام، وهو بيع الثوب بمجرد لمسه دون النظر إليه، " والنباذ " أو المنابذة وهو بأن يقول: بعتك من هذه الثياب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أمّا اشتمال الصماء والاحتباء، فقد تقدم شرحهما في الحديث السابق. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - إنما نهي عن اشتمال الصماء والحبوة لما فيهما من كشف العورة. 211 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة " التي كانت في السنة التاسعة من الهجرة، والتي أناب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أبا بكر ليحج بالناس وعينه أميراً عليهم " في مؤذنين " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 نُؤَذِّنُ بِمِنىً: ألا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْركٌ، ولا يَطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيَان، ثمَّ أرْدَفَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - عَلياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فأمرَهُ أنْ يؤَذِّنَ بِـ (بَرَاءَةٌ)، قال أبو هُرَيرَةَ: فأذَّن مَعَنَا في أهْلِ مِنىً يَوْمَ النَّحْرِ لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.   أي أرسلني في مجموعة من الرجال نُنادي في الناس، ونعلن لهم الأحكام الجديدة التي شرعها الله لهم وهي " ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ثم أردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً "، أي ثم أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً وألحقه بنا " فأمره أن يؤذن في الناس ببراءة " أي فأمره أن ينادي في الناس بالآيات المذكورة في أول سورة التوبة والتي تبدأ بقوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وتتضمن إلغاء المعاهدات المطلقة مع الكفار، وعدم تجديد المعاهدات المؤقتة، وأن لا يحج بعد العام مشرك إلى غير ذلك من الأحكام " فأذن معنا عليّ في أهل مني يوم النحر ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " كما كانت قريش تفرض على غيرها من القبائل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ولا يطوف بالبيت عُرْيان ". ويستفاد من أحاديث الباب ما يأتي: أولاً: أن ستر العورة فرض مطلقاً وشرط لصحة الصلاة والطواف، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن اشتمال الصماء لما فيه من كشف العورة، وكذلك نهي عن الحبوة للسبب نفسه، والنهي عن الشيء أمرٌ بضده، ولأنه نهى عن التعري في الطواف، وهذا يدل على أن ستر العورة شرط لصحة الطواف. ثانياً: تحريم الحبوة واشتمال الصماء في الثوب الضيق إذا أدّى ذلك إلى كشف العورة سواء كان داخل الصلاة أو خارجها كما أفاده العيني. ثالثاً: النهي عن كل عمل يؤدّي إلى كشف العورة قياساً على اشتمال الصماء والحبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 173 - " بَابُ مَا يُذْكَرُ في الْفَخِذِ " 212 - عنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الغداة بغلسٍ، فركِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَكِبَ أبو طَلْحَةَ وأنا رَدِيفُ أبي طلحة، فأجرى نَبيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في زُقَاق خَيْبَرَ، وِإنَّ ركْبَتَي لَتَمَسُّ فَخِذَ نبِّي الله - صلى الله عليه وسلم - ثم حَسَر الإِزارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إنِّي أنظرٌ إلَى بَيَاضِ فَخِذِ نبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلما دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: "اللهُ أكبَرُ، خَرُبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إذا نزلنا بساحة   173 - " باب ما يذكر في الفخذ " 212 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر " أي غزا يهود خيبر في بلادهم، وهي على بعد ستة مراحل شمالي المدينة " فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس " أي فصلينا صلاة الصبح في ضواحيها عند أول طلوع الفجر، ولا زالت ظلمة آخر الليل موجودة (1) " فأجرى نبي الله في زقاق خيبر " أي فأسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - بدابته في شوارع خيبر " ثم حسر الإِزار عن فخذه " أي رفع الإِزار عن فخذه، ليتمكن من الإِسراع بدابته، فانكشف فخذه " فلما دخل القرية قال: الله أكبر، خربت خيبر " أي فلما دخل مدينة خيبر، أخبر عن خرابها، ولم يرد بذلك خراب عمرانها. فإن الإِسلام ما زاد خيبر إلاّ عمراناً وازدهاراً، ولكن المراد بخرابها القضاء على الكيان اليهودي، وسقوط دولة اليهود، وتقويض نفوذهم فيها " إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " أي إنّا إذا أغرنا على قوم من أعدائنا ونزلنا بساحتهم صباحاً فما أسوأ صباحهم، وما أشد هزيمتهم   (1) قال الأزهري: الغلس بقايا ظلمة آخر الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 قَوْم فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرين" قالَهَا ثَلاثاً، قَالَ: وَخَرَجَ الْقَوْمُ إلى أعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ والْخَمِيسُ، يَعْنِي الْجِيْشَ قَالَ: فأصَبْنَاها عَنْوَةً فَجُمِعَ السَّبْيُ فجاء دِحْيَةُ، فَقَالَ: يَا نَبيَّ اللهِ أعْطِنِي جَارِيةً مِنَ السَّبْي، قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً، فأَخذ صفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فجَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يا نَبيَّ اللهِ أعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ والنَّضيرِ، ْلَا تَصْلُحْ إلَّا لَكَ، قَالَ: ادْعُوهُ فجاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظرَ إليها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: خُذْ جَارِيَةً من السبي غيْرَهَا، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ لَهُ ثَابِت: يا أَبا حَمْزَة، ما أصْدَقهَا؟ قَالَ: نَفْسها، أعتقها وتَزَوَجَها، حَتَّى إذَا كَانَ بِالطرَّيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أمُّ سُلَيْمٍ، فأهْدَتْهَا لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فأصْبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَرُوساً، فَقَالَ: مَنْ كَان عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِيءْ بِهِ، وَبَسطَ نِطْعاً، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ وجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بالسَّمْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّويقَ، قَالَ: فَحَاسُوا حَيْساً، فَكَانَتْ وَليمةَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -.   " فقالوا: هذا محمد والخميس " أي قال اليهود: هذا محمد، وهذا جيشه العظيم " فأصبناها عنوة " (1) أي فاستولينا على بلادهم بالقوة والحرب " فجمع السبي " أي فجمع الجواري السبايا، وكان من بينهم صفية بنت حيي " فجاء دحية فقال: أعطني جارية: فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي " عظيم اليهود من بني النضير " قال: ادعوه، فجاء بها، فلما نظر إليها " وعرف أنَّها سيدة قومها شرفاً وحسباً ونسباً " قال: خذ جارية من السبي غيرها " لأنه إنَّما أذن له في جارية من حشو السبي،   (1) بفتح العين وسكون النون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فلما أخذ أفضلهن استرجعها منه، لئلا يتميز بها عن غيره مع أن فيهم من هو أفضل منه " فأعتقها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها " بدون مهر " وجعل صداقها عتقها " أي وجعل العتق صداقاً لها " فأصبح النبي عروساً " أي فأعرس عليها في الطريق، فلما كانت صبيحة ليلة العرس " قال: من كان عنده شيء " من الطعام " فليجىء به، وبسط نطعاً " أي بساطاً من الجلد يوضع عليه الطعام يشبه السفرة، يجوز فيه فتح النون وكسرها " قال: فحاسوا حيساً " أي فصنعوا من التمر والسمن والسويق طعاماً وضعوه على السفرة، وأكلوه " فكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فكان الحيس هو طعام عرسه - صلى الله عليه وسلم -. ويستفاد من الحديث: أولاً: استدل به بعض أهل العلم على أن الفخذ ليس بعورة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب قد حسر عن فخذه يوم خيبر، ورآه أنس، ولو كان عورة لما فعل ذلك، وبهذا قال داود الظاهري وابن أبي ذؤيب وأحمد في رواية وابن حزم، واختلفت الرواية عن مالك، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الفخذ عورة، لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الفخذ عورة " قالوا: وما وقع لى - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر كان اضطراراً بسبب السرعة وشدة الزحام، ولم يكن مقصوداً بدليل ما جاء في رواية مسلم حيث قال: " فانحسر الإزار عن فخذه " أي أن الإِزار هو الذي انكشف بنفسه، ولم يكشفه - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وهو اللائق بحاله صلوات الله وسلامه عليه. ثانياً: مشروعية الذكر والتكبير عند لقاء العدو، وإلقاء كلمات أو اقتباس آيات تنزل الرعب في قلب العدو، كما قال - صلى الله عليه وسلم - "الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين ". ثالثاً: استحباب ْعتق الرجل أمته، وتزوجه بها، وهو من الثلاثة الذين لهم أجران، وأن له أن يجعل عتقها صداقها، وبه قال قتادة وأحمد وابن المسيب، وقال الجمهور: ما جاء في الحديث خصوصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس لغيره أن يفعله. الحديث: أخرجه مسلم، وأبو داود والنسائي أيضاً. ومطابقته للترجمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 بسم الله الرحمن الرحيم 174 - " بَابٌ في كَمْ تُصَلِّي الْمَرأة فِي الثياب " 213 - عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ من الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ.   في قوله: " ثم حسر الإِزار عن فخذه، حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ". 174 - " باب في كم تصلي المرأة في الثياب " 213 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر فتشهد معه نساء من المؤمنات " أي فيحضر معه بعض النساء المؤمنات صلاة الفجر " متلفعات بمروطهن " يعنى متحجبات متسترات بثيابهن الصوفية أو القطنية، فالمروط جمع مِرط بكسر الميم، وهو كساء من صوف أو قطن، والتلفع كما قال ابن حبيب في شرح الموطأ: هو أن تلقي المرأة الثوب على رأسها، ثم تلتحفِ به: فلا يكون إلاّ بتغطية الرأس. اهـ. ثم قالت: " ما يعرفهن أحد " وفي رواية مالك وأبي داود " ما يعرفن من الغلس " وهو ظلمة آخر الليل. وخلاصة معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي صلاة الصبح عند أول طلوع اليفجر فيحضر معه هذه الصلاة في المسجد بعض النسوة المؤمنات متسترات بثيابهن، فإذا خرجن من المسجد لا يميزن من الرجال، أو بعبارة أخرى لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 175 - " بَابٌ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أعْلَامٌ وَنظَرَ إلى عَلَمِها " 214 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في خَمِيصَةٍ لَهَا أعْلَامٌ، فنَظرَ إلَى أعْلَامِهَا نَظرةً، فلَمَّا انصَرَفَ قالَ: " اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هذِهِ إلى أبِي جَهْمٍ، وأئْتُونِي بأنْبِجَانِيةِ (1) أبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا ألهَتْنِي آنِفَاً عَنْ صَلَاتِي ".   يعرف النساء من الرجال بسبب الظلمة الموجودة في الجو المتبقية من آخر الليل. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على جواز صلاة المرأة وصحتها في الثوب الواحد فقط إذا كان ساتراً لها، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: استدل به الجمهور على أن أداء صلاة الصبح في أول وقتها أفضل لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في ظلمة الغلس، " وهي الظلمة المتبقية من آخر الليل " وقال أبو حنيفة: الإِسفار بصلاة الصبح أفضل، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه مفصلاً. والمطابقة: في قولها: " متلفعات بمروطهن ". 175 - " باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها " 214 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في خميصة لها أعلام " أي صلى في كساء مزخرف بخطوط جميلة، تروق النظر، وتستهوي البصر، وتشغل القلب والفكر، " فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم " أي فلما فرغ من صلاته أمر بإعادتها إلى أبي جهم، ثم بين علة استنكاره - صلى الله عليه وسلم - لها، وكراهيته لاستعمالها، فقال: " فإنها ألهتني آنفاً "   (1) وهي كساء غليظ من صوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 176 - " بَابٌ إن صَلَّى في ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ أو تصَاوِيرُ هَلْ تفْسُدُ صَلَاتُهُ وَمَا يُنْهي عَن ذَلك " 215 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتهَا، فَقَال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أمِيطِي عَنَّا قرامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لا تَزَال تَصَاوِيرُهُ تعرِضُ لي ".   أي فإنما كرهتها لأنها كادت أن تشغلني عن الصلاة لا أنهَا شغلته بالفعل، لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ذلك. أو أن معناه: فإني خفت أن تشغلني بها أثناء صلاتي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يكره كل ما يشغل، عن الصلاة من الألوان الجميلة والنقوش المزخرفة في الثوب أو البساط أو الجدار لأنّها تحول دون الخشوع في الصلاة. ثانياً: مشروعية التهادي بين الاخوان. ثالثاً: صحة الصلاة في ثوب، أو على بساط مزخرف بنقوش جميلة مع الكراهية لأنه - صلى الله عليه وسلم - أتم صلاته في الخميصة، ولم يقَطعها. والمطابقة: في قولها: " صلى في خميصة لها أعلام ". 176 - " باب إذا صلى ثوب مصلّب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟ وما ينهي عن ذلك " آي باب يذكر فيه حكم الصلاة في الثوب المصور بصلبان أو صور أخرى، هل يجوز ذلك أم لا؟ والحديث لم يذكر فيه الصلبان، وإنما ألحقها بالصور، لأن كلّاً منها عُبد من دون الله. 215 - معنى الحديث: يقول أنس رضيْ الله عنه: " كان قرام لعائشة " أي ستار رقيق منقوشة عليه بعض الصور " سترت به جانب بيتها " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أي خزانة صغيرة لها " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أميطي عنا قرامك " أي فأمرها - صلى الله عليه وسلم - بإزالته وعلل ذلك بقوله: " فإنها لا تزال تصاويره تعرض لي " أي تظهر أمام عيني في الصلاة فأخاف أن تلهيني. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: النهي عن الصلاة في الغرفة التي فيها تصاوير سواء كانت في ستار أو بساط أو تحف زخرفية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: أميطي عنا قرامك هذا " لأنها تحول دون حضور القلب، وتشغل عن الخشوع في الصلاة قال شيخ الإِسلام ابن تيميّة في " اختياراته الفقهية ": " والمنصوص عن أحمد والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة المصورة، والصلاة فيها، وفي كل مكان فيه تصاوير، أشد كراهة. هذا هو الصواب الذي لا ريب فيه. اهـ (1). وأما حكم الصلاة فيها، فإنّها تصح مع الكراهة، لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يعد صلاته. قال ابن بطال في قوله - صلى الله عليه وسلم - " أميطي عنا قرامك هذا ": وهذا كله على الكراهة فإن من صلى فيه فصلاته مجزئة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعد الصلاة، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنها عرضت له، ولم يقل إنها قطعتها، ومن صلى بذلك أو نظر إليه فصلاته مجزئة عند العلماء. اهـ. كما نقله عنه العيني في شرح البخاري ج 4. ثانياً: النهي عن تصوير الصور الحيوانية، واتخاذها وتزيين البيوت بها، قال الإِمام النووي في شرح مسلم: " قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهم: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر، لأنّه متوعَّدٌ عليه بالوعيد الشديد سواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإِبل وغير ذلك مما ليس صورة حيوان فليس بحرام. هذا حكم نفس التصوير، وأما اتخاذ الرجل صورة حيوان فإن كان معلقاً في حائط أو ملبوساً أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهناً   (1) " كتاب الاختيارات الفقهية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسعادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام. اهـ. وأما الشافعية فقد حرموا الصور مطلقاً كما نقله عنهم العيني حيث قال: " وأما الشافعيّة فإنهم كرهوا الصور مطلقاً سواء كانت على الثياب أو على الفرش والبسط ونحوها، واحتجوا بعموم الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك، ولم يفرقوا في ذلك والله تعالى أعلم. وأما حديث بسر (1) بن سعيد، عن زيد بن خالد، عن أبي طلحة أنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة " ثم قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله الخولاني، ربيب ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم يخبرنا زيد عن الصور يَوْمَ الأوَّل فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال إلاّ رقماً في ثوب. الذي أخرجه البخاري وأبو داود واستدل به بعض أهل العلم على جواز الصور غير المجسمة فقد فسره الإِمام النووي بالصور الطبيعية والنباتية. حيث قال: " يجمع بين الأحاديث بأن المراد باستثناء الرقم في الثوب ما كانت الصور فيه من غير ذوات الأرواح، كصورة الشجرة، وقال: ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني جبريل فقال لي: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكونَ دخلت إلاّ أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فَمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهذه الشجرة، ومر بالستر فليقطع، فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن، وتخرج الكلب " ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، فإن الله قد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقطع الستار الذي فيه الصور الحيوانية المنقوشة وجعله وسادتين. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. مطابقة الحديث: في كونه بمنزلة الجواب للترجمة.   (1) بضم الباء الموحدة وسكون السين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 177 - " بَابُ مَنْ صَلَّى في فَرُّوج حَرِير ثُمَّ نزَعَهُ " 216 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُهْدِيَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعَاً شَدِيداً كالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ: " لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلمُتَّقِين ".   177 - " باب من صلى في فرّوج حرير ثم نزعه " 216 - راوي الحديث: هو عقبة بن عامر صحابي جليل كان قارئاً فصيحاً، وشاعراً بليغاً، وكاتباً مجيداً، وكان أحد الرجال الذين جمعوا القرآن في المصحف، ويختلف مصحفه عن مصحف عثمان رضي الله عنه، شهد صفين مع معاوية وأمَّره على مصر، توفي في خلافة معاوية رضي الله عنه. معنى الحديث: يقول عقبة: " أهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير " أي أَهْدَى إليه - صلى الله عليه وسلم - أكيدر أمير دومة الجندل قباءً من حرير مشقوقاً من الخلف " فلبسه فصلى فيه " قبل أن ينهي عن لبس الحرير، كما في حديث جابر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في قباء ديباج، ثم نزعه وقال: نهاني عنه جبريل " وهذا هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " فصلى فيه ثم انصرف " أي سلم من صلاته " فنزعه نزعاً شديداً " أي فخلعه بشدة، لأنه نزل عليه الوحي بتحريم الحرير " فقال: لا ينبغي هذا للمتقين " أي لا ينبغي لبس الحرير لعباد الله الطائعين لأنه محرم، فلا يلبسه إلاّ العصاة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تحريم لبس الحرير على الرجال إلاّ في حالات مرضية استثنائية كحالة الجرب مثلاً، وهو مذهب الجمهور عملاً بهذا الحديث، وأجازه الظاهرية، والحديث حجة عليهم. ثانياً: تحريم الصلاة في الثوب الحرير، فمن فعل ذلك صحت صلاته مع الإِثم والعصيان، وهو مذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 178 - " بَابُ الصَّلَاةِ في الثَوْبِ الأَحْمَرِ " 217 - عَنْ أبي جُحَيْفَةَ قالَ: رَأيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أدَمٍ، ورَايْتُ بِلَالاً أخذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ورأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فمنْ أَصَابَ منْهُ شَيئاً تَمَسَّحَ بِهِ، ومنْ لمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئاً أخذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صاحِبِهِ، ثُمَّ رأيتُ بِلَالاً أخذَ عَنْزَةً فرَكَزَهَا، وَخَرَج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرَاً، صَلَّى إلى العَنَزَةِ بالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، ورأيتُ الناسَ والدَّوَابَّ يَمرُّون بينَ يَدَيْ الَْعَنَزَةِ".   الجمهور، قال خليل: " وعصى وصحت إن لبس حريراً ". وروى ابن القاسم عن مالك أنه يعيد في الوقت وقال أشهب: لا إعادة عليه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. مطابقة الحديث للترجمة: في كونه بمنزلة الجواب عليها. 178 - " باب الصلاة في الثوب الأحمر " 217 - معنى الحديث: يقول أبو جحيفة رضي الله عنه: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة حمراء من أدم " أي في خيمة من الجلد حمراء اللون، وكان ذلك بالأبطح بين منى والمعلا " ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بقية الماء الذي توضأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - "ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء" (1) أي يتسابقون إلى بقية الماء الذي توضأ منه - صلى الله عليه وسلم - ليتمسحوا به كما في رواية: " فأخرج فضل وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدره الناس، " ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه " أي أخذ من بلل يد غيره " ثم رأيت بلالاً أخذ عَنزة " أي عصا صغيرة " فركزها " أمامه   (1) وهو الماء الذي يتوضأ به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 179 - " بَابُ الصَّلَاةِ في السُّطُوحِ والمِنْبَرِ والخشَبِ " 218 - عنْ سَهْلِ بْنِ سعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: وقد سُئِلَ مِنْ أيِّ شَيْءٍ المِنْبَرُ؟ فقَال: مَا بَقِىَ بالنَّاس أعْلَمُ مِنِّي، هُوَ مِنْ أثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلَانٌ مولى فُلَانَةَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقامَ عَلَيْهِ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَينَ عُمِلَ وَوُضِعَ، فاستقْبَلَ القِبْلَةَ، كبَّرَ وَقَامَ الناسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثم رَفَعَ رَأسَهُ، ثمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى فسَجَدَ علَى الْأَرْضِ، ثم عادَ إلى المِنْبَرِ، ثُم قَرَأَ، ثمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى حتى سَجَدَ بِالأرْضِ، فَهَذَا شَأنُهُ.   - صلى الله عليه وسلم - "وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء " أي في إزار ورداء أحمرين " صلى إلى العنزة " صلاة الظهر " ركعتين " وصلاة العصر ركعتين كما في مسلم " يمرون بين يدي العنزة " أي يمر الناس والدواب أمام العنزة. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز لبس الثوب الأحمر والثياب الملونة عامة، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وكره الحنفية الثوب الأحمر الخالص. ثانياً: طهورية الماء المستعمل، وكونه طاهراً مطهراً. والمطابقة: في قوله: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمراء. 179 - " باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب " 218 - معنى الحديث: أن سهل بن سعد رضي الله عنهما " سئل من أي شيء المنبر فقال: ما بقي بالناس أعلم مني " أي ما بقي من أهل المدينة مَن هو أعْلمْ بأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره " من منبر وغيره " مني لأنه آخر من مات بها من الصحابة " هو من أثْلِ الغابة " أي هو مصنوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 180 - " بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ " 219 - عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى طَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ ثم قَالَ: " قُومُوا فَلأصَلِّي لَكُمْ " قَالَ أنسٌ: فَقُمْتُ إلى حَصِيرٍ لَنَا   منا طرفاء الغابة كما في رواية أبي داود " عمله فلان مولى فلانة " أي صنعه ميمون مولى فكيهة الأنصارية زوجة سعد بن عبادة " وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عمل " أي واتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوّل الأمر محراباً، فوقف يصلّي فيه " فاستقبل القبلة وكبَّر، وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى " أي فلما أراد أن يسجد رجع إلى الوراء ليتمكن من السجود " فسجد على الأرض " قال الخطابي: وكان المنبر ثلاث مراقي، فلعله قام على الثانية منها، فليس في نزوله وصعوده إلّا خطوتان. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: جواز ارتفاع الإِمام عن المأمومين، وهو مذهب الجمهور مع الكراهة، ومنع مالك من ذلك لحديث " إذا أم الرجل القوم فلا يقف في مكان أرفع من مكانهم " أخرجه أبو داود. ثانياً: أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 180 - " باب الصلاة على الحصير " 219 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن جدته مُلَيكةً " أي أن جدته لأمّه (1) واسمها مليكَة "دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى   (1) لأن والدته أم سليم بنت مليكة كما أفاده ابن سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 قد اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَْ، فَنضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَفَفْتُ أَنَا والْيَتيمُ وَرَاءَهُ والْعَجُوز مِنَ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ.   طعام صنعته له فأكل منه" أي فأجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوتها وأكل من طعامها " ثم قال قوموا فلأُصلي لكم (1) " أي قوموا لأصلي بكم من أجل أن أعلمكم كيفية الصلاة بطريقة عملية " قال أنس فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لبس " أي فذهبت إلى حصيرٍ بالٍ قديم، قد اسود لونه من كثرة استعماله " فنضحته بماء " أي رششته بقليل من الماء لتليينه وتهيئته للجلوس عليه، أو لِإزالة الشك في نجاسته كما أفاده ابن دقيق العيد " فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم " وهو ضميرة بن سعد الحميري وكان صبياً مميزاً " وراءه " أي ووقفت أنا وهذا الصبي اليتيم في صف واحد خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - " والعجوز من ورائِنَا " أي ووقفت العجوز وهي جدته مليكة وراءنا. الحديث: أخرجه الشيخان، وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: صحة الصلاة على الحصير، وهو مذهب الجمهور، ويقاس عليه جميع المنسوجات النباتية خلافاً لعمر بن عبد العزيز. ثانياً: صحة الجماعة في النافلة (2). ثالثاً: صحة صلاة المنفرد خلف الصف لقوله " والعجوز من ورائنا ". والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - صلى على الحصير. ...   (1) قوله " فلأصلي " بكسر اللام وضم الهمزة وفتح الياء، وهي مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل وقوله: " لكم " أي من أجل تعليمكم. (2) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى بهم صلاة نافلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 181 - " بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاشِ " 220 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أنامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرِجْلايَ في قِبْلَتِهِ، فإذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وإذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ. 221 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ، رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ عَلَى فِراش أهْلٍ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ.   181 - " باب الصلاة على الفراش " 220 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كنت أنام بين يدي، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته " يعني كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة التهجد علِى فراش أهله، وكنت أنام أمامه أثناء صلاته وأنا متوسطة بينه وبين القبلة مادةَ قدمي في موضع سجوده - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي داود حيث قالت: " كنت بين النبي وبين القبلة، وأحسبها قالت: وأنا حائض "، " فإذا سجد غمزني " أي لمسني بيده الشريفة لينبهني إلى أنه يريد السجود " فَقَبَضْتُ رجلَّي " أي ضممتهُما ليتمكن من السجود " فإذا قام بسطتهما " أي مددتهما، وهذا الحديث دليل على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. 221 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهي بينه وبين القبلة " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي التهجد وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 182 - " بَابُ السُّجُودِ على الثَّوْبِ في شِدَّةِ الْحَرِّ " 222 - عن أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَضَع أحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ في مَكَانِ السُّجُود.   مضطجعة أمامه، متوسطة بينه وبين القبلة " على فراش أهله " أي على الفراش الذي ينام عليه مع زوجته " اعتراض الجنازة " أي وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة على الفراش دون كراهة سواء كان فراش نوم أو غيره، وهو مذهب الجمهور، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وكره جماعة الصلاة على غير الأرض منهم عروة وجابر وابن مسعود، والذي يبدو من كلام مالك: كراهية السجود على البساط. ثانياً: استدل أبو حنيفة بقولها: " فإذا سجد غمزني " على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. والمطابقة: في قولها: " كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لأن نومها كان على الفراش. وفي قولها: "كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله ". 182 - " باب السجود على الثوب في شدة الحر " 222 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كنا نصلّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر في شدة الحر " فيضع أحدنا طرف الثوب " أي يجعل طرف ثوبه تحت جبهته ليكون فاصلاً بينها وبين الأرض " من شدة الحر " أي ليقي نفسه من شدة حرارة الأرض المتوقدة " في مكان السجود " حيث تلتهب الأرض من حرارة أشعة الشمس في فصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 183 - " بَابُ الصَّلَاةِ في النِّعَالِ " 223 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سُئِلَ أكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى في نَعْلَيْهِ، قَالَ: نَعَمْ.   الصيف. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " فيضع أحدنا طرف الثوب ". ويستفاد منه: جواز السجود على الثوب متصلاً كان أو منفصلاً، وهو مذهب الجمهور خلافاً للشافعي حيث قال: يجوز السجود على المنفصل دون المتصل. 183 - " باب الصلاة في النعال " 223 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه " سُئِل أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه " أي هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو لابس نعليه " قال: نعم " أي كان يصلي في نعليه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد منه: جواز الصلاة في النعال، قال ابن دقيق العيد وغيره من أهل العلم: الصلاة في النعال من الرُّخَص لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وقال عياض: الصلاة في النعال رخصة مباحةٌ. والمطابقة: في قوله: " نعم " أي نعم كان يصلي في نعليه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 184 - " بَابُ الصَّلاة في الخِفَاف " 224 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ بَاكَ ثُمَّ تَوَضَّأ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثم قَامَ فَصَلَّى، فَسُئِلَ فقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَنَعَ مِثْلَ هَذَا، فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ لأنَّ جَريراً كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أسْلَمَ.   184 - " باب الصلاة في الخفاف " 224 - معنى الحديث: أن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما " بال ثم توضأ ومسح على خفيه " أي ولم يغسل رجليه، وإنما مسح على الخفين بدلاً من غسل الرجلين " ثم قام فصلّى " أي صلى في خفيه، ولم ينزعهما وهو موضع الترجمة " فسئل " أي فسأله بعضهم، لماذا مسح على خفيه وصلى فيهما " فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل هذا " أي رأيته - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بمسح خفيه، وصلى فيهما فاقتديت به، وعملت بسنته " فكان يعجبهم " أي فكان يعجبهم حديث جرير هذا ويستدلون به على مشروعية مسح الخفين وعلى أن هذا الحكم باق لم ينسخ " لأن جرير كان مِنْ آخر من أسلم " من الصحابة، وفي رواية لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة التي فيها آية الوضوء، وفي هذا حجة ظاهرة، ودليل واضح على أنّ المسح على الخفين لم ينسخ بها وأنّه باق إلى قيام الساعة. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " ومسح على خفيه ". ويستفاد منه: مشروعية المسح على الخفين والصلاة فيهما، لقوله: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 185 - " بَابٌ بيدِي ضَبْعَيْهِ (1)، ويُجَافِي في السُّجُودِ " 185 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَإلِكٍ بنِ بحينة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ.   185 - " باب ييدي ضَبْعَيْهِ ويجافي في السجود " " يبدي ضَبْعيه " بفتح الضاد وتسكين الباء تثنية ضَبْع وهو العضد، أي يبعد عضديه عن جنبيه. 225 - ترجمة الراوي: وهو عبد الله بن مالك بن بحينة، بضم الباء وفتح الحاء، اسم لأمه، فإنه كان ينسب رضي الله عنه تارة إلى أبيه فيقال: ابن مالك، وتارة إلى أمه فيقال: ابن بحينة. كما في سنن أبي داود، أما البخاري هنا فقد نسبه إلى أبيه وأمّه معاً، وهو عبد الله رضي الله عنه بن مالك الأزدي، حليف بني المطلب، أسلم قديماً، وكان ناسكاً فاضلاً يصوم الدهر، توفي في إمارة مروان الأخيرة على المدينة رضي الله عنه. معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن بحينة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى " أي إذا سجد في صلاته " فرّج بين يديه " أي باعد بين يديه وجنبيه يقال: فَرَجَ يَفْرِجُ على وزن ضرب يضرب، وفرَّج يُفَرِّجُ على وزن فرَّح يُفَرِّحُ بتخفيف الراء وتشديدها " حتى يبدو بياض إبطيه " بكسر الهمزة، وسكون الباء تثنية إبْطٍ، قال في المصباح: والجمع آباط، مثل حمل وأحمال، أي كان يبعد يديه عن جنبيه حتى يظهر وينكشف بياض إبطيه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: أنه يستحب للرجل التفريج بين عضديه وجنبيه أثناء السجود وإبعادهما عن بعضهما، قال الشوكاني: حتى إن ظاهر بعض الأحاديث يدل   (1) قال السفاقسي: الضبْع ما تحت الإبط، ومعنى يبدي ضبعيه أي لا يلصق عضديه بجنبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 على وجوب هذه الهيئة، والحكمة فيها إعطاء كل عضو حقه من العبادة، ولأن ذلك أقرب إلى النشاط وأبعد عن الكسل. والمطابقة: في قوله: " حتى يبدو بياض ابطيه ". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري تأليف حمزة محمد قاسم راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون الجزء الثاني مكتبة دار البيان ص. ب 2854 - هاتف 229045 دمشق - الجمهورية العربية السورية مكتبة المؤيد ص. ب 10 - هاتف 7321851 الطائف - المملكة العربية السعودية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 حقوق الطبع محفوظة للمؤلف بيروت 1410 هـ - 1990 م الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 أبْوَابُ القِبْلَة 186 - " بَابُ فضلِ اسْتقْبَالِ الْقِبْلَةِ " 226 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ صَلى صلاَتنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلا تَخْفِرُوا اللهَ في ذِمَّتِهِ ".   186 - " باب فضل استقبال القبلة " 226 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا " أي من صلى كما نصلي مستقَبلاً الكعبة المشرفة كما أفاده العيني " وأكل ذبيحتنا " أي ولم يتوقف عن الأكل من ذبائح المسلمين " فذلك المسلم " أي فإنه مسلم معصوم الدم والمال، يتمتع بكل الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، وتطبق عليه أحكامهم الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية وذلك لأن تلك الصفات الثلاثة التي هي الصلاة واستقبال القبلة وأكل ذبائح المسلمين لا تجتمع إلاّ في مسلم مقر بالتوحيد والنبوة، معترف بالرسالة المحمدية، ولهذا قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: " فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله " أى الذي له أمان الله وأمان رسوله، والذي يتمتع بحماية الإِسلام " فلا تخفروا الله في ذمته " أي فلا تنقضوا عهد الله فيه، ولا تخونوه بانتهاك حقوقه، فإن أي اعتداء عليه هو خيانة لله ورسوله، ونقض لعهدهما، وإهدار لكرامة الإسلام. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل استقبال القبلة، وكونه من شعائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 187 - " بَابُ التَّوَجُّهِ نحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ " 227 - عنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، فإذَا أرادَ الفَرِيضَةً، نَزَلَ فاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ.   الإسلام التي يميز بها بين الكافر والمسلم، وتتحقق به عصمة الدم والمال، وتكون لمن استقبلها ذمةُ اللهِ وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، لا يسقط إلاّ عند العجز عنه أو في صلاة النافلة في السفر، وذلك بإجماع المسلمين، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن الصلاة باستقبالها فقال: " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا " فدل ذلك على أن استقبال القبلة شرط في صحتها، وأن الصلاة من دونه باطلة، وقد أمر الله تعالى باستقبال القبلة في الصلاة حيث كان المصلي وفي أي موضع كان، فقال: (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره). ثالثاً: أن الأكل من ذبائح المسلمين من العلامات المميزة للمسلم عن غيره، وهذا هو الواقع، فإن اليهود مثلاً يمتنعون عن أكل ذبائحنا وكذلك بعض الطوائف الأخرى (1). والمطابقة: في قوله: " واستقبل قبلتنا " حيث قرن استقبال القبلة بالصلاة. 187 - " باب التوجه إلى القبلة حيث كان " 227 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي أثناء سفره راكباً فوق دابته. " حيث توجهت به " أي مستقبلاً الجهة التي تتوجه إليها راحلته، ولا ينزل إلى الأرض ويلتزم باستقبال القبلة إلاّ في صلاة الفريضة "فإذا أراد فريضة   (1) كالمجوس مثلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 نزل فاستقبل القبلة" أي فإذا كانت الصلاة التي يريدها صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس، فإنه ينزل عن دابته، ويستقبل القبلة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب استقبال القبلة في صلاة الفريضة، وأنه شرط من شروط صحة الصلاة، فمن صلّى إلى غير القبلة متعمداً بطلت صلاته في حضر أو سفر، فإن كان على الدابة وجب عليه النزول لصلاة الفريضة، واستقبال القبلة ولا يسقط عنه ذلك إلاّ لعذر شرعي من مطر أو مرض أو خوف عدوٍ أو لص. ودليل الوجوب قوله " فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة ". ثانياً: جواز النافلة في السفر على الدابة حيثما توجهت به، ولا خلاف في ذلك، إلاّ أن أحمد استحب أن يستقبل القبلة بتكبيرة الاحرام لما رواه أنس من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجَّهه ركابه (1) كما أن مالكاً خصَّ ذلك بسفر القصر خلافاً للجمهور. والمطابقة: في قوله: " فإذا أراد فريضة نزل فاستقبل القبلة ". ...   (1) أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 أبْوَابُ المَسَاجِد 188 - "بَاب حَكِّ البُزَاقِ بالْيَدِ منَ المسْجِدِ " 228 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رأَى بُصَاقَاً فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ فَحَكَّهُ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى النَّاس فقَالَ: " إِذَا كَانَ أحَدُكُم يُصَلِّي فَلا يَبْصُق قِبَلَ وَجْهِهِ، فإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إذَا صَلَّى ".   188 - "باب حكّ البزاق باليد من المسجد" 228 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الحديث: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بصاقاً في جدار القبلة " أي في الجدار القبلي من المسجد النبوي " فحكه " أي فحك ذلك البصاق حتى أزاله بيده عن جدار المسجد. " فقال: " أي وبعد أن أزال ذلك البصاق، ونظف المسجد منه توجه إلى أصحابه بالنصيحة والموعظة الحسنة فقال لهمَ: " إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه " أي إذا كان أحدكم في الصلاة، فلا يتفل أمامه جهة وجهه وقبلته " فإنّ الله قبل وجهه " وهذا من صفات الله تعالى التي ثبتت في الأحاديث الصحيحة، فيجب الإيمان بها دون تحريف ولا تَعْطيل ولا تكييف ولا تمثيل. اهـ. وفي رواية: " وَلا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه " (1). الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.   (1) وهي من الروايات المتفق عليها بين البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: في هذا الحديث صفة من الصفات الإلهية التي وصف بها الرسول ربه عز وجل، وجاءت في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، فوجب الإيمان بها. وهي صفة القرب الإِلهي التي وصف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في قوله - صلى الله عليه وسلم - " فإن الله تعالى قبل وجهه " فأثبت - صلى الله عليه وسلم - أن الله قريب من عبده الذي يصلي (1) على الوجه الذي يليق بعظمته وجلاله، مع كونه فوق عرشه. قال ابن تيمية: " وكذلك العبد إذا قام يصلي فإنه يستقبل ربه، وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه، لا عن يمينه ولا عن شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل " (2) قالأ في " التنبيهات السنية ": " وقد نزع بهذا الحديث بعض المعتزلة إلى أن الله في كل مكان بذاته " وهو جهل فاضح، والأدلة المتواترة تردُّ ذلك وتفيد علو الله واستواءه على عرشه. ثانياً: أنه يندب للمصلي أن يستحضر قربه سبحانه وتعالى منه أثناء الصلاة، وفي كل عبادة من عباداته الشرعية، فإنّ ذلك هو مقام الإِحسان الذي يوجب الخشية والخوف من الله تعالى، ويدعو إلى إتمام العبادة، واتقان العمل، لأنه يستشعر أنه قائم أمام ربه، يستقبله ويتوجه إليه، ويراه كما قال - صلى الله عليه وسلم - "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". ثالثاً: جواز البصاق أثناء الصلاة. ولكن بشرطين: " الأول " أن يكون خارج المسجد، أما البصاق في المسجد فلا يجوز بحال من الأحوال لقوله - صلى الله عليه وسلم - " البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها " فهذا الحديث مخصِّص لمفهوم حديث الباب، ومنطوق الأحاديث الأخرى. " الثاني " أن لا يبصق إلى جهة القبلة فإن البصاق إليها حرام مطلقاً سواء كان في المسجد أو خارج المسجد لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " فلا يبصق قبل وجهه ": وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتَفْله بين عينيه " أخرجه ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة، وفي الحديث عن السائب بن خلاد أن رجلاً أم قوماً فبصق في القبلة. فلما   (1) " المنحة الإلهية شرح العقيدة الواسطية " للأستاذ على مصطفى الغرابي. (2) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 189 - " بَابُ كَفَّارَةِ الْبُزَاقَ " 229 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "البُزَاقُ في الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا".   فرغ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصلي لكم " (1). أخرجه أبو داود وابن حبان. " ولا يبصق عن يمينه " تشريفاً لهذه الجهة، وفي رواية للبخاري " ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً " وإنما يبصق عن يساره، أو تحت قدمه، لما جاء في رواية أخرى " فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، لكن عن يساره أو تحت قدمه ". رابعاً: أن النخامة والبصاق طاهران وإلا لم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بحك البصاق، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بصاقاً في جدار القبلة فحكه ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 189 - " باب كفارة البزاق " 229 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البزاق في المسجد خطيئة " أي إلقاء البصاق على أرض المسجد ذنب وإثم يستحق فاعله عقوبة الله تعالى " وكفارتها دفنها " بالتراب فمن ارتكب هذه السيئة وندم عليها، وأراد أن يعفو الله عنه ويمحو عنه سيئته هذه فليبادر إلى إزالتها من المسجد، بدفنها إن كان تراباً أو يمسحها منه إن كان غير ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: التحذير من البصاق في المسجد، لأنه خطيئة يأثم فاعلها، حتى قال ابن العماد: لا خلاف في أن من بصق في المسجد استهانة به كفر والعياذ بالله. ثانياًً: أن كفارة البصاق في المسجد إزالته بأي   (1) أيضاً: " التنبيهات السنية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 190 - " بَابُ عِظَةِ الإِمَامِ النَّاسَ في إتْمَامِ الصَّلَاةِ وذِكْرِ الْقِبْلَةِ " 230 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا، فَوَاللهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ، وَلَا رُكُوعُكُمْ إنِّي لأرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ".   وسيلة كانت، إمَّا بالدفن إن كان المسجد تراباً، أو الغسل والحك والمسح إن كان مبلطاً أو مفروشاً. والمطابقة: في قوله: " وكفارتها دفنها ". 190 - " باب عظة الإِمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة " 230 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " هل ترون قبلتي ها هنا " استفهام إنكاري معناه النهي والنفي، أي لا تظنوا أنني لا أرى إلاّ الجهة التى أمامي، كلا فإنني أرى مَنْ خلفي كما أرى مَنْ أمامي " فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم " أي فأقسم بالله أنني أرى من يخشع منكم في الصلاة، ومن لا يخشع فيها " إني لأراكم من وراء ظهري " أي وذلك لأنني أشاهدكم بعيني وأنتم خلف ظهري. قال العيني: والذي عليه الجمهور أنها رؤية بصرية بالعين. فإن قيل الخشوع أمر قلبي وشعور نفسي فكيف يراه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فالجواب: أنه وإن كان من أعمال القلب إلاّ أنه تظهر آثاره على الجوارح، فمن خشع قلبه سكنت جوارحه. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية وعظ الإِمام للناس بإتمام الصلاة. ثانياً: استحباب الخشوع لأنّه روح الصلاة. ثالثاً: أن من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - رؤية. من خلفه أثناء الصلاة. والمطابقة: في قوله: " فوالله ما يخفى عليَّ خشوعكم " حيث وعظهم - صلى الله عليه وسلم - بإتمام الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 191 - " بَابٌ هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ؟ " 231 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ التي أضْمِرَتْ مِنَ الحفْيَاءِ، وأمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ التي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وأنَّ عَبْدَ اللهِ بن عُمَرَ كَانَ فيمَنْ سَابَقَ بِهَا.   191 - " باب هل يقال مسجد بني فلان " 231 - معنى الحديث: يخبرنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي أضمرت " وهي التي ذهب شحمها وذوى لحمها، واشتد جريها " من الحفياء " بفتح الحاء " وأمدها ثنية الوداع " أي بقطع مسافة تبدأ من الحفياء، وتنتهى بثنية الوداع " وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق " ويقع بالمدينة جنوب باب المصري سابقاً (1). ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية إضافة المسجد إلى بانيه. ثانياًً: مشروعية سباق الخيل. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قوله: " في مسجد بني زريق ". ...   (1) مكان بالمدينة كان يسمى سوق الحمير سابقاً، كما أفاده العياشي في كتابه " المدينة بين الماضي والحاضر ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 192 - " بَاب هَلْ تُنْبَشُ قُبورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُتَّخذُ مَكَانهَا مَسَاجِدَ " 232 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ أعْلَى الْمَدِينَةِ في حَي يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرو بْنِ عَوْفٍ، فَأقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِمْ أرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثمَّ أرْسَلَ إلى بَنِي النَّجَّارِ، فجَاءُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفَ، فَكَأنِّي أنظرٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ، وأبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِدْفُهُ، وَمَلأ بَني النَّجارِ حَوْلَهُ، حتَّى ألْقَى بِفِنَاءِ أبي أيوبَ، وَكَانَ يُحَبُّ أنْ يُصَلِّي حَيْثُ أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ،   192 - " باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد " 232 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه عن هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فنزل أعلى المدينة " أي وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد الزوال، فنزل في قباء، وأناخ ناقته في الشمال الشرقي من بئر عذق - وهي بئر السقيا أو بئر الخاتم. غربي دار كلثوم بن الهرم كما أفاده المؤرخ العياشي (1) " في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف " وكانت منازلهم تمتد ما بين العُصبة جنوباً ومسجد قباء شمالاً " ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدي السيوف " أي متسلحين بسيوفهم خوفاً على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود وكانوا زهاء خمسمائة رجل تجمعوا في رحبة بني زيد الملاصقة لمسجد قباء، وتقع مئذنته القديمة في طرفها، كما أفاده العياشي "فكأني أنظر إلى النبي   (1) " المدينة بين الماضي والحاضر " لفضيلة الاستاذ العياشي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وَيُصَلِّي في مَرَابِض الْغَنَمِ، وَأنَّهُ أمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسجِدِ، فأرْسَلَ إلى مَلَأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ: يَا بني النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لا واللهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلَّا إلَى اللهِ تَعَالى، قَالَ أنَسُ: فَكَانَ فِيهِ مَا أقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وفِيهِ خَرِب، وفِيهِ نَخْلٌ، فَأمرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبُورِ الْمُشركِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بالْخَرِبِ فسُوِّيَتْ، وبالنَّخْل فَقُطِعَ، فَصَفُّوا الْنَخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وهم يرتجزون، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الآخِرَةِ ... فَاغْفِرْ لِلأنصَارِ والْمُهَاجِرَة "   - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وأبو بكر رضي الله عنه ردفه " أي راكب خلفه " حتى ألقى بفناء أبي أيوب " حيث بركت ناقته عند باب داره، فنزل بها، وأقام فيها أكثر من سبعة أشهر " (1) كما أفاده الاستاذ الأنصاري " وأنه أمر ببناء المسجد " أي أمر ببناء مسجده الشريف " فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم " أي اذكروا لي ثمنه لأني أريد شراءه منكم " فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلاّ إلى الله تعالى " أي لا نأخذ منك مالاً، وإنما نطلب عليه الأجر من الله تعالى وكان لغلامين من الأنصار فاشتراه منهما " وفيه خرب " بفتح الخاء وكسر الراء جمع خربة مثل كَلِم وكلمة أي آثار أبنية قديمة متساقطة " فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت " أي فأخرج ما فيها من الرمم البالية " ثم بالخرب فسوّيت " أي أزيلت تلك الأطلال المتبقية من آثار المنازل والديار، حتى سويت بالأرض " وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد " أي فجعلوا جذوع النخل أعمدة للرواق القبلي من المسجد، وسقفوه بالجريد   (1) آثار المدينة للأستاذ عبد القدوس الأنصاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 193 - " بَابُ الصَّلاةِ في مَوَاضِعَ الإِبِلَ " 233 - عن نَافِعَ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي إلى بَعِيرِهِ وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبيَّ   " وجعلوا عضادتيه الحجارة " أي بنوا جانبي باب المسجد من الحجارة كما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت سواريه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جذوع النخل وأعلاه مظلل بجريد النخل " الخ. أخرجه أبو داود " وجعلوا ينقلون الصخور وهم يرتجزون " أي ينشدون ويقولون: " اللهم لا خير إلا خير الآخرة " أي إن الخير الحقيقي في نعيم الآخرة، لأنّه دائم وغيره إلى الزوال. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز نبش قبور المشركين مطلقاً لبناء المساجد عليها، لأنه لا حرمة لهم " قال العيني " فإن قلت: هل يجوز أن تبنى المساجد على قبور المسلمين؟ قلت: قال ابن القاسم: لو أن مقبرة من مقابر السلمين عفت، فبنى قوم عليها مسجداً لم أو بذلك بأساً، وذكر أصحابنا أي الحنفية: أن المقبرة إذا عفَت ودثرت تعود ملكاً لأربابها، فإذا عادت ملكاً يجوز أن يبنى موضع المقبرة مسجداً. اهـ. وقال الحنابلة: إذا صار الميت رمماً جازت زراعتها وبناؤها. ثانياًً: جواز قطع الأشجار المثمرة لاستعمال خشبها، واتخاذ موضعها مسجداً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فأمر النبي بقبور المشركين فنبشت ". 193 - " باب الصلاة في مواضع الإِبل " 233 - معنى الحديث: يقول نافع: " رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلي إلى بعيره " أي رأيته يصلي متوجهاً في صلاته إلى بعيره جاعلاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ.   البعير سترة له في الصلاة " وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله " أي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثلما فعلت، فيصلي خلف بعيره متوجهاً إليه. وقد جمع نافع في هذا ... بين الأثر الصحيح والحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما الأثر فهو قوله " رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلي إلى بعيره " وأما الحديث المرفوع فهو قوله: وقال ابن عمر: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به قوم على جواز الصلاة في معاطن الإبل (1) - أي في مباركها عند شرب الماء، وهي مسألة خلافية. فقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الصلاة في مبارك الإبل مستدلين بهذا الحديث حيث قالوا: الصلاة في مباركها مثل الصلاة خلفها، فإذا كانت العلة المانعة من الصلاة في مباركها هي نفارها وكونها من الشياطين، فإن هذه العلة موجودة في الصلاة خلفها، وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفها، فدل ذلك على جواز الصلاة في معاطنها قياساً على الصلاة خلفها. وذهب الجمهور إلى أنه لا يصلى في معاطن الإِبل واستدلوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الصريحة التي وردت في النهي عن ذلك. " منها " حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإِبل " أخرجه الترمذي وقال حديث حسمن صحيح كما أخرجه ابن حبان أيضاً. وحديث عبد الله بن مغفل عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإِبل، إنها خلقت من الشياطين " أخرجه ابن ماجة وأشار السيوطي إلى صحته، وقال مغلطاي حديث صحيح متصل. اهـ. وقال المناوي " ثم إن النهي في هذه الأحاديث للتنزيه عند الشافعي والجمهور، فتكره الصلاة في العطن،   (1) وهو ظاهر مذهب البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 194 - " بَابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تنُّورٌ أوْ نار أوْ شَيْء مِمَّا يَعْبُدُ فَأرَادَ بِهِ الله " 234 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " عُرِضَتْ عَلي النَّارُ وأُنا أصَلِّي ".   وتصح حيث كان بينه وبين النجاسة حائل، وللتحريم عند أحمد، ولا تصح عنده - الصلاة في العطن بحال " اهـ (1). ثانياً: جواز جعل البعير سترة في الصلاة. والمطابقة: في كونه صلى خلف البعير. فدل ذلك على جواز الصلاة في عطنه (2). 194 - " باب من صلى وقدامه تنور ... إلخ " 234 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " عرضت علي النار وأنا أصلي " أي كشف لي عن نار جهنم، وأظهرها الله لي وأطلعني عليها وأنا أصلي صلاة الكسوف فرأيتها أمامي وشاهدتها ببصري. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة إلى كل شيء فيه نار، سواء كان تنوراً أو موقداً أو غيره. ثانياً: معجزته - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة في رؤيته - صلى الله عليه وسلم - النار أثناء صلاته. والمطابقة: في قوله: " عرضت علي النار ". ...   (1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي ج 4. (2) أي فدل ذلك على جواز الصلاة في العطن قياساً على الصلاة خلف البعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 195 - " بَابُ كَرَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ في الْمقَابِر " 235 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اجْعَلُوا في بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ ولا تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً ".   195 - " باب كراهية الصلاة في المقابر " 235 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " اجعلوا في بيوتكم من صلاكم " أي صلّوا بعض صلاتكم " وهي النوافل " في بيوتكم لتنوروها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، وفي رواية مسلم: " إذا قضى أحدكم الصلاة " أي صلاة الفريضة " في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته " أي فليصل النافلة في بيته ليجعل لها نصيباً من صلاته " ولا تتخذوها قبوراً " أي لا تجعلوها كالقبور التي لا يصلّى فيها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: كراهية الصلاة في المقابر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تتخذوها قبوراً " فإنّ معناه: ولا تتخذوها كالمقابر، فإنها هي التي لا يصلى فيها، وهو قول أكثر أهل العلم، وعند أحمد في صحة الصلاة فيها ثلاث روايات المشهور منهن أنها تبطل على الإِطلاق، والثانية أنها تصح مع الكراهة، والثالثة إن كان عالماً بالنهي أعاد، وإن لم يكن عالماً لم يعد، ومما يدل على عدم جواز الصلاة في المقبرة حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الأرض كلها مسجد إلاّ المقبرة والحمام " أخرجه الترمذي. ثانياًً: أن النوافل في البيت أفضل لورود الأمر بذلك، وأقل مقتضياته الأفضلية والاستحباب، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " ولا تتخذوها قبوراً ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 196 - " بَابٌ " 236 - عَنْ عَائِشَةَ وابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يَطرحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: " لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ والنَّصارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ " يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.   196 - " باب " 236 - معنى الحديث: يقول ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم " لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي لما نزل به الموت واشتد عليه المرض " طفق يطرح خميصة " وهي كساء مخطط " على وجهه " أي صار يرخي هذا الكساء على وجهه، " فإذا اغتم كشفها " أي فإذا ضاقت أنفاسه بسبب اشتداد الحرارة كشف الخميصة " فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " أي فأخبر الحاضرين عنده من الصحابة عن حلول اللعنة باليهود والنصارى، وطردهم من رحمة الله بسبب بنائهم المساجد على قبور أنبيائهم، ولا يقال ليس للنصارى نبي غير عيسى، وهو في السماء، لأن الثلاثة المذكورين في سورة (يس) كانوا أنبياء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: تحريم بناء المساجد على القبور، قال الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي (1): وما جرت به العادة اليوم من بناء المساجد على القبور محرّم، وهو من عمل اليهود والنصارى.   (1) " شرح زاد المسلم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 197 - " بَابُ نوْمَ الْمَرْأةِ فِي الْمَسْجِدِ " 237 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَي مِنَ الْعَرَبِ فأعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجتْ صَبِيَّة لَهُمْ عَلَيْهَا وِشاح أحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ أو وَقَعَ مِنْهَا، فَمرَّتْ بِهِ حُدَيَّاة، وهُوَ مُلْقَى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمَاً فخَطَفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ، فلمْ يَجِدُوهُ، قالتْ: فاتَّهَمُونِي به، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حتى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللهِ إنِّي لَقَائِمَة مَعَهُمْ، إذْ مَرَّتْ الْحُدَيَّاةُ، فألْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ زَعَمْتُمْ وأَنا مِنْهُ بَرِيْئَة، وَهُوَذَا هُوَ، قَالَتْ: فجاءَتْ إلى   197 - " باب نوم المرأة في المسجد " 237 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب " أي أن أمة سوداء كانت مملوكة لبعض قبائل العرب " فخرجت صبية لهم عليها وشاح " بكسر الواو وضمها، وهو قطعة من الجلد مرصّعة باللؤلؤ تشبه الحزام تشدها المرأة بين عاتقها وكشحها " فمرت حُدَيَّاة " بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء تصغير حدأة التي هي الطائر المعروف، " فخطفته " أي فاختطفت الوشاح حيث ظنته لحماً لحمرة لونه " فاتهموني به " أي بسرقته " حتى فتشوا قبلها " أي ففتشوا ثيابها وجميع جسمها حتى فتشوا فرجها " قالت: فوقع منها " أي فلما لم تجده الحدأة لحماً ألقته في وسطهم، وهم يشاهدون ذلك " فأسلمت هذا الذي اتهمتموني به زعمتم " أي هذا هو الوشاح الذي زعمتم أني سرقته "فأسلمت، قالت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأسْلَمَتْ، قَالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فكانَ لَهَا خِبَاء في الْمَسْجِدِ أو حِفْش، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأتِيني، فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، فَلَا تَجلِسُ عِنْدي مَجْلِساً إلَّا قَالَتْ: وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أعَاجِيبِ رَبِّنَا ... ألَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أنْجَانِي قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأنُكِ، لا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَداً إلَّا قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بهذَا الْحَدِيثِ.   عائشة رضي الله عنها: فكان لها خباء" بكسر الخاء وفتح الباء المخففة، أي خيمة من وبر أو صوف " في المسجد " أي وكانت الخيمة منصوبة في المسجد " أو حفش " وهو البيت الصغير " قالت: فلا تجلس ضدي مجلساً إلاّ وقالت: وَيَوْمَ الوِشَاحِ مِنْ أعَاجيب رَبِّنَا ... إلخ " أي كانت الفتنة التي تعرضت لها من إيذائها واتهامها سبباً في إسلامها وهجرتها، وكان الوشاح سبباً في نجاتها، وكان يوم الوشاح من الأعاجيب، لأن ما وقع فيه من اختطاف الحدأة للوشاح، واتهامها به كان من أعاجيب الزمان، وغرائب الأيام وكان من نعم الله عليها حيث كان نقطة تحول في حياتها من شقاء إلى سعادة، وسبباً في إسلامها، وهجرتها من دار الكفر إلى دار الإِيمان على حد المثل القائل " رب ضارة نافعة ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز نوم المرأة في المسجد، كما ترجم له البخاري لقول عائشة رضي الله عنها: " فكان لها خباء في المسجد " وذلك يقتضي أن هذه الأمة السوداء كانت تبيت في المسجد وتنام فيه، وقد أقرها - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وإقراره حجة شرعيّة فدل على جوازه، إلا أن ذلك مشروط بأمن الفتنة، وقد كانت تلك الأمة عجوز شمطاء لا مطمع فيها للرجال، قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 198 - " بَابُ نوْمَ الرِّجَالَ في الْمَسْجِدِ " 238 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَلَمْ يَجِدْ عَلِياً في البَيْتِ، فقالَ: " أينَ ابْنُ عَمِّكِ؟ "، قَالَتْ: كَانَ بَيني وَبَيْنَهُ شَيءٌ   الحافظ: وفي الحديث إباحة المبيت والمقيل في المسجد لمن لا مكان له من المسلمين رجلاً أو امرأة عند أمن الفتنة. أما إذا كانت المرأة شابة فلا يجوز لها ذلك لما تتعرض له من خطر. ثانياًً: جواز نصب الخيمة وشبهها في المسجد للمسكين الذي لا مأوى له، شريطة أن لا يؤدي ذلك إلى التضييق على المسلمين .. ثالثاً: مشروعية هجرة الإِنسان من البلد التي يفتن فيها في دينه أو نفسه أو عرضه أو ماله، وربما كانت هذه الهجرة سبب خير، وبداية حياة سعيدة، كما وقع لهذه المرأة التي كانت تترنم بهجرتها قائلة: وَيَومَ الوِشَاح من أعاجِيْبِ رَبِّنَا ... ألا إنه من بَلْدَةِ الكُفْرِ أنجاني فتذكر دائماً يوم الوشاح بالحمد والشكر لله، لأنه كان سبباً لهجرتها إلى بلدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتقالها من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام. الحديث: أخرجه البخاري في هذا الباب. والمطابقة: في قولها: "فكان لها خباء في المسجد". 198 - " باب نوم الرجال في المسجد " 238 - معنى الحديث: يقول سهل رضي الله عنه: " جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت فاطمة رضي الله عنها " بعد الظهر، وفي وقت القيلولة ليتفقد أحوال ابنته وعلاقتها مع زوجها " فلم يجد علياً في البيت " في ذلك الوقت الذي جرت فيه العادة بوجود الرجال في منازلهم، فلفت ذلك نظره - صلى الله عليه وسلم -، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ فَلَمْ يقلْ عِنْدِي، فقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لإنْسَانٍ: " انْظر أينَ هُوَ "، فَجَاء فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ في الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فجاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قد سَقَطَ رِدَاؤهُ عِن شِقِّهِ، وأصَابَهُ تُرَاب، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيقُول: " قُمْ أبا تُرَابٍ قُمْ أبا تُرَابٍ ".   وأدرك أن تغيب عليّ لا بد أن يكون لسبب ما " فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج " أي حدث بينيِ وبينَه نزاع واختلاف أدّى إلى إثارة الغضب في نفسي ونفسه، فخرج متألماً مستاءً مني " ولم يقل عندي " أي ولم يقض وقت القيلولة عندي " فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع " أي فوصل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع في المسجد وهذا هو موضع الترجمة ودليلها " فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح عنه " أي يمسح عنه التراب بيده الشريفة، " ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب " بحذف حرف النداء والتقدير قم يا أبا تراب. ويستفاد منه: أولاً: جواز نوم الرجال في المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر علياً على نومه فيه، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة شرعية. قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم بالنوم في المسجد وهم الجمهور. اهـ. وكرهه الحنفية (1) إلّا لغريب، وقال مالك: لا أحب لمن له منزل أن يبيت فيه. ثانياً: جواز التكنية بغير الولد ممازحة وملاطفة لمن لا يُغضبه ذلك. الحديث: أخرجه مسلم في الفضائل. مطابقته للترجمة: في إقراره - صلى الله عليه وسلم - نوم على في المسجد. ...   (1) وحملوا حديث الباب على حال الضرورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 199 - " بَاب إذَا دَخلَ أحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قبلَ أنْ يَجْلِسَ " 239 - عن أبي قُتَادَةَ السَّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا دَخَلَ أحدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ ركْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَجْلِسَ ".   199 - " باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " 239 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس " أى فليصل ركعتين وهما تحية المسجد قبل الجلوس أو أي شيء آخر من قراءة قرآن، أو طلب علم أو استفتاء، أو نحوه. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية تحية المسجد وكونها سنة مؤكدة لأمره - صلى الله عليه وسلم - بها في هذا الحديث وغيره، وقد اتفقوا على أن الأمر بها للندب ما عدا ما نقل عن أهل الظاهر من حمله على الوجوب، مع أن ابن حزم صرح بخلافه. ثانياًً: أن الأمر بتحية المسجد في هذا الحديث عام شامل لجميع الأوقات، ولكن هناك أحاديث أخرى ورد فيها النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبعد صلاة الصبح والعصر، وعند خطبة الجمعة نهياً عاماً شاملاً لجميع النوافل، قال الحافظ: وهما عمومان متعارضان: الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات معينة، فلا بد من تخصص أحد العمومين، فذهب قوم إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر " أي إلى تخصص النهي بغير الصلاة التي لها سبب، أما الصلاة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 200 - " بَابُ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ " 240 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَبْنِيَّاً باللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَريدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أبو بَكْرٍ شَيْئاً، وزَادَ فيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلى بُنْيَانِهِ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - باللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ وأعادَ عُمُدَهُ خَشَباً، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرةً، وبَنَى جِدَارَهُ بالحِجَارَةِ المَنْقُوشَةِ والْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بالساجِ.   لها سبب، كتحية المسجد فإنّها تصلى في أوقات النهي. قال الحافظ: وهو الأصح عند الشافعية، وذهب قوم إلى تخصيص الأمر بتحية المسجد بغير الأوقات المنهي عنها، وقالوا: لا تصلى النافلة في أوقات النهي مطلقاً سواء كانت تحية المسجد أو غيرها، وهو قول الحنفية والمالكية. وقال الشوكاني: الأولى للمتورع ترك دخول المسجد في أوقات الكراهة. اهـ. والمطابقة: في كون الترجمة من، لفظ الحديث نفسه. 200 - " باب بنيان المسجد " 240 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن المسجد كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي في زمنه - صلى الله عليه وسلم - " مبنياً باللبن " أي كانت جُدْرانه مبنية من اللبن - بفتح اللام وكسر الباء، وهو ما يصنع من الطين اللَّيِّن، ويجفف بالشمس " وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل " أي من جذوع النخل المقطوعة من الحائط الذي بني فيه المسجد، حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية أخرى بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد - أي جعلوا جذوع النخل سوارى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 201 - " بَابُ التَّعَاوُنِ في بِنَاءِ الْمَسْجِدِ " 241 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ كَانَ يُحَدثُ يَوْمَاً حَتَّى أتى عَلَى ذِكْرِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا   وأعمدة للرواق القبلي من المسجد. هذا وقد كانت مساحة المسجد في العهد النبوي نحو خمسة وثلاثين متراً من الشمال إلى الجنوب وثلاثين متراً من الشرق إلى الغرب " وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه " أي وبناه على شكل بنيانه في العهد النبوي، ولم يُغَير في مواد بنائه شيئاً وإنما وسعه وقال: لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينبغي أن تزيدوا في مساجدنا ما زدت فيه " ثم غير عثمان " أي جدده وطور في بنائه " وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّةِ " وهى الجص بلغة الحجاز، " وسقفه " بفتح القاف والفاء " بالساج " أي جعل سقفه من الساج وهو خشب هندي أسود اللون. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. ويستفاد منه: كيفية بناء المسجد في العهد النبوي، وتجديد الخلفاء وتوسيعهم لمساحته، وفضل بناء المساجد وتعميرها. والمطابقة: في وصف الحديث لبناء المسجد شكلاً ومادة. 201 - " باب التعاون في بناء المسجد " 241 - معنى الحديث: أن أبا سعيد رضي الله عنه " كان يحدث يوماً حتى أتى على ذكر بناء المسجد " أي حتى ساقه الحديث إلى قصة بناء المسجد النبوي " فقال: كما نحمل لبنة لبنة " أي كان كل واحد منا يحمل لبنة واحدة في كل مرة " وعمار لبنتين لبنتين " أي وكان عمار يحمل لبنتين اجتهاداً منه، وحرصاً على طاعة الله ورسوله، " فجعل - صلى الله عليه وسلم - ينفض التراب عنه " تكريماً له وتنويهاً بشأنه، وتعبيراً عن عطفه - صلى الله عليه وسلم - عليه ومحبته له، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّار لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: فَجَعَل يَنْفُضُ الترابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: " وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إلى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إلَى النَّارِ "، قَالَ: يَقُولُ عَمَّار: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ. 202 - " بَابُ مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِداً " 242 - عَنْ عُثْمَانَ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:   " فيقول: ويح عمّار " أي والحال أنه يقول: " ويح عمار " الخ وهذا تعبير آخر عن توجعه - صلى الله عليه وسلم - ورثائه لما يؤول إليه حاله حيث " تقتله الفئة الباغية " أي تقتله الفئة الخارجة عن طاعة الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، وهم أصحاب معاوية كما جاء في رواية أخرى وهم أصحاب الشام كما أفاده العيني، قال الحافظ: وأجمعوا على أنه قتل مع علي بصفين سنة (37) هـ " يدعوهم إلى الجنة " أي إلى سبيل الجنة بمبايعة عليّ، " ويدعونه إلى النار " قال في شرح " زاد المسلم " أي يدعونه إلى سببها وإن لم يتعمدوا بالتأويل. فهم معذورون. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب التعاون في بناء المساجد، وأنه من أفضل الأعمال. ثانياً: أن علياً رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه هو صاحب الحق في الخلافة لأنّه - صلى الله عليه وسلم - سمي الطرف الآخر بالفئة الباغية. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " نحمل لبنة لبنة ". 202 - " باب من بني مسجداً " 242 - معنى الحديث: أن عثمان رضي الله عنه لما جدد المسجد النبوي سنة تسع وعشرين من الهجرة أنكر عليه بعض الناس زخرفة المسجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 إنَّكُمْ أكثرتُمْ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " من بَنَى مَسْجِداً يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ في الجَنَّةِ ". 203 - " بَابُ يَأخذُ بِنُصُولِ النبلِ إذا مَرَّ في الْمَسْجِدِ " 243 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُل في الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمْسِكْ بِنِصَالِهَا " (1).   وتغيير شكل بنائه، وأحبوا أن يدعه على هيئته، فأجابهم على ذلك " وقال: إنكم أكثرتم، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بني مسجداً " التنكير للتعميم أي من بني أيَّ مسجدٍ صغيراً كان أو كبيراً، واسعاً أو ضيقاً " ولو كمفحص قطاة " كما رواه الطبراني وابن حبان، وهو المكان الذي تضع فيه بيضها " بنى الله له مثله في الجنة " أي بني له مثل عدد ما بناه، فإنْ بنى واحداً بنى له واحداً وإن بني اثنين بني له اثنين، فالتشبيه في العدد لا في الشكل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. ويستفاد منه: فضل بناء المساجد، وعظم المثوبة عليها في الجنة، وفي رواية الطبراني " من بني مسجداً لا يريد به رياءً ولا سمعة، بني الله له بيتاً في الجنة ". والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 203 - " باب يأخذ بنصول النبل إذا مرَّ في المسجد " 243 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل الذي مر بالمسجد ومعه السهام أن يمسك بنصولها، ويحافظ عليها لئلا تؤذي أحداً. ويستفاد منه: جواز إدخال السلاح المسجد، شريطة أن يحافظ على سلامة الناس. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة.   (1) النصال، جمع نصل، وهو حديدة السهم والرمح والسكين، والجمع أنصل، ونصول وأنصال. اهـ " اللسان ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 204 - " بَابُ الْمرُورِ في الْمَسْجِدِ " 244 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ مَرَّ في شَيءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أو أسْوَاقِنَا بِنَبْل فلْيَاخُذْ عَلَى نِصَالِهَا لا يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمَاً". 205 - " بَابُ الشِّعْرِ في الْمَسْجِدِ " 245 - عن حَسَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   والمطابقة: في قوله: " أمسك بنصالها ". 204 - " باب المرور في المسجد " 244 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -"من مرَّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا " أي من اجتاز أيَّ مكان من الأماكن الحافلة بالناس سواء كان مسجداً أو سوقاً " بنبل " أي بسهام " فليأخذ على نصالها، لا يعقر بكفه مسلماً " أي فليحافظ عليها وليكن حذراً أثناء مروره بها، لئلا يجرح بها أحداً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز المرور في المسجد وإن كان قد وضع في الأصل للعبادة، لأن الحاجة تقتضيه. ثانياًً: وجوب الحذر واليقظة عند المرور بالسلاح في المسجد أو غيره من الأماكن العامة خشية أن يؤذي به أحداً. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: "من مَر في شيء من مساجدنا". 205 - " باب الشعر في المسجد " 245 - ترجمة راوي الحديث: هو شاعر الإِسلام وشاعر رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أنه اسْتَشْهَدَ أبا هُرَيْرَةَ: أنشُدُكَ اللهَ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " يَا حَسَّانُ أجِبْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، اللَّهُمَّ أيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " قَالَ أبُو هُرَيْرَةُ: نَعَمْ.   - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت رضي الله عنه الخزرجي الأنصاري، قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث، كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإِسلام، عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإِسلام، وتوفي في خلافة على قبل الأربعين من الهجرة. معنى الحديث: أن حسان رضي الله عنه كان ينشد الشعر في المسجد، بينما كان عمر هناك، فلحظ إليه عمر، أي نظر إليه نظرة استنكار، فلما رأى حسان منه ذلك، قال له: كنت أنشد الشعر في المسجد وفيه من هو خير منك، ثم " استشهد أبا هريرة " أي سأله أداء الشهادة التي يعلمها عن إنشاده الشعر في المسجد بحضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك وتشجيعه له على إنشاد الشعر فقال: " أنشدك الله " بفتح الهمزة وضم الشين، أي أسألك بالله وأستحلفك به " هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا حسان أجب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أجب شعراء المشركين بشعرك واهجهم به دفاعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونصرة لدينه. وهل سمعته يقول: " اللهم أيده بروح القدس " أي قوِّه بجبريل، وسخره له فيلهمه الشعر الذي يقع على أعداء الإِسلام وقع السهام " قال أبو هريرة: نعم " سمعتك تنشد الشعر أمامه فِي المسجد، وسمعته يقول ذلك. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز إنشاد الشعر فِي المسجد، لأن حسان كان يفعل ذلك بحضوره - صلى الله عليه وسلم -، وأقره عليه، ولم ينكره، قال الترمذي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 206 - " بَابُ أصْحابِ الْحِرَابِ في الْمَسْجِدِ " 246 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَاً علَى بَابِ حُجْرَتِي، والْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ في الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللهِ يَسْترُنِي بِرِدَائِهِ أنظرٌ إلى لَعِبِهِمْ.   روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث الرخصة في إنشاد الشعر في المسجد، وقد اختلف في ذلك العلماء فقال الشعبي وابن سيرين وابن المسيب والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: لا بأس بإنشاد الشعر الذي ليس فيه هجاء، ولا ثلب عرض المسلمين، ولا فحش. وقال مسروق والحسن البصري والنخعي: يكره رواية الشعر وإنشاده لحديث عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً " أخرجه الشيخان وابن ماجه. وأجاب الأولون أن هذه الأحاديث إنما هي في الشعر الذي فيه خنى وفحش. ثانياً: فضل حسان وسائر الشعراء الإِسلاميين السائرين على نهجه في الدفاع عن الإِسلام. فإن عملهم هذا جهاد والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أجب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". 206 - "باب أصحاب الحراب في المسجد" 246 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي " أي واقفاً في باب حجرتي " والحبشة يلعبون في المسجد " بحرابهم كما في رواية أخرى " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم " بفتح اللام وكسر العين، أو بكسر اللام وسكون العين، أي وأنا واقفة إلى جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظر إليهم، وأشاهد ألعابهم الحربية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 207 - " بَابُ التَّقَاضِي وَالْملَازَمَةِ في الْمَسْجِدِ " 247 - عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنهُ تَقَاضَى ابْنَ أبِي حَدْرَدٍ دَيْناً كَانَ لَهُ عَلَيْهِ في الْمَسْجِدِ، فارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُمَا حتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتهِ، فَخَرَجَ إليْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: يَا كَعْبُ! قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهَ! قَالَ: ضَعْ منْ دَيْنِكَ هَذا، وَأوْمَأ إلَيْهِ أي الشَّطْرَ، قَالَ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ.   ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني عن أعين الناس بردائه. والمطابقة: في قولها: " يلعبون في المسجد ". ويستفاد منه: أن المسجد النبوي كان مركزاً عسكرياً، وقاعدة حربية، وميداناً يتدرب فيه الرجال على ألعاب الفروسية والقتال، قال الحافظ: واللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب. الحديث: أخرجه الشيخان. 207 - " باب التقاضي والملازمة في المسجد " 247 - ترجمة راوي الحديث: هو كعب بن مالك الأنصاري شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد العقبة والمشاهد كلها عدا بدر وتبوك، روى ثمانين حديثاً، للبخاري منها أربعة وتوفي بالمدينة سنة (50) هـ. معنى الحديث: أن كعباً رضي الله عنه " تقاضى ابن أبي حدرد " أي طالبه بدين له عليه " في المسجد فارتفعت أصواتهما " أي فتخاصما حتى ارتفعت أصواتهما " فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حجرته " بكسر السين وفتحها وهو الستر أو الستارة أي أنه لما سمع أصواتهما وهما يتخاصمان في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 المسجد كشف ستر حجرته، ليستطلع خبرهما ويتعرف على قضيتهما، ثم خرج إليهما، ومر بهما كما في رواية الأعرج " فنادى، كعب قال: لبيك، رسول الله قال ضع من دينك " أي تنازل عن بعض دينك تخفيفاً عليه، ورفقاً بحاله " وأومأ إليه أي الشطر " أي وأشار إليه إشارة تفسيرها ومعناها تنازل عن نصف الدين، وخذ منه النصف. ولم يقصد بذلك - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره أمر إلزام، وإنما هي مجرد وساطة وشفاعة وإصلاح بين المتخاصمين، له أن يقبلها، أو يعتذر عنها " قال: قد قبلت " أي قبلت وساطتك " قال: قم فاقضه " أي قم يا ابن أبي حدرد فسدد نصف الدين فوراً، والأمر هنا أمر وجوب وإلزام. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز مقاضاة الديون وسائر الحقوق المالية في المسجد، وقضاؤها فيه، قال مالك: لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد ديناً أما التجارة والصرف فلا أحبّه. ثانياً: أن أمر القاضي بالتنازل عن بعض الحق إنما هو مجرد شفاعة وصلح، ولا يجب تنفيذه، وإنما له أن يقبله أو يعتذر عنه إن شاء. ثالثاً: أنه إذا قبل الدائن التنازل عن بعض حقه استجابة منه لوساطة الحاكم وجب على المدين أن يقوم بقضاء الدين فوراً، وللقاضي أن يلزمه بذلك، وذلك لئلا يجتمع على رب الدين وضيعة ومطل معاً، كما أفاده العيني. رابعاً: جواز رفع الصوت في المسجد ما لمٍ يتفاحش، وقد أفرده البخاري بباب مستقل، ونقل عن مالك منعه مطلقاً، كما نقل عنه جوازه في العلم والخير وما لا بد فيه، دون رفعه باللغط ونحوه، وأما حديث واثلة: " جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم " أخرجه ابن ماجة فإنه ضعيف (1). الحديث: أخرجه الشيخان. ...   (1) شرح العيني ج 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 208 - " بَابُ كَنْس والْمَسْجِدِ " 248 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَجُلاً أسْوَدَ اوْ امْرَأةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فمَاتَ، فَسَألَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ، فَقَالُوا، مَاتَ، فَقَالَ: " أفَلَا آذَنْتُمونِي، دُلُّوني عَلَى قَبْرِهِ، أوْ قَالَ: عَلَى قَبْرِهَا " فَأتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.   208 - "باب كنس المسجد" 248 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه في حديثه هذا " أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كانت تقم المسجد " أي كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تكنس المسجد وتنظفه، وتجمع القمامة منه، لتلقيها خارج المسجد. " فماتت " فلم يعلم - صلى الله عليه وسلم - بها، " فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقالوا: ماتت " أي فأخبره أبو بكر الصديق بأنّها ماتت كما أفاده العيني " فقال: أفلا آذنتموني " أي فعاتبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدم إخباره بوفاتها " ثم قال: " دلوني على قبرها " لأصلي عليها فوق قبرها، وفي رواية مسلم قال - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم " فصلى عليها " صلاة الجنازة عند قبرها، وفي الحديث عن خارجة ابن زيد بن ثابت عن عمه قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما ورد البقيع إذ مرَّ بقبر جديد (1) فسأل عنه، فقيل: فلانة أي فأخبروه بأنها تلك المرأة التي كانت تقم المسجد، واسمها أم محجن فعرفه قال: " ألا آذنتموني بها " أي ألا أعلمتموني بوفاتها، فإن صلاتي عليها رحمة لها، ثم أَتى القبر فصففنا خلفه فكبر عليه أربعاً. أخرجه ابن حبان.   (1) شرح العيني على البخاري ج 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 فقه الحديث دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل تنظيف المسجد والقائمين به وعلو منزلتهم، حتى أن بعض أهل العلم جعل صلاته - صلى الله عليه وسلم - على قبر هذه المرأة خصوصية لها مقابل خدمتها للمسجد، وعنايتها بحرمه الشريف، وفي الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوىء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن " رواه مسلم. فإذا كانت القذاة وهي ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو وسخ قليل جداً يؤجر العبد على إخراجه من المسجد، فكيف بمن يكنسه وينظفه، ولهذا قال ابن رسلان: فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة، فإنّها كتب في أجورهم، وتعرض على نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كتب هذا القليل وعُرِض، فإنه يكتب الكبير ويعرض بالأولى، ففيه تنبيه بالأدنى على الأعلى. وقال ابن بطال في شرح حديث الباب: وفي هذا الحديث الحض على كنس المساجد وتنظيفها، لأنه إنّما خصها بالصلاة عليها بعد دفنها من أجل ذلك. ثانياًً: مشروعية صلاة الجنازة على القبر لمن لم يكن صلى على تلك الجنازة اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعملاً بسنته، وهو قول الجمهور: إلا أنهم اختلفوا في المدة التي يصلّى عليه فيها، فقال الشافعية: يصلى عليه إلى ثلاثة أيام وقالت الحنابلة: إلى شهر وقالت الحنفية: يصلى عليه ما لم يغلب على الظن أنّه تفسخ، وقالت المالكية: يصلى عليه ما لم يُظن فناؤة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كانت تقم المسجد ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 209 - " بَابُ الأسِيرِ والْغرِيمِ يربَطُ في الْمَسْجِدِ " 249 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ عِفْرِيتَاً من الْجِنِّ تفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَىَّ الصَّلَاةَ فأمكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فأرَدْتُ أنْ أرْبِطَهُ إِلَى سَارِية مِنْ سَوارِي الْمَسْجِدِ حتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظرٌوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أخي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلكاً لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي. قَالَ رَوْح، فَرَدَّهُ خَاسِئَاً ".   209 - " باب الأسير والغريم يربط في المسجد " الغريم: هو المدين المحكوم عليه شرعاً بالسجن لمطله أو لسبب آخر. 249 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن عفريتاً من الجن " أي إن شخصاً متمرداً من الجن، والجن أجسام نارية قابلة للتشكل بأشكال مختلفة، وهم مخلوقات غير منظورة لنا، مكلفون مثلنا، منهم المؤمنون والكافرون والعصاة، ومنهم الطيب والخبيث، وهو الذي تحدث عنه في هذا الحديث " تفلت عليّ البارحة " أي أن هذا المارد من الجن تعرّض لي أثناء الصلاة " ليقطع علّي الصلاة " أي ليشغلني به، ويقطع علي الخشوع في الصلاة، بتشويش أفكاري، ويحول بيني وبين قبلتي، وبيني وبين مناجاة ربي، وليس معناه أنه يبطل عليه صلاته ويفسدها عليه، لأن مجرد وسوسة الشيطان لا تقطع الصلاة، " فأمكنني الله منه " أي فأقدرني الله على ذلك الشيطان فدفعته عن نفسي، وفي رواية مسلم " فذعتُّه " أي خنقته " فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه " مقيداً نهاراً وأولاد المدينة يلعبون به "فذكرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 210 - " بَابُ الْخيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ للْمَرْضَى وَغَيرِهِمْ " 250 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: أصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ في الأكْحَلِ، فَضَربَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْمَةً في الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيب، فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وفي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنى غِفَارِ إلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إلَيْهِمْ،   قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي" حيث دعا الله أن يخصه وحده بامتلاك الجن فامتنعت عنه. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز ربط الأسير والغريم وكل من عليه حق شرعي في المسجد، سواء كان ديناً أو قصاصاً. ثانياً: وجود عوالم أخرى غير منظورة كالجن والملائكة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فأردت أن أربطه إلى سارية " إلخ. 210 - " باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم " 250 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " أصيب سعد يوم الخندق " أي أصيب سعد بن معاذ يوم غزوة الخندق " الأكحل " بفتح الهمزة، وهو عرق في الذراع إذا قطع لا يرقأ دمه، ولهذا قال الخليل: هو عرق الحياة، وهو متصل بجميع أعضاء الجسد، وله في كل عضو شعبة، ويختلف اسمه باختلاف الأعضاء فهو في اليد الأكحل، وفي الظهر الأبهر، وفي الفخذ النساء. وكان سعد رضي الله عنه قد رماه حبان " بكسر الحاء وتشديد الباء " ابن قيس بسهم فأصابه في أكحله وهو يقول: أنا ابن العرقة فقال - صلى الله عليه وسلم -: عرق الله وجهه بالنار فقال سعد اللهم لا تخرج روحي حتى تُقِرَّ عيني في بني قريظة " فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - " له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فَقَالُوا: يَا أهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يأتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ، فإذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرحُهُ دَمَاً فَمَاتَ فِيهَا. 211 - " بَابُ إدْخالِ الْبَعِيرِ في الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ " 251 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ أنِّي أشْتَكِي، قَالَ: " طُوفي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأنْتِ رَاكِبةٌ " فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى إلَى جَنْبِ البَيْتِ يَقْرأُ بالْطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.   غفار" بكسر الغين " إلاّ الدم يسيل إليهم " أي ينزف بغزارة من الخيمة التي فيها سعد " فإذا سعد يغذو جرحه " أي يسيل فلما تفقدوا تلك الخيمة وجدوا أن سعداً قد انتفض عليه أكحله وعاوده النزيف. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: "فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - له خيمة" إلخ. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز التمريض في المسجد للضرورة والحاجة لأن سعداً مرض في المسجد لعدم وجود أماكن أخرى من مستشفيات ونحوها. ثانياًً: استدل به مالك (1) على أن إزالة النجاسة ليست فرضاً، ولو كانت فرضاً لما أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للجريح بالسكنى في المسجد. 211 - " باب إدخال البعير في المسجد للعلة " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز إدخال البعير إلى المسجد لعذر شرعي. 251 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها:   (1) شرح العيني على البخاري ج 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 " شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي " أي أخبرته أني مصابة بمرض يمنعنى من المشى في الطواف " قال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " أي فرخص لي أن أطوف خلف الناس راكبة على بعيري " فطفت " أي فطفت راكبة على البعير كما أذن لي النبي - صلى الله عليه وسلم - " ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت يقرأ: بـ وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ " والحال أن رسول الله كان يصلي في ذلك الوقت إلى جوار الكعبة، ويقرأ هذه السورة المذكورة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز إدخال البعير إلى المسجد إذا احتاج صاحبه إلى ذلك لعذر شرعي من مرض أو عجز أو نحوه، قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها ولا ينجس بولها إلى المسجد إذا احتيج إلى ذلك وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز، وهو قول مالك وأحمد في المشهور عنه، خلافاً لغيرهما، وسبب ذلك أنهم اختلفوا في روث ما يؤكل لحمه وبوله، فقال مالك وأحمد في المشهور عنه: هو طاهر، وقال أبو حنيفة: كله نجس إلاّ ذرق الحمام والعصافير، وقال الشافعي كله نجس دون استثناء، واستدل مالك وأحمد على طهارته بهذا الحديث، لأنه لو لم يكن طاهر البول والروث لما رخص لها بإدخال البعير إلى المسجد، لأنه قد يبول فيه، وقال الشافعي: إنما رخص لها بذلك لأنه أمن من تلويث المسجد، وفيه نظر. ثانياًً: جواز الطواف راكباً على بعير وغيره لمن عجز عن المشي، وقد استغنى الناس في عصرنا هذا عن الطواف على البعير بالطواف على أشياء أخرى كالشبرية مثلاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي. والمطابقة: في قوله: " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 212 - " بَاب " 252 - عَن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أيدِيهُمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مع كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أتَى أهْلَهُ.   212 - " باب " 252 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما فإنهما خرجا من مسجده - صلى الله عليه وسلم - " في ليلة مظلمة " من ليالي آخر الشهر حالكة الظلام لا أثر فيها لضوء القمر " ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما " أي فأمدهما الله بنور من عنده، فصار يسير معهما مثل المصباحين ينيران لهما الطريق " فلما افترقا صار مع كل واحد منهما مصباح حتى أَتى أهله " أي حتى وصل إلى منزله كَأنَّ الله قد عجّل لهما في الدنيا ما أخره لعباده الصالحين في الآخرة (1)، ووعدهم به في كتابه، وبشرهم به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال عز وجل: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " بَشِّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل التردد على صلاة الجماعة في ظلمات الليل بالمساجد، فإنّ السائرين فيها في ظلمات الليل إن لم يجدوا نوراً حسياً ينير لهم الطريق وجدوا نوراً في وجوههم وبصائرهم في الدنيا، ونوراً بين أيديهم يوم القيامة. ثانياً: فضل هذين الصحابيين الجليلين، وما أكرمهما   (1) كما أفاده القسطلاني ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 213 - " بَابُ الْخوْخةِ والْمَمَرِّ في الْمَسْجِدِ " 253 - عن أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْداً بيْنَ الْدُنيا وبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ "، فَبَكَى أبو بَكْر، فَقُلْتُ في نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيخَ إِنْ يَكُنْ اللهُ خَيَّر عَبْداً بَيْنَ الدُّنيا وبَيْنَ ما عِنْدَهُ، فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أبو بَكْرٍ أعْلَمَنَا، فَقَالَ: " يَا أبَا بَكْر لا تَبْكِ إنَّ أمَنَّ النَّاس عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومَالِهِ أبو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً (1) مِنْ أمَّتِي لاتَخَذْتُ أبا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أخُوَّةُ الإسْلَامِ   الله به من هذا النور الذي يضيء لهما الطريق إلى منزلهما أثناء عودتهما في ظلمات الليل من المسجد. ثالثاً: إثبات الكرامة لأولياء الرحمن في سائر العصور والأزمان حتى قيام الساعة. الحديث: أخرجه البخاري. 213 - " باب الخوخة والممر في المسجد " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز اتخاذ الخوخة بفتح الخاء، وهي الباب الصغير في المسجد. 253 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: " خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي خطب - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه، حيث خرج عاصباً رأسه، فصعد المنبر " فقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده " أي بين البقاء في هذه الدنيا والانتقال إلى الرفيق الأعلى " فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما هذا الشيخ إنْ يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله " أي فقلت أي   (1) وهو المحبوب الذي تتخلل محبته وسط القلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وَمَوَدَّته، لا يَبْقَيَنَّ في الْمَسْجِدِ بَاب إلَّا سُدَّ إلَّا بَابَ أبِي بَكْرٍ".   شيء في هذا يبعث على البكاء، لأنني لم أعرف الشخص المعنّي بذلك " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو العبد " أي وإذا المقصود بهذا العبد الذي اختار ما عند الله هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يَنْعَى (2) إليْنَا نَفْسَهُ ويخبرنا برحيله عنا " وكان أبو بكر أعلمنا " وأفهمنا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا " فقال: يا أبا بكر لا تبكِ إن أَمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر " أي أكثرهم إحساناً إليَّ هو أبو بكر " ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر " أي ولو كان هناك أحدٌ من البشر يبلغ من نفسي منزلة الخليل لكان أبا بكر " ولكن أخوة الإسلام " ولكن له مني أخوة الإِسلام أما خُلَّتي فإنها لله وحده فهو عز وجل الذي انفرد بكمال محبتي له دون سواه " لا يبقين في المسجد باب إلاّ سد، إلاّ باب أبي بكر " فإنه يبقى وحده دون سائر الأبواب الأخرى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي. أولاً: الإِشادة بفضل الصديق رضي الله عنه وإحسانه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: جواز اتخاذ الخوخة في المسجد كما ترجم له البخاري. ثالثاً: أنه لا خليل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إلّا الله وحده، لأن الخلة كما قال ابن القيم: معناها توحيد الله بالمحبة، وهي رتبة لا تقبل المشاركة. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إلاّ باب أبي بكر ". ...   (2) قال في المصباح نعيت نعياً من باب نعى أخبرت بموته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 214 - " بَابُ الاسْتِلْقَاءِ في الْمَسْجِدِ ومدِّ الرِّجْلِ " 254 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ بنِ عَاصِم رَضِيَْ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ رَأى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيَاً في الْمَسْجِدِ وَاضِعَاً إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى.   214 - " باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل " 254 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه في حديثه هذا " أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي رآه بعينه وشاهده ببصره " مستلقياً في المسجد " أي مضطجعاً على ظهره في المسجد " واضعاً، إحدى رجليه على الأخرى " أي واضعاً إحدى رجليه على الرجل الأخرى. قال العيني: قوله " مستلقياً حال وكذلك واضعاً وهما حالان مترادفان ". فقه الحديث: دل هذا الحديث. على جواز الاستلقاء في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى، لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، وفِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - حجة على جوازه وأما حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق، فإنه منسوخ بحديث الباب، أو أنه لا يجوز ذلك إذا كان الإِزار ضيقاً، وخشي انكشاف عورته لو وضع إحدى رجليه على الأخرى، فعِلَّةُ النهي -كما قال الخطابي- أن تبدو عورة الفاعل لذلك، فإن الإزار ربما ضاق فإذا وضع لابسه إحدى رجليه فوق الأخرى بقيت هناك فرجة تظهر منها عورته، وممن جزم بأنّه منسوخ ابن بطال (1). الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي أيضاً. والمطابقة: ظاهرة.   (1) والقول بحمل النهي حيث يخشى أن تبدو عورته أولى من إدعاء النسخ. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 215 - " بَابُ تشْبِيكِ الأصَابِعِ في الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ " 255 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّ الْمُؤْمِنَ للمُؤْمِنِ كَالْبُنيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً " وَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.   215 - " باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره " 255 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " أي إن المؤمنين في تآزرهم، وتماسك كل فرد منهم بالآخر، وحاجتهم إلى هذا - صلى الله عليه وسلم - التماسك كالبنيان المرصوص الذي لا يقوى على البقاء إلاّ إذا تماسكت أجزاؤه لبنة لبنة، فإذا تفككت سقط وانهار، كذلك المجتمع الإسلامي يستمد قوته من ترابط أجزائِهِ بعضهم ببعض " وشبّك بين أصابعه " زيادة في الإيضاح والبيان وتشبيهاً للمعقول بالمحسوس، وللمعنويات بالمحسوسات، قال ابن حجر: وهو بيان وجه الشبه، أي يشد بعضه بعضاً مثل هذا الشد، فالغرض من تشبيك أصابعه التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس كما قال ابن المنير. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن قوة الأمة الإسلامية تتوقف على وحدتها وتضامنها وتعاونها، فهي كالبناء، لا يقوى على البقاء إلاّ بتماسك الأجزاء فإذا تفكَّكَتْ انهار البناء، لأنه كما " في ظلال القرآن " ليس الإسلام دين أفراد منعزلين فلا انطوائية في الإِسلام ولكنه نشاط فردي واجتماعي في كل اتجاه، والآية الكريمة وهي قوله تعالى: (إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) وهذا الحديث النبوي الشريف ينصان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 216 - "بَابُ الْمَسَاجِدِ التي عَلَى طُرُق الْمَدِينَةِ والْمَواضِعِ التي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " 256 - عَنْ سَالِم بْنِ عَبدِ الله أنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى أمَاكِنَ مِنَ الطرَّيقَ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُحَدِّثُ أنَّ أبَاهُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَ يُصَلِّي فَيهَا، وَأنَّهُ رَأى النَّبِيَّ يُصَلِّي في تِلْكَ الأمكِنَةِ.   على أن من طبيعة هذا الدين أن يُنْشِىءَ مجتمعاً متماسكاً متناسقاً، أما صورة الفرد المنعزل فإنّها بعيدة عن طبيعته ومقتضاه. ثانياً: جواز تشبيك الأصابع في المسجد كما ترجم له البخاري حيث قالوا: يجوز التشبيك في المسجد، ويكره إذا كان في الصلاة، أو قاصداً لها، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي. والمطابقة: في قوله: " وشبك بين أصابعه " 216 - " باب المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها " 256 - معنى الحديث: يحدثنا سالم بن عبد الله رحمه الله - تعالى أنه رأى أباه عبد الله بن عمر يصلي في أماكن مخصوصة من طرق المدينة ومكة، فلما سأله عن ذلك أخبره بأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّى في تلك المواضع، وبهذا أصبحت تلك المواضع من المساجد المأثورة التي صلّى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كان ابن عمر يحرص على الصلاة فيها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: دلّ هذا الحديث إجمالاً على وجود بعض الأماكن التي صلّى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق مكة - المدينة، وأن ابن عمر كان يحرص على الصلاة فيها، وقد جاء في رواية أخرى عن ابن عمر توضيح هذه الأماكن والمساجد المأثورة وقد ذكرها في " وفاء الوفا " (1) وبيّن مواقعها   (1) وفاء الوفا لمؤرخ المدينة المنورة العلامة السمهودي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وهي تسعة. الأول: (مسجد ذي الحليفة): المعروف بآبار علي على بعد ستة أميال من المدينة، ويقال له: مسجد الشجرة، ومسجد المحرم، وقد صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع تحت شجرة كانت موجودة في مكان المسجد على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولذلك سمّي مسجد الشجرة، وعن أنس رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين. الثاني: (مسجد المعرس): وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينزل فيه إذا عاد إلى المدينة آخر الليل، ولذلك سمي " المعرَّس " من التعريس، وهو النزول في آخر الليل. ولم يبق منه سوى بعض آثار، عَثر عليها المؤرخ الاستاذ إبراهيم العياشي أثناء بحثه في تلك الناحية عام 1376 هـ حيث قال: "وجدت الأساسات بأحجار ضخمة في قسميه الداخلي والخارجي ويقع في جنوب مسجد المَحْرَم بنحو مائة وخمسين متراً. الثالث: (مسجد شرف الروحاء): أي أَعلاها، ويقع كما أفاده العيني (1) على أرض مرتفعة عالية في آخر قرية السبالة على بعد ليلتين من المدينة. الرابع: (مسجد عرق الظبية): وهو على بعد ميلين من الروحاء (2) عند جبل صغير يقع في آخرها (3) يدعى عرق الظبية. ولهذا المسجد أهمية تاريخية عظيمة، ففيه استشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أثناء ذهابه إلى غزوة بدر وأتى عليه في غزوة الأبواء، وذكر أنّه مصلى الأنبياء، كما روى ابن زبالة عن عمرو بن عوف قال: أول غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه غزوة الأبواء حتى إذا كان بالروحاء عند عِرق الظُبية قال: " هذا جبل من جبال الجنة، اللهم بارك لنا فيه وبارك لأهله فيه، لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبياً، ولقد مر بها يعني وادي الروحاء موسى ابن عمران في سبعين ألفاً من بني إسرائيل على ناقة له ورقاء، ولا تقوم الساعة   (1) شرح العيني على البخاري ج 4. (2) وفاء الوفاء للسمهودي. (3) أي في آخر الروحاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 حتى يمر بها عيسى بن مريم حاجاً أو معتمراً، أو يجمع الله له ذلك" رواه الطبراني، وفيه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني المدني، وهو ضعيف وقد كانت آثار هذا المسجد موجودة إلى بداية القرن العاشر الهجري كما أفاد السمهودي. الخامس: (مسجد الرويثة): ويقع في أول الرويثة على بعد ثلاثة عشر ميلاً من الروحاء كما قال الأسدي (1) والرويثة قرية كانت عامرة يشرف عليها جبل يسمى الروحاء، وفي شرقيها جبل آخر يدعى الحسناء. السادس: (مسجد العرج): ويقع على بعد ثلاثة أميال من قرية العرج. السابع: (مسجد عقبة هرشى): ويقع في المسيل الذي قيل جبل هرشى المتصل بطرفه عن يسار طريق مكة. الثامن: (مسجد مَرّ الظهران): وهو في المسيل الذي في أوّل مر الظهران من جهة المدينة قال المطري: ويقع بوادي مر الظهران، حين تهبط من " الصفراوات " -أي من الأودية الموجودة هناك- عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، قال الزين المراغي: ويقال: إنه المسجد المعروف اليوم في مر الظهران بمسجد الفتح، وكذلك قال الفاسي وهو بالغرب من الجموم. التاسع: (مسجد ذي طوى): بضم الطاء في رواية الأكثرين، وبالفتح كما صححه النووي، وفيه لغتان، الصرف وعدمه، قال ابن عمر كما في البخاري: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل بذي طوى ويبيت حتى يصبح، ثم يصلي الصبح حين يقدم مكة: أي حين يقدم مكة معتمراً أو حاجاً، قال ابن ظهيرة. ومسجد ذي طوى في علو مكة (2) بين الثنيتين اللتين يدخل منهما الحاج. ثانياً: حرص ابن عمر رضي الله عنهما على الصلاة في المساجد التي صلّى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريق مكة المدينة والمعروف عنه أنه كان حريصاً على تتبع آثار النبي عامة كما كان عمر رضي   (1) وفاء الوفاء للسمهوري. (2) أي في أعلى مكة وفي منطقة الزاهر. قال في المصباح: وذي طوى واد بقرب مكة على نحو فرسخ، ويعرف في وقتنا بالزاهر في طريق التنعيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 الله عنه على العكس منه لا يرى تتبع هذه الآثار، وذلك لأنّه كما قال عمر: " أخشى أن يلتزم الناس الصلاة في تلك المواضع حتى يشكل على من يأتي بعدهم، فيرى ذلك واجباً " (1) وروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الشارعٍ فقال: ما يعجبني ذلك إلاّ في مسجد قباء، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيه راكباً وماشياً، ولم يفعل ذلك في تلك الأمكنة. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في دلالة الحديث إجمالاً على وجود هذه المساجد المأثورة على طريق المدينة - مكة، والله أعلم. ...   (1) شرح العيني على البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " " أبْوَابُ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي " 217 - " بَاب: سُتْرَةُ الإمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خلْفَهُ " 257 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيْدِ أمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْه فَيُصَلِّي إلَيْهَا والنَّاسُ وَرَاءَهُ، وكانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ في السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ اتخَذَهَا الأمَرَاءُ.   217 - " باب سترة الإمام سترة من خلفه " 257 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد " أي كان إذا خرج في العيدين لأداء صلاة العيد في المصلى وهو في موضع المناخة ومسجد الغمامة (1) " أمر بالحربة فتوضع بين يديه " أي أمر أن توضع الحربة أمامه أثناء الصلاة لتكون سترة له، والمصلى كما قال ابن ماجة: كان فضاء وليس فيه شيء يستره " والناس وراءه " وليست أمامهم سترة وإنما كانوا يستترون بسترته - صلى الله عليه وسلم - " وكان يفعل ذلك في السفر " أي وكان يضع أمامه السترة في السفر كما يضعها في الحضر " فمن ثم اتخذهما الأمراء " ومعناه فمن تلك الجهة اتخذ الأمراء الحربة يخرج بها بين أيديهم في العيد ونحوه كما أفاده في " عون المعبود ". الحديث: أخرجه   (1) أي يبدأ من مسجد الغمامة جنوباً ويمتد في البقعة المتصلة به من شارع المناخة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 258 - عَنْ أبي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ بالبَطْحَاء وَبَيْنَ يَدَيْه عَنَزَة الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، والْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْه الْمَرأَةُ وَالْحِمَارُ.   الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فيصلي إليها والناس وراءه ". ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: مشروعية السترة بين يدي المصلي في السفر والحضر وسيأتي تفصيله في الحديث القادم. ثانياً: أن سترة الإِمام سترة للمأمومين خلفه لقوله " فيصلّي إليها " أي فيصلي إلى تلك الحربة جاعلاً لها سترة في الصلاة " والناس وراءه " أي لا سترة لهم، وإنما يستترون بسترته - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن سترة الامام. سترة لمن خلفه من المأمومين كما ترجم له البخاري، وهو قول أكثر أهل العلم، وذهب المالكية إلى أن الإمام نفسه سترة للمأمومين، ولهذا قالوا: يحرم المرور بين الإِمام والصفِّ الأول لأنه مرور بين المصلي وسترته. ثالثاً: أن السترة تجزىء بكل شيء ينصب أمام المصلي إذا كان بقدر الحربة، وقدرت بالذراع طولاً، أو ما يقرب من ذلك. قال ابن قدامة: وقدر السترة في طولها ذراع أو نحوه، وروى عن أحمد أنها قدر عظم الذراع، وهذا هو قول مالك والشافعي والظاهر أنّ هذا على سبيل التقريب لا التحديد " قال النووي ": وأما عرضها فلا ضابط فيه، وقالت المالكية: أقلها غِلَظُ رمح. 258 - معنى الحديث: يحدثنا أبو جُحَيْفَة رضي الله عنه " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم بالبطحاء "وهو موضع خارج مكة " سابقاً " يقال له الأبطح بينها وبين منى " وبين يديه عنزةْ " بفتح العين والنون والزاي أي عَصَاً أقصر من الرمح، لها سنان، وهي في طول الذراع تقريباً والجمع عَنَز مثل قصبة وقصب كما في المصباح " الظهر ركعتين والعصر ركعتين " أي صلى بهم الظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 والعصر قصراً ركعتين ركعتين، وهو يستتر بالعنزة، وهم لا سترة لهم، وإنما كانوا متسترين بسترته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية السترة بين يدي المصلي مطلقاً سواء كان مقيماً أو مسافراً، وهو مذهب الجمهور، حيث قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم: السترة سنة في السفر والحضر معاً ما لم يكن أمامه جدار. قال ابن العربي المالكي (1) في العارضة: اختلف العلماء في وضع السترة على ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب، وإن لم يجد وضع خطاً، قاله أحمد وغيره. الثاني: أنها مستحبة قالها الشافعي وأبو حنيفة ومالك في " العتبية "، وفي " المدونة " هذا إذا كان في موضع يؤمن المرور فيه، فإن كان في موضع لا يؤمن ذلك تأكد عند علمائنا وضع السترة. الثالث: جواز تركها، وروى ذلك عن مالك. وأما ما حكاه ابن العربي من وجوب السترة عن أحمد فإنه تأباه كتب فروعه، كما في أوجز المسالك. حيث قال في الشرح الكبير: يستحب أن يصلي إلى سترة ثم قال: ولا نعلم في استحباب ذلك خلافاً (2). وظاهر مذهب المالكية أن السترة سنة مؤكدة في الحضر دون السفر. حيث قال مالك - كما في المدوّنة: من كان في سفر فلا بأس أن يصلي إلى غير سترة، أمّا في الحضر فلا يصلّي إلاّ إلى سترة، قال ابن القاسم إلاّ أن يكون في الحضر بموضع يأمن أن يمر بين يدي أحد. قال في أوجز المسالك: فعلم بذلك أن السترة في السفر غير مؤكدة عند الإمام مالك. اهـ. وقد استدل المالكية على عدم تأكدها في السفر بحديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في فضاء وليس بين يديه شيء " رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.   (1) أوجز المسالك شرح موطأ مالك ج 3. (2) كما أفاده في أوجز المسالك ج 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 218 - " بَابُ قَدْرِ كَمْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلَّى وَالسُّتْرَةِ " 259 - عن سَهْلٍ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ.   ثانياً: أن سترة الإمام سترة للمأمومين من خلفه، لقوله: " صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة " فإن معنى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم متستراً بالعنزة، وصلّوا خلفه متسترين بسترته (1) فدل ذلك على أن سترة الإمام سترة للمأمومين وهو مذهب الجمهور كما قررناه في الحديث السابق. والحاصل: أنّ هذين الحديثين يدلان على أنّ سترة الإِمام لسترة للمأمومين من وجوه: الأول: أنّه لم ينقل وجود سترة لأحد من المأمومين، ولو كان ذلك لنقل لتوفر الدواعي على نقل الأحكام الشرعية، فدل ذلك على أنّ سترته - صلى الله عليه وسلم - كانت سترة لمن خلفه. الثاني: أن قوله: " فيصلى إليها والناس وراءه " يدل على دخول الناس في السترة (2)، لأنهم تابعون للإمام في جميع ما يفعله. الثالث: إن قوله " وراءه " يدل على أنهم وراء السترة أيضاً، إذ لو كانت سترة لم يكونوا وراءه بل كانوا وراءها. والمطابقة: في قوله: " صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة " أي صلّى متستراً بالعنزة، وصلوا خلفه ليسوا متسترين بشيء، إلاّ بسترته اهـ. 218 - " باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة " 259 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد الساعدي رضي الله   (1) أي وصلّوا خلفه لا سترة لهم إلا سترته. (2) وكذلك قوله في الحديث الثاني: " صلّى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة " فإنه يدل على دخولهم معه في التستر بالعنزة والله أعلم وقال في " الهداية " وسترة الإمام سترة للمأمومين لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى ببطحاء مكة إلى عنزة ولم يكن للقوم سترة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 219 - " بَابُ الصَّلَاةِ إلى الْعَنَزَةِ " 260 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أنا وغُلَام، وَمَعَنَا عُكَّازَة أو عَصَاً وعنَزَةٌ، وَمَعَنَا إِدَاوَة، فإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ نَاوَلْنَاهُ الإِدَاوَةَ.   عنهما: " كان بين مصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار " أي بينه وبين جدار القبلة " ممرَّ الشاة " بالنصْب على أنّه خبر كان، أي كان قدر المسافة التي بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين جدار القبلة ممر الشاة، بمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدنو من الجدار حتى لا يكون بينه وبينه إلاّ فجوة صغيرة لا تتسع إلاّ لمرور الشاة فقط. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. ويستفاد منه: استحباب الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر ممر الشاة، ولم يحدد مالك لذلك حداً، وهو ظاهر مذهب الحنفية كما في " البداية وشرحها الهداية ". حيث قال: ويقرب من السترة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من صلّى إلى سترة فليدن منها " ولم يحدد حداً. أما الشافعي وأحمد وغيرهم فقد قالوا: يجعل بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع لأنّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى في الكعبة وبينه وبين الحائط ثلاثة أذرع. 219 - " باب الصلاة إلى العنزة " ْ260 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، ومعنا عكازة أو عصاً أو عنزة، ومعنا إداوة " بكسر الهمزة أي إناء صغير يوضع فيه الماء، والعنزة عصى أقصر من الرمح، وقد تقدم الكلام على معنى الحديث في باب حمل العنزة مع الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 220 - "بَابُ الصَّلَاةِ إلى الأسطُوَانةِ" 261 - عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الأسْطُوَانَةِ التي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أبَا مُسْلِم أرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الأسْطُوَانَةِ، قَالَ: فَإنِّي رَأيْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا.   الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " معنا عكازة أو عصا أو عنزة ". ويستفاد منه: مشروعية السترة في الصلاة بأي سترة قدر ذراع من عنزة أو غيرها. 220 - " باب الصلاة إلى الأسطوانة " 261 - معني الحديث: أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه " كان يصلي إلى الأسطوانة التي عند المصحف " أي كان يتحرى الصلاة عند هذه الاسطوانة متجهاً إليها في صلاته، وكانت هذه الأسطوانة عند المكان الذي كان يوضع فيه المصحف الشريف، حيث كان للمصحف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - صندوق خاص هناك " فقيل له: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتحرّى الصلاة عندها " أي يتقصد الصلاة عند هذه الأسطوانة ويواظب عليها كما جاء في " صحيح مسلم " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وراء الصندوق أي وراء صندوق المصحف الذي هو عند هذه الأسطوانة. قال الحافظ: حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، ورُوي عن عائشة أنها كانت تقول: لو عرفها الناس لاضطربوا عليها، وأنها أسرّت بها إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 221 - " بَابُ الصَّلَاةِ إلَى الرَّاحِلَةِ والْبَعيرِ والشَّجَرِ وَالرَّحْلِ " 262 - عن ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلتهُ فَيُصَلِّي إلَيْهَا، قِيلَ لِنَافِع أفَرَأيْتَ إذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ، قَالَ: كَانَ يَأخُذُ الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فَيُصَلِّي إلى آخِرَتِهِ أوْ قَالَ مُؤَخَّرهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَفْعَلُهُ.   عبد الله بن الزبير، فكان يكثر الصلاة عندها، وروى ابن النجار (1) عن ابن الزبير بن حبيب أنها الأُسطوانة التي بعد أُسطوانة " التوبة " إلى الروضة، وهي الثالثة من المنبر (2) ومن القبر، وسميت أسطوانة عائشة، ويقال: الدعاء عندها مستجاب اهـ. وهي نفس الأسطوانة المكتوب عليها حالياً أسطوانة عائشة. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجه. ويستفاد منه: استحباب الصلاة إلى الأسطوانة، واتخاذها سترة إذا كانت هناك سوارى، قال العيني: وينبغي أن تكون الأُسطوانة أمامه. والمطابقة: في قوله: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الصلاة عندها ". 221 - " باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل " 262 - معنى الحديث: يروى ابن عمر رضي الله عنهما " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعرض " بضم الياء وكسر الراء المشددة " راحلته فيصلي إليها " يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل بعيره أمامه عرضاً ويتخذه سترة له يصلّي إليها " قيل لنافع: أفرأيت إذا هبت الركاب " أي قال عبيد الله بن عمر لنافع: أخبرني إذا هاجت الإبل وثارت الجمال، وذهبت هنا وهناك ولم يتمكن من الصلاة   (1) أخبار مدينة الرسول لابن النجار. (2) أي أنها متوسطة بين المنبر والقبر فبينها وبين المنبر أسطوانتان وبينها وبين القبر أسطوانتان أيضاً ومكتوب عليها حالياً أسطوانة عائشة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 222 - " بَابٌ يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْه " 263 - عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي في يَوْمِ جُمُعَةٍ إلى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ من النَّاسِ، فَأرادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أبي مُعَيْطٍ أنْ يَجْتَازَ بيْنَ يَدَيه، فَدَفَعَ أبو سَعِيدٍ في صَدْرِهِ، فَنَظَرَ   إلى بعيره ماذا يصنع؟ " قال: كان يأخذ الرحل " وهو الشداد الذي يوضع على ظهر البعير ليكون فراشاً لراكبه، أي إذا هبَّ بعيره ولم يتمكن من الصلاة إليه اتخذ الرحل سترة له بدلاً عن الراحلة، وصلّى إلى مؤخرته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان يعرض راحلته (1) " الخ. ويستفاد منه: جواز السترة بما يثبت من الحيوان وهو مذهب الحنفية والحنابلة في الحيوان غير الآدمي، وكره المالكية الاستتار في الصلاة بغير مأكول اللحم. ويؤخذ من الحديث أيضاً جواز الصلاة إلى الرحل كما ترجم له البخاري، ولا خلاف في ذلك عند أهل العلم. 222 - " باب يرد المصلي من مر بين يديه " 263 - معنى الحديث: إن أبا سعيد الخدري " كان يصلي في يوم جمعة إلى شيء يستره من الناس " أي كان يصلي إلى شيء يحول بينه وبين المارّة ويصلح أن يكون سترة له في الصلاة " فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه " أي فحاول هذا الشاب أن يمر أمامه بينه وبين سترته في الصلاة، وهذا الشاب هو داود بن مروان بن الحكم أمير المدينة في ذلك الوقت، هكذا قالوا، واستشكل بأنّ داود ليس من بني أبي مُعَيْطٍ، وإنما   (1) من قوله كان يُعرِّض راحلته فيصلّي إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 الشَّابُّ فلَمْ يجِدْ مَسَاغَاً إلَّا بَيْنَ يَدَيْه، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أبو سَعِيدٍ أشَدَّ مِنَ الأوْلى فَنَالَ مِنْ أبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلى مَرْوَانَ فشكَا إِلَيْهِ مَا لَقِي مِنْ أبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أبو سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَلْفَهُ عَلَى مَرْوَانَ فَقَالَ: مَالكَ ولابنِ أخِيْكَ يَا أبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا صَلَّى أحدُكم إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاس فأرَادَ أحَدٌ أنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْه فَلْيَدْفَعْهُ، فإنْ أبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فإنَّمَا هُوَ شَيْطَان ".   هم أبناء عمه، قال الحافظ: ويحتمل أنه نسب إليهم من جهة الرضاعة، أو أنه نسب إلى أقربائه وأبناء عمومته من باب التوسع في الكلام وقد جرت عادة العرب على نسبة المرء إلى أقاربه أو أصحابه توسعاً، ومنه قول ضمام ابن ثعلبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر " أي صاحبهم " فدفع أبو سعيد في صدره " أي فدفعه أبو سعيد، بيده في صدره ليرده، عن المرور بين يديه " فلم يجد مساغاً " أي فلم يجد له طريقاً آخر يمر منه " فعاد ليجتاز فدفعه " مرة أخرى " فنال من أبي سعيد " أي فغضب ذلك الشاب من أبي سعيد وسبه وشتمه انتقاماً منه " ثم دخل على مروان فشكا إليه " أي فشكا داود إلى أبيه مروان ما فعله معه أبو سعيد، وكيف أنه دفعه في صدره، وأوجعه بتلك الدفعة الأليمة " ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: مالك ولابن أخيك " أي ما الذي جرى بينك وبين ابن أخيك مروان، ولماذا عاملته بهذه المعاملة الشديدة القاسية فوكزته في صدره، وهو من دمك وجنسك. وكان من حقك أن تتلطف معه بدلاً من أن تعامله بهذا، الشدة والعنف، واستعمال الأخ هنا من باب المجاز، والعرب تتوسع أحياناً في هذه الكلمة، فيطلقون الأخ على مجرد القريب أو الصاحب والصديق لِإثارة عاطفة الحب في نفس المخاطب، ألا ترى إلى قول خديجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 رضي الله عنها لورقة بن نوفل: " اسمع من ابن أخيك " مع أنه ليس بعمه، وإنما نسبته إليه إمّا لإثارة العطف والحب عليه قي نفس ورقة، أو لتوقير ورقة واحترامه لكبر سنه. وما كان من ورقة إلاّ أن قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا ابن أخي ماذا ترى؟ " تعبيراً عما يكنه له من عطف ومحبة، حتى أنه ينزله من نفسه منزلة ابن أخيه، وهذا ما أراد مروان من قوله " مالك ولابن أخيك "؟ أي ماذا فعلت مع ابن صديقك الذي هو بمنزلة أخيك " قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا صلّى أحدكم إلى شيء يستره " من جدار أو أسطوانة أو نحوها " فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه " أي فإنه مأمور شرعاً بدفعه ومنعه " فإن أبي فليقاتله " أي أنه يمنعه أولاً بالإشارة، ثم يرده رداً لطيفاً فإن لم يمتنع فإنه يدفعه دفعاً شديداً. إذ ليس معناه المقاتلة الحقيقية " فإنّما هو شيطان " من شياطين الإنس. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فليدفعه ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية أن يرد المصلي من يمر بين يديه وأنه مأمور بذلك بمقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم - " فليدفعه " حيث أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بدفعه، والأمر هنا للندب عند الجمهور، حيث قالوا: يستحب له دفعه، وحمل أهل الظاهر الأمر على أصله وهو الوجوب، فقالوا: يجب على المصلى مدافعة المار، قال القرطبي: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح. اهـ. وذلك لما تقتضيه الصلاة من الخشوع والإقبال على الله. اهـ. كما أفاده في سبل السلام (1). ثانياً: مشروعية اتخاذ السترة وهي سنة عند أحمد ومستحبة عند الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره " ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر " لا تصل إلاّ إلى سترة، ولا تدع أحداً يمر بين يديه " صححه الحاكم. ثالثاً: تحريم المرور بين يدى المصلي إذا كان   (1) سبل السلام شرح بلوغ المرام ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 223 - "بَابُ إثْم الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي " 264 - عَنْ أبِي جُهَيْم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ، لَكَانَ أنْ يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْراً لَهُ مِنْ أنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيه " قَالَ الرَّاوِى: لا أدْرِي أقَالَ أرْبَعَيْنَ يَوْمَاً أوْ شَهراً أوْ سَنَةً.   له سترة، وهو مذهب مالك حيث قال: يحرم المرور بين يديه إذا كان له سترة، وللمار مندوحة، وقال أحمد يحرم مطلقاً ولو لم يكن له سترة، ويؤيده الحديث الآتي: 223 - " باب إثم المار بين يدي المصلي " 264 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه " أي لو يعلم من يجرؤ على المرور عمداً أمام المصلي ما يترتب على ذلك من العقوبة الشديدة " لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه " أي لفضّل أن يقف هذه المدة الطويلة التي أبهمها النبي - صلى الله عليه وسلم - على المرور بين يديه، لأنّ العاقل يختار أخف الضررين " قال الراوى: لا أدرى أقال: أربعين يوماً أو شهراً أو سنة " (1) وإنما أبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه العقوبة في قوله: "ماذا عليه " للدلالة على أن عقوبة المرور أمام المصلّي عقوبة عظيمة لا يمكن أن يتصورها العقل البشري ولا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه، فهو كقوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ) و (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ). ويستفاد منه: أولاً: تحريم المرور أمام المصلي "إذا كان إماماً أو منفرداً ما بين قدميه وموضع سجوده، ولو لم يكن للمصلي سترة، وهو مذهب   (1) وقد جاء في رواية البزاز عن أبي الجهيم نفسه أنه قال أربعين خريفاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 224 - " بَابُ الصَّلَاةِ خلْفَ النَّائِمِ " 265 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وأرنا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فإِذَا أَرَادَ أنْ يُوتِرَ أيقَظَنِي فَأوتَرْتُ.   أحمد، وقال مالك: إنّما يأثم المار إذا كان له مندوحة، أو كان للمصلّي سترة. أما إذا لم يكن له مندوحة، ولا للمصلّي سترة فلا يأثم. ثانياًً: أن المرور بين يدي المصلي كبيرة كما أفاده الحافظ لهذا الوعيد الذي يترتب عليه. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " لو يعلم المار بين يدي المصلّي ماذا عليه من الاثم ". 224 - " باب الصلاة خلف النائم " 265 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه " أي كان في أغلب أحيانه يصلي صلاة الليل وأنا أمامه على الفراش متوسطة بينه وبين القبلة، ولا يرى في ذلك بأساً " فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت " أي فإذا انتهى من تهجده نَبَّهني من النوم فصليت معه صلاة الوتر، قال العيني: ومثل هذا التركيب يفيد التكرار، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكرر الصلاة خلفها وهي نائمة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الصلاة خلف الإنسان النائم وصحتها، ذكراً كان أو أنثى كما ترجم له البخاري مستدلاً بحديث الباب، وهو مذهب الجمهور وكره مالك ومجاهد وطاووس الصلاة إليه خشية أن يحدث منه ما يشغل عن الصلاة ويشوش على المصلي، وتنزيهاً للصلاة عما يخرج منه، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 225 - " بَابُ مَنْ قَالَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْء " 266 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَْ اللهُ عَنْهَا: أنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ والْمَرْأةُ، فَقَالَتْ: شَبَّهْتُمُونَا بالْحُمُرِ والْكِلَابِ، واللهِ لَقَدْ رَأيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وإنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةٌ فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ فأكْرَهُ أنْ أجْلِسَ فأُوذِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.   في قبلة المصلّي، واستدلوا بما رواة ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصلوا خلف النائم والمتحدث " أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وهو حديث حسن وتحرير مذهب المالكية أنه لا يجوز الاستتار بالنائم لما يحدث منه من الطوارىء ويجوز بالمستيقظ الساكت. ثانياً: أفضلية صلاة الوتر في أخر الليل، وسيأتي تفصيله في موضعه. والمطابقة: في قولها: " يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه ". 225 - " باب من قال لا يقطع الصلاة شيء " 266 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " ذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة " أي دار الحديث في مجلسها عن الأشياء التى يقول بعض الناس إنها إذا مرّت أمام المصلي تقطع صلاته وتبطلها، وهي الكلب والحمار والمرأة، فأنكرت ذلك أشد الإنكار (فقالت: شبهتمونا بالحمر والكلاب " وفي رواية بئس ما عدلتمونا بالكلب والحمار، وفي رواية أخرى للبخاري " لقد جعلتمونا كلاباً " أي جعلتمونا كالكلاب في قطع الصلاة ثم قالت: " والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة " أي رأيته يصلي صلاة التهجد في الليل وأنا مضطجعة أمامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 على السرير متوسطة بينه وبين القبلة " فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فتطرأ لي الحاجة إلى مغادرة السرير فأكره أن أجلس أمامه لئلا أؤذيه " فأنسل من عند رجليه " أي فأمضي بتأن وتدرج من عند رجليه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن مرور المرأة بين يدى المصلي لا يقطع الصلاة وكذلك مرور الكلب والحمار وبقية الأشياء الأخرى كما ترجم له البخاري، ولهذا قال الجمهور: لا يقطع الصلاة شيء، واستدلوا بحديث الباب، هذا لأنّه كما قال القسطلاني (1) " إذا كانت المرأة لا تقطع الصلاة مع أن النفوس جبلت على الاشتغال بها، فغيرها من الكلب والحمار وغيرهما كذلك، بل أولى، واحتجوا أيضاً بحديث علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال " لا يقطع الصلاة شيء إلاّ الحدث " أخرجه الطبراني (2) وذهب بعض أهل العلم إلى أن مرور الكلب والحمار والمرأة بين يدي المصلي يقطع الصلاة، ويبطلها عليه، لحديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود " أخرجه مسلم (3) وذهب الشافعي إلى تأويل القطع بأن المراد به نقص الخشوع لا الخروج من الصلاة، ويؤيد ذلك أن الصحابي راوي الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالكلب الأسود، فأجيب بأنه شيطان، ومعلوم أن الشيطان لو مر بين يدي المصلي لم تفسد صلاته، فالمشبَّه لا تفسد الصلاة به من باب أولى وقال أحمد: يقطعها الكلب الأسود لنص الحديث وعدم المعارض وفي قطعها من المرأة والحمار شيء لوجود المعارض، وهو صلاته إلى أزواجه. ثانياً: قال العيني: فيه جواز صلاة الرجل إلى المرأة وكرهه البعض لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - لخوف الفتنة بها، واشتغال القلب بها بالنظر إليها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن ذلك مع أنه كان   (1) شرح القسطلاني ج 1. (2) العيني على البخاري ج 4. (3) شرح القسطلاني ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 226 - " بَاب إذَا حَمَلَ جارِيَةً صَغيرةً علَى عُنُقِهِ في الصَّلَاةِ " 267 - عنْ أبِي قَتَادَةَ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصَلِّي وهُوَ حَامِل أمَامَةَ بنتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولأبِي الْعَاص بْنِ الرَّبيع بْنِ عَبْدِ شَمْس، فإذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وِإذَا قَامَ حَمَلَهَا.   في الليل، والبيوت يومئذ ليست فيها مصابيح، وفيه استحباب صلاة الليل، وجواز الصلاة على الفراش. الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قولها: " يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة ". 226 - " باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة " 267 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل حفيدته أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي العاص ابن الربيع " أي ابنتها من زوجها أبي العاص بن الربيع ابن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعناه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام حملها على عاتقه " فإذا سجد وضعها " أي إذا ركع وضعها على الأرض كما جاء في رواية مسلم والنسائي وأحمد وابن حبان عن عامر شيخ مالك أنه كان إذا ركع وضعها، فالمراد بالسجود في حديث الباب الركوع، وإطلاق السجود على الركوع كثير في الأحاديث الصحيحة، سيما وأن وضعها حال الركوع أمر حتميٌّ لا بد منه. الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. ويستفاد منه: أولاً: جواز حمل الجارية الصغيرة في الصلاة، وكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 حمل الصبي، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً إماماً أو مأموماً أو منفرداً وهو قول الشافعي: وأجازه أحمد، قال: الأثرم سئل أحمد أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم، واستدل بحديث أبي قتادة وذهبت المالكية إلى أن مثل هذا الفعل لا يجوز لغيره - صلى الله عليه وسلم -، وذكر عياض عن بعضهم أنه خصوصية له - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن عبد البر: لعل الحديث منسوخ بتحريم العمل في الصلاة. وقال الباجي إن وجد من يكفيه أمر الصبي جاز في النافلة دون الفريضة وإن لم يجد جاز فيهما. ثانياً: أن العمل الكثير لا يبطل الصلاة، وهو مذهب الشافعية، وذهبت المالكية والحنفية إلى أنه يبطلهَا، وقالت الحنابلة: إذا كَثُر العمل وتوالى بطلت وإلا فلا (1). مطابقته للترجمة: في قوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو حامل أمامة ". تكملة: قال القسطلاني رداً على قول المالكية بأن جواز حمل الصبي في الصلاة من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم -: ودعوى خصوصيته عليه الصلاة والسلام بذلك لعصمته من بول. الصبي بخلاف غيره مردودة، بأن الأصل عدم الخصوصية، وكذا دعوى الضرورة بحيث لا يجد من يكفيه أمرها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو تركها لبكت وشغلته في صلاته أكثر من شغله بحملها. قال النووى: وكلها دعاوى باطلة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع، والله أعلم. ...   (1) كما أفاده في المنهل العذب شرح سنن أبي داود ج 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 بسم الله الرحن الرحيم " كتاب مواقيت الصلاة " المواقيت لغة: جمع ميقات وهو الزمان أو المكان المحدد للفعل. ومواقيت الصلاة: هي عبارة عن أوقات الصلوات الخمس المحددة لها أولاً وآخراً بداية ونهاية، وهي وقت الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء. ومن المقرر شرعاً أن دخول الوقت شرط لوجوب الصلاة وصحتها معاً، فلا تجب على المكلف ولا تصح منه إلاّ إذا دخل وقتها، هذا هو قول الجمهور لقوله تعالى (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) ولأنّ جبريل نزل صبيحة يوم الإِسراء فَبَبَّنَ لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أوقات هذه الصلوات الخمس بداية ونهاية، ثم قال له: " الصلاة ما بين هذين " وهذا يدل على أنها لا تجب ولا تصح إلّا في أوقاتها، وذهب الأحناف إلى أن دخول الوقت شرط أداء، وهو خلاف لفظي. واختلفوا أيهما أفضل: أول الوقت أو آخره، فقال الجمهور: أول الوقت أفضل إلاّ الظهر في شدة الحر، وقال أبو حنيفة: آخره أفضل إلّا المغرب، واستحب المالكية تأخير العشاء. الأداء والقضاء: لما كان للصلوات الخمس أوقات محددة ومعينة لها أول وآخر، وبداية ونهاية، فإن المسلم إمّا أن يأتي بالصلاة في وقتها فيسمى فعله هذا " أداءً " أو يأتي بها بعد خروج وقتها بأن لا يصلي العصر مثلاً إلاّ بعد غروب الشمس، فيسمى فعله هذا " قضاءً " ومن هذا يتضح لنا أن الأداء هو فعل الصلاة في وقتها، والقضاء فعل الصلاة خارج وقتها، وأجمعوا على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إلّا لعذر شرعي من نوم أو إغماء أو نسيان أو نحوه، فإن أخّرها لعذر فإنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 227 - " بَابُ مَوَاقِيتِ الصلَاةِ " 268 - عن أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمُغِيرَةَ بْن شُعْبَةَ وقَدْ أخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَاً بالْعِرَاقِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرةُ! ألَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أنَّ جبْريْلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ صَلَّى فصَلّى رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ صَلّى فَصَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أمِرْتَ.   يجب عليه قضاؤها، ويصح منه ولا إثم عليه، وإن أخرها عن وقتها لغير عذر، وجب عليه القضاء وصح منه (1) مع الإثم والمعصية. 227 - " باب مواقيت الصلاة " 268 - معنى الحديث: أن المغيرة بن شعبة عندما كان والياً على الكوفة من قبل معاوية أخّر يوماً صلاة العصر عن وقتها المختار لانشغاله بمصالح المسلمين، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فلامه وعاتبه على ذلك " فقال: ما هذا يا مغيرة " خاطبه بهذا الاستفهام الإنكاري لتشديد اللوم عليه، أي كيف تفعل هذا الأمر الذي لا يليق بعامة الناس فضلاً عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيف تؤخر الصلاة عن وقتها " أليس قد علمت " هكذا الرواية وهو استعمال صحيح إلاّ أن المشهور أن يقال: ألست قد علمت بأسلوب الخطاب، والاستفهام هنا استفهام تقريري لإقامة الحجة على المخاطب يعلمه، أي كيف تؤخر العصر عن وقتها المختار، وقد علمت " أن جبريل نزل " صبيحة يوم الإِسراء عند الزوال " فصلى " أي فلما زالت الشمس صلّى الظهر   (1) وهو مذهب الجمهور خلافاً لما ذهب إليه بعضهم من أنه إذا أخرها لغير عذر لم يصح قضاؤها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه مؤتماً به، " ثم صلّى " أي ثم نزل مرّة ثانية عندما صار ظل الشيء مثله، فصلّى العصر، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه، " ثم صلى " أي ثم نزل مرة ثالثة عند غروب الشمس فصلّى المغرب، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه، " ثم صلى " أي ثم نزل مرة رابعة عندما غاب الشفق فصلّى العشاء، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه، " ثم صلى " أي ثم نزل مرة خامسة عند طلوع الفجر، فصلى صلاة الصبح، " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معه " ثم قال بهذا أمرت " بفتح التاء، أي أمرك الله بأداء الصلوات الخمس في هذه الأوقات، أو بالضم ومعناه أمرني الله بتعليمك أوقات الصلاة، قال العيني: وأقوى الروايتين فتح التاء، والواقع أن حديث الباب قد جاء مجملاً، ولم يحدد هذه الأوقات، لكن جاء في رواية ابن عباس البيان الشافي للأوقات بداية ونهاية، حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرُم الطعام والشراب، فلما كان من الغد صلى الظهر حين كان ظل كل شيء مثله، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إليَّ وقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين " أخرجه أبو داود. ويستفاد من الحديث: أولاً: أن للصلوات أوقاتاً محدودة أجملها الحديث وبينها حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفاً. ثانياًً: أن دخول الوقت شرط في وجوب الصلاة وصحتها، فلا تجب الظهر مثلاً ولا تصح إلاّ بعد الزوال ومن فعلها قبله وجبت عليه الإعادة. ثالثاً: جواز صلاة المفترض خلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 228 - " بَابُ الصَّلَاة كَفَّارَةٌ " 269 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسَاً عند عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: أيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ   المتنفل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وهو مفترض خلف جبريل وهو متنفل، وإليه ذهب الأوزاعى والشافعي وأحمد في رواية اختارها (1) ابن تيمية، وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد في الرواية المشهورة عنه إلى أنها لا تجوز صلاة المفترض خلف المتنفل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ". الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة كما أخرجه البخاري هنا. 228 - " باب الصلاة كفارة " 269 - مضى الحديث: يروي حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث أنهم بينما كانوا جالسين في مجلس الفاروق رضي الله عنه في عهد خلافته إذا به يسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين في مجلسه آنذاك قائلاً " أيكم يحفظ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة " يعنى أي واحد فيكم يحفظ حديثاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة فليحدثنا به، والفتنة في الأصل مشتقة من الفتن وهو إدخال الذهب في النار لاختباره حتى تظهر جودته ورداءته، وليتبين هل هو ذهب خالص أو مغشوش، ثم استعملت فيما يصيب الفرد أو المجتمع من بلاء دنيوي أو ديني، أمّا الدنيوي فهو ما يصيب الناس فرداً أو جماعة، في النفس والمال والولد من مرض وفقر وموت وغيره، وأما الديني فهو ما يصيب الفرد أو الجماعة من الأسباب المؤدية إلى مخالفة أمر الله بأي نوع من   (1) تيسير العلام ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الفِتْنَةِ؟ قُلْتُ: أنَا كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إنَّكَ عَلَيْهِ أو عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ، قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ والصَّدَقَةُ والأمْرُ والنَّهْيُ، قَالَ: لَيْسَ هَذَا أرِيدُ، ولكِنِ الْفِتْنَةَ التي تُمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأس يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَاباً مغلَقَاً، قَالَ: أيكْسَرُ أَم يُفْتَحُ، قَالَ: يُكْسَرُ، قال:   أنواع المخالفات الشرعية، ولما كانت الفتنة الدينية نوعان: فتنة خاصة تصيب الفرد في حد ذاته، وفتنة عامة تصيب الأمّة الإِسلامية بأسرها، فإنّ حذيفة ظن أنّ الفاروق يسأل عن الفتنة الخاصة فقال: " أنا كما قاله " أي أنا أحفظ كلامه - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة حرفياً مثل ما قاله تماماً " قال: إنك عليه أو عليها لجريء " أي إنك بالفعل قادر على الإِجابة عن هذا السؤال، أو عن الفتنة التي سألتك عنها قال حذيفة رضي الله عنه: " قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده " يعني فظن حذيفة رضي الله عنه أن عمر يسأله عن الفتنة الخاصة، فأجابه بأن فتنة الإِنسان في خاصة نفسه على ثلاثة أنواع: الأول: " فتنة الرجل في أهله " وهي أن يغلب حبه لأهله على عقله ودينه، ويحمله هذا الحب الجامح على ارتكاب الذنوب والخطايا، ومقارفة ما لا يحل من الأقوال والأعمال التي لا تبلغ درجة الكبائر كما أفاده ابن بطال. الثاني: فتنة الرجل بماله وهو أن يتغلب حبه لماله على عقله ودينه فيأتي ببعض الذنوب التي لا تبلغ في درجة الكبائر واقعاً تحت تأثير غريزة الملكية. الثالث: فتنة الرجل بولده بأن يتغلب حبه لولده على عقله ودينه، فيأتي ببعض السيئات من صغائر الذنوب تحت تأثير غريزة الأبوة. ثم قال رضي الله عنه " تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " أي وجميع هذه الفتن الفردية الخاصة التي تصيب المسلم بسبب حبه لنفسه وولده وماله تكفرها الطاعات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 إِذَنْ لَا يُغْلَقُ أبَداً. فَقُلْنَا: أكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا أنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بالأغالِيطِ، فَهِبْنَا أنْ نَسْألَ حُذَيْفَةَ فَأمرْنَا مَسْرُوقاً فَسَألهُ فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ.   والحسنات (1) كما قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " " قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر " أي ليس هذا الذي سألتك عنه فإنّي لم أسألك عن الفتنة الخاصة التي تصيب المرء بسبب أهله أو ماله أو ولده وإنما سألتك عن الفتنة العامة التي تصيب المجتمع الإِسلامي كله، والتي تضطرب اضطراب البحر فتغرق الأمة الإِسلامية في بحر من الدماء: " فقال: يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً " أي إذا كنت تسألني عن الفتنة العامة التي تصيب المسلمين جميعاً بالشرور والبلايا وتوقعهم في الحروب وسفك الدماء فيما بينهم، فاطمأن يا أمير المؤمنين: فإن المسلمين اليوم في مأمن منها، وإن بينك وبين هذه الفتنة باباً مغلقاً قوياً، أما ما هو هذا الباب فسيأتي الجواب عنه في آخر الحديث " قال: أيكسر أم يفتح، قال: يكسر " أي فسأل عمر حذيفة: هل يزول هذا الباب بشدة وعنف وسفك دماء، أم يزول من دون ذلك، فقال حذيفة: بل يزول بالعنف والشدة والدم " قال: إذن لا يغلق " أي ما دام (2) قد فتح بالدماء، فسيبقى هذا الباب مفتوحاً للدماء، فلا تنتهي الحروب بين المسلمين " قيل لحذيفة: كان عمر يعلم الباب؟ قال: كما أن دون الغد الليلة " أي قال بعضهم هل كان عمر يعلم معنى الباب المذكور في هذا الحديث فقال نعم يعلمه كما يعلم أن هذه الليلة قبل الغد "إني حدثته   (1) أي إن الحسنات تكفرها ما دامت لم تتجاوز حدّ الصغائر إلى الكبائر أما إذا تجاوزت هذه الفتن إلى حد اقتراف الكبائر فلا يكفرها إلاّ التوبة أو عفو الله. (2) أي ما دام باب الفتنة يفتح بالدماء فستبقى الحروب إلى قيام الساعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 ، 27 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَجُلاً أصَابَ مِنَ امْرَأةٍ قُبْلَةً فَأتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَه فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَ هَذَا؟ قَالَ: " لِجَمِيع أمَّتِي كُلِّهُمْ ".   بحديث ليس بالأغاليط" أي كيف لا يعلمه وقد حدثته حديثاً صادقاً صحيحاً محققاً " فهبنا أن نسأل حذيفة فأمرنا مسروقاً، فسأله فقال: الباب عمر " يعنى أن الحائل بين الإِسلام وبين الفتنة وجود عمر رضي الله عنه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. ويستفاد منه: أولاً: أنّ الصلاة كفارة للصغائر كما ترجم له البخاري وكذلك جميع الأعمال الصالحة كفارة. ثانياً: أن الفتنة نوعان، خاصة وعامة. ثالثاً: أن وجود عمر كان باباً مغلقاً في وجه الفتن. والمطابقة: في قوله: " تكفرها الصلاة ". 270 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه " أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة " أي أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمّى أبو اليسر قبل امرأة أجنبيَّةً، فندم على ما فرط منه " فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره " بما وقع فيه " فأنزل الله عز وجل " في شأنه " أقم الصلاة طرفي النهار " أي صل الصلوات التي في طرفي النهار، وهما الصبح والظهر والعصر " وزُلفاً من الليل " أي وصل أيضاً الصلاتين اللتين في أول الليل وهما المغرب والعشاء " إن الحسنات يذهبن السيئات " أي فإنّ هذه الصلوات الخمس كفارة لصغائر الذنوب، ومنها ما فعلت " فقال الرجل: أليَ هذا؟ " أي هل هي كفارة لي خاصة أو للناس عامة " قال لجميع أمتي " أي أن هذه الصلوات الخمس كفارة لمن فعل ذلك من جميع أمتي، وقد روى لنا أبو اليسر قصته هذه مفصلة، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 229 - " بَابُ فضلِ الصَّلاةِ لوقتها " 271 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَألْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الْعَمَلِ أحَبُّ إلى الله؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى   أتتني امرأة تبتاع تمراً، فقلت: إن في البيت تمراً أطيب منه، فدخلت معي في البيت فأهويت إليها، فقبلتها فأتيت أبا بكر رضي الله عنه، فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب فأتيت عمر فقال: مثله، فلم أصبر فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: " أخلفت غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا "، حتى تمنى أنّه لم يكن أسلم إلى تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار فأطرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلاً حتى أوحى الله تعالى إليه (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فقرأها عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أصحابه: ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال: للناس عامة. أخرجه الترمذي وقال حسن غريب. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الصلاة كفارة لصغائر الذنوب. ثانياً: أن النساء أعظم فتنة على الرجال، ما خلا رجل بامرأة إلَّا والشيطان ثالثهما. والمطابقة: في قوله: " لجميع أمتي ". 229 - " باب فضل الصلاة لوقتها " 271 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه " سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أحب إلى الله؟ " قال ابن دقيق العيد (1) الغرض من هذا السؤال معرفة ما ينبغي تقديمه من الأعمال على غيره. اهـ. وذلك لأنه   (1) شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَقْتِهَا". قَالَ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: " بِرُّ الوَالِدَيْن " قَالَ: ثُمَّ أيْ؟ قَالَ: " الْجِهَادُ في سَبيل اللهِ " قَال: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولو اسْتَزَدْتُة لَزَادَنِي.   كلما كان العْمل أحبَّ إلى الله كان أكثر ثواباً، فإنّ المحبوب يحظى بما لا يحظى به غيره. " قال: الصلاة على وقتها " أي أحب الأعمال إلى الله تعالى المرضية لديه الصلاة في وقتها المختار، سواء صلاها في أول الوقت أو آخره كما أفاده ابن دقيق العيد " قال ثم أي؟ " بغير تنوين، ويوقف عليه وقفة لطيفة، كما أفاده الفاكهاني (1) لأنه مضاف تقديراً، وتقديره: ثم أي العمل أحبُّ إلى الله تعالى بعد الصلاة، " قال بر الوالدين " أي العمل الثاني بعد الصلاة الاجتهاد في الإِحسان إلى الوالدين، وطاعتهما وإرضاؤهما فيما لا يغضب الله " قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله " أي الجهاد لِإعلاء كلمة الله، فإنه يأتي في المرتبة الثالثة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد منه: أن أفضل الأعمال بعد الإيمان أداء الصلاة في وقتها المختار ولو في آخره، وأما حديث الوقت الآخر عفو الله، فقد تفرد به يعقوب ابن الوليد، وكان يَضَعُ الحديث كما قال ابن حِبّان. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - سئل: " أي العمل أحب إلى الله " فقال الصلاة على وقتها. ...   (1) شرح العيني ج 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 230 - " بَابُ الإِبرَادِ بالظُّهْرِ فِي شدَّةِ الحَرِّ " 272 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَن رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فأبرِدُوا بالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ من فَيْحِ جَهَنَّمَ، واشتكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقَالَتْ: أكلَ بَعْضِي بَعْضَاً، فأذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسِ في الشتاءِ وَنَفَسِ في الصَّيْفِ، فَهُوَ أشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ ".   230 - " باب الإِبراد بالظهر " 272 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا اشتد الحَرُّ فأبردوا بالظهر " أي إذا اشتدت حرارة الجو في فصل الصيف فأخّروا صلاة الظهر حتى تخفّ الحرارة ويبرد الجو. وهذا الأمر للندب اتفاقا، قال الزمحشري: وحقيقة الإبراد الدخول في البرد، والباء للتعدية: أي افعلوها في وقت البرد عندما ينكسر الحر لأن شدته تُذهب الخشوع الذي هو ثمرة الصلاة وروحها. " فإن شدة الحر من فيح جهنم " (1) أي فإن شدة الحر من وهج جهنم، ونَفَس من أنفاسها، وفي الحديث عن عمرو بن عَبَسَةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ثم أقصر عن الصلاة، أي عند استواء الشمس " فإن حينئذ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ " أخرجه مسلم " اشتكت النار إلى ربها " أي اشتكت إليه مما تلاقيه من الغليان بلسان المقال لا بلسان الحال. لأن حمله على الحقيقة كما قال النووي هو الصواب، والله قادر على أن يخلق فيها الكلام " فقالت: أكل بعضي بعضاً " أي بحثت عن شيء آكله فلم أجد، فأكلت نفسي وتلك طبيعة النار، كما قال فيها الشاعر:   (1) فيح جهنم غليانها وثورانها، يقال: فاحت القِدر إذا غلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 اصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتلهْ كالنار تأكل بعضها ... إن لَمْ تجدْ ما تأكلهْ " فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء، ونفس في الصيف " وأصل النفس ما يخرج من الجوف ويدخل إليه من الهواء، والمراد أن الله أذن لها أن تخفف عن نفسها فتفرز طاقتين متضادتين إلى هذه الأرض: طاقة باردة في الشتاء وطاقة حارة في الصيف " قال - صلى الله عليه وسلم - " فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير ". أي فليست شدة الحرارة التي تعانونها صيفاً إلّا من ذلك النفس الذي تخفف به عن نفسها صيفاً، وليست شدة البرودة التي تقاسونها شتاءً إلا من ذلك النفس الذي تخفف به عن نفسها شتاءً. ولا مانع ولا غرابة أن يجمع الله فيها بين الضدين، لأنّ الذي خلق في عالمنا الصغير - الثلج والنار - قادر على أن يخلق في جهنم طبقة نارية وطبقة زمهريرية. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب الإِبراد بصلاة الظهر للمنفرد والجماعة عند اشتداد الحر صيفاً، وهو قول أبي حنفية وإسحاق، وظاهر كلام أحمد، قال ابن قدامة: وأما في شدة الحر فكلام الخرقي يقتضي استحباب الإِبراد بها على كل حال، وهو ظاهر كلام أحمد قال الأثرم: وعلى هذا مذهب أبي عبد الله، يستحب تعجيلها في الشتاء والإبراد بها في الحر (1)، وهو قول اسحاق وأصحاب الرأي وأبن المنذر لظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " رواه الجماعة عن أبي هريرة، وهذا عام. وقال القاضي: إنّما يستحب الإِبراد بثلاثة شروط شدة الحر، وأن يكون في البلدان الحارة، ومساجد الجماعات، فأمّا من صلاها في بيته أو في مسجد بيته فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي " وقال المالكية " يستحب الإِبراد في الحر والبرد معاً أما في الحر فيستحب للمنفرد إلى ربع القامة،   (1) أي يستحب الإِبرار بها مطلقاً في البيت أو في المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 231 - " بَابُ الإِبرَادِ بالظّهْرِ في السَّفَر " 273 - عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ فأرَادَ الْمُؤَذِّنُ أنْ يُؤَذِّنَ للظُّهْرِ، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أبْرِدْ، ثُمَّ أرادَ أنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: أبْرِدْ، حَتَّى رأيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فإذا اشْتَدَّ الْحَرُّ فأبرِدُوا بالصَّلَاةِ ".   وللجماعة إلى نصفها وأما في البرد فيستحب للجماعة فقط إلى ربع القامة. ثانياً: ظاهر الحديث استحباب التبكير بالظهر شتاءً وهو مذهب الجمهور خلافاً للمالكية. الحديث: أخرجه أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: "فأبردوا بالظهر". 231 - " باب الإبراد بالظهر في السفر " 273 - معنى الحديث: يقول أبو ذر رضي الله عنه: " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأراد أن يؤذن أن يؤذن للظهر " أي فأراد بلال أن يقيم لصلاة الظهر عند الزوال مباشرة " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبرد " أي فأمره بتأخير الصلاة حتى يَبْرُدَ الجو " ثم أراد أن يؤذن " أي ثم أراد مرة أخرى أن يقيم " فقال له: أبرد " يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإبراد بالظهر مرتين " حتى رأينا فيء التلول " أي فلم نصل الظهر حتى صار للتلول ظلالٌ، والتلول والتلال ما اجتمع على الأرض من تراب ورمل ونحوه والفيء ظل الشيء الممتدِ إلى جهة الشرق بعد الزوال " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحرّ فأبردوا وبالصلاة " أي فأخروا صلاة الظهر مطلقاً في الحضر أو السفر. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً بالإبراد بالظهر، وهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 232 - " بَابُ وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ " 274 - قَالَ جَابِرُ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظهْرَ بِالْهَاجِرَةِ.   سفر. ويستفاد منه مما يأتي: أولاً: مشروعية الإِبراد بالظهر في شدة الحر مطلقاً حتى في حال السفر، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً بالابراد بالظهر وهم مسافرون. ثانياًً: أنه يستحب الإبراد بصلاة الظهر في شدة الحر مطلقاً وفي جميع الأحوال، سواء كان في البيت أو في المسجد في جماعة أو منفرداً لأنّه لو كان يشترط فيه أن يكون في مسجد ينتابه الناس لما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر، ولهذا قال الترمذي: ومن ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع، وأمّا ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر ما يدل على خلاف ما قال الشافعي. قال أبو ذر: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بلال أبرد، ثم أبرد، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعي لما كان للإِبراد في ذلك الوقت معنى لاجتماعهم في السفر، وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا المسجد من البعد. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. 232 - " باب وقت الظهر " 274 - معنى الحديث: يروي البخاري هذا الحديث هنا معلّقاً فيقول: " قال جابر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي الظهر بالهاجرة " يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي صلاة الظهر بعد الزوال في وقت اشتداد الحر نصف النهار وقد وصله البخاري في باب وقت المغرب بلفظ: " كان يصلي الظهر بالهاجرة ". الحديث: أخرجه البخاري. ويستفاد منه: أن أول وقت الظهر بعد الزوال، ولا تصح قبله قال ابن المنذر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 275 - عن أبي بَرْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الصُّبْحَ، وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرأُ فِيهَا مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى الْمِائَةِ، ويُصَلَى الظّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، والْعَصْرَ وأحدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَيَرْجِعُ والشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيْتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ ولا يُبَالِي بتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَال: إلَى شَطر اللَّيْلَ.   وعليه أجمع العلماء. والمطابقة: في قوله: " يصلي الظهر بالهاجرة ". 275 - راوي الحديث: هو أبو برزة نضلة بن عبيد الأسلمِي أسلم قديماً، وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات، روى ستة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بأربعة، والبخاري بحديثين، توفي بخراسان سنة ستين من الهجرة. معنى الحديث: يقول أبو برزة رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه " أي يطيل فيها حتى لا ينتهي إلاّ وقد عرف كل واحد جليسه وفي رواية: " كان يصلي الصبح فينصرف الرجل فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه " أخرجه مسلم. أي لا يفرغ منها إلّا وقد ظهرت الأشياء، وانكشفت الوجوه، وعرف زيد من عمرو " ويقرأ فيها ما بين الستين إلى المائة " هذا بيان لسبب طول صلاة الصبح، هو أنّه كان يقرأ فيها من ستين إلى مائة آية " وكان يصلي الظهر إذا زالت الشمس " أي بعد الزول مباشرة " والعصر وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة ويرجع والشمس حيّة " أي ولا تزال الشمس قوية الشعاع، شديدة الحرارة، ساطعة الضياء، " ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ثم قال: إلى شطر الليل " أي يصلي العشاء أحياناً في وقت ينتهي إلى الثلث أو النصف من الليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 233 - " بَابُ تأخِيرِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ " 276 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعَاً وَثَمَانِياً الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ والْمَغْرِبَ والْعِشَاءَ قَالَ أيُّوبُ: لَعَلَّهُ في لَيْلةٍ مَطِيرةٍ   الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أول وقت الظهر بعد الزوال. ثانياً: أن الأفضل أداء العصر في أول وقتها المختار، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيث يرى أن أداءها آخر الوقت أفضل لحديث علي بن شيبان " فكان يؤخر العصر ما دامت بيضاء نقية " أخرجه أبو داود. والمطابقة: في قوله: " كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس ". 233 - " باب تأخير الظهر إلى العصر " 276 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر والمغرب والعشاء " أي صلى وهو مقيم بالمدينة الظهر والعصر معاً، فجمع بينهما، وصلى أيضاً المغرب والعشاء، فجمع بينهما، وذلك لعذر المطر، حيث اعتبر المطر عذراً شرعياً يسوّغ الجمع بين الصلاتين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، في غير خوف ولا سفر " وفي رواية: " من غير خوف ولا مطر " رواه مسلم وأبو داود والترمذي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للمقيم الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تأخير لعذر المطر، وهو قول مالك والشافعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 234 - " بَابُ وَقْتِ الْعَصْرِ " 277 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى الْعَصْرَ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلى الْعَوَالِي فَيَأتِيهِمْ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنَ الْمَدِينَةِ على أربَعَةِ أمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ.   وأحمد، غير أن الشافعي اشترط أن يكون المطر موجوداً بالفعل عند افتتاح الصلاتين، وأجاز مالك أيضاً الجمع في حال الطين والظلمة. وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي: يصلي عند المطر كل صلاة في وقتها، وقال أبو حنيفة: لا يجوز جمع التأخير في سفر ولا غيره إلاّ في مزدلفة، وحمل حديث الباب ونحوه على أنه جمع صوري، ومعناه أنه أخر الظهر حتى بقي من وقتها جزءٌ يسيرٌ فصلاها في آخر الوقت، ثم صلى العصر في أول وقتها، فجمع بينهما فعلاً لا وقتاً، لأنه صلى كل واحدة في وقتها. لكن هذا التأويل يتعارض مع قول ابن عمر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق. ثانياًً: جاء في بعض الروايات " من غير خوف ولا مطر " واستدل به أحمد وبعض الشافعية على جواز الجمِع للمرض (1) والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر ". 234 - " باب وقت العصر " 277 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " قال كان النبي يصلي العصر والشمس مرتفعة حية " أي يصلي العصر، ولا تزال الشمس عالية قوية الشعاع، شديدة الحرارة، "فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم،   (1) ذهب جماعة من الأئمة إلي جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، واختاره ابن المنذر، ويؤيد ذلك قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، فلم يعلله بمرض ولا غيره. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 والشمس مرتفعة" أي فيخرج الرجل بعد انتهاء صلاة العصر في المسجد النبوي إلى العوالي ثم يعود إلى المدينة وما زالت الشمس مرتفعة قوية الضوء لم تتغير بعد إلى الصفرة " وبعض العوالي من المدينة على بعد أربعة أميال " أي وأقرب العوالي إلى المدينة على بعد أربعة أميال على الأقل أما أقصاها فهو ثمانية أميال، كما أفاده ابن الأثير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، لأن الرجل (1) كان يذهب بعد صلاة العصر إلى العوالي، ويعود ولا تزال الشمس بيضاء لم تصفر بعد، والمسافة بين المدينة والعوالي ذهاباً وإياباً لا تقل عن ثمانية أميال على الأقل، وهي مسافة لا يمكن أن يقطعها المرءُ بعد صلاة العصر وقبل الإصفرار إلاّ إذا صلى العصر عندما صار ظل كل شيء مثله. ثانياًً: أن صلاة العصر في أول وقتها أفضل، وهو مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: العصر في آخر وقتها المختار أفضل. والحديث حجة الجمهور. لقول أنس: " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلّي العصر والشمس مرتفعة حية " ... إلخ. والمطابقة: في قوله: " كان يصلي العصر والشمس مرتفعةُ " ... إلخ. ...   (1) أي لأن الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر مع الجماعة في المسجد النبوي ثم يذهب إلى العوالي، ويعود قبل الاصفرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 235 - " بَابُ إِثْمِ مَنْ فَاتتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وإثم من ترك العصر " 278 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كأنَّمَا وُتِرَ أهْلَهُ وَمَالَهُ ". 279 - عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   235 - " باب إثم من فاتته صلاة العصر، وإثم من ترك العصر " 278 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الذي تفوته صلاة العصر " أي الذي تفوته صلاة العصر في وقتها ولم يُصلِّهَا إلاّ بعد خروج الوقت. لغير عذر شرعي " كأنما وتر أهلهُ وماله " يروى بالنصب (1) على أنه مفعول ثانٍ، والمفعول الأول ضمير مستتر في محل رفع نائب فاعل، أي من أخر صلاة العصر حتى خرج وقتها لغير عذر شرعي فكأنما أصيب في أهله وماله، ويجوز رفعه على أنه نائب فاعل، والمعنى فكأنما سلمت أهله وماله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كأنّما وتر أهلَه ومَالَهُ " فإنّ هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على معصية يأثم عليها. 279 - ترجمة الراوي: هو بريده بن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد وإسكان الياء الأسلمي، أسلم يوم بدر، وشهد ما بعدها، وغزا خراسان على عهد عثمان، وسكن مرو، روى 164 حديثاً اتفقا على واحد، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر توفي سنة 62 من الهجرة. معنى الحديث: أن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه: أمرهم في يوم   (1) أي بنصب " أهل " على أنه مفعول ثانٍ و" مال " معطوف عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 أَنَّهُ قَالَ في يَوْمٍ ذِي غَيْم بَكرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فإِنَّ النَّبَِّي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ". 236 - " بَابُ فضلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ " 280 - عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فيكُمْ مَلائِكَة باللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بالنَّهارِ، وَيَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا   غائم أن يعجلوا بصلاة العصر في أول وقتها، وحذرهم من تأخيرها قائلاً: " فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ترك صلاة العصر " أي أخرها عن وقتها لغير عذر " فقد حبط عمله " أي فقد بطل ثوابه، وضاع أجره عن تلك الصلاة التى أخرها، فلا ثواب له عليها. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " فقد حبط عمله ". ويستفاد من الحديثين: أن تأخير صلاة العصر عن وقتها -لغير عذر- كبيرة من الكبائر، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توعد من فعل ذلك بإحباط عمله، وإسقاط ثوابه عن تلك الصلاة، وأنه كمن خسر أهله وماله، وهذا الوعيد الشديد لا يترتب إلاّ على كبيرة، وحكم بقية الصلوات كحكم صلاة العصر فمن أخرها لغير عذر فقد استحق هذا الوعيد نفسه. 236 - " باب فضل صلاة العصر " 280 - معنى الحديث: أن أبا هريرة يحدثنا " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " أي تتناوب الملائكة على حراسة البشر فطائفة تحرسهم ليلاً وطائفة أخرى تحرسهم نهاراً "وهؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 فِيكُمْ، فَيَسْألهُمْ وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِيَ؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وأتيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ".   هم الحفظة" الذين قال الله تعالى فيهم: (وإن عليكم لحافظين) فملائكة الليل تحرسنا من وقت صلاة العصر إلى آخر صلاة الفجر، وملائكة النهار من أول صلاة الفجر إلى آخر صلاة العصر " يجتمعون في صلاة الفجر " أي تجتمع ملائكة النهار بملائكة الليل في صلاة الفجر حيث ينزل ملائكة النهار عند أول الصلاة، ولا زال ملائكة الليل موجودين فيلتقون بهم " وصلاة العصر " أي ويجتمع ملائكة الليل بملائكة النهار في صلاة العصر " ثم يعرج الذين باتوا فيكم " أي ثم يصعد ملائكة الليل بعد صلاة الفجر " فيسألهم " الرب عز وجل " وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ " أي يسألهم كيف تركتم عبادي، وهو في غنى عن سؤالهم هذا، لأنه عليم بهم، وإنما يسألهم عن ذلك في الملأ الأعلى تنويهاً بشأن بني آدم وبياناً لفضلهم، وليباهي بهم الملائكة " فيقولون تركناهم وهم يصلون " صلاة الصبح " وأتيناهم وهم يصلون " صلاة العصر، فهم في صلاة دائمة. وكذلك يسأل عز وجل ملائكة النهار، فيجيبون بمثل ما أجاب به ملائكة الليل. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: فضل صلاة الصبح وصلاة العصر في جماعة وكونهما تشهدهما الملائكة، وتشهد لمن صلّاهما، وهذه مزية عظيمة لمن صلاهما في جماعة، حيث نوِّة به في الملأ الأعلى. كما أفاده العيني حيث قال: فإن قلت شهودهم معهم الصلاة في الجماعة أم مطلقاً، قلت: اللفظ يحتمل للجماعة وغيرهم، ولكن الظاهر أن ذلك في الجماعة. والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر " كما أفاده العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 237 - " بَابُ مَنْ أدْرَكَ رَكْعَةً من الْعَصْرِ قَبْلَ الْغروبِ " 281 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا أدْرَك أحدُكُمْ سجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتمَّ صَلَاتَهُ، وِإذَا أدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلَعَ الشَّمْسُ فليُتمَّ صَلَاَتهُ ".   237 - " باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب " 281 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته " أي إذا حصّل أحدكم من صلاة العصر ركعة كاملة بسجدتيها قبل الغروب، فقد أدرك صلاة العصر في وقتها فليتم بقية صلاته على أنه صلاها أداء في وقتها. عبر بالسجدة عن الركعة، لأن الركعة إنما يكون تمامها بسجودها كما أفاده العيني، وقد جاء التصريح بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " وكذلك الحكم بالنسبة لصلاة الصبح كما قال - صلى الله عليه وسلم - " وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " أي فقد أدرك الصبح في وقتها فليتمها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنّ من أدرك ركعة كاملة بسجدتيها من العصر أو الصبح قبل خروج الوقت فقد أدرك تلك الصلاة في وقتها، ولا خلاف في ذلك، وإنما اختلفوا فيمن أدرك أقل من ركعة فذهب الحنفية والحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد (1) إلى أن الفريضة تدرك أداءً بتكبيرة الإحرام في وقتها المخصص لها، سواء أخرها لعذر كحائض تُطهر، أو مجنون يفيق، أو لغير عذر. وذهب المالكية والشافعية في الأصح إلى أنه إنما تُعَدُّ   (1) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 الصلاة أداءً في وقتها إذا صلّى ركعة بسجدتيها قبل خروج الوقت، أمّا إذا أدرك أقل من ركعة فإنّها تكون قضاءً بدليل ما جاء في حديث الباب: حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: " إذا أدرك أحدكم سجدة " ولا يمكن إدراك السجدة إلّا لمن أدرك الركعة كاملة بسجودها، بالإِضافة إلى ما جاء في خبر الصحيحين " من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك الصلاة " أي أدركها مؤداة في وقتها ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لا يدرك الصلاة مؤداه، وهذا الرأي فيما يظهر أصح (1)، لأنه لا يمكن إدراك السجود إلاّ بعد الركوع، بالإِضافة إلى ما رواه الجماعة " من أدرك من الصبح ركعة " قال الحافظ في قوله - صلى الله عليه وسلم - (2) " من أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك ": ظاهره أنه يكتفي بذلك أي بالركعة، وليس ذلك مراداً بالإِجماع فقيل يحمل على أنه أدرك الوقت، فإذا صلّى ركعة أخرى كملت صلاته. ثانياً: أنه تجوز صلاة الفرائض في جميع أوقات النهي، ولو غربت الشمس، وهو في صلاة العصر، أو طلعت وهو في الصبح أتمَّ بقية صلاته، وكانت صحيحة، وهو مذهب الجمهور في جميع أوقات النهي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، أو ركعة من الصبح قبل الشروق أن يُتمَّ صلاته كما في حديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث قتادة: " فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها " أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الترمذي، فإن هذين الحديثين يدلان صراحةً على جواز الفريضة وصحتها في جميع أوقات النهي، ولو كانت محرمة لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعلها في قوله: " فليصلها إذا ذكرها "، ولو كانت باطلة لما أمر باتمامها في قوله: " فليتم صلاته " وقالت الحنفية: تكره صلاة الفريضة في جميع أوقات النهي كراهة تحريمية، تقتضي عدم صحة   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي. (2) " فتح الباري شرح البخاري " ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 238 - " بَابُ وَقْتِ الْمَغرِبِ " 282 - عن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْصَرِفُ أحَدُنَا وَإنَّهُ ليبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ.   الصلاة، وبطلانها، واستثنوا من ذلك فرض عصر اليوم (1) أداءً، فإنه يجوز ويصح عند الغروب. واستدلوا بأحاديث النهي كحديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس " متفق عليه، والجمهور على أنّ هذه الأحاديث خاصة بالنوافل، وأن حديث الباب وغيره مخصص لها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. 238 - " باب وقت المغرب " 282 - معنى الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجلون بصلاة المغرب، فيصلونها بعد غروب الشمس فوراً حتى أنهم ينتهون منها ولا زال النور منتشراً بحيث يرى أحدهم المواضع التي يصل إليها نبله، لأن الأشياء ما زالت ظاهرة لم يحجبها الظلام. ويستفاد منه: أن وقت المغرب يبدأ من غروب الشمس حالاً، وأنه ضيق جداً لا يمتد إلاّ بمقدار أداء الصلاة لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يداوم على أدائها بعد الغروب مباشرة وهو مذهب مالك والشافعي الجديد (1) وعليه بعض أهل العلم يرون أن وقت المغرب ينقضي بمقدار الوضوء وستر العورة والأذان والإِقامة وخمس ركعات أي أن وقته مضيق غير ممتد لما جاء في حديث جابر أن جبريل   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 239 - " بَابُ وقْتِ الْعِشَاءِ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ " 283 - قَالَ أبو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَحِبُّ تَأخِيرَهَا.   صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليومين في وقت واحد (1)، ولما جاء في حديث الباب هذا. وذهب الجمهور من الحنيفة والحنابلة والأظهر عند الشافعية، وهو مذهب الشافعي القديم إلى أنه يمتد إلى مغيب الشفق لما جاء في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقت المغرب ما لم يغيب الشفق " أخرجه مسلم. وفي حديث أبي موسى " فصلى المغرب -أي من الغد- قبل أن يغيب الشفق " أخرجه أبو داود، أما حديث جابر فقد حمله الجمهور على وقت الفضيلة والاختيار لا على الجواز. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في دلالته على المبادرة إلى صلاة المغرب. 239 - " باب وقت العشاء إلى نصف الليل " 283 - معنى الحديث: يقول أبو برزة رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب تأخيرها " أي يفضل تأخيرها يعني يرغّب أصحابه في تأخير صلاة العشاء دون أن يبين مقدار ذلك. ويستفاد منه: استحباب تأخير صلاة العشاء إلاّ أن أبا برزة لم يحدد مقدار هذا التأخير الذي سيأتي موضحاً في الأحاديث الآتية. والمطابقة: في قوله: " يستحب تأخيرها ". الحديث: أخرجه البخاري موصولاً في باب وقت العصر. ...   (1) وهو غير الاظهر المعمول به عند الشافعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 284 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ العِشَاءِ إلى نِصْفِ اللَّيلَ، ثُمَّ صَلَّى، ثمَّ قالَ: " قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ ما انْتَظرتُمُوها ".   284 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل العشاء ليلة إلاّ في آخَّر النصف الأول من الليل، ثم قال لهم: لقد صلّى غيركم، أما أنتم فقد أخرتم هذه الصلاة إلى هذا الوقت المتأخر من الليل، فكنتم في صلاة مدة انتظاركم لها، يحتسب لكم ثوابها طوال هذه المدة، وفي رواية أخرى أنه قال: " ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل " أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة. الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ظاهر الحديث أن وقت العشاء يمتد إلى آخر نصف الليل، ويخرج بالنصف وهو وقت الاختيار عند الجمهور والرواية الثانية عن أحمد وقول ابن المبارك وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي كما أفاده القسطلاني (1) وابن قدامة (2) لما روي عن أنس قال: " أخَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل " رواه البخاري، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم لأمرت بهذه أن تؤخر إلى شطر الليل " رواه أبو داود والنسائي، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " وقت العشاء إلى نصف الليل " رواه أبو داود، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عامة الليل، ثم خرج فصلّى، ثم قال: " إنه لوقتها " أي وقتها المختار " لولا أن أشق على أمتي لأخرتها إليه " أخرجه مسلم، وروي عن أحمد أنّ وقت العشاء المختار يمتد إلى ثلث الليل، وهو قول عمر وأبي هريرة وعمر   (1) شرح القسطلاني ج 1. (2) المغني ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ابن عبد العزيز ومالك بن أنس لما جاء في حديث جبريل أنه صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثانية ثلث الليل، وقال: " الوقت ما بين هذين " وذهب الظاهرية إلى أنّ وقتها الاختياري يمتد إلي طلوع الفجر لما جاء في حديث أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى " فهو عام متأخر عن حديث إمامة جبريل، وناسخ له اهـ. كما حكاه ابن رشد. ثانياً: أن تأخير صلاة العشاء إلى نصف الليل أفضل لحديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد " لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل " حيث دل على أن تأخيرها إلى نصف الليل أفضل وإنما قدمها - صلى الله عليه وسلم - مراعاة للضعفاء والذين لا يستطيعون التأخير إلى ذلك الوقت المتأخر من الليل فيؤدي ذلك إلى تفويت تكثير الجماعة، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن تأخيرها أفضل، وذهب بعضهم إلى أن صلاتها في أول الوقت عند مغيب الشفق أفضل، وروى العراقيون من أصحابنا عن مالك أن تأخيرها أفضل، وبه قال أبو حنيفة لما جاء في حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة: " أعتم النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، خرج فصلى، فقال: إنه لوقتها " وقال في المنهل العذب (1): وقد اختلف العلماء أتقديمها أفضل أم تأخيرها؟ وهما مذهبان مشهوران للسلف، وقولان لمالك والشافعي، فذهب فريق إلى تفضيل التأخير محتجاً بهذه الأحاديث، كحديث الباب، وحديث أبي سعيد، وحديث ابن عمر المتقدمة، وذهب فريق إلى تفضيل التقديم محتجاً بأنه العادة الغالبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي التقديم، وإنما أخرها في أوقات يسيرة لبيان الجواز، أو لشغل أو لعذر، ولو كان تأخيرها أفضل لواظب عليه. " وَرُدَّ " بأن هذا يتم لو لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - إلاّ مجرد الفعل   (1) " المنهل العذب " ج 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 240 - " بَاب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِْ بَعْدَ الْعِشَاءِ " (1) 285 - عن أبي بَرْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْهَجِيرَ وهي التي تَدْعُونَهَا الأولى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، ويُصَلِّي الْعَصْرَ ثم يَرْجِعُ أحَدُنَا إلى أهْلِهِ في أقصى الْمَدِينَةِ   لها في ذلك الوقت، وهو ممنوع، لورود الأقوال كما في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه " رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، إلى غير ذلك من الأحاديث التي فيها تنبيه على أفضلية التأخير. والمطابقة: في قوله: " أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل ". 240 - " باب ما يكره من السمر بعد العشاء " قال القاضي عياض: والسمر رويناه بفتح الميم، وقال ابن سراج: الصواب سكونها، لأنّه اسم الفعل، ومعنى السمر بالفتح التحدث مع الإِخوان بعد صلاة العشاء، ويختلف حكمه فمنه ما هو جائز مشروع، ومنه ما هو مكروه، والغالب فيه الكراهة كما يدل عليه الحديث. 285 - معنى الحديث: يقول أبو برزة رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الهجير حين تدحض الشمس " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر إذا زالت الشمس عن كبد السماء، فالهجير هي صلاة الظهر، لأنها تصلّى في الهاجرة عند منتصف النهار " ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى   (1) ذكر البخاري هذا الباب بعد باب قضاء الصلوات الأولى فالأولى ولكني قدمته هنا لمناسبته للباب السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 والشَّمْسُ حَيَّةٌ، ونسيتُ مَا قَالَ في الْمَغْرِبِ، قَالَ: وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ، قَالَ وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا والْحَدَيْث بَعْدَهَا، وكانَ يَنْفَتِلُ من صَلَاةِ الغَدَاةِ حينَ يَعْرِفُ أحَدُنَا جَلِيسَهُ، وَيَقْرأ مِنْ السِتِّينَ إلى المِائَةِ.   أهله في أقصى المدينة والشمس حيّة" أي ويصلي العصر في أول وقتها، حتى أنّ الواحد منا يذهب إلى أبعد مكان في المدينة، ويعود منه، والشمس لا تزال قوية الشعاع، مرتفعة في السماء، لم يدخل وقت الاصفرار، ثم ذكر أنه نسى ما قاله أبو برزة عن صلاة المغرب، ثم " قال: وكان - صلى الله عليه وسلم - يستحب أن يؤخر العشاء " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يفضل تأخير العشاء كما تقدم في الحديث السابق " وكان يكره النوم قبل العشاء " لمن يتعمد ذلك، أما من غلبه النوم فلا شيء عليه " والحديث بعدها " أي وكان يكره الحديث بعد العشاء، إلّا لفائدة مقصودة شرعاً " وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدنا جليسه " أي يطيل القراءة في الصبح حتى لا ينتهي منها إلاّ وقد انتشر الضوء، وعرف كل واحد جليسه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على كراهية السمر بعد العشاء لغير فائدة مقصودة شرعاً كمسامرة الأهل أو لضيف، وسماع موعظة أو علم فإنه لا يكره. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 241 - " بَابُ فَضْلُ صَلَاةِ الْفَجْرِ " 286 - عنْ أبِي موسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ".   241 - " باب فضل صلاة الفجر " 286 - معنى الحديث: يحدثنا أبو موسى رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى البردين " بفتح الباء الموحدة، وهما صلاتا الفجر والعصر، لأنهما تقعان في بردي النهار، أي طرفيه، وقيل لأنهما تفعلان في وقت البرد، وطيب الهواء، وانخفاض الحرارة، " دخل الجن " أي من واظب على أداء صلاتي الصبح والعصر في وقتهما المختار دخل الجنة ابتداءً مع السابقين الأولين. ويستفاد منه: فضل صلاتي الفجر والعصر، وكون المواظبة عليهما سبباً في دخول الجنة، بشرط أن يكون المواظب عليهما صادق الإيمان، لأن الكافر لا عمل له، وقد جاء هذا الشرط مصرحاً به في قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عمار " لن يدخل النار من مات لا يشرك بالله شيئاً، وكان يبادر لصلاته قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " أخرجه البزار. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون أحد البردين هي صلاة الفجر. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 242 - " بَابُ وقتِ الفجرِ " 287 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ أنَهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم قدمُوا إلَى الصلاةِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً. 288 - عَنْ سَهْل، بْنِ سَعْد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ أتُسَحرُ في أهْلِي ثم يَكُونُ سرعَة بي أنْ أدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.   242 - " باب وقت الفجر " 287 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن زيد بن ثابت رضي الله عنه حدثه أنهم تسحروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي تناولوا معه طعام السحور " ثم قاموا إلى الصلاة " أي إلى صلاة الصبح " قلت: كم بينهما " أي كم المدة التي بين السحور وصلاة الفجر، " قال: قدر خمسين أو ستين " يجوز في قدر الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير والزمن بينهما قدرُ خمسين آية، وهو موضع الترجمة، لأنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح بعد السحور بزمن يتسع لقراءة خمسين آية (1). الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " قلت: كم بينهما " قال: قدر خمسين أو ستين آية. 288 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد رضي الله عنهما: " كنت أتسحر في أهلي " أي مع أهلي من بني ساعدة، وكانت منازلهم شمال المسجد في محلة باب المجيدى التي تمتد من بيرحاء وفندق زهرة المدينة إلى   (1) ويدل أيضاً على أن وقت صلاة الصبح بعد الفجر مباشرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 السحيمي (1) كما أفاده مؤرخ المدينة الأستاذ إبراهيم العياشي " ثم تكون سرعة (2) بي أن أن أدرك الفجر " أي ثم أمشي بسرعة بعد السحور مباشرة لكى أتمكن من إدراك صلاة الصبح جماعة " مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " وفي مسجده الشريف فإذا لم أسرع فاتتني الصلاة أو الركعة الأولى منها. والحديث أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " ثم تكون سرعة بي أن أدرك صلاة الفجر " وذلك كما أفاده العيني بطريق الإِشارة إلى أن أول وقت صلاة الفجر طلوع الفجر. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن وقت صلاة الصبح يبدأ بعد طلوع الفجر مباشرة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصبح بعد السحور بزمن قصير لا يتسع إلاّ لقراءة خمسين آية، ولأن سهل بن سعد رضي الله عنهما الذي يسكن بجوار المسجد، وبالقرب منه، كان لا يدرك صلاة الصبح في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ إذا ذهب إليها بعد السحور بسرعة، فإذا تباطأ قليلاً فاتته، وهذا يدل دلالة أكيدة صريحة على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الصبح بعد الفجر مباشرة. ثانياًً: أن أداء صلاة الصبح في أوّل الوقت أفضل لأن الحديثين يدلان على مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وما واظب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله فهو سنة. ...   (1) " المدينة بين الماضي والحاضر " لفضيلة الاستاذ إبراهيم العياشي. (2) وسرعة مرفوع على أنه فاعل تكون التامة، أي ثم توجد منه سرعة لكي يدرك صلاة الصبح مع الجماعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 243 - " بَابُ الصَّلَوَاتِ الْخمس كَفَّارَةٌ " 289 - عَن أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " أرَأَيْتُمْ لَوْ أن نَهَراً بِبَابِ أحدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْساً، ما تَقُوْلُ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لَا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئَاً، قَالَ: فذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَواتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا ".   243 - " باب الصلوات الخمس كفارة " قدم البخاري هذا الباب فوضعه بعد باب فضل الصلاة لوقتها ولكني أخرته هنا ليكون بعد الأبواب المذكورة فيها أوقات الصلوات الخمس. 289 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم فيغتسل فيه كل يوم خمساً، ما تقول ذلك يبقي" بضم الياء في أوله وكسر القاف " من درنه " أي أخبروني لو وجد أحدكم نهراً أمام منزله يغتسل فيه خمس مرات يومياً أتظنون أن ذلك الاغتسال المتكرر يبقي شيئاً من أوساخه البدنية؟ " قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً " لأن الاغتسال مرة واحدة في اليوم كاف لتنظيف البدن فكيف إذا كان خمس مرات " قال: فذلك مثل (1) الصلوات الخمس " أي فإن الصلوات الخمس تشبه الاغتسال خمس مرات في اليوم، فإذا كان الاغتسال، بمثل ذلك العدد ينظف الجسم من الأقذار، ويحميه من الميكروبات التي تسبب له الأمراض البدنية، فإن الصلوات الخمس تكفر السيئات، وتمحوها من كتاب الحفظة، كما تحمى النفس وتقيها من الخطايا التي لم تقترفها بعد، وتطهرها أيضاً من جميع الأمراض النفسية من القلق والحقد   (1) بكسر الميم وسكون الثاء، ويجوز فتح الميم والثاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 244 - " بَاب الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حتَّى ترْتفِعَ الشَّمْس " 290 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا قَالَ: شَهِدَ عنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ، وَأرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَىْ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ.   والحسد والعداوة والأنانية وغيرها، بالإِضافة إلى تكفير الخطايا التي اقترفتها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " يمحو الله بِهِ (1) الخطايا " أي يكفرها. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: إن الصلوات الخمس كفارات لصغائر الذنوب. ثانياً: إنها علاج ناجع للأمراض النفسية، وقد عولج بالصلاة بعض المصابين بها، وهم كفار فشفوا وأسلموا. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يمحو الله به الخطايا ". 244 - " باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس " 290 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " شهد عندي رجال مرضيون " أي أخبرني رجال ثقات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح " أي نهى عن صلاة النافلة بعد صلاة الصبح " حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب " أي إلى غروب الشمس. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم النافلة بعد صلاة العصر إلى الغروب، بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وأما قول عائشة رضي الله عنها: " ركعتان لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعهما سراً أو علانية " أي   (1) هكذا في رواية البخاري بتذكير الضمير، وعند مسلم والترمذي والنسائي والدارمي " بهن " وعند أحمد في المسند " بها ". (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 245 - " بَابُ الْأذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ " 291 - عَنْ أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ   لا يتركهما سواء كان في بيته أو في المسجد " ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر (1) " الذي استدل به الظاهرية على مشروعية النافلة بعد العصر فقد أجاب عنه الجمهور بأنه من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا فيما يحرم من النوافل في أوقات النهي، فقال الجمهور: تحرم جميع النوافل ما عدا ركعتي الطواف عند أحمد، وقال الشافعي يحرم من النوافل ما ليس له سبب، ويجوز ماله سبب شرعي كصلاة الكسوف، وتحية المسجد، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر، وقضاء السنة الفائتة لصلاة رباعية واستدلوا بحديث أم سلمة رضي الله عنها " أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد العصر، فأرسلت جاريتها تسأله عنها فقال: إنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان " قال الشافعي: ويحرم ما ليس له سبب إلاّ سنة الفجر. الحديث: أخرِجه الستة. والمطابقة: في قوله: " نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس ". 245 - " باب الأذان بعد ذهاب الوقت " 291 - معنى الحديث: يقول أبو قتادة رضي الله عنه: " سرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقال بعض القوم: لو عرست " أي سار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ليلة مسافة طويلة حتى كان الهزيع الأخير من الليل، وأحسوا بالتعب فقال بعضهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ليتك تنزل بنا ها هنا لكي نأخذ حظاً من الراحة والنوم،   (1) أخرجه الشيخان والنسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 اللهَ، قَالَ: " أخاف أنْ تَنَامُوا عَنَ الصَّلَاةِ " (1) قَالَ بِلَال: أنَا أوقظُكُمْ، فاضْطَجَعُوا (2)، وأسْنَدَ بِلَال ظَهْرَهُ إلى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْس فَقَالَ: يَا بِلالُ أْينَ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: ما أُلقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَة مِثْلُهَا قَطُّ قَالَ: " إِنَّ اللهَ قَبَضَ أرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَليْكُمْ حين شَاءَ، يَا بِلالُ قُمْ فَأذِّنْ بالنَّاس بالصَّلَاةِ " فَتَوَضَّأ فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ وابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى.   فنزل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان قال بلال: أنا أوقظكم " فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته " أي دابته " فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد طلع حاجب الشمس " أي وقد طلع طرفها الأعلى " فقال: يا بلال أين ما قلت " يعني أين ما وعدتنا به من مراقبة طلوع الفجر، وتنبيهنا لصلاة الصبح، " فقال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط، قال: إنّ الله قبض أرواحكم حين شاء، وردهما عليكم حين شاء " أي لا حرج عليكم في ذلك، لأن الله هو الذي أرخى عليكم النوم، وتوفّى أرواحكم حين شاء فنمتم، وردها إليكم حين شاء فاستيقظتم " قُمْ فأذن بالناس بالصلاة " أي فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يؤذن للصبح بعد خروج الوقت " فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلّى " أي فلم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح عند طلوع الشمس، وإنما انتظر حتى ارتفعت الشمس، فقام فصلّى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الأذان للصلاة - الفائتة كما ترجم له البخاري، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة خلافاً لمالك والشافعي. ثانياً: استدل به أبو حنيفة على أن الصلاة الفائتة لا تقضى   (1) أي أخاف أن تناموا عن صلاة الصبح. (2) بفتح الجيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 246 - " بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاس جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ " 292 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْش، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حتى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " وَاللهِ مَا صَلَّيْتُهَا! " فَقُمْنَا إلى بَطْحَانَ، فَتَوَضَّأ لِلصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ.   في وقت النهي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث لما فاتته الصبح لم يصلها حتى ارتفعت الشمس وابياضت، وقال الجمهور: تقضى الفوائت في كل وقت حتى في أوقات النهي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها". الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " قم فأذن بالناس بالصلاة ". 246 - "باب من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت" 292 - معنى الحديث: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق بعد غروب الشمس وهو يَسُب كفار قريش ويقول: لقد أخرتُ اليوم صلاة العصر بسبب قتال هؤلاء حتى أوشكت الشمس على الغروب " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والله ما صليتها " يعني إذا كنت قد صليت العصر في آخر الوقت قبل الغروب فإني لم أصلها حتى الآن وقد غربت الشمس، قال جابر: " فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس " أي فصلى العصر وصليتها معه جماعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 247 - " بَابُ مَنْ نسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إذَا ذَكَرَهَا وَلَا يُعيدُ إلَّا تِلْك الصَّلاةِ " 293 - عن أنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) ".   بعد الغروب. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الجماعة للصلاة الفائتة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم العصر جماعة بعد الغروب، قال العيني: وهذا بالإِجماع، وشذ الليث، فمنع من ذلك. ثانياً: مشروعية الترتيب بين الصلاة الفائتة والحاضرة، فتقدم الفائتة لأنّه - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر ثم المغرب، وهو مذهب الجمهور، وقال الشافعي لا يجب الترتيب بينهما، وبه قال ابن القاسم وسحنون والظاهرية، واختلفوا هل يسقط الترتيب بضيق الوقت فقال مالك: لا يسقط. وتقدم الفائتة ولو ضاق الوقت. وقال الحنفية وأهل الحديث: لا يجب الترتيب عند ضيق الوقت، وأما الترتيب بين الفوائت فالأكثرون على وجوبه مع الذكر. والمطابقة: في قوله: " فصلى العصر بعد ما غربت الشمس " أي صلى بنا العصر جماعة. 247 - " باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها " 293 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها " أي من أخر صلاة من الصلوات الخمس عن وقتها لعذر شرعي كالنسيان أو النوم أو نحوهما فليصلها عند زوال العذر فوراً، فإن فعل ذلك عفا الله عنه، وإلّا فإنه يأثم، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا كفارة لها إلّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 ذلك" أي ولا يسلم من الإِثم إلاّ إذا صلاها عند انقطاع العذر مباشرة، وقال الخطابي: معنى " ولا كفارة لها إلاّ ذلك " أنه لا يلزمه في نسيانه غرامة ولا صدقة ولا زيادة تضعيف لها (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) أي ودليل ذلك قوله سبحانه (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (1). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجب قضاء الصلاة الفائتة لعذر شرعي من نوم أو نسيان أو نحوهما عند زوال العذر مباشرة، ولو في وقت نهي، فمن استيقظ عند شروق الشمس وجب عليه قضاء صلاة الصبح في حينه ولا يؤخرها إلى ما بعد طلوعها، ولو كان الوقت وقت كراهة لأن الفريضة تصلى مطلقاً، ولو في وقت النهي، وهو مذهب الجمهور وقال أبو حنيفة: لا يقضيها حتى تطلع الشمس أو تغرب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروها حتى تغيب " أخرجه البخاري، فقد حمله أبو حنيفة على عموم الصلاة فرضاً أو نفلاً، وخصّصه الجمهور بصلاة النافلة. ثانياًً: قال العيني حكي عن داود وجمع يسير من الصحابة عدم وجوب قضاء الصلاة على العامد لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط، فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي، وأجيب بأن القيد بالنسيان خرج مخرج الغالب، وأنه يجب قضاء الفائتة مطلقاً عمداً أو سهواً، وهو مذهب الجمهور. ...   (1) فإن معناه أقم الصلاة عند تذكرها وزوال العذر المانع منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 248 - " بَابُ السَّمَرِ في الفِقْهِ والخيْر بَعْدَ الْعِشَاءِ " 294 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِشَاءِ في آخِرِ حَيَاتِهِ فلمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: " أرأيتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأسَ مِائَةِ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ " فَوَهَل النَّاسُ في مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى مَا يَتَحَدَّثُونَ من هذِهِْ الأحَادِيثِ عن مِائَةِ سَنَةٍ، وإنمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمُ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ " يُريدُ بِذَلِكَ أسَنها تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ.   248 - " باب السمر في الفقه والخيْر بعد العشاء " أي هذا باب في بيان جواز السهر والحديث بعد العشاء في العلم والفقه. 294 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يخطب الناس ويعظهم ويعلمهم بعد صلاة العشاء " فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ " وهذا استفهام جار على غير حقيقته، ومعناه: قد رأيتم هذه الليلة فاحفظوها واضبطوا تاريخها، فإنه لا تمضي مائة سنة إلا ويموت هذا الجيل من الناس، ولا يبقى ممن هو موجود الآن على ظهر الأرض من الناس أحد، ولكن السامعين لم يفهموا هذا المعنى، وشت كل واحد منهم في وادٍ بعيداً عن المعنى المراد، وهو معنى قوله: " فوهل الناس " بفتح الهاء وكسرها " في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فغلط الصحابة في تفسير كلامه هذا وأخطأوا في فهم معناه، وفهموا منه فناء العالم وقيام الساعة، وانقراض البشرية، وأصاب ابن عمر ووفق لفهم المعنى المراد، وعرف أنه " إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن" (1) أي أن ذلك الجيل من الصحابة سينقرض وينتهي فلا يبقى أحدٌ منهم بعد مرور مائة سنة من تاريخه، وقد تحقق ذلك، فإن آخر الصحابة وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة توفي سنة عشر ومائة هجرية (2). الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية السمر في العلم. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - سامرهم بالعلم بعد العشاء. ...   (1) أي ذلك القرن الذي أنا فيه، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم. (2) وبوفاته انتهى جيل الصحابة رضوان الله عنهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الأذان الأذان لغة: الإِعلام بالشيء مطلقاً بواسطة نداء يصل إلى مسامع الناس، وأصله النداء المسموع بالأذن، من قولهم: آذنته، أي أوصلته إلى أذنه، كما في " تفسير الألوسي ". وأما الأذان شرعاً: فهو الإعلام بدخول وقت الصلاة بالألفاظ المعروفة. وشرع الأذان في السنة الأولى من الهجرة. وأما كيفية بدء الأذان فستأتي في الحديث القادم. وحكمه: أنه سنة مؤكدة عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وفرض كفاية عند أحمد، إلاّ أذان الجمعة فإنه فرض اتفاقاً. ويشترط في المؤذن: الإِسلام والذكورة والعقل. قال ابن قدامة: ولا نعلم في ذلك خلافاً، وهل يشترط البلوغ للاعتداد به، روايتان عن أحمد، الثانية منهما أنه لا يشترط به، وهو قول عطاء والشعبي والشافعي لقول عبد الله بن أبي بكر بن أنس: كان عمومتي يأمرونني أن أؤذن لهم وأنا غلام لم أحتلم، وأنس بن مالك شاهد لم ينكر عليهم، واختلفَ في ذلك المالكية. ويستحب فيه أن يكون صيّتاً بصيراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 249 - " بَابُ بَدءِ الْأذَانَ " 295 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُون، فَيَتَحَينونَ الصَّلَاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمَاً في ذَلِكَ فَقالَ بَعضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوساً مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهم: بَلْ بُوقَاً مِثلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَا بِلالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاةِ ".   249 - " باب بدء الأذان " 295 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان المسلمون حين قدموا المدينة " أي في السنة الأولى من الهجرة " يجتمعون فيتحينون الصلاة " أي فيتحرون أوقات الصلاة باجتهادهم، أو يجتمعون قبل الوقت فينتظرون حتى إذا دخل صلّوا " ليس ينادى لها " أي ولم يكن لها نداء خاص لإشعار الناس بدخول وقتها " فتكلموا يوماً في ذلك " أي فتحدث الناس يوماً عن حاجتهم إلى وسيلة إعلامية يعرفون بها دخول الوقت، وتبادلوا الرأى " فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى " وهو آلة يضربون عليها لِإعلام الناس بأوقات صلاتهم ولا زال حتى الآن يستعمل في كنائسهم. " وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود " بسكون الراء وهو آلة معروفة أو بوق ينفخ فيه فيحدث صوتاً عالياً يُسْمَعُ من بعيد، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره هذا وهذا، لأنهما من شعارات اليهود والنصارى " فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة " أي فألهم الله عمر هذه الوسيلة الجديدة فقال: ترسلون رجلاً ينادي في الناس فيعلمهم بدخول الوقت بأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 250 - " بابُ الأَذَانِ مَثْنَى مَثْنَى " 296 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أمِرَ بِلَالٌ أنْ يُشْفَعَ الْأَذَانَ، وأنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ إِلَّا الإِقَامَةَ.   لفظ كان، فاستحسن النبي ذلك، وأمر بلالاً به. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان كيفية بدء الأذان. ثانياً: التحذير من تقليد الكفار في شعاراتهم الدينية. والمطابقة: في قوله: " قم فناد بالصلاة ". 250 - " باب الأذان مثنى مثنى " 296 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أمر بلال أن يشفع الأذان " أي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنه بلالاً أن يأتي بألفاظ الأذان شفعاً، فيكرر كل جملة مرتين، " وأن يوتر الإِقامة " أي وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بألفاظ الإقامة وتراً، فينطق بالجملة الواحدة مرة واحدة فقط " إلاّ الإقامة " أي ما عدا لفظ " قد قامت الصلاة " فإنه أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي به مرتين، وكذلك التكبير في أول الإِقامة وآخرها، فإنه يؤتى به مرتين. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " أمر بلال أن يشفع الأذان ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب شفع الأذان والإِتيان بألفاظه مرتين مرتين، ما عدا كلمة التوحيد في آخره، فإنها وتر يؤتى بها مرةً واحدةً، وبهذا أخذ مالك رحمه الله تعالى إلاّ أنه قال بترجيع الشهادتين استناداً إلى الأحاديث الصحيحة الواردة في الترجيع. وذهب أحمد وأبو حنيفة إلى تربيع التكبير في أول الأذان، وشفع بقية ألفاظه، وذهب الشافعي إلى تربيع التكبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 251 - " بَابُ فضلَ التَّأذِينَ " 297 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا نُودَيَ للصَّلَاةِ أدْبَرَ الشيطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أقْبَلَ، حَتَّى إذَا ثُوِّبَ بالصلَاةِ أدْبَرَ، حَتَّى إذا قُضِيَ التَثْوِيبُ أقبَلَ، حتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ، يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِى كَمْ صُلى ".   في أول الأذان، وشفع بقية ألفاظه، وترجيع الشهادتين. ثانياً: دل هذا الحديث على إفراد الإقامة عدا التكبير، ولفظ " قد قامت الصلاة " فإنّه يشفع، وهو مذهب الجمهور، وذهب مالك إلى إفرادها كلها بما فيها لفظ الإقامة، لما في الرواية الأخرى عن أنس قال: " فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة " هكذا أخرجه البخاري دون استثناء وذهب أبو حنيفة إلى شفع الإقامة كلها، والله أعلم. 251 - " باب فضل التأذين " 297 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نودي للصلاة " أي إذا أذن المؤذن لإحدى الصلوات الخمس " أدبر الشيطان " أي هرب الشيطان وأعطى المؤذن ظهره، لأنّه لا يطيق سماع الأذان، " وله ضراط " الواو واو الحال، أي حال كونه له ضراط، وإنما يفعل ذلك من شدة ثقل الأذان (1) عليه، كما يقع للحمار الهزيل عندما يحمل حملاً ثقيلاً، وقيل: يفعل ذك متعمداً لئلا يسمع الأذان، كما يدل عليه قول الراوي: "حتى لا يسمع   (1) تسترخي مفاصله وينفتح مخرجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 252 - " بَابُ رَفْعَ الصَّوْتِ بالنِّدَاءِ " 298 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي صَعْصَعَة الأنصاري الْمَازِنِي: أن أبا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَهُ: إِنِّى أراكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ والْبَادِيَةَ فإذا   التأذين" أي ليريح نفسه من سماع الأذان، حتى أنه يبعد مثل الروحاء عن المدينة " فإذا قضى النداء أقبل " أي فإذا انتهى الأذان عاد مرة أخرى " حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر " أي حتى إذا أقام المؤذن الصلاة هرب ثانياً " حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه " أي حتى إذا فرغ من الإقامة رجع إلى المصلي ليشغلَ قلبه بالوسوسة ويحول بينه وبين الخشوع في الصلاة. الحديث: أخرجه أخرجه الخمسة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان ". ويستفاد منه: فضل الأذان وصيانته للإنسان، وقوة تأثيره في محاربة الشيطان، ودفع أذى التمردين من الجان، كما جاء في حديث سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا، فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي فقال: إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الشيطان إذ نودي بالصلاة ولّى وله حصاص " أخرجه مسلم. 252 - " باب رفع الصوت بالنداء " 298 - معنى الحديث: أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه أوصى عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن يرفع صوته بالأذان إذا أذن في البادية، فقال له: " إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 كنت في غَنَمِكَ، أوْ بَاديَتكَ فأذَّنت بالصَّلَاةِ فارْفَعْ صَوتَكَ بالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ ولا أنسٌ ولا شَيءٌ إلَّا شهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أبو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -. 253 - " بَابُ مَا يَقُولُ إذا سَمِعَ الْمُنَادِي " 299 - عَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ   باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء" أي فأذن بصوت جهوري عال مرتفع، ثم علل له ذلك بقوله: " فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن " أي لا ينتهى صوت المؤذن لأي شيء من الموجودات، سواء كان من الكائنات الحيّة كالجن والأنس والبهائم والنبات أو الجمادات " إلا شهد له " بالأذان " يوم القيامة " وهو مصداق قوله سبحانه: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا). فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب رفع الصوت بالأذان، وأن يكون المؤذن جهوري الصوت ليصل صوته إلى أقصى مكان، فيكثر من يشهد له يوم القيامة، ولو أذن في مكان عال كان أفضل، ومن ثم اتخذت المآذن في الإِسلام، وكان بلال يؤذن على بيت امرأة من بني النجار، أعلى بيوت المدينة المحيطة بالمسجد والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فارفع صوتك بالنداء ". والحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أبي سعيد: " سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". 253 - " باب ما يقول إذا سمع المنادي " 299 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا سمعتم النداء " أي إذا سمعتم صوت المؤذن أثناء الأذان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 الْمُؤَذِّنُ".   سواء سمعتم الكلمات أو لم تسمعوها. " فقولوا مثل ما يقول المؤذن " أي فأجيبوه بحكاية ألفاظ الأذان، فإن سمعتم الكلمات فعليكم محاكاته لفظاً لفظاً ومتابعته كلمة كلمة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله قلتم بعده: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وهكذا في بقية الجمل، وإن لم تسمعوا كلماته أتيتم بالأذان كله جملة واحدة. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه: أنه يسن لمن سمع الأذان إجابة المؤذن ومحاكاته لفظاً لفظاً وجملة جملة إلى آخر الأذان حتى في الحيعلتين، وهو قول بعض أهل العلم: لعموم هذا الحديث حيث قال: " فقولوا مثل ما يقول "، وقد اختلف في ذلك العلماء، كما قال العيني: فقال النخعي والشافعي وأحمد في رواية، ومالك في رواية: ينبغي لمن سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه، وهو مذهب أهل الظاهر (1) أيضاً، وقال الثورى وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الأصح، ومالك في رواية: يقول سامع الأذان مثل ما يقول المؤذن إلاّ في الحيعلتين، فإنه يقول فيهما لا حول ولا قوة إلاّ بالله، لما جاء في حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلاّ الله، فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله فقال: أشهد أن محمداً رسول الله ثم قال: حيَّ على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، ثم قال: حي على الفلاح، فقال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله ثم قال: الله أكبر الله أكبر فقال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلاّ الله، قال: لا إله إلاّ الله من قلبه دخل الجنة " أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. وأما عند قوله: " الصلاة خير من النوم " فلم   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 254 - " بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ " 300 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ سَمِعَ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِةِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلَاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً لوَسِيلَةَ والْفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مقاماً مَحْمُوداً الذي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ ".   يرد في الإِجابة عليه حديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ عموم قوله " فقولوا مثل ما يقول المؤذن " ولهذا قال في " المنهل العذب ": والظاهر أنه يحاكيه فيها، وقال القاري يقول: صدقت وبررت وبالحق نطقت. والمطابقة: في قوله: " فقولوا مثل ما يقول المؤذن ". 254 - " باب الدعاء عند النداء " 300 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قال حين يسمع النداء " أي من قال هذه الصيغة المأثورة من الدعاء عند فراغ المؤذن من الأذان وانتهائه منه وهي: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته وجبت له شفاعتي " أي ثبتت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستحقها بدعائه هذا، وأدركته يوم القيامة. و" الوسيلة " منزلة في أعلى الجنة، والمراد " بالدعوة التامة " الأذان، سمى دعوة لما فيه من دعوة الناس إلى الصلاة، ووصف بالتمام لاشتماله على عقائد الإِيمان من التوحيد والتصديق بالرسالة المحمدية و" الصلاة القائمة " هى الصلاة الحاضرة التي يؤذن لها و" الفضيلة ": هي منزلة عليا يمتاز بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الخلق و" المقام المحمود " مقام الشفاعة. ويستفاد من الحديث: أنه يستحب لمن جمع الأذان أن يدعو بهذه الصيغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 255 - " بَابُ الاسْتِهَامَ في الأذَانَ " 351 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما فِي النِّدَاءِ والصَّفِّ الأولِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أن يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، ولو يَعْلَمُونَ   المأثورة لكى يَسْعد بشفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فقد بشر النبي من قالها بشفاعته حيث قال: " حلَّت له شفاعتي ". الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة. تنبيهات: الأول: من الأذكار المأثورة عند نهاية الأذان ما رواه سعد ابن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه ". الثاني: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثم صلّوا علي، فإنه من صلّى علي مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً ". الثالث: أنه يستحب الدعاء عند الأذان، فإنه مستجاب، لما رواه أبو يعلى في " مسنده " مرفوعاً: " إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء، واستجيب الدعاء ". والمطابقة: ظاهرة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرنا بأن من قال هذا الدعاء حلت له الشفاعة. 255 - " باب الاستهام في الآذان " 301 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول " أي لو اطلع الناس على ما أعده الله للمؤذنين وأهل الصف الأول من الأجر العظيم " ثم لم يجدوا " وسيلة للوصول " إلا أن يستهموا عليه " أي أن يقترعوا على الأذان والصف الأول " لاستهموا " أي لحاولوا الوصول إلى ذلك ولو بالقرعة، لما يرون فيهما من الثواب الكبير والأجر الجزيل. " ولو يعلمون ما في التهجير " أي ما في المبادرة إلى الصلاة في أول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 ما فِي التَهْجِير لاستَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصبُّحِ لأتَوْهُمَا، ولَوْ حَبْواً". 256 - " بَابُ أذَانِ الأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخبِرُهُ " 302 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ بِلَالاً يُؤَدِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى   وقتها " لاستبقوا إليه " أي لحرصوا على ذلك أشد الحرص. " ولو يعلمون ما في العتمة والصبح " أي ما في صلاة العشاء والصبح مع الجماعة " لأتوهما ولو حبواً " أي ولو في أشد حالات الضعف الذي يضطرهم إلى الإِتيان إليها حبواً على اليدين والرجلين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان فضل الأذان وثوابه، لأن الناس لا يقترعون إلا على أنفس الأشياء وأعظمها قدراً، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: فضل الصف الأول، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا في هذا الحديث أن الناس لو علموا قدر الصلاة في الصف الأول لتنافسوا عليه، حتى لا يصل إليه أحدهم إلّا بالقرعة. ثالثاً: فضل المبادرة إلى الصلاة في وقتها وأنه من الأمور التي ينبغي الحرص عليها. رابعاً: أنه ينبغي الحرص على حضور العشاء والصبح مع الجماعة ولو في أسوأ الأحوال. والمطابقة: في قوله: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه - لاستهموا عليه ". 256 - " باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره " 302 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أمِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ"، وَكَانَ رَجُلاً أعْمى، لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ: أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ.   مكتوم" أي إنّ بلالاً يؤذن في آخر الليل قبل طلوع الفجر، فلا تنقطعوا عن طعامكم وشرابكم، ولا تبدءوا صيامكم حتى يؤذن ابن أمّ مكتوم، لأنه هو الذي يؤذن بعد طلوع الفجر " وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال: أصبحت أصبحت " أي لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يتحقق طلوع الفجر وينادي عليه الناس دخلت في الصباح، أو طلع الصباح. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " حتى ينادي ابن أم مكتوم " وقد كان رجلاً أعمى. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز أذان الأعمى إذا وجد من يخبره، بدخول الوقت، لأن ابن (1) أم مكتوم كان يؤذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعمى. ثانياًً: مشروعية الأذان الأول في آخر الليل لِإيقاظ النائمين لتناول سحورهم، وتنبيه القائمين إلى اقتراب طلوع الفجر ليأخذوا حظهم من الراحة استعداداً لصلاة الصبح، كما كان بلال يؤذن في آخر الليل فإنه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يؤذن بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم " أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ...   (1) أي لأن ابن مكتوم مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعمى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 257 - " بَابُ الأذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ " 353 - عَنْ حَفْصَةَ (1) رضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذنُ للصُّبْحُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أن تُقَامَ الصَّلَاةُ ".   257 - " باب الأذان بعد الفجر " 303 - معنى الحديث: تحدثنا حفصة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اعتكف (2) المؤذن وبدا الصبح (3) صلى ركعتين خفيفتين " أي كان إذا طلع الفجر وظهر نور الصباح أذن المؤذن لصلاة الصبح أذاناً آخر غير الأذان الذي في آخر الليل فإذا سكت المؤذن وجلس وانتهى من أذانه بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأداء سنة الفجر فصلى ركعتين خفيفتين قبل القيام لصلاة الصبح. ما يستفاد من الحديث: يستفاد منه مشروعية الأذان بعد طلوع الفجر للاعلام بدخول وقت صلاة الصبح، ولا يكفي الأذان الأول الذي في آخر الليل عن الأذان الثاني الذي بعد طلوع الفجر، لأن مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤذن -لصلاة الفجر- إذا بدا الصبح، وقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان يؤذن أحدهما وهو بلال الأذان الأول في آخر الليل، ويؤذن ثانيهما وهو ابن أم   (1) حفصة: هي أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية القرشية، كانت تحت خنيس بن حذافة بن قيس، هاجرت معه ومات عنها بعد غزوة بدر، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة ثلاث، طلقها تطليقة واحدة ثم راجعها، نزل عليه الوحي يقول: ارجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة. ماتت في شعبان سنة خمس وأربعين وقيل: إنها ماتت في خلافة عثمان " تراجم جامع الأصول ". (2) اعتكف المؤذن: أي سكت من أذانه وجلس منه. (3) بدا الصبح: ظهر نوره، وذلك عند طلوع الفجر الصادق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 258 - " بَابٌ كَمْ بَيْنَ الأذَانِ والإِقَامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِر إِقَامَةِ الصَّلَاةِ " 304 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّل رَضِيَ المَزنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صَلَاةٌ " ثلاثاً، لِمَنْ شَاءَ.   مكتوم الأذان الثاني عند طلوع الفجر. والمطابقة: في قولها: " كان إذا اعتكف المؤذن للصبح وبدا الصبح ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. 258 - " باب كم بين الأذان والإِقامة " 304 - ترجمة راوي الحديث: هو عبد الله بن مغفل المزني من أصحاب بيعة الرضوان، وأحد البكائين في غزوة تبوك، روى ثلاثة وأربعين حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بآخر، سكن المدينة، ثم تحول منها إلى البصرة، ومات بها سنة تسع وخمسين من الهجرة. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " بين كل أذانين صلاة " والمراد بالأذانين الأذان والإقامة من باب التغليب، أي بين كل أذان وإقامة صلاة مسنونة " ثلاثاً " أَي أعاد هذه الجملة ثلاث مرات، وفي رواية مسلم قال في الرابعة " لمن شاء ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. ويستفاد منه: أنه يستحب الفصل بين الأذان والإِقامة بما يتسع من الوقت لصلاة ركعتين، ليتمكن الناس من حضور الجماعة، وهو مذهب الجمهور، إلّا أنهم اختلفوا في المغرب فقال أبو حنيفة: يفصل بين أذان المغرب والصلاة بمقدار ثلاث خطوات فقط، وقال أبو يوسف: بمقدار الجلسة بين الخطبتين. وقال الشافعي: بمقدار جلسة أو سكتة، كما ذكره النووي. وقال أحمد: بمقدار ركعتين مثل غيرها كما أفاده العيني. والمطابقة: في قوله: " بين كل أذانين صلاة " لأن ذلك لا يتحقق إلاّ إذا تحقق الوقت الكافي له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 259 - " بَاب بَيْنَ كُلِّ أذَانيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ " 305 - عن عبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " بَيْن كُلِّ أذَانَيْنِ صَلَاة، بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صَلَاة، ثُمَّ قَالَ في الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ ". 260 - " بَابُ مَنْ قَالَ: لِيُؤَذِّنَ في السَّفَرِ مُؤَذِّن وَاحِدٌ " 306 - عن مَالِكٍ بنِ الْحُوَيْرِثْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   259 - " باب بين كل أذانين صلاة " 305 - معنى الحديث: تقدم بيانه وشرحه. ويستفاد منه: أنه تسن النافلة بين كل أذان وإقامة بما في ذلك المغرب، فتسن النافلة قبل صلاة المغرب لحديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلوا قبل المغرب " وقال في الثالثة: " لمن شاء " أخرجه البخاري، وهو مذهب أحمد وأهل الحديث، وذهب آخرون إلى عدم مشروعيتها، وهو مشهور مذهب المالكية والحنفية وقول الشافعي ونقل عن الخلفاء الراشدين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: لفظية. 260 - " باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد " 306 - ترجمة الراوي: هو مالك بن الحويرث الليثي، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقام عنده أياماً ثم أذِن له بالعودة إلى أهله. روى خمسة وعشرين حديثاً اتفق الشيخان على اثنين توفي سنة (74) هـ. معنى الحديث: يقول مالك بن الحويرث رضي الله عنه: "أتيت النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 أتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نَفَرٍ مِنْ قَومِي فأقَمْتُ عِنْدَهُ عِشْرينَ لَيْلَةً، وكَانَ رَحيماً رفِيقاً، فلمَّا رأى شَوْقَنَا إلَى أهَالِينَا قَالَ: " ارْجِعُوا فكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا، فإِذَا حضَرَتِ الصلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أكْبَرُكُمْ ".   - صلى الله عليه وسلم - في نفر" أي جماعة بين الثلاثة والعشرة " من قومي " وهم بنو الليث ابن بكر، وكان قدومهم في السنة التاسعة " فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً " أي لين الجانب لطيف المعاملة " فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم وصلوا فإذا حضرت الصلاة، فيؤذن لكم أحدكم " يعني أي واحد منكم صغيراً كان أو كبيراً ما دامت تتوفر فيه شروط الأذان " وليؤمكم أكبرم " سناً ولم يذكر الفقه والعلم، لما في رواية أبي داود " وكنا يومئذ متقاربين في العلم ". الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الأذان في السفر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالأذان مطلقاً في الحضر أو السفر، فدل ذلك على استحباب الأذان في السفر، وهو قول أكثر أهل العلم، سواء كانوا جماعة أو كان شخصاً واحداً، وعلى كل من كان في فلاة سواء كان في سفر أو غيره، وسواء كان فرداً أو جماعة. ثانياً: الاكتفاء بمؤذن واحد. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليؤذن لكم أحدكم ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 261 - "بَابُ الأذَانِ لِلْمُسَافُرِين إِذَا كَانوا جَمَاعَةً وَالإِقَامَةِ وكَذَلِك بعرفة وجمع، وقول المؤذن: الصَّلاةُ في الرَّحَالِ في اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوِ المَطِيرَةِ " 307 - وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتَى رَجُلَانِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أنتُما خَرَجْتُمَا فأذِّنَا، ثُمَّ أقِيمَا، ثُمَّ ليَؤُمُكما أكْبَرُكُمَا".   261 - " باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإِقامة وكذلك بعرفة وجمع، وقول المؤذن: الصَّلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة " 307 - معنى الحديث: يقول مالك بن الحويرث رضي الله عنه: " أَتى رجلان النبي - صلى الله عليه وسلم - " وهما مالك بن الحويرث نفسه وابن عمه " يريدان السفر " إلى ديارهما " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أنتما خرجتما فأذنا، ثم أقيما " أي إذا غادرتما المدينة فحافظا على الأذان والإقامة لكل صلاة، سواء كنتما في أثناء السفر أو كنتما في دياركما " ثم ليؤمكما أكبركما " سناً كما تقدم. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " إذا أنتما خرجتما فأذنا ". ويستفاد منه: مشروعية الأذان والإقامة في السفر للجماعة كمشروعيتهما في الحضر لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مالكاً وابن عمه بالأذان والإِقامة عْند عزمهما على السفر، وهذا يدل على مشروعيتهما في السفر للجماعة، وهو قول الجمهور، وعليه ترجم البخاري. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 308 - عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأمُرُ مُؤَذِّنَاً يؤذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ علَى إثْرِهِ: ألا صَلوا في الرِّحَالِ، في اللّيْلَةِ البَارِدَةِ أوِ الْمَطِيرَةِ في السَّفَرِ. 262 - " بَابٌ هَلْ يُتْبِعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأذَانِ "   308 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مؤذناً يؤذن للصلاة " ثم يقول على إثره " بكسر الهمزة وسكون الثاء، أى ثم يقول المؤذن بعد الفراغ من أذانه: " ألا صلوا في الرحال " أي في خيامكم ومنازلكم " في الليلة الباردة أو المطيرة " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مؤذنه أن يقول بعد فراغه من الأذان في الليلة الباردة أو الممطرة: صلوا في الرحال. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " ثم يقول على إثره: ألا صلوا في الرحال ". ويستفاد من الحديث ما يأتي: أولاً: أن من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة، والجماعة البرد الشديد والمطر الغزير، وقد نقل ابن بطال الإجماع على ذلك، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأذن للناس أن يصلوا في رحالهم في الليالي الباردة أو الممطرة، كما في هذا الحديث. ثانياً: مشروعية أن يقول المؤذن بعد الأذان في الليلة الباردة أو الممطرة: " ألا صلوا في الرحال "، وهو مذهب أحمد، وكرهه الجمهور. 262 - " باب هل يتبع المؤذن فاه ها هنا وها هنا " أي هذا باب يذكر فيه هل يُشْرَع للمؤذن " أن يُتبع " بضم الياء وسكون التاء أي أن يوجه فمه ها هنا وها هنا. أي أن يوجه فمه يميناً عند قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 309 - عَنْ أبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ رَأى بِلَالاً يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ اتُتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بالْأذَانَ. 263 - " بَابُ قَوْلِ الرَّجُل فَاتتْنَا الصَّلَاةُ " 310 - عَنْ أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ الرِّجَالِ فَلمَّا صَلَّى   " حي على الصلاة " وشمالاً عند قوله: " حيَّ على الفلاح ". 309 - معنى الحديث: يحدثنا أبو جحيفة رضي الله عنه: " أنه رأى بلالاً يؤذن فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا بالأذان " أي أنه رأى بلالاً في أثناء أذانه، ولا حظ حركات وجهه، فوجده يوجه فمه يميناً عند قوله: " حيَّ على الصلاة " وشمالاً عند قوله: " حيَّ على الفلاح " كما جاء موضحاً في رواية سفيان حيث قال: " فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح " (1) أخرجه مسلم. ويستفاد منه: استحباب الالتفات في الأذان عند الحيعلتين بأن يتوجه المؤذن بفمه يميناً عند قوله: " حي على الصلاة " وشمالاً عند قوله: " حي على الفلاح " من غير تحويل صدره أو قدميه عن القبلة، وفائدته تعميم الناس (2) بالإِسماع. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " أتتبع فاه ها هنا وها هنا بالأذان ". 263 - " باب قول الرجل فاتتنا الصلاة " 310 - معنى الحديث: يقول أبو قتادة رضي الله عنه "بينما نحن   (1) " شرح العيني " ج 5. (2) " شرح القسطلاني " ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قَالَ: " مَا شَأنُكُمْ؟ " قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إلى الصَّلَاةَ، قَالَ: فلا تَفْعَلُوا إِذَا أتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ، فمَا أدْرَكْتُمْ فَصَلوا، وَما فَاتَكُمْ فَأتِمُّوا ".   نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -" صلاة الجماعة " إذ سمع جلبة الرجال " أي سمع أصواتاً عالية، وهي أصوات أقدام الناس، وهم يسرعون إلى الصلاة " فلما صلّى قال: ما شأنكم؟ " يعني مما سبب هذه الضجة التي سمعتها في أثناء الصلاة " قالوا: استعجلنا " أي أسرعنا في مشينا إلى الصلاة " قال: فلا تفعلوا " أي لا تسرعوا في أثناء سيركم إلى الصلاة " إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة " أي إذا جئتم إلى الصلاة فحافظوا على الهدوء في أثناء مشيكم إليها، وسيروا سيراً عادياً " فما أدركتم فصلوا " الفاء واقعة في جواب الشرط كما قال الحافظ: أي إذا فعلتم ما أمرتكم به، فما حصلتم عليه من الركعات فصلوا مع الإِمام، وتابعوه متابعة كاملة. " وما فاتكم فأتموا " أي وما فاتكم من الصلاة مع الإِمام، فأتموه بعد السلام. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن المسبوق -وهو الذي فاتته مع الإمام بعض الصلاة- يجب عليه أن يتم ما فاته بعد سلام الإمام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما فاتكم فأتموا ". واختلفوا كيف يتم صلاته، هل يتمها بناءً فيجعل ما أدرَكه أول صلاته، أو يتمها قضاءً، فيجعل ما أدركه آخر صلاته فقال الشافعي وأحمد في رواية يتم ما فاته بناءً ويبني في الأقوال والأفعال معاً، فيجعل ما أْدركه أوّل صلاته، وما فاته آخر صلاته. لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي رضي الله عنه: " ما أدركت فهو أوّل صلاتك " أخرجه البيهقي، فإذا أدرك ركعة من الظهر مع الإمام، فإنه يقوم بعد السلام فيأتي بركعة واحدة بالفاتحة والسورة ويجلس للتشهد الأول، ثم يقوم فيأتي بالركعتين الباقيتين بالفاتحة فقط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 264 - " بَابُ مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إذا رَأوُا الإِمَامَ عِنْدَ الإِقَامَةِ " 311 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذا أقِيمَتِ الصَّلَاةُ فلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي ".   ويتشهد ويسلم. وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية: يقضى في الأقوال والأفعال معاً فيجعل ما أدركه مع الإِمام آخر صلاته، وما فاته أول صلاته واستدلوا على ذلك بحديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " وما فاتكم فاقضوا " أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح، والبيهقي عن معاذ بن جبل. فمن أدرك ركعة من الظهر فإنّه - كما قال أبو حنيفة وأحمد: يأتي بركعتين بالفاتحة والسورة، يجلس بعدهما للتشهد الأوّل، ثم يقوم فيأتي بالركعة الأخيرة بالفاتحة فقط، ويتشهد ويسلم. أما مالك فإنه حاول الجمع بين الأحاديث المختلفة ليعمل بها جميعاً، فقال: المسبوق يبني في الأفعال من تشهد وجلوس وسط ونحوه، ويقضي في الأقوال من قراءة الفاتحة. والسورة ونحوها، فمن أدرك ركعة من الظهر فإنه يقوم بعد السلام فيأتي بركعة بالسورة والفاتحة، يجلس بعدها للتشهد، ثم يقوم فيأتي بركعة أخرى بالفاتحة والسورة أيضاً، ثم يأتي بالركعة الأخيرة بالفاتحة فقط ويتشهد ويسلم، واستدل على ذلك بحديث علي رضي الله عنه قال: " ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك واقض ما سبقك من القرآن " أخرجه البيهقي. ثانياً: أنه يجوز للرجل أن يقول فاتتنا الصلاة: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما فاتكم فأتموا ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما فاتكم فأتموا ". 264 - " باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإِمام عند الإقامة " 311 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " مقبلاً إلى الصلاة، أي حتى يراني من تتيسر له رؤيتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 265 - " بَابٌ الإِمَامُ تعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ قَبلَ الإِقَامَةِ " 312 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " أًقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُنَاجِي رَجُلاً في جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَمَا قَامَ إلى الصَّلَاةِ حتى نَامَ الْقَومُ ".   منكم، لأن رؤية الجميع له متعذرة سيما بعد اتساع المساجد. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فلا تقوموا حتى تروني ". ويستفاد منه: استحباب القيام إلى الصلاة عند رؤية بعض المصلين إقبال الإمام إليها، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الشافعي وأبو يوسف إلى أنه يستحب القيام لها عند الفراغ من الإقامة، وهو مذهب مالك، وقال أحمد: " إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة " وقال أبو حنيفة ومحمد: " إذا قال حي على الصلاة ". 265 - " باب الإِمام تعرض (1) له الحاجة بعد الإِقامة " 312 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً في المسجد "، أي أقيمت حال كون النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغولاً بالحديث مع رجل في المسجد عرض له في طريقه " فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم "، أي فلم يشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة حتى ناموا، وفي الحديث عن حميد الطويل قال: سألت ثابتاً البُناني -بضم الباء- عن الرجل يتكلم بعدما تقام الصلاة: فقال: " أقيمت الصلاة، فعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فحبسه بعدما أقيمت الصلاة " أخرجه أبو داود.   (1) بكسر الراء، أي تظهر له الحاجة، كما أفاده القسطلاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 " أبواب صلاة الجماعة والإمامة " 266 - " بَابُ وُجوُبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ " 313 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدَ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ بِحَطَب فَيُحْطَبَ، ثم آمُرَ بالصَّلَاةِ فيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلى رِجَال فَأحَرقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، والذي نَفْسِي بِيَدِهِ،   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنّه يجوز للإِمام أن ينشغل بحاجة تعرض له بعد إقامة الصلاة، فيؤخر الشروع فيها، كما يجوز له الكلام بعد الإِقامة، وكرهه الحنفية. وقال مالك: يستحسن إعادة الإقامة إذا. بعدت. ثانياً: أنّ النوم الخفيف لا يبطل الصلاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " أقيمت الصلاة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يناجي رجلاً " 266 - " باب وجوب صلاة الجماعة " 313 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها "، أي يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله عز وجل الذي روحه بيده يتصرف فيها كيف يشاء، أنه عزم على أن يأمر أصحابه بجمع الحطب وتكسيره، وإشعال النار فيه " ثم آمر رجلاً فيؤم الناس " أي ثم يأمر بلالاً بإقامة صلاة العشاء أو الصبح، قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم أخالف إلى رجال فأحرِّق عليهم بيوتهمْ "، أي ثم أعاقب رجالاً من المنافقين يشهدون الظهر والعصر مع الجماعة رياءً ويتخلفون عن العشاء والصبح مع الجماعة، حيث لا يراهم الناس بسبب ظلمة الليل، فأحرِّق عليهم بيوتهم عقوبةً لهم على نفاقهم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل مَا هَمَّ بِه رحمةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 لَوْ يَعْلَمُ أحَدُهُمْ أنه يَجِدُ عَرْقَاً سَمِيناً أو مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ".   بالنساء والأطفال الموجودين في البيوت، كما جاء في رواية أخرى أنه قال: " ولولا ما في البيوت من النساء والذريّة لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون " أخرجه أحمد، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً " بفتح العين وسكون الراء " سميناً "، أي لو يعلم أحد هؤلاء أنه يجد في المسجد عظماً عليه شيء من اللحم والشحم ولو يسيراً " أو مرماتين حسنتين "، يعني أو سهمين جيدين " لشهد العشاء " أي لحضر صلاة العشاء لأنّه لا يهمه إلاّ العرض الدنيوي ولو كان يسيراً. ويستفاد منه: تأكيد الأمر بصلاة الجماعة، واستدل به البخاري وبعض أهل العلم على وجوبها. واختلف الفقهاء في حكمها على أربعة أقوال: الأول: أنها شرط في صحة الصلاة، وأن صلاة المنفرد باطلة، وهو مذهب داود الظاهري ويشترط فيها المسجد، لحديث: " لا صلاة لجار المسجد، إلاّ في المسجد ". الثاني: أنها فرض عين، فتصح صلاة المنفرد مع الإِثم، ولا يشترط فيها المسجد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً " فأيما رجل أدركته الصلاة صلَّى حيث كان " متفق عليه، وأما حديث: " لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد " فهو من قول على رضي الله عنه كما أفاده ابن قدامة، وبهذا قال إسحاق وعطاء والأوزاعي وأحمد. الثالث: أنها فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من ثلاثة في قرية، أو بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان " أخرجه أبو داود، وهو ظاهر قول الشافعي وبعض المالكية، وصححه النووي في " المنهاج ". الرابع: أن الجماعة سنة مؤكدة، وهو قول الجمهور ومشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وقول للشافعيّة. قال الشوكاني (1): وهو أعدل الأقوال وأقربها إلى الصواب (2)، واستدلوا على عدم   (1) " نيل الأوطار " للشوكاني. (2) لكن حديث الأعمى الذي لم يرخص له - صلى الله عليه وسلم - في التخلف عنها يدل على وجوبها. المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 267 - " بَابُ احْتِسَابِ الآثَارِ " 314 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أرَادُوا أنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيباً مِنَ النَّبِيِّ   وجوبها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلاة الرجل في الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة " قالوا: لأن المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفرد تقتضي المشاركة في الثواب وتدل على أن المنفرد له حظ من الأجر، ولو كانت الجماعة واجبة لكان المنفرد عاصياً، والعاصي لا أجر له. وأجابوا عن حديث الباب بجوابين: الأول: أن الهم بقتلهم لا يستلزم وجوب الجماعة، فإن السنة الظاهرة كالأذان مثلاً يقاتل عليها كما يقاتل على ترك الواجبات، كما أفاده القاضي عياض. الثاني: أن هؤلاء الذين توعدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا منافقين يحضرون الجماعة ظهراً وعصراً ليراهم الناس، ويغيبون عنها عشاء وصبحاً حيث لا يرونهم، فهمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم لنفاقهم، وهو ما رجحه الحافظ حيث قال: والذي يظهر لي أنّ الحديث ورد في المنافقين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " لكن المراد به نفاق المعصية (1). الحديث: أخرجه الستة وأحمد في " مسنده " بألفاظ. والمطابقة: كما يراه البخاري في كونه - صلى الله عليه وسلم - همّ بتحريق بيوت المتخلِّفين عن الجماعة، فلو لم تكن واجبة لما هم بذلك. 267 - " باب احتساب الآثار " 314 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن بني سلِمة " بكسر اللام وهم بنو سلِمة بن سعد بن علي بن أسد الخزرجي الأنصاري، وكانت منازلهم بجزع السيح ما بين القبلتين ومسجد الفتح،   (1) " فتح الباري ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فكَرِهَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَعْرُوا الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: " ألَا تَحْتَسِبُونَ آثارَكُمْ ".   وكانت هذه المنطقة تسمى في ذلك العصر بالمذاد، وهي بعيدة عن المسجد، فلما خلت بعض الديار القريبة " أرادوا أن يتحولوا " أي أن ينتقلوا " عن منازلهم فينزلوا قريباً من النبي - صلى الله عليه وسلم - "، ويقتربوا من المسجد النبوي الشريف ليتمكنوا من الصلاة معه، وحضور مجلسه، قال جابر: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلِمةَ أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: " يا بني سلِمة ديارَكم تكتب آثاركم "، أخرجه مسلم. فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبقاء في منازلهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يهدف من وراء ذلك إلى حماية المدينة من العدو من الجهة الغربيّة كما قال أنس: " فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعروا المدينة " أي كره أن تخلو الجهة الغربية منهم، لانهم كانوا بمثابة سور للمدينة يحميها من الأعداء، ولهذا نهاهم عن الانتقال عن تلك المنطقة وبشرهم باحتساب خطواتهم، وتكاثر حسناتهم تبعاً لبعد منازلهم فقال: " ألا تحتسبون آثاركم " أي ألا تفرحون باحتساب خطواتكم وإن لكم بكل خطوة حسنة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل كثرة المشي وبعد الدار عن المسجد، وما يؤدي إليه زيادة الخطوات من زيادة الحسنات وتكفير السيئات ورفع الدرجات. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى " أخرجه البخاري. ثانياًً: أنه يستحب للمسلم أن يحتسب خطواته إلى المسجد عند الله تعالى، ويستحضر فضل ذلك في أثناء سيره. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تحتسبون آثاركم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 268 - " بَابُ فضل صَلَاةِ الْعِشَاءِ في الْجَمَاعَةِ " ْ31 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ صَلَاةٌ أثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهمَا لأتَوْهُمَا وَلَو حَبْواً " (1).   268 - " باب فضل صلاة العشاء في الجماعة " 315 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء "، لأنهما تصليان في الليل حيث ينتشر الظلام، ويحجب الأنظار فلا يرى الناس من حضر فيهما ومن غاب عنهما، وهم إنما يصلون مع الجماعة رياءً ونفاقاً، فيواظبون على الصلوات النهارية كي يراهم الناس ويتغيبون عن الصلوات الليلية حيث لا يرونهم، ويستثقلون الحضور إليها لسوء نيتهم ولأنّهم لا يقصدون بأعمالهم وجه الله، وإنما يريدون بها الرياء والسمعة كما قال تعالى: (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) " ولو يعلمون ما فيهما " من مضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، والفوز بالجنة والنجاة من النار، والنور التام يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " بَشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة "، فلو يعلمون حق العلم هذه المزايا العظيمة الموجودة فيهما " لأتوهما ولو حبواً "، أي لأتوهما ولو كانوا لا يستطيعون المشي إلاّ حبواً على الذراعين والركبتين. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل صلاة العشاء مع الجماعة كما ترجم له البخاري. ثانياًً: التحذير من الرياء في الأعمال الدينية، والحرص على بعضها لأنه يراه الناس فيها وترك البعض الآخر لأنّه لا يراه الناس، كما كان   (1) هذا الحديث اختصرناه من حديث طويل اقتصرنا فيه على ما يطابق الترجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 269 - " بَابُ مَنْ جَلَسَ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَفَضلُ الْمَسَاجِدِ " 316 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " سَبْعَة يَظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وشَابٌ نَشَأ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُل قَلْبُهُ مَعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ،   يفعل هؤلاء المنافقون. ثالثاً: أن الأعمال الصالحة تخف على بعض النفوس وتثقل على بعضها حسب اختلاف الناس في إيمانهم. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " لو يعلمون ما فيهما " حيث دل على زيادة فضيلة العشاء والفجر على غيرهما كما أفاده العيني. 269 - " باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد " 316 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سبعة يظلهم الله في ظله " أي سبعة أصناف من هذه الأمة يظلهم الله في ظل عرشه، ويقيهم حرارة الشمس. " يوم لا ظل إلاّ ظله " أي يتنعمون بظل العرش في ذلك اليوم الذي تدنو فيه الشمس من رؤوس العباد، ويشتد عليهم حرها، فلا يجد أحدٌ ظلاًّ إلاّ مَنْ أظله الله في ظل عرشه، ثم بين من هم هؤلاء السبعة وميزهم بأعمالهم. فأولهم: " الإِمام العادل " أي حاكم عادل في رعيته يحافظ على حقوقهم، وَيرعى مصالحهم، ويحكم فيهم بشريعة الله، فهو جدير بظل العرش يوم القيامة، لأنه ظل الله في أرضه، ورحمته على عباده، والجزاء من جنس العمل. والثاني: من هؤلاء السبعة: " شاب نشأ " منذ نعومة أظفاره " في عبادة ربه " أي مجتهداً في عبادة ربه، ملتزماً بطاعته في أمره ونهيه، لا يتبع هواه، ولا ينساق مع شهواته النفسية، فكان جديراً بذلك الظل الإِلهي يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأة ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أخافُ اللهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ أخفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".   القيامة، لأنه جاهد نفسه في سبيل مولاه، وتغلّب على شهواته، وهو في عنفوان شبابه، والشباب شعبة من الجنون. والثالث من هؤلاء: " رجل قلبه معلق في المساجد " أي شديد الحب والتعلق بالمساجد يتردد عليها ويلازم الجماعة فيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ". وقال عز وجل: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ). والرابع من هؤلاء: " رجلان تحابّا في الله " أي أحب كل منهما الآخر في ذات الله تعالى وفي سبيل مرضاته، كما يحب طالب العلم شيخه لأنّه يوصله إلى العلم النافع المؤدي إلى رضوان الله تعالى. " اجتمعا على ذلك " أي اجتمعا على حب الله تعالى والمشاركة فيما يرضيه من طلب العلم، أو الاجتهاد في العبادة، أو القيام بمصالح المسلمين، " وتفرقا عليه "، أي واستمرا على محبتهما هذه لأجله تعالى حتى فرق بينهما الموت، ولم يقطع بينهما عارض دنيوي كما قال المناوي. وذلك لأنَّ ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انفصم وانقطع. والخامس: " ورجل طلبته امرأة ذات منصب " بكسر الصاد " وجمال " أي دعته لنفسها امرأةٌ حسناء ذات أصل كريم وحسب ونسب، ومال وجاهٍ، ومركز مرموق " فقال: إني أخاف الله " أي فإذا به يسمع صوت ضميره من أعماق نفسه يقول له: " إني أخاف الله " فيمنعه خوف الله عن اقتراف ما يغضب الله. والسادس من هؤلاء: " رجل تصدق " صدقة التطوع " أخفى " أي فأخفى صدقته " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " أي فبالغ في إخفاء صدقته على الناس، وسترها عن كل شيء حتى ولو كان شماله رجلاً ما علمها، فهو من مجاز التشبيه، كما أفاده المناوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 270 - " بَابُ فضلِ مَنْ غَدَا إلى الْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ " 317 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ غَدَا إلى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلاً مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أوْ رَاحَ ".   السابع من هؤلاء: " ورجل ذكر الله خالياً " أي تذكر عظمة الله تعالى ولقاءه، ووقوفه بين يديه، ومحاسبته على أعماله حال كونه منفرداً عن الناس " ففاضت عيناه " أي فسالت دموعه على خديه خوفاً من الله تعالى. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: بيان فضل هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه، ولا ينحصر المتظللون في ظل العرش في هؤلاء فقط، وإنما هناك آخرون غيرهم، وقد أضاف إليهم الحافظ: الغازي ومن يعينه، والمنظِر للمُعْسِر، والتاجر الصدوق، ومن يعين المكاتب. ثانياً: فضل المساجد والمحبين لها المتعلقة قلوبهم بها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ورجل قلبه معلّق في المساجد ". 270 - " باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح " 317 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غدا إلى المسجد وراح أعدّ الله له نزلاً في الجنة، كلما غدا أو راح "، أي لا يذهب أحد إلى المسجد في أي وقت كان أول النهار أو آخره ليصلي فيه جماعة، أو يطلب علماً، أو يقرأ قرآناً، إلاّ أعطاه الله في كل مرة قصراً في الجنة ضيافة وتكريماً له، سواء ذهب إليه صباحاً أو مساءً، لأن المساجد بيوت الله، فمن قصدها كان جديراً بضيافة أكرم الأكرمين. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل صلاة الجماعة وما يترتب على الذهاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 271 - " بَاب إذَا أقِيمَتِ الصَّلَاةُ فلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ " 318 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ بنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأى رَجُلاً وَقَدْ أقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ لَاثَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " آلصُّبْحَ أرْبَعَاً؟! آلصبحَ أربَعَاً؟! ".   إليها صباحاً أو مساءً حيث ينال الذاهب إليها في كل مرة قصراً في الجنة. ثانياًً: فضل التردد على المساجد لأي غرض ديني ولو غير الصلاة كدراسة العلم، وقراءة القرآن. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 271 - " باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة " 318 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن بحينة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً قد أقيمت الصلاة يصلّي ركعتين " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - رأى هذا الرجل في المسجد يصلّي ركعتين بعد قيام الجماعة لصلاة الصبح " فلما انصرف لاث به الناس ". أي فلما فرغ الرجل من الصلاة اجتمع عليه الناس، والتفوا حوله، وأحاطوا به استنكاراً لفعله لأنّه استقر في أذهانهم أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة، وعلموا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقتصر الأمر على مجرد استنكار الصحابة فقط، بل إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر ذلك عليه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آلصبح أربعاً آلصبح أربعاً؟ " بهمزة الإستفهام الإِنكاري أي كيف تصلي ركعتين بعد قيام الجماعة لصلاة الصبح، فتكون كأنما صليت الصبح أربع ركعات، وزدت فيها ركعتين من عندك. أمّا هذا الرجل الذي أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة النافلة بعد قيام صلاة الصبح فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 عبد الله بن بحينة نفسه؟ جاء مصرحاً به في رواية أحمد أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو يصلي ... إلخ ويحتمل أنه ابن عباس رضي الله عنهما لما روى عنه أنه قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " أتصلي الصبح أربعاً ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: ما ترجم له البخاري من أنه " إذا أقيمت ْالصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة "، وقد جاء الحديث بهذا اللفظ نفسه في بقية الصحاح الخمسة، ولم يخرجه البخاري لاختلافهم في رفعه ووقفه، ولهذا اكتفى عنه بحديث عبد الله بن بحينة وهو مثله في معناه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه صلاة النافلة بعد قيام الجماعة قائلاً: " آلصبح أربعاً "، وهذا يدل على أنّه لا يجوز البدء في النافلة مطلقاً، سواء كانت تحية المسجد أو غيرها أثناء الإقامة أو بعدها. لأن ذلك يؤدي إلى إعطاء الصلاة المفروضة صورة أخرى غير صورتها، ولا خلاف عند أهل العلم في أنّه لا يجوز ذلك إلاّ إذا عقد ركعة من النافلة قبل الإِقامة فإنه يتمها. ثانياًً: ذهب أهل الظاهر إلى أنّه إذا أقيمت الصلاة وهو في صلاة بطلت صلاته عملاً بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة " حيث حملوا النفى على نفي صحة الصلاة، والجمهور على أنّه لا تبطل صلاته، وأن المراد به نفي كمال الصلاة، ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي أي لا تشرعوا في صلاة غير المكتوبة عند إقامتها. والمطابقة: في قوله: " آلصبح أربعاً ". تنبيهان: الأول: ذكرنا فيما يستفاد من الحديث أن قول البخاري: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة " هو لفظ حديث صحيح أخرجه مسلم، وتلك عادة البخاري، إذا وقف على حديث ليس على شرطه، ترجم به، وأخرج غيره، ولم يخرجه، ليشير بذلك إلى وجوده (1)، وذلك من لطائف البخاري. الثاني: قد يستدل بعضهم على مشروعية تحية المسجد عنْد الإِقامة   (1) وكأنه يقول للقارىء يوجد حديث بهذا النص ولكنني لم أخرجه لأنه ليس على شرطي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 272 - " بَابٌ إذَا حضَرَ الطَّعَامُ وَأقِيمَتِ الصَّلَاةُ " 319 - عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فابْدَءُوا قَبْلَ أنْ تُصَلُّوا الْمَغْرِبَ ولا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ ".   بحديث علي رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الركعتين عند الإِقامة "، ولا حجة فيه لأن في سنده الحارث الأعور وهو ضعيف كما أفاده الشوكاني. 272 - " باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة " 319 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب " أي إذا حضر الطعام وحضرت الصلاة فابدؤوا بتناول الطعام، قبل أن تصلوا، حتى ولو كانت الصلاة قصيرة الوقت، محدودة الزمن، كصلاة المغرب. مما يؤكد ذلك، قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة رضي الله عنها: " لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان " " ولا تعجلوا عن عشائكم " أي ولا يدعوكم حضور وقت الصلاة أو قيامها، إلى الإِسراع في طعامكم فتقوموا عنه ونفوسكم متعلقة به، تواقة إليه، راغبةٌ فيه، فتدخلوا في الصلاة بأجسامكم دون قلوبكم وأرواحكم، فتكون صلاتكمْ خالية من الخشوع. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب تقديم الطعام على الصلاة ليليةً كانت أو نهارية؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك في حديث الباب وأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك يقتضي الاستحباب عند الجمهور لهذا قالوا: يستحب تقديم الطعام على الصلاة عامة. قال ابن قدامة: إذا أحضر العشاء في وقت الصلاة، فالمستحب أن يبدأ بالعشاء قبل الصلاة؛ ليكون أفرغ لقلبه، وأحضر لباله، ولا فرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 273 - " بَاب أهْلُ الْعِلْمِ والفَضْلِ أحَقُّ بالإِمَامَةِ " 320 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَان يُصَلِّي بِهِمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ، وَهُمْ صُفُوف في الصَّلَاةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظرٌ إِلَيْنَا وَهُوَ قائِم، كَأن وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤية النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فنكصَ أبُو   بين أن يخاف فواتها في الجماعة أو لا يخاف ذلك، فإن بعض ألفاظ حديث أنس " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ". وحمل الظاهرية الأمر على الوجوب، وجزموا ببطلان الصلاة إذا قدمت. وقال مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاماً خفيفاً، وهو مذهب الشافعي. ثانياً: الترغيب في تجريد النفس عن الشواغل الدنيوية في أثناء الصلاة. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم بألفاظ أخرى. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قدم العشاء فابدءوا به " ... إلخ. 273 - " باب أهل العلم والفضل أحق بالإِمامة " 320 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإِثنين " برفع " يومُ " على أنه فاعل لكان التامة. أي حتى إذا جاء يوم الاثنين " وهم صفوف في الصلاة " أي في صلاة الصبح " فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - ستر الحجرة ينظر إلينا " ليتفقد أحوالنا " كأن وجهه ورقة مصحف " أي يشبه وجهه ورقة الصحف في رقة بشرته، وصفاء لونه، وحسن صورته " ثم تبَسّم يضحك " فرحاً ومسروراً بما رأى من حرص أصحابه على الجماعة "فهممنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْه لِيَصِلَ الصَّفَّ، وظَنَّ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَارِجٌ إلى الصَّلَاةَ فَأشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -أنْ أتِمُّوا صَلَاَتكُمْ، وأرْخَى السِّترَ، فَتُوُفيَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ". 274 - " بَابٌ إِنمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتمَّ بِهِ " 321 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: ثَقُلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " أصلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ،   أن نفتتن" أي فعزمنا على الخروج من الصلاة، فنقع في الخطأ من شدة فرحنا به " فنكص أبو بكر رضي الله عنه ليصل الصف " أي تراجع إلى الوراء ليقف في الصف ويدع الإمامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - " فأشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أتموا صلاتكم " أي فأشار إليهم بإتمام الصلاة خلف الصديق رضي الله عنه. ويستفاد منه: أن أحق الناس بالإمامة أعلمهم وأفقههم، وهو مذهب الجمهور لأنّه - صلى الله عليه وسلم - استخلف الصديق في الإمامة لتفوقه على غيره في الفقه، وإن كان يوجد من هو أقرأ منه، خلافاً لأحمد حيث قال: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لحديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله ... إلخ " أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه، وأجاب عنه الجمهور بأنه كان الأقرأ في عصر النبوة هو الأعلم غالباً (1). الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن أبا بكر كان يصلي بهم " حيث قدِّمَ للإمامة لأنه أعلم الصحابة. 274 - " باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به " 321 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها "ثقل النبي   (1) ولذلك عبر بالأقرأ لأنه يكون أقرأ وأعلم فيجتمع فيه مزيتان كثرة القراءة وغزارة العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 قَالَ: " ضعُوا لِيَ مَاءً في الْمِخْضَبِ " قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فاغْتَسَل فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فأغْمِيَ عَلَيْهِ، ثم أفَاقَ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أصَلَّى النَّاسُ؟ " قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " ضَعُوا لِيَ مَاءً في الْمِخْضَبِ " قَالَتْ: فَقَعَدَ فاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَب لِيَنُوءَ فأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أفَاقَ فَقَالَ: " أصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: " ضَعُوا لِيَ مَاءً فِي الْمِخْضَبِ "، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثمَّ أفَاقَ فَقَالَ: " أصَلَّى النَّاسُ؟ " فَقُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ الله،   - صلى الله عليه وسلم -" أي اشتد عليه المرض " فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا " أي قال عندما حضرت الصلاة هل صلى الناس أم لا؟ فقلت: لم يصلوا بعد " قال: ضعوا لي ماءً في المخضب " (1) أي في الطست " فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه " أي فاغتسل وحاول النهوض بمشقة وعناء، فلم يقدر على القيام، وأصابه الإغماء من شدة ما يعانيه من الألم " ثم أفاق " من غشيته " فقال: أصلّى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله قال: ضعوا لي ماءً في المخضب قالت: ففعلنا فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب. فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله " وهكذا أغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، وكان يحاول في كل مرة بعد الاغتسال النهوض ليخرج إلى الصلاة فيغمى عليه، فإذا أفاق سأل: أصلى الناس؟ فتقول عائشة: هم ينتظرونك، فيعاود الاغتسال مرة أخرى حتى يئس من القدرة على   (1) بكسر الميم وسكون الخاء، قال في " لسان العرب " وهو إناء تغسل فيه الثياب، وهو ما يسمى بالطست. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وَالنَّاسُ عُكُوفُ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأرسَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أبِي بَكْرٍ بأنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فقالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يأمُرُكَ أنْ تُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ، وكانَ رَجُلاً رَقِيقَاً: يَا عُمَرُ صَلِّ بالنَّاس، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أنتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أبو بَكْر تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وأبو بَكْرٍ يُصَلِّى بالنَّاس، فَلَمَّا رَآهُ أبو بَكْرٍ، ذهَبَ لِيتَأخرَ فأوْمأ إِلَيْه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنْ لا يَتَأخَّرَ، قَالَ: " أجْلِسَانِي إلى جَنْبِهِ "، فَأجْلَسَاهُ إلى جَنْبِ أبِي بَكْرٍ قَالَ: فَجَعَلَ أبو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَالنَّاسُ بصلاة أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قَاعد".   الخروج، " والناس عكوف في المسجد " أي مقيمون فيه ينتظرونه " فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر " بلالاً يأمره " بأن يصلي بالناس فأتاه الرسول " أي فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه مرسلاً إليه من النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تصلي بالناس " نيابة عنه " فقال أبو بكر: وكان رجلاً رقيقاً " أي رقيق القلب خشى أن يغلبه البكاء في الصلاة " يا عمر صل بالناس فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام " التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مريضاً " ثم إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد من نفسه خفة " أي شعر بخفة في مرضه ونشاط في جسمه " فخرج بين رجلين " أي خرج يتكىء عليهما ويستعين بهما على مشيه " وأومأ إليه بأن لا يتأخر " أي فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر أن لا يتأخر عن مكانه " قال: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 322 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتهِ وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِساً، وصلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قياماً، فأشَارَ إلَيْهِمْ أنِ اجْلِسُوا، فلمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فإِذَا رَكَعَ فارْكَعُوا، وِإذَا رَفَعَ فارْفَعُوا، وِإذَا صَلَّى جَالِساً فَصَلُّوا جُلُوساً ".   أي حال كونه قائماً " بصلاة النبي " أي يأتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته كما جاء مصرحاً بذلك في رواية أخرى " والناس بصلاة أبي بكر " أي وكان أبو بكر رضي الله عنه يرفع صوته بالتكبير والتحميد عند السجود والركوع، والناس يسمعون تبليغه ويتبعونه " والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد " أي والحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد وأبو بكر والناس من خلفه قيام. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن المأموم يأتم بإمامه ويتبعه في خفضه للركوع والسجود ورفعه منهما، ولا يسبقه في شيء من ذلك كما في حديث الباب حيث قال: " فجعل أبو بكر يصلّى وهو يأتم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ويتبعه في ركوعه وسجوده وهذا هو حقيقة الائتمام كما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يجوز أن يصلي المأموم قائماً خلف إمام يصلّي قاعداً، قال: العيني: وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي ومالك في رواية والأوزاعي خلافاً لما روي عن مالك في المشهور عنه، ومحمد بن الحسن من عدم صحة إمامة القاعد للقائم، وقالا: إن الذي نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - كان خاصاً به، واحتجوا بالحديث الآتي عن عائشة. والمطابقة: في قوله: " وهو يأْتمُّ بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". 322 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها فتقول: "صلّى رسول الله في بيته وهو شاكٍ" أي مريض " فصلّى جالساً " أي فلم يستطع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 275 - " بَابٌ متى يَسْجُدُ مَنْ خلْفَ الإِمَامِ " 323 - وعنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ: " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " لَمْ يَحْن أحدٌ ظَهْرَهُ حتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِداً، ثُمَّ نَقَعُ سُجُوداً بَعْدَهُ ".   الوقوف بسبب مرضه، فصلى جالساً، كما في رواية جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً بالمدينة فصرعه على جذع نخلة، فانفكّت قدمه، فأتيناه نعوده في مشربة لعائشة " فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً فأشار. إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف " أي فلما انتهى من صلاته " قال: إنما جعل الإِمام ليؤتم؟ " أي ليقتدى به في أفعاله " فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا " أي فاتَّبِعُوه في ركوعه ورفعه من الركوع " وإذا صلّى جالساً فصلوا جلوساً " مثله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجب على المأموم متابعة إمامه في جميع أفعاله حتى في جلوسه، فإذا صلّى جالساً وجب عليه أن يصلّي مثله جالساً، فإن صلّى قائماً بطلت صلاته، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا صلّى جالساً فصلُّوا جلوساً " وهو مذهب أحمد وإسحاق ومالك في المشهور عنه. ثانياً: أن الإمام يقول: " سمع الله لمن حمده "، والمأموم يقول: " ربنا ولك الحمد " لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد " وهذا يقتضي أن التسميع للإمام، والتحميد للمأموم. والمطابقة: في قوله: " وإذا صلّى جالساً فصلوا جلوساً ". 275 - " باب متى يسجد مَنْ خلف الإِمام " 323 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن أحد ظهره حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 276 - " بَابٌ إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأسَهُ قَبلَ الإِمَامِ " 324 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أمَا يَخْشَى أحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأسَهُ قبلَ الإمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ رَأسَهُ رَأسَ حِمَارٍ، أو يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ ".   ساجداً" أي كنا نتابع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سجوده، ولا نسجد إلاّ بعده فإذا رفع من الركوع، نبقى قياماً ولا يخفض أحدٌ ظهره حتى يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقع بجبهته على الأرض. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب متابعة المأموم لإمامه في السجود. فلا يسجد حتى يسجد الإِمام ويقع بجبهته على الأرض. ثانياًً: مشروعية قول: " سمع الله لمن حمده " للإِمام، وقول: " ربنا ولك الحمد ". للمأموم، وهو قول الجمهور. والمطابقة: في قوله: " لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً " 276 - " باب إثم من رفع رأسه قبل الإِمام " 324 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - محذِّراً المأموم من سبق الإِمام، ورفع رأسه قبله في الركوع والسجود " أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإِمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار " "أي كيف تتجرؤون على رفع رؤوسكم من الركوع والسجود قبل رفع الإِمام، ألا يخاف أحدكم إذا رفع رأسه قبل إمامه أن يمسخ الله رأسه رأس حمار، إما مسخاً مجازياً، بأن يجعله الله كالحمار في غباوته وبلادته، أو مسخاً حقيقياً، بأن يجعل صورة رأسه على صورة رأس الحمار إما في الآخرة أو في الدنيا، ولا مانع من ذلك، فإن المسخ الجزئي الخاص موجود في هذ الأمّة لما في الحديث عن عائشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 277 - " بَابُ إِمَامَةِ الْعَبْدِ والْمَوْلَى " 325 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اسْمَعُوا وأطِيعُوا وِإنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأن رَأسَهُ زَبِيبَةٌ ".   رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف " أخرجه الترمذي " أو يجعل الله صورته صورة حمار " والفرق بينهما أن المسخ الأول للرأس فقط، والثاني للجسد كله. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يحرم على المأموم أن يسبق إمامه في الرفع من الركوع والسجود، لأن هذا الوعيد بالمسخ لا يترتب إلاّ على معصية، فإن فعل أثم وصحت صلاته عند الجمهور خلافاً لأحمد وأهل الظاهر. ثانياًً: جواز وقوع المسخ الحقيقي فِي هذه الأمة كما في الحديث، وقد ذكر القاري فِي " المرقاة " (1) أن بعض المحدثين رحل إلى شيخ في دمشق يأخذ عنه فكان يجعل بينه وبينه حجاباً، فلما طالت ملازمته كشف له عن وجه حمار، وقال له: لما مر بي هذا الحديث استبعدت وقوعه فسبقت الإِمام، فأصابني ما ترى. والمطابقة: من حيث أن فيه وعيداً شديداً، ومرتكب الشيء الذي فيه الوعيد آثم. 277 - " باب إمامة العَبْدِ والمولى " 325 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اسمعوا " كلام ولي الأمر سماع في قبول " وأطيعوا " أمره ونهيه في حدود طاعة الله " وإن استعمل حبشي كان رأسه زبيبة " أي كأن شعر رأسه في قصره وتلففه زبيبة،   (1) " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " لعلي القاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 278 - " بَابٌ إِذَا لَمْ يُتمَّ الإِمَامُ وَأتمَّ مَنْ خلْفَهُ " 326 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أصَابُوا فَلَكُمْ، وِإنْ أخْطَؤوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ".   ومعناه: أطيعوا ولي الأمر مطلقاً شريفاً كان أو وضيعاً، عظيماً كان أو حقيراً، حراً أو عبداً، سواء كان أميراً أو قاضياً، أو صاحب شرطة، ونحو ذلك فيما فيه طاعة الله. الحديث: أخرجه أيضاً ابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: صحة إمامة العبد في الصلاة كما ترجم له البخاري لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن استعمل حبشي " فإنه يدخل في ذلك الإِمام (1). قال ابن قدامة: وهذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن عائشة أن غلاماً لها كان يؤمها، وصلى ابن مسعود وحذيفة وأبو ذر وراء أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبد، وقال مالك: لا يؤمهم إلا أن يكون قارئاً، وهم أميّون. والمطابقة: في قوله: " وإن استعمل حبشي ". 278 - " باب إذا لم يتم الإِمام وأتم من خلفه " 326 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول -الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم " أي سيكون بعدي أئمة يصلون بكم ويؤمونكم في صلاة الجماعة، فإن أصابوا في صلاتهم بأدائها في وقتها صحيحة مستوفية لجميع أعمالها صحت صلاتهم وصلاتكم، وكان لكم أجركم، ولهم أجرهم، " وإن أخطأوا " أي ارتكبوا خطأً يؤدّي إلى   (1) فإنه يدل على أن ولي الأمر لو استعمل على الرعية إماماً في الصلاة وكان ذلك الإِمام عبداً مملوكاً صحت إمامته وصحت صلاتهم خلفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 فساد الصلاة سهواً " فلكم وعليهم " أي فإنّها تصح صلاتكم وتفسد صلاتهم وحدهم. ويستفاد منه: أن الإِمام إذا ارتكب خطأً يفسد الصلاة بطلت صلاته وحده، وصحت صلاة المأمومين، فإن ترك الإمام ركناً سهواً ولم يعلم المأموم (1) أثناء الصلاة بما تركه إمامه بطلت صلاة الإمام وحده، وصحت صلاة المأموم، وهو وجه عند الشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه (2)، خلافاً للحنفية، فإنهم قالوا: تبطل صلاة المأموم تبعاً لصلاة الإِمام إذا ترك ركناً أو واجباً سهواً أو عمداً، وحملوا الخطأ في الحديث على ترك السنن أو التأخير عن الوقت المستحب. وإن صلى الإِمام محدثاً، فإن دخل في الصلاة بالحدث ناسياً، أو غلبه الحدث أثناءها ثم علم الإِمام أو المأموم أثناء الصلاة وجب عليه قطع الصلاة عند المالكية والحنفية، فإن استمر في صلاته بعد ذلك بطلت صلاته، وقال الشافعيّة: إذا علم المأمومون بذلك أثناء الصلاة وجب عليهم قطع القدوة بالإِمام، وإتمام صلاتهم بنية المفارقة، وتصح صلاتهم، وإن لم يعلموا إلاّ بعد السلام بطلت صلاته وحده وصحت صلاتهم عند الجمهور (3)، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإن أخطؤوا فلكم وعليهم " وقال الحنفية: تبطل صلاته وصلاتهم، وإذا صلى الإمام بالنجاسة ناسياً فإن علموا بها أثناء الصلاة وجب عليهم قطع الصلاة فوراً عند الجمهور، لبطلان صلاة الإِمام والمأمومين معاً، وقالت الشافعية: يقطع المأمومون قدوتهم بالإمام، ويتمون بنية المفارقة، وإن علموا بالنجاسة بعد السلام فقالت المالكية: تصح صلاتهما معاً، وتجب على الإِمام الإعادة في الوقت (4). وقالت الحنابلة:   (1) " فقه السنة " ج 1. (2) " فتح الباري " ج 2. (3) " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1. (4) " الرسالة " لابن أبي زيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 279 - " بَاب إِذَا طَوَّلَ الإِمَامُ وكانَ لِلرَّجُلِ حَاجَة فخرَجَ فَصَلَّى " 327 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ مُعَاذَ بْنَ جَبَل يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى العِشَاءَ فقرأ بِالْبَقَرَةِ، فانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فكأنَّ مُعَاذاً تَنَاوَلَ مِنْهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ" ثَلاث مِرارٍ، أو قَالَ: " فَاتِنَاً فَاتِناً فَاتِناً " (1) وأمَرَهُ بسُورَتَيْنِ من أوْسَطِ الْمفَصَّلِ، قَالَ عَمْرو: لا أحْفَظُهُمَا.   تبطل صلاة الإِمام فقط، وقالت الشافعية: إن كانت النجاسة مغلظة بطلت صلاته وصحت صلاتهم، وإن كانت خفيفة في غير جمعة (2) ينقص العدد فيها بدونه صحت صلاتهما معاً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والحاكم والدارقطني. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. 279 - " باب إذا طوّل الإِمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلّى " 327 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه " أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع فيؤم قومه " أي يصلي جماعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده بالمدينة ثم يعود إلى قومه فيؤمهم في نفس الصلاة التي صلاها معه، " فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل " وفي رواية مسلم " فانحرف رجل، فسلم ثم صلى وحده " بمعنى أنه قطع الصلاة واستأنفها من أولها منفرداً، ولكن هذه الرواية انفرد بها محمد بن عباد شيخ مسلم، أما سائر الروايات الأخرى فإنّها لم يذكر فيها السلام، وإنما ذكر فيها الانصراف   (1) أي تكون بعملك هذا فاتناً. (2) " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1 للجزيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 فقط، وهي تدل على أن الرجل لم يخرج من الصلاة، ولم يُعِدْهَا من أولها، وإنما فارق إمامه، وأتمها منفرداً، وهو ما رجحه الحافظ " فكأنَّ معاذاً تناول منه " أي سبّه وشتمه " فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما فعله معاذ " فقال: فتان " أي أنت يا معاذ بفعلك هذا تنفر الناس عن صلاة الجماعة وتفتنهم في دينهم. " وأمره بسورتين من أوسط المفصل " أي أن يقرأ في العشاء بأوساط المفصل وهو عند المالكية من (عبَس) إلى (الضحى) وعند الشافعيّة والحنابلة من (عَمّ) إلى (الضحى) وعند الحنفية من (البروج) إلى (لم يكن). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: فانصرف الرجل. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به الشافعية على أن للمأموم أن يقطع القدوة بإمامه لسبب من الأسباب كالإِطالة في الصلاة ويتم صلاته وحده بنية المفارقة، وقالت المالكية والحنفية: لا يجوز ذلك، وإن الرجل المذكور في هذا الحديث لم يقطع القدوة بإمامه وإنما قطع الصلاة وأعادها من أولها لما في رواية مسلم " أنه سلّم ثم صلّى وحده ". ثانياًً: جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، لأن قوم معاذ كانوا يأتمون به وهم مفترضون وهو متنفل، وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية، خلافاً لمالك وأبي حنيفة حيث قالوا الإِمام ضامن والفرض ليس مضموناً في النفل فلا يجوز اقتداء مفترض بمتنفل. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 280 - " بَابُ تخفِيفِ الإِمَامِ في القِيَامِ وإتمَامِ الرُّكُوعِ والسَّجُودِ " 328 - عن أبي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي لأتَأخَّرُ عن صَلَاةِ الغَدَاةِ مِنْ أجلِ فُلَان مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مَوْعِظَةٍ أشَدَّ غَضَبَاً مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثمَّ قَالَ: " إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأيكُمْ مَا صَلَّى بالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ والْكَبِيرَ وذَا الْحَاجَةِ ".   280 - " باب تخفيف الإِمام في القيام وإتمام الركوع والسجود " 328 - معنى الحديث: يحدثنا أبو مسعود رضي الله عنه " أن رجلاً قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة " أي شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من تطويل معاذ في القراءة في الصلاة، وأقسم على أنه يتغيب عن صلاة الصبح بسبب هذا التطويل، وهو معنى قوله: " من أجل فلان مما يطيل بنا " أي بسبب تطويله وإنما خص بالذكر صلاة الغداة، - وهي الصبح- لأن التطويل فيها أكثر، ولأن الانصراف منها وقت التوجه إلى الأعمال، كما أفاده العيني، " فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضباً منه يومئذٍ " أي لم أره في موعظة من مواعظه السابقة أشد غضباً من غضبه في تلك الموعظة التى وجهها إلى الناس في ذلك اليوم، " ثم قال: إن منكم منفرين " أي إن بعض أئمتكم ينفرون الناس عن صلاة الجماعة، بسبب كثرة تطويلهم فيها " فأيكم ما صلى بالناس فليتجَوّز " أي فليخفف في القراءة والقيام مع إتمام الركوع والسجود " فإنّ فيهم الضعيف " بسبب مرض أو عاهة أو غير ذلك " والكبير " في السن " وذا الحاجة " من أصحاب الأعمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 281 - "بَابُ الإيجَازِ في الصَّلَاةِ وَإكْمَالِهَا " 329 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُوجِزُ الصَّلَاةَ ويُكْمِلُهَا.   ويستفاد منه: أنه يسن للإِمام تخفيف القيام والقراءة في الصلاة، ومراعاة ظروف المصلين وأحوالهم، ويرى ابن عبد البر استحباب التخفيف للإِمام مطلقاً، وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث لهم من حادث وعارض من حاجة أو حدث بول أو غيره. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فليتجوّز ". 281 - " باب الإِيجاز في الصلاة وإكمالها " 329 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجز الصلاة " أي يخفف على الناس في صلاة الجماعة رفقاً بهم، ومراعاة لظروفهم، وأحوالهم البدنية والنفسية والمعاشية والاجتماعية فيقتصر في العشاء على أوساط المفصل، وفي المغرب على قصاره " ويكملها " أي أنه وإن كان يخفف في القراءة إلاّ أنه يتمم أركان الصلاة الفعلية من ركوع وسجود وجلوس ويطمئن فيها، فيخفف في الأقوال، ويتمم في الأفعال. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. ويستفاد منه: استحباب التخفيف في الصلاة للإِمام في الأقوال فقط مع إتمام الأفعال من ركوع وسجود ونحوه. والمطابقة: في قوله: " يوجز في الصلاة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 282 - " بَابُ مَنْ أخفَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُكَاء الصَّبِيِّ " 330 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنِّي لأقومُ في الصَّلَاةِ أرِيدُ أنْ أطَوِّلَ فيهَا فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أنْ أشُقَّ علَى أمِّهِ ". 283 - " بَابُ تسْوِيَه الصُّفُوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا " 331 - عنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:   282 - " باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي " 330 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها " أي أدخل في الصلاة ناوياً التطويل في أقوالها وأفعالها لما أعلمه من رغبة المأمومين في ذلك " فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي " أي أخفف فيها " كراهية أن أشقَّ على أمّه " أي حذراً أو خوفاً من أن يؤدي هذا التطويل إلى تعذيب الأم، وتحملها مشقة الألم لبكائه، وفي رواية " مخافة أن تفتتن " أي تشغل عن الصلاة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التخفيف للإمام مطلقاً، لأنه لا يخلو الحال من وجود مَنْ لا يقدر على التطويل كأم مرضع وطفلها، فإنّها إن بكى قطعت الصلاة، أو تركته فتأذّى. ثانياً: أن الإمام إذا شعر في أثناء الصلاة بحدوث مشقة للمأمومين ينبغي له التخفيف فيها. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فأتجوّز كراهية أن أشق على أمّهِ ". 283 - " باب تسوية الصفوف عند الِإقامة وبعدها " 331 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لتسوُّن صفوفكم " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكمْ، أو ليخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وَجوهِكمْ ".   الواو واو قسم محذوف تقديره: والله لتسوُّن صفوفكم، أي تجعلونها معتدلة متساوية في الصلاة مع ملء الفجوات في الصفوف، الأوّل فالأوّل، قال الزرقاني: والتسوية هي اعتدال القامة على سمت واحد، أي على خط مستقيم واحد، وسد الخلل، وفي الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس بوجهه فقال: " أقيموا صفوفكم ثلاثاً، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله في قلوبكم " أخرجه أبو داود، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " أو ليخالفن الله بين وجوهكم " (1) أي فإن لم تسووا صفوفكم في الصلاة أنزل الله الكراهية والبغضاء في قلوبكم، فتتنكر وجوهكم بعضها لبعض. قال القاري: وهو كناية عن المهاجرة والمعاداة. وقيل: هو على حقيقته، والمراد به تشويه الوجه. والمطابقة: في قوله: " لتسوُّن صفوفكم ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية تسوية الصفوف، وعناية الإمام بذلك، والتسوية سنة عند مالك والشافعي، واجبة عند أبي حنيفة، فرض عند ابن حزم، واستدل على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - في روايةٍ: " فإنّ تسوية الصف من إقامة الصلاة " وإقامتها فريضة، وكل شيء من الفرض فهو فرض، إلّا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، حيث رواها بعضهم بلفظ " فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة " ويؤخذ منها الاستحباب كما قال ابن دقيق العيد، لأن تمام الشيء عرفاً أمر خارج عن حقيقته. ثانياً: التحذير من الصلاة في الصف الأعوج، والوعيد الشديد على ذلك بالمسخ وتشويه الوجه، وهذا   (1) لأن معناه: إما أن تسووا صفوفكم، أو يغير الله قلوب بعضكم على بعض بالعداوة والبغضاء، فتتنكر وجوهكم لبعضها، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 284 - " بَابُ إِقبَالِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تسْوِيَة الصُّفُوفِ " 332 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بوَجْهِهِ فَقَالَ: " أقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أراكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ".   يؤيد الظاهرية فيما ذهبوا إليه. الحديث: أخرجه الستة. 284 - " باب إقبال الإِمام على الناس عند تسوية الصفوف " 332 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم " أي عدّلوها تعديلاً كاملاً " وتراصّوا "، أي تلاصقوا، لأن التراص إنما يكون باتصال المصلين، وشدة محاذاتهم كما في رواية أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإنّ الشيطان يدخل بينكم "، وفي رواية أنس أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده أني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنه الحذف " بفتح الحاء أي صغار الغنم " فأني أراكم من وراء ظهري " أي أشاهد أفعالكم. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية إقبال الإمام على المصلين قبل تكبيرة الإِحرام، وأمرهم بتسوية الصفوف، والإشراف عليهم. ثانياً: مشروعية تسوية الصفوف، وهي سنة عند الجمهور، واجبة عند الظاهرية لأمره - صلى الله عليه وسلم - بها، والأصل في الأمر الوجوب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو ليخالفن الله بين وجوهكم " وهذا الوعيد لا يترتب إلاّ على ترك واجب. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 285 - " بَابٌ إِذَا كَانَ بَيْنَ الإمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ حَائِط أو سُتْرَة " 333 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ في حُجرَتِهِ وجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِير فَرَأى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ أنَاس يُصَلّونَ بِصَلَاتِهِ فَأصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا بذلِكَ، فَقَامَ لَيْلَةَ الثَّانِيَةِ، فقامَ مَعَهُ أنَاس يُصَلّونَ بِصَلَاِتهِ صَنَعُوا ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ أو ثَلَاثَاً، حتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، جَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فلم يَخْرُجْ، فَلَمَّا أصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ فَقَالَ: " إِنِّي خَشِيتُ أنْ تُكْتَبَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلَ ".   285 - " باب إذا كان بين الإِمام وبين القوم حائط أو سترة " 333 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته " أي في حجرة عائشة كما أفاده الطحاوي، أو في حجرة من حصير بالمسجد " فرأى الناسُ شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام أناس يصلِّون بصلاته " أي يأتمون به في تلك الصلاة، وهم خارج الحجرة، بينه وبينهم حائل " فأصبحوا فتحدثوا بذلك " أي فأخبر الحاضرون في تلك الليلة الغائبين فيها فتسامع الناس فبدؤوا يتكاثرون " فقام ليلة الثانية، فقام معه أناس "، أي فصلى معه جماعة من الناس أكثر من الليلة الماضية " صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثاً " أي صلُّوا معه ليلتين أو ثلاث ليالٍ " حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته، فلم يخرج " إليهم، ولم يصل بهم، " فلما أصبح ذكر ذلك الناس "، أي سألوه عن سبب انقطاعه عن الصلاة في تلك الحجرة " فقال: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل " أي إني خفت أن تواظبوا عليها فتفرض عليكم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم " أبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ " 286 - "بَابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ في التَّكْبِيرَةِ الأوْلَى مع الافْتِتَاحِ سَوَاءً " 334 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يْرفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصلَاةَ،   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يجوز الاقتداء بإمام يحول دونه حاجز من جدار أو سترة، وتصح صلاة المأمومين المقتدين به، وبه قال أبو هريرة وابن سيرين وعروة، ومالك حيث قال: لا بأس أن يصلي المأموم وبينه وبين الإِمام نهر صغير، والذي عليه الفتوى عند الحنفية أنّه لا مانع من الاقتداء ما دام يعلم انتقالات الإِمام ولو بمجرد سماع صوت المبلغ. وقالت الشافعية: يجوز ذلك إذا كان في المسجد، وسمع التكبير أما في خارجه، فإنّ اتصلت الصفوف أو انقطعت دون حائل، جاز، وإلّا فلا يجوز. ثانياً: جواز الاقتداء بمن لم ينو الإِمامة، وهو مذهب الجمهور. والمطابقة: في كونهم صلّوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء جدار. " أبواب صفة الصلاة " 286 - "باب رفع اليدين عند التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء " 334 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه " تثنية منكب بكسر الكاف، وهو مجمع عظم الكتف والعضد " إذا افتتح الصلاة " أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وِإذَا كَبَّرَ للرُّكُوعِ، وِإذَا رَفَعَ رَأسَهُ من الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أيضاً، وقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَنّاَ ولَكَ الْحَمْدُ، وَكَانَ لا يَفْعَل ذلكَ في السُّجُودِ".   افتتح الصلاة يرفع يديه عند تكبيرة الإِحرام حتى تصيرا مقابل منكبيه، محاذيين لهما تماماً " وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " أي وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع من الركوع قائلاً سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ويحتمل هذا اللفظ أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين التسميع والتحميد في جميع الأحوال، سواء كان إماماً أو منفرداً، أو مأموماً، ويحتمل أنه كان يأتي بالتسميع إذا كان إماماً، أو منفرداً، وبالتحميد إذا كان مأموماً. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يسن رفع اليدين عند تكبيرة الإِحرام لقول ابن عمر رضي الله عنهما " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة "، ولا خلاف في مشروعية ذلك عند أهل العلم، وهو فرض عند ابن حزم لا تجزىء الصلاة إلاّ به، وروي ذلك عن الأوزاعي والحميدي، كما أفاده ابن عبد البر، والجمهور على أنه سنة، وادعى ابن المنذر والنووي في " شرح المهذب ": الإِجماع على سنيته ولكنه لم يتحقق. ثانياًً: أنه يسن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه لقول ابن عمر رضي الله عنهما: " وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوعٍ رفعهما كذلك أيضاً " وهو مذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، خلافا لأبي حنيفة ومالك فيما رواه عنه ابن القاسم أنه قال بعدم الرفع فيهما، لحديث البراء رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة يرفع يديه إلى قريب. من أذنيه ثم لا يعود " أخرجه أبو داود. ولكن هذا الحديث ضعفه البخاري وأحمد، وقال ابن عبد الحكم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 287 - " بَابُ وَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى في الصَّلَاةِ " 335 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ بأن يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى على ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى في الصَّلَاةِ ".   لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما (1) إلاّ ابن القاسم، والذى نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ". 287 - " باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة " 335 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد رضي الله عنهما: " كان الناس يؤمرون " أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه رضي الله عنهم " أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرهم بالقبض أثناء القيام في الصلاة، وذلك بأن يضع الرجل باطن يده اليمنى على ظهر ذراعه اليسرى، ويقبض رسغها وبعض ساعدها باليمنى. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القبض أثناء القيام في الصلاة، وهو سنة عند الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وحكاه ابن المنذر عن مالك عملاً بحديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة المشهورة المستفيضة، حتى قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه، وهو ما ذكره مالك في " الموطأ "، وروى سحنون في " المدونة " عن ابن وهب عن سفيان الثوري وعن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعاً يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة. ولكن رواية السدل كما قال ابن عبد   (1) أي عند. الركوع والرفع منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 288 - " بَابُ مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ " 336 - عن أنسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ْ " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانُوا يفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ".   البر هي رواية ابن القاسم، والرواية المشهورة التي عليها العمل عند المالكية، لأنّها رواية " المدونة " وعليها العمل والفتوى عندهم، لأنها متأخرة عن رواية "الموطأ "، وقد قال مالك في " المدونة " عن القبض: لا أعرفه: واحتج القائلون بالسدل بحديث أو حميد الساعدي الذي وصف فيه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر القبض، وقد قال رضي الله عنه " أنا أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ولكن ليس في ذلك نص صريح على السدل، والأرجح هو القبض - لحديث الباب. ثانياًً: أن المصلّي مخير في أن يضعٍ يده تحت السرة أو فوقها، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد في هذا الحديث موضعاً، وبهذا قال ابن حبيب وأحمد في رواية (1)، وقال أحمد في الرواية المشهورة يضعهما تحت السرة (2)، وقال الشافعي: فوق السرة (3). الحديث: أخرجه أيضاً مالك. والمطابقة: في كونهم كانوا يؤمرون بوضع اليد اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة. 288 - " باب ما يقول بعد التكبير " 336 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين " أي يبدؤون الفاتحة في صلاتهم بقولهم: الحمد لله رب العالين دون   (1) " شرح الباجي على " الموطأ " و" المغني " لابن قدامة. (2) وهو مذهب أبي حنيفة. (3) وجاء في سنن أبي داود وابن خزيمة: على الصدر، وربما كان أقواها، الأمر واسع. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 أي لفظ آخر من بسملة أو غيرها. ويستفاد منه: أنه لا يقرأ البسملة في الصلاة المكتوبة جهراً أو سراً وهو مشهور مذهب مالك لهذا الحديث، ولما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: " قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح الصلاة " أخرجه مالك في " الموطأ " ولو قرؤوها سراً لأخبره أحد الصحابة بذلك، وهذا يدل كما قال الباجي على أنها ليست آية من القرآن، لأنهم تركوا قراءتها، فتركهم القراءة لها مع أنه لا تصح الصلاة إلاّ بقراءة أم القرآن دليل واضح على أن بسم الله الرحمن الرحيمٍ ليست منها، فتحصل من ذلك أنّها ليست آية من القرآن وأنها لا تقرأ سراً وجهراً (1). وذهب جماعة من السلف منهم عمر وابنه وابن الزبير وابن عباس وعلي وعمار إلى وجوب قراءة البسملة سراً في السرية وجهراً في الجهرية، وهو مذهب الشافعي وسعيد بن المسيب وإسحاق والليث، واحتجوا بحديث أم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: " كان يقطع قراءته آية آية (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين) ... إلخ رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم " أخرجه الدارقطني، وذهب أحمد وأهل الحديث وأهل الرأي إلى استحباب (2) قراءتها سراً (3) لما في الحديث، " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم ". رواه ابن شاهين. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. ...   (1) ومن أهل المدينة من يقول لا بد فيها من بسم الله الرحمن الرحيم، كما قال ابن عبد البر في " الكافي ". (ع). (2) وهو مذهب أبي حنيفة في رواية، وفي رواية أخرى يجب قراءتها سراً. (3) قال ابن قدامة: ولا تختلف الرواية عن أحمد أنَّ الجهر بها غير مسنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 337 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إسكَاتَةً فَقُلْتُ: بِأَبِي واُّمِّي يَا رَسُولَ اللهِ إسكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ والْقِرَاءَةِ ما تَقُولُ؟ قَالَ: أقُولُ: " اللَّهُمَّ باعِدْ بَيني وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ".   337 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة " قال الخطابي: معناه يسكت بينهما سكوتاً يقتضى كلاماً " فقلت بأبي وأمي يا رسول الله " أي أفديك بأعزّ الأشياء عندي وهما أبواي " إسكاتك (1) بين التكبير والقراءة ما تقول؟ " أي ماذا تقول في سكتتك هذه من ذكر أو دعاء " قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب " أي أسألك اللهم أن تجعل بيني وبين الذنوب والآثام من البعد كما بين المشرق والمغرب " اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " أي طهرني منها كما يطهر الثوب الأبيض من الأقذار حين يغسل بالماء فيصبح ناصعاً نقياً، قال الشوكاني: وهذا تعبير مجازي يراد منه محو الذنوب بالكلية. " اللهم أغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد " أي وأسألك أن تطهرني بجميع المطهرات من ثلج وبرد وماء، وهو مجاز معناه: اللهم وفقني لجميع الوسائل المؤدية إلى الغفران من ترك السيئات وفعل الحسنات، وكثرة الصدقات، والخشية وحسن الظن بالله، وأن يتغمدني الله برحمته. ويستفاد منه: مشروعية دعاء الاستفتاح في الصلاة ما بين تكبيرة الإِحرام   (1) بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعد أو بالنصب على نزع الخافض أي في إسكاتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 289 - " بَابُ رَفْعِ الْبَصَرِ إلى السَّمَاءِ في الصَّلَاةِ " 338 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا بَال أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أبصَارَهُمْ إلى السَّمَاءِ في   وقراءة الفاتحة، وهو من سنن الصلاة عند أكثر أهل العلم، كما أفاده ابن قدامة خلافاً لمالك، ويكون الاستفتاح بالصيغة الذكورة، أو يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ". كما رواه أبو سعيد الخدري وعائشة رضي الله عنهما، وهو المختار عند أحمد وأبي حنيفة (1). أو بالتوجه بأن يقول: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " كما رواه مسلم، وهو المختار عند الشافعية (2) وقال أبو يوسف: يستحب أن يجمع بينهما (3). وقال أحمد: ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاستفتاح كان حسناً، أو قال جائزاً، وكذا أكثر أهل العلم. اهـ. كما أفاده ابن قدامة في " المغني ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي، حيث إنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ دعاء الاستفتاح ما بين الإِحرام وقراءة الفاتحة، والله أعلم ". 289 - " باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة " 1338 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - محذّراً أمته من العبث في الصلاة ورفع البصر فيها إلى فوق "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء   (1) " الإِفصاح عن معاني الصحاح " ج 1. (2) " شرح كفاية الأخيار " للحصني الشافعي. (3) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 صَلَاِتهِمْ" فاشْتَدَّ قَوْلُهُ في ذَلِكَ حتَّى قَالَ: " لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أو لتخْطَفَنَّ أبْصَارُهُمْ ".   في صلاتهم" أي كيف يجرؤ بعض الرجال على العبث في الصلاة، فيرفعون فيها أبصارهم، وهو أمر ينافي السكينة والوقار والخشوع في الصلاة، فإن من خشع قلبه سكنت جوارحه، والعكس بالعكس، ولم يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء، لئلا يستفزهم فلا يستفيدوا من الموعظة، ولأن التلميح أبلغ من التصريح، " فاشتد قوله في ذلك " أي فبالغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإِنذار والوعيد " حتى قال: ليَنتهُن " بفتح الياء وضم الهاء على البناء للفاعل، أو بضم الياء والهاء على البناء للمفعول وهو جواب قسم محذوف، واللام فيه للتأكيد، كما أفاده العيني " أو لتخطفن " بضم التاء، كما أفاده القسطلاني " أبصارهم " أي حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم بالله تعالى على أنه إما أن ينتهي هؤلاء العابثون عن رفع أبصارهم في الصلاة، أو يخطف الله منهم أبصارهم، ويأخذها بسرعة وفجأة فلا يشعرون إلاّ وقد فقدوا حاسة البصر جزاءً لهم على استهانتهم بالصلاة. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: تحريم رفع البصر عمداً في أثناء الصلاة لغير حاجة، لأن هذا الوعيد الذي يأخذ بالبصر لا يكون إلاّ على ارتكاب معصية، وذلك لأنه ينافي الخشوع في الصلاة، ولهذا قال ابن حزم: رفع البصر يفسد الصلاة، أما جمهور أهل العلم فإنّهم كرهوا ذلك، إلاّ أنه لا يفسد الصلاة عندهم. أما تغميض العين فقد كرهه الحنفيَّةُ، وقال مالك: لا بأس به، وقال النووي: المختار أنه لا يكره. ثانياًً: أن من آداب النصيحة في المجالس العامة عدم التعيين أو توجيه الخطاب المباشر لما فيه من الاستفزاز المؤدي إلى عدم قبول النصيحة وإنما يتكلم عن الموضوع بصفة عامة كما فعل النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 290 - " بَابُ الالْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ " 339 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَألتُ، رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الالْتِفَاتِ في الصَّلَاةِ - فَقَالَ: " هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشيطَانُ مِنْ صَلاةِ العَبْدِ ".   - صلى الله عليه وسلم - فهو أنجح وأجدى 290 - " باب الالتفات في الصلاة " 339 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة "، أي سألته هل يضر الالتفات في الصلاة - وهل له أثر سيء على فاعله؟ " فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان "، أي هو اختطاف يختطفه الشيطان من صلاة الإنسان، فإذا التفت يميناً وشمالاً تمكن الشيطان من السيطرة عليه، ووجد منه ثغرة مفتوحة يدخل منها إلى نفسه، فيوسوس له حتى يشغله، فيسهو في صلاته، ويخطىء في قراءته، ويذهب بخضوعه، أو يضعفه فيقل أجره وثوابه. وإنما سمّي " اختلاساً " لأنه يؤدي إلى انتقاص الشيطان من ثواب المصلي وأجره. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: قي قوله: " هو اختلاس يختلسه الشيطان ... إلخ ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الالتفات في الصلاة لغير عذر شرعي يضر بالمصلي، وينقص من ثوابه، ولهذا أسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - " اختلاساً " أي انتقاصاً ينتقصه الشيطان من ثواب الصلاة تبعاً لنقصان الخشوع أو انعدامه فيها. ثانياً: استدل به الظاهرية، وبعض الشافعية على تحريم الالتفات في الصلاة (1) لأنه اختلاس شيطاني كما سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما جاء في حديث   (1) وذهب بعض الشافعية إلى أنه يقطع الصلاة، وقال القفال: الالتفات الكثير يبطلها، كما أفاده العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 291 - " بَابُ وُجُوبِ القِرَاءَةِ للإِمَامِ وَالْمَأمُومِ في الصَّلَواتِ كُلِّهَا " 340 - عنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: شَكَا أهْلُ الْكُوفَةِ سَعْداً إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عَلَيهِمْ عَمَّاراً، فشكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فأرْسَلَ إليْهِ فقَالَ: يا أبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ:   أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: " يا بني إيّاك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان ولا بد ففي التطوع " أخرجه الترمذي، والهلكة لا تكون إلاّ بارتكاب محرم، وقال الجمهور: هو مكروه كراهة تنزيهيةً، أي إنه خلاف الأولى، لأنّه إنما يؤثر في الخشوع، والخشوع ليس من أركان الصلاة، ولأنه سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلاساً، والاختلاس ما يؤخذ من المرء دون إرادته، فكيف يكون حراماً. أما قوله: " فإن الالتفات هلكة " فمعناه أن الالتفات ينقص من ثواب الصلاة، كما أفاده الشوكاني، ولو كان حراماً لما قال له: فإن كان ولابد ففي النافلة، لأن ما يحرم في الفرض يحرم في النفل، والله أعلم. 291 - " باب وجوب القراءة للإِمام والمأموم في الصلوات كلها " 340 - ترجمة الراوي: هو جابر بن سمرة العامري ابن أخت سعد ابن أبي وقاص صحابي ابن صحابي، سكن الكوفة وتوفي بها سنة 72 هـ روى مائة وستِة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بستة وعشرين حديثاً. معنى الحديث: يقول جابر بن سمرة رضي الله عنهما: "شكا أهل الكوفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 أمَّا أنا وَاللهِ فَإِنِّي كُنْتُ اُّصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ في الاُّولَيَيْنِ، واُّخِفُّ في الأخْرَيَيْنِ قَال: ذَاكَ الظنُّ بِكَ يا أَبَا إِسْحَاقَ، فأرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً، أَوْ رِجَالاً إلى الْكُوفَةِ فَسَأَل   سعداً" أي شكوا سعد بن أبي وقاص عندما كان أميراً على الكوفة إلى عمر رضي الله عنه، ووجهوا إليه بعض التهم الباطلة، " فعزله " عمر لتهدئة النفوس وإطفاء نار الفتنة، مع ثقته فيه، حيث قال: لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وروي أن سعداً هو الذي طلب إعفاءه فقال لعمر: أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة " حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي " وذلك لسوء فهمهم، وجهلهم بكيفية الصلاة، حيث ظنوا مشروعية التسوية بين الركعتين الأوْليين والأخريين في القيام والقراءة، وقاسوا هاتين على هاتين لجهلهم بالمائة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يطول في الأُوْليين، ويخفف في الأخريين، فلم يعرفوا ذلك لأنّهم أعراب جهلة لا يفقهون شيئاً " فقال: يا أبا إسحاق، إنّ هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي، فقال: أمّا أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي وأمّا هم فإنهم قالوا ما قالوا عن جهل وسوء فهم، وأما أنا فإني كنت أصلي بهم مثل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما أخرم (1) منها "، أي لا أنقص منها شيئاً " أصلي صلاة العشاء فأركد " بضم الكاف أي أطيل " في الأوْليين وَأخف " بضم الهمزة وكسر الخاء " في الأخريين "، أي وأخفف القراءة في الركعتين الأخريين، فأقتصر فيها على الفاتحة " قال " له عمر رضي الله عنه: " ذاك الظن بك يا أبا إسحاق " أي لقد أصبت السنة فيما فعلت، وصليت مثل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحققت ما نظنه فيك من الفقه في الدين، والعمل بسنة سيد المرسلين، " فأرسل معه " إلى   (1) بفتح الهمزة وسكون الخاء وكسر الراء، كما أفاده القسطلاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 عَنْهُ أهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِداً إلاّ سَأل عَنْهُ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ مَعْرُوفاً حَتَّى دَخَلَ مَسْجِداً لِبَنِى عَبْسٍ، فَقَامَ رَبُي مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أسَامَةُ بْنُ قتَادَةَ، يُكَنَّى أبا سَعْدَةَ قَالَ: أمَا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْداً كانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّة، وَلَا يَقْسِمُ بالسَّوِية، وَلَا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ مَال سَعْدٌ: أمَا وَاللهِ لأدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ عَبْدُكَ هذَا كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فأطِلْ عُمْرَهُ، وَأطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِير مَفْتُونٌ أصابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأنَا رأيتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيِهِ مِنَ الْكِبَرِ، وِإنَّهُ لَيتَعَرَّضُ للْجَواِري في الطرَّيقِ يُغْمِزُهُنَّ.   العراق " رجلاً أو رجالاً "، أي أرسل لجنة يرأسها محمد بن مسلمة للتحقيق في قضيته " فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجداً إلاّ سأل عنه " أي فسأل محمد بن مسلمة عن سيرة سعد في جميع مساجد الكوفة " ويثنون عليه معروفاً " أي وجميعهم يثنون عليه ويزكونه " حتى دخل مسجداً لبني عبس " وهي قبيلة من قيس " فقام رجل فقال: أما إذ نشدتنا "، أي أما غيرنا فإنه عندما سألته عن سعد أثنى عليه، وأما نحن إذ سألتنا عنه فإنا نقول " إن سعداً لا يسير بالسرية "، أي لا يخرج للغزو في سبيل الله " ولا يقسم بالسوية " أي ولا يعدل في قسمته، " ولا يعدل في القضية " أي ولا يعدل في الحكم بين الناس، " فقال سعد اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياءً وسمعة فأطل عمره " في سقم وضعف وقبح صورة " وأطل فقره "، أي سلط عليه الفقر، وكثرة العيال، لأنه جهد البلاء " وعرضه بالفتن " بالنساء فلا يراهن إلّا ويغازلهن أمام الناس. " قال الراوي ": وهو عبد الملك بن عمير" فأنا رأيته " في شيخوخته " وإنه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن " أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 يلمس أجسامهن، ويعصر أعضاءهن بأصابعه، ويغازلهن أمام الناس، كما في رواية أخرى عن عبد الملك بن عمير قال: رأيته يتعرض للإِماء في السكك أمام المارة، ويغازلهن، فإذا سألوه أي إذا لاموا عليه قال: كبير فقير مفتون .. ، وهكذا أصابته دعوة سعد. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة في قوله: " كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، قال العيني: ولا نزاع في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته دائماً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه تجب القراءة في كل ركعة من الصلاة، وهو ما ترجم له البخاري في قوله: " باب وجوب القراءة في الصلوات كلها " لأنّ سعداً كان يقرأ في صلاته كلها، ويقول: كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي كنت أقرأ في الصلاة كما كان يقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: أنه يسن التطويل في الركعتين الأوليين بقراءة الفاتحة والسورة، والتخفيف في الركعتين الأخريين بالاقتصار على قراءة الفاتحة فقط، لأن سعداً رضي الله عنه كان يطيل في الأُوْليين، ويخفف في الأُخْريين، ويقول: كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن قدامة: ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنه يسن قراءة سورة مع الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة. اهـ. وهذا يقتضي أن تكون الركعتان الأوليان أطول من الأخريين لزيادة القراءة فيهما. أما بالنسبة إلى الأولى والثانية، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يسوى بينهما إلا في الفجر، فيطيل الأولى عن الثانية وعند الشافعية قولان أشهرهما التسوية بينهما، كما نقله العيني عن " شرح المهذب "، وكره الجمهور إطالة الثانية على الأولى خلافاً لمالك حيث قال: لا بأس بذلك، وذهب الحنابلة إلى استحباب تطويل الأولى عن الثانية وهو مشهور مذهب المالكية وقول لبعض الشافعية، كما أفاده العيني. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 341 - " عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ".   341 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " يحتمل أن يكون هذا النفي موجهاً إلى صحة الصلاة، أو إلى كمال الصلاة، وعلى الأوّل فمعناه: أن من لم يقرأ بالفاتحة لا تصح صلاته، بل تكون باطلة، وعلى الثاني معناه: أن من لم يقرأها تصح صلاته، ولكنها تكون ناقصة غير كاملة، والأول أظهر، لأنّه إذا لم يمكن نفي الصلاة لوجود صورتها، تعين نفي أقرب الأشياء إلى ذاتها وهو الصحة، لأن الوجود الشرعي يتوقف عليها. فيكون المعنى أن الصلاة بغير فاتحة ليس لها وجود شرعي، ولذلك فإنها لا تصح، وإنما تكون باطلة غير مقبولة عند الله تعالى. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الفاتحة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها، وهو قول الجمهور خلافاً للحنفية حيث قالوا: الفاتحة واجبة والواجب عندهم ليس فرضاً، وإنما هو بين الفرض والنفل، وليست ركناً، لأن الركن لا يثبت إلاّ بدليل قطعي من آية محكمة، أو سنة متواترة، ولا شيء من ذلك. فالركن مطلق القراءة لقوله تعالى: (فاقرءوا ما تيسر منه) وقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر من القرآن " ولم يعين الفاتحة. واستدل الجمهور بحديث الباب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى كل صلاة لا يقرأ فيها بالفاتحة، وهو يقتضي نفي وجودها وصحتها شرعاً، كما يؤكد ذلك حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " أخرجه ابن خزيمة وأما الآية المذكورة فهي في قيام الليل، وأما حديث المسيء فهو مجمل بينته الأحاديث الصريحة، وقد جاء في إحدى رواياته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء: " ثم اقرأ بأم القرآن ... " أخرجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 أحمد، والمجمل يحمل (1) على المبين. ثانياًً: استدل به بعض أهل العلم على مشروعية قراءة الفاتحة للمأمومَ في السرية والجهرية لدخوله في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وهو مذهب البخاري والشافعي في الجديد أن القراءة تجب على المأموم حتى فيما جهر فيه الإِمام. وكره بعض الحنفية قراءتها للمأموم سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة " أخرجه الدارقطني. وقالت المالكية: لا تلزم الفاتحة مأموماً، فالإِمام يحملها عنه، كما نص عليه ابن عرفة والخطاب (2)، وكره مالك قراءة الفاتحة فيما يجهر فيه الإِمام -كما في " الإِفصاح " (3) - ويقرأها في السرية كما قال ابن القاسم. وقالت الحنابلة: قراءة الإِمام قراءة له إلاّ أنه يستحب له أن يقرأ في السرية في سكتات الإِمام، كما أفاده ابن قدامة في " عمدة الفقه " (4). ثالثاً: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً، وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي -وأحمد في رواية- وعنه في رواية أخرى أنها لا تجب الفاتحة إلاّ في ركعتين من الصلاة، كما أفاده ابن قدامة (5) في " المغني "، ونحوه عن النخعي والثوري وأبي حنيفة. والأرجح قراءتها في كل ركعة لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى ركعة فلم يقرأ فيها لم يصل إلاّ خلف إمام ". وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة ". فإن نسيها في ركعة فسدت صلاته عند الشافعية والحنابلة. وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم: إنه إن كانت الصلاة ثنائية فسدت، وإن كانت رباعية فروي   (1) كما هو معروف في أصول الفقه وقواعد التشريع الإِسلامي. (2) " فتح الجليل شرح مختصر خليل ". (3) " الإِفصاح عن معاني الصحاح " لابن هبيرة ج 1. (4) " عمدة الفقه " لابن قدامة. (5) " المغني " لابن قدامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 342 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَدَّ وقَالَ: " ارْجِعْ فَصَل فَإنكَ لمْ تُصلِّ "فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " ارْجِعْ فَصَل فإِنَّكَ لم تُصَلِّ "، ثَلاثاً فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: " إِذَا قُمْتَ إلى الصَّلَاةِ فَكَبِّر ثُمَّ اقْرَأ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعَاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمَاً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، وافْعَلْ ذَلِكَ في صلاِتكَ كُلِّهَا".   عنه ثلاث روايات الأولى: أنها لا تجزئه ويعيد الصلاة، والثانية: أنه يسجد للسهو فقط، والثالثة: أنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في كونه يدل على أنه لا بد من قراءة الفاتحة في الصلوات (1) كلها. 342 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فدخل رجلاً وهو خلاد بن رافع " فصلى " متعجلاً صلاته ولم يطمئن في قيامه وركوعه وسجوده " فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد " أي فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه السلام " وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل " أي فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة تلك الصلاة، لأنّها بطلت بسبب ترك الطمأنينة فيها " فرجع يصلي كما صلى " أي فعاد فصلى من دون طمأنينة كما فعل في صلاته   (1) كما قال الكرماني وقال العيني: المطابقة غير ظاهرة لأن الترجمة أعم من أن تكون القراءة بالفاتحة أو بغيرها، والحديث يعين الفاتحة. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الأولى. " ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة ثلاث مرات " فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني " أي لا أعرف صلاة أحسن مما رأيت " فعلمني "، أي فإن كانت هذه الصلاة باطلة فعلمني كيف تكون الصلاة الصحيحة " فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وهي الفاتحة، أي ثم اقرأ بفاتحة الكتاب لما في رواية أحمد أنه قال له: " ثم اقرأ بأم القرآن " " ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً " أي ثم حافظ على الاعتدال في القيام والطمأنينة في الركوع والسجود. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: وجوب القراءة للإمام والمأموم كما ترجم له البخاري لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ". ثانياً: أن الطمأنينة ركن تبطل الصلاة بتركها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بإعادة الصلاة التي لم يطمئن فيها، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال بوجوبها، ولا تبطل الصلاة بتركها. ثالثاً: مشروعية الاعتدال في الصلاة، وهو فرض عند الشافعي وأحمد (1) وسنة عند أبي حنيفة، وأما مالك فلم ينقل عنه نص في ذلك -كما قال ابن رشد (2) - واختلف أصحابه: هل ظاهر مذهبه يقتضي أنه سنة أو واجب. والمطابقة: في قوله: " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ". ...   (1) " الافصاح " ج 1. (2) " بداية المجتهد " ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 292 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ في الظُّهْرِ " 343 - عَن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ في الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ في الأوْلَى، وَيُقَصِّرُ في الثَّانِيَةِ، وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَاناً، وَكَان يَقْرَأ في الْعَصْرِ بفِاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطوِّلُ في الرَّكْعَةِ الأوْلَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحَ، وَيُقَصِّر في الثَّانِيَةِ ".   292 - " باب القراءة في الظهر " 343 - معنى الحديث: يقول أبو قتادة رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين " أي يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين بالفاتحة والسورة " يطول في الأولى " أي يطول في الركعة الأولى بزيادة القراءة فيها عن الثانية، فيجعل الثانية أقصر من الأولى، " ويسمع الآية أحياناً " أي وإنما كنا نعرف أنه يقرأ في الظهر مع أنها سرية، لأنه كان يسمعنا الآية أحياناً، حيث يرفع صوته في أثناء القراءة فيها، فنعرف أنه قرأ " وكان يقرأ في العصر " أي في الركعتين الأوليين من العصر " بفاتحة الكتاب وسورتين وكان يطول في الأولى " أي وكان يقرأ في العصر كما يقرأ في الظهر، ويطول في الركعة الأوْلى كما يطول في الظهر. " وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح " كما يفعل في الظهر والعصر. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في الظهر والعصر كمشروعيتها في الصلوات الليلية، ولا خلافِ في ذلك عند أهل العلم إلاّ ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 292 م - " بَابُ القِرَاءَةَ فِي العَصْرِ. " 344 - عن أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِخَبَّابِ بْنِ الأرْتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أكانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: بأيّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قِرَاءَتِهِ، قَالَ: باضْطِرَابِ لِحْيَتهِ ".   حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم بن علية أنه لا قراءة فيهما. ثانياًً: أنه يسن الإِسرار بالقراءة في الصلوات النهارية فإن جهر لم تبطلَ صلاته عند أكثر أهل العلم، وقال الحنفية: الإِسرار واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً، وهو قول بعض أصحاب مالك، فإن تركه سهواً سجد بعد السلام، وإن تركه عمداً بطلت. ثالثاً: أنه يستحب تطويل القراءة في الركعة الأولى عن الثانية، وهو مشهور مذهب المالكية (1) والحنابلة (2). والمطابقة: في قوله: " كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر ". الحديث: أخرجه الخمسة أي عدا الترمذي. 292 م - " باب القراءة في العصر " 344 - معنى الحديث: يحدثنا راوي الحديث " وهو أبو معمر عبد الله بن سخبرة -بفتح السين وسكون الخاء وفتح الباء الأزدي- أنه سأل خباب بن الأرت " أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ " أي هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاتي الظهر والعصر كما يقرأ في المغرب والعشاء والصبح، أم أنه لا يقرأ فيها؟ وسبب سؤالهم هذا كما قال العيني " أنهم كانوا يظنون أن لا قراءة فيهما لعدم الجهر بالقراءة فيهما، ألا ترى إلى ما رواه أبو داود عن عبد الله بن عبيد الله "قال: دخلت على ابن عباس في شباب من   (1) " شرح أبي الحسن على الرسالة ". (2) " المغني " لابن قدامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 بني هاشم فقلنا لشاب: سل ابن عباس رضي الله عنهما أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر فقال لا ... إلخ" أما خباب فأجاب بالإِيجاب حيث " قال نعم " أي نعم كان يقرأ في الظهر والعصر. " قال: قلت: بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ " أنه كان يقرأ مع أن القراءة سرية " قال باضطراب لحيته " أي عرفنا أنّه كان يقرأ بتحرك لحيته في أثناء قيامة في الصلاة، وفي رواية " لحييه " بفتح اللام وسكون الحاء وفتح الياء الأولى وسكون الياء الثانية تثنية " لحي " بفتح اللام وسكون الحاء وهو منبت اللحية من الإنسان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري وغيره من أهل العلم وهم الجمهور من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين على مشروعية القراءة في الظهر، ويؤكد ذلك ما جاء في حديث أبي قتادة السابق أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان يقرأ فيهما ويسمعهم الآية أحياناً ". ولهذا قالوا بمشروعية القراءة في الظهر والعصر، خلافاً لابن عباس رضي الله عنهما حيث يرى أنها غير مشروعة فيهما. ثانياً: جواز رفع البصر إلى الإمام والنظر إليه في أثناء الصلاة، ومشروعيتها لأنهم لو لم يرفعوا أبصارهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء صلاته - صلى الله عليه وسلم - لما رأوا اضطراب لحيته، وهو مذهب مالك حيث قال: " ينظر المأموم إلى إمامه، وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده " خلافاً للحنفية والشافعية. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون خباب رضي الله عنه سئل هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 293 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ في الْمَغرَبِ " 345 - عَن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أنَّ أمَّ الفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرا (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) فقَالَتْ: يَا بُنَيَّ وَاللهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقَرَاءَتِكَ هَذِهِ السَّورَةَ إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ بِهَا في المَغْرِبِ". 346 - عَن مَرْوَان بْنِ الحَكَمِ قَالَ: قَالَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا لَكَ تَقْرأ فِي المَغْرِبِ بِقِصَار وَقَد سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأُ في الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّوْلَيَيْنِ ".   293 - " باب القراءة في المغرب " 345 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله، عنهما " أن أم الفضل بنت الحارث " والدة ابن عباس رضي الله عنهما " سمعته وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} " أي سمعت ولدها يقرأ هذه السورة المذكورة، فتذكرت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في صلاة المغرب، " فقالت: يا بني والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة " أي لقد ذكرتني عندما سمعتك تقرأ هذه السورة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، " أنها لآخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب " أي إن هذه السورة هي آخر ما سمعت من قراءته - صلى الله عليه وسلم - حيث سمعته يقرأ بها في المغرب. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها: " إنها لآخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب ". 346 - معنى الحديث: يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بطولى الطوليين " أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 294 - " بَابُ الجَّهْرِ في الْمَغرِبِ " 347 - عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ".   صلاة المغرب بأطول السورتين اللتين هما أطول سور القرآن، وهي سورة البقرة، لأن أطول سور القرآن البقرة والنساء، وأطولهما البقرة. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يقرأ بطولى الطوليين ". ويستفاد من الحديثين. ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في صلاة المغرب، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيها. كما دل عليه الحديث الأول والثاني. ثانياًً: جواز تطويل القراءة في المغرب أحياناً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها مرة بالمرسلات ومرة بالبقرة ليبين لأمته جواز ذلك، وإن كان المستحب فيها تخفيف القراءة، والاقتصار على قصار المفصل، وهو عند الجمهور من (الضحى) إلى (الناس) وعند الحنفية من (لم يكن) إلى (الناس). قال الترمذي: وكره مالك أن يقرأ في صلاة المغرب بالسور الطوال نحو (الطور) و (المرسلات)، ونفى الزرقاني كراهية التطويل في المغرب عن مالك، وقال: إنه قول غريب، والمعروف عند المالكيّة أنه لا كراهة فيه كما قال ابن عبد البر. ثالثاً: استدل به الحنفية على امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق، لأن قراءة البقرة في صلاة المغرب تقتضي ذلك. 294 - " باب الجهر في المغرب " 347 - معنى الحديث: يقول جبير بن مطعم رضي الله عنه: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ المغرب (بالطور) " الباء زائدة والمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 سمعته يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب. قال في " المنهل العذب " (1): وظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعض السورة في الركعة الأولى، والبعض في الثانية، وأمّا رواية الزهري أنه قرأ ذلك في العتمة " أي في العشاء " فإنه من رواية ابن لهيعة، وهي ضعيفة، كما قال ابن عبد البر، ولا يحتج به إذا انفرد، ومحاولة صرف الحديث عن ظاهره تكلف لا داعي له ما دام أن التطويل جائز، والأمر واسع كما قال ابن قدامة. الحديث: أخرجه الخمسة غير النسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يسن الجهر بالقراءة في المغرب. وسائر الصلوات الليلية، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو لم يجهر لما سمعه جبير رضي الله عنه، فإن تعمد الإِسرار فيها كان تاركاً للسنة، ولا تبطل صلاته عند أكثر أهل العلم، وعن بعض المالكية تبطل في العمد، ولا تبطل في الإِسرار سهواً اتفاقاً، وعليه سجود السهو. ثانياً: جواز التطويل بالقراءة في المغرب، أما الأحاديث الدالة على التخفيف فيها فإنها لبيان الاستحباب، وهذا لبيان الجواز، قال ابن المنير: تحمل الإطالة على الندرة، والتخفيف على العادة، تنبيهاً على الأولى، فالتخفيف فيها مستحب والتطويل جائز، وأما ما نسبه الترمذي إلى مالك من كراهية التطويل فهو قول غريب، والمعروف عند المالكيُة: أنه لا كراهة فيه كما نقله الزرقاني (2) عن ابن عبد البر. والمطابقة: في قوله: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور ". ...   (1) " المنهل العذب على سنن أبي داود " للشيخ محمود خطاب السبكي. (2) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 295 - " بَابُ الجَهْرِ في الْعِشَاءِ " 348 - عَنْ أبِي رَافِع قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ أبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرأ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ. قَالَ: سَجَدْتُ خَلْفَ أبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَلا أزَالُ أسْجُدُ بِهَا حَتَّى ألْقَاهُ ". 349 - عنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ في سَفَرٍ فقرَأ في الْعِشَاءِ في إحْدَى الرَّكْعَتيْنِ   295 - " باب الجهر في العشاء " 348 - معنى الحديث: يقول أبو رافع (1): " صليت مع أبي هريرة العتمة " أي صلاة العشاء، لأنّها تصلّى في وقت العتمة. أي في ظلمة الليل، قال ابن الأعرابي: وعتمة الليل ظلام أوّله عند سقوط نور الشفق " فقرأ (إذا السماء انشقت) فسجد " عند قوله تعالى: (وإذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون)، " فقلت له: " أي سألته عن حكمها، وفي رواية " فقلت: ما هذه؟ " " فقال: سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية " سجدت فيها خلف أبي القاسم " أي في هذه السورة، وفي رواية " صليت خلف أبي القاسم فسجد بها " أخرجه ابن خزيمة " فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه " أي مدة حياتي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " سجدت خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ". أي سجدت خلفه في صلاة العشاء، وهو يقرأ هذه السورة، فلو لم يجهر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما عرف أبو هريرة أنّه سجد في هذه السورة أو غيرها. 349 - معنى الحديث: يحدثنا البراء رضي الله عنه: "أن رسول الله   (1) الصائغ، وهو من كبار التابعين. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 بـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ".   - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) "، أي قرأ سورة التين في الركعة الأولى. قال الحافظ: إنما قرأ في العشاء بالتين، وهي من قصار السور، لأنه كان مسافراً. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين ". لأنه لو لم يجهر لما عرف أي سورة قرأ. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أنه يسن الجهر بالقراءة في صلاة العشاء، وكذلك سائر الصلوات الليلية، فإن القراءة فيها جهرية، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في العشاء، ولو لم يجهر لما عرف أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في سورة الانشقاق، أو في غيرها لأنه لا يسمع قراءته إذا أسر، فكيف يعرف أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في هذه السورة أو تلك، ولأن البراء رضي الله عنه حدثنا في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين، فلو لم يجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة لما عرف البراء أيَّ سورة قرأ. فدل ذلك على أن الجهر بالقراءة في صلاة العشاء " سنة وكذلك سائر الصلوات الليلية يسن الجهر فيها، وقال الحنفية كما أفاده في " فيض الباري " (1) الجهر فيها واجب، والواجب عندهم بين الفرض والنفل ". أما المسبوق فقد قال الإِمام أحمد: إن شاء جهر وإن شاء خافت - أي أسَرَّ كما أفاده ابن قدامة (2). ثانياًً: استحباب تخفيف القراءة في السفر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العشاء في أثناء سفره بقصار المفصل " فيستحب القراءة به في السفر " وهو عند الشافعية والحنابلة والمالكية من (من الضحى) إلى (الناس) وعند الحنفية من (لم يكن) إلى (الناس). وأما في غير السفر فيسن القراءة فيها بأوساط المفصل.   (1) " فيض الباري على صحيح البخاري " للشيخ محمد أنور الكشميري ج 1. (2) " المغني " لابن قدامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 296 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ في العِشَاءِ " 350 - عنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم -: " سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) في الْعِشَاءِ، ومَا سَمِعْتُ أحَداً أحْسَنَ صَوْتَاً مِنْهُ أوْ قِرَاءَةً ". 297 - " بَابُ الْقِرَاءَةِ الْفَجْرِ " 350 - عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   وهو عند المالكية من (عبس) إلى (الضحى). وعند الشافعية والحنابلة من (عم) إلى (الضحى)، وعند الحنفية من (البروج) إلى (لم يكن). ثالثاً: مشروعية سجود التلاوة في الانشقاق، وهو مذهب الشافعي. 296 - " باب القراءة في العشاء " 350 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ (والتين والزيتون) في العشاء " أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة التين في صلاة العشاء بصوت عذب وترتيل جميل، " وما سمعت أحداً أحسن منه صوتاً أو قراءة "، أبي وما سمعت أجمل منه صوتاً، ولا أجود قراءة. الحديث: أخرجه الستة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في العشاء كما ترجم له البخاري، لأن البراء سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بهذه السورة. ثانياًً: استحباب ترتيل القرآن وتحسين الصوت به. والمطابقة: في قوله: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) في العشاء ". 297 - " باب القراءة في الفجر " 351 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "في كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 " في كُلِّ صَلَاةٍ يُقْرأُ، فَمَا أسْمَعَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أخْفَى عَنَّا أخْفَيْنَا عَنْكُمْ، إنْ لَمْ تَزِدْ على أُمِّ الْقُرآنِ أجْزاتْ وَإن زِدْتَ فَهُو خَيْر ".   صلاة يقرأ" بالبناء للمجهول أي تشرع القراءة في كل الصلوات، نهارية كانت أو ليليةً، فرضاًْ أو نفلاً، ويروى في كل صلاة يقرأ بالبناء للمعلوم، والضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في كل صلاة وتقتضي هذه الرواية أن الحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأنسب " فما أسمعنا رسول الله أسمعناكم " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في بعض الصلوات جهراً وفي بعضها سراً، فما قرأ فيه جهراً وأسمعنا صوْتَهُ قرأنا فيه جهراً وأسمعناكم صوتنا " وما أخفى عنا أخفينا عنكم " قال العيني: أي وما أسرَّ به أسررنا به. ثم قال: " وإن تزد على أُمِّ القرآن أجزأت " وهو متعلق بقوله: " في كل صلاة يقرأ "، أي إن القراءة في الصلاة وإن كانت كلها مشروعة، إلّا أن بعضها ركن لا بد منه وهو الفاتحة، وبعضها سنة لا تبطل الصلاة بتركه، وهو ما زاد عليها من سورة أو آيات، فإن لم تزد على قراءة الفاتحة واكتفيت بها كفتك، وصحت صلاتك. " وإن زدت على أمِّ القرآن " سورة أو آيات " فهو خير "، أي فهو سنة تثاب عليها، وفي رواية عن أبي هريرة: " ومن زاد فهو أفضل " رواه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية القراءة في صلاة الصبح لدخولها في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " في كل صلاة يُقْرأ "، ولا خلاف في ذلك. ثانياً: أن قراءة الفاتحة ركن تبطل الصلاة بتركه، وإن اكتفى بهما المصلّي ولم يقرأ سواها صحت صلاته وأجزأته. أما قراءة السورة أو الآيات بعد الفاتحة فهو سنة يثاب عليها، ولا تبطل الصلاة بتركها لقوله: (وإن زدت فهو خير) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 298 - " بَابُ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الفَجْرِ " 352 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: انْطَلَق النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظٍ، وقد حِيلَ بَيْنَ الشَيّاَطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاء، وأرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتْ الشَيّاَطِينُ إلى قَوْمِهِمْ، فقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا شَيءٌ حَدَثَ، فاضْرِبُوا مشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهِا، فانْظرٌوا   أي شيء سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفعله ومواظبته عليه، وترغيب الناس فيه. ثالثاً: أن الإِسرار بالقراءة في الصلاة السرية، والجهر بها في الصلاة الجهرية سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أبو هريرة: " فما أسمعنا رسول الله أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم ". والمطابقة: في قوله: " في كل صلاة يقرأ " حيث يدخل في ذلك صلاة الفجر ويشملها عمومه. 298 - " باب الجهر بقراءة صلاة الفجر " 352 - معنى الحديث: يقول ابن عباس - رضي الله عنهما " انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ " أي ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جماعة من أصحابه إلى سوق عكاظ، لينتهز فرصة وجود القبائل فيه أثناء انعقاده، فيعرض عليهم الإِسلام " وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء " أي وكان خروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق عكاظ بعد أن حُجِبَ الشياطين ومنعوا من استراق السمع، وسلط الله عليهم الشهب (1) تحرقهم، وتحول   (1) والشهب جمع شهاب، وهو شعلة نازية تخرج من الكوكب متجهة نحو الشيطان فتحرقه وتحول بينه وبين ما يريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 مَا هَذَا الذي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فانْصَرَفَ أولئِكَ الذين تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ بِنَخْلَة عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بأصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ فَقَالُوا: هَذَا وَاللهِ الذي حالَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ حِينَ رَجِعُوا إلى قَوْمهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) فأنزلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) وإنَّمَا أوْحِيَ إليْهِ قَوْلُ الجِنِّ. بينهم وبين الصعود إلى السماء، فلما رأوا ذلك " قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء " أي ما منعكم من الاستماع إلى حديث الملائكة، واختطاف الأخبار منهم إلا أمر جديد وحادث عظيم وقع في هذا العالم " فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها " أي فسيروا في الأرض شرقاً وغرباً لاكتشاف سبب ذلك. وروي أن النجوم لما بدأت ترميهم بالشهب، ولم تكن تفعل ذلك من قبل ذكروا ذلك لِإبليس فقال لهم: ما هذا إلاّ من أمر قد حدث، فبعث جنوده في كل مكان من الأرض " فانصرف أولئك " الجن " الذين توجهوا نحو تهامة " وهي ما انخفض من أرض الحجاز " إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فوجدوه مصادفة " بنخلة " بين مكة والطائف على بعد ليلة من الطائف، أي على بعد عشرة أميال منها " وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر " أي وكان يصلي صلاة الفجر ويقرأ القرآن جهراً فسمعه هؤلاء الجن " فلما سعوا القرآن فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنّا سمعنا قرآناً عجباً " أي فعند ذلك آمنوا، وذهبوا إلى قومهمٍ مبشرين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يقولون: يا قومنا إنّا سمعنا قرآناً عجباً، أي عجيباً في ألفاظه غريباً في معانيه، خارجاً عن مقدور البشر " يهدي إلى الرشد " أي إلى الدين الحق الخ " وإنما الذي أوحى إليه " في أول سورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 353 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهمَا قَالَ: " قَرَأ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا أمِرَ، وَسَكَتَ فيِمَا أمِرَ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ".   الجن هو " قول الجن " أي هو إخباره عما قاله الجن عند استماعهم إلى قراءته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فلما سمعوا القرآن ". 353 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر وسكت فيما أمر " أي جهر النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - في الصلوات التي أمره الله بالجهر فيها، وهي الصلوات الليلية، وأسَرَّ في الصلوات التي أمره الله تعالى بالإسرار فيها، وهي الصلوات النهارية " وما كان ربك نسياً " ولم يذكر الله ذلك في القرآن نسياناً منه، فهو المنزه عن ذلك، ولكنه ترك بيان هذه الأحكام لنبيه - صلى الله عليه وسلم - " ولقد كان لكم في رسول الله أسوة " فيجب عليكم اتباع سنته. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: استحباب الجهر في صلاة الصبح لجهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ولو لم يجهر لما سمعه الجن. ثانياً: أن الجهر في الصلوات الليلية، والإِسرار في النهارية سنة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في هذه وأسر في هذه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " قرأ فيما أمر، وسكَت فيما أمر ". ...   (1) لأن معنى قوله: " قرأ النبي " أًي جهر بالقراءة، ومعنى " وسكت " أي أمر بالقراءة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 299 - " بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتيْنِ في الرَّكْعَةِ " 354 - عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: قَرأتُ الْمفَصَّلَ اللَّيْلَةَ في رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذَّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظائِرَ التي كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَر عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الُمفَصَّلِ سُورَتَيْنِ في كُلِّ رَكْعَةٍ ".   299 - " باب الجمع بين السورتين في الركعة " 354 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه " أنه جاءه رجل " وهو نَهِيك بن سنان (1) البجلي " فقال قرأت المفصل الليلة في ركعة " أي قرأت سور المفصّل كلها: وهو من (ق) إلى (الناس) هذه الليلة في ركعة واحدة. فكأنه فهم منه أنه كان يسرع في التلاوة، ولا يرتل القرآن في صلاته، فلم يستحسن منه ذلك " فقال له: هذاً كهِذِّ الشعر " أي أتسرد القرآن، وتسرع في تلاوته كأنك تقرأ شعراً مع أنه كان ينبغي لك أن ترتل القرآن، أمر الله عز وجل، ثم قال ابن مسعود: " لقد عرفت النظائر " أى السور المتماثلة في معانيها وعدد آياتها " التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهن " أي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين كل سورتين منها في ركعة واحدة، فإن شئت أن تعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجمع بين كل سورتين فقط، ولا تزد، لتتمكن من الترتيل، وحسن التلاوة " فذكر عشرين سورة من المفصل " أي فعدَّ عشرين سورة " سورتين في كل ركعة " وهي (الرحمن) و (النجم) و (اقتربت) و (الحاقة) و (الذاريات) و (الطور) و (الواقعة) و (ق) و (سأل) و (النازعات)   (1) بفتح النون وكسر السين من " سنان ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 300 - " بَابٌ يَقْرأُ في الأخرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " 355 - عن أبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرأ في الظُّهْرِ في الأولَيَيْنِ بأمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وفي الرَّكْعَتَيْنِ الأخْرَيَيْنِ بأمِّ الْكِتَابِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ، وَيُطَوِّلُ في الرَّكْعَةِ الأولَى ما لا يُطَوِّلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وهكَذا في الْعَصْرِ، وَهَكَذَا في الصبحَ " (1).   و (ويل للمطففين) و (عبس) و (المدثر) و (المزمل) و (هل أتى) و (لا أقسم) و (عمّ) و (المرسلات) و (التكوير) و (الدخان) وذلك على ترتيب مصحف ابن مسعود. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز الجمع بين سورتين، وهو جائز في النافلة اتفاقاً، ويكره في الفريضة عند المالكية (2) وبعض الحنفية (3)، وفي رواية عن أحمد (4). ثانياً: النهي عن الإِسراع في القراءة. ثالثاً: استحبابِ القراءة من المفصل. والمطابقة: في قوله: " يقرن بينهن ". 300 - " باب يقرأ في الأُخريين بفاتحة الكتاب " 355 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين " أي يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين بالفاتحة والسورة " وفي الركعتين الأخريين "   (1) أي وكذلك كان يطوّل الركعة الأولى عن الثانية في العصر والصبح، والله أعلم. (2) " حاشية الصنعاني على شرح العشماوية ". (3) " فيض الباري " ج 1. (4) " المغني " ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 301 - " بَابُ جَهْرُ الإمَامَ بالتَّأمِينَ " 356 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أمنَ الإِمَامُ فَأمِّنُوا، فإِنَّ مَنْ وَافَقَ تأمِينُهُ   أي ويقتصر في الركعتين الأخريين على أم الكتاب فقط " ويسمعنا الآية " أي وكان يُسرُّ بالقراءة، إلاّ أنه يرفع صوته فيسمعنا الآية أحياناً، لنتعلم منه، ولذلك عرفوا ما كان يقرأ في الظهر، " ويطول في الركعة الأولى مما لا يطول في الركعة الثانية "، أي يجعل الركعة الأولى أطول من الثانية. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية قراءة الفاتحة والاقتصار عليها في الركعتين الأخريين من الرباعية، وفي الأخيرة من الثلاثية، أما قراءة الفاتحة فيهما فهو ركن عند الجمهور (1) خلافاً لأبي حنيفة وأحمد في رواية، وأما الاقتصار عليها فهو سنة عند الجمهور. ثانياً: يستحب تطويل الركعة الأولى عن الثانية، وهو مذهب المالكية ومحمد بن الحسن والكثير من الشافعية، وذهب الحنفية إلى استحباب التسوية بينها لقول سعد " أما أنا فأركد في الأوليين " أي أطيل فيهما. ثالثاً: الإِسرار في الصلاة النهارية للإِمام، والمنفرد معاً، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أحمد في المشهور عنه: لا يستحب للمنفرد، وإنما هو بالخيار، وهو مذهب أبي حنيفة، واتفقوا على أنه إن جهر في السرية، أو أسر في الجهرية لا شيء عليه لأنه مستحب فقط، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسمعهم الآية أحياناً، وهو في صلاة الظهر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ". 301 - " باب جهر الإِمام بالتأمين " 356 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا أمّن الإِمام فأمِّنوا "   (1) فإن نسيها في ركعة بطلت صلاته عند الشافعي، وهو مذهب أحمد في الرواية المشهورة عنه ورواية عن مالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 تَأمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".   أي إذا قال الإِمام: آمين فقولوا مثله آمين " فإنّ من وافق تأمينه تأمين الملائكة " أي وافقهم في الوقت، كما قال النووي " غفر له ما تقدم من ذنبه " أي فإن أمّن مع الملائكة في وقت واحد غفرت ذنوبه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب التأمين للإِمام والمأموم معاً في الصلاة الجهرية، أما استحبابه للإِمام فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمَّن الإِمام " وأما استحبابه للمأموم فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأمنوا " وهو مذهب أحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك في رواية: لا تأمين على الإمام في الصلاة الجهرية، وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أمن الإمام " فمعناه إذا بلغ موضع التأمين لما في رواية " الموطأ " إذا قال الإمام: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقولوا: آمين " قال الزرقاني: وهو حجة ظاهرة على أن الإِمام لا يؤمِّن. ثانياًً: أنه يستحب للإِمام الجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أمّن الإِمام فأمِّنوا " حيث أمر المأمومين بالتأمين عند تأمين الامام، وهم لا يعرفون ذلك إلّا إذا جهر بالتأمين، فيستحب له الجهر به ليسمعوه، ويؤمِّنوا مثله. ويؤيد ذلك حديث سفيان " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " آمين " ورفع بها صوته " وهو ما ترجم له البخاري، وأما حديث شعبة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "آمين" وخفض بها صوته " فلا خلاف بين أهل العلم أن شعبة وسفيان إذا اختلفا فالقول قول شعبة كما أفاده ابن القيم، وقال الترمذي: سمعت محمداً - يعني البخاري يقول: حديث سفيان أصح، والحاصل أن الأحاديث صريحة في أنه يستحب للإِمام الجهر بالتأمين في الجهرية كما ترجم له البخاري، وذهب إليه الشافعي ومن وافقه من أهل العلم، قال العيني: وفيه أنّه مما تمسك به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 302 - " بَابُ فضلِ التَّأمِينِ " 357 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قَالَ أحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتْ الْمَلاِئكَةُ في السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الأخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". 303 - " بَاب إذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ " 358 - عن أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ انتهَى إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَاكِع، فَرَكَعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلى   الشافعي الجهر بالتأمين، وذكر المزني في " مختصره " أنّ الشافعي قال: يجهر بها الإمام في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة والمأموم يخافت، وفي " التلويح " ويجهر فيها المأموم عند أحمد وإسحاق وداود. والمطابقة: في قوله: " إذا أمّن الِإمام ". 302 - " باب فضل التأمين " 357 - معنى الحديث: أن المسلم إذا أمن على دعائه أمنت الملائكة عند انتهائه منه، فإذا اتفقا في الوقت، غفرت ذنوبه. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. ويستفاد منه: استحباب التأمين على الدعاء في الصلاة أو غيرها رجاء موافقة الملائكة في تأمينهم والفوز بالمغفرة. والمطابقة: في كون التأمين سبباً في المغفرة. 303 - " باب إذا ركع دون الصف " 358 - معنى الحديث: أن أبا بكرة جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع فخشي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 الصَّفِّ فَذَكَر ذَلِكَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " زَادَكَ اللهُ حِرْصَاً، ولا تَعُدْ ". 304 - " بَابُ إتْمَام التَّكْبِيرِ في الرُّكُوعِ " 359 - عن عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالْبَصْرَةِ فَقالَ: " ذَكَّرَنَا هَذَاَ الرَّجُلُ صَلاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ أنَّهُ كَانَ يُكَبر كُلَّمَا رَفَعَ، وَكُلَّمَا وَضَعَ " (1).   أن تفوته الركعة فركع قبل أن يصل إلى الصف، فأخبِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بما فعل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " زادك الله حرصاً " أي رغبة في صلاة الجماعة واجتهاداً في الحصول عليها ولا تعد إلى الركوع قبل الصف. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: النهي عن الركوع دون الصف وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة. وقال مالك والليث: لا بأس إن كان قريباً. ثانياً: النهي عن صلاة الرجل منفرداً خلف الصف، لأنه أولى بالنهي من الركعة الواحدة، واختلفوا في هذا النهي، فحمله أحمد واسحاق على التحريم وأنه يقتضي فساد الصلاة، فمن صلّى وحده ركعة كاملة أثم وفسدت صلاته، وحمله الجمهور على الكراهة لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة، وأما حديث " لا صلاة للذي خلف الصف " فمعناه لا صلاة كاملة لأَنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظره حتى فرغ من صلاته. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: "ولا تعد". 304 - " باب إتمام التكبير في الركوع " 359 - معنى الحديث: أن عمران بن حصين صلّى خلف الإِمام علي رضي الله عنه بالبصرة بعد وقعة الجمل، فقال: لقد ذكرنا هذا الخليفة الراشد   (1) اعتمدت في سند هذا الحديث على ما جاء في " مختصر البخاري " للزبيدي، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 305 - "بَابُ وَضْعِ الأَكُفِّ على الرُّكَبِْ في الرُّكُوعِ " 360 - عن سَعْد بْنِ أبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أنَّهُ صَلَّى إلى جَنْبِهِ ابنُهُ مُصْعَب قَالَ: فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهانِي أبِي، وقَالَ: كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وأمِرْنَا. أنْ نَضَعَ أيدِينَا علَى الرُّكَبِ".   بصلاته الكاملة المستوفية لسنتها وواجباتها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان رضي الله عنه - يأتي بكل التكبيرات، ويحافظ عليها، فيكبر كلما خفض رأسه للركوع والسجود، أو رفع رأسه من السجود. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " يكبِّر كلما رفع، وكلما وضع ". ويستفاد منه: مشروعية التكبير عند الخفض للركوع والسجود، وعند الرفع من السجود، وهو سنة عند الجمهور، واجب عند بعض الظاهرية. 305 - " باب وضع الأكف على الركب في الركوع " 360 - معنى الحديث: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه " صلى إلى جنبه ابنه مصعب قال: فطبقت بين كفي " أي ألصقت باطن الكف اليمنى بباطن الكف اليسرى " ثم وضعتهما بين فخذي. " أي طبقتهما ووضعتهما بين الفخذين في الركوع " فنهاني أبي وقال: كنا نفعله فنهنا عن ذلك " لأنه فعل اليهود .. فلا تتشبه بهم " وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب " مخالفة لليهود في فعلهم هذا قال عمر رضي الله عنه: إن الركب سنَّت لكم فخذوا بالركب. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " أمرنا أن نضع أيدينا على الركب ". ويستفاد منه: كراهية التطبيق في الركوع، ومشروعية وضع اليدين على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 306 - " بَابُ حَدِّ إتمَامِ الرُّكُوعِ والاعْتِدَالِ فِيهِ والإِطْمَأنِينَةُ " 361 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ رُكُوعُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وإذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ قَرِيباً مِنَ السَّوَاءِ".   الركب، وهو سنة عند الجمهور (1). 306 - " باب حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والإِطمأنينة " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حد الإتمام والاعتدال والإطمأنينة -بكسر الهمزة- في الركوع (2). 361 - معنى الحديث: يقول البراء بن عازب رضي الله عنهما " كان ركوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجوده وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع مما خلا القيام والقعود قريياً من السواء " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث في الركوع والسجود، وبين السجدتين وعند الرفع من الركوع مدة متساوية تقريباً، أما عند القيام الذي قبل الركوع، وعند جلوسه للتشهد الأول والثاني، فإنه كان يمكث مدة أطول. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الإِطمأنينة في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، وهي ركن عند الجمهور، واجبة عند أبي حنيفة. ثانياًً: مشروعية الاعتدال بعد الرفع من الركوع، وهو سنة عند مالك وأبي حنيفة، فرض عند الشافعي وأحمد، وقد تقدم الكلام على الإِطمأنينة والاعتدال   (1) والتطبيق منسوخ، ومن فعله بعد ذلك من الصحابة فيحمل على أنه يبلغه النسخ، كابن مسعود. (ع). (2) أي بكسر الهمزة وسكون الطاء وكسر النون في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني " والطمأنينة " يضم الطاء وهو المستعمل الذي ذكره أهل اللغة. اهـ. كما أفاده العيني ج 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 307 - " بَابُ الدُّعَاءِ في الرُّكُوعَ " 362 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَنّاَ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ".   في باب وجوب القراءة للإمام. ثالثاً: أن مدة الإِطمئنان في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين متساوية تقريباً، وكذلك الاعتدال بعد الركوع وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يشعر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث في الركوع والسجود وبين السجدتين وبعد الرفع من الركوع مدة تزيد على حقيقة الركوع والسجود والرفع من الركوع، وهذا المكث الزائد هو معنى الاعتدال والطمأنينة. 307 - " باب الدعاء في الركوع " 362 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك " أي كان يذكر الله تعالى في ركوعه وسجوده بهذه الصيغة الجامعة للتسبيح والتحميد، ويختم بطلب الغفران. وهو أن يعفو الله عن عبده، ولا يؤاخذه بذنبه ويصونه من عذابه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الذكر في الركوع والسجود بالتسبيح والتحميد، واختلفوا في حكمه، فقالت الظاهرية: الذكر في الركوع والسجود واجب، وقال الجمهور: سنة، واختلفوا في صيغته فقال مالك وأهل الظاهر: ليس فيه صيغة معينة، بل يذكر الله بكل ما ورد من الأذكار المأثورة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: يستحب أن يقول في الركوع: سبحان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 308 - " بَابُ فضل: اللهم ربنا لَكَ الْحَمْدُ " 363 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قَالَ الإِمَامُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: " اللَّهُمَّ رَبنا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ".   ربي العظيم، وفي السجود، سبحان ربي الأعلى لما في حديث عقبة بن عامر قال: " لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت (سبحَ اسم ربك الأعلى) قال: اجعلوها في سجودكم " أخرجه أبو داود. ثانياً: مشروعية الدعاء في الركوع والسجود، أما مشروعيته في السجود فلا خلاف فيه، وأما مشروعيته في الركوع - كما ترجم له البخاري فقد ذهب إليه بعض أهل العلم عملاً بهذا الحديث، وكرهه مالك والشافعي وأبو حنيفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما الركوع فعظموا فيه الرب ". والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه: " اللهم أغفر لي " والاستغفار دعاء. 308 - " باب فضل اللهم ربنا لك الحمد " 363 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قال الإِمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم. ربنا لك الحمد " أي فإن المشروع للمأمومين هو التحميد، فقولوا: بعد قول الإمام سمع الله لمن حمده: اللهم ربنا لك الحمد، " فإنه من وافق قوله قول الملائكة " أي فإن الملائكة تقول عند قول الإِمام سمِعَ الله لمن حمده: اللهم ربنا لك الحمد، فمن وافق، تحميده تحميد الملائكة في الوقت "غفر له ما تقدم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 309 - " بَابٌ " 364 - عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: "لَأقَربَنَّ لَكمْ صَلَاةَ الَّنبِي - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ أبو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه يَقْنُتُ   ذنبه" أي غفرت ذنوبه السابقة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنّ الصيغة المشروعة للإِمام عند الرفع من الركوع هي التسميع، فيسن له، وللمنفرد أيضاً أن يقول " سمع الله لمن حمده " وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وذهب الشافعي إلى أنه يسن للإِمام والمنفرد أن يجمعا بين التسميع والتحميد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال: " سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد " أخرجه البخاري والنسائي، وقال: أحمد يجب (1) ذلك. ثانياًً: انه يسن للمأموم التحميد فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده " فقولوا: ربنا لك الحمد " وهو مذهب الجمهور خلافاً للشافعية حيث قالوا: يسن للمأموم أن يقول: سمع الله لمن حمده، وهو مذهب الإمام محمد وأبي يوسف وابن سيرين. قال في " فيض البارى " وقد وردت صيغة التحميد على أربعة أنحاء، بذكر اللهم وحذفه، وذكر الواو وحذفها. ثالثاً: فضل التحميد، وكونه سبباً في الغفران، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: ظاهرة من حيث أنّه دل على أنّ التحميد سبب في الغفران. 309 - "باب " 364 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "لأقربنّ   (1) أي يجب الجمع بين التسميع والتحميد للإمام والمتفرد كما في " شرح العمدة " وكتاب " الاسئلة والأجوبة الفقهية " للشيخ عبد العزيز المحمد السلمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 في الركْعَةِ الأُخْرَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ ويَلْعَنُ الكُفَارَ".   لكم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" أي لأبينن لكم كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً يقربها من أذهانكم حتى كأنكم تشاهدونها. قال الراوي: " فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح " أي كان يأتي بالدعاء المعروف بالقنوت في الركعة الأخيرة من الظهر والعشاء والصبح " فيدعو للمؤمنين " أي فتارة يدعو للمؤمنين بالنصر على أعدائهم والنجاة منهم " ويلعن الكفار "، أي وتارة يدعو على الكفار باللعنة، كما دعا على الخمسة الذين وضعوا سلا الجزور على ظهره، فأهلكهم الله. ويستفاد منه: كما قال بعض أهل العلم استحباب القنوت بعد الرفع منِ الركعة الأخيرة من الظهر والعشاء والصبح، وهو مذهب الظاهرية خلافاً لغيرهم من أهل العلم، حيث خصصوا القنوت بالوتر أو بالصبح، قال الترمذي: واختلف أهل العلم في القنوت، فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها قبل الركوع، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك واسحاق وأهل الكوفة، وهو قول أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى أن القنوت سنة في الصبح بعد الركوع " قال النووي " القنوت في الصبح مذهبنا، وبه قال أكثر السلف ومن بعدهم. وقال مالك ومن وافقه من أهل العلم: القنوت مستحب في صلاة الصبح قبل الركوع، وهو معنى قول خليل: " وقنوت سراً بصبح فقط قبل الركوع " قال الحطاب: يعني أن القنوت مستحب في صلاة الصبح. " وقال أحمد " في الرواية المشهورة عنه: " القنوت سنة في الوتر بعد الركوع " أما تفصيل وبيان أدلة كل فريق من هؤلاء فيأتي في موضعه. واعلم أنّ العلماء لم يشددوا في هذه المسألة (1) ففي الأمر سعة. قال الشافعي   (1) " المغني " لابن قدامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 310 - " بَابُ الإِطْمَأنِينَةُ حِينَ يَرْفَعُ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ " 365 - عَنْ أنسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ كَانَ يَنْعتُ صَلاةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فكَانَ يُصَلِّي، فَإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ نَسِىَ ". 366 - عن أبي قِلَابَةَ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: "كَانَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُرِينَا كَيْفَ كَانَ صَلَاةُ النَّبِيُّ   رحمه الله: أنا أذهب إلى أن القنوت بعد الركوع، فإن قنت قبله فلا بأس وروى مثله عن أحمد رحمه الله، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. 310 - " باب الإِطمأنينة (1) حين يرفع رأسه من الركوع " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على مشروعية الإطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، والمراد بها هنا الاعتدال بعد الرفع من الركوع. 365 - معنى الحديث: يقول ثابت البناني: راوي الحديث: " كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي يصلّي أمامنا مثل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرينا عملياً كيفية صلاته - صلى الله عليه وسلم - " فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي " أي وقف وقوفاً طويلاً حتى نظنه نسي أنه بعد الركوع. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " قام حتى نقول قد نسي ". 366 - معنى الحديث: يقول أبو قلابة "كان مالك بن الحويرث   (1) بكسر الهمزة وسكون الطاء وعن بعضهم بضم الهمزة، والكشميهني الطمأنينة بضم الطاء وبغير همزة. اهـ. كما أفاده القسطلاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 - صلى الله عليه وسلم - وذَاكَ في غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ، فَقَامَ فأمْكَنَ القِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فأمْكَنَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فانْصَبَّ (1) هُنَيَّةً". 311 - " بَابُ فضلِ السُّجُودِ " 367 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّاسَ قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " هَلْ تُمَارُونَ في الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَاب؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ في الشَّمْس، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ   يرينا كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذاك في غير وقت صلاة" أي في غير وقت صلاة مكتوبة فصلّى أمَامَنَا إحدى الصلوات الخمس في غير وقتها ليعلمنا إياها عن طريق المشاهدة " فقام أمكن القيام " أي أطال القيام " ثم ركع فأمكن الركوع " أي أطاله واطمأن فيه " ثم رفع رأسه فانصب " بتشديد الباء " هُنَيَّة " (2) أي فاعتدل ونصب قامته، ومكث قائماً مدة من الزمن. والمطابقة: في قوله: " فانصبّ هنَّية ". الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. ويستفاد من الحديثين: مشروعية الاعتدال بعد الركوع، وهو فرض عند الشافعي وأحمد، سنة عند أبي حنيفة، ولم ينقل عن مالك فيه نص، لكن ظاهر مذهبه أنّه سنة، كما أفاده ابن رشد. 311 - " باب فضل السجود " 367 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أنّ الناس قالوا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة " أي إن أصحاب رسول   (1) في رواية الكشميهني: فأنصت، ووقع عند الاسماعيلي: فانتصب قائماً، وهي أوضح. (ع). (2) بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 اللهِ، قَالَ: فَإنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئَاً فَلْيَتَّبعْ، فَمِنْهُمْ مَن يَتَّبعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبعُ الطَّوَاغيتَ، وَتَبْقَى هَذه الأمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فيَأتِيهِمُ اللهُ   الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن رؤية المؤمنين لربهم، وهل المؤمنون يرون ربهم بأعينهم يوم القيامة؟ " قال: هل تمارون في القمر لينة البدر؟ " قال القسطلاني: " تمارون " بضم التاء من المماراة وهي المجادلة، وللأصيلي تَمارَوْن بفتح التاء والراء، وأصله تتمارَون حذفت إحدى التاءين أي هل تشكون. وعلى الأوّل معناه، هل تتجادلون في رؤية القمر ليلة الرابع عشر، فينكرها فريق من الناس، ويثبتها الآخر، أو أن ذلك حقيقة من الحقائق المحسوسة المسلَّم بها عند جميع البشر، وعلى الثاني معناه: هل تشكُّون في مشاهدة القمر هذه الليلة، " قالوا: لا يا رسول الله " فإن القمر لا يخفى على أحد هذه الليلة ولا يشك في وجوده أحدٌ " قال فإنكم ترونه كذلك " أي فإنكم سترون ربكم ظاهراً جلياً دون شك ولا ريب، كما أنه لا شك في رؤية القمر ليلة البدر، ورؤية الشمس في رابعة النهار، ليس دونهما سحاب والتشبيه في قوله: " ترونه كذلك " إنما هو في الرؤية ووضوحها لا في المرئي وهيئته وشكلِهِ، لأنه عز وجل ليس كمثله شيء " يحشر الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتَّبع " أى فليلحق بمعبوده، ويطلب عنده النجاة. " فمنهم من يتبع الشمس " وهم عبَّادها في الدنيا " ومنهم من يتبع الطواغيت " جمع طاغوت. قال ابن القيم: والطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع (1) والطواغيت كثيرة ورؤسها خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبد وهو راض،   (1) " الأصول الثلاثة " للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعنى " أو متنوع " يعني في معصية الله " أو مطاع " أي في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحلّ الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 فَيَقول أنَّا رَبُّكمْ، فَيَقولونَ: هَذَا مَكَاننَا حتَّى يأتِينَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأتِيهِمْ الله وعَزَّ وَجَلَّ، فَيَقول: أنَا رَبّكمْ، فَيَقولونَ: أنتَ رَبُّنَا، فَيَدْعوهمْ، وَيضْرِبُ الصِّراط بَيْنَ ظَهْرَانَْي جَهَنَّمَ، فَأكون أوَّلَ مَنْ يَجوز مِنَ الرُّسُلِ بأمَّتِهِ، ولا يَتَكَلَّم يَوْمَئِذٍ أحَدٌ إلا الرُّسل، وَكَلَام الرّسلِ يَومَئِذٍ اللَّهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جَهَنَّمَ كَلَالِيب مِثْل شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأيْتمْ   ومن دعا الناس إلى عبادته، ومن ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله. اهـ. " فيأتيهم الله " على غير الصفة المعروفة لديهم من كتاب الله " فيقول أنا ربكم، فيقولون هذا مكاننا " أي فيثبتهم الله بالقول الثابت: فيقولون: لست ربنا، وسنبقى في مكاننا حتى يأتينا الرب الحق " فيأتيهم الله " على الصفة التي يعرفونها من كتاب الله " فيقولون: أنت ربنا " الحق، وقد رجَّح القاضي عياض أنّ الذي يأتيهم في الأول ملَكٌ، والذي يأتيهم في المرة الثانية رب العزة. قال النووي: يعرفونه بتوفيق الله تعالى، وهو الظاهر المتبادر إلى الذهن لرهبة الموقف الذي تذهل له العقول، ولكن الله يثبت بالقول الثابت من شاء من عباده المؤمنين الصادقين، ويلهمهم كلمة الحق، وقول الصواب " ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم " أي على وسطها " وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم " أي لا كلام لهم إلاّ التضرع إلى الله سائلين منه السلامة والنجاة لأممهم " وفي جهنم كلاليب " جمع كَلُّوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق بها اللحم " مثل شوك السعدان " وهو نبت ذو فروع شوكية، أي أن كلاليب جهنم في حدتها وصورتها وكثرة عددها تشبه شوك السعدان " تخطف الناس " بفتح الطاء ويجوز كسرها أي أن هذه الكلاليب التي على جانبي الصراط تأخذ الناس بسرعة لتلقيهم في جهنم " بأعمالهم " أي بسبب أعمالهم وعلى قدرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غير أنَّهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلَّا اللهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بأعْمَالِهِم، فَمِنْهُمْ مَنْ يَوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا أرادَ اللهُ رَحْمَةَ مَنْ أرَادَ من أهْلِ النَّارِ، أمَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ أنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ، وَيَعْرِفُونَهُمْ بآثارِ السجُّودِ، وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أن تأكلَ أثرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأكلُهُ النَّارُ إلَّا أثرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كما تَنْبُتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيلِ، ثُمَّ يَفْرَغُ اللهُ منَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، ويَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجنَّةِ والنَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أهْلِ النَّارِ دُخُولاً الجَنَّةَ، مُقْبِلاً بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ قَد قَشَبَنِي   " فمنهم من يوثق " أي يهلك بسبب معاصيه " ومنهم من يخردل " أي يقِطع أشلاءً - فتقطعه كلاليب الصراط وتلقى به في جهنم. وللأصيلي بالجيم من الجردلة، وهي الإشراف على الهلاك، كما أفاده القسطلاني " ثم ينجو" كلام مستأنف أي ينجو من أراد الله له النجاة من النار بعدم دخوله إليها، أو بإخراجه منها " حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار " من عصاة المؤمنين " أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله " وحده " فكل ابن آدم تأكله النار إلاّ أثر السجود " في الجبهة، كما قال عياض أو في الأعضاء السبعة، كما أفاده الحافظ والعيني " فيخرجون من النار قد امتحشوا " بفتح التاء أي احترقوا " فيُصب عليهم ماء الحياة " قال عياض: وهو ماء من شربه أو صُبَّ عليه لم يمت أبداً " فينبُتون كما تنبت الحِبة " بكسر الحاء وهي بذرة البقل كما في " القاموس " " في حميل السيل "، أي في طين السيل، "ويبقى رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 رِيحُهَا، وأحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَقُولُ، هَلْ عَسيْت إنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أنْ تَسْأل غَير ذَلِكَ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي الله مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاق، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فإذَا أقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أن يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قدمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ الله لَهُ: أليْسَ قَدْ أعطَيْتَ الْعُهودَ والمِيثَاقَ أنْ لَا تَسْأل غَير الذِّي كُنْتَ سألت، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أكُون أشْقَى خَلْقِكَ، فيقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إنْ أعْطِيتَ ذَلِكَ أنْ لا تَسْأل غَيرهُ، فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أسأل غير ذَلِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إلى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإذَا بَلَغ بَابَهَا، فَرَأى زَهْرَتَهَا، ومَا فِيهَا من النُّضرَةِ والسرورِ، فَيَسْكُتُ ما شَاءَ اللهُ أنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أدْخِلْنِي الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلَّ: وَيْحَكَ يا ابْنَ آدَمَ، مَا أغدَرَكَ! أليْسَ قَدْ أعْطَيْتَ العَهْدَ والميثَاقَ أنْ لا تَسْأل غَير الذي أعْطِيتَ؟! فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لا تَجْعَلْنِي أشْقَى   بين الجنة والنار" من العصاة " فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار قد قشبني ريحها " أي آذاني ريحها العفن، النتن، " وأحرقني ذَكاؤها " أي لهيبها المشتعل، " فيقول الله له: هل عسَيْتَ إن فعل الله ذلك بك أن تسأل غير ذلك، فيقول: لا وعزتك وجلالك " فيقسم ويعاهد الله على أن لا يسأله شيئاً آخر، " فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت " أي سكت مدة من الزمن " ثم قال: يا رب قدمني عند باب الجنة " وقربني إليها، ثم قال: " فيقدمه إلى باب الجنة " فلا يملك نفسه عند ذلك، وهؤ يرَى الجنة بين يديه، " فيقول: يا رب أدخلني الجنة فيقول الله عز وجل: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللهُ مِنْهُ، ثم يَأذَنُ لَهُ في دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، حتى إذَا انْقَطَعَتْ أمْنِيَتُهُ، قَالَ اللهُ: زِدْ مِنْ كَذَا وَكَذَا، أقبَلَ يُذَكِّرُهُ رَُّبهُ حتى إذَا انتهَتْ بِهِ الأمَانِي، قَالَ اللهُ تَعَالى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " وَقَالَ أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ لأبِي هُرَيْرةَ: إن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَكَ ذَلِكَ وَعشْرَةُ أمْثَالِهِ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: لَمْ أحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا قَوْلَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أبو سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشرَةُ أمْثَالِهِ.   وفي هذه العبارة ترحُّمٌ وإشفاق على هذا الإنسان الضعيف الذي يكمن ضعفه في تسرعه إلى إعطاء العهود والمواثيق التي لا يطيق الالتزام بها، ويعجز عنها، فيضطره ذلك إلى الغدْر، ونقض العهود، " فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك " أي لا تحرمني من جنتك مثل الكفار الذين هم أشقى عبادك، ولسان حاله يقول: كما قال الشاعر: إنْ لم أكن أخْلَصْتُ فِي طَاعَتِكْ ... فَإنَّنِي أطْمَعُ فِي رَحْمَتِكْ وَإنَّما يَشْفَعُ لِي أنَّني ... قَدْ كُنْتُ لَا أشْرِكُ فِي وَحْدَتِكْ " فيقول له: تمّن حتى إذا انقطعت أمنيته " أي حتى إذا انتهت حاجاته، وسأل كل طلباته " قال الله في لك ذلك ومثله " أي لك ضعف ما طلبت " وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنهما: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل لك ذلك وعشرة أمثاله " ومعناه أنهما اختلفا هل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لك ذلك ومثله " وهو ما حفظه أبو هريرة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: " لك ذلك وعشرة أمثاله " وهو ما سمعه أبو سعيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك في صحة الروايتين قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 312 - " بَابُ السُّجُودِ عَلَى الأنفِ " 368 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ أن أسْجُدَ علَى سَبْعَةِ أعْظُم على الْجَبْهَةِ، وأشَارَ بِيَده على أنفِهِ والْيَدَيْنِ والرُّكْبَتَيْنِ وأطْرَافِ القَدَمَيْنِ ولا نَكفِتَ الثيابَ والشَّعَرَ ".   العيني: ووجه الجمع بين خبر أبي سعيد وخبر أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أولاً بالمثل. ثم اطلع على الزيادة (1). الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه: أولاً: بيان فضل السجود كما ترجم له البخاري لكونه سبباً في نجاة الأعضاء السبعة من النار، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكل ابن آدم تأكله النار إلاّ أثر السجود ". ثانياًً: رؤية المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة، وقد تقدم في باب فضل العصر. ثالثاً: فيه دليل لأهل السنة والجماعة على أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار خلافاً للخوارج. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار -وهم عصاة المؤمنين- أمر الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكل ابن آدم تأكله النار إلاّ أثر السجود ". 312 - " باب السجود على الأنف " 368 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " أي أمرني الله تعالى أن أسجد على سبعة أعضاء، فإن المراد بالأعظم الأعضاء كما جاء مفسَّراً في الرواية الأخرى حيث قال: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة أعضاء " أخرجه البخاري، ثم بين الأعضاء السبعة   (1) فأخبر بالعشرة الأمثال فسمع الأول أبو هريرة وتحدث به وسمع الثاني أبو سعيد وتحدث به فكلاهما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 بقوله: " على الجبهة " أي أمرت بالسجود على الجبهة، والمراد بها الأنف كما يدل عليه قوله: " وأشار بيده على أنفه "، أي أشار إلى أنفه ليبين أن المقصود بالجبهة الأنف " واليدين " أي وعلى باطن الكفين " والركبتين وأطراف القدمين " أي وأطراف أصابع القدمين " ولا نكفت الثياب والشعر " أي لا تكف ولا نجمع الثياب والشعر. ويستفاد منه: أنّ الواجب هو السجود على الأنف فقط، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة ثم أشار إلى أنفه " فدل ذلك على أن الواجب هو السجود على الأنف، أما السجود على الجبهة وسائر الأعضاء فهو سنة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، ورواية أشهب عن مالك، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أن الواجب هو السجود على الجبهة، وهو ركن من أركان الصلاة، كما نص عليه خليل، أمّا السجود على الأنف وسائر الأعضاء فهو سنة عند المالكية كما أفاده الحطاب (1)، وهو قول للشافعي كما أفاده الحصني (2)، وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنّ الواجب السجود على الجبهة وسائر الأعضاء ما عدا الأنف فإنه مستحبٌ، واستظهره النووي وقال: أحمد في الرواية (3) المشهورة عنه: الواجب السجود على الجبهة والأنف (4) وسائر الأعضاء السبعة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " وأشار بيده على أنفه ". ...   (1) " مواهب الجليل " ج 1. (2) " شرح كفاية الأخبار " للحصني. (3) " المغنى " لابن قدامة. (4) وهو الذي تؤيده الأدلة. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 313 - " بَابُ الْمُكْثِ بَيْنَ السَّجْدَتيْنِ " 369 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " إنِّي لا آلو أنْ أُصَلِّىَ بِكُمْ كَمَا رَأيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا، قَالَ ثَابِتُ: كَانَ أنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئَاً لَمْ أرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ، كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقولَ القَائِلُ قَدْ نَسِيَ ".   313 - " باب المكث بين السجدتين " 369 - معنى الحديث: يروي لنا ثابت البناتي عن أنس رضي الله عنه " قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى " أي إني أحرص كل الحرص على أن أصلي بكم مثل ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي تماماً، ولا أقصر في شيء من الأقوال والأفعال التي رأيته وسمعته يأتي بها في صلاته، " قال ثابت: كان أنس يصنع شيئاً " أي يفعل شيئاً من صلاته " لم أركم تصنعونه " أي لا أراكم تفعلونه " كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي " أي كان يقوم قياماً طويلاً بعد الركوع حتى يظن منْ رآه أنه قد نسي أنه بعد الركوع " وبين السجدتين " أي وكان أيضاً يجلس بين السجدتين كذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " وبين السجدتين ". ويستفاد منه: مشروعية الجلوس بين السجدة الأولى والثانية، واستحبابه، وهو واجب عند أهل الظاهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 314 - " بَابُ لا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ في السُّجُودِ " 370 - وَعَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ ". 315 - " بَابُ مَنْ اسْتَوَى قَاعِداً في وِتْرٍ مِنْ صَلَاِتهِ ثُمَّ نهَضَ " 371 - عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ رَأى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ في في وتْرٍ مِنْ صَلَاِتهِ، لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِي قَاعِداً.   314 - " باب لا يفترش ذراعيه في السجود " 370 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " اعتدلوا " أي توسطوا " في السجود " فلا يضم أحدكم ذراعيه إلى جنبه " ولا يبسط " (1) أي لا يمد " أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " أي كما يمد الكلب ذراعيه. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " ولا يبسط أحدكم ذراعيه ". ويستفاد منه: استحباب الاعتدال في السجود بحيث لا يفترش ولا يقبض لأنه أبلغ في تمكين الجبهة من الأرض، وكراهية الافتراش لأنه من هيئات الكسالى. 315 - " باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض " 371 - معنى الحديث: يحدثنا مالك بن الحويرث رضي الله عنه:   (1) أي فلا يمد أحدكم مرفقيه على الأرض، ولا يضمهما إلى جنبيه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد جافى يديه، فلو أن بهيمة أرادت أن تمر مَرتْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 316 - " بَاب يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتينِ " 372 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ بِالتَّكْبِير حِينَ رَفَعَ رَأسَهُ مِن السُّجُودِ، وحينَ سَجَدَ، وَحِينَ رَفَعَ وَحِينَ قَامَ مِنَ الْرَّكْعَتَيْنِ، وَقَال: هَكَذَا رَأيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ".   " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته، لم ينهض حتى يستوي قاعداً " أي أن مالك بن الحويرث رضي الله عنه لاحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء صلاته فرآه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة لا ينتصب قائماً حتى يجلس ويعتدل جالساً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لم ينهض حتى يستوي قاعداً ". ويستفاد منه: استحباب جلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة وهو مذهب الشافعي وأحمد في رواية، والجمهور على عدم مشروعيتها. 216 - " باب يكبّر وهو ينهض من السجدتين " (1) 372 - معنى الحديث: أن أبا سعيد رضي الله عنه " صلّى فجهر بالتكبير " أي رفع صوته به " حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين "، أي كبر جهراً عند السجود والرفع منه وعند القيام من التشهد الأول، " وقال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي مثل هذه الصلاة التي صليتها أمامكم. الحديث: أخرجه البخاري.   (1) قال القسطلاني: أي عند القيام من التشهيد الأول إلى الركعة الثالثة، فالمراد بالسجدتين الركعتان الأوليان، لأن السجدة تطلق على الركعة من باب إطلاق الكل على الجزء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 317 - " بَابُ سُنَّةِ الْجُلُوس في التَّشَهُّدِ " 373 - عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " أنَا أحْفَظُكُمْ لصَلَاة رَسُولِ اللهِ رَأيْتُهَ إذا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ، وِإذَا رَكَعَ أمْكَنَ يَدَيْه مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فإِذَا رَفَعَ رَأسَهُ اسْتَوى حَتَّى يَعُودَ كُل فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْه غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلا قَابِضِهُمَا، وَاسْتَقْبَلَ بَأطْرَافِ أصَابع رِجْلَيهِ الْقِبْلَةَ، فإذَا جَلَسَ في الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى ونَصَبَ الْيُمْنَى وإذَا جَلَسَ في الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسرَى ونَصَبَ الأخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ ".   ويستفاد منه: أنه يسن التكبير عند القيام من التشهد الأول ولا خلاف في ذلك إلا أن مالكاً قال يكبر بعد استوائه والجمهور على أنّه يكبر حال قيامه. والمطابقة: في قوله: " حين قام من الركعتين ". 317 - " باب سنة الجلوس في التشهد " 373 - معنى الحديث: يقول أبو حميد رضي الله عنه: " أنا أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه " أى رفع يديه عند تكبيرة الإِحرام حتى يجعلهما مقابل منكبيه، " وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه " أي ثبتهما عليهما " ثم هصر ظهره " أي أماله في استواء دون تقويس، كما أفاده القسطلاني " فإذا رفع رأسه " من الركوع " استوى " أي اعتدل قائماً " حتى يعود كل فقار إلى مكانه " أي حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، "فإذا سجد وضع يديه في مفترش ولا   (1) أبو حميد الساعدي: الصحابي المشهور اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن سعد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث شهد أحداً وما بعدها قال الوافدي وتوفى في خلافة معاوية أول خلافة يزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قابضهما"، أي وضع كفيه عند سجوده على الأرض، وسجد معتدلاً، فلا يمد ذراعيه على الأرض كما يصنع الكلب ولا يضمهما إلى جنبيه، وإنما يجافي بينهما، أي يبعدهما عنهما " واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة " أي جعل أصابع قدميه متوجهة إلى القبلة، " وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى " أي وإذا جلس في التشهد الأول جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى أي رفعها عن الأرض واضعاً أصابعه عليها، وهذه الجلسة هي التي تعرف عند الفقهاء بالافتراش. " وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته " أي وإذا جلس للتشهد الأخير، جلس على مقعدته، ونصب رجله اليمنى، وقدم اليسرى، وهو ما يعرف بالتورك. ويستفاد منه: أنه يسن الافتراش في التشهد الأوَّل، وهو أن يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى " والتورك " في التشهد الأخير، وهو أن يجلس على مقعدته، ويقدم اليسرى، وينصب اليمنى، وهو مذهب الشافعي حيث قال: يسن الافتراش في التشهد الأول، والتورك في الثاني، واختار أبو حنيفة الافترش في التشهدين لحديث عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى " أخرجه مسلم، واختار مالك التورك فيهما لما رواه في " الموطأ " عن القاسم بن محمد أنه جلس على وركه اليسرى ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. الحديث: أخرجه الأربعة أيضاً. والمطابقة: في قوله: " وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى " إلى آخر الحديث، حيث دل على افتراشه - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول، وتوركه في الثاني، والله أعلم. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 318 - " بَابُ مَنْ لَمْ يرَ التَّشَهُّدَ الأوَّلَ وَاجِبَاً " 374 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ فَقَامَ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَلَم يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذا قَضَى الصَّلَاةَ، وانتظر النَّاسُ تَسلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْن. قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ ".   318 - " باب من لم ير التشهد الأول واجباً " 374 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوْليين ولم يجلس " للتشهد الوسط، أي أنه ترك التشهد الأول سهواً، ولما استوى قائماً لم يجلس بعد قيامه، ليأتي بالتشهد الذي تركه " فقام الناس معه " أي فتبعه الناس في قيامه إمّا لعلمهم بأن الإمام إذا استوى قائماً لا يرجع للجلوس الوسط، أو لأنهم سبحوا له فأشار إليهم بالقيام فقاموا معه، كما أفاده الباجي " حتى إذا قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه " أي حتى إذا حان وقت السلام " كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم " أي كبّر وسجد سجدتي السهو قبل السلام. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن التشهد الأول سنة، وليس بواجب، لكونه - صلى الله عليه وسلم - قام من الركعتين ولم يرجع (1) وهو مذهب أكثر أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة، حيث ذهب إلى وجوبه، قال في " الهداية ": التشهد الأول واجب، وقيل سنة، وهو الأقيس، لكنه خلاف ظاهر الرواية عن أبي حنيفة. وفي " المغني " روايتان عن أحمد. ثانياًً: مشروعية سجود السهو قبل السلام   (1) ولو كان التشهد الأول واجباً لجلس بعد قيامه، ليأتي به، لأن الواجب لا يترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 319 - " بَابُ التَّشَهُّدِ في الآخِرَةِ " 375 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ ومِيكَائِيلَ، السلامُ علَى فُلانٍ وفُلان، فالْتَفَتَ إلَيْنَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ: "إنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لله والصَّلَوَاتُ والطيباتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ ورحمةُ اللهِ وبركَاتَهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإنَّكُمْ إذا قُلْتُموهَا أصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالح في السَّمَاءِ والأرْض، أشْهَدُ أنْ لا   وهو مذهب الشافعيّة، وسيأقي تفصيله في موضعه. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك التشهد الأول ولم يجلس بعد قيامه ليأتي به. 319 - " باب التشهد في الآخرة " 375 - معني الحديث يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا " في أول التشهد " السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان " أي أنهم كانوا يسلمون على الملائكة بأسمائهم، واحداً واحداً، كما في رواية أخرى فتعُدُّ من الملائكة ما شاء الله أخرجه ابن ماجة " فالتفت إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّ الله هو السلام " أي لا تقولوا في التشهد السلام على الله، لأن السلام اسم من أسمائه، وصفة من صفاته. وكيف تسألون له السلامة وهو الذي يعطيها لعباده، فلا تقولوا هذه التحية التى تليق بالبشر، ولا تليق بخالق البشر، ولكن قولوا صيغة التشهد المشروعة "فإذا صلّى أحدكم فليقل: التحيات لله (1) والصلوات (2) والطيبات (3)   (1) أي البقاء لله وحده. (2) أي أن الصلوات كلها لا تكون إلا لله فرضاً أو نفلاً. (3) أي أنه المنفرد بجميع المحامد لأن الكمال المطلق له وحده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 إلَهَ إلَّا اللهُ، واشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه".   السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح" أي فإنكم إذا قلتم السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين انتفع بهذا السلام كل عبد صالح في الأرض أو السماء فتشمل الملائكة والجن والإنس، ثم أتم - صلى الله عليه وسلم - التشهد بقوله: " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله " فختمه بالشهادتين، ولذلك سمّي بالتشهد لاشتماله على النطق بشهادة الحق، تغليباً لها لشرفها، كما أفاده الزرقاني. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التشهد في الصلاة، وقد اختلف العلماء في حكم التشهد الأول والأخير. فأمّا الأول: فهو سنة عند أكثر أهل العلم، خلافاً لأحمد في رواية، وأبي حنيفة في الصحيح من مذهبه. وأما الثاني: فهو ركن عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تجزىء صلاة إلاّ بتشهد " أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " ولما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: " التحيات لله " رواه الجماعة وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنّه سنة (1) واستدل المالكية على سنيته بحديث المسيء في صلاته لأنه - صلى الله عليه وسلم - علمه أركان الصلاة فلم يذكر التشهد. ثانياًً: دل الحديث على الصيغة المشروعة في التشهد كما يرويها ابن مسعود وهي المختارة عند أحمد وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، واختار مالك تشهد عمر الذي علّمه الناس على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله " حيث لم ينكر عليه الصحابة، فجرى مجرى الحديث المتواتر (2)، واختار الشافعي   (1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1. (2) " شرح الباجي على الموطأ " ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 320 - " بَابُ الدُّعَاءِ قَبلَ السَّلَامِ " 376 - عنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو في الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأثَمِ والْمَغْرَمِ "، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأخْلَفَ ".   تشهد ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: " التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله " قال الزرقاني: وهذا الاختلاف كله إنما هو في الأفضل، ولذا قال ابن عبد البر: كلٌ حسن متقارب المعنى اهـ. أما الصلاة في التشهد الأخير فهي ركن عند الشافعي وأحمد خلافاً لغيرهما. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة في قوله: " إذا صلّى أحدكم فليقل التحيات لله ". 320 - " باب الدعاء قبل السلام " 376 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو بعد التشهد الأخير من كل صلاة ببعض الأدعية المأثورة " فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر "، أي أستجير بك وألجأ إليك أن تنجيني منه، " وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال "، أي وأستجير بك أيضاً وأسألك أن تحميني من فتنة الدجال، حتى لا أقع تحت تأثيره، فيغويني ويضلني، " وأعوذ بك من فتنة المحيا "، أي وأسألك أن تحميني مدة حياتي من جميع الفتن الدنيوية والأخروية " وفتنة الممات " أي وأن تحميني من فتنة الشيطان عند الموت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 377 - عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: عَلِّمْنِي دُعَاءً، أدْعُو به في صَلَاتِي؟ قَالَ: " قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّيِ ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمَاً كَثِيراً، ولَا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنْتَ، فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةَ مِنْ عِنْدِكَ، وارْحَمْنِي إنكَ أنتَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ ".   حال الاحتضار، فقد ورد أن الشيطان يأتي للعبد. في صورة بعض أقاربه، وفي يده قدح من ماء فيزين له الكفر ويؤكد له أنه طريق النجاة " اللهم إني أعوذ بك من المأثم " أي من كل معصية وخطيئة " والمغرم " أي ومن كل دين أعجز عن تسديده، " فقال له قائل: ما أكثر مما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم " أي إذا تحمل ديناً لا يقدر على أدائه كان فتنة له في دينه وخلقه، لأنه إذا طارده الدائن حدّث فكذب، ووعد فأخلف " اضطراراً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب الدعاء بعد التشهد الأخير. ثانياًً: إثبات خروج الدجال، وكونه حقيقة ثابتة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ منه. ثالثاً: إثبات عذاب القبر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قولها: " كان يدعو في الصلاة ". 377 - معنى الحديث: يحدثنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه دعاءً يدعو به بعد التشهد الأخير، وقبل السلام، ويواظب عليه في آخر صلاته، فعلمه هذا الدعاء " قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً " باقتراف الخطايا، لأن اقترافها ظلم للنفس، وجناية عليها، لما فيه من تعريضها للعقوبة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم)، وفي الأثر " ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة " ولا يغفر الذنوب إلاّ أنت " أي ولا يستر الذنوب ولا يعفو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 321 - " بَابُ مَا يَتَخيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التشَهُّدِ ولَيْسَ بِوَاجِب " 378 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أعْجَبَهُ إلَيْهِ فَيَدْعُو".   عنها ويسقط العقوبة عن فاعلها، ويصونه عن النار إلا أنت وحدك، " فاغفر لي مغفرة من عندك " أي فاغفر لي مغفرة تليق بكرمك وجودك على قدر رحمتك الواسعة، وعفوك الذي لا يحد، " وارحمني انك أنت الغفور الرحيم " أي فإذا طمعْتُ في عفوك وغفرانك فأنت واسع المغفرة والرحمة، فكيف لا أطمعُ فيك وقد وسعت رحمتك كل شيء. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه أبو داود. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب الدعاء في الصلاة بعد التشهد الأخير قبل السلام، واختيار الدعوات المأثورة، لأنها أفضل وأعظم نفعاً من سواها، فلم يأمرنا بها - صلى الله عليه وسلم - إلاّ لما فيها من الخير الكثير، وإن كان الدعاء مشروعاً بأي صيغة إلا أنها أفضل. ثانياًً: أن الاعتراف بالخطايا والشعور بالنقص، هو عين الكمال ولذلك علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصديق أن يقول في دعائه " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ". والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يدعو بهذا الدعاء قبل السلام. 321 - " باب ما يتخيّر من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب " 378 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بعد أن ذكر صيغة التشهد المشروعة إلى قوله: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله " ثم يتخيّر من الدعاء أعجبه " أي ثم يجوز للمصلي بعد الانتهاء من التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 322 - " بَابُ التَّسْلِيم " 379 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيراً قَبْلَ أنْ يَقُومَ ".   السلام أن يختار لنفسه ما شاء من الدعاء فيدعو به، وليس عليه التقيد بدعاء مخصوص إلا أن الأدعية المأثورة أفضل. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. ويستفاد منه: أنه يجوز للمصلّي اختيار ما شاء من الدعاء، وأن يسأل ما يريد من أمور الدنيا والآخرة، وهو مذهب مالك والشافعي، وأكثر أهل العلم لحديث الباب، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " ثم يدعو بما بدا له " أخرجه مالك في " الموطأ " موقوفاً عليه، قال. الباجي: معنى قوله: " ثم يدعو بما بدا له " أي من أمر دينه ودنياه، مما لا يمنع الدعاء به، ويدعو على الظالم، ويدعو للمظلوم، والأصل في ذلك ما رواه البخاري. وقال أبو حنيفة: لا يدعو في الصلاة إلاّ بالأدعية المأثورة أو ما شابه ألفاظ القرآن، وحديث الباب يدل على التخيير، ولا يستثنى من ذلك سوى الأدعية المحرمة. والمطابقة: في قوله: " ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو". 322 - " باب التسليم " 379 - معنى الحديث: تقول أم سلمة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم " من صلاته " قام النساء حين يقضي تسليمه " أي انصرف النساء من المسجد بعد تسليمه - صلى الله عليه وسلم - مباشرة لئلا يختلطن بالرجال، " ومكث يسيراً " أي وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد قليلاً، ليتأخر الرجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 عن الخروج بعض الوقت، ويفسحوا الطريق للنساء. الحديث: أخرجه أبو داود والنسائي أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية التسليم عند الخروج من الصلاة كما ترجم له البخاري. واختلفوا في حكمه كما قال ابن رشد (1): فقال الجمهور بوجوبه، وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس بواجب، فذهب الجمهور إلى ظاهر حديث علي رضي الله عنه حيث قال: فيه " وتحليلها التسليم " وأما أبو حنيفة فذهب إلى ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته " لكن قال ابن عبد البر: حديث علىٍّ المتقدم أثبت عند أهل النقل، لأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص تفرد به الإِفريقي وهو ضعيف، قال ابن القيم في " تهذيب السنن " حديث على صريح الدلالة على أنه لا ينصرف من الصلاة إلاّ بالتسليم، واختلفوا في عدد التسليمات، فقال أحمد: التسليمتان واجبتان (2)، وهو الرواية المشهورة عنه. وقال الشافعي: الأولى فرض، والثانية سنة، وفرّق مالك بين المأموم وغيره، فقال: على المأموم تسليمتان، الأولى فرض، والثانية مستحبة، وليس على غيره سوى تسليمة واحدة، وهي واجبة، وقال أبو حنيفة: التسليمتان سنتان. ثانياً: مشروعية خروج النساء من المسجد قبل الرجال لئلا يختلطن بالرجال. والمطابقة: في قوله: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم ". ...   (1) " بداية المجتهد " ج 1. (2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 323 - " بَابٌ يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ الِإمَامُ " 380 - عَن عِتْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "صَلَّيْنَا مَعَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ".   323 - " باب يسلم حين يسلم الإِمام " 380 - معنى الحديث: يقول عتبان بن مالك رضي الله عنه: " صلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الجماعة " فسلمنا حين سلّم " أي فسلمنا عندما سلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يحتمل أنّهم سلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنهم سلموا بعده. الحديث: " أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه: أنّ المأموم يسلم حين يسلم إمامه، ولا يجوز أن يتقدمه بالسلام، وهو مذهب أهل العلم اتفاقاً، غير أنهم اختلفوا هل يسلم معه أو بعده، فقال أبو حنيفة في رواية يسلم معه، وذهب المالكية إلى أنه يسلم بعده كما جاء في " الرسالة " حيث قال: " ويسلم بعد سلامه " قال النفراوي: فإن شرع في السلام قبله عمداً أو جهلاً بطلت صلاته، ومثل السبق المصاحبة في ابتدائه، أما لو سبقه سهواً، لأمر بالسلام بعد الإِمام، ولم تبطل صلاته. وقال الشافعي يسلّم المقتدى بعد فراغ الإِمام من التسليمة الأولى فلو سلّم مقارناً لسلامه بطلت على القول بأن نية الخروج شرط ولم تبطل على القول بأنها غير واجبة. اهـ. كما أفاده العيني. والمطابقة: في قوله: " فسلمنا حين سلم ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 324 - "بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ" 381 - عن ابْنِ عَباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ، كانَ عَلَى عَهْدِ النَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ ".   324 - " باب الذكر بعد الصلاة " 381 - مضى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رفع الصوت بالذكر " على اختلاف أنواعه من تهليل وتسبيح وتكبير " حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي: كان موجوداً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - بعد كل صلاة من الصلوات الخمس، فإن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا فرغوا من الصلاة المكتوبة، وانتهوا من صلاة الجماعة معه - صلى الله عليه وسلم - في مسجده؛ رفعوا أصواتهم بذكر الله مهللين مكبرين وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرهم على ذلك (1). قال العيني: ومثل هذا يحكم له بالرفع عند الجمهور، خلافاً لمن شذ في ذلك، " وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته " أي: كنت أعرف انتهاءهم من صلاة الجماعة بارتفاع أصواتهم بهذا الذكر حيث كانوا يذكرون الله بأصوات عالية تسمع من بعيد. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به بعض السلف على استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المكتوبة، وهو مذهب ابن حزم. قال ابن بطال: وأصحاب المذاهب المتبعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر لتعليمهم،   (1) ولكن لم يكن جماعياً، بل كل يذكر الله تعالى وحده. (ع) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 382 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " جَاءَ الْفُقَرَاءُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالُوا: ذَهَبَ أهل الدثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بالدَّرَجَاتِ العُلَى والنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلُ أمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدِّقُونَ، فَقَالَ: "ألا أحَدِّثُكُمْ بِأمْرٍ إنْ أخَذْتُمْ بِهِ أدْرَكتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَير مَنْ أنتمْ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، الَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ، وَتُحْمَدُونَ،   ولم يجهر دائماً. وروى ابن القاسم عن مالك: أنّ رفع الصوت بالذكر عقب الجماعة محدث، كما أفاده العيني. ثانياًً: مشروعية الذكر بعد الصلاة كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " إنّ رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ". 382 - معنى الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه: " قال: جاء الفقراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم "، أي فاز أصحاب الأموال علينا بالمنازل العالية في الجنة، وحصلوا على ما لم نحصل عليه من نعيمها. وسبب ذلك أنهم " يصلون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون "، أي إنما سبقونا، وفازوا علينا؛ وأدركوا من الدرجات ما لم ندركه، لأنّهم شاركونا في العبادات البدنية، ولم نشاركهم في العبادات المالية، لأننا لا قدرة لنا عليها، حيث إننا لا نملك من المال ما يمكننا منها. فزادوا علينا في الأجر والثواب، بسبب زيادة أعمالهم " فقال - صلى الله عليه وسلم -: ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم " أي: ألا أخبركم بشيء إن واظبتم عليه لحقتم بهؤلاء الأغنياء، وحصلتم على ثواب الحج والعمرة وغيرها من العبادات المالية، " ولم يدرككم أحد بعدكم "، أي لا يساويكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وَتُكَبرونَ خَلْفَ كُلِّ صلاةٍ ثَلاثاً وَثَلاِثينَ، فاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ، بَعْضُنَا: نُسَبِّح ثَلَاثاً وَثَلاثِينَ، وَنُحْمِّدُ ثَلَاثاً وَثَلَاثينَ، وَنُكَبَر أرْبَعاً وَثلَأثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: " تَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ وَاللهُ أكبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهُنَّ ثَلَاثاً وَثَلاثِينَ ". 383 - عَنِ الْمُغِيرَةِ بْن شُعْبَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لا إِلَهَ إلَّا   أحد في الثواب والأجر، " وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم " أي: وصرتم أفضل أهل زمانكم، " إلاّ من عمل مثله " أي: إلاّ من عمل مثل عملكم، ثم بين هذا العمل الذي يرفع من درجاتهم في قوله: " تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة ". أي: بعد كل صلاة مكتوبة " ثلاثاً وثلاثين "، مرةً " قال الراوي: فاختلفنا بيننا " أي في كيفية هذا الذكر، هل يأتي بالتسبيح ثلاثاً وثلاثين، ثم بالتحميد مثل ذلك ... إلخ، أو يأتي بالمجموع ثلاثاً وثلاثين مرة. قال: " فرجعت إليه " أي: فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، " فقال: تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كُلِّهِنَّ ثلاثاً وثلاثين مرة " ثم تختم بالتهليل. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 383 - معنى الحديث: يحدثنا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة " أي: بعد كل صلاة مكتوبة " لا إله إلاّ الله وحده، - لا شريك له، له الملك (1)، وله الحمد (2)، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت " لأن خزائن   (1) أي له الملك الدائم، وكل ملك لغيره إلى زوال. (2) أي وله الثناء الحقيقي ملكاً واستحقاقاً، لأنه المنفرد بالكمال المطلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، ولَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ". 325 - " بَابٌ يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ " 384 - عَنْ سَمُرَةَْ بْنِ جُنْدُبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى صَلَاةً أقبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ ".   الأرزاق بين يديك تعطي وتمنع كما تشاء، " ولا ينفع ذا الجد (1) منك الجد " أي ولا يمنع الغني ماله من عذابك يوم القيامة، ولا يدفع عنه عقابك إن كان عاصياً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد من الحديثين مما يأتي: أولاً: استحباب الذكر بعد الصلوات المكتوبة بالتسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين مرة، لأنّ ثوابه يعدل ثواب الصدقة والحج والعمرة. ثانياًً: أن من الأذكار المسنونة بعد الصلاة أن تقول لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. ثالثاً: فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر إذا تساويا في العبادات البدنية. مطابقة الحديثين للترجمة: في قوله: " تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة " وقوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دبر كل صلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... إلخ ". 325 - " باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم " 384 - معنى الحديث: يقول سمرة بن جندب رضي الله عنه:   (1) وهو الغنى والمال الكثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 385 - عَنْ زَيْد بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِي (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّه قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الصبحِ بالْحُدَيْبِيَةِ علَى أثْر سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ عَلَى النَّاس، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ! قَالَ: "أصْبَحَ مِنْ عِبَادِيَ مُؤْمِن بِي وَكَافِر، فَأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ   " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلّى صلاة أقبل علينا بوجهه " أي كان إذا صلّى صلاة مكتوبة، وفرغ منها، توجه إلينا، واستقبلنا بوجهه بعد سلامه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. 385 - معنى الحديث: يقول زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: " صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية " بضم الحاء، وفتح الدال، وسكون الياء الأولى، وكسر الباء، وفتح الياء الثانية المخففة عند البعض والمشددة عند أكثر المحدثين. وهي قرية قريبة من مكة سمّيت " الحديبية " باسم بئرٍ فيها. " على إثر سماء كانت من الليل " أي صلَّى صلاة الصبح في الحديبية بعد مطر نزلت في تلك الليلة. " فما انصرف "، أي: فلما سلّم من صلاته، "أقبل على الناس" بوجهه الشريف، " فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال " أي قال الله تعالى: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " أي أصبح الناس بالنسبة إلي نزول الأمطار على قسمين: قسم مؤمن بالله تعالى لا يشرك به شيئاً، وقسم كافر بوحدانية الله تعالى. " فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته " فأسند إنزال الأمطار حقيقة إلى الله تعالى " فذلك مؤمن بي " أي مؤمن بوحدانيتي "وكافر   (1) زيد بن خالد: قال ابن الأثير: هو أبو طلحة، وقيل: أبو عبد الرحمن بن خالد الجهني، من جهينة بن زيد نزل الكوفة، روى عنه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعطاء بن يسار. مات بالكوفة سنة ثمانٍ وسبعين، ويقال: مات في آخر أيام معاوية، وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقيل في وفاته غير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 مُؤْمِن بِي وَكَافِر بالكَوْكَبِ، وَأمَّا مَنُ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بالْكَوْكَبِ".   بالكوكب وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " أي: وأما من نسب الأمطار وغيرها من الحوادث الأرضية إلى تحركات الكواكب في طلوعها وسقوطها معتقداً أنّها الفاعل الحقيقي فهو كافرٌ مشرك في توحيد الربوبية. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ومطابقة الحديثين للترجمة: في قوله: " أقبل علينا بوجهه " في الحديث الأول وقوله: " أقبل على الناس " في الثاني. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أنه يسن للإمام بعد سلامه أن يتحول عن القبلة، ويستقبل المأمومين بوجهه، أما كيف يتحول يميناً أو يساراً فقد اختلف في ذلك أهل العلم، فذهبت المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يتحول إلى جهة اليمين لما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: " كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، فيقبل علينا بوجهه ". أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. وذهبت الحنفيّة إلى أنه يستحب له أن يتحول إلى جهة اليسار لما رواه مسلم عن ابن مسعود قال: " أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله ". اهـ. كما أفاده في " المنهل العذب " (1). ثانياً: أنّ إسناد الحوادث من مطر، وخصب، وجدب، وولادة، وموت إلى تقلبات الأنواء، مع اعتقاد فاعليتها حقيقةً كفر وشرك في ربوبية الله تعالى، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب " وكذلك من اعتقد أنها مصدر السعد والنحس. قال ابن تيمية: "واعتقاد المعتقد أن نجماً من النجوم هو المتولّي   (1) " المنهل العذب شرح سنن أبي داود " ج 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 326 - " بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فتخطَّاهُمْ " 386 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعَاً، فَتَخَطى رِقَابَ النَّاس إلى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، ففزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فخَرَجَ عَلَيْهِمْ فرأى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: " ذَكَرْتُ شَيْئَاً مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أنْ يَحْبِسَنِي فأمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ ".   بسعده ونحسه اعتقاد فاسد وإن اعتقد أنه هو المدبر له فهو كافر (1) .. ". اهـ. 326 - " باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم " 386 - معنى الحديث: يقول عقبة بن الحارث النوفلي رضي الله عنه: " صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس " أي تجاوزهم، " فرأى أنهم عجبوا من سرعته " أي فلاحظ أنهم قد تشوشوا من فعله هذا، فشرح لهم سبب ذلك، " فقال: ذكرت شيئاً من تبر عندنا " أي تذكرت وجود بعض الذهب في بيتي " فكرهت أن يحبسني "، أي أن يشغل بالي، " فأمرت بقسمته " أي فأحضرته لآمر بقسمته. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله: " يتخطى رقاب الناس ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: جواز تخطي الرقاب في المسجد لعذر شرعي كالرعاف وحرقة البول، والغائط، أو تذكر أمر هام. ثانياً: أن التفكير في الأمور الدنيوية لا يفسد الصلاة.   (1) " الفتاوى الكبرى " لابن تيمية ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 327 - " بَابُ الانفِتَالِ والإِنصِرَافِ عَنِ اليمِينِ والشَّمَالِ " 387 - عن ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " لا يَجْعَلَنَّ أحَدُكُمْ لِلشيطَانِ شَيئَاً مِنْ صَلَاِتهِ يَرَى أن حَقَّاً عَلَيْهِ أن لا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينهِ لَقَدْ رَأيت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيراً يَنْصَرِفُ عَنْ يِسَارِهِ ". 328 - " بَابُ مَا جَاءَ في الثُّومِ النيءِ والْبَصَلِ وَالْكرَّاثِ " 388 - عنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أكلَ ثُوماً أوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أوْ فلْيعْتَزِلْ   327 - " باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال " 387 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " لا يجعل أحدم للشيطان شيئاً من صلاته " أي لا يمكِّن الشيطان من الوسوسة له بأشياء ليست مطلوبة شرعاً، ومن ذلك " أن يرى حقاً عيه أن لا ينصرف " من صلاته " إلاّ عن يمينه " أي يرى أنه يجب عليه إذا سلّم أن ينصرف إلى جهة يمينه " لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما ينصرف عن يساره " أي رأيته كثيراً ينصرف من صلاته إلى الجهة اليسرى. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن الانصراف من الصلاة يكون يميناً ويساراً. ثانياً: استدل به الحنفية على أنه يستحب للأمام أن ينصرف بعد السلام إلى يساره. والمطابقة: في قوله: " كثيراً ما ينصرف عن يساره ". 328 - " باب ما جاء في الثوم النِّيء (1) والبصل والكراث " 388 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه في هذا الحديث:   (1) بالنون المشددة والياء المكسورة والهمزة وهو غير الناضج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 مَسَاجِدَنَا، وَلَيَقْعُدْ في بَيْيهِ، وأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُول، فَوَجَدَ لَهَا رِيحاً فَسَألَ فَأخبر خْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا" إلى بَعْضِ أصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أكْلَهَا قَالَ: كُلْ، فَإِنِّى أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي".   "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو فليعتزل مساجدنا "، أي فليبتعد عن مجالسنا، أو لا يدخل مساجدنا، شك من الراوي، ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن هذا وذاك، " وأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بقدر فيه خضرات "، أي قدم إليه قدر من طعام في داخله " خضرات " (بفتح الخاء وكسر الضاد) " من بقول " (1)، أي بعض خضروات متنوعة مطبوخة، كالثوم، والكراث، والبصل، ونحوه " فوجد لها ريحاً " كريهةً، " فقال: قربوها إلى بعض أصحابه " أي فأمر بتقديمها إلى بعض أصحابه ليأكل منها، فكره أن يأكل مخافة أن تكون حراماً. " فلما رآه كره أكلها قال: كل " أي كل من هذه البقول فإنّها مباحةُ الأكل " فإني أناجي من لا تناجي " فإنما امتنعت عنها، وتركت أكلها لا لحرمتها، ولكن لأني أكلِّم الملائكة الذين لا تكلّمهم أنت، فلا تقس نفسك عليَّ. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه: أنه يكره دخول المسجد لكل من أكل من البقول الكريهة الرائحة كالثوم، والبصل، والكراث، ما دامت رائحتها موجودة في فمه. أمّا مجرد أكلها فإنها طعام حلال مباح الأكل شرعاً، وإنما يكره أكلها لمن أراد دخول المسجد، أو مقابلة من يتأذّى برائحتها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإني أناجي من لا تناجي ". مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو فليعتزل مساجدنا، والله أعلم ".   (1) البقول في الأصل النباتات التي لا ساق لها كالثوم والكراث والبصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 329 - " بَابُ خرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسَاجِدِ باللَّيْلِ وَالْغلْسِ " 389 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا اسْتَأذَنَكُمْ نِسَاؤكُمْ باللَّيْل وإلى المَسْجِدِ فَأذَنُوا لَهُنَّ ".   329 - " باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس " 389 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد " أي: في الذهاب إلى المسجد في الليل، " فأذنوا لهن "، وفي رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " أخرجه مالك في " الموطأ ". وقوله " بالليل " هذا القيد في البخاري ومسلم فقط، ولم يذكره - صلى الله عليه وسلم - أكثر الرواة عن حنظلة كما أفاده القسطلاني وزيادة الثقة مقبولة. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لولي المرأة من زوج أو غير إذا استأذنته في الخروج إلى المسجد أن يأذن لها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب " فأذنوا لهن ". والأمر للندب كما قال البيهقي، ولكن ذلك مندوب إذا أمِنَ الفتنة. أما إذا خشي فتنةً أو وقوع مفسدة، فلا يأذن لها، لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح. ثانياً: أن قوله: " بليل " يدل على اختيار الأوقات المناسبة لخروجها إلى المسجد، كوقت العشاء، أو الصبح، حيث ينتشر الظلام فيسترها، فيأمن الناس من فتنتها، وذلك لزيادة الاحتياط والاطمئنان. وقد أجمع فقهاء الإِسلام على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلاتكن في داركن أفضل "، واختلفوا في جواز حضورها لصلاة الجماعة. فقالت المالكية: إن كانت شابة وخيف منها الفتنة حرم عليها الحضور. وقالت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الشافعية: إن كانت مشتهاة حَرُم عليها الحضور ولو في ثياب رثة، ومثلها غير المشتهاة إذا تزينت وتطبت، وإن كانت عجوزاً غير مشتهاة ولا متزينة ولا متعطرة جاز لها (1). والمطابقة: في قوله: " فأذنوا لهن ". ...   (1) وقال ابن قدامة: " يباح لهن حضور الجماعة، لأن النساء كن يصلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقيد ذلك بغير الحسناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الجُمُعَةِ " والجمعة: بضم الميم على المشهور، وحكى الواحدي إسكان الميم وفتحها، ويذكر بعض المؤرخين أنْ هذه التسمية قديمة منذ العصر الجاهلي، وأن أول من سماه " الجمعة " قُصَيُّ بن كلاب، فقد جمع قريشاً وقال: هذا يوم الجمعة. والراجح: أنه كان يسمى يوم العروبة، وأوّل من سماه بذلك كعب بن لؤي، كما أفاده الحافظ، ولما جمع أسعد بن زرارة الناس فيه لصلاة أول جمعة بالمدينة سُمِيّ يوم الجمعة، فهي تسمية إسلامية، كما جزم به ابن حزم. وأما صلاة الجمعة: فإنها شرعت بمكة، ولم تصل إلاّ بالمدينة، قال الشبرخيتي (1): فرضت صلاة الجمعة بمكة، ولم يصلها النبي لعدم تمكنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. وأوّل جمعة أقيمت هي التي أقامها أسعد بن زرارة بالمدينة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل قدومه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه رضي الله عنه جمع في هذا اليوم أربعين رجلاً، وصلاها بهم، وقال: هذا يوم الجمعة، فكانت أوّل جمعة جمعت بالمدينة في بني بياضة حيث بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير أميراً على المدينة، وأمره بإقامة صلاة الجمعة، فنزل على أسعد بن زرارة، فأخبره بصلاة الجمعة وأمره أن يصليها بالناس. أما أول جمعة صلّاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت بعد هجرته، حيث أدركته عند نزوله من قباء إلى المدينة، فصلاها في موضع المسجد المعروف بمسجد الجمعة، عند بستان الشربتلية. وخطب   (1) " شرح الشبرخيتي على متن خليل ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 330 - " بَابُ فَرْضِ الْجُمُعَةِ " 390 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُِ: أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " نَحْنُ الآخِرُونَ، السَّابِقُونَ يَوْمَ لْقِيَامَةِ، بَيْدَ أنَّهُمْ أوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمْ الذي فرَضَ   فيها خطبة بليغة، استهلها بقوله: " الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره " وأوصى فيها المسلمين بالتمسك بالتقوى. وختمها بقوله: " فأكثروا ذكر الله، وأعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلّا بالله العِّلي العظيم " (1). 330 - " باب فرض الجمعة " 390 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة " أي: نحن معشر الأمة المحمدية وإن تأخرنا عن غيرنا من اليهود والنصارى في الزمن، فقد تقدمنا عليهم في الشرف والقدر والمنزلة، وكان لنا عليهم السبق يوم القيامة، لأنّ هذه الأمة أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يدخل الجنة. " بيد أنّهم أوتوا الكتاب قبلنا "، أي فلم يسبقونا بشيء إلاّ بكونهم أعطوا التوراة والإِنجيل قبل أن نعطى القرآن، وليس هذا بفضيلة لهم، لأن كتابنا مهيمن على كتبهم، وشريعتنا ناسخة لشرائعهم " ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم " أي ثم إنّ هذا اليوم الذي هو يوم الجمعة كان هو اليوم الذي شرعه الله عيداً لهم وفرضه عليهم، كما   (1) " تاريخ الطبري ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 اللهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَداً، والنَّصَارى بَعْدَ غَدٍ". 331 - " بَابُ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ " 391 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ   فرضه علينا، " فاختلفوا فيه " ولم يقوموا به، ولم يجعلوه عيداً لهم كما فرض عليهم. قال النووي: ويمكن أنهم أمروا به صريحاً، فاختلفوا هل يلزم تعينه أم يسوغ لهم إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك فأخطئوا " فهدانا الله له " أي: فوفقنا الله إلى تعظيمه وإقامة الجمعة فيه كما أُمرنا " فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد " أي فأعيادهم بعد عيدنا، فاليهود عيدهم السبت، والنصارى الأحد. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن صلاة الجمعة فرض عين على كل ذكر مسلم بالغ مستوف للشروط المقررة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فرض الله عليهم " أي فرضه الله عليهم وعلينا. ثانياًً: أن الجمعة عيد المسلمين، والسبت عيد اليهود، والأحد عيد النصارى. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فرض الله عليهم " أي عليهم وعلينا. 331 - " باب الطيب للجمعة " 391 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: " أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أخبركم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبراً أكيداً صادراً عن يقين وعلم قاطع، أنه - صلى الله عليه وسلم - "قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 محْتَلِم، وَأنْ يَسْتَنَّ، وأنْ يَمسَّ طِيبَاً إِنْ وَجَدَ، قَالَ عَمْروٌ: أما الْغسْل فَأشْهَدُ أنَّه وَاجِب، وَأمَّا الإِسْتِنَاْن وَالطِّيْب، فالله أعْلَم أوَاجِب هوَ أمْ لا! ولكِنْ هكَذا في الْحَدِيثِ.   محتلم" أي الغسل يوم الجمعة حتم على كل ذكر بالغ من المسلمين مطلقاً، جامع أو لم يجامع، أجنب أو لم يجنب، ولكن يخرجه من الوجوب حديث سمرة ابن جندب رضي الله عنه: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل " أي من اكتفى يوم الجمعة بالوضوء فقد أخذ بالرخصة؛ وأجزأه الوضوء؛ ونعمت الرخصة، ومن اغتسل، فالغسل أفضل لأنه سنة مستحبة " وأن يستن " أي: وأن يستاك، من الاستنان وهو الاستياك، " وأن يمس طيباً إن وجد " أي: وأن يتطّيب بأي رائحة عطرية، والجملتان معطوفتان على الجملة الأولى. " قال عمرو" وهو عمرو بن سليم وهو راوى الحديث عن أبي سعيد " أما الغسل فأشهد أنه واجب " واستدل البعض بقوله: واجب على فرضيته وقد حكاه ابن المنذر، وهو قول أهل الظاهر " أما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا! ولكن هكذا في الحديث " وإنما توقف في ذلك لأنه تردد في العطف، هل معناه التشريك في كل شيء حتى الوجوب أم لا. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به ابن حزم على فرضية الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة على الرجال والنساء، أفاده العيني. والجمهور على أن الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة سُنَّة لا واجب. وروى مالك في " الموطأ " عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم كغسل الخبابة " أي كغسل الجنابة في الوجوب عند أبي هريرة لأنّ مذهبه وجوب الغسل حقيقة يوم الجمعة. قال في "أوجز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 المسالك": نقل ابن المنذر الوجوب عنه. وعن عمار بن ياسر، وهو قول الظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد، قاله الزرقاني، ونسب صاحب " الهداية " ذلك إلى مالك، وكذا ذكر النووي في " شرح مسلم ": أن ابن المنذر حكى الوجوب عن مالك (1)، لكن كتب المالكية صريحة في ذكر الاستحباب. قال في " الاستذكار ": لا أعلم أحداً أوجب الغسل للجمعة إلاّ أهل الظاهر، وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل الجمعة: أواجب هو؟ قال: سنة، قيل له: في الحديث إنه واجب، قال: ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك، وروى أشهب عن مالك أنّه سئل عن غسل الجمعة أواجب هو؟ قال: حسن، وليس بواجب. وقال في " مختصر خليل ": " وَسُنَّ غُسْل مُتَّصِلٌ بِالروَاحِ " فعلم من ذلك أن الغسل عند المالكية ليس بواجب، وهو نص الإمام مالك كما تقدم، وقال الحافظ: " وحكاه أي الوجوب ابن المنذر والخطابي عن مالك "، وقال القاضي عياض وغيره: ليس ذلك بمعروف في مذهبه وقال ابن دقيقَ العيد: " قد نص مالك على وجوبه فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره، وأبي ذلك أصحابه، والرواية عن مالك بذلك في " التمهيد " وكذلك ما في كتب الحنابلة هو غير الوجوب قال في " نيل المآرب ": الأغسال المستحَبَّة ستة عشر غسلاً، آكدها الغسل لصلاة جمعةِ في يومها. وفي " الروض المربع ": ويسن أن يغتسل في يومها لخبر عائشة رضي الله عنها " لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا " إلَّا أن ابن القيم قال في " زاد المعاد ": الناس في وجوبه ثلاثة أقوال النفي والإثبات والتفصيل بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد، فعلم أنّ المسألة فيما بينهم خلافية، لكن المشهور في متونهم عدم الوجوب كما تقدم، واختلفوا فيما بينهم في أنّه مستحب أو سنة مؤكدة، وما ورد من الأوامر   (1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " للشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 332 - " بَابُ فضلِ الْجُمُعَةِ " 392 - عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ، ثُمَّ   وألفاظ الوجوب إمّا محمول على التأكيد، أو على النسخ (1). اهـ. ثانياً: مشروعية " الطيب للجمعة " كما ترجم له البخاري وهو واجب عند بعض الظاهرية (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيباً " حيث عطف مسَّ الطيب على الغسل، والمعطوف على الواجب واجب، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة، وحملوا لفظ الوجوب على التأكيد أو على النسخ كما في الغسل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وأن يمس طيباً ". 332 - " باب فضل الجمعة " (3) 392 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة " أي غسلاً شرعياً كغسل الجنابة لا غسل تبرد واستحمام، أو غسلاً مترتِّباً عن الجنابة بأن جامع واغتسل، لحديث أوس رضي الله عنه أنّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من اغتسل يوم الجمعة وغسل، وبكر وابتكر، ودنا واستمع وأنصت، كان له بكل خطوة يخطوها عمل سنة، أجر صيامها وقيامها " أخرجه أصحاب السنن. قال وكيع: معنى قوله " اغتسل وغسل " أي: اغتسل هو وغسل امرأته، يعني أحوجها إلى الاغتسال بسبب مجامعته لها "ثم   (1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " ج 1. (2) قال في " الفتح الرحماني ": وقد كان أبو هريرة يوجب الطيب، ولعله وجوب سنة أو أدب. اهـ. كما في " أوجز المسالك " ج 2. (3) قال العيني: هذه تشمل صلاة الجمعة ويوم الجمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 رَاحَ فكأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأنمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأنمَا قَرَّبَ كَبْشَاً أقْرَنَ، ومنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فكأنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، ومَنْ رَاحَ في السَّاقَي الْخَامِسَةِ فَكَأنمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَ خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرتِ الْمَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".   راح" أي في الساعة الأولى "فكأنما قرّب بدنة" أي: فكأنما تصدق ببدنة، وهي الذكر أو الأنثى من الإِبل " ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن " أي له قرنان، وهو أفضل وأكمل " ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإِذا خرج الإِمام حضرت الملائكة " أي دخلت الملائكة المسجد، وحضرت فيه "يستمعون الذكر" أي: الخطبة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل يوم الجمعة، وصلاة الجمعة وتمييزها بملائكة مخصوصين، يقفون على أبواب المساجد، يسجلون ثواب الحاضرين إلى الجمعة على حسب أوقات حضورهم. ثانياًً: استحباب الاغتسال لصلاة الجمعة لأنه - صلى الله عليه وسلم - رتب ثواب الصدقة المذكورة عليه فقال: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة ". ثالثاً: استحباب التبكير لصلاة الجمعة لأن الثواب متفاضل بحسب التبكير إليها، فمن حضر إلى المسجد في الساعة الأولى كان ثوابه أكثر ممن حضر إليه في الثانية، وهكذا. والمراد بالساعات الخمسة عند الجمهور الساعات الزمنية المعروفة. وقال مالك: هي لحظات تبدأ بالزوال وتنتهي بجلوس الإِمام على المنبر. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أنّ من حضر الجمعة يجمع بين العبادة البدنية والمالية كما أفاده العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 333 - " بَابُ الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ " 393 - عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِي (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَغْتَسِلُ رَجُل يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيتَطَهَّرُ ما اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فلا يُفَرِّقُ بَيْن اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ ما بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرىَ ".   333 - " باب الدهن للجمعة " 393 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر " أي لا يغتسل المسلم غسلاً شرعياً كاملاً ويبالغ في تنظيف جسمه، فيقلم أظفاره، وينتف إبطه، ويحلق عانته " ويدّهن " بتشديد الدال " من دهنه " بضم الدال أي: يدهن شعر رأسه " أو يمس من طيب بيته " يعني أو يتطيب بما تيسر له، " ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين " في المسجد إلَّا بإذنهما " ثم يصلّي ما كتب له " من النوافل أو سنة الجمعة كما أفاده العيني، " ثم ينصت إذا تكلم الإِمام إلَّا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى " أي إِلَّا غفر له ما بين الجمعتين الماضية والحاضرة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب دهن الشعر بالزيت يوم الجمعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ويدهن من دهن بيته " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يسن غسل الجمعة لمن لم يكن جنباً، لأنه سبب للمغفرة. ثالثاً: مشروعية الإِنصات إلى الخطبة، وهو واجب كما سيأتي. والمطابقة: في قوله: " ويدهن من دهنه "   (1) سلمان الفارسي: هو أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويقال: سلمان الخير، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصله من فارس. أسلم لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى المدينة، وهو أحد الذين اشتاقت إليه الجنة، ولاه عمر المدائن، مات بالمدائن سنة خمس وثلاثين، وقيل مات في زمن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 334 - " بَابُ يَلْبَسُ أحْسَنَ مَا يَجِدُ " 394 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ رَأى حُلَّةً سِيرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لوِ اشْتَرَيت هَذهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقاَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلَاقَ لَهُ في الآخِرَةِ"، ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهَا حُلَل، فَأعْطى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ قُلْتَ في حُلَّةِ عُطَارَدٍ ما قُلْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لَم أكْسُكَهَا لِتَلْبِسَهَا "، فَكَسَاهَا عُمَرُ أخاً لَهُ بِمَكَّة مُشْرِكَاً.   أي: يدهن شعر رأسه بالزيت. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. 334 - " باب يلبس أحسن ما يجد " 394 - معنى الحديث: يحدثنا عمر رضي الله عنه " أنه وجد حُلَّة سِيراء (1) عند باب المسجد فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه "، أي أنه رأى كساءً من حرير معروضاً للبيع عند باب المسجد، فعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشتريه ليتجمل به يوم الجمعة، ولكن رسول الله رفض أن يشتريه لأنه من حرير، وأنكر لبسه للرجال، " فقال: إنما يلبس هذه " من الرجال " من لا خلاق في " أي من لا نصيب له من الخير ولا حظ له في نعيم الجنة، وهم الكفار فلا تشبهوا بهم، " ثم جاءت رسول الله منها حلل " أي ثم وصلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الحلل المنسوجة من الحرير، "فأعطى عمر بن الخطاب   (1) بكسر السين قالوا: ولا تكون الحلة إلا من ثوبين وقوله: حلة سيراء بالاضافة كقولهم: ثوب خز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 335 - " بَابُ السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " 395 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْلا أَنْ أشُقَّ عَلَى أمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاس- لأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ ".   منها حلّة، فَقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت" أي كيف تهديها في لألبسها، وقد استنكرت حلة عطارد التي عرضتها عليك لأنّها من حرير، " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّي لم أكسكها لتلبسها " أي إني لم أعطها لك لتلبسها، وإنما لتستفيد منها. " فكساها عمر أخا له " من أمه " بمكة " أي مقيماً بمكة " مشركاً " وهو عثمان بن حكيم. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يسن التجمل يوم الجمعة بأحسن الثياب كما ترجم له البخاري لقول عمر: لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة، ولحديث أبي سعيد رضي الله عنه " من الحق على المسلم إذا كان يوم الجمعة السواكُ وأن يلبس من صالح ثيَابه وأن يطّيب بطيبٍ ". ثانياً: تحريم الحرير على الرجال. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لو اشتريت هذه فلبستها ". 335 - " باب السواك يوم الجمعة " 395 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرضهم بالسواك مَعَ كل صلاة " قال العلامة الدهلوي: أي لولا خوف الحرج لجعلت السواك شرطاً للصلاة كالوضوء، وقال العيني: المعنى: لولا مخافة أن أشق عليهم لأمرتهم -به- أمر إيجاب. ومعنى قوله " مع كل صلاة " أي قبل الشروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 396 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أكثَرْتُ عَلَيْكُمْ في السِّوَاكِ ". 336 - " بَابُ مَا يُقْرأُ في صَلَاةِ الْفَجرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " 397 - عن أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ في الْجُمُعَةِ في صَلَاةِ الْفَجْرِ (الم (1) تَنْزِيلُ)   في أي صلاة فرضاً كانت أو نفلاً، ويندرج في عموم ذلك صلاة الجمعة. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " مع كل صلاة " فيدخل في ذلك الجمعة كما أفاده العيني. 396 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أكثرت عليكم في السواك " أي: أمرتكم بالسواك في أحاديث كثيرة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: من حيث إن المبالغة في الأمر بالسواك يقتضي دخول يوم الجمعة. ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: مشروعية المواظبة على السواك عند كل صلاة، وأنه سنة مؤكدة عند القيام، وقبل تكبيرة الإِحرام، كما يستحب عند الوضوء، وقراءة القرآن، والانتباه من النوم، وتغير الفم. وروي عن إسحاق وداود الظاهري أن السواك واجب لورود الأمر به في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " عليكم بالسِّواك " أخرجه أحمد. ولكنِ حديث الباب نص صريح في عدم وجوبه، لأنه كما قال الشافعي لو كان واجباً لأمرهم به، شق عليهم أو لم يشق. ثانياً: أنه يسن السواك يوم الجمعة كما ترجم له البخاري حيث إنه داخل في عموم هذه الأحاديث، والله أعلم. 336 - " باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة " 397 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَ (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) ". 337 - " بَابُ الْجُمُعَةِ في الْقُرَى وَالمُدُن " 398 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " إِنَّ أولَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمعةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ في مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْس بِجُواثَى مِنَ البَحْرينِ ".   النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر (الم (1) تَنْزِيلُ) و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) إلخ " أي يواظب على قراءة هاتين السورتين في فجر الجمعة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه: استحباب قراءة (ألم) السجدة (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) في فجر الجمعة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وروى ابن وهب عن مالك أنه لا بأس بذلك. وفي رواية أشهب أنه كرهه إلاّ أن يكون من خلفه قليلاً لا يخاف أن يخلط عليهم فيركعوا عند سجوده. وكره الحنفية قراءة شيء من القرآن مؤقتاً السجدة أو غيرها كما أفاده العيني، وقال الطحاوي: إنما يكره إذا رأى القراءة بغيرها مكروهة أما إذا قرأها تأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا كراهة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في فجر الجمعة بسورة (ألم) السجدة و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ). 337 - " باب الجمعة في القرى والمدن " 398 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " إنَّ أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله في مسجد عبد القيس " أي أن أول جمعة اجتمع عليها المسلمون وشهدها الناس بعد الجمعة التي صلاها الصحابة لأول مرة في المسجد الشريف بالمدينة هي الجمعة التي أقيمت في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 338 - "بَابُ هَلْ عَلَى مَنْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْل مِنَ النِّسَاءِ والصبيَانِ وَغَيْرِهِمْ " 399 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ".   مسجد عبد القيس القبيلة العربية " بجواثي " بضم الجيم وتخفيف الواو والثاء المثلثة والقصر " بالبحرين " أي في قرية جواثى الواقعة في البحرين. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. ما يستفاد من الحديث: ويستفاد منه مشروعية إقامة الجمعة في القرى إذا كان فيها أربعون رجلاً مقيمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا تصح الجمعة إلاّ في مصرٍ جامعٍ، وفي مصلى المصر، ولا تجوز في القرى، وتجوز في منى إذا كان الأمير أمير الحج، أو كان الخليفة، وقال مالك: كل قرية فيها جماعة وسوق فالجمعة واجبة كما أفاده العيني. والمطابقة: في كون الجمعة أقيمت بجواثى وهي قرية. 338 - " باب هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم " 399 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من جاء منكم الجمعة " أي كل من أراد منكم أن يشهد صلاة الجمعة " فليغتسل " أي فإنّ عليه أن يغتسل، وهو مأمور بذلك شرعاً على وجه الندب والاستحباب، لا على سبيل الفرض والإِيحاب، سواء كان ممن تجب عليه الجمعة، أو ممن لا تجب عليه كالنساء والصبيان مثلاً. ويستفاد منه: أنه يسن لمن أراد أن يشهد الجمعة من النساء والصبيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 أن يغتسل لها، كما يسن ذلك للرجال، لعموم هذا الحديث. لكن جاء في حديث أبي سعيد تخصيص الاغتسال بالرجال البالغين حيث قال: " غسل الجمعة واجب على كل محتلم ". وقد جمع النووي بين الحديثين فقال: هذا الحديث ظاهر في أن الغسل مشروع للبالغ سواء أراد الجمعة أو لا. وحديث: " إذا جاء أحدكم " .. ظاهر في أنه لمن أرادها سواء البالغ والصبي، فيقال في الجمع بينهما إنّ الغسل يستحب لكل مريد للجمعة، ويتأكد في حق الذكور أكثر من النساء، ويتأكد في حق البالغين أكثر من الصبيان (1). اهـ. ولهذا ذهب الجمهور إلى أنه يسن الغسل لكل من أراد حضور الجمعة ممن لا تجب عليه، كالنساء والصبيان والمسافرين وغيرهم. وأن هذا الغسل سنة مطلقاً لكل من أَتى الجمعة، سواء كانت تلزمه أم لا، وأنه لصلاة الجمعة لا ليوم الجمعة، فلا يشرع لمن لا يريد حضورها، وإنما اختلفوا في وقته. قال القسطلاني (2): وقد علم من تقييد الغسل بالمجيء، أن الغسل للصلاة، لا لليوم، وهو مذهب الشافعي (2) ومالك وأبي حنيفة (3) فلو اغتسل بعد الصلاة؛ لم يكن للجمعة، ولو اغتسل بعد الفجر أجزأه عند الشافعية والحنفية، خلافاً للمالكية والأوزاعي، وفي حديث اسماعيل بن أمية عن نافع عند أبي عوانة وغيره؛ كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة؛ جاءوا وعليهم ثياب متغيرة فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل. واستدل به المالكية في أنه لا بد أن يكون الغسل متصلاً بالذهاب، لئلا يفوت الغرض، وهو وقاية الحاضرين من التأذّي بالروائح حال الاجتماع، وهو غير مختص بمن تلزمه. اهـ. وقال ابن قدامة   (1) " شرح النووي على مسلم " ج 6. (2) " شرح القسطلاني على البخاري ج 2. (3) وهو مذهب أبي يوسف أيضاً قال في " الهداية ": " ثم هذا الغسل للصلاة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وهو الصحيح لزيادة فضليتها على الوقت واختصاص الطهارة بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 في " المغني " (1): وإن أتاها أي الجمعة من لا تجب عليه؛ استحب له الغسل لعموم الخبر. ووجود المعنى فيه - أي لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أتى الجمعة فليغتسل ". " أما المالكية؛ فقد قال خليل: " وسُنَّ غُسْلٌ مُتَّصِلٌ بِرَوَاح، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُ " أي ولو لم تلزمه الجمعة وقال في " سراج السالك " (2): " ويسن " أي الغسل " لمصلي الجمعة ولو لم تجب عليه كالنساء أو الصبيان أو العبيد غسلاً كغسل الجنابة، ويشترط لصحته أن يكون متصلاً بالرواح، أي: بالذهاب إلى الجامع، ويغتفر الفعل اليسير بقدر لبس الثياب والوضوء وما أشبه، فإن نام في بيته بعد اغتساله اختياراً ولو قل، أو اضطراراً وطال بطل غسله وأعاد استناناً، وبطل غسله أيضاً إن تغدى بعده، واحترزنا بقولنا (فإن نام في بيته) عما إذا نام بعد اغتساله في المسجد، فلا يبطل غسله، وكذا لا يبطل إن تناول قليل طعام أو شراب احتاج إليه. أما الشافعية فقد قال النووي (3): ". ومذهبنا المشهور أنه يستحب -أي الغسل- لكل مريد لها - وفي وجه لأصحابنا يستحب للذكور خاصة، وفي وجه يستحبُ لمن يلزمه الجمعة دون النساء والصبيان والعبيد والمسافرين، ووجه يستحب لكل أحد يوم الجمعة سواء أراد حضور الجمعة أم لا. كغسل يوم العيد، والصحيح الأول، والله أعلم. والذي عليه الجمهور أنه لا يستحب الغسل لمن لا يأتي الجمعة، فلا غسل على من لا تجب عليه الجمعة إذا لم يشهدها، ولا على من تجب عليه إذا لم يرد حضورها لعذر. قال ابن قدامة: ومن لا يأتي الجمعة فلا غسل عليه، وكان ابن عمر وعلقمة لا يغتسلان في السفر. وكان طلحة يغتسل، وروي عن مجاهد وطاووس (4). الحديث: أخرجه الخمسة، ولم   (1) " المغني " لابن قدامة ج 2. (2) " سراج السالك شرح أسهل المسالك " للجعلي. (3) " شرح النووي على مسلم " ج 6. (4) " المغني ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 339 - " بَاب مِنْ أيْنَ تؤتي الْجُمُعَةُ وَعَلَى مَنْ تجِبْ " 400 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ والْعَوَالِي فَيَأتُونَ في الغُبَارِ، فَيُصيبُهُمْ الغُبَارُ والْعَرَقُ، فَأتى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْسَان مِنْهُمْ وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا ".   يخرجه أبو داود. والمطابقة: في عموم قوله: " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ". 339 - " باب من أين تؤتي الجمعة وعلى من تجب " 400 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي " أي يتناوبون على حضور صلاة الجمعة من منازلهم في العوالي فيحضرونها مناوبة، لأنّها لا تجب عليهم لكونهم خارج المصر (1) " فيصيبهم الغبار والعرق " لبعد المسافة ومشقة السير في الأراضي الوعرة " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنكم تطهرتم " أي ليتكم اغتسلم لصلاة الجمعة، لأنه أفضل لما فيه من إزالة الرائحة الكريهة التي تؤذي الملائكة والمصلين. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. ويستفاد منه: أنها لا تجب الجمعة على أصحاب الأماكن البعيدة عن الجامع لأنّها على من يسمع النداء، بدليل أن أهل العالية كانوا يتناوبون الجمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت واجبة على من بعد داره لما جاز لهم التغيب عنها. ولهذا قال أهل العلم: الجمعة واجبة على من جمع النداء، وحكاه الترمذي عن أحمد والشافعي وإسحاق وابن العربي عن مالك، واستدل بحديث ابن   (1) أو لكونهم لا يسمعون النداء وهو الأرجح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 340 - " بَابُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ " 401 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ ".   عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الجمعة على من سمع النداء " أخرجه أبو داود وقال: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على ابن عمرو، ولم يرفعوه، وإنما أسنده قبيصة. واختلفوا في الخارج عن المصر إذا سمع النداء فقال أبو حنيفة: لا تجب عليه، وقال مالك والشافعي وأحمد تجب عليه. وحدَّ مالك وأحمد بفرسخ، وأطلقه الشافعي. كما دل الحديث على استحباب غسل الجمعة وقد تقدم. والمطابقة: في قوله: " ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي. 340 - " باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس " 401 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة حين تحل الشمس "، أي حين تميل الشمس عن وسط السماء إلى جهة المغرب، ومعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة بعد الزوال، كما يصلي الظهر تماماً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. والمطابقة: في قوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلّي الجمعة حين تميل الشمس ". ويستفاد من الحديث: أنّ وقت صلاة الجمعة بعد الزوال مثل صلاة الظهر تماماً. فلا تقدم عليه؛ لقول أنس " كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة حين تميل الشمس " فدل ذلك على أن وقت صلاة الجمعة وصلاة الظهر واحد، وهو بعد الزوال، وهذا هو قول الجمهور. وعن مجاهد وأحمد أنها تجوز قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 341 - " بَابُ الْمَشْي إلى الْجُمُعَةِ " 402 - عنْ أبِي عَبْس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ في سَبِيلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ ".   الزوال. قال ابن قدامة في " المقنع ": وروي عن عبد الله عن أبيه أحمد بن حنبل قال: نذهب إلى أنّها كصلاة العيد وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين ". 341 - " باب المشي إلى الجمعة " 402 - ترجمة الراوي: هو أبو عَبْسِ (بفتح العين وسكون الباء) عبد الرحمن بن جَبْر الأنصاري البدري، توفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة. وليس له. في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. معنى الحديث: يقول أبو عبس رضي الله عنه: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اغبرّت قدماه في سبيل الله " أي من مشى في أي طريق يؤدي إلى طاعة الله تعالى من حج، أو عمرة، أو صلاة جماعة، أو جمعة، حتى اغبّرت قدماه من الطريق التي سار فيها " حرّمه الله على النار " أي: حرَّم الله جسده على النار، ونجاه منها، وهو أبلغ من قوله: " دخل الجنة ". الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي. ويستفاد منه: فضل المشي إلى الطاعات عامة، وإلى صلاة الجمعة خاصة، لأنّها من أفضل الطاعات التي يتقرب بها إلى الله تعالى. والمطابقة: في قوله: " من اغبّرت قدماه " لأن المشي إلى الجمعة في سبيل الله ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 342 - " بَاب لَا يُقيمُ الرَّجُلُ أخاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ مَكَانهُ " 453 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقِيمَ الرجُلُ أخَاهَُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ، قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ قَالَ: الْجُمُعَةَ وغَيرَهَا ".   342 - " باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه " 403 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجل أخاه من مقعده " أي: من مكانه في المسجد " قلت لنافع: الجمعة " (1) أي قال ابن جريج لنافع راوي الحديث: الجمعة، يعني هذا النهي خاص بيوم الجمعة أو مطلقاً " قال: الجمعة (2) وغيرها " أي هذا النهي عام في سائر الأيام. فلا يقم الرجل أخاه من مكانه ليجلس فيه سواء كان ذلك في يوم الجمعة أو غيرها. وفي رواية: " الجمعة " بالرفع، على أنّه مبتدأ وغيرها معطوف عليه، والخبر محذوف أي الجمعة وغيرها متساويان. والرواية المختارة بالنصب، الجمعة وغيرها بنزع الخافض. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يحرم إقامة الرجل من مكانه في المسجد مطلقاً. قال النووي: والنهي للتحريم، فمن سبق إلى مباح من مسجد أو غيره، يوم الجمعة أو غيره، لصلاة أو غيرها تحرم إقامته منه. لكن يستثنى من ذلك ما لو ألِفَ موضعاً لنحو إفتاءٍ أو قراءةٍ فهو أحق به، فإن قعد فيه غيره، فله أن يقيمه. قال ابن أبي جمرة: وحكمة النهي انتقاص حق المسلم   (1) بالنصب على نزع الخافض، تقديره: النهي في الجمعة. (2) أيضاً ينصب الجمعة وغيرها على نزع الخافض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 343 - " بَابُ الأذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " 404 - عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَة أوَّلُهُ إذَا جَلَسَ الإِمَامُ علَى الْمِنْبَرِ، عَلَى عَهْدِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فلمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكثُر النَّاسُ، زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ ".   الموجب للضغائن، والحث على التواضع الموجب للمودة. ثانياً: ما ترجم له البخاري خاصة من أنّه لا يجوز للمسلم أن يقيم أخاه من مكانه في المسجد يوم الجمعة: لأنّ النهي عام في جميع الأيّام، والجمعة من ضمنها وداخل في عمومها وهو أولى. والمطابقة: في قوله: " نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم الرجل أخاه ". 343 - " باب الأذان يوم الجمعة " 404 - معنى الحديث: يقول السائب بن يزيد رضي الله عنهما: " كان النداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإِمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أن الأذان الذي كان موجوداً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخليفتيه لصلاة الجمعة أذان واحد يقام عند جلوس الإِمام على المنبر. وهل كان بين يديه أو على المئذنة " المنارة " اختلفت الروايات في ذلك " فلما كان عثمان، وكثر الناس، زاد النداء الثالث " أي زاد النداء الذي يقام اليوم على المنائر، وسماه الثالث، لأنه عدَّ الإِقامة نداءاً " على الزوراء " أي وكان يقام على الزوراء (بفتح الزاي وسكون الواو) قال البخاري: وهو موضع بسوق المدينة. وذكر فضيلة الشيخ عطية سالم: أنه في موضع المسجد المعروف بمسجد السيدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 344 - " بَابُ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " 405 - عن السَّائبِ بن يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمْ يَكُن لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّن غَيْرَ وَاحِدٍ، وكانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ " يَعْنِي علَى المِنْبَرِ.   فاطمة الكائن بباب المصري (1). الحديث: أخرجه أيضاً أصحاب السنن. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لم يكن لصلاة الجمعة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه سوى أذان واحد عند جلوس الإمام على المنبر، وأن الأذان الذي يقام اليوم على المنائر أحدثه عثمان رضي الله عنه، ومن ثمَّ اختلف العلماء فيه، فذهب مالك (كما رواه عنه (2) ابن عبد الحكم) إلى أنّ الأذان واحد فقط بين يدي الإِمام، ونص عليه الشافعي. وذهب الحنفية إلى مشروعية الأذان الذي أحدثه عثمان لموافقة الصحابة عليه. ثانياً: مشروعية جلوس الإِمام على المنبر، ولا خلاف فيه. والمطابقة: في كون الحديث بمنزل الجواب للترجمة 344 - " باب المؤذن الواحد يوم الجمعة " 405 - معنى الحديث: يقول السائب رضي الله عنه: " لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذن غير واحد " وهو بلال رضي الله عنه أي أنه كان ينفرد بالأذان لصلاة الجمعة فلا يشاركه غيره، ولا يؤذِّن إلاّ أذاناً واحداً، ولا يؤذِّن بعده أحد غيره. ويستفاد منه: أن يكره تعدد المؤذنين في يوم الجمعة وغيرها، خلافاً لما ذهب إليه ابن حبيب من أنه إذا رقى الإمام المنبر أذن المؤذنون واحدًا بعد   (1) " تكملة أضواء البيان " لفضيلة الشيخ عطية سالم. (2) " شرح العيني على البخاري " ج 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 345 - " بَابٌ يُجِيبُ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إذا سَمِعَ النِّدَاءَ " 456 - عنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ جَلَسَ علَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا أذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: اللهُ أكْبَرُ اللهُ أكْبَرُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: اللهُ أكْبَرُ اللهُ أكْبَرُ، قَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأنَا، قَالَ: أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأنَا، فَلَمَّا أنْ قَضَى التَّأذِينَ، قَال: يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَقُولُ: مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي.   واحد، فإذا فرغ الثالث قام الخطيب. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذن غير واحد ". 345 - " باب يجيب الإِمام على المنبر إذا سمع النداء " 406 - معنى الحديث: أن معاوية رضي الله عنه " جلس على المنبر يوم الجمعة، فلما أذّن المؤذن قال: الله أكبر، قال معاوية: الله أكبر الله أكبر " أي أن معاوية لما جلس الجلسة الأولى على المنبر، وأذن المؤذن بين يديه أجاب المؤذن في التكبير بمثل قوله حرفياً، وأجابه في الشهادتين بقوله: وأنا " فلما أن قضى التأذين " أي فلما انتهى الأذان، قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بنفسي " يقول ما سمعتم " أي أخبر الناس أنّه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثل فعله. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يُسن للخطيب إجابة المؤذن بين يديه. ثانياًً: أنه يجوز للخطيب أن يكلم الناس أثناء الخطبة في أي مسألة شرعية. ثالثاً: مشروعية الجلسة الأولى التي قبل الخطبة. والمطابقة: في كون معاوية كلم الناس أثناء الخطبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 346 - " بَابُ الخطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ " 407 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ، سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أصْوَاتِ الْعِشَارِ، ْ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ".   346 - " باب الخطبة على المنبر " 407 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان جذع يقوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي كان في المسجد جذع نخلة يقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء خطبته، " فلما وضع له المنبر، سمعنا للجذع مثل أصوات العشار " أي فلما فارقه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانتقل إلى المنبر الخشبي الذي صنع له، حزن الجذع، وصرنا نسمع له صوتاً حزيناً مثل أصوات العشار (بكسر العين) أى: مثل خوار الناقة عند حنينها إلى ولدها إذا ابتعد عنها، وذلك من شدة حزنه على فراق النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الخطبة على المنبر يوم الجمعة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع له منبر بأمره - صلى الله عليه وسلم - ووضع له، وكان يخطب عليه كما يدل عليه الحديث. ثانياً: أن من معجزاته المادية الظاهرة حنين الجذع إليه - صلى الله عليه وسلم - قال عياض: والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه بضعة عشر صحابياً. وفي رواية " والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة حزناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله: " فلما وضع له المنبر". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 347 - " بَابُ الْخطْبَةِ قَائِمَاً " 408 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمَاً، ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ كَمَا تَفعَلُونَ الآنَ ".   347 - " باب الخطبة قائماً " 408 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً " أي كان - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته يخطب وهو واقف، لم يعرف عنه أنّه خطب جالساً، وكذلك كانت سنة الخلفاء الراشدين من بعده، حتى اشتد القيام على عثمان، فكان يخطب قائماً، ثم يجلس، كما في حديث قتادة " ثم يقعد " أي ثم يجلس - صلى الله عليه وسلم - الجلوس الوسط، " ثم يقوم " للخطبة الثانية " كما تفعلون الآن " أي مثل ما تفعلون في زمانكم هذا فيؤدّي الخطبتين قائماً. ويستفاد منه: أولاً: مشروعية خطبة الجمعة قائماً، وهو السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي داوم عليها طوال حياته، كما دل عليه حديث الباب. وأما ما ثبت عن معاوية أنه كان يجلس في الخطبة الأولى، فقد تبين أنه لعذر شرعي. والقيام في الخطبة شرط عند الشافعي، فرض عند مالك، سنة عند الحنفية كما أفاده القاري. وقال الحافظ: هو عند مالك في رواية إنه واجب، فإن تركه أساء، وصحت الخطبة. وعند الباقين، أي الشافعي وأحمد: القيام للخطبة يشترط للقادر على القيام واستُدِلَّ للأوّل، أي: لمن قال: إنه سنة، بحديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا، واستدل للجمهور بحديث جابر بن سمرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائماً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 348 - " بَاب مَنْ قَالَ فِي الْخطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أمَّا بَعْد " 409 - عَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ رَضِيَ الله عَنْه أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أتِيَ بِمَالِ أو بسَبْيٍ، فَقَسَمَة، فَأعْطى رِجالاً، وَتَرَكَ رِجَالاً، فَبَلَغَه أنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبوا، فَحَمِدَ اللهَ، ثمَّ أثْنَى عَلَيْهِ، ثم قَالَ: " أمَا بَعْدُ، فَوَاللهِ إِنِّي لأعْطِي الرَّجلَ، وأدَعُ الرَّجلَ، والَّذِي أدَعَ أحبُّ إِليَّ مِنَ الَّذِي أعْطِي،   ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً، فمن أنبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب" أخرجه مسلم. ثانياًً: مشروعية الجلوس الوسط بين الخطتين الأولى والثانية، ويؤكد ذلك ما جاء في الرواية الأخرى عن ابن عمر قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطتين يقعد بينهما ". قال العيني: واستُدل به على مشروعية الجلوس بين الخطبتين، فذهب الشافعي إلى أن ذلك على سبيل الوجوب، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنّها سنة، وليست بواجبة كجلسة الاستراحة. الحديث: أخرجه مسلم والترمذي وأحمد والطبراني والبخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة. 348 - " باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد " 409 - معنى الحديث: يحدثنا عمرو بن تغلب رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بمال أو بسبي " وهو ما يؤخذ من العدو من الأسرى عبيداً أو إماءً " فقسمه، فأعطى رجالاً، وترك رجالاً " أي: فأعطى بعض الناس تأليفاً لقلوبهم، وترك البعض الآخر ثقة بهم، لما منحهم الله من قوة الإِيمان واليقين، " فبلغه أن الذين لم يعطهم عتبوا " أي لاموا عليه فيما بينهم، " فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: أما بعد " أي ثم قال قبل الشروع في الموضوع الذي أراد الحديث عنه: " أما بعد " وهي كلمة يؤتى بها للفصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَلَكِنْ أعْطِي أقْوَاماً لما أرَى في قُلُوبِهِمْ منَ الْجَزَعِ والْهَلَعِ، وأكِل أقواماً إِلى مَا جَعَلَ اللهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى والْخَيْرِ، فِيهِمْ عَمْرُو بن تَغْلِبَ"، فَوَاللهِ مَا أحبُّ أنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النَّعَمِ. 410 - عَنْ أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَحَمِدَ اللهَ وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أمَّا بَعْدُ ".   بين المقدمة والوضوع، ولذلك تسمى " فصل الخطاب " فأقول: " والله إني لأُعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحبّ إلي " أي: والذي أتركه أحبُّ إلى نفسي ممن أعطيه، " ولكني أُعطي أقواماً لما أرى في قلوبم من الجزع والهلع " أي: من شدة الألم والضجر الذي يصيب نفوسهم لو لم يعطوا من الغنيمة، فأعطيهم تأليفاً لقلوبهم، وتطييباً لنفوسهم، " وأكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى " أي: وأترك أقواماً فلا أعطيهم لأني أكلُهُمْ إلى ما وضع الله في قلوبهم من القناعة وغنى النفس، " والخير " أي وقوة الإِيمان واليقين " فيهم عمرو بن تغلب، فوالله ما أحب أنّ لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم " أي: فقال عمرو: أقْسم بالله لا أرضى بهذا الثناء الذي كرّمني به النبي - صلى الله عليه وسلم - بديلاً ولو أعطيت أنفس أموال العرب التي هي الجمال الحمر. الحديث: أخرجه البخاري، وهو من أفراده كما أفاده العيني. والمطابقة: في قوله: " ثم قال أما بعد ". 410 - معنى الحديث: يحدثنا أبو حميد رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عشية " أي قام يخطب في الناس ويعظهم ويذكرهم بعد الزوال، وذلك " بعد الصلاة " أي بعد صلاة الظهر أو العصر، " فحمد الله وأثنى عليه " في خطبته " ثم قال: أما بعد " فأتى بهذه الكلمة، ليفصل بها بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 411 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَرَ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ، مُتَعَطِّفاً مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ، قَدْ عَصَبَ رَأسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ، فَحَمِدَ اللهَ وأثنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أيّهَا النَّاسُ إِلَيَّ، فَثَابُوا إِلَيْهِ (1)، ثُمَّ قَالَ: أما بَعْدُ: فَإِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الإِنْصَارِ يَقِلُّونَ ويَكْثُرُ النَّاسُ، فَمَنْ وَليَ شَيْئَاً مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَطَاعَ أنْ يَضُرَّ فيهِ أحَدَاً، أو يَنْفَعَ فِيهِ أحدَاً، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئهِمْ.   مقدمة الخطبة وموضوعها، لأنها فصل الخطاب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود أيضاً. والمطابقة: في قوله: " ثم قال: أما بعد ". 411 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: هنا حديثاً في حق الأنصار سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته عندما خرج إلى الناس أثناء مرضه فيقول: " صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر، وكان آخر مجلس جلسه " على المنبر في حياته " متعطفاً بملحفة " أي: مرتدياً إزاراً كبيراً " قد عصب رأسه بعصابة في دسمة " (بكسر السين) أي بعصابة سوداء، " فحمد الله وأثنى عيه ثم قآل: أيها الناس إليَّ " أي اجتمعوا إليَّ واقتربوا مني، " ثم قال أمّا بعد فإن هذا الحي من الأنصار " أي من الأوس والخزرج " يقلون " لكثرة من يستشهد منهم في الحروب الإسلامية كحرب مسيلمة الكذاب وغيره، " فمن ولي شيئاً من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - " أي فمن ولي منكم الإمارة أو القضاء أو الشرطة " فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم " أي فليكافىء المحسن، ويعفو عن المسيء. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله: " ثم قال أمّا بعد ".   (1) أي فاجتمعوا عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 349 - " بَاب إِذَا رَأى الإمَامُ رَجُلاً جَاءَ وَهُوَ يَخطُبُ أمَرَهُ أنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ " 412 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُل والنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَخْطبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: " أصلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: " قُمْ فارْكَع ".   ويستفاد ما يأتي: أولاً: وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار بالعفو عن مسيئهم، ومكافأة محسنهم. ثانياً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن قلة الأنصار، وهذا من معجزاته الظاهرة. ثالثاً: أنه يسن الفصل بين المقدمة وموضوع الخطة بقول: أما بعد، وهو ما ترجم له البخاري. 349 - " باب إذا رأى الإِمام رجلاً جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين " 412 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " جاء رجل " وهو سليك الغطفاني " والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان " يعني أصليت تحية المسجد " قال: لا قال: قم فاركع " أي: فصَلِّ تحية المسجد ركعتين خفيفتين، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: " قم فاركع ركعتين " وفي رواية سفيان " وتجوز فيهما " أي خففهما لئلا تفوتك الخطبة. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن للخطيب إذا رأى رجلاً دخل أثناء خطبة الجمعة ولم يصل تحية المسجد أن يأمره بها، كما أن له أن يأمر وينهى، ويبين الأحكام، ولا يقطع ذلك التوالي (1) المشروط في الخطبة. ثانياً: أن   (1) " فتح البارى " ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 350 - " بَابُ الاسْتِسْقَاءِ في الْخطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " 413 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَة عَلَى عَهْدِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ في يْومِ جُمُعَةٍ، قَامَ أعْرَابِيٌ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! هَلَكَ المَالُ، وجَاعَ العِيَالُ، فادْعُ اللهَ لَنَا، فرَفَعَ يَدَيه، ومما نَرَى في السَّمَاءِ قَزَعَةً، فوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا وَضَعَهَا حتَّى ثَارَ السَّحَابُ أمثَالَ الْجِبَالِ، ثم لَمْ ينْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأيْتُ الْمَطر يَتَحَادَرُ على لِحْيَتهِ - صلى الله عليه وسلم -، فمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ،   الداخل للمسجد أثناء الخطبة يستحب له أن يصلي تحية المسجد، ويخففها وجوباً ليسمع الخطبة، فيقتصر على واجباتها. وهو مذهب الشافعية والحنابلة قال الترمذي (1): وقال بعضهم: إذا دخل الجامع والإِمام يخطب فإنّه يجلس ولا يصلي، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة. اهـ. وبه قال مالك والليث وأبو حنيفة كما أفاده القاضي عياض. والمطابقة: في قوله: " قم فاركع ". 350 - " باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة " 413 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أصابت الناس سنة " أي قحط ومجاعة بسبب انقطاع المطر وموت الكلأ والعشب، " فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله: هلك المال " أي: ماتت الماشية بسبب انقطاع الأمطار، لأنه معظم المال كان عند العرب يعتمد على الثروة الحيوانية، " فرفع يديه، وما في السماء قزعة " بفتح القاف والزاي، أي: ليس في السماء قطعة من سحاب، "ثم لم ينزل عن منبره   (1) " جامع الترمذي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 ومِنَ الْغَدِ، وبَعْدَ الْغَدِ، والَّذِي يَلِيهِ، حتىَّ الْجُمُعَةِ الأخْرَى، وَقَامَ ذَلِكَ الإِعْرَابِيُّ، أوْ قَالَ غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَهَدَّمَ البِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فادْعُ اللهَ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْه فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوالَيْنَا ولا عَلَيْنَا، فما يُشِيرُ بِيَدِهِ إلى نَاحِيةٍ من السَّحَابِ إلَّا انْفَرَجْت، وَصَارَتْ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ، وسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ (1)، ولم يَجِيءْ أحَدٌ منْ نَاحِيةٍ إلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ (2).   حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته" أي: يتقاطر عليها، " وقام ذلك الأعرابي " بعد أن استمر المطر أسبوعاً كاملاً، " فقال: يا رسول الله تهدم البناء " أي سقطت المنازل بسبب كثرة الأمطار واستمرارها، " فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا " أي: اللهم أنزل الأمطار في ضواحي القرى والمدن، بعيدة عن الدور والمنازل، " فما يشير إلى ناحية من السحاب إلّا انفرجت " أي: تكشف السحاب عنها " وصارت المدينة مثل الجوبة " بفتح الجيم وسكون الواو، أي: مثل الحوض المستدير الخالي من الماء. ويستفاد منه: مشروعية الاستسقاء أثناء خطة الجمعة عند الحاجة إليه. وكذلك رفع اليدين عند الدعاء، وكرهه مالك، وأجازه غيره لحديث سلمان: " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً " أخرجه الترمذي. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فرفع يديه " أي: فرفع يديه يستسقي ويدعو الله بنزول الغيث. ...   (1) ويقع وادي قناة في شمال المدينة بالقرب من أحد. (2) أي بكثرة العشب والماشية والخير الكثير الذي أنعم الله به على عباده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 351 - " بَابُ الإِنصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ والإِمَامُ يَخطُبُ " 414 - عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجمعَةِ أنصِتْ والإِمَام يَخْطب، فَقَدْ لَغَوْتَ ". 352 - " بَابُ السَّاعَةِ الَّتِي في يَوْمِ الْجمعَةِ " ْ41 - وَعَنْ أبِي هرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْة: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمعَةِ، فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لا توَافِقهَا   351 - " باب الإِنصات يوم الجمعة والإِمام يخطب " 414 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب، فقد لغوت " أي: إذا رأيت مَنْ بجانبك يتحدث أثناء الخطبة، وقلت له: اسكت، فقد أسأت الأدب، وارتكبت مخالفة تأثم عليها. وحُرِمْتَ فضيلة الجمعة، ونقص ثوابك عليها. ويستفاد منه: وجوب الإِنصات أثناء خطبة الجمعة، وتحريم الكلام عندها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سمّى ذلك لغواً. واللغو هو كل عمل باطل يأثم عليه فاعله، وهذا يعني أن الحديث أثناء الخطبة مخالفة شرعية محرّمة، وقد أمر الله تعالى بالإنصات إلى الخطبة في قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) واختار ابن جرير أن المراد بالقرآن خطبة الجمعة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة، لأن تحريم الكلام يستلزم وجوب الإِنصات. 352 - "باب الساعة التي في يوم الجمعة" 415 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث عن فضائل يوم الجمعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأل اللهَ تَعَالَى شَيئَاً، إلَّا أعْطَاهُْ إيَّاهُ" وَأشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. 353 - " بَابٌ إذَا نفَرَ الناسُ عنِ الإِمَامِ في صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَصَلاةُ الإِمَامِ ومَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ " 416 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَاماً، فالْتَفَتُوا   ومزاياه العظيمة فأثنى عليه وأشاد به وتطرق إلى الحديث عن الساعة المباركة الموجودة فيه " فقال: فيه ساعةٌ لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي " أي وهو متوجه إلى الله يدعوه بخالص الدعاء، فإن المراد بالصلاة هنا الدعاء، كما رجحه الزرقاني " يسأل الله شيئاً إلا أعطاه " أي إلاّ استجاب له. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي. ويستفاد من الحديث: وجود ساعة مباركة في يوم الجمعة، يستجاب فيها الدعاء، ولم يعيّن هذا الحديث وقتها. واختلفوا. فيها على أحد عشر قولاً، أرجحها كما قال ابن القيّم - قولان: أحدهما: أنها من جلوس الإِمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. الثاني: أنها آخر ساعة بعد العصر (1). والمطابقة: في قوله: " فيه ساعة ... " إلخ. 353 - " باب إذا نفر الناس عن الإِمام في صلاة الجمعة فصلاة الإِمام ومن بقي جائزة " 416 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " بينما نحن نصلي   (1) وهي التي تؤيدها الأدلة الصحيحة كما قال الإمام أحمد. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 إِلَيهَا حَتَّى مَا بَقِىَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا اثنا عَشَرَ رَجُلاً، فنزَلَتْ هذه الآيةُ (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا).   مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاماً" أي لم يشعروا وهم يصلون الجمعة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ وقد وصلت إلى المدينة قافلة تجارية، تحمل بعض السلع التموينية من حبوب وحبوب وزيوتٍ ونحوها (1)، " فالتفتوا إليها " فتركوا الصلاة، وانصرفوا إليها. " حتى ما بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ اثنا عشر رجلاً " قال الحافظ: واتفقت الروايات كلُّها على اثني عشر رجلاً، إلاّ ما رواه علي بن أبي عاصم، فقال: " إلاّ أربعين رجلاً " أخرجه الدارقطني، وعلي بن أبي عاصم، ضعيف. " فنزلت هذه الآية (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا) " أي وإذا رأوا قافلة تجارية، وشاهدوا الطبول تبشر بها، (انْفَضُّوا إِلَيْهَا) أي انصرفوا إليها (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) في صلاة الجمعة وحولك القليل، ومنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه لا يشترط في صحة صلاة الجمعة استمرار العدد الذي تنعقد به إلى آخر الصلاة. فإذا نفر الناس عن الإمام أثناءها فإنه يتمها بمن معه، وصلاتهم صحيحة، وهو مذهب محمد وأبي يوسف، وإن بقي وحده، وبه قال المزني من الشافعية. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنهم إذا تفرقوا بعد الافتتاح وقبل الركوع جعلها ظهراً، أمّا إذا تفرقوا بعد الركوع، فقال سحنون: يتمها ظهراً، أو يجعلها نافلة، وقال أشهب: يتمها جمعة. وقال أحمد والشافعي يتمها ظهراً متى نقص العدد عن الأربعين، سواء انفضوا قبل الركوع أو بعده. ثانياً: استدل به مالك على أن أقل ما تنعقد به الجمعة   (1) أو المراد بالطعام القمح، لأنه يطلق عليه لغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 354 - " بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وقَبْلَهَا " 417 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ في بَيْتهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ ".   اثنا عشر رجلاً. وقال أبو حنيفة: ثلاثة، وقال الشافعي: أربعون رجلاً. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أتم الجمعة بعد أن تفرقوا عنه. 354 - " باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها " 417 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين " أي يصلّي سنة الظهر القبلية ركعتين، وسنتها البعدية ركعتين، " وبعد المغرب ركعتين في بيته " أي: وكان يصلّي سنة المغرب البعدية في بيته ركعتين، " وبعد العشاء ركعتين "، أي ويصلي بعد العشاء ركعتين، " ولا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين " أي: وكان يصلّي سنة الجمعة البعدية في بيته ركعتين لا في المسجد. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به بعض أهل العلم على أن للجمعة سنة قبلية قياساً على الظهر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث كان يصلّي قبل الظهر ركعتين، وإذا ثبت أن للظهر سنة قبلية، فكذلك للجمعة، فهي مثلها، ولا فرق بينهما، وهو المشهور من مذهب الشافعية، حيث قالوا: تسن ركعتان قبل الجمعة كما تسن قبل الظهر عملاً بهذا الحديث، وبحديث ابن عمر "أنه رضي الله عنه كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويحدث أن رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك" أخرجه أبو داود، واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن " أخرجه ابن ماجة. وذهب الجمهور إلى أنّه لا سنة قبل الجمعة، قالوا: والمراد بحديث ابن عمر وقوله: " كان يفعل ذلك " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من النافلة قبل الزوال، لا أنه كان يصلي سنةً قبل الجمعة، لأن الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه لا يخرج إلى المسجد إلاّ بعد الزوال فإذا وصل صعد المنبر حالاً. وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد الجمعة أربعاً في المسجد، أو ركعتين في بيته. وأما حديث ابن عباس؛ فهو مسلسل بالضعفاء، كما أفاده في " المنهل العذب ". ثانياً: مشروعية السنة البعدية للجمعة، وهو مذهب الجمهور. وأقلُّها ركعتان عند الحنابلة والشافعية، وأكثرها أربع عند الشافعية وست عند الحنابلة. وقالت الحنفية: هي أربع ركعات. وقالت المالكية: ليس للجمعة سنة بعدية. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " كان يصلّي قبل الظهر ركعتين " قياساً للجمعة على الظهر. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 " أبواب صلاة الخوف " 355 - " بَابٌ " 418 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَال: " غزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ، فَصافَفْنَا لَهُمْ، فَقامَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -   " أبواب صلاة الخوف " وهو نوعان: خوف يمنع من إتمام هيئة الصلاة، ويكون عند الإِلتحام، فيؤخر المجاهدون الصلاة إلى آخر الوقت، ثم يصلونها مشاة أو ركباناً، يومئون في الركوع والسجود. وخوف من مفاجأة العدو فيجوز الصلاة أفذاذاً أو فيؤدون على طريقة صلاة الخوف المشروعة في كل قتال مشروع، سواء كان جهاداً أو قتالاً للمحاربين، وفي كل صلاة مكتوبة، جمعة أو الصلوات الخمس. أما حكمها واستمراره وبقاء مشروعيتها: فقد قال ابن قدامة: جمهور العلماء متفقون على أنّ حكمها باق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو يوسف: إنّما كانت تختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ) الآية. اهـ. قال ابن العربي المالكي: كونه فيهم إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده. وقال ابن المنير: الشرط إذا خرج مخرج التعليم لا يكون له مفهوم وصلاة الخوف رخصة شرعية، كما قال خليل، وقيل واجبة كما في " الرسالة "، وقيل سنة كما في " أقرب المسالك "، وهي عند الجمهور رخصة جائزة مشروعة باقية إلى قيام الساعة. والحكمة فيها: المحافظة على أداء الصلاة جماعة مع اتخاذ الحيطة اللازمة من العدو، بحيث لا تُتْرَك له فرصة الانقضاض على المجاهدين أثناء صلاتهم. 355 - " باب " 418 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبل نجد " أي خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة جهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 يصَلِّي لَنَا، فقامَتْ طَائِفَةٌ مَعَة تصَلِّي، وأقْبَلَتْ طَائِفَةٌ علَى الْعَدُوِّ، وَرَكَعَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْ مَعَه، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم انْصَرَفوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ التي لم تصَلِّ، فجاءوا فركع رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِهِمْ رَكْعَةً، وسجدَ سَجْدَتَيْنِ، ثم سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فرَكَعَ لِنَفْسِهِ ركعَة، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ".   نجد، وهي غزوة ذات الرقاع، " فوازينا العدو، فصاففنا لهم " أي فوقفنا أمام العدو صفوفاً منظمة مرتبة كما رتبنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، "فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي لنا " أي: فلما حضرت صلاة العصر أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي بنا هذه الصلاة كما تصلّى صلاةُ الخوف، " فقامت طائفة معه، فصلى وأقبلت طائفة على العدو" أي فانقسم الناس إلى طائفتين، طائفة تصلّي معه، وطائفة أخرى تقف أمام العدو للحراسة، " وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد سجدتين " أي فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطائفة الأولى ركعة تامة بسجدتيها " ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل " أي ثم ذهبوا ليقفوا مكان الطائفة الأخرى، ويخلفوهم في الحراسة، " فجاءوا فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعة " أي: فجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة تامّة " وسلم " من صلاته " فقام كل واحد فركع لنفسه ركعة " أي فأتمّوا لأنفسهم على التعاقب. يعنى فأتمت طائفة، والأخرى تحرس، ثم أتمت الطائفة الأخرى، قال القسطلاني: وهو الراجح من حيث المعنى، وإلّا فيستلزم ضياع الحراسة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية صلاة الخوف وهي رخصة شرعية عند الحاجة إليها حضراً أو سفراً تخفيفاً ومعونة على جهاد العدوّ، مع أداء صلاة الجماعة. ثانياً: بيان كيفية صلاة الخوف التي صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع. وقد اختار هذه الكيفية البخاري وأبو حنيفة، ورجحها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 ابن عبد البر لقوة إسنادها. واختار الجمهور الكيفية التي رواها سهل بن أبي حثمة. وهي أنه يفرقهم الإِمام إلى طائفتين، طائفة بإزاء العدوّ، وطائفة خلفه، فيُصلي بالتي خلفه ركعة ويثبت قائماً وتتم لنفسها الركعة الثانية بفاتحة وسورة، وتمضى للحراسة فتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الركعة الثانية، ويجلس للتشهد وتتم لنفسها الركعة الأخيرة لها بفاتحة وسورة، ويطيل الإمام التشهد حتى يتموا فيسلم بهم. ولصلاة الخوف كيفيات كثيرة، أوصَلها بعضهم إلى سبعة عشر كلها جائزة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في دلالة هذا الحديث على كيفية صلاة الخوف. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 بسم الله الرحمن الرحيم " أبواب العيدين " والعيدان: هما عيد الفطر وعيد الأضحى. يبدأ تاريخهما بتاريخ الإِسلام، إذ لم يكونا معروفين في الجاهلية عند العرب، ولا عند. غيرهم، وإنما شرعا في السنة الأولى من الهجرة النبوية. قال أنس: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: نلعب فيهما في الجاهلية. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أبدلكما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر " أخرجه أبو داود. واختار الله لهما اسمين كريمين من نفس المعنى والمناسبة التي شُرعا من أجلها، فالأول عيد الفطر، لأنه يتعلق بعبادة الصوم، ويشعر بالإفطار منه، ويعلن عن الفرحة الإِسلامية بإتمامه، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه " والثاني عيد الأضحى لأنه يتعلق بالأضحية. وقد شرع الله لنا هذين العيدين ليكونا بديلين عن عيد النيروز (1) والمهرجان، وهما عيدان فارسيان كانا يقامان لِإحياء الشعائر المجوسية، فأبدلهما الله بالفطر والأضحى لِإحياء الشعائر الحنيفية. وسن لنا فيهما الخروج إلى المصلى لِإظهار شوكة الإِسلام وقوته، وجلاله وأبهته في هذا المشهد العظيم، وإنما سمي العيد عيداً لأنه يعود على الناس بالفرحة والسرور، ويعود الله فيه على عباده، فيتجلى عليهم بالرحمة والغفران.   (1) وكان النيروز يقام من 21 مارس (آذار) إلى 25 منه، ويحتفل فيه ببيوت النار، ويتصل فيه ملوك الفرس بالرعية، ويوزعون عليهم الأكسية، وتضرب النقود، ويعين الحكام، وكان المهرجان يحتفل به من 22 سبتمبر (أيلول) - 22 أكتوبر (تشرين الأول) وكان يتوّج فيه الملوك، ويلبسون الجديد من الخز وغيره. بالإضافة إلى بقية الأشياء التي تصنع في عيد النيروز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 356 - " بَابُ الْحِرَابِ والدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ " 419 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيانِ بِغَنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاش، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أبو بَكْرٍ فَانتهَرَنِي، وَقَالَ: مِزْمَارَة الشيطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ   356 - " باب الحراب والدرق يوم العيد " أي اللعب بالحراب جمع حربة، وهي آلة حربية أصغر من الرمح، والدرق جمع درقة وهي الترس الذي يتقى به في الحروب من السيوف وغيرها. 419 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان " (1)، أي صبيتان، " تغنيان بغناء بعاث " (بضم الباء وفتح العين) وهو موضع في ديار بني قريظة بالمدينة فيه أموالهم، وفيه وقعت المعركة المشهورة بيوم بعاث، التي كانت فيها المقتلة العظيمة للأوس والخزرج، والتي استمرت الحرب فيها مائة وعشرين سنة، إلى ظهور الإسلام بالمدينة وهجرة خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - إليها. وموضعها في مكان المزرعة المعروفة اليوم (بالمبعوث) شرقي المدينة بقرب (العريض) أي أن الجاريتين كانتا تنشدان الأشعار الحماسية التي قيلت في المفاخرة بذلك اليوم، " ودخل أبو بكر فانتهرني " أي فأنكر عليّ ذلك الغناء، وزجرني بشدة، " وقال: مزمارة الشيطان " بحذف همزة الاستفهام أي أصوت الغناء والملاهي الشيطانية أسمعه من منزل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال العيني: قوله: " مزمارة الشيطان " يعني الغناء، أو الدف، وإضافتها إلي الشيطان من جهة أنها تلهي وتشغل القلب عن ذكر   (1) تثنية جارية، وهي الصبية قبل البلوغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 - صلى الله عليه وسلم - فَأقبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: دَعْهُمَا، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا، فَخَرَجَتَا، وكانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ والْحِرَابِ ". 357 - " بَابُ الأكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبلَ الخرُوجِ " 420 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَغْدُو يَوْمَ الفِطر حتَّى يَأكُلَ تَمَراتٍ ".   الله، " فقال: دعهما " أي اتركهما تغنيان فإنّ هذا الغناء الحماسي لا حرج فيه، " فلما غفل " أي نام، " غمزتهما " أي أشرت إليهما بالخروج، وكان ذلك اليوم، " يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب " (1) أي يقومون فيه بألعاب الفروسية. ويستفاد منه: مشروعية الاحتفال بالعيد، وإقامة الألعاب والرقصات الحربية فيه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " يلعب السودان بالدرق والحراب ". 357 - " باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج " 420 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفطر على شيء من التمر قبل أن يذهب إلى صلاة عيد الفطر، فيقول: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات " (بفتح الميم) أي: لا يخرج إلى صلاة عيد الفطر حتى يأكل شيئًا من التمر. وذلك لأنّه كان أوّل الإِسلام لا يجوز الفطر إلاّ بعد صلاة العيد، ثم نسخ فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعلم الناس وأن يؤكد لهم تأكيداً عملياً أن ذلك قد نسخ، وأصبح   (1) اعتمدت في اختصار هذا الحديث على مختصر الزبيدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 358 - " بَابُ الْمَشْيِ والرُّكُوبِ إلَى الْعِيدِ، والصَّلاةُ قَبلَ الْخطْبَةِ وَبِغيْرِ أَذَانٍ ولا إِقَامَةٍ " 421 - عن ابْنِ عَبِّاسٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَا: " لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الفِطر ولا يَوْمَ الأَضْحَى ".   من السنة الإِفطار على التمر قبل صلاة العيد، ففعل ذلك بنفسه، وواظب عليه ليقتدي الناسُ به ويفعلوا مثله. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب الإِفطار قبل صلاة العيد كما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يستحب الإِفطار على التمر، فإن لم يجد تمراً تناول ما يقوم مقامه. وقد استحب بعض التابعين الإِفطار على الحلو مطلقاً كالتمر والعسل والدبس كما رواه ابن أبي شيبة. ولكن للتمر مزايا لا توجد في غيره. قال ابن القيم: وأكل التمر على الريق يقتل الدود، وهو فاكهة، وغذاء، ودواء، وشراب، وحلوى. ويستحب أن يأكل من التمر وتراً. أي عدداً فردياً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً ... إلخ. لما جاء في حديث آخر رواه البخاري عن أنس تعليقاً قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: " يأكلهن وتراً " وإنما رواه البخاري تعليقاً لأن فيه مُرَجَّى بن رجاء، وفي الاحتجاج به خلاف عند المحدثين، كما يستحب له الشرب قبل صلاة العيد، فإن لم يفعل ذلك في بيته شرب في طريقه، أو في المصلّى إن أمكنه. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في قوله: " لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل ". 358 - " باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة وبغير أذان ولا إقامة " 421 - معنى الحديث: يقول جابر وابن عباس رضي الله عنهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 " لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى "، أي: أن صلاة العيدين كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تصلّى بلا أذان ولا إقامة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قولهما: "لم يكن يؤذن يوم الفطر". ويستفاد من الحديث: أن صلاة العيدين بلا أذان ولا إقامة، تلك هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وعليها جمهور علماء المسلمين. قال مالك في " الموطأ ": سمعت غير واحد من علمائنا أي من علماء أهل المدينة يقول: لم يكن في الفطر والأضحى نداء ولا إقامة منذ زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم، وتلك السنّة التي لا اختلاف فيها، وما ذكره إمام دار الهجرة هو الذي استقر عليه الأمر، وجرى به العمل عند سلف الأمة وخلفها، أما ما حدث في عهد بني أمية من الأذان والإِقامة لصلاة العيدين فهو ظاهرة شاذة، وبدعة غريبة أنكرها الأئمة وأعلام السلف من الصحابة والتابعين. وأول من أحدث ذلك معاوية رضي الله عنه فقد أخرج الشافعي عن الزهري أنه قال: لم يكن يؤذّن للنبي ولا لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان في العيدين فقيل: أحدث ذلك معاوية بالشام وأحدثه الحجاج بالمدينة، قال: ولا وجه لهم فيما أحدثوه لمخالفته الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين. قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافاً. وقال بعض أصحابنا ينادى لها الصلاة جامعة. وهو قول الشافعي: وسنة رسول الله أحق أن تتبع. واحتج الشافعي بما رواه عن الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذنين في العيدين فيقولوا: الصلاة جامعة، وهو حديث مرسل ضعيف كما أفاده في " المنهل العذب " ونقله عن النووي. والمطابقة: في قوله: " لم يكن يؤذّن يوم الفطر ولا يوم الأضحى ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 359 - " بَابُ الخطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ " 422 - عن ابن عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَكُلُّهُمْ كانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ". 423 - عن البَرَاءِ بن عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأ بِهِ في يَوْمِنَا هَذَا أنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فمن فَعَلَ ذلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَتّنا، ومنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فإنمَّا هِيَ لَحْمٌ قدَّمهُ لأهلِهِ، ليسَ مِنَ النُّسُكِ في شَيءٍ".   359 - " باب الحطبة بعد العيد " 422 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة " أي حضرت صلاة العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين فكانوا جميعاً يصلّون صلاة العيد قبل الخطبة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " كانوا يصلون قبل الخطبة ". 423 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب خطبة العيد، إنّ أول ما نبْدأ به في يومنا هذا " الذي هو عيد النحر " أن نصلي " صلاة العيد، " ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك " أي: فمن قدم الصلاة وأخر الخطبة " فقد أصاب سنتنا " أي فقد وافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما فعل. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " إنّ أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 360 - " بَابُ فضلِ الْعَمَلِ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ " 424 - عن ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا الْعَمَلُ في أيَّامٍ أفضَلُ مِنْهَا في هَذَا الْعَشْرِ "، قَالُوا: ولا الْجِهَادُ؟ قَالَ: " ولَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ".   ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن من السنة الإِتيان بالخطبة بعد صلاة العيد، وتقديم الصلاة عليها، وهو ما ترجم له البخاري، وانعقد عليه الإِجماع، سلفاً وخلفاً، إلاّ ما حدث من بني أمية من تقديم الخطبة، وهي بدعة أحدثها مروان بن الحكم بالمدينة حين رأى مسارعة الناس إلى الخروج (1) بعد الصلاة، لئلا يسمعوا سب عليّ في خطبة العيد على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. أنكرها عليه أبو سعيد. فقال له: " غيرتم والله " أي غيرتم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا بني أمية". ثانياً: مشروعية النحر بعد الصلاة، وسيأتي تفصيله في موضعه. 360 - " باب فضل العمل في أيام التشريق " 424 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما العمل في أيام أفضل منها في هذا العشر " وفي رواية "ما من أيّام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر " والمعنى واحد، والمراد أنّ العمل في العشر الأوائل من ذي الحجة يتضاعف أجره ما لا يتضاعف في سائر الأيام، فلا   (1) أي أنه لما كان الأمويون يسبون علياً في خطبهم، كان الناس يكرهون ذلك (فيقتصرون) على حضور صلاة العيد فإذا صلّوا خرجوا قبل الخطبة لئلا يسمعوا ما يكرهون، فأمر معاوية مروان أن يقدم خطبة العيد على الصلاة ليضطر الناس إلى حضورها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 361 - " بَابُ التَّكْبِيرِ أيَّامَ مِنى " 425 - قالَ الْبُخَارِي: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنى تِلْكَ الْأَيَّامِ، وخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وعلَى فِرَاشِهِ، وفي فُسْطَاطِهِ، وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلكَ الأيَّامَ جَمِيعاً.   يساويه أي عمل في وقت آخر، " قالوا: ولا الجهاد " في سبيل الله، " قال: ولا الجهاد " قال الطيبي: معناه ولا الجهاد في أيام أخر أحب إلى الله من العمل في هذه الأيام، " إلاّ رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء " أي: إلاّ رجل استشهد في سبيل الله، فبذل روحه وماله إعلاءً لكلمة الله، فهو أفضل، أو فعمله أفضل. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي وابن ماجة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وفضل العمل الصالح فيها على العمل في سائر الأيام عدا الاستشهاد في سبيل الله. وهل هي أفضل من العشر الأواخر من رمضان؟ المختار أنّ هذه أفضل أياماً، وتلك أفضل ليال، لوجود ليلة القدر فيها. ثانياًً: استدل به البخاري على فضل أيام التشريق، لأن أولها وهو يوم العيد آخر العشر الأوائل. والسر في فضل العمل في أيام التشريق أنها أيام غفلة، والعبادات في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها. والمطابقة: في كون أول أيام التشريق آخر الأيام العشر. 361 - " باب التكبير أيام مني " 425 - معنى الأثر: يقول البخاري في هذا التعليق الذي وصله ابن المنذر والفاكهي في " أخبار مكة ". " كان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام " أي كان ابن عمر يواظب على مواصلة التكبير في أيام منى، " وخلف الصلوات المكتوبات " أي: وكان يكبر في تلك الأيام التي هي أيام العيد بعد كل صلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 362 - " بَابُ النَّحْرِ والذَّبْحِ بالْمُصَلَّى يَوْم الْنَّحْرِ " 426 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْحَرُ، أَوْ يَذْبَحُ بِالْمُصَلَّى ".   مكتوبة من الصلوات الخمس، " وعلى فراشه وفي فسطاطه " أي وفي خيمته. ويستفاد منه: أنّه يسن التكبير في أيّام العيد خلف الصلوات الخمس، لما جاء في هذا الأثر وغيره عن الصحابة رجالاً ونساءً. فقد كانت ميمونة تكبّر يوم النحر، وكان النساء يكبّرن خلف أبان بن عثمان، وخلف عمر ابن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد. ويبدأ التكبير عند أبي حنيفة من صلاة فجر يوم عرفة، وينتهي بصلاة عصر يوم النحر. وقال مالك والشافعي في أشهر أقواله: من صلاة ظهر يوم النحر إلى صلاة صبح اليوم الرابع. وقال أحمد: يكبر المحل من صلاة صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيّام التشريق ويكبر المحرم من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " كان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام ". 362 - " باب النحر والذبح بالمصلى يوم النحر " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على استحباب النحر والذبح بالمصلّى يوم النحر. والنحر يكون للإِبل في اللبة، والذبح للبقر والغنم في الحلق. 426 - معنى الحديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينحر إبل الأضاحي ويذبح بقرها وغنمها في المصلّى لكى يراه الناس، فيذبحوا وينحروا بعده. ويستفاد منه: أولاً: أنه يسن للإِمام تذكية أضحيته بالمصلى ليراه الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 363 - " بَابُ مَنْ خالَفَ الطَّرِيقَ إِذَا رَجِعَ يَوْمَ الْعِيدِ " 427 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطرَّيقَ ".   فيذكوا بعده ضحاياهم. ثانياً: استدل به مالك علي أنه لا يذبح أحد ضحيته إلّا بعد ذبح الإِمام. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " ينحر أو يذبح بالمصلّى ". 363 - " باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد " 427 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم عيد خالف الطريق " أي: كان من سنته - صلى الله عليه وسلم - التي داوم عليها في حياته أنّه كان يذهب إلى صلاة العيد من طريق، ويرجع من طريق آخر، ليشهد له الطريقان يوم القيامة. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " خالف الطريق ". ويستفاد منه: أنه يستحب للمسلم أن يذهب إلى صلاة العيد من طريق، ويرجع من طريق آخر، ليشهد له الطريقان، لأنّ الأرض تشهد لمن فوقها بما عمل من خير أو شر كما قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) وفي الحديث أنها تشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها، وقيل: يغير الطريق تفاؤلاً بتغير الحال إلى أفضل. تتمة وتكملة: لما كان البخاري لم يعقد باباً خاصاً لبيان صلاة العيد مع أهمية هذه الصلاة، فقد رأيت أن أبين صلاة العيدين، وعدد التكبيرات فيها، فأقول: جاء في الحديث الصحيح عن عمرو بن عوف المزني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبّر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة، وفي الثانية خمساً قبل القراءة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 أخرجه الترمذي وحسّنه، وقال: سألت البخاري عنه فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح منه، وبه أقول. اهـ. ولهذا اتفق الجمهور على أنّ صلاة العيدين ركعتان يكبّر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً قبل القراءة. قال مالك: وهو الأمر عندنا، وقال الباجي: وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد إلاّ أنها عند مالك وأحمد سبعة بتكبيرة الإِحرام، وعند الشافعي سبعة سوى تكبيرة الإِحرام. واتفقوا على أنها في الثانية خمسة بعد تكبيرة القيام. وقال أبو حنيفة: التكبيرات في الأولى ثلاثة بعد تكبيرة الإحرام وفي الثانية ثلاثة بعد القراءة هذه هي كيفية صلاة العيد. أما القراءة فيها: فإنّه يقرأ في كل ركعة الفاتحة وسورة يجهر فيها بالقراءة، وقد روى النعمان بن بشير " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما ". قال ابن المنذر: أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة. وفي أخبار من أخبر بقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنّه كان يجهر، ولأنّها صلاة عيد أشبهت الجمعة، والله أعلم. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 أبواب الوِتْرِ 364 - " بَابُ مَا جَاءَ في الْوِتْرِ " 428 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَجُلاً سَألَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَن صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أحَدكُم الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً توتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى".   " أبواب الوتر " هو لغة الفرد، أي الشيء الواحد، أو العدد المنتهي بواحد. وقد اختلف فيه الفقهاء شرعاً، فذهب بعضهم إلى أنه ركعة واحدة، كما يدل عليه المعنى اللغوي، وذهب آخرون إلى أنّ أقله ثلاث ركعات بناء على أنّه لغة ما ينتهي بواحد. وحكمه: أنّه سنة مؤكدة عند الحنابلة، وآكد السنن عند الشافعية. وآكدها بعد ركعتي الطواف عند المالكية، وواجب عند الحنفية. 364 - "باب ما جاء في الوتر" 428 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أنّ رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل "، أي عن صفتها وكيفيتها " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الحل مثنى مثنى "، أي صلاة الليل ثنائية يسلم المصلي فيها من كل ركعتين، كما قال ابن عمر، " فإذا خشي أحدكم الصبح " أي فإذا شعر المصلّى باقتراب الفجر، " صلى ركعة واحدة، توتر في ما قد صلّى " أي ختم صلاة الليل بركعة واحدة تجعل آخر صلاته وتراً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الوتر، وهو واجب عند أبي حنيفة (1) لحديث أبي أيوب: " الوتر حق " أخرجه أبو داود، وغيره من الأحاديث. والجمهور على أنه سنة مؤكدة، لحديث الأعرابي لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ما فرض الله عليه قال: " خمس صلوات كتبنهن الله في اليوم والليلة قال: هل على غيرها، قال: لا "، فلو كان واجباً لذكره مع الصلوات الخمس (2)، وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر حق " فإن في إسناده عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي، وقد تكلم فيه البخاري وغيره. ثانياً: أنّ أقل الوتر ركعة واحدة، وهو مذهب الشافعية والحنابلة. قال ابن قدامة: ويجوز له إذا صلاها ثلاثاً أن يأتي بالركعتين الأوليين مفصولتين وهو الأفضل، أو يأتي به موصولاً، سواء أتي به بتشهد واحد أو بتشهدين والفصل أفضل من الوصل، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الوتر ركعة من آخر الليل " أخرجه مسلم. وقال مالك: يشترط في ركعة الوتر أن يتقدمها شفع، ولهذا قال أشهب: من أوتر بركعة واحدة يعيد وتره بعد شفع ما لم يصل الصبح (3)، وقال سحنون: إن كان بحضرة ذلك شفعها بركعة وأوتر، وإن تباعد أجزأه. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة وتشهدين، لقول عائشة رضي الله عنها " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن " ... إلخ. ثالثاً: إن صلاة الليل ثنائية، تصلى ركعتين ركعتين، وهو مذهب مالك والشافعي في الليلية والنهارية. قال ابن قدامة: فأمّا تطوع الليل فلا يجوز إلاّ مثنى مثنى هذا قول أكثر أهل العلم، والأفضل في تطوع النهار أن يكون مثنى مثنى، وإن تطوع بأربع فلا بأس. وقال أبو حنيفة في صلاة الليل والنهار: إن شئت ركعتين، وإن   (1) ونقله ابن العربي عن أصبغ وسحنون من المالكية. (2) " المغنى " لابن قدامة. (3) " شرح الباجي على الموطأ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 429 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كانَتْ تِلْكَ صَلَاتهُ، تَعْنِي باللَّيْلِ، فَيَسْجُدُ السَجْدَةَ مِنْ ذِلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثم يَضْطجِعُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شِقِّهِ الأَيمَنِ حَتَّى يَأتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ ".   شئت أربعاً. والمطابقة: في قوله: " يصلّي ركعة واحدة توتر له ما قد صلّى ". 429 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته، تعني بالليل " وفي رواية مسلم قالت: " كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة ". ومعنى ذلك أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - الليلية التي كان يصليها ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، لا تزيد عن إحدى عشرة ركعة، منها ركعة الوتر، " يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه "، أي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل السجود في قيام الليل حتى أن الوقت الذي يقضيه في السجدة الواحدة يكفي لقراءة خمسين آية، " ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر "، وهما سنة الفجر، " ثم يضطجع على شقه الأيمن " للاستراحة. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن أغلب صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل إحدى عشر ركعة بما فيها الوتر. ولهذا قال ابن القيم: " وكان قيامة (1) - صلى الله عليه وسلم - بالليل إحدى عشر ركعة أو ثلاثة عشرة، كما قال ابن عباس وعائشة، فإنه ثبت عنهما هذا وهذا. والصحيح عن عائشة الأول، والركعتان فوق الإِحدى عشر هما   (1) " زاد المعاد " لابن القيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ركعتا الفجر، جاء ذلك مبيناً في هذا الحديث " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر " ذكره مسلم. أما ابن عباس فقد اختلف عليه، ففى الصحيحين عن أبي جمرة، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل، لكن قد جاء عنه هذا مفسراً أنها بركعتي الفجر، حيث قال الشعبي: سألت ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ثلاث عشرة ركعة، منها ثمان، ويوتر بثلاث، وركعتين قبل صلاة الفجر. ثانياًً: مشروعية طول السجود في صلاة القيام في حدود قدرة المصلّي وطاقته وقد كان - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب " يسجد السجدة بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية ". ثالثاً: مشروعية ركعتى الفجر، وهي سنة مؤكدة عند الشافعية، وآكد السنن وأقواها عند الحنفية، وهي (رغيْبة) عند المالكية يندب (1) فعلها في البيت ووقتها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتقضى عند الجمهور خلافاً للحنفية. ويقرأ فيها (الكافرون) و (الإِخلاص) عند الجمهور، والفاتحة فقط عند المالكية، و (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) إلى آخرها التي في سورة البقرة و (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) التي في سورة آل عمران إلى آخرها عند الشافعية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " كان يصلّي إحدى عشرة ركعة " لأن الوتر من ضمنها. ...   (1) " الرسالة " لابن أبي زيد القيرواني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 365 - " بَابُ ساعَاتِ الْوِتْرِ " 430 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُلَّ اللَّيْلِ أوْتَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وانْتَهَى وِتْرُهُ إلَى السَّحَرِ ". 366 - " بَابُ لِيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاِتهِ وِتْراً " 431 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاِتكُمْ باللَّيْلَ وِتراً ".   365 - " باب ساعات الوتر " 430 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى الوتر في جميع أوقات الليل، أحياناً في أوّله، وأحياناً في وسطه، وأحياناً في آخره " وانتهى وتره إلى السحر "، أي وكان آخر وقت صلّى فيه الوتر هو آخر الليل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قولها: " كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ويستفاد منه: جواز صلاة الوتر في جميع ساعات الليل من بعد العشاء إلى آخر الليل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى أوّله، ووسطه، لبيان الجواز، كما أفاده العيني. 366 - " باب ليجعل آخر صلاته وتراً " 431 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نصلّي الوتر في آخر الليل فنجعله آخر صلاة نصليها فيه، ونختم به صلاة الليل فلا نصلّى بعده إلى مطلع الفجر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 367 - " بَابُ القُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ " 432 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سُئِلَ عنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ: "قدْ كَانَ الْقُنُوتُ، فَقِيلَ لَهُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أوْ بَعْدَهُ؟ قالَ: قَبْلَهُ، قِيلَ: فإِنَّ فُلَاناً أخْبَرَنِي عنْكَ أنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ. فَقَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرَاً، أرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمَاً يُقَالُ لَهُمْ القُرَّاءُ زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلاً إِلَى قَوْم   وهو أمر ندب واستحباب فقط. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أن تأخير الوتر إلى آخر الليل لمن أراد التهجد ووثق من قيامه أفضل من أدائه في أوله. فإن لم يرد القيام، أو لم يثق من قيامه، فالأفضل تقديمه، لحديث جابر: " من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوّله، ومن طمع أن يقوم آخره فإن صلاة آخر الليل مشهودة ". فإن صلّى الوتر وقام للتجهد فلا يعيده عند الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا وتران (1) في ليلة " أخرجه أبو داود. ثانياًً: استدل به أبو حنيفة على وجوب الوتر. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 367 - " باب القنوت قبل الركوع وبعده " 432 - معنى الحديث: يروي لنا عاصم الأحول في هذا الحديث " عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن القنوت " أي أن أنس بن مالك سئل هل كان القنوت موجوداً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: قد كان القنوت " موجوداً، " فقيل له: قبل الركوع أو بعده؟ " أي: هل كان النبي وأصحابه يفعلونه قبل الركوع أو بعده؟، " قال: قبْله، قيل: فإنّ فلاناً "، ويحتمل   (1) " المغني " لابن قدامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ أولَئِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ الله عَهْدٌ، فَقَنَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -" شَهْراً يَدْعُو عَلَيْهِمْ.   أنّه ابن سيرين، كما أفاده العيني " أخبر عنك أنك قلت بعد الركوع، قال: كذب "، أي أخطأ في فهمه إن روى لك أن القنوت دائماً بعد الركوع " إنما قنت بعد الركوع شهراً " أي إنما كان قنوته - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع مدة محدودة، وزمناً قليلاً لا يتجاوز الشهر، وفي أحوال استثنائية، وعند النوازل، ثم بين سبب قنوته بعد الركوع، وقال: " بعث قوماً يقال لهم: القراء زهاء سبعين " أي يقارب عددهم سبعين رجلاً " إلى قوم من المشركين دون أولئك "، أي وكان عددهم أقل من المبعوث إليهم وإنما أرسلهم إليهم ليعلموهم القرآن، وأحكام الإسلام، " وكان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد " فنقضوا العهد وغدروا بأولئك القراء وقتلوهم. " فقنت رسول الله شهراً يدعو عليهم "، أي يدعو على أولئك الغادرين من رَعلٍ وذكوان ثلاثين صباحاً. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به المالكية والحنفية على أن القنوت قبل الركوع، لأن أنساً لما سئل عن القنوت قبل الركوع أو بعده قال: قبله، كما في حديث الباب. وذهبت الشافعية والحنابلة (1) إلى أن القنوت بعد الركوع واستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت بعد الركوع "، أخرجه مسلم. ومما يدل على أن القنوت بعد الركوع حديث علي أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك   (1) واختلفوا هل هو في صلاة الصبح أو في الوتر؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه في صلاة الصبح، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه في الوتر. قال الترمذي: واختلف أهل العلم في القنوت فرأى عبد الله، بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها قبل الركوع، وبه يقول سفيان الثورى وابن المبارك وإسحاق وأهل الكوفة، وهو قول أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى أن القنوت سنّة في الصبح بعد الركوع، وكذلك يرى مالك القنوت في الصبح إلا أنه قبل الركوع. قال خليل: " وَقنوت سِراً بِصبحٍ فَقَطْ قَبلَ الركُوْعِ " أي أن القنوت مستحب في صلاة الصبح، كما أفاده الحطاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ". ثانياًً: في الحديث دليل على مشروعية القنوت عند النوازل ويسمى هذا القنوت عند أهل العلم قنوت الحاجة أو قنوت النوازل. ويستعمل في أوقات مخصوصة، ولفترة محدودة عندما ينزل بالمسلمين مكروه من مرض أو خوف أو هزيمة أو عدوان عليهم، لقول أنس " فقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو عليهم ". وفي رواية أخرى عن أنس: " قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً يدعو على رِعل وذكوان ". تتمة وتكملة: اتفق الأئمة الأربعة على وجود دعاء مخصوص للقنوت، واختلفوا في هذا الدعاء، فاختار الشافعية والحنابلة ما رواه الحسن بن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علمه كلمات القنوت أن يقول: " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، ووقني شر ما قضيت، فإنّك تقضى ولا يقضى عليك.، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت " رواه أحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حديث حسن، لا نعرف في القنوت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أحسن منه، هذا وزاد البيهقي بعد: " ولا يذل من واليت " ولا يعز من عاديت. واختار المالكية والحنفية ما روي عن عمر رضي الله عنه وهو: " اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخضع لك، ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إيّاك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إنّ عذابك الجد بالكافرين ملحق "، رواه البخاري والبيهقي موقوفاً على عمر بألفاظ مختلفة، وأخرج سحنون عن عبد الرحمن بن سويد الكاهلي أن علياً قنت في الفجر به. وأخرج الطحاوي عن ابن عباس أنّ لفظ القنوت هذا كان قرآناًْ ثم نسخ كما أفاده في " مسالك الدلالة ". مطابقة الحديث للترجمة: في كونه يدور حول القنوت، هل هو قبل الركوع أو بعده، وما إلى ذلك. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 بسم الله الرحمن الرحيم (أبواب الاستسقاء) الاستسقاء لغة: طلب السقيا، وهي أن يعطيه ما يشرب كما قال الراغب، إذن فمعنى الاستسقاء أن يطلب المرء من غيره أن يعطيه شراباً، ماءً. كان أو سواه، ثم استعمل في طلب سقي الماء لنفسك أو لغيرك، كما قال الحافظ. وشرعاً: طلب سقي الماء من الله تعالى بنزول الأمطار، أو توفر مياه الأودية والأنهار، أو بزيادة منسوبها. وهو ثلاثة أنواع: أدناها: مجرد الدعاء فرادى أو جماعات، وقد استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار (الزيت) بالدعاء بلا صلاة، قال الشافعي: وأحسنه ما كان من أهل الصلاح. وأوسطها: الدعاء عقب الصلوات فريضة أو نافلة، وفي كل خطبة مشروعة. وأعلاها: ما كان بالصلاة والخطبة. والحكمة فيه أنّ معظم الكوارث من قحط وجدب وغيرها إنما هي نتيجة حتمية للذنوب والخطايا. كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فجعل الله الأدعية والصلوات والتوبة وسائل لتكفير السيئات وكشف البلاء. وشرع صلاة الاستسقاء لما فيها من الاستغفار والعودة إلى الله، والإِنابة إليه، وقد أخبرنا الله عن نوح أنه قال لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) ثم شرعت الصدقة عند الاستسقاء، لأنها تطفىء غضب الرب، كما سُنَّ الخروج بالعجائز والصبيان في هيئة رثة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا صبيان رضع ومشايخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 368 - " بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ وَخرُوجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الِاسْتِسْقَاءِ " 433 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ بنِ عَاصِم المَازِنِي رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: خَرَج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَسْقي وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ.   ركع؛ وبهائم رتع؛ لصب عليكم العذاب صباً " أخرجه البيهقي وضعَّفه، ويغني عنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولولا البهائم لم يمطروا " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ". 368 - " باب الاستسقاء، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستسقاء " 433 - معنى إلحديث: يقول عبد الله بن زيد بن عاصم المازني: " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي " أي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلّى ليصلّي صلاة الاستسقاء كما جاء مصرحاً بذلك في رواية أخرى حيث قال: " صلّى ركعتين " وفي رواية أبي داود: " خرج بالناس يستسقي "، أي وشاركه في الخروج كل من يشرع له ذلك من الرجال والصبيان وعجائز النساء، دون الشابات منهن، " وحوّل رداءه " أي جعل ما على يمينه على يساره، والعكس بالعكس. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً،: مشروعية صلاة الاستستقاء، وكونها سنة مؤكدة، ولا خلاف في ذلك. وإنما اختلفوا هل يسن صلاة الاستسقاء جماعة، أو يستحب فقط، فقال الجمهور بالأول، وقال أبو حنيفة بالثاني لعدم مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليها، ولأنه قال في حديث البخاري هذا: " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، ولم يذكر الصلاة " وأجيب بأن عبد الله بن زيد روى هذا الحديث في رواية أخرى مفصلاً فقال فيها: " قلب رداءه، وصلّى ركعتين " والروايتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 369 - " بَابُ رَفْعِ الإِمَامِ يَدَهُ في الِاسْتِسْقَاءِ " 434 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ في شَيءٍ منْ دُعَائِهِ إلَّا في الِاسْتِسْقَاءِ، وَإنَّهُ يَرْفَعُ حتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ ".   من مصدر واحد، فتكون الرواية الأخرى تفسيراً لهذه الرواية ويكون معنى قوله " خرج يستسقي " أي يصلّي صلاة الاستسقاء. ثانياً: أنه يسن الخروج إلى المصلّى في صلاة الاستسقاء كالعيدين. قال ابن رشد: أجمع العلماء على الخروج إلى الاستسقاء، والبروز عن المصر، والدعاء إلى الله تعالى، والتضرع إليه في نزول المطر، سنة سنّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: استحباب تحويل الرداء للإِمام والناس، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. والمطابقة: في قوله: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي". 369 - " باب رفع الإِمام يده في الاستسقاء " 434 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء "، أي لا يبالغ في رفع يديه أثناء أيِّ دعاء من الأدعية كما يبالغ في دعاء الاستسقاء، وليس المراد نفي الرفع في الأدعية الأخرى لثبوته في الأحاديث الصحيحة، كما أفاده الحافظ " وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه " بكسر الهمزة وسكون الباء، أي يرفع يديه في دعاء الاستسقاء عالياً، حتى يظهر البياض الذي تحت إبطيه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه: استحباب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، والمبالغة فيه أكثر من الأدعية الأخرى، كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قول أنس رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 370 - " بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أمْطَرَتْ " 435 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَأى الْمَطر قَالَ: " صَيِّبَاً نَافِعاً ". 371 - " بَابٌ إِذَا هَبَّتِ الرِّيْحُ " 436 - عنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَتِ الرِّيْحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ في وَجْهِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".   370 - " باب ما يقال إذا أمطرت " 435 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: صَيِّباً نافعاً " أي: يسأل الله تعالى ويتضرع إليه أن يجعل هذا المطر كثيراً غزيراً نافعاً للإِنسان والحيوان سقيا رحمة، تُنْبتُ بها الأرض أعشابها، وتخرج من خيراتها، وتدر المواشى من ألبانها، لا سقيا عذاب تهدم وتغرق. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. ويستفاد منه: استحباب الدعاء عند نزول الأمطار، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو، لأن الدعاء عندها مستجاب. فقد روى الشافعي في " الأم " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث "، وهو حديث مرسل. والمطابقة: في قولها: " قال: صيباً نافعاً ". 371 - " باب إذا هبت الريح" 436 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كانت الريح الشديدة إذا هبت عُرف ذلك في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي: أصابه فزع شديدٌ وظهرت آثار الخوف والقلق على وجهه الشريف، خشية أن تكون تلك الريح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 372 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نصِرْتُ بالصَّبَا " 437 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ ".   إعصاراً مدمِّراً، أو عقوبة سماوية، كتلك التي وقعت لقوم هود، فكانت عليهم عاصفة شديدة، قلعت أشجارهم وهدّمت ديارهم، كما قال تعالى في وصف ما أحدثته فيهم من كوارث (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) حتى أنها كانت ترفع المرأة بين السماء والأرض كأنها جرادة، وكانت ترميهم بالحجارة فتدق أعناقهم، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتدت الريح يخشى أن تصاب أُمَّتَهَ بما أصيب به أولئك. الحديث: أخرجه البخاري. ويستفاد منه: أنه يستحب استشعار الخوف عند هبوب الرياح والعواصف الشديدة، وذلك من الفطنة، لأنّ الريح كثيراً ما تكون دماراً وتخريباً وعذاباً، كما تدل عليه الحوادث المتكررة على مر العصور والأزمان. والمطابقة: في قوله: " كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ". 372 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرت بالصَّبا " 437 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نصرت بالصبا " وهي الريح التي تهب من مشرق الشمس، وتكون باردة منعشة، يستريح إليها الشجي، ويحن لها الغريب، ولذلك تردد ذكرها على ألسنة الشعراء ومن ذلك قول الشاعر: ألَا يَا صَبَا نَجْدٍ مَتَى هِجْتِ مِنْ نَجْدِ ... لَقَدْ زَادَني مَسْراكِ وَجْداً عَلَى وَجْدِ ويقول ابن زيدون: وَيَا نَسِيْمَ الصبَّاَ بَلِّغْ تَحِيَّتنا ... مَنْ لَوْ عَلَى البُعْدِ حَيَّا كانَ يُحْيينَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 373 - " بَابٌ لا يَدْرِي مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ إِلَّا اللهُ " 438 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مِفْتَاحُ الْغَيْب خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، لَا يَعْلَمُ أحدٌ مَا يَكُونُ في غَدٍ، ولَا يَعْلَمُ أحدٌ مَا يَكُونُ في الأرحَامِ،   ومعنى الحديث: أن الله عز وجل قد نصر نَبِيَّهُ برج الصبا في غزوة الخندق، حيث سلطها الله على قريش وغطفان، فكفأت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وأَنزلت في قلوبهم الرعب فعادوا خاسئين، " وأهلكت عاد بالدبور " وهي ريح تهب من الغرب سلطها الله على قوم هود سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً فأهلكتهم وقضت عليهم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: أن بعض الرياح نصر ورحمة كالصَّبا، وبعضها عذاب كالدبور. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 373 - " باب لا يدري متى يجيء المطر إلاّ الله " 438 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مفتاح الغيب خمس "، وإنما وصف هذه الخمسة وسماها مفتاح الغيب، لأنها أهم الأمور الغيبية التي حجبها الله عن علم الإِنسان وإدراكه الحسي والعقلي، ولأن بعض الكهنة والعرافين يدّعي العلم بها، ولهذا ذكرها - صلى الله عليه وسلم -، ونفى أن يعلم بها أحد، فقال: " لا يعلمها إلّا الله "، وهو مصداق قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) ... إلخ. قال قتادة: في الآية خمس من الغيب استأثر الله بهن، فلم يطلِع ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً " لا يعلم أحد ما يكون في غد " أي لا يعلم ما ينطوي عليه الغد من خير أو شر، ولو كان نبياً إلاّ بواسطة الوحي المنزل عليه. " ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام " من ذكر أو أنثى، أسود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ولا تَعْلَمُ نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ، ومَا يَدْرِي أحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطر".   أو أبيض، كاملاً أو ناقصاً أو نحوها، فهو المنفرد بعلم ذلك قبل التخلق، أما بعد تخلقه فإنه لم يعد غيباً، وفي إمكان الكشف الطبي الوصول إلى معرفته " ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً " أي لا تدري نفس ما تأتي به من الأعمال غداً، إن كان حسناً أو قبيحاً، خيراً أو شراً، " وما تدري نفس بأي أرض تموت ". قال ابن كثير: أي ليس يدري أحد من الناس أين مضجعه من الأرض " وما يدري أحد متى يجيء المطر " أي لا يدري متى يجيء المطر قبل ظهور علاماته. ويستفاد منه: أن هذه الأمور الخمسة هي أمهات أمور الغيب التي استأثر الله بعلمها، أما معرفة الإِنسان بنزول المطر بواسطة الأرصاد الجوية فإن ذلك بعد ظهور العلامات، وليس غيباً، وكذلك معرفة الطبيب بالجنين ذكراً أو أنثى فإنه بعد التخلق وليس غيباً. الحديث: أخرجه البخاري هنا. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 بسم الله الرحمن الرحيم " أبواب الكسوف " الكسوف والخسوف: ظاهرتان غريبتان مغايرتان للأحوال العادية خارقتان للسنن الكونية، تظهر إحداهما في الشمس والأخرى في القمر، وقد كثر استعمال الأولى في الشمس والثانية في القمر في لغة العرب (والكسوف لغة) التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس إذا اسودت (والخسوف لغة) الذهاب، يقال: خسف القمر إذا ذهب ضوءه. والمراد بهما شرعاً: احتجاب ضوء الشمس، أو ذهاب نور القمر، لسبب من الأسباب التي يخلقها الله فيهما، لفترة محدودة من الزمن، وفي الحديث: " الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد، ولكنهما خَلقان من خلقه، وإن الله تعالى يحدث في خلقه ما شاء وإن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه يخشع له " أخرجه النسائي والطحاوي. قال ابن القيم: إسناد هذه الرواية لا مطعن فيه، ورواتها ثقات حفاظ، لكن لعل هذه اللفظة: يعني " إن الله إذا تجلى لشيء من خلقه يخشع له " مدرجة من بعض الرواة. قال السبكي: وهو لا يتنافى مع ما قاله الفلاسفة من أن خسوف القمر يتوسط الأرض بينه وبين الشمس، فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس فإنه لا يبعد أن يكون ذلك في وقت تجليه سبحانه وتعالى، فالتجلي سبب لكسوفهما. اهـ. بتصرف من شروح " سنن النسائي " (1).   (1) كما أفاده في " فيض الباري على صحيح البخاري ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 374 - " بَابُ الصَّلَاةِ في كُسُوفِ الشَّمْس " 439 - عن أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَجُرُّ رِدَاءَهُ، حتى دَخَلَ الْمَسْجدَ، فَدَخَلْنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حتى انْجَلَتِ الشَّْمسُ، فقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الشَّمْس والْقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ، فَإذا رَأيتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ ".   374 - " باب الصلاة في كسوف الشمس " 439 - معنى الحديث: يقول أبو بكرة رضي الله عنه: " كنا عند رسول الله فانكسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجرَّ رداءه "، أي قام - صلى الله عليه وسلم - مسرعاً فزعاً من ذلك الكسوف؛ حتى اضطربت حركته البدنيّة، فجرّ رداءه بسبب شدة الخوف الذي أصابه، كما في حديث أسماء حيث قالت: " ففزع فأخطأ بدرع "، أي فلبس الدرع بدلاً عن الثوب، بسبب انشغال خاطره، كما أفاده الحافظ " فصلّى بنا ركعتين "، أي: فصلى بنا صلاة الكسوف في المسجد ركعتين عاديتين، كل ركعة بركوع واحد كما في حديث النعمان بن بشير " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى حين كسفت الشمس مثل صلاتنا يركع ويسجد ". "قال القاري: أي من غير تعدد الركوع، وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة " فصلّى ركعتين وأربع سجدات " أخرجه النسائي " حتي انجلت الشمس "، أي استمر يصلي حتى ظهرت. " فقال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد " أي: لموت كبير أو حدوث أمر عظيم كما يزعمه الجاهليون " فإذا رأيتموهما " مكسوفين " فصلوا " أي: فعليكم بالصلاة والدعاء حتى ينجليا. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 440 - عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ ولا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأيتُمْ فَصَلّوا وَادْعُوا اللهَ ".   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية صلاة الكسوف وهي سنة اتفاقاً وتصلّى في كسوف الشمس جماعة بلا خلاف، واختلفوا في خسوف القمر. فقال الشافعي وأحمد يجمع في خسوف القمر، كما يجمع في كسوف الشمس، وقال أبو حنيفة: لا يسن، ولكن يجوز، وقال مالك: لا جماعة في خسوف القمر. ثانياًً: أن صلاتي الكسوف والخسوف ركعتان عاديتان بركوع واحد وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الجمهور: في كل ركعة ركوعان كما في حديث ابن عباس. واختلفوا هل يجهر فيها الإِمام بالقراءة. فقال أحمد يجهر بالقراءة خلافاً للجمهور. والمطابقة: في قوله: " فصلى بنا ركعتين ". 440 - معنى الحديث: يقول المغيرة رضي الله عنه: " كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم "، أي: انكسفت في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي نفس اليوم الذي توفي فيه إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مارية القبطية رضي الله عنهما. وقد ولد رضي الله عنه سنة ثمان من الهجرة وتوفي في آخر ربيع الأول من السنة العاشرة كما رجحه شيخ الإِسلام: ابن تيمية. قال رحمه الله: " وأما ما يروى عن الواقدي من أن إبراهيم مات يوم العاشر من الشهر، وهو اليوم الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف، فهو غلط، والواقدي لا يحتج بمسانيده، فكيف بما أرسله! وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ. ثم قال في موضع آخر: "وكما أن العادة التي أجراها الله أن الشهر لا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 إلّا ثلاثين أو تسعة وعشرين، فكذلك أجرى الله العادة أنّ الشمس لا تنكسف إلّا في وقت الاستسرار " فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم "، أي ربطوا بين الحادثة الأرضية والظاهرة السماوية التي هي كسوف الشمس، وظنوا أن موت إبراهيم كان سبباً في كسوف الشمس في ذلك اليوم، لأنّه ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان العرب يزعمون الجاهلية أنه إذا مات عظيم في الأرض حدث حادث عظيم في السماء " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته " كما كانوا يزعمون أنّ الشمس تنكسف لموت كبير أو حدوث أمر عظيم " فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله "، أي فإذا رأيتم الكسوف فصلوا صلاة الكسوف والجأوا إلى ربكم بالتضرع والدعاء. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية صلاة الكسوف (1). وهي عند الجمهور ركعتان كل ركعة بركوعين لما في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: " خسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام؛ وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى " أخرجه الستة. ثانياً: أن الحوادث الأرضية من ولادة كبير أو موت عظيم لا تكون أبداً سبباً في الحوادث السماوية من كسوف أو خسوف، ولا تؤثر فيها. فموت العظماء مثلاً لا ينشأ عنه كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته ". قال شيخ الإِسلام ابن تيميّة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ": أي لا يكون الكسوف معلّلاً بالموت، فهو نفي العلة الفاعلة، وأن موت بعض الناس وحياتهم لا يكون سبباً لكسوف الشمس والقمر ". ثم قال رحمه الله: "وأما كون الكسوف   (1) وهي سنة مؤكدة عند الجمهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 375 - " بَابُ النِّدَاءِ بالصَّلَاةَ جَامِعَةً " 441 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرُو بن العَاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نُودِيَ أنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةً ".   وغيره من الآيات والحوادث السماوية قد يكون سبباً لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتاً أو غيره، فذلك قد أثبته الحديث نفسه ". في قوله: " ولكن الله تعالى يخُّوّف بها عباده "، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه الذي تقدم لنا قبل هذا الحديث. قال ابن تيميّة: " وإخباره (1) بأن الله يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سبباً لعذاب ينزل كالرياح العاصفة مثلاً ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فصلّوا وادعوا ". 375 - " باب النداء بالصلاة (2) جامعة " 441 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما " لما كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودى أن الصلاة جامعة " أي نادى المؤذن الصلاة جامعة بنصب الصلاة على المفعولية لفعل محذوف أي صلّوا الصلاة، وجامعة حال منصوب، يسكن للوقف. والتقدير احضروا الصلاة حال كونها جامعة للجماعة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. ويستفاد منه: أن صلاة الكسوف بدون أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها بصيغة الصلاة جامعة. والمطابقة: في قوله: " نودي أن الصلاة جامعة ".   (1) " الفتاوى الكبرى " لابن تيمية ج 1 ص 391 طبعة دار المعرفة بيروت. (2) بنصب الصلاة على الحكاية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 376 - " بَابُ التَعَوُّذِْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ في الْكُسُوفِ " 442 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أن يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْألهَا فَقَالَتْ لَهَا: أعاذَكِ اللهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أيعَذَّبُ النَّاسُ في قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " عَائِذَاً بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ " ثم ذَكَرَتْ حَدِيث الْكُسُوفِ، ثُمَّ قَالَتْ في آخِرِهِ: " ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ".   376 - " باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف " 442 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أن يهوديّة جاءت تسألها " أي: تسألها عن عذاب القبر، فقالت لها كما في رواية أخرى " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شيئاً عن عذاب القبر، فقالت عائشة: وما عذاب القبر؟ " " فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر " أي أجارك الله منه " فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عائذاً بالله من ذلك " أي فقال - صلى الله عليه وسلم -: " نعم هو حق " كما جاء في رواية أخرى، واستعاذ بالله منه " ثم ذكرت حديث الكسوف " فقالت: ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة مركباً فخسفت الشمس فرجع ضحى ثم قام يصلي ... إلخ " ثم أمرهم " بعد صلاة الكسوف " أن يتعوذوا من عذاب القبر" (1). ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب التعوذ من عذاب القبر بعد صلاة الكسوف اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: ثبوت عذاب القبر في جميع الأديان السماوية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: "ثم أمرهم أن   (1) اعتمدنا في اختصار هذا الحديث على مختصر الزبيدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 377 - " بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ جَمَاعَةً " 443 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً نحواً مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيْلاً، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأوَّلِ، ثمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَاماً   يتعوذوا من عذاب القبر". 377 - " باب صلاة الكسوف جماعة " 443 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي فصلى بهم صلاة الكسوف جماعة. قال العيني: أي صلّى بالناس، وهذا لا يشك فيه، ولكن الراوي طوى ذكره، إمّا اختصاراً، أو اعتماداً على القرينة الحالية، لأنه لم ينقل عنه أنه صلى صلاة الكسوف وحده. وقال القسطلاني: قوله " فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بالجماعة ليدل على الترجمة " فقام قياماً طويلاً " أي: فوقف بعد تكبيرة الإِحرام وقوفاً طويلاً " نحو قراءة (سورة البقرة) "، أي مقدار الوقت الذي يكفي لقراءة (سورة البقرة)، " ثم ركع ركوعاً طويلاً " مقدار ما يكفي لمائة آية، " ثم رفع، فقام قياماً طويلاً " قدر ما يكفي لقراءة سورة آل عمران، " ثم ركع ركوعاً طويلاً "، قدر ما يكفي لثمانين آية. " وهو دون الركوع الأول "، أي وهو أقصر من الركوع السابق " ثم سجد "، أي ثم سجد سجدتين، " ثم قام قياماً طويلاً ". قال القسطلاني: نحواً من النساء " وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامَ الأوَّلَ، ثم رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَاماً طَوِيلاً، ْ وهُوَ دُونَ القِيَامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعاً طَوِيلاً، وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأولِ، ثمَّ سَجَدَ، ثم انصَرَفَ وقد تَجَلَّتِ الشَّمْسُ".   طويلاً " نحواً من سبعين آية، " وهو دون الركوع الأول، ثمِ رفع، فقام قياماً طويلاً، نحواً من المائدة، " ثم ركع ركوعاً طويلاً " نحواً من خمسين آية، " وهو دون الركوع الأول، ثم سجد " أي سجد سجدتين، وتشهد وسلّم من صلاته " ثم انصرف، وقد تَجَلَّتِ الشمس " أي وقد ظهرت الشمس، وعاد إليها الضوء وزال الكسوف. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الجماعة في صلاة الكسوف كما ترجم له البخاري ولا خلاف في ذلك عند أهل العلم بالنسبة إلى كسوف الشمس. واختلفوا في خسوف القمر، هل تصلى الصلاة جماعة، فقال: الشافعي وأحمد: يجمع فيها كما يجمع في كسوف الشمس تماماً. وقال مالك: لا جماعة فيها، لأنه لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع في خسوف القمر. وقال أبو حنيفة: تجوز الجماعة فيها ولا تسن. ثانياً: دل الحديث على أنّ صلاة الكسوف ركعتان، كل ركعة بركوعين، لقول ابن عباس رضىِ الله عنهما في حديث الباب: " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد " ثم ذكر ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - صنع في الركعة الثانية مثل الأولى. وهذا نصٌ صريح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف ركعتين، في كل ركعة ركوعان، وهو مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: صلاة الكسوف ركعتان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 378 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ الْعَتَاقَةَ في كُسُوفِ الشَّمْسِ " 444 - عَنْ أسْمَاءَ بنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: " لَقَدْ أمرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْعتَاقَةِ في كُسُوفِ الشَّمْسِ ".   عاديتان، في كل ركعة ركوع واحد. لحديث أبي بكرة رضي الله عنه: " انكسفت الشمس، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجر وراءه، حتى دخل المسجد، فدخلنا، فصلّى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس ". ثانياً: دل هذا الحديث على مشروعية القراءة سراً في صلاة الكسوف، لقول ابن عباس رضي الله عنهما " فقام قياماً طويلاً نحو قراءة سورة البقرة " أي: قام قياماً يكفي لقراءة (سورة البقرة) ولم يذكر أنه قرأ سورة البقرة ولا غيرها. ولو أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاته وسمعه ابن عباس لقال: وقرأ (سورة البقرة) أو غيرها، قال القسطلاني: وهو يدل على أن القراءة كانت سراً، ولذا قالت عائشة في بعض الطرق عنها " فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة "، ولهذا ذهب الجمهور إلى مشروعية القراءة فيها سراً، وذهب أحمد إلى الجهر فيها، لحديث عائشة " جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف بقراءته ". أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " صلّى بهم جماعة ". 378 - " باب من أحب العتاقة في كسوف الشمس " 444 - معنى الحديث: تقول أسماء بنت بكر رضي الله عنها: " لقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمته " بالعتاقة " أي: بعتق الرقاب " في كسوف الشمس "، أي عند كسوف الشمس، ليرفع الله بهذا العتق البلاء عن عباده، لأنّ الأعمال الصالحة سبب في كشف البلايا، لما فيها من التقرب إلى الله واكتساب مرضاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 379 - " بَابُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ في الْكُسُوفِ " 445 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "جَهَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ، وِإذَا رَفَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ   ولما يترتب عليها من محو الزلات، وتكفير السيئات. ويستفاد منه: استحباب العتق عند حدوث الكسوف، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمر به في كسوف الشمس، وأمرُه - صلى الله عليه وسلم - به للندب والاستحباب، كما ترجم له البخاري، وهو قول أهل العلم. ولما كان الكسوف من التخويف، وأشد ما يتوقع من التخويف نار جهنم، جاء الندب على شيء تتقى به النار، وهو العتق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار ". فمن لم يقدر على ذلك، فليعمل بالحديث العام، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " فيأخذ من وجوه البر ما أمكنه، كما أفاده ابن أبي جمرة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي بألفاظ. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالعتاقة عند الكسوف، والله أعلم. 379 - " باب الجهر بالقراءة في الكسوف " 445 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف "، أي قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها جهراً " فإذا فرغ من قراءته " أي فكان إذا انتهى من قراءته " كبّر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده "، أي: كبر عند الركوع، وقال: سمع الله لمن حمده، عند الرفع منه، كما يفعل في الصلوات الأخرى تماماً، " ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف "، أي يكرر القراءة في الركعة الواحدة فيقرأ فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 الْحَمْدُ، ثُمَّ يُعَاوِدُ الْقِرَاءَةَ في صَلَاةِ الْكُسُوفِ أرْبَعَ رَكْعَاتٍ في رَكْعَتَيْنِ وأرْبَع سَجْدَاتٍ".   الفاتحة والسورة مرتيْن " أربع ركعات في ركعتين " أي: ويصلي أربع ركوعات في ركعتين. ويأتي في كل ركعة بركوعين " وأربع سجدات " أي ويأتي بأربع سجدات في الركعتين فيسجد في كل ركعة سجدتين كالصلوات الأخرى. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية الجهر بالقراءة في خسوف الشمس والقمر معاً. وهو قول بعض أهل العلم، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة. وقال الجمهور: إنما يجهر بالقراءة في خسوف القمر، لأنّها صلاة ليلية. أما كسوف الشمس فإنّه يُسن فيه الإِسرار بالقراءة، لأنّ الصلاة فيه نهارية، ولقول ابن عباس: " قرأ نحواً من قراءة (سورة البقرة) " لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد كان ابن عباس (1) يصلّي إلى جنب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف، فلم يسمع منه حرفاً. كما أخرجه الشافعي تعليقاً، ووصله البيهقي. ثانياً: أن صلاة الكسوف ركعتان، كل ركعة بركوعين، كما ذهب إليه الجمهور. والمطابقة: في قوله: " جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخسوف ". ...   (1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ " أبوابُ سُجُود القُرآنَ " أي أبواب المواضع التي يسن فيها سجود التلاوة، واتفقوا على أن في كل موضع منها سجدة واحدة. واختلفوا في كيفية سجدة التلاوة، فذهبت المالكية والحنفية إلى أنها سجدة بين تكبيرتين مسنونتين ليس فيها إحرام ولا تشهد ولا سلام. وقالت الحنابلة: هي سجدة بين تكبيرتين واجبتين وسلام (1). وندب الدعاء فيها بما شاء، ومن ذلك أن يقول: اللهم أكتب لي عندك أجراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. وقالت الشافعيَّة: إنْ كان في الصلاة، وكان إماماً أو منفرداً سجد بنية قلبية، وإن كان مأموماً سجد بدون نية، وإن كان في غير الصلاة، فلها خمسة أركان: النية وتكبيرة الإِحرام، وأن يسجد سجدة واحدة كسجدات الصلاة، والجلوس بعدها، والسلام. ويشترط لغير المصلّي أن يقارن بين النية وتكبيرة الإِحرام، ويسن له أن يرفع يديه عند تكبيرة الإحرام، وعند السجود، وعند الرفع منه. ويندب له أن يَقُولَ فيها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن في السجدة مراراً: " سجد وجهي للذي خلقه وصوّره، وشَقَّ سمعه وبصره بحوله وقوته " أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقى والدارقطني، وزاد الحاكم: " فتبارك الله أحسن الخالقين " ويدعو أيضاً بقوله: اللهم أكتب لي بها عندك   (1) كذا في " الإنصاف " و" الفروع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 380 - " بَابُ مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنَ " 446 - عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "قَرَأَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النَّجْمَ بِمَكَّةَ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أخذَ كَفَّاً مِنْ حَصىً أوْ تُرَابٍ فرفَعَهُ إلى جَبْهَتِهِ، وقَالَ: يَكْفِيني هَذَا، فَرَأيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرَاً".   أجراً (1) ... إلخ. ويقوم مقام السجود لمن كان له عذر يمنعه منه ما يقوم مقام تحية المسجد، فلا بأس أن يقول بدلها: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ". 380 - " باب سجود القرآن " ْ446 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة " أي قرأ سورة النجم عندما كان بمكة على مرأى من كفار قريش ومسمع منهم " فسجد في " عند قوله تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) في نهاية السورة، " وسجد من معه " من المسلمين والمشركين كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: " سجد المسلمون والمشركون والجن والانس " أخرجه البخاري، أي: سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لأمر ربه، وسجد المسلمون اقتداءً بسنة نبيهم. وسجد المشركون إجلالاً وإكباراً لبلاغة القرآن، وانبهاراً من إعجازه وفصاحته، " غير شيخ " أي رجل طاعن في السن، وهو أمية بن خلف، فإنه لم يسجد استعلاءً وتكبراً، ولكنه " أخذ كفاً من حصى " أو تراب " فرفعه إلى جبهته " أي وضعه عليها " فرأيته بعد ذلك قتل كافراً " يوم بدر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 381 - " بَابُ سَجدَةِ (ص) " 447 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِيهَا ".   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية السجود سجدة واحدة عند قراءة أي آية من آيات السجود التي حددتها السنة النبوية. وهو واجب مطلقاً على القارىء والسامع عند أبي حنيفة، وسنة مؤكدة على القارىء والسامع إن كان قاصداً عند مالك وأحمد، وقال الشافعي: سنة مؤكدة على القارىء واستدل أبو حنيفة على وجوبه بقوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ) واستدل الجمهور على سنيته بقول عمر أمام الصحابة: إن الله لم يفرض علينا السجود إلاّ أن نشاء (1). ثانياً: مشروعية السجود في (سورة النجم) وفي المفصل وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك، فلا سجود عنده فيه، لحديث ابن عباس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل " أخرجه أبو داود. والمطابقة: في قوله: " قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فسجد فيها ". 381 - " باب سجدة (ص) " 447 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قال (ص) ليست من عزائم السجود " أي: أن السجدة المذكورة في (سورة ص) عند قوله: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) ليست من السجدات المسنونة " وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها " أي رأيته - صلى الله عليه وسلم - يسجد عندها شكراً لله تعالى على قبول توبة داود، كما صرح بذلك في رواية النسائي حيث قال:   (1) أخرجه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 382 - " بَابُ مَنْ قَرأ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَسْجُدْ " 448 - عنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أنَّهُ قَرَأ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (وَالنَّجْمَ) فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا".   " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في (ص) فقال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً ". الحديث: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي أيضاً. ما يستفاد منه: هذا الحديث استدل به الشافعي وأحمد على أنه لا يسن السجود في سورة (ص) لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ليست من عزائم السجود ". وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يسن السجود فيها (1)، وهو مذهب الجمهور، لما روي عن مجاهد، عن ابن عباس نفسه، أنه سئل عن السجدة في (ص) فقال: أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها ". أخرجه الطحاوى، وهذا يدل على أنّه - صلى الله عليه وسلم - سجد في هذه السورة تشريعاً لأمته، ليقتدوا به، ويستنوا بسنته. وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما: " ليست من عزائم السجود " فهو اجتهاد شخصي له، وليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكونه سجد شكراً لا يمنع مشروعيته. والمطابقة: في قوله: وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - " يسجد فيها " كما أفاده العيني. 382 - " باب من قرأ السجدة ولم يسجد " 448 - معنى الحديث: يحدثنا زيد بن ثابت رضي الله عنه: " أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها " أي: أن زيداً قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم، - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع إليه، فلما وصل إلى آخرها   (1) أي يسن السجود فيها مطلقاً في الصلاة أو خارجها كما أفاده العيني. وروي عن أحمد روايتان كالمذهبين، والمشهور منهما كمذهب الشافعي اهـ كما أفاده العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 383 - " بَابُ سَجْدَةِ (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) " 449 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ْ "أنَّهُ قَرَأ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت) فَسَجَدَ بِهَا، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ أرَ النَّبِيَّ يَسْجُدُ لَمْ أسْجُد ".   لم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماع الآية الأخيرة منها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استدل به الجمهور على أن سجود التلاوة سنة لا واجب، وإنما تركه - صلى الله عليه وسلم - لبيان جواز تركه. وقال أبو حنيفة: واجب وإنما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المرة لأنه لم يكن على طهر، أو لأن الوقت وقت كراهة، أو أخّره، وهو جائز. ثانياًً: استدل به مالك على عدم مشروعية السجود في (النجم) والمفصل، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - جمع هذه الآية ولم يسجد فيها. والمطابقة: في قوله: " ولم يسجد فيها ". 383 - " باب سجدة (إذا السماء انشقت) 449 - معنى الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه قرأ سورة الانشقاق فسجد فيها عند قوله تعالى: (وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون) " فقيل له في ذلك " أي: فأنْكَر عليه أبو رافع رضي الله عنه السجود فيها، كما في رواية أخرى عن أبي رافع رضي الله عنه، قال: " فقلت ما هذه السجدة؟ " وإنما أنكر عليه لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه لم يسجد في المفصل منذ تحوله إلى المدينة " فقال أبو هريرة رضي الله عنه: " لو لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد لم أسجد " أي وإنما سجدت اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 384 - " بَابُ مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِىءِ " 450 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِيهَا السَّجْدَةُ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ حَتَّى مَا يَجِدُ أحَدُنَا مَوْضِعِ جَبْهَتِهِ ".   ويستفاد منه: مشروعية السجود في الانشقاق، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك. والمطابقة: في قوله: " لو لم أر النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد لم أسجد ". 384 - " باب من سجد لسجود القارىء " 450 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة فيها السجدة " أي يقرأ علينا السورة التي فيها آية السجدة في غير الصلاة - كما في رواية أخرى " فيسجد ونسجد " أي فإذا قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية التي فيها السجدة يسجد هو لتلاوتها، ونسجد نحن لسماعها، " حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته " أي نتزاحم على السجود، حتى لا يجد الساجد مكاناً يضع فيه جبهته من شدة الزحام، كما في حديث المسور بن مخرمة عن أبيه أنه قال: "ما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام " أخرجه الطبراني، وفي رواية: حتى سجد الرجل على ظهر الرجل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. ويستفاد منه: أن سجود التلاوة مشروع للقارىء والمستمع، واختلفوا في حكمه فقال مالك وأحمد وغيرهم: هو سنة مؤكدة على القارىء والسامع إن كان قاصداً. وقال أبو حنيفة: واجب على القارىء والسامع قصد أو لم يقصد، لحديث الباب وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: "فيسجد ونسجد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 تتمة وتكملة: اتفق أهل العلم على مشروعية سجود التلاوة في عشر سور وهي الأعراف والرعد، والنحل، والإِسراء، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، وألم السجدة، وفصّلت. وأضاف إليها الشافعي في القديم ثانية الحج، فصارت إحدى عشرة سجدة. وأضاف إليها في الجديد ثلاثة من المفصل، وهي رواية عن أحمد، وهي الرواية المشهورة، وبها قال الليث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب. وأضاف مالك في الرواية المشهورة عنه إلى العشرة سجدة (سورة ص) فصارت، إحدى عشرة سجدة. اهـ. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 بسم الله الرحمن الرحيم " أبواب تقصير الصلاة " هكذا ترجم البخاري وبعض الفقهاء، ومنهم من ترجم بقوله " قصر الصلاة ". والقصر والتقصير: والاقتصار بمعنى واحد، وإن كانت تختلف من حيث الاشتقاق. فالقصر مصدر قَصَرْتُ الصلاة بتخفيف الصاد، والتقصير مصدر قصَّرت الصلاة بتشديد الصاد، والأول أشهر استعمالاً. ومعنى القصر: كما قال الزرقاني: تخفيف الرباعية إلى ركعتين. ولا قصر في الصبح والمغرب إجماعاً. قال الجمهور وإنما تقصر الصلاة في السفر إذا كان سفر عبادة أو سفراً مباحاً، لقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ). وأما سفر المعصية فالمشهور من مذهب مالك والشافعي (1) أنه لا تقصر فيه الصلاة (2)، وقال أبو حنيفة: تقصر، وهى رواية زياد بن عبد الرحمن عن مالك. وأما السفر المكروه، فقد سئل عنه مالك فقال: أنا لا آمره بالخروج، فكيف آمره بالقصر. والحكمة في مشروعيه القصر: الرفق بالمسافر، ومراعاة ظروفه الصعبة، والتخفيف عنه لما يلاقيه في سفره من المشقة، والمعاناة، والمكاره، والأخطار، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " السفر قطعة من العذاب "، وبالغ بعضهم فقال: العذاب قطعة من السفر (3)، ولم تقصر الثلاثية لأنها لا تقبل القسمة، ولا الثنائية لأنها تصير   (1) يفرق الشافعي بين المعصية بالسفر والمعصية في السفر، فإذا كانت المعصية هي الباعث على السفر فلا يجوز له القصر وأما إذا وقعت من المسافر سفراً مباحاً معاص في سفره فلا يمنعه ذلك من قصر الصلاة. اهـ. المصحح. (2) " شرح الباجي على الموطأ " ج 1. (3) " حكمة التشريع الاسلامي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 385 - " بَابُ الصَّلَاةِ بِمِنى " 451 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنى رَكْعَتَيْنِ وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ومَعَ عُثْمَانَ صَدراً مِنْ إِمَارَتِهِ، ثمَّ أتمَّهَا ".   فذة. والشارع لا يأمر بالفذ، ولأنّها في ذات نفسها قصيرة، فلا حاجة إلى تقصيرها، والمصغّر لا يصغّر. ويستحب التخفيف في السفر من السنن والمستحبات، وعدم تطويل الصلاة، وتخفيف القراءة في صلاة الصبح، والله أعلم. 385 - " باب الصلاة بمنى " 451 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر " أي قَصَرْتُ الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في مني فصليتها معهم ركعتين " ومع عثمان صدراً من إمارته "، أي وكذلك قَصَرْتُ الصلاة بمنى مع عثمان رضي الله عنه في أوّل خلافته، " ثم أتمها " أي ثم أتم عثمان الصلاة بمنى، فصار يصليها أربعاً كصلاة المقيم، وذلك لأنه تأهل بمكة، فصار مقيماً، وأصبح يرى أنه لا يجوز له القصر بمنى، لأن القصر في رأيه للحاج المسافر فقط. أما المقيم فلا يقصر. ويستفاد من الحديث: أن الحاج إذا كان مقيماً بمكة لا يقصر الصلاة بمنى، وأن القصر في مني خاصٌّ بالمسافر فقط، لأن عثمان رضي الله عنه لما أقام بمكة أتم الصلاة بمنى، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك رحمه الله تعالى. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " صليت مع النبي بمنى ركعتين ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 452 - عنْ حارثةَ بْنِ وهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - آمَنَ مَا كَانَ بِمِنى رَكْعَتَينَ ". 453 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَمَّا قِيلَ لَهُ صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنى أرْبَعَ رَكَعَاتٍ، استرجَعَ، ثُمَّ قَالَ:   452 - معنى الحديث: عن حارثة بن وهب (صحابي جليل) نزل الكوفة وروى ستة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على أربعة). " قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما كان بمنى ركعتين " يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر بهم الصلاة أيام منى وهو في أحسن الأحوال وأكثرها أمناً واستقراراً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ما يستفاد من الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية القصْرِ بمنى مطلقاً، سواء كان الحاج مسافراً أو كان مقيماً بمكة وما حولها لأنّ حارثة ابن وهب قصر الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى - وهو مقيم بمكة، فإنه كما قال أبو داود: من قبيلة خزاعة التي ديارها بمكة. ومعنى ذلك أنّه قصر الصلاة بمنى وهو مكيٌّ وأقرّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد أخذ بهذا الحديث الإِمامِ مالك رحمه الله فقال: يسن للحاج قصر الصلاة بمنى مطلقاً سواء كان مسافراً أو مقيماً في مكة، لأنّ القصر بمنى للنسك لا للسفر. والمطابقة: في كون الحديث يدور حول الصلاة بمنى. 453 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه " لما قيل له صلى عثمان بمنى أربع ركعات " أي: لما سمع أنّ عثمان رضي الله عنه صلى الظهر والعصر والعشاء في مني أربع ركعات، ولم يقصر الصلاة فيها، " استرجع " أي أنكر على عثمان رضي الله عنه فعله هذا، وقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون ". وذلك لأنه رأى أن عثمان قد فوّت على نفسه فضيلة القصر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمِنى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بِمِنى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَع رَكَعَاتٍ رَكَعْتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ.   " ثم قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين " أي صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى جميع الصلوات الرباعية قصراً، ركعتين ركعتين " وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر بمنى ركعتين " أي فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يقصرون الرباعية بمنى، فيصلونها ركعتين، " فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان " أي فليت نصيبي ركعتان مقبولتان عند الله، موافقتان لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدلاً عن أربع ركعات غير مقبولة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: استحباب القصر بمنى مطلقاً لأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ويستوي في ذلك المسافر والمقيم معاً، لأن القصر للنسك لا للسفر. وهو مذهب مالك كما تقدم بيانه خلافاً للجمهور، وقد أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة فيها مع أنه قد اتخذ له بيتاً وأهلاً بمكة فأصبح مقيماً. ثانياًً: استدل به الحنفية على وجوب القصر لأن ابن مسعود استرجع حين سمع أن عثمان لم يقصر، ولو كان القصر. رخصة لما فعل ذلك. وأجاب الجمهور بأنه إنما استرجع إظهاراً لكراهة مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه لا لأن القصر واجب، كما أفاده القسطلاني. والمطابقة: في قوله: " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين " ... إلخ. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 386 - " بَاب في كَمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةُ " 454 - عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْم وَلَيْلَةٍ لَيسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ ".   386 - " باب في كم يقصر الصلاة " 454 - معنى الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمةٌ " بضم الحاء وسكون الراء. يعنى: لا يجوز للمرأة المؤمنة أن تسافر المسافة التي تسمّى سفراً، وهي يوم وليلة إلاّ ومعها محرم من أب أو أخ أو غيره من محارمها. ويلحق بذلك الزوج، لأن المقصود هو صيانتها. الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه: كما ذهب إليه بعض أهل العلم أنّ مسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو يوم وليلة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المرأة أن تسافر بغير محرم مسيرة يوم وليلة، فدل ذلك على أن أقل السفر يوم وليلة، وهو السفر الذي تقصر له الصلاة، وهو مذهب الأوزاعي وابن المنذر وبعض الحنفية ويقدر بثمانية فراسخ، وذهب الجمهور إلى أن أقله يومان أي ستة عشر فرسخاً (1) وفي الحديث أيضاً دليل على أنه لا يجوز للمسلمة السفر بغير محرم والله أعلم. والمطابقة: في كون الحديث دل على أن أقل السفر يوم وليلة وهو ما تقصر فيه الصلاة.   (1) والفرسخ ثلاثة أميال فتكون مسافة القصر ثمانية وأربعين ميلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 387 - " بَابٌ يَقْصُرُ إِذَا خرَجَ مِنْ مَوضِعِهِ " 455 - عنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينةِ أرْبعاً وبذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ".   387 - " باب يقصر إذا خرج من موضعه " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على أن المسافر يبدأ في قصر الصلاة الرباعية إذا خرج من بلدته التي يقيم فيها. 455 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " صليت الظهر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أربعاً " أي صليت معه صلاة الظهر بالمدينة فصلاها أربع ركعات " وبذي الحليفة ركعتين "، وفي رواية أخرى " والعصر بذي الحليفة ركعتين " يعني وصليت العصر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة ركعتين: فقصرنا الصلاة حين وصلنا ذا الحليفة. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي. ويستفاد منه: أن المسافر لا يقصر الصلاة حتى يفارق بلدته، وقد اختلف أهل العلم فيما تتحقق به هذه المفارقة، ويبدأ به السفر، ويباح القصر، فقال الشافعية: يبدأ ذلك بمفارقة سور البلدة (1) التي يقطنها إن كان لها سور، ولا تعد الدور الواقعة بعده من البلد كما صححه النووي: فإنْ لم يكن للبلدة سور فيبدأ القصر من مجاوزة العمران، حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل، ولا تدخل فيه البساتين والمزارع. وقال الحنفية: يبدأ السفر والقصر إذا فارق بيوت المصر. وقال المالكية: يبدأ القصر إذا جاوز البلد والبساتين التي في حكمها على المشهور، وهو ظاهر " المدونة ". وعن مالك إن كانت قرية   (1) " إرشاد السارى لشرح صحيح البخاري " ج 2 للقسطلاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 388 - " بَابٌ يُصَلِّي الْمَغرِبَ ثَلَاثاً في السَّفَرِ " 456 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " رَأيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أعْجَلَهُ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثاً، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يقيمَ الْعِشَاءَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ولا يُسَبَّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ".   (جمعة) يبدأ القصر إذا جاوز ثلاثة أميال أو جاوز ساكن البادية حلته، وهي البيوت التي ينصبها من شعر أو غيره. اهـ. كما أفاده القسطلاني (1). والمطابقة: في قوله: " وبذي الحليفة ركعتين " لأن أنساً يخبر في حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر صلاته بعد ما خرج من المدينة. اهـ. كما أفاده العيني. (2) 388 - " باب يصلي المغرب ثلاثاً في السفر " 456 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير " أي إذا احتاج - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسراع في سيره " يؤخر المغرب " إلى مغيب الشفق، " فيصليها ثلاثاً " أي فيصليها ثلاث ركعات في سفره، كما يصليها في حضره، ولا يقصرها كما يقصر الرباعيّة " ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين "، أي لا يلبث إلّا قليلاً حتى يصلي العشاء ركعتين فقط، ومعنى ذلك أنه يجمع في السفر بين المغرب والعشاء جمع تأخير فيصلّي المغرب تامة، ويصلي العشاء قصراً " ولا يسبح حتى يقوم من جوف الليل "، أي ولا يتنفل في السفر قبل الصلاة أو بعدها ولكنه يصلّي (3) صلاة الليل فقط.   (1) " إرشاد السارى " ج 2. (2) " عمدة القاري شرح البخاري " للعيني ج 7. (3) أي يقتصر على صلاة التهجد عند منتصف الليل فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 389 - " بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الدَّوَابِ حَيْثمَا توَجَّهَتْ بِهِ " 457 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَهُوَ رَاكِبٌ في غَيْرِ الْقِبْلَةِ ".   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: مشروعية إتمام المغرب في السفر وأنها لا تقصر كالرباعيّة، وهو ما ترجم له البخاري، ونقل ابن المنذر الإِجماع على ذلك. ثانياًً: أنه يجوز الجمع في السفر بين المغرب والعشاء جمع تأخير كما يجوز الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم وتأخير معاً، وهو مذهب الجمهور. وقال الحسن البصري والنخعي، وابن سيرين وأبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز الجمع إلاّ في عرفة ومزدلفة، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " والذي لا إله غيره ما صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة قط إلّا لوقتها إلاّ صلاتين " أخرجه الشيخان وحملوا حديث الباب على الجمع الصوري. الحديث: أخرجه الخمسة بألفاظ. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب في السفر ثلاثاً. 389 - " باب صلاة التطوع على الدواب وحيثما توجهت به " 457 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة "، أي: كان يصلي النافلة وهو راكب على دابته متوجهاً إلى غير القبلة، وفي رواية " نحو المشرق "، وكان ذلك في غزوة أنمار، وأرضُهم قِبَلَ المشرق. ومعنى ذلك أنه كان يتوجه في صلاته حيثما توجهت به دابّته. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " يصلّي التطوع وهو راكب على الدابّة في غير القبلة ". ويستفاد منه: جواز التطوع على الدابة حيثما توجهت به، وأنه لا يلزمه في النافلة التوجه إلى القبلة إذا كان راكباً على دابته. ولا خلاف في ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 390 - " بَابُ صَلاةِ التَّطَوُّعِ علَى الْحِمَارِ " 458 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ صَلَّى عَلَى حِمَارٍ، وَوَجْهُهُ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ، فَقِيلَ لَهُ: تُصَلِّي لغَيْرِ الْقِبْلَةِ! فَقَالَ: لَوْلا أنِّي رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ لَمْ أفْعَلْهُ ". 391 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعَ في السَّفَرِ دُبُرَ الصَّلَاةِ وَقَبلَهَا " 459 - عن ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: ْ "صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أرهُ يُسَبِّحُ في السَّفَرِ وَقَالَ اللهُ تَعَالى (لَقَدْ   عند أهل العلم، غير أن الشافعي قال: يلزمه التوجه إلى القبلة عند تكبيرة الإِحرام، وهو رواية عن أحمد، أمّا في بقية النافلة فإنه يتوجه حيثما توجهت به دابته اتفاقاً. 390 - " باب صلاة التطوع على الحمار " 458 - معنى الحديث: أن أنس بن مالك رضي الله عنه صلّى النافلة على الدابة متوجهاً إلى شرق القبلة فقال له ابن سيرين: أتصلي إلى غير القبلة! فقال: إنما صليت النافلة إلى غير القبلة لأني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ". ويستفاد منه: جواز النافلة على الحمار وغيره من الدواب، ولا خلاف في ذلك إلاّ أن الجمهور اشترطوا في ذلك السفر خلافاً لأبي حنيفة. وعن مالك لا يجوز التنفل عليها إلاّ في سفر قصر. 391 - " باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها " 459 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "صحبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ". 392 - " بَابُ مَنْ تطَوَّعَ في السَّفَرِ في غَيْرِ دُبُر الصَّلَوَاتِ وَقَبلَهَا " 460 - عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ رَأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى السُّبحَةَ بَاللَّيْلِ في السَّفَرِ على ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْث تَوَجَّهَتْ بِهِ ".   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أره يسبّح في السفر " أي لم أره طوال صحبتي له يصلّي السنن القبلية والبعدية في السفر، أما النوافل المطلقة فقد كان يصليها كما سيأتي. " وقال الله (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي وقد أمرنا الله تعالى في هذه الآية باتباع نبينا، والاقتداء به، فينبغي أن نترك هذه السنن في السفر كما كان - صلى الله عليه وسلم - يتركها اتباعاً لسنته، وعملاً بشريعته. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. ويستفاد منه: عدم مشروعية السنن القبلية والبعدية في السفر، وهو مذهب ابن عمر ومن وافقه من أهل العلم. قال الزرقاني: والمشهور عند جميع السلف جوازها، وبه قال الأئمة الأربعة لحديث البراء رضي الله عنه قال: " سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمان عشر سفراً، فما رأيته يترك الركعتين قبل الظهر " أخرجه أبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فلم أره يسبح في السفر ". 392 - " باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها " 460 - ترجمة الراوي: وهو عامر بن ربيعة العنزي هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها، واستخلفه عثمان على المدينة حين حج، وتوفى سنة 32 من الهجرة. الحديث: أخرجه البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 393 - " بَابُ الجَمْعِ في السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغرِبِ والْعِشَاءِ " 461 - عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ والْعَصْرِ، إِذَا كانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ الْمَغْرِبَ والْعِشَاءِ ".   معنى الحديث: يحدثنا عامر رضي الله عنه: " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى السُّبحة " أي صلاة النافلة " بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به " أي مستقبلاً الجهة التي تتوجه إليها دابته. والمطابقة: في قوله رضي الله عنه: " صلّى السبحة بالليل في السفر ". ويستفاد منه: مشروعية النوافل المطلقة في السفر ولا خلاف في ذلك. 393 - " باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء " 461 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير " أي يجمع بينهما في السفر إذا أدركه الظهر أثناء سيره، " ويجمع بين المغرب والعشاء " في السفر جمع تأخير. الحديث: أخرجه البخاري تعليقاً، ووصله البيهقي كما قال الحافظ في " الفتح ". ويستفاد منه: مشروعية الجمع في السفر بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جمع تأخير كما يجوز الجمع بين الظهر والعصر، جمع تقديم، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يجوز إلاّ في عرفة ومزدلفة لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " والذي لا إله غيره ما صلّى رسول الله صلاة قط إلاّ لوقتها إلاّ صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع " أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: "كان رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 394 - " بَاب إِذَا لمْ يُطِقْ قَاعِدَاً صَلَّى عَلى جَنْبٍ " 462 - عَنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَت بِي بَوَاسِيرُ فَسَألتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: " صَلِّ قَائِماً، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدَاً، فَإِنْ لَمْ تَستَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ".   - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر". 394 - " باب إذا لم يطق قاعداً صلّى على جنب " 462 - معنى الحديث: يقول عمران بن حصين رضي الله عنه: " كانت بي بواسير " أي كان يشتد عليَّ ألمها فيضعفني، ويشق علي القيام، " فقال: صل قائماً " إن استطعت ذلك، ولو معتمدا على شيء، لأن القيام ركن لا يسقط إلاّ عند العجز عنه، " فإن لم تستطع " أي فإن عجزت عن القيام أو خشيت زيادة المرض " فقاعداً "، أي فصلِّ قاعداً، " فإن لم تستطع فعلى جنب " أي فصل مضطجعاً على جنبك الأيمن، كما جاء في رواية الدارقطني. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. والمطابقة: في قوله: " فإن لم تستطع فعلى جنب ". ويستفاد منه: أن المرء يصلّي قائماً إن وجد المقدرة على القيام ولو مستنداً إلى شيء، فإن لم يقدر على ذلك بأن وجد مشقة شديدة، أو خاف حدوث مرض، أو مضاعفته، أو دواراً، أو إغماء، أو خشى عدوّاً، أو غرقاً، صلّى قاعداً. وأفضل هيئات القعود عند أبي حنيفة الافتراش وعند الجمهور التربع. فإن شق عليه القعود صلّى مضطجعاً على جنبه الأيمن، فإن لم يستطع فعلى الأيسر، فإن لم يستطع على جنبه صلى مستلقياً على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، والترتيب بين الجنبين والظَّهر مستحب عند الجمهور، واجب عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 395 - " بَاب إِذَا صَلَّى قَاعِداً، ثُمَّ صَحَّ أوْ وَجَدَ خِفَّةً تمَّمَ مَا بَقِيَ " 463 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّهَا لم تَرَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِداً قَطُّ حَتَّى أسَنَّ، فكانَ يَقْرأُ قَاعِدَاً حتى إِذَا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأ نَحْوَاً مِنْ ثَلَاثِينَ آيةً، أو أرْبَعِيْنَ آيَةً، ثُم رَكَعَ ".   الشافعية. وقالت الحنفية: إن تعذر القعود صلَّى مستلقياً أو على جنبه، والاستلقاء أفضل فإن عجز عن هذه الهيئات كلِّها، فقال الجمهور: يجري الذكر والقرآن على لسانه، فإن لم يستطع فعلى قلبه ويومىء للركوع والسجود. وقالت الحنفية: إن عجز عن الاستلقاء سقطت عنه الصلاة. 395 - " باب إذا صلّى قاعداً ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي " 463 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها: " أنها لم تر النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي صلاة الليل قاعداً قط حتى أسنّ " أي لم تره - صلى الله عليه وسلم - يصلّي صلاة التهجد قاعداً، بل كان يصليها أغلب حياته قائماً، حتى كبر سنه، وشق عليه القيام " فكان يقرأ قاعداً، حتى إذا أراد أن يركع قام " أي فلما كبر سنه صار يبدأ الركعة قاعداً ويقرأ معظم قراءته وهو قاعدٌ فإذا قارب الركوع قام " فقرأ نحواً من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع "، ومعنى ذلك أنه يصلي بعض الركعة الأولى قاعداً وبعضها قائماً. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قولها: " فكان يقرأ قاعداً، فإذا أراد أن يركع قام " إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 464 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي رِوَايَة: " يَفْعَلُ في الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثلَ ذَلِكَ، فإِذَا قَضَىَ صَلَاَتَهُ نَظرَ، فإِنْ كُنْتُ يَقْظى تَحَدَّثَ مَعِي، وِإنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ ".   464 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تذكر في هذه الرواية أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل في الركعة الثانية مثل ما يفعل في الركعة الأولى (1) يعني أنه يبدأ القراءة في الركعة الثانية قاعداً، فإذا بقي عليه قدر ثلاثين أو أربعين آية قام فأتم قراءته، ثم ركع، قالت: " فإذا قضى صلاته " أي: فإذا سلّم من صلاته " نظر، فإن كنت يقظى تحدث معي "، أي: فإن وجدني مستيقظة قضى بعض الوقت في الحديث معي، " وإن كنت نائمة اضطجع " ليأخذ بعض الراحة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قولها: " يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك ". ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: أن المريض أو المسن الذي يشق عليه القيام إذا بدأ صلاته قاعداً، ووجد نشاطاً وقدرة على القيام أتم قائماً، ولا يجب عليه أن يستأنف صلاته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسن كان يصلي بعض الركعة قاعداً، وبعضها قائماً، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة، سواء قعد ثم قام، أو قام ثم قعد، الكل جائز. وحكى القاضي عياض عن الإِمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن: كراهية القعود بعد القيام، ولو نوى القيام ثم أراد أن يجلس جاز عند الجمهور. ثانياًً: حسن معاملته - صلى الله عليه وسلم - لزوجاته ومؤانسته لهن.   (1) أي كان يفعل في التهجد في الركعة الثانية كما يفعل في الأولى فيبدأ القراءة قاعداً حتى إذا بقي عليه نحو ثلاثين آية قام، فأتم بقية القراءة قائماً. اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 بسم الله الرحمن الرحيم كتابُ التَّهَجُّد 396 - " بَابُ فضل قِيامِ اللَّيْلِ " 465 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الرَّجُل في حَيَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَأى رُؤيَا قَصَّهَا على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَمَنيتُ أنْ أُرى رُؤيَا فَأقُصَّهَا علَى رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكُنْتُ غُلاماً شَاباً أنامُ في الْمَسْجِدِ علَى عهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَأيْتُ في النَّوْمِ كأنَّ مَلَكَيْنِ أخذَانِي فذَهَبَا بِي إلى النارِ، فَإذَا هِيَ مَطْوِيَّة كَطي البِئرِ، وإذا لَهَا قرْنَانِ، وإذا فِيهَا أنَاسٌ قد عَرَفْتُهُمْ، فجعَلْتُ أقُولُ: أعوذُ باللهِ مِنَ   396 - " باب فضل قيام الليل " 465 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان الرجل في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أخبره برؤياه ليعبّرها له تعبيراً صحيحاً فيستفيد منها في دينه ودنياه، لأن تعبير الأنبياء بوحي من الله تعالى كما قال يوسف عليه السلام: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية " أي مبنية الجوانب كالبئر، " وإذا لها قرنان "، أي جداران في أعلاها مثل الجدارين اللذين يكونان فوق البئر، "وإذا فيها أناس قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 النَّارِ، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَر، فقالَ لي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتهَا حَفْصَةُ على رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ: " نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلي مِنَ اللَّيْلِ " فكانَ بَعْدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلاً ". 397 - " بَابُ ترْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيض " 466 - عَنْ جُنْدُبَ بْنِ عَبْد اللهِ البَجَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   عرفتهم" ولم يذكر أسماءهم للستر عليهم، " فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع " أي لا خوف عليك فلن يصيبك مكروه. " فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل "، أي تمنى له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوج أعماله الصالحة بقيام الليل، لأن في هذه الرؤيا تنبيه له على هذا القيام، وتحريض له عليه. قال المهلب: وإنما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا بقيام الليل، لأنه لم ير شيئاً يغْفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، فعبر ذلك بأنه تنبيه له في هذه الرؤيا على قيام الليل. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل ابن عمر رضي الله عنهما وصلاحه وحسن سيرته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى عليه بقوله: " نعم الرجل عبد الله ". ثانياًً: الترغيب في صلاة الليل، وبيان فضلها ومكانتها، وأنها من أشرف الطاعات، وأفضل العبادات. وأنّها سبب في النجاة من النار، والارتقاء في مقامات الصالحين الأخيار. والمطابقة: في قوله: " لو كان يصلّى من الليل ". 397 - " باب ترك القيام للمريض " 466 - معنى الحديث: يقول جندب رضي الله عنه: "اشتكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 "اشْتَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ". 398 - " بَابُ تحْرِيض النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ والنَّوَافِل مِنْ غَيْرِ إيجاب " 467 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً فَقَالَ: "ألا تُصَلِّيَانِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أنفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِنْ شَاءَ أنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا (1)، فانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إليَّ شَيئاً، ثم سَمِعْتُهُ   النبي - صلى الله عليه وسلم -" أي أصابه - صلى الله عليه وسلم - مرض منعه من صلاة الليل، " فلم يقم ليلة أو ليلتين " أي فترك القيام لمدة ليلة أو ليلتين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فلم يقم ". فقه الحديث: دل الحديث على أنه ينبغي للمسلم أن لا يشدد على نفسه في قيام الليل. فإذا كان مريضاً فإنّه يترك القيام أثناء مرضه رفقاً بنفسه، واقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيكتب له ثواب ذلك القيام الذي تعوّد عليه. 398 - " باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب " 467 - معنى الحديث: يحدثنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة " أي: أتاهما ليلاً " فقال: ألا تصليان؟ "، أي فوجدهما نائمين، فحثهما على الصلاة، " فقلنا: يا رسول الله أنفسنا يد الله " أي: فاعتذرنا بأننا إنما تركنا الصلاة دون إرادتنا، لأنّا كنّا نائمين،   (1) أي إن أراد أن يوقظنا من النوم أيقظنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) ". 399 - " بَابُ مَنْ نامَ عِنْدَ السَّحَرَ " 468 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " مَا ألْفَاهُ - صلى الله عليه وسلم - السَّحَرُ عِنْدِي إلَّا نَائِمَاً " تَعْنِى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -.   وأرواحنا ليست بأيدينا حتى نستيقظ متى شئنا، " فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع " بفتح الياء " إليّ شيئاً " أي لم يرد على جواباً، " ثم سمعته وهو مولِّ يضرب على فخذه وهو يقول: " وكان الإِنسان أكثر شيء جدلاً "، وإنما ضرب - صلى الله عليه وسلم - على فخذه، وذكر الآية الكريمة تعجباً من تسرع عليٍّ ومبادرته إلى هذا الجواب، وتعبيراً عن عدم موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - له عليه، كما أفاده النووي. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التحريض على قيام الليل والحث عليه وإيقاظ النائمين له. ثانياً: أنه ينبغي للمسلم أن يجاهد نفسه في المواظبة على النوافل والطاعات من قيام وغيره، وأن لا يبادر إلى التماس الأعذار، وإنما يحاول التغلب عليها ما أمكن، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوافق علياً على الاعتذار بالنوم في ترك القيام، كما أفاده النووي. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تصليان ". 399 - " باب من نام عند السحر " 468 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنهما: " ما ألفاه السحر عندي إلاّ نائماً "، أي لا أجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت السحر - إذا بات عندي إلاّ نائماً. لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتهجد بعد نصف الليل إلى السحر، ثم ينام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 400 - " بَابُ طُولِ الْقِيَامِ في صَلَاةِ اللَّيْلِ " 469 - عنِ ابْنِ مسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِماً حَتَّى هَمَمْتُ بِأمْر سُوءٍ، قِيلَ، مَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أنْ أقْعُدَ وَأذَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ".   حتى الفجر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، وابن ماجة. فقه الحديث: دل الحديث على أنه يسن لمن يقوم الليل أن ينام عند السحر، كما ترجم له البخاري، لأن تقسيم الليل إلى وقت للعبادة، ووقت للراحة، أنشط للجسم والنفس وأدعى للاستمرار والدوام والمواظبة على قيام الليل دون سآمة أو ملل، وأفضل الأعمال ما داوم عليه فاعِلُهُ، لقول عائشة رضي الله عنها: " كان أحب العمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدومه، ثم قيل لها: متى كان يقوم - صلى الله عليه وسلم - كما قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ " أي إذا سمع أصوات الديكة عند منتصف الليل، أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قولها: " ما ألفاه السحر عندي إلاّ نائماً ". 400 - " باب طول القيام في صلاة الليل " 469 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء "، أي: حتى عزمت على فعل سيء قبيح، " قيل ما هممت؟ قال: هممت أن أقعد "، أي: فلما أطال النبي - صلى الله عليه وسلم - القيام في الصلاة تعبت تعباً شديداً، وشق عليَّ طول الوقوف حتى عزمت على الجلوس. قال القسطلاني: وإنما جعله أمر سوء، وإن كان القعود في النفل جائزاً، لأن فيه ترك الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - وصورة من مخالفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 401 - " بَاب كَيْفَ صَلَاةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَمْ كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ " 470 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَتْ صَلاةُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يَعْنِى بالَّليْلٍ".   الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة والترمذي في " الشمائل ". والمطابقة: في قوله: " فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء ". فقه الحديث: دل الحديث على استحباب طول القيام في صلاة الليل، وهو أفضل من كثرة الركوع والسجود عند الجمهور لحديث الباب، وحديث جابر رضي الله عنه سُئلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القنوت " أي القيام. أخرجه مسلم بهذا اللفظ وأبو داود بلفظ: " طول القيام ". وقال الأوزاعي والشافعي في قول وأحمد في رواية: كثرة الركوع والسجود أفضل لحديث ثوبان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أفضل الأعمال كثرة الركوع والسجود ". أخرجه مسلم. 401 - " باب كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل " 470 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل " أي: كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الليلية التي يصليها ما بين صلاة العشاء وصلاة الصبحٍ لا تزيد عن ثلاث عشرة ركعة بما فيها الوتر وسنة الفجر، كما جاء موضحا في رواية الشعبي، حيث قال: سألت ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: ثلاث عشرة ركعة، منها ثمان، ويوتر بثلاث، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 471 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَتْ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلَ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا الْوِتْرُ ورَكْعَتَا الْفَجْرِ ". 402 - " بَابُ قِيامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - باللَّيْلِ وَنوْمُهُ وَمَا نسِخَ مِنْ قِيامِ اللَّيْلِ " 472 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُفطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظنَّ أنَّهُ لا يَصُومَ مِنْهُ شَيْئاً، وَيَصُومُ حَتَّى نَظنَّ أن لا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئاً، وكانَ لا تَشَاءُ أنْ تَرَاهُ   وركعتين قبل الفجر. اهـ، كما أفاده ابن القيم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة ". 471 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر " أي كان مجموع صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وسنة الفجر. ويوضح ذلك الرواية الثالثة التي رواها الشعبي عن ابن عمر وابن عباس، التي تقدم ذكرها في شرح الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها: " كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة " إلخ. فقه الحديثين: دل الحديثان على أن عدد الركعات المسنونة في صلاة الليل ثلاث عشرة ركعة بما فيها الوتر، وسنة الفجر، والله أعلم. 402 - " باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل " 472 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: "كان النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّياً إلاّ رَأيتَهُ، ولا نَائِمَاً إلاّ رَأيْتَهُ".   - صلى الله عليه وسلم - يفطر من الشهر حتي نظن أنه لا يصوم ويصوم حتى نظن أنه لا يفطر " وفي رواية أبي داود عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم ". والمعنى: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صام صيام التطوع تابع الصيام حتى نظن أنه لا يفطر، وإذا أفطر تابع الإِفطار حتى نظن أنه لا يصوم. هكذا كانت حالته - صلى الله عليه وسلم - في سائر شهور السنة، فقد يصوم من الشهر أياماً كثيرة جداً، حتى يخيل لأصحابه أنه سيستكمل الشهر كله، لكنه لا يستكمل الشهر كله صائماً، كما قالت عائشة رضي الله عنها: " وما صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً كاملاً إلاّ رمضان " أخرجه الترمذي وذلك لئلا يظن وجوبه، كما أفاده النووي. " وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلّا رأيته، ولا نائماً إلاّ رأيته " أي وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يتقيد في النوافل الليلية غير الراتبة (1) بوقت معين. بل يأتي بها تارة في أول الليل، وتارة في وسطه، وتارة في آخره، بحيث لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلّا رأيته. قال الحافظ: " أي من أراد أن يراه في وقت من أوقات الليل قائماً فراقبه المرة بعد المرة، فلا بد أن يراه على وفق. ما أراد أن يراه، وكذلك من أراد أن يراه نائماً، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يستوعب الليل كله قائماً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي بألفاظ. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتقيد في النوافل الليلية الزائدة على صلاة الليل بوقت محدد وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يكره قيام الليل كله، لأنه خلاف سنته - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله: " وكنت لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلاّ رأيته ".   (1) ويقصد بالنوافل الليلية الراتبة ما كان يواظب عليه - صلى الله عليه وسلم - من القيام بإحدى عشرة ركعة فإن لهذه وقتاً معيناً من الليل من بعد منتصف الليل، أما غيرها فليس له وقت محدد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 403 - "بَابُ عَقْدِ الشيطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأس إذَا لَمْ يُصَلِّ بِالَّليْلِ " 473 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُول اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ على قَافِيةِ رَأس أحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ. فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلتْ عُقْدَةٌ، فإِنْ تَوَضَّأ انْحَلَّتْ عُقْدة فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ فأصْبَحَ نَشِيطاً طيبَ النَّفْس، وإلّا أصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ ".   403 - " باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل " 473 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد " أي يربط الشيطان على مؤخرة رأس النائم ثلاث عقد، يتلو عليها بعض الكلمات، ويضرب عليها بيده، مخاطباً نفس النائم بقوله: " عليك ليل طويل " أي قد بقي قدر طويل من الليل فنم ما شئت، فإنك إذا استيقظت وجدت الوقت الكافي لأداء صلاة الليل أو صلاة الصبح في وقتها، " فارقد " فإن الوقت لا زال مبكراً. وإنما يربط على مؤخرة الرأس خاصة لأنَّها مركز القوى الواهمة، فإذا ربط عليها أمكنه السيطرة على روح الانسان، وإلقاء النوم عليه " فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة " بسبب ذكر الله تعالى، " فإذا توضأ انحلت عقدة " ببركة الوضوء، " فإن صلّى انحلت عقده " أي: فإذا صلى صلاة الليل أو صلاة الصبح انفكت العقدة الثالثة " فأصبح نشيطاً طيب النفس " أي: نشيط البدن، مرتاح النفس، " وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " أي قلق النفس فاتر الحركة. الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 404 - " بَابٌ إِذَا نامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيطَانُ في أذُنِهِ " 474 - عنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: ذكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُل فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمَاً حَتَّى أصْبَحَ، مَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ. فَقَالَ: " بَالَ الشيطَان في أذنِهِ ".   ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: التحذير مما يفعله الشيطان من إرخاء النوم على المسلم، وحرمانه من صلاة الليل أو صلاة الصبح، بسبب هذه العقد، وأنه متى استيقظ وذكر الله انحلت العقدة الأولى، ثم تنحل الثانية بالوضوء، والثالثة بالصلاة. ومن أراد وقاية نفسه من ذلك، فعليه بقراءة آية الكرسي قبل نومه. ثانياًً: أن صلاة الصبح في وقتها سبب للنشاط الجسمي والراحة النفسية، وكذلك صلاة الليل. والمطابقة: في قوله: " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ". 404 - " باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه " 474 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح " أي استمر نائماً ولم يصلّ الصبح حتى طلعت عليه الشمس. " فقال: بال الشيطان في أذنه " حقيقة فَسَدَّ أذنيه عن سماع أذان الفجر، وأرخى عليه النوم، حتى فاتته صلاة الصبح. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على أن النوم عن صلاة الصبح غالباً ما يكون من الشيطان، حيث يبول حقيقة في أذن العبد، فيرخي عليه النوم، وهذا غاية الإِذلال والِإهانة له، أن يتخذه الشيطان له كنيفاً، كما قال القرطبي. قال القسطلاني ولا مانع من ذلك، لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 405 - " بَابُ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ " 475 - عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسألنِي فَأعْطِيَهُ، من يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرُ لَهُ ".   وينكح، فلا مانع من أن يبول. والمطابقة: في قوله: - صلى الله عليه وسلم - " بال الشيطان في أذنه ". 405 - " باب الدعاء والصلاة من آخر الليل " 475 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر " نزولاً يليق بعظمته وجلاله، نؤمن به ولا نكيفه، ولا نأوّله، قال البيهقي: أسْلَمُ الأقوال الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد، وهو مذهب السلف " يقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه " والفرق بينهما أن السؤال يختص بطلب المحبوب، والدعاء يعم طلب المحبوب ودفع المكروه، " من يستغفرني فأغفر له " أي من يسألني العفو عن ذنوبه فأعفو عنه. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله تعالى: " من يدعوني فأستجيب له ". فقه الحديث: دل الحديث على استحباب الدعاء عند القيام لصلاة الليل (1) والاستغفار والسؤال، لأنه وقت إجابة الدعوات وقضاء الحاجات.   (1) أما في الصلاة نفسها أو قبلها أو بعدها فإن الدعاء في هذا الوقت مستجاب، وظاهر الترجمة الدعاء في نفس الصلاة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 406 - "بَابُ مَنْ نامَ أوَّلَ اللَّيْلِ وأحْيَا آخِرَهُ " 476 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - باللَّيْلَ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أوَّلَهُ، وَيَقُومُ آخِرَهُ، فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إلى فِرَاشِهِ فإِذَا أذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَثَبَ، فإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ، وِإلّا تَوضَّأ وَخَرَجَ. 407 - " بَابُ قِيامَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ " 477 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:   406 - " باب من نام أول الليل وأحيا آخره " أي أنّ من عمل ذلك فقد عمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها - صلى الله عليه وسلم -. 476 - معنى الحديث: كما تقول عائشة: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان ينام النصف الأول من الليل، ويستيقظ بعد ذلك، فيصلي ثلث الليل، ثم يعود في السدس الأخير من الليل إلى فراشه كي يستريح ويؤانس أهله، " فإذا أذّن المؤذن وثب، فإن كان به حاجة اغتسل " أي فإذا سمع أذان الفجر نهض من فراشه، فإن كان جنباً اغتسل، وإلّا ذهب لصلاة الصبح. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة تقسيم الليل إلى ثلاثة أقسام النصف الأول للنوم، والثلث الذي يليه للتهجد، والسدس الأخير للراحة والفراش. والمطابقة: في قولها: " كان ينام أوله ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي والترمذي في " الشمائل ". 407 - " باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رمضان وغيره " 477 - معنى الحديث: أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقول عائشة رضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 أنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ صَلاِتهِ - صلى الله عليه وسلم - في رَمَضَانَ، فَقَالَتْ: " مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولا في غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أرْبعاً فلا تَسألْ عنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أرْبعاً فلا تَسأل عنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثاً قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أتُنَامُ قبْلَ أنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ ولَا يَنَامُ قَلْبِي ".   الله عنها: كانت متساوية في سائر شهور السنة، لا تزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، منها الوتر " يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلّي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن " فقد بلغن غاية الحسن والكمال في جودة القراءة وطول القيام والركوع والسجود، " ثم يصلّي ثلاثاً " ركعتين شفعاً وركعة وتراً. " فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر "، أي: كيف تنام قبل الوتر، لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر، كما أفاده الزرقاني، " فقال: يا عائشة إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي "، أي إنما أؤخر الوتر إلى آخر الليل، وأنام قبله، لأنني لا أخشى على نفسي أن أغفل عنه فيفوتني، فإن قلبي لا ينام وإن نامت عيني، كما هو الشأن في سائر الأنبياء ". الحديث: أخرجه الخمسة ولم يخرجه ابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " ما كان يزيد في رمضان ولا غيره إلخ ". فقه الحديث: دل الحديث على أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الليلية كانت متساوية في جميع الليالي لا تزيد عن إحدى عشرة ركعة بالوتر. *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 408 - " بَابُ مَا يَكْرَهُ مِنْ التَّشْدِيدِ في الْعِبَادَةِ " 478 - عن أنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فإِذا حَبْلٌ مَمْدُود بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فقَالَ: " ما هَذَا الْحَبْلُ؟ " قَالُوا: هَذَا حَبْل لزَيْنَبَ، فَإِذا فَتَرَتْ، تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ ". 409 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ترْكِ قِيامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ " 479 - عن عبدِ اللهِ بْنِ عَمْرُو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:   408 - " باب ما يكره من التشديد في العبادة " 478 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل " أي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حبلاً ممدوداً بين ساريتين في المسجد، فسأل عن صاحبه، " فقالوا: هذا لزينب " بنت جحش رضي الله عنها: " فإذا فترت تعلقت به " أي: تطيل القيام، فإذا غلب عليها التعب تعلقت به لتستعين به على القيام في صلاتها، " فقال: لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه " أي وقت نشاطه، كما قال القاري. ويستفاد منه: كراهية التشدد في العبادة، وتحميل النفس فوق طاقتها كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليصل أحدكم نشاطه ". 409 - " باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه " 479 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذَّر عبد الله بن عمرو أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يَا عَبْدَ الله! لا تَكُنْ مِثْلَ فُلَان كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْل ". 410 - " بَابْ فضلِ مَنْ تعَارَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى " 480 - عنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّاِمت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، الحمدُ الله، وسُبْحَانَ اللهِ، ولا إِلَهَ إِلَّا الله، وَاللهُ أكبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلَّا   يترك صلاة الليل كما فعل فلان من الناس، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - ستراً عليه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل الحديث على كراهية ترك ما تعود عليه الإنسان من قيام الليل وغيره من الأعمال الصالحة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكن مثل فلان " إلخ. 410 - " باب فضل من تعارّ من الليل فصلى " 480 - معنى الحديث: - يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من تعارّ من الليل "، أي: من استيقظ من نومه ليلاً، " فقال: لا إله، إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك "، أي: فذكر الله تعالى بقوله: لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك "، أي: المنفرد وحده بالألوهيّة والملك الدائم دون سواه، لأن كل ملك لغيره إلى زوال، " وله الحمد "، أي المنفرد بالثناء الكامل، والشكر الحقيقي، لتفرده بالكمال المطلق والإِنعام الحقيقي، إذ هو مصدر كل النعم كما قال عز وجل: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) "وهو على شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 باللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أو دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فإنْ تَوَضَّأ وَصَلَّى قبِلَتْ صَلَاتُةُ". 411 - " بَابُ تعَاهُدِ رَكْعَتَي الْفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهَا تطَوُعَاً " 481 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَاْ قَالَتْ: " لَمْ يَكُن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيءٍ مِنَ النَّوافِل أشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُداً على رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ".   قدير، الحمد لله، وسبحان الله"، أي إن الثناء المطلق والتنزيه الكامل لله عز وجل، لأنه الموصوف بكل صفات الجلال والجمال، المنزه عن مشابهة المخلوقات (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) " ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوة إلاّ بالله " أي لا تحوّل عن المعصية، ولا قدرة على الطاعة إلاّ بعصمته وتوفيقه " (1)، " ثم قال: " اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له " ونال طلبه ومراده. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: فائدة هذا الذكر المبارك له نفعه لمن قاله بيقين وإيمان بعد استيقاظه من نوم الليل ودعا، فإنه يستجاب له. ثانياً: أن صلاة الليل بعد هذا الذكر مقبولة. الحديث: أخرجه أيضاً أصحاب السنن. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 411 - " باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سمَّاها تطوعاً " 481 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد منه تعاهداً على ركعتي الفجر " أي   (1) " شرح القارى على مشكاة المصابيح ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 412 - " بَاب مَا يقْرَأُ في رَكعتَيَ الفجْرِ " 482 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّف الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الصُّبحِ حَتَّى إِنِّي لأقول هَلْ قَرأ بِأُمِّ الْكِتَابِ ".   لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يحافظ على شيء من السنن الراتبة أشد محافظة منه على ركعتي الفجر. فقه الحديث: دلَّ هذا الحديث على مداومته - صلى الله عليه وسلم - على ركعتي الفجر، ومواظبته عليها، ولهذا قالت الشافعيّة: ركعتا الفجر سنة مؤكدة، وقالت الحنفية، هما آكد السنن، وقالت المالكية: ركعتا الفجر رغيبة، والرغيبة في اصطلاحهم أقل من السنة، وهي الصلاة التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يظهرها في جماعة. واختلفوا في قضائها. فقال الجمهور: تقضى إلى الزوال خلافاً للحنفية. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 412 - " باب ما يقرأ في ركعتي الفجر " 482 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفف الركعتي اللتين قبل الصبح "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخفف ركعتي الفجر، ويسرع فيها " حتى إني لأقول: هل قرأ بأم الكتاب "، أي حتى أنني من شدة تخفيفه لها أشك فأقول في نفسي هل قرأ فيها بالفاتحة، أو لم يقرأ شيئاً. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب تخفيف القراءة في ركعتي الفجر. ولهذا قال مالك في المشهور عنه: يقتصر فيها على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ " أبوابُ التطوع " 413 - " بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى فِي الحَضر " 483 - عنْ أبي هريْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْه قَالَ: " أوْصَانِى خَلِيلي بِثلاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتى أمُوتَ، صْومِ ثَلَاثَةِ أيام مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةِ الضُّحَى، وَنَوْم عَلَى وِتْرٍ ".   قراءة الفاتحة فقط، لقول عائشة رضي الله عنها: " إني لأقول: هل قرأ بأم القرآن ". وقال أحمد وأبو حنيفة: يقرأ سورتي الكافرون والاخلاص، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر "، أخرجه الترمذي والنسائي. وقال الشافعي: يقرأ في الأولى (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ) التي في البقرة، وفي الثانية (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ) التي في آل عمران، لما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بذلك. أخرجه مسلم. ثانياً: الإسرار في ركعتي الفجر. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قولها: " إني لأقول هل قرأ بأم القرآن ". 413 - " باب صلاة الضحى في الحضر " 483 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت " أي أمرني حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أشياء هي من أفضل الأعمال فلا أتركها مدى الحياة، ولا أزال أحافظ عليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 414 - " بَابُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبلَ الظُّهْرِ " 484 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " حَفِظتُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ في بَيْتهِ، ورَكْعتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ في بَيْتهِ، ورَكْعَتَيْنَ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبحَ ".   حتى أموت. الأول: " صوم (1) ثلاثة أيام من كل شهر " وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر المعروفة بالأيام البيض. " وصلاة الضحى " أي: والثاني ركعتا الضحى، ووقتها عند حلّ النافلة. " ونوم على وتر " أي والثالث أن لا أنام حتى أصلّي صلاة الوتر فأقدم الوتر على النوم، وأصليه أوّل الليل. فقه الحديث دل الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب صلاة الضحى، وتصلى عند حل النافلة، وهو ما ترجم له البخاري، وأقلها ركعتان، وأوسطها أربع، وأكثرها ثمان. ثانياً: صوم الأيام البيض من كل شهر، وهي من الأيام التي يستحب صيامها. ثالثاً: استحباب تقديم صلاة الوتر في أول الليل وأدائها قبل النوم. قال العيني: وهو محمول على من لم يستيقظ آخر الليل، فإن أمن فالتأخير أفضل، للحديث الصحيح " فانتهى وتره إلى السحر ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أوصى بصلاة الضحى وهذا يدل على مشروعيتها واستحبابها كما ترجم له البخاري. 414 - " باب الركعتين قبل الظهر " 484 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "حفظت   (1) قال العيني: يجوز في صوم الجرُ على اًن يكون بدلاً من ثلاث. ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر متبدأ محذوف، أي هي ثلاثة أيّام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات" أي أحصيت عدد الركعات التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها من السنن الرواتب التي قبل الصلاة وبعدها، وعَدَدْتها فوجدنها عشر ركعات " ركعتين قبل الظهر "، أي: يصلي ركعتين قبل الظهر، " وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته " أي: ويصلي ركعتين بعد المغرب في بيته، " وركعتين بعد العشاء في بيته " أيضاً، " وركعتين قبل صلاة الصبح " وهما ركعتا الفجر، فهذه عشر ركعات. فقه الحديث دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية السنن الرواتب القبلية والبعدية، وكونها عشر ركعات، وهو مذهب الجمهور. وقال مالك: ليس هناك سنن رواتب ولا توقيت للنوافل صيانة للفرائض من أن تختلط بها سواها، ولا يمنع من التطوع بما شاء كما أفاده العيني. ثالماً: أن السنة القبلية للظهر ركعتان كما رواه ابن عمر في حديث الباب، لكن جاء في رواية عائشة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعاً قبل الظهر " وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في المسجد ركعتين وفي البيت ركعتين، فرأت عائشة هذه وهذه، ولم ير ابن عمر سوى الركعتين التي كان يصليهما في المسجد. كما أفاده العيني، وعلى رواية عائشة تكون الرواتب اثنتي عشر ركعة. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " وركعتين قبل الظهر ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 415 - " كتَابُ فضلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ والْمَدِينَةَ " 485 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تُشَدّ الرِّحَالُ إلَّا إلى ثَلَاَثةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَسْجِدِ الأقْصَى ".   415 - " باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة " أي فضلها بزيادة ثوابها وأجرها فيهما ومضاعفته في الفرض والنفل معاً كما ذهب إليه الجمهور. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة " فيمكن الجمع بينه وبين أحاديث الباب بحمله على غير الحرمين الشريفين بأن تكون النافلة في البيت أفضل في غير الحرمين. 485 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد "، أي لا يسن السفر إلاّ إلى هذه المساجد الثلاثة كما جاء مصرحاً بذلك في رواية مسلم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما يسن السفر إلى ثلاثة مساجد، الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيليا " وهي المساجد المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى "، وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: " خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق " أخرجه ابن حيان والطبراني، وفي رواية البخاري: " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الاستثناء يفيد الأفضلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 486 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " صَلَاة في مَسْجِدِي هَذَا خَير منْ ألْفِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ إلَّا المَسْجِدَ الْحَرَامَ ".   فقه الحديث: دل الحديث: أولاً: على فضل الصلاة في الحرمين وزيادة ثوابها فيهما. فرضاً كانت أو نفلاً كما عليه الجمهور، لأنّ استثناءهما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد، يدل على أفضليتهما، ومضاعفة أجر الصلاة فيهما. قال الحافظ: في هذا الحديث فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها، لأنها مساجد الأنبياء. اهـ. ولأن المسجد الحرام قبلة الناس، والمسجد النبوي أول مسجد أسس على التقوى، والأقصى قبلة الأمم السابقة. ثانياًً: أنه لا يستحب ولا يسن السفر لقصد الصلاة. والتعبد إلاّ إلى هذه المساجد الثلاثة، كما جاء منصوصاً عليه في رواية مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينبغى للمطيّ أن يشد رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " رواه أحمد. 486 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " أي: أن الصلاة في المسجد النبوي، وفي أي بقعة منه على مر العصور، مهما كبر واتسع أفضل وأكثر ثواباً من الصلاة في غيره ألف مرة " إلاّ المسجد الحرام " أي: لا يستثنى من هذه الأفضلية سوى المسجد الحرام، قال الكرماني: والاستثناء هنا يحتمل أموراً ثلاثة: أن يكون المسجد الحرام مساوياً لمسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أفضل منه أو دونه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الصلاة في المسجد النبوي على الصلاة في غيره ألف مرة، ومضاعفة ثوابها وأجرها ألف ضعف. واختلفوا في المسجد الحرام: هل الصلاة فيه أفضل، أو الصلاة في المسجد النبوي أفضل، فقال مالك: الصلاة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضل. ولكن الجمهور يرون أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل، لأن الصلاة فيه أفضل من مائة ألف صلاة في غيره وذلك لما رواه أحمد عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا " يعني المسجد النبوي وغيره من النصوص، فتكون الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة. وأما المسجد الأقصى، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيه، فقال: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات " أي في المسجد الأقصى ثانياً: أن فضل الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - لا يختص بالبقعة التي كانت في زمنه، بل يدخل في ذلك كل بقعة أخرى تضاف إليه على مر العصور والأزمان، لأن الإشارة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " صلاة في مسجدى هذا " إشارة معنوية لا حسية، فيدخل فيه كل توسعة وزيادة تضاف إليه، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو بلغ مسجدي إلى صنعاء فهو مسجدي " رواه الزبير بن بكار في " أخبار المدينة " عن أبي هريرة رضي الله عنَه. والمطابقة: في قوله: " خير من ألف صلاة فيما سواه ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 416 - " بَابُ إتيانِ مَسْجِدِ قُباءَ رَاكِبَاً أوْ مَاشيَاً " 487 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَأتِي قُبَاءَ مَاشِياً وَرَاكِبَاً، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ".   416 - " باب إتيان مسجد قباء راكباً أو ماشياً " 487 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء " كل سبت، أي: كان - صلى الله عليه وسلم - يداوم ويواظب على زيارة مسجد قباء والذهاب إليه أسبوعياً كل يوم سبت في وقت الضحى " ماشياً وراكباً " في محل نصب على الحال، أي: كان يحرص على هذه الزيارة في جميع الأحوال، فإن تيسر له الركوب ذهب إليه راكباً، وإلّا فإنه يذهب إليه ماشياً " فيصلّي فيه ركعتين " وفي رواية: " فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلّي ركعتين ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: قال العيني: فيه دلالة على فضل قباء وفضل المسجد الذي فيها، وفضل الصلاة فيه. ثانياً: استحباب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه يوم السبت عند الضحى اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم - (1). الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " ويأتي قباء ماشياً وراكباً ". ...   (1) وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل مسجد قباء " من تطهر في بيته، ثم أَتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة " رواه ابن ماجة عن سهل بن حنيف وهو حديث صحيح. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 417 - " بَابُ فضلِ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ والْمِنْبَرِ " 488 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ أللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا بَيْنَ بَيْتي ومِنْبَرِي رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي ".   417 - " باب فضل ما بين القبر والمنبر " 488 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما بين بيتي ومنبري " أى: إن البقعة الواقعة بين بيت عائشة ومنبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - " روضة من رياض الجنة " حقيقة بمعنى أنها قطعة منها كالحجر الأسود والنيل والفرات فتنقل إليها يوم القيامة، كما أفاده الزرقاني " ومنبري على حوضي " أي ويقع منبره الشريف على موضع حوضه المورود الذي يكرمه الله به يوم القيامة، ويكرم به أمته - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية النسائي: " ومنبري على ترعة من ترع الجنة "، وترجم البخاري بذكر القبر، وأورد الحديث بلفظه، لأن القبر صار في البيت، وقد دفن في بيت سكناه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة، وهذا يدل على فضل ما بينهما كما ترجم له البخاري. فقه الحديث: دل الحديث على فضل الروضة المشرفة على سواها من بقاع الأرض حيث أخبرنا - صلى الله عليه وسلم -: أنها من بقاع الجنة حقيقة لا مجازاً. قال ابن أبي جمرة: فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة في الجنة كما كان، وللعامل فيها روضة في الجنة. اهـ. وفيه استحباب الصلاة في الروضة لدلالة الحديث على أن للعامل فيها روضة من رياض الجنة، ولهذا قال الخطابي: من لزم طاعة الله في هذه البقعة آلت الطاعة به إلى روضة من رياض الجنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 " أبوابُ الْعَمَلِ في الصَّلَاةِ " 418 - " بَابُ مَا يُنْهَى من الْكَلَامِ في الصَّلَاةِ " 489 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ في الصَّلَاةِ فَيَرُدَّْ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِي سَلَّمْنا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: " إنَّ في الصَّلَاةِ شُغْلاً ".   418 - " باب ما ينهي من الكلام في الصلاة " 489 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول: " كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا " أي فيرد علينا بصريح اللفظ قائلا: وعليكم السلام، لأن الكلام والسلام لم يكونا ممنوعين أثناء الصلاة في صدر الإِسلام، " فلما رجعنا من عند النجاشي " أي: فلما رجعنا من هجرتنا إلى الحبشة " سلمنا عليه فلم يرد علينا " أي فلم يرد علينا السلام، لأن الكلام في الصلاة أصبح محرماً مطلقاً سلاماً أو غيره، " وقال: إن في الصلاة شغلاً " أي: في الصلاة مانعاً من الكلام وفي رواية أخرى: " إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " أخرجه أبو داود. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن في الصلاة شغلاً ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 490 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنْا كُنَّا لِنَتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُكَلِّمُ أحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِه حَتَّى نَزَلَتْ (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.   490 - معنى الحديث: يقول زيد بن أرقم رضي الله عنه " إن كنا لنتكلم في الصلاة " أي إن أحدنا يكلم صاحبه على قدر الحاجة كما يظهر من سياق الحديث، وكما أفاده الحافظ، " حتى نزلت (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) " أي قوموا في صلاتكم ساكتين عن الكلام الدنيوي الذي لا يتعلق بمصلحة الصلاة، قال زيد بن أرقم، " فأمرنا بالسكوت "، ونهينا عن الكلام في الصلاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فأمرنا بالسكوت ". فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: تحريم الكلام في الصلاة لغير مصلحة الصلاة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الأول لم يرد السلام فقال: " إن في الصلاة الشغلاً " أي مانعاً من الكلام ولأنه في الحديث الثاني أمرنا بالسكوت. لمّا نزل قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). ثانياًً: أن الكلام لغير مصلحة الصلاة يفسد الصلاة لأن النهي عن الشيء يقتضي فساده، ولا خلاف في أن من تكلم عمداً بطلت صلاته، وقال مالك والشافعي: إذا تكلم يسيراً لا تبطل، وعن أحمد إن نسى أنه في صلاة روايتان. وإن ظن أنه أتم صلاته وتكلم بشيء في غير أمور الصلاة بطلت صلاته. ثالثاً: أنّه لا يجوز رد السلام في الصلاة، وهو مذهب الجمهور، وحكى ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحسن البصري: أنّه يُرَدُّ   (1) زيد بن أرقم: هو أبو عمرو، وقيل: أبو سعيد، وقيل: أبو حمزة، زيد بن أرقم بن زيد الأنصارى الخزرجي، يعد في الكوفيين، وسكنها، ومات بها أيام المختار سنة ست وستين، وقيل سنة ثمان وستين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 419 - " بَابُ الْخصْرِ في الصَّلَاةِ " 491 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نُهِيَ أن يُصَلِّي الرَّجُلُ مُخْتَصِراً ".   السلام نطقاً. واستحب المالكية والشافعية والحنابلة رد السلام بالإِشارة لما روي عن صهيب أنّه قال: " مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فسلمت عليه، فرد إشارةً قال: ولا أعلمه إلاّ قال إشارة بأصبعه " أخرجه أبو داود. 419 - " باب الخصر في الصلاة " 491 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " نهي أن يصلي الرجل مختصراً " أي: نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يصلّي الرجل واضعاً يديه على خاصرته كما فسره ابن أبي شيبة. وجزم به أبو داود، وقاله ابن سيرين، لما في حديث سعيد بن زياد، قال: " صليت إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما فوضعت يدي على خاصرتي، فلما صلّى قال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه ". الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه النسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاختصار في الصلاة. فقه الحديث: دل الحديث على النهي عن الاختصار في الصلاة. وقد اختلفوا في حكمه، فحمل الجمهور النهي في هذا الحديث على الكراهة، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي ومجاهد وأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي. والحكمة في النهي عنه كونه من فعل اليهود، فنهينا عن التشبه بهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: " إنّ اليهود تفعله في الصلاة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 " أبْوَابُ السُّهْوِ " 420 - " بَابٌ إِذَا صَلَّى خمْساً " 492 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْساً، فَقِيلَ لَهُ: أزِيدَ في الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْساً، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ ".   " أبواب السهو " والسهو هو الخطأ عن غفلة في الصلاة بزيادة أو نقص، أو الشك في أمرين لا يدري أيهما وقع منه، كأن يشك هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً. 420 - " باب إذا صلى خمساً " 492 - معنى الحديث: يحدثنا ابن مسعود رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر خمساً " أي سها في صلاته فصلّى الظهر خمس ركعات " فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ " أي وماذا حدث مما يدعو إلى هذا السؤال، " قال: صليت خمساً " أي صليت الظهر خمس ركعات، " فسجد سجدتين بعدما سلّم " أي بعد السلام. فقه الحديث دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية سجود السهو لمن سها في صلاته بأن يسجد سجدتين وسجود السهو واجب عند الحنفية يأثم المصلّى بتركه، ولا تبطل صلاته، فإن كان مأموماً وسجد إمامه وجب عليه متابعته إن كان مدركاً لا مسبوقاً. وقالت الحنابلة: يُسَنُّ سجود السهو إذا أَتى بقول مشروع في غير محله، ويجب إذا زاد في الصلاة ركوعاً أو سجوداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 أو قياماً أو قعوداً أو غير ذلك من الأركان (1). وقالت الشافعية سنة لا يكون واجباً إلاّ إذا كان مأموماً وسجد إمامه للسهو فيجب عليه أن يسجد تبعاً لِإمامه (2)، فإن لم يفعل عمداً بطلت صلاته (3)، وعليه الإِعادة إن لم يكن قد نوى المفارقة، أما فيما عدا ذلك فهو سنة. وقالت المالكية: سجود السهو سنة، فإن كان مأموماً وسجد إمامه تابعه في السجود، فإن لم يتابعه لا تبطل صلاته إلاّ إذا تركه عمداً في نقص ثلاث سنن، أما إذا تركه سهواً، فإنه يسجد بعد السلام بشرط أن لا يطول الزمن، ولا يحصل مناف. ثانياً: أن من زاد ركعة سهواً لا تبطل صلاته. ويسجد بعد السلام وهو مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة إذا زاد ركعة ناسياً بطلت صلاته، كما أفاده العيني. ثالثاً: دل الحديث على أن الساهى في صلاته إن زاد سجد بعد السلام، وإن نقص سجد قبل السلام وهو مذهب مالك، وقال أبو حنيفة: سجود السّهو كله بعد السلام مطلقاً. وقال الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام مطلقاً. وقال أحمد بن حنبل: سجود السهو كله قبل السلام إلاّ في حالتين: الأولى: إذا سلّم من نقصان فإنه يقضي ما بقي عليه ويسجد بعد السلام. الثانية: إذا شكّ الإمام في صلاته، فإنه يتحرّى ويبني على غالب ظنه، وما ترجح لديه، ويسجد بعد السلام. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فسجد سجدتين بعدما سلّم ". ...   (1) عن الأركان الفعلية كالرفع من الركوع مثلاً، أما إذا زاد شيئاً من الأركان القولية، فإنه يسن له سجود السهو، كما أفاده في " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1. (2) " كتاب الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1. (3) وكذلك قالت الحنابلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 421 - " بَابٌ إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فأشَارَ بِيَدِهِ واسْتَمَعَ " 493 - عن أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنهَى عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ رَأيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا، وكَانَ عِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ الأنْصَارِ، فأرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ، فَقُلْتُ: قُومِي بِجَنْبِهِ قُولي لَهُ: تَقُولُ لَكَ أمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ وأراكَ تُصَلِّيهِمَا، فإِنْ أشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأخِرِي عَنْهُ، فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ فَأشَارَ بِيَدِهِ فاسْتَأخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: يَا ابْنَةَ أبِي أمَيَّةَ، سَألْتِ عنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْد الْعَصْرِ، وِإنَّهُ أتانِي نَاسٌ مِنْ بَنِي عَبْد الْقَيْسِ فَشَغلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ ".   419 - " باب إذا كلم وهو يصلّي فأشار بيده واستمع " 493 - معنى الحديث: أن أم سلمة رضي الله عنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن صلاة النافلة بعد صلاة العصر، ثم رأته يوماً يصلي ركعتين بعد العصر، فأشكل عليها ما رأت، فأرسلت إليه جاريتها تسأله عن هذه المسألة التي أشكلت عليها. وقالت لها: قولي له: تقول لك أم سلمة سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين ثم رأيتك تصليهما، فإن أشار إليك بالسكوت فافعلي ما أمرك به، وابتعدي جانباً حتى يتم صلاته، فذهبت إليه الجارية، وأشار إليها، فسكتت، فلما انتهى من صلاته، قال موجهاً الخطاب لأم سلمة: يا بنت أبي أمية (هي كنية أبيها) إن هاتين الركعتين هما سنة الظهر البعدية، وكنت قد شغلت عنهما بوفد عبد القيس، فقضيتهما الآن. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الإِشارة وغيرها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 الأعمال اليسيرة لا تبطل الصلاة كما ترجم له البخاري. ثانياً: استدل الشافعية بهذا الحديث على مشروعية قضاء السنن التي لها سبب في أوقات النهي، وقالت الحنابلة: لا يقضى شيء من النوافل في أوقات النهي مطلقاً، سواء كان لها سبب أو ليس لها سبب. وقالت المالكية والحنفيَّةُ: لا يقضي في أوقات النهي إلّا ركعتا الفجر خاصة. والمطابقة: في قول أم سلمة: " فأشار بيده ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الجنائز " 422 - "بَابُ فِي الجَنَائزِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا الَهَ إِلَّا اللهُ" 494 - عن أبي ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: أتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فأخْبَرَنِي -أو قَالَ-: " بَشَرنِي أنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أمَّتِي لَا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ " قُلْتُ: وَإنْ زَنى وِإنْ سَرَقَ! قَالَ: " وإنْ زَنَى وِإنْ سَرَقَ ".   422 - "باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلاّ الله " أي هذا كتاب تذكر فيه الأحاديث المتعلقة بأحكام الجنائز وهي جمع جنازة (بكسر الجيم) وتطلق على الميت، وعلى النعش الذي فوقه الميت. والمراد بها هنا الموتى لأنّ الأحاديث المذكورة ضمن هذا الكتاب إنما تدور حول الأحكام المتعلقة بالميت من غَسْله، وتكفينه، والصلاة عليه، وتشييعه إلى غير ذلك. 494 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أتاني آت من ربي " أي جاءني ملك من عند ربي " فأخبرني أو قال بشرني " وهو الأنسب لأن معناه جاءني الملك بالوحي الصريح، فأخبرني خبراً ساراً، ابتهجت له، وتهلل له وجهي، وفرح به قلبي فرحاً عظيماً، ظهرت آثاره عَليَّ حيث بلغني عن الله تعالى " أن من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " ومعناه أن من مات على التوحيد الخالص، ولم يجعل لله شريكاً في عبادته ولا في ذاته وصفاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وأفعاله "دخل الجنة "، أي كان مصيره إلى الجنة، فلا يخلّد في النار ولو ارتكب الكبائر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: البشارة لهذه الأمة بأن من مات على توحيد الله والتصديق بما جاء به رسول الله فإن مصيره إلى الجنة، ولا يخلد في النار، ولا يسلب عنه اسم الإِيمان مهما اقترف من الكبائر، خلافاً للخوارج الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافرٌ مخلد في النار. والحديث حجة عليهم لأنّ جبريل بشّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنّ من مات على التوحيد دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، والجنة لا يدخلها إلاّ مؤمن، فكيف يقال بعد هذا إن مرتكب الكبيرة كافر مخلّد في النار، وفي هذا معارضة صريحة لهذا الحديث منطوقاً ومفهوماً. ثانياً: أن الموت على التوحيد والإِيمان شرط في دخول الجنة. فالمشرك لا يدخل الجنة أبداً، وإنما هو مخلد في النار، وذلك مصداق قوله تعالى: (وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ). فائدة هامة: ذكر بعض أهل العلم أن هناك ستة أشياء من حافظ عليهما كان لها أثرها العظيم في حسن الخاتمة وهي البسملة في بداية الأعمال، والحمد لله في نهايتها، والحوقلة عند المكروه، وهي قول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، والاسترجاع عند المصيبة، وإذا عزم على أمر قال: إن شاء الله، وإذا أذنب استغفر الله. والمطابقة: في قوله: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 423 - " بَابُ الأمْرِ بإتباعَ الْجَنَائِزِ " 495 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " أمَرَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْع، ونَهَانَا عَنْ سَبْع، أمَرَنَا بإتباعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيض، وِإجَابَةِ الدَّاعِي، ونَصْرِ المَظْلُومِ، وإبْرارِ الْقَسَمِ، ورَدِّ   423 - " باب الأمر باتباع الجنائز " 495 - معنى الحديث: يؤكد لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة ما جاء به الإِسلام من الشرائع والأحكام التي تضمن تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه سليم يضمن لكل إنسان حياة سعيدة كريمة، ويحفظ له حقوقه، ويصون كرامته في حياته، وبعد مماته، وأصدق مثل على ذلك قول الراوي " أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع " فإن هذه الأعمال السبعة التي أمر بها - صلى الله عليه وسلم - كلها تهدف إلى رعاية حقوق الإنسان، في حياته وتكريمه بعد وفاته، حيث قال الراوي: " أمرنا باتباع الجنائز " أي بتشييع موتى المسلمين وحملهم على أعناق الرجال إلى مثواهم الأخير، بعد القيام بحقوقهم الأخرى من غسل وتكفين، وصلاة عليهم تكريماً؛ وتوديعاً؛ ودعاءً؛ وشفاعة لهم، فإنّ المشيعين في الحقيقة شفعاء عند الله تعالى. ثم قال الراوي: " وعيادة المريض " وهنا انتقل الحديث إلى بيان الحقوق الاجتماعية التي تجب على كل مسلم ويسن له أداؤها لغيره من المسلمين، أو من الناس مطلقاً حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيادة المريض أي زيارته أثناء مرضه، لتسليته والتخفيف عنه، وإشعاره بمنزلته، وأهميته، وهي من أقوى العوامل المؤدية إلى تحسين حالته النفسية والجسمية، ورفع معنويته، وزيادة مقاومته. ولا تختص عيادة المريض بالمسلم، بل تكون لكل من له صلة قرابة أو علاقة جوار ولو كان ذمياً. ثم قال البراء رضي الله عنه "وإجابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 السَّلَامِ، وتَشْمِيتِ الْعَاطِس، ونَهَانَا عَنْ آنيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، والْحَرِيرِ، والدِّيبَاجِ، والقِسِّيِّ، والِإسْتَبْرَقِ".   الداعي"، أي وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجابة الدعوة وهي ما يتخذ من الطعام عند المناسبات السعيدة من حدوث نعمة أو زوال نقمة ابتهاجاً وفرحاً وشكراً لله تعالى، " ونصر المظلوم "، أي إغاثته، ودفع الظلم عنه ولو كان ذمياً، " وإبرار القسم " وهو فعل الشيء الذي أقسم عليه تحقيقاً لرغبته لئلا يحنث في يمينه " ورد السلام " على من بدأ بالسلام تجاوباً معه وإشعاراً له بالمحبة وصادق الألفة والمودة، " وتشميت العاطس " أي الدعاء له بالخير إذا حمد الله، فيقال له: يرحمك الله. ثم انتقل الراوي إلى الحديث عن بعض المحرّمات التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب، والحرير والديباج " وهو ما غلظ من الحرير " والقسِّيّ " (بفتح القاف وكسر السين المشددة) وهو الثياب المخلوطة بالحرير. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المحافظة على هذه الأعمال السبعة التي أمرنا بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهما تكفل لكل فرد رعاية حقوقه حياً كان أو ميتاً. وتختلف هذه الأعمال في أحكامها الشرعية من حيث الوجوب والسنيّة. فأما تشييع الجنائز فهو فرض كفاية اتفاقاً، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وكذلك نصر المظلوم لمن كان قادراً عليه ولم يخشَ ضرراً يصيبه منه، وكذلك رد السلام عند مالك والشافعي، وأما تشميت العاطس، وإبرار القسم، وعيادة المريض، فإنّها سنن مستحبة. وذهب بعض الفقهاء إلى أن عيادة المريض فرض كفاية، حكمها في ذلك حكم إطعام الجائع وفك الأسير، وقد رغّب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كثيراً فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عاد المسلم أخاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 يزل في خُرْفَةِ الجنة" أي في روضة من رياضها. وفي الحديث القدسي: " يقول الله تعالى: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب! وكيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدَّته لوجدتني عنده ". وإنما عني الإِسلام بعيادة المريض كل هذه العناية لما فيها من عظيم المواساة، وتجاوب العواطف والمشاعر الإِنسانية، ومشاركة المريض وجدانياً، ولأن المريض يتأثر بهذه الزيارة تأثراً نفسياً عظيماً يؤدي إلى تحسن صحته الجسمية، سيما إذا كان الزائر من الذين يحبهم ويرتاح إليهم، ويأنس بزيارتهم. قال ابن القيم: " وقد شاهد الناس كثيراً من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم لهم، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إيّاهم، وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم. وقد قال الشاعر: مَرضَ الحُبيْبُ فَعُدْتُهُ ... فَمَرِضْتُ إِشْفَاقاً عَلَيْه وأتى الحَبِيْبُ يَعُوْدُنِي ... فَشُفِيْتُ مِنْ نَظَرِيْ إلَيْه وبعض التجارب يدل على ما هو أعظم من ذلك وأبلغ. أما إجابة الدعوة فإنها فرض عين كما صرح به الحنابلة، ونص عليه مالك، وفرق الشافعية بين وليمة العرس وغيرها، فأوجبوها في الأولى واستحبوها في الثانية. فإجابة الدعوة واجبة إلاّ إذا كان طعامها مشبوهاً أو حراماً أو فيها محرم، أو من يُتأذَّى به، فلا تجوز إجابتها. ثانياًً: استدل أبو حنيفة بقوله: " أمرنا باتِّباع الجنائز " على أن المشى خلف الجنازة أفضل حيث فسر الاتباع بالاتباع الحسي، وهو المشي خلف الشيء. وقالت الشافعية: المشي أمام الجنازة أفضل لما روي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة " أخرجه أبو داود. ولأن المشيعين شفعاء للميت، ومن حق الشفيع أن يتقدم على مشفوعه. وأجابوا عن حديث الباب بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 424 - " بَاب الدُّخولِ عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ المَوْتِ إِذَا أدرجَ في أكْفَانِهِ " 496 - عَنْ أمِّ الْعَلَاءِ إِمْرَاة مِنَ الأنصَارِ رَضِيَ الله عَنْهَا بَايَعَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: إنَّه اقْتسِمَ المهَاجِرونَ قرْعَةً، فطَارَ لَنَا عُثْمَان بْن مَظْعونٍ، فأنزلْنَاه في أبيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَة الَّذِي توفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا توفِّيَ وَغسِّلَ وكُفِّنَ في أثْوَابِهِ دَخَلَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقلْت: رَحْمَة اللهِ عَلَيْكَ أبا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أكْرَمَكَ الله تَعَالَى. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَا يُدْرِيكَ   المراد بالاتباع الاتباع المعنوي وهو تشييع الجنائز إلى مثواها الأخير. ثالثاً: تحريم آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير بأنواعه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، والنهى هنا للتحريم عند الجمهور. والمطابقة: في قوله: " أمرنا باتباع الجنائز ". 424 - " باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج أكفانه " 496 - معنى الحديث: تحدثنا أم العلاء الأنصارية (1) في هذا الحديث عن وفاة عثمان بن مظعون، وما وقع لها بعد غسله وتكفينه، فتقول: " إنه اقتسم المهاجرون قرعة " أي أن الأنصار استضافوا المهاجرين في منازلهم واقتسموهم فيما بينهم عن طريق القرعة، " فطار لنا عثمان بن مظعون "، أي فوقع عثمان في سهمنا، وصار من قسمنا، " فلما توفي وغسّل وكفنّ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مدرج في كفنه، قالت رضي الله عنها: "فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك   (1) وهي أم خارجة بن زيد راوي الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 أنَّ اللهَ أكْرَمَهُ"؟ قُلْتُ: بِأبِي أنت يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَنْ يُكرِمُهُ اللهَ تَعَالَى؟ فَقَالَ: " أمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللهِ إِنِّي لأرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، واللهِ مَا أدْرِي وأنَا رَسُولُ اللهَ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ: فوَاللهَ لا أزَكِّي أحَداً بَعْدَهُ أبَداً ". 497 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أبِي جَعَلْتُ أكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أبكي وَيَنْهُونَنِي عَنْهُ، والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَنْهَانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:   لقد أكرمك الله"، قال القسطلاني: أي أقسم بالله لقد أكرمك الله يعنى بالجنة، " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما يدريك أن الله أكرمه "، أي فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها قولها هذا لأنّها أقسمت على شيء في علم الغيب فقال لها ما معناه: ومن أعلمك أن الله أكرمه بالجنة والسعادة الأخروية، " أما هو فقد جاءه اليقين " أي فقد جاءه الموت ورأى مصيره، " والله إني لأرجو في الخير "، هذا ما يمكن أن أقوله أنا أو غيري، " والله ما أدري وأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما يفعل بي "، أي لا أعلم علم اليقين ما يفعل بي في الدار الآخرة إلاّ ما أعلمني الله به وأطلعنى عليه. " قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً " أي لا أقطع لأحد بعده بالجنة مهما بلغ إلاّ الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قولها: " فلما توفي وغسّل وكفّن في أثوابه دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". 497 - معنى الحديث: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " قال لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه " أي لما استشهد أبي يوم أحد صرت أكشف الثوب عن وجهه لأودعه الوداع الأخير، " فجعلت عمتي فاطمة تبكي "، أي وصارت عمتي فاطمة بنت عمرو تبكي أخاها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 "تَبكِينَ أو لا تَبْكِينَ، ما زَالَتِ الْمَلائِكَةُ تُظِلهُ بِأجْنِحَتِهَا حتى رَفَعْتُمُوهُ".   عبد الله بن عمرو، " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " مبشراً ومواسياً لها في مصابها: " تبكين أو لا تبكين "، فإن عزاءك فيه عظيم وبشراك كبيرة وحسبك عزاءً أنه " ما زالت الملاثكة تُظلُّه بأجنحتها حتى رفعتموه "، أي استمرت تظلله تكريماً له حتى رفعتموه عن النعش إلى مثواه الأخير. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " جعلت أكشف الثوب عن وجهه ". فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: مشروعية الدخول على الميّت إذا أدرج في كفنه، كما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عثمان بن مظعون بعد غسله وتكفينه، كما في الحديث الأول، ولأن جابر رضي الله عنه لما استشهد أبوه يوم أحد جعل يكشف الثوب عن وجهه، كما في الحديث الثاني، وثوب الشهيد بمنزلة كفنه. ثانياًً: أن التزكية القطعية لأي إنسان تجوز في الأمور الماضية لا في المستقبلة لأن المستقبل غيب، فلا يجوز القطع لأحد بالجنة إلاّ من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأم العلاء في عثمان بن مظعَون: " وما يدريك أن الله أكرمه ". قال العيني: فيه دليل على أنه لا يجزم لأحد بالجنة إلاّ ما نص عليه الشارع، ويجوز أن نثني على الميت بالخير بأن نقول فيه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأرجو له الخير ". قال في " العقيدة الطحاوية ": " ونرجو للمحسنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 425 - " بَابُ الرَّجُلِ يَنْعَى إلى أهْلِ الْمَيِّتِ بِنَفْسِهِ " 498 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعَى النَّجَاشِيَّ في الْيَوْمِ الذِي مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إلى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أرْبعاً ".   425 - " باب الرجل ينعى إلى الميت بنفسه " قال ابن بطال في الترجمة خلل ومقصود البخاري باب الرجل ينعي إلى الناس الميت بنفسه. 498 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي "، أي أخبر - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن موت النجاشي. واسمه أصْحَمةُ الأبجري أو ابن الأبجري والنجاشي لقب له ولكل ملك من ملوك الحبشة، وقد نعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - " في اليوم الذي مات فيه " وذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة فلما توفي رضي الله عنه نعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم وفاته، ثم " خرج إلى المصلى فصف بهم "، وصلى عليه صلاة الجنازة، " وكبّر أربعاً "، أي كبّر في صلاته أربع تكبيرات. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية نعي الميت، أي إخبار الناس بموته ليحضروا لتشييعه. والنعي أنواع، منه ما هو سنة، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم. قال ابن العربي: أما إعلام الأهل والأقارب وأهل الصلاح فهذا سنة ودعوة الجهلة للمفاخرة مكروه، والإِعلام بالنياحة، وهو النعي الجاهلي محرم. ثانياً: مشروعية صلاة الجنازة، وهي فرض كفاية، ويكبّر فيها أربع تكبيرات وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 499 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأصِيبَ، ثُمَّ أخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأصِيبَ، ثُمَّ أخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فأصِيبَ، وِإنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَتَذْرِفَانِ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ ".   أحد من المسلمين فيصلّي عليه أمة من الناس فيشفعون له إلاّ شفعوا فيه". ثالثاً: مشروعية صلاة الغائب، وبها قال الشافعي وأحمد خلافاً لمالك وأبي حنيفة. 499 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب "، أي بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس في مسجده بالمدينة، أطلعه الله تعالى على استشهاد هؤلاء القواد الثلاثة في غزوة مؤتة، التي هي بالبلقاء على أطراف الشام، فنعاهم إلى أصحابه، وأخبرهم عن استشهادهم جميعاً من فوق منبره الشريف، " وإن عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتذرفان " (1) أي والحال أن عينيه تفيضان بالدموع حزناً عليهم. وبعد فراغه - صلى الله عليه وسلم - من نعيهم قال: " ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة "، أي ثم أخذ الراية خالد رضي الله عنه دون أن يعهد إليه بها حين رأى المصلحة في ذلك، " ففتح له "، أي فنصر الله المسلمين على يديه وبقيادته المظفرة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " أخذ الراية زيد فأصيب " ... إلخ. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية النعي، وقد تقدم الكلام عليه في الحديث السابق. ثانياًً: استدل به مالك وأبو حنيفة   (1) بكسر الراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 426 - " بَابُ فضلِ مَنْ مَات لَهُ وَلَدٌ فاحْتَسَبَ " 500 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِنَ النَّاس مِنْ مُسْلِم يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبلُغُوا الْحِنْثَ إلَّا أدْخَلَهُ اللهُ الْجَنةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ ".   على عدم مشروعية الصلاة على أبي الغائب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نعي هؤلاء القواد الثلاثة، ولم يصل عليهم. 426 - " باب فضل من مات له ولد فاحتسب " 500 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث " (بكسر الحاء) أي لا يموت لأي واحد من المسلمين ثلاثة أولاد صغار ذكوراً أو إناثاً قبل بلوغهم، " إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم "، أي بسبب شدة حزنه على فراقهم الناشىء عن قوة محبته لهم ورقة قلبه، وعطفه عليهم فيثيبه الله على هذه الآلام النفسية التي يقاسيها بسبب شدة وجده وصبره واحتسابه لهم عند الله بالجنة ونعيمها. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان أجر المصيبة في الأولاد ولو ماتوا صغاراً، فإنه لا جزاء لذلك إلاّ الجنة. ثانياً: أن محبة الأبوين لولدهما ورقة قلبهما عليه، وإن كان غريزة طبيعية في النفس، إلاّ أن المرء يثاب عليها، ولذلك عوض عن فقد الأولاد بالجنة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إلّا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " والمطابقة: في قوله: " أدخله الله الجنة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 427 - " بَابُ غَسْلِ الْمَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْمَاءِ والسِّدْرِ " 501 - عن أمِّ عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَة قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ تُوُفِّيَتْ ابنته فَقَالَ: اغسِلْنَهَا ثَلَالاً، أو خَمْساً، أوْ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ واجعَلْنَ في الآخِرَةِ كَافُوراً أو شَيئاً من الْكَافُورِ، فإذَا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّنِي، فلما فَرَغْنَا آذََّناهُ، فَأعْطَانَا حِقْوَهُ، وقَالَ: أشْعِرْنَهَا إيَّاهُ. تَعْنِي إِزَارَهُ ".   427 - " باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر " 501 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته " أي دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاة ابنته زينب وفي أثناء غسلها وكانت وفاتها في أول السنة الثامنة من الهجرة، " فقال: اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتنِ "، أي فوَّضَهن -في عدد مرات غسلها- إلى اجتهادهن حسب الحاجة، كما أفاده الزرقاني، " بماء وسدر "، بأن يجعل السدر في ماء ويخضخضه حتى تخرج رغوته ويدلك به جسد الميت، " واجعلن في الآخرة كافوراً "، أي واجعلن في الغسلة الأخيرة شيئاً من الكافور في الماء، " فلما فرغنا آذناه "، أي أعلمناه " فأعطانا حقوه " أي إزاره، " وقال: أشعرنها إياه "، أي اجعلنه شعاراً لها والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب غسل الميت وهو فرض كفاية عند الجمهور (1) قال أبو حنيفة ومالك: والأفضل أن يغسل   (1) وقد نقل النووي الإجماع على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 428 - " بَاب يبدَأ بِمَيامِنِ الْمَيِّتِ " 502 - وعَن أم عَطِيَّة رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:   مجرداً من ثيابه مع ستر عورته، خلافاً للشافعي حيث قال: الأفضل أن يغسل في قميص، والذى عليه الجمهور أن غسل الميت أمر تعبدي، لا لتطهيره، لأنّه لا ينجس بالموت. واتفقوا على أنّ للزوجة أن تغسل زوجها، واختلفوا في غسل الرجل زوجته، فأجازه الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. ثانياًً: مشروعية التثليث في غسله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إغسلنها ثلاثاً "، وهو واجب عند الظاهرية (1). سنة عند الجمهور. ثالثاً: غسل الميت بالماء والسدر، ثم بالماء والكافور، واختلفوا في كيفية ذلك، فقالت الشافعية يستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء والسدر والثانية بالماء الصافي، والثالثة يضاف إليها شيء من الكافور، كما أفاده في " المنهل العذب ". وقالت المالكية: الأولى بالماء القراح، والثانية يضاف إليها السدر أو بالعكس والثالثة يضاف إليها الكافور، وقال: أحمد وأبو حنيفة: يسن غسله بالماء والسدر في كل مرة (2)، لما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اغسلوه بماء وسدر ". وقال الصنعاني: ظاهره أنه يخلط السدر بالماء في كل مرة من مرات الغسل. قيل: وهو يشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير لأنّ الماء المضاف إليه لا يتطهر به. والمطابقة: في قولها: " بماء وسدر ". 428 - " باب يبدأ بميامن الميت " 502 - معنى الحديث: تحدثنا أمّ عطية في هذه الرواية عن النبي   (1) ويستحب الإِيثار بخمس أو سبع، قال العيني: وكره أحمد الزيادة على سبع، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً قال بمجاوزة السبع .. (2) واتفق الجمهور على أنه يسن غسله بالماء والكافور في الأخيرة خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: إنما يجعل الكافور في الحنوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 " ابْدَأنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِع الْوُضُوءِ مِنْهَا " وفي رِواية قَالَتْ: وَمَشَطْنَاها ثَلَاَثةَ قُرُونٍ ". 429 - " بَابُ الثيابِ البِيض لِلكَفَنِ " 503 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ في ثَلَاَثةِ أثْوابٍ بيضٍ يَمَانِيَةٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهنَّ قَميصٌ ولا عِمَامَة ".   - صلى الله عليه وسلم - " أنه قال ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها "، أي: أبدأن في غسلها بالأعضاء اليمنى من جسدها وبمواضع الوضوء منها: " قالت: ومشطناها ثلاثة قرون "، أي وضفرنا شعرها ثلاث ضفائر. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب أن يوضأ الميت كوضوء الحي. فيمضمض وينشّق وهو مذهب المالكية والشافعية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنه قال ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " وقالت الحنابلة والحنفية: لا يمضمضن ولا ينشق، وإنما توضأ الأعضاء التي في كتاب الله. ثانياًً: أنه يستحب البدأ بميامنه، وهو ما ترجم له البخاري لقوله - صلى الله عليه وسلم - " وابدأن بميامنها ". ثالثاً: أنه يستحب أن يسرَّح شعر المرأة، ويضفر ثلاث ضفائر لقولها: " ومشطناها ثلاثة قرون ". الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " ابدأن بميامنها ". 429 - " باب الثياب البيض للكفن " 503 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية (1) من كرسف (2) " أي في ثلاثة   (1) سحولية أي يمنية نسبة إلى سحول قرية باليمن. (2) أي من قطن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 430 - " بَابُ الْكَفَنِ في ثَوْبَيْنِ " 504 - عن ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا رَجُل وَاقِف بعرفَةَ إذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَوَقَصَتْهُ، أوْ قَالَ: فَأوْقَصَتْه، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " اغسِلُوهُ بمَاءٍ وسِدْرٍ وكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، وَلا تُحَنِّطُوهُ، ولا تُخَمِّرُوا رَأسَهُ، فإِنَّهُ يُبْعَث يَوْمَ القِيَامَةِ مُلبياً ".   أثواب قطنية يمنية بيضاء إزار ورداء ولفافة كما رواه الشعبي " ليس فيها قميص ولا عمامة " أي أن هذه الثلاثة زيادة على القميص والعمامة أو بدون قميص ولا عمامة. الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه الترمذي. والمطابقة: في قولها: " كفن في ثلاثة أثواب بيض ". ويستفاد منه ما يأتي: أولاً: أنه يستحب بياض الكفن كما قال الزرقاني، لأن الله لم يكن ليختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلاّ الأفضل. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: البسوا الثياب البيض فإنّها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم، أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي والحاكم. ثانياًً: أنه يسن التكفين في ثلاثة أثواب. واختلفوا في القميص والعمامة، فقال مالك: يستحب أن يكفن الرجل في خمسة أثواب إزار ورداء ولفافة وقميص وعمامة. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيها قميص ولا عمامة، أي ثلاثة أثواب زيادة على القميص والعمامة. وقال الجمهور: لا يستحب القميص والعمامة. لأن معنى قولها: " ليس فيها قميص ولا عمامة " أي بدون قميص ولا عمامة. 430 - " باب الكفن في ثوبين " 504 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " بينما رجل واقف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة إذ وقع عن راحلته، فوقصته أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 431 - " بَابُ الكَفَنِ فِي القَمِيص الَّذي يُكَفُّ أوُ لا يُكَفُّ " 505 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " أتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللهِ بْنَ أبَي بَعْدَمَا دُفِنَ، فأخْرجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقهِ، وألبَسَهُ قَمِيصَهُ ".   قال: أوقصته" أي رمته فاندق عنقه، " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه " لما في الحنوط من الطيب، " ولا تخمروا رأسه " لا تغطوه لأنه محرم، " فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " أي على صورة الحاج الملبي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كفنوه في ثوبين ". فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: قال ابن دقيق العيد (1) فيه دليل على أن المحرم يبقى في حقه حكم الإِحرام، فلا يحنط، ولا يغطى رأسه، ولا يكفن في ثلاثة أثواب كغيره، وإنما يكفن في ثوبي (2) إحرامه، وهو مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، خلافاً لمالك وأبي حنيفة: فإنه يكفّن عندهم كغيره، وهو مقتضى القياس، لانقطاع العبادة بزوال محل التكليف، وهو الحياة، ولكن لا قياس مع النص. ثانياً: جواز الكفن في ثوبين، أو ثوب واحد وهو الصحيح. 431 - " باب الكفن في القميص الذي يكف أو لا يكف " أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث التي تدل على مشروعية الكفن في القميص مطلقاً، سواء كان مكفوفاً، وهو الذي يُخَيَّطُ طرفه - أو غير مكفوف. 505 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: "أتي النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) " شرح عمدة الأحكام " لابن دقيق العيد. (2) يكفن في ثوبي إحرامه - أي في إزاره وردائه اللذين أحرم بهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 432 - " بَابٌ إذَا لَمْ يَجِدْ كَفَناً إلَّا مَا يُوَارِي رَأسَهُ أوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى بِهِ رَأسَهُ " 506 - عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ: "هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللهِ، فَوَقَعَ أجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأكلْ مِنْ أجْرِهِ شَيْئاً، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ، وَمِنَّا مَنْ أينَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فهُوَ يَهْدِبُهَا،   عبد الله بن أبي" أي: جاء إلى قبره، " بعد ما دفن فأخرجه " من قبره. قال القسطلاني: وكان أهله خشوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - المشقة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه، قبل وصوله، فلما وصل وجدهم قد دَلُّوه في حفرته، فأمرهم بإخراجه، " فنفث فيه " أي فتفل من ريقه على جلده، " وألبسه قميصه "، لأنّه كان قد وعد بتكفينه في قميصه فأنجز وعده. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على استحباب القميص في الكفن، وهو مذهب مالك، وسيأتي تفصيله. والمطابقة: في قوله: " وألبسه قميصه ". 432 - " باب إذا لم يجد كفناً إلّا ما يواري رأسه أو قدميه غطّى به رأسه " 506 - معنى الحديث: يقول خباب رضي الله عنه: " هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله "، أي هاجرنا بنيةٍ خالصة نطلب رضا الله وحده، " فوقع أجرنا على الله " أي فثبت أجرنا عنده بمقتضى وعده الذي لا يخلف، " فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً " أي فبعضنا مات قبل الفتوحات الإسلامية، ولم يكسب شيئاً من غنائمها " منهم مصعب بن عمير " أي مثل مصعب الذي لم ينل من الدنيا شيئاً " ومنا من أينعت في ثمرته "، أي وبعضنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 قُتِلَ يَوْمَ أحِدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إلَّا بُرْدَةً إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وِإذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأسُهُ، فَأمَرنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نُغَطِّي رَأسَهُ، وأنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيهِ مِنَ الإِذْخِرِ".   نضجت ثمرة الدنيا بين يديه فنال منها. وهو كناية عن المسلمين الذين أدركوا الفتوحات، فأثروا من الغنائم، ونالوا حظاً من الحياة ونعيمها " فهو يهدبُها " بفتح الياء أي يقتطف زهرة هذه الدنيا وثمرتها اليانعة " قتل " مصعب رضي الله عنه " يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه به إلا بردة " أي كساء غليظاً مخططاً قصيراً، " إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه " مع جسمه وعورته " وأن نجعل على رجليه الِإذخر " وهو نبت حجازي معروف. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر العورة، فإن قصر عن جسمه كله فيغطى به رأسه وعورته، وإن ضاق عنهما غطيت عورته، وجعل على الباقي الإذخر. ثانياً: ما كابده الصحابة رضي الله عنهم في هجرتهم من المشاق والمتاعب وشدة الفقر والحاجة، فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي كان كما قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا أرقَّ حلة ولا أنعم نعْمة من مصعب " فلما استشهد لم يترك سوى بُردة لم تتسع في كفنه لجسده كله. الحديث: أخرجه الخمسة. والمطابقة: في قوله: " فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغطي بها رأسه ". *** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 433 - " بَابُ مَنِ اسْتَعَدَّ الكَفَنَ في زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَنكرَ عَلَيْهِ " 507 - عَنْ سَهْل بْنِ سعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَت امْرَأة إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبُرْدَةٍ منسُوجَةٍ فِيها حَاشِيَتُهَا، أتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ، قَالَ: نَعم، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدي، فجِئْتُ لأكْسُوكَهَا، فأخَذَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجاً إليْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وِإنَّهَا إزَارُهُ، فَحَسَنّها فُلَانٌ، فقالَ: اكُسُنِيها ما أحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ: ما أحْسَنْتَ، لَبِسَها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجاً إليْهَا، ثُمَّ سألتَه وَعَلِمْتَ أنَّهُ لا يَرُدُّ، فَقَالَ: إني وَاللهِ ما سَألتُهُ لِأَلبَسَهَا، إنّمَا سَألتَهُ لِتَكونَ كَفَنِي، قال سَهْلُ: فكانَتْ كَفَنَهُ ".   433 - " باب من استعد الكفن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه " 507 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما: " جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة فيها حاشيتها "، أي بكساء مخطط له طرف يسمى شملة لأنه يلتحف به، " فخرج إلينا وإنها إزاره " أي فخرج إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤتزراً بها " فحسنها فلان " أي فأعجب بها رجل من الصحابة وهو عبد الرحمن بن عوف، واستحسنها وطلبها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، " فقال القوم: ما أحسنت " أي ما أصبت في طلبك لها مع علمك بحاجة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، " فقال: والله ما سألته لألبسها، وإنما سألته لتكون كفني " بعد مماتي، وفي رواية رجوت بركتها حين لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية إعداد الكفن في الحياة، لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 434 - " بَابُ اتِّباعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ " 508 - عن أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: نُهِيْنَا عَنِ اتِّباعِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. 435 - " بَابُ احْدَادِ الْمَرأةِ عَلى غَيْرِ زَوْجِهَا " 509 - عنْ أمِّ حَبيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا يَحِل لامْرَأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إلَّا عَلَى زَوْج أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْراً ".   النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر ابن عوف على ذلك. والمطابقة: في قوله: " وإنما سألته لتكون كفني ". 434 - " باب اتباع النساء الجنائز " 508 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء ومنعهن عن تشييع الجنائز والخروج معها إلاّ أنه لم يشدد عليهن في ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. فقه الحديث: دل الحديث على كراهية تشييع النساء للجنائز تنزيهاً لا تحريماً، وهو مذهب الجمهور حيث حملوا النهي على الكراهة لقول أم عطية: " ولم يعزم علينا ". ورخص مالك في ذلك لغير الشابة، وقال أبو حنيفة: لا ينبغي كما أفاده القسطلاني. والمطابقة: في قولها: " نهينا عن اتباع الجنائز ". 435 - " باب حد المرأة على غير زوجها " 509 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث "، أي لا يجوز لامرأة مؤمنة أن تلبس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 436 - " بَابُ زِيَارَةِ القُبُورِ " 510 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِامْرأةٍ تبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: " اتَّقِي اللهَ واصْبِرِي " فَقَالَتْ: إليْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، ولَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا   ثياب الحزن، وتهجر الزينة لموت أحد أقاربها، سواء كان أباً أو أخاً أو عماً أو ولداً، أكثر من ثلاثة أيام، " إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً "، أي إلّا الزوج فإنها تحد عليه عند موته، وتترك الزينة لفقده مدة أربعة أشهر وعشرة أيام. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز إحداد المرأة على وفاة أحد أقاربها ما عدا الزوج مدة ثلاثة أيّام فقط، وما زاد على ذلك فهو حرام. ثانياًً: مشروعية إحداد المرأة على زوجها أربعة أشهر وعشراً. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث ". 436 - " باب زيارة القبور " 510 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر "، وفي رواية أبي داود " تبكي على صبي لها " " فقال: اتقي الله واصبري "، أي فأمرها بالخوف من عقوبة الله لها على رفع صوتها بالبكاء، وأمرها بالصبر على القضاء، " فقالت إليك عني " أي دعنى وشأني فإنك لا تحس بما أحس به من ألم الفراق وإلا لعذرتني، " فقيل لها: " إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي فأخبرها الفضل بن العباس رضي الله عنهما أنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقالت: لم أعرفك " أي فاعتذرت إليه - صلى الله عليه وسلم -. بأنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 إنَّهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأتَتْ بَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلمْ تَجِدْ عِنْدَه بَوَّابينَ فَقَالَتْ: لَمْ أعْرِفْكَ، فَقَالَ: " إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى ". 437 - " بَاب مَا يكْرَة مِنَ النياحَةِ على الْمَيِّتِ " 511 - عَنِ الْمغِيرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ:   لم تكن تعرفه، " فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى " أي إنما الصبر الكامل الذي يجازى عليه بغير حساب هو الصبر عند أول وقوع المصيبة ونزول البلاء، حين يكون وقعه على النفس أليماً، ومرارته شديدة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية زيارة القبور للرجال والنساء معاً، قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وأما ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لعن زوّارات القبور " فقد كان قبل الترخيص لهن كما قال أهل العلم (1). ثانياً: الترغيب في الصبر عند أول وقوع المصيبة، لما يترتب على ذلك من عظيم المثوبة والأجر عند الله تعالى، حيث يؤجر على ذلك بغير حساب. كما قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) فالصبر عند أوّل نزول البلاء هو الذي يثاب عليه بغير حساب كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى ". والمطابقة: في قول أنس رضي الله عنه: " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر " فإن إقراره - صلى الله عليه وسلم - لزيارتها لقبر فقيدها دليل على مشروعية زيارتها. وإذا جازت زيارة القبور للنساء فجوازها للرجال من باب أولى. 437 - " باب ما يكره من النياحة على الميت " 511 - معنى الحديث: يقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:   (1) وأن اللعن للمكثرات من الزيارة، والإذن بالزيارة عام بعد المنع، إذا أمنت الفتنة. (ع). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 سَمِعْتُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ كَذِبَاً علَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلى أحَدٍ، مَنْ كَذَبَ علَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ نِيحَ عَليْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَليهِ".   " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن كذباً علي ليس ككذب على أحد "، أي إن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - جريمة عظمى لا يساويه أي كذب على شخص آخر لما فيه من الافتراء على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتغيير ما أنزل الله، والزيادة في شرع الله ما ليس منه، وقد قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، ولا شك أن من افترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد افترى على الله: " من كذب عليَّ متعمداً " أي قاصداً الكذب، " فليتبوأ مقعده من النار " أي فليتخذ له منزلاً في نار جهنم، " وسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من نيح عليه "، أي من بكى عليه أهله عند موته بصوت مرتفع " يعذب بما نيح عليه "، أي فإنه يعذب بسبب بكائهم عليه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه تحرم النياحة على الميت وهي رفع الصوت في البكاء عليه مع ذكر محاسنه وفضائله بصوت مرتفع لما فيه من تعذيب الميت. ثانياً: أن الميت يعذب بالنياحة والبكاء عليه، بصوت مرتفع وهذا إذا كانت النياحة من عادته وسنته، أو أوصى بذلك قبل وفاته كما فعل طرفة بن العبد حيث قال: إذَا مِتُّ فَانْعِيْني بِمَا أنا أهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلىَّ الجَيْبَ يا ابْنَةَ مَعْبدِ أما إذا لم يكن هذا ولا ذاك، فإن الميت يعذب ببكائهم نفسياً حيث يتألم ويحزن لحزنهم. كما روي عن صفية بنت مخرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صاحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم " أخرجه ابن أبي شيبة وقد اختار هذا المعنى جماعة من الأئمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 438 - " بَاب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ " 512 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلَيَّةِ ".   منهم ابن جرير وابن تيميّة كما أفاده السيوطي. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من نيح عليه يعذب ". 438 - " باب ليس منا من شق الجيوب " 512 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منا " قال الحافظ: أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه من الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، " من لطم الخدود " أي من أظهر الجزع والحزن والسخط على قدر الله في أفعاله فلطم الخدود. قال الحافظ: وخص الخد بذلك لأنه الغالب، وإلّا فضرب الوجه داخل في ذلك، " وشق الجيوب " جمع جيب وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس. أي وشق ثيابه من شدة الجزع " ودعا بدعوى الجاهلية " أي وناح على الميت كما كانوا يفعلون في الجاهلية. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم التعبير عن الحزن باستعمال اليد في شق الثياب، وضرب الوجوه، واستعمال اللسان في النياحة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 439 - " بَابُ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ يُعْرَف فِيهِ الْحُزْنُ " 513 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " لَمَا جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وأنا أنْظُرٌ مِنْ صَائِر الْبَابِ، فَأتَاهُ رَجُلٌ فقالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فأمَرَهُ أنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ، ثُمَّ أتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَقَالَ: انْهَهُنَّ، فأتَاهُ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَاللهِ غَلَبنَنَا يَا رَسولَ اللهِ، فَزَعَمَتْ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فاحث في أفْوَاهِهِنَّ الترابَ ".   439 - " باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن " 513 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة " أي لما جاء الخبر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن استشهاد هؤلاء الثلاثة عن طريق الوحي، " جليس يعرف فيه الحزن " أي جلس للعزاء، وقد ظهر الحزن على وجهه الشريف - صلى الله عليه وسلم -، " وأنا أنظر من صائر (1) الباب " أي من الموضع الذي ننظر منه إلى خارج البيت، " فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن " أي وأخبره أن زوجة جعفر أسماء بنت عميس، وبعض أقاربه قد رفعن أصواتهن بالبكاء عليه، " فأمره أن ينهاهن " عن رفع أصواتهن بالبكاء عليه، فمنعهن عن ذلك مرتين، " فأتاه الثالثة " أي في المرة الثالثة، " فقال: والله غلبننا " أي عصيننا حتى عجزنا عن إسكاتهن، " قال: فاحث في أفواههن التراب "، أي فخذ حفنة من تراب وألقها في أفواههن لكتم أصواتهن، والمراد بذلك المبالغة في الزجر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.   (1) صائر الباب هو الشق الذي في الباب الذي ينظر منه إلى داخله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 440 - " بَابُ مَنْ لَمْ يظْهِر حُزْنهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ " 514 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اشْتَكَى ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ، قَالَ: فَمَاتَ وأبو طَلْحَةُ خَارِجٌ، فَلمَا رَأتْ امْرَأتهُ أنَّهُ قدْ مَاتَ، هَيَأت شَيْئاً ونَحَّتْهُ في جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أبو طَلْحَةَ قَالَ: كَيْفَ الْغُلامُ؟ قَالَتْ: هَدَأت نَفْسُهُ، وأرْجُو أن يَكُونَ قَدْ استَرَاحَ، وَظَنَّ أبُو طَلْحَةَ أنَّهَا صَادِقَة، قَالَ: فَباتَ، فلمَّا أصْبَحَ اغْتَسَل،   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز ظهور الحزن على الوجه لأنه أمر طبيعي لا قدرة للمرء على دفعه، وقد جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف الحزن في وجهه كما في الحديث وإنما الذي يحرم هو رفع الصوت بالبكاء، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باسكات نساء جعفر رضي الله عنه. ثانياً: مشروعية الجلوس لتقبّل العزاء كما ترجم له البخاري لقولها: " جلس يعرف فيه الحزن ". والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " جلس يعرف فيه الحزن ". 440 - " باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة " 514 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " مات ابن لأبي طلحة رضي الله عنه " وهو أبو عمير الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداعبه بقوله: " يا أبا عمير ما فعل النغير " " فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً " أي أحضرت طعاماً شهياً ولبست وتهيأت لزوجها " ونحته في جانب البيت " أي وغسلت ابنها، وكفنته، وأخفته في جانب من البيت لئلا يراه، " فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح " أي قد سكنت روحه عن الحركة في جسمه واستراح من مرضه بالموت. فظن أبو طلحة أن الصبي قد تحسنت صحته، وسكنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَخْرُج أعْلَمَتْهُ أَنَّه قَدْ مَاتَ، فصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أخْبَرَهُ بما كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَعَلَّ اللهَ أنْ يُبَارِكَ لَكُمَا في لَيْلَتِكُمَا " قَالَ سُفيَان: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَرَأَيْتُ لَهُ تِسْعَةَ أولادٍ كُلُّهُمْ قَد قَرأ الْقُرْآنَ.   آلامه وأخلد إلى النوم " فبات " فبات في أسعد ليلة وأكل هنيئاً، ولاعب زوجته وباشرها، " فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أخبره بما كان بينهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما "، أي أرجو الله أن يبارك لكما في ليلتكما ويعوضكما عن فقيد كما بالخلف الصالح، فاستجاب الله دعوة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - " قال سفيان بن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت له تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن " جزاء لهما على صبرهما. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الحزن وإن كان أمراً طبيعياً إلاّ أنه يمكن التغلب عليه بالصبر والاحتساب، كما فعلت هذه الصحابية الجليلة حيث تملكت نفسها، وسيطرت على أحزانها، وكفت مدامعها، وأخفت آلامها النفسية عن زوجها، وهيأت له كل أسباب الراحة، وهي في أشد حالات الألم حتى باشرها، وبات هنيئاً سعيداً، ولم تخبره حتى صبيحة تلك الليلة. وهكذا ضربت هذه المرأة أروع المثل في الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، والتسليم لأمر الله في الضراء. ثانياًً: فضل الصبر وعاقبته الحميدة والتعويض العاجل لكل من صبر عند الصدمة الأولى، كما عوض الله هذه الصحابية الجليلة عن ولدها هذا بتسعة أولاد من أهل القرآن. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: ظاهرة في هذه القصة العجيبة، كما قال العيني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 441 - " بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّا بِك لَمَحْزُونونَ " 515 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على أبِي سَيْفٍ القَيْنِ وَكَانَ ظِئْراً لِإبراهِيمَ، فأخَذَ - صلى الله عليه وسلم - إبراهِيمَ، فَقَبَّلَهُ وشَمَّهُ، ثم دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ عَوْفٍ: وأنتَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: " يا ابْنَ عَوْفٍ إنها رَحْمَة " ثُمَّ أتبعَهَا بأخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الْعَيْنَ تَدمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، ولا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنا، وإنَّا لِفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ".   441 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا بك لمحزونون " 515 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه عن قصة وفاة إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مارية القبطية، فيقول: " دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين " أي الحداد، واسمه البراء بن أوس، " وكان ظئراً لإبراهيم " أي أباً له من الرضاعة لأن زوجته خولة بنت المنذر قد أرضعت إبراهيم رضي الله عنه، " ثم دخلنا عليه بعد " أي بعد ذلك بمدة من الزمن، " وإبراهيم يجود بنفسه " أي وإبراهيم في حال النزاع على وشك أن تفيض روحه، "فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان" بكسر الراء أي تفيضان بالدموع " فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله " قال القسطلاني: العطف على محذوف تقديره: الناس لا يصبرون عند المصائب ويتفجعون، وأنت يا رسول الله تفعل كفعلهم مع حثك على الصبر ونهيك عن الجزع، " فقال: يا ابن عوف إنها رحمة " أي رقة في القلب تجيش في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 النفس عند فراق الأحبة، فتبعث على حزن القلب، وبكاء العين، وهي غريزة لا يلام عليها، وليست من الجزع في شيء " ثم أتبعها بأخرى " أي أتبع الدمعة الأولى بالدمعة الثانية، " فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن " بمقتضى الغريزة التي فطر الله عليها خلقه، " ولا نقول إلاّ ما يرضي ربنا " من الحمد والاسترجاع، وسؤال الخلف الصالح " وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون "، أي وليس الحزن من فعلنا، ولكنه أمر أودعه الله فينا وأوقعه في قلوبنا، فلا نلام عليه إلاّ إذا قلنا أو فعلنا ما لا يرضي ربنا. اهـ. كما أفاده القسطلاني. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز البكاء عند المصيبة لأنه ظاهرة طبيعية تنشأ عن غريزة الحزن التي فطر الله عليها الخلق، وعن رقة القلب التي خلقه الله عليها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - " إنها رحمة ". وقد خلق الله في الإِنسان الضحك والبكاء، كما خلق فيه الموت والحياة، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) وهما سر من أسرار التكوين البشري، لا يدري أحد كيف هما، ولا كيف يقعان في هذا الجهاز الجسمي المعقد، وتعقيده النفسي لا يقل عن تعقيده العضوي الذي تتداخل المؤثرات النفسية والعضوية فيه وتتفاعلان كما أفاده في " في ظلال القرآن " (1). ثانياًً: أن الواجب على المؤمن أن لا يقول عند المصيبة، ولا يفعل إلاّ ما يرضي الله عز وجل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: لا نقول إِلا ما يرضى ربنا ". ...   (1) " في ظلال القرآن " لسيد قطب المجلد السادس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 442 - " بَابُ البُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيض " 516 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فأتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُه مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وسعدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ وعبدِ اللهِ بْنِ مَسعُودٍ، فلمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ في غاشِيَةِ أهْلِهِ، فقَالَ: قَدْ قَضَى؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللهِ فبكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا رَأى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فَقَالَ: " ألا تَسْمَعُونَ إنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْع الْعَيْنِ، ولا بِحُزْنِ القَلْبِ، ولكنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وأشَارَ إلى لِسَانِهِ أوْ يَرْحَمُ، وَإنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ ".   442 - " باب البكاء عند المريض " 516 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " اشتكى سعد بن عبادة شكوى له " أي اشتكى من مرض أصابه وألزمه الفراش " فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فلما دخل عليه، فوجده في غاشية أهله " أي وجده مغمى عليه بين أهله، " فقال: قضى؟ "، أي هل مات، " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - " إشفاقاً وحزناً عليه، " فقال: ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب " أي إن الله لا يعاقب الإِنسان ولا يجازيه على بكائه وحزنه، لأنهما خارجان عن إرادته " ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم " أي وإنما يحاسب الله الإنسان على ما يصدر من لسانه فيعذبه، أو يثيبه بسببه. فإن قال ما يغضب الله من النياحة أو الضجر والجزع عاقبه الله، وإن قال ما يرضي الله من الحمد والاسترجاع أنعم الله عليه في الدنيا بالخلف، وفي الآخرة بالجنة. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 443 - " بَابُ مَا يُنْهَى عَنِ النَّوْحِ والبُكَاءِ والزَّجْرِ عَنْ ذَلِك " 517 - عن أمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " أخذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الْبَيْعَةِ أنْ لا نَنُوحَ، فَمَا وَفَّتْ مِنَّا امْرَأة غَيْرُ خَمس نِسْوَةٍ: أمُّ سُلَيْم، وأمُّ العَلاءِ، وابْنةُ أبي سَبْرَةَ امرأةُ مُعَاذٍ، وامْرَأتَانِ، أوْ ابْنَةُ أبِي سَبْرَةَ، وامرأةُ مَعَاذَ، وامْرَأة أُخْرَى.   فقه الحديث: دل الحديث على جواز البكاء على المريض والميت في دون صوت ودون جزع أو سخط. 443 - " باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك " 517 - معنى الحديث: تقول أم عطية رضي الله عنها: " أخذ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أخذ علينا العهد عند البيعة، " أن لا ننوح " أي لا نرفع أصواتنا بالبكاء على الميت، " فما وَفَتْ منا امرأة غير خمس " أي فما وفى منّا أحدٌ بالعهد غير هؤلاء الخمسة (1). الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على تحريم النياحة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ البيعة على النساء بتركها. ولهذا عدها العلماء من الكبائر (2) ويؤكد ذلك حديث أبى سعيد قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النائحة والمستمعة " أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي. والمطابقة: في قولها: " أخذ علينا عند البيعة أن لا ننوح ".   (1) المذكورات في آخر الحديث. (2) " المنهل العذب " ج 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 444 - " بَاب مَتى يَقْعُدُ إذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ " 518 - عَنْ عَامِرِ بْن رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا رَأى أحَدُكُمْ جِنَازَةً فَإِنْ لمْ يَكُنْ مَاشِيَاً مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا، أو تُخَلِّفَه، أو تُوضَعَ مِنْ قبلِ أنْ تُخَلِّفَهُ ". 519 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أنَّهُ أخذَ بِيَدِ مَرْوَانَ وَهُمَا في جَنَازَةٍ، فَجَلَسا قَبْلَ أنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أبو سعِيدٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُ فأخَذ بيدِ مَرْوَان فقال: قمْ فوَاللهِ لقدْ عَلِمَ هَذا   444 - " باب متى يقعد إذا قام للجنازة " 518 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأى أحدكم جنازة فإن لم يكن ماشياً معها فليقم حتى يخلّفها أو تخلِّفه " (بضم الياء والتاء وتشديد اللام فيهما) أي حتى يفارقها أو تفارقه، " أو توضع من قبل أن تخلفه " سواء كان الميت مسلماً أو كافراً. الحديث: أخرجه أيضاً الجماعة. فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية القيام للجنازة، وهو قول ابن عمر وابن مسعود وأحمد (1) وبعض المالكية، والجمهور على أنّه منسوخ لحديث علي رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام للجنازة ثم قعد بعد ": أخرجه مسلم والنسائي وأحمد والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى يخلفها ". 519 - معنى الحديث: أن أبا هريرة " أخذ بيد مروان وهما في جنازة فجلس قبل أن توضع " عن أعناق الرجال، " فجاء أبو سعيد " الخدري رضي الله عنه " فأخذ بيد مروان " أي فأمسك بيده، "فقال: قم، فوالله   (1) " هداية الباري " للطهطاوي ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا عنْ ذَلِكَ، فقالَ أبو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ". 445 - " بَابُ مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ " 520 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقمْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقالَ: " إذَا رَأيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا ".   لقد علم هذا" يعني أبا هريرة " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن ذلك " أي نهانا عن الجلوس قبل أن توضع الجنازة على الأرض. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. فقه الحديث: دل الحديث على كراهية الجلوس قبل وضع الجنازة على الأرض وهو مذهب أبي حنيفة، خلافاً للشافعي ومالك حيث قالوا: إن هذه الأحاديث منسوخة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 445 - " باب من قام لجنازة يهودي " 520 - معنى الحديث: يقول جابر: " مر بنا جنازة " أي مرت بنا كما في رواية أخرى " فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - " عند مرورها، " فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي " أي فكيف تقوم وفي القيام تعظيم لها وهي جنازة يهودي، " فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا "، سواء كان مسلماً أو كافراً تعظيماً لله تعالى، وفزعاً من الموت. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إذا رأيتم الجنازة فقوموا ". فقه الحديث: دل الحديث على استحباب القيام للجنازة سواء كان مسلماً أو كافراً، وهو مذهب ابن عمر وابن مسعود وابن حبيب وابن الماجشون من المالكية، خلافاً للجمهور، والحكمة فيه تعظيم أمر الله وصفات قهره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 446 - " بَابُ حَمْلِ الرِّجَالِ الْجَنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ " 521 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أعْنَاقِهِمْ، فإنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وإنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أينَ تَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيءٍ إلَّا الإِنسَانَ وَلَوْ سَمِعَهُ لَصَعِقَ ".   وجلاله، واحترام الروح الإنسانية التي أودع الله فيها سر الحياة من أمر الله تعالى، وقد نسخ القيام بعد ذلك. وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قام لجنازة يهودي، وقال: " أليست نفساً " أخرجه البخاري، وفي رواية " إنما تقومون للذي يقبض النفوس " أخرجه الحاكم. 446 - " باب حمل الرجال الجنازة دون النساء " 521 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: - إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم " أي حملوا النعش فوق أعناقهم، " فإن كانت صالحة قالت: قدموني " أي قالت أثناء سيرهم بها: أسرعوا بي، لما تراه أمامها من نعيم وسعادة، " وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها " أي يا هلاكها، وعذابها لما ترى من الخطر وسوء المصير، " ويسمع صوتها كل شيء إلاّ الِإنسان، ولو سمعه لصعق " أي ولو سمع الإِنسان صوت الميت وهو يصرخ بذلك لهلك. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " واحتملها الرجال ". فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الجنازة يحملها الرجال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " واحتملها الرجال على أعناقهم "، فإن كلام الشارع كله تشريع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 447 - " بَابُ السُّرْعَةِ بِالْجَنَازَةِ " 522 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فإنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَها إلَيْهِ، وإن تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ". 448 - " بَابُ فضل اتِّباعِ الْجَنَائِزِ " 523 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:   ولو كان خبراً. ثانياً: أن روح الميت تتكلم وهو فوق النَّعْش وترى مصيرها، فالسعيدة تقول: قدموني، والشقية تقول: يا ويلها. وقال مجاهد: إذا مات الميت فما من شيء إلاّ وهو يراه عند غسله وعند حمله حتى يصل إلى قبره. 447 - " باب السرعة بالجنازة " 522 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه "، أي فإنما تسرعون بها إلى نعيمها وسعادتها وإلى روضة من رياض الجنة، " وإن تك سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم "، أي: فإن تلك الجنازة الشقية شر فوق أعناقكم فسارعوا إلى التخلص منه. فقه الحديث: دل الحديث على استحباب الإِسراع. بالجنازة لمصلحة الميت إن كان سعيداً، أو لمصلحة المشيعين إن كان شقياً، وحمل ابن حزم الأمر على الوجوب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسرعوا بالجنازة ". 448 - " باب فضل اتباع الجنائز " 523 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع أن أبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ أُبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: " مَنْ تَبعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاط، فَقَالَ: أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا، فَصَدَّقَتْ عَائِشَةُ أُبا هُرَيْرَةَ، وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرارِيطَ كَثِيرَةٍ ". 449 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ اتِّخاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ " 524 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ: "لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ   هريرة يقول: " من تبع جنازة فله قيراط " أي من خرج معها، وصلى عليها فقط كان له من الأجر قيراط، وهو مثل أحد، أما من صلى عليها وتبعها حتى يفرغ -أي حتى يُنتهى من دفنها- فله قيراطان كما في الرواية الأخرى، " فقال: أكثر أبو هريرة " وذلك لأنه ظن أنه قال ذلك باجتهاده، " فصدّقت عائشة أبا هريرة " ورفعت حديثه هذا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " من تبع جنازة فله قيراط ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ من شيع الجنازة من بيتها وصلى عليه له قيراط، وكذلك من خرج معها ولم يصل عليها إلّا أن الأول قيراطه أكبر، ومن صلى عليها وتبعها إلى مثواها الأخير فله قيراطان. ثانياًً: استدل به الحنفية على تفضيل المشي خلف الجنازة، لأن الاتباع هو المشي خلف الشيء، وذهب الجمهور إلى تفضيل المشي أمامها، حيث حملوا الاتباع على المرافقة والمصاحبة. 449 - " باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور " 524 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 والنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ" قَالَتْ: وَلَوْلا ذَلِكَ لأبرزُوا قَبْرَهُ، غَيْرَ أنَّي أخْشَى انْ يُتَّخَذَ مَسْجِداً. 450 - " بَابُ الصَّلَاةِ على النُّفَسَاءِ إِذَا مَاتتْ في نِفَاسِهَا " 525 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرأةٍ ماتَتْ في نِفَاسِهَا فَقَامَ عَلَيْهَا وسَطَهَا.   " قال في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " أي دعا عليهم بالطرد من رحمة الله لأنهم بنوا المساجد على قبور أنبيائهم " ولولا ذلك لأبرز قبره " أي لكشف قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُتَّخذ عليه الحائل. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لعنهم لأنّهم اتخذوا القبور مساجد. ويستفاد منه: أنه لا يجوز البناء على القبر لأنه - صلى الله عليه وسلم - لعن اليهود والنصارى على فعله. قال الشيخ حبيب الله الشنقيطي في " شرح زاد المسلم ": والحكمة فيه " أنه ربما يصير بالتدريج شبيهاً بعبادة الأصنام ". 450 - " باب الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها " 525 - معنى الحديث: يقول سمرة بن جندب رضي الله عنه: " صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها " أي على امرأة حديثة العهد بالولادة، " فقام - صلى الله عليه وسلم - في وسطها " أي فوقف منها حذاء وسطها. الحديث: أخرجه الشيخان. دل الحديث على ما يأتي: أولاً: قال العيني: فيه إثبات الصلاة على النفساء وإن كانت شهيدة، كما ترجم له البخاري. ثانياً: مشروعية وقوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 451 - " بَابُ قِراءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ " 526 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَالَ لِيَعْلَمُوا أنهَا سُنَّةٌ.   الإِمام عند الصلاة على المرأة حذاء وسطها، نفساء أو غير نفساء، وهو مذهب أحمد والشافعي، وقال الحنفية: يقوم بحذاء صدر الميت رجلاً أو امرأة إشارة إلى الشفاعة، لأن الصدر موضع الإِيمان، وقال مالك: يقوم عند منكبي الرجل ووسط المرأة، كما أفاده في " الرسالة " وقال أحمد والشافعي: يقف عند رأس الرجل وحذاء وسط المرأة (1). والمطابقة: في قوله: " صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها ". 451 - " باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة " 526 - معنى الحديث: " أنه " أي ابن عباس رضي الله عنهما " صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب " أي فقرأ في صلاته على الجنازة بفاتحة الكتاب " وقال: ليعلموا أنّها سنة " أي ليعلموا أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا أصبح الحديث مرفوعاً، لأنّ المراد بالسنة هنا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه قال: إنما قرأ ابن عباس بفاتحة الكتاب في صلاة الجنازة ليعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ الفاتحة فيها. ولا شك أن الصحابي إذا قال فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا فإنه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك إذا قال: السنة كذا، وأراد منها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقه الحديث: دلّ الحديث على مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة   (1) ورواية عن أبي حنيفة رحمه الله كما في " الهداية " أن يقوم الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها، لأن أنساً رضي الله عنه فعل ذلك، وقال: هو السنة اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 452 - " بَابُ المَيِّتِ يَسْمَعُ خفْقَ النِّعَالِ " 527 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ في قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى، وَذَهَبَ أصْحَابُهُ حتى إِنَّهُ لَيَسمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أتَاهُ مَلَكَانِ فأقْعَدَاهُ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَيَقُولُ: أشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ   بعد تكبيرة الإِحرام لقوله: " ليعلموا أنّها سنة " أي ليعلموا أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول الشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة ومالك: لا يقرأ فيها بالفاتحة، وإنما يقتصر فيها على الثناء على الله (1) والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ". والمطابقة: في قوله: " صلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب ". الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي. 191 - " باب الميت يسمع خفق النعل " 527 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: العبد إذا وضع في قبره، وتولى، وذهب أصحابه " أي إذا دفن وبدأ أصحابه ينصرفون عنه، " حتى إنه ليسمع قرع نعالهم "، أي في ذلك الوقت الذي يسمع فيه صوت نعال المشيعين، وهي تضرب الأرض أثناء مشيهم، " أتاه ملكان فأقعداه فيقولان " أي جاءه ملكان، وهما منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له: " ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - " ولم يقولا ما تقول في هذا النبي أو غيره من ألفاظ التعظيم، لقصد امتحان   (1) فيقول: الحمد لله الذي أمات وأحيا والحمد لله الذي يحيي الموتى له العزة والكبرياء والملك والقدرة والثناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وَرَسُولُه، فَيُقَالُ: انْظر إلى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أبدَلَكَ اللهُ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ -قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم): فَيَراهُمَا جَمِيعاً، وأما الكَافِرُ أوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لا أدْرِي! كُنْتُ أقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ ولَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطرقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ مَنْ يَلِيهِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ ".   المسؤول، ولكن يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله "، أي فيقول المؤمن الصادق الإيمان: أشهد أن هذا الرجل - الذي تشيرون إليه هو عبد الله ورسوله، فيشهد لمحمد بالرسالة، بتوفيق وتثبيت من الله تعالى، وذلك لأنه كان في دنياه مؤمناً موقناً برسالته - صلى الله عليه وسلم - " فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله مقعداً من الجنة " أي فيكشف الله له عن منزله في النار الذي أبدله به منزلاً في الجنة " وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري " (1) أي ما كنت في الدنيا أجزم بشيء فيما يتعلق برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن الكافر كان ينكرها، والمنافق يشك فيها، ولم يعرف اليقين سبيلاً إلى قلبيهما. " فيقال: لا دريت ولا تليت " أي لا عرفت الحق بنفسك، ولا اتبعت أهل الحق في إيمانهم به، " ثم يضرب بمطرقة من حديد بين أذنيه " لو ضرب بها جبل لصار تراباً كما في الأحاديث الأخرى " فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلاّ الثقلين " أي يسمع صوت صيحته كل الخلائق (2) إلا الأنس والجن وذلك رحمة بهم، وابقاءً على حياتهم، لأنهم لو سمعوها لصعقوا.   (1) أي أقول ما يقول أهل الكفر: -وهذا حال الكافر- وأقول بلساني فقط دون القصد من قلبي: وهو حال أهل النفاق في الدنيا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. (2) أي كل الخلائق الذين هم بالقرب منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 453 - " بَابُ مَنْ أَحَبَّ الدَّفْنَ في الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أوْ نحْوِهَا " 528 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "أرْسِلَ مَلَكُ الْمَوتِ إِلى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلام، فَلمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجِعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أرْسَلْتَنِي إلَى عَبْدٍ لا يُرِيدُ الْمَوْتَ، فَرَدَّ اللهُ لَهُ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ فَقلْ لَه يَضَعُ يَدَة عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ مَا غَطَّتْ بِهِ يَدهُ بِكلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ: أيْ رَبِّ! ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ:   فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الميت يسمع خفق نعال الشيعين كما ترجم له البخاري. وقد عقد السيوطي في " شرح الصدور " باباً مستقلاً قال فيه: باب معرفة الميت من يغسله ويجهزه، وسماعه ما يقال فيه، وما يقال له، وأورد فيه الأحاديث المتعلقة بذلك. ثانياً: إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل السنة خلافاً لبعض المعتزلة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود وابن ماجة. 453 - " باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها " أي هذا باب يذكر فيه من أحب أن يدفن في بيت المقدس اقتداءً بموسى عليه الصلاة والسلام، كما أفاده القسطلاني والعيني. 528 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " أرسل ملك الموت إلى موسى " أي أرسل إليه ليقبض روحه، " فلما جاءه صكه " أي ضربه على عينه ضربة عنيفة فقلعها، ولكن ملك الموت لم يتأثر بذلك لأن هذه العين التي اقتلعها عين صورية بمنزلة اللباس الذي يلبسه الشخص، وإنما لطمه لأنه لم يعرفه، أو أقدم على قبض روحه دون تخييره، والأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فَالآنَ، فَسَألَ اللهَ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلَى جَانِبِ الطرَّيقِ عِنْدَ الكَثِيْبِ الأحْمَرِ".   يخيّرون قبل موتهم، " فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله له عينه قال: ارجع فقل له: يضع يده على متن ثور " أي على ظهر ثور " فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت " أي ثم لا بد من الموت، لأنه مصير كل حي، " قال: فالآن " أي ما دام الموت هو النهاية المحتومة التي لا مفرّ منها، فتوفني إليك الآن. " فسأل الله أن يدنيه " أي يقربه " من الأرض المقدسة "، وهي بيت المقدس " رمية بحجر " قال العيني: أي سأل الله تعالى الدنو من بيت المقدس ليدفن فيه، دنواً لو رمى رام الحجر من ذلك الموضع الذي هو الآن موضع قبره لوصل إلى بيت المقدس " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو كنتُ ثَمّ " أي لو كنت موجوداً هناك " لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر " أي عند الرمل الأحمر المجتمع هناك. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة ". فقه الحديث: دل الحديث على فضل الدفن في الأرض - المقدسة، وأنه أمنية الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، حيث سأل موسى ربه أن يدنيه من بيت المقدس رمية بحجر. وكان الفاروق رضي الله عنه يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد نبيك - صلى الله عليه وسلم -، وقد حقق الله أمنيته فاستشهد في محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وجمع الله له بين الحسنيين رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 454 - " بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ " 529 - عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أحُدٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أيّهُمْ أكْثَرُ أخذاً لِلْقُرآنِ، فَإِذا أشِيرَ لَهُ إلى أحَدِهِمَا قَدَّمه في اللَّحْدِ، وَقَالَ: أبردا شَهِيدٌ على هَؤُلاءِ يَومَ الْقِيَامَةِ، وَأمَرَ بِدَفْنِهِم في دِمَائِهِم وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ".   454 - " باب الصلاة على الشهيد " 529 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد " أي يلفهما في ثوب واحدٍ ويفصل بينهما بالإذخر، " ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن "، أي ثم يسأل - صلى الله عليه وسلم - عن أكثرهم حفظاً للقرآن وعلماً به، " فإذا أشير إليه " أي فإذا أشار الصحابة إلى أكثرهما حفظاً " قدمه في اللحد " على غيره تكريماً للقرآن وأهله، " وأمر بدفنهم في دمائهم، لم يغسّلوا ولم يصلّ عليهم "، أي بدون غسل ولا صلاة. الحديث: أخرجه أصحاب السنن أيضاً. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الشهيد لا يغسل ولا يصلّى عليه، وهو مذهب المالكية والشافعية (1) وقال أبو حنيفة: يصلى عليه، ولا يغسل، وقال أحمد: لا يغسل إلاّ إذا كان جنباً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حنظلة وقد قتل يوم أحد: " ما شأن حنظلة؟ فإني رأيت الملائكة تغسله ". وذلك لأنه جامع أهله وخرج إلى المعركة فاستشهد فغسلته الملائكة ولا يصلّى عليه في أصح الروايتين عند أحمد. ثانياً: جواز الجمع بين عدة أموات في ثوب واحد وقبر واحد، وهو مذهب الجمهور. والمطابقة: في قوله: " ولم يغسلوا ولم يصل عليهم ".   (1) " الإفصاح " لابن هبيرة الحنبلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 530 - عَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمَاً فَصَلَّى عَلَى أهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إلى المِنْبَرِ فَقَالَ: " إِني فَرَط لَكُمْ وإِنى شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ وإنِّي وَاللهِ لأنْظر إلى حَوْضِي الآنَ، وِإنِّى أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأرْض أوْ مَفَاتِيحَ الأرْض، وِإنِّي وَاللهِ مَا أخَافُ عَلَيْكُمْ أنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أخافُ عَلَيْكُمْ أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا ".   530 - معنى الحديث: يحدثنا عقبة بن عامر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً فصلّى على أهل أحد صلاته على الميت "، أي صلّى عليهم صلاة الجنازة كما يصلي على غيرهم من الموتى العاديين، " ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم " أي: سابقكم وأول واردٍ منكم على الحوض يوم القيامة، " وأنا شهيد عليكم "، أي وأنا شهيد لكم يوم القيامة بالشهادة في سبيل الله، " وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض " أشار بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى اتساع الدولة الإِسلامية، وكثرة فتوحاتها، وتدفق الأموال عليها، لأنّ من فتح بلداً فكأنما تسلم مفاتيح خزائنه، وامتلك ثرواته وأمواله، " ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها " أي ولكنني أخشى أن يحملكم التنافس على المال والجاه على التنازع فيما بينكم فيودي بكم ذلك إلى العداوة والبغضاء والتقاتل على الدنيا وخيراتها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الصلاة على الشهيد وهو مذهب أبي حنيفة خلافاً للجمهور، لقوله في الحديث: " خرج - صلى الله عليه وسلم - يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ". ثانياً: التحذير من إقبال الدنيا وفتنتها ومخاطرها، وسيأتي بيان ذلك في موضعه. والمطابقة: في قوله: في قول عقبة رضي الله عنه: " خرج يوماً فصلّى على أهل أحد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 455 - " بَابُ ثَنَاءِ النَّاسُ على المَيِّتِ " 531 - عنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -قَالَ: " أيَّمَا مُسْلِم شَهِدَ لَهُ أرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أدْخَلَهُ اللهِ الْجَنَّةَ "، فَقُلْنَا: وثلاَثةٌ، قَال: " وَثَلاثةٌ "، فَقُلْنَا: واثْنَانِ، قَالَ: " واثْنَانِ " وَلَمْ نَسْأَلهُ عَنِ الْوَاحِدِ ".   455 - " باب ثناء الناس على الميت " 531 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة "، يعني أن أي إنسان مات على الإِسلام وأثنى عليه أربعة من المسلمين بما يعرفونه عنه من الأعمال الصالحة التي كان يفعلها في حياته وزكّوه بالصلاح الذي يعلمونه عنه دون مداراة أو مجاملة، فإنه يرجى له الجنة، لأن عمله الصالح بشير سعادته إن شاء الله. فالمراد بالشهادة له الثناء عليه بالخير الذي يعلمونه عنه، كما فسره به البخاري، بدليل ما جاء في رواية أنس رضي الله عنه أنه قال: " مرُّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال: وجبت، ثم مرّوا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت، قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض " أخرجه البخاري. فإن هذا الحديث يدل على أن الشهادة للميت معناها الثناء عليه بالخير، وهي في معنى التزكية، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وليس المراد بقوله: " شهد له أربعة بخير " الشهادة له بدخول الجنة والنجاة من النار، فإن هذا غيبٌ لا يجوز الشهادة به لأحد، إلاّ لمن شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن القطع لأحد بالجنة أو النار، بدليل ما جاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 في الحديث الصحيح عن أم العلاء امرأة من الأنصار، أنه لما توفي عثمان بن مظعون، وغُسِّلَ وكفن في أثوابه، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله -أي لقد أكرمك الله بالجنة- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وما يدريك أن الله أكرمه، أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ". قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً " أخرجه البخاري والنسائي " فقلنا: وثلاثة؟ فقال: وثلاثة، فقلنا: واثنان، قال: واثنان "، معناه وكذلك إذا شهد له ثلاثة، أو اثنان، فإنه ترجى له الجنة. " ثم لم نسأله عن الواحد " أي فلا ندري هل يكفي أم لا. الحديث: أخرجه الترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الثناء على الميت المسلم بما يعلم عنه من الصلاح والخير، وحسن السلوك في حياته، وأن من أثنى عليه اثنان فصاعداً بالاستقامة على الأعمال الصالحة في دنياه، فإنه يرجى له الخير في الدار الآخرة، إن شاء الله، كما يرجى له الفوز بالجنة والنجاة من النار، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجبت له الجنة ". وليس المراد من الشهادة له أن نشهد له بالجنة، فإن هذا لا يجوز إلاّ لمن شهد له - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما تقدم لنا في شرح الحديث. ثانياًً: أن المعتبر في الثناء على الميت ثناء أهل الفضمل والصدق، لما جاء في الشهادات: المؤمنون شهداء الله في الأرض. قال القسطلاني: فالمراد المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم في الإيمان، فالمعتبر شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفسقة، لأنهم قد يثنون على من كان مثلهم. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة "، فإن المراد به أن الثناء على الميت يبشر بالخير وهو ما ترجم له البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 456 - " بَابُ ما جَاءَ في عَذَابِ الْقَبْرِ " 532 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فذكَرَتْ عذابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أعاذَكِ اللهُ من عذَابِ الْقَبْرِ، فسألَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَالَ: " نَعَمْ عَذَابُ القبْرِ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: فما رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعدُ صَلَّى صَلَاةً إلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.   456 - " باب ما جاء في عذاب القبر " 532 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث " أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر " وفي رواية أبي وائل عن مروان عن عائشة رضي الله عنها: " دخلت عجوزان من يهود المدينة فقالتا إن أهل القبور يعذبون في قبورهم "، قال الحافظ: وهو محمول على أن إحداهما تكلّمت وأقرّتها الأخرى، قال: ولم أقف على اسم واحدة منهما. قالت عائشة في هذه الرواية فكذبتهما، وإنما كذبتهما لأنّها لم تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يثبت ذلك، " فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر " هل هو حق أم لا، " فقال: نعم عذاب القبر " أي نعم عذاب القبر للكفار والمنافقين والعصاة حق ثابت لا شك فيه، كما جاء في رواية أخرى " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابها بقوله: "عذاب القبر حق"، وقد جاء ذلك مبيناً ومفصلاً في الأحاديث الصحيحة وسيأتي إيضاحه فيما يستفاد من الحديث. " قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر "، أي فكان بعد ذلك لا يصلّي صلاة فرضاً أو نفلاً إلَّا تعوذ في آخرها بعد التشهد من عذاب القبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات عذاب القبر للكفار والمنافقين والعصاة، وكونه حقيقة ثابتة، وقضية معروفة مسلم بها في جميع الأديان السماوية، بدليل أن اليهودية ذكرته لعائشة، وأخبرتها عنه. وقد تكاثرت فيه الأحاديث والأخبار الصحيحة. فروي عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل القبور يعذّبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم " أخرجه الشيخان وابن أبي شيبة. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً يلدغه حتى تقوم الساعة " أخرجه أحمد وأبو يعلى (1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المؤمن في قبره في روضة ويرحب له قبرُه سبعون ذراعاً، وبنور له كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيما أنزلت هذه الآية (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنّه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً ينفخون في جسمه ويلسعونه، ويخدشونه إلى يوم القيامة " أخرجه أبو يعلى (2). وعن يعلى بن مرة قال: " مررت مع النبي على مقابر، فسمعت ضغطة في قبر فقلت: يا رسول الله سمعت ضغطة في قبر، قال: وسمعت يا يعلى: قلت: نعم، قال: فإنه يعذب في يسير من الأمر، قلت: وما هو؟ قال: كان يمشي بين الناس بالنميمة، وكان لا يتنزّه عن البول " أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة ". وعن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، فقال: علام جلدتموني، قالوا: إنك صليت بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره " أخرجه أبو الشيخ (3) وعن أبي سعيد الخدري في حديث طويل جاء فيه: "وإذا دفن   (1) قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (3/ 55) وأبو يعلى موقوفاً، وفيه دراج، وفيه كلام، وقد وثق (ع). (2) انظر " مجمع الزوائد " (3/ 55) في سنده دراج أبو السمح، وهو صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعيف (ع) (3) " شرح الصدور للسيوطي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 العبد الفاجر أو الكافر يقول القبر له: لا مرحباً ولا أهلاً، أما إنك كنت لمن أبغض من يمشي على ظهري إليّ، فإذ وُلِّيتُكَ اليوم، وصرت إلي فسترى صنيعي بك، فيلتئم عليه، حتى تلتقي وتختلف أضلاعه، وقال - صلى الله عليه وسلم - بأصابع يديه فشبكهما: ثم يُقَيَّض له تسعون تنيناً، أو قال: تسعة وتسعون، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً ما بقيت الدنيا، فتنهشه وتخدشه حتى يبعث إلى الحساب، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار " (1). فهذه الأحاديث كلها أثبتت عذاب القبر للكافر والعاصي. وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر حتى قال غير واحد: إنها متواترة، ولا يصح عليها التواطؤ (2). وقال ابن القيم (3): عذاب القبر قسمان: دائمٌ، وهو عذاب الكفار وبعض العصاة. ومنقطع وهو عذاب من خفت جرائمهم من العصاة، فإنه يعذب بحسب جريمته، ثم يرفع عنه، وقد يرفع عنه بدعاء أو صدقة ونحو ذلك. اهـ. قال العلماء (4): عذاب القبر هو عذاب البرزخ، أضيف إلى القبر لأنه الغالب، وإلا فكل ميت إذا أراد الله تعذيبه نَالَهُ ما أراد به، قُبِرَ أو يُقْبَر، ولو صلب. أو غرّق في البحر، أو أكلته الدواب، ْأو أحرق حتى صار رماداً أو ذري في الريح، ومحله الروح والبدن جميعاً، باتفاق أهل السنة، وكذا القول في النعيم، كما أفاده السيوطي. ثانياًً: أنه يستحب التعوذ من عذاب القبر في آخر كل صلاة بعد التشهد، وقبل السلام، لقول عائشة رضي الله عنها في حديث الباب: " فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدُ صلّى صلاةً إلاّ تعوذ من عذاب القبر ". أمّا الصيغة المأثورة في ذلك فهي كما جاء في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو:   (1) " جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد " ج 1. (2) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 2. (3) " شرح الصدور، للسيوطي. (4) أيضاً " شرح الصدور " للسيوطي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 533 - عن أسمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " قَامَ فينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيباً، فذكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِْ التي يُفتَتَنُ بِهَا المَرْءُ، فلَما ذَكَرَ ذَلكَ ضَج الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً ".   " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " أخرجه الشيخان. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم عذاب القبر ". 533 - معنى الحديث: تقول أسماء بنت أو بكر رضي الله عنها: " قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً، فذكر فتنة القبر "، يعني وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يخطب في الناس ويعظهم ويذكرهم الدّار الآخرة، حتى تطرّق إلى القبر وأحواله، وذكر فتنة القبر، والمراد بفتنة القبر: سؤال الملكين منكر ونكير للعبد عن ربه ونبيّه ودينه وسمي بذلك لأنه فتنة عظيمة يختبر بها إيمان العبد ويقينه، فمن وفق في هذا الاختبار فاز، ومن فشل هلك. قالت: " فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة " أي صاحوا صيحة عظيمة هلعاً وخوفاً من فتنة القبر. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على إثبات سؤال الملكين للعبد في قبره، وقد سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنة " لما ذكرناه في شرح الحديث " ودل عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)، أي ويثبتهم عند سؤال الملكين، ويوفقهم إلى الجواب الصحيح ويكون السؤال لكل ميت مسلماً كان أو كافراً، طائعاً أو عاصياً. قال ابن القيم: وفي الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم قال الله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) قلت: ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها ما روي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: " إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان فانتهراه، فقام يهب كما يهب النائم فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: الله ربي، والإسلام، ديني، ومحمد نبيي، فينادى منادٍ أن قد صدق فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، يقول: دعوني أخبر أهلي، فيقال له: اسكن ". أخرجه البيهقي. وفي رواية عن أنس رضي الله عنه: " فإن كان كافراً يقولان: من ربك قال: لا أدرى. قالا: من نبيك قال: لا أدرى قالا: من إمامك؟ قال: لا أدري، فيضربانه بعمود ضربة حتى يلتهب عليه القبر ناراً ويضيق عليه حتى تختلف أضلاعه " أخرجه الديلمي. قال القسطلاني: وهل يسأل الطفل، الذي لا يميّز، جزم القرطبي في " تذكرته " أنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم به غير واحد من الشافعية. وقد صح أن المرابط في سبيل الله لا يفتتن، كما في حديث مسلم وغيره، وكذلك شهيد المعركة، والصابر في الطاعون الذي لا يخرج من البلد الذي وقع فيه قاصداً بإقامته ثواب الله، راجياً صدق موعوده، لحديث البخاري والنسائي عن عائشة مرفوعاً: " فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلاّ ما قد كتبه الله له إلاّ كان له مثل أجر شهيد " ووجه الدليل أن الصابر في الطاعون نظير المرابط في سبيل الله، وقد صح أن المرابط لا يفتتن. والصحيح الذي رجحه ابن القيم أن سؤال القبر لا يختص بهذه الأمّة، وإنما هو لجميع الأمم، لأنه ليس في الأحاديث الصحيحة ما يقتضي ذلك. ولا شك أن سؤال القبر عذاب للكافر والمنافق، لأنهما إذا سئلا ولم يجيبا عُذِّبا أشد العذاب، وضربا بمطارق من حديد، كما في الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وأما المنافق والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول: لا أدرى، كنت أقول ما يقوله الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ". أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " فذكر فتنة القبر "، أي سؤال الملكين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 457 - " بَابُ ما يُنْهى عنْ سَبِّ الأمْوَاتِ " 534 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ فإنَّهُمْ قد أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا ".   لأن هذا السؤال عذاب للكافر والمنافق. 457 - " باب ما ينهي عن سب الأموات " 534 - معنى الحديث: تحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تسبوا الأموات "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سب أموات المسلمين نهياً صريحاً، وذلك لأن أعراض المسلمين مصانة في الحياة وبعد الممات لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "، بل إن عرض الميت أولى بالحرمة والصيانة لعجزه عن الدفاع عن نفسه، فالله يدافع عنه، " فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " بفتح الهمزة من الإفضاء وهو الوصول إلى الشيء. أي ليس هناك أي مبرر لسبّهم، وإن أساءوا في حياتهم، لأنهم قد وصلوا إلى الجزاء العادل على أعمالهم إن كانت خيراً أو شراً، وانتهوا إلى أحكم الحاكمين، ولستم مسؤولين عن أعمالهم حتى تسبوهم بعد موتهم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). الحديث: أخرجه أبو داود والنسائي. فقه الحديث: دلَ الحديث على تحريم سب أموات المسلمين، لأن عرض المسلم حرام حياً كان أو ميتاً، وإذا كانت غيبة الحي حرام، فالميت أولى. ومن أدب الإِسلام أن نشيد بمحاسن الميت، ونكف عن مساويه، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: " اذكروا محاسن موتاكم، وكفّوا عن مساويهم "، أخرجه الترمذي وأبو داود. وأما الكافر فلا حرج من ذكر مساويه ما لم يتأذّ بذلك المسلم، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سبّ أحد الأنصار عبد المطلب: " لا تسبوا موتانا فتؤذوا أحياءنا "، أخرجه النسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبوا الأموات ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري تأليف حمزة محمد قاسم راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون الجزء الثالث مكتبة دار البيان ص. ب 2854 - هاتف 229045 دمشق - الجمهورية العربية السورية مكتبة المؤيد ص. ب 10 - هاتف 7321851 الطائف - المملكة العربية السعودية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 حقوق الطبع محفوظة للمؤلف بيروت 1410 هـ - 1990 م الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الزكاة " الزكاة لغة: كما قال الراغب (1): النمو الحاصل عنِ بركة الله تعالى، يقال زكا الزرع إذا حصل فيه نمو وبركة. وتطلق أيضاً على الطهارة، وزكاة النفس: تطهيرها، وتنسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله تعالى: (وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) لكونه تسبب في تطهير نفوسهم، وتنمية أموالهم بما شرعه لهم من الزكاة المفروضة. والزكاة شرعاً: اسم لما يخرجه الإنسان من حق (2) مالي لله تعالى في زمن مخصوص على وجه مخصوص. وسميت زكاةً لما فيها من رجاء البركة، وتزكية النفس، وتطهيرها من الآثام، والأمراض النفسية من شح وبخل وشره. شرعت في السنة الثانية من الهجرة. بعد زكاة الفطر. وهي خمسة أنواع: زكاة الحرث، وزكاة النقد، وزكاة الماشية، وزكاة التجارة، وزكاة الفطر. والحكمة فيها: تطهير النفس، والتسامي بها، وتحريرها من الشحِ، وتمكينها من السيطرة على غريزة الحرص والشح الموجودة في البشر جميعاً. ومن ثَمَّ كان أفضل الصدقة ما يخرجه العبد أثناء صحته، عندما تكون هذه الغريزة في أقوى عنفوانها وسلطانها، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل أي الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: " أن تَصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى " أخرجه الشيخان والنسائي، أي إن أفضل الصدقة ما كافح به الإِنسان   (1) " مفردات القرآن " للراغب. (2) " فقه السنة " لسيد سابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 458 - " بَابُ وُجُوبِ الزَكَاةِ " 535 - عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُعَاذاً إلى الْيَمَنِ فَقَالَ: " ادعُهُمْ إلى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإن هُمْ أطاعُوا لِذَلِكَ، فأعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْم وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ، فأعْلِمْهُمْ أن اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً في أمْوَالِهِمْ تُؤخَذُ مِنْ أغنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ".   غريزة الشح في نفسه. أضف إلى ذلك ما تؤدي إليه الزكاة وتحققه من تضامن اجتماعي، فإن كل مجتمع تؤدى فيه الزكاة على وجهها الصحيع هو مجتمع تربط بين أفراده أواصر المودة والمحبة والرحمة، ولهذا فإنه يكون جديراً برحمة الله وإفاضة نعمه عليه، كما يشير إليه قوله تعالى: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ). ولا شك أن في إخراج الزكاة مواساة للفقراء، وتطيباً لنفوسهم، وكسباً لمودتهم، وإزالةً للأحقاد من نفوسهم. 458 - " باب وجوب الزكاة " 535 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن "، أي أرسله سنة عشر من الهجرة قبل حجة الوداع والياً أو قاضياً، " فقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله "، أي: ادعهم قبل كل شيء إلى الإِقرار بوحدانية الله تعالى ورسالة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه الشرط الأول في قبول الأعمال، وصحة جميع العبادات الشرعية، " فإن هم أطاعوا لذلك "، أي فإذا أقّروا بتوحيد الله ورسالة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - " فأعلمهم أنّ الله افترض فعليهم خمس صلوات في اليوم والليلة "، أي فأخبرهم أن الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 536 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه: أن أعرابِيَّاً أتى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ: قَالَ: "تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ به شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ المَكْتُوبَة،   قد أوجب عليهم هذه الصلوات الخمس، وكتبها عليهم كل يوم وليلة، " فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم "، أي تؤخذ من كل فرد يملك النصاب الشرعي، " وترد على فقرائهم "، أي وتصرف على فقراء بلدتهم. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الزكاة، وكونها ركناً من أركان الإِسلام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة "، وهذه الصدقة هي الزكاة، فمن جحدها قتل كافراً، إلاّ أن يكون حديث عهد بالإِسلام، ومن امتنع عن دفعها ولم يجحدها فهو فاسق، وعلى الحاكم أن يأخذها منه قهراً مع تعزيره، وليس له أن يأخذ من ماله زيادة عليها، خلافاً لأحمد والشافعي في القديم حيث قالا: يأخذها ونصف ماله. ثانياًً: أن الزكاة تجب على كل مسلم غني، وهو من يملك النصاب الشرعي، واتفقوا على أنّها تجب بخمسة شروط: الإِسلام، والغنى (وهو امتلاك النصاب)، والحرية، واستقرار الملك، وتمام الحول. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً ". 536 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة في حديثه هذا: " أن أعرابياً " أي رجلاً من البادية، " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة "، أي دلّنى على عمل يترتب عليه دخول الجنة والنجاة من النار، فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن دخول الجنة والنجاة من النار يتوقفان على أداء أركان الإِسلام حيث قال: " تعبد الله لا تشرك به شيئاً " وهو معنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ" قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ لَا أزِيدُ عَلَى هَذَا. فَلَمّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظرُ إلى رَجُلٍ مِنْ أهْلٍ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظر إِلَى هَذَا ".   شهادة أن لا إله إلاّ الله، التي هي الركن الأول من أركان الإِسلام، لأن معناها: لا معبود بحق إلاّ الله، ومقتضاها إفراد الله بالعبادة، وذلك بعبادة الله وحده، وأن لا تشرك به شيئاً " وتقيم الصلاة المكتوبة "، أي وتقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله وأوجبها على عباده في كل يوم وليلة " وتؤدي الزكاة المفروضة "، أي وتعطي الزكاة الشرعية التي أوجبها الله عليك، وتدفعها لمستحقها، وهو موضع الترجمة، " وتصوم رمضان "، أي وتحافظ على صيام رمضان في وقته. " قال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا " أي لا أزيد على العمل المفروض الذي سمعته منك شيئاً من الطاعات، وزاد مسلم " ولا أنقص منه " " فلما ولى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فينظر إلى هذا "، أي فلينظر إلى هذا الأعرابي فإنه سوف يكون من أهل الجنة إن داوم على فعل ما أمرته به، لقوله في حديث أبي أيوب " إن تمسك بما أمر به دخل الجنة " أخرجه مسلم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان بعض أركان الإِسلام، وهي التوحيد والصلاة، والزكاة، والصوم، ولم يذكر الحج مع أنه الركن الخامس من أركان الإِسلام، لأنه لم يكن شرع بعد. ثانياًً: بيان مشروعية الزكاة ووجوبها وأنها ركن من أركان الدين الحنيف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وتؤدي الزكاة المفروضة ". ثالثاً: قال القسطلاني (1): فيه أن المبشر بالجنة أكثر من العشرة كما ورد النص في الحسن والحسين رضي الله عنهما وأمهما   (1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 537 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: لما تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بَكْرٍ، وكفَرَ من كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فقال عُمَرُ: كيف تُقاتِلُ النَّاسَ وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ أن أقَاتِلَ النَّاسَ حتى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فمن قالَهَا فقدْ عَصَمَ منِّي مَالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ على اللهِ تَعالى " فَقَالَ: وَاللهِ لأقَاتِلَنَّ من فَرَّقَ   رضي الله عنها، وأمهات المؤمنين، فتحمل بشارة العشرة بأنهم بشروا دفعة واحدة، أو بلفظ بشره بالجنة، أو أن العدد لا ينفى الزائد. رابعاً: قال القرطبي (1): لا يقال إن مفهوم الحديث يدل على ترك التطوعات، أي النوافل، لأنا نقول لعلّ أصحاب هذه القصص كانوا حديثي عهد بالإِسلام فاكتفى منهم بفعل ما وجب عليهم في تلك الحالة، لئلا يثقل عليهم فيملوا، فإذا انشرحت صدورهم للفهم عنه، والحرص على ثواب المندوبات، سهلت عليهم. والمطابقة: في قوله: " وتؤدي الزكاة الفروضة ". الحديث: أخرجه الشيخان. 537 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة في هذا الحديث أنه: " لما ْتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر "، أي لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار أبو بكر خليفة المسلمين " وكفر من كفر من العرب "، أي وارتد العرب عن الإِسلام، فبعضهم ادعى النبوة كبني حنيفة وأسد وغطفان، وبعضهم ترك الصلاة ومنع الزكاة، وبعضهم ترك الزكاة متأوّلاً أنها كانت واجبة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت على الإِسلام والطاعة سوى أهل مكة والمدينة والطائف وأسلم وغفار ومزينة وأشجع وهوزان وأهل صنعاء، فلما فعلوا ذلك عزم أبو بكر على قتالهم، " فقال عمر: " منكراً عليه العزم على قتالهم: "كيف   (1) أيضاً " شرح القسطلاني " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 بَيْنَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزكاةَ حَقّ المَالِ واللهِ لوْ مَنَعُونِي عنَاقاً كانوا يُؤَدُّونَهَا إلى رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لقاتَلْتُهُمْ على مَنْعِهَا، قَالَ عُمَرُ فَواللهِ مَا هُوَ إلَّا أنْ قَدْ شَرحَ اللهُ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أنَّهُ الْحَقّ.   تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه؟ " وهذا استفهام إنكاري معناه النفي أي: لا يجوز لك مقاتلة مانعي الزكاة بعد نطقهم بكلمة التوحيد، وقد جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - سبباً في عصمة الدماء والأموال، فلا يقتل من قالها إلاّ في حق من الحقوق الشرعية " وحسابه على الله "، أي وحسابه على سريرته التي يضمرها في قلبه، إنما هي لله وحده، فهو الذي يجازيه على ما يخفيه في قلبه من كفر وإيمان، لأنه هو المطلع عليه وحده. أما نحن فإنا نحكم بإسلامه أو كفره بما يبدو لنا من ظاهره، والله أعلم بسريرته، " فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " أي أقسم بالله تعالى لأقاتلن من فرق بين حكمهما، فقال الصلاة واجبة والزكاة غير واجبة، لأن وجوب الزكاة معلومٌ من الدين بالضرورة. ومن أنكر شيئاً معلوماً من الدين " بالضرورة فإنه يقاتلِ. " فإن الزكاة حق المال "، كما أن الصلاة حق البدن، فمن أنكرها أنكر حقاً من حقوق الإِسلام يقاتل عليه كما يقاتل على الصلاة. " والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لقاتلتهم كل منعها "، أي أقسم بالله لو منعوني أنثى من المعز كانوا يعطونها زكاةً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها " فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق " أي فعلمت أنه الحكم الشرعي الصحيح الثابت بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الزكاة حق المال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 كما أن الصلاة حق البدن، فهما عبادتان إسلاميتان واجبتان من أركان الإِسلام، فالصلاة عبادة بدنية والزكاة عبادة مالية وحكمهما واحد. ثانياًً: كما أفاده في " كشف الشبهات " (1) أن الرجل إذا أظهر الإِسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وهو مصداق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا). فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإِسلام قتل، وكذلك هذا الحديث وأمثاله. والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " أخرجه البخاري فلم تنفعهم (لا إله إلا الله) ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإِسلام لما ظهر منهم من مخالفة الشريعة، اهـ. ثالثاً: قال القشيري: أجمع العلماء على أن من منع الزكاة منكراً لوجوبها تؤخذ منه قهراً فإن نصب الحرب دونها قتل كما فعل أبو بكر بأهل الردة ووافق على ذلك جمع من الصحابة. ولا يشترط فيها البلوغ، ولا العقل خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا زكاة على مجنون ولا صبي. ثم إنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدة المزكي إلى بلدة أخرى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم " " ويستثنى من ذلك " باتفاق أهل العلم ما إذا استغنى عنها أهل بلدها واختلفوا فيما عدا ذلك. فقال أبو حنيفة: يجوز نقلها لقرابة محتاجين إليها. وقالت الشافعية: إلّا إذا فقد من يستحقها في البلد. وقال مالك: يجوز نقلها إذا وقع في البلد الأخرى حاجة لها، قال: وذلك راجع إلى نظر الإمام واجتهاده. قال في تيسير العلام (2): والصحيح جواز نقلها سيّما مع المصلحة، بأن يكون له أقارب فقراء في غير بلده، أو إعانة على جهاد أو علم. قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث عماله على الصدقة فيأتون بها المدينة ليفرقها فيها، وهي إحدى الروايات عن الإِمام أحمد، والمشهور من مذهبه الأوّل. الحديث: أخرجه   (1) لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب. (2) " تيسير العلام " ج 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 459 - " بَابُ إِثْمَ مَانِعَ الزكَاةِ " 538 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤدِّ زكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يأخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنَا مَالُكَ أنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا (لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الآيَةَ.   الشيخان وأبو داود، والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فأعلِمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة "، والله أعلم. 459 - " باب إثم مانع الزكاة " 538 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من آتاه الله مالاً " أي من أعطاه الله مالاً بلغ النصاب الشرعي الذي تجب فيه الزكاة، " فلم يؤد زكاته "، أي فلم يخرج زكاته، " مُثل له يوم القيامة شجاع أقرع "، أي صُوِّر له ماله الذي بخل به، ولم يؤدّ زكاته بصورة ثعبان سامّ، أبيض الرأس. وهو من أخطر الثعابين، لأنه كلما كثر سم الثعبان ابيض رأسه، كما أفاده الفاكهي، " له زبيبتان " أي فوق عينيه نقطتان سوداوان، وهو من أخبث الحيات " يطوقه " (1) أي يهجم عليه ويلتف حول عنقه " ثم يأخذ بلهزمتيه (2) يعني بشدقيه " أي يمسك بجانبي فمه ويعضهما، ويفرغ سمه فيهما، " ثم تلا (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ   (1) بضم أوّله، وفتح الواو المشددة، أي يصير له الثعبان طوقاً، كما أفاده الحافظ. (2) بكسر اللام والزاى، كما أفاده الحافظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 460 - " بَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طيِّبٍ " 539 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمرَةٍْ مِنْ كَسْب طيَبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إلَّا الطيَبَ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بيمينه، ثُمَّ يُرَبيهَا لِصَاحِبهَا، كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ ".   هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وإنما قرأ هذه الآية ليستدل بها على ما قال. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثم مانع الزكاة والوعيد الشديد المترتب على ذلك، وأن منع الزكاة كبيرة من الكبائر، وإلا لما ترتب عليه هذا الوعيد. ثانياًً: أن العبد إذا لم يشكر النعمة، ويؤدي حق الله فيها تكون نقمة ووبالاً عليه يوم القيامة، وتتمثل له في أبشع الصور التي تؤلمه وتؤذيه. والمطابقة: في قوله: " من أتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل يوم القيامة شجاعاً أقرع ... إلخ ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. 460 - " باب الصدقة من كسب طيب " 539 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تصدق بعدل (1) تمرة من كسب طيب "، أي بمقدار تمرة من مال حلال اكتسبه عن طريق مشروع بصفة مشروعة، وحصل عليه بوسيلة مشروعة من تجارة؛ أو صناعة؛ أو زراعة؛ أو وظيفة، " ولا يقبل الله إلاّ الطيب "، وهي جملة معترضة بين الشرط وجوابه " معناها " ولا يقبل الله صدقة إلَّا إذا كانت خالصة لله تعالى وكانت من مال حلال "فإن الله   (1) قوله: " بعَدْلِ " بفتح العين، وعَدْل الشيء ما يساويه قدراً وحجماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها"، أي فإن الله يتقبل الصدقة الطيبة بيمينه، كما يتقبل الأشياء الشريفة الكريمة، ثم " يربيها " أي ينميها، ويضاعف ثوابها لصاحبها " كما يربي أحدكم فلوه " (بفتح الفاء وضم اللام وفتح الواو المشددة)، وهو المهر، أي الصغير من الخيل، أي وما يزال الله عز وجل يضاعف ثواب الصدقة، ويكبر حجمها " حتى تكون مثل الجبل "، أي حتى تكون الصدقة عند وضعها في الميزان يوم القيامة مثل الجبل صورة وحجماً وثقلاً. والحاصل أنّ من تصدق بصدقة قليلة خالصة من الرياء والسمعة من مال حلال، فإن الله يكبر صورتها، ويضاعف ثوابها، ويثقل وزنها في ميزانه يوم القيامة، حتى تكون كالجبل الضخم في صورتها ووزنها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الصدقة لا تقبل عند الله تعالى إلاّ إذا كانت طيبة. ومعنى كونها طيبة، أن يتوفر فيها شرطان: الأول: أن تكون خالصة لله تعالى ليس فيها رياء، ولا سمعة. والثاني: أن تكون من مال حلال. أما إذا كانت رياءً فإنها ترد على صاحبها لقول الله تعالى كما في الحديث القدسي " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك في معي غيري -أي راءى فيه غيري- تركته وشركه ". وكذلك الصدقة من الحرام لا تقبل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " ولا يقبل الله إلا الطيب " وقوله في حديث آخر: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول " أي ولا يقبل صدقة من مال حرام. ثانياًً: أن الصدقة، لا تُقَوَّمُ بحجمها، وإنما تقوم بإخلاص صاحبها، وبالمال الذي خرجت منه، حلالاً كان أو حراماً. فإذا توفر فيها الجوهر الطيب، وهو المال الحلال، والنية الخالصة، كان لها حجم ووزن في ميزان الله وإن كانت قليلة. ثالثاً: أن الأعمال الصالحة تحول يوم القيامة إلى أجرام مادية لها صورة وحجم ووزن، فتوضع في ميزان العبد، وتوزن في كفه حسناته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يقبل الله إلاّ الطيب ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 461 - " بَابُ الصَّدَقَةِ قَبلَ الرَّدِّ " 540 - عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " تَصَدَّقُوا فإِنَّهُ يَأتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بالأمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فأمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لي بِهَا ". 541 - عَنْ أبِي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيفِيضَ   461 - " باب الصدقة قبل الرد " 540 - معنى الحديث: يقول حارثة بن وهب: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: تصدقوا فإنه يَأتِي عليكم زمان "، أي بادروا بإخراج الزكاة وانتهزوا فرصة قبولها بوجود الفقراء قبل أن يأتي عليكم زمان يكثر فيه المال حتى أنه " يمشي الرجل بصدقته "، أي يمشى بزكاته يبحث عن فقير يعطيها له فلا يجده، " يقول الرجل " الذي يقدم له الصدقة. " لو جئت بها بالأمس " أي أاعتذر إليك عن قبول صدقتك ولو جئتني قبل هذا اليوم لأخذتها منك، أما اليوم فلا حاجة لي، لأنني غني. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولة: " يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها ". 541 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال فيفيض " المراد بالساعة هنا يوم القيامة أو المواد أنه لا ينتهي القرن الأول الهجري حتى يكثر المال، وتعم الثروة وينتشر الرخاء، وتتوفر السيولة النقدية في أيدي الناس جميعاً، فلا يحتاج أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 حَتَّى يُهِمَّ رَبُّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ، فَيَقُولُ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أرَبَ لِي فِيهِ". 542 - عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلَانِ أحَدُهُمَا يَشْكُو العَيْلَةَ، والآخَرُ يَشْكُو قَطع السَّبِيل، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّا قَطع السَّبِيلِ فَإِنهُ لا يَأتِي عَلَيْكَ إلَّا قَلِيل حَتَّى تَخْرُجَ العِيرُ إلى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ وَأما   إلى الصدقة، " حتى عم رب المال من يضل صدقته " أي حتى يجتهد رب المال في البحث عن شخص فقير يقبل منه صدقته فلا يجده. " فيقول الذي يعرضه عليه " أي فيقول الشخص الذي يعرض عليه المال " لا أرب في فيه " أي لا حاجة في فيه. والمطابقة: في قوله: " فيقول الذي يعرضه عليه لا حاجة في فيه ". الحديث: أخرجه الشيخان. 542 - ترجمة راوي الحديث: هو عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه. أسلم سنة تسع، وقال له عمر رضي الله عنه: آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وأول صدقة بيضت وجه رسول الله كانت صدقة جئت بها، شهد فتح العراق، وشارك فيه، وجاهد في سبيل الله، وتوفي سنة ثمان وستين من الهجرة. معنى الحديث: يقول عدي بن حاتم رضي الله عنه: " كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان يشكو أحدهما العيلة " بفتح العين يعني الفقر والفاقة، " ويشكو الآخر قطع السبيل " أي قطع الطريق باللصوص، " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمّا قطع السبيل فإنه لا يَأتِي عليك إلاّ قليل " أي لا يمر عليك سوى زمن قصير وإذا به قد انتشر الإِسلام، واستتب الأمن في جزيرة العرب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 الْعَيْلَةُ فَإن السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتى يَطُوفَ أحَدُكُمْ بِصَدَقَتِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ لَيَقِفَن أحدُكُمْ بَيْنَ يَدي اللهِ لَيْسَ بيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَاب، وَلَا تَرْجُمَان يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيقُولَنَّ لَهُ: ألَمْ أوتِكَ مالاً! فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: ألمْ أرْسِلْ إلَيْكَ رَسُولاً! فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى، فَيَنْظرٌ عَنْ يَمِينهِ فَلا يَرَى إلَّا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أحدُكُمْ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طيبةٍ".   " حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير "، أي حتى تسير القافلة التجارية إلى مكة دون حارس يحرسها. " وأما العيلة فإن الساعة لا تقوم "، أي لا تقوم القيامة أو لا ينتهي القرن الأوّل الهجري حتى يعم الغنى والثراء " حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها " وذلك لتواجد المال في أيدي الناس، " ثم ليقفن أحدكم بين يدى الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان "، أي يقف أمام الله دون حائل، ويكلمه مباشرة بدون واسطة ترجمان، لأن الله عليم بكل اللغات، " ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً، فيقول بلى، ألم أرسل إليك رسولاً " أي ألم أرسل إليك رسولاً يبين لك أركان الإِسلام، ومنها الزكاة، " فيقول: بلى ". أي فيقول مانع الزكاة: بلى قد أرسلت إلي رسولاً وأخبرني أن الزكاة من أركان الإِسلام، " فينظر عن يمينه فلا يرى إلاّ النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلاّ النار " فعند ذلك يتأكد أنه قد حاق به العذاب بسبب شحه وبخله " فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة " أي فليجعل بينه وبين النار حاجزاً من الصدقة، ولو أن يتصدق بنصف تمرة، فإن الصدقة تطفىء غضب الرب، " فإن لم يجد " ما يتصدق، " فبكلمة طيبة " أي فليرد رداً جميلاً يطيب به نفس السائل. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في قوله: " لا تقوم الساعة حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 543 - عَنْ أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاس زَمَانٌ يَطُوفُ فِيهِ الرَّجُلُ بِالصَّدَقَةِ مِنَ الذَّهَبِ ثُمَّ لَا يَجِدُ أحداً يَأخُذُهَا مِنْهُ، وَيُرَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أرْبَعُونَ امْرَأةٍ يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ وكَثْرَةِ النِّسَاءِ ".   543 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وليأتين على الناس زمان يطوف الرجل بالصدقة من الذهب "، أي يطوف بزكاته من الذهب ويبحث عمن يعطيها له، " ثم لا يجد أحداً يأخذها منه " قيل إن ذلك كان في زمن عمر بن عبد العزيز، وقال المناوي، وقيل: إنه يقع في زمن عيسى. " ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به " أي يعرضن عليه الزواج منهن " من قلة الرجال " بسبب كثرة الحروب. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحد يأخذها منه ". فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في المبادرة إلى إخراج الزكاة وانتهاز الفرصة المناسبة لِإخراجها، وعدم التباطؤ بها، والحرص على إخراجها عند مسيس الحاجة إليها، والتحذير من التسويف بها، لأنه قد يكون التأخير سبباً في عدم وجود من يقبلها، ولهذا قال الفقهاء: يجب إخراج الزكاة فوراً، ويحرم تأخيرها عن وقتها إلاّ لعذر شرعي لهذا الحديث، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما خالطت الصدقة مالاً إلاّ أهلكته " أخرجه البخاري، وزاد الحميدي: يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال. ثانياً: أن من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - إخباره عن التطور الاقتصادي حيث أخبر عن انتشار الغنى بين أفراد المسلمين في آخر الزمان قرب الساعة، حتى لا يوجد من يقبل الصدقة ويحتمل أن يكون إشارة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 462 - " بَابٌ اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشِقِّ تمْرَةٍ " 544 - عن أبي مَسْعُودٍ الأنصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أمرَنَا بالصَّدَقَةِ انْطَلَقَ أحدُنَا إلَى السُّوْقِ فَيُحَامِلُ فَيُصِيبُ الْمُدَّ، وِإنَّ لبَعْضِهِمْ الْيَومَ لَمِائَةِ ألفٍ ". 545 - عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسوُلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ".   ما وقع في عهد عمر بن عبد العزيز، فقد أغنى عمر الناس حتى كان الرجل لا يجد من يأخذ زكاته. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - حث على الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها. 462 - " باب اتقوا النار ولو بشق تمرة " 544 - معنى الحديث: يقول أبو مسعود الأنصاري: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل " بضم الباء، أي يجهد نفسه في الكسب، ويكد وينصب " فيصيب المد " أي وبعد تعب وجهد يكسب مداً من طعام، " وهو رطل وثلث " فيتصدق منه، " وإن لبعضهم اليوم لمائة ألف " أي يمتلك مائة ألف، ولا يتصدق كما كنا نتصدق. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتصدقون بكل ما يقدرون عليه، ولو كان قليلاً. 545 - معنى الحديث: يحدثنا عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يقول: اتقوا النار " أي اجعلوا بينكم وبين النار ستراً وحجاباً   (1) عدي بن حاتم: هو أبو طريف وقيل أبو وهب عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة سبع ونزل الكوفة وسكنها وشهد صفين والنهروان ومات بالكوفة سنة سبع وستين هجرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 463 - " بَابٌ أيُّ الصَّدَقَةِ أفضلُ " 546 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُل إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْراً؟ قَالَ: " أن تَصَّدَّقَ وأنت صَحِيحٌ شَحِيح تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأمَلُ الْغِنَى، ولا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلان كَذَا، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ ".   بالصدقة، وتصدقوا بكل ما تستطيعون التصدق به مهما كان يسيراً، " ولو بشق تمرة "، أي ولو لم تجدوا ما تتصدقون به إلاّ نصف تمرة، فتصدقوا به، ولا تحقروا من الصدقة شيئاً، ولو كان قليلاً، فإنّه ينفع المتصدِّق، وينفع المتصدق عليه، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة " أخرجه أحمد. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. فقه الحديث: دل الحديثان على ما يأتي. أولاً: الترغيب في الصدقة واستحباب الحرص على فعلها مهما كانت يسيرة، لأنّها تسد مسدها، وهي وقاية لفاعلها من النار، مهما قلت، كما يدل عليه الحديث الثاني. ثانياً: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكدون ويجدون في كسب المال من عرق جبينهم ليقوا أنفسهم مذلة السؤال، ويتصدقوا منه على إخوانهم. 463 - " باب أي الصدقة أفضل " 546 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً "، أي أكثر ثواباً، " قال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى " أي أفضل الصدقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 464 - " بَاب إذَا تصَدَّقَ على غَنِي وَهُوَ لَا يَعْلمُ " 547 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَالَ رَجُل: لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقتِهِ فوضَعَهَا في يَدِ سَارِق، فأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ على سَارِقٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ لأتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَها في   أن تتصدق في حال صحتك واستكمال قواك الجسمية، وحرصك الشديد على تنمية ثروتك وطمعك في الغنى وخشيتك من الفقر، وحبك الشديد لمالك، فإذا تصدقت وأنت على هذه الحال كانت صدقتك أعظم أجراً، لما في ذلك من مجاهدة النفس، ومقاومة غريزة الشح فيها، وقد أثنى الله تعالى على من فعل ذلك في قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، " ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم " أي بلغت الروح الحلقوم وأوشكت على مفارقة البدن، " قلت: لفلان كذا "، أي أوصيت بجزء من مالك لفلان وفلان، فإن هذه الوصية وإن كانت مشروعة إلاّ أن الصدقة في حال الصحة أفضل، لأن مالك قد أصبح عند مفارقتك الحياة لورثتك. فقه الحديث: دل الحديث على أن الصدقة في وقت صحة الإِنسان وسلامته أفضل من الوصية، وأن الوصية جائزة مشروعة أيضاً. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 464 - " باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم " 547 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال رجل " من بنى إسرائيل " لأتصدقن بصدقة " طيبةٍ نافعة أخرجها من مال حلال، وأدفعها لمن يستحقها، وأقسم على ذلك، والتزم به صدقته، " فخرج بصدقته " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 يَدَيْ زَانِيةٍ، فأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصدِّقَ اللَّيْلَةَ على زَانِيَةٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيةٍ، لأتصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا في يَدَيْ غَنِيٍّ، فأصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ على غَنِي! فَقَال: اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ على سَارِق، وَعَلى زَانِيةٍ، وَعَلى غَنِي، فَأتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أما صَدَقَتُكَ   يريد أن يضعها في يد رجل صالح يستحقها، " فوضعها في يد سارق "، أي فأخطأ عن غير قصد، فوضعها في يد رجل سارق، وهو يظن أنّه رجل صالح وإنسان شريف، " فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق! " أي يتكلمون في ذلك، ويتعجبون منه، لأن الصدقة كانت عندهم -فيما يبدو- لا تدفع إلاّ لأهل الخير والصلاح، كما أفاده العيني. " فقال: اللهم لك الحمد "، فحمد الله تعجباً مما وقع له حيث إنه أراد أن يتصدق على رجل صالح، فوقعت صدقته في يد فاسق وحمد الله لكونه لم يقدر عليه ما هو أسوأ من ذلك، لأنه ما من بلية إلاّ وهناك أعظم منها، " لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها " خطأً ودون قصد " في يد زانية " وهو يظنها امرأة شريفة، " فقال: اللهم لك الحمد على زانية "، فحمد الله أيضاً، وهو الذي لا يحمد على مكروه سواه، " لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يدي غني "، يعني فأعطى صدقته خطأً لرجل غني، والغني لا تحل له الصدقة، ولكنه لم يجزع، وإنما قال: " اللهم لك الحمد على سارق! وعلى زانية، وعلى غني؟ " أي فحمد الله على خطئه ثلاث مرات راضياً بما قدره الله عليه، وابتلاه به، " فأتي " بالبناء للمجهول، أي فعامله الله عز وجل بحسب قصده، وكافأه على حُسِنْ نيته، فرأى في منامه، أو هاتفاً يخاطبه، " فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته "، أي فبشره أن الله قد قبل منه صدقاته كلها، فأمّا الصدقة الأولى فلعله أن ينتفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 على سَارِق فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وأمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وأمَّا الغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أعْطَاهُ اللهُ". 465 - " بَاب إِذَا تصَدُّقَ عَلى ابْنِهِ وَهُو لَا يَشْعُرُ " 548 - عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:   بها ذلك اللص، وتسد حاجته وفقره إن كان فقيراً، وتغنيه عن السرقة، وكذلك الصدقة الثانية كما قال، " وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها "، أي أن تستعين بذلك المال على سد حاجتها وفقرها، وتستغني عن الزنا. وأمّا الصدقة الثالثة فقد تجعل من ذلك الغني البخيل رجلاً كريماً كما قال: " فأمّا الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله تعالى ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أخطأ في صدقته أو زكاته فأعطاها إلى غني وهو يظنه فقيراً صحت صدقته، وأجزأته، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد وأبي عبيد، وذهب مالك والشافعي وأبو يوسف والثوري إلى أنها لا تجزئه، وعن أحمد روايتان. ثانياً: أن الصدقة كانت عندهِم لا تعطى إلاّ لأهل الخير والصلاح، أما في شريعتنا فإنّها تعطى للفقير صالحاً أو فاسقاً. وفي الحديث إشارة إلى استحباب الصدقة على الفاسق إذا كانت تؤدّي إلى إعفافه عن جريمته، وإصلاح حاله. والمطابقة: في قوله: " فخرج بصدقته فوضعها في يد غني ". 465 - " باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر " 548 - ترجمة الراوي: وهو " مَعْنُ " بفتح الميم وسكون العين " ابن يزيد السلمي " بضم السين. أسلم هو وأبوه وجده، وشهد فتح دمشق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنا وأبي وَجَدِّي وخَطَبَ عَلَي فأنْكَحَنِي، وخَاصَمْتُ إلَيْهِ، وكانَ أبي يَزِيدُ أخرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فوضَعَهَا عِنْدَ رَجُل في الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فأخَذْتُهَا فأتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللهِ مَا إِيَّاكَ أردْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أخَذْتَ يَا مَعْنُ ".   وكان له عند الفاروق منزلة عظيمة، وقتل في مرج راهط سنة أربع وخمسين من الهجرة. معنى الحديث: يقول معن رضي الله عنه: " بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأبي وجدي " وهو الأخنس بن حبيب السلمي، " وخطب علي " أي وخطب لي النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة فزوجني إياها، " وخاصمت إليه " أي شكوت إليه أبي في قضية فحكم لي، " وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق بها " في الزكاة المفروضة " فوضعها عند رجل " ليصرفها لمن تجوز عليه الزكاة، " فجئت فأخذتها فأتيته بها "، أي فأخبرت والدي بأني أخذتها، " فقال: والله ما إياك أردت "، أي ما قصدت أن أعطي هذه الزكاة لك، لأنّها لا تحل للولد. وأراد أن يسترجعها مني، " فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " لأبي لا تستردها منه، فإن " لك ما نويت "، من إعطاء زكاتك لمن تحل له شرعاً، " ولك ما أخذت " لأنك فقير. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أخطأ هو أو وكيله في الزكاة، فأعطاها لمن تحرم عليه من ولد أو غيره دون قصد، ثم تبين له خطؤه أجزأته، وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد لما في حديث الباب، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمضى زكاة يزيد حين وصلت إلى ولده خطأً، ولم يطالبه بأخرى، وقال مالك والشافعي: لا تجزئه، وهو مذهب أحمد في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 466 - " بَابُ مَنْ أمَرَ خادِمَهُ بالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ بِنَفْسِهِ " 549 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إذَا أنْفَقَتِ الْمَرأةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتهَا غَير مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أجْرُهَا بِمَا أنْفَقَتْ، ولِزَوْجِهَا أجْرُه بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أجْرَ بَعْضٍ شَيْئاً ".   رواية. ثانياً: أنها لا تجوز الزكاة على الولد إذا كان يعوله، وكذلك كل من ينفق عليه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: كما قال العيني: من حيث إن يزيد أعطى دنانير ليتصدق عنه، فجاء ابنه فأخذها من الرجل فكأنه تصدق عليه وهو لا يشعر. 466 - " باب من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول بنفسه " 549 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة "، أي إذا أعطت المرأة من طعام بيتها لعيال زوجها وأضيافه، غير مبذرة، ولا قاصدة إتلاف ماله، وإلحاق الضرر به، " كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب "، أي كان لها ثواب الإنفاق، وللزوج ثواب آخر مقابل كسبه وسعيه، " وللخادم مثل ذلك "، أَي ولمن عُهِدَ إليه بحفظ الطعام أجر آخر على الإِنفاق من طعام سيده، " لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً ". قال العيني: منصوب بنزع الخافض، أي لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً، كما في رواية الترمذي، حيث قال فيها: " لا ينقص كل واحد منهما من أجر صاحبه شيئاً ". الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " وللخادم مثل ذلك " أي مثل أجر سيده. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المسلم إذا أمر خادمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 467 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ تعْجِيلَ الصَّدَقَةِ مِنْ يَوْمِهَا " 550 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - العَصْرَ فأسْرَع، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ خَرَجَ، فَقُلْتُ أو قِيلَ لَهُ، فَقَالَ: " كُنْتُ خَلَّفْتُ في البَيْتِ تِبْراً من الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أنْ أُبيِّته، فَقَسَمْتُهُ ".   بالصدقة أو أذن له فيها وأخرجها عنه قبلت صدقته، وكان له ثوابها كما لو كان أخرجها بنفسه، لقوله: " وللخازن مثل ذلك " أي يكون للرجل أجر الصدقة، وللخادم أجر إخراجها، وهو ما ترجم له البخاري. ويؤكد ذلك صراحةً قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: " الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به، فيدفعه إلى الذي أمر به أحد المتصدقين " أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. ثانياً: أن ظاهر الحديث يدل على أنه يجوز للزوجة الإِنفاق من طعام زوجها بإذنه، أو بغير إذنه، ما لم يكن هناك إسراف، لكن ليس على إطلاقه، وإنما هو محمولٌ على ما إذا أذن الزوج بالإِنفاق، أو عُلِمَ رضاه عنه، قال (محيي السنة): عامة العلماء على أنه لا يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه؛ أو علمها برضاه، وكذلك الخادم، والحديث خرج على عادة أهل الحجاز، يطلقون الأمر للأهل والخادم في التصدق. 467 - " باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها " 550 - معنى الحديث: يقول عقبة رضي الله عنه: " صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر فأسرع " وفي رواية أخرى للبخاري " صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعاً، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه "، "ثم دخل البيت " أي دخل أحد بيوت زوجاته، " فقلت له: " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 468 - " بَابُ التَحْرِيض علَى الصَّدَقَةِ والشَّفاعَةِ فيهَا " 551 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أوْ طُلِبَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: " اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا شَاءَ ".   أي فسألته عن ممبب خروجه من المسجد مسرعاً " فقال، كنت خلفت في البيت تبراً من الصدقة " وفي رواية أخرى: " ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنّهم عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئاً من تبر عندنا ". قال ابن دريد: التبر هو الذهب كله، أي سبب خروجي أني كنت تركت في بيتى شيئاً من ذهب الصدقة " فكرهت أن أبيته "، أي فرغبت وأحببت أن أبادر إلى قسمته في يومه، وكرهت أن أبيته إلى الغد خوفاً من العوائق والموانع. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. ويستفاد من الحديث: فوائد كثيرة منها: استحباب المبادرة إلى إخراج الصدقة والزكاة في وقتها فوراً، وكراهية تأخيرها خوفاً من تغير الأحوال. والمطابقة: في قوله: " فكرهت أن أبيته ... " إلخ. 468 - " باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها " 551 - معنى الحديث: يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه السائل " المحتاج بطلب الصدقة " أو طلبت " بضم الطاء وكسر اللام " إليه حاجة " أي أو جاءه صاحب الحاجة يطلب منه - صلى الله عليه وسلم - قضاءها له، ومساعدته عليها " قال اشفعوا تؤجروا " أي اسألوني واطلبوا مني قضاء حاجته ما لم تكن معصية أو إسقاط حدٍ من حدود الله تعالى، أما ما عدا ذلك من الحاجات كإنظار المعسر، وإعانة المدين والإِصلاح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 552 - عَنْ أسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُوكي فَيُوكَى عَلَيْكِ ".   بين متخاصمين فبادروا إلى السعي عندي في ذلك. اهـ. والتحريض والشفاعة متقاربان، فهما يجتمعان غاية، لأنْ كلاً منهما يؤدي إلى إيصال الخير، أو دفع الشر عن المشفوع له؛ أو المحرض له، ويفترقان وسيلة، لأن التحريض يعتمد على الترغيب، والشفاعةُ تعتمد على السؤال (1). وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة في الخير وبيّن أن الشافع مأجور، سواء حصل المطلوب أم لا، فإن قضاء الأمور وتحقيقها ليست بأيديهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ويقضي الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما شاء "، وما أراد من قضاء ذلك الأمر أو عدمه. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. فقه الحديث: دل الحديث على استحباب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها وفي سائر أعمال الخير، وأن الساعي مأجور وإن خاب سعيه. والمطابقة: في قوله: " اشفعوا تؤجروا ". 552 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم - لأسماء: " لا توكي " بضم التاء وكسر الكاف يقال: أوكأ سقاءه إذا شده بالوكاء، وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة، أي لا تمنعي ما عندك، " فيوكى عليك " بفتح الكاف منصوب لاقترانه بالفاء في جواب النهي، أي لا تمنعي مالك عن الصدقة خشية (2) نفاده فتنقطع عنك مادة الرزق. ويستفاد منه: أن الصدقة تنمي المال، وأن البخل بالصدقة سيما الواجبة يؤدي إلى إتلافه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لا توكي " حيث حرضها على العطاء والصدقة، وحذرها من البخل.   (1) " فتح الباري " ج 3. (2) " شرح العيني " ج 8. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 469 - "بَاب عَلَى كُلِّ مُسْلِم صَدَقَةْ، فَمَنْ لَمْ يَجِد فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ" 553 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " عَلَى كُلِّ مُسْلِم صَدَقَةْ " فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " يَعْمَلُ بِيَدِهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَتَصَدَّقُ " قَالُوا: فَإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ " قَالُوا: فإنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشر فَإنَّهَا لَهُ صَدَقَة ".   469 - " باب على كل مسلم صدقة فمن لم يجد فليعمل بالمعروف " 553 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على كل مسلم صدقة "، أي: أن الصدقة بغير الزكاة المفروضة حق مطلوب من كل مسلم؟ أن يؤديه ندباً واستحباباً، فيستحب لكل مسلم أن يتصدق مهما كانت ظروفه وأحواله، فلما سمع الصحابة ذلك ظنوا أن الصدقة المطلوبة من كل مسلم هي " الصدقة بالمال " " فقالوا: فمن لم يجد؟ "، أي: فمن كان فقيراً لا يملك مالاً يتصدق منه ماذا يصنع، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس المقصود من الصدقة صدقة المال فقط، وإنما هي شيء آخر أعم وأشمل، وهو " صنع المعروف " (1) سواء كان بالمال أو بالبدن واللسان، كما وضح ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقية الحديث حيث " قال: يعمل بيده، لينفع نفسه ويتصدق " أي إن لم يجد مالاً حاضراً يتصدق منه. فعليه أن يسعى لتحصيله وكسبه بالعمل في أي مهنة شريفة يحصل منها على المال الحلال، فينفق على نفسه ويتصدق على غيره، " قالوا: فإن لم يجد، قال يعين ذا الحاجة الملهوف " أي قالوا:   (1) أي القيام بأي عمل ينفع الناس ويعود عليهم بالخير سواء كان مالياً أو بدنياً أو لسانياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 470 - " بَابُ الْعَرْض في الزَّكَاةِ " 554 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ التي أمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم -،   فإن لم يقدر على العمل، أو لم يجد مهنة يكسب منها المال فيتصدق منه، قال: يعين ذوي الحاجات من عاجز أو مظلوم، بقوله أو فعله قدر استطاعته، فإنّ هذا العمل البدني وهذه الخدمة البدنية التي يقدمها لمن استغاث به تحتسب له صدقة " قالوا: فإن لم يجد " القدرة على مساعدة غيره ببدنه أو لسانه " قال: فليعمل بالمعروف "، أي فليأت بنوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وقراءة قرآن " وليمسك عن الشر " أي يتجنب المحرمات من غيبة ونميمة وكذب، " فإنها في صدقة " أي فإن فعل الخير والكف عن الشر له ثواب الصدقة. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الصدقة مطلوبة من كل مسلم غنياً أو فقيراً، فإن كان غنياً فالصدقة بالنسبة إليه هي صدقة المال، وإن كان فقيراً فإنّ عليه أيضاً صدقة مندوبة مستحبة وهي فعل الخير وصنع المعروف، سواء كان بالبدن أو باللسان. ثانياًًً: أن كل معروف صدقة فإغاثة الملهوف صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وقراءة القرآن صدقة، ونوافل العبادات البدنية كلها صدقة. ثالثاً: أن الإِمساك عن الشر واجتناب المحرمات صدقة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليمسك عن الشر فإنها له صدقة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على كل مسلم صدقة ". 470 - " باب العرض (1) في الزكاة " 554 - معنى الحديث: يحدثنا أنس في هذا الحديث "أن أبا بكر   (1) أي جواز أخذ العرض - بفتح العين وسكون الراء - والمراد به ما عدا النقدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 " وَمَنْ بَلَغتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، ولَيْسَتْ عِنْدَهُ، وعِنْدَهُ بِنْتُ لبونٍ، فإنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، ويُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَماً أو شَاتَيْنِ، فإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لبونٍ، فإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ولَيْسَ مَعَهُ شَيءٌ ".   الصديق رضي الله عنه كتب له التي أمر الله رسوله"، أي أن الصديق رضي الله عنه كتب لأنس رضي الله عنه كتاباً يبين له فيه فريضة زكاة الماشية التي أمر الله تعالى رسوله بأخذها، " ومن بلغت صدقته بنت مخاض "، أي ومما ذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب أن صاحب الماشية إذا أصبحت الفريضة الواجبة عليه بنت مخاض " وهي التي أتمت حولاً ودخلت في الثاني، وتجب في خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين من الإِبل، فإذا وجبت عليه " " وليست عنده، وعنده بنت لبون " وهي التي أتمت عامين ودخلت في الثالث " فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين "، أي فإنّ الساعي يأخذ من صاحب الماشية بنت اللبون، التي هيِ أكثر من الفريضة المطلوبة منه، ويدفع له الفرق بين السنين عشرين درهماً، أو شاتين " فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شيء " أي ولا يعطيه شيئاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري على جواز أخذ العرض - وهو ما عدا النقدين - في الزكاة، أي استبدال زكاة الماشية بعرض آخر، ودفعه بدلاً عن الفريضة المطلوبة من صاحب الماشية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الساعي أن يأخذ من صاحب الماشية بنت اللبون، التي هي أكثر من الفريضة المطلوبة منه، وإعطاءه بدلاً عن الفرق بين السنين شاتين، والشاتان عرض آخر من غير الجنس الواجب، فدل ذلك على أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 يجوز للساعي أن يأخذ أكثر من الفريضة، ويدفع الفرق بين السنين عرضاً آخر، وكذلك العكس، وهو أن يأخذ أقل من الفريضة ويأخذ الفرق بين السِّنيْن عرضاً آخر، وفي هذا دليل على جواز استبدال زكاة الماشية بالعروض الأخرى، وهو مذهب أبي حنيفة. وأجاب الجمهور بأنه لو كان الأمر كذلك لكان الفرق يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف الأمكنة والأزمنة، فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في الأصل. وأجاب الحنفية بأنّ الشارع لم يقدر التفاوت بمقدار محدود لا يزيد ولا ينقص، وإنما نظر إلى قيمة الفرق بين السنين حسب اختلاف الزمان والمكان، وتفاوت الأسعار، بدليل ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قدر " الجبران " ما بين السنين في بعض الأحوال بشاة أو عشرة دراهم - أي بأقل مما قدره الصديق، وقد كان علي رضي الله عنه مصدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساعيه على الزكاة، فلو كان الفرق دائماً هو شاتان أو عشرون درهماً لما عدل عنه وخالف الصديق في تقديره، فتقدير عليّ للفرق بهذا التقدير الذي يختلف عما جاء في كتاب أبي بكر يدل على أنّ هذا الفرق ما هو إلاّ قيمة تختلف حسب اختلاف الظروف والأسعار وأنّ من باب استبدال الزكاة المفروضة بغيرها من العروض، ولهذا قال البخاري: باب العرض في الزكاة، أي استبدال زكاة الماشية بغيرها من العروض، واستدل على ذلك أيضاً، بقول معاذ لأهل اليمن: إيتوني بعرض ثيابكم (خميص)، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًًً: استدل الشافعي وأحمد بهذا الحديث على أنه إذا اختلف السن المطلوب فإن على رب الماشية أن يدفع أعلى منه، ويأخذ من الساعي عشرين درهماً أو شاتين، أو يدفع أدنى منه ويعطى للساعي عشرين درهماً أو شاتين، وأنّ التفاوت بين السنين محدد بذلك كما ذكر في الحديث فهو دائماً عشرون درهماً أو شاتين لا يزيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 471 - " بَاب لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرق وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِع " 555 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ التي فَرَضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّق، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ".   ولا ينقص. قال في " المنهل العذب " (1): وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن من لزمه سن ولم يوجد عنده، يدفع أدنى منه، والفرق بين السنين بالغاً ما بلغ أو يدفع أعلى من السن الواجب، ويأخذ الفرق بين السنين من الساعي إن شاء، لأنه في حكم البيع، وهو مبني على التراضي أو يدفع قيمة السن المطلوب، وقالوا: تقدير الفرق في الحديث بالشاتين أو العشرين درهماً بناءً على أن ذلك كان قيمة التفاوت في زمنهم لا أنه تقدير لازم، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قدر " الجُبْران " ما بين السنين بشاة واحدة أو عشرة دراهم، وهو كان مصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان يخفى عليه مثل هذا، ولا يظن به مخالفة رسول الله، وقال مالك: يلزم رب المال بإحضار السن الواجب، وإنْ بشراء والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين ". 471 - " باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع " 555 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه في هذا الحديث " أن أبا بكر كتب له التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي بعث إليه كتاباً بيّن له فريضة الزكاة التي فرضها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومما جاء في كتابه هذا " ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة "، أي لا يجوز لأرباب   (1) " المنهل العذب " ج 9 للشيخ محمود خطاب السبكي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 472 - " بَابُ مَا كَانَ مِنْ خلِيطَيْنِ فإنهُمَا يَتَراجَعَانِ بالسَّوِيَّة " 556 - وفي روَايةٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ التي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:   المواشي أن يجمعوا المواشي المتفرقة بين عدة أشخاص، ويضموها إلى بعضها في مجموعة واحدة احتيالاً منهم لتنقيض الصدقة، كأن يكون هناك ثلاثة أشخاص لكل واحد منهم أربعون شاة، فلما عرفوا أنّ على كل واحد منهم شاة أرادوا جمعها معاً حتى تصير مائة وعشرين فتصبح عليهم شاة واحدة. فلا يجوز لهم جمعها لأنه احتيال لتنقيص فريضة الزكاة، كذلك لا يجوز لهم التفريق بين مجتمع من أجل تنقيص الزكاة كأن يكون للشريكين مائتا شاة فيكون عليهم ثلاث شياه فيريدان أن يفترقا حتى يكون لكل منهما مائة شاة، ولا تجب عليه سوى شاة واحدة، فلا يجوز لهما التفرق، لأنه حيلة لتنقيص الزكاة. فقه الحديث: دل الحديث على أنّه لا يجوز الجمع بين متفرق أو التفريق بين مجتمع لتنقيص الزكاة، كما تقدم شرحه، لأنّه تهرُّبٌ عن أداء الحق الشرعي ولا يجوز أيضاً للساعي أن يفرّق المجتمع أو يجمع المتفرق لتكثير الصدقة، فقوله خشية الصدقة، وإن كان في الأصل يرجع إلى رب الماشية إلاّ أنه يرجع أيضاً إلى الساعي بضده، فإذا كان الأوَّل لا يجوز له الجمع والتفريق خوفاً من الصدقة فإنه لا يجوز ذلك للساعي أيضاً طمعاً في زيادتها، ومحل النهي عن ذلك في الجنس الواحد كالإِبل مثلاً. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود في حديث طويل. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. 472 - " باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية " 556 - معنى الحديث: يحدثنا أنس في رواية أخرى "أن أبا بكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 " ومَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّويَّةِ ".   كتب له التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية " أي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى أنس رضي الله عنه فريضة الزكاة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال فيها ما معناه: أن الخليطين إذا اشتركا في المكان والمرعى والمورد والفحل والمراح دون الاشتراك في الملك، فإن المالين يصيران كالمال الواحد (1) فيهما زكاة واحدة، يأخذها الساعي من المجموع، ثم يتراجع الخليطان فيما بينهما، أي يتحاسبان فيما بينهما بنسبة ما لكل منهما من الماشية، فإذا كان المجموع مثلاً مائة وثلاث وعشرون شاة، لأحدهما الثلثان، وللآخر الثلث، فإن الساعي يأخذ شاة واحدة من المجموع ثم يتحاسبان فيرجع صاحب الثلث على صاحب الثلثين بقيمة الثلث الذي دفعه زيادة عما عليه. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. فقه الحديث: دل الحديث على أن الخليطين كالشريكين، مالهما كالمال الواحد، فتؤخذ منهما زكاة واحدة، ثم يتحاسبان بينهما، وهو مذهب الشافعي وأحمد، فإذا بلغت ماشيتهما معاً النصاب وجبت فيها الزكاة، وإن لم يكن لكل منهما نصاب (2)؛ وقال مالك: لا أثر للخلطة إلاّ إذا كان كل منهما يملك نصاباً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين " يعني من الغنم - فليس فيها شيء، لأن هذا الحكم بعمومه يشمل الخليطين. ...   (1) " المنهل العذب " ج 9. (2) أيضاً " المنهل العذب ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 473 - " بَابُ زَكَاةِ الإِبِلَ " 557 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ أعْرَابِيَّاً سَألَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: " وَيْحَكَ إنَّ شَأنَهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إبل تُؤَدِّي صَدَقَتَها؟ " قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: " فَاعْمَلْ من وَرَاءِ الْبِحَارِ فإِنَّ اللهَ لَنْ يَتْرِكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئاً ".   473 - " باب زكاة الإِبل " 557 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله عنه: " أن أعرابياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة " أي عن حكمها بالنسبة إليه وهل تجب عليه الهجرة من البادية إلى المدينة أم لا؟ " فقال له: ويحك إن شأنها شديد " أي فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر إرشاد وتوجيه أن يصرف نظره عن الهجرة رفقاً به، وشفقة عليه، لأن الهجرة أمر شاق عليه، لما فيها من مفارقة الوطن والأهل والأحباب، " فهل لك من إبل تؤدّي صدقتها " أي تخْرِج زكاتها؟ " قال: نعم " لدي إبل أخرجُ زكاتها الشرعية " قال: فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً " أي لن ينقصك من عملك شيئاً ما دمت تؤدي زكاة إبلك فما عليك بعد ذلك إلاّ أن تحافظ على بقية شعائر دينك وعباداتك البدنية، فإذا تمكنت من أداء ما افترض الله عليك في ديار قومك، فلا هجرة عليك وإن الله يثيبك على عملك وعبادتك، ولو كنت في أقصى المعمورة. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب زكاة الإِبل لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فهل لك من إبل تؤدّي زكاتها " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًًً: أن الهجرة وإن كانت مشروعة مطلقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ: " ولا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة " إلاّ أنها لا تكون واجبة إلاّ إذا كان المسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 474 - " بَابُ زَكَاةِ الْغنَمَ " 558 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابِ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ:   لا يأمن على نفسه وماله ودينه ولا يتمكن من أداء شعائر الإِسلام في حرية تامة لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فإنّ هذا يدل على وجوبها على كل مسلم مضطهد، قال الإِمام محمد عبده: ولا معنى عندي للخلاف في وجوب الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه أو يؤذى فيها إيذاءً لا يقدر على احتماله، وتكون الهجرة مندوبة فقط إذا كان المسلم في بلد يأمن فيه على نفسه وماله ودينه فلا تجب عليه الهجرة في هذه الحالة لحديث الباب حيث قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي لما سأله عن الهجرة: " فاعمل من وراء البحار ". أي فإنك إذا تمكنت من أداء العبادات المفروضة عليك كما أمرك الله لا تجب عليك الهجرة. ولهذا قال الإِمام محمد عبده: وأما المقيم في دار الكافرين ولكنه لا يمنع .. أي لا يمنع من أداء شعائر الدين وأركان الإِسلام، ولا يؤذي إذا عمل بدينه، فلا يجب عليه أن يهاجر، بل ربما كانت الإِقامة في دار الكفر سبباً لظهور محاسن الإِسلام وإقبال الناس عليه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فهل لك من إبل تؤدّي صدقتها " فإنها تدل على وجوب زكاة الإِبل وهو ما ترجم له البخاري، والله أعلم. 474 - " باب زكاة الغنم " 558 - معنى الحديث: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 " بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم، هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِى فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، والَّتِي أَمرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ على وجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، ومنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلا يُعْطِ: في أرْبَع وعِشْرِينَ منَ الإِبِلِ فَمَاَ دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُلِّ خَمْس شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَت خَمْسَاً وَعِشْرِين إِلَى خَمسٍ وَثَلاثِينَ ففِيهَا بِنْتُ مَخَاض أُنثى، فإِذَا بَلغَتْ سِتَّاً وثَلَاثِينَ إلى خَمسٍ وأرْبَعِينَ ففيهَا بِنْتُ لبون أُنثى. فإذا بَلَغَتْ سِتاً وأرْبَعِينَ إلى سِتِّينَ فَفيها حِقَّةٌ طروقَةُ الْجَملِ، فَإِذا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وسِتِّينَ إلى خَمسٍ وسَبْعِينَ فِفيهَا جَذَعَةً، فَإِذا بَلَغَتْ يَعْنِي سِتَّاً وسَبْعِينَ إلى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لبونٍ، فَإذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَتسْعينَ إِلى عشْرينَ وَمائَةٍ فَفيهَا حقَّتَان طروقَتَا   أرسل أنس بن مالك إلى البحرين ليكون عاملاً عليها، وكلفه بأخذ الزكاة المفروضة (1) من أهلها كتب له هذا الكتاب ليعتمد عليه في معرفة فريضة الزكاة (2)، وتطبيقها وتحصيلها ممن تجب عليه، وكتب له فيه أن من سئل مقدار هذه الفريضة فإنه يجب عليه دفعها، ومن سئل أكثر من ذلك فلا يجب عليه. وهي كما يلي: الفريضة في الإِبل: من 5 إلى 24 في كل خمس شاة. من 25 إلى 35 بنت مخاض وهي التي دخلت في السنة الثانية. من 36 إلى 45 بنت لبون وهي التي دخلت في السنة الثالثة. من 46 إلى 60 حقة وهي التي دخلت في السنة الرابعة.   (1) وهي المقدار الذي فرضه الله في الزكاة، والذي يجب على رب المال أن يدفعه للساعي على الزكاة، والعامل عليها. (2) فهو بمثابة وثيقة شرعية يعتمد عليها في الزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 الْجَمَلِ، فإذا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ففِي كُلِّ أرْبَعِينَ بِنْتُ لبُونٍ، وفي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا أرْبَع مِن الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةُ إلَّا أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فإذَا بَلَغَتْ خمساً مِنَ الإِبِلِ فَفِيهَا شَاة. وفي صَدَقَةِ الْغَنَمِ في سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أرْبَعَيْنَ إلى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاة، فَإِذَا زَادَتْ على عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلى مِائَتَيْنِ شاتَانِ، فإِذَا زَادَتْ على مِائَتَيْن إلى ثَلَاِثمِائَةٍ فِفِيهَا ثَلَاثٌ، فَإِذا زَادَتْ على ثَلَاِثمِائَةٍ ففي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أرْبَعِينَ شاةً واحدةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلَّا أنْ يَشَاءُ رَبُّهَا. وفي الرِّقَّةِ (1) رُبُعُ الْعُشْرِ، فإنْ لَمْ تَكُن إلَّا تِسْعِينَ ومِائَةٍ (2)، فَلَيْسَ فِيهَا شَيءٌ إلَّا أنْ يَشَاءَ رَبُّهَا ".   من 61 إلى 75 جذعة وهي التي دخلت في السنة الخامسة. من 76 إلى 90 فيها بنتا لبون. من 91 إلى 120 فيها حقتان. وما زاد على ذلك، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ولا زكاة في أقل من خمس من الإِبل، فإذا بلغت خمساً ففيها شاة واحدة، ثم في كل خمس شاة، حتى تبلغ أربعاً وعشرين كما أوضحناه. وأما الغنم فلا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين شاة فإذا بلغت أربعين. فالفريضة فيها كما يأتي: من 40 إلى 120 فيها شاة واحدة.   (1) أي الفضة. (2) وهذا يوهم أنها إذا زادت على التسعين ومائة قبل بلوغ المائتين أن فيها صدقة، وليس كذلك. وإنما ذكر التسعين لأنه آخر عقد قبل المائة، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المائتين. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 475 - " بَابٌ لَا تُؤْخذُ في الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ولا ذَاتُ عَوَارٍ ولا تيْسٌ إِلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ " 559 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَتَب لَهُ الَّتى أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ: " ولَا يُخْرَجُ في الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ ولا ذَاتُ عَوَارٍ ولا تَيْسٌ إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ ".   من 121 إلى 200 فيها شاتان. من 201 إلى 300 فيها ثلاث شياه. وما زاد على ذلك في كل مائة شاة، ولا تجب الزكاة إلاّ في سائمتها أما فريضة الفضة فهي ربع العشر ونصابها مائتا درهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على بيان فريضة زكاة الغنم والإِبل والفضة كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " وفي صدقة الغنم " حيث بين زكاة الغنم، كما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. 475 - " باب لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلّا ما شاء الصدق " 559 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن أبا بكر " كتب له التي أمر الله رسوله: ولا يخرج في الصدقة هرمة " أي أن الصِّدِّيق كتب لأنس كتاباً يبين له فيه فريضة زكاة الماشية التي أمر الله رسوله بأخذها من أصحاب المواشي، ومما كتب له في هذا الكتاب: " أنه لا تؤخذ في الزكاة شاة كبيرة السن سقطت أسنانها. " ولا ذات عوار " أي ولا شاة معيبة بعيب شرعي واضح يمنع قبولها في الأضحية مثل الشاة المريضة أو الهزيلة أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 476 - " بَابٌ لَيْسَ فيمَا دُونَ خمْس ذَودٍ صَدَقَةٌ " 560 - عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ فيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوْسَقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ولَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ   العوراء "ولا تيس" أي ولا يؤخذ الذكر من المعز " إلاّ ما شاء المصدق " إلا إذا وافق الساعي على أخذه لكثرة لحمه أو سمنه فلا مانع من ذلك. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. فقه الحديث: دل الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا تؤخذ في الزكاة الشاة المعيبة الواضحة العيب كالمريضة والهزيل والهرمة التي لا تقبل في البيع ولا خلاف في ذلك، فإن كانت كلها معيبة أخذ الوسط عند الجمهور، وكلف بإحضار سليمة عند مالك. ثانياًًً: أنه لا تؤخذ في الزكاة سوى الأنثى وهو مذهب الجمهور، إلاّ إذا كانت كلها ذكوراً فيجزىء الذكر عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجزىء الذكر مطلقاً ولو كان فيها إناث. والمطابقة: في قوله: " ولا يخرج في الصدقة هرمة ". 476 - " باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة " 560 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة "، أي لا زكاة في أقل من خمسة أوسق من الحبوب والثمار، والوسق ستون صاعاً، قال في " تيسير العلام ": والصاع النبوي أقل من الكيلة الحجازيّة، والصاع النجدي بالخمس وخمس الخمس، فيكون النصاب بالصاع النبوي ثلاثمائة صاع، وبالصاع النجدي والكيلة الحجازية مائتي صاع وثمانية وعشرين صاعاً نجدياً أو كيلة حجازية. " وليس فيما دون خمس أواق من الوَرِق " بكسر الراء وهي الفضة "صدقة " أي ولا تجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 خَمسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَة".   الزكاة في أقل من خمس أواق من الفضة والأوقية الحجازية أربعون درهماً فيكون نصاب الفضة مئتي درهم. " وليس فيما دون خمس ذود من الِإبل صدقة " أي ولا تجب الزكاة في أقل من خمس من الإبل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على بيان أنصبة الزكاة، فنصاب التمر والحبوب خمسة أوسق أي ثلثمائة صاع نبوي، وإليه ذهب أكثر أهل العلم (1) خلافاً لأبي حنيفة، حيث أوجب الزكاة في قليلها وكثيرها لعموم قوله: " فيما سقت السماء العشر ". ونصاب الفضة: خمس أواق أي مائتا درهم، فإذا بلغت ذلك ففيها ربع العشر. وأما نصاب الذهب فهو عشرون ديناراً أو مثقالاً، قال في " تيسير العلام ": فيكون اثني عشر جنيهاً سعودياً أو انجليزياً لأن وزنهما واحد. ونصاب الإِبل وهو ما ترجم له البخاري " خمس ذوْد " أي خمس من الإِبل، فإذا بلغت ذلك ففيها الزكاة شاة واحدة، فإذا زادت ففيها فريضة الزكاة المقررة في موضعها، ولا تجب الزكاة فيها إلاّ بثلاثة شروط (2): أن تبلغ نصاباً وأن يحول عليها الحول، وأن تكون سائمة. وأوجب مالك الزكاة في المواشي مطلقاً سائمة أو غير سائمة، وقال الشافعي إن علفت قدراً تعيش بدونه وجبت فيها الزكاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " وليس في خمس ذوْدٍ صدقة ". ...   (1) " فقه السنة ". (2) وهو قول الجمهور كما في " فقه السنة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 477 - " بَابُ الزَّكَاةِ على الزَّوْجِ والأيْتَامِ في الْحِجْرِ " 561 - عَنْ زَيْنَبَ امرأة عبد اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَت: انْطَلَقْتُ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدْتُ امْرَأةً من الأنْصَارِ على البَابِ، حَاجَتُهَا مِثلُ حاجَتِي، فمرَّ علينا، بِلَالٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيجْزِيءُ عَنِّي أن أنْفِقَ علَى زَوْجِي وأيتام لِي في حَجْرِي؟ فَقَالَ: " نَعَمْ، ولَهَا أجْرَانِ، أجْرُ القَرَابَةِ وأجْرُ الصَّدَقَةِ ".   477 - " باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر " 561 - معنى الحديث: تحدثنا الصحابية الجليلة السيدة زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما حديثها هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتقول: " انطلقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "، أي ذهبْتُ إليه في منزله كما جاء في حديث خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى يوم العيد حيث قال فيه: فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، قالت رضي الله عنها: " فوجدت امرأة من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي " أي قضيتها التي تريد السؤال عنها مثل قضيتي تماماً، لأنَّها كانت تريد السؤال عن الصدقة على الأقارب مثلها تماماً " فمر علينا بلال فقلنا: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيجزى عنّي أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري " أي أتجزىء الزكاة وتصح شرعاً إذا دفعتها لزوجي الفقير، وهؤلاء الأيتام الفقراء الذين قمت بتربيتهم. قال العيني: وفي رواية الطيالسي: " وهم بنو أخيها وبنو أختها " " فقال: نعم، لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة " قال الحافظ: أي أجر صلة الرحم وأجر منفعة الصدقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 478 - " بَابُ الاسْتِعْفَافِ عن الْمَسْألَةِ " 562 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ ناساً من الأنْصَارِ سَألوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعْطَاهُمْ، ثمَّ سَألوهُ فأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَألوهُ فَأعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: " مَا يَكُونُ عِنْدِي من خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، ومن يَسْتَعْفِفُ يعفَّهُ اللهُ، ومن يَستَغْن   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الحافظ: واسْتُدل بهذا الحديث على جواز دفع المرأة زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد. اهـ. وقال مالك: إن كان يستعين بما يأخذه على نفقتها فلا يجوز. ثانياًً: جواز إعطاء الصدقة للأيتام في الحجر لما فيه من أجر القرابة، وأجر الصدقة كما جاء في الحديث. ثالثاً: جواز الزكاة على الأقارب الذين لا تلزمه نفقتهم، واستحباب ذلك شرعاً لما فيه من الصدقة والصلة معاً، ولهذا ترجم البخاري في باب آخر بقوله: " باب الزكاة على الأقارب ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون امرأة ابن مسعود لما قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتجزىء عنّي أن أنفق على زوجي وأيتام في حجري قال: نعم " إلخ. 478 - " باب الاستعفاف في المسألة " 562 - معنى الحديث: يحدثنا أبو سعيد رضي الله عنه: " أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده " بكسر الفاء أي حتى انتهى ما عنده من المال، " فقال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم " أي إنّي لا أمنع عنكم شيئاً من المال يكون عندي فأحتفظ به لغيركم، ثم حثهم على القناعة والتعفف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 يُغْنِهِ اللهُ، ومَنْ يَتَصَبَّرَ يُصَبِّرهْ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عَطَاءً خَيْرَاً وأوْسَعَ من الصَّبْرِ".   عن السؤال وطرق الأسباب المشروعة لكسب المال، فقال: " ومن يستعفف يعفه الله " أي ومن يكف نفسه عن السؤال مرة بعد أخرى يمنحه الله العفة، ويجعلها طبيعة له راسخة في نفسه، فيأنف السؤال، ويكرهه بطبيعته، "ومن يستغن يغنه الله " أي ومن يعمل ويسعى ويطرق أسباب الكسب الشريف يهيىء الله تعالى له أسباب الغنى ويغنيه عن الناس "ومن يتصبّر يصبره الله" أي ومن يعود نفسه على الصبر مرة بعد أخرى يمنحه الله إياه حتى يصبح طبيعة له " وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوْسَعَ من الصبر " أي ما أعطى الله أحداً نعمة ولا خلقاً كريماً أفضل ولا أوسع من الصبر، لأنه يتسع لكل الفضائل، فكلها تصدر عنه، وتعتمد عليه من عفة، وشجاعة، وعزيمة، وإرادة، وإباء، وغيرها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في التعفف عن السؤال، لما فيه من إراقة ماء الوجه، وإهدار كرامة الإِنسان، فلا يجوز إلّا لحاجة ماسّة على قدر الكفاية عند العجز عن السعي، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سَوِي ". ثانياًً: أن الأخلاق الكريمة يمكن اكتسابها والوصول إليها عن طريق التعود عليها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ومن يستعف يعفه الله ". والمطابقة: في قوله: " ومن يستعف يعفه الله ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 563 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأنْ يأخُذَ أحدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأتِيَ رَجُلاً فَيَسْألهُ أعْطَاهُ أو مَنَعَهُ ".   563 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده" أي يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله الذي روحه بيده على أن العمل مهما يكن نوعه فهو أفضل من سؤال الناس وإراقة ماء الوجه لهم، وأنه مهما يكن شاقّاً عنيفاً فهو أرحم من مذلّة السؤال " لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه " أي لأن يذهب إلى الغابة فيقتطع الحطب من أشجاره، ويجمعه ويحمله على ظهره حتى يأتي السوق فيبيعه فيه، " خير له "، أي أشرف وأكرم وأرحم له من أن يمد يده لغيره، سواء أعطاه أو منعه، فإن منعه فقد كسر نفسه، وإن أعطاه فقد منّ عليه، وقد قال الشاعر: لَحَمْل الصَخْرِ مِنْ قِمَمِ الجِبَالِ ... أحبُّ إِلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرجَالِ فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في السعي والعمل وطرق الأسباب المشروعة لكسب الرزق بشرف وكرامة وعزّة نفسٍ، وليس في الإِسلام مهنة وضيعة إلَّا فيما حرمه الشرع كالمخدرات والقمار، والتسول إلَّا لضرورة. ثانياًًً: محاربة الإِسلام للتسول والبطالة، ولذلك أوجب السعي والعمل، ولو كان شاقاً " كالاحتطاب " مثلاً. ثالثاً: أن الفقير القادر على الكسب لا تحل له الزكاة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه في هذا الحديث إلى العمل، ولقوله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) وهو مذهب الجمهور وقد نص الشافعية والحنابلة على أنّه لا تجوز الزكاة لقادر على الكسب، وكذلك المالكية، واستثنى الفقهاء من ذلك "القادر على العمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 564 - عَنْ حكيم بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَألتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأعْطَانِي، ثُمَّ سَألتُهُ فأعْطَانِي، ثُمَّ سَألتُهُ فَأعطَانِي، ثُمَّ قَالَ: " يَا حَكِيمُ إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يأكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، واليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى " قَالَ حَكِيمُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ والَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ لا أرزَأُ احَداً بَعْدَكَ شَيْئَاً حَتَّى أفَارِقَ   إذا لم يجد من يستعمله" أو طالب العلم إذا تفرغ له. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له ". 564 - معنى الحديث: يقول حكيم رضي الله عنه: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خضرة " بفتح الخاء وكسر الضاد " حلوة " أي شيء محبوب مرغوب ترغبه النفس وتحرص عليه بطبيعتها، كما تُحَبُّ الفاكهة النضرة، الشهية المنظر، الحلوة المذاق " فمن أخذه بسخاوة نفس " أي فمن حصل عليه عن طيب نفس، وبدون إلحاح وشره " بورك له فيه " أي وضع الله له فيه البركة فينمو ويتكاثر، وإن كان قليلاً، ورزق صاحبه القناعة، فأصبح غنيَّ النفس، مرتاح القلب، وعاش به سعيداً، " ومن أخذه بإشرافِ نفس " أي بإلحاح وشره وبدون طيب نفس " لم يبارك له فيه " أي نزع الله منه البركة، وسلب صاحبه القناعة، فأصبح فقير النفس دائماً ولو أعطي كنوز الأرض، " وكان كالذي يأكل ولا يشبع ", أي كالملهوف الذي لا يشبع من الطعام مهما يأكل منه. " اليد العليا خير من اليد السفلى " أي: اليد المتعففة خير من اليد السائلة لأنّها قد تعالت وترفعت بنفسها عن ذل السؤال، على عكس الأخرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الدُّنْيَا، فَكَانَ أبُو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيماً إلى الْعَطَاءِ، فَيَأبَى أنْ يَقبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فأبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئَاً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ على حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْه حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأبَى أنْ يَأخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأ حَكِيم أحَداً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تُوُفِّيَ ".   التي حطت من قدر نفسها وكرامتها بما عرضت له نفسها من المذلة. " فقلت لا أرزأ أحداً بعدك " أي لا أسأل أحداً شيئاً بعدك " فكان أبو بكر يدعوه إلى العطاء فيأبى أن يقبل منه " فلا يأخذ منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر: " إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم: أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه " قال العيني: وإنما أشهد عمر على حكيم لأنه خشي سوء التأويل فأراد تبرئة ساحته بالإِشهاد عليه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في الاستعفاف عن السؤال والقناعة والرضا بالقليل، وأن اليد العفيفة المتعففة خير عند الله من اليد السائلة، لأنّها يد عليا صانت نفسها عن ذل السؤال. وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًًً: أن من أخذ المال من طرقه المشروعة عن سماحة نفس وقنع بما أعطاه الله منه بارك الله له فيه، وجعل له القليل كثيراً، والعكس بالعكس. ثالثاً: أن سؤال السلطان لا عار فيه كما قال المهلب. والمطابقة: في قوله: " اليد العليا خير من اليد السفلى " لأن المراد باليد العليا اليد المتعففة. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 479 - " بَابُ مَنْ أعْطَاهُ اللهُ شيْئاً مِنْ غَيْرِ مَسْألةٍ ولا إِشْرَافِ نفْسٍ " 565 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِيني الْعَطَاءَ فَأقُولُ أعْطِهِ مَنْ هُوَ أفْقَرُ إلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: " خُذْهُ، إِذا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيء وَأنْتَ غَيْرُْ مُشْرِفٍ ولا سَائِلٍ فَخُذْهُ، ومَالا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ " (1).   479 - " باب من أعطاه الله شيئاً من في مسألة ولا إشراف نفس " 565 - معنى الحديث: يقول عمر رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء " أي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي لعمر رضي الله عنه شيئاً من مال الزكاة على أنه عمولة على عمله فيها، لا على أنه صدقة، لأنه ليس بفقير. " فأقول: أعطه من هو أفقر مني " لأنّه ظن أنه يعطيه إياه على أنه صدقة، " فقال: خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف " أي غير متطلع إليه ولا حريص عليه ولا ساع في سبيله، " فخذه " حلالاً. فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية أخذ العطية بدون سؤال ولا إشراف نفس. فإنه يندب أخذها، وليس فيه دليل على إعطاء الزكاة من لا يستحقها، فإن ما أخذه عمر عمولة لا صدقة، أمّا إذا خالط المال حرام، فقد كرهه (2) مالك والثوري، وأجازه ابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن جبير. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.   (1) أي لا تتطلع إليه، ولا تعلق به قلبك. (2) أي كره أخذ العطية من المال المخلوط بالحرام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 480 - " بَابُ مَنْ سَألَ النَّاسَ تكَثُّراً " 566 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأل النَّاسَ حَتَّى يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْم، وقالَ: إِنَّ الشَّمسَ تَدْنُو يَومَ القِيَامَةِ حتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -"   480 - " باب من سأل الناس تكثراً " 566 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة (1) لحم "، أي ما يزال الرجل المتسول يكثر من التسول ويلحّ في سؤال الناس عن غير عوز وفاقة، وإنما يسأل تكثراً ويذل نفسه ويمتهن كرامته التي أوجب الله عليه صيانتها. فيغضب الله عليه فيذله ويهينه يوم القيامة كما أذل نفسه في الدنيا، ويفضحه على رؤوس الأشهاد، فيسلخ له وجهه كله، حتى يأتي أمام الناس وليس في وجهه قطعة لحم جزاءً وفاقاً لما فعله في الدنيا من إراقة ماء الوجه، " وقال: إنّ الشمس تدنو يوم القيامة " أي تقترب من رؤوس العباد، ويشتد حرها، فيعرقون " حتى ييلغ العرق نصف الأذُن " فإذا وقع ذلك كان أذاها لمن لا لحم في وجهه أشد وألمها أقوى وأعظم، كما أفاده القسطلاني، " فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد " أي ذهبوا إلى الأنبياء السابقين من آدم إلى نوح إلى عيسى يلتمسون منهم الشفاعة لفصل القضاء، فلم يشفعوا لهم، فذهبوا إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فشفّعه الله في خلقه.   (1) بضم الميم وسكون الزاي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 481 - "بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وكَم الغِنَى" 567 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيْس الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الذي لا يَجِدُ غِنى يُغْنِيْهِ، وَلَا يُفْطنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأل النَّاسَ ".   فقه الحديث: دل الحديث على تحريم السؤال على الغني تكثراً، لأن هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على معصية، وقد توعد الله المتسول تكثراً بسلخ وجهه يوم القيامة، كما أراق ماء وجهه في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، لأن السؤال مذلة، والله لا يرضى للمسلم أن يعرّض نفسه لهذه المهانة إلاّ لضرورة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم ". 481 - " باب قول الله تعالى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) وكم الغنى " ومعنى قوله: " وكم الغنى " أي وما مقدار المال الذي يكون به المسلم غنياً لا تحل له الصدقة ولا الأخذ من الزكاة. 567 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس المسكين الذي يطوف " أي ليس المسكين الأولى بأخذ الزكاة هو ذلك المتسول الذي يتجوّل في الأسواق، ويتكفف الناس، ويلح في التسول صباح مساء، " ولكن المسكين " الذي هو أحق بالصدقة والزكاة، هو ذلك الضعيف الحال، " الذي لا يجد غنى يغنيه " أي لا يملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 482 - " بَابُ خرْصِ التَّمرِ " 568 - عن أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: غزَوْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ تَبُوكٍ، فلمَّا جَاءَ وَادِي القُرَى إِذَا امْرَأة في حَدِيْقَةٍ لهَا، فقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابِهِ: اخْرُصُوا وخَرَصَ رَسُولُ اللهِ   إلّا قليلاً من المال، لا يكفي لنفقته ونفقة عياله، وهو مع ذلك صابر متعفف يستر حاله عن الناس " ولا يُفطَنُ له " بالبناء للمجهول، أي لا يشعر به أحد من الناس، ولا يتنبهون لفقره بسبب عفته، وشدة حيائه، وتجمُّلِهِ. " ولا يقوم فيسأل الناس " حتى يعلموا حاجته فيتصدقوا عليه، وفي رواية أخرى: " ولكن المسكين الذي ليس له غنى، ويستحي، ولا يسأل الناس إلحافاً ". الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي. والمطابقة: في قوله: " ولا يقوم فيسأل الناس ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحديد معنى الفقير الذي تحل له الزكاة بأنه هو الذي لا يجد غنى يغنيه، أي الذي لا يجد الكفاية من المال لنفقته ونفقة عياله، فإن وجد الكفاية فهو غني، لا يجوز له الأخذ من الزكاة، واختلفوا في الكفاية، فقالت المالكية والحنابلة كفاية السنة، وقالت الشافعية: كفاية العمر لأمثاله، وقالت الحنفية: امتلاك النصاب الشرعي للزكاة زائداً عن حاجته وحاجة عياله. ثانياًًً: الثناء على الفقير المتعفف، وكونه أحق بالصدقة من المتسول. 482 - " باب خرص التمر " 568 - معنى الحديث: يقول أبو حميد رضي الله عنه: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك " وهي تلك الغزوة التي خرج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة لقتال الروم، "فلما جاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 - صلى الله عليه وسلم - عَشرَةَ أوْسُق، فَقَالَ لَهَا: أحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلَمَّا أتيْنَا تَبُوكَ قَالَ: أمَا إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ ريحٌ شَدِيدَةٌ، فلا يَقُومَنَّ أَحدٌ، وَمَنْ كانَ مَعَهُ بَعِير فَلْيَعْقِلْهُ، فَعَقَلْنَاهَا وهَبَّتْ ريح شَدِيدَةٌ، فقامَ رَجُل فألْقَتهُ بِجَبَل طيَءٍ، وأهدَى مَلِكُ أْيلَةَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَغَلَةً بَيضَاءَ، وكسَاهُ بُرْداً، وكَتَبَ لَهُ ببحرِهِمْ، فَلَمَّا أَتى وَادِيَ القُرَى قَالَ لِلْمَرْأةِ: كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ، قَالَتْ: عَشرَةَ أوْسُقٍ خَرْصَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّي مُتَعَجِّلٌ   وادي القُرى إذا امرأة في حديقة لها" أي: فلما وصلنا وادي القرى وجدنا امرأة في بستان لها يحتوي على بعض النخيل المثمرة، " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: " اخرصوا " وخرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق " أي: وقدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تلك الثمرة التي على النخل إذا جفت تبلغ عشرة أوسق، أي ستمائة صاع من التمر، لأن الوسق ستون صاعاً، " فقال لها أحصي ما يخرج منها " أي كيليها إذا جفت، واعرفي كم صاعاً بلغت، واضبطي عدد كيلها، " فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة "، أي عاصفة قويّة " فلا يقومن أحدٌ، ومن كان معه بعير فليعقله "، أي فليربطه لئلا تحمله " العاصفة وتؤذيه " وهبت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبل طيء " (1) في ضواحي حائل. " وأهدى ملك أيلة " وهي العقبة " للنبي - صلى الله عليه وسلم - بغلة بيضاء " تُسمَّى دلدل، واسم الملك يوحنا بن رُوبَة " وكساه بُرْداً "، أي بعث إليه كسوة فاخرة " وكتب له - صلى الله عليه وسلم - ببحرهم " أي وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك المنطقة البحرية الواقعة على ساحل البحر الأحمر. " فلما أتى - صلى الله عليه وسلم - وادي القرى قال للمرأة: كم جاء حديقتك " أي: كم صاعاً أثمرت حديقتك " قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أي بلغت ثمرتها عشرة أوسق مثل   (1) بتشديد الياء وكسرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 إلى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أراد مِنْكُمْ أنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلَ، فلَمَّا - قَالَ ابْنُ بَكَّارٍ كَلِمَةً مَعْنَاهَا - أشْرَفَ علَى الْمَدِينَةِ قَالَ: " هَذِه طَابَةُ " فَلمَّا رَأَى أحُداً قَالَ: " هَذَا جُبَيْلٌ يُحبُنّاَ وَنُحِبَّهُ ألا أخْبِرُكُمْ بِخَيرِ دوُرِ الأنْصَارِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ، أو دُورِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرجِ، وفي كُلِّ دُورٍ الأنْصَارِ يَعْنِي خَيْراً.   خرص النبي - صلى الله عليه وسلم - تماماً، " فلما أشرف على المدينة " ورأى مبانيها " قال: هذهْ طابة " أي هذه هي المدينة الطيبة التي سماها الله طابة لطيبها " فلما رأى - صلى الله عليه وسلم - أحداً قال: هذا جُبَيْلٌ يحبنا " حقيقة لا مجازاً كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حاجة إلى تأويله " ألا أخبركم بخير دور الأنصار، قالوا: بلى، قال: دور بني النجار ": أي أفضلها قبائل بني النجار، كما أفاده العيني، " وفي كل دور الأنصار "، أي وجميع قبائل الأنصار لها مزية وشرف وفضل في الجاهلية والِإسلام. فقه الحديث: دل الحديث على فوائد وأحكام كثيرة " منها " مشروعية الخرص (بفتح الخاء، وقد تكسر) وهو تقدير ما على النخل من الرطب تمراً، ليحصى على مالكه، فيتوصل به إلى تحديد فريضة الزكاة فيها، وهو مذهب الجمهور، عملاً بحديث الباب، وحديث عتاب بن أسيد " أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وفيه انقطاع، لأن ابن المسيب لم يسمع من عتّاب وعنه - صلى الله عليه وسلم -: " إذا خرصتم فخذوا (1) ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث   (1) وفي نسخة لأبي داود: فجذوا، والجذاذ قطع ثمر النخل، وفي نسخة: فجدوا، بالدال بمعنى القطع أيضاً. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 483 - " - بَابُ الْعُشُرِ فِيمَا يُسْقَى مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ أو بالْمَاءِ الْجَارِي " 569 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أوْ كَانَ عَثَرِياً الْعُشْرُ، ومَا سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشُرِ ".   فدعو الربع" أخرجه الخمسة. قال مالك: فإذا أخطأ الخارص في التقدير، وكان مأموناً وتحرى الصواب وجب دفع ما خرص. وقال ابن حزم: إذا غلط الخارص أو ظلم رُدَّ إلى الحق. وأنكر أبو حنيفه الخرص، وقال: إنه ظن وتخمين ورجم بالغيب لا يلزم به حكم شرعي. والمطابقة: في قوله: " وخرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. 483 - " باب العشر فيما يسقى من ماء السماء أو الماء الجاري " 569 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثرياً " (1) وهو ما سقى بالأنهار والعيون والوديان الجارية " العشر " أي عشر غلته. " وما سقي بالنضح " بفتح النون وسكون الضاد (2)، أي: وكل زرع سقي بسبب إخراج الماء من البئر بالبعير أو الآلة فإن فيه " نصف العشر " أي نصف عشر غلته. الحديث: أخرجه أيضاً أصحاب السنن. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيما سقت السماء إلخ ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان فريضة زكاة الحبوب والثمار، وأنها العشر فيما سقى بالأمطار والعيون والأنهار دون آلة أو مؤنة، ونصف العشر فيما سقى بآلة من ساقية أو مضخة أو نحوهما. ثانياًًً: دل الحديث بمفهومه على أنّ ما سقي نصف العام بآلة ونصفه بغيرها فيه ثلاثة أرباع العشر، قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه خلافاً.   (1) بفتح العين والثاء. (2) من قولهم نضح البعير الماء إذا حمله من البئر ليسقى به الزرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 484 - " بَابُ أخذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صرِامِ النَّخلِ، وَهَلْ يُتركُ الصَّبِيُّ فيمسُّ تمر الصَدَقَة " 570 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُؤتَى بالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَمِ النَّخْلِ، فَيَجِىءُ هذا بِتَمْرِهِ، وهَذَا مِنْ تَمْرِهِ، حتى يَصِير عِنْدَهُ كَوْماً مِنْ تَمْرٍ، فجعَلَ الْحَسَنُ والْحُسَيْنُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَلْعَبَانِ بذَلِكَ التَّمْرِ، فأخَذَ أحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا في فِيهِ، فَنَظر إِلَيْهِ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فأخرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ: " أمَا عَلِمْتَ أنَّ آل مُحَمَّدٍ لَا يَأكلُونَ الصَّدَقَةَ ".   484 - " باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس تمر الصدقة " 570 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالتمر عند صرام النخل " أي يأتيه الناس بزكاة تمورهم عند قطع التمر عن النخل بعد إدراكه وتمام جفافه (1)، " فجلس الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر فأخذ أحدهما " وهو الحسن " تمرة " من تمور الزكاة فنظر إليه رسول الله " نظرة نهي ولوم له على ما فعل، " فأخرجها من فيه "، أي فأخرج الحسن تلك التمرة من فمه، " فقال: أما علمت أن آل محمد لا يأكلوِن الصدقة "، أي أما علمت أنّ بني هاشم لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة تكريماً وتشريفاً لهم " لأنها من أوساخ الناس " كما قال - صلى الله عليه وسلم - (2). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن زكاة التمر تؤخذ   (1) قال الإسماعيلي أراد بقوله عند صرام النخل: أي بعد أن يصير تمراً. (2) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 485 - " بَابٌ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ في عَبْدِهِ صَدَقَةٌ " 571 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ على الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ في عَبْده ولا فَرَسِهِ ".   عند جذاذه وتمام إدراكه وجفافه، لأن الصحابة كانوا يأتون بها عند صرام النخل، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًًً: أن الصدقة مطلقاً فريضة أو تطوعاً لا تحل لآل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحديث الباب، وحديث سلمان رضي الله عنه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة ". أخرجه أحمد، أما آل النبي الذين لا تحل لهم الصدقة فهم عند مالك وأبي حنيفة بنو هاشم فقط، ويدخل فيهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس، وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد " أخرجه البخاري وأحمد. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يؤتى بالتمر عند صرام النخل ". 485 - " باب ليس على المسلم في عبده صدقة " 571 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسة " أي: لا يجب على المسلم أن يُخْرج زكاةً عن عبده ولا عن فرسه وإن كانت من الأشياء المملوكة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا زكاة في العبيد والجواري وهو مذهب الظاهرية، وقال الجمهور: إن كانت للتجارة ففيها الزكاة. ثانياًًً: أن لا زكاة في الخيل، وهو مذهب الظاهرية، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 486 - " بَابٌ إذَا تحوَّلَتِ الصَّدَقَةُ " 572 - عنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتِي بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَريْرَةَ فَقَالَ: " هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّة ".   الجمهور: إن كانت للتجارة ففيها الزكاة، وقال أبو حنيفة. إن كانت سائمة ففيها الزكاة. 486 - " باب إذا تحولت الصدقة " 572 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلحم تصدق به على بِرَيْرَة " مولاة عائشة، وكانت امرأة فقيرة يتصدق عليها الناس، فأتت يوماً بشيء من ذلك اللحم الذي تصدق به عليها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطته إياه فتقبله منها " فقال: هو عليها صدقة وهو لنا هدية " أي فأكل منه - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن هذا اللحم الذي هو بالنسبة لبريرة صدقة، قد صار بالنسبة إلينا هدية وحل لنا الأكل منه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على أن الصدقة إذا وصلت إلى يد صاحبها وتسلّمها المتصدق عليه صارت ملكاً له، يحق له أن يهديها، ويبيعها، ويتصرف فيها كيف يشاء، فيحل للغني وللهاشمي أن يأخذها منه بيعاً أو هدية. ويؤخذ منه أيضاً جواز الهدية لآل بيت النبوة وتحريم الصدقة عليهم، والفرق بين الهدية والصدقة أن الهدية عطية يقصد بها ثواب الدنيا، والصدقة يقصد بها ثواب الآخرة. والمطابقة: من حيث إن الصدقة على بريرة صارت هدية منها بسبب تملكها لها، كما أفاده العيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 487 - " بَابٌ في الرِّكازِ الخمس " 573 - عَنْ أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدَنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ ". 488 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) وَمُحَاسَبَةِ الْمُصَدِّقينَ مَعَ الإِمَامِ " 574 - عنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   487 - " باب في الركاز الخمس " 573 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء جبار"، أي أن ما تحدثه البهيمة من تلف أو ضرر فهو هدر لا ضمان فيه، " والبئر جبار، والمعدن جبار " فإذا وقع إنسان في بئر ماء، أو منجم ذهب، فمات فلا ضمان فيه، " وفي الركاز الخمس " أي ويجب إخراج الخمس من كل كنز جاهلي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه إذا انفلتت الدابة فأتلفت مالاً أو نفساً، ولم يكن صاحبها حاضراً، فلا ضمان عليه، أما إن كان معها صاحبها فإنه يضمن ما حدث منها، وهو مذهب مالك. ومن وافقه من أهل العلم (1). ثانياًًً: أن من وقع في بئر أو منجم فمات فلا ضمان فيه. ثالثاً: وجوب الخمس في الركاز وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الستة. 488 - " باب قول الله تعالى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) ومحاسبة المصدقين مع الإِمام "   (1) قال مالك: يضمن من يكون معها مالكاً أو أجيراً أو مستعيراً مطلقاً، وقال أحمد وأبو حنيفة: يضمن الراكب ما أتلفته بيدها، أما ما أتلفته برجلها فلا اهـ. شرح البخاري للشماعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 " اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ ". 489 - " بَابُ وَسْمَ الإِمَامَ إِبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ " 575 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "غَدَوْتُ إلى رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أبي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ، فَوَافَيْتُهُ   أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث المتعلقة بقوله تعالى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) ومحاسبة الإِمام للمصدقين، جمع مصدّق، وهو الساعي والعامل الذي يجمع الزكاة من أصحابها. 574 - معنى الحديث: يقول أبو حميد رضي الله عنه: " واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأسد " بفتح الهمزة وسكون السين أي من: الأزد، وهي قبيلة عربية معروفة، أي أرسله ساعياً وعاملاً لجمع الزكاة من أصحابها، " فلما جاء حاسبه " على الزكاة التي جمعها حرصاً منه - صلى الله عليه وسلم - ومحافظة على حقوق المستحقين لها. فقه الحديث: دل الحديث على أنه يجب على الإِمام أن يعيّن ساعياً لجمع الزكاة، وأن يحاسبه عليها محافظة على حقوق ذويها والمستحقين لها، ويسمى هذا الساعي عاملاً، وجمعه عاملون، كما في قوله تعالى: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) ويسمى مصدقاً، وهو المعْنِيُّ بقول البخاري: ومحاسبة المصدق. أي محاسبة الإِمام للساعي كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فلما جاء حاسبه ". 489 - " باب وسم الإِمام إبل الصدقة " 575 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: "غدوت إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 بِيَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبلَ الصَّدَقَةِ".   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه"، أي ذهبت صباحاً بعبد الله ابن أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أن يحنكه، والتحنيك: هو أن تمضغ تمرة ثم تجعل في حنك الصبي، وتحك فيه حتى تتحلل في فمه، وكانوا يفعلون ذلك تبركاً بريقه - صلى الله عليه وسلم -. " وافيته في يده الميسَمُ " أي فوجدته في يده الميسم، وهو آلة من حديد يكوى بها البعير فتُحْدِثُ فيه علامة تميزه عن غيره، " يسم إبل الصدقة " أي يكوي بهذه الآلة إبل الصدقة لتحدث فيها " وسماً " أي علامة خاصة بها تختلف عن سواها فتميزها عن غيرها. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب وسم إبل الصدقة وبقرها وغنمها، فأما الإِبل والبقر فتوسم في أفخاذها أما الغنم فتوسم في آذانها. ثانياًً: أنه يستحب تحنيك الصبي وأن يقوم به أهل الخير والفضل والصلاح. والمطابقة: في قوله: " يسم إبل الصدقة ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 " أبوابُ صدَقَةِ الْفِطْرِ " 490 - " بَابُ فَرْض صَدَقَةِ الْفِطْرِ " 576 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زكَاةَ الْفِطر صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أو صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ والْحُرِّ، والذَّكَرِ والأنثى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأمَرَ بِهَا أن تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاس إلى الصَّلَاةِ ".   " أبواب صدقة الفطر " أي الأبواب التي نذكر فيها الأحاديث المتعلقة بزكاة الفطر. وصدقة الفطر: لفظ إسلامي لم يكن معروفاً قبل الإِسلام وإنما هو من الأداء الشرعية والمصطلحات الإِسلامية الخاصة بديننا الحنيف، كما أفاده العيني. والحكمة في مشروعيتها تهذيب النفس وإصلاح الطبيعة البشرية والتسامي بها، وهي طُهْرَةٌ للصائم، وطعمة للمساكين، وإغناء لهم عن السؤال يوم العيد. 490 - " باب فرض صدقة الفطر " 576 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعاً من تمر " أي شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة زكاة الفطر، وحدد حكمها، فجعلها فرض عين على كل مسلم ومسلمة. ثم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مقدارها صاع وهو خمسة أرطال وثلث عند الجمهور، وثمانية أرطال عند أبي حنيفة. ثم بين الأصناف التي تخرج منها، وأنها من غالب قوت البلد كما قال رضي الله عنه: "صاعاً من تمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 أو صاعاً من شعير" وفي رواية أخرى " صاعاً من طعام " وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر ". اهـ. فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأصناف لأنّها غالب قوت أهل المدينة، ثم بين - صلى الله عليه وسلم - أنها تجب: " على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير " ويخرجها عنه وليه " والكبير من المسلمين " خاصة " وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " أي بعد صلاة الفجر وقبل خروج الناس إلى صلاة العيد. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ زكاة الفطر فرض على كل مسلم يملك ما يزيد على قوته وقوت عياله، سواء كان ذكراً أو أنثى عبداً أو حراً، صغيراً أو كبيراً، وقال أبو حنيفة: إنها واجبة وليست فرضاً وتجب على من يملك النصاب الشرعي، وليس عليه دليل. ثانياًًً: أنّ مقدارها صاع، وهو خمسة أرطال وثلث عند الجمهور، وثمانية أرطال عند أبي حنيفة. ثالثاً: أنها تخرج من غالب قوت البلد من حنطة أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقط (1) أو غيرها، وإنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأصناف، لأنها غالب قوت المدينة في العهد النبوي. رابعاً: قال أبو حنيفة: الواجب من القمح نصف صاع فقط، لقول معاوية على المنبر: -أي على منبر السجد النبوي- " إني أرى مدين من حمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، وموافقة الصحابة على قوله هذا. وقد اختاره ابن تيمية (2)، والجمهور على أن في البر صاعاً كغيره لعموم الأحاديث. خامساً: أنه يستحب إخراجها قبل صلاة العيد وسيأتي تفصيله. والمطابقة: في قوله: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر ".   (1) وهو اللبن الحامض المجفف. (2) " الاختيارات الفقهية " لابن تيمية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 491 - " بَابُ الصَّدَقَةِ قَبلَ الْعِيدِ " 577 - عن ابنِْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ ". 578 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: " كُنَّا نُخْرِجُ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ طَعَام،   491 - " باب الصدقة قبل العيد " أي هذا باب يذكر فيه حكم إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد وأن إخراجها في هذا الوقت بالذات مستحب لا واجب، وأن الواجب هو إخراجها في جميع نهار عيد الفطر سواء كان قبل الصلاة أو بعدها، قال الحافظ في " الفتح ": وحمل الشافعي التقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار. 577 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدثنا: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة " أي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وسائر المسلمين أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب. أن يخرجوا زكاة الفطر قبل خروج الناس لصلاة العيد، قال العيني: ظاهره يقتضي وجوب الأداء قبل صلاة العيد، لكنه محمول على الاستحباب، وذلك ليحصل الغناء للفقراء في هذا اليوم، ويستريحوا عن الطواف. الحديث: أخرجه الخمسة، أي ما عدا ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة " وأقل مقتضيات الأمر الندب والاستحباب وهو ما ترجم له البخاري. 578 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد رضي الله عنه: "كنا نخرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرُ والزَّبِيبُ والأقطُ والتَّمْرُ".   في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر" أي كان الوقت الذي نخرج فية زكاة الفطر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو يوم عيد الفطر " صاعاً من طعام " أي وكانت صدقة الفطر مقدار صاع من غالب قوت المدينة وطعامها الذي نأكله فيها، " وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط " (1) أي وكان غالب طعام المدينة من الأصناف المذكورة، ومنها الأقط. والمطابقة: في قوله: " كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر ". ويستفاد من الحديثين ما يأتي: أولاً: استحباب إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، وأن لها وقتين: وقت ندب واستحباب: وهو قبل الصلاة، لقول ابن عمر رضي الله عنهما، كما في الحديث الأول: " أمر - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة " وأقل مقتضيات الأمر الاستحباب. ووقت وجوب: وهو يوم عيد الفطر سواء كان ذلك قبل الصلاة أو بعد الصلاة لقول أبي سعيد: " كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر، فمن أخرجها في يوم العبد (2) فقد أدّى ما عليه من زكاة الفطر ". وقد أخرج البخاري حديث أبي سعيد بعد حديث ابن عمر ليوضح أن الأمر في حديث ابن عمر للاستحباب فقط وهو مذهب الجمهور حيث قالوا: إنما يستحب إخراجها قبل الصلاة ولا يجب، وقال ابن حزم: يجب إخراجها قبل الصلاة متمسكاً بظاهر حديث ابن عمر، وقال: يحرم تأخيرها، واختلفوا في يوم الفطر الذي تجب الزكاة فيه فقال أبو حنيفة ومالك: من فجر اليوم إلى الغروب، والباقون على أنه من غروب شمس آخر رمضان. ثانياًً: أن الفطرة من غالب قوت البلد. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ.   (1) بفتح الهمزة وكسر القاف، وقد تسكن، ويتخذ من اللبن المخيض، ويطبخ ثم يترك حتى يمصل اهـ. كما في (المصباح). (2) أي اليوم الأول من أيام العيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتابُ الْحَجِّ " 492 - " بَاب وجُوبِ الْحَجِّ وَفضلِهِ " 579 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْن الْعَبَّاس رَدِيفَ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَتْ امْرَأةٍ من خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظرٌ إليهَا وتَنْطر إليْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ   492 - " باب وجوب الحج وفضله " أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث الدالة على وجوب الحج ... إلخ. والحج لغة: كما قال الخليل هو " كثرة القصد إلى من تعظمه ". وشرعاً: قصد البلد الحرام لأداء عبادة الطواف والسعي والوقوف بعرفة، وسائر المناسك استجابة لأمر الله تعالى محرِماً بنيّة الحج. والمختار عند الجمهور أنّه شرع في السنة السادسة من الهجرة لأنها هي السنة التي نزل فيها قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بناءً على أن المراد بالإِتمام " إقامة الحج " ويؤيده قراءة علقمة، ومسروق والنخعي: "وأقيموا الحج والعمرة لله " رواه الطبراني بسند صحيح، ورجح ابن القيم افتراض الحج في السنة التاسعة أو العاشرة (1). أما حكمه وشروطه فسيأتي بيانها. 579 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "كان   (1) انظر " زاد المعاد " لابن القيم (2/ 101). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وَجْهَ الْفَضْلِ إلى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللهِ على عِبَادِهِ في الْحَجِّ قَدْ أدْرَكَتْ أبي شَيْخاً كبيراً لا يَثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ، أفأحُجُّ عَنْهُ، قَالَ: " نَعَمْ "، وذلِكَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ.   الفضل بن العباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أي راكباً خلفه على الدابّة " فجاءت امرأة من خثعم " أي: فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة جميلة من خثعم وهي قبيلة يمنية تسأل رسول الله عن الحج، " فجعل الفضل ينظر إليها " أي ينظر إلى جمالها وحسن صورتها " وتنظر إليه " أي وكانت هي أيضاً تبادله نظرة بنظرة، وتكرر النظر إلى وجهه لوسامته وملاحته وحسن صورته، لأنه رضي الله عنه كان شاباً وسيماً مليح الصورة كما في الرواية الأخرى حيث قال: وكان الفضل رجلاً وضيئاً " وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر " أي فلما لاحظ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما تبادل النظرات صار يدير وجه الفضل إلى الجهة الأخرى، ليكف بصره عن النظر إليها، ولتقلع هي أيضاً عن النظر إليه " فقالت: يا رسول الله إنّ فريضة الله على عباده في الحج قد أدركت أبي شيخاً كبيراً " أي أن الله قد شرع الحج وفرضه على عباده عندما أصبح أبي شيخاً هرماً طاعناً في السن، أو أنه لم تتوفر فيه شروط الحج إلاّ في هذه السن المتأخرة من عمره التي أصبح فيها عاجزاً ضعيف الجسم منهوك القوى، حتى أنه " لا يثبت على الراحلة " أي لا يستقر جسمه على الدابة التي يركبها، ولهذا فقد أصبح عاجزاً عن الحج، " أفأحج عنه؟ " أي هل يجوز أن أنوب عنه في الحج، وهل يجزىء عنه ذلك في حج الفريضة. وتسقط عنه حجة الإِسلام وتبرأ ذمته منها. " قال: نعم " حُجِّي عنه، فإنه تصح النيابة عنه فِي الفريضة ما دام عاجزاً عنها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الحج وكونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 ركناً من أركان الإِسلام لقولها: " إن فريضة الله على عباده " حيث سمّت الحج فريضة وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولأن الحديث دل على تأكيد الأمر بالحج حتى إن العاجز عنه لعارض بدني من شيخوخة، أو غيرها لا يعذر في تركه، ولا يسقط عنه، كما قال العيني، بل يحج عنه بدليل أن الخثعمية لما قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أفأحج عنه؟ قال: "نعم " والحج واجب بالكتاب والسنة والإِجماع بشروطه المجمع عليها عند الفقهاء، وهي الإِسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة. وتتحقق الاستطاعة عند الجمهور بثلاثة أمور: أمن الطريق، والزاد، والراحلة، ومعنى الزاد أن يملك المسلم ما يكفيه ويكفي من يعوله كفاية فاضلة عن حوائجه الأصلية من مسكن وملبس ومركب، أمّا الراحلة فمعناها في عصرنا هذا أن يجد أجرة الطائرة أو السيارة أو الباخرة التي تمكنه من الوصول والعودة. وقال مالك: لا يشترط في الحج الزاد والراحلة، وإنما معنى الاستطاعة عنده القدرة على الوصول راكباً أو ماشياً والتمكن من الحصول على الزاد ولو بالسؤال. والحج واجب في العمر مرة واحدة، لحديث الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرّة واحدة؟ قال: " بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع " أخرجه أبو داود وابن ماجة والدراقطني والحاكم. ثانياًً: دل الحديث على جواز الاستنابة في حج الفريضة لعجز ميئوس من زواله وهو قول الجمهور وابن حبيب من المالكية، سواء وجب الحج حال صحته أو حال عذره، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا تجزىء النيابة عنه إلاّ إذا لزمه الحج حال عذره. وقال مالك والليث: لا يحج أحد عن أحدٍ إلاّ عن ميت لم يحج حجة الإِسلام (1) لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ   (1) قال العثماني في " رحمة الأمة ": وتجوز النيابة في حج الفرض عن الميت بالاتفاق، وفي حج التطوع عند أبي حنيفة وأحمد، وللشافعي قولان أصحهما المنع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 493 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) " 580 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثم يُهِلُّ حِينَ تَسْتَوِي بِهِ قَائِمةً ".   سَبِيلًا) والاستطاعة لا تكون إلا بالنفس، فمن لم يستطع بنفسه لا يلزمه الحج. وأجابوا عن حديث الباب بجوابين: أولهما: أن هذا الحديث معارض للقرآن والعمل بالقرآن أرجح. وثانيهما: أن هذا الحكم خاص بالخثعمية لما في رواية ابن حزم التميمي حيث جاء فيها: " وليس لأحد بعد " رواه ابن حبيب في " الواضحة " بإسنادين مرسلين. ثالثاً: مشروعية كشف المرأة عن وجهها في الحج. والمطابقة: في قولها: " إنّ فريضة الله على عباده في الحج " حيث سمت الحج فريضة، وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وأيضاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم " في جواب قولها: " أفأحج عنه؟ ". الحديث: أخرجه الستة. 493 - " باب قول الله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) " قال مجاهد: سبب نزول الآية أنهم كانوا لا يركبون، فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب، ولذلك ذكر البخاري هذه الآية. 580 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركب راحلته" أي بعيره " من ذي الحليفة " أي من آبار علي الذي هو ميقات أهل المدينة " ثم يهل حين تستوي قائمة " أي ثم يرفع صوته بالتلبية عندما تقوم به دابته وتعتدل في قيامها. الحديث: أخرجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الركوب في الحج لركوبه - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، كما في حديث الباب، ولا خلاف بين العلماء في جواز الركوب والمشي معاً، لقوله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجَالًا) أي مشاة (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أي وركباناً على الإِبل الضامرة، وإنما اختلفوا أيّهما أفضل في الحج، فذهب البخاري ومالك والشافعي (1) وغيرهم إلى تفضيل الركوب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - حج راكباً، وذهب آخرون إلى أن المشي أفضل لأن الله تعالى قدم المشاة على الركبان، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما: مرفوعاً: " من حج إلى مكة ماشياً كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم " قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: " كل حسنة بمائة ألف حسنة " أخرجه الحاكم " وصححه وقال الحافظ الذهبي في " التلخيص ": ليس بصحيح، أخشى أن يكون كذباً، وعيسى (يعنى ابن سوادة الذي في سنده) قال أبو حاتم: منكر الحديث. ثانياًً: أنه يستحب للحاج والمعتمر أن يبدأ الإِحرام والتلبية إذا استوت به راحلته قائمة، أو ركب سيارته متوجهاً لطريقه، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه استدل مالك وأكثر الفقهاء (2) على أن يهل الراكب إذا استوت راحلته قائمة، واستحب أبو حنيفة أن يكون إهلاله عقب الصلاة. اهـ. فالأفضل للمحرم عند المالكية والشافعية أن يبدأ الإِحرام والتلبية إذا استوت به راحلته من ذي الحليفة لحديث الباب. ولما رواه مسلم عن جابر " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أهللنا -أي لما أردنا أن نهل- أن نحرم إذا توجهنا ". وقال أبو حنيفة: الأفضل التلبية عقب الصلاة لأنه - صلى الله عليه وسلم - " لبى في دبر صلاته " (3) أخرجه الترمذي والنسائي كما في نصب الراية ". ويجوز   (1) " تفسير القرطبي " ج 12. (2) " شرح العيني على البخاري " ج 9. (3) " الفقه الإسلامي وأدلته ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 494 - " بَابُ الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ " 581 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وكَانَتْ زَامِلَتَهُ ".   عند الحنابلة على السواء الإِحرام عقب الصلاة أو إذا استوت به راحلته، أو بدأ السير، فإذا استوى على راحلته لبّى. والمطابقة: في قوله: " رأيت رسول الله يركب راحلته ". 494 - " باب الحج على الرحل " 581 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج على رحل " وهو الشداد الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه صاحبه، بمنزلة السرج للفرس " وكانت زاملته " أي وكانت تلك الرحل وحدها هي حاملته، وحاملة أمتعته، وزاده: " ولم يكن معه سواها اللهم إلّا بعيره ". والمطابقة: في قوله: " وكانت زاملته ". الحديث: أخرجه أيضاً ابن أبي شيبة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الاقتصار في الحج على قدر الكفاية، والابتعاد عن كل مظاهر الإِسراف والبذخ، لأنه ليس رحلة سياحية للنزهة والاستجمام، وإنما هو عبادة وقربة، ورياضة روحية، وجهاد للنفس، وقد قال عمر رضي الله عنه: " شدّوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين (1)، فسماهِ جهاداً لأنه يجاهد فيه الإِنسان نفسه بالصبر على مشقة السفر، وترك الملاذ، ودرء الشيطان عن الشهوات (2). ثانياًً: جواز الركوب في الحج، بل هو الأفضل.   (1) أخرجه البخاري. (2) " شرح العيني على البخاري " ج 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 495 - " بَابُ فضلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ " 582 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ نَرَى الْجِهَادَ أفْضَلَ الأعْمَالِ أفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: " لا، لَكُنَّ أفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌ مَبْرُورٌ ".   495 - " باب فضل الحج المبرور " 582 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال " أي: لقد سمعنا الكثير عن فضائل الجهاد حتى صرنا نظن أنه أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى " أفلا نجاهد؟ " الهمزة للاستفهام الاستخباري، وقد قُدِّمت على فاء العطف لما في الاستفهام من الصدارة في الكلام، كما أنها تقدم أيضاًً على الواو، وثم (1) نحو أو لا يعلمون أثم إذا ما وقع والنية بها التأخير، وما عداها من حروف العطف لا تقدم عليه عند جمهور النحاة. " والمعنى " إذا كان هذا هو فضل الجهاد، فأخبرنا ألا يجوز لنا أن نجاهد فنشارك الرجال في هذا الفضل العظيم. " قال: لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور " والظاهر أن " لا " تفيد النهي والنفي معاً، ولكن (بفتح اللام وضم الكاف وتشديد النون). أي لا تقاتلن يا معشر النساء، لأن الجهاد المسلح لم يشرع لكنَّ، وليس هو أفضل الأعمال بالنسبة للمرأة، أمَّا إذا أردتن أن تعرفن أفضل الأعمال وأشرف الجهاد بالنسبة إليكن فإنه " الحج المبرور " أي المقبول عند الله تعالى المستوفي لأحكامه الخالي من الرياء والسمعة والإِثم والمال الحرام، وفي رواية " لكِنّ " بزيادة ألف بعد اللام، وكسر الكاف وتشديد النون، والرواية الأولى أنسب. الحديث:   (1) " حاشية الجمل على الجلالين " ج 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 583 - عَنْ أبِي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ حَجَّ لله فلَمْ يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أمُّهُ ".   أخرجه أيضاًً النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لكن أفضل الجهاد حج مبرور ". 583 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حج لله فلم يرفث " أي فلم يفعل شيئاً من الجماع أو مقدماته " ولم يفسق " أي: ولم يرتكب إثماً أو مخالفة شرعية صغيرة أو كبيرة تخرجه عن طاعة الله تعالى " رجع كيوم " بالجر على الإِعراب (1)، وبالفتح على البناء " ولدته أمه " أي عاد بعد حجه نقياً من خطاياه، كما يخرج المولود من بطن أمه، أو كأنه خرج حينئذ من بطن أمه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " رجع كيوم ولدته أمه ". فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أن الحج المقبول الخالي من الرياء والسمعة والمال الحرام، ومن الجماع ومقدماته، ومن الآثام والسيئات صغيرها وكبيرها، لا يعدله شيء من القربات، لأنّه أفضل الأعمال بعد الإِيمان بالله تعالى. وقد اختلفت الروايات في الحج والجهاد أيُّهما أفضل، والتحقيق تفضيل الحج، لأنه ركن من أركان الإِسلامٍ الخمسة، وفرض عيني على كل مسلم، رجلاً كان أو امرأة إذا كان مستطيعاً، في حين أنّ الجهاد فرض كفاية إلّا في حالات استثنائية فقط، وذلك إذا تعرضت بلاد المسلمين لمداهمة العدو، فالأصل هو أفضلية الحج. أما تقديم الجهاد في حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله "، قيل: ثم ماذا؟   (1) " شرح الشرقاوي على مختصر الزبيدي " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 496 - " بَابُ مُهَلِّ أهُلِ مَكَّةَ لِلْحَج وَالْعُمْرَةِ " 584 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشَّام الْجُحْفَةَ، ولأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِل، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ   قال: " جهاد في سبيل الله " قيل: ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور " أخرجه البخاري. فإنما قدم الجهاد للحاجة إليه في أوّل الإِسلام، حيث كان الجهاد فرض عين على كل مسلم. ثانياًً: أن المرأة لم يشرع لها القتال وحمل السلاح، وإنما جهادها الحج فقط، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول: " لا لكن أفضل الجهاد حج مبرور ". وقال الشاعر: كتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذّيُوْلِ ثالثاً: دل الحديث الثاني على أن الحج الخالي عن المخالفات الشرعيّة صغيرة أو كبيرة يكفر جميع الذنوب المتعلقة بحقوق الله تعالى حتى الكبائر بشرط التوبة، كما رجحه الأكثرون، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رجع كيوم ولدته أمه ". 496 - " باب مهل أهل مكة للحج والعمرة " 584 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما عن مواقيت الحج فيقول: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهلِ المدينة ذا الحليفة " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأهل كل جهة من بلاد المسلمين مكاناً معيّناً يُحْرِمُونَ منه للحج أو العمرة، يسمى " ميقاتاً مكانياً " فجعل ميقات أهل المدينة ذا الحليفة في الجنوب الغربي من المدينة على بعد ستة أميال، " ولأهل الشام الجحفة " وهي قرية بالقرب من " رابغ "، وضعت عندها لوحة باسمها " ولأهل نجد قرن المنازل " (بفتح القاف وسكون الراء) بين مكة والطائف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الْحَجَّ والْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فمِن حَيْثُ أنْشَأ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ".   يسمى حالياً بالسيل الكبير، على بعد ستة عشر فرسخاً أو 48 ميلاً من مكة، " ولأهل اليمن يلملم " جبل من جبال تهامة يبعد عن مكة ثمانين (كم) كما في " تيسير العلام " " هن لهن ولمن أتى عليهن " أي هذه المواقيت لأهل تلك البلاد، ولكل من مرَّ بها، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها بدون إحرام " ممن أراد الحج والعمرة " أما من لم يردهما فلا مانع من ذلك، " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " أي فإنه يحرم من المكان الذي بدأ منه الحج من منزله أو مسجد قريته " حتى أهل مكة من مكة " أي يحرمون من مكة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحديد المواقيت المكانيّة للإِحرام بالحج والعمرة، وهي خمسة، ذكر منها في الحديث أربعة، أما الميقات الخامس، فهو " ذات عرق " لأهل العراق، ويقع في الشمال الشرقي على بعد 94 كم من مكة، والتحقيق أنه ثابت بالنص، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقته كما يراه الجمهور لحديث عائشة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقت لأهل العراق ذات عرق " أخرجه أبو داود والنسائي. ثانياًًً: أنّ هذه المواقيت هي لأهل تلك الجهات، ولكل من مرّ عليها، ولو لم يكن من أهلها، فلا يجوز له مجاوزتها دون إحرام إذا كان حاجاً أو معتمراً، فإن تجاوز الميقات فقد ترك واجباً، وعليه دم، وأما من أراد دخول مكة لغير حج ولا عمرة فإنه يجوز له بغير إحرام كما يدل عليه مفهوم قوله: " ممن أراد الحج والعمرة "، وهو مشهور مذهب الشافعي (1)، وقال الجمهور: يجب الإِحرام على كل من يريد دخول مكة، ولو لغير نسك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يدخل أحد مكة إلاّ محرماً " أخرجه   (1) وهي رواية عن أحمد اختارها ابن تيمية وابن عقيل مستدلين بحديث الباب اهـ. كما في " تيسير العلام ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 497 - " بَابٌ " (1) 585 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أناخَ بالبَطْحَاءِ التي بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ". 498 - " بَابُ خُرُوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ " 586 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرةِ وَيَدْخُلُ مِنْ   البيهقي بإسناد جيد. ثالثاً: أن ميقات أهل مكة منها، وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " حتى أهل مكة من مكة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 497 - " باب " 585 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة " قال العيني: ويعرفها أهل المدينة " بالمعرس " وقد أناخ بها - صلى الله عليه وسلم - في رجوعه من مكة إلى المدينة، وكان يبيت بها، وهي أسفل من مسجد ذي الحليفة، وقد نزل به - صلى الله عليه وسلم - " فصلى بها " أي فيها. ويستفاد منه: استحباب النزول بالبطحاء عند العودة إلى المدينة، وليس من سنن الحج. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. 498 - " باب خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق الشجرة " 586 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: "أن   (1) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " كذا في الأصول بغير ترجمة، وهو بمنزلة الفصل من الأبواب التي قبله ومناسبته لها من جهة دلالة حديثه على استحباب ركعتين عند إرادة الإحرام من الميقات. وقد ترجم عليه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 طَرِيقِ المُعَرَّسِ وأنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ إلى مَكَّةَ يُصَلِّي في مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ وِإذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وبَاتَ حتَّى يُصْبِحَ".   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج" إلى العمرة أو الحج " من طريق الشجرة " أي من طريق الشجرة التي عند مسجد ذي الحليفة " ويدخل من طريق المعرس " وهو بطحاء ذي الحليفة ويسمى " المعرس " لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رجع إلى المدينة نزل فيه آخر الليل، فسمي معرساً من التعريس، وهو النزول آخر الليل، وكان - صلى الله عليه وسلم - ينزل فيه ويصلي فيه، ويبيت فيه، ويقع أسفل من مسجد ذي الحليفة، قال ابن عمر: " وكان إذا خرج إلى مكة " أي إذا خرج لحج أو عمرة " يصلي في مسجد الشجرة " أي يصلى في مسجد ذي الحليفة، وكان يعرف في ذلك العصر بمسجد الشجرة " وإذا رجع صلى ببطن الوادي " أي وإذا رجع من سفره نزل آخر الليل في وسط وادي ذي الحليفة، وصلى فيه، وبات فيه إلى الصباح (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن للمحرم أن يصلّي ركعتين في مسجد ذي الحليفة، ينوي بها سنة الإِحرام، يقرأ في الأولى بالفاتحة والكافرون، وفي الثانية بالفاتحة والإِخلاص. ثانياًً: أنه يستحب النزول بالمعرس عند العودة إلى المدينة والمبيت فيه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان يخرج من طريق الشجرة ".   = بعض الشارحين (نزول البطحاء) والصلاة بذى الحليفة). (ع). (1) ولذلك سمي المعرس من التعريس وهو النزول آخر الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 499 - " بَابُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ " 587 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: " أتانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ في هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وقُلْ: عُمرَةً في حَجَّةٍ ".   499 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " العقيق واد مبارك " 587 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه يقول: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي " وهو جبريل كما في رواية البيهقي " فقال: صل في هذا الوادي المبارك " أي صل ركعتي الإِحرام في وادي العقيق، ووصفه بالبركة، لأن أهل المدينة يستبشرون به إذا سأل، ويستدلون به على غزارة الأمطار " وقل: عمرةً في حجةٍ " بنصب عمرة على حكاية اللفظ، أي قل جعلتها عمرة في حجة، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ، أي هذه عمرة في حجة، و" في " إما بمعنى " مع " أي عمرة وحجة معاً، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحرم بهما معاً، أو تكون " في " على أصلها: أي عمرة مدرجة في حجة، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أحرم أولاً مفرداً بالحج وحده، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل وادي العقيق وبركته ونفعه لأهل المدينة قاطبة وللمسلمين عامة، ومن مزاياه أنه إذا سال ارتفع منسوب المياه بالمدينة. ثانياًًً: مشروعية ركعتي الإِحرام في مسجد ذي الحليفة وهي سنة. لقول جبريل: " صل في هذا الوادي المبارك ". ثالثاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، لأنه أمر أن يقول: "عمرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 588 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمِا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - رُئِيَ وهُوَ مُعَرِّسٌ بذي الْحُلَيْفَةِ بِبَطن الْوَادِي فَقِيلَ لَهُ: إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ ". 500 - " بَابُ غَسْلِ الْخلُوقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثيابِ " 589 - عَنْ يَعْلَى بْنِ أمَيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   في حجة ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وقل: عمرة في حجة ". 588 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر في حديثه هذا " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رُئي وهو مُعَرِّسٌ بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له: إنك ببطحاء مباركة " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما كان نازلاً في آخر الليل بذي الحليفة، رأى وهو نائم في وسط الوادي جبريل عليه السلام، يقول له: إنك ببطحاء مباركة، أي في أرض رملية خصبة كثيرة الخيرات والبركات. والمطابقة: في قوله: " إنك ببطحاء مباركة ". فقة الحديث: دل هذا الحديث على فضل وادي العقيق، وكثرة خيراته، لا سيما لأهل المدينة. وعلى أنه يستحب النزول والمبيت فيه، والصلاة به، اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 500 - " باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب " أي هذا باب يذكر فيه مشروعية غسل الخلوق من الثوب ثلاث مرات، وهو نوع من الطيب مخلوط بالزعفران. 589 - ترجمة راوي الحديث: وهو يعلى بن أمية التميمي صحابي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أرنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالْجِعْرَّانَةِ ومَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أصْحَابِهِ، جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ تَرى في رَجُلٍ أحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ مَتَضَمِّخٌ بِطِيِبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فأشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى يَعْلى، فَجَاءَ يَعْلَى وَعَلَى رَأسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَوْبٌ قَدْ أظلَّ بِهِ، فَأدْخَلَ رَأسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنهُ فَقَالَ: " أينَ الَّذِي سَأل عَنِ الْعُمْرَةِ "، فَأتِي بَرجُلٍ فَقَالَ: " اغْسِلْ الطِّيبَ الذي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وانْزَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، واصْنَعْ في عُمْرَتِكَ كما تَصْنعُ في حَجَتِكَ ".   جليل (1)، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وعشرين، حديثاً اتفق الشيخان على ثلاثة، قتل بصفين سنة 38 هـ. معنى الحديث: أن يعلى بن أمية رضي الله عنه " قال لعمر: أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه " أي أخبرني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه الوحي لأراه في أثناء ذلك وأتعرّف على كيفية نزوله عليه. " فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة " (بكسر الجيم وإسكان العين وفتح الراء المخففة) موضع بين مكة والطائف وهو أحد مواقيت العمرة لمن كان بمكة. " جاءه رجل فقال يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب " أي: وهو متلطخِ بالطيب في ثوبه وبدنه " فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - " عن إجابته، ولم يجبه فوراً   (1) قال الحافظ في " الفتح " وهو المعروف بابن منية، بضم الميم وسكون النون، وهي أمه، وقيل جدته، وهو والد صفوان الذي روى عنه، وليست رواية صفوان عنه لهذا الحديث بواضحة، لأنه قال فيها: " أن يعلى قال لعمر " ولم يقل إن يعلى أخبره أنه قال لعمر، فإن يكن صفوان حضر مراجعتهما، وإلا فهو منقطع، لكن سيأتي في أبواب العمرة من وجه آخر عن صفوان بن يعلى عن أبيه. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 بعد سؤاله، " فجاءه الوحي فأشار عمر " أي فأشار إليَّ عمر بيده لكي أحضر لديه - صلى الله عليه وسلم - وأرى كيفية نزول الوحي عليه، " فجئت وعلى رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظل به، فأدخلت رأسي " وراء الثوب، " فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمرّ الوجه وهو يغط " بفتح الياء وكسر الغين، أي تتردد أنفاسه بصوت مسموع " ثم سرِّي عنه " أي: ثم انقطع عنه نزول الوحي فهدأت نفسه. وأخذت تنكشف عنه تلك الحالة " فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات " أي كَرِّرْ غسله ثلاث مرات، وفي رواية قال له: " اغسل عنك أثر الخلوق " بفتح الخاء، فأمره بإزالة أثر الطيب عن بدنه وثوبه " وانزع عنك الجبة " لأنها مخيط "واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك" أي اصنع إذا كنت معتمراً ما تصنعه حاجاً من اجتناب الطيب وغيره، لأنّ محظورات الحج والعمرة واحدة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اغسل الطيب ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم التطيب عند الإِحرام بالنسبة إلى الثياب، بكل ما يبقى أثره لوناً أو رائحة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر الرجل بغسل الطيب ثلاث غسلات وأن ينزع الجبة، وهو ما ترجم له البخاري، والجمهور على أنه لا يكره الطيب على البدن عند الإِحرام، بل يستحب لقول عائشة: " كنت أطيّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " أخرجه الجماعة وسيأتي إيضاحه. ثانياًً: أن من لبس مخيطاً أو أصاب طيباً وهو محرم ناسياً أو جاهلاً، ثم بادر بإزالته لا فدية عليه، وكذلك المحظورات الأخرى، وهو قول الشافعي وأحمد وداود، خلافاً لمالك وأبي حنيفة. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 501 - " بَابُ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ " 590 - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أطيَبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ". 502 - " بَابُ مَنْ أهَلَّ مُلبِّداً " 591 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ مُلبِّداً ".   501 - " باب الطيب عند الإِحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم " 590 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أطيّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِإحرامه " أي عند إحرامه " ولحله " أي وعند تحلله من الاحرام بعد رمي الجمرة. فقه الحديث: استدل الجمهور بهذا الحديث على استحباب الطيب عند الإِحرام خلافاً لمالك، حيث منع من ذلك مستدلاً بحديث يعلى بن أمية رضي الله عنه المذكور في الباب السابق، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل المحرم المتطيب اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وأجابوا عنه بأنه منسوخ بحديث عائشة هذا، لأنه كان بالجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " كنت أطيب رسول الله لإِحرامه ". 502 - " باب من أهل ملبداً " 591 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "سمعت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 503 - " بَابُ الإِهْلالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ " 592 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدَ " يَعْنِي مَسْجِدِ ذَي الْحُلَيفَةِ.   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل ملبداً" أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته بالتلبية حال كونه واضعاً الصمغ على رأسه لحفظه من القمل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب رفع الصوت بالتلبية، وفي الحديث عن زيد بن خالد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " جاءني جبريل فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج " أخرجه أحمد وابن ماجة، وهو قول الجمهور: إلاّ أن مالكاً استثنى مساجد الجماعات، فلا يرفع صوته فيها ما عدا المسجد الحرام. ثانياًً: استحباب التلبيد للمحرم وقاية للشعر من القمل، ولا خلاف في ذلك إلاّ أن المالكية خصصوه بالشعر اليسير الذي لا يؤدي تلبيده إلى ستر الرأس. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " يهل ملبِّداً ". 503 - " باب الإِهلال عند مسجد ذي الحليفة " 592 - معنى الحديث: يقول ابن عمر: " ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلّا من عند المسجد " أي لم يبدأ الإِحرام والتلبية إلاّ من مسجد ذي الحليفة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب ابتداء الإِحرام والتلبية من مسجد ذي الحليفة بعد الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة، وقالت المالكية والشافعية: الأفضل بدء الإِحرام والتلبية إذا استوت به الراحلة قائمة، وقد تقدم. ثانياًً: أن التلبية تبدأ مع الإِحرام. الحديث: أخرجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 504 - " بَابُ الرَّكُوبِ والارْتِدَافِ في الحَجِّ " 593 - عن ابْنِ عَبِّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أن أُسَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ رِدْفَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَةَ إلى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلى مِنى، فَكِلاهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُلبَي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبةِ ".   الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ما أهل رسول الله إلاّ من عند المسجد". 504 - " باب الركوب والارتداف في الحج " 593 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن أسامة كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة " أي راكباً خلفه " ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يلبّي حتى رمى جمرة العقبة " أي: استمر في التلبية إلى أن رمى جمرة العقبة، وهى الجمرة الكبرى غربي منى مما يلي مكة. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الركوب في الحج والارتداف على الدابة، وليس فيه تعذيب للحيوان، لأنه خلق لذلك. ثانياًً: استمرار التلبية حتى رمي جمرة العقبة بأول حصاة، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال أحمد وإسحاق: يلبّي حتى يُنهي الجمرات كلها، وقال مالك: حتى تزول الشمس من يوم عرفة، وأما المعتمر فيلبي حتى يستلم الحجر. والمطابقة: في قوله: " كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 505 - " بَابُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثيابِ والأرْدِيَة والأُزُرِ " 594 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "انْطَلَقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ ورِدَاءَهُ هُوَ وأصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْه عَنْ شَيءٍ مِنَ الأرْدِيَة والأزُرِ تُلْبَسُ إلَّا المُزَعْفَرَةَ التي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى على الْبَيْدَاءِ أهلَّ هُوَ وأصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وذَلِكَ لِخَمْسِ بقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وسَعَى بِيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ، وَلَمْ يُحِلّ مِنْ أجْلِ بُدْنِهِ، لأنهُ قلَّدَهَا، ثُمَّ   505 - " باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأُزر " 594 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة " أي: خرج منها - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم السبت ما بين الظهر والعصر لخمس بقين من ذي القعدة " بعد ما ترجل " أي سرح شعره، " وادهن " أي تطيب بالمسك، " فلم ينه عن شيء من الأردية والأزرِ تلبس إلاّ المزعفرة " أي المصبوغة بالزعفران " التي تردع على الجلد " أي تؤثر في بدن لابسها بلونها أو ريحها " فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل " أي حتى اعتدل بناقته على البيداء، رفع صوته بالتلبية، ولم يكن هذا الإِهلال بداية إحرامه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مسجد ذي الحليفة، وأهل إهلاله الأوّل من هناك، ثم أهل إهلاله الثاني حين استقلت به ناقته، ثم أهل للمرة الثالثة حين علا شرف البيداء، وهو ما ذكره هنا " فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة " أي أنه قدم صبيحة اليوم الرابع منه " فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة " أي طاف طواف القدوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 نَزَلَ بأعلى مَكَّةَ عِنْدَ الحَجُونِ، وهو مُهِلّ بالحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوافِهِ بِهَا حَتَّى رَجِعَ مِن عَرَفَة، وأمَرَ أصْحَابَهُ أن يَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ، وبيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّروا مِنْ رُووسِهِم، ثُمَّ يُحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأتُهُ فهِي لَهُ حَلَال، والطِّيبُ والثَيابُ ". 506 - " بَابُ الْتَّلْبيَةِ " 595 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لَا شَرِيكَ لَكَ   " ولم يحل من أجل بدنه " أي ولم يتحلل من إحرامه من أجل أنه قد ساق الهدي " ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون " وهو جبل مشرف على المحصب على بعد ميل ونصف من البيت " ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة " أي لشغلٍ منعه من ذلك " وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة " ثم يقصّروا من رؤوسهم " أي أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ويتحللوا بالطواف والسعي، " وذلك لمن لم يكن معه بدنة " أي ولكن أمره - صلى الله عليه وسلم - بفسخ الحج إلى العمرة خاص بمن لم يسق الهدي. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: "دل هذا الحديث على جواز الإِحرام بكل إزار ورداء إلا الثياب المصبوغة بالزعفران، وهو نبت أصفر كالسمسم، له رائحة عطرية، فإنها تحرم، وهي تحرم مطلقاً عند المالكية، ولو لم يكن لها رائحة، وقال الجمهور: تجوز إذا ذهبت رائحتها. والمطابقة: في قوله: " فلم ينه عن شيء من الأردية والأزُر إلاّ المزعفرة ... " إلخ. 506 - " باب التلبية " 595 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: "أن تلبية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 لَبَّيكَ إِنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ". 507 - " بَابُ الإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ " 596 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بذِي الْحُلَيْفَةِ أمَرَ برَاحِلَتِهِ فَرُحِّلَتْ، ثمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ استَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قائماً، ثُمَّ يُلبَي حتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثم يُمْسِكُ حتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوىً بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك" أي أن الصيغة التي كان يلبي بها هي " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " أي أكرر إجابتي لك في امتثال أمرك بالحج، فأنت المستحق للشكر والثناء، لأنك المنفرد بالكمال المطلق، ولأنك المنعم الحقيقي، وما من نعمة إلّا وأنت مصدرها، وأنت المتفرد بالملك الدائم، وكل ملك لغيرك إلى زوال. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التلبية في الحج، وهي سنة عند الجمهور، واجبة عند مالك، تجبر بالدم، شرط في الإِحرام عند أبي حنيفة. ثانياًً: بيان صيغة التلبية المشروعة المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك " ... إلخ. 507 - "باب الإِهلال مستقبل القبلة" 596 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما: " كان إذا صلى بالغداة بذي الحليفة " أي إذا صلى الصبح بوقت الغداة " بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت " أي أمر بإعداد دابته فأعدّت، ووضع عليها الرحل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 اغتَسَلَ، وَزَعَمَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذَلِكَ". 508 - " بَابُ التَّلْبِيَةِ إِذَا انحَدَرَ في الوَادِي " 597 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:   " ثم ركب، فإذا استوت به "، أي فإذا وقفت به " استقبل القبلة قائماً، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم " أي حتى يصل إلى حدود الحرم " ثم يمسك " أي ينقطع عن التلبية " حتى إذا جاء ذا طوى " (بضم الطاء وفتحها وكسرها) وهو موضع عند باب مكة بأسفلها عند مسجد عائشة ويعرف ببئر الزاهر " بات فيه حتى يصبح فإذا صلى الغداة " أي الصبح " اغتسل " هناك " وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك " أي وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ما فعلت. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استقبال القبلة عند الإِهلال بالتلبية عقب ركوب السيارة من الميقات، لقوله: " فإذا استوت به استقبل القبلة، قائماً ثم يلبي " وهو مستحب للحاج إن أمكنه. ثانياًً: استحباب المبيت بذي طوى، وصلاة الصبح فيها، والاغتسال لدخول مكة وهو سنة، وإنما يستحب المبيت بها لمن كانت في طريقه، كما أفاده النووي. والمطابقة: في قوله: " استقبل القبلة قائماً ثم يلبي ". 508 - " باب التلبية إذا انحدر في الوادي " أي هذا باب يذكر فيه مشروعية التلبية إذا هبط وادياً كما تدل عليه الأحاديث المذكورة فيه 597 - معنى الحديث: لهذا الحديث بداية وسبب كما في الأصل من " صحيح البخاري " عن مجاهد قال: كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أما مُوسى فكأني أنظر إليه إذَا انْحَدَر في الوَادِي يلبِّي ". 509 - " بَابُ قول اللهِ تعَالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) " 598 - ْ عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أشهر الحجِّ شوَالٌ وذو القعدة، وعشرُ من ذي الحجة ".   فذكروا الدجال أنه قال: مكتوب بين عينيه كافر، فقال ابن عباس: لم أسمعه، ولكنه قال: " أما موسى فكأني أنظر إليه إذا انحدر من الوادي يلبي " أي كأني أشاهده الآن، وأراه بعيني رؤيا حقيقية، وهو يهبط وادي الأزرق بين مكة والمدينة ملبياً، وفي رواية مسلم: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بوادي الأزرق قال: كأني أنظر إلى موسى واضعاً أصبعيه في أذنيه، ماراً بهذا الوادي، وله جؤار إلى الله تعالى بالتلبية ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إذا انحدر في الوادي يلبّي ". فقه الحديث: دل الحديث على استحباب التلبية عند كل هبوط وصعود وفي بطون الأودية. 509 - " باب قول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على تفسير قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) فإن الله قد أخبرنا في هذه الآية الكريمة أنه قد جعل للحج أشهراً محددة معينة معروفة عند الناس، وجعل من هذه الأشهر ميقاتاً زمانياً له، فما هي هذه الأشهر التي جعلها الله ميقاتاً زمانياً للحج، هذا ما سنتعرف عليه في الأثر القادم. 598 - معنى الأثر: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "أشهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 510 - " بَابُ التَّمَتُّعِ والإِقْرانِ والإِفْرَادِ بالحَجِّ وفسخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَديٌ " 599 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانُوا يَرَوْنَ أن الْعُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أفْجَرِ الْفُجُورِ في الأرْضِ،   الحج" التي شرع الله تعالى الحج فيها وجعلها ميقاتاً زمانياً للحج هي " شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " يريد رضي الله تعالى عنه أن الأشهر المعلومات، المذكورة في الآية الكريمة، هي الأشهر المعروفة عند العرب بأشهر الحج، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، هذه هي الأشهر المعلومات للحج التي قال الله تعالى فيها: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ). الأثر: أخرجه البخاري والدارقطني. فقه الأثر: دل هذا الأثر على ما يأتي: أولاً: دل هذا الأثر على تفسير الآية الكريمة وبيان الميقات الزماني للحج، وهي الأشهر المذكورة، فمن أحرم فيها فقد أحرم بالحج في وقته، واختلفوا فيمن أحرم قبلها، فقال الشافعي: الإِحرام فيها واجب، لا ينعقد الحج في غيرها، وقال غيره ينعقد في غيرها، ولا يصح شيء من أفعال الحج إلاّ فيها. ثانياًًً: دل الأثر على دخول يوم النحر وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يدخل، وقال مالك: يدخل في أشهر الحج شهر الحج كله. والمطابقة: ظاهرة. 510 - " باب التمتع والإِقران والإِفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي " 599 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانوا " أي العرب في الجاهلية " يرون أن العمرة في أشهر الحج " أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَيَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَراً، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وعَفَا الأَثَرْ، وانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بالْحَجِّ، فَأمرَهُمْ أن يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عنْدَهُمْ، فَقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: " حِلٌّ كُلُّهُ ".   يعتقدون أن الإِحرام بالعمرة فيها " من أفجر الفجور " أي من أعظم المعاصي، ويحرمون العمرة إلى نهاية محرم، " ويجعلون المحرم صفراً " أي ويتلاعبون في الأشهر الحرم على حسب أهوائهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، وهو النسيء الذي ذمه الله تعالى في قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) إلخ " ويقولون إذا برا (1) " بفتح الباء والراء " الدبر " بفتح الدال والباء، وهو الجرح الذي يكون في ظهر الإِبل، بسبب اصطكاك الأقتاب، أي إذا شفيت الجراحات التي في ظهر الإِبل، والتي تحدث بسبب الحمل عليها، وكثرة احتكاكها في أسفارها الطويلة، " وعفا الأثر " أي اندرست آثار أقدام الإِبل التي تحدثها في سيرها، " وانسلخ صفر " (2) أي وانتهى شهر صفر الذي هو في الحقيقة شهر محرم بسبب النسيء " حلت العمرة لمن اعتمر " أي فعند ذلك تجوز العمرة لمن أرادها " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " أي دخلوا مكة " صبيحة رابعه " أي صبيحة يوم الأحد الموافق لليوم الرابع من ذي الحجة. " فأمرهم أن يجعلوها عمرة " أي أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ويتحللوا بالطواف والسعي " فتعاظم ذلك عندهم " أي فتعاظم عندهم مخالفة العادة التي كانوا عليها من تأخير العمرة عن أشهر الحج كما قال العيني، وفي رواية: " فكبر ذلك عندهم "، وروي أنّهم قالوا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلّا خَمْسٌ أي إلاّ خمسة أيام أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا   (1) بدون همزة. (2) قال " الحافظ في " الفتح ": وهذه الأسماء تقرأ ساكنة الراء لإرادة السجع. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 600 - عَنْ حَفْصَهً زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَأنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أنت مِنْ عُمْرتَكِ! قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيي، فَلا أحلُّ حَتَّى أنْحَرَ".   المني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " قد علمتم بأني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون ". اهـ. كما في حديث جابر. " فقالوا: يا رسول الله أي الحل " أي ما هي نوعية هذا الحل؟ هل هو تحلل خاص ببعض الأشياء، أو عام في جميعها؟ " قال: حل كله " أي بل هو تحلل عام فيحل لكم كل شيء من الأشياء التي كانت محرمة عليكم أثناء العمرة، بما في ذلك الجماع. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فأمرهم أن يجعلوها عمرة ". 600 - معنى الحديث: أن حفصة رضي الله عنها " قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل " وسبب سؤالها هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ الحج ويجعلها عمرة، يتحلل منها بالطواف والسعي، ففعلوا ذلك، أما هو - صلى الله عليه وسلم - ومن ساق الهدي فبقوا على إحرامهم، فسألته زوجته حفصة لِمَ حلّ الناس ولَمْ تحلل؟ " قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل " بفتح التاء أي ما المانع لك أن تفعل ما فعلوا، وأن تحل كما حلوا، ما دمت قد أمرتهم به؟ تريد أن تعرف السبب " قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي " أي أني كنت قارناً -فلبدت رأسي- بالصمغ، وقلدت الهدي وسقته معي، وذلك يمنعني من التحلل قبل نحر الهدي " فلا أحل (1) حتى أنحر " أي فلا أتحلل من   (1) بفتح الهمزة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 651 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بالْحَجِّ مُفْرَداً، فَقَالَ لَهُمْ: " أحِلُّوا من إحْرَامِكُمْ بَطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةَ، وَقَصَروا، ثمَّ أقِيمُوا حَلالاً، حتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التروِية، فَأهِلُّوا بالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً "، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ، فَقَالَ: " افْعَلُوا مَا أمَرْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْلا أنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الذِّي أمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ".   إحرامي حتى أنحر الهدي بمنى. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي. والمطابقة: في قولها: " ما شأن الناس حلوا بعمرة " حيث - صلى الله عليه وسلم - ذلك على تمتعهم بالعمرة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - أيضاًً: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ". حيث دل ذلك على أنه كان قارناًْ. 601 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه: " أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن (1) معه " من المدينة إلى مكة في حجة الوداع " وقد أهلوا بالحج مفرداً " أي أحرموا مفردين بالحج " فقال لهم " عند قدومهم إلى مكة " أحلوا من إحرامكم " أي افسخوا الحج إلى العمرة، وتحللوا من عمرتكم بالطواف والسعي، " ثم أقيموا حلالاً " يحل لكم كل شيء حتى الجماع " حتى إذا كان يوم التروية " وهو اليوم الثامن من ذي الحجة " فأهِلوا "، أي أحرموا " بالحج "، وتوجهوا إلى عرفة، " واجعلوا التي قدمتم بها متعة (2) " أي تمتعاً بالعمرة، " قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج " أي كيف نجعلها تمتعاً وقد نوينا الحج مُفْرداً "فقال: افعلوا ما أمرتكم   (1) البُدْن بضم الباء وسكون الدال أي الإِبل المهداة أي الكعبة المشرفة. (2) بضم الميم وسكون التاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم" أي لفعلت مثل الذي أمرتكم، وفسخت الحج إلى العمرة. " ولكن لا يحل مني حرام " أي لا يحل في شيء من محظورات الإِحرام " حتى يبلغ الهدي محله " أي حتى يصل الهدي إلى المكان الذي ينحر فيه بمنى يوم النحر. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " أهلو بالحج مفرداً " حيث دل على إفرادهم بالحج عند خروجهم من المدينة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أحلوا من إحرامكم بطوافٍ " حيث دل أمره - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بالتمتع عند دخولهم مكة. فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على مشروعية الأنساك الثلاثة في الحج: الإِفراد، والقران، والتمتع. أما الافراد: فلقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلاّ أنه الحج، وقول جابر: " وقد أهلوا بالحج مفرداً "، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ". وأما القران: فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، ولهذا قال لحفصة: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ". وهناك أحاديث أخرى صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، منها قول أنس " حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله، وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما " أخرجه الشيخان وأبو داود، وحديث عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجةٍ ". أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجة. وأما جواز التمتع: فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدموا مكة أمر من لم يسق منهم الهدي أن يجعلها عمرة، ويتحلل بالطواف والسعي، وأبطل ما كان يعتقده العرب في الجاهلية من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور كما في حديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 ابن عباس رضي الله عنهما. واختلفوا أيها أفضل؟ فقال أحمد في المشهور عنه وبعض الشافعية واللخمي من المالكية: التمتع أفضل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به أصحابه، ودعاهم عندما قدموا مكة إلى فسخ الحج إلى العمرة، وتمنى أنه لو يسق الهدي حتى يجعلها عمرة ويتحلل مثلهم، وهو لا يختار فيما يأمر به إلاّ الأفضل، وهو أفضل أيضاًً لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإِمام أحمد. واختار مالك الإِفراد وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره من أهل العلم، واحتجوا على أفضليته بأدلة: أولها الأحاديث الصحيحة التي تدل على أنه كان مفرداً عن جابر وابن عمر وعائشة وابن عباس، ففي حديث عائشة " وأهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " وهو لا يحتمل إلاّ الإفراد، وفي حديث جابر " أنّه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه. وقد أهلوا بالحج مفرداً " كما رواه الشيخان، وفي حديث ابن عمر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفرداً " وفي حديث ابن عباس: " أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " أخرجه مسلم فهذه الأحاديث الصحاح دالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم مفرداً، ورواتها من أضبط الرواة وأصحهم، أضف إلى ذلك أن المفرد لا دم عليه وانتفاء الدم عنه مع لزومه في التمتع والقران دليل أفضليته، لأن الكامل في نفسه الذي لا يحتاج إلى جبره بالدم أفضل من المحتاج إليه كما في " أضواء البيان "، ثم إن الافراد هو الذي عليه الخلفاء الراشدون وهم أفضل الناس وأتقاهم وأشدهم اتباعاً لسنته - صلى الله عليه وسلم -. ومما يدل على أفضليته أيضاًً إجماع الأمة على جوازه دون كراهة مع اختلافهم في غيره، فقد كره عمر وعثمان التمتع، كما كره بعضهم القران. اهـ. كما في " أضواء البيان " (1). وقال الثوري وأبو حنيفة: القران أفضل، واختاره ابن القيم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً، وقال ابن تيمية: " القِران أفضل من التمتع إن ساق هدياً، وهو إحدى الروايتين عن أحمد "   (1) وقال النووي في " الروضة ": تفضيل الإفراد على التمتع والقران، شرطه أن يعتمر تلك السنة يعني من بلده، فلو أخر العمرة عن سنته فكل من التمتع والقران أفضل منه. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 511 - " بَابٌ مِنْ أيْنَ يَخرُجُ مِنْ مَكَّةَ " 602 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءَ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا التي   قال في " تيسير العلام ": هذا هو الصحيح الذي يسهل رد الأدلة الصحيحة إليه، وقد ساق ابن القيم ما يزيد على عشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك وكثيرٌ منها في " الصحيحين ". منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً -ثم قال: - هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه مسلم. " وحديث عمر " قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: " أتاني الليلة آتٍ من ربي عزّ وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة " أخرجه البخاري. وحديث سراقة بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " (1) قال: وقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع "، أخرجه أحمد، وإسناده ثقات. وحديث جابر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً " أخرجه أحمد. قال النووي وأما ما جاء في بعض الروايات من أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفرداً فمعناه أنّه أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً، فمن روى أنه كان مفرداً وهم الأكثرون اعتمدوا أوّل الإِحرام، ومن روى أنّه كان قارناً اعتمد آخره. والمطابقة: في كون هذه الأحاديث تدل على مشروعية التمتع والقران والإِفراد. 511 - " باب من أين يخرج من مكة " 602 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كداء " بفتح الكاف والمد والجر بالفتحة لأنه   (1) وقد تقدم عن الإمام أحمد أن التمتع أفضل، وأنه آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم -. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 بالبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَنِيَّةِ السُّفْلَى". 512 - " بَابُ مَا ذُكِرَ في الْحَجَرِ الأَسْوَدِ " 603 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ جَاءَ إلى الْحَجَرِ الأسْودِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: " إِنِّي أعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا إِنِّي رَأيْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ".   اسم لا ينصرف "من الثنية العليا " وهي الطريق العالية التي ينزل منها الناس إلى المعلى " التي بالبطحاء " أي: الواقعة بجانب الأبطح أو المُحَصَّبِ " وخرج من الثنية السفلى " وهي التي عند باب الشبيكة قرب شعب الشاميين، وتسمى كُدَى (1). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وخرج من الثنية السفلى ". فقه الحديث: دل الحديث على استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج من السفلى لمن تيسر له ذلك اتباعاً للسنة. 512 - "باب ما ذكر في الحجر الأسود" 603 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه " جاء إلى الحجر الأسود فقبله " اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع " وإنما أراد عمر بقوله هذا: أن تقبيله للحجر لم يكن عن اعتقاد أن له أي تأثير من نفع أو ضر، وإنما فعل ذلك تعظيماً لأوامر الله، واتباعاً لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - " ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك " أي إنما قبلتك اقتداءً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الطبري: وإنما قال ذلك لأن الناس كانوا حديثي   (1) بضم الكاف وفتح الدال والألف المقصورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 513 - " بَابُ مَنْ كَبَّرَ في نوَاحِي الْكَعْبَةِ " 604 - عن ابْنِ عِبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَا قَدِمَ أبى أن يَدْخُلَ الْبَيْتَ وفيه الآلِهَةُ، فأَمَرَ   عهد بعبادة الأصنام (1)، فخشى أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. فقه الحديث: دل الحديث على أن من سنن الطواف تقبيل الحجر الأسود أول الطواف بلا صوت بعد استلامه ولمسه بيده اليمنى أو بكفيه (2)، فإن لم يستطع تقبيله قبَّل يده لقول نافع: " رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله " أخرجه مسلم، قال النووي: وهذا الحديث محمول على من عجز عن تقبيل الحجر، وإلا فالقادر يقبل الحجر، وهذا الذي ذكرناه من استحباب تقبيل اليد بعد الاستلام للعاجز هو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال القاسم بن محمد التابعي المشهور ولا يستحب التقبيل، وبه قال مالك في أحد قوليه (3). الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك ". 513 - " باب من كبر في نواحي الكعبة " 604 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم " مكة يوم الفتح " أبى " أي كره "أن يدخل البيت   (1) " شرح العيني " ج 9. (2) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3. (3) " شرح النووي على مسلم " ج 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 بِهَا فأخْرَجَتْ، فأخْرجُوا صُورَةَ إبْراهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وفي أيدِيهِمَا الأزْلَامُ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " قاتَلَهُمُ اللهِ أما وَاللهِ قد عَلِمُوا أنَّهُمَا لمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ " فَدَخَلَ الْبَيْتَ فكَبَّرَ في نَوَاحِيهِ ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ ".   وفيه الآلهة" أي والأصنام معلقة على جدرانه، ومنصوبة عليه، " فأمر بها فأخرجت. فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل " أي ومن ضمنها تمثالان لإبراهيم وإسماعيل " وفي أيديهما الأزلام " أي أقداح الأزلام، قال القرطبي (1): ويقال: كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام، يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئاً، فإن كان عليه: أمرني ربي، خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره " فقال رسول الله: قاتلهم الله أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " أي أن هذه الصور التي صوروا فيها إسماعيل وإبراهيم والأزلام في أيديهما صور كاذبة لا تمت إلى الواقع بصلة، لأنهم يعلمون علم اليقين أنهما لم يستقسما بالأزلام طول حياتهما. " فدخل البيت وكبر في نواحيه " أي في جهاته الأربع " ولم يصل فيه " هكذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في الكعبة عندما دخلها، لكن ثبت في حديث بلال رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة، وهو مقدم عليه، لأنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، وشاهد ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، ولم يدخل معه ابن عباس رضي الله عنهما. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لمن دخل الكعبة أن يكبر في جهاتها الأربع. ثانياًًً: أنه يستحب دخول الكعبة للحاج وغيره، وليس من المناسك عند الجمهور. ثالثاً: نفى ابن عباس رضي   (1) " تفسير القرطبي " ج 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 514 - " بَابٌ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ " 605 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَتْهُمُ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأمَرَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَرْمُلُوا الأشْواطَ الثَّلَاثةَ، وأنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أنْ يَأمُرَهُمْ انْ يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الإِبقَاءُ عَلَيْهِمْ".   الله عنهما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى في الكعبة، لكن المعتمد أنّه صلى فيها لحديث بلال الذي ذكرناه، والجمهور على صحة الصلاة فيها فرضاً أو نفلاً، واستحب الشافعية الصلاة فيها. والمطابقة: في قوله: " فكبر في نواحيه ". 514 - " باب كيف كان بدء الرمل " 605 - معنى الحديث: أن قريشاً أطلقت الشائعات الكاذبة على أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أضعفتهم حمى المدينة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يثبت للناس كذب هذه الإشاعات، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في عمرة القضاء (1) أن يرملوا أي يسرعوا في الثلاثة الأشواط الأولى من الطواف، ما عدا ما بين الركنين " ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلاّ الإبقاء عليهم " أي إلاّ الشفقة عليهم والرفق بهم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل الحديث على أن من سنن الطواف (2) للرجال الرملُ   (1) وكانت في السنة السابعة من الهجرة سميتْ عمرة القضاء، لأنها كانت قضاء لعمرة الحديبية التي صدتهم عنها قريش في السنة التي قبلها. (2) قال في " تيسير العلام ": يؤخذ منه استحباب الرمل في كل طواف وقع بعد قدوم، سواء كان لنسك أو لا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 515 - " بَابُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أوَّلَ مَا يَطُوف وَيَرْمُلُ ثَلَاثاً " 606 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يَقدَمُ مَكَّةَ إِذَا استلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أشْوَاطٍ مِنَ السَّبْعِ ". 516 - " بَابُ الرَّمَلِ في الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ " 657 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قالَ: "فَمَا لَنَا ولِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أهْلَكَهُمُ   في الأشواط الثلاثة الأولى. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 515 - " باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثاً " 606 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم مكة بدأ طوافه باستلام الحجر الأسود وتقبيله، ثم يرمُل في الأشواط الثلاثة الأولى. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من سنن الطواف: استلام الحجر وتقبيله (1) وكذلك الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى. والمطابقة: في قوله: " استلم الركن الأسود ". 516 - " باب الرمل في الحج والعمرة " 607 - معنى الحديث: يقول عمر رضي الله عنه: "فما لنا   (1) أي استلام الحجر الأسود وتقبيله عند بدء الطواف، وسيأتي الكلام على تقبيل الحجر الأسود قريباً في باب تقبيل الحجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 اللهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا نُحِبُّ أن نَتْرُكَهُ".   وللرمل" قال العيني: ويروى والرَّمل بغير لام، والنصب فيه على الأفْصَح، وفي رواية عن زيد بن أسلم: " فيم الرمل والكشْفُ عن المناكب " "إنما كُنا راءينا به المشركين" أي إنما شرع الرَّمل في الأصل بسبب وهو أن المشركين أشاعوا أن النبي وأصحابه قد أضعفتهم حمي يثرب فأمر النبي أصحابه في عمرة القضاء أن يرملوا في الطواف ليظهروا لهم سلامتهم وصحتهم وقوة أجسامهم تكذيباً لِإشاعتهم الباطلة، أما الآن فقد هزم الله الشرك وأهله، وفتحت مكة وزال السبب الداعي إلى الرمل، ولكنَّهُ بقي سنة مشروعة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنفعلها اقتداءً به، وعملاً بسنته، وإحياءً لهذه الذكريات الإِسلامية الخالدة، وهو معنى قوله: " ثم قال: - شيء صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه " أي فنحن الآن وقد أهلك الله تعالى المشركين ولا حاجة لنا بالرمل (1)، ولكنه شيء صنعه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه، اتباعاً له، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت أنه رمل في حجته ولا مشرك يومئذ، فعلم أنَّه من مناسك الحج. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " شيء صنعه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ". فقه الحديث: دل الحديث على أن الرمل في الطواف من السنن المشروعة فيه، وأن مشروعيته باقية رغم زوال سببه، وهو من الأعمال التي زال سببها وبقى حكمها ومشروعيتها، قال الخطابي (2): وقد يحدث شيء من أمر الدين بسبب من الأسباب، فيزول ذلك السبب ولا يزول حكمه، كالعرايا والاغتسال للجمعة. وقال الطبري (3): ثبت أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجته ولا   (1) أي لا حاجة لنا بالرمل لزوال سببه فقد زال سببه وبقي حكمه، كما أفاده العيني. (2) " شرح العيني على البخاري " ج 9. (3) أيضاًً " شرح العيني " ج 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 517 - " بَابُ استِلَامِ الرُّكْنِ بالْمِحْجَنِ " 658 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " طَافَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ ". 518 - " بَابُ تقْبِيلِ الْحَجَرِ " 609 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنهُ سَألهُ رَجُل عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ: "رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -   مشرك يومئذ يراه، فعلم أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من تركه عامداً أو ساهياً قضاءً ولا فدية، لأن من تركه فليس بتارك العمل، إنما هو تارك لهيئته وصفته كالتلبية التي فيها رفع الصوت، فإن خفض صوته بها كان غير مضيع لها. اهـ. 517 - " باب استلام الركن بالمحجن " 608 - معنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع راكباً على بعيره يشير إلى الحجر الأسود بمحجنه وهي عصا محنية الرأس مكتفياً بذلك عن استلام الحجر. فقه الحديث: دل الحديث على أنه يجوز عند الزحام استلام الحجر بعصا ونحوها، وكذلك تجوز الإِشارة إليه باليد وتقبيلها عند الجمهور. وقال مالك: إن لم يصل إليه بعود كبر إذا حاذاه ومضى ولا يشير إليه. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " يستلم الركن ". 518 - " باب تقبيل الحجر " 609 - معنى الحديث: يحدثنا الراوي "أن ابن عمر سأله رجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 يَسْتَلِمُهُ ويُقَبِّلُهُ، فَقَالَ: أرأيْتَ إِنْ غُلِبْتُ قَالَ: اجْعَلْ أرأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمهُ ويُقَبِّلُهُ".   عن استلام الحجر" الأسود، وهو وضع اليد عليه عند بداية الطواف " فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله " وهذا يقتضي أنّ استلامه وتقبيله سنة " فقال: أرأيت إن غلبت " أي أخبرني إن زاحمني الناس عليه، وحاولت الوصول إليه فعجزت عنه، هل أعذر في ترك استلامه وتقبيله " قال: اجعل أرأيت باليمن " أي عليك باتباع سنة نبيك، ودع الرأي هناك، وظاهره أنه لا يرى في الزحام عذراً. الحديث: أخرجه أيضاًً الترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من سنن الطواف استلام الحجر وتقبيله وأن ابن عمر لا يرى في الزحام عذراً، لكن الجمهور على أنه إذا عجز عن تقبيله يكفيه أن يضع يده عليه ويقبلها، ومالك قال لا يقبلها، وإنما يضعها على فمه فقط، أما إن عجز عن استلامه بيده، فإنه يستلمه بشيء في يده كالعصا فإن عجز أشار بيده (1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس: " طاف على بعير، كلما أَتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده "، وإن لم يشر إليه استقبله مهلِّلاً مكبراً. والمطابقة: في قوله: " رأيت النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله ". ...   (1) أي فإنه يشير إِلى الحجر بيده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 519 - " بَابُ مَنْ طَاف بالْبَيْتِ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبلَ أنْ يَرْجِعَ إلى بَيْتهِ " 610 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّ أَوَّلَ شَيء بَدَأ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ حَجَّ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِثْلَهُ ".   519 - " باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته " 610 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم - صلى الله عليه وسلم - مكة " أي أنّ أول عمل فعله النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند وصوله إلى مكة " أنه توضأ ثم طاف " أي بدأ بالوضوء والطواف بالبيت، فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطواف قبل أن يذهب إلى بيته الذي يريد النزول فيه كما قال البخاري " ثم لم تكن عمرة " أَي: ولم يفسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه (1) الحج إلى العمرة لأنه كان قارناً، وساق الهدي فلم يتمتع بالعمرة كما فعل غيره، " ثم حج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مثله " أي مثل حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أفاده العيني. فقه الحديث: دل الحديث على أنّ من السنة لمن قدم مكة أن يبدأ بالطواف أولاً، سواء كان حاجاً أو معتمراً أو لم يكن أحدهما، فإن كان قارناً فطوافه طواف قدوم، وهو سنة، أو طواف ركن على أن عليه طوافين، وسعيين، وهو مذهب أبي حنيفة، وإن كان مفرداً فطوافه طواف قدوم، وهو سنةٌ   (1) هكذا فسره القاضي عياض كما أفاده العيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 520 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخرُجَ إلَى عَرَفَةَ " 611 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ فَطَافَ وسعى بين الصَّفا والْمَرْوَةَ، ولم يقرب الكَعْبَةَ بعد طَوافِهِ بها حتى رَجِعَ من عَرَفَةَ ".   وإن كان متمتعاً فطوافه طواف عمرة، وهو ركن من أركانها، وإن لم يكن شيئاً من ذلك فطوافه تطوع وتحية للمسجد. وفي الحديث دليل على أن الوضوء شرط في صحة الطواف، لقولها " أنه توضأ ثم طاف "، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الطواف صلاة إلاّ أنّ الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلّا بخيرٍ " أخرجه الترمذي والدارقطني وصححه الحاكم، قال العثماني الشافعي: ومن شرط الطواف الطهارة وستر العورة عند الثلاثة، وقال أبو حنيفة: ليس بشرط في صحته (1). الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " إن أوّل شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف إلخ ". 520 - " باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة " ْ611 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث عن عدد المرات التي طافها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالبيت قبل طلوعه إلى عرفة في حجة الوداع، فيقول: " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة " يعني في حجة الوداع " فطاف " مرة واحدة، أو طوافاً واحداً " وسعى بين الصفا والمروة " سعياً واحداً، واكتفى بطواف واحد، وسعى واحد قبل طلوعه إلى عرفة، لأنه انشغل بأمور أخرى " ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها " هذه المرة "حتى   (1) " رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 521 - " بَابُ مَا جَاءَ في زَمْزَمَ " 612 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من زمزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ ".   رجع من عرفة" وعند ذلك طاف طواف الإفاضة. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل الحديث على أن الحاج ليس عليه قبل عرفة سوى طواف واحد، فإن كان مفرداً كان طوافه طواف قدوم اتفاقاً وهو سنة، وإن كان متمتعاً فطوافه طواف العمرة، وهو ركن من أركانها اتفاقاً، وإن كان قارناً فطوافه طواف قدوم عند الجمهور، وهو سنة، وليس عليه من أركان الحج سوى طواف واحد وهو طواف الإِفاضة، وقال أبو حنيفة: إن كان قارناً فطوافه ركن، لأن على القارن طوافين وسَعْيَين. والمطابقة: في قوله: " لم يقرب الكعبة بعد طوافه بها ". 521 - " باب ما جاء في زمزم " 612 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما سقيت رسول الله من ماء زمزم فشرب من ذلك الماء حال كونه قائماً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال القسطلاني: فيه الرخصة في الشرب قائماً. ثانياًً: دل الحديث على فضل بئر زمزم وشرفها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب إليها ووقف عليها، وشرب منها، وعلى استحباب الشرب من ماء زمزم والتضلع منه اقتداءً بنبينا - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن المنير: وكأنه عنوان عن حسن العهد، وكمال الشوق، فإن العرب اعتادت الحنين إلى مناهل الأحبة، وموارد أهل المودة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 522 - " بَابُ وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ الله " 613 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنهَا سَألهَا ابْنُ أخْتِهَا عُرْوَةُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فَقَالَ: فَوَاللهِ ما عَلَى أحدٍ جُنَاح أن لا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ:   صلّوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل: وما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: زمزم. ويستحب استقبال الكعبة عند شربه، والدعاء بصالح الدعاء، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شرب منه قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داءٍ. وهو ماء مبارك يستفيد الناس منه في قضاء حاجاتهم بإذن الله تعالى، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ماء زمزم لما شرب له ". قال ابن القيم: وقد جربت أنا وغيري (1) من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله تعالى، وشاهدت من يتغذى به لأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر، وأخبرني أنّه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة يجامع أهله ويصوم ويطوف مراراً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمزم ". 522 - " باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله " 613 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " سألها ابن أختها عروة عن قول الله عز وجل (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ   (1) " الطب النبوى " لابن القيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 بِئْسَ مَا قُلْتُ يا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أولْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ في الأنْصَارِ، كانُوا قَبْلَ أن يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيةِ التي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أنْ يَطوفَ بالصَّفَا والْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أسْلَمُوا سَألوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّج أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآيَة قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.   الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) "، أي أنّ عروة سأل خالته عائشة عن معنى هذه الآية، وقال: إني فهمت من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أن السعي غير واجب على الحاج " قال: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما " أي لا إثم على من ترك السعي بينهما، " قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي " أي لقد أخطأت فيما قلت: ولم توفق في فهمك هذا " إن هذه " الآية " لو كانت كما أوّلتها " أي كما فسرتها " كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما " أي لكان لفظها كما قالت عائشة لأنّها لا تدل على عدم وجوب السعي إلاّ إذا اقترنت بلا النافية، ثمَّ بينت سبب نزول الآية الكريمة في قولها: " لكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة " أي يحجون لصنم يسمى مناة عند المُشلَّلِ " بضم الميم، وهي ثنية بين مكة والمدينة تشرف على قديد " فكان من أهل " أي فكان من حج من الأنصار " يتحرجٍ أن يطوّف بالصفا والمروة " أي كان يرى في السعي بين الصفا والمروة إثماً عظيماً، لأنّه كان فيهما صنمان يعبدهما غيرهم، وهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 523 - " بَابُ مَا جَاءَ في السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " 614 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كَانَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ خَبَّ ثَلَاثاً، وَمشى   " أساف " و" نائلة "، وكانوا يكرهونهما " فلما أسلموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك " أي عن السعي بينهما هل فيه إثم كما يظنون " فأنزل الله تعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فبين لهم أن لا إثم عليهم في السعي بين الصفا والمروة كما كانوا يظنون، لأن السعي بينهما من شعائر الله، أي من مناسك الحج والعمرة "وقد سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما" أي وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا السعي بينهما. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية السعي بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: هو واجب يجبر بالدم، وذهب ابن عباس وابن الزبير وابن سيرين وأحمد في رواية إلى أنّه سنة، لما جاء في مصحف ابن مسعود (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ورجح ابن قدامة وجوبه، لأن الدليل الذي ورد فيه إنما يدل على مطلق وجوبه لا على أنه لا يتم الواجب إلاّ به. وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد كتب عليكم السعي فاسعُوا " رواه الطبراني وهو حديث حسن. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها: " وقد سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما ". 523 - " باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة " 614 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف الطواف الأول " أي طواف القدوم أو العمرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 أرْبَعاً، وَكَانَ يَسْعَى بَطنَ الْمسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ". 524 - " بَابُ تقضي الْحَائِضُ الْمَنَاسِك كُلَّهَا إلَّا الطَّوَاف بِالبَيْتِ " 615 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مكَّةَ وأَنا حَائِضٌ، ولَمْ أطُفْ بالْبَيْتِ، ولا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أن لا تَطُوفِي بالْبَيْتِ حتى تطهُرِي ".   " خبَّ ثلاثاً " أي أسرع في الأشواط الثلاثة الأولى، وهو ما يسمى بالرمل " وكان يسعى بطن المسيل "، أي وكان يفعل ذلك الإِسراع المسمى بالرمل أو الخبب وسط المسعى بين الميل الأخضر المعلق بجوار المسجد، والميلين الأخضرين المعلق أحدهما بجوار المسجد، والثاني بدار العباس رضي الله عنه. الحديث: أخرجه الخمسة إلا الترمذي. ويستفاد منه: بيان كيفية السعي، وأنه كله مشي إلاّ ما بين الميلين فيستحب الرمل للرجال. والمطابقة: في كون الحديث مبيناً لكيفية السعي. 524 - " باب تقضي الحائض المناسك إلا الطواف " 615 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " قدمت مكة " أي وصلت إلى مكة " وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة " أي وكنت حائضاً فلم أطف بالكعبة، ولم أسع بين الصفا والمروة، لأنّ الطهارة شرط في الطواف، ولتوقف السعي على الطواف " فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي شكوت إليه استمرار الحيض وخشيت أن يمنعني من أداء جميع المناسك " قال: افعلي كما يفعل الحاج " من الوقوف بعرفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 525 - " بَابٌ أيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَروية؟ " 616 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَألهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أخبِرْنِي بِشَيءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أينَ صَلَّى الظهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التروِيَة؟ قَالَ: بِمِنَى، قَالَ: فَأيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ   ومزدلفة والمبيت بمنى وغير ذلك " غير أن لا تطوفي بالبيت " أي غير أنّك لا تطوفين بالكعبة طواف الإفاضة " حتى تطهري " من الحيض. ويستفاد منه ما يأتي: أَولاً: أن الحيض يفسد الحج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لها: " افعلي كما يفعل الحاج " حيث أمرها - صلى الله عليه وسلم - بالاستمرار في أداء مناسك الحج، وهذا يدل على صحة حجها، وعدم فساده بالحيض. ثانياًًً: أن الحيض يفسد الطَّواف، لأن من شروط الطواف الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، والحيضُ حدث أكبر، والحائض غير طاهرة فلا يصح طوافها. ولذلك فإن الحائض تفعل كل مناسك الحج غير الطواف والسعي، وهو ما ترجم له البخاري حيث قال: " تقضي الحائض - أي تفعل المناسك كلها إلّا الطواف بالبيت " أي فلا تطوف لأنّه لا يصح طوافها، ولا تسعى، لأن السعي يتوقف على الطواف. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ". الحديث: أخرجه الشيخان. 525 - " باب أين يصلي الظهر يوم التروية؟ " 616 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه " سأله رجل فقال: أخبرني بشيء عقلته عن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ " أي أخبرني عن شيء كنت قد أدركته مع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وحضرته معه، وعلمته من النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون واسطة أو رواية شخص آخر عنه "أين صلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 النَّفْرِ؟ قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بِالأبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يفعَلُ أُمَرَاؤُكَ. 526 - " بَابُ صَوْمَ يَوْمَ عَرَفَةَ " 617 - عَنْ أُمِّ الْفَضْل رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ   الظهر والعصر؟ " أي في أي مكان صلى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر وصلاة العصر " يوم التروية "؟ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة " قال: بمنى " أي صلاهما في منى لا في مكة. " قال: أين صلّى العصر يوم النفر؟ " أي: يوم النفر من منى إلى مكة " قال بالأبطح " أي صلّى العصر يوم النفر في الأبطح بين مكة ومنى. وسيأتي بيانه في موضعه " ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك " في هذه الأعمال. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب صلاة الظهر والعصر يوم التروية بمنى والخروج إليها بعد صلاة الصبح والمبيت بها ليلة التاسع من ذي الحجة، وأداء المغرب والعشاء والصبح بها، والخروج إلى عرفة بعد طلوع الشمس، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم التروية، والفجر يوم عرفة بمنى " أخرجه مسلم. ثانياًًً: أنه يستحب للحاج أن يصلي العصر بالمحصب يوم النفر بين الحجون وجبل النور إن تيسر، وإلّا فعليه أن يراعي الظروف، لقول أنس رضي الله عنه: افعل كما يفعلُ أمراؤك. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 526 - " باب صوم يوم عرفة " 617 - ترجمة راوية الحديث: وهي لبابة بنت الحارث الهلالية زوجة العباس رضي الله عنهما تعرف بلبابة الكبرى أول امرأة أسلمت بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت من المنجبات أنجبت ستة لم تلد امرأة مثلهم: الفضل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 في صَوْمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثْتُ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ". 527 - " بَابُ التَّهجِير بالرَّوَاحِ إلى عَرَفَةَ " 618 - عَنْ سَالِم بْنُ عَبْدِ الله بْن عُمَرَ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ المَلِك إِلَى الحَجَّاجِ أن لا يُخَالِفَ ابن عُمَر فِي الحَجِّ، فَجَاءَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأنا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرادِقِ الْحَجَّاجِ، فخَرَجَ   وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن. معنى الحديث: تقول أم الفضل رضي الله عنها: " شك الناس يوم عرفة في صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي شك الصحابة هل صام ذلك اليوم، لكثرة ما ورد في فضل صيامه من الأحاديث أو أفطر، لأن للحاج ظرفه الاستثنائي قالت: " فبعثت إلى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشراب " أي بقدح من لبن " فشربه "، وعند ذلك تأكدت رضي الله عنها من إفطاره. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. فقه الحديث: دل الحديث على أنه يندب للحاج الإِفطار يوم عرفة اقتداءً بالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعملاً بسنته، فهو الأفضل، وصيامه خلاف الأولى (1). والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم عرفة فِي حجة الوداع. 527 - " باب التهجير بالرواح إلى عرفة " أي هذا باب يذكر فيه أن من السنة التعجيل بالذهاب إلى عرفة في الهاجرة بعد الزوال، وعقب أداء الظهر والعصر في مسجد نمرة ببطن عرنة. 618 - معنى الحديث: أن ابن عمر " أتى يوم عرفة حين زالت الشمس عند سرادق الحَجَّاج " أي صاح منادياً عليه عند مخيمه لأن عبد الملك لما وَلَّى الحجَّاج إمارة مكة أمره أن لا يخالف ابن عمر في المناسك فحج   (1) ويسن صيامه لغير الحاج. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَالَكَ يا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأنْظِرْنِي حتى أُفِيضَ عَلَى رَأسِي ثم أخْرُجَ، فَنَزَلَ حتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ، فسَارَ، فَقَالَ لَهُ سَالِمُ بن عَبْدِ الله وَكَانَ مَعَ أبيهِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظرٌ إلى عبدِ اللهِ، فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ عبد اللهِ قَالَ: صَدَقَ.   " الحَجَّاجُ " ذلك العام، فلما توجه من مني إلى عرفة نزل في نمرة ونصب سرادقه هناك كما كان يفعل غيره من الأمراء اقتداءً بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما حان وقت الزوال ذهب إليه ابن عمر ليبين له المناسك، فصاح به منادياً عليه " فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ " يعني ابن عمر " فقال: الرواح إن كنت تريد السنة " أي عجّل بالذهاب إلى عرفة بعد الزوال. عقب أداء صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً ببطن عُرَنة إن كنت تريد العمل بسنته - صلى الله عليه وسلم - " قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجّاج فسار فقال له سالم وكان مع أبيه: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة " أي فاختصر الخطبة وأدِّ صلاتي الظهر والعصر ببطن عرنة قصراً وجمعاً وخففهما " وعجل بالوقوف " أي وسارع إلى الوقوف بعرفة عقب الصلاة مباشرة لتقف بها في الهاجرة عند منتصف النهار لما في حديث جابر رضي الله عنه قال: " لما زاغت الشمس أَتى - صلى الله عليه وسلم - بطن الوادي، أي وادي عرنة، فخطب الناس، ثم صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم ركب القصواء (بفتح القاف) وهي ناقته المشهورة، حتى أتى الموقف " إلخ. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من السنة أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 يصلي الإِمام الظهر والعصر قصراً وجمعاً في مسجد نمرة (بفتح النون وكسر الميم) ويقع هذا المسجد ببطن وادي عُرنَة، ومن السنة أيضاًً أن يخفف الخطبة والصلاة ويسارع بالذهاب إلى الموقف فيقف هناك في الهاجرة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما ترجم له البخاري، فالتهجير سنة مستحبة، أما الانتقال من عُرنَةَ إلى الموقف من عرفة فهو أمر لا بد منه، ولا يتحقق الوقوف بدونه، لأنّ عُرنة ليست من عَرفة عند الجمهور، فمن اقتصر على الوقوف فيها لا يجزئه ذلك، فهي واد بين العلمين اللذين هما على حد عرنة، والعلمين اللذين هما على حد الحرم فليست من عرفة ولا من الحرم (1). اهـ. كما ذكره الفاسي في " تاريخه "، وحكى ابن المنذر عن مالك أن عُرَنَةَ من عرفات، وفي صحة ذلك عنه نظر على مقتضى ما ذكره الفقهاء المالكية في كتبهم، ولعل ما حكاه ابن المنذر عن مالك رواية غير مشهورة في المذهب. فقد نص خليل في " مختصره " على أن من وقف في بطن عرنة لا يصح وقوفه بها ولا يجزئه. وإنما اختلف المالكية في " مسجد نَمِرَةَ " هل هو من عَرَفَةَ أو من عُرنَة؟ فمن قال إنه من عرفة قال يجزىء الوقوف به ومن قال إنه من عُرنة، قال لا يجزىء. ولذلك اختلفوا في حكمه على خمسة أقوال: الإِجزاء وعدمه والإِجزاء مع وجوب الدم (2)، والتوقف في حكمه، فقد روى القرافي عن مالك أنه قال: لم يصب (3) من وقف به، فمن فعل لا أدري (4) وخامسها: الإِجزاء مع الكراهة، وهو ما حكاه خليل في " مختصره " حيث قال: " وأجزأ " أي الوقوف " بمسجدها بكُرْهٍ " قال الحطاب يعني أن من وقف بمسجد نمرة فإنه يجزئه وقوفه مع الكراهة، وعند غيرهم لا يجزىء. إذن فالمعتمد عندهم أن   (1) هذا ما ذكره الفاسي عُرنَةِ وحدودها في " تاريخه " كما نقله عنه الحطاب في " شرح الخليل ". (2) " مواهب الجليل لشرح مختصر خليل " للحطاب ج 3. (3) " التاج والإكليل للمواق على هامش مواهب الجليل " ج 3. (4) أي لا أدري هل يجزئه ذلك الوقوف أم لا؟ وهذ النص صريح على توقفه في حكمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 528 - " بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ " 619 - عَنْ جُبَيْرِ بْن مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " أضْلَلْتُ بَعِيراً، فَذَهَبْت أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَاقِفَاً بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ مِنَ الْخمْسِ فما شَأنُة هَا هُنَا ".   الوقوف بمسجد نمرة يجزىء مع الكراهة (1). ثانياًًً: أن من دخل عرفة قبل الصلاة فقد خالف سنة النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأن السنة في ذلك اليوم أن تؤدّى الصلاة ببطن عرنة، ثم يعجل بعد ذلك بالرواح إلى الموقف في عرفة، لقوله: " إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل بالوقوف " وفي حديث جابر الطويل " حتى إذا زاغت الشمس أمر - صلى الله عليه وسلم - بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي، فخطب الناس -إلى أن قال- ثم أذن بلال، ثم أقام، فصلّى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات (بفتح أوَّلِهِ وثانِيه وثالِثه) وهي الأحجار المغروسة في أسفل جبل الرحمة " ومعنى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم -: لم يذهب إلى عرفة إلاّ بعد الصلاة، إذن فهذا هو السنة. والمطابقة: في قوله: " الرواح إن كنت تريد السنة ". 528 - " باب الوقوف بعرفة " 619 - معنى الحديث: يقول جبير رضي الله عنه: " أضللت بعيراً لي فذهبت أطلبه يوم عرفة " أي أضعت بعيري في الجاهلية فذهبت أبحث عنه يوم عرفة، حتى وصلت إلى عرفات " فرأيت النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بعرفة " كسائر القبائل العربية الأخرى غير قريش وما شابهها. " فقلت: هذا والله من الحمس " وهم قريش وكنانة وجديلة حموا بذلك لتحمسهم في دينهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - منهم لأنه قرشي. " فما شأنه ها هنا " أي فما باله يقف ها   (1) وعند غيرهم لا يجزىء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 هنا (1) في عرفات وهو من الحمس، والحصر إنما يقفون بمزدلفة ولا يتجاوزونها إلى عرفة، لئلا يخرجوا عن حدود الحرم، قال الحافظ (2): والمعتمد أن هذه القصة كانت في الجاهلية عن قبل الإِسلام وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حج في ذلك العهد، فخرج جبير يبحث عن بعيره الضائع، فلقيه مصادفة في عرفة، فتعجب لذلك واستنكره، لما رواه اسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة، ويقولون: نحن الحمس، فلا نخرج من الحرم، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على حمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة، فيقف معهم، ويدفع إذا دفعوا وفي رواية: فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الوقوف بعرفة، وهو رُكن من أركان الحج لا يتم الحج إلاّ به، ولا يجزىء ولا يصح إلّا بفعله إجماعاً لما رواه عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فجاء نفر من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال: " الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع - بفتح الجيم وسكون الميم. فقد تم حجه " أخرجه أبو داود وابن ماجة (3). أي فمن وقف على أرض عرفة ليلة العاشر من ذي الحجة فقد أدرك الحج وأدرك الوقوف بعرفة. وقد اختلفوا في وقت الوقوف بعرفة، فقال الجمهور: وقت الوقوف بعرفة هو ما بين الزوال، زوال الشمس يوم عرفة وطلوع فجر يوم النحر. وقال أحمد (4): وقت الوقوف بعرفة ما بين فجر يوم عرفة وفجر يوم النحر. واتفق الجمهور " الحنفية والحنابلة والشافعية " على أن من وقف في أي جزء من هذا   (1) " إرشاد الساري " للقسطلاني ج 3. (2) " فتح الباري " ج 3. (3) " شرح المقدسي على عمدة الفقه ". (4) " تكملة المنهل العذب على سنن أبي داود " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 الوقت من ليل أو نهار فقد أدّى هذا الركن، وحجه صحيح. إلاّ أنهم قالوا: يجب عليه الوقوف بعرفة إلى الليل ليجمع بين الليل والنهار، فإن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة حتى غابت الشمس - كما في حديث جابر، فإن دفع قبل الغروب فعليه دم لقول ابن عباس: " من ترك نُسكاً عليه دم " (1). ومشهور مذهب الشافعي أن مدَّ الوقوف إلى الليل سنة فقط ولا دم على من دفع قبل الغروب. وإن لم يعد إليها بعده، لما في الخبر الصحيح " من أَتى عرفة قبل الفجر ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه " ولو لزمه دم لكان حجه ناقصاً، وإنما (2) يسن له " الدم " خروجاً من خلاف من أوجبه. وقالت المالكية: لا يتحقق هذا الركن إلاّ بالوقوف جزءاً من الليل بعد الغروب، فإن مشهور مذهب مالك أنه لا بد من الوقوف جزءاً من الليل، فلو فاته بطل حجه ولا يكفي الوقوف نهاراً فقط، لقول ابن عمر: " من لم يقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة من قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " أخرجه مالك (3)، ولهذا قال في " القوانين الفقهية " (4): " لا يدفع من عرفة إلاّ بعد غروب الشمس فإن دفع قبل الغروب فعليه العود ليلاً وإلّا بطل حجه. وأجاب الجمهور بأن مراد ابن عمر أن الحج يفوت بعدكم الوقوف بعرفة في وقته قبل طلوع فجر يوم النحر لا أنه يفوته بعدم الوقوف ليلاً لأنه أراد بذلك بيان آخر وقت الوقوف، لقول النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " من شهد صلاتنا ووقف معنا حتى ندفع، ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى نسكه " قال: الترمذي حديث   (1) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي. (2) " تكملة المنهل العذب " ج 2. (3) أيضاًً " تكملة المنهل العذب ". (4) " القوانين الفقهية " لابن جُزَيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 529 - " بَابُ السيرِ إذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ " 620 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَْ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَيْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حِجَّةِ الْوَدَاع حِينَ دَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ ".   صحيح (1). واستدل أحمد على أن الوقوت بعرفة يبدأ من طلوع فجر ذلك اليوم بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً " قال أحمد فإن لفظ الليل والنهار مطلق يشمل كل النهار والليل، وأجاب الجمهور عنه أن المراد بالنهار ما بعد الزوال لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين لم يقفوا إلّا بعد الزوال، ولم ينقل عن أحد منهم خلاف ذلك (2). والمطابقة: في قوله: " رأيت النبي واقفاً بعرفة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 529 - " باب السير إذا دفع من عرفة " 620 - معنى الحديث: أن أسامة رضي الله عنه " سئل عن سير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حَين دفع - صلى الله عليه وسلم - " أي عندما أفاض من عرفات، " قال: كان يسير العنق " بفتح العين، أي: يسير سيراً متوسطاً، ولا يسرع، لئلا يضايق الناس، ويؤذيهم، وليكون قدوة لغيره، " فإذا وجد فجوة " أي طريقاً واسعاً فسيحاً " نصّ " أي أسرع في سيره، قال أبو عبيد: " النص تحريك الدابة حتى تستخرج أقصى ما عندها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل الحديث على مشروعية الالتزام بالهدوء والسكينة عند   (1) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي. (2) " تكملة المنهل العذب " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 530 - " بَابُ أمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِفَاضَةِ وِإشارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ " 621 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءَهُ زَجْراً شَدِيدَاً وَضَرْبَاً للإِبِلِ، فَأشَارَ بِسَوْطِهِ إلَيْهِمْ، وَقَالَ: " أيّهَا النَّاس عَلَيْكمْ بالسَّكِينَةِ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بالإِيضَاعِ ".   الإِفاضة من عرفة، والمحافظة على السير المتوسط والابتعاد عن السرعة وأن على إدارة المرور أن تقوم بواجبها في ذلك، وعلى الإِمام أن يسير أمام الناس ليكون قدوة لهم. والمطابقة: في قوله: " كان يسير العنق ". 530 - " باب أمر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة عند الإِفاضة وإشارته إليهم بالسوط " 621 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أنه دفع مع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة " أي أفاض مع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى مزدلفة، وشاهد حركة سيره بينهما قال: " فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجراً شديداً " أي فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظم حركة السير بين عرفة والمزدلفة، ويسير بينهم ويشرف عليهم إذا به يسمع خلفه ضجة وأصواتاً عاليةً " وضرباً للإِبل " أي ويرى الناس يضربون الإِبل لتسرع في سيرها " فأشار بسوطه إليهم " إشارة ينهاهم فيها عن السرعة الشديدة " وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة " أي بالهدوء وتخفيف السرعة، والتزام الرفق وعدم مزاحمة الآخرين ومسابقتهم، " فإن البِرَّ ليس بالإيضاع " أي فليست طاعة الله في سرعة السير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالسكينة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 531 - " بَابُ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أهْلِهِ بِلَيْل فَيَقِفُونَ بالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَدْعُونَ ويُقَدِّمُ إذَا غَابَ الْقَمَرُ " 622 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْع عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فارْتَحِلُوا، فارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من السنة الالتزام عند الإِفاضة من عرفات بالهدوء والسكينة، وتخفيف السرعة، وتنفيذ قواعد المرور محافظة على سلامته وسلامة الآخرين. ثانياًًً: مشروعية تنظيم حركة المرور، لا سيما عند الإِفاضة من عرفات، وإشراف المسؤولين عليها، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتولى ذلك بنفسه، كما في حديث الباب. 531 - " باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم إذا غاب القمر " 622 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن كيسان مولى أسماء رضي الله عنها " عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة " أي أنّها نزلت ليلة العيد بعد الإِفاضة من عرفات في مزدلفة فأحيت بعض الليل بالعبادة والصلاة، وهو معنى قوله: " فصلت ساعة " أي: بعض الوقت من الليل، " ثم قالت " لمولاها عبد الله بن كيسان: " هل غاب القمر؟ " تريد أن تتعرف بغياب القمر على أنّها قد صارت في الثلث الأخير من الليل، لأن غياب القمر ليلة العاشر من الشهر يكون فيه كما هو معروف "قال: لا، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قال: نعم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 رَمَتِ الْجَمْرةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ في مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهُ مَا أَرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا، أَتالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ لِلْظُّعُنِ". 623 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فاسْتَأذَنت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَوْدَةُ أن تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاس، وكانت امْرَأةٍ بطيئَةً فَأذنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاس، وأقَمْنَا   قالت فارتحلوا" أي فلما علمت بغياب القمر، وعرفت من ذلك أنهما صارت في الثلث الأخير من الليل أمرته بالنزول معها إلى مني " قال: فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة " أي رمت جمرة العقبة في آخر الليل قبل الفجر " ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها يا هنتاه " بفتح الهاء وسكون النون أي يا هذه " ما أرانا إلّا قد غلسنا " أي تسرعنا في الرحيل من مزدلفة ورمي الجمرة بالليل، " قالت: يا بني إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن " بضم الظاء والعين، أي رخص لضعفه النساء مثلي في النزول من مزدلفة في آخر الليل قبل الفجر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود ومالك وأحمد والطبراني ". والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن ". 623 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " نزلنا المزدلفة، فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تدفع قبل حطمة (1) الناس، وكانت امرأة بطيئة " أي بطيئة الحركة لسِمَنِها وضخامة جسمها كما جاء ذلك في رواية أخرى للبخاري عن عائشة حيث قالت فيها: " وكانت ثقيلة ثبْطَةً " (بفتح الثاء وسكون الباء) أي: وكانت سودة امرأة ضخمة سمينة (2) ثقيلة   (1) بفتح الحاء وسكون الطاء. (2) " شرح العيني " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 حَتَّى أصْبَحنَا نَحْنُ، ثمَّ دفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فلان أكونَ اسْتَأذَنْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا اسْتَأذَنَتْ. سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَّي مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ".   الحركة، بطيئة السير، فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنزل من مزدلفة آخر الليل قبل حطمة الناس - أي قبل شدة الزحام، لأن الزحام يشتد بعد الفجر، فأرادت أن تخلص من شدة الزحام بالنزول قبل الفجر، لأنّها من ضعفة النساء وأهل الأعذار. فلا تقدر على مزاحمة الناس لها، " فأذن لها " بالنزول في آخر الليل فنزلت قبل الفجر، " وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه "، أي نزلنا عند الإِسفار " فلأن أكون استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سودة أحبُّ إلي من مفروح به " أي فلما رأيت شدة الزحامِ تمنيت لو كنت فعلت كما فعلت سودة، ولو أني استأذنت مثلها لسررت كثيراً ولفرحت فرحاً عظيماً بالتخلص من ذلك التعب الذي عانيناه من شدة الزحام. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها: " وكانت امرأة بطيئة فأذن لها ". فقه الحديثين: دل هذان الحديثان على ما يأتي: أولاً: أنه يرخُصُ لأهل الأعذار من النساء والصبيان والشيوخ بالنزول من مزدلفة بعد منتصف الليل، لقول أسماء رضي الله عنها: " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن "، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أذن لسودة بالنزول آخر الليل قبل الفجر. ثانياًًً: مشروعية الوقوف بمزدلفة لقول عائشة " نزلنا المزدلفة " ومشروعية المبيت فيها حتى الصباح لقولها: " وأقمنا حتى أصبحنا " أي حتى صلينا الصبح فيها: وهذا المبيت واجب يجبر بالدم، عند أحمد وأبي حنيفة وقالت الشافعية: الواجب التواجد فيها ولو لحظة في النصف الثاني من ليلة النحر، وقالت المالكية: الواجب النزول بمزدلفة ليلة النحر، قبل الفجر بمقدار حط الرحال، سواء كان ذلك أوّل الليل أو آخره. أما المبيت فهو سنة عند المالكية والشافعية. وسيأتي تفصيل ذلك في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 532 - " بَابُ صَلَاةِ الْفَجْرِ في الْمُزْدَلِفَةِ (1) " 624 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَدِمَ جَمْعَاً فَصَلَّى الصَّلَاَتيْنِ، كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بأذانٍ وِإقَامة، والْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا، ثم صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَائِلٌ يَقُولُ: طَلَعَ الْفَجْرُ وقائِلٌ يَقُولُ: لَمْ يَطْلَع الْفَجْرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنّ   الباب القادم فراجعه هناك. ثالثاً: قال العيني: استدل بحديث أسماء قوم على جواز الرمي قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر للذين يتقدمون قبل الناس، وهو قول عطاء وطاووس بن كيسان وسعيد بن جبير والشافعي، وقال عياض: مذهب الشافعي رمي الجمرة من نصف الليل، ومذهب مالك أن الرمي يحل بطلوع الفجر، ومذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد أنها لا ترمى إلاّ بعد طلوع الشمس (2) فإن رموها قبل ذلك أجزأهم وأساءوا. 532 - " باب صلاة الفجر في المزدلفة " 624 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الرحمن بن يزيد " عن عبد الله " ابن مسعود رضي الله عنه " أنه قدم جمعاً " (بفتح الجيم وسكون الميم) اسم لمزدلفة سميت به لاجتماع الناس فيها، أي أنه وصل إلى مزدلفة، فنزل بها " فصلى الصلاتين " أي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، " كل صلاة وحدها بأذان وإقامة " أي كل واحدة منهما بأذان وإقامة مستقلة " والعَشاء بينها " أي وتناول رضي الله عنه طعام العشاء بينهما، " ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول: طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع " أي صلّى الفجر   (1) في نسخ: باب متى يصلي الفجر بجمع. (2) " شرح العيني على البخاري " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا في هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ والْعِشَاءَ، فلا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعَاً حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلَاةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ، ثمَّ وَقَفَ حتَّى أسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لو أنَّ أمِيرَ الْمُؤمِنِينَ أفَاضَ الآنَ أصَابَ السُّنَّةَ، فما أدْرِي أقَوْلُهُ: كَانَ أسْرَعَ أمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؟ فلم يَزَلْ يُلبي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ".   في وقت الغلس (1) حتى أن الناس - من شدة الظلام اختلفوا في طلوع الفجر وعدمه " ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب (2) والعشاء " أي أن المغرب والعشاء غيرتا عن وقتهما، وذلك بتأخير المغرب إلى وقت العشاء " وصلاة الفجر هذه الساعة " أي بعد طلوع الفجر مباشرة، وقبل ظهوره للعامة لشدة الظلام، " ثم وقف حتى أسفر، ثم قال: لو أن أمير المؤمنين " عثمان رضي الله عنه " أفاض الآن أصاب السنة " أي لو نزل الآن في وقت الإِسفار وقبل طلوع الشمس إلى مني لوافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الراوى " فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان " أي فبادر عثمان رضي الله عْنه بالنزول حتى كأن نزوله سبق قول ابن مسعود رضي الله عنه. الحديث: أخرجه أيضاًً أحمد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المبيت في مزدلفة، والوقوف بها إلى الإِسفار، وهو واجب عند أحمد وأبي حنيفة (3)   (1) عند أول طلوع الفجر ولا زالت ظلمة الليل موجودة منتشرة في الجو. (2) منصوب على أنه عطف بيان للصلاتين. تنبيه: قوله: " فلا يقدم " بفتح الذال. " حتى يعتموا " بضم الياء من الإعتام وهو الدخول في وقت العشاء الآخر، كما أفاده العيني. (3) " شرح العيني " ج 10 و" تكملة المنهل العذب " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 والثوري يجب الدم على من تركه، وقال مالك: المبيت بمزدلفة سنة لا واجب، والواجب النزول بها بقدر حط الرحال وصلاة العشاءين، وتناول شيء من الأكل والشرب فيها، فإذا لم ينزل بها فعليه دم. وقالت الشافعية: الواجب هو الحصول بها لحظة أو المرور بها وإن لم يمكث بها بعد نصف الليل (1)، وقضاء بقية الليل بها سنة فقط. ثانياًًً: أنه يسن الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير، وقد اختلفوا في الأذان والإِقامة لهما، فقال أبو حنيفة: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، لقول ابن عمر: " جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع بإقامة واحدة " أخرجه مسلم، وقال الشافعي في الجديد وأحمد في رواية: يقام لهما إقامتين ولا يؤذن لهما، لما جاء في حديث أسامة رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً " أخرجه البخاري وأبو داود ومالك في " الموطأ " وقال مالك: يجمع بينهما بأذانين وإقامتين، لحديث الباب، والله أعلم. ثالثاً: أداء صلاة الفجر بالمزدلفة في وقت الغلس، وأنه يسن التبكير بها أوّل الوقت، وهو متفق عليه، وهذا ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " صلى الفجر حين طلع الفجر - وقائل يقول: لم يطلع ". ...   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 533 - " بَابٌ مَتَى يَدفَعُ مِنْ جَمْعٍ " 625 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ صَلَّى بِجَمْعِ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ، أشْرِقْ ثَبِيرُ، وَأن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَالَفَهُمْ ثم أفاضَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ".   533 - " باب متى يدفع من جمع " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على وقت النزول من جمع - يعني من مزدلفة. 625 - معنى الحديث: يحدثنا عمرو بن ميمون " عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بجمع الصبح " فيقول كما في البخاري: شهدت عمر رضي الله عنه صلّى بجمع الصبح، أي حضرت مع عمر رضي الله عنه، ورأيته بعيني وقد صلى في مزدلفة صلاة الصبح، " ثم وقف " أي ثم إنه لم يسارع بالنزول من مزدلفة بعد صلاة الصبح مباشرة، ولكنه وقف إلى وقت الإِسفار. " فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس " أي فلما حان وقت الإِسفار قال: إن المشركين كانوا لا ينزلون من مزدلفة إلى منى إلاّ بعد طلوع الشمس والتأكد من طلوعها وإشراقها " ويقولون: أشرِق " (بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون الشين) فعل أمر " ثبير " بفتح الثاء وكسر الباء جبل في مزدلفة على يسار الذاهب إلى منى، قيل: إنه أعظم جبال مكة وهو منادى بياء محذوفة " والمعنى " لتطلع عليك الشمس يا ثبير " وأن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خالفهم " أي خالفهم في بقائهم بمزدلفة إلى طلوع الشمس فكان - صلى الله عليه وسلم - ينزل في الإِسفار، " ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس " يحتمل أن يكون الفاعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 534 - " بَابُ التَّلْبِيَةِ والتكبير غُدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يرمِي الْجمْرَةَ " 626 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:   عمر، أي ثم نزل عمر من مزدلفة في وقت الإِسفار وقبل طلوع الشمس، ويحتمل أن يكون الفاعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون العطف على قوله خالفهم، وهو ما يقتضيه التركيب والسياق، وهو المعتمد ويؤكده ما جاء في رواية الثوري حيث قال فيها: " لمخالفتهم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فأفاض " وفي رواية الطبري " وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس ". الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الإِفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس من يوم النحر. قال العيني: واختلفوا في الوقت الأفضل للإِفاضة، فذهب الشافعي إلى أنه إنما يستحب بعد كمال الإِسفار، وهو مذهب الجمهور لحديث جابر الطويل، حيث قال فيه: " فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس ". وذهب مالك إلى استحباب الإِفاضة من المزدلفة قبل الإِسفار (1) ولكن قال خليل: " ووقوفه بالمشعر يكبر ويدعو للإِسفار " قال في " التوضيح ": ظاهر كلامه جواز التمادي بالوقوف إلى الإِسفار، وقال في " المدونة ": وإذا أسفر فلم يدفع الإِمام دفع الناس وتركوه. اهـ. ومعنى ذلك أن حد الوقوف بمزدلفة إلى الإِسفار، فإذا أسفر نزل فوراً. اهـ. هذا هو تحرير مذهب المالكية في المسألة، كما أفاده الحطاب. والمطابقة: في قوله: " ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس ". 534 - " باب التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة " قال العيني: " أي هذا باب في بيان التلبية والتكبير غداة يوم النحر "   (1) هذا ما ذكره العيني، ولكن الموجود في كتب المالكية هو ما ذكرناه من قول خليل ومالك في " المدونة " والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأخبَرَ الْفَضْلُ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَلْ يُلبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ.   حتى يرمي جمرة العقبة، وفي رواية الكشميهني " حين يرمي جمرة العقبة ". 626 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر في مزدلفة، وبقى بها حتى الإِسفار، ثم ركب راحلته متوجهاً إلى منى، وأردف الفضل بن العباس، أي أركبه خلفه بين مزدلفة ومنى، " فأخبر الفضل " أي: فحدثه الفضل عن تلبية الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديث شاهد عيان، وأخبره عما أبصره بعينه، وسمعه بأذنه، فذكر " أنه لم يزل " النبي - صلى الله عليه وسلم - " يلبي حتى رمى جمرة العقبة "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمر في التلبية ليلة عيد النحر وصبيحة يوم النحر إلى أن رمى جمرة العقبة، فلم يقطع التلبية حتى رمى جمرة العقبة. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ مختلفة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّه يطلب من الحاج أن يستمر ملبياً حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يقطع التلبية، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يرمي الجمرة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. والجمهور، أن الحاج مفرداً أو متمتعاً أو قارناً يقطع التلبية مع أول حصاة يَرْميها من جمرة العقبة لقول ابن مسعود رضي الله عنه: " رمقت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة " أخرجه البيهقي وفيه شريك وعامر بن شقيق، وقد وثقهما بعض المحدثين وضعفهما البعض الآخر، لكن جاء في رواية أخرى عن الفضل بن العباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة " أخرجه الشيخان من حديث طويل. وقال مالك وسعيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 535 - " بَابُ رُكُوبِ الْبُدنَ " 627 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: " اركَبْهَا "، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةُ، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا "، فَقَالَ: أنَّهَا بَدَنَة، فَقَالَ: " ارْكَبْهَا وَيْلَكَ! " في الثَّالِثَةِ أوْ فِي الثَّانِيةِ ".   المسيب: يلبي الحاج إلى زوال شمس يوم عرفة، وهو مروي عن علي وابن عمر وعائشة وجمهور فقهاء المدينة، لما رواه القاسم بن محمد عن عائشة " أنّها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف " أي بعرفة بعد الزوال، وما رواه جعفر بن محمد عن أبيه " أن علي بن أبي طالب كان يلبي في الحج حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية " أخرجهما مالك في " الموطأ " (1) وقال: ذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وأجيب بأن ترك علي وعائشة التلبية عند زوال الشمس يوم عرفة يحتمل أنه كان لاشتغالهما بالدعاء، والاستغفار، وأنهما عادا إلى التلبية بعد ذلك. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث تقريباً. 535 - "باب ركوب البدن " البدن: جمع بدنة وهي الواحد من الإِبل ذكراً كان أو أنثى، والمراد به الهدي (1). 627 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة " أي يسوق أمامه بعيراً وهو ماش على قدميه " قال: اركبها " أي فأمره النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بركوبها، " قال: إنها بدنة " أي   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 536 - " بَابُ من أشْعَرَ وقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ " 628 - عن المِسْوَرِ بْنِ مِخْرَمَةَ ومَرْوَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالا: "خَرَجَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمَدِينَةِ في بِضْعَ عَشْرةَ مِائَةٍ حتى إِذَا كانُوا بذِي الْحُليْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْهَدْيَ وأشْعَرَهُ وأَحرَمَ بِالْعُمْرَةِ ".   إنها بدنة مهداة إلى الكعبة فكيف أركب الهدي، " قال: اركبها ويلك " وأصل الويل العذاب الشديد، وهو غير مقصود، وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغلظ له في القول ليركبها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز ركوب الهدي مطلقاً لحاجة أو لغير حاجة وهو مذهب مالك. وقال أحمد والشافعي: يجوز عند الحاجة لحديث أنس " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق إبله وقد جهده المشي، قال: اركبها " أخرجه النسائي، وهو رواية عن مالك وقال أبو حنيفة: لا يركب الهدي إلاّ لضرورة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود النسائي. والمطابقة: في قوله: " قال: اركبها " حيث أمره - صلى الله عليه وسلم - بركوب الهدي. 536 - " باب من أشعر وقلد بذي الحليفة " 628 - " عن المِسْوَر بن مِخرَمة " بكسر الميم وسكوِن الخاء وفتح الراء بن نوفل بن عبد مناف القرشي، ولد بعد الهجرة بسنتين، وروى اثنين وعشرين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد كُلٌّ منهما بواحد، وتوفي سنة أربع وستين من الهجرة. " ومروان بن الحكم " ابن أبي العاص، ولد بعد الهجرة بسنتين، وروى عن عثمان وعمر وعلي، ولم يصح له سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان من الفقهاء، تولى الخلافة نصف سنة، وتوفي سنة خمس وستين من الهجرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 ومعنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة في عمرة الحديبية سنة ست من الهجرة يريد العمرة ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه، وهو معنى قولهما: " في بضع عشرة مائة " والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، " حتى إذا كانوا بذي الحليفة " ميقات أهل المدينة، وكل من أتى إلى الحج ومرّ بالمدينة، فإنها كذلك ميقات له، يعني فلما وصل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الميقات المحدد شرعاً لأهل المدينة ومن مر عليها " قلّد النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدي " أي جعل في أعناق الهدي قلادة تميزه عن غيره، من جلد أو نعلين أو نحوها، قالوا: والحكمة في تعليق النعلين في عنقها أن العرب تعد النعل مركوبة للإنسان، لكونها تقي صاحبها، وتحمل عنه وعر الطريق. فكأن الذي أهدي خرج عن مركوبه لله تعالى، كما خرج حين أحرم عن ملبوسه، ومن ثَمَّ استحب نعلين لا واحدة عند الجمهور، واشترطه الثوري، وقال الجمهور تجريء الواحدة أو قطعة جلد، " وأشعره " أي شق الإبل المعدة للهدي من جانب سنامها الأيمن لتعرف أنها هدي. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن تقليد الهدي، مطلقاً، وكره مالك وأبو حنيفة تقليد الغنم كما يسن إشعاره بأن تشق البدنة من جانب سنامها الأيمن لتعرف أنّها هدي، وهو مذهب الجمهور، وكرهه أبو حنيفة لأنّه مثلة. ثانياًً: أنّه يستحب تقليد الغنم في الاشعار من الميقات اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الزرقاني: وفائدته الإعلام بأنّها هدي ليتبعها من يحتاج إلى ذلك. والمطابقة: في قوله: " حتى إذا كان بذي الحليفة قلّد الهدي وأشعره ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 537 - " بَابُ مَنْ قَلَّدَ الْقَلَاِئدَ بِيَدِهِ " 629 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّهُ بَلَغَهَا أنَّ ابْنَ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ مَنْ أهدَى هَدْيَاً حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ على الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْس كَمَا قَالَ ابن عَبَاس، أنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيَّ، ثمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيهِ، ثُمَّ بَعَثَ بَهَا مَعَ أبي، فَلَمْ يَحرُمْ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيءٌ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ ".   537 - " باب من قلد القلائد بيده " 629 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يهدون إلى البيت من غير أن يحجوا، فسمعت عائشة أنّ ابن عباس رضي الله عنهما يقول: من قدم إلى البيت هدياً ولم يحج، يحرم عليه ما يحرم على الحاج من الطيب والنساء وحلق الشعر ونحوه حتى ينحر هديه بمنى، فنفت ذلك، وأكدت أنّه لا يحرم عليه شيء من ذلك، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى إلى البيت ولم يحرّم على نفسه شيئاً، وقالت: مبالغة في تأكيد ذلك " أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولهم: " ثم قلدها بيده ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يستحب للحاج أن يقلد هديه بيده، كما يستحب لغيره أن يهدي ولا يحرم عليه شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 538 - " بَابُ تقْلِيدِ الْغنَمِ " 630 - عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أفْتِلُ الْقَلَائِدَ للنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ ويقيمُ في أهْلِه حَلَالاً ". 539 - " بَابُ الْقَلَاِئدِ مِنَ الْعِهْنِ " 631 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَت: " فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْن كَانَ عِنْدِي ".   538 - " باب تقليد الغنم " 630 - معنى الحديث: أن عائشة تقول: "كنت أفتل (1) القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم -" أي أضم خيوطها بعضها إلى بعض " فيقلد الغنم " أي يعلق القلائد في أعناق الغنم كما يقلد غيرها " ويقيم في أهله حلالاً " أي فلا يحرم على نفسه شيئاً من محظورات الإِحرام. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية تقليد الغنم، وأنّها تُقَلَّد كما يُقَلَّدُ غيرها من الإِبل والبقر وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة ومالك في المشهور عنه، حيث قالا بكراهته. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قولها: " فيقلد الغنم ". 539 - " باب القلائد من العهن " 631 - معني الحديث.: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا أنّها فتلت قلائد هدي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من " العهن " أي من الصوف المصبوغ ألواناً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي.   (1) بكسر التاء كما أفاده القسطلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 540 - " بَابُ الجلالِ لِلْبُدنِ " 632 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " أمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ الَّتي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا ". 541 - " بَابُ ذَبْحِ الرَّجْلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ " 633 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لا نُرَى   فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب القلائد من الصوف، وهو مذهب الجمهور، وقال مالك وربيعة (1): الأولى أن تكون من نبات الأرض من الحلفاء وغيرها. والمطابقة: في قولها: " من العهن ". 540 - " باب الجلال للبدن " 632 - معنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كسا البُدْنَ التي أهداها في حجة الوداع، فلما نحرها أمر علياً أن يتصَدَّقَ بهذه " الجلال " التي كساها بها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يسن تجليل البدن بكساءٍ فوق ظهرها من أفخر الثياب وأغلاها، ثم التصدق به على الفقراء، كما يتصدق بجلودها ولحومها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أمرني أن أتصدق بجلالها ". 541 - " باب ذبح الرجل البقر عن نسائه " 633 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في حجه من المدينة في   (1) " شرح العيني " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 إلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ، أَمرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ أن يَحِلَّ، قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: ما هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أزْوَاجِهِ". 542 - " بَابُ النَّحْرِ في منحر النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنَى " 634 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّهُ كَانَ يَنْحَرُ في الْمَنْحَرِ يَعْنِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".   اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، وكان الصحابة محرمين بالحج، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دخول مكة بالتمتع بالعمرة، فلما كان يوم النحر أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز البقر في الهدي، وأنه يجوز للحاج أن يذبح عن نسائه كما يذبح عن نفسه دون أمرهن. ثانياًً: أن نحر البقر جائز، وإن كان الذبح أفضل، لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً). ثالثاً: جواز الاشتراك في هدي التمتع والقران خلافاً لمالك، فقد ثبت ذلك في حديث الباب وغيره، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، وهي رواية تفرد بها يونس إلّا أنه ثقة، وقد أخرجها أبو داود وأحمد وابن ماجة، وفي رواية عن أبي هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن " أخرجه أبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قولها: " نحر عن أزواجه أي نحر عنهن البقر ". 542 - " باب النحر في منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى " 634 - معنى الحديث: كما قال الراوي عن ابن عمر: "أنه كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 543 - " بَابُ نحْرِ الإبِلِ مُقَيَّدَةً " 635 - عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً قَدْ أناخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِياماً مُقَيَّدَةً (1) سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ".   ينحر في المنحر" أي كان ابن عمر رضي الله عنهما يحرص كل الحرص على أن ينحر هديه في الموضع الذي نحر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويواظب على ذلك ويداوم عليه كعادته رضي الله عنه في جميع الأماكن التي لها علاقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي بألفاظ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية نحر الهدي في منحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى وهو مستحب لمن أمكنه ذلك، وليس بواجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحرت ها هنا ومنى كلها منحر " (2). والمطابقة: في قوله: "كان ينحر في منحر النبي - صلى الله عليه وسلم -". 543 - " باب نحر الإِبل مقيدة " 635 - معنى الحديث: كما قال الراوي: " أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً أناخ بدنته " أي رأى رجلاً أقعد بعيره على الأرض لكي   (1) يجوز في " سنة " الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويجوز فيه النصب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره اتبع سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده العيني. (2) قال النووي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجَمْعٌ كلها موقف " في هذه الألفاظ بيان رفق النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأمّته، وشفقته عليهم " فإنه ذكر لهم الأكمل والجائز، فالأكمل موضع نحره ووقوفه، والجائز كل جزء من أجزاء منى للنحر، وكل جزء من أجزاء عرفات ومزدلفة للوقوف، قال الشافعي وأصحابه: أفضل موضع للحاج موضع نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى أو الأفضل في حق المعتمر في المروة. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 544 - " بَاب لَا يُعْطِي الْجَزَّارَ مِنَ الْهَديِ شيْئَاً " 636 - عَنْ عَلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " أمَرَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أقُومَ عَلَى الْبُدْنِ، وَلَا أعْطِي عَليْهَا شَيْئَاً فِي جِزَارَتهَا ".   ينحره " فقال: ابعثها قياماً مقيدة " أي أوقفها مقيدة مربوطة اليد اليسرى، ثم انحرها قائمة " سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - " أي فإن تلك هي سنة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة نحر الإِبل قائمة معقولة اليد اليسرى كما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " ابعثها قياماً ". 544 - " باب لا يعطى الجزار من الهدي شيئاً " 636 - معنى الحديث: يقول علي رضي الله عنه: " أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على البدن " أي وكّلني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنابني عنه في القيام بنحر البدن التي أهداها إلى البيت وأن أتولى نحرها، وأقوم بتوزيع لحمها وكانت مائة " ولا أعطي عليها شيئاً في جزارتها " أي ولا أعطي الجزار شيئاً من لحمها على أنه أجرة له على ذبحها وسلخها، وفي رواية أبي داود " ونحن نعطيه من عندنا ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز أن يُعطى الجزار أجرة عمله من الهدي، أما إذا أُعطي أجرته كاملة وكان فقيراً فتصدق عليه فلا بأس. والمطابقة: في قوله: " ولا أعطي عليها شيئاً في جزارتها ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 545 - " بَابُ مَا يَأكُلُ مِنَ الْبُدنِْ وَما يَتَصَدَّقُ " 637 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا لا نَأكلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنا فَوْقَ ثَلَاثِ مِنىً، فَرَخَّصَ لنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " كُلُوا وَتَزَوَّدُوا، فَأكلْنَا وَتَزَوَّدْنَا ".   545 - " باب ما يأكل من البدن وما يتصدق " 637 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى " أي كانت قد نزلت بالناس " دافة " أي قحط ومجاعة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يأكلوا من لحوم الهدي والأضاحي سوى أيّام منى الثلاث، وما زاد عن ذلك يوزع على الفقراء لسد حاجتهم ومواساتهم في محنتهم، ومد يد المعونة لهم، " فرخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كلوا وتزودوا " أي فلما زالت تلك المجاعة، وتحسنت أحوال الناس، أجاز لنا - صلى الله عليه وسلم - أن نتصرف في الهدي والأضاحي بالأكل والتزود والادخار منها، فقال: " كلوا وتزودوا ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الأكل من الهدي، وهو مصداق قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ). واختلفوا فيما يؤكل منه من الهدي، فقال مالك: يؤكل ما عدا الفدية وجزاء الصيد وما نذر للمساكين، وما عطب من هدي التطوع. وقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز الأكل من هدي التمتع والقران والتطوع، وهو المعتمد، وقال الشافعي: لا يؤكل إلاّ من هدي التطوع. ولا حد لما يؤكل اتفاقاً. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وتزودوا ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 546 - " بَابُ الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ " 638 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَالَ رَجُل للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: زُرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ، قَالَ: " لَا حَرَج "، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ! قَالَ: " لا حَرَجَ "، قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِي: قَالَ: " لا حَرَج ".   546 - " باب الذبح قبل الحلق " 638 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: زرت قبل أن أرمي " أي طفت طواف الإِفاضة قبل رمي جمرة العقبة فقدَّمت الطواف على الرمي، " قال: لا حرج "، أي لا مانع من تقديم بعض المناسك على بعض ولا إثم ولا فدية " قال: حلقت قبل أن أذبح " أي قدمت الحلق على الذبح وخالفت الترتيب الشرعي المطلوب الذي يقتضي تقديم الذبح على الحلق " قال: لا حرج " عليك في مخالفة هذا الترتيب ما دمت قد فعلت ذلك ناسياً أو جاهلاً، " قال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: لا حرج " فبين النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - للسائل أنه لو خالف الترتيب الشرعي بين هذه الأعمال، وقدم بعضها على بعض ناسياً أو جاهلاً لا إثم عليه ولا فدية. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الترتيب الشرعي بين أعمال يوم النحر على النحو الآتي: رمي جمرة العقبة، فالنحر، فالحلق، فطواف الإِفاضة أو الزيارة كما سماه في الحديث، وعلى أن النحر أو الذبح قبل الحلق كما ترجم له البخاري، وقد اتفق فقهاء الإِسلام على مشروعية هذا الترتيب، إلاّ أنهم اختلفوا في حكمه، هل هو واوجب أو مستحب. فذهب النخعي والحسن البصري وقتادة إلى أن الترتيب بينها واجب (1) فمن قدم وأخر شيئا ناسياً أو   (1) وهو قول أبي حنيفة كما أفاده العيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 عامداً فقد ترك واجباً، ولزمه دم (1) لحديث أنس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى، فدعا فذبح، ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه، فجعل يقسم بين من يليه، ثم أخذ بشقه الأيسر فحلقه فدفعه إلى أبي طلحة ". أخرجه مسلم وأبو داود والبيهقي، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: " من قدم شيئاً من حجه، أو أخر فليهرق لذلك دماً "، أخرجه الطحاويُّ وابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط مسلم (2). وقال الشافعي وأحمد وعطاء وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وإسحاق: الترتيب بين أعمال يوم النحر سنة فقط فإن قدّم وأخّر فلا شيء عليه، سواء فعل ذلك عالماً أو جاهلاً ناسياً أو عامداً، واستدلوا بحديث الباب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الطواف قبل الرمي، والحلق قبل الذبح، والذبح قبل الرمي، قال: " لا حرج " فإنه صريح في أنه لا حرج في ترك الترتيب، ولا دم، ولا إثم فيه (3)، ولا شيء على من خالفه مطلقاً في عموم الأحوال قال الطبري: لم يسقط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرج إلاّ وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزىء لأمره بالإعادة. اهـ. وأيضاًً لو كان الترتيب واجباً لأمره بالفدية. ومما يؤكد أيضاًً عدم وجوبه ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قدم من نسكه شيئاً أو أخره فلا شيء عليه " أخرجه البيهقي. وفي رواية عن الإِمام أحمد. أنّه فرق بين الناسي والجاهل وغيرهما فقال: إن ترك الترتيب ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن تركه عامداً عالماً وجب عليه دم (4)، وهذا القول وإن كان مخالفاً للقياس والقاعدة العامة، لأن من ترك واجباً وجب عليه دم مطلقاً ناسياً كان أو عامداً، جاهلاً أو عالماً، ولأن الجهل والنسيان   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 2. (2) " تكملة المنهل العذب " ج 2 و" شرح العيني على البخاري " ج 1. (3) " تكملة المنهل العذب " ج 2. (4) " تكملة المنهل العذب " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه (1) في الحج إلاّ أنه يدعمه الحديث النبوي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: " سمعت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر في حجة الوداع وهم يسألونه فقال رجل لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال ارم ولا حرج " أخرجه الشيخان. فإن قوله: " ولم أشعر فحلقت قبل أن أذبح " معناه أن السائل قدم وأخر ناسياً، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا حرج عليك " فيما فعلت، لأنه فعله ناسياً ولم يشعر بما وقع منه فعلَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حكمه برفع الحرج عنه على كونه لم يشعر بما وقع منه، ومفهومه أنه لو شعر بذلك وتعمده لكان عليه الحرج ولو جبت عليه الفدية فهذا نص صريح على أن الفدية لا تجب على من خالف الترتيب ناسياً، ومفهومه أنّه لو خالفه -عامداً- لوجبت عليه وما دام قد ورد النص بذلك، فإنه لا يلتفت إلى القياس، لأنّه لا قياس مع النص. " أما المالكية " فإنّهم فرقوا بين هذه الأعمال فقالوا: الترتيب واجب بين رمي جمرة العقبة وبين الحلق والإِفاضة، فلو قدم أحدهما على الرمي لَوَجَبَ عليه دم (2)، ومستحب بين الرمي والنحر، وبين النحر والحلق وبينها -أي بين النحر والحلق- وبين طواف الإفاضة، فمن نحر قبل الرمي أو حلق قبل النحر، أو طاف قبل الحلق، أو طاف قبل النحر فقد ترك مستحباً ولا دم عليه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في إجابته للسائل عن الحلق قبل الذبح، بقوله: " لا حرج " فإنه يدل على أن تقديم الذبح على الحلق مستحب وإلّا لترتب الحرج على من حلق قبل أن يذبح، وهو ما ترجم له البخاري. ...   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 2. (2) أيضاًً " تكملة المنهل العذب " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 547 - " بَابُ الْحَلْقِ والتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإِحْلَالِ " 639 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " حَلَقَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّتِهِ ". 640 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ "، قَالُوا: والْمُقَصِّرينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ "، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " والْمُقَصِّرينَ ". 641 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ إِلَّا أنَّهُ قَالَ: " اغْفِرْ بَدَلَ ارْحَمْ، قَالَهَا ثَلَاثاً، قال: ولِلْمُقَصِّرينَ ".   547 - " باب الحلق والتقصير عند الإِحلال " 639 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " شعر رأسه كله بعد أن انتهى من الرمي والنحر " في حجته " أي: في حجة الوداع، كما جاء في رواية أخرى عن أنس " أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى جمرة العقبة فرماها، ثم أتى منزله بمنى، ونحر، وقال للحلاق: " خذ " وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " حلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". 640 - معنى الحديث: أنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا بالرحمة للمحلقين مرتين، وللمقصرين مرة واحدة، وذلك دليل على فضل الحلق على التقصير. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. 641 - معنى الحديث: أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا بالمغفرة للمحلقين ثلاثاً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 642 - عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قصرت عنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمِشْقَصٍ. 548 - " بَابُ رَمْي الجِمَارِ " 643 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَهُ سَألهُ رَجُلٌ: مَتَى أرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارمِهْ، فَأعَادَ عَلَيْهِ الْمَسْألةَ، قَالَ: كُنَّا نتحيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا ".   وللمقصرين مرة. الحديث: أخرجه الشيخان. ومطابقة الحديثين للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين والمقصرين معاً. 642 - معنى الحديث: يقول معاوية رضي الله عنه: " قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي قصرت له شعره وذلك عند تحلله من عمرة الجعرانة " بمشقص " وهو نصل عريض يرمى به الوحش. والمطابقة: في قوله: " قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على مشروعية الحلق والتقصير، وكونهما من واجبات الحج التي تجبر بالدم، كما دلت على أنّ الحلق أفضل لكونه - صلى الله عليه وسلم - دعا للمحلقين بالرحمة مرتين، وبالمغفرة ثلاثاً ودعا للمقصرين مرة واحدة. 548 - " باب رمي الجمار " 643 - معنى الحديث: أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما: عن وقت رمي الجمار الثلاث عدا جمرة العقبة " قال: إذا رمى إمامك فارمه " بهاء السكت أي إذا رمى أمير الحج فارم جمارك، وذلك لأنه خشي أن يخالف، فتحدث فتنة مع أن الأمر واسع "وأعاد عليه المسألة قال: كنا نتحين فإذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 549 - " بَابُ رَمْي الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي " 644 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ رَمَى مِنْ بَطنِ الْوَادِي فَقِيلَ لَهُ: أنَّ نَاساً يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: " وَالَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أنزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ ".   زالت الشمس رمينا" أي نترقب زوال الشمس فنرمي عند الزوال. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " فإذا زالت الشمس رمينا ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية رمي الجمار الثلاث، وهي واجبة عند الجمهور، وأن وقتها من الزوال إلى الغروب، لقوله: " فإذا زالت الشمس رَمَيْنا " وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمار عند زوال الشمس أو بعد زوال الشمس " أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي، وتأخيره إلى الليل جائز مع الكراهة اتفاقاً، أما تقديمه قبل الزوال فلا يجوز عند الجمهور، فإن رماها قبله أعادها، فإذا مضت أيام التشريق وغابت الشمس من آخرها فات الرمي اتفاقاً، ويجبر بالدم، كما أفاده العيني، فإنْ تركها كلها أو بعضها أو واحدة منها عليه دم، وقال أبو حنيفة: إن تركها كلها عليه دم، وإن ترك واحدة فصاعداً فعلى كل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن تبلغ دمَّا يترك الجميع، إلاّ جمرة العقبة، فمن تركها فعليه دم، وقال الشافعي: في الحصاة مد، وفي الحصاتين مدان. 549 - " باب رمي الجمار (1) من بطن الوادي " 644 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يرمي جمرة العقبة من أسفل الوادي فيجعل مكة عن يساره ويستقبل الجمرة، فقيل   (1) قال القسطلاني: أي جمار العقبة يوم النحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 550 - " بَابُ رَمْي الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ " 645 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ انتهَى إلى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَل الْبَيْتَ عَنْ يِسَارِهِ، ومِنىً عَنْ يَمِينهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ، وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ - صلى الله عليه وسلم - ".   له: إن بعض الناس يصعد الجبل ويرميها، فأقسم على أنّ هذا المكان هو الذي رمى منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معنى قوله: " هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة " وخصها بالذكر لتضمنها معظم أحكام الحج. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية رمي جمرة العقبة وهو واجب اتفاقاً، من تركه فعليه دم، ووقتها المستحبُّ من طلوع الشمس إلى الزوال، وإن أخّرها إلى الليل، فقال مالك: عليه دم، وإن أخّرها إلى الغد فعليه دم عند مالك وأبي حنيفة خلافاً للشافعي، وأما تقديمها فقد أجاز أحمد والشافعي رميها بعد نصف ليلة النحر خلافا لمالك وأبي حنيفة، كما أفاده ابن رشد. ثانياًً: أن السنة رمي جمرة العقبة من بطن الوادي، سواء كان ذلك من أعلاها أو أسفلها أو وسطها فالأمر واسع. والمطابقة: في قوله: " رمى من بطن الوادي ". 550 - " باب رمي الجمار بسبع حصيات " 645 - معنى الحديث: أنّ ابن مسعود رضي الله عنه " انتهى إلى الجمرة الكبرى " أي بلغ جمرة العقبة ووصل إليها فوقف عن يمين الكعبة المشرفة " جعل البيت عن يساره " أي جعل الكعبة عن يساره " ورمى بسبع " أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 551 - " بَابُ إذَا رَمَى الْجَمْرَتيْنِ يَقُومُ مُسْتقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيُسْهِلُ " 646 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيا بِسَبع حَصَيَاتٍ، يُكَبر على إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمَ حَتَّى يُسهِلَ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، ويدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيه، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطىَ، ثم يَأخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ،   بسبع حصيات، " وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة " أي هكذا رمى نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي أنزلت عليه سورة البقرة، وإنما ذكر هذه السورة بالذات لاشتمالها على معظم أحكام الحج. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن عدد حصيات الرمي سبع حصيات. ولا تجزىء ست، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأحمد وعطاء، كما يستفاد منه استحباب جعل الكعبة عن يسار الحاج عند رمى جمرة العقبة، أما عند رمي بقية الجمرات، فإنه يستحب استقبال القبلة. واختلفوا فيمَنْ ترك حصاة فأكثر، فقال مالك: عليه دم، وقال الشافعي: في الواحدة مدٌ، وفي الاثنتين مدين، وفي الثلاثة دم. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " رمي بسبع ". 551 - " باب إذا رمى الجمرتين يقوم مستقبل القبلة ويسهل " 646 - معنى الحديث: يحدثنا سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " أنه كان يرمي الجمرة الدنيا " أي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، " ثم يكّبر على إثر كل حصاة " أي بعد كل حصاة " ثم يتقدم حتى يسهل " بضم الياء وسكون السين، أي يتقدم حتى ينزل إلى السهل من بطن الوادي " فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه " أي فيقف وقوفاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو، ويَرْفَعُ يَدَيْه، وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطنِ الْوَادِي، ولا يقفُ عِنْدَهَا، ثمَّ ينْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأيْتُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ". 552 - " بَابُ طَوافِ الْوَدَاعَ " 647 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أمِرَ النَّاسُ أنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالْبَيْت، إلَّا أنَّهُ خُفِّفَ عنِ الحَائِضِ ".   طويلاً في بطن الوادي متوجهاً إلى القبلة ضارعاً إلى الله بخالص الدعاء، " ثم يرمي الوسطى " أي الجمرة الوسطى، " ثم يأخذ ذات الشمال " أي يتقدم قليلاً إلى الجانب الأيسر، " ويقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو ويرفع يديه "، أي: فيصنع عند الجمرة الوسطى كما صنع عند الأولى من الوقوف واستقبال القبلة؛ والدعاء؛ ورفع اليدين عند الدعاء " ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها " كما صنع عند الجمرتين السابقتين، " ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل " أي مثل هذا الفعل رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل في رمي الجمرات الثلاث. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الوقوف عند الجمرة الأولى والوسطى مستقبلاً القبلة، ضارعاً بالدعاء رافعاً يديه. ثانياًًً: أن الرمي يكون بسبع حصيات. ثالثاً: استحباب التكبير إثر كل حصاة. والمطابقة: في قوله: " فيقوم مستقبل القبلة ". 552 - " باب طواف الوداع " 647 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 553 - " بَاب مَنْ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بالأبْطَحِ " 648 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: " أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ والْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بالْمحَصَّبِ، ثمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ ".   الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت" أي أمر النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - الحجاج أن يكون آخر نسكهم بمكة الطواف بالكعبة طواف الوداع، وفي رواية: " لا ينصرف أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت "، " إلاّ أنه خفف عن الحائض "، أي: إلاّ أن الله أراد التخفيف والتيسير على الحائض فرفع عنها طواف الوداع، ورخَّصَ لها في تركه وفي مغادرة مكة بدونه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: استدل به الجمهور على وجوب طواف الوداع على الحاج، قالوا: ويؤكد ذلك قول عمر رضي الله عنه: " فإن آخر النسك الطواف بالبيت، فهو واجب يلزم من تركه الدم إلاّ أنه يسقط عن الحائض والنفساء، وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء على تاركه. والمطابقة: في قوله: " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ". 553 - " باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح ". 648 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمُحَصَّبِ " وهو الأبطح أو البطحاء التي بين مكة ومنى " والمعنى " أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عجَّل برمي الجمار في اليوم الثالث فرمى عند الزوال مباشرة، ونفر إلى مكة، فنزل بالمحصب أو الأبطح وصلّى به الظهر والعصر المغرب والعشاء "ثم ركب إلى البيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 554 - " بَابٌ إِذَا حَاضَتِ الْمَرأةُ بَعْدمَا أفَاضَتْ " 649 - " عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَال: "رخِّصَ للْحَائِضِ أن تَنْفِرَ إذَا أفَاضَتْ، قالَ: وسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِنَّهَا لا تَنْفِرُ، ثُمَّ سَمعتُهُ يَقُولُ بَعْدُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لَهُنَّ".   فطاف به " طواف الوداع. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " إنه صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب النزول بالمحصب يوم النفر وهو مذهب الجمهور، والحكمة فيه شكر الله تعالى على نصر نبيّه - صلى الله عليه وسلم - على أعدائه الذين حاصروه فيه مع بني هاشم قصداً لإظهار شعائر الإِسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، كما أفاده ابن القيم. 554 - " باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت " 649 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للحائض، إذا حاضت بعد طواف الإفاضة، ولم تطف طواف الوداع أن تسافر دون طواف الوداع، وقد كان ابن عمر يفتي بأنه لا يجوز لها أن تسافر حتى تظهر وتطوف، ثم رجع عن ذلك حين بلغه هذا الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رخص للحائض أن تنفر ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك حيث، قال: إنه سنة لا دم فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 555 - " بَابُ الْمُحَصَّبِ " 650 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِل نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ". 556 - " بَابُ مَنْ نزَلَ بِذِي طُوَى إذَا رجَعَ مِنْ مَكَّةَ " 651 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا: " أنَّهُ كَانَ إذَا أقْبَلَ باتَ بِذِي طَوَى، حَتَّى إذَا أصْبَحَ دَخَلَ، وإذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طَوَى، وباتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وكانَ. يَذْكُرُ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ".   555 - " باب المحصب " 650 - معنى الحديث: أن النزول بالمحصب أو ما يسمى الأبطح -كما يرى ابن عباس رضي الله عنهما- ليس من مناسك الحج ولا من السنن. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " ليس التحصيب بشيء ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن النزول بالمحصب عند النزول من منى ليس من المناسك، ولا من السنن، وهو مذهب ابن عباس وعائشة وعروة رضي الله عنهم، حيث قالوا: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل به اتفاقاً، وقال الأئمة الأربعة النزول به سنة اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أبو بكر وعمر وابن عمر ينزلون به ". اهـ. كما في " تكملة المنهل العذب " ج 1. 556 - " باب من نزل بذي طوى (1) إذا رجع من مكة " 651 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ينزل بذي   (1) ويجوز في الطاء الحركات الثلاث، والأفصح فتحها، ويجوز صرف طوى ومنعه، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 طوى ويبيت فيها عند قدومه إلى مكة وخروجه منها، وهو موضع في الزاهر غربي مكة، وقد كان ابن عمر يحدث أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. الحديث: أخرجه الخمسة إلا الترمذي. والمطابقة: في قوله: " وإذا نفر مر بذي طوى ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب النزول بذى طوى والمبيت به عند القدوم إلى مكة وعند الخروج منها، وهو ما ترجم له البخاري. كما يستحب أداء صلاة الصبح فيه وليس ذلك من مناسك الحج اتفاقاً. أما الغسل عند دخول مكة فقد استحبه الجمهور مطلقاً حتى للحائض والنفساء، وقال مالك: إنما يستحب لغيرهما. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 بسمْ الله الرحمن الرحيم " أبوَابُ الْعُمْرَةِ " 557 - " وُجُوبُ الْعُمْرَةِ وَفضلُهَا " 652 - وقال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " لَيْسَ أحَدٌ إلَّا وعَلَيْهِ حَجَّة وعُمْرَة ".   " أبواب العمرة " أي هذه أبواب أحكام العمرة وأركانها ومواقيتها، وكل ما يتعلق بها ثم قال: 557 - " وجوب العمرة وفضلها " وذكر بعض الآثار والأحاديث الدالّة على وجوبها وفضلها منها. 652 - " قول ابن عمر رضي الله عنهما: ليس أحدٌ إلاّ وعليه حجة وعمرة ". ومعنى هذا الأثر: ما من مسلم بالغ قادر مستطيع إلاّ وتجب عليه العمرة كما يجب عليه الحج، وقد جاء التصريح بالوجوب في رواية أخرى عن ابن عمر أنه كان يقول: " ليس من خلق الله تعالى أحدٌ إلاّ وعليه حجة (1) وعمرة واجبتان " أخرجه ابن أبي شيبة، وقيد الوجوب بالاستطاعة في رواية ابن جريج عن نافع فقال: من استطاع إليه سبيلاً، فمن زاد على هذا فهو   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 653 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الْعُمْرَةُ إلى الْعُمْرَةِ كَفَّارَة لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ المبرورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّةُ ".   تطوع وخير" أخرجه ابن خزيمة والحاكم، وفي رواية: " الحج والعمرة فريضتان ". أخرج هذا الأثر: أيضاًً ابن أبي شيبة والحاكم وابن خزيمة بألفاظ مختلفة متقاربة. فقه هذا الأثر: دل هذا الأثر على وجوب العمرة مرة واحدة في العمر، وأنها فرض كالحج، وهو مذهب الشافعي وأحمد لما في هذا الأثر من الدلالة على وجوبها، ولأن الله عطفها على الحج (1) في قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) والمعطوف على الفرض فرض، وهو المعتمد. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: " لا، وأن تعتمروا هو أفضل "، أخرجه أحمد والترمذي وفي سنده الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف كما قال الحافظ في " الفتح ". والمطابقة: في قوله: " إلاّ وعليه حجة وعمرة ". 653 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " أي إذا تكررت العمرة فجاءت عمرة أخرى بعد العمرة الأولى كانت العمرتان سبباً في تكفير السيئات والذنوب التي تقع بينهما، ومحوها من كتاب الحفظة، وإسقاط العقوبة عليها، وعدم المؤاخذة بها يوم القيامة. ثم بين - صلى الله عليه وسلم - فضل الحج فقال: " والحج المبرور ليس في جزاء إلاّ الجنة "، يعني أن الحج الكامل المستوفي لشروطه وأركانه وسننه ومستحباته، الخالص لوجه الله تعالى، المنفق عليه من مال حلال، ليس له ثواب عند الله يوم القيامة إلاّ الفوز بالجنة   (1) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 558 - " بَابُ مَنِ اعْتَمَرَ قبْلَ أنْ يَحُجَّ " 654 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ قبْلَ الحَجِّ، فَقَالَ: لا بَأسَ، وقَالَ: " اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أن يَحُجَّ ".   والنجاة من النار. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما "، حيث دل على فضل العمرة، وهو الجزء الثاني من الترجمة. فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على فضل العمرة وأثرها العظيم في تكفير السيئات، ومحوها من كتاب الحفظة، وقد رجح الباجي أنها تكفر الصغائر والكبائر لعموم قوله: " كفارة لما بينهما ". ثانياًً: استحباب مواصلة الاعتمار مرة بعد أخرى لما في قوله: " كفارة لما بينهما " من الترغيب في الإكثار منها ليتكرر الغفران بتكررها، واختلفوا هل يجوز تكرارها في العام الواحد، فذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، وقد اعتمر عبد الله (1) بن عمر عمرتين في كل عام، واعتمرت عائشة في سنة ثلاث مرات ولم يعب عليها أحد، وكره مالك تكرارها في العام أكثر من مرة. 558 - " باب من اعتمر قبل أن يحج " 654 - معنى الحديث: أن ابن عمر سئل عن حكم من أَتى بعمرة قبل أن يؤدي فريضة الحج التي عليه، وقبل أن يحج حجة الإِسلام هل يجوز له ذلك؟ وهل تصح عمرته " فقال: لا بأس " أي لا مانع من ذلك، وعمرته صحيحة مقبولة واستدل على ذلك بأن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عدة مرات   (1) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 559 - " بَاب كَمَ اعْتَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - " 655 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُا سئِلَ كَمِ اعْتَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: "أرْبَعَاً، عُمْرةُ الْحُدَيْبِيَّةِ في ذِي القَعدَةِ حيث صدَّهُ المُشْرِكُونَ، وَعُمْرَة منْ الْعَامِ المُقْبِلِ في ذي   قبل أن يحج الفريضة وهو معنى قوله: " اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحج "، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة كل ذلك قبل أن يحج حجة الوداع. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود. والمطابقة: في قوله: "اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحج ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من اعتمر قبل أن يحج حجة الإِسلام صحت عمرته. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر قبل أن يحج حجة الوداع. وعن عكرمة بن خالد: قدمت المدينة في نفر من أهل مكة، فلقيت ابن عمر، فقلت: إنا لم نحج قط أفنعتمر من المدينة؟ قال: نعم، وما يمنعكم فقد اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمره كلها من المدينة قبل حجه؟. 559 - " باب كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - " 655 - معنى الحديث: " أن أنساً سئل عن عدد عمرات النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أربعاً " أي اعتمر أربع عمرات، وهي عمرة الحديبية، وعمرة القضاء في السابعة من الهجرة، وعمرة الجعرانة -بكسر الجيم وسكون العين وفتح الراء المخففة، وقد تشدَّد- هي موضع بين مكة والطائف، وسمَّيت عمرة الجعرانة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة ليلاً وأدّى مناسك العمرة، ثم خرج منها ليلاً، فبات بالجعرانة حتى أصبح وزالت الشمس من اليوم التالي فتوجه إلى المدينة، وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة، وأما العمرة الرابعة فهي التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 القَعْدَةِ حَيثُ صَالَحَهُمْ، وعُمْرَةُ الجِعْرَّانَة إذ قَسمَ غنيمةَ أرَاهُ حُنَيْنٍ، قُلْتُ: كم حَجَ؟ قَالَ: وَاحِدةً". 560 - " بَابُ عُمْرَةِ التَّنْعِيمَ " 656 - عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ (1) رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَرَهُ أن يُرْدِفَ عَائِشَةَ ويُعمِرَهَا من التنعِيم " وأنَّ سُرَاقَةَ   كانت مع حجته - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكرها الراوي في هذا الحديث إلاّ أنها ذكرت في روايات أخرى، ثم قال الراوي: " قلت: كم حج؟ قال: واحدة "، أي حج حجة واحدة بعدما فرض الحج، لم يحج غيرها، وهي حجة الوداع. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على عدد عمرات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسمائها، قال في " فيض الباري ": واختلف الرواة في عددها، فبعضهم لم يعدوا عمرة الحديبية لعدم تمامها، وبعضهم لم يعدوا عمرة الجعرانة لكونها في سواد الليل، وبعضهم لم يعد العمرة التي مع حجته لعدم تميزها. 560 - " باب عمرة التنعيم " 656 - معنى الحديث: أن عائشة لما حجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فاتتها العمرة قبل الحج بسبب الحيض الذي أصابها في " سرف " بالقرب من مكة، فأفسد عليها عمرتها، فلما طهرت وطافت طواف الإِفاضة قالت: يا رسول الله أتنطلقون بعمرة وحجة وأنطلق بالحج؟. أي أتعودون إلى المدينة   (1) هو أبو محمد، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وأمه أم رومان أم عائشة، أسلم عام الحديبية، وكان اسمه عبد الكعبة، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماه عبد الرحمن، وكان أسن ولد أبي بكر مات سنة ثلاث وخمسين، على بريد من مكة وحمل إلى مكة ودفن بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 ابْنَ جُعْشم لَقِىَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالْعَقَبَةِ وهو يَرْمِيهَا فَقَالَ: ألكُمْ خاصةً يا رَسُول اللهِ؟ قَال: " لا، بَلْ لِلأبَدِ ".   بعمرة وحجة معاً، وأعود بالحج وحده دون عمرة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أخاها عبد الرحمن رضي الله عنه أن يذهب بها إلى " التنعيم " موضع على طريق المدينة على بعد ستة كيلو من مكة، وأمرها أن تحرم بالعمرة من هناك. لأنه بالحل خارج الحرم، ثم ذكر في الحديث أن سراقة بن مالك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند جمرة العقبة " ألكم خاصة يا رسول الله؟ " إلخ وهذه مسألة أخرى سببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أصحابه عند قدومهم مكة بفسخ الحج إلى العمرة شك سراقة في جواز ذلك، هل هو حكم استثنائي خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أو هو عام للمسلمين جميعاً، وباق إلى قيام الساعة، فسأله عن ذلك بقوله: " ألكم خاصة؟ " يعني جواز فسخ الحج إلى العمرة خاص بكم في تلك الحجة فقط " قال: بل للأبد " أي بل يجوز هذا الفسخ لعموم المسلمين إلى قيام الساعة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ويعمرها من التنعيم ". فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على أنّه يستحب لمن حج مفرداً أن يعتمر بعد حجه فيخرج إلى الحل خارج الحرم، ويحرم منه، ولا يختص ذلك بالتنعيم وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - عائشة بالإِحرام منه مصادفة، أو لأنه أقرب الحل. ثانياًً: أن المعتمر أن كان مكياً أو خارج مكة وداخل الميقات فميقاته الحل، وإن كان خارج الميقات فميقاته ميقات حجه. ثالثاً: جواز فسخ الحج إلى العمرة، وهو مذهب أحمد وأهل الظاهر خلافاً للجمهور. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 561 - " بَابُ أجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدرِ النَّصَبِ " 657 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا في الْعُمْرَةِ: " ولكنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكَ أو نَصَبِكَ ". 562 - " بَابٌ عُمْرةٌ في رَمَضانَ " 658 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لامْرَأة مِنَ الأنْصَارِ: "مَا مَنَعَكِ أن تَحُجِّي   561 - " باب أجر العمرة على قدر النصب " 657 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة حين أمرها أن تحرم بالعمرة من الحل " ولكنها على قدر نفقتك أو نصَبك " أي أحرمي بالعمرة من التنعيم ولا تأسفي على ما وقع لك من فوات العمرة قبل الحج، فإن تعبك ومجهودك الذي تبذلينه الآن في عمرتك هذه لن يضيع سدى، ولكن أجر العمرة وثوابها يزيد ويتضاعف بقدر زيادة النفقة وكثرة المشقة والتعب. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن فضل العمرة بحسب ما أنفق فيها من مال حلال وما بذل فيها من جهد خالص لوجه الله تعالى. والمطابقة: فِى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولكنها على قدر نفقتك ونصبك ". 562 - " باب عمرة في رمضان " 658 - معنى الحديث: يحدثَنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من الأنصار " وهي أم سنان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 مَعَنَا؟ قالَتْ: كان لَنَا نَاضِح فرَكِبَهُ أبو فلان وابنُهُ لِزَوْجِهَا وابْنِهَا، وتركَ ناضحاًْ ننْضَحُ عَلَيْهِ، قال: " فإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعتمرِي فِيهِ، فإِنَّ عُمْرَة في رَمَضَانَ حَجَّةٌ " أوْ نَحْواً مِمَّا قَالَ.   رضي الله، عنها كما جاء في رواية أخرى للبخاري ومسلم في باب حج النساء: " ما منعك أن تحجين معنا؟ " على رواية كريمة والأصيلي بإثبات نون الرفع مع سبق أن الناصبة على خلاف القواعد النحوية، قال القسطلاني: وهو قليل، ويُنْقَلُ أنها لغة لبعض العرب، وفي رواية لأبي ذر وابن عساكر: " ما منعك أن تحجي، " بحذف نون الرفع، وهي أفصح من جهة النحو. " والمعنى ": ما هو المانع لك من الحج معنا في حجة الوداع، وما عذرك في ذلك " قالت: كان لنا ناضح " أي بعيرٌ نستقي عليه " فركبه أبو فلان وابنه " أي فركبه زوجي أبو سنان وابني سنان، ولم يبق لي ما أركب عليه " قال: فإذا كان رمضان فاعتمري فيه " أي فإذا جاء رمضان القادم فأت بعمرة في رمضان تعوضين بها عن هذه الحجة التي فاتتك معنا، " فإنّ عمرة في رمضان حجة " أي كحجة أو تعدل حجة في الأجر والمثوبة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل العمرة في رمضان، وأن ثوابها كثواب حجة، ولكنها لا تسقط الحجة المفروضة، بل لا بد من الإِتيان بها، وأنّ ما فات من الحج تطوعاً فالعمرة في رمضان تقوم مقام حج التطوع (1) وهذا فضل من الله ونعمه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فإن عمرة في رمضان حجة ". ...   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 563 - " بَابُ متى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ " 659 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّها كَانَتْ كُلَّمَا مَرَّتْ بالْحَجُونِ تَقُولُ صَلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ، لقد نَزَلْنَا مَعَهُ ها هُنَا وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَليلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَة أزوادُنَا، فاعْتَمَرْتُ أنا وأختي عَائِشَةُ والزُّبَيْرُ وفلانٌ، فلما مَسَحْنَا البَيْتَ، أحْلَلْنَا ثم أهْلَلْنَا مِنَ الْعشِىِّ بِالْحَجِّ ".   563 - " باب متى يحل المعتمر؟ " 659 - معنى الحديث: أن أسماء رضي الله عنها كانت كلما مرت بالحجون وهو جبل بالمعلى مقبرة مكة على يسار الذاهب إليها تصلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتذكره لأن الشيء بالشيء يذكر، وتقول: " قد نزلنا ها هنا ونحن يومئذ خفاف " أي خفاف الأجسام " قليل ظهرنا " أي وليس معنا. من الدواب التي نمتطيها إلاّ عدد قليل، ثم قالت: " فاعتمرت أنا وعائشة والزبير " أي ففسخنا الحج إلى العمرة بأمر رسول الله، وذلك عند قدومنا مكة، وإنما ذكرت عائشة مع أن عمرتها قد فسدت بالحيض، لأنّها كانت معهم، ثم طرأ عليها الحيض " فلما مسحنا البيت أحللنا " يعني فلما طفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة. تحللنا من إحرامنا " ثم أهللنا من العشي بالحج " أي: ثم أحرمنا يوم التروية بالحج. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: على أن المعتمر يتحلل من إحرامه بالطواف والسعي، وعلى أن أركان العمرة ثلاثة: الإحرام والطواف والسعي، وهو مذهب المالكيّة والحنابلة. وقالت الشافعية (1): أركانها خمسة:   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 2 وكتاب " الفقه على المذاهب الأربعة " ج 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 564 - " بَابُ استِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ " 660 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَما قَدِمَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ اسْتَقْبَلَهُ أُغيلمَةُ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَحَمَلَ واحِداً بَين يَدَيْه وآخَرَ خَلْفَهُ ".   الإحرام من الميقات والطواف والسعي والحلق أو التقصير والترتيب بين الأركان. وقالت الحنفية: لها ركن واحد فقط: الوقوف بعرفة، وأكثر طواف العمرة، وأما الحلق والتقصير والترتيب فهو واجب عند الجمهور خلافاً للشافعية. ثانياًً: فسخ الحج إلى العمرة وقد تقدم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فلما مسحنا البيت أحللنا ". 564 - " باب استقبال الحاج القادمين " 660 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة يوم الفتح استقبله غلمان أسرته الهاشمية من بني عبد المطلب مهلّلين فرحين مستبشرين بمقدمه الميمون، فحمل - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جعفر أمامه وقثم بن العباس خلفه. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة استقبال الحاج، بل استقبال القادم من السفر، والحفاوة به، سيَّما إذا كان قريباً أو صديقاً تقديراً له، وإكراماً لشخصه. والمطابقة: قي قوله: " استقبله أغيلمة بني عبد المطلب ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 565 - " بَابٌ: لا يَطْرُقُ أهْلَهُ إِذَا بَلَغ الْمَدِينَةَ " 661 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَطرقَ أهلَهُ لَيْلاً". 566 - " بَابُ مَنْ أسْرَعَ ناقتهُ إِذَا بَلَغ الْمَدِينَةَ " 662 - عنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأبصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أوْضَعَ نَاقَتَهُ وإن كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا ".   565 - " باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة " 661 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى القادم من السفر أن يفاجىء أهله بالدخول عليهم ليلاً لئلا يراهم على حال يكرهها، لأنّهم ربما قصروا في تقديم الخدمات اللازمة له عن غير قصد لعدم استعدادهم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة أن يتحين المسافر عند قدومه الوقت المناسب لدخول بلده، والقدوم على أهله فلا يأتيهم ليلاً لئلا يكونوا على غير استعداد لاستقباله والقيام بخدمته وحسن ضيافته، والنهي في الحديث محمول على كراهة التنزيه بمعنى أن الأفضل والأولى له أن لا يفاجئهم ليلاً، وأن يأتيهم نهاراً ليستعدوا لمقابلته. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 566 - " باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة " 662 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر " أي كان إذا وصل من سفره وأشرف على المدينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 واقترب منها " فأبصر درجات المدينة " أي رأى أشجارها الطويلة ومبانيها العالية " أوضع ناقته " أي دفع ناقته إلى الإِسراع في سيرها " وإن كانت دابّة حركها " بيده الشريفة أو بعصاه ليحثها على السير السريع، أي وإنما كان يفعل ذلك بسبب شدة حبه للمدينة وشوقه إليها. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على شدة حبه - صلى الله عليه وسلم - للمدينة ذلك الحب الذي يتجلى في كل عمل من أعماله، أو قول من أقواله، أو حركة من حركاته - صلى الله عليه وسلم -، فهو - صلى الله عليه وسلم - يسرع بدابته عند قدومه إلى طيبة، واقترابه منها، شوقاً إليها، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره طرح رداءه، وقال: هذه أرواح طيبة، كما جاء في بعض الروايات الصحيحة، وفي بعضها " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم المدينة يسير أتمَّ السير، ويقول: " اللهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً وإذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منايانا بمكة " أخرجه أحمد في " مسنده "، وما ذلك إلاّ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الموت بالمدينة، فمن السنة أن يستشعر المسلم عند اقترابه من المدينة مشاعر الفرحة والبهجة وأن يسرع بسيارته، فإنها المدينة التي تحن إليها قلوب المؤمنين، ورحم الله الشاعر إذ يقول في الحنين إلى طيبة: دَارُ الحَبِيْبِ أحقُّ أن تَهْوِاهَا ... وَتَحِنُّ مِنْ طَرب إلَى ذِكْرَاهَا والمطابقة: في قوله: " أوضع ناقته ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 " أبواب المحصر " وهو اسمٍ مفعول لمن وقع عليه إحصار شرعي منعه عن حجه أو عمرته. والإحصار لغة المنع، وشرعاً ينقسم إلى إحصار عن العمرة وسيأتي، وإحصار عن الحج. وهو ما سنوضحه هنا: فالإحصار عن الحج: اختلف الفقهاء في معناه وفي سببه. أما معناه: فإن الفقهاء فيه على مذهبين: الأول: مذهب مالك وأبي حنيفة ومن وافقهم: وهم يرون أن الإِحصار هو أن يمنع الحاج عن الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة، فمن لم يتمكن من الركنين فهو محصر يتحلل من إحرامه ويحلق رأسه في المكان الذي أحصر فيه، وإن قدر على أحد الركنين فليس بمحصر (1) ولا سبيل إلى تحلله، ويبقى محرماً أبداً حتى يطوف للزيارة، قال في " الإِفصاح ": وعليه دم (2) لترك الوقوف بالمزدلفة إن لم يكن وقف بها، وعليه دم لرمي الجمار إن لم يكن رماها، وكذلك لتأخير الحلق، وعليه دم لتأخير طواف الزيارة عن أيّام النحر عند أبي حنيفة، وعند مالك يجب عليه دم لتأخير طواف الزيارة إلى محرم (3). الثاني: مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهم من أهل العلم يرون أن الإِحصار هو أن يمنع الحاج عن إتمام مناسك الحج مطلقاً سواء وقع له هذا المنع قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة، وسواء طاف بالبيت أو لم يطف، فإن هذا كله سواء، لقوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) حيث أطلق الحكم ولم يقيده قال في " الافصاح " (4) والصحيح عندي في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعي   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3. (2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1 لأبي المظفر الحنبلي. (3) أيضاًً " الإفصاح " ج 1. (4) " الصحاح " لأبي المظفر الحنبلي ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 في قوله الجديد وأحمد، فإن قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) محمول على العموم في حق كل من أحصر، سواء كان قبل الوقوف أو بعده، بمكة أو بغيرها، وسواء كان طاف بالبيت أو لم يطف، فإن له أن يتحلل كما قال تعالى، لأنه سبحانه أطلق ذلك ولم يخصصه. اهـ. حيث قال: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وفيه إضمار.، ومعناه (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) عن إتمام الحج والعمرة وأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما تيسر من الهدي. وأما سبب الإحصار: فإن الجمهور يرون أن الِإحصار لا يكون إلاّ بسبب العدو خاصة، وهو بذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية، لأن الآية نزلت في حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الحديبية من العدو، قال الشافعي (1): فمن حال بينه وبين البيت مرض حابس فليس بداخل في معنى الآية، لأنها نزلت في الحائل من العدو، ذكره البيهقي، بدليل قوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) والأمن لا يكون إلاّ من العدو، وقال عبد الله بن عمر: " المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة " أخرجه مالك في " الموطأ ". وذهب ابن مسعود وزيد بن ثابت وسفيان الثورى وأبو حنيفة وأحمد في رواية، إلى أن الإحصار يتحقق بكل سبب يمنع من الاستمرار في موجب الإِحرام من مرض ولدغ وجراحة وذهاب نفقة، وعطل سيارة، أو موت محرم، أو زوج، لأنّ الإِحصار في أصل اللغة هو المنع (2) من الشيء بسبب المرض، أما المنع بسبب العَدوِّ فهو حصرٌ، تقول العرب: أحصره المرض إحصاراً فهو محصرٌ، وحصره العدُوُّ حصراً فهو محصور، ولكن لما كان سبب نزول الآية العدو عدل عن لفظ الحصر المختص بالعدو إلى الإحصار المختص بالمرض فدل ذلك على أنه أريد باللفظ ظاهره، وهو المرض، ويدخل   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 1. (2) أيضاًً " تكملة الجهل العذب المورود وشرح سنن أبي داود " ج 1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 فيه العدو بالمعنى، لأن (1) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأما تَمَسُّكَ الفريق الأول بقوله تعالى: في الآية: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) واستدلالهم بذلك على أن المراد بالإِحصار إحصار العدو خاصة، لأن الأمن لا يكون إلاّ من العدو، فإنه غير مسلم به لأن الأمن كما يكون من العدو يكون من المرض وغيره من الموانع. ومما يدل دلالة صريحة على أن الإِحصار يكون بأيّ مانع من مرض أو كسر أو جرح أو نحوه، حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كُسِر أو عَرَجَ أو مرض فقد حَل وعليه الحج من قابل " أخرجه الأربعة (2)، وقال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق، قال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري. أما الأحكام المترتبة على الإِحصار فهي: أولاً: فسخ الإِحرام والخروج منه، وهو المسمى شرعاً " بالتحلل " وأما ما يتحلل به، فإن أمكنه الوصول إلى البيت تحلل بعمل عمرة، وإن تعذر عليه ذلك ذبح الهدي -عند الجمهور- حيث أُحصر في حل أو حرم وقت حصره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما منعه كفار قريش نحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية قبل يوم النجز، فله النحر في موضعه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت الحنفية: لا يذبح الهدي إلاّ في الحرم فيبعث شاة تذبح هناك. ثانياًًً: أن كُلَّ مَنْ أحْصر وجب عليه أن يتحلل بهدي، سواء كان حاجاً أو معتمراً أو قارناً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صده المشركون عن البيت وكان معتمراً، نحر، ثم حلق، وقال لأصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا " واختلفوا في القارن، فقال الشافعية والحنابلة: عليه دم واحد، وقال الحنفية: عليه دمان بناءً على أنه محرم بإحرامين فلا يحل إلاّ بدمين عندهم،   (1) " تكملة المنهل العذب المورود وشرح سنن أبي داود " ج 1. (2) وأخرجه أيضاًً أحمد والبيقهي والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وعند الآخرين محرم بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في الحجة فيكفيه دم واحد (1). فإن لم يكن مع المحصر هدي، وعجز عنه، انتقل عند الحنابلة إلى صوم عشرة أيّام ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، لأنه دم واجب للإِحرام، فكان له بدل، كدم التمتع، والطيب واللباس، ويبقى على إحرامه حتى يصوم أو ينحر الهدي، لأنهما أقيما مقام أفعال الحج فلا يحل قبلهما وانتقل عند الشافعية على الأصح إلى الإِطعام، فتقوّم الشاة دراهم، ويخرج بقيمتها طعاماً، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، وإذ انتقل إلى الصوم فله التحلل في الحال في الأظهر (2) وقال الحنفية: ليس للهدي الواجب بالإِحصار بدل، لأنّه لم يذكر في القرآن، فالمحصر عندهم لا يجزئه شيء عن الهدي (3). ثالثاً: أنه لا بد من الحلق عند التحلل في قول أكثر أهل العلم فالتحلل عند الشافعية والحنابلة يكون بثلاثة أشياء، ذبح، ونية التحلل بالذبح، وحلق أو تقصير، والحلق شرط أيضاًً عند المالكية، وقال الإِمام أبو حنيفة ومحمد: لا يشترط الحلق في التحلل، وإنما يحل المحصر بالذبح بدون الحلق لِإطلاق نص الآية حيث قال: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يشترط الحلق، ولم يذكره، قالوا: فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الواجب وهذا خلاف النص، ولأن الحلق للتحلل من أفعال الحج، والمحصر لا يأتي بأفعال الحج، فلا حلق، والحديث في الحلق بالحديبية محمول على الندب (4). رابعاً: اختلفوا في قضاء المحْصَر لحجه وعمرته من العام القابل على أقوال ومذاهب. الأول: مذهب الحنفية: وهم يقولون: إذا كان المحرم مفرداً بالحج وتحلل   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 3. (2) " الفقه الإسلامي " ج 3. (3) وقال المالكية: المحصر بعدو أو فتنة ينتظر ما رجا كشف ذلك، فإذا يئس تحلل بموضعه ولا هدى عليه. اهـ. كما أفاده في " فتح المبدى " ج 2 وفي " وفي كتاب الفقه الإسلامي " ج 3. (4) الفقه الأسلامي وأدلته ج 3 للدكتور وهبة الزحيلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 567 - " بَاب إذَا أحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ " 663 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " قَدْ أحْصِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَلَقَ رَأسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، ونَحَرَ هَدْيَهُ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى اعْتَمَرَ عَاماً قَابِلاً ".   من إحصاره، فإن عليه حجة وعمرة: قضاء عما فاته، لأنه في معنى فائت الحج الذي يتحلل بأفعال العمرة، فإن لم يأت بها قضاها، هذا إذا لم يحج من عامه، فإن حج منه فلا عمرة عليه. لأنّه ليس في معنى فائت الحج، وإذا كان المحصر محرماً بالعمرة فإنه يجب عليه قضاء ما شرع فيه، وإذا كان المحصر قارناً فعليه حجة وعمرتان، أمّا العمرة الأولى فلأنه في معنى فائت الحج وأما الثانية فلأنه خرج منها بعد صحة الشروع فيها. قالوا: وقضاء الحج من قابل واجب مطلقاً، سواء كان فريضة أو تطوعاً. الثاني: مذهب المالكية وهم يقولون يجب على المحصر إذا تحلل من إحرامه قضاء حجه من قابل إن كان فرضاً أو تطوعاً تحلل منه لمرض أو خطر أو حبس بحق، فإن كان تطوعاً آخر فلا قضاء عليه. الثالث: مذهب الشافعية والحنابلة: أنّهُ يجب على المحصر قضاء الفرض دون النفل، وأما العمرة فلا يجب قضاؤها عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. 567 - " باب إذا أحصر المعتمر " 663 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه " أي مُنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أداء العمرة التي قدم إليها في صلح الحديبية سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن دخول مكة ذلك العام، فلما أحصر، ومنع عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 568 - " بَابُ الإِحْصَارِ في الْحَجِّ " 664 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّهُ كَانَ يَقُولُ:   عمرته، تحلل منها في الموضع الذي أحصر فيه، وهو الحديبية، فأتى بالأعمال المشروعة في التحلل. فنحر هديه أولاً، ثم حلق رأسه، ثم جامع نساءه، هذا هو الترتيب الشرعي الذي وقع منه، ولا عبرة بتقديم الحلق في نص الحديث. لأن الواو لمطلق الجمع، لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً " حتي اعتمر عاماً قابلاً " أي واستمر - صلى الله عليه وسلم - متحللاً من إحرامه يلبس الثياب ويتطيب، ويحلق رأسه، ويباشر النساء، حتى كان العام القادم فقضى عمرته التي أحصر عنها بعمرة أخرى في السنة السابقة سميت بعمرة القضاء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المعتمر إذا أحصر ومنع عن أداء عمرته تحلل منها، ونحر هديه، وحلق رأسه حيث أحصر وهو مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا ينحر إلاّ في الحرم. ثانياًً: مشروعية قضاء العمرة على من أحصر عنها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضاها، وهو واجب عند أبي حنيفة، مستحب عند الجمهور، حيث يرون أنه لا قضاء على المحصر إلّا في حج الفريضة (1). الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 568 - " باب الإِحصار في الحج " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على الأحكام المترتبة على الإحصار في الحج. والإحصار في الحج: معناه أن يواجه المحرم بالحج بعد   (1) قالوا: وأما قضاؤه صلى الله عليه لعمرة الحديبية فهو على وجه الندب والاستحباب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 "أليْسَ حَسْبُكُمْ سنَّة رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ حُبِسَ أحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بالبَيْتِ وَبِالصَّفَا والْمَرْوَةِ، ثم حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحجَّ عَاماً قَابِلاً، فَيُهْدِي أو يَصُومَ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً".   إحرامه به من الأسباب والأعذار ما يمنعه عن إتمام مناسك الحج، سواء وقع له ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعده. 664 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أليس حسبكم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ألا يكفيكم ما جاء في سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - " إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل " أي إن أحصر أحدكم، ومنع عن الوقوف بعرفة لعذر من الأعذار الشرعية ولكنه تمكن من دخول مكة، فإنه يجب عليه أن يتحلل بعمرة فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يخلع ثياب إحرامه فيصبح حلالاً يحل له كل شيء حتى النساء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم حل من كل شيء " أي تحلل من جميع محظورات الإِحرام وأصبحت له حلالاً يلبس الملابس، ويتطيب، ويحلق الشعر، ويباذر النساء " حتى يحج عاماً قابلاً " أي يشتمر. متحللاً من إحرامه حتى يقضي حجه من العام القادم " فيهدي " أي يذبح هدياً مع الحلق والنية قال العيني: أي يذبح شاة إذ التحلل لا يحصل إلاّ بنية التحلل والذبح والحلق " أو يصوم " أي وإن لم يجد الهدي يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي. والمطابقة: ظاهرة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المحصر عن الوقوف بعرفة إذا بلغ مكة وتمكن من الطواف والسعي فإنه يترتب عليه الأحكام الآتية: الأول: أن يتحلل بعمرة لا تجزئه عن عمرة الإِسلام، وهو مذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 569 - " بَابُ النَّحْرِ قَبلَ الْحَلْقِ في الْحَصْرِ " 665 - عَنْ الْمِسْوِرِ بْنِ مَخْرَمَةٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وأمرَ أَصْحَابَهُ بذَلِكَ ".   الجمهور، وقال الشافعية: لا ينوي بها العمرة. الثاني: أن يقضي حجه الذي أحصر عنه في العام القابل، وهل يقضيه مطلقاً، فريضة أو تطوعاً، أو يقضي الفريضة فقط. قال أبو حنيفة يقضيه مطلقاً، سواء كان الحج فريضة أو تطوعاً، وقال الجمهور: إنما يقضي الفريضة فقط. الثالث: أنّه يجب عليه الهدي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيهدي " وهو مذهب الجمهور، وقال: أبو حنيفة: لا هدي عليه، ولا يعد محصراً، لأن المحصر عنده من منع الوصول إلى مكة وحيل بينه وبين الطواف والسعي (1)، وأما من بلغها، فحكمه عنده كحكم من فاته الحج، يحل بعمرة ويحج من قابل، ولا هدي عليه (2). ثانياًً: أن من بلغ مكة وتمكن من البيت وحبس عن الوقوف يعد محصراً خلافاً لأبي حنيفة. 569 - " باب النحر قبل الحلق في الحصر " 665 - معنى الحديث: يحدثنا المسور رضي الله عنه: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق " أي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أحصر عن أداء العمرة في صلح الحديبية، نحر هديه قبل أن يحلق شعره، فقدم النحر على الحلق، " وأمر أصحابه بذلك "، أي بأن يفعلوا كفعله. الحديث: أخرجه البخاري.   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 10. (2) وقال مالك: المحصر بعدو أو فتنة لا هدي عليه، كما أفاده في " فتح المبدي " ج 2 وفي " كتاب الفقه الإسلامي " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 570 - " بَاب قَوْلِ اللهِ تعَالَى (أَوْ صَدَقَةٍ) وَهِيَ إطْعَام سِتَّةِ مَسَاكِينَ " 666 - عَنْ كَعْبِ بْنِ عجْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالْحدَيْبِيَةِ ورأسِي يَتَهَافَت قَمْلاً فقالَ:   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الهدي على المحصر بالعدوِّ وهو مذهب الشافعي وأحمد في أصح الروايتين، قال ابن تيمية: والمحصر يلزمه دم في أصح الروايتين، ولا يلزمه قضاء حجه إن كان تطوعاً، وهو إحدى الروايتين، وقالت المالكية: لا هدي عليه في حصر العدو، وهو مذهب ابن القاسم، وإنما ينتظر مدة من الزمن مَا رَجا كشفَ الإِحصار عنه، فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي عليه، والمعتمد عندهم أنّه لا يتحلل إلاّ بحيث لو سار إلى عرفة من مكانه لم يدرك الوقوف، فان ظن أو شك (1) في زوال المانع قبل الوقوف فلا يتحلل حتى يفوت، فإن فات الوقوف فعل عمرة، والحديث صريح في وجوب الهدي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حصره العدوُّ عن عمرته لم يتحلل حتى نحر الهدي، ولكن المالكية يحملون حديث الباب على من ساق الهدي معه، ويقولون: إن كان مع المحصر هدي نحره، وإلّا فلا هدي عليه. ثانياًً: تقديم النحر على الحلق في التحلل. والمطابقة: في قوله: " نحر - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحلق ". 570 - " باب قول الله تعالى: (أَوْ صَدَقَةٍ) وهي إطعام ستة مساكين " 666 - معنى الحديث: يقول كعب رضي الله عنه: "وقف علي   (1) " الفقه الإسلامي " للدكتور وهبة ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 " يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " فاحْلِقْ رَأَسْكَ " قَالَ: فيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) إلَى آخِرها، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ أو تَصَدَّق بِفَرْقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ أو انْسُكْ بمَا تَيَسَّرَ ".   رسول الله بالحديبية ورأسي يتهافت" أي يتساقط " قملاً فقال: يؤذيك هوامك " أي قملك " قلت نعم قال فاحلق رأسك " أي فأمره بحلق رأسه " قال في نزلت هذه الآية " وهو قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيناً الفدية المطلوبة: " صم ثلاثة أيام " أي إن شئت صم ثلاثة أيام " أو تصدق بفرق " بفتح الفاء والراء أو سكونها، وهو ثلاثة آصع، " أو أنسك بما تيسر " أي اذبح ما تيسّر لك من الذبائح، وأقلها شاة. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الفدية على من ارتكب محظوراً من محظورات الإِحرام، لأن كعب بن عجرة لما ارتكب بحَلْقِ رأسه محظوراً أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفدية، وكذلك سائر المحظورات. ثانياًً: أن الفدية الواجبة ثلاثة أنواع: أولها: صيام ثلاثة أيام غير مقيدة بزمان، ولا بالتوالي كما يدل عليه ظاهر الحديث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر شيئاً من ذلك وإنما يُسْتَثْنَى من ذلك العيدان عند الجمهور، وقال أبو حنيفة، والشافعي: يستثنى من ذلك العيدان وأيّام التشريق، فلا يجوز صومها في الفدية. الثاني: التصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع على ستة مساكين. الثالث: ذبح ذبيحة أقلّها شاة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أو تصدق بفرق " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 571 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَلَا رَفَثَ) "   571 - "باب قول الله عز وجل (فَلَا رَفَثَ) " معنى الآية: أن الله تعالى قال: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) فنفى عن المحرم هذه الأمور الثلاثة، ومعنى ذلك أن الله تعالى حرم عليه هذه الثلاثة، ومنعه منها، وحظر عليه ارتكابها وهي: 1 - الجدال والمخاصمة مع الرفقاء والخدم، 2 - والفسوق، وهو ارتكاب المعاصي التي تخرج العبد عن طاعة الله، 3 - والرفث وهو الجماع ومقدماته ودواعيه من التقبيل واللمس بشهوة، ومخاطبة المرأة فيما يتعلق بوطئها. واتفقوا على أن الجماع عمداً قبل الوقوف بعرفة يفسد الحج عليهما واجباً أو تطوعاً، طوعاً أو كرهاً، وأن عليهما أن يمضيا في حجهما الفاسد، وعليهما القضاء أنزل أو لم ينزل، وعليه الكفارة وهي شاة عند أبي حنيفة، وهدي عند مالك، وبدنة عند الشافعي وأحمَد. وإن كان الجماع بعد الوقوف وقبل التحلل الأول فإنه يصح حجه عند أبي حنيفه (1) وعليه بدنة، ويفسد عند مالك، ويفسد وعليه بدنة عند الشافعي وأحمد. وإن كان جماعه بعد التحلل الأول: وقبل طواف الإِفاضة، فقال مالك وأحمد: يمضي في الإِحرام الذي أفسده، ويحرم بعد ذلك من التنعيم يتم الطواف والسعي بإحرام صحيح، وقال الشافعي في قول وأبو حنيفة في رواية: يتم حجه ولا يستأنف، وعليه بدنة، أما إذا لمس بشهوة أو قبل فإنه يفسد حجه عند مالك (2) إذا أنزل، ولا يفسد عند الشافعيّة، ويلزمه شاة (3) فقط، هذا إذا أنزل وأما إذا لمس   (1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 1. (2) " الإفصاح " ج 1. (3) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 667 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أمُّهُ ". " جَزَاء الصيد " 572 - " بَاب إِذَا صَادَ الحلالُ فأهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيدَ أكَلَهُ " 668 - عن أبِي قَتَادَةَ، مِنْ حَدِيثٍ طَوِيل: "أنَّهُ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ فأحْرَمَ أصْحَابُهُ ولَمْ يُحْرِمْ، قَالَ فَنَظرتُ فَإذا أنا بِحِمَارِ وَحش، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فطَعَنْتهُ فأثْبَتُّهُ، واسْتَعَنْتُ بِهِمْ فأبَوْا أن يُعِينُونِي فأكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وخَشِينَا أنْ نُقْتَطَعَ، فَطَلَبْتُ النبي   أو قبل ولم ينزل فعليه شاة عند مالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية، وقال أحمد في رواية أخرى: عليه بدنة، وإن جامع المعتمر فسدت عمرته وعليه القضاء عند الجمهور. 667 - أما شرح الحديث: فقد تقدم في " في باب الحج المبرور " فراجعه هناك. 572 - " باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله " 668 - معنى الحديث: يحدثنا أبو قتادة رضي الله عنه " أنه انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية " أي سافر معه إلى مكة عام صلح الحديبية " ولم يحرم " أي وكان حلالاً غير محرم " قال: فنظرت فإذا أنا بحمار وحش، فحملت عليه " أي عدوت خلفه بفرس فطعنته " فطعنته فأثبته " أي فأرديته قتيلاً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللهِ، إِنَّهُمْ قد خَشُوا أنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ، فانتظِرْهُمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: كُلُوا وَهُمْ مُحْرِمُونَ".   " واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني " أي وكنت قبل أن أتوجه إلى ذلك الحمار الوحشي لأصيده قد طلبت من أصحابي أن يعينوني على صيده فرفضوا أن يعينوني " وخشينا أن نقتطع " أي خفنا أن يحاصرنا العدو ويحول بيننا وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، "فطلبت النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فذهبت إليه " قلت: يا رسول الله أصبت حمار وحش وعندي منه فاضلة " أي بقية من لحمه " فقال - صلى الله عليه وسلم - للقوم: كلوا، وهم محرمون " أي فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأكل من ذلك الصيد. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز للمحرم أن يعين الحلال على قتل الصيد أو يأمره به، أو يشير إليه لقوله في الحديث: " واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني "، فإن أعان المحرم على الصيد أو أمر به أو أشار إليه حرم عليه الأكل منه، ومما يؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى عن أبي قتادة أيضاًً - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: " أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا: لا، قال: فكلوا من لحمها ". ثانياًً: أنه يجوز للمحرم الأكل من الصيد الذي لم يُعن عليه ولم يأمر ولم يشر إليه كما دل عليه حديث االباب. ثالثاً: استدل به أبو حنيفة على أنّه يجوز له الأكل من الصيد الذي صاده له غيره ومن أجله (1)، لأن أبا قتادة إنما صاد هذا الحمار الوحشي له ولمن معه، وقال الجمهور: يحرم عليه ما صاده غيره من أجله لحديث جابر قال:   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 573 - " بَابُ مَا يَقْتَلُ المُحْرِمُ من الدَّوَابِّ " 669 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَمْسٌ من الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يُقتَلْنَ في الْحَرَمِ: الغُرَابُ، والْحِدَاة، والْعَقْرَبُ، والفَارَةُ، والكَلْبُ الْعَقُورُ ".   سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد وقال الشافعي عنه: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كلوا، وهم محرمون ". 573 - " باب ما يَقْتِلُ المحرم من الدواب " 669 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمى بعض الحيوانات والحشرات " فاسقاً " أي مؤذياً للإنسان مضرَّاً له بطبعه، وهي خمس: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور - أي الجارح، لأن بعضها يضر الإِنسان في نَفْسِهِ بما يحمله من مادة سامة يفرغها في جسمه كالعقرب وبعضها يؤذيه في ماله كالغراب والحدأة فإنهما طائران يختلسان أطعمة الناس، وبعضها يضر الإِنسان في نفسه وماله كالفأرة فإنها تنقل جراثيم الطاعون الفتاكة، وتفسد المال وتتلفه، ولذلك أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل هذه الحيوانات في الحل والحرم للمحرم وغيره في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يقتلن في الحرم " وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يقتل المحرم من الدواب فقال: " خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم، العقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور " أخرجه أبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز قتل هذه الأصناف المذكورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 في الحل والحرم للمحرم وغيره، وهي: أ - الغراب: وظاهر الحديث جواز قتله مطلقاً، وهو مذهب مالك، وذهب بعض الحنفية ومنهم صاحب " الهداية " إلى أنه لا يقتل إلاّ الغراب الأبقع، وهو الذي يأكل الجيف، وهو قول أحمد ويشمل غراب البين، كما قال ابن قدامة. ب - الحدأة: وهو قول الجمهور خلافاً لمالك في رواية حيث قال: إذا قتلها المحرم تؤدى كغيرها من أنواع الصيد، والمشهور من مذهب مالك جواز قتل الغراب والحدأة. وألحق الشافعي بالحدأة كل الطور الجارحة كالبازي والصقر. ج - العقرب: وألحق بها الشافعية جميع الحشرات المؤذية كالبق والبعوض ونحوه، وألحق بها مالك الزنبور فقط. د - الفأرة. هـ - الكلب العقور: وهو عند الجمهور كل ما عدا على الناس وأخافهم من الأسد والذئب ونحوه. أو بعبارة أخرى، قال الجمهور: المراد بالكلب العقور كل (1) ما عقر الناس وعدا عليهم من السباع والحيوانات المفترسة، أما أبو حنيفة فإنه فسر الكلب العقور بالكلب المعروف، إلَّا أنه ألحق به سائر السباع، وبهذا اتفقوا على جواز قتل السباع كلها. أما الوزغ فالجمهور على جواز قتله للمحرم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الوزغ فويسق " أخرجه البخاري ونقل ابن عبد البر الاتفاق على جواز قتله في الحل والحرم، أما الحية فتقتل اتفاقاً لقول ابن مسعود رضي الله عنه: بينما نحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بغار بمنى إذ وثبت علينا حية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اقتلوها " فابتدرناها فذهبت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقيت شركم ووقيتم شَرَّها ". والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. الحديث: أخرجه الخمسة إلا أبا داود. ...   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 574 - " بَابُ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ " 670 - عن ابْنِ بُحَيْنَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: " احْتَجَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِم بلحْي جَمَل في وَسَطِ رَأْسِهِ ". 575 - " بَابُ تزْوِيجَ الْمُحْرِمَ " 671 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَهُوَ مُحْرِم ".   574 - " باب الحجامة للمحرم " 670 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في حجة الوداع وهو محرم في وسط رأسه " بلحي جَمَل " (1) موضع بين مكة والمدينة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الحجامة للمحرم مطلقاً سواء كان في موضع يحتاج إلى حلق الشعر كالرأس، أو في غيره، وسواء كان لضرورة أو لغيرها، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فأما أهل الظاهر فقالوا: تجوز الحجامة للمحرم مطلقاً ولا فدية عليه إلاّ أن يحلق رأسه، وقال الجمهور: تجوز ما لم يقطع شعراً، فإن قطع أي شعر من رأسه أو من جسده، فعليه الفدية، وقال مالك: لا يحتجم المحرم إلاّ لضرورة لما في بعض الروايات " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم لضرر كان به ". والمطابقة: في قوله: " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ". 575 - " باب تزوج المحرم " 671 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: "أن   (1) بفتح اللام وسكون الحاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 576 - " بَابُ الاغتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ " 672 - عن أبِي أيُّوبٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَوَضَعَ أبو أيوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأطَأهُ حتى بَدَا لِي رَأسُهُ ثُمَّ قَالَ لإنْسَان   النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونه " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - عقد عليها عقد زواجه منها أثناء سفره في الطريق إلى مكة " وهو محرم " بعمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة. فقه الحديث: استدل الإمام أبو حنيفة بهذا الحديث على أنه يجوز للمحرم أن ينكح حال إحرامه، أي أن يعقد على زوجته وهو محرم، على شرط أن لا يدخل بها إلاّ بعد تحلله من إحرامه، وهو قول ابن عباس وابن مسعود مستدلين بهذا الحديث، وقال الجمهور: لا يجوز النكاح للمحرم وإن نكح فنكاحه باطل، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عثمان رضي الله عنه " إن المحرم لا ينكح ولا يُنكح " أخرجه الترمذي، وقال حسن صحيح، وأما حديث الباب فتعارضه أحاديث أخرى فقد روت ميمونة نفسها أسنها كانت حلالاً، ومثله عن أبي رافع، وهو الرسول إليها، فترجح روايتها على رواية ابن عباس، لقول الأصوليين إن رواية من له مدخل في الواقعة مقدمة على رواية الأجنبي. الحديث: أخرجه الخمسة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قوله: " تزوج ميمونة وهو محرم ". 576 - " باب الاغتسال للمحرم " 672 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن حُنَين في هذا الحديث أنه قال لأبي أيوب الأنصاري: "كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 يَصُبُّ عَلَيْهِ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأسَهُ بِيَدَيْهِ، فأقْبَلَ بِهِمَا وأدْبَرَ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ". 577 - " بَابٌ دخولِ الحَرَمِ ومكة بِغيرِ إِحْرَام " 673 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وعَلَى رَأسِهِ المِغْفَرُ، فلما   محرم" أي أنه سأله عن كيفية غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لرأسه أثناء إحرامه وطلب منه أن يبين له ذلك عملياً " فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا في رأسه "، أي فأمسك أبو أيوب الثوب بيده، فأرخاه حتى ظهر لي رأسه " ثم قال لِإنسان يصبب عليه: اصبب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه لأقبل بهما وأدبر " أي أمر رجلاً أن يصب على رأسه الماء، فصب الماء عليه، ودلك شعره وحركه بيديه، فذهب بهما إلى آخر الرأس، ثم رجع بهما إلي أوله، " ثم قال: هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل " أي على هذه الكيفية كان - صلى الله عليه وسلم - يغتسل. الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الغسل للمحرم، ودلك رأسه بيده إذا أمن سقوط الشعر منه، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك حيث قال بكراهته، لأنه قد يسقط بعض الشعر. والمطابقة: في قوله: " هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل ". 577 - " باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام " 673 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح "، أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خل مكة يوم الفتح بغير إحرام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَل مُتَعَلِّق بَأستارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ".   " وعلى رأسه المغفر " أي وقد غطى رأسه بالمغفر، وهو قلنسوة من حديد، توضع على الرأس، " فلما نزعه " أي فلما نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغفر " جاءه رجل " وهو أبو برزة، " فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة " أي لجأ إلى الكعبة، واحتمى بأستارها، " فقال: اقتلوه " ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة لأنه كان قد أسلم، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بعد أن كان اسمه عبد العزى، فارتد، وانضم إلى المشركين في غزوة الفتح، وخرج يقاتل في صفوفهم، فلما رأى خيل الله دخله الرعب وارتعدت فرائصه، فرجع حتى انتهى إلى الكعبة، فنزل عن فرسه، وطرح سلاحه، ودخل تحت أستارها فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، وضربت عنقه بالسيف بين زمزم والمقام. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يكن حاجاً ولا معتمراً، كما ترجم له البخاري. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلها يوم الفتح كما في حديث الباب، وعلى رأسه المغفر، وعن جابر رضي الله عنه " أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محرماً " أخرجه مسلم وهو مذهب الشافعي، حيث قال: يجوز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يكن حاجاً ولا معتمراً، والجمهور على أنّه لا يجوز دخول مكة بغير إحرام، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: " لا يدخل أحد مكة إلَّا محرماً " أخرجه البيهقي، وقال ابن حجر: إسناده جيد. ثانياًً: مشروعية إقامة القصاص والحدود بمكة خلافاً لأبي حنيفة. ثالثاً: استدل به القاضي عياض وغيره من المالكيّة على قتل من آذى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا تقبل توبته. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " دخل - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح وعلى رأسه المغفر ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 578 - " بَابُ حَجَّ الصبيَانَ " 674 - عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأَنا ابْنُ سَبْع سِنينَ ".   578 - " باب حج الصبيان " أي هذا باب يذكر فيه حكم حج الصبيان الصغار الذين هم دون البلوغ كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة. 674 - معنى الحديث: يقول السائب رضي الله عنه: " حج " بضم الحاء وفتح الجيم للمجهول " بي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي حج بي والدي مصاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومرافقاً له، كما في رواية الفاكهي عن محمد بن يوسف عن السائب قال: " حج بي أبي "، في رواية الواقدي " حجت بي أمي " ويجمع بين الروايتين بأنه قد حج مع أبويه، كما أفاده العيني، " وأنا ابن سبع سنين " أي وأنا صبي صغير لا أتجاوز السابعة من عمري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية حج الصبي وصحته وانعقاده، وهو مذهب جمهور العلماء لقول السائب بن يزيد في حديث الباب " حج بي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع سنين " حيث سمى فعله حجاً، ولو لم يكن حجاً شرعياً صحيحاً لما قال ذلك، ومما يؤكد ذلك ما رواه جابر رضي الله عنه أن امرأة رفعت صبياً لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: " نعم ولك أجر " واختلفوا هل يجزئه حجه هذا عن الفريضة، فقال الظاهرية وبعض أهل الحديث: إن الصبي إذا حج قبل بلوغه كفاه ذلك عن حجة الإِسلام، والجمهور على أنه يصح منه ويثاب عليه، ولا يكفيه عن الفريضة. وذهب أبو حنيفة إلى أن الصبي لا حج له، لأن البلوغ شرط في قبول حجه وصحته. ثانياًًً: جواز تحمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 579 - " بَابُ مَنْ نذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْكَعْبَةِ " 675 - عنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَأى شَيْخَاً يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ: " مَا بَالُ هَذَا؟ " قَالُوا: نَذَرَ أنْ يَمْشِي قَالَ: " إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌ " وَأَمَرَهُ أنْ يَرْكَبَ.   الصبي للحديث إن كان مميزاً، لأن السائب تحمل حديثه هذا وهو لم يتجاوز السابعة من عمره، أي أنه تحمل هذا الحديث وهو في هذه السن، وقبله منه المحدثون. الحديث: أخرجه أيضاًً الترمذي. والمطابقة: في كونه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره سبع سنين. 579 - " باب من نذر المشي إلى الكعبة " 675 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخاً يُهادى (1) بين ابنيه " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً كبيراً طاعناً في السن قد وهن عظمه وضعفت قواه، وأصبح لا يستطيع السير إلاّ مستعيناً بغيره، فهو يمشي معتمداً على ولديه، " قال: ما بال هذا؟ " أي ما شأنه لا يتمالك نفسه ويكاد يسقط على الأرض من شدة الإِعياء والتعب " قالوا: نذر أن يمشي " أي أن يحج ماشياً " قال: إن الله عن تعذيب هذا " الرجل " نفسه " وتكليفها ما تعجز عنه ولا تقدر عليه " لغني " أي إن الله تعالى غني عن الوفاء بهذا النذر الذي يؤدّي بالإِنسان إلى تعذيب نفسه وتكليفها ما لا تقدر عليه، فهو القائل عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) " وأمره أن يركب " لعجزه.   (1) بضم الياء وفتح الدال والبناء للمجهول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من نذر أن يحج ماشياً وعجز عن المشي وجب عليه الركوب، وهل عليه هدي إذا ركب أم لا؟ اختلف في ذلك الفقهاء، فقال الظاهرية: لا هدي عليه، وليس المشي مما يوجب نذراً، وقال أبو حنيفة وعطاء والحسن البصري: يمشي ما استطاع فإذا عجز ركب وأهدى شاة، وقال الشافعي: يهدي احتياطاً، وقال مالك في " الموطأ " يعود، ثم يحج مرة أخرى فيمشي ما ركب ولا هدي عليه (1). الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة كما أفاده العيني. ...   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب فضائل المدينة " أي هذا كتاب تُذكر فيه الأحاديث الدالة على فضائل المدينة. والفضائل: جمع فضيلة، مأخوذة من قولهم: أفضل عليه أي زاد عليه، فهى إذن زيادة شيء على شيء آخر في فعل خير أو صفة حميدة، ثم أطلقت على الخصوصية التي ينفرد بها الشيء عن غيره. وفضائل المدينة: هي المزايا والمحاسن الخاصة التي انفردت بها عن غيرها وامتازت بها عن سواها. ومن فضائلها كثرة أسمائها فإن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى قال السمهودي (1): وأجمعوا على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد، واختلفوا أيهما أفضل، فذهب عمر بن الخطاب وابنه ومالك ابن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة واستثنى بعضهم فقال: محل الخلاف في غير الكعبة المشرفة، واستدلوا على تفضيل المدينة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: في الحديث الصحيح: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد " أي: بل أشد، وقد استجاب الله دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فصارت أحب بقاع الأرض إلى نفسه، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يحب إلاّ ما أحبه الله، ولا يفضل إلاّ ما فضله الله، ثم إن الله قد اختارها مهاجراً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وجعلها له مسكناً وقراراً، وافترض عليه المقام بها، وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على سكناها ووصفها بالأفضلية المطلقة على سائر بلاد الله، فقال: " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " وتمنى الموت بها فقال: " اللهم لا تجعل منايانا بمكة " أخرجه أحمد (2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما على الأرض   (1) " وفاء الوفاء " ج 1. (2) من حديث سعيد بن هند عن ابن عمر، وسعيد لا يروي عن ابن عمر. (ع) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 580 - " بَابُ حَرَمِ الْمَديْنَةِ " 676 - عَن أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ من كَذَا إلى كَذَا لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا، ولا يُحْدَثُ فِيها حَدَث، من أحْدَثَ فيها حَدَثاً فَعَلْيهِ لَعْنَةُ اللهِ   بقعة أحَبُّ إلي أن يكون قبري بها منها" أي من المدينة رواه مالك مرسلاً (1). 580 - " باب حرم المدينة " 676 - معنى الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل المدينة حرماً بأمر الله تعالى له بذلك كما في حديث جابر رضي الله عنه حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن إبراهيم حرّم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها " أخرجه مسلم. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كذا إلى كذا " بيان لحدود حرم المدينة، وأنه يمتد من عير إلى ثور لما في حديث عليّ رضي الله عنه: " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور " أخرجه الستة فأمَّا عير أو عاثر. فهو الجبل المعروف في جنوب المدينة، وأما جبل ثور فقد قال ابن النجار: هو جبل صغير وراء أحد، يعرفه أهل المدينة، ولا ينكرونه، وقال ابن تيمية: عير جبل عند الميقات يشبه العير وهو الحمار، وقال الطبري: ثور جبل خلف أحد من شماليه صغير مدور يعرفه أهل المدينة، ومعنى كون المدينة حرماً. أنه جعل لها حرمة وتشريفاً وتعظيماً في نفوس المسلمين ومشاعرهم، كما جعلها محرمة الصيد والشجر كمكة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقطع شجرها " أي لا يقطع نباتها الطبيعي الذي ينبت نبته دون سقي، وعن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) وإسناده ضعيف لإرساله. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجمَعِينَ".   " لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطها " والنفي بمعنى النهي، أي لا يجوز قطع شجرها، ولا صيد الصيد في حدودها " من أحدث فيها حدثاً " أي ابتدع فيها بدعة أو ارتكب كبيرة، وفي رواية " أو آوى محدثاً " بفتح الدال وكسرها، أي أعان على بدعة أو معصية " فعليه لعنة الله " أي غضبه وطرده من رحمته وجنته " والناس أجمعين " أي وعليه دعاء الناس باللعنة وفي رواية " لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً " أي لا يقبل الله منه فرضاً ولا نفلاً. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على تحريم شجر المدينة وصيدها لقوله - صلى الله عليه وسلم - " المدينة حرم " وتحريم المدينة يشمل تحريم شجرها وصيدها معاً، وإذا كان لم يذكر الصيد في حديث الباب نصاً، فقد ورد في حديث علي رضي الله عنه حيث قال: " ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها " فإذا حَرُم تنفيره حرم قتله من باب أولى، وتحريم المدينة صيداً ونباتاً هو ما عليه أكثر أهل العلم وجماهير الفقهاء، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يحرم صيد المدينة ولا نباتها الطبيعي، وأن الحرمة في حديث الباب حرمة تعظيم وتقديس وتشريف. وقال صاحب " فيض الباري ": نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قطع أشجارها كان لغرض الابقاء على زينتها وبهجتها وجمالها الطبيعي لا لأنها محرمة تحريم مكة، قالوا: والدليل على ذلك أنه لا يترتب على قطع أشجارها جزاءٌ شرعي كأشجار مكة وأنه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع الأشجار عند بناء مسجده. وفي استدلالهم بذلك نظر، فأما استدلالهم على عدم تحريمه بكونه لا يترتب عليه جزاء شرعي، فهو غير مسلم، لأن المسألة خلافية، وقد قال أحمد وفي رواية للشافعي في قول إن فيه الجزاء، وأما قطعه - صلى الله عليه وسلم - للأشجار عند بناء مسجده - صلى الله عليه وسلم - فلا دليل فيه، لأن الأشجار التي قطعها لم تكن من الأشجار الطبيعية التي يحرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 581 - " بَابُ فضلَ الْمَدِينَةِ وأنَّها تَنْفِي الْخبَثَ " 677 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ بِقَرْية تأكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِب وهي الْمَدِينَةُ، تَنْفي النَّاسَ كمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ".   قطعها، وإنما كانت نخيلاً في حائط، وهي خارجة عن موضوع الخلاف، وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن قطعها لتجميل المدينة، فلا مانع من اجتماع هذه العلة مع التحريم، وقد ذكر مالك هذه العلة حيث قال في سبب النهي إنما نهى عن قطع سدر المدينة لئلا توحش وليبقى فيها شجرها ليستأنس ويستظل به من هاجر إليها، وقد قال الشافعي في القديم: يؤخذ سلب من فعل شيئاً من ذلك لأنّ سعد بن أبي وقاص أخذ رجلاً يصيد في حرم المدينة فسلبه ثيابه فجاءه مواليه فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أخذ أحداً يصيد فيه فليسلبه ثيابه " أخرجه أبو داود والبيهقي وهو مذهب بعض المالكية خلافاً للجمهور. ثانياًًً: التحذير الشديد من الابتداع في المدينة أو انتهاك حرمات الله فيها وأنه كبيرة. المطابقة: في قوله: " المدينة حرم ". 581 - " باب فضل المدينة وأضها تنفي الخبث " 677 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: أمرني الله تعالى أن أسكن مدينة عظيمة تفتح كل بلاد، الدنيا شرقاً وغرباً، وتبسط عليها سلطانها، قال ابن وهب: قلت لمالك: ما تأكل القرى: قال تفتح القرى، " يقولون: يثرب، وهي المدينة " أي يسمونها يثرب واسمها الإِسلامي الذي يليق بها هو المدينة " تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد " الكير هو الجلد الذي ينفخ به الحداد على النار، وقال أكثر أهل اللغة، هو حانوت الحداد نفسه " والمعنى " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 582 - " بَابُ الْمَدِينَةِ طَابَة " 678 - عَنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - من تَبُوكَ حتى أشْرَفْنَا على الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " هَذِهِ طَابَةٌ ".   أنّ المدينة تخرج شرار الناس كما يخرج الكير الوسخ من الحديد، وقال بعضهم: المراد به إخراج المنافقين منها عند ظهور المسيح الدجال، وقال بعضهم: تنفي الناس أي تصلحهم وتهذب نفوسهم وتخرج الشر والخبث منهم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل المدينة على سائر البلاد بل على مكة نفسها لقوله: " تأكل القرى " أي تفتحها، وقد فتحت المدينة كل المدن بما فيها مكة. قال المهلب: هذا الحديث حجة لمن فضل المدينة على مكة لأنّها هي التي أدخلت مكة وسائر القرى في الإِسلام (1). والمطابقة: في قوله: " تنقي الناس ". 582 - " باب المدينة (2) طابة " 678 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عاد من تبوك وقارب دخول المدينة قال - صلى الله عليه وسلم - تنويهاً بشأنها وثناءً عليها بحسن أسمائها: " هذه طابة "   (1) ولكن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مكة حيث قال فيها " والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " رواه الترمذي وابن ماجة، وهو حديث صحيح، وقد قال ملا علي القاري: فيه تصريح بأن مكة أفضل من المدينة، كما عليه الجمهور. وحديث " اللهم إنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك " ضعيف. (ع). (2) قال القسطلاني " باب المدينة بالإضافة وفي نسخة " بابٌ " بالتنوين المدينة طابةُ ولأبي ذر طابة بالتنوين وأصل طابة طيبة فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها أي من أسمائها طابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 583 - " بَابُ من رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ " 679 - عَنْ سُفْيَانَ بن أبي زُهَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "تُفْتَحُ اليَمَنُ، فَيَأتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ،   أي هذه هي المدينة الطيبة التي سماها الله طابة، كما في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما " إن الله سمّى المدينة طابة " أخرجه مسلم، وذلك لطيب سكناها وطيب العيش بها. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل المدينة وشرف أسمائها وتسميتها بأسماء كريمة ذات معان حميدة، ومن ذلك تسميتها طابة وطيبة (1) بتسكين الياء وطيبة - بتشديد الياء، وطائب ككاتب والطبة والمُطَيَّبة (2) وبعض هذه الأسماء سماها الله بها. وما سميت بذلك إلاّ لوجود هذه الصفات فيها حقيقة. قال ابن بطال: من سكنها يجد من تربتها وحيطانها رائحة حسنة. وقال ياقوت: من خصائصها طيب ريحها. وقال البكري: لَا تَحْسَب المِسْكَ الذكي كنُز بِهَا ... هَيْهَات أيْن المِسْكُ مِنْ رَيَّاهَا وَابْشِر فَفِي الخَبَرِ الصَحيع مُقَرَّر ... أنّ الإلهَ بِطَابَةٍ سَمّاهَا والمطابقة: في قوله: " هذه طابة ". 583 - " باب من رغب عن المدينة " 679 - راوي الحديث: سفيان بن أبي زهير الشنوي، وقال بعضهم: النمري، وهو من أزْدِ شنوءة، له صحبة، روى حديثين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده ابن عبد البر.   (1) " وفاء الوفاء " ج 1. (2) وليس فيه ما يدل على أنها لا تسمى بغير ذلك، ولها أسماء كثرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، كما أفاده القسطلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فَيَتَحمَّلُونَ بأهْلِيهِمْ ومن أطَاعَهُمْ، والمدينَةُ خِيْر لهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وتُفْتَحُ الشَّامُ فيأتِي قوم يَبُسُّونَ فَيتَحمَّلونَ بأهْلِيهِمْ ومن أطَاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وتُفْتَحُ العِرَاقُ فَيَأتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فيتحَمَّلُونَ بِأهْلِيهِمْ ومن أطَاعَهُمْ، والْمَدِينَةُ خَيْر لَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".   معنى الحديث: أن من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن فتح اليمن، وقد فتحت في آخر حياته كما أخبر عن فتح الشام والعراق وقد فتح بعضها في عهد الصديق، وبعضها في خلافة الفاروق، ثمَّ أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا فتحت هذه البلدان يترك بعض الناس المدينة، ويسارعون في الذهاب إليها لخصبها ورخائها، وكثرة خيراتها وثرواتها، طمعاً في الدنيا، ورغبة في لذاتها، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيأتي قوم ييسون " بفتح الياء وضم الباء وتشديد السين أي يسوقون إبلهم ويسرعون في الذهاب إليها، " فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم " أي فينتقلون إلى اليمن أو الشام أو غيرها بأهليهم ومن اتبعهم من أصحابهم " والمدينه خير لهم لو كانوا يطمون " أي لو كان لديهم شيء من العلم الصحيح، والإِدراك السليم، لعلموا أن طيبة الطيبة خير لهم من تلك البلاد التي انتقلوا إليها لما يتوفر فيها من الخيرات الدنيوية والأخروية التي لا توجد في غيرها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على التحذير من ترك المدينة والانتقال إلى غيرها لمجرد هوى النفس وأن من تركها زهداً فيها فإنه يخسر الحياة الطيبة التي كان - يعيشها ولا يجد مثلها في البلاد التي انتفل إليها لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والمدينة خير لهم " أمّا المدينة فسيبدلها الله خيراً منه كما في الحديث " لا يخرج أحد رَغْبَةً عنها إلاّ أخلف الله فيها خيراً منه " فإذا كان الخروج لغرض ديني أو عذر شرعي فإنه غير مذموم لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في الأمصار. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 584 - " بابُ الإيمَانِ يَأرِزُ إلى الْمَدِينَةِ " 680 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّ الإيمَانَ لَيَأرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأرِزُ الْحَيَّةُ إلى حُجْرِهَا ". 585 - " بَابُ إثْمَ مَنْ كَادَ أهْلَ الْمَدِينَةِ " 681 - عَنْ سَعْدٍ بنِ أبِي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا يَكِيدُ أهْلَ الْمَدِينَةِ أحَد إلَّا أنمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ في الْمَاء".   584 - " باب الإِيمان يأرز إلى المدينة " 680 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الإِيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " أي أن المؤمنين كلما شعروا بالخوف على دينهم وأحسّوا بالخطر على إسلامهم لجأوا إلى المدينة وآووا إليها كما تأوي الحية عندما تحس بالخطر إلى جحرها لتأمن فيه على نفسها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المدينة قلعة الإِيمان وحصنه الحصين الذي يأوي إليه المسلمون عند اشتداد الفتن حفاظاً على دينهم، وفيه دليل على وجوب الهجرة على من خاف الفتنة على دينه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 585 - " باب إثم من كادَ أهل المدينة " 681 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يكيد أهل المدينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 586 - " بَابٌ لا يَدخلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ " 682 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " على أنقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ ولا الدَّجَّالُ ".   أحد إلاّ انماع كما ينماع الملح في الماء" أي لا يمكر أحد بأهل المدينة، وينوي إلحاق الشر بهم ويدبر لهم الأذى في الخفاء إلاّ أهلكه الله فوراً وأزاله من الوجود سريعاً، كما يذوب الملح في الماء. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: ظاهرة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن إيذاء أهل المدينة والسعي في الإِضرار بهم كبيرة من الكبائر لأن هذا الوعيد الشديد لا يترتب إلّا على جريمة نكراء. ثانياًًً: تعجيل العقوبة في الدنيا لمن أراد بأهل المدينة شراً وإنذاره بالهلاك السريع، وفي الحديث عن السائب بن خلاد: " من أخاف أهل المدينة ظالماً لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله " أخرجه النسائي ثالثاً: الترغيب في حب أهل المدينة والإِحسان إليهم لأن التحذير من الشيء ترغيب في ضده، فيكون مفهوم الحديث أن من أراد الخير لأهل المدينة وسعى فيه كانت له البشري بالحياة السعيدة، سيما إذا كان حبه لهم ناشئاً عن حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الشاعر: فَيَا سَاكِني أكْنافَ طِيْبَةَ كُلُّكُمْ ... إِلَى القَلْبِ مِنْ أجْلِ الحَبِيْبِ حَبِيْبُ 586 - " باب لا يدخل الدجال المدينة " 682 - معنى الحديث: أن الله حفظ المدينة وصانها من شرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 عظيمين وجعل على أبوابها ومداخلها ملائكة يحرسونها ويمنعون عنها الدجال والطاعون، على كل باب ملكان، كما في حديث أبي بكرة حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان " أخرجه البخاري. فالدجال لا يدخل مكة ولا المدينة لأنّها محرمة عليه، ممنوعة عنه، ويدخل سائر المدن الأخرى سواهما كما في حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس من بلد إلاّ سيطؤه الدجال إلاّ مكة والمدينة " أخرجه الشيخان والنسائي، ولكنه يصل إلى ضواحي المدينة، وينزل ببعض السباخ التي بها كما في حديث أبي سعيد حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " فينزل ببعض السباخ التي بالمدينة " أخرجه الشيخان، وفي بعض الروايات: " ينزل في هذه السبخة التي بِمَمَرِّ قناة "، أخرجه أحمد، وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب إلى مجتمع السيول، وقال: " هذا منزله " ويقع مجتمع السيول هذا في الشمال الغربي من المدينة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: على أن المدينة محروسة محفوظة من الدجال والطاعون معاً لهذا الحديث، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي بكرة " لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال " فإذا كانت في مأمن من إرهابه والخوف منه، فهي في مأمن من دخوله من باب أولى، لأن الملائكة يقفون على مداخلها فيمنعونها عنه، ويحرسونها منه كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " على أنقاب المدينة ملائكة ". ومعنى ذلك أن حدود المدينة كلها محاطة بسور منيع من الملائكة، فلا يتجاوزها الرجال، ولهذا جاء في الأخبار الصحيحة أنه ينزل في السبخة التي تجتمع بها السيول في الشمال الغربي من المدينة، فإذا وصل إلى هناك وقع زلزال بالمدينة، وخرج إليه المنافقون منها، كما في حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: " ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق " أخرجه الشيخان والنسائي، ويقيض الله للاسلام في ذلك الموقف الخطر، وتلك الظروف الصعبة من يناضل عن الدين، ويقف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 في وجه المسيح الدجال، ويصمد أمام جبروته وطغيانه، فيقول كلمة الحق أمام ذلك الطاغية، ويكدبه ويتحداه أمام الناس كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال - صلى الله عليه وسلم - " فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خير الناس " أي من أفضل أهل المدينة ديناً وصلاحاً وثباتاً على الحق " فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً فيقول الدجال: أرأيت إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر " أي يقول للناس: أخبروني إن أنا قتلت هذا الرجل الذي واجهني بالتكذيب، وأحييته مرة أخرى، هل تشكون في ربوبيتي " فيقولون: لا " أي فيقول المنافقون: لا " فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحييه: والله ما كنت قط أشد بصيرة " أي أشد يقيناً بأنّك الدجال منّي اليوم " لأنه انطبقت عليك صفات الدجال التي أخبرنا بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - كما في ها الحديث وأمثاله " فيقول الدجال " لرجل من أتباعه " اقتله فلا يسلط عليه " ولا يقدر على قتله. ثانياًً: أن المدينة محمية من الطاعون، ولم ينقل في التاريخ قط أنه دخل المدينة أصلاً. والطاعون أورام دموية ودمامل خبيثة، قال السمهودي: وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة مع أنه يقع بالحجاز، ودخل جدة وينبع والفرع والصفراء والخبت وغير ذلك من الأماكن القريبة من المدينة، ولم يدخلها كما شاهدنا ذلك في طاعون سنة إحدى وثمانين وثمانمائة فإنه عم أكثر الأماكن القريبة من المدينة وكثر بجدة وهي محفوظة منه أتم الحفظ، فلله الحمد والمنة. والمطابقة: في قوله: " لا يدخلها الطاعون ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 587 - " باب " 683 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبو بَكْرٍ وَبِلال، فَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - أبو بَكْرٍ إِذَا أخَذَتْهُ الْحُمَّىْ يَقُولُ: كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّح في أهْلِهِ ... وَالْمَوْتُ أدنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلالُ إِذَا اقْلِعَ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقولُ: ألا لَيْتَ شعْرِي هَلْ أبِيْتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ وَحَوْلِى إذْخِر وَجَلِيلُ وهلْ أرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ مَجنَّةٍ ... وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِيَ شَامَة وَطَفِيلُ   587 - " باب " 683 - معنى الحديث: أن المدينة كانت قبل هجرته - صلى الله عليه وسلم - موبوءة كثيرة الحميات والأمراض المعدية، فلما قدم إليها - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه المهاجرون انتشرت فيهم الحمى فأصابت أبا بكر وبلالاً وغيرهم، فأحسوا بالغربة واشتاقوا إلى مكة، واستوحشت نفوسهم من المرض الذي أصابهم " كان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كلُّ امرىءٍ مُصَبّح في أهْلِهِ ... وَالمَوْتُ أدْنَى مِنْ شِرَاكِ نعْلِهِ " يريد رضي الله عنه أنّ المرض قد أخذ منه كل مأخذ، وكابد من آلام الحمى وتجرع كؤوس مرارتها حتي أصبح في حالة سيئة، تتراى له أشباح المنون بين حين وآخر يقال له عند الصباح: " أنعِمْ صباحاً وهو في غاية القرب من الموت بل هو أقرب إليه من شراك نعله " والشراك بكسر الشين أحد سيور النعل. أما بلال فإنه كلما أفاق من غشيته حن إلى مكة وربوعها، وأخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَة بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ ابْنَ خَلَفٍ، كَمَا أخرَجُونَا مِنْ أرضِنَا إِلَى أرضِ الْوَبَاءِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إليْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبنا مَكَّةَ، أو أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا وَفي مُدِّنَا، وصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، قَالَتْ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أوبَأ أرْضِ اللهِ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِيْ نَجْلاً يَعْنِي مَاءً آجِنَاً ".   يترنم في شعره بضواحيها ومغانيها، ويذكر طيب لياليها " وكان بلال إذا أقْلِعَ (1) عنه الحمى " أي إذا أفاق من الحمى " يرفع عقيرته " أي صوته " ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل وهكذا يتمنى بلال أن يبيت ليلة واحدة في ضواحى مكة ويطفىء أشواقه الحارة من مياه مجنة (2) وأن يمتع ناظريه بمشاهدة إذخر وجليل وغيرها من النباتات الخلوية التي حولها، وأن يشاهد " شامة وطفيل " (3) وغيرهما من جبال مكة الشامخة، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب أصحابه دعا على الذين أخرجوهم من مكة " وقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة " وغيرهم ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد " وذلك لكي يتغلب حبهم لوطنهم الثاني على حبهم لوطنهم الأول، ثم قال: " اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة "   (1) بضم الهمزة وكسر اللام والبناء للمجهول. (2) بفتح الميم وكسرها وتشديد النون موضع على أميال يسيرة من مكة، كما أفاده القسطلاني. (3) بفتح الطاء وكسر الفاء جبلان على نحو ثلاثين ميلاً من مكة، كما أفاده القسطلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فدعا - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يغير حال المدينة إلى أحسن حال من الناحية المعيشية والصحية. أما من الناحية المعيشية فإنّه دعا لها بالبركة في مكاييلها المختلفة من مد وصاع وغيرها، فلا يكال بها الطعام حتى يتضاعف وينمو ويتكاثر، ويجزىء منه القليل، ويكفي عن الكثير، وتتغذى به الأجسام غذاءً جيداً فتتحسن الحالة المعيشية، وتتوفر المواد الغذائية. وأما من الناحية الصحية فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يصحح لهم المدينة، وأن ينقل ميكروب الحمى منها إلى الجحفة ويقضي على الجراثيم والأوبئة التي كانت فيها فيتمتع أهلها بماء صحي وجو نقي وتطيب بها الحياة. " قالت " عائشة رضي الله عنها " وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله " أي أكثرها وباءً ثم بينت عائشة رضي الله عنها سبب وبائها وكثرة وجود الحميات فيها حيث قالت: " فكان بطحان يجري نجلاً " بفتح النون وسكون الجيم، قال الراوي: " يعني ماء آجناً " قال العيني: " الآجن " بالمد الماء المتغير الطعم واللون. اهـ، أي وكان وادي بطحان في جنوب المدينة يجري طول العام وعلى مدار السنة بالمياه المتغيرة المتعفنة التي تتركد فيه كثيراً، فتتعفن فينشأ عن ذلك البعوض والميكروبات الضاّرة وتتفشى الأمراض، وتكثر الحميات، وينتشر الوباء، كما يحدث عادة في البلاد التي تكثر فيها المستنقعات دون أن تتواجد فيها رعاية صحية كافية للقضاء على تلك الميكروبات التي تنجم عنها. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المدينة المنورة كانت قبل الإِسلام " أوبأ أرض الله " فلما هاجر إليها - صلى الله عليه وسلم - طهرها الله من الوباء وصححها من الأدواء استجابة لدعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًًً: أن الله بارك لأهل المدينة في ثمارهم وأقواتهم، ووضع البركة في مكاييلهم بحيث يكفي فيها من الطعام ما لا يكفي في غيرها استجابة لدعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحديث الصحيح " كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه " أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: أشار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 الحديث إلى وجوب العناية بالناحية الصحية والاهتمام بجودة الهواء، ونقاء الماء والتحذير من المياه الراكدة المتغيرة، لأن المياه المتغيرة الملوثة يتولد فيها البعوض والجراثيم التي تؤدي إلى تفشي الحميات والأمراض المختلفة، كما يدل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها في سبب انتشار الحميات، بالمدينة قبل الهجرة: " وكان بطحان يجري نجلاً - يعني ماءً آجناً " تريد رضي الله عنها أن الماء المتعفن الذي كان في وادي بطحان هو سبب انتشِار الحميات بالمدينة والله أعلم. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابَُ الصَّوْمَ " 588 - " بَابُ فضلِ الصَّوْمِ " 684 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الصيامُ جُنَّة فَلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، وِإنِ امْرُؤ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِني صَائِم مرَّتَيْنِ، والذي نَفْسِي بِيَد لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ   كتاب الصوم الصوم لغة الامتناع عن أي شيء كلاماً أو طعاماً وشرعاً الإمساك عن شهوتي البطن -وهي الأكل والشرب- والفرج " وهي مباشرة النساء من الفجر إلى المغرب " وفرض في الثانية من الهجرة في شهر شعبان، وهو فرض على كل مكلف قادر عليه. 588 - " باب فضل الصوم " 684 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف الصوم وصفاً دقيقاً يبين فيه فائدته بالنسبة للصائم فقال: " الصوم جنة " أي وقاية للإنسان من المعاصي، لأنه يكسر الشهوة ويسد مسالك الشيطان إلى النفس البشرية فيحميها من الخسران، ويصونها من النيران، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصائم أن يحافظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ من أجْلِي، الصيامُ لي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ، والْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا".   على وقاية نفسه من مباشرة النساء، وصيانة لسانه من اللغو والفحش فقال: " فلا يرفث " أي لا يباشر النساء ولا يتلفظ بالكلمات القبيحة " وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم " أي فإن تعرض له أحد بالإِساءة فضاربه أو خاصمه أو شتمه فليقل في نفسه إني صائم وليكف عن مجاراته في انتهاك حرمة الصوم، فإن دفعته نفسه للرد عليه فليقل في نفسه مرة أخرى إني صائم، ثم أقسم - صلى الله عليه وسلم - بربه الذي روحه بيده على أن خلوف الصائم وتغير رائحة فمه أجمل رائحة عند الله من رائحة المسك الذي هو أطيب الطيب " يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي " يعني يقول الله تعالى: إن هذا الصائم ترك شهوة بطنه وفرجه طاعة لي وامتثالاً لأمري " الصيام لي "، أي الصيام أخلص العبادات لي وأبعدها عن الرياء والسمعة " وأنا أجزي به " أي ولذلك فإني أجزي عليه من الأجر والمثوبة ما لا أجزي على غيره، أو أتولى المثوبة عليه بنفسي، قال الشرقاوي: وقد علم أن الكريم إذا تولّى الإِعطاء بنفسه كان ذلك إشارة إلى عظم العطاء " والحسنة بعشر أمثالها " أي وإذا كات الجزاء على الحسنات العادية الحسنة بعشر أمثالها، فما بالك بالصوم الذي تولى الله بنفسه الجزاء عليه فإنه يجزي عليه بغير حساب. قال الزرقاني قوله: وأنا أجزي به " أي بلا عدد ولا حساب، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضائل الصوم ومزاياه فمن فضائله إصلاح الغريزة، وترويضها على الوقوف عند حدود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 589 - " بَابُ الرَّيَّانِ للصَّائِمِينَ " 685 - عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ   الشرع والعقل، والالتزام بمنهج الدين وتقوية الإِرادة وسد مداخل الشيطان، مما يؤدي إلى تحقيق السعادة النفسية في الدنيا والنجاة من النار في الآخرة كما في رواية أخرى عن أبي هريرة " الصوم جنة من النار " أي وقاية منها أخرجه الترمذي، وفي رواية عنه " الصوم جنة من عذاب الله " أخرجه البيهقي قال في " الإكمال ": معنى الصوم جنة أنه يستر من الآثام أو من النار، أو من جميع ذلك، وبه جزم النووي. ومن مزاياه مضاعفة حسنات الصائمين بغير حساب، وهو معنى " وأنا أجزي به " أي أضاعف الثواب عليه بلا حدود لما في رواية " الموطأ " " كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلاّ الصيام فهو لي وأنا أجزي به " فالاستثناء يدل على أن مضاعفة أجر الصيام لا حد له. ثانياًًً: أن للعبادات روائح زكية يختلف بعضها عن بعض يوم القيامة فريح الصيام بين العبادات كالمسك، وطيب فم الصائم كرائحة المسك الذي هو أجمل الطيب. ثالثاً: أن الصيام الذي تضاعف له الحسنات هو الذي يجمع بين الكف عن الطعام والشراب والمحرمات. قال أحمد بن قدامة المقدسي: للصوم ثلاث مراتب، صوم العموم وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وصوم الخصوص: وهو كف النظر واللسان والجوارح من اليد والرجل والسمع والبصر عن الآثام، وصوم خصوص الخصوص: وهو صوم القلب عما سوى الله (1). 589 - " باب الريان للصائمين " 685 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أنفق زوجين في   (1) " مختصر منهاج القاصدين ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 مِنْ أبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْر، فمنْ كَانَ مِنْ أهلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ من بَاب الصَّلَاةِ، ومنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كانَ مِنْ أهلِ الصيام، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، ومَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصًّدَقَةِ " فقالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بأبِي أنتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأبوَابِ مِن ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَال: " نَعَمْ وأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ".   سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير" أي من تصدق بعدد اثنين من أي شيء من المأكولات أو الملبوسات أو النقود، فأعطى درهمين، أو رغيفين، أو ثوبين لمن هو في حاجة إليهما ابتغاءً لرضوان الله نادته الملائكة من أبواب الجنة مرحبة بقدومه إليها، وهي تقول: لقد قدَّمت خيراً كثيراً تثاب عليه اليوم ثواباً كبيراً، " فمن كان منْ أهل الصلاة دعي من باب الصلاة " أي وقد جعل لكل عبادة في الجنة باباً مخصوصاً لها، فالمكثرون من الصلاة ينادون من باب الصلاة، ويدخلون منه، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر العبادات، " ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان "، أي والمكثرون من الصوم تستقبلهم الملائكة عند باب الريان داعية لهم بالدخول منه، وسمي بذلك، لأنه كما في رواية الترمذي " من دخله لم يظمأ أبداً " " فقال أبو بكر رضي الله عنه " طامعاً في فضل الله تعالى: " فهل يدعى أحد من تلك الأبواب " ومعناه أنه تساءل قائلاً " فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم " أي يوجد من المؤمنين من يُدعى من أبواب الجنة الثمانية لكثرة عباداته وتنوعها واختلافها، "وأرجو أن تكون منهم " لاجتهادك في كل العبادات وحرصك على جميع الخيرات. الحديث: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 590 - " بَاب هَلْ يُقَالُ رَمَضانُ أو شَهْرُ رَمَضَانَ؟ " 686 - وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبوَابُ السَّمَاءِ وغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَيّاَطِينُ ".   أخرجه الشيخان، والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن للجنة أبواباً متعددة بتعدد الأعمال لكل عبادة باب يختص بأهلها المتفوقين فيها. ثانياًًً: أن من بين هذه الأبواب باب الصائمين، ويقال له: الريان، لأن من دخل منه يرتوي فلا يظمأ أبداً كما في رواية الترمذي: " ومن دخله لم يظمأ أبداً ". والمطابقة: في قوله: " من كان من أهل الصيام دعى من باب الريان ". 590 - " باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان " 686 - معنى الحديث: أن أبواب السماء تفتح عند قدوم رمضان حقيقة لا مجازاً إحتفاءً بهذا الشهر الكريم. وترحيباً به في الملأ الأعلى، وتنويهاً بفضله وشرفه، وإعلاماً للملائكة بدخوله، كما تفتح أبوابها لكل من مات فيه صائماً قائماً بواجباته غير مفسد له بالمحرمات والآثام استقبالاً له وترحيباً بمقدمه، وتبشيراً له بما أعدَّ الله له في دار الكرامة " وغلقت أبواب جهنم " حقيقة عن الصائمين، فمن مات منهم كان من عتقاء رمضان " وسلسلت الشياطين " أي وربطت الشياطين بالسلاسل، حقيقة أيضاًً وحمله بعضهم على شياطين الوسوسة والإِغواء، وهو أنسب. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل شهر رمضان، حيث تفتح فيه أبواب السماء وأبواب الجنة كما في رواية أخرى في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 591 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والْعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ " 687 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسوُلُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ في أن يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ".   البخاري، " وتغلق أبواب النار " وفيه بشارة عظيمة لمن مات فيه قائماً بحقوقه، والواجبات التي عليه، وأنه تربط فيه الشياطين عن الناس وتمنع عن الوسوسة لهم، ولا يقال كيف تربط ونحن نرى الناس يذنبون في رمضان؟ فالجواب أن هذا لا يتعارض مع الحديث، فإن الإِنسان توسوس له نفسه أيضاًً، فالمعاصي التي يرتكبها في رمضان نتيجة لغرائزه وشهواته النفسية. ثانياًًً: أنه لا مانع من أن يقال رمضان. والمطابقة: في قوله: " إذا دخل رمضان ". 591 - " باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم " 687 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يدع قول الزور والعمل به " أي من لم يترك القول الباطل والكلام المحرّم أثناء صومه من الكذب وشهادة الزور، والغيبة والنميمة والقذف والشتيمة " والعمل به " أي ولم يترك الأعمال الباطلة من الظلم والغش والخيانة وأكل الربا وغيرها " فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه "، أي فإن صيامه لا يكون مرضياً عنه، ولا يقبل قبولاً كاملاً، ولا يثاب عليه ثواب الصائمين الذين يوفَّون أجرهم بغير حساب، وإن كان الصوم في حد ذاته صحيحاً مسقطاً للفرض الذي عليه. فقوله: " وليس لله حاجة " إلخ مجاز يراد به عَدمُ القبول الكامل من إطلاق السبب وإرادة المُسَبِّبِ، قال ابن المنير: هو كناية عن عدم قبول الصوم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 592 - " بَابُ الصَّوْمِ لِمَنْ خاف عَلَى نفْسِهِ الْعُزُوبَةَ " 688 - عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أغَضُّ   كما يقول الغضبان لمن رد عليه شيئاً طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة في به. الحديث: أخرجه أيضاًً الأربعة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحذير الصائم من الأقوال الباطلة والأفعال المحرمة، لأنّها تسخط الله وتنقص من ثواب الصوم فلا يجازى الصائم على صومه بغير حساب، إلاّ إذا صام عن المحرمات، أما إذا اقترفها فإنه لا يستفيد منه إلا إسقاط الفرض فقط. ثانياًً: أنه ليس الغرض من الصيام الحرمان من الطعام والشراب، بل ما يترتب عليه من تهذيب النفس، وتقويم السلوك الإِنساني، قال البيضاوي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " أي ليس المقصود من شرعية الصيام نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر قبول. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 592 - " باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة " 688 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من استطاع الباءة " وهي لغةً الجماعُ والمراد بها هنا مؤونة النكاح والقدرة عليه " فليتزوج " أي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمُرُ بالزواج كلَّ من كان قادراً عليه جسمياً ومادياً إحصاناً لنفسه ودينه، لأنه في حاجة إليه بمقتضى غريزته الجنسية التي أودعها الله فيه فإنّها إذا لم تجد لها مصرفاً شرعياً صرفت قواها في الفواحش والموبقات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 لِلْبَصَرِ وأحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء". 593 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِِّي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَأيْتُمْ الْهِلالَ فَصُومُوا " 689 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الشَّهر تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلا تَصُومُوا حتى تَرَوْهُ، فإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فأكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاِثين ".   والزواج هو المصرف الشرعي لها، وهو الوقاية والحماية لها من الخبائث، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج " أي فإن النكاح أمنع للبصر والفرج من اقتراف الخطايا " ومن لم يستطع فعيه بالصوم فإنه له وجاء " أي فإن الصوم يكسر الشهوة. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في الزواج لكل من يقدر عليه مالياً ونفسياً وجسمياً. ثانياًًً: استحباب الصوم لمن خاف على نفسه من العزوبة، وخشي الفاحشة لأنّ الصوم يضعف الشهوة. والمطابقة: في قوله: " ومن لم يستطع فعليه بالصوم ". 593 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا " 689 - معنى الحديث: أن الشهر يكون أحياناً تسعة وعشرين يوماً كما يكون أحياناً ثلاثين، الكل جائز وواقع، ولكن الاعتماد في الصيام والإفطار على الرؤية، أو إكمال ثلاثين يوماً وهو معنى قوله: " فلا تصوموا حتى تروه " أي حتى تروا الهلال بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من شعبان وكذلك الحكم في الإِفطار، لا تفطروا حتى تروا الهلال بعد غروب اليوم التاسع والعشرين من رمضان، " فإن غم عليكم " أي فإن لم تروا الهلال ولم يظهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 لكم لأي سبب من الأسباب، " فأكملوا العدة ثلاثين " أي فأتموا عدة أيام الشهر ثلاثين يوماً، سواء كان ذلك في الصيام كما نص عليه حديث الباب، أو في الإِفطار من رمضان كما في الأحاديث الأخرى، فقد جاء في رواية أخرى للبخاري عن ابن عمر " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا " أخرجه البخاري، ومعنى ذلك أن هذا الحكم في الصيام والإِفطار معاً، وفي رواية أخرى عن ابن عمر أيضاًً: " الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له " أخرجه أبو داود والشيخان وأحمد بن حنبل. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن ثبوت رمضان يكون برؤية الهلال بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من شعبان بشهادة شاهدي عدل أنهما رأيا الهلال، ولا يثبت بعدل واحد، عند مالك وأحمد في رواية، وقال أكثر أهل العلم: يثبت بعدل واحد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: " تراءى الناس الهلال (1) فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام، وأمر الناس بصيامه " أخرجه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: تقبل شهادة رجل واحد في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي في قول: وأحمد في رواية، قال النووي: وهو الأصح. فإن لم ير الهلال فيثبت بإكمال شعبان ثلاثين يوماً. ثانياًً: أن الإفطار كالصيام يثبت أيضاًً بالرؤية أو بإكمال ثلاثين يوماً. إلاّ أنه لا يثبت عند عامة الفقهاء إلاّ برؤية عدلين، خلافاً للظاهرية. ...   (1) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 594 - " بَابُ قَوْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا نكْتُبُ ولا نحْسِبُ " 690 - عنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّا أمَّة أمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، وَمَرَّة ثَلاِثينَ ".   594 - "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نكتب ولا نحسب " 690 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا أمة أمية " أي تغلب علينا الأميّة، وهي البقاء على أصل ولادة الأم، بمعنى أننا لا نعرف القراءة والكتابة، والحساب، وقيل المراد بالحساب حساب النجوم والمنازل والفلك، وذلك باعتبار ما غلب عليهم، وإلّا فقد كان في العرب من يعرف ذلك، ولكنهم قلة " الشهر هكذا وهكذا " يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بأصابع يديه أولاً ثلاث مرات عقد في الثالثة أصبعاً واحداً يعني تسعة وعشرين يوماً، ثم أشار بأصابع يديه ثانياًً ثلات مرات ولم يعقد شيئاً، يعني ثلاثين يوماً، فبين أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين يوماً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الصيام والإِفطار لا يثبتان كما قال أهل العلم إلاّ بالرؤية، وأما ما نسب إلى الشافعي من أنه. قال: من تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغُمَّ عليه، جاز له أن يُبيته (1) ويجزئه، فقد رده ابن عبد البر، وقال: الذي عندنا في كتبه -أي في كتب الشافعي- أنه لا يصح رمضان إلاّ برؤية أو شهادة عادلة، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث جزءاً من الترجمة.   (1) أي جاز له أن ينوي الصيام ليلاً، ويصوم من الغد، ويصح صيامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 595 - " بَاب لا يَتَقَدَّمَنَّ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْم وَلا يَوْمَيْنِ " 691 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يوْم أوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أن يَكُونَ رَجُل كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ ".   595 - " باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم أو يومين " 691 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين " أي لا يجوز لأحد أن يستقبل رمضان بصيام آخر شعبان، فيصوم قبله يوماً أو يومين، بنية كونهما من رمضان (1)، لاحتمال كونهما منه، سواء كان الجو صحواً أو غائماً، وإنما ذكر اليومين (2) لأنه قد يحصل الشك في يومين لوجود غيم أو ظلمة في شهرين أو ثلاثة، وإنما، نهى عن ذلك لأن الصيام بنية رمضان قبله مخالفة لحكم الشارع الذي علق الصيام على الرؤية ثم قال: " إلاّ أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم " وهذا استثناء منقطع " معناه " لكن إذا كان للصائم أيّام معتادة يصومها آخر الشهر تطوعاً، أو كان نذراً أو قضاءً فصادف آخر شعبان، فلا مانع من صيامه إذن، لأن ذلك ليس من جنس الصيام المنهي عنه شرعاً. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كراهية صيام آخر يوم من شعبان المسمى بيوم الشك مطلقاً. سواء صامه وحده أو مع يوم قبله لحديث الباب، ولقول عمار رضي الله عنه: "من صام اليوم الذي يشك   (1) " فتح المبدي " ج 2. (2) " تحفة الأحوذي " ج 3 المكتبة السلفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 596 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) " 692 - عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عَمَدْتُ إلى عِقَال أسْوَدَ، وِإلَى عِقَال أبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تحتَ وِسَادَتي،   فيه فقد عصى أبا القاسم"، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول (1) سفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق كرهوا أن يصام اليوم الذي يشك فيه، ورأى أكثرهم أنّه إن صامه وكان من شهر رمضان أن يقضي يوماً مكانه، وعند الحنفية (2) إن ظهر أنّه من رمضان أجزأ عنه. ثانياًً: أنه يجوز صيام يوم الشك في أيّام معتادة أو نذر أو قضاء صادف ذلك اليوم، قال الحافظ: والحكمة في النهي عن صيامه بنية أنه من رمضان أنّ الحكم علق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم (3). 596 - " باب قول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) " 692 - معنى الحديث: يقول عدى بن حاتم رضي الله عنه: " لما نزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت (4) إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي " أي   (1) " جامع الترمذي " وتحفة الأحوذي " ج 3. (2) " فقه السنة " ج 1 دار الفكر. (3) " فتح الباري " ج 4. (4) بفتح العين والميم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 فجعَلْتُ أنْظُرُ في اللَّيْلِ، فَلا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: " إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ ".   ظننت أن المراد بالخيط الأبيض والأسود معناهما الحقيقي، وأن المقصود بهما حبلان أحدهما أبيض والثاني أسود، وفهمت من الآية أن المسلم لا يزال مفطراً يأكل ويشرب حتى يتجلى النهار، ويظهر له الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فأحضرت الحبلين، ووضعتهما تحت وسادتي لأتعرّف منهما على أوّل وقت الصيام، " فجعلت أنظر في الليل " أي فلما طلع الفجر صرت أنظر في الحبلين فلا أميز الأبيض من الأسود، وهو معنى قوله: " فلا يستبين لي " أي لا أعرف هذا من هذا، " فغدوت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكرت له ذلك فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " أي ليس المقصود بالخيط الأبيض والخيط الأسود حقيقتهما ومعناهما الظاهرى، وإنما المقصود بالخيط الأسود سواد الليل، وبالخيط الأبيض بياض النهار، ونوره وضياؤه، وفي رواية ابن جرير (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال ففتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواء، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظت غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، قال: وما منعك يا حاتم، وتبسم، كأنه قد علم ما فعلت، قلت: فتلت خيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رؤي نواجذه، ثم قال: ألم أقل لك من الفجر إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية.   (1) " المنهل العذب " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 597 - " بَابُ بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيْجَابٍ " 693 - عن أنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً ". 598 - " بَابُ الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبَاً " 694 - عن عَائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ رَضي اللهُ عَنْهُمَا:   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة كما ترجم له البخاري. ثانياًً: على أن الصيام والإِمساك يبدأ من طلوع الفجر. 597 - " باب بركة السحور من غير إيجاب " 693 - معنى الحديث: أن الله أودع في السحور خيراً كثيراً، ونفعاً عظيماً لأنه ينشط البدن، ويقوي الجسم، ويعين على الصيام الذي هو من أفضل القربات وأعظم الطاعات، ولذلك أمر به - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، ورغب فيه، وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، كما في حديث عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " (1) أخرجه الخمسة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن السحور سنة مستحبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به وأقل مقتضيات الأمر الندب، وقد نقل ابن المنذر الإجماع عليه، وبين أنه بركة، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والمطابقة: ظاهرة. 598 - " باب الصائم يصبح جنباً " 694 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً يجامع أهله في ليالي   (1) أيضاًً " المنهل العذب " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ ويصُومُ ". 599 - " بَابُ الْمُبَاشَرةِ للصَّائِمِ " 695 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أمْلَكَكُمْ لِإرْبِهِ ".   رمضان ولا يغتسل بعد جماعه بل يبيت وهو جنب من أهله أي وهو جنب من جماع أهله لا من احتلام، ويطلع عليه الفجر وهو على حال الجنابة، فيصوم، ثم يغتسل ولا يرى في ذلك بأساً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّه يجوز للصائم أن يصبح جنباً كما ترجم له البخاري، وهو مذهب جمهور العلماء والفقهاء، قال النووي: وقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب، سواء كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين، وحكى عن أبي هريرة إبطاله، والصحيح أنّه رجع عنه كما صرح به في رواية مسلم، وحكي عن طاووس وعروة: إن علم بجنابته لم يصح، وعن الحسن البصري أنه يجزئه في صوم التطوع دون الفرض، قال النووي: ثم ارتفع هذا الخلاف وأحمع العلماء بعد هؤلاء على صحته. اهـ. وقال ابن دقيق العيد: صار ذلك إجماعاً أو كالإِجماع (1). اهـ. والمطابقة: في قوله: " كان يدركه الفجر وهو جنب ". 599 - " باب المباشرة للصائم " 695 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستمتع بنسائه بالتقبيل   (1) " تحفة الأحوذي " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 600 - " بَابُ الصَّائِمِ إِذَا أكَلَ أوْ شَرِبَ ناسياً " 696 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا نَسِيَ فَأكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ ".   والملامسة والمعانقة وسائر أنواع المباشرة عدا الجماع وهو صائم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان أقدر على امتلاك نفسه، والسيطرة على شهوته، فهو بالرغم من هذه المباشرة في مأمن من الجماع، وهو معنى قولها: " وكان أملككم لأربه " بفتح الهمزة والراء، على ما رواه أكثر المحدثين أي: لحاجته وشهوته ويروى بكسر الهمزة وسكون الراء، ويطلق على الذكر خاصة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود وأحمد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّه يجوز للصائم المباشرة (1) غير الفاحشة والقبلة إذا أمن على نفسه، أما من لم يأمن على نفسه فإنه يكره له ذلك، كما تكره المباشرة الفاحشة، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقال مالك يكره التقبيل (2) إن علمت السلامة، فإذا لم تعلم فهو حرام، وقال الشافعي: تجوز المباشرة والقبلة للشيخ دون الشاب. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها. 600 - " باب الصائم إذا أكل وشرب ناسياً " 656 - معنى الحديث: أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً فإن عليه   (1) والمراد بها لمس بشرة الرجل بشرة المرأة والاستمتاع بها بالتقبيل والمعانقة والملامسة والمداعبة، والمباشرة أعم من التقبيل فعطفها عليه من عطف العام على الخاص. (2) قال النووي: ولا خلاف أن القبلة لا تبطل الصوم إِلا إذا أنزل بها، وقال ابن قدامة: أن قبّل فأنزل أفطر بلا خلاف. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 601 - " بَابٌ إِذَا جَامَعَ في رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيءٌ فتصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّره " 697 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "بَينَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ   أن يتم بقية نهاره، ولا يفسد صومه، ولا يوجب عليه ذلك الأكل أو الشرب إثماً ولا قضاءً، فقد روي عن أبي هريرة أنه نسي صيام أول يوم من رمضان فأصاب طعاماً قال: فذَكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتم صيامك، فإن الله أطعمك وسقاك ولا قضاء عليك " أخرجه الدارقطني، إلاّ أن أحد رواته وهو الحكم بن عبد الله ضعيف الحديث. وإنما لم يترتب على الناسي شيء لأنه أكل وشرب دون إرادته واختياره، وهو معنى قوله: " أطعمه الله وسقاه ". نسب الإِطعام والإِسقاء إلى الله تعالى، لأن العبد لم يكن له اختيار لنسيانه، فلا يعد إفطاره جناية على صومه. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: استدال به الجمهور على أن من أكل أو شرب ناسياً لا يفسد صومه ولا يلزمه قضاء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليتم صومه "، ولا تلزمه كفارة من باب أولى، وقال مالك: يفسد صومه ويلزمه القضاء، ولا إثم عليه ولا كفارة، وحمل المالكية حديث الباب على إسقاط الإثم والمؤاخذة عليه دون القضاء (1)، ولكن قد جاء التصريح بإسقاط القضاء في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة " ذكره الحافظ في " الفتح " وقال فيه: أقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسناً فيصلح للاحتجاج به. والمطابقة: في قوله: " فليتم صومه ". 601 - " باب إذا جامع في رمضان " 697 - معنى الحديث: أنه بينما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في   (1) فقالوا: من أفطر ناسياً فعليه القضاء ولا إثم عليه ولا كفارة، ومن أفطر عامداً فقد أثم وعليه القضاء والكفارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 اللهِ هَلَكْتُ، قَالَ: " مَا لَكَ؟ " قَالَ: وَقَعْتُ على امْرَأتِي وأنَا صَائِم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تَعْتِقُهَا؟ " قَالَ: لا، قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيْعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتتَابِعَيْنِ؟ " قالَ: لا، قَالَ: " فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينَاً؟ " قَالَ: لا، فَمَكَثَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فبينا نَحْنُ على ذَلِكَ أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَقٍ فيهِ تَمْرٌ، والعَرَقُ المِكْتَلُ، قَالَ: " أينَ السَّائِلُ؟ " فَقَالَ: أنا، قَالَ: " خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ " فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ، فَواللهِ مَا بَيْنَ لابتَيْهَا -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أهلُ بَيْتٍ أفقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيتي، فَضَحِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ أَنيابُهُ، ثُمَّ قَالَ أطعِمْهُ أهلَكَ ".   مجلسه فوجئوا برجل يدخل عليهم وهو سلمان بن صخر البياضي جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فعلة وقع فيها فقال: هلكت يا رسول الله، أي وقعت في المعصية التي تؤدّي إلى الهلاك، فسأله - صلى الله عليه وسلم - عما وقع له، فأجاب بأنه جامع أهله في رمضان، وفي مرسل ابن المسيب عن سعيد بن منصور أصبت امرأتي ظهراً في رمضان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تملك رقبة " عبداً أو أمة فتعتقه فيكون كفارة لك، أو هل لديك من المال ما تشتري الرقبة فتعتقها قال: لا، " قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين " أي متواليين " قال: لا " وفي رواية للبخاري " قال: لا أقدر " وفي رواية ابن اسحاق: " وهل لقيت ما لقيت إلاّ من الصيام " " قال فهل تجد إطعام ستين مسكيناً، قال: لا " وهكذا ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع الكفارة الثلاثة فأجاب بأنه لا يقدر على شيء منها، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس عنده، لينظر في أمره فبينما هو عنده جاء إلى النبي رجل من الأنصار بعرق قال: والعرق المكتل أي الزنبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 الكبير، فسأل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: خذ هذا المكتل من التمر، فتصدق به على ستين مسكيناً يكون كفارة لك، " فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي " أي ليس هناك داخل حدود المدينة التي بين الحرتين من هو أفقر من أهل بيتي، فأنا أولى بهذه الصدقة من غيري، " فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - " من حال هذا الرجل الذي جاءه خائفاً على نفسه راغباً في فدائها، فلما وجد الرخصة طمع أن يأكل ما أُعطيه من الكفارة " ثم قال: أطعمه " أهلك " فأذن له أن يأكل كفارته وأن يتصدق بها نفسه. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الكفارة على من جامع في رمضان عامداً وهو قول عامة إلّا ما حكي عن الشعبي وابن جبير والنخعي أن عليه القضاء، أما المجامع ناسياً فلا يفطر ولا كفارة عليه عند الجمهور لمفهوم حديث الباب، وقال أحمد: يفطر وعليه الكفارة، وقال مالك: يفطر وعليه القضاء. والحديث حجة لمن خصص الكفارة بالجماع عمداً لقول السائل " هلكت " أي عصيت الله ولا معصية في النسيان. واختلفوا في المرأة، فقال مالك وأبو حنيفة عليها القضاء والكفارة، وعن الشافعي قولان وعن أحمد روايتان. ثانياًًً: أن الكفارة تكون بأحد الأنواع الثلاثة على الترتيب وجوباً وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمالك وأحمد في رواية، ولا تسقط بالإعسار وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة خلافاً للجمهور والحديث حجة على عدم سقوطها، فإن تكرر الجماع في يوم واحد فالكفارة واحدة إجماعاً وإذا تكرر في يومين أو أيّام فلكل يوم كفارة. ثالثاً: أن من أنواع الكفارة إطعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مد (1) عند المالكية والشافعية، وقال أحمد: مدٌّ من بُرّ أو نصف صاع من تمر أو شعير وقالت   (1) " المنهل العذب " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 602 - " بَابُ الْحِجَامَةِ والْقَيءِ لِلصَّائِمِ " 698 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: "إِذَا قَاءَ فلا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ ولا يُوْلِجُ". 699 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ، وهُو مُحْرِم، واحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ".   الحنفية: يجب لكل مسكين ما يجب في الفطرة وهو نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير. والمطابقة: في كون الحديث دل على كفارة الجماع وهو ما ترجم له البخاري. 602 - " باب الحجامة والقيء للصائم " 698 - تمهيد: هذا الحديث رواه البخاري موقوفاً على أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الأربعة كما قال العيني مرفوعاً من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض " إلاّ أن الترمذي قال: إنه حديث حسن غريب (1) لا نعرفه إلاّ من حديث عيسى بن يونس، قال الحافظ في " بلوغ المرام " وقد قواه الدارقطني. معنى الحديث: أن الصائم إذا غلبه القيء فخرج منه دون اختياره فإنه لا يفسد صومه لأن الصوم إنما يبطل بما يدخل إلى الجوف لا بما خرج منه، وهذا الذي وقع منه القيء " إنما يخرج ولا يولج " أي ولا يدخل شيئاً. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " إذا قاء فلا يفطر ". 699 - معنى الحديث: ظاهر، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم حال إحرامه في حجة الوداع واحتجم حال صيامه أيضاًً. الحديث: أخرجه   (1) " شرح العيني " ج 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 603 - " بَابُ الصَّوْم في السَّفَرِ والإِفْطَار " 700 - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهَا أن حَمزَةَ بْنَ عَمْروٍ الأسْلَمِيَّ قَالَ للِنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أأصُومُ في السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصَيَّاَمِ، فَقَالَ: " أن شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأفطِرْ ".   الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: "واحتجم وهو صائم". فقه الحديثين: دل الحديث الأول على أن من غلبه القيء لا يفسد صومه، ولا قضاء عليه، وقد قام الإجماع على ذلك، أما الاستقاء فإنه مفطر بالإِجماع كما نقله ابن المنذر، ودل الحديث الثاني على جواز الحجامة للصائم، وهو مذهب الجمهور. والحديث دليل على نسخ الفطر بالحجامة، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة. 603 - " باب الصوم في السفر والإفطار " 700 - معنى الحديث: أن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل أصوم رمضان في السفر أو أفطر فخيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصيام والإِفطار معاً، قال له: " إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر "، أي فيجوز لك هذا وهذا. قال ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان، أي لم يصرح في حديث الباب أنه سأله عن صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. وهذا صحيح بالنسبة إلى حديث الباب ولكن ورد التصريح بأنه سأله عن صوم رمضان في رواية أخرى حيث قال: " قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكرمه وأنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان، وأنا أجد القوة، وأنا شاب، فأجد بأن أصرم يا رسول الله أهون علي من أن أأخره فيكون ديناً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 أفأصوم أعظم لأجري أم أفطر؟ قال: " أي ذلك شئت يا حمزة " أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي. الحديث: أخرجه أيضاًً الجماعة. فقه الحديث: دل هذا الحديث كما قال النووي على أن الصوم والفطر جائزان (1) في السفر لقوله - صلى الله عليه وسلم - للسائل: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " وأما احتمال أن يكون ذلك في غير صوم رمضان فإنه قد انتفى بالرواية الأخرى التي جاء فيها النص الصريح على أنّه سأله عن رمضان، حيث قال في سؤاله: ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- كما تقدم في الشرح، ولهذا قال الجمهور يجوز في السفر صوم رمضان وإفطاره معاً لحديث الباب، والصوم أفضل لمن يقوى عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة صاما مع مشقة السفر وشدة الحرارة، كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلاّ ما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن رواحة " أخرجه الشيخان وأبو داود، فالحديث دليل على أن الصيام في السفر أفضل لمن قوي عليه والإِفطار أفضل لمن لم يقو عليه، ولا يقال: إن ذلك كان تطوعاً لما في رواية أخرى عن أبي الدرداء قال فيها: " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته في شهر رمضان في حر شديد " وقال بعض الظاهرية والشيعة: لا يجوز الصوم في السفر ولا يصح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس من البر الصيام في السفر " أخرجه الشيخان وأبو داود والبيهقي وحمل الشافعي نفي البر فيه على من أبى قبول الرخصة عند الشدة والمشقة وعدم القدرة على الصوم، وقال أحمد والأوزاعي: يجوز الأمران والفطر أفضل عملاً بالرخصة، كما في الحديث " إن الله يجب أن تؤتي رخصة " والمطابقة: في قوله: " إن شئت فصم وإن شئت فافطر".   (1) أي إن صوم رمضان وفطره جائزان في السفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 604 - " بَابٌ مَنْ مَات وعَلَيْهِ صَوْمٌ " 701 - عن عَائِشَةَ رَضي اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَليْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُْ وَلِيُّهُ ".   604 - " باب من مات وعليه صوم " 701 - معنى الحديث: أن من لم يصم رمضان أو أياماً منه لعذر من الأعذار الشرعية، ثم مات ولم يقض ما عليه من صوم ذلك الشهر أو أيام منه، فإنه يجوز لقريبه أن يصوم عنه، ويصح صيامه عنه، ويجزؤه، ويسقط عن الميت ذلك الفرض الذي عليه، يكون قضاؤه عنه بمنزلة قضائه هو عن نفسه كما جاء ذلك موضحاً في حديث، ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنّ أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، فدين الله أحق أن يُقضى " أخرجه الستة، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قضاء الصوم عن الميت بمنزلة قضاء الدين عنه، وقاسه عليه قياساً أولوياً، حيث قال: " فدين الله أحق أن يقضى ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز قضاء الصوم عن الميت بالصوم عنه، وهو مذهب الشافعي القديم (1)، وصوبه النووي، وقال الجمهور لا يصوم عنه وإنما يطعم عنه. والمطابقة: في قوله: " صام عنه وليه ".   (1) وعند الإمام أحمد لا يصام عن الميت إلا في النذر، لقول سعد بن عبادة: " يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر ". فقيده بالنذر. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 702 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أفأقْضِيَهِ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ فَدَيْنُ اللهِ أحَقُّ أن يُقْضَى ".   702 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر " أي وفي ذمتها صوم شهر واجب عليها لم تصمه، يحتمل أنه من رمضان أو غيره، ويحتمل أنه نذر فقد جاء في رواية أخرى أنه قال: " وعليها صوم نذر " " أفأقضيه عنها " أي هل يجزىء القضاء عنها؟ وهل إذا صمت بدلاً عنها ينفعها ذلك ويسقط عنها الصوم الذي لم تصمه؟ " قال: نعم " اقض عنها صومها، فإنك إن فعلت ذلك سقط عنها، ثم ضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك مثلاً بالدين وقضائه عن الميت، فقال - كما في رواية مسلم: " لو كان على أمّك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم " " قال: فدين الله أحق أن يقضى " أي إذا كان دين الناس يمكن قضاؤه ويجزى عن الميت فدين الله الذي هو الصوم أولى بالقضاء وقبوله. قال العيني: تقدير الكلام حق العبد يقضى فحق الله أحق. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز قضاء الصوم عن الميت، وقبوله عنه، وانتفاعه بذلك الصوم، وقد تقدم شرحه. ثانياًً: ترغيب أقارب الميت وحثُّهم على قضاء الحقوق التي عليه سواء كانت من حقوق الله كالصوم والحج وغيره، أو من حقوق الناس كالديون، لأن الرجلَ عندما سأل عن قضاء الصوم عن أمه قال: نعم، فحثه على قضائه، ثم ضرب له مثلاً بقضاء الديون عن الميت، وفيه ترغيب في قضائه، وقد قيده الإِمام أحمد بالنذر. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 605 - "بَابٌ مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ؟ " 703 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا أقْبَلَ اللَّيْلُ منْ هَا هُنَا، وأدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أفْطر الصَّائم ".   605 - " باب متى يحل فطر الصائم " 703 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس " أي إذا جاء الليل (1) من جهة المشرق، وذهب النهار (2) من جهة المغرب، وغابت شمس ذلك اليوم بسقوطها في الأفق، " فقد أفطر الصائم " أي، فقد حان وقت الإِفطار من الصوم، قال ابن خزيمة: لفظهُ خبر، ومعناه الأمر، أي فليفطر الصائم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الإِفطار من الصوم عند غروب الشمس، وأن غروبها يتحقق بأحد أمور ثلاثة يُعْرَفُ انقضاء النهار برؤية بعضها (3)، وهي رؤية ظلام الليل بالمشرق، وذهاب ضوء النهار بالمغرب، ومشاهدة مغيب الشمس، ورؤية قرصها يحتجب وراء الأفق وهو أقواها ولا يحتاج بعده لدليل آخر. ثانياًً: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للصائمين بالإِفطار فوراً عند غروب الشمس مباشرة، وهذا يدل على استحباب تعجيل الفطر، وسيأتي بيانه. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة.   (1) أي جاءت ظلمة الليل. (2) أي وذهب ضوء النهار. (3) " شرح العيني على البخاري " ج 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 606 - " بَابُ تعْجِيلِ الإِفْطَارِ " 704 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يَزَالُ النَّاس بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطر ". 607 - " بَاب إِذا أفْطَرَ في رَمَضَانَ ثُمَّ طَلعَتِ الشَّمْسُ " 705 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: "أفْطرنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ غَيْم ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ قِيلَ   606 - " باب تعجيل الإِفطار " 704 - معنى الحديث: يحدثنا سهل بن سعد رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزال الناس بخير " أي لا يزال المسلمون على خير وحق وهدى من الله متمسكين بسنة نبيهم، واقفين عند حدوده، غير مبدلين ولا مغيّرين " ما عجلوا الفطر " أي مدة تعجيلهم بالإفطار من صومهم عند غروب شمس يومهم مباشرة، لما في ذلك من المبادرة إلى قبول الرخصة من الله تعالى. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب تعجيل الفطر عند تحقق غروب الشمس مباشرة، لئلا يزاد في النهار من الليل، ولأنه أرفق بالصائم وأقوى في قبول الرخصة، وشكر النعمة. قال الشافعي في " الأم " تعجيل الفطر مستحب، ولا يكره تأخيره إلاّ لمن تعمد ذلك، ورأى الفضل فيه. والمطابقة: في تعليق الخير وارتباطه بتعجيل الفطر. 607 - " باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس " 705 - معنى الحديث: تقول أسماء رضي الله عنها: "أفطرنا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 لِهِشَام: أفَأمِرُوا بِالْقَضَاء؟ قَال: لَا بُدَّ مِنْ قَضاءٍ". 608 - " بَابُ التَّنكِيلِ لِمَنْ أكْثرَ الْوِصَالَ " 706 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنِ الوِصَالِ في الصَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُل مِنَ   عهد النبي يوم غيْم" أي احتجبت الشمس بالغيوم فظنوا أنّه قد غربت الشمس لانتشار الظلام فأفطروا، " ثم طلعت الشمس " أي ثم انكشف السحاب وظهرت الشمس فعلمنا أننا أفطرنا قبل الغروب، " قيل لهشام " أي فسئل هشام " فأمروا بالقضاء " أي: هل أمروا بقضاء ذلك اليوم؟ " قال: لا بد من قضاء " أي نعم أمروا بالقضاء ولا سبيل لتركه. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من أفطر قبل الغروب ظناً منه أنّ الشمس قد غربت يجب عليه القضاء دون الكفارة، وهو مذهب الجمهور حيث قالوا: يمسك بقية يومه، ويقضي يوماً آخر مكانه، وعن شعيب بن عمرو الأنصاري قال: أفطرنا أنا وأبي مع صهيب في شهر رمضان في يوم غيم فبينما نحن نتعشى إذ طلعت الشمس، فقال صهيب: طعمة الله أتموا صيامكم واقضوا يوماً مكانه، وروي ابن أبي شيبة عن عمر ترك القضاء مكانه. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 608 - " باب التنكيل لمن أكثر الوصال " 706 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال " أي نهى أمته رحمة ورفقاً بهم عن مواصلة الصوم يومين بترك الطعام ليلاً ونهاراً قصداً وعمداً فإن أمسك اتفاقاً فلا يعد وصالاً "فقال له رجل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 الْمُسْلِمينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: " وأيكُمْ مِثْلِي إِنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ " فَلَمَّا أبَواْ أنْ يَنْتَهُوا عن الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمَاً ثُمَّ يَوْماً، ثمَّ رَأوا الْهِلالَ فَقَالَ: " لَوْ تَأخرَ لَزِدْتُكُمْ " كالتنكِيل لَهُمْ حِينَ أبوا أن يَنْتَهُوا.   إنك تواصل" أي فكيف تنهانا عن شيء تفعله وقد أمرتنا باتباع سنتك؟ " قال: وأيكم مثلي؟ " وهو استفهام بمعنى النفي، أي ليس الأمر كما تظنون، فإن الوصال لم يشرع لكم، وإنما هو خصوصية من خصوصيات نبيكم، فلا تقيسوا أنفسكم عليَّ، فإنكم لستم مثلي، ولا تقدرون على ما أقدر عليه، وفي رواية " إني لست كهيئتكم " " إني أبيت يطعمني ربي ويسقين " أثناء الليل ويمدني بالطعام والشراب فيه، أو يعطيني قوة الأكل والشرب فيه، وبذلك يمكنني من مواصلة الصيام دون إعياء، ويُحتمل أنه أراد به حقيقة الأكل والشرب. وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله تعالى كرامة له في ليالي صيامه، ولا يقال إن هذا الاحتمال يضعفه قولهم: إنك تواصل، وكونه يؤتى بالطعام والشراب ليلاً ينافي الوصال، لأنّ هذا الإِطعام والاسقاء من باب الكرامة، ولا تجري عليه أحكام المكلفين. " قال " " فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال " أي تمادوا عليه " واصل بهم " أي استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم على مواصلة الصوم يومين " ثم رأوا الهلال " أي هلال شوال، " فقال - صلى الله عليه وسلم -: لو تأخر لزدتكم " أي ليته تأخر هلال شوال حتى أزيد في عدد أيام الوصال، " كالتنكيل لهم " أي قال ذلك زجراً وتأديباً لهم، حيث كلفوا أنفسهم ما لا يطيقون، ولذلك قال لهم كما في رواية أخرى: " فاكْلَفُوا من العمل ما تطيقون ". الحديث: أخرجه الشيخان. ويستفاد منه: كراهية الوصال، وهو مذهب الجمهور حيث حملوا النهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 609 - " بَابُ صَوْمِ شَعْبَانَ " 707 - عن عَائِشَةَ رَضي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطرُ، وَيُفْطِرُ حتى نَقوْلَ لا يَصُومُ، فما رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صيامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأيتُهُ أكْثَرَ صِياماً مِنْهُ في شَعْبَانَ ". 610 - " بَابُ حَقِّ الْجِسْمِ في الصَّوْمِ " 758 - عَنْ عَبْدِ الله بْن عَمْرِو بْنِ العَاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَال: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَبْدَ اللهِ ألمْ أُخْبَرْ أنكَ تَصُومُ النَّهَارَ   على الكراهة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل بالصحابة كما في حديث الباب، ولو كان حراماً لما واصل بهم، ذهب ابن حزم إلى أن النهي للتحريم، وصححه ابن العربي من المالكية. والمطابقة: في قوله: " كالمنكل لهم ". 609 - " باب صوم شعبان " 707 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم أحياناً أياماً كثيرة من الشهر حتى نظن أنه سيصوم الشهر كله، أحياناً يفطر أياماً كثيرة حتى نظن أنه لن يصوم منه شيئاً، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصم شهراً كاملاً سوى رمضان، وما رأيته صام في شهر من السنة أكثر من شعبان " باستثناء رمضان طبعاً " الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يستحب الإكثار من الصوم في شعبان. والمطابقة: في قولها: " وما رأيته أكثر منه صياماً في شعبان ". 610 - " باب حق الجسم في الصوم " 708 - معنى الحديث: أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يصوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وَتَقُومُ اللَّيْلَ" فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وأفْطِرْ، وَقُمْ ونَمْ، فَإِنْ لِجَسَدِكَ عَلَيكَ حَقَّاً، وِإنْ لِعَيْنكَ عَلَيْكَ حَقاً، وِإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيكَ حَقَّاً، وِإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وِإن بحسبك أن تَصُومَ من كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّام، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ " فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَليَّ، قْلْتُ: يا رسُولَ اللهِ إني أجِدُ قوةً، قَالَ: " فَصُمْ صِيَامَ نِبِّي اللهِ دَاوُدَ عَلَيه السَّلامُ، ولا تَزِدْ " قُلت: وَمَا كَانَ صِيَام نَبيِّ اللهِ دَاود؟ قَالَ: " نِصْفَ الدَّهْرِ " وكان عَبْدُ اللهِ يَقُولُ بَعْدَمَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِى قَبِلْت رخْصَةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".   الدهر ويقوم الليل كله، وكان أبوه قد زوجه بامرأة ذات حسب، وكان يتعاهدها فيسألها عن زوجها، فتقول، نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً كناية عن أنه لا يباشرها، وذلك لانشغاله طول حياته بالصيام والقيام، فذهب أبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بحاله، فاستدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: لقد سمعت وأُخبرت بأنك تصوم الدهر وتقوم الليل كله، قال: نعم، فعلت ذلك، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، لأن الله قد أوجب عليه حقوقاً جسمية واجتماعية لا بد أن يؤديها، فحق الجسم أن يعطيه نصيبه من النوم والراحة، وحق الزوجة أن يجعل لها وقتاً لمعاشرتها ومباشرتها، وحق الزائر أو الضيف أن يستقبله ويكرمه، ويؤانسه فإذا أعطى للعبادة وقته كله قصر في أداء هذه الحقوق الأخرى، وهي واجبة، ولذلك نصحه أن يقتصر في الصوم على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وله عن كل حسنة عشر أمثالها، فالثلاثة الأيام تحسب عند الله ثلاثين يوماً، فيكون قد صام الدهر والأيام كلها، فقال عبد الله: إني أستطيع أكثر من ذلك، فقال له النبي: صم صيام داود عليه السلام، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا النوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 611 - " بَاب مَنْ زارَ قَوْماً لَمْ يُفطِرْ عِنْدَهُمْ " 709 - عن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أمِّ سُلَيم فأتَتْهُ بِتَمرٍ وَسَمْن، قَالَ: " اعِيدُوا سَمْنَكُمْ في سِقَائِهِ، وتَمْرَكُمْ في وعَائِهِ فإِنِّي صَائِمٌ "، ثُمَّ قَامَ إلى نَاحِيَةٍ   من الصيام فقال كما في رواية أخرى: " وهو أعدل الصيام، قال فقلت إني أطيق أفضل من ذلك: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا أفضل من ذلك " (1) أخرجه الستة وإنما وصفه - صلى الله عليه وسلم - بالأفضلية لأنّه يمكن صاحبه من أداء حق الله وحق نفسه وحق المجتمع عليه. والمطابقة: في قوله: " إن لجسدك عليك حقاً ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الواجب على المسلم أن يراعي في صيام التطوع جسمه ونفسه، ولا يسترسل في الصيام فَيُقْصِّرُ في حقوق أخرى دينية ونفسية واجتماعية ولهذا رغبه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتصد في صيامه وقيامه، وبين له أن أفضل الصيام وأعدله صيام داود، ويليه صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقد تبين لعبد الله بن عمرو قدر هذه النصيحة الغالية عندما كبر سنه، ووهن جسمه، وعجز عن الصيام الذي كان يصومه والقيام الذي كان يقومه أثناء شبابه، وتمنى لو قبل رخصة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستجاب لنصيحته. الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي بألفاظ. 611 - " باب، من زار قوماً فلم يفطر عندهم " 709 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زار يوماً أم سليم، فقدمت له طعاماً من سمن وتمر تكريماً له، فاعتذر لها أنه كان صائماً صيام تطوع، ثم تنحى إلى جهة من البيت فصلى ركعتين تطوعاً، ودعا لها ولأهل بيتها،   (1) " سنن أبي داود وشرحه المنهل العذب " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 مِنَ البيتِ فَصَلَّى غَيرَ المَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لأم سُلَيمْ وأهْلِ بَيْتهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْم: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّ لي خُوَيْصةً، قَالَ: " مَا هِيَ؟ " قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ فما تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلا دُنيا إِلَّا دَعَا لي بِهِ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " اللهُمَّ ارْزُقْهُ مالاً، وَوَلَداً وَبَارِكْ لَهُ " فإِنِّي لَمِنْ أكْثَرِ الأنصَارِ مَالاً، وَحَدَّثَتْنِي ابْنتِي أمَيْنَةُ أنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ الحَجَّاجِ بِضْع وَعِشْرُونَ وَمِائَة.   فقالت يا رسول الله: لي إليك حاجة خاصة أسألك قضاءها، فسألها عن حاجتها، فقالت له: " خادمك أنس " تريد استعطافه عليه، ثم سألته أن يدعو له، فدعا له - صلى الله عليه وسلم - دعاء يجمع بين خير الدنيا والآخرة فقال: " اللهم ارزق مالاً وولداً، وبارك له " وفي رواية ابن سعد: " اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره واغفر ذنبه " " قال: فإني لمن أكثر الأنصار مالاً وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم الحجاج " أي عند قدوم الحجاج إلى البصرة، وذلك سنة خمس وسبعين " بضع وعشرون ومائة " هؤلاء الذين ماتوا من أولاده، وأما الذين بقوا ففي رواية اسحق بن أبي طلحة عن أنس " أن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة " ولهذا قال رضي الله عنه: " فدعا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث دعوات، قد رأيت منها اثنتين، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة " (1) أخرجه مسلم، ولم يبين الثالثة وهي المغفرة كما تقدم لنا في حديث ابن سعد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنّ الصائم المتطوع إذا حلّ ضيفاً على أحد، فقدم له طعام له أن يفطر، وله أن يستمر بالصوم، وإنما يندب ويستحب له أن يصلي ويدعو لهم، فإن أفطر فعليه القضاء كما قال مالك   (1) " فتح الباري " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 612 - " بَاب صوْم الْجمعَةِ فَإذَا أصْبَحَ صَائِمَاً يَوْمَ الْجُمُعَةِ فعَلَيْهِ أن يفْطِرَ " 710 - عن جوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ (1) رَضِيَ الله عَنْهَا: " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهي صَائِمَة، فَقَالَ: أصُمْتِ أمْسِ؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: ترِيدينَ أنْ تَصومِي غَداً؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: فأفْطرِي ".   وأبو حنيفة، خلافاً لغيرهم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 612 - " باب صوم الجمعة، فإذا أصبح صائماً يوم الجمعة فعليه أن يفطر " 710 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الجمعة على أم المؤمنين جويرية بنت الحارث، رضي الله عنها وهي صائمة صيام تطوع، فسألها ْهل صمت يوماً قبله؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي اليوم الذي بعده؟ قالت: لا، فأمرها - صلى الله عليه وسلم - بالإِفطار، لأن إفراد يوم الجمعة وتخصيصه بالصيام منهي عنه شرعاً، كما في حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلّا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجة والحاكم والبيهقي والترمذي، والحكمة في النهي عن صيامه وحده على أرجح الأقوال، كونه يوم عيد والعيد لا يصام كما جاء مصرحاً بذلك   (1) جويرية: هي أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سباها النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وكانت قبله تحت مسافح بن صفوان المصطلقي، وقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أعتقها وتزوجها، وكان اسمها برة، فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها جويرية. ماتت في ربيع الأول سنة ست وخمسين ولها خمس وستون سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 711 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا يَصُومَنَّ أحَدكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ إلَّا يَوْماً قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ ".   في رواية أخرى عن أبي هريرة مرفوعاً: " يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده " (1) أخرجه الحاكم. الحديث: أخرجه أيضاًً أحمد وأبو داود (2) مطابقة الحديث للترجمة: في قوله: " فأفطري ". 711 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يصومن " بنون التوكيد، وفي رواية لا يصوم بدون نون، وهو نَفْي المراد به النهي لا يصومن " أحدكم يوم الجمعة إلاّ يوماً قبله أو بعده " أي لا يجوز لأحد من المسلمين سواء كان ذكراً أو أنثى أن يصوم يوم الجمعة تطوعاً إلاّ أن يصوم (3) يوماً قبله أو يوماً بعده، وقد ورد الحديث بلفظ النهي الصريح في رواية أخرى حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلّا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة. مطابقة الحديث للترجمة: في كونه دليلاً عليها. فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز إفراد يوم الجمعة وحده بالصيام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى المسلمين عن صومه إلاّ إن يصوموا يوماً قبله أو بعده، وأمر جويرية بالإِفطار حين أفردته بالصوم، وقد ورد النهي الصريح عن تخصيصه بالصوم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه حيث   (1) " تحفة الأحوذي " ج 3. (2) أيضاًً " تحفة الأحوذي " ج 3. (3) أي إلا بشرط أن يصوم يوم الخميس قبله أو يوم السبت بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 613 - " "بَابٌ هَلْ يَخُصُّ شيئاً مِنَ الأيَّامِ " 712 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ كانَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخُصُّ مِنَ الأيَّامِ شَيْئاً؟ قَالَتْ: لا، كَانَ - صلى الله عليه وسلم - عَمَلُهُ دِيمَةً، وأيُّكُمْ يُطِيقُ مَاَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطِيقُ ".   قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا يوم الجمعة بصوم من بين الأيّام إلاّ أن يكون، في صوم يصومه أحدكم " أخرجه مسلم، ولهذا ذهب ابن حزم إلى تحريم صيامه وحده، وقال الشافعية والحنابلة يكره، وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز صومه مطلقاً، لما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " أنه - صلى الله عليه وسلم - قلما كان يفطر يوم الجمعة " أخرجه الترمذي (1)، وقال مالك في " الموطأ ": لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدي به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن. اهـ. 613 - " باب هل يَخصُّ شيئاً من الأيّام " أي هذا باب نذكر فيه هل من المشروع أن يخص الشخص شيئاً من الأيّام بالصيام، ويواظب عليه دائماً، ويلتزم به التزامه بالفرائض بحيث لا يتركه أبداً أم لا؟ 712 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " سئلت " أي سألها علقمة راوي الحديث، فقال لها: " هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخص من الأيّام شيئاً؟ قالت: لا " قال العيني: معناه، أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يخصُّ شيئاً من الأيام دائماً، ولا راتباً، إلاّ أنه كان أكثر صيامه في شعبان وقد   (1) قال الحافظ: وليس بحجة، لأنه يحتمل أن يريد كان لا يتعمد فطره إذا وقع في الأيام التي كان يصومها، ولا يضاد ذلك كراهة إفراده بالصوم جمعاً بين الحديثين. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 614 - " بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ " 713 - عَنْ أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنَ أزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهَُ عَنْهُ فَقَالَ: "هَذَانِ   حَضَّ على صوم الإِثنين والخميس، لكن صومه على حسب نشاطه، فربما وافق الأيام التي رغب، وربما لم يوافقها " كان عمله ديمه " بكسر الدال وسكون الياء، أي دائماً لا ينقطع، ومن ذلك قيل للمطر الذي يدوم ولا ينقطع أياماً الديمة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ظاهر هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخص بعض الأيام من الشهر بالصيام، قال الشرقاوي: ويشكل عليه (1) صوم الاثنين والخميس الوارد عند أبي داود والترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان، وأجاب في " فتح الباري " باحتمال أن يكون المراد بالأيّام المسؤول عنها الثلاثة من كل شهر، فكان السائل لم سمع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام سأل عائشة هل كان يخصها بالبيض قالت: لا. " ويحتمل " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يواظب على صيام شيء من الأيام دائماً وأبداً، أو يلتزم بصيامه التزام الفرائض، بحيث لا يتركه أبداً، وإنما كان يصوم بعض الأيّام غالباً، ويترك صيامه أحياناً وهو ما أشار إليه العيني. ثانياًًً: استدل به بعض أهل العلم على أنّه يكره أن يتحرى بصيامه يوماً معيناً من الأسبوع قلت: ولكن يستثنى من ذلك الاثنين والخميس، لورود النص فيها. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 614 - " باب صوم يوم الفطر " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حكم صيام اليوم الأوّل   (1) " فتح المبدي شرح مختصر البخاري " للزبيدي ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِمَا، يَوْمُ فِطركُمُ مِنْ صِيَامِكُمْ، واليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ". 615 - " بَابُ صِيَامَ أَيام التَّشْرِيقَ " 714 - عَنْ عَائِشَةَ وابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالا: " لَمْ يُرَخِّصِ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ أنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ ".   من عيد الفطر، قال العيني: ولم يصرح بالحكم اكتفاءً بالحديث. 713 - معنى الحديث: يقول أبو عبيد مولى ابن أزهر. " شهدت العيد " أي حضرت صلاة عيد الأضحى، لما جاء في الرواية الأخرى " يوم الأضحى " " مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: " أي قال في خطبته كما يدل عليه السياق " هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما " نَهيَ تحريم " يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم " أي واليومان اللذان حرم عليكم صومهما أحدهما يوم عيد الفطر " وثانيهما " اليوم الأول من أيام عيد النحر الذي تأكلون فيه من ضحاياكم. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم صومهما يوم الفطر ويوم الأضحى، لأن الأول منهما هو اليوم الذي يفطر فيه الناس، من صيامهم، فيجب عليهم إفطاره، ويحرم عليهم صيامه، وأمّا الثاني فيحرم صيامه لأن الله قد شرع للناس ضحاياهم، وسن لهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - الأكل منها في هذا اليوم، فكيف يعارضون ذلك بالصوم. والمطابقة: في قوله: " هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما ". 615 - " باب صيام أيام التشريق " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حكم صيام أيام التشريق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 616 - " بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ " 715 - عنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الْمَدينَةَ، فَرَأى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ:   استناداً إلى ما يذكر في الحديث. 714 - معنى الحديث: تقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهم: " لم يرخص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ " أي لم يأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد من المسلمين ذكراً أو أنثى في صيام أيام التشريق " وهي الثلاثة الأيام التي تلي يوم النحر " " إلاّ لمن لم يجد الهدي " أي لم يأذن في صيامهما إلاّ لمتمتع أو قارن لم يقدر على هدي النُّسُك، ولم يستطع الذبح، فإن له أن يصوم أيام التشريق ضمن الأيام العشرة التي عليه لقوله تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ). الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز صيام أيّام التشريق إلّا لمتمتع لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة الأيام في عشر ذي الحجة، فيجوز له صيامها ضمن العشرة التي عليه، وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي في القديم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز صيامها مطلقاً: وهو مشهور مذهب الشافعية لحديث سعد بن أبي وقاص، قال: " أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أيام منى أنها أيام أكل وشرب ولا صوم فيها " أخرجه أحمد. وأجاز أصحاب الشافعي صيامها فيما له سبب من نذر أو كفارة أو قضاء، وهو نظير الأوقات المنهي عنها. اهـ. كما نقله المحاملي والسرخسي. والمطابقة: في قوله: " لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام التشريق ". 616 - " باب صيام يوم عاشوراء " 715 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "قدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هذَا يَوْم نَجى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى: قَالَ: فَأنَا أحَقُّ بموسى (1) مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأمَرَ بِصِيَامِهِ".   النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء" أي لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم " فقال: ما هذا؟ " أي فسأل عن سبب صيامهم لهذا اليوم، " قالوا: هذا يوم صالح "، أي هذا يوم مبارك مليء بالأحداث والذكريات التاريخية العظيمة أنعم الله علينا فيه بنعمة كبرى حيث " نجّى الله بني إسرائيل " في هذا اليوم " من عدوهم ": فرعون وقومه، فأغرقهم في البحر، كما قال تعالى في سورة الشعراء: (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ) " فصامه موسى " وفي رواية مسلم: " فصامه موسى شكراً لله تعالى " وفي رواية أبي داود " ونحن نصومه تعظيماً له " " فصامه " النبي - صلى الله عليه وسلم - شكراً لله تعالى على نجاة موسى من الغرق ومن عدوه " وأمر بصيامه ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فصامه وأمر بصيامه ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل يوم عاشوراء، وأنه يوم مبارك يُسَنُّ صيامه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صامه وأمر بصيامه، وأقل مقتضيات الأمر السنية والاستحباب وعن أبي قتادة رضي الله عنه مرفوعاً: " صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله " أخرجه مسلم. ...   (1) أي أنا أقرب إلى موسى منكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب صلاة التراويح " وصلاة التراويح: إنما سميت بذلك لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، وأطلق عليها ذلك في عصر الخلفاء الراشدين، وقد كانت تعرف في عصر النبوة بقيام الليل. قال في " فقه السنة ": قيام رمضان أو صلاة التراويح سنة للرجال والنساء، تؤدَّى بعد صلاة العشاء، وقبل الوتر ركعتين ركعتين، وليس في القراءة فيها شيء محدود، وقد ورد عن السلف أنهم كانوا يقرأون المئين، ويعتمدون على العصي من طول القيام، ولا ينصرفون إلاّ قبل بزوغ الفجر، فيستعجلون الخدم بالطعام مخافة أن يطَّلع عليهم، وكانوا يقرأون بسورة البقرة في ثماني ركعات. وقال أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخفّ على الناس ولا يشق عليهم، وقال القاضي: لا يستحب النقصان عن ختمة ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد على ختمة كراهية المشقة عليهم. أما عدد ركعاتها التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها فقد قالت في أصح الروايات عنها " كان يصلي عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة " أخرجه مسلم فإذا استثنينا الوتر وركعتي الفجر، يكون ما يصليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني أو عشر ركعات. وأما ما رواه ابن أبي شيبة من أنه كان يصلي عشرين ركعة فإسناده ضعيف (1). وهكذا كان القيام على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كان عهد عمر وعثمان صاروا يصلونها عشرين ركعة كما في   (1) " المنهل العذب " ج 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 617 - " بَابُ فضلِ قِيامِ رَمَضَانَ " 716 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، فَتُوفِّيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والأمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثمَّ كَانَ الأمْرُ عَلَى ذَلِكَ في خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ، وَصَدْراً مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.   حديث السائب بن يزيد، قال: " كانوا يقومون على عهد عمر بعشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي مثله "، قال الترمذي: وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي وغيرهما. اهـ. وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية. 617 - " باب فضل من قام رمضان " 716 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً " قال النووي: المراد بقيام رمضان صلاة التراويح. اهـ. أي من أحيا ليالي رمضان بالعبادة وأهمها صلاة التراويح إيماناً وتصديقاً بما وعد الله به القائمين وانتظاراً للأجر والمثوبة عند الله تعالى وابتغاءً لمرضاته " غفر له ما تقدم من ذنبه " أي: كان قيامه هذا سبباً في غفران ذنوبه السابقة واللاحقة، لما جاء في رواية أخرى " غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " (1) " فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك " أي والصحابة طيلة حياته - صلى الله عليه وسلم - يصلون التراويح فرادى، لا يجمعهم إمام، " ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر " أي وما زالوا يصلّون متفرقين في عهد أبي   (1) انظر ما قاله الحافظ في الفتح حول هذا الحديث. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 بكر، وأول خلافة عمر، ثم جمعهم عمر رضي الله عنه على إمام واحد. الحديث: أخرجه الجماعة والبيهقي ومالك في " الموطأ ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع للناس صلاة التراويح، وحثهم عليها، فاستجابوا لدعوته، وأدوها في عهده متفرقين منفردين في بيوتهم -غالباً- قال الحافظ: في قوله " والأمر على ذلك " أي على ترك الجماعة. اهـ. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس على القيام كما في رواية أحمد عن الزهرى واستمر الأمر على ذلك إلى أول خلافة عمر رضي الله عنه، ثم جمعهم عمر رضي الله عنه على أبي بن كعب، فصلّى بهم في المسجد جماعة، فخرج ليلة والناس يصلون خلفه فَسُرَّ بذلك. وقال: " نِعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون " يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله كما في البخاري. ثانياًًً: الترغيب في إحياء ليالي رمضان بالعبادة وقراءة القرآن، والتأكيد على استحباب صلاة التراويح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل قيام رمضان سبباً في غفران الذنوب، والمراد بقيام رمضان كما قال النووي: صلاة التراويح، قال ابن قدامة: وهي سنة مؤكدة، وأول من سنّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغِّب في صلاة الليل من غير أن يأمر بعزيمة وهي سنة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد فعلها أصحابه في حياته، وأثنى عليهم، وصوب ما صنعوا كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء قوم ليس معهم قرآن وأُبي بن كعب يؤمهم وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أصابوا، ونعم ما صنعوا " أخرجه أبو داود وفي إسناده مسلم بن خالد وهو صدوق كثير الأوهام (1) وفيه دليل على أن الأفضل لغير القارىء أن يصلي التراويح   (1) وأخرجه البيهقي أيضاًً عن ثعلبة بن أبي مالك وقال: إسناده جيد. انظر " التقريب " لابن حجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 618 - " بَابُ فضلِ لَيلةِ الْقَدرِ " 717 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ   مأموماً بخلاف القارىء، فإن الأفضل في حقه الانفراد (1). وقال الجمهور: صلاة التراويح جماعة في المسجد أفضل منها في المنازل (2) وقالت المالكية أداء صلاة التراويح في البيت أفضل من أدائها في المسجد، وهو قول بعض الحنفية، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن ثابت " فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة " فدل ذلك على أن صلاة التراويح في البيت أفضل إلا أن يكون آفاقياً أو لا ينشط لفعلها في بيته فأداؤها في المسجد أفضل، قال مالك في " المدونة ": قيام الرجل في بيته في رمضان أحب إليّ لمن قوي عليه، وليس كل الناس يقوى على ذلك (3) وقال أبو يوسف وبعض الشافعية: الأفضل صلاتها فرادى. واستدل الجمهور على أن الجماعة فيها أفضل بأن ذلك هو ما فعله عمر ووافقه عليه أصحاب رسول الله، واستمر عمل المسلمين عليه، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة على أفضلية الجماعة في صلاة التراويح، ولذلك قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإِمام ويوتر معه. الحديث: أخرجه أيضاًً الجماعة والبيهقي ومالك في " الموطأ ". والمطابقة: في قوله: " غفر له ما تقدم من ذنبه ". 618 - " باب فضل ليلة القدر " 717 - معنى الحديث: أشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بفضل ليلة   (1) وهو مذهب الشافعي، قال: الترمذي واختار الشافعي أن يصلّي وحده إذا كان قارئاً. (2) " شرح المنهل العذب على سنن أبي داود " ج 7. (3) " شرح الإكليل " للعبدري على " متن خليل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيماناً واحتِساباً غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ".   القدر ونوّه بشأنها، وهي الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن الكريم إلى السماء الدنيا كما قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وسمّاها ليلة القدر لعظم شأنها وعلو قدرها، ولأنها ليلة مباركة ذات منزلة عظيمة، وقدر رفيع، شرفها الله بنزول القرآن، فكانت أشرف الليالي، لأن الأزمنة تشرف وتعظم بما يقع فيها من أحداث جليلة، وقد أنعم الله على عباده في هذه الليلة بنزول القرآن الذي هدى الله به البشرية إلى ما فيه سعادتها وخيرها ونجاتها، فكان أعظم نعمة في أشرف ليلة، ولهذا سماها ليلة القدر. ويقال سميت بذلك لما يقدر فيها وما يكتبه الملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في (1) تلك السنة كما أفاده النووي، وفي هذا الحديث يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من أحيى هذه الليلة المباركة بالصلاة وتلاوة القرآن غفر الله له ذنوبه السابقة واللاحقة على أن يفعل ذلك " إيماناً واحتساباً " أي تصديقاً بفضل هذه الليلة وفضل العمل - فيها ابتغاءً لوجه الله في عبادته. فقه الحديث: دل هذا الحديث على شرف ليلة القدر وفضل إحيائها بالعبادة، وأن قيامها لمن وافقها سبب للغفران، وإن لم يقم غيرها، فإن كانت له ذنوب كفرتها، وإن لم تكن له ذنوب فإنه يكتب له بها حَسنات، ويرفع بها درجات. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي " والمطابقة: في قوله: " غفر له ما تقدم من ذنبه ". ...   (1) " فتح الباري " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 619 - " بَابُ تحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدرِ فِي الوِتْرِ مِن العَشْرِ الأوَاخِرِ " 718 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ في تَاسِعَةٍ، تبقى في سَابِعَةٍ تَبْقَى، في خَامِسَةٍ تَبْقَى ". 719 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هِيَ في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ هي في تِسْع يَمْضِين، أوْ في سَبْعٍ يَبقَيْنَ، يَعْنِي، لَيْلَةَ الْقَدْرِ ".   619 - " باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر " 718 - معنى الحديث: أن الله أخفى عنا ليلة القدر، ولم يحدد لنا وقتها، ولكنها لا تخرج عن الليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " في تاسعه تبقى " أي في ليلة الحادي والعشرين من رمضان " في سابعه تبقى " وهي ليلة الثالثة والعشرين منه " في خامسه تبقى " وهي ليلة الخامس والعشرين. والمعنى اطلبوها وتحرّوها في ليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان كليلة الحادي والعشرين، وليلة الثالث والعشرين، وليلة الخامس والعشرين، ويقاس عليها ليلة السابع والعشرين، وليلة التاسع والعشرين، لأنها أوتار. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والترمذي والبيهقي وأحمد. 719 - معنى الحديث: أن ليلة القدر الموجودة في العشر الأواخر من رمضان وفي الأوتار منها دون تحديد بليلة معينة، فيحتمل أن تكون " في تسع يمضين " أي في ليلة التاسع والعشرين " أو في سبع يبقين " أي في ليلة الثالث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 والعشرين وفي رواية " أو في سبع يمضين " فتكون ليلة السابع والعشرين من الشهر والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر هذه الليالي أراد بها التمثيل لا الحصر، فيقاس عليها بقية ليالي الوتر من العشر الأواخر. فقه الحديثين: دل هذان الحديثان على أن ليلة القدر في ليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان دون تعيين، وهو مذهب مالك، قال في " الإِفصاح " واتفقوا على أنها تطلب في شهر رمضان إلاّ أبا حنيفة، فإنه قال في جميع السنة، ثم اختلف المتفقون على انها في شهر رمضان في آكد لياليه، فقال الشافعي ليلة إحدى وعشرين، وقال مالك في ليالي الأفراد من العشر الأواخر وقال أحمد: ليلة سبع وعشرين. اهـ. وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث ابن عمر مرفوعاً: " من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين " أخرجه أحمد بإسناد صحيح. فائدة هامة: هل هناك ظاهرة خاصة خارقة للعادة تقع في هذه الليلة المباركة، قال الحافظ بخصوص هذا الموضوع: واختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وقعت له أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجداً، وقيل: يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة، وقيل: يسمع سلاماً وخطاباً من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وقعت له، واختار الطبري أن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه. الحديث الأخير أخرجه البخاري. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتماسها ليلة الحادي والعشرين والثالث والعشرين الخ. وهي الوتر من العشر الأواخر. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 620 - " بَابُ الْعَمَلِ في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ من رَمَضَانَ " 720 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ، اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيَا لَيْلَهُ، وأيْقَظَ أهْلَهُ ".   620 - " باب العمل في العشر الأواخر من رمضان " 720 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في الليالي العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، فإذا كانت ليلة الحادي والعشرين " شد مئزره " أي جد واجتهد في العبادة وقيام الليل، واعتزل النساء، وهو مأخوذ من قول الشاعر: قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوْا شَدُّوْا مآزِرَهُمْ ... عنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأطْهَارِ " وأحيا ليله " أي قام معظم ليله في الصلاة والذكر وتلاوة القرآن، وليس معناه أنه أحيا الليل كله، لقول عائشة رضي الله عنها: " ما علمته قام ليلة حتى الصباح، ولا صام شهراً كاملاً سوى مضان " أخرجه البخاري " وأيقظ أهله " أي نبههم من نومهم ليقضوا فترة منه في الصلاة وقيام الليل، كما في حديث أمّ سلمة رضي الله عنها أنه لم يكن يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلاّ أقامه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخصُّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في غيرها، منها إحياء الليل وإيقاظ الأهل واعتزال النساء. ثانياًًً: استحباب الاجتهاد في العبادة وإحياء الليل وايقاظ الأهل في هذه العشر اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة من حيث إنَّ شدَّ المئزر وإحياء الليل، وإيقاظ الأهل كلها من العمل في القسم الأواخر كما أفاده العيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الاعتكاف " 621 - " بَابُ الاعْتِكَافِ في الْعَشْرِ الأوَاخِرِ " 721 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ من رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ   " كتاب الاعتكاف " الاعتكاف لغة: الإِقبال على الشيء وملازمته خيراً كان أو شراً، فمن الأول قوله تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) ومن الثاني قوله تعالى: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) أما الاعتكاف شرعاً فهو إقامة المسلم في بيت من بيوت الله بنية حبس النفس على طاعة الله وعبادته بنية، تدريباً لنفسه على تذوق الطاعات، والبعد عن المغريات، قال تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) وهو شريعة قديمة معروفة في الأديان السابقة والمسجد ركن (1) في صحة الاعتكاف، ولهذا قال البخاري: والاعتكاف في المساجد كلها، ولا بد من النية، وهي ركن عند المالكية والشافعية، وشرط عند الحنفية والحنابلة، وشروطه الإِسلام والتمييز والطهارة الكبرى، وزاد المالكية شرطاً وهو الصوم، واشترط الحنفية الصوم في الاعتكاف الواجب. 621 - " باب الاعتكاف في العشر الأواخر " 721 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يداوم على الاعتكاف في   (1) قال أحمد وأبو حنيفة: لا يكون إلا في مسجد تقام به الجماعة، وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد كما أفاده في " المنهل العذب " ج 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 اللهُ، ثم اعتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ". 622 - " بابٌ لا يَدخلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةٍ " 722 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " إِنْ كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليدْخِلُ عَليَّ رَأسَهُ وَهُوَ في الْمَسْجِدِ فَأرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُل الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَة إِذَا كَانَ مُعْتَكِفَاً ".   العشر الأواخر من رمضان كل عام طيلة حياته، فلما مات " اعتكف أزواجه من بعده " أي واظب أزواجه على هذه السنة بعد وفاته اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم - الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على مشروعية الاعتكاف وعلى أنه سنة مؤكدة في رمضان، قال ابن عبد السلام: ومقتضى الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - داوم على فعله، فيكون سنة وقالت المالكية: حكمه الاستحباب مطلقاً، وفي رمضان آكد، وفي العشر الأواخر آكد. والذي عليه الجمهور أنه سنة مؤكدة في رمضان وفي العشر الأواخر آكد. ثانياًً: مشروعية الاعتكاف للمرأة، ولا خلاف في ذلك عند أهل العلم، قال الشافعي: للمرأة أن تعتكف في كل مسجد، وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها واعتكافها فيه أفضل وقالت المالكية: لا يصح اعتكافها إلاّ في المسجد. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 622 - " باب لا يدخل البيت إلّا لحاجة " 722 - معنى الحدايث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان من سنته المعروفة عنه إذا اعتكف أن يدخل رأسه إلى بيت عائشة الذي كان ملاصقاً لمسجده لتسرحه له وهو معنى قولها: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل علي رأسه وهو في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 623 - " بَابُ الأخبِيَةِ في الْمَسْجِدِ " 723 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرادَ أنْ يَعْتَكِفَ، فلمَّا انْصَرَفَ إلى الْمَكَانِ الذي أرَادَ أن يَعْتَكِفَ فِيهِ إِذَا أخْبِيَةٌ، خِبَاءُ حَفْصَةَ، وَخِبَاءُ زَيْنَبَ، فَقالَ: آلبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ، ثَمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حتَّى اعْتَكَفَ عَشْراً مِنْ شَوَّالٍ".   المسجد فأرجّله" فكلمة " إنْ " مخففة من " إنَّ " الثقيلة المشددة التي هي حرف توكيد ونصب، واسمها ضمير الشأن محذوف، والمعنى: إن الأمر الذي اعتاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يفعله دائماً إذا اعتكف أن يدخل رأسه إلى السيدة عائشة رضي الله عنها لتسرح له شعره، " وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة " أي لا يخرج من معتكفه إلى بيته إلاّ لعذر شرعي من قضاء حاجة أو وضوء أو نحوه. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المعتكف لا يجوز له الخروج إلاّ لعذر شرعي كقضاء حاجة، أو وضوء، أو غسل جنابة أو حيض أو نفاس أو نحوه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وأجاز الشافعي وأحمد الخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة لمن شرط ذلك. ثانياًًً: أنه يجوز للمعتكف تنظيف بدنه وتسريح شعره، والغسل والطيب كما يجوز له إخراج رأسه من المسجد لتنظيفه وتسريحه. والمطابقة: في قوله: " لا يدخل البيت إلا لحاجة ". 623 - " باب الأخبية في المسجد " 723 - معنى الحديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعتكف " في رمضان وذهب إلى خبائه من المسجد، فرأى أخبية كثيرة منصوبة في المسجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 لنسائه " والخباء خيمة صغيرة من صوف " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً من معه: أتظنون أنّ هؤلاء النسوة قد صنعن بفعلهن هذا خيراً؟ ثم انصرف غاضباً، ولم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاعتكف في شوال قضاءً لما تركه بعد الاعتكاف في رمضان. اهـ. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية نصب الأخبية للاعتكاف فيها في المسجد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما انصرف إلى المسجد إنّما ذهب إلى خبائه الذي نُصبَ له هناك، كما جاء في رواية أخرى عن عائشة قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباءً، فيصلي الصبح، ثم يدخله " والروايات يفسر بعضها بعضاً. ثانياًً: استدل به أبو حنيفة - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يصح اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة، وأجازه الجمهور، وأما استدلال أبي حنيفة على عدم صحة اعتكافها بإنكاره عليهن في قوله: " آلبرِّ تقولون " فإنما أنكر التضييق على المصلين بتلك الأخبية، لا نفس الاعتكاف، لأن المسجد كان صغيراً. ثالثاً: قال الترمذي: اختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه، فقال بعضهم: وجب عليه القضاء، واحتجوا بالحديث، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقال الشافعي: إن كان تطوعاً ليس عليه أن يقضي إلا أن يحب ذلك. وحمل قضاءه - صلى الله عليه وسلم - الاعتكاف في شوال على الاستحباب. والمطابقة: في قوله: " فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه " أي إلى خبائه. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب البيوع " مقدمة وتمهيد من مزايا التشريع الإِسلامي عنايته بتنظيم الحياة الإِنسانية من جميع نواحيها المختلفة، فإن بعض الأديان اقتصر على الجانب الروحي للانسان من العقائد والعبادات والطقوس الدينية دون حياة الإِنسان المعيشية والاجتماعية، فلم تعن بمعاملاته مع الآخرين من أبناء جنسه (1) أو تضع القوانين اللازمة لهذه المعاملات عدا بعض النصائح التي تدعو إلى التسامح والمسالمة دون تحديد المسؤوليات والحقوق والواجبات، ولم تعنَ بوضع القوانين التفصيلية لحماية حقوق الإِنسان، ولهذا اضطر أصحاب هذه الديانات إلى استعمال القوانين الوضعية لتنظيم العلاقات الإِنسانية واعتبروا الدين علاقة روحية بين العبد وربه فقط، لأنهم لم يجدوا في دينهم القوانين الكفيلة بتنظيم حياتهم ومعيشتهم. وإذا كان هذا هو الواقع بالنسبة إلى الأديان الأخرى، فإنه لا ينطبق على شريعة الإِسلام الشاملة لحياة الإِنسان الدينية والدنيوية، وهذه هي النصوص الإِسلامية في الكتاب والسنة والفقه الإسلامي لم تدع حكماً يحتاج إليه البشر في الأحوال الشخصية والاجتماعية والقضائية والمعاملات والجنايات والسياسة والاقتصاد إلّا بينته للناس، ففي المعاملات وضع الإِسلام أحكام البيع والشراء والإِيجار   (1) نعم توجد في التوراة أحكام عملية فقهية ولكن بعضها يتسم بالقسوة والعنف والشدة ومن محاسن الإسلام انه جاء بنسخ هذه الأحكام وإلغائها وإبدالها بأحكام أخرى هي أرحم وأرفق بهذا العالم البشري من تلك الأحكام السابقة كما قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 والوكالة والكفالة وغيرها لضبط تصرفات الناس في هذه الحياة على وجه يضمن لهم الأمن والاستقرار والسعادة الحقيقية. ولو دققنا النظر في هذه الأحكام من الناحية النفسية والاجتماعية والسياسية لوجدنا فيها كل ضمان للملكية الفردية السليمة والحرية الشخصية الصحيحة فإن كل أحكام المعاملات في الإسلام قائمة على عدم أكل أموال الناس بالباطل ولا شك أن في مقدمة ذلك أَبواب المعاملات " البيوع وما يتعلق بها " وقد عُني الإسلام بالبيع ووضع له الشروط والأحكام لتحقيق الكسب الحلال والحيلولة دون أكل أموال الناس بالباطل، وحماية الإِنسان من أكل الحرام، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل أنواع الكسب البيع المبرور، وعمل اليد " ولا يكون البيع مبروراً إلاّ إذا كان بيعاً شرعياً صحيحاً. قال القاري: والكسب بقدر الكفاية واجب لنفسه وعياله عند عامة العلماء، وما زاد عليه فهو مباح، وإنما عني الإِسلام بالبيع لحاجة الناس إليه، فالبيع والنكاح كما قال ابن العربي المالكي: عقدان يتعلق بهما قوام العالم، لأن الله خلق الإِنسان محتاجاً إلى الغذاء مفتقراً إلى النساء، وخلق له ما في الأرض جميعاً، ولم يتركه له سدى يتصرف باختياره كيف يشاء، فيجب على كل مكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه، وأن لا يفعل شيئاً حتى يعلم حكم الله فيه. وقول بعضهم: يكفي ربع العبادات ليس بشيء إذ لا يخلو مكلف من بيع وشراء. والبيع لغة: تمليك المال بالمال مطلقاً، سواء كان مبادلة سلعة بنقد، أو سلعة بسلعة، ويقال لأحد البدلين مبيع وللثاني ثمن، أما الشراء فهو تملك المال بالمال. أما البيع شرعاً فهو مبادلة مال بمال على سبيل التراضي، ووجه التأبيد، والمراد بالمال: المال الذي له قيه: شرعية، وهو المال الحلال الذي ينتفع به شرعاً، فيخرج بذلك المال الحرام كالخمر مثلاً، فإن مبادلته بالنقد لا يسمى بيعاً، وكذلك يُقالُ في الحشرات التي لا ينتفع بها، والمراد بقولهم على سبيل التراضي أن تكون المبادلة برضا الطرفين فيخرج بذلك كل مبادلة بالإكراه، فإنها لا تسمى بيعاً، ويخرج بقولهم على وجه التأبيد الإِيجار، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 624 - " بَابُ مَا جَاءَ في قَوْلِ اللهِ تعَالَى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) " 724 - عَنْ عَبْدِ الرَّحمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْني وَبَيْنَ سعْدِ بْنِ الرَّبِيع فَقَالَ سعْدُ بْنُ الرَّبيع: إِنِّي أكْثَرُ الأنْصَارِ مَالاً، فَأقْسِمُ لَكَْ نِصْفَ مَالِي، وانْظرُ أيَّ زَوْجَتَي هَوِيْتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لا حَاجَةَ لي في ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فيه تَجَارَةٌ، قَالَ:   لأنه مؤقت فلا يسمى بيعاً. 624 - " باب ما جاء في قول الله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) " 724 - ترجمة راوي الحديث: وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أحد الثمانية السابقين إلى الإِسلام وأحد أصحاب الشورى وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. ومن كبار الأثرياء المحسنين في الإِسلام تصدق بأربعين ألفاً وله عدة أحاديث في البخاري وغيره، وقد شهد المشاهد كلها، وتوفي سنة واحد وثلاثين من الهجرة. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة أراد أن يقيم بين المهاجرين والأنصار رابطة وعلاقة أقوى من النسب، وهي رابطة الأخوة في الإِسلام، فجعل لكل مهاجر أخاً من الأنصار وأقام بينهما علاقة تنزل منزلة أخوة النسب تقتضي المناصرة والمواساة والمشاركة في السراء والضراء، حتى إنهم كانوا يتوارثون في أوّل الإِسلام إلى أن نزل قوله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) فاقتصر الإِرث على أصحاب المواريث الشرعية المعروفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 سُوقُ قَيْنُقَاعَ، قَالَ: فَغدا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَتَى بَأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، فَما لَبِثَ أنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنَ عَلَيْهِ أثر صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " تَزَوَّجْتَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ؟ قَالَ: امْرَأةٍ مِنَ الأنْصَارِ، قَالَ: " كَمْ سُقْتَ لَهَا؟ " قَالَ: زِنَةُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أو نُوَاةً مِنَ ذَهَب، فَقَال لَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَوْلِمْ ولَوْ بِشَاةٍ ".   وكان من ضمن هؤلاء المهاجرين عبد الرحمن بن عوف، فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع، فعرض عليه سعد أن يختار إحدى زوجاته، فيطلقها ويزوجها له ويعطيه نصف ماله فأبت، عليه مروءته وعزة نفسه أن يكون عبئاً على غيره، وعالة على سواه، فقال لسعد: " لا حاجة لي في ذلك " لأنني شاب سليم قويّ قادر على العمل، وفي رواية أنه قال له: " بارك الله لك في أهلك ومالك "، ثم سأل عن سوق المدينة التجاري، فدله على سوق بني قينقاع ويقع عند جسر بطحان، وكان يقام عدة مرات في السنة، يجتمع فيه التجار العرب الوافدون إلى المدينة، فصار عبد الرحمن بن عوف يتردد عليه كل يوم صباحاً ليتاجر في السمن والأقط وغيره من المواد الغذائية، والأقط هو اللبن المجفف المعروف في عصرنا هذا (بالمضِير) فلم يمض عليه إلّا زمن قليل، حتى جمع شيئاً من المال، فتزوج منه وأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أثر الصُّفْرَة، أي صفرة الطيب الذي تطيب به في زفافه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تزوجت؟ قال: نعم، قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار " وهي بنت أنس بن رافع من بني عبد الأشهل " قال: كم سقت لها؟ " أي كم دفعت لها من الصداق " قال: زنة نواة من ذهب " وهي وزن ثلاثة دراهم وثلث كما قال أحمد بن حنبل " فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أولم ولو بشاة " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالوليمة وهي الطعام الذي يصنع في العرس، والمعنى اصنع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 625 - " بَابُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أيْنَ كَسِبَ الْمَالَ؟ " 725 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أخَذَ مِنهُ، أَمِنَ الْحَلالَ أمْ مِنَ الْحَرَامَ؟ ".   بمناسبة عرسك طعاماً، واذبح فيه ولو شاة واحدة. فقه الحديث: دل هذا الحديث: أولاً: على تفسير الآية الكريمة، وبيان معنى التجارة الصحيحة التي شرعها الإِسلام، ودل عليها قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)، وأنها هي البيع والشراء في الأسواق التجارية كما دل على مشروعية البيع، وأنه من أشرف الوسائل لكسب المال الحلال، فقد مارسه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل عبد الرحمن بن عوف حيث قال هَل من سوق تجارة، فلما دلّه عليه تابع الغُدوَّ إليه حتى جمع مالاً، فتزوج، ثم واصل البيع والشراء حتى أصبح من أثرياء الصحابة الأجواد. فقد بلغ ما تصدق به على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفاً، بالإِضافة إلى ما حمل عليه. ثانياًً: ما كان عليه المهاجرون والأنصار في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من مودة ومحبة وإيثار بالمال وغيره، مما دفع سعد بن الربيع أن يعرض على ابن عوف نصف ماله إلخ. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " هل من سوق؟ ". 625 - " باب من لم يبال من أين كسب المال " 725 - معنى الحديث: أن الناس تتغير بهم الأحوال، وتتبدل الأزمان، ويأتي عليهم زمان يضعف فيه الدين، وتفسد الضمائر والذمم، ويتكالب الناس فيه على جمع المال من حلال أو حرام، فالغاية تبرر الوسيلة عندهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 626 - " بَابُ شِرَاءِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّسِيئَةِ " 726 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ مَشَى إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِخُبْزِ شَعِيرٍ وِإهَالَةِ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعَاً لَهُ بالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودي، وأخذَ مِنْهُ شعيراً لِأهْلِهِ، ولقدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَا أمْسَى عِنْدَ آل مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ، ولا صَاعُ حَبٍّ " وإنْ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ.   والحلال ما حل في أيديهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - " لا يبالي المرء ما أخذ منه " أي لا تهمه الوسيلة التي اكتسب بها المال، والطريق الذي أخذه منه " أمن الحلال " أي سواء كان من، كسب حلال كالبيع المبرور وعمل اليد " أم من الحرام " كالاختلاس والربا والقمار والرشوة، لأن المصلحة المادية هي الهدف الوحيد، والغاية الرئيسية لكل معاملاته. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من اكتساب المال من الطرق غير المشروعة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر ذلك في موضع الذم والإنكار على من يصنع هذا. ثانياًً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأمور في المستقبل، وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي. والمطابقة: في قوله: " لا يبالي المرء ما أخذ منه ". 626 - " باب شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة " 726 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دُعي مرة على خبز من شعير وإهَالة سنخة أي ألية متغيرة الرائحة، فأجاب الدعوة، وأكل من ذلك الطعام، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى مرة من يهودي شعيراً بثمن مؤجل، ورهن عنده درعه مقابل ذلك، لأنه لم يبق في بيته أي شيء من المواد الغذائية كما قال أنس "ولقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 627 - " بَابُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ في الْبَيْعِ " 727 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحَاً إِذَا بَاعَ، وِإذَا اشْتَرَى، وِإذَا اقْتَضَى ".   سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع بر ولا صاع حب " أي سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: دخل علينا المساء، ولا يوجد في بيت آل محمد صاع من قمح أو شعير " وإن عنده لتسع نسوة " أي في حين أن لديه تسع زوجات هن في أمسِّ الحاجة إلى الغذاء ولذلك اضطر إلى شراء الشعير من اليهودي نسيئة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز بيع الطعام وغيره وشرائه نسيئة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، ولكن بشرطين: الأول: أن يختلف الجنسان، فلا يجوز (شعير بتمر) نسيئة. الثاني أن لا يكون صرفاً فلا تجوز النسيئة في الصرف، وفيه دليل على جواز التعامل مع أهل الكتاب. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي والترمذي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - اشترى الشعير من اليهودي نسيئة. 627 - " باب السهولة والسماحة في البيع " 727 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لكل مسلم يلتزم بالسماحة والرفق وحسن المعاملة في بيعه وشرائه أن يسبغ الله عليه رحمته ونعمته وفضله وكرمه، وكذلك كل من تسامح من إخوانه في اقتضاء ديونه، والمطالبة بحقوقه، فتجاوز عن الموسر، وأنظر المعسر. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن حسن المعاملة والتسامح في البيع والشراء واقتضاء الديون سبب في نجاح الإِنسان في تجارته وأعماله، وفوزه بكل ما يصبو إليه من مال وصحة وولد، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالرحمة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 628 - " بَابٌ إِذَا بَيَّنَ البَيِّعَانِ وَلَمْ يكْتُمَا وَنصَحَا " 728 - عَنْ حَكِيم بْنِ حِزَام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " البَيِّعَانِ بالخِيَارِ ما لَمْ يتفرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا، وإنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا ".   ودعوته مستجابة، فهو ولا شك مشمول برحمة الله ونعمته وعنايته. وَإذَا العِنايَةُ لَاَحَظتْكَ عُيُوْنُهَا ... نَمْ فالحَوَادِثُ كُلُّهُنَّ أمَانُ والمطابقة: في دعائه - صلى الله عليه وسلم - لأهل السماحة. 628 - " باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا " 728 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أي أن لكل منهما الحق في أن يختار ما يريد من إمضاء البيع أو فسخه ما داما لم يتفرقا، فإذا تفردا وجب البيع، وانتهى الخيار، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " فإن فارقه فلا خيار له "، " فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما "، أي فإن صدق البائع وبين العيب الذي في سلعته، وصدق المشتري وبين العيب الذي في الثمن حلت البركة في ذلك البيع فكان مربحاً، وكثر نفعه لهما، " وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما "، أي رفعت البركة من ذلك البيع، فكان خسارة لهما. فقه الحديث: دل هذا الحديث دلالة صريحة على ثبوت الخيار للمتبايعين في إمضاء البيع وفسخه حتى يتفرقا، واختلف أهل العلم في التفرق الذي يسقط الخيار، ويوجب البيع، فذهب الشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه التفرق بالأبدان، وأثبتوا خيار المجلس، وقال مالك وأبو حنيفة: هو التفرق بالأقوال عند انتهاء العقد، ووقوع الإِيجاب والقبول، فإذا قال البائع: بعت والمشتري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 629 - " بَابُ بَيْعِ الْخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ " 729 - عَنْ أبي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نرزَقُ تَمْرَ الْجَمْعِ، وَهُوَ الْخَلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وكنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا صَاعَيْنِ بِصَاع، ولا دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ ".   اشتريت لزم البيع، واستدل مالك على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله " فلو كان خيار المجلس مشروعاً لم يحتج للاستقالة، لأن من حقه الخيار ما دام في المجلس. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فإن صدقا وبينا بورك لهما ". 629 - " باب بيع الخلط من التمر " أي هذا باب في بيان حكم بيع الخلط، وهو التمر المخلوط المشكل من أنواع مختلفة بتمر من نوع واحدٍ. 729 - معنى الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأخذون من الزكاة التمر المشكل من أنواع مختلفة فيبيعونه بالتمر الذي من نوع واحد كل صاعين بصاع لرداءة هذا وجودة ذاك، فأنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن هذا البيع وقال: " لا صاعين بصاع " أي لا يجوز بيع صاعين من التمر بصاع من التمر، وإن اختلف النوعان في الجودة والرداءة، لاتحادهما في النوع، ولا يحل التفاضل بين البدلين من نوع واحد، فلا يجوز بيع التمر بالتمر، أو البر بالبر أو الشعير بالشعير إلاّ سواء بسواء، يداً بيد، وإلا كان عين الربا. " ولا درهمين بدرهم " أي ولا يجوز أيضاًً بيع درهمين من الفضة بدرهم من الفضة لاتحاد النوع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 630 - " بَابُ مُوكِل الرِّبَا " 730 - عن أبي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ اشْتَرَى عَبْداً حَجاماً فأمَرَ بِمَحَاجِمِهِ فَكُسِرَتْ، وَقَالَ: " نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَثَمَنِ الدَّمِ، ونَهَى عَن الوَاشِمَةِ وَالْمَوْشُومَةِ وآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، ولَعنَ الْمُصَوِّرَ ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز بيع التمر المشكل من أنواع مختلفة بالتمر الذي من نوع واحد متفاضلاً، لأنه ربا، وكذلك الطعام كله من بر وشعير ونحوه، لا يجوز بيعه بشيء من نوعه متفاضلاً، فإذا احتاج صاحب التمر الرديء إلى شراء تمر جيد فإنه يبيع تمره بأحد النقدين، ويشتري بثمنه تمراً جيداً كما أرشدنا إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحاديث الأخرى. ثانياًًً: أنه لا يجوز التفاضل في بيع الفضة بالفضة أو الذهب الذهب. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في نهيه - صلى الله عليه وسلم - بيع التمر بالتمر متفاضلاً، وهو ما ترجم له البخاري. 630 - " باب موكل الربا " 730 - معنى الحديث: أن أبا جحيفة (وقد تقدمت ترجمته) اشترى عبداً كان يعمل في الحجامة، فأمره بكسر الآلة التي كان يحجم بها، ولما سئل عن ذلك قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب) أي عن بيع الكلب وأخذ ثمنه " وثمن الدم " أي ونهى أيضاًً عن ثمن إخراج الدم، وأجرة الحجامة، فكسر أبو جحيفة المحاجم، لأنه فهم أنّ النهي عن ذلك على سبيل التحريم، فأراد حسم المادة، وكأنه فهم أنّ ذلك العبد لا يطيع النهي، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 يترك التكسب بالحجامة إلاّ إذا كسرت محاجمه. اهـ. كما أفاده الحافظ. قال: " ونهى عن الواشمة والموشومة " الكلام على حذف مضاف أي ونهى عن فعل الواشمة والموشومة، وما تقوم به الواشمة من وشم غيرها وما تفعله الموشومة من وشم نفسها، أو تكليف غيرها بوشمها، والوشم غرز جلدة البشرة بالإِبرة، وحشوها بالكحل أو النيل فيسودّ ذلك الموضع، أو يزرق، أو يخضر، وتظهر فيه أشكال وألوان مخالفة للون البدن، وكانوا يرون أن ذلك من التجميل. " وآكل الربا وموكله " وهو على حذف مضاف أيضاًً تقديره ونهى عن فعل آكل الربا، وعن فعل موكله " والمعنى " أنه نهى عن التعامل بالربا، ومنعه على الطرفين معاً، فمنع آكل الربا أن يأخذه من غيره ومنع موكل الربا أن يدفعه ويعطيه لغيره. " ولعن المصور " أي الصور الحيوانية. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: على أن موكل الربا " وهو كل من يدفع لغيره فائدة ربوية " عاص وآثم، ومرتكب لكبيرة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إعطاء الربا، كما نهى عن أخذه فآكل الربا وموكله في ارتكاب الكبيرة سواء، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوّى بينها في النهي، فكلاهما مرتكب للكبيرة. ثانياًً: تحريم بيع الكلب لنجاسته، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة، وفي رواية عن مالك جواز بيع كلب الحراسة والصيد. ثالثاً: النهي عن أجرة الحجامة، وعن الوشم وسيأتي. والمطابقة: في قوله: "وآكل الرِّبا وموكله". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 631 - " بَابُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْحَلِفِ في الْبَيعِ " 731 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن أبِي أوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ رَجُلاً أقَامَ سِلْعةً وهُوَ في السُّوقِ، فَحَلَفَ باللهِ لَقَدْ أَعْطي بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ، لُوقِعَ فِيهَا رجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فنَزَلَتْ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) ".   631 - " باب ما يكره من الحلف في البيع " 731 - معنى الحديث: كما يرويه ابن أبي أوفى رضي الله عنه " أنّ رجلاً أقام سلعة وهو في السوق " أي عرض في السوق سلعة يعني بضاعة للبيع، " فحلف بالله لقد أعطى بما ما لم يعط " أي فأراد أن يروج سلعته بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت محرمة، فلجأ إلى الأيمان الكاذبة، فحلف بالله -وهو كاذب، في يمينه- أنه أعطي بها بدل سلعته ما لم يعط " ليوقع فيها رجلاً من المسلمين "، أي ليخدع بأيمانه هذه بعض المشترين، ويوقعه في سلعته بالسعر الذي يريده طمعاً وجشعاً ورغبة في جمع المال عن أي طريق، حلالاً أو حراماً، من باب الغاية تبرر الوسيلة " فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) " أي إن الذين يتخذون من الأيمان الكاذبة وسيلة لاكتساب الأموال المحرّمة، وينالون بها عوضاً يسيراً من الدنيا، أولئك لا نصيب لهم من الجنة ونعيمها، ولا يكلمهم الله كلمة رضا، ولا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يثني عليهم يوم القيامة، وليس لهم إلاّ العذاب الشديد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم ترويج السلع التجارية بالأيمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 632 - " بَابُ ذِكْرِ الْحَجَّامَ " 732 - عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " احْتَجَم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطَى الذِي حَجَمَهُ، ولو كَانَ حَراماً لَمْ يُعْطِهِ ".   الكاذبة، وكونه من الكبائر، لأنّ هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على كبيرة. الحديث: أخرجه البخاري والمطابقة: في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ) إلخ. 632 - " باب ذكر الحجام " أي هذا باب تذكر فيه الأحاديث الدالة على جواز عمل الحجام وأخذ الأجرة على الحجامة. 732 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي عالج - صلى الله عليه وسلم - نفسه بالحجامة وأمر أبا ظبية أن يحجمه، " وأعطى الذي حجمه " أي وأعطاه أجرته، فأمر له بصاع تمر، وأمر أهله أن يخففوا من خراجه، وكان يعمل، ويدفع لسيده ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعاً، ثم قال ابن عباس تعليقاً على حديثه هذا: " ولو كان حراماً لم يعطه " أي ولو كان أجر الحجامة وثمنها حراماً لم يعط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجام أجرة عليها. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز أجرة الحجام، وهو مذهب الجمهور، قالوا: هو كسب فيه دناءة، ولكنه غير محرم، والنهي عنه في بعض الأحاديث للتنزيه فقط، وقال بعضهم: كان حراماً ثم نسخ، وهذا يحتاج إلى معرفة التاريخ، وذهب أحمد وآخرون إلى أنه يكره للحرِّ احتراف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 633 - " بَابُ التجَارَةِ فيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ والنِّسَاءِ " 733 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أرْسَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِحُلَّةِ حَرِيرٍ أو سيَرَاءَ، فرآهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنِّي لَمْ أرْسِلْ بِهَا إليكَ لِتَلْبِسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لا خَلَاقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لتسْتَمْتِعَ بِهَا" يَعْنِي تَبِيعُهَا.   الحجامة، ويحرم عليه الإِنفاق على نفسه منها، وله أن ينفق منها على دوابه ورقيقه فقط، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كسب الحجام خبيث " أخرجه مسلم، قال ابن الجوزي: كُرهت لأنَّها من الأشياء التي يجب على المسلم إعانة أخيه بها دون أجر. ثانياًً: جواز التداوي بإخراج الدم. والمطابقة: في قوله: " وأعطى الذي حجمه ". 633 - " باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء " أي هذا باب في بيان جواز بيع ما يكره لبسه للرجال، وكذلك ما يكره لبسه للنساء، لأن ما لا يصلح لهذا يصلح لهذا وما جاز بيعه جاز شراؤه. 733 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر رضي الله عنه بحلة حرير " والحلة لباس من ثوبين " أو سيراء " (بكسر السين) وهي نوع من الثياب يخالطه حرير كالسيور، أي أن تلك الحلة كانت من الحرير الخالص، أو مخلوطة بالحرير " فرآها عليه، فقال: إنّي لم أرسل إليك لتلبسها " أي لم أهدها إليك لتلبسها " إنما يلبسها من لا خلاق له " أي إنما يلبس ثياب الحرير من الرجال في الدنيا الكفار الذين لا نصيب لهم من الحرير أو غيره في الآخرة، أو إنما يلبس الحرير من الرجال من فسدت أخلاقه من المتشبهين بالنساء. "إنما بعثت إليك لتستمتع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 634 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْخِدَاعِ في الْبَيْعِ " 734 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَجُلاً ذُكِرَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُخْدَعُ في الْبُيُوعِ فَقَالَ: " إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ ".   بها " أي لتنتفع بها " يعني تبيعها " أو تلبسها لنسائك. فقه الحديث: دل هذا الحديث كما قال الحافظ على جواز بيع ما يكره لبسه للرجال. اهـ. وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها " يعنى تبيعها، وفي رواية أخرى في باب اللباس " إنما بعثت بها إليك لتبيعها أو لتكسوها " وأما ما يكره لبسه للنساء فبالقياس عليه كما أفاده الحافظ. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إنما بعثت إليك لتستمتع بها " يعني تبيعها ". 634 - " باب ما يكره من الخداع في البيع " 734 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: " أن رجلاً ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدع في البيوع " أي أن رجلاً يدعى " حبان " (بفتح الحاء) بن منقذ (بفتح القاف) أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه مغفل لا يحسن البيع والشراء، ويغشه الناس لقلة رشده، حتى إن أهله سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحجر عليه، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: يا رسول الله لا أصبر عن البيع فأذن له، ولكنه أراد أن يحميه من الخداع " فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة " (بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام) أي لا خديعة، وإنما أمره أن يقول ذلك لمن يتعامل معه تنبيهاً له بوجوب الصدق والأمانة والنصح في المعاملة، أي لا تخادعني فإن الإِسلام لا يبيح الخديعة ولا يقرّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 635 - " بَابُ مَا ذُكِرَ في الأسْوَاقَ " 735 - عَنْ أنسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في السُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يا أبا الْقَاسِمِ فالْتَفَتَ إلَيْهِ   بيع الخديعة، وفي رواية أخرى أنه قال له " ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فاردد " فبقى ذلك الرجل حتى أدرك زمن عثمان، وهو ابن مائة وثلاثين سنة. فكان إذا اشترى شيئاً فقيل له إنك غبنت فيه رجع فيشهد له رجل من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل له الخيار ثلاثاً فيردوا له دراهمه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم الخداع في البيع والغبن فيه وهو الزيادة في ثمن السلعة زيادة فاحشة على من لا يعرف قيمتها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بايعت فقل: لا خلابة " أي لا خديعة في البيع شرعاً، وهو نفي بمعنى النهي يقتضي تحريم المنهى عنه. ثانياًًً: ثبوت الخيار بالغبن، فمن غبن في ثمن السلعة، وزيد عليه في الثمن وهو يجهل قيمتها كان له الخيار في ردها، وهو مذاهب مالك وأحمد على شرط أن يكون الغبن فاحشاً والزيادة كثيرة، واختلفوا في تقدير الغبن الفاحش الذي يتحقق به الخيار فقيده بعض المالكية بأن يبلغ الغبن ثلث القيمة أما القليل فيتسامح فيه. وذهب الجمهور إلى عدم ثبوت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع ونفوذه من غير تفرقة بين الغبن وغيره. وأجابوا عن حديث الباب بأنه حكم استثنائي خاص بهذا الرجل لضعف عقله وقلة رَشَده، مما جعل حكم تصرفه كتصرف الصبي المأذون له في التعامل مع الناس. الحديث: أخرجه الستة إلا الترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فقل لا خلابة ". 635 - " باب ما ذكر في الأسواق " 735 - معنى الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - بينما كان يسير في سوق من أسواق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنَّمَا دعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سَمُّوا باسمي ولا تَكَنَوْا بِكُنْيتِي". 636 - " بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الكَيْلِ " 736 - عن الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ ".   المدينة التجارية إذا به يسمع صوتاً ينادي يا أبا القاسم فالتفت وهو يظن أنه يناديه، فقال له صاحب الصوت: إنما ناديت هذا، وأشار إلى رجل آخر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي " بفتح التاء والنون المشدّدة على حذف إحدى التاءين، وإنما نهى عن التكني بكنيته في حياته خشية الالتباس. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الأسواق التجارية في الإِسلام، وجواز دخول المسلم إليها لقضاء حاجاته المعيشية، وشراء المواد الغذائية والمنزلية الموجودة فيها، لأنها كانت موجودة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يدخلها لقوله في حديث الباب " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في السوق " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: النهي عن التكني بكنيته - صلى الله عليه وسلم - المشهورة وهي أبو القاسم، قال القسطلاني: والنهى ليس للتحريم، وقد جوّزه مالك مطلقاً، وقصر النهي على زمنه للالتباس. وقال جمع من السلف: النهي خاص بمن اسمه محمد وأحمد، لحديث النهي عن الجمع بين اسمه وكنيته، ومذهب الجمهور جوازه مطلقاً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في السوق ". 636 - " باب ما يستحب من الكيل " 736 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر باستعمال الكيل في جميع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 637 - " بَابُ مَا يُذْكَرُ في بَيْعِ الطَّعَامِ وَالحُكْرَةِ " 737 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " رَأيتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مجَازَفَةً يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يَبِيعُوهُ حتى يُؤْووهُ إلى رِحَالِهِمْ ".   المواد التموينية من قمح وشعير وتمر وزبيب وغيرها عند بيعها وشرائها وإحصائها وإخراج زكاتها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " كيلو طعامكم يبارك لكم " أي: تُوضَعُ لكم فيه البركة والخير الكثير والنفع العظيم، فينتفع به بائعه ومشتريه، وآخذه ومعطيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لأهل المدينة في مدهم وصاعهم. الحديث: أخرجه البخاري وابن حبان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الكيل في بيع المواد التموينية وشرائها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيلو طعامكم " فإن هذا أمرٌ وأقل مقتضيات الأمر الاستحباب والندب. ثانياًًً: أن البركة تحل في الطعام المكيل سيما بالمدينة المنورة، فينمو ويتكاثر ويعظم نفعه الغذائي، فيكفي القليل منه العدد الكثير من الناس، وتقوى به الأجسام، وتصح الأبدان، وتخلو من الأمراض والأسقام وتهنأ، به النفوس لقوله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: " كيلو طعامكم يبارك لكم " ولا شك أن الطعام المبارك غذاء وشفاء وقوة وصحة وهناء. والمطابقة: في قوله: " كيلو طعامكم ". 637 - " باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة " 737 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: رأيت الذين كانوا يشترون المواد الغذائية من قمح وشعير وتمر " جزافاً " بدون كيل ولا وزن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمنعون من بيعها قبل قبضها واستلامها، ويضربون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 638 - " بَاب لا يَبيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أخِيهِ، ولا يَسُومُ على سوْمِ أخِيهِ حتى يَأذَنَ لَهُ أوْ يَتْرِك " 738 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَبِيعَ حَاضِرٌ لبَادٍ، ولا تَنَاجَشُوا، ولا يَبِيعُ الرَّجُلُ   لئلا يبيعوا الطعام " حتى يؤوه إلى رحالهم " أي حتى ينقلوه إلى منازلهم، فمن حاول منهم بيعه قبل استيفائه ونقله إلى منزله، منع من ذلك، ولو بالضرب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الطعام قبل استلامه ونقله إلى المستودع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضربهم على ذلك. ثانياًً: استدل به البخاري على جواز الحكرة، وهي احتكار الطعام انتظاراً لغلاء سعره، وهو غير ظاهر، لأنه ليس في أحاديث الباب للحكرة ذكر، كما أفاده الحافظ. والذي عليه أكثر أهل العلم: تحريم احتكار المواد الغذائية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من احتكر فهو خاطىء " أخرجه مسلم، وفي رواية لمسلم أيضاًً " لا يحتكر إلا خاطىء " وقد خصه بعضهم بالطعام والقوت الضروري للناس والبهائم نظراً إلى الحكمة المناسبة للتحريم. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يضربهم على بيع الطعام قبل إيوائه إلى مخازنهم. 638 - " باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سومه حتى يأذن له أو يترك " 738 - معنى الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أنواع من البيع لما فيها من ضرر محقق منها " أن يبيع حاضر لباد " وقد فسره ابن عباس رضي الله عنهما بأن يكون له سمساراً، ومعناه كما قال بعضهم: أن يجيء الغريب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 على بَيْع أخِيهِ، ولا يَخْطبُ عَلَى خِطبَةِ أخِيْهِ، وَلا تَسْأل الْمَرأة طلاقَ أخْتِهَا لِتَكْفَأ مَا فِي إِنَائِهَا".   إلى البلد بسلعته، يريد بيعها في الحال، فيقول له الحضري: دعها عندي لأبيعها لك على التدريج بأعلى من سعرها الحالي، وهو قول الشافعي ولهذا قال: لا يجوز ذلك، وذلك أبو حنيفة إلى جوازه والله أعلم. ومنها بيع النجش حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تناجشوا " أي لا يزد أحدكم على غيره في السلعة التي لا يريد شراءها ليدفعه إلى شرائها بثمن أغلى مخادعة له واحتيالاً عليه. ومنها بيع الرجل على بيع أخيه، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يبيع الرجل على بيع أخيه " بالجزم على أن (لا) ناهية، وبالرفع على أنها نافية، وصورة ذلك أن يقع البيع مع الخيار، فيأتي آخر في مدة الخيار، فيقول للمشتري: افسخ هذا البيع، فأنا أبيعك بأرخص من ذلك، وكذلك شراء الرجل على شراء غيره منهي عنه. ثم إنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك نهى عن أعمال أخرى خارج البيوع فقال: " ولا يخطب على خطبة أخيه " أي لا يأتي رجل بعد الاتفاق على الزواج والتراضي بين الطرفين وركون كل منهما إلى الآخر فيخطب تلك المرأة لنفسه، ويُرغب أهلها في تزويجها له، " ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها " أي ولا تطلب المرأة المخطوبة طلاق الزوجة الأولى لتسلبها ما كانت تنعم به من معاشرة ونفقة ونحوها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الحاضر للبادي وهو أن يتولى الحضري بيع السلعة للبدوي في المستقبل، منتظراً ارتفاع سعرها، قال العيني: وهو قول أكثر أهل العلم، وقول مالك والليث والشافعي وأحمد، وحكى مجاهد جوازه وهو قول أبي حنيفة وآخرين (1) وقالوا: النهي   (1) " شرح العيني " ج 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 639 - " بَابُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ " 739 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّ رَجُلاً أعْتَقَ غُلاماً لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَأخَذَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي، فاشتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِكَذَا وَكَذَا فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ ".   منسوخ، وهل النهي يقتضي الفساد أم لا؟ ذهب مالك وأحمد إلى أن البيع لا يصح، وذهب الجمهور إلى أنّه يصح مع الحرمة. ثانياًًً: تحريم النجش (1) فإن تواطأ البائع والمشتري أثما معاً، والبيع صحيح عند الشافعية والحنفية، خلافاً للحنابلة، وقالت المالكية: له الخيار. ثالثاً: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه بعد الركون والتراضي، ولا خلاف في ذلك. رابعاً: تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه المسلم ما لم يأذن له وإلا كان عاصياً وصح نكاحه عند الجمهور، خلافاً لداود الظاهري ومالك في رواية. وقال مالك في المشهور عنه يفسخ النكاح قبل الدخول، ويلحق الذمي بالمسلم عند الجمهور. خامساً: أنه لا يجوز للمخطوبة أن تسأل طلاق الزوجة الأولى. والمطابقة: هي: " في كون الحديث جزءاً من الترجمة ". 639 - " باب بيع المزايدة " 739 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه: " أن رجلاً أعتق غلاماً عن دبر " أي أن رجلاً أنصارياً يدعى أبا مدكور أعتق عبداً قبطياً بعد وفاته يسمى يعقوب، " فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يشتريه " أي فأصابت الرجل ضائقة مالية فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عبده للبيع عن طريق المزايدة   (1) وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليرفع من سعرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 640 - " بَابُ بَيْعِ الْغرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ " 740 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعَاً يتبَايَعَهُ   " فاشتراه نعيم (1) بن عبد الله " بأغلى ثمن وصل إليه " بكذا " أي بثمانمائة درهم. الحديث: أخرجه الخمسة غير أبي داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز بيع المزايدة وهو مذهب الجمهور، وكرهه بعضهم وعدوه من النجش، والحديث حجة عليهم: وعن أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع حلساً وقدحاً وقال: من يشتري هذا الحلس (2) والقدح؟ فقال رجل: آخذهما بدرهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يزيد على درهم " الخ أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. ثانياًًً: جواز بيع المدير وهو مذهب، الشافعي وأحمد خلافاً لمالك وغيره. 640 - " باب بيع الغرر وحبل الحبلة " أي هذا باب تذكر فيه الأحاديث المتعلقة بتحريم بيع الغرر وبيع حَبَلِ الحبلة بفتح الباء فيهما، قال العيني: وهو الصواب. وبيع الغرر، هو كل بيع يجهل فيه الثمن أو المبيع، أو يجهل فيه سلامة المبيع، أو أجله، ومنه بيع حبل الحبلة، فإنه نوع من أنواع بيع الغرر، وعطفه عليه من باب عطف الخاص على العام، وبيع حبل الحبلة كما قال مالك والشافعي: أن يقول البائع بعتك هذه السلعة بثمن مؤجل إلى أن تنتج هذه الناقة، ثم تنتج الذي في بطنها وهو باطل لأنّه بيع غرر لجهالة الأجل: وهناك أقوال أخرى في معناه تأتي   (1) بضم النون وفتح العين وسكون الياء. (2) بكسر الخاء كساء يوضع على ظهر البعير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، كانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إلَى أن تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ الَّتِي في بَطْنِهَا".   في شرح الحديث. 740 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة بفتح الباء في الكلمتين، وهو بيع من البيوع التي كان يمارسها العرب في الجاهلية، فحرمها الإسلام، ونهى عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى بيع حبل الحبلة الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية كما قال راوي الحديث أن الرجل كان يشتري البعير بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ناقة، وتكبر تلك الناقة التي ولدتها، وتلد أيضاًً مثل أمها، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيع لأن الأجل فيه مجهول، فهو بيع غرر. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع حبل الحبلة، واختلف الفقهاء في معناه، فقال مالك والشافعي وغيرهما: هو أن يقول البائع بعتك هذه السلعة بثمن مؤجل إلى أن تنتج هذه الناقة، ثم تنتج التي في بطنها، وهو بيع حرام وباطل وبيع غرر لأن الأجل فيه مجهول، وقال أحمد: هو بيع ولد الناقة، وهو بيع غرر أيضاًً، لأنه بيع شيء مجهول إلى أجل مجهول، وهو محرم وباطل، لما ذكرنا، ولأنه غير مقدور على تسليمه إلا أن راوي الحديث قد فسر بيع حبل الحبلة بالأول وتفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر. ثانياًًً: استدل البخاري بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع حبل الحبلة على تحريم بيع الغرر، وهو كل بيع احتوى على جهالة، أو كان المبيع غير مقدور على تسليمه، أو غير تام الملكية، كالعبد الآبق، والسمك في الماء الكثير، لأن العلة في النهي عن بيع حبل الحبلة هي الغرر، فيدخل في ذلك جميع بيوع الغرر. والحكمة في تحريمه - كما أفاده الزرقاني (1) أنه أكلٌ لأموال   (1) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 641 - " بَابُ إِنْ شَاء رَدَّ المصراة وفي حلبتها صاع من تمر " 741 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ اشْتَرى غَنَمَاً مُصَرَّاةً فاحْتَلَبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا، وَإنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاع مِنْ تَمْرٍ ".   الناس بالباطل إذا لم يحصل المبيع، وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه العلة في بيع الثمار قبل صلاحها، فقال: " أرأيت إن منع الله الثمرة، فبم يأكل أحدكم مال أخيه ". وقد ورد النهي عن بيع الغرر نصاً وتصريحاً في حديث، سعيد ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن بيع الغرر " أخرجه مالك في " الموطأ " ثم قال مالك رحمه (1) الله والأمر عندنا أن من المخاطرة والغرر اشتراء ما في بطون الإِناث، من النساء والدواب (2)، لأنه لا يدري أيخرج أم لا، فإن خرج لم يدر أيكون حسناً أم قبيحاً؟ تاماً أم ناقصاً؟ ذكراً أم أنثى، وذلك كله يتفاضل، إن كان كذا فقيمته كذا وإن كان على كذا فقيمته كذا. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " نهى عن بيع حبل الحبلة ". 641 - " باب إن اشاء رد المصراة وفي حلبتها صاع من تمر " 741 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من اشترى غنماً مصراة فاحتلبها " أي أن كل من غُرِّر به أو خدع في البيع، فاشترى غنماً قد حبس اللبن في ضرعها، وترك حَلْبُها مدة من الزمن ليكثر اللبن فيه فيظنَّ أنها حلوب كثيرة اللبن، فلما اشتراها وحلبها، ظهر له قلة لبنها، فإنّ له   (1) " موطأ مالك ". (2) قال الزرقاني: وهذا لا خلاف فيه لأنه غرر مجهول. اهـ. كما في " شرح الزرقاني " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 الحق في إبقائها أو ردها لبائعها لمدة ثلاثة أيام " فإن رضي أمسكها " أي فإن أحبها ورضي بها فله الحق في إبقائها " وإن سخطها " أي وإن كرهها فله الحق في ردها إلى صاحبها لمدة ثلاثة أيام، كما ذكرنا فإن ردها " ففي حلبتها صاع تمر " أي فإن عليه أن يدفع لصاحبها صاعاً من تمر عوضاً عن الحليب الذي شربه منها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم تصرية الغنم، ولو كان ذلك جائزاً لما كان للمشتري الحق في رد الشاة المصراة، وكذلك الإبل والبقر فإنه يحرم تصريتها لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تصرُّوا الإِبل والغنم ... " إلخ متفق عليه، وفي رواية " لا تُصَرُّ " بالنفي وهو أبلغ، وقد جاء في الحديث الصحيح " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تصرية الحيوان إذا أريد بيعه ". ثانياًًً: أن للمشتري الحق في رد المصراة لمدة ثلاثة أيام على أن يدفعٍ لصاحبها صاعاً من تمر مقابل ما شربه من لبنها، سواء كانت غنماً أو إبلا أو بقراً، لما جاء في رواية أخرى عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصروا الإِبل والغنم، فمن ابتاعها بعد، فإنه بخير النظرين بين أن يحتلبها، إن شاء أمسك وإن شاء ردّها وصاعَ تمرٍ " متفق عليه وهو مذهب الجمهور، وقالت الحنفية: ليس له أن يردها وإنما يرجع على البائع بنقصان المبيع، وأجابوا عن حديث الباب وغيره بأنه مضطرب، لأنه ذكر التمر مرة، والقمح أخرى، وقالوا: إن هذا الحكم منسوخ، وأجيب بأن الطرق الصحيحة لا اختلاف ولا اضطراب فيها، وأما النسخ فإنه لا يثبت بالاحتمال. اهـ. كما أفاده الصنعاني. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " ففي حلبتها صاع من تمر ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 642 - " بَابُ مَنْ كَرِهَ أنْ يبيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْرٍ " 742 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ "، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.   641 - " باب من كره أن يبيع حاضِرٌ لباد بأجر " 742 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد " أي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الحضري أن يتولى بيع السلعة للبدوي، فيصير له سمساراً، كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روى البخاري بسنده المتصل عن ابن عباس أنّ طاووساً قال: قلت لابن عباس: ما قوله لا يبيع حاضر لباد قال: لا يكون له سمساراً. الحديث: أخرجه الخمسة، غير الترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز للحضري أن يبيع للبدوي سلعته، وهو قول بعض أهل العلم منهم الشافعي وغيره، قال النووي: هذه الأحاديث تتضمن تحريم بيع الحاضر للبادي، وبه قال الشافعي والأكثرون، قال أصحابنا: والمراد به أن يقدم غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه، فيقول له البلدي: اتركه عندي لأبيعه على التدرج بأغلى. قال أصحابنا: وإنما يحرم بهذه الشروط وأن يكون عالماً بالنهي، وبه قال جماعة من المالكية، وقال بعض المالكية: يفسخ البيع (1) ما لم يفت، وقال عطاء ومجاهد وأبو حنيفة: يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقاً لحديث " الدين النصيحة " قالوا: وحديث " النهي عن بيع حاضر لباد "   (1) وقال الشافعي وإن باع فالبيع جائز أي صحيح كما أفاده الترمذي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 643 - " بَابُ بَيعِ الشعير بالشعير " 743 - عَنْ مَالِكِ بْنِ أوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفَاً بمائةِ دِينَارٍ قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطرفَ مِنِّي، فَأخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا في يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأتِي خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ، وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذلك، فَقَالَ: وَاللهِ لا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأخُذَ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الذَّهَبُ بالذَّهَبِ رِباً إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ والبُرُّ بِالبُرِّ رِباً إِلَّا هَاءَ وهَاءَ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِباً إِلَّا هَاءَ وهَاءَ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ رِباً إلَا هَاءَ وَهَاءَ ".   منسوخ. اهـ. واختلف قول مالك في الشراء له، فمرة قال: لا يشتري له ولا يشتري عليه، ومرة أجاز الشراء له وهو قول الليث والشافعي (1). الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " فهي أن يبيع حاضر لباد " حيث أنّ النهي يدل على التحريم أو الكراهة على الأقل. 643 - " باب بيع الشعير بالشعير " 743 - معنى الحديث: يحدثنا مالك بن أوس رضي الله عنه " أنه التمس صرفاً بمائة دينار " أي بحث عمن يصرفها له " قال: فدعاني طلحة " أي ناداني " فتراوضنا " أي فتساومنا عليها " حتى اصطرف مني " أي صرفها " ثم قال: " حتى يأتي خازني من الغابة " أي أمهلني في ثمنها حتى يأتي خازني من الغابة " وعمر يسمع ذلك فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه " الثمن " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء " بفتح الهمزة   (1) " تحفة الأحوذي شرح الترمذي " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 أي إلاّ خُذْ وهات. قال العيني: والمراد أنهما يتقابضان في المجلس قبل التفرق منه، يعني أنّه لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلاّ يداً بيد، فيتناول المشتري السلعة ويتناول البائع الثمن في وقت واحد ومجلس واحد، أما إذا تأخّر أحد البدلين عن الآخر فلا يجوز البيع، لأنه ربا النسيئة " والبر بالبر ربا إلاّ هاء وهاء " الخ أي وكذلك لا يجوز أن يتأخر أحد البدلين في البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر، لأنه ربا النسيئة، وهو محرم شرعاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز بيع الذهب بالذهب والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، يداً بيد، أي بشرط أن يستلم البائع الثمن والمشتري السلعة قبل أن يتفرقا. ثانياًًً: أنه لا يجوز أن يتأخر أحد البدلين عن الآخر في بيع الذهب بالذهب، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، لأنه ربا النسيئة المحرم شرعاً. وكما لا تجوز النسيئة في بيع هذه الأصناف بنفسها، كذلك لا يجوز التفاضل، أما تحريم النسيئة فيدل عليه حديث الباب وأما تحريم التفاضل فتدل عليه أحاديث أخرى. وقد وردت هذه الأحكام مجتمعة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبرِّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " أخرجه مسلم فقد دل حديث عبادة هذا على أن بيع هذه الأصناف تعتريه أحكام ثلاثة: الأول: يحرم بيعها نسيئة وتفاضلاً إذا كان البدلان من نوع واحد، كبُرٍّ ببُرٍّ، وشعير بشعير (1) الثاني: يحرم بيعها نسيئة ويجوز تفاضلاً، إذا اختلف النوعان كبيع الشعير بالتمر (2). الثالث: يجوز بيعها نسيئة وتفاضلاً إذا بيعت هذه   (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد " لدلالته بالنصِّ على وجوب التماثل والتقابض في المجلس بين البدلين المتحدين في النوع ولدلالة مفهومه على تحريم التفاضل والنسيئة بينهما. (2) وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " حيث يدل بنصه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 644 - " بَابُ بَيْعِ الذَّهَبِ بالذَّهَبِ " 744 - عنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَبيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَواءٍ، والفِضَّةَ بالفِضَّةِ إلَّا سَوَاءً بِسَواءٍ، وبِيعُوا الذَّهَبَ بالفِضَّةِ، والفِضَّةَ بالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ ".   الأصناف بأصناف أخرى غير الأشياء المذكورة في الحديث، وهذا الحكم وإن كان غير منصوص عليه، إلاّ أنه يؤخذ من مفهوم الحديث، والله أعلم. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " الشعير بالشعير ربا إلاّ هاء وهاء ". 644 - " باب بيع الذهب بالذهب " 744 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء "، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - ينهانا عن بيع الذهب بالذهب إلّا إذا كانا متماثلين متساويين في مقدارهما ووزنهما. " والفضة بالفضة إلا سواء بسواء " أي وكذلك لا تبيعوا الفضة بالفضة إلاّ متماثلين " وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم " أي سواء كانا متماثلين أو متفاضلين أما النسيئة فلا تجوز لما جاء في الحديث السابق. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وهو ربا الفضل، وكذلك لا يجوز بيع البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والزبيب بالزبيب، والملح بالملح متفاضلاً، كما جاء النهي عن ذلك في حديث عبادة بن الصامت الذي ذكرناه في شرح الحديث   = ومنطوقه على أنه إذا اختلف النوع جاز التفاضل وحرمت النسيئة. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 645 - " بَابُ بَيْعِ الدِّينَارِ بالديْنَارِ نسَاءً " 745 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ الله " عَنْهُ قَالَ: "الدِّينَارُ بالدِّينَارِ، والدِّرْهَمُ بالدِّرْهَمِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ   السابق. وقد اتفق الفقهاء على تحريم ربا الفضل في السبعة الأصناف المذكورة في الحديث، واختلفوا فيما عداها (1)، فطائفة قصرت التحريم عليها وهم الظاهرية، وطائفة حرمت، التفاضل في كل مكيل أو موزون بجنسه، وهذا مذهب أحمد في ظاهر مذهبه، وأبي حنيفة وطائفة خصته بالنقدين والطعام مطلقاً، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، سواء كان قوتاً أو فاكهة أو دواء، وطائفة خصته بالطعام مكيلاً أو موزوناً وهو قول للشافعي، ورواية عن أحمد، وطائفة خصته بالقوت وما يُصلحه وهو قول مالك، واعتبره ابن القيم أرجح الأقوال (2). الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ سواء بسواء ". 645 - " باب بيع الدينار بالدينار نساءً " 745 - معنى الحديث: أن أبا سعيد الخدري " قال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم " أي لا يجوز بيع الدينار الواحد إلاّ بدينار واحد مثله في القدر والوزن، وكذلك لا يجوز بيع الدرهم من الفضة إلاّ بدرهم يساويه في وزنه، فلا يجوز التفاضل في بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، وفي رواية أخرى عنه: " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم مثلاً بمثل، من زاد وازداد فقد أربى " أخرجه مسلم، " فقيل له: " أي قال أبو صالح   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 4. (2) " إعلام الموقعين " ج 2 كما أفاده في " الفقه الإسلامي وأدلته " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 لا يَقُولُهُ فَقَالَ أبو سَعِيدٍ سَألتُهُ، فقُلْتُ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أوْ وَجَدْتَهُ في كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: كُل ذلِكَ لا أقُولُ وأنتُمْ أعْلَمُ برَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنِّى، ولَكِنَّنِي أخْبَرنِي أُسَامَةُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا رِبَا إِلَّا في النَّسِئَةِ".   الزيات راوي الحديث لأبي سعيد: " إن ابن عباس لا يقوله " أي لا يقول بربا الفضل، ولا يحرمه في بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة والشعير بالشعير الخ. " فقلت: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فقال أبو سعيد أتيتُ ابن عباس فسألته: هل سمعت جواز التفاضل بين المتماثلين من هذه الأصناف السبعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - " أو وجدته في كتاب الله " منصوصاً عليه فيه " قال: كل ذلك لا أقول " أي لم أجده في القرآن، ولا سمعته بنفسي من النبي - صلى الله عليه وسلم - " ولكن أخبرني أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا إلاّ في النسيئة " وهذا يدل على جواز التفاضل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم ربا الفضل، لقول أبي سعيد: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، وأبو سعيد لا يقوله من عنده، وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " أخرجه أحمد والبخاري. ثانياًًً: تحريم ربا النسيئة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ربا إلاّ في النسيئة " ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. ثالثاً: ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى جواز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والشعير بالشعير، وكل شيء بمثله متفاضلاً، وحصر الربا في بيع النسيئة فقط، وحجته في ذلك حديث أسامة " لا ربا إلاّ في النسيئة " وقد اتفقوا على صحته كما أفاده الحافظ، واختلف أهل العلم في الإِجابة عنه، فقال بعضهم: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ربا إلا في النسيئة " أن غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 646 - " بَابُ بَيْعِ الْوَرِقِ بالذَّهَبِ نسِيئَةً " 746 - عنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: أنَّهُمَا سُئِلا عَنِ الصَّرْف فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هَذَا خَيرٌ مِنِّي   من أنواع الربا بالنسبة إليه لا يُعَدُّ شيئاً (1)، لأن الخطر الأشد، والضرر الأعظم إنما هو في ربا النسيئة، فإنه متى وقع في أمة استشرى فيها وتمكن منها تمكن السرطان من الجسم الذي يحل فيه، ولأنه لا يكاد يقع ربا الفضل إلّا كان ربا النسيئة سبباً فيه، فلا تكاد ترى أحداً يقبل شراء التمر بالتمر متفاضلاً إلّا إذا كان الثمن مؤجلاً، وكذلك بيع الدراهم بالدراهم متفاضلاً سببه النسيئة كما نرى في الديون الربوية والمعاملات البنكية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " الدينار بالدينار " يعني يداً بيد فلا تجوز النسيئة. 646 - " باب بيع الورق بالذهب نسيئة " 746 - معنى الحديث: أنه سئل البراء بن عازب وزيد بن أرقم   (1) بل هناك جوابان أصح مما ذكر الأول للشافعي فقد قال: قد يكون أسامة جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الصنفين المختلفين مثل الذهب بالورق والتمر بالحنطة، أو ما اختلف جنسه متفاضلاً يداً بيد فقال: إنما الربا في النسيئة فأدرك الجواب ولم يحفظ المسألة أو شك فيها. الجواب الثاني: أن حديث أسامة منسوخ فقد ذكر الحازمي في " الاعتبار " عن البراء بن عازب قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وتجارتنا هكذا فقال: ما كان يداً بيد فلا بأس به (أي ولو كان متفاضلاً من جنس واحد) وما كان نسيئاً فلا خير فيه، قال الحميدى: هذا منسوخ لا يؤخذ به. اهـ. " الاعتبار " ص 316. وهناك جواب ثالث: وهو إذا اختلف حديثان صحيحان وجب المصير إلى ترجيح أحدهما بأحد وسائل الترجيح وإلا تساقطا ورجعنا إلى الاستصحاب كما هو مبين في علم أصول الفقه. وفي هذه المسألة نرجح حديث أبي سعيد على حديث أسامة لأن تحريم ربا الفضل ثبت بأحاديث كثيرة صحيحة لا شك فيها ولأن تحريم ربا الفضل هو الذي عليه جماهير الصحابة والتابعين ومن تبعهم من فقهاء الأنصار إلى يوم الناس هذا ولم يذهب مذهب ابن عباس في ربا الفضل إلا أفذاذ من الناس. اهـ. (حسن السماحي). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وكلاهُمَا يَقُولُ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع الذَّهَبِ بالْوَرِقِ دَيْناً ". 647 - " بَابُ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ " 747 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تَبيعُوا الثَّمَرَ حتى يَبْدُو صَلَاحُهُ، ولا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بالتَّمْرِ قَالَ: وأخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ في بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بالرُّطَبِ، ْ أو بالتَّمْرِ، ولم يُرَخِّصْ في غَيْرِهِ.   رضي الله عنهم عن صرف الذهب بالفضة أو بالعكس هل يجوز فيه الدين أم لا، فكان كل واحد منهما يدفع الفتوى عن نفسه، ويقول عن الآخر: إنه خير منه، ثم قالا: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق " يعنى بالفضة " ديناً " أي بالدين، وهو بيع ذهب حاضر بفضة مؤجلة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم الدين في الصرف، لأنه يلزم منه بيع أحد المتماثلين في العلة الواحدة بالآخر مؤجلاً، وهو ربا النسيئة. والمطابقة: في قوله: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق ديناً ". 647 - " باب بيع المزابنة " وهو أي بيع المزابنة بيع الرطب بالتمر: 747 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار عامة حتى تنضج، ويظهر صلاحها، وتصبح على الصفة التي يرغبها الناس فيها، وعلامة ذلك أن تحمرّ وتصفرّ، كما في الرطب مثلاً، ونهى - صلى الله عليه وسلم - أيضاًً عن بيع الرطب بالتمر وهو ما يسمى عند العرب ببيع المزابنة، وبيع الزبيب بالعنب، وبيع العرايا، وسيأتي تفسيره، إلاّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من هذا النهي بيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 العرايا، فأجازه ورخص فيها كما روى الزهري في هذا الحديث عن زيد بن ثابت " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من هذا بيع العرية فأجازه، وهو بيع الرطب على النخل من التمر بعد معرفة خرصه عند جفافه بشروط معينة. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الثمار قبل نضجها وسيأتي في موضعه. ثانياًًً: تحريم بيع المزابنة، وهو بيع الثمار الرطبة الناضجة بالثمار الجافة، كبِيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب، لأنه يؤدي إلى التفاضل بين المتماثلين نوعاً وعلة، وهو ربا الفضل، ويستثنى من ذلك بيع العرية أو العرايا، وهو أن يبيع رطباً على النخل لا يبلغ خمسة أوسق بخرصه من التمر لمن يأكله رطباً، وقد رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجازه، قال ابن قدامة وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة والأوزاعي والشافعي وإسحاق. وقال أبو حنيفة (1) لا يحل بيعها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر متفق عليه. قال ابن قدامة: ولنا ما روى أبو هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق " "قال" ورواه زيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة وغيرهما، وخرجه أئمة الحديث في كتبهم وفي سياقه " إلا العرايا " كذلك في المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الأخذ بها. اهـ. ثالثاً: قال في حديث الباب: " وأخبرني زيد ابن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر " وظاهره يدل على جواز بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض ولكن الشراح تأوّلوا هذه الرواية كما قال القسطلاني بأن " أو" للشك وأكثر الروايات على أنه إنما قال بالتمر، فلا يعول على غيره. هذا وقد حمل بعض أهل العلم   (1) " المغني " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 648 - " بَابُ إِذَا بَاعَ الثِّمَارَ قَبْلَ أنْ يبدُوَ صَلَاحُهَا ثُمَّ أصَابَتْهَا عَاهَةٌ فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ " 748 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْع الثِّمَارِ حتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ: وَمَا تُزْهِي، قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ، أرَأيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأخُذُ أحَدُكُمْ مَالَ أخِيهِ؟ ".   الحديث على ظاهره فأجازوا بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض، قال القسطلاني: وهو وجه عند الشافعية وقد روى النسائي والطبراني من طريق الأوزاعي عن الزهري ما يؤيّد أن " أو" للتمييز لا للشك حيث قال: بالرطب أو بالتمر. والمطابقة: في قوله: " ولا تبيعوا الثَّمرَ بالتمر " أي الرطب بالتمر. 648 - " باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو مِنَ البائع " 748 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن بيع الثمار التي على رؤوس النخل منفردة وحدها عن النخل حتى تنضج، ويظهر صلاحه - صلى الله عليه وسلم -، وهو معنى قوله: " حتى تُزْهي " قال الخليل: أزهى النخل بدا صلاحه، وفي رواية تزهو، وصوّبها بعضهم، وأنكر الياء، وصوب الخطابي الياء، ونفى تزهو بالواو، وقال ابن الأثير: والصواب الروايتان على اللغتين، يقال: زها يزهو إذا ظهرت ثمرته وأزهى يزهي إذا احمرّ واصفرّ كما جاء تفسيره بذلك في حديث الباب حيث قال: " فقيل لى: يا رسول الله وما تزهي؟ فقال: حتى تحمرّ " وفي رواية " أو تصفَرّ "، لأنه إذا احمرت أو اصفرت كان ذلك علامة على تمام نضوجها ثم بين أن العلة الشرعية في تحريم بيع الثمار قبل نضوجها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 هي ما يحتوي عليه هذا البيع من الضرر والمخاطرة، لأنها قد تتلف الثمرة فيخسر المشتري، فيؤدي ذلك إلي أكل أموال الناس بالباطل لاحتمال حدوث العاهة قبل أخذها " فقال - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه " " والمعنى " أنه إنما نهى - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيع لأنه لا ينبغي لأحد أن يأخذ مال أخيه باطلاً، وبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها قد يؤدي إلى ذلك، لأنه إذا تلفت الثمرة لا يبقى للمشتري في مقابل ما دفعه شيء. قال القسطلاني: واختلف في هذه الجملة هل هي مرفوعة (1) أو موقوفة فصرح مالك بالرفع، حيث قال في " الموطأ ": وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيت إذا منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه " وقال الدارقطني: خالف مالكاً جماعة، منهم ابن المبارك يعني فقالوا إنها موقوفة على أنس رضي الله عنه، قال الحافظ: وليس في رواية الذي وقفه ما ينفي قولَ من رفعه. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه والحديث صريح في ثمار النخل، حيث نهى عن بيعها حتى تزهي أي حتى تحمرّ أو تصفرّ، ويتم نضجها، ويظهر صلاحها، وكذلك الحكم في بيع العنب والحبوب، لما جاء في حديث أنس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسودّ، وعن بيع الحب حتى يشتد " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. ويعرف صلاح البلح بالاحمرار والاصفرار وصلاح العنب بظهور الماء الحلو اللين والسواد في بعضه والاصفرار في البعض الآخر، وصلاح الحبوب ببياضها واشتدادها وصلاح الفواكه بطيب الأكل، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، كرهوا بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، قال الزرقاني: وبه قال الجمهور:   (1) أي اختلفوا هل هي مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنها موقوفة على أنس رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 أما حكم هذا البيع من حيث الصحة والفساد فقد قال ابن قدامة: لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام. أحدها: أن يشتريها بشرط التبقية فلا يصح البيع إجماعاً، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها والنهى يقتضي فساد المنهي عنه. الثاني: أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإِجماع، لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها. والثالث: أن يبيعها مطلقاً ولم يشترطا قطعاً ولا تبقية فالبيع باطل عند الحنابلة وبه قال مالك والشافعي، وأجازه أبو حنيفة، لأن إطلاق العقد يقتضي القطع، فهو كما لو اشترطه. اهـ. والمراد ببيع الثمار قبل بدو صلاحها الذي تجري فيه هذه الأحكام هو بيعها لغير مالك الأصل، أما بيعها مع الأصل فإنه يجوز في جميع الأحوال إجماعاً. فإن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها: بشرط القطع، ثم أبقاها حتى بدا صلاحها فالبيع صحيح عند أكثر الفقهاء، وهو رواية عن أحمد. ثانياًًً: استدل ابن شهاب الزهري بهذا الحديث على أنه إذا باع البائع الثمرة منفردة عن الأصل قبل أن يبدو صلاحها، فأصابتها جائحة يعني عاهة (1) فأهلكتها كانت في ضمان البائع، فعليه أن يعوّض المشتري عما تلف من الثمرة، وفي هذا يقول الزهري كما رواه عنه البخاري: " ولو أن رجلاً ابتاع تمراً قبل أن يبدو صلاحه ثم أصابته عاهة كان ما أصابه على ربه " أي كان ذلك التلف محسوباً على مالك الثمرة " وهو البائع، والظاهر أن هذا هو مذهب البخاري. أمّا مذهب الفقهاء في هذه المسألة فقد قال ابن قدامة: " ما تهلكه الجائحة من الثمار من ضمان البائع " وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث. وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: هو من ضمان المشتري لما روي أنّ امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت:   (1) أي من ضمانه مطلقاً، سواء كان المبيع قبل نضوج الثمرة أو بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 649 - " بَابُ بَيْعِ الْمُخاضَرَةِ " 749 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، والْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلامَسَةِ، والمُنَابَذَةِ، والْمُزَابَنَةِ ".   إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسألته أن يضع عنه، فتألى أن لا يفعل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تألى فلان أن لا يفعل خيراً " متفق عليه ولو كان واجباً لأجبره عليه. قال ابن قدامة: ولنا ما روى مسلم في " صحيحه " عن جابر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح "، وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، لم تأخذ مال أخيك بغير حق " رواه مسلم وأبو داود. قال ابن قدامة: وفي رواية أخرى أن ما كان دون الثلث فهو من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم. اهـ. ويتلخص لنا من ذلك أن ما أتلفته الجائحة فيه " ثلاث أقوال: الأول: أنه في ضمان المشتري مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي في الجديد. الثاني: أنه في ضمان البائع مطلقاً، لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها وهو مذهب أحمد وجماعة من أهل الحديث وأكثر أهل المدينة. الثالث: أنه في ضمان المشتري إذا كان دون الثلث، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " بم يأخذ أحدكم مال أخيه ". 649 - " باب بيع المخاضرة " 749 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أنواع من البيوع. منها بيع المحاقلة: وهو بيع الزرع من البُرِّ والشعير في سنبله، والفول في غلافه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 650 - " بَابُ بيعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رُوحٌ، ومَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ " 750 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ أتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ   بحبٍ خالص من نوعه كيلاً (1) ومنها المخاضرة: وهي بيع الثمار قبل أن يظهر صلاحها، وقد تقدم، ومنها الملامسة: وهو أن يبيعه الشيء إذا لمسه بيده دون مشاهدته والمنابذة: وهي أن يقول له أي ثوب نبذته إليّ فقد اشتريته بكذا، والمزابنة: وقد تقدم شرحها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم هذه البيوع المذكورة وبطلانها أما المخاضرة فهي بيع الحبوب والثمار قبل أن يبدو صلاحها، وهو بيع محرم وباطل، وقد تقدم شرحه في الباب السابق، كما ترجم له البخاري. أما المحاقلة فهي عند الجمهور بيع الحنطة والشعير في سنبله، والفول في غلافه بحب من نوعه كيلاً، وقال مالك: هي كراء الأرض ببعض ما ينبت منها. أما الملامسة والمنابذة فقد تقدم شرحهما في شرح الحديث على حسب قول الجمهور فيهما. الحديث: أخرجه البخاري. 650 - " باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك " 750 - معنى الحديث: أن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: إنني أعمل في رسم الصور الحيوانية من ذوات الأرواح وأبيعها وأعيش من   (1) وذلك كأن يبيع الشعير في سنبله بعشرين صاعاً من الشعير الجاف. قال الصنعاني: والعلة في النهي عن ذلك هو الربا لعدم العلم بالتساوي. اهـ. وهي العلة أيضاًً في تحريم المزابنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 يَدِي، وإِنِّي أصْنَعُ هَذِه التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا أحَدِّثُكَ إلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيها الرُّوحَ، وليْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أبَداً " فَرَبا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً، واصْفَرَّ وَجهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ أبيْتَ إلَّا أن تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ، كلِّ شَيءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ.   كسبها، وأنفق على عيالي منها، فهل يجوز ذلك؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنني لا أريد أن أجيبك على سؤالك هذا إلاّ بحديث سمعته بنفسي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " من صوّر صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ في الروح، وليس بنافخ " أي من رسم هذه الصور الحيوانية لذوات الأرواح، فإن الله تعالى سيعذبه يوم القيامة عذاباً شديداً طويلاً حتى ينفخ فيها الروح، وهذا أمر لا يقدر عليه، ولا يتمكن منه، فيطول عذابه إذن، " فربا الرجل ربوة شديدة واصفر " أي فلما سمع الرجل هذا الوعيد الشديد الذي يترتب على تصوير الصور الحيوانية فزع فزعاً شديداً حتى اصفرّ لونه من شدة الخوف: " فقال: ويحك إن أبيت إلاّ أن تصنع فعليك هذا الشجر " أي فلما رأى ابن عباس ما أصاب هذا الرجل من الفزع والخوف الشديد من هذا الوعيد، وأدرك الحرج الذي وقع فيه، وأن الرجل بين أمرين أحلاهما مر، أشفق عليه، ورثا لحاله، وعبر عن ذلك بقوله: " ويحك " فهي كلمة ترحم وعطف وإشفاق، ثم أشار عليه بعمل من جنس مهنته لا إثم فيه، فقال: إذا كنت لا بد لك من التصوير، ولا غنى لك عنه، لأنه مهنتك التي لا غنى لك عنها في حياتك، وصنعتك التي لا بد لك منها، ولا تعرف غيرها، وتجارتك التي تتعيش منها، فإن في إمكانك أن ترسم الصور النباتية والطبيعية كالأشجار والأزهار والجبال والأنهار، وتتكسسب منها، ولا يكون عليك في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 651 - " بَابُ تحْرِيمِ التِّجَارَةِ في الْخمْرِ " 751 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ سُورَةِ الْبَقَرةِ عنْ آخِرِهَا خَرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " حُرِّمَتْ التِّجَارَةُ في الْخَمْرِ ".   رسمها وبيعها أي حرج من الناحية الدينية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم رسم الصور الحيوانية وتصوير ذوات الأرواح من إنسان ودابّة وطير وبيعها واقتنائها. ثانياًً: جواز تصوير الصور النباتية والطبيعية من غير ذوات الأرواح وبيعها، والتكسب منها، كما أفتى بذلك ابن عباس رضي الله عنهما: وهو ما ترجم له البخاري استناداً إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما. والمطابقة: بين قول ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث " إن أبيت إلاّ أن تصنع فعليك بهذا الشجر، كل شيء ليس فيه روح " وبين قوله في الترجمة: " باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح ". 651 - " باب تحريم التجارة في الخمر " 751 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " لما نزلت آيات سورة البقرة " ولفظه في رواية أخرى: " لما نزلت الآيات من سورة البقرة في الربا " " خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: حرمت التجارة في الخمر " أي أنّه لما نزلت آيات تحريم الربا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته إِلى المسجد، فأعلن تحريم التجارة في الخمر والبيع والشراء فيها، لأن كل ما لا يجوز تناوله من المشروبات تحرم التجارة فيه، لما في ذلك من ترويج المشروبات المحرمة بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 652 - " بَابُ إِثْمَ مَنْ بَاعَ حُراً " 752 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " قَالَ اللهُ: ثَلَاثَة أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُل أعطى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرَّاً فأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجِيراً فاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ ".   الناس وتشجيع الناس على تعاطيها وشربها. الحديث: أخرجه الخمسة إلا الترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم بيع المسكرات وأشباهها من المشروبات التي تحجب العقول وتغيبها وكذلك سائر المخدرات، لما في ذلك من ترويج السموم الفتاكة بين الناس، وشلّ حركتهم الجسمية والعقلية والنفسية، والقضاء على إرادتهم وتحطيم شخصيتهم، وانتشار الجنون فيهما. والمطابقة: في قوله: " حرمت التجارة في الخمر ". 652 - " باب إثم من باع حراً " 752 - معنى الحديث: يحدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن ربه عز وجل فيقول: " قال الله: ثلاثه أنا خصمهم " أي ثلاثة أنواع من البشر هم أعداء الله، والله خصمهم الشديد الخصومة لهم، ومن كان الله خصمه فقد هلك لا محالة. " رجل أعطى بي ثم غدر " قال العيني: فيه حذف المفعول (1)، تقديره أعطى العهد باسمي، واليمين بي، ثم نقض العهد، ولم يف به. وقال ابن الجوزي: معناه حلف في قوله، ثم غدر ونقض العهد الذي حلف عليه، واجترأ على الله تعالى. " ورجل باع حراً فأكل ثمنه " أي باع حراً عالماً بحريته، عامداً متعمداً، ثم أخذ ثمنه، وأدخله على نفسه.   (1) " شرح العيني " ج 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 653 - " بَابُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ " 753 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " بَاعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المُدَبَّرَ ". 654 - " بَابُ ثَمَنِ الْكَلْبِ " 754 - عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   " ورجل استأجر أجراً " أي عاملاً " فاستوفى منه " عمله " ولم يعطه أجرته " أي وأكل عليه أجرة عمله. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم بيع الحر وكونه من الكبائر، لأن هذا الوعيد لا يترتب إلاّ على كبيرة. ثانياًًً: أن من الكبائر الجرأة على الأيمان الباطلة، ونقض العهود، وأكل أجرة الأجير، لأنه استخدمه بغير عوض، وأكل حقه بالباطل، وهو من أقبح المظالم وأشدها. والمطابقة: في قوله: " رجل باع حراً ". 653 - " باب بيع المدبَّر " 753 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " باع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدبر " وهو العبد الذي أعتقه سيده بعد موته. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز بيع المدبر، قال الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم، لم يروا في بيع المدبر بأساً وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وكره قوم بيع المدبر، وهو قول سفيان الثوري ومالك. والمطابقة: في قوله: " باع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدبَّر ". 654 - " باب ثمن الكلب " 754 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثلاثة أشياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 " أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، ومَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الْكَاهِنَ ".   الأول: أنه - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن ثمن الكلب " أي عن بيع الكلب، وأخذ ثمنه مطلقاً، سواء كان معلَّماً على الصيد أو غير معلّم، أو كان مما يجوز اقتناؤه مثل كلب الماشية والحرث، أو مما لا يجوز اقتناؤه. الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن " مهر البغي " وهو الثمن الذي تتقاضاه الزانية مقابل تسليم نفسها للرجل الأجنبي وسماه مهراً مجازاً. الثالث: أنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن " حلوان الكاهن " وهو ما يأخذه الكاهن أو الكاهنة مقابل تنبأهما بالغيب. والكاهن الذي يدعي علم الغيب، ويخبر الناس بزعمه عن الكائنات الغيبية والأشياء المستقبلية، وهو شامل لكل من يدعي ذلك من منجم وضراب بالحصا ونحوه، وسمّى ما يتقاضاه الكاهن حلواناً تشبيهاً بالشيء الحلو، لأنه يؤخذ سهلاً بلا كلفة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم هذه الأشياء الثلاثة المذكورة، وقد أجمع العلماء على تحريم مهر البغي، ثم اختلفوا فيما يصنع فيه، واختار ابن القيم أنه يجب التصدق به، ولا يرد إلى الدافع، لأنه دفعه باختياره في مقابل عوض لا يمكن استرجاعه، فهو كسب خبيث يجب التصدق به، ولا يعان صاحب المعصية بحصول غرضه، ورجوع ماله. وأجمعوا أيضاًً على تحريم حلوان الكاهن وأنه لا يحل له ما يأخذه، ولا يحل لأحد تصديقه. أما بيع الكلب وأخذ ثمنه فإن ظاهر الحديث يدل على تحريم بيعه وأكل ثمنه مطلقاً، مأذوناً فيه أو غير مأذون، وهو مذهب أحمد والشافعي والأوزاعي وداود، وعلة تحريم بيعه نجاسته: وجوّز أبو حنيفة بيع الكلب الذي فيه منفعة، وعن مالك ثلاث روايات: الأولى: لا يجوز، وتجب القيمة، والثانية: يجوز بيع ما فيه منفعة: والثالث كالجمهور. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: ظاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ السَّلَمِ " 655 - " بَابُ بَيْعِ السَّلَمِ في كَيْل مَعْلُومٍ " 755 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ والنَّاسُ يُسْلِفُونَ في التَّمْرِ السَنّتيْنِ والثَّلَاثَ فَقَالَ: " مَنْ أسْلَفَ في شَيْءٍ ففِي كيْل مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلى أجَلِ مَعْلُوم ".   " كتاب السلم " السلم بفتح السين واللام معناه لغة: تسليم رأس المال في مجلس البيع، ويسمى سلفاً أيضاًً، إلاّ أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز، أما السلم شرعاً فهو بيع شيء مؤجل موصوف في الذمة بثمن معجّل مقبوض في مجلس العقد كبيع عشرين أردباً من القمح مؤجلة، إلى عام أو عامين بأربعة آلاف معجلة نقداً في مجلس العقد، وهو بيع شرعه الإِسلام لمنفعة البائع بتوسعه في الثمن ومنفعة المشتري بشراء السلعة بأقل من قيمتها الحاضرة. 655 - " باب بيع السلم في كَيْل معلوم " 755 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وجد الأنصار يتعاملون بالسلم، فيبيعون التمر مؤجلاً إلى عام أو عامين أو ثلاثة أعوام بثمن معجل مقبوض حالاً في مجلس العقد، فأقرهم - صلى الله عليه وسلم - على بيع السلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 -هذا- لما فيه للمتبايعين من مصلحة ظاهرة، ولكنه ضبطه بشروط معينة فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من أسلف في شيء " أي من اشترى شيئاً من تمر أو بُرّ أو شعير مؤجلاً إلى عام أو عامين بثمن حاضر مقبوض في مجلس العقد، " فيسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم "، أي فليكن الشيء الذي اشتراه شيئاً معيناً، معلوم المقدار، محدود الكمية كيلاً ووزناً، مضبوطاً بأجل معلوم، ومدة معينة معروفة محددة كسنة أو سنتين مثلاً، لا بأجل مجهول المدة غير محدد الزمن. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز بيع السلم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أهل المدينة عليه، وضبطه لهم بشروط معينة، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أنه يشترط في صحة السلم شروطاً لا بد منها: الأول: أن يكون المبيع محدود الكمية، معلوم المقدار كيلاً أو وزناً أو ذرعاً أو عدداً، فلا يصح السلم في مجهول القدر، لما فيه من الغرر والضرر، وفتح باب النزاع والشقاق. الثاني: أن يكون المبيع مؤجلاً أجلاً معلوماً مؤقتاً بفترة معينة وزمن محدود لا يختلف، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إلى أجل معلوم " فإذا كان مما يختلف كالجذاذ والحصاد، فلا يجوز، وهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة، وقال أحمد في رواية: أرجو أن لا يكون به بأس، وهو مذهب مالك وأبي ثور. قال ابن قدامة: (1) ولنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تبايعوا إلاّ إِلى شهر معلوم، واستدل المالكية بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهودي أن ابعث إليَّ بثوبين إلى الميسرة " ولكن قال أحمد: رواه (حربي) بن عمارة وفيه (غفلة) وهو صدوق. الثالث: أن يقبض الثمن فوراً في مجلس العقد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليسلف " والإِسلاف تسليم الثمن مقدماً، وإعطاءه حالاً في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل قبض الثمن فالعقد باطل عند   (1) " المغني " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يجوز أن يتأخر يومين أو ثلاثاً أو أكثر ما لم يكن ذلك شرطاً. والرابع: أن يكون السلف في الذمة لا في الأعيان، فلا يجوز في ثمرة بستان بعينه، لأنه لا يؤمن من تلفه، قال ابن المنذر: إبطال السلف في ذلك كالإِجماع من أهل العلم. الخامس: أن يكون المبيع مستوفياً لشروط البيع كلها، لأنّ السلم نوع من أنواعه. السادس: أن يكون المبيع مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها، فيصح في الحبوب والثمار والدقيق والثياب والحديد والرصاص والكبريت، وكل مكيل أو موزون أو مزروع أو معدود، قال ابن قدامة: واختلفت الرواية في السلف في الحيوان، فروي: لا يصح السلم فيه، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي، قال: وظاهر المذهب يصح السلم فيه، قال ابن المنذر (1): وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والأوزاعي والشافعي، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبتاع البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجيء الصدقة ". اهـ. واستدل الحنفية وأهل الكوفة على عدم جوازه بما أخرجه الحاكم في " المستدرك " أنّ (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السلف في الحيوان "، قال الزيلعي في " نصب الراية ": قال الحاكم: حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه. إلاّ أن من رواته إسحاق بن إبراهيم، وقد قال فيه ابن حبان: منكر الحديث جداً يأتي عن الثقات بالموضوعات. السابع: أن يضبط المبيع بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهراً من جنس ونوع وجودة ورداءة ولون وبلد، قال ابن قدامة: ولا يجب استقصاء كل الصفات، لأن ذلك متعذر، فيجب الاكتفاء بالأوصاف الظاهرة التي يختلف الثمن بها ظاهراً، فيصف التمر بأربعة أوصاف: النوع برني أو معقلي، والبلد إن كان يختلف، فيقال: بغدادي أو بصري، فإنّ البغدادي أحلى لعذوبة   (1) " المغني " ج 4. (2) " تحفة الأحوذي " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 الماء، وأقل بقاءً، والبصري بخلاف ذلك، والقدر " يعني الحجم " كبار أو صغار، وحديث أو عتيق، فأما اللون، فإن كان النوع الواحد مختلفاً كالطبرز يكون أحمر ويكون أسود ذكره: ثم ذكر أن البُرَّ يوصف بأربعة أوصاف النوع والبلد والحجم وحديث أو عتيق. اهـ. الثامن: قال الصنعاني: واختلفوا أيضاًً في شرطية المكان الذي يسلم فيه فأثبته جماعة، وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه، وفصلت الحنفية فقالت: إن كان لحمله مؤونة فيشترط، وإلّا فلا، وقالت الشافعية: إن عقد حيث لا يصح التسليم كالطريق يشترط وإلا فقولان. هذا وقد اختلفوا هل يشترط في المبيع أن يكون موجوداً عند بائعه حال العقد، فذهب الشافعي ومالك إلى أنّه لا يشترط، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن أبزى " بفتح الهمزة وسكون الباء " قال: " كنا نصيب الغنائم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنستلفهم في الحنطة والشعير والزبيب قيل: أكان لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك " أخرجه البخاري، قال الصنعاني وهو استدلال بفعل الصحابي أو تركه ولا دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، وأقره. قال الصنعاني: (1) ويعارض ذلك حديث ابن عمر عند أبي داود: " ولا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه " فإن صح ذلك كان مقيداً لتقريره لأهل المدينة "على سلم السنة والسنتين، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن لا يسلفوا حتى يبدو صلاح النخل، وهذا يؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنه يشترط في المسلم فيه أن يكون موجوداً عند العقد إلى الحلول (2). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فليسلف في كيل معلوم ".   (1) " سبل السلام شرح بلوغ المرام " الصنعاني. (2) ولكن هذا الشرط يتنافى مع الغرض الشرعي المقصود من السلم بالنسبة إلى البائع، لأن الشارع إنما شرع السلم لمنفعة مقصودة للبائع، وهي أن يتوسع في الثمن، فإذا كان المبيع موجوداً فلا معنى لتأخير تسليمه ولا فائدة في ذلك، بل المنفعة في أن يبيعه بثمنه الحالي في الأسواق التجارية بدل أن يبيعه بثمن أقل من سعره، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ الشُّفْعَةِ " 656 - " بَابُ عَرْض الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبلَ الْبيْعِ " 756 - عَنْ أبِي رَافِع مَوْلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ جَاءَ إِلِى سَعْد بْنِ أبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقالَ لَهُ: ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ في دَارِكَ، فَقَالَ سَعْدُ: وَاللهِ لا أزِيدُكَ على أرْبَعَةِ آلافٍ مُنَجَّمَةٍ أو   656 - " باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع " الشفعة: مأخوذة من شفع الشيء إذا ضمَّه إليه، لأن صاحبها يضم مال غيره إلى ماله. وهي شرعاً كما قال ابن قدامة: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه إلى غيره من يد من انتقلت إليه بثمنها، فإذا أراد أحد الشريكين أن يبيع نصيبه، فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه لشريكه، فإذا باعه لأجنبي فقد سلط الشريك على صرف ذلك لنفسه. 756 - معنى الحديث: أن البخاري يروي بسنده عن أبي رافع " أنه جاء إلى سعد بن أبي وقاص فقال له ابتع مني بيتي في دارك "، أي أن أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يملك غرفتين. في دار سعد بن أبي وقاص، فأراد بيعهما لحاجة عرضت له، فعرضهما على سعد، لأن له حق الشفعة " فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة " أي فسامهما منه سعد بأربعة آلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 مَقَطَّعَةٍ، فَقالَ أبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أعْطِيْتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دينَار ولَوْلا أنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: " الْجَارُ أحقُّ بسَقَبِهِ، ما أعطَيْتُكَهَا بأرْبَعَةِ آلافٍ، وَأنا أُعْطى بِهَا خمْسمِائَةِ دينَارٍ، فأَعطَاهَا أيَّاهُ.   درهم فقط مقسمة على أقساط معينة، وأقسم أن لا يزيده على ذلك " فقال أبو رافع: لقد أُعطيت بها خمسمائة دينار " أي لقد سيمت منّي بأكثر من هذا الثمن حيث أعطيت فيها خمسمائة دينار " ولولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الجار أحق بسقبه " بفتح السين والقاف، ويجوز إبدال السين صاداً وهو القُرب " ما أعطيتكها بأربعة آلاف " يريد أبو رافع أن يقول: لا بد لي من أن أبيعهما لك، ولو بسعر أقل، وإن الذي يدفعني إلى بيعهما لك بأربعة آلاف مع أنني أعطيت فيهما أكثر هو هذا الحديث الذي سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي قرّر فيه حق الجار في شراء نصيب جاره، وتفضيله في البيع على غيره، وتقديمه على سواه، لما بينهما من علاقة قوية وقرابة وثيقة، ولولا ذلك لما بعتها لك بهذا الثمن الأقل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه ينبغي للجار إذا أراد أن يبيع ما يخصه من الأرض أو الدار أن يعرضها على جاره كما فعل أبو رافع، وكذلك الشريك، وهو أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من كان له شريك في حائط فلا يبيع نصيبه من ذلك حتى يعرضه على شريكه " أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، لكن يؤيده ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال فيه: " لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ". قال النووي: وهذا محمول عندنا على الندب على إعلامه، وكراهة بيعه قبل إعلامه كراهة تنزيه (1) وليس   (1) أما بالنسبة إلى الجار فيحتمل أن يكون إعلامه بالبيع مستحباً ومندوباً وأن ترك اعلامه مكروه فقط: أما = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 بحرام، ويصدق على المكروه أنّه ليس بحلال ويكون الحلال بمعنى المباح، وهو مستوى الطرفين والمكروه ليس بمستوى الطرفين، بل هو راجح الترك. ثانياًًً: إثبات حق الشفعة للجار لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب " الجار أحق بسقبه " وبهذا قال أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العلم، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث الباب، ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " جار الدار أحق بالدار " أخرجه النسائي وصححه ابن حبان. وذهب الجمهور إلى أنه لا شفعة للجار، وإنما الشفعة للشريك فقط، قالوا: والمراد بالجار في هذه الأحاديث الشريك (1) ويدل على ذلك حديث أبي رافع، لأنه سمّى الخليط جاراً، والقول بأنه لا يعرف في اللغة تسمية الشريك جاراً غير صحيح. وأجيب بأن أبا رافع لم يكن شريكاً لسعد، وإنما كان جاراً له، لأنه كان يملك بيتين في دار سعد. واستدل الجمهور على أن الجار لا شفعة له بما جاء في حديث جابر رضي الله عنه حيث قال: " قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " متفق عليه، وفي رواية مسلم " الشفعة في كل شرك في أرض أو رَبع " قالوا: وهذه الأحاديث تدل على حصر الشفعة فيما لم يقسم ولم تحدَّد حدوده، ومفهومه أن كل ما قسم وحددت حدوده لا شفعة فيه، والجار داخل في ذلك كما يقول الجمهور. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ابتع مني بيتي في دارك ". ...   = بالنسبة إلى الشريك فظاهر الأحاديث يدل على وجوب إعلامه، وأن له حق الشفعة، وأنه أولى من غيره بشراء الحصة التي يراد بيعها، والله أعلم. (1) " سبل السلام شرح بلوغ المرام " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتَابُ الإِجَارَة " الإِجارة تكاد تكون من البديهيات التي هي ليست بحاجة إلى من يعرفها، ولكن العلماء عنوا بذلك لتحديدها تحديداً دقيقاً مطابقاً للوجه الشرعي الصحيح، فقالوا: الإِجارة لغة: بكسر الهمزة وفتحها وضمها، والكسر أشهر، مصدر سماعي لفعل أجر على وزن ضرب، ومعناها الجزاء على العمل، وقال بعضهم: ليست مصدراً ولكنها اسم لما يعطى على العمل، والتحقيق أنها تأتي على الوجهين. وشرعاً: تمليك منفعة معلومة مقصودة من العين المستأجرة بعوض، كتمليك منفعة الدار سكناً واستغلالاً مقابل العوض والأجرة التي تؤخذ من المستأجر، ويخرج بذلك البيع والهبة، لأنه تمليك للذات لا للمنفعة، وقولنا " معلومة " هذا شرط لا بد منه فيجب أن تكون المنفعة معروفة عند الفريقين. ولا بد أن تكون المنفعة مقصودة، أي معتبرة شرعاً وعقلاً. وأركان الإِجارة كالبيع: عاقد: وهو المؤجر والمستأجر ومعقود عليه: وهو الأجر والمنفعة وصيغة: وهي الإِيجاب والقبول، وتنعقد بأي لفظ يوضّح غرض المتعاقدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 657 - " بَابُ اسْتئجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وقول الله تعَالى (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أرَادَهُ " 757 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أقْبَلْتُ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الأشْعرِيِّينَ، فَقُلتُ: ما عَلِمْتُ أنهما يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، فَقَالَ: " لَنْ - أوْ لا نَسْتَعْمِلُ على عَمَلِنَا مَنْ أرَادَهُ ".   657 - " باب استئجار الرجل الصالح " أي هذا باب في بيان مشروعية استئجار الرجل الصالح للعمل الذي يسند إليه من ناحية دينه وأمانته، ومن ناحية كفاءته وأهليته. 757 - معنى الحديث: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشفع في رجلين من الأشعريين يطلبان أن يوليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملاً من الأعمال الهامة التي تتعلق بها مصالح المسلمين، كالجباية أو القضاء أو نحو ذلك " فقال: لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده " أي لا نولّي على هذه الأعمال من حرص عليها وسعى إليها، لأنه ينبغي أن يُحْترَسَ من الحريص على الولاية ولأن من طلبها وكل إليها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الأعمال الهامة التي تتعلق بها مصالح المسلمين من أمارة وقضاء وجباية وشرطة، إنما تسند إلى من تتوفر فيه الصلاحية والكفاءة والأهلية لها لا لمن يطلبها ويحرص عليها، لأن الحرص عليها مظنة التهمة، ولأنه إن طلبها وُكِلَ إليها، ولا يعان عليها، قال ابن بطال: لما كان طلب العمالة دلالة على الحرص وجب أن يحترز من الحريص عليها. اهـ. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرض عن الرجلين الذين سألا الإِمارة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 658 - " بَابُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ أجْرَ الأجِيرِ " 758 - عن أبي هُريْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْه: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " قَالَ اللهُ تَعَالى: ثَلَاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أعطى بي ثمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاع حراً فَأكلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجيراً فاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أجرَهُ ".   ولم يولهما، وولَّى أبا موسى الذي لم يسألها. ثانياًً: أنه لا ينبغي طلب الأعمال الهامة في الدولة والسعي إليها من إمارة وحسبة وقضاء وشرطة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليهما طلبهما للولاية، وأعرض عنهما، ولم يولهما إيّاها لحرصهما عليها وقد جاء النهي عن ذلك (1) وظاهره التحريم. ثالثاً: أنه ينبغي لولي الأمر أن لا يولّي العمل من أراده وطلبه وسعى إليه حرصاً على مصالح المسلمين، لأنه مظنة التهمة، وهو ما ترجم له البخاري بقوله: " لن أو لا نستعمل من أراده ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " لا نستعمل من أراده ". 658 - " باب إثم من منع أجر الأجير " 758 - معنى الحديث: هذا حديث قدسي يرويه نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل أنه " قال ثلاثة أنا خصمهم " قال ابن التين: وهو سبحانه خصم لجميع الظالمين إلاّ أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح. اهـ. وذلك لأن الخصم عدو لخصمه، قوي العداوة له، شديد الكراهة له، والمعنى: أن هؤلاء الثلاثة من أهل الكبائر في يتعرضون يوم القيامة لأشد العقوبة، لأنّهم أعداء لله، خصوم له، والخصم مكروه مبغوض عند خصمه، إذا ظفر به عاقبه   (1) أي وقد جاء النهي في حديث آخر عن سؤال الإمارة وطلبها، وظاهر النهي التحريم، كما قال القرطبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 659 - " بَابُ ما يُعْطَى في الرُّقْيةِ "   أشد العقوبة، فكيف بمن كان الله خصمه ولهذا قال: " ومن كنت خصمه خصمته " كما في بعض الروايات " لأنه العزيز القهار المنتقم الجبار إذا أخذ الظالم لم يفلته " أمّا هؤلاء الثلاثة فأولهم: رجل عاهد عهداً وحلف بالله على الوفاء به، ثم غدر بالرجل الذي عاهده، وخانه ونقض العهد الذي بينه وبينه. والثاني: رجل اغتصب رجلاً حراً أو جحد عتقهُ له، ثم باعه وأكل ثمنه، قال الخطابي: يقع ذلك بأمرين (1) إمّا أن يعتقه ثم يكتم ذلك أو يجحده، وإمّا بأن يستخدمه كرهاً بعد العتق، وإنما كان الله خصمه كما قال ابن الجوزي، لأن الحر عبد لله، فمن جنى عليه فخصمه سيده. والثالث: رجل استخدم غيره في عمل له مقابل أجر معين، فاستوفى منه عمله، ومنعه أجرته. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ما ترجم في البخاري وهو إثم من منع أجر الأجير، وأنه كبيرة من الكبائر، ولولا أنه كبيرة لما ترتب عليه هذا الوعد الشديد. ثانياًًً: أن هذه الجرائم الثلاثة المذكورة كلها كبائر. والمطابقة: في قوله: " ورجل استأجر أجيراً ". 659 - " باب ما يعطى في الرقية " والمراد بهذا الباب ذكر الأحاديث الدالة على جواز أخذ الأجرة على الرقية وهي كما أفاده العيني " كل كلام استشفي به من مرض أو خوف أو شيطان أو نحوه، والمراد بها الرقية بالقرآن والأذكار والأدعية المأثورة كما يدل عليه حديث الباب.   (1) " فتح الباري " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 759 - عنْ أَبي سَعِيدٍ الْخدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أصحَاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في سَفْرَةٍ سافَروهَا، حتى نَزَلوا على حٍّي من أحْيَاءِ العَرَبِ، فاسْتَضَافوفمْ، فَأبَوْا أنْ يضَيِّفوهُمْ، فَلدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسعَوْا لَه بِكلِّ شَيءٍ لا يَنْفَعه شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لو أتَيْتمْ هؤلاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلوا، لَعَلَّة أنْ يكونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيءٌ فأَتوْهُمْ، فَقالُوا: يَا أيُّهَا الرَّهْط إِنَّ سَيِّدَنَا لدِغَ وسعَيْنَا لَة بِكلِّ شَيْءٍ لا يَنْفَعه، فهلْ عِنْدَ أحَدٍ مِنْكُم مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعْم واللهِ إِني لأرْقِي، ولكِنْ واللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكمْ فَلَمْ تضَيِّفُونَا، فما أنَا بِرَاق لَكمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جعْلاً، فصَالَحوهم عَلى قَطِيع من الغَنَمِ، فانْطَلَقَ يَتْفُل   759 - معنى الحديث: أن جماعة من الصحابة منهم أبو سعيد رضي الله عنه مروا أثناء سفرهم على قبيلة، فسألوهم الضيافة المعتادة، فامتنعوا عن ضيافتهم لشدة بخلهم، فبينما هم في ديارهم، إذا برئيس القبيلة تلسعه عقرب فيتسمم جسمه وتشتد عليه آلامه، فيحاولون علاجه بشتى الوسائل، فيفشلون في ذلك، فيلجؤون إلى هؤلاء الجماعة من الصحابة فيسألونهم معالجة رئيسهم إن كان لديهم شيء ينفعه ويخلصه مما هو فيه، ويشفيه من آلامه الشديدة، التي تكاد تقضي عليه، فقال أحدهم: أنا أعالجه بالرقية بشرط أن تعطونا أجرة على علاجه، لأنكم بخلتم علينا بالضيافة، فاتفقوا معه على قطيع من الغنم يدفع إليهم مقابل علاجهم لمريضهم، فذهب إلى المريض، وأخذ يتفل عليه، ويرقيه بفاتحة الكتاب، أي يتفل عليه من ريقه مصحوباً بالقراءة. قال أبو سعيد: " فكأنما نشط من عقال " أي فشفي المريض في الحال، وانقطعت آلامه فوراً كأنما كان مربوطاً بحبل وأطلق منه، فأعطوهم قطيعاً من الغنم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 عَلَيْهِ وَيَقْرأ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَال، فانْطَلَقَ يَمْشِي وما بِهِ قَلَبَة، قَالَ: فَأوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الذي صَالَحُوهُم عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فقَالَ الَّذِى رَقَى: لا تَفْعَلُوا حتَّى نَأتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَنَذْكُرَ لَهُ الذي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يأمُرُنَا، فَقَدِمُوا علَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: " وَمَا يُدْرِيكَ أنَّهَا رُقِيّة؟ " ثم قَالَ: "قد أصَبْتُمْ اقسِمُوا واضْرِبُوا لي مَعَكُمْ سَهْماً، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ".   الذي تعاقدوا معهم عليه، فقال بعض الصحابة، نقسم هذا القطيع بيننا، ونأكله، فقال أبو سعيد: لا تتصرفوا فيه حتى نصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونخبره بما وقع لنا، ونسأله عن حكمه، ونفعل ما يأمرنا به. فلما قدموا إليه، أخبروه بالقصة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وما يدريك أنها رقية " أي أن الفاتحة رقية عظيمة وشفاء من الأدواء والأسقام، ولكن كيف عرفت هذا، وفي رواية الدارقطني: " وما علمك أنّها رقية " قال: " حق ألقي في روعي " أي فراسة وإلهام من الله تعالى ألقى في قلبي فأحسست به إحساساً داخلياً وعملت بمقتضاه. وهذا توفيق من الله تعالى، حيث ألقى إليه في قلبه بهذا الإلهام الرباني الصادق، فجاء موافقاً للواقع، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - له: " قد أصبتم " أي قد وفقتم فيما ألهِمْتُم به وفي علاجكم لهذا الرجل اللديغ حيث كنتم سبباً في نجاته، ثم أمرهم أن يقسموا تلك الأغنام، وشاركهم فيها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي والترمذي. والمطابقة: في إقراره - صلى الله عليه وسلم - لهم على أخذ الأجرة على الرقية فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الرقية الصحيحة، وثبوت نفعها بإذن الله تعالى، لأن أبا سعيد قال: "والله إني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 660 - " بَابُ عَسْبِ الْفَحْلِ " 760 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عَسْبِ الْفَحْلِ ".   لأرقي" ثم رقى الملدوغ، فشفي في الحال، واستجمع قواه " وانطلق يمشي، وما به قلبة " بفتح القاف واللام أي وليست به أي علة أو مرض. " قال الشوكاني ": وفي الحديث دليل على جواز الرقية بكتاب الله، ويلتحق به ما كان بالذكر والدعاء المأثور، وكذا غير المأثور مما لا يخالف المأثور. اهـ. ويدل على ذلك حديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة. ثانياًًً: جواز أخذ الأجرة على الرقية الصحيحة كما تؤخذ على سائر المنافع، وهو ما ترجم له البخاري، وهو قول جمهور أهل العلم. ثالثاً: فضل سورة الفاتحة. وكونها شفاء ودواء ورقية عظيمة، وعن أبي سعيد مرفوعاً: " إنها شفاء من كل سقم ". قال ابن بطال: وموضع الرقية منها " إياك نستعين ". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مرض الحسن أو الحسين فنزل جبريل عليه السلام، فأمره أن يقرأ الفاتحة على إناء من الماء أربعين مرة فيغسل يديه ورجليه ورأسه أخرجه أبو داود. 660 - " باب عسب الفحل " قال العيني: واختلف أهل اللغة: هل هو " الضراب " أو الكراء الذي يؤخذ عليه، أو ماء الفحل. 760 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأجرة التي تؤخذ على الفحل مقابل تلقيحة وضرابه للناقة أو البقرة أو الشاة. قال في " النهاية " لم ينه عن واحد منهما أي عن ماء الفحل، ولا عن ضراب الفحل، وإنما أراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 النهي عن الكراء الذي يؤخذ عليه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب إعارة الفحل من حمل أو ثور أو تيس لينتفع به أصحاب المواشي في ضرابها وتلقيحها دون مقابل، لأنّه لما نهى عن كرائه دل ذلك على استحباب إعارته، وقد جاء التصريح بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من حقها إطراق فحلها " أي إعارة الفحل للناس ليطرق مواشيهم. ثانياًً: النهي عن كراء الفحل وأخذ الأجرة عليه، وقد حمل النهي على التحريم، وهو قول أكثر الفقهاء، كما حكى عنهم الخطابي، قال العيني: وجزم الشافعي بتحريم البيع، لأن ماء الفحل غير متقوّم ولا معلوم. وذهب أبو هريرة إلى جواز الإِجارة عليه إذا استأجره على نزوات معلومة وعلى مدة معلومة، فإن آجره على الطرق حتى تحمل لم يصح، وهو قول مالك، وأجاز مانعو الأجرة أن يعطي صاحبه شيئاً على سبيل الهدية خلافاً لأحمد، والعلة في تحريم عسب الفحل لأنه ليس من مكارم الأخلاق، ولما فيه من جهالة وغرر، لأنه تسليم أجرة إزاء منفعة غير محققة حيث إنّه لا يعلم أتحمل أم لا؟ والعلة في إباحته عند من يجيزه قياسه على جواز أخذ الأجرة على تلقيح النخل. الحديث: أخرجه أيضاًً الأربعة. والمطابقة: في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل، وهو ما ترجم له البخاري. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 بِسْمِ اللهِ الرحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتَابُ الْحَوَالَاتِ " 661 - " بَابُ الْحَوَالَةِ وَهَلْ يَرْجِعُ في الْحَوَالَةِ " 761 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَطل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبعَ أحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ".   661 - " كتاب الحوالات " الحوالة لغة: النقل من محل إلى محل آخر، سواء كان المنقول عيناً أو شيئاً في الذمة، كنقل الدين من شخص لآخر. وشرعاً: نقل الدين من ذمة شخص إلى ذمة شخص آخر نظير دين مماثل له عليه، فتبرأ الذمة الأولى وتشغل الذمة الثانية. وأركانها أربعة: محيل، ومحال به، وهو الدين، ومحال عليه، وصيغة، في لا تنحصر في الإحالة بل تصح بكل ما يدل على نقل الدين، كقوله: " خذ حقك من فلان " فإن كان أخرس أجزأته الإِشارة. هذا وقد اتفقوا على صحة الحوالة وبراءة الذمة الأولى بها إذا كان للمحيل دين على المحال عليه. 661 - " باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة " 761 - معنى الحديث: أنه يحرم على المدين أن يتهرّب عن تسديد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 الدين الذي عليه عند حلول الأجل إذا كان قادراً على الدفع في حينه، فإذا تأخر عن التسديد مع قدرته عليه كان ظالماً للدائن، متعدياً عليه، مستحقاً للعقوبة في الدنيا بالسجن (1) ونحوه، وفي الآخرة بعقوبة الله التي تنال الظالمين من أمثاله، سواء توفر لديه المال بالفعل، أو استطاع الحصول عليه من تجارة أو صناعة أو نحوها. وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم " فإن المطل في اللغة المدافعة، والمراد به هنا: تأخير ما وجب أداؤه لغير عذر من قادر على الأداء، قال الصنعاني: والمعنى على تقدير أنه من إضافة المصدر إلى الفاعل أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه، بخلاف العاجز. اهـ. فإذا جاء الدائن لاستلام حقه فأحاله المدين على شخص غني فعليه أن يقبل هذه الإحالة لما في ذلك من مصلحة الطرفين، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا اتبع على مليء " أي إذا أحيل الدائن على شخص غني قادر على الدفع " فليتبع " أي فليقبل الحوالة لما فيه من السماحة وحسن المعاملة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يحرم تأخير تسديد الدين عند حلول أجله على من كان قادراً عليه، بأن كان المال المطلوب موجوداً لديه بالفعل، أو كان قادراً على تحصيله من جهة ما وذلك إذا طلبه الدائن بلفظ صريح أو إشارة أو تلميح أو قرينة ظاهرة، فلا يحرم التأخير إلّا بهذين الشرطين: القدرة على الدفع ومطالبة الدائن بالسداد فإذا تأخر في هذه الحالة، جاز الحجر عليه وبيع أملاكه لتسديد دينه. ثانياًًً: مشروعية الحوالة بمعناها الشرعي الصحيح، وأن على الدائن إذا أحاله المدين على شخص غني يسهل عليه أخذ حقه (2) منه أن يقبل هذه الحوالة، ولا يعارض فيها، وأنه   (1) وأجاز الجمهور الحجر عليه، وبيع الحاكم عنه ماله، وفي الحديث دليل على أنه يفسق بذلك، ولو كان الدين يسيراً، وهو مذهب المالكية والشافعية، وقال الجمهور: يفسق بمطل عشرة دراهم. اهـ. كما أفاده في " سبل السلام ". (2) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 لا ينبغي له أن يرفضها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع " أي فليقبل هذه الحوالة، هو أمر بقبول الحوالة، والأمر للوجوب عند الظاهرية، وحمله الجمهور على الندب والاستحباب، فقالوا: لا يجب على المحال قبول الحوالة، وإنما يستحب له ذلك فقط خلافاً للظاهرية، ومن ثم اختلفوا هل يعتبر في الحوالة رضا الشخص المحال أو لا يعتبر، قال في " الإِفصاح " (1) اختلفوا إذا لم يرض المحال، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يعتبر رضاه، عن أحمد روايتان، والحديث بظاهره حجة لمن يقول لا يعتبر رضاه، وهو مذهب الظاهرية وأبي ثور وابن جرير وأحمد في رواية، حيث إن الأصل في الأمر الوجوب. ثالثاً: أن المحال إذا لم يتمكن من أخذ حقه من المحال عليه لسبب ما كالفلس مثلاً، فإنه لا يرجع على المحيل، وهو مذهب أكثر أهل العلم، لأن قوله " فليتبع " معناه قبول الحوالة ندباً، أو وجوباً، والحوالة عقد لازم يجب الالتزام به مهما تغيرت الظروف والأحوال فليس من حق المحال أن يرجع على المحيل بحال من الأحوال. قال ابن رشد: فإن جمهور العلماء أنه إذا أفلس المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشيء (2). اهـ. وهو ما ترجم له البخاري بقوله: " وهل يرجع في الحوالة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها.   (1) " الإفصاح " ج 1. (2) وقال أحمد: يرجع عليه إذا لم يعلم بإفلاس المحال عليه، وقال مالك: يرجع عليه إذا علم المحيل بإفلاس المحال عليه أو لم يعلمه، كما أفاده في " فتح الباري ". وقال ابن قدامة: متى رضي بها المحال ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبداً، سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر لمطل أو مفلس، وهذا ظاهر كلام الخرقي وبه قال الليث والشافعي وأبو عبيد، وعن أحمد ما يدل على أنّه إذا كان المحال عليه مفلساً ولم يعلم المحال بذلك، فله الرجوع إلاّ أن يرضى بعد العلم. اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 662 - " بَابٌ إِذَا أحَالَ دَيْنَ الْمَيِّتِ على رَجُلٍ جَازَ " 762 - عن سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أتِىَ بِجَنَازَةٍ فقالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنُ؟ قَالُوا: لا، قَال: فَهَلْ تَرَكَ شيْئاً؟ قَالُوا: لا، فَصَلَّى عَلَيْهِ. ثُمَّ أتِي بِجَنَازَةٍ أخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قال: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟ قَالُوا: ثَلَاَثةَ دَنَانِيرَ، فَصَلَّى عَليْهَا، ثم أُتِي بالثَّالِثَةِ، فَقالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟ قَالُوا: لا، قال: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ؟ قَالَ: صَلُّوا على صَاحِبِكُمْ، قَالَ أبو قُتادة: صَلِّ عَليْهِ يا رَسُولَ اللهِ وعليَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ ".   662 - " باب إذا أحال دين الميت على رجل جاز " أي إذا أحال أحد دين الميت على رجل وقبل الحوالة جازت الحوالة. 762 - معنى الحديث: أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يروي لنا في هذا الحديث أنهم بينما كانوا جالسين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده قدمت بين يديه جنازة ليصلي عليها فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هل ترك هذا الميت مالاً " وهل عليه دين؟ فقالوا: لا، فصلى على جنازته لبراءة ذمته من حقوق الناس. ثم جيء بجنازة أخرى ليصلي عليها، فسأل: هل على هذا الميت دين؟ فقالوا: نعم عليه دين، قال: هل خلّف مالاً، قالوا ثلاثة دنانير، فصلى عليه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه ترك سداد دينه، فبرأت ذمته من حقوق الناس وتبعاتهم. ثم قدمت بين يديه جنازة ثالثة فقال: هل ترك مالاً قالوا: لا، قال: فهل عليه دين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 قالوا: عليه دين مقداره ثلاثة دنانير فتوقف عن الصلاة عليه، وأمرهم أن يصلوا عليه، " قال أبو قتادة صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه " يعني فتكفل أبو قتادة بتسديد ذلك الدين الذي عليه " فصلى عليه " النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من الدين، والتوقي منه، والإِسراع في تسديده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على من ترك ديناً لم يترك سداده، لتعلق حق الناس بذمته، قال الصنعاني: ويدل هذا الحديث على شدة أمر الدين، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الصلاة عليه لأنها شفاعة، وشفاعته مقبولة لا ترد، والدين لا يسقط إلا بالتأدية. وقال البيضاوي: لعله امتنع عن الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاءً تحذيراً عن الدين، وزجراً عن المماطلة، وكراهة أن يوقف دعاؤه عن الإِجابة بسبب ما عليه من مظلمة الخلق. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - في أوّل هجرته وقبل فتح الفتوحات لا يصلي على المدين، فلما كثرت الفتوحات، وزاد: رأس المال الإسلامي، وتضاعف الدخل العام، تحمّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديون هؤلاء، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة، " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم " فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته " أخرجه البخاري ولهذا قال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بوجوب ذلك عليه في قوله " فعليّ قضاؤه ". اهـ. كما أفاده العيني. ثانياًً: جواز الحوالة في دين الميت، وأن الوارث إذا أحال دين الميت على غني، وقبل هذه الإحالة، صحت الحوالة شرعاً، وهو ما ترجم له البخاري واستدل عليه بحديث الباب، مع أنّه في الضمان والكفالة لا في الحوالة لتقاربهما، لأنهما ينتظمان في كون كل منهما نقل ذمة إلى ذمة أخرى، وقال أبو ثور: الكفالة والحوالة سواء، وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل، وحكي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود كما أفاده ابن قدامة، ويرى الحنفية أن لا كفالة ولا حوالة عن الميت إذا لم يترك شيئاً، ونصَّ في " الهداية " على أن دين الميت لا يقبل الحوالة. ثالثاً: جواز ضمان دين (1) الميت الذي لم يترك شيئاً وكفالته، ولا رجوع للكفيل عندئذٍ في مال الميت إن ظهر للميت مال، وهو مذهب الشافعي والصاحبين محمد وأبي يوسف، وقال مالك: له أن يرجع (2) في ماله إن ظهر له مال. وقال أبو حنيفة لا يجوز إذا لم يترك الميت مالاً. والمطابقة: في: " في كفالته لدين الميت والحوالة والكفالة سواء. ...   (1) هكذا قال ابن بطال كما نقله عنه العيني ج 12 وقال ابن قدامة: صحة الضمان عن كل من وجب عليه حق: حياً كان أو ميتاً، مليئاً أو مفلساً، وهو قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء، قال: ولنا حديث أبي قتادة وعلي فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - حثهم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله: ألا قام أحدكم فضمنه. (2) يشرط أن يكون قد قال: ضمنت لأرجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتابُ الْوَكَالَةِ " 663 - " بَابُ وَكَالة الشَّرِيكِ الشَّرِيكَ في القِسْمَةِ وَغَيْرِهَا " 763 - عن عُقْبَةَ بْنِ عَامرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعْطَاهُ غَنَماً يَقْسِمُهَا على صحَابَتِهِ فَبَقِيَ عَتُودٌ فذكَرَهُ   " كتاب الوكالة " الوكالة لغة: بكسر الواو وفتحها، معناها الحفظ والكفاية والضمان، يقال: فلان وكيل فلان، بمعنى أنه حافظ لأمواله، أو نائب عنه في تدبير أعماله وكافيه فيها، قال الراغب: التوكيل أن تعتمد على غيرك، وتجعله نائباً عنك. وهو فعيل بمعنى المفعول. أما الوكالة شرعاً فهي كما يعرفها الفقهاء " استنابة شخص جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة عنه شرعاً من حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين ". وقولهم: " جائز التصرف " يخرج به كل من لا حقّ له في التصرف من صبي أو سفيه أو مجنون أو متخلف عقلياً، فإن استنابتهم لغيرهم لا تعد وكالة شرعية. أما الحقوق التي تجري فيها الوكالة فهي كثيرة، منها المعاملات كالبيع والشراء والإِجارة والمساقاة والهبة والوقف وغيرها، ومنها النكاح والطلاق والخلع والعتاق، ومنها المطالبة بالحقوق والمحاكمة فيها، ويجوز التوكيل في إقامة الحدود، وفِي العبادات المالية كالزكاة، والحج إذا آيس من الحج بنفسه، ولا يصح التوكيل في الشهادة والأيمان، ولا فِي العبادات البدنية المحضة. إلخ. 663 - " باب وكالة الشريكِ الشريكَ في القسمة وغيرها " 763 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهب مجموعة من غنم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " ضَحِّ بِهِ أنْتَ ". 664 - " بَابُ الْوَكَالَةِ في قضاءِ الدُّيُونَ " 764 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَجُلاً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ فأغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ، فَقَالَ   الضحايا لفقراء الصحابة، وأمر عقبة بن عامر رضي الله عنه أن يتولّى قسمتها عليهم، فقبل هذه الوكالة، وقسم هذه الأغنام عليهم، قال: " فبقي عتود " بفتح العين وهو الصغير من ولد المعز " فقال: ضح وبه أنت " أي فأعطاه النبي له ليضحي به. فقه الحديث: استدل به البخاري على جواز وكالة الشريك لشريكه، لأنه فهم من الحديث أن عقبة كان وكيلاً عن أولئك النفر من الصحابة الذين شاركهم في الغنم وناب عنهم في استلامها وقسمتها. أما نفس القضية فجائزة اتفاقاً، وأما الاستدلال عليها بهذا الحديث، فهي مسألة فيها نظر لجواز أن يكون عقبة وكيلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القسمة وهو الأقرب، لأنه هو الذي أمره بها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أعطاه غنماً يقسمها على صحابته " حسب مفهوم البخاري. 664 - " باب الوكالة في قضاء الديون " 764 - معنى الحديث: أن بعض الناس كان قد أسلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيراً إلى أجل معين، فلما حان الأجل حضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه تسديد الدين الذي عليه وذلك بأن يعطيه بعيراً مثل البعير الذي استدانه منه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: " فأغلظ " يعني فاشتد الرجل في طلبه، وأعنف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحبِ الْحَقِّ مقَالاً "، ثُمَّ قَالَ: " أعْطُوهُ سِنَّاً مِثْلَ سِنِّهِ، قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لا نَجِدُ إلَّا أمثَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: أعْطُوهُ، فَإِنَّ خَيْركم أحْسَنُكُمْ قَضَاءً ".   في مقاله واستعمل بعض العبارات الجافة، والكلمات القاسية، إما لكونه كان يهودياً، أو لأنه كان جافاً بطبعه دون أن يقصد الإِساءة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فهمّ به أصحابه " أي أرادوا الانتقام من هذا الرجل ولكنهم منعوا أنفسهم أدباً معه - صلى الله عليه وسلم -، " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالاً " أي اتركوه، ولا تتعرضوا له بشيء، فإن الله قد جعل لصاحب الحق -سواء كان دائناً أو مؤجراً أو أجيراً- الحق في المطالبة بحقه شريطة عدم التعدي على غيره، " ثم قال: أعطوه سناً مثل سنه " أي ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة أن يعطيه بعيراً من إبل الصدقة مساوياً لبعيره في السن " قالوا: يا رسول الله إنا لا نجد إلا أمثل من سنه " أي لم نجد إلاّ بعيراً أكبر من بعيره " قال أعطوه " أي أعطوه بعيراً أكبر من بعيره، وسددوا له الدين بأفضل منه، وأكثر قيمة، " فإن خيركم أحسنكم قضاء " أي فإن أفضلكم في معاملة الناس، وأكثركم ثواباً أحسنكم قضاءً للحقوق التي عليه ديناً أو غيره. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز التوكيل في قضاء الدين وهو ما ترجم له البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكّل بعض الصحابة وهو أبو رافع أن ينوب عنه في قضاء الدين الذي عليه، بإعطاء الدائن بعيراً أمثل من بعيره من إبل الصدقة، كما يدل عليه حديث الباب. وعن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلف من رجل بكراً " بفتح الباء وسكون الكاف " أي بعيراً صغيراً فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْرَةً قال: لا أجد إلا خيارًا رباعياً "بفتح الراء، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 البعير الذي دخل في السنة السابعة من عمره" فقال: " أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء " رواه مسلم. لهذا قال الجمهور: يجوز (1) الوكالة في قضاء الدين استدلالاً بهذه الأحاديث، ولأن الدين من الحقوق المالية التي يصبح التوكيل فيها. ثانياًً: قال العيني: فيه حجة لمن (2) قال بجواز قرض الحيوان، وهو قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي وأحمد واسحاق. وأجاز استقراض الجواري الطبري والمزني، وعن مالك إن استقرض أمة لم يطأها، وإن حملت ردها بعد الولادة وقيمة ولدها. اهـ. وقال أحمد والشافعي: لا يجوز قرض الإِماء كما أفاده ابن عبد البر وابن قدامة. ثالثاً: قال الصنعاني: في الحديث دليل (3) على أنه يستحب لمن عليه دين من قرض أو غيره أن يرد أجود من الذي عليه (4)، وأن ذلك من مكارم الأخلاق المحمودة عرفاً وشرعاً، ولا يدخل في القرض الذي يجرّ نفعاً، لأنه لم يكن مشروطاً من المقرض، وإنما ذلك تبرع من المستقرض، وظاهره العموم للزيادة عدداً أو صفة وقال مالك: الزيادة في العدد لا تحل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. ...   (1) " فتح المبدي " للشرقاوي ج 2. (2) " شرح العيني " ج 12. (3) " سبل السلام " ج 3. (4) أي أفضل من الدين الذي عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 665 - " بَاب إِذَا وَكَّلَ رجُلاً فتركَ الْوَكِيلُ شَيْئَاً فَأجَازَهُ الموَكِّلُ فهو جَائِز " 765 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَْ رضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأتَانِي آتٍ، فجَعَلَ يَحثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخَذْتُةْ، وَقُلْتُ لأرْفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ، وعَليَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَة شَدِيدَة، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فأصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يا أبَا هُرَيْرَةَ ما فَعَلَ أسِيرُكَ البَارِحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شكا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالاً فَرحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: إِمَّا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ   665 - " باب إذا رجلاً فترك شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز " (1) 765 - معنى الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل أبا هريرة على حفظ الزكاة أو الخراج فجاءه شخص مجهول " فجعل يحثو من الطعام " أي يأخذ منه ملء كفه مرة بعد أخرى، ويفرغه في وعائه، ليذهب به، فأمسك به أبو هريرة وتهدده بشكواه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل الرجل يستعطفه، ويرجوه أن يترفق به ويتركه ويعطيه من تمر هذه الزكاة وبُرِّها، لأنه بائس مسكين فقير الحال، كثير العيال، ولولا حاجته الشديدة لما مد يده إلى هذا الطعام فرثى لحاله، وأطلقه، فلما: أصبح من تلك الليلة " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما فعل أسيرك البارحة " يعني سأل، عن قصته مع ذلك الرجل الذي لقيه ليلة البارحة وأمسك به ثم أطلقه، ولم يكن أبو هريرة قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من   (1) هذا الحديث رواه البخاري معلقاً، فقال: وقال عثمان بن الهيثم، ولم يصرح فيه بالتحديث، وقد وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق إلى عثمان بن الهيثم. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ سيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأخذْتُهُ، فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتاجٌ، وعليَّ عِيَالٌ، لا أعُودُ فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فأصْبَحْتُ فقَال لِي رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وعِيَالاً فرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أمَا إِنَّهُ قد كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثالثة فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فأخذْتُهُ فَقُلْتُ: لأرْفَعَنَّكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهذَا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ، إِنَّكَ تَزْعُمُ لا تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قَال: دَعْنِي أُعْلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ينْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: ما هُوَ؟ قَال: إِذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فاقرأ آيَةَ الْكُرْسِيِّ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)   ذلك، ولكنّ الله أطلعه على ما وقع له، وأخبره به عن طريق الوحي " قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك " أي كذب عليك فيما حدثك به، وأخبرك بخلاف الواقع، ثم أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيعود إليه مرة ثانية، فعاد إليه في الليلة الثانية ووقع لهما ما وقع في الليلة الأولى، ولقي أبو هريرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عنه، وأخبره بأنه أطلقه، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد كذبك، فانتظره أبو هريرة في الليلة الثالثة وجاء وصنع ما صنعه في الليلة السابقة، فقبض عليه أبو هريرة وقال: لن تفلت منّي هذه المرة أبداً لأنّها ثالث مرة تأتيني فيها وفي كل مرة تقول: إنك لن تعود ولا توفي بوعدك، وهو معنى قول أبي هريرة " فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأدفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود ثم تعود " عند ذلك " قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ما فَعَلَ أسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمَنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لي: إِذَا أَوَيْتَ إِلى فِراشِكَ فاقْرَأْ، آية الْكُرْسِيِّ مِنْ أوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ، اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ، وَقَال لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيءٍ علَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كذوب، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثَ لَيَالٍ يا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لا، قَالَ: ذاكَ شَيْطَانٌ.   حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله " أي اتركني وأطلق سراحي، وأنا أعلمك هذه الكلمات النافعة، وهي أن تقرأ إذا ذهبت إلى فراش نومك قبل أن تنام آية الكرسي، فإنك إذا فعلت ذلك، وكّل الله بك ملكاً يحرسك من شر الجن والإِنس، والإِنسان والحيوان طول ليلك، فلما أصبح أبو هريرة أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما إنه قد صدقك وهو كذوب " أي قد صدقك فيما حدثك به عن آية الكرسي مع أنّه يغلب عليه الكذب بطبعه، لخبثه وشره، ثم قال له: " تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال: قلت: لا، قال: ذاك شيطان " أي ذاك أحد الشياطين. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الوكيل إذا تصرف في الشيء الذي وكل عليه، فمكن غيره من الأخذ منه، أو أقرض، وأسلف منه، بدون إذن موكله، فإن ذلك يجوز بموافقة موكله. وإجازته له، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 666 - " بَابُ الْوَكَالَةِ في الْحُدُود " 766 - عن عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " جِيءَ بالنُّعَيْمَانِ -أوْ ابْنِ النُّعَيْمَانِ- شَارِباً، فَأمرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَ في الْبَيْتِ أنْ يَضْرِبُوهُ، قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَكُنْتُ أنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ فَضَرَبْنَاهُ بالنِّعَالِ والْجَرِيدِ ".   لم يجزه، لا يجوز تصرفه هذا ولا يصح شرعاً، وهو ما ترجم له البخاري، أمّا دليل جوازه إذا أجازه موكله وأمضاه فهو حديث الباب، حيث إن هذا الشخص المجهول. كان يأخذ كل ليلة من طعام صدقة الفطر الذي كان أبو هريرة وكيلاً عليه، ولم ير أبو هريرة في ذلك حرجاً ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجازه وأمضاه بعد علمة به. ثانياً: فضل آية الكرسي، وأنها حصن منيع لقارئها تصونه من كل مكروه وتحفظه من جميع الآفات والمخاوف والأرواح الشريرة من الجن والشياطين طوال تلك الليلة حتى الصباح لقوله في الحديث: " فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان " فقد صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المقالة حيث قال: " أما إنه قد صدقك ". ثالثاً: أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن كلمة الحق مقبولة من قائلها سواء كان صالحاً أو فاسقاً، فإن العبرة بالقول لا بقائله، قال العيني: وفيه جواز تعلم العلم ممن لم يعمل بعلمه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 666 - " باب الوكالة في الحدود " 766 - معنى الحديث: يقول عقبة بن الحارث رضي الله عنه: جاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل شارب للخمر. شك فيه عقبة هل هو النعيمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 أو ابنه، والتحقيق أنه النعيمان نفسه، فوكل النبي الصحابة الذين كانوا في البيت على ضربه وإقامة الحد عليه نيابة عنه، قال عقبة: وكنت من بين هؤلاء فضربناه بالنعال والجريد حتى استوفى الحد الذي عليه. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على صحة الوكالة وجوازها شرعاً في إقامة الحدود الشرعية، وهو ما ترجم له البخاري، لأنّ هؤلاء الذين أقاموا الحد على نعيمان كانوا وكلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحد عليه. وقد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - أُنَيْساً بإقامة الحد على المرأة الزانية، فقال له: " اغد يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " أخرجه البخاري في نفس الباب، وقال الحافظ في " الفتح ": فإن الإمام لما لم يتول إقامة الحد بنفسه، وولاه غيره كان ذلك بمنزلة توكيله لهم في إقامته، أما الوكالة في إثبات الحدود والقصاص فإنها لا تصح عند أكثر أهل العلم، ولا بد من حضور المدعي، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف، وذهب ابن أبي ليلى وجماعة إلى جوازها والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان في البيت أن يضربوه ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم " كتابُ المُزَارَعَة " 667 - " بَابُ فضلِ الزَّرْعَ والْغرْس إِذَا أكِلَ مِنْهُ " 767 - عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مُسْلِم يَغْرِسُ غَرْساً، أو يَزْرَعُ زَرْعَاً،   " كتاب المزارعة " والمزارعة لغة مفاعلة من الزرع، ومعناها الشركة في زراعة الأرض وإنتاجها بين المالك والعامل. وشرعاً هي: دفع أرض وحب لمن يزرعها ببعض ما يخرج منها كثُلث غلتها أو نصفها، سواء كانت غلتها طعاماً كالقمح أو الشعير، أو غير طعام كالقطن والكتان، شريطة أن تكون البذور على المالك. قال في " فقه السنة ": هي إعطاء الأرض لمن يزرعها على أن يكون له نصيب مما يخرج منها كالنصف أو الثلث أو الأكثر، حسب ما يتفقان عليه. وقال في " الإِفصاح ": واختلفوا في المزارعة وهي أن يدفع أرضه البيضاء إلى آخر ليزرعها ببعض ما يخرج منها بشرط أن تكون البذور على المالك فمنعها على هذه الصفة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأجازها أحمد وحده، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد، ثم اختلفوا في الأرض فيها نخل هل تجوز المزارعة فيها، فمنعها أبو حنيفة على الإِطلاق، وقال مالك: إن كان تبعاً للأصول جاز، وأجازها الشافعي وأحمد، إلاّ أن الشافعي اشترط أن يكون البياض فيها يسيراً. اهـ. 667 - " باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه " 767 - معنى الحديث: أنه لا أحد من المسلمين يغرس أي نوع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 فَيَأكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أو إِنْسَانٌ أو بَهِيمَةٌ إلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ". 668 - " بَابُ اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِلْحَرْثِ " 768 - عن أبي هُرَيْرَةَ رضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أمسَكَ كلْبَاً فَإِنَّه يَنْقصُ كُلَّ يَوْم مِنْ   النخيل والأشجار المثمرة أو يزرع شيئاً من الحبوب الغذائية فيأكل منه أي مخلوق من الكائنات الحية، إنسان أو بهيمة أو طير إلاّ كان له أجر الصدقة وثوابها، وفي حديث جابر: " وما سرق منه فهو له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزأه أحد إلاّ كان له صدقة، أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " إلَّا كان له به صدقة ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل الزراعة والفلاحة، وما يناله المزارع عند الله من الأجر والمثوبة عن كل ما أكل من ثماره وحاصلاته الزراعية لأن الزراعة هي قوام الحياة للبشرية جمعاء. قال العيني: واستدل به بعضهم على أن الزراعة أفضل المكاسب، واختلف في أفضل المكاسب، فقال النووي: أفضلها الزراعة، وقيل أفضلها الكسب باليد وهي الصنعة، وقيل أفضلها التجارة وأكثر الأحاديث تدل على أفضلية الكسب باليد، منها حديث أبي بردة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الكسب أطيب؟ قال: " عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور " أخرجه الحاكم في " المستدرك " وصححه والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف حاجة الناس وظروفهم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 668 - " باب اقتناء الكلب للحرث " 768 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذّر من اقتناء الكلاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إلَّا كَلْبَ حَرْثٍ أو مَاشِيَةٍ". 669 - " بَابُ اسْتِعْمَالِ الْبَقَرِ لِلْحِرَاثَةِ " 769 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ راكبٌ عَلَى بَقَرَةٍ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ   تحذيراً شديداً حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا وهو الصادق المصدوق، بأن من اقتنى كلباً لأيّ غرض من الأغراض فإنه ينقص من ثواب عمله كل يوم قيراط، وفي رواية مسلم فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان، قال الشرقاوي: والحكم للزائد، لأنه حفظ ما لم يحفظه الآخر، ولم يستثن - صلى الله عليه وسلم - من ذلك سوى ثلاثة أنواع من الكلاب رخص في اقتنائها لحاجة الناس إليها ولما فيها من مصلحة معتبرة شرعاً، وهي كلب الحرث الذي يتخذ لحراسة الحقول الزراعية، وكلب الماشية، وكلب الصيد (1). والمطابقة: في قوله: " إلّا كلب صيد ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز اقتناء الكلب إلاّ لحاجة معتبرة شرعاً، لأنّ ذلك يؤدي إلى نقصان الحسنات يومياً. ثانياًً: أنه يرخّص في الكلب لمصلحة من المصالح الشرعية كحراسة الماشية أو الزرع أو الصيد، قال مالك: أما ما جعل في الدور فلا يعجبني، ولا يعجبني أن يتخذ المسافر كلباً يحرسه. الحديث: أخرجه الشيخان. 669 - " باب استعمال البقر للحراثة " 769 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق،   (1) لما جاء في رواية أخرى: " إلا كلب غنم أو حرث أو صيد ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 فَقالَت: لَمْ أخْلَقْ لِهَذَا، خلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ"، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: آمَنتُ بِهِ أنَا وأبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَأخَذَ الذِّئبُ شَاةً فَتَبِعهَا الرَّاعِي، فَقَالَ الذِّئبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُع يَوْمَ لا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: آمَنْت بِهِ أنا وَأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَ الرَّاوِي، عَنْ أبي هُرَيرَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ في الْقَوْمِ ".   يخبرنا عن حادثتين خارقتين للعادة وقعتا في الأزمان الماضية، أما الأولى: فإنه بينما كان رجل راكباً على بقرة، وإذا بالبقرة تتكلم حقيقة، وتقول بلغة الناس ولسان البشر: كيف تركبني مع أنّ الله لم يخلقني للركوب، وإنما خلقني لحرث الأرض. وأما الثانية: فقد اختطف الذئب شاة من الغنم فتبعها الراعي ليأخذها منه، فقال الذئب: إن كنت الآن قد حميت هذه الشاة مني، فسيأتي اليوم الذي لا تجد فيه الغنم راعياً يحميها من الذئاب، وذلك قرب قيام الساعة. وهو معنى قوله " فقال الذئب: من لها يوم السبع " أي من يحميها مني في ذلك اليوم الذي تخلو فيه الأرض من البشر، ولا يبقى فيها سوى السباع حيث تخرب البلاد، ويهلك العباد ويفنى البشر، فلا يبقى للغنم راع يحميها من السباع والذئاب. وهكذا نطقت البقرة وتكلم الذئب بإذن الله وقدرته، " قال - صلى الله عليه وسلم -آمنت به أنا، وأبو بكر وعمر " أي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليقاً على هاتين الحادثتين: أما أنا وأبو بكر وعمر فإنا قد صدقنا بهاتين الحادثتين وإن كانتا من الأشياء الغريبة الخارقة للعادة المخالفة للنظم الكونية، لأن الذي خلق هذه النظم قادر على خرقها (1) والقدرة الإلهية لا يستعصي عليها شيء. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.   (1) فإن لله خرق العوائد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 670 - " بَابٌ إِذَا قَالَ: اكْفِنِي مَؤُونةَ النَّخلِ أو غَيْرِهِ، وتُشْرِكُنِي في الثَّمَرِ " 770 - عنْ أَبِي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "قَالَتِ الأَنْصَارُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اقسِمْ بَيْنَنَا وبَيْنَ إخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ:   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الدواب لا تستعمل إلاّ فيما جرت العادة باستعمالها فيه -كما قال القاري- لأن الله قد هيأ هذه الكائنات وسخّرها لما خلقت له، فإذا استعملت في غير ما خلقت له، كان ذلك ظلماً لها، وقد قالت البقرة: لم أخلق لهذا -يعني الركوب-، وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فأصبح حجة لما ذكرنا. ثانياًً: أن من الإِيمان التصديق بكل ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، ولذلك آمن الصديق والفاروق بهاتين الحادثتين رغم غرابتهما لأنه أخبر عنهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق. ثالثاً: أن البقر للحرث لا للركوب. والمطابقة: في قولها: " خلقت للحراثة ". 670 - " باب إذا قال أكفني مؤونة النخل أو غيره وتشركني في الثمر " أي إذا أعطى المالك للفلاح أرضاً مغروسة بالنخل أو الشجر، وقال له: اكفني سقيها وخدمتها والإِشراف عليها، ولك جزءٌ من الثمرة، ولي الباقي، فتكون شريكاً في في ثمارها مقابل عملك فيها، فإن ذلك يجوز شرعاً وهو ما يسمى عند الفقهاء بالمساقاة. 770 - معنى الحديث: أن الأنصار كانوا يملكون البساتين التي في المدينة فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها عرضوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم النخيل التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 لا، فَقَالُوا: تُكْفُونَنَا المَؤونَةَ ونُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا".   يملكونها بينهم وبين المهاجرين. فقالوا: يا رسول الله هذه نخيلنا بين يديك، اقسمها بيننا وبين إخواننا من المهاجرين، فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك. فاقترحوا شيئاً آخر " فقالوا: تكفوننا المؤونة، ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا " أي فقالوا: ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوافق على مشاركتكم لنا في هذه النخيل، فإنا نعرض عليكم مشاركتكم لنا في ثمارها مقابل أن تكفونا مؤونتها، وتقوموا بسقيها وخدمتها، وكل ما تحتاج إليه، فتكون منا النخيل ومنكم العمل فيها، ونشترك معاً في ثمرتها، فوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقال المهاجرون: سمعنا وأطعنا. وهكذا تمت بينهم هذه المعاملة التي تعرف عند الفقهاء بالمساقاة. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية " المساقاة " لقول الأنصار: " تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمر " قال القسطلاني: أي ويكون الحصيل من الثمر بيننا وبينكم، وهو ما يعرف عند الفقهاء بالمساقاة. قال في " تيسير العلام ": وهي دفع شجر لمن يسقيه ويعمل عليه بجزء معلوم من ثمره، قال: والمساقاة والمزارعة من عقود المشاركات التي مبناها العدل بين الشريكين فإن صاحب الشجر والأرض كصاحب النقود التي يدفعها للمضارب (1) في التجارة، فالغنم بينهما، والغرم عليهما، وبهذا يعلم أنّها أبعد عن الضرر والجهالة من الإِجارة. وأقرب إلى القياس والعدل. اهـ. وقد أجازها مالك والشافعي وأحمد والظاهرية وأكثر أهل العلم. وذهب أبو حنيفة إلى أنّها لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمره لم تخلق، أو بثمرة مجهولة فهي راجعة إلى التصرف بالثمرة قبل بدو صلاحها، أو راجعة إلى جهالة العوض -أي   (1) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 المبيع وكلاهما ممنوع شرعاً. وقد اتفق الجمهور على جوازها إجمالاً لما جاء في حديث الباب من اتفاق المهاجرين والأنصار عليها. قال العيني: ثم ظاهر الحديث يقتضي عملهم على النصف مما يخرج من الثمرة. لأن الشركة إذا أبهمت ولم يكن فيها حد معلوم كانت نصفين، والحديث حجة للجمهور على جواز المساقاة شرعاً. وأما قول من قال: إنها لا تجوز لأنها إجارة بثمرة لم تخلق ولما فيها من جهالة العوض، فالجواب عنه من وجهين الأول: أنه لا اجتهاد مع النص، والنص موجود، وهو حديث الباب. الثاني: أن المساقاة ليست إجارة حتى تطبق عليها أحكامها، وإنما هي شركة مضاربة والشريكان يشتركان في الغرم والغنم معاً. واختلفوا هل تختص بالنخيل التي ورد الحديث فيها فقط، أو تقاس عليها الأشجار الأخرى، فذهب الظاهرية إلى أنها لا تجوز إلّا في النخيل خاصة وقال الشافعي: تجوز في النخل والكرم خاصة، وقال: أحمد تجوز في كل ما له ثمر مأكول (1)، بل ألحق كثير من أصحابه كل ما له ورق أو زهر ينتفع به. وقال مالك: تجوز في كل ما له أصل ثابت فهي رخصة عامة، قال مالك في " الموطأ ": السّنة في المساقاة عندنا أنها تكون في أصل كل نخل أو كرم أو زيتون أو رمان أو فرسك (بكسر الفاء) وهو الخوخ، أو الخوخ الأحمر الأجرد " أو ما أشبه ذلك من الأصول جائز لا بأس به، على أن لرب المال نصف الثمر أو ثلثه أو ربعه أو أكثر من ذلك أو أقل، وقال مالك: والمساقاة أيضاًً تجوز في الزرع إذا خرج واستقل، فعجز صاحبه عن سقيه وعمله وعلاجه. والمطابقة: في قولهم: " تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمر " وإقراره - صلى الله عليه وسلم - ذلك.   (1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بالشطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 671 - " بَابُ المزَارَعَةِ بالشَّطْرِ وَنحْوِهِ " 771 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " عَامَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - خيْبَرَ بِشَطر مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِي أزوَاجَهُ مائَةَ وَسْقٍ، ثمانونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعُشْرُونَ وسقَ شَعِيرٍ ".   671 - " باب المزارعة بالشطر ونحوه " أي هذا باب يذكر فيه، الأحاديث الدالة على مشروعية المزارعة بنصف ما يخرج من الأرض ونحوه. 771 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر أقرَّ اليهود على البقاء في البساتين والحقول الزراعية، واتفق معهم على المشاركة في إنتاجها، مقابل أن يقوموا بمؤونتها وخدمتها وسقيها، ويكون لهم نصف ما يخرج منها من الثمر وهذا هو المساقاة. ونصف ما يخرج منها من الحبوب - وهذا هو المزارعة، وفي رواية سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر قال لهم: " أقركم فيها على ما أقركم الله عز وجل، على أن الثمر بيننا وبينكم " فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه " أخرجه مالك في " الموطأ " وعن جابر رضي الله عنه قال: خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق، ولما خيرهم أخذوا الثمرة وأدّوا عشرين ألف وسق. قال ابن عمر رضي الله عنهما: " وكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسق تمراً وعشرون وسق شعير " والوسق ستون صاعاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المساقاة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل يهود خيبر بشطر ما يخرج من الثمر، وهذا هو عين المساقاة، وهو مذهب الجمهور. قال ابن قدامة: وهذا (1) -الأمر- عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم، واشتهر ذلك فلم ينكره منكر، فكان إجماعاً، وقال أبو حنيفة: لا تجوز المساقاة، لأنها إجارة بثمرة مجهولة، والحديث حجة عليه ولا اجتهاد مع النص. ثانياًً: استدل البخاري بهذا الحديث على مشروعية المزارعة مطلقاً، سواء كانت الأرض المزروعة بين النخيل والأشجار، أو كانت أرضاً بيضاء يعني: سواء كانت تبعاً للمساقاة، أو كانت وحدها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر كما في حديث الباب، وهو مذهب الإِمام أحمد وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة، قال البخاري: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهل بيت إلاّ ويزرعون على الثلث والربع، وزارع علي، وسعد، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وابن سيرين، وممن رأى ذلك سعيد بن المسيب، وطاووس، والزهري، وابن أبي ليلى. اهـ. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا تجوز المزارعة في الأرض البيضاء (2) واستدلوا بحديث ابن عمر أنه قال: " ما كنا نرى بالمزارعة بأساً حتى سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها "، وبحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من كانت له أرض فليزرعها، أو فليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمّى ". أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وأجاب القائلون بجواز المزارعة بأجوبة: منها كما قال ابن قدامة: أن أحاديث رافع مضطربة جداً، مختلفة اختلافاً كثيراً يوجب ترك العمل بها لو انفردت، فكيف تقدم على مثل حديثنا، أي على حديث الباب. قال الإِمام أحمد: حديث رافع   (1) " المغني " لابن قدامة ج 5. (2) أمّا المزارعة على ما بين النخيل والشجر تبعاً للمساقاة فقد أجازها مالك والشافعي إذا كانت أقل ومنعها أبو حنيفة مطلقاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 672 - " بَابُ مَنْ أحَيَا أرْضَاً مَوَاتاً " 772 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أَعْمَرَ أرضَاً لَيْسَتْ لأحدٍ فهُوَ أَحَقُّ ".   ألوان، وقال أيضاًً: حديث، رافع ضروب، وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك. ثالثاً: أن المساقاة والمزارعة لا تجوز إلاّ على نسبة معينة مما تنتجه الأرض من الثمر أو الزرع، لأن هذه هي صيغة المساقاة والمزارعة التي عامل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر، حيث عاملهم على النصف مما يخرج منها. وهي نفس المعاملة التي تمّت بين المهاجرين والأنصار، أما المساقاة أو المزارعة على جهة محددة من الأرض بأن يكون إنتاج هذه الجهة للمالك وإنتاج الجهة الأخرى للفلاح والعامل فهذا لا يجوز، لما فيه من مضرة للمالك وحده أو للعامل وحده إذا أصيبت إحدى الجهتين بآفة سماوية، وقد جاء النهي عن ذلك في الحديث الصريح عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: " كنا نكري الأرض بالناحية منها مسَمَّى لسيد الأرض فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض فنهينا " أخرجه الخمسة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها. 672 - " باب من أحيا أرضاً مواتاً " 772 - معنى الحديث: أن مَنْ عَمر أرضاً بيضاء أو أرضاً خالية من العمران، فأحياها بزراعتها أو بنائها، ولم يعرف لها مالك قبله، فهو أحق بملكيتها من غيره. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحقاق ملكية الأرض الموات لمن أحياها بالزراعة والعمران، وظاهر الحديث أنها تعتبر ملكه مطلقاً، سواء أذن به الإِمام أو لم يأذن، وهو مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا بد من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 673 - " بَابُ " 773 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَوْمَاً يُحَدِّث -وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أهلَ البَادِيَة- أَنَّ رَجُلاً من أَهلِ الْجَنَّةِ استَأذَنَ رَبَّهُ في الزَّرْعِ فَقَالَ لَهُ: ألسْتَ فيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلى، ولكني أُحِبُّ أَنْ أَزرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطرفُ نَبَاتُهُ واسْتِوَاؤهُ واستِحْصَادُهُ فَكَانَ أمثَالَ الْجِبَالِ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: دُونَكَ   إذنه، وقال مالك: إذا كانت مما لا يستأنس فيها الناس له تملكها ولا حاجة إلى إذن الإِمام وإلا فلا. والمطابقة: في كون الترجمة من معنى الحديث. 673 - " بابُ " هكذا بدون عنوان ولا تنوين، لأن التنوين يتبع الإِعراب، ولا إعراب إلّا في التركيب، اللهم إلاّ إذا قدرنا له مبتدأ محذوف تقديره هذا بابٌ فينون، كما أفاده العيني. 773 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوماً يحدّث أصحابه عن الدار الآخرة واستطرد إلى الجنة والنار، فذكر أن رجلاً من أهل الجنة اشتهت نفسه أن يمارس الزراعة التي كان يهواها في الدنيا، فاستأذن ربه في ذلك، فقال الله عز وجل: ألست تعيش في هذه الجنة التي تنعم فيها بكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من ثمار يانعة، وقطوف دانية، وقصور وحور، وأنهار من عسل مصفى، وأخرى من خمر لذة للشاربين، والتي تجد فيها كل ما تريده وتحبه نفسك. دون مشقة أو عناء، فما حاجتك إلى الزراعة الذي تكد فيها وتكدح " قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرف نباته، واستواؤه وحصاده " أي فأذن الله له أن يمارس هوايته في الجنة فما كاد يبذر بذره حتى نبت الزرع ونضج واستحصد في أسرع من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 يا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ، فَقَالَ الأعْرَابِيُّ: واللهِ لا تَجدُهُ إِلَّا قُرَشِيَّاً (1) أو أَنْصَارِيَّاً، فَإِنَّهُمْ أصْحَابُ زَرْعٍ وأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بأَصْحَابِ زَرْعٍ، فضحِكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -".   طرفة عين ولمحة بصر " فكان أمثال الجبال " أي فجُمع القمح الذي زرعه فصار أكواماً ضخمة كالجبال، عند ذلك قال الله تعالى له: تلك هي طبيعتك أيها الإِنسان لا يمكن أن يغنيك شيء عن هوايتك المفضلة لديك، وكان بين الحاضرين أعرابي " فقال الأعرابي والله لا تجده، إلاّ قرشياً أو أنصارياً " لأن الأنصار هم الذين يعملون في الزراعة. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن لكل إنسان هوايته المفضلة التي لا يشغله ولا يغنيه عنها شيء مهما عظم قدره حيث إن الجنة بما فيها لم تنس هذا الرجل حبه للزراعة، فسأل ربه ذلك. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب المساقاة " 674 - " بَابٌ في الشِّرْبِ وَمَنْ رَأى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَتّهَ جَائِزَةً مَقْسُومَاً أوْ غَيْر مَقْسوم " 774 - قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيكُونُ دَلْوُهُ مِنْهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ " فَاشْتَراهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.   674 - " باب في الشرب، ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، مقسوماً كان أو غير مقسوم " (1) قال القسطلاني: " الشرب النصيب والحظ من الماء " والظاهر أن المراد بهذا الباب بيان أحكام الماء من حيث الملكية وعدمها، فمنه ما يملكه صاحبه ويتصدق به ويهبه ويوصي به إن شاء، ومنه ما لا يُمْلك. قال العيني: الماء على أقسام: قسم منه لا يملك أصلاً وكل الناس فيه سواء في الشرِب وسقي الدواب، كالأنهار العظام. وقسم منه يملك وهو الماء الذي يدخل في قسمة أحد أو يكون بئراً موجوداً في أرض مملوكة له، فالناس فيه شركاء في الشرب، وسقى الدواب دون ري الأرض، وقسم منه يكون مُحْرَزاً في الأواني ونحوها، وهذا مملوك لصاحبه بالإِحراز وانقطع حق غيره منه. 774 - معنى الحديث: كما قال ابن بطال: أن بئر رومة -وهي في الشمال الغربي من المدينة- كانت ليهودي يقفل عليها، ويغيب   (1) رواه البخاري معلقاً على عثمان رضي الله عنه، وقد وصله الترمذي والنسائي وابن خزيمة. (ع). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 675 - " بَابُ مَنْ قَال: إِنَّ صَاحِبَ المَاءِ أحَقُّ حَتَّى يَرْوَى " 775 - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " لا يُمْنَعُ (1) فَضْلُ الْمَاءِ ليَمْنَعَ بِهِ الْكَلأُ ".   فيأتي المسلمون ليشربوا منها، فلا يجدونه حاضراً، فيرجعون بغير ماء فشكا المسلمون ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتريها ويمنحها المسلمين، ويكون نصيبه فيها كنصيب أحدكم فله الجنة" فاشتراها عثمان رضي الله عنه بخمسة وثلاثين ألف درهم فوقفها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الماء يملك ما لم يكن من المياه العظيمة كمياه الأنهار ونحوها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عثمان بشراء بئر رومة من اليهودي، ومنحها للمسلمين، فاشتراها عثمان رضي الله عنه، وأوقفها، ومالا يُملك، لا يشترى ولا يوقف، فدل الحديث على أنّ الماء يملك ويوهب ويتصدق به لأنّ الوقف صدقة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من يشتري بئر رومة ". 675 - " باب من قال إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى " 775 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى من كان لديه ماء من بئر أو غيره يزيد عن حاجته وحوْلَهُ عُشْبٌ ترعاه ماشية أن يمنع تلك الماشية من الشرب منه، فيضطر راعيها إلى منعها عن الأكل من ذلك الكلأ، لأنّها لو أكلت منه لظمأت ولا تجد ماءً فتهلك. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث كما قال الحافظ: على أنه يجب على صاحب   (1) " يمنع " بضم الياء وفتح النون على صيغة المجهول كما أفاده العيني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 676 - " بَابُ إِثْمِ مَنْ مَنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ مِن الْمَاءِ " 776 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ثَلَاثَة لا يَنْظُرُ اللهِ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ولا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَاب ألِيم: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءِ بِالطرَّيقِ فَمَنَعَهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُل بَايَعَ إِمَاماً لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنيا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ، وِإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُل أقامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ أعطَيْتُ بِهَا كَذَا أَو كَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُل، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةِ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) ".   البئر أن يبذل ما يفضل عن حاجته من الماء لسقي الماشية وأنه يحرم عليه منعها من الشرب كما ذهب إليه أكثر أهل العلم، وهو مذهب مالك والأوزاعي والجمهور، إلاّ أن مالكاً ألحق بالماشية الزرع خلافاً للجمهور. مطابقة الحديث للترجمة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُمنَعُ فضل الماء ليمنع به الكلأ ". 676 - " باب إثم من منع ابن السبيل الماء " 776 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " أي أنّهم محرومون يوم القيامة من رحمة الله فلا ينظر الله إليهم نظرة رضا، ولا يغفر لهم ذنوبهم، ولهم عذاب موجع شديد. " رجل له فضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل " أي رجل قاسي القلب له ماء على قارعة الطريق، زائد عن حاجته وحاجة عياله، فمنع المسافر الغريب أن يشرب منه. " ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلاّ لدنيا، فإن أعطاه منها رضي، وإن لم يعط سخط " يعني والصنف الثاني - من بايع إمامه، وعاهده على السمع والطاعة لمنفعة وغرض دنيوي، إن حقق له تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 المنفعة أحبه ورضي عنه، وإلا كرهه ونقم عليه. والصنف الثالث: " رجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل " أي رجل عرض سلعته وبضاعته للبيع بعد صلاة العصر، فأقسم بالله كذباً أنه اشتراها بسعر كذا ليروجها بأيمانه الكاذبة " ثم قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) " أي إن الذين ينقضون العهد ويحلفون الأيمان الكاذبة لكي ينالوا بذلك عوضاً يسيراً من حطام الدنيا من مال أو مركز أو جاه (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ) أي لا نصيب لهم من نعيمها (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) بما يسرهم (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) نظر رحمة (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي شديد الإِيلام والإِيجاع لهم وإنما تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية ليستدل بها، على أن الذين ينفقون سلعهم، ويروجون تجارتهم بالأيمان الكاذبة داخلون في هذا الوعيد الشديد ضمن الأصناف الثلاثة المذكورة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يحرم على صاحب الماء أن يمنع ما زاد عن حاجته عن المسافر، لأن هذا الوعيد الشديد المذكور في الحديث لا يترتب إلّا على ارتكاب محرم، وفيه حجة لمالك على أنّه لا يجوز منع فضل الماء عن كل من يحتاج إليه. سواء كان إنساناً أو ماشية أو زرعاً كما يقول: ثانياًً: وجوب السمع والطاعة لولي الأمر فيما أحبه المسلم أو كرهه من أمور الدنيا. ثالثاً: تحريم الأيمان الكاذبة والوعيد الشديد عليها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ متعددة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة حيث عدَّ - صلى الله عليه وسلم - من الأصناف الثلاثة المحرومين من رحمة الله وغفرانه رجلاً له فضل ماء بالطريق فمنعه ابن السبيل، وهذا الوعيد لا يترتب إلا على من ارتكب إثماً ومعصية، وهو ما ترجم له البخاري. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 " كتَابٌ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَأدَاءِ الدُّيُونِ والْحَجْرِ والْتَّفْلِيس " 677 - " بَابُ مَنِ اشْتَرَى بالدَّيْنِ ولَيْس، عِنْدَهُ ثَمَنُهُ " 777 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضي اللهُ عَنْهُماَ قالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ: " كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ، أتَبيعُهُ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، فَبِعْتُهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، غَدَوْتُ إِلَيْهِ بالبَعِيرِ، فَأعْطَانِي ثَمَنَهُ.   677 - " كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس " والاستقراض: طلب القرض، وهو شرعاً: دفع مال لمن ينتفع به ويَرُد بدله، وأما الحجر والتفليس فسيأتي بيانهما. " باب من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه وليس بحضرته " 777 - معنى الحديث: أن جابراً رضي الله عنه يقول: " غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي خرجت معه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح " قال: كيف ترى بعيرك "؟ أي فأبطأ به جمله، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً كيف ترى بعيرك؟ قال جابر: قلت: يا رسول الله قد أعيا، أي اشتد عليه التعب والضعف حتى عجز عن السير، قال: فنزل رسول الله يحجنه بمحجنه " أي يجره بعصى معوجة الرأس، ثم قال: اركب فركبته فلقد رأيته أكفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فرأيته يجري بسرعة شديدة وأنا أمنعه عن السرعة، لئلا يتقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم " قال: أتبيعه؟ قلت: نعم، فبعته إياه " أي فبعت له ذلك البعير ديناً " فلما قدم المدينة غدوت إليه بالبعير فأعطاني ثمنه " أي فلما وصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 إلى المدينة ذهبت إليه بالبعير صباحاً، فأعطاني ثمنه، وفي رواية: فاشتراه مني بأوقية وهي أربعون درهماً، وفي رواية أخرى: " بأربعة دنانير " وفي رواية أخرى قال: " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلي وقدمت بالغداة -أي صباحاً- فجئنا إلى المسجد، فوجدته على باب المسجد قال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فدع جملك وادخل فدخلت، وصليت، فأمر بلالاً أن يزن لي فوزن بلال فأرجح لي في الميزان، فانطلقت حتى وليت، فقال: ادعو لي جابراً، فقلت: الآن يردّ علي الجمل ولم يكن شيء أبغض إلي منه، قال: خذ جملك ولك ثمنه ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الشراء بالدين، وقد أجمعوا على جوازه لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ). ثانياًًً: مشروعية الدين عامة سواء كان في البيوع أو ديناً خالصاً - إذا كان مستوفياً لشروطه الشرعية، ولم يكن في الأشياء الربوية، كالصرف، أو بيع التمر بالشعير نسيئة، أو كان قرضاً جرَّ نفعاً، فإنه لا يجوز. ثالثاً: استدل به الإِمام أحمد على جواز بيع دابة يشترط البائع (1) ركوبها لنفسه إلى موضع معلوم، وأجازه مالك بشرط أن تكون المسافة قريبة، وقالت الشافعية والحنفية: لا يصح، سواء بعدت المسافة، أو قربت، لحديث النهي عن بيع وشرط، وأجابوا عن حديث الباب بأنه واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - اشترى بعير جابر بالدّين.   (1) واختلف العلماء: هل يجوز للبائع أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع؟ كسكنى الدار المبيعة شهراً، فذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم صحة العقد والشرط، وذهب أحمد إلى جواز شرط واحد فقط. اهـ. كما في " تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 678 - " بَابُ مَنْ أَخذَ أمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أو إِتْلَافَهَا " 778 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أدَاءَهَا أدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ ".   678 - " باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها " 778 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها " أي من أخذ شيئاً من أموال الناس ديناً أو وديعة يريد قضاء الدين وتسديده لصاحبه عند أوّل فرصة سانحة، كما يريد المحافظة على تلك الوديعة حتى يعيدها إلى صاحبها سالمة كاملة " أدّى الله عنه " أي يسّر الله له قضاء الدين في الدنيا وهيأ له من أسباب الرزق ما يقضي به ذلك الدين، وإن مات ولم يتيسّر له قضاء ذلك الدين مع حسن نية، وصدق عزيمة وشدة رغبة في قضائه ومات والدين باق عليه، فإن الله يؤدي عنه ذلك الدين في الآخرة بإرضاء غريمه عنه بما شاء أن يرضيه به، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما من مسلم يدان ديناً يعلم الله أنه يريد أداه إلاّ أداه الله عنه في الدنيا والآخرة " أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحاكم. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " أي ومن أخذ شيئاً من أموال الناس ديناً أو وديعة يريد تضييع ذلك المال على صاحبه، ولا ينوي إعادته إليه أو حفظه له، وإنما ينوي أن يضيعه على شهواته ومصالحه الشخصية، فإنّ الله سيجازيه من جنس نيته وعمله، فيصيبه بالتلف والهلاك والشقاء في نفسه وصحته وماله وولده وكل ما يحبه ويهواه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ النية الصالحة تيسر قضاء الديون، وتسهل أداءها، على عكس النية السيئة، وكذلك الحال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 679 - " بَابُ أَدَاءِ الدُّيُونَ " 779 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ كانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبَاً مَا يَسُرُّنِي أَنْ لا يَمُرَّ عَليَّ ثَلَاثٌ وعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ ".   بالنسبة إلى من كانت لديه عُهَدٌ مالية، فإنه إذا حَسُنَتْ نيته، وتعرض لظروف خارجة عن إرادته، أعانه الله تعالى، وأدّى عنه ما عليه في الدنيا والآخرة لعموم الحديث. ثانياًً: قال ابن بطال: فيه الحث على حسن التأدية عند المداينة وأن الجزاء من جنس العمل. الحديث: أخرجه أيضاًً أحمد وابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 679 - " باب أداء الديون " 779 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث " أي ما يسرني: أن يمر علي ثلاثة أيام " و (لا) زائدة كما قال بعض أهل العلم " وعندي منه شيء إلّا شيء أرصده لدين " أي لو كنت أملك من المال مقدار جبل أحد من الذهب الخالص لأنفقته كله في سبيل الله، ولم أُبْقِ منه إلاّ الشيء الذي أحتاج إليه في قضاء الحقوق، وتسديد الديون التي عليَّ، وما زاد على ذلك فإنه لا يسرني أن يمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء، والمطابقة: في قوله: " إلاّ شيءٌ أرصده لدين ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب الاهتمام بالدين، والحرص على قضائه والمسارعة إلى تسديده وتقديمه على الإِنفاق والصدقة في سبيل الله، لأن تسديد الديون أولى من الصدقة. الحديث: أخرجه الشيخان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 680 - " بَابُ حُسْنِ التَّقَاضِي " 780 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَاتَ رَجُلٌ فَقِيْلَ لَهُ، قَالَ: كُنْتُ أبَايع النَّاسَ فأتَجَوَّزُ عنِ الْمُوسِرِ، وأُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ فَغُفِرَ لَهُ ".   680 - " باب حسن التقاضي " 780 - معنى الحديث: يقول النبي: " مات رجل فقيل له " أي فسئل عما قدم في دنياه من أعمال صالحة، " قال: كنت أبايع الناس فأتجوّز عن الموسر " أي كنت تاجراً أبايع الناس بالدين فأيسّر عليهم في قضاء ديونهم، فمن كان غنياً تساهلت معه في تسديد ما عليه، ولم ألزمه بدفعه عند حلول الأجل. " وأخفف عن المعسر " أي وإن كان المدين غير قادر على الدفع خففت عنه بتأجيل الدين حتى يتيسر له أو بإعفائه من بعض الدين أو كله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فغفر له " أي فغُفِرَتْ ذنوبه مكافأة له على رحمته بالناس، ورفقه بهم، وتيسيره عليهم. وفي رواية النسائي: " إن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس " وفي رواية الحاكم أنه كان يقول لرسوله: " خذ ما تيسر، ودع ما تعسّر، وتجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، فقال الله تعالى: قد تجاوزت عنك ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فأتجوَز عن الموسر، وأخفف عن المعسر فغفر له ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب التسامح والتساهل مع الناس عند تقاضي الحقوق والديون منهم بانظار المعسر، والتجاوز عن الموسر، فإنّه سبب في مغفرة الله تعالى، والجزاء من جنس العمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 681 - " بَابُ حُسْنِ الْقَضَاءِ " 781 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتَيْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُمَ في الْمَسْجِدِ -قَالَ مِسْعَرُ: أرَاهُ قَالَ: ضُحَى- فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ " وكانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وزَادَنِي.   681 - " باب حسن القضاء " 781 - معنى الحديث: يقول جابر رضي الله عنه: " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد " أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد اشترى من جابر رضي الله عنه في غزوة الفتح بالدين، فلما قديم المدينة ذهب - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجده ليسلم عليه، فأحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقباله، وأمره بتحية المسجد، " فقال: صل ركعتين " لأن تحية المسجد مقدمة على كل عمل، " وكان لي عليه دين " وثمن البعير الذي اشتراه منه بالدين " فقضاني وزادني " أي فأعطاني الدين الذي عليه، وزادني عن حقي فأعطاني أكثر منه، وفي رواية: " زادني: قيراطاً، قال جابر: قلت هذا القيراط الذي زادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يفارقني، فجعلته في كيس، فلم يزل عندي حتى جاء أهل الشام يوم الحرة فأخذوه فيما أخذوا ". الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في حسن قضاء الدين، وأقله أن يقضي عند حلول الأجل دون تسويف أو مماطلة. ثانياًًً: أن من حسن القضاء أن يَرُدَّ الدين بأجود أو أكثر منه، فيزيد الدائن عما أخذه منه، قال الصنعاني: ولا يدخل ذلك في القرض الذي يجر نفعاً، لأنه لم يكن مشروطاً من المقرض، وإنما ذلك تبرع، وظاهره جواز الزيادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 682 - " بَابُ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ في الْبَيْعِ والْقَرْضِ والوَدِيعَةِ فَهُو أحَقُّ بِهِ " 782 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أدرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إِنْسَانٍ قَدْ أفلَسَ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ ".   عدداً وصفة وقال مالك: لا تجوز في العدد. والمطابقة: في قوله: " فقضاني وزادني ". 682 - " باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحقُّ به " 782 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس فهو أحقُّ به من غيره " أي من وجد ماله بعينه دون زيادة أو نقصان أو تغيير أو تبديل عند إنسان مفلس لا تتسع أمواله لسداد ديونه، فإنه أحق باسترداد ماله من بقية الغرماء. قال الحافظ: فإن تغيرت العين في ذاتها بالنقص مثلاً، أو في صفة من صفاتها فهو أسوة بالغرماء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من وجد ماله عند مفلس دون تغير في ذاته أو في صفة من صفاته، فإن له الحق في استرداده، سواء كان متاعاً أو سلعة تجارية، ولا يكون أسوة بالغرماء، وهو مذهب الشافعي مطلقاً حيث قال: المقرض أحق باسترداد ماله من البائع كما أفاده الصنعاني. وذهب غيره إلى أن هذا الحكم يختص بالبائع دون المقرض، للتصريح بذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من الثمن شيئاً، فوجد متاعه فهو أحق به " أخرجه أبو داود. لكن حديث الباب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 683 - " بَابُ مَنْ بَاعَ مَالَ الْمُفْلِس أو الْمُعْدِمِ فقَسَّمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَأعْطَاهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَى نفْسِهِ " 783 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أعتَقَ رَجُلٌ غُلاماً لَهُ عنْ دُبُرٍ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَشْتَرِيْهِ مِنِّي " فاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَأخذَ ثَمَنَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ.   عام في كل من له مال على آخر بقرض أو بيع إن وجد ما له بعينه فهو أحق به، ولا يلزم أن تكون أحاديث البيع مخصصة له كما أفاده الصنعاني. وذهب أبو حنيفة إلى أن من وجده ماله بعينه عند مفلس فهو أسوة بالغرماء مطلقاً. وذهب الشافعية إلى أن الميت، كالمفلس، فمن وجد ماله بعينه عند ميت فهو أحقُّ به، وفرق المالكية بين الفلس والموت، فقالوا: لا حق في حال الموت. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة متضمنة لمعنى الحديث. 683 - " باب من باع مال المفلس أو المعدم فقسمه بين الغرماء وأعطاه حتى ينفق على نفسه " أي هذا باب في بيان حكم من باع من الحكام مال المفلس ليقسم ثمنه على غرمائه بنسبة ديونهم، وأعطاه منه ما يحتاج إليه يومياً من نفقته ونفقة عياله. 783 - معنى الحديث: أن رجلاً من الأنصار أعتق عبداً له بعد وفاته، وهو معنى قوله: " عن دُبُر " ثم افتقر وأفلس، وركبته الديون، فعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - غلامه للبيع في طريق المزايدة، حتى رسى على نعيم بن عبد الله، فاشتراه بثمانمائة درهم، كما في رواية أخرى للبخاري، قال جابر: " فأخذ - صلى الله عليه وسلم - ثمنه فدفعه إليه " أي سلمه إليه ليأخذ منه قدْر نفقته، ويقضي بالباقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 دينه ويقسمه على غرمائه، فقد جاء في رواية النسائي: " أن الرجل كان مديناً، وباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الغلام الذي دبره، فدفعه إليه وقال له: اقض دينك " الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي بألفاظ مختلفة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المدين إذا أفلس فإن للحاكم الشرعي أن يبيع ماله، ويقسمه على غرمائه ويعطيه منه قدر نفقته اليومية، كما يفيد هذا الحديث برواياته المختلفة. قال الحافظ: وذهب (1) الجمهور إلى أن من ظهر فلسه فعلى الحاكم الحجر عليه في ماله حتى يبيعه عليه، ويقسمه بين غرمائه على نسبة ديونهم، وخالف الحنفية، واحتجوا بقصة جابر حيث قال في دين أبيه: فلم يعطهم الحائط، قال: ولا حجة فيه، لأنه أخّر القسمة ليحضر فتحصل البركة في الثمرة بحضوره. اهـ. " فإن قلت " ليس في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم المال بنفسه بين الغرماء، وإنما المذكور في الحديث أنّه دفع إليه ماله، فالجواب كما قال العيني: أنه لما أمره - صلى الله عليه وسلم - بقضاء دينه من ثمنه، فكأنه هو الذي تولى قسمته بين غرمائه، لأن البيع لم يكن إلّا لأجلهم (2). اهـ. ومن الأحاديث الصحيحة الصريحة في الحجر على المفلس وتقسيم ماله على غرمائه ما روي عن كعب بن مالك " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ ماله، وباعه في دين كان عليه " رواه الدارقطني (3) وصححه الحاكم وأخرجه أبو داود مرسلاً، ورجح إرساله، قال عبد الحق: المرسل أصح من المتصل، وقال ابن الصلاح: هو حديث ثابت كان ذلك سنة تسع، وجعل لغرمائه خمسة أسباع حقوقهم، فقالوا: يا رسول الله بعه لنا فقال: ليس لكم إليه سبيل. قال الصنعاني: والحديث دليل على أنه يحجر الحاكم على المدين التصرف في ماله ويبيعه عنه لقضاء غرمائه، والقول بأنه حكاية فعل   (1) " فتح الباري " ج 5. (2) " شرح العيني " ج 12. (3) " سبل السلام " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 غير صحيح. فإن هذا فعل لا يتم إلاّ بأقوالٍ تصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - يحجر بها تصرفه، وألفاظ يباع بها ماله، وألفاظ يقضى بها غرماؤه، وما كان بهذه المثابة لا يقال إنه حكاية فعل: اهـ. واختلفوا هل يختص الحجر بالمدين المفلس أم أنه يشمل كل مدين لم يقض الدين الذي عليه عند حلول الأجل ولو كان غنياً، فقال الجمهور: يدخل في ذلك الغني إذا ماطل في تسديد الدين، فيبيع الحاكم عليه ماله لينصف منه غريمه أو غرماءه، ومما يدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبتهِ " فإنْه يدل على أنه يحجر عليه، ويباع عنه ماله، لأنه داخل تحت مفهوم العقوبة. وقال بعضهم: لا يحجر على المدين إن كان غنياً وإنما يجب حبسه حتى يقضي دينه قالوا: وليس في حجره - صلى الله عليه وسلم - على معاذاً أي دليل على أنه يحجر - على الغني إذا لم يقض الدين الذي عليه، لأن معاذاً كان في الحقيقة مفلساً لما في رواية أبي داود عن عبد الرحمن بن كعب ابن مالك مرسلاً قال: " وكان معاذ بن جبل رجلاً سخياً، وكان لا يمسك شيئاً، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه ليكلم غرماءه، فباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ماله حتى قام معاذ بغير شيء (1) " وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - " ليُّ الواجد بحل عرضه وعقوبته " فمعناه أن الغني إذا ماطل في قضاء الدين حلت عقوبته بسجنه لا بالحجر عليه. أما كيف يقسم مال المفلس على الغرماء؟ فقد اتفق أهل العلم على أن المفلس الذي له مال لا يفي بديونه يَحْجُرُ الحاكم عليه إذا طلب غرماؤه أو بعضهم ذلك، ويكف يده عن التصرف فيه ويبيع عليه ماله " عند الجمهور " (2) ويقسمه بالحصص على غرمائه الحاضرين المطالبين بحقوقهم الذين حلّت آجالهم فقط، دون الحاضرين الذين لم يطالبوا بحقوقهم، أو الغائبين الذين لم يوكّلوا أحداً عنهم، أو الدائنين   (1) " فقه السنة " ج 2. (2) إذا منع عن بيعه بنفسه كما في " فقه السنة " ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 الذين لم تحل آجالهم، كما ذهب إليه أحمد والشافعي، خلافاً لمالك حيث قال: يحل الدين بالحجر وإن لم يحضر أجله. أما الميت المفلس: فإنه يقضي من الموجود من ماله لكل حاضر أو غائب طلب أو لم يطلب، حل أجله أو لم يحل، بعد قضاء حق الله تعالى من زكاة أو كفارة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " فإن دين الله أحقُّ أن يقضى " ولا بد أن يترك الحاكم للمفلس ما يقوم بمعيشته من مسكن يؤويه، ومال يتجر فيه، وآلة حرث، وأجرة خادم، وذهب مالك والشافعي إلى أنه تباع داره في هذه الحالة. وأما البالغ السفيه الذي يسيء التصرف في ماله، ويصرفه فيما لا مصلحة فيه، فقد قال ابن المنذر: أكثر العلماء على أن من بلغ عاقلاً لا يحجر عليه إلا أن يكون مفسداً لماله، فإذا كان كذلك حجر عليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم المال إليه بكل (1) حال، واستدل الجمهور على أنه يحجر على السفيه بما في الحديث الصحيح من النهي عن إضاعة المال (2) والسفيه يضيعه بسوء تصرفه، أما الصغير فإنه يحجر عليه حتى يبلغ الحلم ويؤنس منه الرشد. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم -: دفع إليه ثمن العبد ليقسمه بين غرمائه. ...   (1) أيضاً " فقه السنة " ج 2. (2) " سبل السلام " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " "كتابُ الخُصُومَاتِ " 684 - " بَابُ ما يُذْكَرُ فِي الأشْخاص والخُصُومَةِ " 784 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً يَقْرَأُ آيَةً سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ (1) خِلافَهَا فأخذْتُ بِيَدِهِ فأتيْتُ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فلا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا ".   " كتاب الخصومات " الخصومات: جمع خصومة، وهي المنازعة بين شخصين أو أكثر يدّعى أحدهما أو أحدهم ما ينكره الطرف الآخر، فيتشاجران، ولا يلزم أن تكون على حق مالي يدعيه أحد الطرفين على الآخر، بل قد تنشأ عن اختلاف في قضية علمية، فإنها كما تكون في حق شخصيٍّ أو تعد جنائي، فإنها تكون كذلك في مسائل علمية أو دينية أو أمور أخرى. 684 - " باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة " 784 - معنى الحديث: أن ابن مسعود سمع رجلاً يقرأ آية من القرآن قراءة تختلف عما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان هذا الرجل هو عمر رضي الله عنه، قال ابن مسعود: " فأخذت بيده فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فأمسكت بيده وذهبت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أشكوه إليه، "فقال: كلاكما   (1) هكذا لفظ الحديث كما في " مختصر الزبيدي " وفي نسخة العيني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافها، والمعنى واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 محسن" أي فسمع - صلى الله عليه وسلم - قراءة كل منهما فقال: " كلاكما محسن " أي مصيب في قراءته " لا تختلفوا " أي لا تتنازعوا وتتخاصموا في مثل هذه الأمور التي لها أصل شرعي، لأنها جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوجه مختلفة كلها صحيحة كالأحرف السبعة فإنها ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا "، يعني فإن بني اسرائيل لما اختلفوا كان اختلافهم سبب هلاكهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير عن الخصومة في الأمور التي لها أصل شرعي من الكتاب والسنة كالأحرف السبعة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الاختلافات الفقهية، فإن المسلمين قد اختلفوا في الأحكام التشريعية منذ عهد الصحابة والتابعين، وتغايرت فتاوى الصحابة فيها، ولا ينبغي النزاع والخصومة فيها، فإن هؤلاء المجتهدين جميعاً على هدى من الله، ويؤجرون على كل حال، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد. ثانياًً: أن اختلاف أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، وكذلك اختلاف فقهاء الإِسلام، والأئمة الأعلام في المسائل الفقهية والأحكام الشرعية لا يدخل ضمن الاختلاف المذموم شرعاً (1) فقد قال الإِمام ابن قدامة في أول كتابه " المغني " وهو يتحدث عن أئمة المذاهب الإِسلامية: إن الله مَهَّد بهم قواعد الإِسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجةٌ قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم، ثم اختصّ منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم، فعلى أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يعتني فقهاء الإِسلام. اهـ. وقال في " شرح الطحاوية " فإذا وُجِدَ لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له في تركه من عذر، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف. أحدها: عدم اعتقاده أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله:   (1) وإنما هو اختلاف محمود يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: كلاكما محسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 685 - " بَابُ كَلَامِ الخصُومِ بَعضِهِمْ في بَعْضٍ " 785 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَاَلَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهوَ فِيهَا فَاجِر، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ "، قَالَ: فَقَالَ   الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة. الثالث: اعتقاده أن ذلك منسوخ. ثم قال: " فلهم الفضل علينا، والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا. اهـ. فهذا الاختلاف الفقهي لا حرج فيه، وإنما الاختلاف المذموم المنهي عنه شرعاً هو اختلاف التضاد وهو كما قال في " شرح الطحاوية " الذي تُحمدُ فيه إحدى الطائفتين وتذم الأخرى كما في قوله تعالى: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ). اهـ. ويدخل في ذلك الاختلاف العقائدي كاختلاف أهل البدع والأهواء الذي يؤدّي إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء بين المسلمين، كما وقع من الخوارج الذين حاربوا أهل السنة، وكما وقع من المعتزلة الذين عذبوا أئمة الهدى ونكلوا بهم. الحديث: أخرجه أيضاًً النسائي في الكبرى. والمطابقة: في قوله: " فلا تختلفوا " إلخ. 685 - " باب كلام الخصوم بعضهم في بعض " 785 - معنى الحديث: قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يوماً وهو يتحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حلف على يمين وهو فيها فاجر " أي من أقسم بالله تعالى على شيء وهو كاذب في يمينه، متعمد الكذب، عالم بأنه غير محق في قوله ودعواه " ليقتطع بها مال امرىء مسلم " أي ليأخذ حقاً لغيره، أو يسقط عن نفسه حقاً لغيره، مسلماً كان أو ذمياً، قال القسطلاني: والتقييد بالمسلم جرى على الغالب، فلا فرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 الأشْعَثُ: فيَّ وَاللهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْني وَبَيْنَ رَجُل مِنَ الْيَهُودِ أرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ألكَ بَيَنة؟ " قُلْتُ: لا، قَالَ: فَقَالَ لِليَهُودِيِّ: " احْلِفْ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَنْ يَحْلِفُ وَيَذْهَبُ بِمَالِي! فَأنزَلَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إِلى آخِرِ الآيَة.   بين المسلم والذمي والمعاهد وغيرهم. اهـ. وذلك لأن الناس بالنسبة إلى الحقوق الإِنسانية سواء لا فرق بين مسلم وكافر، فكما تحرم هذه تحرم هذه، فمن حلف يميناً كاذبة ليأخذ بها حق إنسان مهما كان دينه أو ملته " لقي الله وهو عليه غضبان " قال الصنعاني: وإذا كان الله. . . . . . جنته، وأوجب عليه عذابه، " فقال الأشعث: فيَّ والله كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض "، أي فلما سمع الأشعث هذا الحديث من ابن مسعود رضي الله عنه قال: إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث بسببي، وذلك لأنه كان بيني وبين يهودي خصومة على أرض فجحدني، أي فأنكر حقي فيها " فقدمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي شكوته إليه، " فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألك بينة "، أي شهود، " قلت: لا فقال لليهودي: احلف قال: قلت يا رسول الله إذن يحلف ويذهب بمالي "، أي إذن يحلف كذباً، ويأكل مالي بالباطل، " فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) " وقد تقدمت هذه الآية مع شرحها في باب " إثم من منع ابن السبيل ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز كلام الخصوم بعضهم في بعض، لأن الأشعث طعن في اليهودي، ووصفه بالكذب واليمين الغموس. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إذن يحلف ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتابُ اللُّقَطَةِ " 686 - " بَابٌ إِذَا لَمْ يُوجَد صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا " 786 - عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فسَألهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: " اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفها سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وِإلَّا فَشَأنَكَ بِهَا "،   " كتاب اللقطة " بفتح القاف على المشهور، وقال الخليل: بسكون القاف وهو القياس إلّا أنه غير مستعمل، وهي لغة: المال الملتقط، وشرعاً: ما وجد من مال ضائع غير ممتنع بقوته. 686 - " باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها " 786 - معنى الحديث: أن رجلاً وهو عقبة بن سويد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم اللقطة " أي المال الضائع " إذا وجده المسلم ماذا يصنع به؟ " فقال: اعرف عفاصها (1) ووكاءها "، أي تعرّف على جميع مميزاتها وعلاماتها من شكل الوعاء والحبل ولونهما، " ثم عرفها سنة "، أي أعلن للناس عن وجود متاع ضائع عندك لمدة سنة كاملة، ويكون ذلك في أوّل الأمر مرتين يومياً أول (2) النهار وآخره، ثم مرة واحدة في اليوم، ثم مرة في   (1) العقاص الوعاء، والوكاء الحبل. (2) " شرح القسطلاني على البخاري ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 قَالَ فَضَالَةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: " هِيَ لَكَ أو لأخيكَ، أو للذِّئْبِ " قَالَ فَضَالَةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: " مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤهَا وحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ، وتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا ".   الأسبوع، وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - بتعريفها لمحاولة إيصالها إلى صاحبها " فإن وجد صاحبها وإلا فشأنك بها " أي فإن حضر صاحبها خلال السنة فسلمها له، " وإلا فشأنك بها " (1) أي وإن لم يحضر صاحبها بعد سنة فتصرف فيها، وفي رواية أخرى: ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه يعني فإن جاء ربها بعد السنة، وذكر علاماتها المميزة لها من شكل ولون ووعاء ونحوه، وكانت موجودة لديك بعينها فسلمها له، وادفعها إليه، وإن تصرفت فيها فعليك ضمانها، فادفع إليه قيمتها وثمنها " قال: فضالة الغنم " أي فما حكم الشاة الضائعة هل ألتقطها أيضاًً؟ " قال: لك، أو لأخيك، أو للذئب " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - ضمناً بأخذها لأنه إن لم يأخذها هو أخذها غيره من الناس، فإن لم يأخذها هو ولا غيره كانت طعاماً للذئاب والسباع. " قال: فضالة الإِبل؟ " أي فسأله عن الجمل الضائع أو الناقة الضائعة " قال: ما لك ولها؟ " وهذا استفهام إنكاري، أي لِمَ تأخذها وهي لا حاجة لها بك " معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر " أي لا داعي لأخذها أبداً، لأنها توفرت لها كل أسباب المعيشة من حذاء قوي صلب تسير عليه، وهو خفها، وسقاء ضخم تحفظ به الماء وهو بطنها ثم هذا هو العشب بين يديها، والماء موجود ترده ولو بعد أيام فتختزنه في بطنها فيرويها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التقاط اللقطة واستحبابه حفظاً لمال المسلم، وصيانة له عن الضياع، وهو مذهب   (1) بالنصب أي إلزم شأنك بها، والشأن الحال، أي تصرف فيها كما أفاده القسطلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 أبي حنيفة والشافعي وقال مالك وأحمد: ترك التقاطها أفضل لحديث: " ضالة المسلم حرق النار " ولما يخشي، من الضمان والدين، وذهب قوم إلى أن الالتقاط واجب، وتأوّلوا حديث الوعيد بمن أخذها للانتفاع بها من أول الأمر، وهو رواية عن الشافعي، واستدل على وجوبه بقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وولاية المؤمن للمؤمن تقتضي التقاط ماله، واختار أبو الخطاب الحنبلي أنه إذا وجدها بمضيعة وأمن نفسه عليها، فالأفضل أخذها. ثانياًً: أنه ينبغي التعرف على جميع مميزات اللقطة من شكل الوعاء والحبل ولونهما، وأن يقوم بتعريفها، والإِعلان عنها لمدة سنة وجوباً، لحديث الباب، حيث إن إمساكها دون تعريف لها وأكلها والتصرف فيها دون ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، ومعنى التعريف لها الإِعلان عنها أولاً في مكان التقاطها ثم في المجتمعات القريبة منه، ثم في المجتمعات العامة كالمساجد (1) والأسواق ونحوها، أو بتبليغ الجهات المسؤولة عنها. ثالثاً: أنه إذا حضر صاحبها قبل انقضاء السنة، وذكر العلامات المميزة لها سلّمها إليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اعرف عفاصها ووكاءها " فإنه لم يأمر الملتقط بمعرفة الوعاء والحبل ونحوه إلاّ ليسأل من يزعم أنّه صاحبها عن هذا العلامات التي تميزها. رابعاً: أنه إذا لم يحضر صاحبها بعد سنة، فله أن ينتفع بها، ويتصرف فيها شريطة ضمانها لصاحبها عند حضوره، فيدفع إليه ثمنها. قال ابن قدامة (2): وترد اللقطة بمجيء صاحبها، ويضمن له بدلها إن تعذر ردها، وهو مذهب أكثر أهل العلم، وقال الشوكاني: " ذهب الجمهور (3) إلى وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت " وأجاز أبو حنيفة تملكها لمن كان فقيراً. خامساً: أنه ينبغي أخذ ضالة الغنم لضعفها وعدم تمكنها من المعيشة   (1) " تيسير العلام " ج 2. (2) " المغني " لابن قدامة. (3) نيل الأوطار للشوكاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 687 - " بَابٌ إِذَا وجَدَ تمْرَةً في الطَّرِيقِ " 787 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنِّي لأنْقَلِبُ إِلى أهْلِي فأجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً على فِرَاشِيِ فَأرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أخشَى أنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلقِيهَا ".   دون صاحبها، فإن أكلها هل يضمنها؟ قال مالك: يأكلها ولا يضمنها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لك أو لأخيك أو للذئب "، قال الجمهور: يضمنها. سادساً: أن ضالة الإبل لا تؤخذ لاستغنائها بنفسها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " فإن وجد صاحبها وإلّا فشأنك بها ". 687 - " باب إذا وجد تمرة في الطريق " 787 - معنى الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: والله إني لأجد التمرة على فراشي بعد رجوعي إلى بيتي. فتميل نفسي إليها، فأرفعها إلى فمي لآكلها، فأخشى أن تكون من تمر الزكاة فأتركها وأردها إلى مكانها. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الأشياء التافهة إذا التقطها المسلم يملكها بمجرد التقاطه لها، ولا يحتاج ولا يجب عليه تعريفها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجد التمرة على فراشه رفعها ليأكلها دون تعريف لها، فدل ذلك على أنّ اللقطة إذا كانت من الأشياء التي يعلم بداهة أن صاحبها لا يطلبها فإنها لا يجب تعريفها، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه مر على أعرابي يعرف تمراً - أي تمراً يسيراً فخفقه بالدرّة وقال: كل يا بارد الزهد. ثانياًً: أنه يستحب من باب الورع التوقف عن تناول الأشياء التافهة حرصاً على سلامة الدين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها " فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع عن أكلها تورعاً واحتياطاً، مخافة أن تكون من تمر الصدقة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتابُ الْمَظَالِمِ " 688 - " بَابُ قِصَاصِ الْمَظَالِمِ " 788 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا خَلُصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بقَنْطرةٍ بَيْنَ الْجَنةِ والنَّار، فيتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كانَتْ بَيْنَهُمْ في الدُّنيا، حَتَّى   688 - " كتاب المظالم باب قصاص المظالم " المظالم لغة جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها، حكاه الجوهري وغيره، والكسر أكثر، حتى أن صاحب " القاموس " اقتصر عليه حيث قال: المظلمة بكسر اللام ما يظلمه الرجل لغيره، فلم يذكر غير الكسر، وهي مشتقة من الظلم. والظلم كما قال الراغب: " وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وقته ومكانه " ومنه أخذت المظلمة، وهي في اللغة كما قال الحافظ: " اسم لما أخذ بغير حق ". أمّا المظلمة شرعاً فإنها التعدي على حقوق الآخرين، سواء كان ذلك بأخذ أموالهم بالباطل، أو بانتهاك أعراضهم، ويدخل في المظالم كل الاعتداءات المالية والجسمية والأخلاقية وغيرها، وكل الجنايات وجميع المخالفات الشرعية والذنوب، وإن لم تتعد إلى الغير، لأن فاعلها يظلم نفسه، ويتعدى عليها بتعريضها للعقوبة الإلهية. 788 - معنى الحديث: أن المؤمنين يوم القيامة إذا تجاوزوا الصراط المنصوب على متن جهنم أوقفتهم الملائكة عند جسر آخر، ليقتص المظلوم من ظالمه حقه الذي اعتدى عليه فيأخذه من حسناته، أي فيأخذ من حسناته بقدر تلك المظلمة وهو معنى قوله: " فيتقاصون مظالم كانت بينهم " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 إِذَا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ في الْجَنَّةِ أدلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ في الدُّنيا".   (بالصاد) أي فيقتص المظلوم من حسنات الظالم بقدر المظلمة التي أصابته منه، وفي رواية " فيتقاضون " (بالضاد) أي فيتحاكمون في هذه المظالم إلى رب العزة والجلال " حتى إذا نقوا وهذبوا أُذن لهم بدخول الجنة " أي فإذا طُهّروا وتخلصوا من حقوق الناس أدخلوا الجنة " فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا " أي أن أهل الجنة أعرف بمنازلهم فيها من أهل الدنيا بمنازلهم. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من ارتكاب المظالم والتعدي على حقوق الآخرين سواء كانت بدنية أو مالية أو أخلاقية أو غيرها، لأن المظلوم يوم القيامة يأخذ من حسنات ظالمه، حتى يستوفي حقّه منه، وإذا كان هذا الحديث قد دل على أن القصاص في الحقوق والمقاضاة فيها تكون بعد المرور على الصراط فقد أكد المحققون على أن هذا القصاص الذي بعد الصراط إنما هو في المظالم الخفيفة، فذكر ابن بطال بأنه يختصُّ بالذين لا تستغرق مظالمهم حسناتهم، لأنهم لو استغرقت مظالمهم حسناتهم لما جاز أن يقال فيهم خلصوا من النار. إذن فهؤلاء الذين يحاكمون في حقوق العباد بعد الصراط هم الذين عليهم تبعات يسيرة، ولكل واحد منهم على أخيه مظلمة، وله مظلمة، ولم يكن في شيء منه ما يستحق النار. فالجميع يدخلون الجنة إلاّ أنهم يتفاوتون في المنازل. ثانياًًً: أن أهل الجنة يعرفون منازلهم أكثر من معرفة أهل الدنيا بمنازلهم. والمطابقة: في قوله " فيتقاصون مظالم ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 689 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى ألا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمينَ " 789 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَليْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفْ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفْ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حَتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، وَرَأى في نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنا أغفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فيُعْطى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وأَمَّا الكَافِرُ والْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الأشْهَادُ: هَؤُلاءِ الَّذِيْنَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، ألا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ".   689 - " باب قول الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين " 789 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه سمعه بنفسه يقول: " إن الله يدني المؤمن " أي يقربه إليه يوم القيامة ليكلمه ويعرض عليه ذنوبه فيما بينه وبينه، " فيضع عليه كنفه (1) ويستره " أي فيشمله بعنايته ورعايته ولطفه ورحمته، ويستر عليه ذنوبه، ويكلمه فيها سراً، " فيقول له " فيما بينه وبينه دون أن يطلع على ذلك أحد ويعرض عليه ذنوبه سرَّاً قائلاً له في لطف " أتعرف ذنب كذا " هكذا يذكره بما فعله في الدنيا في لطف وخفاء " حتى إذا قرره بذلك " واعترف بذنوبه " ورأى في نفسه أنه هلك " أي وتيقن أنه دخل النار إِلا محالة إلاّ أن يتداركه عفو الله، " قال: سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " أي أغفرها لك في هذا اليوم كما سترتها عليك في الدنيا " أما الكافر أو المنافق " في عقيدته   (1) قال القسطلاني: أي حفظه وستره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 690 - " بَاب الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " 795 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".   " فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم " أي فيقول الحاضرون من الملائكة والنبيين والجن والإِنس: هؤلاء الذين كفروا ونسبوا إلى الله ما لا يليق به من الشريك والولد والزوجة " ألا لعنة الله على الظالمين " أي ألا إن هؤلاء الكفار هم الذين اختصهم الله باللعنة والطرد من رحمته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الظالمين المستحقين للعنة هم الكفار والمنافقون لقوله في الحديث: " وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " أما المؤمنون فلا يلعنون ولو كانوا عصاة، لأن مصيرهم إلى الجنة، ولأن رحمة الله لا بد أن تنالهم، فلا يلعن العاصي بعينه، أما اللعن بدون تعيين فلا مانع منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ". ثانياًً: سعة رحمة الله وعفوه على عباده، وأنه لا يأس مع الإيمان. والمطابقة: في قوله " وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين ". 690 - " باب الظلم ظلمات يوم القيامة " 790 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الظلم ظلمات " قال القاضي عياض: هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه فلا يهتدي يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا، فربما وقعت قدمه في ظلمة ظلمه فهوت في حفرة من حفر النار، كما أفاده القسطلاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 691 - " بَابُ مَنْ كَانتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ لَهُ مَظْلَمَتَهُ " 791 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أو شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أن لَا يَكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ، إِنْ كَان لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ من سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على التحذير من عواقب الظلم الوخيمة لأنه يتحول يوم القيامة إلى ظلمات تغشى بصر فاعله، وتحجب عليه طريقه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة هي لفظ الحديث. 691 - " باب من كانت له مظلمة عند رجل فحللها له هل ييين له مظلمته " 791 - معنى الحديث: أن من أخذ من أخيه شيئاً بالباطل، أو تعدى على حق من حقوقه المالية أو البدنية أو غيرها " فيتحلله منه اليوم " أي فليبادر إلى استرضائه والاستسماح منه (1) في الدنيا وليُعِدْ إليه حقه من ماله، " قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهم "، أي قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي لا يملك فيه نقوداً يستطيع بها أن يرد للمظلوم حقه المالي الذي ظلمه فيه فيحاكمه إلى ربه عز وجل، فإن كان له عمل صالح فإنه يؤخذ من حسناته   (1) ويكفيه ذلك إذا كان التعدي بدنياً. أو أخلاقياً مثلاً، فإن كان مالياً فلا بد من إعادة حقه إليه أو سؤاله التنازل عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 692 - " بَابُ إِثْمِ من خاصَمَ في بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ " 792 - عن أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ خُصَومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَج إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "إِنَّمَا أنا بَشَرٌ وِإنَّه يَأتِيني الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أن يَكُونَ أبلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأحسِبُ   وأعماله الصالحة بقدر تلك المظلمة، ويضاف إلى حسنات خصمه، فيزيد المظلوم في حسناته، ويخسر الظالم من حسناته، وإن لم يكن للظالم حسنات، فإنه يؤخذ من سيئات المظلوم، وتضاف إلى الظالم، وربما تضاعفت سيئاته وتراكمت وألقي به في النار، فيهلك الظالم، ويربح المظلوم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الظالم إذا أراد أن يتوب إلى الله توبة صادقة وكانت عليه حقوق مالية للمظلومين أن يتحلل منهم قبل كل شيء، ويبرىء ذمته من حقوقهم بإعادة حقوقهم إليهم، أو استسماحهم بعد أن يبين لهم الشيء الذي ظلمهم فيه حتى يكونوا على معرفة تامة به، ولتبرأ ذمته من تلك المظلمة المعينة، لأن صحة البراءة والتحلل يتوقفان على إعادة الحق إليهم أو مسامحتهم في الشيء المعين الذي ظلموا فيه وذلك أمر قام الإِجماع عليه، كما أفاده الحافظ. أما البراءة والتحلل من المجهول فهو محل خلاف بين أهل العلم. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في قوله: "فليتحلله منه". 692 - " باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه " 792 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع مشاجرة بين اثنين، من الصحابة رضوان الله عليهم فخرج من بيته إليهم ليتعرف على الخصومة التي بينهما، ويقضي فيها، فقال لهم قبل أن يقضي بينهما محذراً لكل واحد منهما من المخاصمة في الباطل " إنما أنا بشر مثلكم " قال العيني: أي لا أعلم الغيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 أنَّهُ صَدَقَ، فَأقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فإِنَّما هِيَ قِطْعَة مِنَ النَّارِ، فَلْيَأخُذْهَا أوْ لِيَتْرُكْهَا".   وبواطن الأمور كما هو مقتضى الحالة البشرية، وإنما أحكم بالظاهر " من البينة أو اليمين " والله يتولى السرائر " وإنه يأتيني الخصم " أي يأتيني الخصمان المدعي والمدعى عليه " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض " يعني فقد يكون أحد الخصمين أقدر على إثبات دعواه بالحجة والبينة من الآخر " فأحسب أنه قد صدق " أي فيغلب على ظني أنّه صادق محقٌّ " فأقضي له بذلك " أي فأحكم له بالقضية لما معه من الحجة والبينة " فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " أي فمن حكمت له بحق أخيه المسلم وسلمته له فلا يستحله فإنه إذا أخذ ذلك الحق وهو يعلم أنه باطل وظُلْمٌ لغيره فإنه يأخذ مالاً حراماً يؤدي به إلى النار. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد عن الدعوى الباطلة التي يراد منها أكل أموال الناس بالباطل، لما تؤدي إليه من النار وبئس القرار، وأن المخاصمة في الباطل إثم ومعصية، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحكم بين الناس بالحجة الظاهرة من بينة أو يمين تشريعاً للقضاة والحكام في كل العصور والأزمان، فإن أساس القضاء في الإِسلام يعتمد على أصول ثلاث: البينة، اليمين، الإِقرار، أي إقرار الشخص على نفسه بالحق الذي عليه، وهو سيّد الأدلة، ولا يجوز الحكم بغيرها حتى قال بعض أهل العلم: إن القاضي لا يحكم بعلمه، فلو علم حقيقة الأمر في القضية المعروضة عليه في مجلس القضاء لا يحكم بعلمه، وإنما يحيل القضية إلى قاض آخر، ويأتي شاهداً فيها. والدليل على أن القاضي يحكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 693 - " بَابٌ لا يَمْنَعُ جَار جَارَهُ أنْ يَغرِزَ خشبَةً في جِدَارِهِ " 793 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في   بما يظهر له. قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له "، وإنما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليكون الحكم بالظاهر قاعدة من قواعد القضاء الشرعي في الإِسلام، لأن الحكم باليقين ليس في مقدور البشر، وحقيقة الأمر في صدق أحد الخصمين وكذب الآخر غيب لا يعلمه إلاّ الله، فلا يصلح أن يكون أساساً للقضاء. ثالثاً: أن حكم الحاكم لا يحل حراماً ولا يبيح مظلمة، فمن حكم له بشيء من حق غيره فإنه يحرم عليه أخذه ما دام يعلم أنّه حق غيره، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار " وبهذا أخذ الجمهور فقالوا: إن حكم الحاكم لا يحلل الحرام للمحكوم له، سواء كان ذلك في الأموال أو الأعراض، وذهب أبو يوسف ومن وافقه من أهل العلم إلى أن كل ما يقضي به الحاكم من تمليك مال، أو إزالة ملك، أو إثبات نكاح أو طلاق أو ما أشبه ذلك، فهو على ما حكم (1)، وإن كان في الباطن على خلاف ما شهد به الشاهدان، كما أفاده العيني، ولكن حديث الباب حجة عليه. والمطابقة: في قوله " فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار". 693 - " باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " 793 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " يجوز فيه الرفع على أن لا نافية، والجزم على أنها ناهية. ومعنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا ينبغي للمسلم إذا كان له   (1) " شرح العيني " ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 جِدَارِهِ"، ثُمَّ قَالَ أبو هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: ما لي أراكُمْ عنهَا مُعْرِضينَ، واللهِ لأرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أكتَافِكُمْ.   بناء أن يمنع جاره الملاصق لداره من أن يغرز خشبة في جداره وعلى أن " لا " جازمة، يكون معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ينهى كل مسلم له بناء أن يمنع جاره من غرز خشبة في جداره، هكذا روى أبو هريرة هذا الحديث. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا استأذن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه، قال: فلما حدث أبو هريرة طأطأوا رؤوسهم " أي نكسوا رؤوسهم " فقال: ما في أراكم عنها معرضين، والله لأرمينّ بها بين أكتافكم، أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب " ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما لي أراكم عنها معرضين " أي ما لي أراكم منصرفين عن سماع مقالتي هذه، أو معرضين عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما وجّه إليهم هذه الملامة حين طأطأوا رؤوسهم ثم اشتد عليهم بكلامه فقال: " والله لأرمين بها بين أكتافكم "، أي لأشيعن (1) هذه المقالة فيكم ولأقرّعنكم بها كما يُضْرَب الإِنسانُ بالشيء بين كتفيه ليستيقظ من غفلته. وقال الخطابي: معناه إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة على رقابكم كارهين. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من حق الجار أن يمد خشبة في الجدار، ولهذا قال أحمد والشافعي وإسحاق: يجب عليه أن يمكنه من ذلك عند احتياجه، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد يستحب له ذلك. الحديث: أخرجه الشيخان والجماعة عدا النسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث.   (1) " تحفة الأحوذي " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 694 - " بَابُ النُّهْبَى بِغيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ " 794 - عن عبدِ اللهِ بْنِ يَزِيْدٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النُّهْبَى وَالمُثْلَةِ ".   694 - " باب النُّهبى بغير إذن صاحبه " النهبى (1) على وزن فعلى من النهب، وهو أخذ الشيء من أحد عياناً، والمراد به بيان حكم أخذ الشيء من صاحبه عياناً عنوة واقتداراً وهو ما يسمى بالغصب. 794 - قوله رضي الله عنه: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهبى والمثلة ". معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أمرين من الكبائر، الأولى " النهبى " وهي أخذ الشيء من صاحبه بدون إذنه عياناً عنوة واقتداراً. والنهبى والغصب بمعنى واحد. الثاني: المثلة بضم الميم وسكون الثاء، وهي العقوبة بقطع الأعضاء كجدع الأنف والأذن وفقىء العين وغيره. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب احترام الملكية الفردية في الإِسلام، والنهي عن الغصب والنهب، وتحريم ذلك تحريماً شديداً، سواء كان المنهوب مسلماً أو كافراً، لأن الحقوق الإِنسانية من نفس ومالٍ وعرضٍ وغيره يستوي فيها المسلم والكافر، وقد دل الحديث على أن الاعتداء على الأموال باغتصابها من الكبائر، وإلّا لما ترتب عليه هذا الوعيد الشديد، وكذلك كل اعتداء على مال الغير سواء كان بالغصب أو بالسرقة أو بالخيانة كبيرة، ولا شك لأنه أكل لأموال الناس بالباطل. ثانياً: تحريم المثلة بالإِنسان، أو الحيوان، وهي قطع بعض الأعضاء إمعاناً في التشفي   (1) بضم النون وسكون الهاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 695 - " بَابُ مَنْ قَاتلَ دُونَ مَالِهِ " 795 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".   والإِنتقام، والمثلة جريمة وحشية حرمها الإِسلام أشد التحريم لما فيها من العنف والقسوة وإهدار كرامة الإِنسان. والمطابقة: في قوله " نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهبى ". الحديث: أخرجه البخاري. 695 - " باب من قاتل دون ماله فهو شهيد " 795 - قوله " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قتل دون ماله ". معنى الحديث: يروي لنا ابن عمرو في هذا الحديث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه " يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد " أي من تعرّض له لص أو غاصب وحاول أخذ ماله منه غصباً قوة واقتداراً بغير حق شرعي، فإنّ عليه أن يقاتله دفاعاً عن ماله، فإن قتل في الدفاع عن ماله فهو شهيد في حكم الله تعالى، وكذلك من قُتل دفاعاً عن نفسه، وقد جاء هذا المعنى الذي ذكرناه مصرحاً به نصاً في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء (1) رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: " فلا تعطه مالك " قال: أرأيت إن قاتلني قال: " قاتله " قال: أرأيت إن قتلني، قال: " فأنت شهيد " قال: أرأيت إن قتلته، قال: " هو في النار " أخرجه مسلم. وفي لفظ أحمد، قال: يا رسول الله أرأيت إن عدى على مالي قال: " انشد الله " قال: فإن أبوا عليّ قال: " انشد الله " قال: فإن أبوا علي قال: " قاتل فإن قتلت ففي الجنة، وإن قَتَلْتَ ففي النار ".   (1) " تحفة الأحوذي " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الدفاع عن المال ومقاتلة من يريد اغتصابه أو سرقته، لأن ذلك حق مشروع في جميع الأديان السماوية، إلا أنه يبدأ بالمدافعة عنه دفاعاً خفيفاً، فإن رجع عنه فبها وإلا دافعه بالأشد فالأشد حتى يصل ذلك إلى درجة المقاتلة، فإن قُتِلَ المعْتدي من غاصب أو سارق فدمه هدر، وإن قتل المعتدى عليه فهو شهيد. قال الشوكاني: وأحاديث الباب فيها دليل على أنها تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان من غير فرق بين القليل أو الكثير إذا كان الأخذ بغير حق، وهو مذهب الجمهور كما حكاه النووي والحافظ في الفتح، وقال بعض العلماء: إن المقاتلة واجبة، وقال بعض المالكية: لا تجوز إذا طلب الشيء الخفيف، ولعل مستمسك من قال بالوجوب ما في حديث أبي هريرة من الأمر بالمقاتلة كما في رواية مسلم. وأما القائل (1) بعدكم الجواز في الشيء الخفيف فعموم أحاديث الباب ترده، ولكنه ينبغي تقديم الأخف فالأخف فلا يعدل المدافع إلى القتل مع إمكان الدفع بدونه. ويدل على ذلك أمره - صلى الله عليه وسلم -كما في رواية أحمد- بانشاد الله قبل المقاتلة، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال: من أريد ماله أو نفسه أو حريمه فله المقاتلة وليس عليه عقل ولا دية، ولا كفارة، وقال أبو حنيفة في رجل خرج (2) بالسرقة فاتبعه الرجل فقتله فلا شيء عليه. قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل يدفع عما ذكر إذا أريد ظلماً بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث أجمعوا على استثناء السلطان للآثار الواردة في الأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه. اهـ. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله " من قتل دون ماله فهو شهيد " لأن تقدير الترجمة "من   (1) " تحفة الأحوذي " ج 4. (2) " شرح العيني على البخاري " ج 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 696 - " بَابٌ إِذَا كَسَرَ قَصْعَةً أوْ شَيْئاً لِغيْرِهِ " 796 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَصْعَةٍ فيهَا طَعَام، فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ: كُلُوا: وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ ".   قاتل دون ماله فقتل فحكمه أنه شهيد" قال العيني واقتصر في الحديث على لفظ قتل لأنه يستلزم المقاتلة، وبهذا تتضح المطابقة. 696 - " باب إذا كسر قصعة أو شيئاً لغيره " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على حكم من كسر قصعة يعنى إناءً من الخشب، أو شيئاً آخر غيره لشخص آخر، هل يضمن المثل أو القيمة أم لا؟. 796 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند بعض نسائه "، أي كان في بيت عائشة رضي الله عنها " فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام " أي فبينما كان في بيت عائشة أهدت إليه إحدى زوجاته الأخريات، وهي زينب بنت جحش قصعة فيها طعام (1) من حيس، " فضربت بيدها فكسرت القصعة " أي فضربت عائشة رضي الله عنها القصعة بيدها فكسرتها غيرة منها على رسول الله حيث تملكتها الغيرة من تلك الزوجة الأخرى، فأثارت غضبها ولم تتمالك نفسها فكسرت القصعة انتقاماً منها، لأنها اغتاظت من ضرتها كيف ترسل تلك الهدية   (1) " شرح العيني " ج 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيتها فدفعتها الغيرة إلى الانتقام منها بكسر قصعتها. " فضمها " أي فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أطراف تلك القصعة التي انكسرت. " وجعل فيها الطعام وقال: كلوا " أي وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان معه من الصحابة بالأكل منها، وكان الطعام الذي فيها من الحيس وهو طعام يصنع من التمر والأقط والسمن، قال العيني: وقد يجعل عوض الأقط الدقيق. اهـ. قال الشاعر: وإذا تَكُوْنُ كَرِيْهَة أدْعَى لَهَا ... وَإذَا يحَاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ قال الراوي: " وحبس الرسول والقصعة " أي وأبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرسول والقصعة المكسورة عنده وأخرهما " حتى فرغوا " أي حتى انتهوا من أكل طعامهم، " فدفع القصعة الصحيحة " أي فغرّم السيدة عائشة مثل القصعة التي كسرتها، وأخذ قصعة صحيحة من أوانيها فدفعها إلى زينب بدل قصعتها التي كسرتها عائشة، وهكذا ألزم النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها بالضمان بالمثل، لأن " من أتلف شيئاً فعليه ضمانه " كما في الحديث الصحيح والمطابقة: في قوله " فدفع القصعة (1) الصحيحة ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية ضمان المتلفات من العروض والحيوان بالمثل، قال ابن التين (2): احتج بهذا الحديث من قال: يقضى في العروض بالأمثال، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، وفي رواية ما صنع الآدميون غرم مثله كالثوب وبناء الحائط ونحو ذلك، وكل ما كان من صنع الله عز وجل مثل العبد والدابَّة ففيه القيمة، والمشهور من مذهبه أن كل ما كان ليس بمكيل ولا موزون ففيه القيمة، وما كان مكيلاً أو موزوناً فيقضى بمثله يوم استهلاكه. قال العيني: ومذهب أبي حنيفة أن   (1) أي في قوله: " فدفع القصعة الصحيحة ". (2) " شرح العيني " ج 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 كل ما كان مثلياً يجب عليه مثله، والمثلي كالمكيل مثل الحنطة والشعير والموزون كالدراهم والدنانير وغير المثلي كالعدديات المتفاوتة كالبطيخ والرمان والثياب، والعددي المتقارب كالجوز والبيض ففيه القيمة. الحديث: أخرجه أيضاًً الترمذي والنسائي وابن ماجة. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الشركة " الشركة لغة: بكسر الشين، وسكون الراء على الأفصح، وقد تفتح الشين وتكسر الراء، هي خلط أحد المالين بالآخر بحيث لا يتميّزان عن بعضهما أو يتميزان. أمّا الشركة شرعاً: فهي ثبوت الحق الشرعي في شيء لاثنين فصاعداً، وهي نوعان: شركة ملك، وشركة عقد، فالأولى أن يملك الاثنان عيناً، والثانية أن يقول أحدهما للآخر: شاركتك في كذا ويقبل الآخر. وتنقسم شركة العقود إلى خمسة أقسام: الأولى: شرح العنان: وهي أن يشترك اثنان أو أكثر بمالين أو أموال على الاتجار فيها، واقتسام الربح بينهما أو بينهم على ما اصطلحا عليه واشترطا، أو يشترك اثنان بمالهما على أن يعمل أحدهما فقط، بشرط أن يكون للعامل جزء أكثر من الربح مقابل عمله، وهي جائزة صحيحة عند الجمهور. الثانية شركة المضاربة: وهي أن يدفع صاحب المال قدراً معيناً من ماله إلى من يتجر فيه مقابل جزء مشاع معلوم النسبة من الربح شريطة أن يكون نقداً، وهي جائزة عند الجميع إلاّ أن أبا حنيفة لا يسميها شركة. الثالثة شركة الأبدان: وهي أن يشترك عاملان أو أكثر، ويتَّفقا على العمل بأبدانهما وما يرزقانه من الأجر بينهما، وهي جائزة صحيحة عند الجمهور خلافاً للشافعي، إلا أن مالكاً اشترط الاتفاق في العمل الواحد، والصناعة الواحدة، كحداد وحداد. الرابعة شركة المفاوضة: وهي الاشتراك في استثمار المال مع تفويض كل واحد منهما أو منهم لصاحبه في البيع والشراء والتوكيل، وهي جائزة صحيحة عند مالك وأبي حنيفة، إلاّ أن أبا حنيفة اشترط أن تكون بين مسلمين حرّين جائزي التصرف، وأن يكون المالان متساويين والتصرف متساوياً والربح متساوياً، وأن لا يبيعا من جنس مال الشركة شيئاً إلاّ ويُدْخِلانه في الشركة، وأن يضمن كل منهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 697 - " بَابُ الشَّرِكَةِ في الطَّعَامِ والنَّهْدِ والعُروضِ " 797 - عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الأشْعَرِيينَ أَذَا ارمَلُوا في الْغَزْوِ أوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحدٍ، ثم اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ في إِنَاءٍ وَاحِدٍ بالسَّوِية، فَهُمْ مِنِّي وَأنا مِنْهُمْ".   صاحبه في البيع والشراء، وأن يكون كل ما يشتريانه على الشركة عدا طعام أهلهم وأولادهم. الخامسة شركة الوجوه: وهي اشتراك اثنين أو أكثر في شراء تجارة في ذمتهما - أي بثمن مؤجل متعلق بالذمة اعتماداً على وجاهتهما على أن يكون الربح بينهما، وهي جائزة عند أحمد وأبي حنيفة خلافاً لمالك والشافعي. 697 - " باب الشركة في الطعام والنهد والعروض " " والنهد " بفتح النون وكسرها هي أن ينثر الرفقة زادهم على سفرة واحدة ليأكلوا جميعاً منه. " والعروض " بضم العين جمع عرض (بسكون الراء) وهو المتاع، ويقابل النقد، وتجوز فيه شركة العنان والمفاوضة عند مالك إذا اتحد الجنس، وقال الشافعي: تجوز في العروض المثلية، وقال أبو حنيفة: لا تجوز مطلقاً (1) ولا تكون إلاّ بالنقدين. 797 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الأشعريين إذا أرملوا " أي إذا قلّ زادهم في السفر " أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة " أي: أو قل طعامهم في الحضر وخافوا أن لا يسد حاجتهم "جمعوا ما كان عندهم   (1) وهو مذهب الجمهور، وقال ابن قدامة: فأمّا العروض فلا تجوز الشركة فيها في ظاهر المذهب، نص عليه أحمد، وكره ذلك ابن سيرين والشافعي وأصحاب الرأي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 في ثوب واحد" أي جمعوا الطعام الذي كان متفرقاً بعضه عند هذا وبعضه عند ذاك، واشتركوا فيه جميعاً ووضعوه في ثوب واحد، " ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية "، أي بالتساوي بينهم. فقه الحديث: استدل البخاري بهذا الحديث على جواز الشركة في النهد أو في الطعام، والنهد كما قلنا أن ينثر الرفقة زادهم على سفرة فيأكلوا جميعاً، أو يجمعوه ويقتسموه بينهم قسمة متساوية، كما في هذا الحديث أو غير متساوية. قال العيني: وذلك جائز في جنس واحد أو في الأجناس. وإن تفاوتوا في الأكل، وليس هذا من الربا في شيء وإنما هو من باب الإِباحة. وقال في " فيض الباري ": ليست هذه من باب المعاوضات التي تجري فيها المماكسة أو تدخل تحت الحكم، وإنما هي من باب التسامح، وقد جرى بها التعامل من لدن عهد النبوة. وأما الشركة في الطعام وكل ما يملك فقد قال الحافظ: والجمهور على صحة الشركة في كل ما يتملك -يعني من طعام وغيره- والأصح عند الشافعية اختصاصها بالمثلي، وعند المالكية تكره الشركة في الطعام. هذا ومما يستفاد من الحديث استحباب خلط الطعام والمشاركة فيه حضراً وسفراً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثنى على الأشعريين ومدحهم بعملهم هذا، لما يترتب عليه من حلول البركة في الطعام، وكفايته للعدد الكثير من الناس، وانتفاع الأبدان به، وغير ذلك من المؤانسة والمباسطة أثناء تناوله، ولهذا كان هذا العمل من سنته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله " جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ". *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 698 - " بَابُ تقْوِيمِ الأشْيَاءِ بَيْنَ الشُرّكَاءِ بِقِيمَةِ عَدل " 798 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ أعتَقَ شَقِيْصاً مِنْ مَمْلُوكه فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ في مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ ".   698 - " باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل " 798 - قوله: " من أعتق شَقِيْصاً من مملوكه فعليه خلاصه " " الشقيص " بفتح الشين المشددة هو نصيب المالك من العبد، أو نصيب الشريك من العبد المشترك. ومعنى الحديث: أنه إذا كان المملوك " عبداً أو أمة " مشتركاً بين شخصين وأعتق أحدهما نصيبه منه، سواء كان نصفه أو أكثر أو أقل، فإنّ عليه أن يشتري بقية العبد من شريكه، ويأخذ ثمن ذلك من مال العبد إن كان له مال " فإن لم يكن في مال قوّم المملوك "، أي سئل أهل الخبرة عن ثمنه، ثم جعلت له قيمة مثله، وهو معنى قوله: " قيمة عدل " أي قيمة مناسبة له، وهي ثمن أمثاله، " ثم استسعي غير مشقوق عليه " أي ثم كلف المملوك بالعمل في صناعة أو زراعة أو نحوها حتى يجمع المال الكافي لتحرير بقيته، وتخليص رقبته من الرق، ودفع القيمة العادلة للشريك حتى يتم عتقه كله. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه إذا أعتق أحدُ الشريكين نصيبه من العبد فإن على ذلك العبد إذا كان غنياً أن يشتري ما تبقى منه لسيده الآخر من ماله الخاص، ويعتق نفسه من ماله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فعليه خلاصه في ماله " وكما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 699 - " بَابُ مَشَارَكَةِ الذِّمِيِّ وَالْمُشْرِكينَ في الْمُزَارَعَةِ " 799 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أَعْطى رَسوُلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْبَرَ اليَهُودَ أن يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ   " من أعتق شقصاً من رقيق كان عليه أن يعتق نفسه فإن لم يكن له مال يستسعى العبد ". اهـ. أي وإن كان العبد فقيراً كلف بالعمل حتى يجمع ما يخلص به بقيته. وهناك صورة ثالثة لم تذكر في الحديث وهي أن يضمن المعتق نصيب شريكه من ماله إن كان موسراً، دون الرجوع على مملوكه بشيء كما جاء منصوصاً عليه في حديث ابن عمر: " من أعتق شركاً له من عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد " وبهذه الأحكام الثلاثة أخذ أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العلم فقالوا: إن كان المعتق موسراً ضمن نصيب شريكه من ماله، وإن كان فقيراً والعبد موسراً اشترى بقية العبد من مال العبد نفسه، وإن لم يكن هذا ولا ذاك استسعى على المملوك حتى يخلص رقبته. وذهب الجمهور إلى أن من أعتق نصيبه إن كان موسراً غرّم نصيب صاحبه. وعتق العبد كله، وإن لم يكن له مال أعتق من العبد ما عتق لحديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركاً من عبد وكان له مال يبلغ ثمنه قيمة عدل فهو عتيق وإلّا فقد عتق منه ما عتق ". ثانياًًً: تقويم الأشياء بين الشركاء قبل قسمتها بالقيمة العادلة المعروفة في الأسواق التجارية، ومن ذلك الرقيق لا تجوز قسمته على الشركاء إلاّ بعد تقويمه، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة خلافاً لمالك وأبي يوسف: يجوز عندهما قسمة الرقيق قبل تقويمه، أما بقية الأشياء فلا بد من تقويمها اتفاقاً. والمطابقة: في قوله " قوم المملوك قيمة عدل ". 699 - " باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة " 799 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "أعطى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 شَطر مَا يَخْرُجُ مِنْهَا". 700 - " بَابُ الشَّرِكَةِ في الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ " 800 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ: هُوَ صَغِيرٌ، فَمَسحَ رَأْسَهُ، ودَعَا لَهُ، وَكَانَ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ عُمَرَ   ْرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر لليهود" أي سلمهم أراضيها الزراعية، وعقد معهم عقد مزارعة ينص هذا العقد " على أن يعملوها ويزرعوها " أي أن يقوموا بزراعتها وسقيها والعمل فيها وحرثها " ولهم شطر " أي نصف " ما يخرج منها " وللنبي - صلى الله عليه وسلم - النصف الآخر. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " ولهم شطر ما يخرج منها ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز مشاركة المسلمين للكفار، سواء كانوا من أهل الذمة أو غيرهم في استثمار الأراضي الزراعية بأن يدفع المسلم الأرض للكافر ليقوم بزراعتها وخدمتها مقابل مشاركته في انتاجها الزراعي بنسبة معينة، ويسمى ذلك بالمزارعة، وقد تقدم في أوائل كتاب المزارعة. 700 - " باب الشركة في الطعام وغيره " 800 - ترجمة راوي الحديث: وهو عبد الله بن هشام التيمي ولد سنة أربع من الهجرة، وسكن المدينة ودعا له - صلى الله عليه وسلم - بالبركة، ليس له سوى هذا الحديث وحديث آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِي اللهُ عَنْهُمْ فَيَقُولانِ لَهُ: أشْرِكْنَا فَإِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ دَعَا لَكَ بالبَرَكَةِ، فيَشْرَكُهُمْ، فَرُبَّمَا أصَابَ الرَّاحِلَةَ كما هِيَ (1) فَيَبْعَثُ بِهَا إِلى المَنْزِلَ.   معنى الحديث: أن عبد الله بن هشام رضي الله عنه " ذهبت به أمه زينب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله بايعه فقال: هو صغير " أي صغير السن لم يبلغ سن التمييز بعد، لأنه ولد في السنة الرابعة وذهبت به أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يتجاوز السابعة " فمسح رأسه ودعا له " بالبركة "وكان يخرج إلى السوق فيشتري الطعام " أي يتاجر في المواد الغذائية من بُرّ وشعير ونحوه، " فيلقاه ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم فيقولان له: أشركنا " في تجارتك، وذلك أملاً في الربح، لأنه دعا له - صلى الله عليه وسلم - بالبركة فكان كما جاء في آخر هذا الحديث ربما ربح راحلة محملة بالطعام من صفقة واحدة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز الشركة في الطعام، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والمطابقة: في قوله " فيقولان له أشركنا ". ...   (1) أي كثيراً ما يربح راحلة كاملة محمّلة بالطعام في صفقة واحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتابُ الرَّهْنِ " 701 - " بَاب الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ " 801 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الظَّهْرُ (1) يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كانَ مَرْهُوناً، ولَبَنُ الدَرِّ يُشْرَبُ بَنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُوناً، وعلى الذي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَفَقَةُ ".   701 - " باب الرهن مركوب ومحلوب " الرهن لغة: الثبوت والدوام. " ماء راهن " أي راكدٌ " ونعْمة راهنة " يعني دائمة، ومن معانيه الحبس أيضاًً كما في قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي محبوسة في موقف الحساب حتى تسأل عن أعمالها في الدنيا. وشرعاً: كما قال الراغب: ما يوضع وثيقة للدين، وقال ابن قدامة: الرهن في الشرع المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه، أي حتى يكون ضماناً مالياً للدين فإذا لم يسدده المدين عند حلول الأجل كان له الحق في بيع ذلك المرهون واستيفاء حقه من ثمنه، أما قبل حلول الأجل فإن الرهن يكون وديعة لديه وأمانة عنده لا يحق له التصرف فيه. 801 - معنى الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ". إلخ أي أن المرتهن له أن يركب ظهر الدابة المرهونة لديه من فرس أو جمل أو نحوه وأن يحلب البقرة والشاة وينتفع بلبنها مقابل إنفاقه عليها، وقال بعضهم: معنى قوله " يُركَب ويُشرب " أن الظهر المرهون يركبه الراهن   (1) وفي رواية: " الرهن يركب بدل الظهر ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 ويشربه. بمعنى أن الراهن هو الذي ينفق على الرَّهن أثناء رهنه، وهو الذي يركبه ويشرب لبنه. وينتفع به. والمسألة خلافية كما سيأتي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به بعض أهل العلم على أن الرهن إذا كان له منفعة، ويحتاج إلى نفقة كالدواب المركوبة أو المحلوبة فإن على المرتهن نفقته مقابل انتفاعه به وهو مذهب أحمد وإسحاق. وقال الجمهور: نفقة الرهن ومنفعته للراهن، فهو الذي يركبه ويشربه مقابل نفقته ولا ينتفع المرتهن بشيء كما أنه لا نفقة عليه. وأجابوا عن حديث الباب بجوابين الأول قال الشافعي: المراد بقوله: " الظهر يركب بنفقته " الخ أنه لا يمنع الراهن من ظهره ودره - أي لا يمنع من ركوبة وشرب لبنه إن كان محلوباً، قال الصنعاني: وَرُدَّ بأنه وَرَدَ بلفظ المرتهن فتعين الفاعل " الثاني: أن هذا الحديث كما أفاده ابن عبد البر ترده أصول مجتمعة وأنه منسوخ بحديث ابن عمر رضي الله عنهما " لا تحلب ماشية امرىء بغير إذنه " قال الصنعاني أما النسخ (1) فلا بد له من معرفة التاريخ ولا يحمل عليه إلا إذا تعذر الجمع ولا تعذر هنا إذ يخص عموم النهي بالمرهون. الثالث: أن هذا الحديث خالف القياس في تجويز الركوب والشرب لغير المالك بدون إذنه وتضمينه بالنفقة لا بالقيمة، وأجاب عن ذلك الصنعاني بأن الأحكام الشرعية ليست مطردة على نسق واحد، بل الأدلة تفرق بينها والشارع حكم هنا بركوب المرهون وشرب لبنه وجعله قيمة النفقة، كما حكم ببيع الحاكم عن المدين المتمرد وجعل صاع التمر عوضاً عن اللبن في المصراة. ثانياًً: أن ما لا يحتاج إلى نفقة لا يجوز الانتفاع به كالثوب والأرض، فلا يلبس الثوب المرهون مثلاً ولا ينتفع من الأرض المرهونة بزراعتها أذن له الراهن أو لم يأذن له وهو قول الجمهور. الحديث: أخرجه أيضاًً أبو داود والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة.   (1) " سبل السلام " ج 3 للصنعاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كتاب العتق " العتق لغة: كما قال ابن قدامة الخلوص، ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير أي خالصها. وسمّى البيت الحرام عتيقاً لخلوصه (من أيدي الجبابرة) لعبادة الله وحده. والعتق شرعاً: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، يقال: عتق العبد وأعتقه وهو عتيق ومعتق. اهـ. ولا شك أن هذه الأبواب من عتق وتدبير ومكاتبة تظهر بوضوح موقف الإِسلام من (1) الأرقاء، ومدى تشوفه إلى تحريرهم، وتكشف زيف المتهمين له بأنه يهدر كرامة الإِنسان، فالإِسلام لم يكن أول من شرع الرق، بل كان مشروعاً في معظم قوانين العالم ودياناته، وفي اليونان أقره أفلاطون وأرسطو، وكذلك القانون الروماني حتى أنه أباح استرقاق المدين إذا لم يف بدينه واسترقاق الأسرى والتلهي بقتلهم وتعذيبهم، وأقر الفرس والإِسرائيليون الرق، واستباحوا استرقاق أهل المدن المفتوحة من النساء والأطفال، أما الرجال فليس لهم سوى القتل، كما هو موجود في كتبهم، والنصارى أقروا الرق، وأوصوا بالأرقاء خيراً، وجاء الإِسلام فنظّم الرق، وألغى كثيراً من أسبابه فقد كان الرجل قبل الإِسلام يبيع ولده بل يبيع نفسه، فوضع الإِسلام للرق حدوداً، واشترط في الأسرى أن يكون أسرهم في حرب شرعية ينظمها الإِمام لسبب مشروع، وأجاز له أن يمن على الأسير وللأسير أن يفتدي من ماله، ثم أكثر الإِسلام بعد ذلك من أسباب العتق فجعله كفارة للظهارِ والقتل وفطر رمضان، وشرع المكاتبة إلى غير ذلك مما يدل على حرص الإِسلام على تحرير الإِنسان.   (1) هذه خلاصة لما قاله الأستاذ فايد في تعليقه على " المغني " ج 10 ص 20 - 392 مكتبة القاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 702 - " بَابُ مَا جَاءَ في الْعِتْقِ وَفضلِهِ " 802 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّمَا رَجُلٍ أعْتَقَ امرءاً مُسْلِمَاً اسْتَنْقَذَ اللهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوَاً مِنَ النَّارِ ".   702 - " باب ما جاء في العتق وفضله " 802 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما رجل أعتق امرءاً مسلماً إلى آخره " .. إلخ. معنى الحديث: أنه ما من عبد مسلم يخلّص رقبة مسلم من الرق ويحرره من العبودية لغيره، ويشتريه ويعتقه أو يكون مملوكاً له فيعتقه لوجه الله تعالى ويجعله حراً بعد أن كان عبداً مملوكاً، أو جارية مملوكة، إلا " استنقذ الله بكل عضوٍ منه عضواً من النار " أي إلاّ خلّص الله بكل عضو من تلك النفس البشرية التي أعتقها عضواً من جسمه من النار، وبذلك ينجو من العذاب، ويفوز بالجنة مع السابقين الأولين، لأن من نجا من النار دخل الجنة لا محالة، وفي رواية: " من أعتق رقبة مسلمة " والمراد بالرقبة ذات الإِنسان كلها، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، فهو مجاز مرسل، وقال في " النهاية " الرقبة في الأصل العتق، جعلت كناية عن جميع ذات الإِنسان تسميةً للشيء ببعضه، فإذا قال: أعتق رقبة، فكأنما قال: أعتق عبداً أو أمةً. وقوله: " أيما رجل " كلمة أيما مركبة من " أي " الشرطية " وما " الزائدة للتأكيد، ورجل مجرور بالإِضافة، أو مرفوع بالبدلية، وفي رواية: " أي مسلم " وقوله: " استنقذ الله بكل عضو منه عضواً من النار " يشعر بأن الله ينجيه من النار بعد استحقاقه لها: الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 703 - " بَابٌ أيُّ الرِّقَابِ أفضَلُ " 853 - عَنْ أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " إِيمَان باللهِ، وَجِهَادٌ في سَبِيلِ اللهِ "، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَغْلاهَا ثَمَنَاً،   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل العتق في الإِسلام، وأن عتق الرقبة المسلمة من الرق سبب في النجاة من النار لمن استحق دخولها. " قال الصنعاني " (1): في تقييد الرقبة المعتقة بالإِسلام أيضاًً دليل على أن هذه المثوبة لا تنال إلا بعتق المسلمة، وإن كان في عتق الكافرة فضل، لكن لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر. ثانياًًً: قال الخطابي: يستحب أن لا يكون العبد المعتق ناقص العضو بالعور أو الشلل أو نحوهما بل يكون سليماً، ليكون معتقه قد نال الموعود في عتق أعضائه. ثالثاً: أن هذا الفضل يترتب على عتق الذكور والإِناث معاً لأن قوله: " من أعتق امرءاً مسلماً " يتناول الجنسين (2) معاً إلاّ أن عتق الذكور أفضل على الأصح كما أفاده العيني. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 703 - " باب أي الرقاب أفضل " 803 - قوله رضي الله عنه: " سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي العمل أفضل إلخ ". معنى الحديث: أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل   (1) " سبل السلام " ج 4. (2) ومما يؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار أخرجه أبو داود وإلّا أن بعضهم فضل عتق الذكور لأنّ المنفعة بهم أكثر، وقال بعضهم الأنثى أفضل لأنه يكون ولدها حراً سواء تزوجها حر أو عبد. اهـ. كما في " سبل السلام ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 وأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ: " تُعِينَ صَانِعَاً أو تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ "، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ: " تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَة تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ ".   الأعمال فأجابه - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الأعمال وأكثرها ثواباً على الإِطلاق الإِيمان بالله ويدخل فيه التصديق بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد أنه حق لا شك فيه ويليه في المرتبة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " الجهاد في سبيل الله " لنشر دينه، وإعلاء كلمته، لا لقومية ولا عصبية، ولا رياء ولا سمعة، قال أبو ذر: " قلت: فأي الرقاب أفضل ": يعني أي الرقاب في العتق أفضل وأعظم أجراً " قال: أغلاها ثمناً " أي أرفعها قيمة وسعراً في الأسواق التجارية " وأنفسها عند أهلها " اسم تفضيل، أي وأفضلها أيضاًً: أحبها وأكرمها عند أصحابها، وأكثرها رغبة عند أهلها، وأعزها في نفوس مالكيها، لأن عتق العبد أو الجارية النفيسة دليل على قوة إخلاص سيدها " قال: فإن لم أفعل " أي فإن لم أقدر على عتق الرقاب لأني لا أملك مالاً " قال: تعين صانعاً " أي تعين صاحب مهنة على مهنته، أو أي عامل على عمله " أو تصنع لأخرق " وهو الذي لا يحسن العمل، ومعنى تصنع لأخرق أي ترشده وتوجهه أو تعمل له العمل الذي لا يقدر عليه، وروى الدارقطني ضائعاً " بالضاد المعجمة " قال الحافظ: وقد وجهت بأن المراد بالضائع ذو الضياع من فقر أو عيال (1) قال أبو ذر: " قلت: فإن لم أفعل " أي فإن لم أستطع مساعدة العامل على عمله لعجز بدني أو مهني أو لم أستطع مساعدة الفقير لأني فقير مثله، " قال: تدع الناس من الشر فإنها صدقة " أي تكف شرك وأذاك عن الناس فيحسب لك ذلك عند الله، وتؤجر عليه أجر الصدقة وثوابها. الحديث: أخرجه الشيخان   (1) أي تعين الإنسان الفقير كثير العيال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 704 - " بَابٌ إِذَا أَعْتَقَ عَبْداً بَيْنَ اثْنَيْنِ أو أَمَةً بَيْنَ الشُّرَكَاءِ " 854 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَعْتَقَ شِرْكَاً لَهُ في عَبْدٍ فكانَ لَهُ مَالٌ   والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أفضل الرقاب في العتق وأكثرها ثواباً أغلاها ثمناً وأحبها إلى نفس سيدها، لأن المعتق في هذه الحالة يفارق أعز الناس عنده، وذلك من أصعب الأمور وأشقها على النفس البشرية، وأعظمها جهاداً لها، فإذا تغلب عاد نفسه وهواه، وأعتق من يحبه ويهواه دل ذلك على قوة دينه وإيمانه ويقينه. ثانياًًً: أن أفضل الأعمال على الإِطلاق الإِيمان بالله عقيدة وقولاً وعملاً، لأنه أساس كل خير ومصدر كل سعادة، وشرط في قبول جميع الأعمال الشرعية، وصحتها شرعاً، ويليه الجهاد، لما فيه من حماية الدين، سواء كان جهاداً للنفس أو جهاداً للعدو. ثالثاً: الترغيب في الأعمال المهنية والدعوة إلى ممارستها ولو على سبيل المشاركة للصانع والمعاونة له، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تعين صانعاً ". رابعاً: الحث على حسن المعاملة والمعايشة السلمية مع الناس ما أمكن وكف الشر عنهم، فإن ذلك حسنة عظيمة يثاب عليها ثواب الصدقة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة بل هو جواب لها بالفعل حيث قال البخاري في الترجمة: " أي الرقاب أفضل " وهذا سؤال جوابه من الحديث " أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها ". 704 - " باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أمة بين الشركاء " 804 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركاً له في عبد" أي من أعتق حصته ونصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره "فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ العَبْدُ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأعطى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ، وِإلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ".   كان له مال يبلغ ثمن العبد" أي فإن كان غنياً موسراً يمكنه ماله من شراء بقية العبد من شريكه أو شركائه " قوِّم عليه قيمة عدل، فأعطي شركاءه حصصهم، وعتق عليه " أي عتق عليه العبد، يعني فإن كان موسراً، فإنه يضمن لشركائه حصصهم، فيقوّم العبد بالقيمة العادلة التي يقدّرها أهل الخبرة حسب أمثاله في الأسواق التجارية، فيدفع قيمة بقية العبد إلى شركائه، ويعتق العبد كله كما جاء مصرحاً به في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فعليه عتقه كله " أخرجه البخاري وكما في رواية شعبة عن قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أعتق مملوكاً بينه وبين آخر فعليه خلاصه " أخرجه أبو داود، وعن أبي هريرة رضي الله عنه " أن رجلاً أعتق شقيصاً له من غلام " أي أعتق نصيباً له في عبد، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - عتقه، وغرّمه بقية ثمنه " وإلا فقد عتق منه ما عتق " بفتح التاء في الفعل الأول والثاني، أي وإن كان المعتق معسراً لا يستطيع شراء بقية العبد، فإنه يعتق من العبد ما أعتق، ويبقى الباقي مملوكاً، قال البخاري: في هذه العبارة لا أدري أشي قاله نافع أو من الحديث، أي هل هي مدرجة موقوفة على نافع أو مرفوعة موصولة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن مالكاً رحمه الله رفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأرجح لأن أهل مكة أدرى بشعابها، قال الشافعي: لا أحسب عالماً بالحديث يشك في أنّ مالكاً أحفظ لحديث نافع من أيوب، لأنه ألزم له منه. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أعتق نصيباً له في مملوك وكان موسراً فإنّه يضمن حصة شريكه أو شركائه، ويدفع إليهم قيمة حصصهم، ويعتق العبد كله وإن كان معسراً أعتق من العبد ما أعتق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 وبقي الباقي مملوكاً، فأصبح بعضه حراً وبعضه عبداً، وكذلك الحكم في الأمة، وهو مذهب الجمهور. قال ابن رشد: فأمّا العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه، فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد: إن كان المعتق موسراً قوّم عليه نصيب شريكه قيمة عدل، فدفع ذلك إلى شريكه أو شركائه، وعتق الكل عليه، وإن كان المعتق معسراً لم يلزمه شيء، وبقي المعتق بفتح التاء - بعضه حراً وبعضه عبداً. وقال: أبو يوسف ومحمد: استسعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه، وهو حر يوم أعتق حظه منه، ويكون ولاؤه للأوّل، وبه قال الأوزاعي وجماعة الكوفيين. قال: وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر وهو حديث الباب، وعمدة محمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة حديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أعتق شقيصاً له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه " قال: وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ومسلم. اهـ. واختلفوا على أي أساس يقوّم العبد هل يقوم على أنه عبد كله أو يقوم على أن بعضه حر وبعضه عبد. قال القرطبي: وظاهره أي الحديث أنّه يقوم كاملاً لا عتق فيه، وهو معروف المذهب - أي مذهب المالكية، وقيل يقوم على أن بعضه حرٌ والأول أصح لأن سبب التقويم جناية المعتق بتفويته نصيب شريكه فيقوم على ما كان عليه يوم الجناية. اهـ. كما أفاده الزرقاني. ثانياًًً: أن نصيب المعتق يعتق في نفس وقت الإِعتاق حالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإلّا فقد عتق منه ما عتق " وقد أجمع العلماء كما قال الصنعاني على (1) أن نصيب المعتق يعتق بنفس الاعتاق. اهـ. هذا وقد تقدم الكلام على هذه المسألة، واختلاف المذاهب فيها في " باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل " من كتاب الشركة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.   (1) " سبل السلام " ج 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 705 - " بَابُ كَرَاهِيَّةِ التَّطَاوُلِ على الرَّقِيقِ وقولِهِ: عَبْدِي وأَمَتِي " 805 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَال رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَقُلْ أحَدُكُمْ أطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّىءْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، ولْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلايَ، وَلا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أمَتِي ولْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي ".   705 - " باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي وأمتي " 805 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقل أحدكم أطعم ربّك وَضِّىء ربك " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن المغالاة في الكلام واستعمال الألفاظ التي فيها شبهة في العقيدة تنافي التوحيد، كقول السيد لعبده: " أطعم ربك " فإن كلمة الرب وإن كانت تطلق بمعنى السيد إلاّ أنها تطلق أيضاًً بمعنى الخالق، ولذلك ينبغي له أن لا يقول: أطعم ربك، لئلا يظن السامع أنه أراد أطعم خالقك، فتكون عليه هذه الكلمة شبهة في عقيدته وتوحيده. " وليقل سيدي ومولاي " وهذا خطاب للمماليك، أي وليقل العبد أو الجارية سيدي ومولاي بدل ربي حرصاً على سمعة عقيدته " ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي " أي لا يستعمل هذه الألفاظ التي تكسر خاطر مملوكه، وتجرح شمعوره، والتي فيها شبهة عقائدية أيضاًً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على النهي عن التطاول على المملوك والترفع عليه، واستعمال الألفاظ التي تشعره بضعفه وذلته، وإظهار الاستعلاء والتعاظم عليه أثناء مخاطبته، مثل اسق ربّك فإنه منهي عنه لأمرين أولهما: الحرص على مراعاة شعور المملوك، وعدم إيذائه، وثانيهما: البعد عن كل شبهة تؤدّي إلى تشويه سمعة العقيدة لئلا يسيء الناس الظن في عقيدته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله " لا يقل أحدكم عبدي أمتي ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 706 - " بَابٌ إِذَا أَتاهُ خادِمُهُ بطَعَامِهِ " 806 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بطَعَامِهِ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أو لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أكْلَةً أو أكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ ".   706 - " باب إذا أتاه خادمه بطعامه " 806 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أَتى أحدكم خادمه بطعامه " أي إذا وضع له خادمه الطعام على سفرته " فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين " بضم الهمزة وهي اللقمة، أي فالأفضل له أن يجلسه على طعامه، فإن لم يفعل ذلك، فليعطه من ذلك الطعام لقمة أو لقمتين. " فإنّه ولي علاجه " أي فإن ذلك الخادم المسكين هو الذي قام بعمل ذلك الطعام، وتولى إعداده وإحضاره بين يدي سيده، فإن كان جارية فقد تكون هي التي تولت طهيه، وباشرت صنعه، ولذلك فإن الأولى إطعامها شيئاً منه تطبيباً لنفسها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على الترغيب في مكارم الأخلاق، وحسن معاملة الخدم، وتطييب نفوسهم، ومواساتهم، ومشاركتهم في الطعام على مائدة واحدة، أو إعطائهم شيئاً منه، ويستحب إجلاسهم على المائدة، ولا يجب، ويتأكد استحباب ذلك في حق من صنع الطعام، وحمله وشم رائحته، وتعلقت به نفسه. قال المهلب: هذا الحديث يفسر حديث أبي ذر في التسوية بين العبد والسيد على سبيل الندب (1) الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزل الجواب للترجمة.   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 707 - " بَابٌ إِذَا ضَرَبَ الْعَبْدَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ " 807 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا قَاتَل أحَدُكُمْ فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ ".   707 - " باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه " 807 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قاتل أحدكم " وفي رواية مسلم: إذا ضرب أحدكم " فليجتنب الوجه " أي إذا ضرب أحدكم شخصاً تأديباً أو تعزيراً له، أو في حد من حدود الله تعالى فليحذر أن يضربه على وجهه، وليبتعد عن ذلك كل البعد، ولو في إقامة حد من حدود الله، فقد روى أبو بكرة في قصة المرأة التي زنت، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمها وقال: " ارموا واتقوا الوجه ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الضرب وجوازه كوسيلة وعقوبة إسلامية مشروعة لتأديب الأولاد عند الضرورة إذا لم تنفع معهم الوسائل الأخرى من نصح، وتوجيه، وعتاب، وتقريع، وتوبيخ، فيلجأ إلى الضرب من باب (آخر الدواء الكي) وكذلك جواز الضرب في التعزير والحدود الشرعية كما دل عليه هذا الحديث إجمالاً، ودلت عليه النصوص الشرعية تفصيلاً. ثانياًً: الابتعاد عن ضرب الوجه في أي عقوبة، سواء كانت حداً أو تعزيراً أو تأديباً لعموم حديث الباب، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر برجم المرأة التي زنت قال: " ارموا واتقوا الوجه " أخرجه الشيخان وأبو داود. قال العيني: فإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 فمن دونه أولى (1)، وذلك لأن الوجه، لطيف يجمع الحواس كلها فيخشى من ضربه تعطيل حاسة منها، أو تشويه صورته، كما أفاده (2) النووي. والمطابقة: في قوله " فليجتنب الوجه " فإن هذا عام في ضرب أي إنسان ولو كافراً، فكيف إذا كان المضروب مسلماً. ...   (1) " شرح العيني " ج 13. (2) " شرح النووي على مسلم ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري تأليف حمزة محمد قاسم راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون الجزء الرابع مكتبة دار البيان ص. ب 2854 - هاتف 229045 دمشق - الجمهورية العربية السورية مكتبة المؤيد ص. ب 10 - هاتف 7321851 الطائف - المملكة العربية السعودية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 حقوق الطبع محفوظة للمؤلف بيروت 1410 هـ - 1990 م الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " بَابٌ فِي الْمُكَاتبِ " 708 - " بَابُ ما يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتبِ ومن اشترَطَ شَرْطاً لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ " 808 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ بريرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا في كِتَابَتِهَا ولمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئَاً، (1)   " باب في المكاتب " قال الحافظ: " والمكاتب " بالفتح من تقع له الكتابة، وبالكسر من تقع منه. والمكاتبة لغة: اشتقاقها -كما قال الراغب- من كتب بمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) أو بمعنى كتب الخط، وعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام، وعلى الثاني تكون مأخوذة من الخط الموجود عند عقدها غالباً. والمكاتبة شرعاً: وتسمى الكتابة كما قال ابن قدامة: والكتابة إعتاق السيد عبده على مال في ذمته يؤدَّى مؤجلاً، سميت كتابة لأن السيد يكتب بينه وبينه كتاباً بما اتفقا عليه، وقيل سمّيت كتابة من الكتب، لأن المكاتب يضم بعض النجوم - أي يجمع بعض الأقساط التي يدفعها إليه العبد إلى بعض. قال البخاري: 708 - " باب ما يجوز من شروط المكاتِب ومن اشترط شيئاً ليس في كتاب الله " 808 - قول عائشة رضي الله عنها: " إن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها " إلخ.   (1) قوله " ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً " أي ولم تكن سددت شيئاً من قيمها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 قَالَت لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِى إلى أهْلِكِ إنْ أحَبُّوا أنْ أقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ ويَكُونُ وَلاؤكِ لي فَعَلْتُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأهلِهَا فَأبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ، ويَكُونَ وَلاؤكِ لَنَا، فذكرَتْ ذَلِكَ لِرَسوُلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ لها رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ابْتَاعِي فَأعْتِقِي، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ"، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَيْسَ لَهُ، وِإنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، شَرْطُ اللهِ أحقُّ وَأَوْثَقُ ".   معنى الحديث: أن بريرة كانت أمة مملوكة لبعض الأنصار، فكاتبها أهلها على أن تجمع ثمنها، وتدفعه إليهم على أقساط مؤجلة، تنتهي كلها في زمن محدد، فإذا أدت ما عليها كانت حرة، فأتت إلى عائشة تسألها معونة مالية تساعدها على هذه المكاتبة، فطلبت منها عائشة أن ترجع إلى أهلها وتعرض عليهم موافقة عائشة على أن تدفع لهم جميع المال الذي كاتبوها عليه، على أن يكون الولاء لها والولاء هو وراثة العبد أو الأمة بعد وفاتهما فرفضوا ذلك " وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا " أي إن أرادت أن تعينك تفضلاً وتكرماً وتحتسب أجرها ومثوبتها عند الله، ويكون ميراثك لنا، فلتفعل، وإلّا فلا " فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابتاعي فأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق " أي فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتري بريرة وأعتقيها ولا تبالي بالشرط الذي اشترطوه لأنفسهم، فإنه شرط باطل غير نافذ شرعاً، لأن ميراث العبد أو الأمة لسيده الذي أعتقه ولسيدها الذي أعتقها " ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي قام في الناس خطيباً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 " فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " أي ليست موافقة لأحكام الله تعالى، " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله عزّ وجل فليس له، وإن اشترط مائة شرط " أي من اشترط شرطاً مخالفاً لحكم الله فإنه باطل لا ينفذ شرعاً، " شرط الله أحق وأوثق " أي شرط الله أولى بتنفيذه والعمل به من شروط الناس، لأنه لا يُقَدَّم على حكم الله شيء، وهو الصواب لما يتضمنه من العدل والحكمة، ولأنه حكم العليم الحكيم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية المكاتبة، لأن هؤلاء الأنصار كاتبوا بريرة وأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، واختلفوا هل كانت معروفة قبل الإِسلام؟ والصحيح كما قال الحافظ: أنها كانت في العصر الجاهلي (1)، قال ابن خزيمة: " وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية " وأقرها الإِسلام، قال ابن خزيمة: وأوّل من كوتب في الإِسلام سلمان، كما أفاده الحافظ، واختلفوا فيما إذا بقي على المملوك شيء، فروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم " أخرجه أبو داود والنسائي وصححه (2) الحاكم، قال مالك (3) في " الموطأ " وهو رأيي. وهو مذهب الجمهور أيضاً. قال الزرقاني: وكان فيه خلاف عن السلف، فعن علي: إذا أدى الشطر فهو غريم " وعنه يعتق منه بقدر ما أدّى، وعن ابن مسعود: لو كاتبه على مائتين وقيمته مائة فأدّى المائة عتق، وعن عطاء: إذا أدى المكاتب ثلاثة أرباع كتابته عتق، وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعاً: " المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى " ورجال إسناده ثقات، لكن اختلف في إرساله ووصله. اهـ. كما أفاده الزرقاني. ثانياًً: أنه لا يجوز للمكاتب أن يشترط شرطاً مخالفاً لأحكام الله   (1) " فتح الباري " ج 5. (2) " شرح الزرقاني " ج 4. (3) " موطأ مالك ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 تعالى وإن فعل ذلك فالشرط باطل، ولو مائة شرط، كما في الحديث، وهو ما ترجم له البخاري لأن حكم الله أولى بالتنفيذ. ثالثاً: مشروعية الولاء للمعتق، فهو صاحب الحق الشرعي فيمن أعتقه يرثه بعد موته، قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أنّ من أعتق عبداً أو أعتق عليه أن له عليه الولاء، وأجمعوا أيضاً على أن السيد يرث عتيقه إذا مات جميع ماله إذا اتفق دينهما، ولم يُخَلِّف وارثاًَ سواه، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الولاء لحمة كلحمة النسب " ويقدم المولى على الرد وذوي الأرحام في قول جمهور العلماء، فمن خلف بنتاً ومولاة فلبنته النصف والباقي لمولاه ولا يرد على الوارث شيء. رابعاً: الحديث دل على مشروعية المكاتبة، وهل هي واجبة أو مستحبة؟ قال ابن رشد (1) رحمه الله: اختلفوا في عقد الكتابة هل هو واجب أو مندوب؟ قال أهل الظاهر: هو واجب واستدلوا بظاهر قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)، وأما الجمهور فإنهم لما رأوا أن الأصل أن لا يُجبر أحد على عتق مملوكه حملوا هذه الآية على الندب. اهـ. وقال مالك في " الموطأ " ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره رجلاً على مكاتبة عبده. اهـ. والمطابقة: في قوله " كل شرط ليس في كتاب الله فليس له ". الحديث: أخرجه الستة. ...   (1) " بداية المجتهد " ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 709 - " كتابُ الهِبَةِ وَفضلِهَا والتَّحْرِيض عَلَيْهَا " 809 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: " ابْنَ أخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظر إِلى الْهِلالَ ثُمَّ الهِلَالِ ثُمَّ الهِلَالِ ثلاثَة أهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وما أوقِدَتْ في أبيَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَارٌ، فَقُلْتُ: يا خالةُ مَا كَانَ يَعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الأسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جيرَانٌ مِنَ الأنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -َ مِنْ ألبَانِهِمُ فَيَسْقِيْنَا ".   709 - " كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها " 809 - قول عائشة رضي الله عنها: " يا ابن أختي: إنْ كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار " إلخ. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغ من زهده وتقشفه أنه كان يمضي عليه وعلى آل بيته شهران يرون فيهما ثلاثة أهلة لا يوقد في أبياتهم نار، ولا يطبخ طعام، علماً بأنهم كانوا تسع نسوة، هكذا قالت عائشة لعروة رضي الله عنها، فلما سمع عروة منها هذا الحديث، تملكته الدهشة، فسألها على أي شيء كانوا يعيشون، وأي طعام يأكلون، قالت: كنا نعيش على " التمر والماء " إلاّ أنه كان لنا جيران من الأنصار، لديهم بعض الشياه والنياق التي وهبت لهم، فكانوا يعطوننا من ألبانها. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الهبة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 710 - " بَابُ الْقَلِيلِ مِنَ الْهِبَةِ " 810 - عن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوْ دُعِيتُ إلى ذِرَاعً أو كُراعٍ لأجَبْتُ، ولو أهْدِيَ إِليَّ ذِرَاعٌ أو كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ".   ولها معنيان معنى عام وهي ما تعطيه لغيرك في حياتك تقصد من ورائه بدلاً، فإن كان منفعة دنيوية فهو الهدية وإن كان ثواباً أخروياً فهو الصدقة، أو لا تقصد بذلك العطاء بدلاً، بل لمجرد المحبة والمساعدة للغير وهو المنحة والعطية، ومعنى خاص: وهو ما يدفع إلى الغير لا يقصد من ورائه بدلاً، ويسمى منحة، أيضاً وهذا النوع يثاب عليه، ويؤجر على فعله، لا سيما إذا كان للجيران وأمثالهم (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ". ثانياًً: ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته من التقشف والزهد والقناعة بالقليل مع أن في إمكانه أن يملك الدنيا بحذافيرها. والمطابقة: في قولها " وكانوا يمنحون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها " فإن المنحة نوع من أنواع الهبة. 710 - " باب القليل من الهبة " قال العيني: 1 - أراد به أن المهدي إليه بشيء قليل لا يستقله ولا يرده لقلته قلت: ولهذا ساق الحديث الآتي ليستدل به على ما ترجم له. 810 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت " الذراع هو ساعد الشاة، والكراع ما دون الركبة من الشاة أو البقرة، وهو ما تسميه العامة (بالمقدم). معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتأخر عن إجابة أي دعوة   (1) كالأقارب مثلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 711 - " بَابُ ما لا يُرَدُّ مِنَ الْهَدِيَّة " 811 - عن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيْبَ".   وحضورها والأكل من الطعام الذي يقدم له، سواء كان هذا الطعام كثيراً أو قليلاً، وسواء كان هذا الطعام طعاماً فاخراً نفيساً أو لم يكن كذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يرفض أي هدية تقدم إليه ولو كانت يسيرة. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد. فقه الحديث: أن من السنة إجابة الدعوة، والأكل من طعامها وقبول الهدية، ولو كان الطعام والهدية لا قيمة لهما. وهذا معنى تمثيله - صلى الله عليه وسلم - بالكراع والذراع، قال الحافظ: وخصَّ الذراع والكراع بالذكر ليجمع بين الحقير والخطير، لأن الذراع كانت أحب إليه من غيرها، والكراع لا قيمة له، وفي المثل: أعط العبد كراعاً يطلب منك ذراعاً، قال ابن بطال: أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى الحض على قبول الهدية، ولو قلت. اهـ. وذلك لما فيه من التواضع وجبر خاطر المهدي ومراعاة شعوره حتى لا يتألم نفسياً بالرفض فيكون ذلك إيذاءً له. والمطابقة: في قوله " ولو أهدي إليه ذراع أو كراع لقبلت ". 711 - " باب ما لا يرد من الهدية " 811 - قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرد الطيب ". إلخ. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أهدي إليه الطيب يقبله، ولا يرده على صاحبه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الروائح الزكية والعطور الشذية، ويرغبها كثيراً لأنه يناجي الملائكة، وهي تحبها بطبيعتها، وقد أوصى - صلى الله عليه وسلم - أمته بقبول هدية الطيب، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من عرض عليه طيب فلا يرده لأنه خفيف المحمل، طيّب الرائحة " أخرجه أبو داود والنسائي، وفي حديث آخر: "ثلاثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 712 - " بَابُ الْمُكَافَأةِ في الْهِبَةِ " 812 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيثيْبُ عَلَيْهَا ".   لا ترد الوسائد والدهن واللبن" أخرجه الترمذي، وقال: يعني بالدهن الطيب. اهـ. كما أفاده الشرقاوي وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب قبول الهدية عامة، والطيب خاصة لحسن رائحته وخفة مؤونته، لأنه لا تكليف فيه على مهديه، والطيب كما قال ابن القيم: غذاء الروح، وله تأثير في حفظ الصحة، ودفع كثير من الآلام. والمطابقة: في قوله " لا يرد الطيب ". 712 - " باب المكافأة في الهبة " 812 - قولها رضي الله عنها: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها ". معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يراعي مشاعر الناس، ويقدر عواطفهم فلا يرد أي هدية تقدم إليه مهما كانت يسيرة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت "، لأنه يعلم أن صاحبها لم يهدها إليه إلاّ تعبيراً عما يكنه له من محبة ومودة فكيف يردها إليه، أليس من مقابلة الإِحسان بالإِحسان ومواجهة المشاعر الطيبة بمثلها قبول الهدية تطييباً لنفس مهديها، ْفهو - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية جبراً لخاطر صاحبها ولئلا يسيء إليه بردها مع أنه عبر له عن محبته بإهدائها. " ويثيب عليها " أي يكافىء عليها بأعظم منها، ليقابل المعروف بأكثر منه، وتلك شيمة الكرام. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يستحب قبول الهدية، والمكافأة عليها لهذا الحديث، حيث قال: " ويثيب عليها " أي يقبلها ويكافىء عليها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 713 - " بَابُ الْهِبَةِ لِلْوَلَدِ، وِإذَا أعْطَى بَعضَ وَلَدِهِ شَيْئَاً لَمْ يَجُزْ حتى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ ويُعْطِيَ الآخرِيْنَ مِثلَهُ " 813 - عَنِ النّعْمَانِ بْنِ بَشِير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن أَبَاهُ أتى بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاماً، فَقَالَ: " أكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فارْجِعْهُ ".   وفي رواية ابن أبي شيبة: " ويثيب ما هو خير منها ". قال الخطابي: من العلماء من جعل أمر الناس في الهدية على ثلاث طبقات. (أ): هدية الرجل من دونه كالخادم ونحوه، إكراماً له، وذلك غير مقتض ثواباً (ب): هدية الصغير للكبير رفدٌ ومنفعة، والثواب فيها واجب. (ج): هدية النظير للنظير، والغالب فيها التودد والتقرب، وقد قيل: إن فيها ثواباً. واستدل بعض المالكية بهذا الحديث على وجوب الثواب على الهدية إذا أطلق الواهب، ممن يطلب مثله الثواب. كالفقير للغني، وبه قال الشافعي في القديم: وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: الهدية للثواب باطلة لا تنعقد، لأنها بيع بثمن مجهول. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأبو داود. والمطابقة: في قوله " ويثيب عليها ". 713 - " باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئاً لم يجز حتى يعدل بينهم ويعطي الآخرين مثله " 813 - " عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً " إلخ. معنى الحديث: أن بشير بن سعد الأنصاري كان له عدة أبناء، وكان ابنه النعمان محظوظاً عنده، فوهب له غلاماً من غلمانه، وخصه بهذه العطية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 دون بقية إخوانه، فأرادت أمه عمرة بنت رواحة أن توثق وتؤكد هذه الهبة وتثبتها بالبينة والشهود، حتى لا يستطيع أحد إبطالها، فقالت لزوجها كما في رواية أخرى للبخاري: " لا أرضى حتى يشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وغرضها من ذلك تثبيت العطية، عند ذلك " أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا " أي أعطيت ابني هذا وهو النعمان " غلاماً " أي عبداً من عبيدي، وفي الرواية الأخرى قال: " إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله " فقال: " أكل ولدك نحلت مثله؟ " وفي رواية مسلم: " كلهم وهبت لهم مثل هذا " " قال: لا، قال: فأرجعه "، أي فاسترجع هبتك هذه لما فيها من ظلم الآخرين من أبنائك، وأبى - صلى الله عليه وسلم - أن يتم هذه المعاملة، أو يشهد عليها وعد ذلك جوراً، كما جاء مصرحاً به في رواية ابن حبان والطبراني أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا أشهد على جور "، وفي رواية لمسلم: " فإني لا أشهد على جور ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب المساواة بين الأبناء في جميع الحقوق المالية، وعدم تخصيص بعضهم بهدية أو هبة أو عطية دون الآخرين، لما يترتب على ذلك من زرع العداوة والبغضاء في نفوسهم، وقطع الصلات الودية بينهم، ولما في ذلك من الظلم والإِجحاف بحقوق الآخرين، وقد تمسك بهذا الحديث من أوجب التسوية في العطية بين الأولاد، وبه صرح البخاري، وهو مذهب طاووس والثوري وأحمد بن حنبل وبعض المالكية، وقالوا: إن التفضيل بينهم باطل، وجورٌ، واستدلوا على ذلك بحديث الباب، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء " وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة (1) والتفضيل مكروه فقط، وإن فعل   (1) " فقه السنة " ج 2 دار الفكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 ذلك نفذ، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة منها: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال أبيه، حكاه ابن عبد البرّ. وتعقب بأن الكثير من طرق الحديث مصرحة بالبعضية كما في حديث مسلم حيث قال: " تصدق علي أبي ببعض ماله ". ومنها: أن قوله: " ارجعه " دليل الصحة، ولو لم تصح الهبة لما صح الرجوع، قالوا: وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهب لولده، وتعقبه " الحافظ " بأن معنى قوله: " ارجعه " أي لا تمض الهبة المذكورة ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة. ومنها: أنه قد ثبت عن الصديق أنه نحل ابنته عائشة، وروى الطحاوي عن عمر أنه نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين، وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوانها كانوا راضين، قال الحافظ: ويجاب بمثل ذلك في قصة عاصم. ومنها: أن الإِجماع انعقد. على جواز عطية الرجل لغير ولده فجوازه للولد أولى، وأجاب عنه الحافظ بأنه قياس مع النص وهو باطل. قال ابن قدامة: يجب (1) على الإنسان التسوية بين أولاده في العطية إذا لم يختص أحدهم بمعنى يفيد التفضيل، فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين: إما ردّ ما فضل به البعض، وإما إتمام نصيب الآخر. قال طاووس: لا يجوز ذلك ولا رغيف محترق، وبه قال ابن المبارك. وروي معناه عن مجاهد وعروة، وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء. وقال مالك والليث والثوري والشافعي وأصحاب الرأي: ذلك جائز لأن أبا بكر رضي الله عنه نحل عائشة جذاذ عشرين وسقاً دون سائر ولده. واحتج الشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أشهد على هذا غيري " حيث أمره بتأكيدها دون الرجوع فيها، ولأنها عطية تلزم بموت الأب، فكانت جائزة كما لو ساوى بينهم. قال ابن قدامة: ولنا ما روى النعمان بن بشير   (1) " المغني " ج 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 رضي الله عنهما قال: تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقته، فقال: " أكل ولدك أعطيت مثله "، قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال فرجع أبي فردّ تلك الصدقة، وفي لفظ " فاردده " وفي لفظ " فارجعه " وفي لفظ " لا نشهد على جور " وفي لفظ " سوِّ بينهم " وهو حديث صحيح متفق عليه، وفيه دليل على التحريم، لأنّه سماه جوراً وأمر بردّه وامتنع عن الشهادة عليه، والجور حرام، والأمر يقتضى الوجوب - وتفضيل بعضهم على بعض يورث العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه كتزوج المرأة على عمتها أو خالتها، وفعل أبي بكر لا يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتجُّ به معه، ويحتمل أنّ أبا بكر رضي الله عنه خصها بعطية لحاجتها وعجزها عن الكسب والتسبب فيه مع اختصاصها بفضلها، وكونها أم المؤمنين زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، ويحتمل أنه قد نحلها ونحل غيرها من ولده، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت قبل ذلك، ويتعين حمل هديته على هذه الوجوه، لأن حمله على مثل محل النزاع منهي عنه، وأقل أحواله الكراهة، والظاهر من أبي بكر اجتناب المكروهات وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " فاشهد على هذا غيري " ليس بأمر، لأن أدنى أحوال الأمر الندب والاستحباب، ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده (1) مع أمره برده وتسميته جوراً، وحمل الحديث على هذا حملٌ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - على التناقض والتضاد. قال ابن قدامة: فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه مثل اختصاصه بحاجة، أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه   (1) أي بتأكيده بالإشهاد عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 714 - " بَابُ هِبَةِ الْمَرأةِ لِغيْرِ زَوْجِهَا وَعِتْقِهَا إِذَا كَانَ لَهَا زوْجٌ فَهُوَ جَائِز إذَا لَمْ تكُنْ سَفِيهَةً " 814 - عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:   فيها، فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقوف لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معناه. قال ابن قدامة: ويحتمل ظاهر لفظه المنع من التفضيل والتخصيص على كل حال، لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل بشيراً في عطيته والأوّل أولى إن شاء الله لحديث أبي بكر، ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها، وحديث بشير قضية في عين لا عموم لها، وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال (1). اهـ. ثانياً: مشروعية الإِشهاد في الهبة لاثباتها وتوثيقها وتأكيدها قال العيني: وفيه أن الإِشهاد (2) في الهبة مشروع وليس بواجب ولا تتوقف عليه صحة الهبة شرعاً، لأنه ليس ركناً من أركانها، والإِشهاد وإن لم يصرح به في حديث الباب، فقد صرح به في الروايات الأخرى، وكلها حول قصة واحدة، وقد قال في حديث الباب " إنّ أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إني نحلت ابني هذا غلاماً " ومعناه أنه أخبره - صلى الله عليه وسلم - بإعطاء الغلام له لِيُشْهِدهُ على ذلك كما جاء في الروايات الأخرى، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً عليها. 714 - " باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة "   (1) " المغني " لابن قدامة ج 6 مكتبة القاهرة. (2) " شرح العيني " ج 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 أنَّهَا أعتقت وَلِيدَةً ولمْ تَسْتَأذِنْ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الذي يَدُورُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: أشَعَرْتَ يا رَسُولَ اللهِ أَني أعْتَقْتُ وَلِيدَتِي، قَالَ: " أَوَفَعَلْتِ؟ " قَالَت: نَعَمْ، قَالَ: " أمَا إِنَّكِ لَوْ أعطَيْيهَا أخْوَالَكِ كانَ أعْظَمَ لأجْرِكِ ".   يعني أن هبة المرأة لغير زوجها بدون إذنه صحيحة نافذة، وكذلك عتقها جاريتها إذا كانت رشيدة، أما إذا كانت سفيهة فلا يصح ذلك منها. 814 - قولها رضي الله عنها: " أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". معنى الحديث: أن أم المؤمنين ميمونة أعتقت جارية لها دون أن تخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تستأذنه في عتقها، فلما كان يوم نوبتها " قالت: أشعرت أني أعتقت وليدتي قال: أوفعلت؟ " أي قالت له: أعلمت أني أعتقت جاريتي، فقال لها: هل أعتقتيها؟ ولم ينكر عليها أنها أعتقت بدون إذنه إلّا أنه " قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك " ومعناه: حسناً ما فعلت، إلاّ أنك لو وهبتها لأخوالك من بني هلال لكان ذلك أفضل وأكثر ثواباً لما فيه من صلة الرحم. وهذه الجملة الأخيرة هي موضع الترجمة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للمرأة إذا كانت رشيدة أن تتصرف في مالها بالهبة لغير زوجها، وبالعتق ولو بدون إذنه، لأن ميمونة تصرفت في وليدتها - فأعتقتها بدون إذنه - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك "، فدل ذلك على أنّها لو وهبت جاريتها لغيره لكانت هبتها جائزة صحيحة، ولو بغير إذنه، وهو مذهب الجمهور، وقال مالك: لا يجوز لها أن تتصرف بدون إذنه إلاّ في ثلث مالها، كما أفاده العيني. أما هبة الرجل لزوجته أو الزوجة لزوجها فإنها صحيحة نافذة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 715 - " بَابُ قَبولِ الْهَدِيَّة مِنَ الْمُشْرِكِينَ " 815 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أهْدَى إِلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ".   لا يجوز الرجوع فيها عند الجمهور، وقالت المالكية: إذا ادّعت الزوجة: أن الزوج خدعها أو أكرهها على هذه الهبة رجعت في هبتها لما رواه عبد الرزاق والطحاوي عن محمد بن سيرين أن امرأة وهبت لزوجها هبة ثم رجعت فيها فاختصما إلى شريح فقال للزوج: شاهداك أنّها وهبت لك من غير إكراه وهوان، وعن عبد الرزاق بسند منقطع عن عمر: أنه كتب أن النساء يعطين رغبة فأيما امرأة أعطت زوجها فشاءت أن ترجع رجعت. ثانياًً: أن الأعمال تتفاضل في الثواب بحسب ما يترتب عليها من المنفعة، ولهذا قال لميمونة: " لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك "، ففضل - صلى الله عليه وسلم - هبة هذه الأمة على العتق الذي فيه تحرير النفس، لما يترتب على الهبة من انتفاع أقاربها " الفقراء " بها، ولما فيه من صدقة وصلة رحم. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أقرّ ميمونة على عتق جاريتها بدون إذنه، وقال لها: " لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك ". وهذا يدل على جواز عتق المرأة جاريتها أو هبة شيء من مالها لغيره بدون إذنه، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 715 - " باب قبول الهدية من المشركين " 815 - قوله: " إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1) إلخ. معنى الحديث: أن أكيدر بضم الهمزة وكسر الدال، ابن عبد الملك كان ملكاً نصرانياً على دومة الجندل بضم الدال "وهي مدينة بقرب تبوك، بها نخل فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد في سرية فقاتله وقتل أخاه،   (1) ذكره البخاري معلقاً، فقال: وقال سعيد (يعني ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس) وقد وصله أحمد. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 716 - " بَابُ الْهَدِيَّة لِلْمُشْرِكِينَ " 816 - عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: "قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهِيَ مُشْرِكَة في عِهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَفْتَيْتُ   وقدم به إلى المدينة أسيراً، فصالحه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهدى أكيدر للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبَّة من سندس، وهو مارقّ من الديباج، فعجب الناس منها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا "، وفي رواية أنه لما قدم أخرج قباءً من ديباج منسوجاً بالذهب فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، ثم إنه وجد في نفسه (1) من رد هديته فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ادفعه إلى عمر، وفي رواية مسلم " أن أكيدر دومة أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب حرير، فأعطاه علياً فقال شققه خمراً بين الفواطم ". الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأحمد موصولاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز قبول هدية الكافر، لأن أكيدر كان نصرانياً، وقد قبل منه - صلى الله عليه وسلم - هديته، وعن علي رضي الله عنه أن كسرى أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل، وأهدت له الملوك فقبل منها، أخرجه الترمذي وأحمد، وعن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي أنه قال: لما قدم وفد ثقيف قدموا معهم بهدية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أهدية أم صدقة، قالوا: بل هدية فقبلها منهم " أخرجه النسائي. وعن أنس " أن ملك ذي يزن أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حلة فقبلها " أخرجه أبو داود. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية أكيدر وهو نصراني، فدل على قبول هدية المشركين. 716 - " باب الهدية للمشركين " 816 - معنى الحديث: " تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها:   (1) "فتح الباري" ج 5 "إرشاد الساري" ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: إِنَّ أمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغبَةٌ أفَأَصِلُ أمِّي؟ قَالَ: " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ ".   " قدمت عليَّ أمي وهي مشركة " أي جاءت إليَّ أمي من النسب والولادة على الأصح لا من الرضاعة، وذلك لما رواه عبد الله بن الزبير في حديثه قال: قدمت قتيلة على بنتها أسماء بنت أبي بكر من مكة -وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية- بهدايا وزبيب وحسن وقرظ فأبت أسماء أن تقبل هديتها، أو أن تدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة سلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لتدخلها، واختلفوا في اسمها فقيل قُتيلة بضم القاف وفتح التاء وقال الزبير بن بكار: قَتْلة بفتح القاف وسكون التاء والصحيح الأول " في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي في المدة التي ما بين صلح الحديبية وفتح مكة، أو في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي " أي فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقلت: قدمت عليَّ أمي وهي لا تزال على كفرها، وهي راغبة، أي راغبة في بر ابنتها، أو مؤملة طامعة في أن أصلها وأحسن إليها بالهبات والهدايا وحسن الضيافة والقِرى " أفأصل أمي " بضيافتها وإهدائها " قال: نعم صليها " ولو كانت كافرة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الهدية للمشركين لا سيما إذا كانوا من ذوي القربى. ثانياً: مشروعية صلة الرحم الكافرة كالرحم المسلمة (1). ثالثاً: استدل به بعضهم على وجوب النفقة للأب الكافر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله " نعم صلي أمك ".   (1) " شرح العيني " ج 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 717 - " بَابُ لَا يَحِل لِأحَدٍ أنْ يَرْجِعَ في هِبَتِهِ " 817 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ في هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ في قَيْئهِ ".   717 - " باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته " 817 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس لنا مثل السوء " أي لا ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نرتضي لأنفسنا مثل السوء، بأن نتصف بتلك الصفة الذميمة التي لا توجد إلا في أخس الحيوانات وأقذرها وهو الكلب " الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه " أي فإن الشخص الذي يرجع في هبته التي يعطيها لغيره، هو كالكلب الذي تسمح له نفسه الدنيئة، وطبيعته القذرة في استرجاع قيئه، فالإنسان الذي يعود في هديته كأنما استعاد قيئه، وزاد أبو داود قال همام: قال قتادة: " ولا نعلم القيء إلاّ حراماً " أي ولا نعلم عودة المرء في قيئه إلا حراماً. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " ليس لنا مثل السوء ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من الأفعال الذميمة والتصرفات الدنيئة التي تنافي المروءة ولا يرتضيها الطبع السليم أن يرجع المرء في هبته، وقد احتج به الشافعية والحنابلة على تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى ذلك مثل سوء، وقال: " ليس لنا مثل السوء " أي لا ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتصف بهذه الصفة الذميمة، ولهذا قال ابن بطال: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجوع في الهبة كالرجوع في القيء، وهو حرام، فكذا الرجوع في الهبة. وقال أبو حنيفة: للواهب الرجوع في هبته ما دامت قائمة، وكان الموهوب أجنبياً ولم يعوضه منها لحديث ابن عمر أنّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 718 - " بَابُ مَا قِيلَ في الْعُمْرَى والرُّقْبَى " 818 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "قَضَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِالْعُمْرَى أنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ".   النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها " (1) وأجاب عن حديث الباب بأن التشبيه من حيث أن الرجوع في الهبة أمر ظاهر القبح مروءة وخلقاً لا شرعاً، لأن الراجع في القيء هو الكلب لا الرجل والكلب غير متصف بتحريم أو تحليل. 718 - " باب ما قيل في العمرى والرقبى " والعمرى: نوع من الهدية، وهي أن يهب الإِنسان إنساناً آخر شيئاً مدى عمره أي على أنه إذا مات الموهوب له عاد الشيء للواهب، وتكون بلفظ أعمرتك هذا الشيء - أي جعلته لك مدة عمرك، ويسمى القائل مُعْمِراً، والقول له مُعْمَراً، والرقبى: أن يقول لصاحبه أرقبتك داري إن مت قبلي رجعت إليَّ وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك، وسميت رقبى لأنّ كل واحد منهما يرقب موت صاحبه، قال الحافظ: ترجم البخاري بالرقبى ولم يذكر إلّا الحديثين الواردين في العمرى، وكأنه يرى أنهما متحدا المعنى، وهو قول الجمهور. اهـ. 818 - قول جابر رضي الله عنه: " قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى أنها لمن وهبت له ". معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في العمرى أنها تكون هبة مملوكة لمن أعمرت له، لا تعود إلى المعمر بحال من الأحوال، وإنما تكون ملكاً للمُعْمَرِ في حياته وملكاً لورثته من بعده. الحديث: أخرجه الستة.   (1) أخرجه الحاكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية العمرى وجوازها، وصحتها ونفاذها شرعاً، لقوله رضي الله عنه: قضى في العمرى، وقضاؤه فيها دليل مشروعيتها وصحتها، وأنها من المعاملات والعقود الشرعية. قال الحافظ: وذهب الجمهور إلى صحة العمرى إلاّ ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس وما روي عن داود، لكن ابن حزم قال بصحتها، وهو شيخ الظاهرية، قال الحافظ: ومنع الرقبى مالك وأبو حنيفة ومحمد، ووافق أبو يوسف الجمهور، وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً العمرى والرقبى سواء، والجمهور على أن العمرى والرقبى جائزان. ثانياًً: أن العمرى تكون هبة مملوكة لمن أعمرت له، ولعقبه من بعده، فمن أعمر بستاناً لشخص فقد وهبه إياه وملكه له ولأولاده من بعده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الباب- قضى بأنها لمن وهبت له، وفي رواية مسلم: لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، وفي رواية أخرى له عن الزهري، فقد قطع قوله حقه، وهي لمن أُعْمِر ولعقبه، فلو قال: إن مت عاد إليَّ أو إلى ورثتي صحت الهبة (1) وألغي الشرط، لأنه فاسد لِإطلاق الحديث، وعليه العمل عند أكثر أهل العلم، يرون أن العمرى تمليك للرقبة خلافاً لمالك. قال في " الإفصاح " واختلفوا في العمرى فقال أبو حنيفة (2) والشافعي وأحمد: العمرى تملك الرقبة، فإذا أعمر رجلاً داراً فقال: أعمرتك داري هذه، أو قال: جعلتها لك عمرك أو عمري سواء، قال: المعمر للمعمر هي لك ولعقبك أو أطلق، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا يعود إلى المعمر شيء وقال مالك: هي تمليك المنافع، فإذا مات المعمر رجعت إلى المعمر، وإن ذكر في الإِعمار عقبه رجعت   (1) " شرح القسطلاني " ج 4. (2) " الإفصاح " ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 إليهم، فإن انقرض عقبه رجعت إلى المعْمرِ، فإن أطلق لم ترجع إليهم، بل إلى المعمر، فإن لم يكن المعمر موجوداً عادت إلى ورثته، وحاصل ما ذكر في العمرى أنها ثلاثة أنواع: إما أن تؤبد كقولك: لك ولعقبك، أو تطلق كقولك: هي لك عمري أو عمرك، وجمهور العلماء على صحة هذين النوعين وأن كلاً منهما هبة مؤبدة، وقال مالك إن أطلقها عادت إليه، وإن أبّدها كانت هبة مؤبّدة، والصورة الثالثة أن يشترط الواهب الرجوع إليه بعد موت المُعْمَرِ فالشرط نافذ صحيح عند جماعة من العلماء (1) منهم الزهري ومالك وداود وأحمد في رواية اختارها ابن تيميّة، وذهب الباقون إلى إلغاء الشرط ولزوم الهبة، واستدل المالكية على رجوع العمرى إلى صاحبها بعد وفاة المعمر بأدلة: منها: ما رواه مالك في " الموطأ " عن نافع أن حفصة كانت قد أسكنت بنت زيد بن الخطاب دارها ما عاشت، فلما توفيت بنت (2) زيد قبض عبد الله بن عمر المسكن ورأى أنّه له، والإِسكان معناه هنا العمرى، ومنها: القياس، قال الباجي (3): ودليلنا من جهة القياس أن تعليق الملك بوقت معين يقتضي تمليك المنافع دون الرقبة لأن تعليق الملك يمنع ملك الرقبة. وأجابوا عن حديث الباب بأن معناه: إذا قال في العمرى هي لك ولعقبك، فإنها لمن وهبت له، لما جاء في رواية " الموطأ " عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذى يعطاها، لا ترجع إلى الذى أعطاها أبداً لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث " أخرجه مسلم، ومالك في " الموطأ " والأحاديث يفسر بعضها بعضاً. ثالثاً: أن البخاري ذكر في الترجمة " الرُّقبى " مع أنه ليس في الأحاديث التي أخرجها أي ذكر لها، ولكنه يرى أن العمرى والرقبى يرجعان إلى معنى واحد، وهو الهبة المؤبدة، كما   (1) " تيسير العلام " ج 2. (2) " موطأ مالك ". (3) " شرح الباجي على الموطأ " ج 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 719 - "بَابُ الاسْتعَِارَةِ لِلْعَرُوس عِنْدَ الْبِنَاءِ " 819 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا دَخَلَ عَلَيهَا أيْمَنُ وعَليْهَا دِرْعُ قِطرٍ ثَمَنُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَقَالَتْ: ارْفَعْ بَصَرَكَ إلى جَارِيتي انْظرُ إِلَيْهَا فَإِنَّها تُزْهَى أنْ تَلْبَسَهُ في الْبَيْتِ، وَقَدْ كانَ لي مِنْهُنَّ دِرْعٌ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَا كَانَتْ امْرَأة تُقَيَّنُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أرْسَلتْ إِليَّ تَستَعِيرُهُ.   عليه أكثر أهل العلم، وعن الحنفية أن التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفي الرقبى إلى المنفعة، وقال في " الإِفصاح " (1) قال أبو حنيفة: تبطل الرقبى المطلقة، وصفتها أن يقول: هذه الدار رقبى. اهـ. أما مالك، فإن صفة الرقبى الحائزة عنده أن يقول: هي لك حياتك، قال الزرقاني (2): فهي جائزة، وهي بهذا التفسير بمعنى العمرى - أي أنها تمليك للمنافع مدة حياة الشخص. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. 719 - " باب الاستعارة للعروس عند البناء " 819 - قولها رضي الله عنها: " أنه دخل عليها أيمن وعليها درع من قطن ". معنى الحديث: أن أيمن الحبشي رضي الله عنه راوي الحديث دخل على عائشة رضي الله عنها وعليها ثوب يمني غليظ خشن، فقالت له: إن هذا الثوب الذي تتكَبَّرُ وتتَرَفَّعُ جاريتي أن تلبسه اليوم في البيت كان في ثوب مثله في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يفتخر) النساء بلبسه في أعراسهن حتى أنه "ما   (1) " الإفصاح " ج 2. (2) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 720 - " بَابُ فضلِ المنِيْحَةِ " 820 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أرْبَعُونَ خَصْلَةً أعْلاهُنَّ مَنِيحَةُ العَنْزِ، ما مِنْ عَامِل يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوابِهَا، وتَصْدِيْقَ مَوْعُودِهَا إلَّا أدخَلَهُ اللهُ بِهَا الْجَنَّةَ ".   كانت امرأة تُقيَّن" بضم التاء وتشديد الياء المفتوحة أي ما كانت امرأة تلبسُ وتُزَيَّنُ وَتُزَفُّ عروساً لزوجها " إلاّ وأرسلت إليّ تستعيره " لتلبسه في عرسها لما كانوا عليه من التقشف وضيق المعيشة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية إعارة الثياب، واستعارتها، وكذلك غيرها من الحلي والجواهر النفيسة للعروس وغيرها. ثانياًً: ما كان عليه أصحاب رسول الله من فقر وضيق وتقشف في الطعام واللباس والسكنى حتى أن أقل الملابس قيمة كان عندهم من الثياب النفيسة التي يتجملون بها في أعراسهم، ثم إنهم سرعان ما أقبلت عليهم الدنيا حتى إنّه لم ينته القرن الأول الهجري إلاّ وقد أصبحت هذه الملابس يأنف الإماء لبسها في البيوت فضلاً عن السيدات. والمطابقة: في قول عائشة: " ما كان امرأة تُقَيَّنُ إلاّ وأرسلت إلي تستعيره ". 720 - " باب فضل المنيحة " 820 - قوله - صلى الله عليه وسلم - " أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ". إلخ. معنى الحديث: أن هناك أربعين خصلة من خصال الإِيمان والبرِّ والإحسان، ما من مسلم يحافظ على خصلة منها، ويداوم عليها مبتغياً من وراء ذلك رضا الله تعالى، راغباً في ثوابه، موقناً كل اليقين بما وعد الله العاملين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 بها من عظيم المثوبة والأجر، مخلصاً في عمله، إلاّ أدخله الله الجنة مع السابقين الأولين. ومن هذه الخصال إطعام الجائع، وسقي الظمآن، وبدء السلام، وطلاقة الوجه، وستر المسلم، وإعانة المحتاج، والتفسح في المجالس، وتفريج هموم الناس، وإدخال السرور على نفوسهم، وغرس الشجر وعيادة المريض، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن أفضل هذه الخصال وأرفعها درجة عند الله فقال: " أعلاهن منيحة العنز " أي أفضل هذه الأعمال وأكثرها ثواباً " منيحة العنز " أي إعارة العنز للمسلم ليشرب من لبنها مدة وجود اللبن فيها، فإذا انقطع لبنها أعادها إلى صاحبها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية منيحة العنز واستحبابها. قال في " المنهل العذب ": والمراد بها ذات اللبن من العنز تعار ليؤخذ لبنها، ثم ترد على صاحبها، ويقاس عليها منيحة الإِبل والبقر، ثانياً: الترغيب في منيحة العنز وكونها من أفضل أعمال الخير التي تبلغ أربعين خصلة، قال في " المنهل العذب ": فقد أبلغها بعضهم أربعين فأكثر منها، وقال ابن المنير، الأولى أن لا يعتنى بعدها لعدم عدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. والمطابقة: في قوله: " أعلاها منيحة العنز ". الحديث: أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الشهادات " الشهادة: عُرفت بتعريفات كثيرة ترجع أكثرها إلى أن الشهادة هي الإخبار بخبر قاطع عن شيء معين، أي عن صحة ذلك الشيء أو بطلانه وعن وقوعه أو عدمه، بشرط أن يستند ذلك الإِخبار إلى علم يقيني من مشاهدة ومعاينة أو سماع، أو استفاضة فيما يتعذر علمه، فلا يحل لأحد أن يشهد إلّا عن علم يستند إلى ما ذكر. وتصح الشهادة بالاستفاضة عند الشافعية في النسب والولادة والموت والعتق والولاية والوقف والعزل والنكاح والولاية والتعديل والتجريح والوصية والرشد والسن والملك. وقال أبو حنيفة: تجوز في خمسة أشياء النكاح، والدخول، والنسب، والموت، وولاية القضاء. وقال أحمد وبعض الشافعية: تصح في سبعة: النكاح، والنسب والموت والعتق والولاء والوقف والملك. وشروط الشهادة سبعة: الأول: الإِسلام فلا تجوز شهادة الكافر إلاّ في الوصية أثناء السفر عند أبي حنيفة، وشهادة الذمي على المسلم في الوصية أثناء السفر عند أحمد والشافعي ومالك، وشهادة الكفار بعضهم على بعض عند الحنفية. الثاني: العدالة بحيث لم يجرب عليه الكذب ولا الخيانة ولا الفسق، ولم يتصف بشيء يخل بالمروءة (1). الثالث والرابع: البلوغ والعقل، والخامس: الكلام، وقال مالك: تصح شهادة الأخرس إذا كان له إشارة مفهومة. السادس: الحفظ والضبط، فلا تقبل شهادة كثير النسيان والسهو والغلط. السابع: نفي التهمة، فلا تقبل شهادة المتهم بمحبة أو عداوة، خلافاً للشافعي ولا تقبل شهادة الوالد لولده، ولا الولد لأبيه عند الجمهور، خلافاً لأحمد في رواية.   (1) والمروءة ترك ما يشين من الأقوال والأفعال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 721 - " بَابُ مَا قِيلَ في شَهادَةِ الزُّورِ " 821 - عَنِ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أُنَبِّئُكُمْ بَأكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " ثَلاثاً، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الإِشْرَاكُ باللهِ، وعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ " وَجَلَسَ، وَكَانَ مُتَّكِئَاً، فَقَالَ: " أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ " فما زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ.   721 - " باب ما قيل في شهادة الزور " 821 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً ". إلخ الكبائر: جمع كبيرة وهي كل معصية ترتب عليها حد في الدنيا أو عقوبة شديدة في الآخرة. و" ألا " استفهام، وتكرار لسؤال ثلاثاً للمبالغة في تنبيه السامعين إلى إلقاء السمع والإِصغاء لما يلقيه إليهم لأهميته. ومعنى الحديث: أن النبي حرصاً منه على نجاة أمته وسلامتهم وسعادتهم أراد أن يحذرهم عن أخطر المعاصي وأعظمها عند الله تعالى ليجتنبوها فيسلموا من غضب الله ويسعدوا بطاعته ورضاه، فقال لهم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً " وإنما وجه إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال أولاً وكرره عليهم ثلاث مرات، ليوجه أسماعهم إليه، ويحضّر قلوبهم لاستماع ما يلقيه إليهم حتى يكون أشد وقعاً على نفوسهم، وأعظم تأثيراً فيها، ولهذا قال لهم: ألا ترغبون أن أخبركم عن أعظم المعاصي عقوبة عند الله تعالى وكرر هذا السؤال ثلاث مرات " قالوا: بلى يا رسول الله " نريد أن تخبرنا عنها لنتجنبها وننجو من شرها، فأخبرهم أن أكبر الكبائر على الإطلاق ثلاثة أعمال " قال: الإشراك بالله " أي أولها الإِشراك بالله بأن يجعل لله شريكاً في ربوبيته أو ألوهيته أو صفاته، وهو الكبيرة الأولى التي لا تغتفر، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 بِهِ) ومن مات عليها كان مخلداً في النار كما قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) " وعقوق الوالدين " أي وثانيها عقوق الوالدين. أي الاساءة إليهما بالقول أو الفعل، لأنهما السبب الظاهري في وجود الإِنسان. وقد قرن الله تعالى حقهما بحقه في قوله تعالى: " (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فالإِساءة إليهما من أعظم أنواع الجحود ونكران الجميل، لأن إحسانهما وفضلهما لا يماثله أي إحسان في هذا الوجود، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقوق الوالدين من أعظم الكبائر " وجلس وكان متكئاً فقال: " ألا وقول الزور " فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " أي ولما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر أمته عن المعصية الثالثة التي هي من أكبر الكبائر وهي " شهادة الزور " اعتدل في جلسته بعد أن كان معتمداً على وسادة اهتماماً بما سيقوله من التحذير عنها " فقال: ألا وقول الزور " أي وانتبهوا فإن من أكبر الكبائر شهادة الزور وهي أن تشهد شهادة كاذبة مخالفة للواقع، قال الشرقاوي: وإضافة القول إلى الزور من إضافة الموصوف إلى صفته، والمراد به شهادة الزور، وفي رواية " ألا وقول الزور، وشهادة الزور " والعطف للتأكيد، ومعناه أن قول الزور وشهادة الزور شيء واحد. " قال: وما زال يكررها " أي يكرر قوله: ألا وقول الزور حتى قلنا ليته سكت " يعني تمنينا سكوته شفقة عليه. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحذيره - صلى الله عليه وسلم - الشديد لأمته عن شهادة الزور حيث لم يكتف بعدها من أكبر الكبائر، وإنما أضاف إلى ذلك مبالغته - صلى الله عليه وسلم - في الاهتمام بها، فاعتدل في جلسته، وكرر التحذير منها مرات كثيرة حتى قالوا: ليته سكت، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك إلاّ لشدة خطورتها، وعظم جُرْمِها وسهولة وقوعها، والتهاون بأمرها، وتعدي ضررها، وتطاير شررها حتى قالوا شهادة الزور تقضي على صاحبها في الدنيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 722 - " بَابُ شَهَادَةِ الأعْمَى " 822 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " تَهَجَّدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بَيْتي فَسَمِعَ صَوْتَ عَبَّادٍ يُصَلِّي في الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: " يا عَائِشَةُ أصَوْتُ عَبَّادٍ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْ عَبَّاداً ".   والآخرة. ثانياًً: أن الذنوب ثلاثة أنواع: صغائر، وكبائر، وأكبر الكبائر كما يدل عليه هذا الحديث: والمطابقة: في قوله " ألا وقول الزور ". 722 - " باب شهادة الأعمى " 822 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " تهجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، فسمع صوت عباد يصلي في المسجد " أي فسمع صوت عباد بن بشر رضي الله عنه وهو يتلو القرآن في صلاة التهجد " فقال: يا عائشة أصوت عباد " أي فغلب على ظنه أنه صوت عباد، وأراد أن يتأكد من ذلك، فسأل عائشة عنه قالت: " قلت: نعم " هو صوت عباد " قال: اللهم ارحم عباداً " فدعا له - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة الإِلهية التي تقتضي كثرة الإِحسان والإِنعام عليه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز شهادة الأعمى وصحتها اعتماداً على جماعه في كل ما يعرف بالسماع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عائشة عن الصوت الذي سمعه هل هو صوت عباد؟ واعتمد على إخبارها بأنه صوته، فدل ذلك على قبول شهادة الأعمى في المسموعات، وبه أخذ مالك وأحمد فقالوا: تجوز شهادته في النكاح والطلاق والبيع والإِجارة والنسب والوقف والإقرار سواء كان تحملها وهو أعمى، أو كان بصيراً ثم عمي، قال ابن القاسم: قلت لمالك: فالرجل يستمع من وراء الحائط، ولا يراه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 723 - " بَاب تعْدِيلِ النِّسَاءِ بَعْضهِنّ علَى بَعضٍ: - حَدِيث الإِفْكِ " 823 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أرَادَ أنْ يَخْرجَ سَفَراً أقْرَعَ بَيْنَ أزْوَاجِهِ، فَأيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَأقْرَعَ بَيْنَنَا في غَزَاةٍ غزَاهَا، فخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجت مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأنَا أحْمَلُ في هَوْدَج وَأُنزل فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ،   يسمعه يطلق امرأته فيشهد عليه، وقد عرف الصوت، قال مالك: شهادته جائزة. وقالت الشافعية: لا تقبل شهادته إلاّ في النسب، والموت، والملك المطلق. وقال أبو حنيفة: لا تقبل مطلقاً. ثانياًً: أن الدعاء بالرحمة لا يختص بالأموات. والمطابقة: في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة عائشة أن الصوت صوت عباد وهي لم تره. الحديث: أخرجه البخاري. 723 - " باب تعديل النساء بعضهن على بعض: حديث الإفك " أي هذا باب في بيان تعديل النساء بعضهن لبعض، أي تزكيتهن لبعضهن، والمراد بحديث الإِفك هذا، الحديث الذي تحدثت فيه السيدة عائشة رضي الله عنها عن تلك التهمة الباطلة والإِشاعة الكاذبة التي أشاعها الناس عنها فبرأها الله منها. 823 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه " أي أجرى بينهن قرعة، فأيتهن خرج سهمها صحبها معه، " فأقرع بيننا في غزاة " وهي غزوة بني المصطلق في رمضان سنة خمس من الهجرة " فخرج سهمي فخرجت معه " إليها "حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيلَةً بالرَّحِيل، فَقمْت حِينَ آذَنوا بالرحِيل فَمَشَيْت حَتَّى جَاوَزْت الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيت شَأنِي أقْبَلْت إِلَى الرَّحْل، فَلَمَسْت صَدْرِي فَإِذا عِقدٌ لي مِنْ جَزْعِ أظَفَارَ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْت فالتمسْت عِقْدِي فحبَسَنِي ابتغَاؤُهُ، فَأقبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلونَ لي، فاحْتَمَلوا هَوْدَجِي، فَرَحَلوه عَلَى بَعِيري الذي كُنْت أرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبونَ أنِّي فِيه، وكانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافاً لَمْ يَثْقُلْنَ، ولمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْم، وِإنَّما يَأكلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ   إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل" أي عاد من غزوته، " ودنونا من المدينة " أي اقتربنا منها " آذن بالرحيل " أي أعلن عن رحيله " فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني " أي فلما انتهيت من قضاء حاجتي " فإذا عقد لي من جزع أظفار " بالفتح، الخرز اليماني، اشتهرت بهذه العقود المنظومة من الخرز الأسود الذي فيه عروق بيضاء، " قد انقطع " أي فلما لمست صدري وجدت عقدي هذا قد انقطع " فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه " أي فعدت أبحث عن عقدي فأخّرني التفتيش عنه عن العودة إلى هودجي " فأقبل الذين يُرَحلون " (بضم الياء، وفتح الراء) أي فجاء الذين يشدون رحلي على بعيري " فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه " أي يظنون أنني موجودة داخل الهودج، ولم يشعروا بعدكم وجودي، لأن وجودي أو عدمه لا يؤثر في ثقل الهودج أو خفته بشيء ثم بينت سبب ذلك فقالت: " وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن " أي كن خفاف الأجسام، لم يثقلهن الشحم الكثير، والسمن الفاحش لأنهن لم يكن يأكلن كثيراً، ولا يتناولن الأطعمة الدهنية الدسمة إلاّ نادراً " وإنما يأكلن العُلقة من الطعام " بضم العين وسكون اللام، وهو القليل من الطعام، حيث كن يرين ثلاث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 الطَّعَامٍِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْم حِينَ رَفَعوة ثِقَلَ الْهَوْدَجِ، فاحْتَمَلوة، وكنْت جَارِيَة حَدِيْثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثوا الْجَمَلَ وَسَاروا، فَوَجَدْت عِقْدِي بَعْدَ ما اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فجِئْت منْزِلَهمْ وَلَيْسَ فِيهِ أحَدٌ، فَأمَمْت مَنْزِلي الَّذِي كُنْت فِيهِ، فَظَنَنْت أنَّهُمْ سَيَفْقِدونَنِي فيَرْجِعونَ إليَّ، فَبَيْنَا أنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت، وكَانَ صَفْوَان بْن الْمَعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ من وَرَاءِ الْجَيش، فَأصبَحَ عِنْدَ مَنْزلي، فَرَأى سَوَادَ إِنْسَان نَائِم فَأتانِي، وَكَانَ   أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيوتهن نارٌ " فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج " أي لم يلاحظوا خفة وزنه " وكنت جارية حديثة السن " أي صغيرة السن لم أكمل خمسة عشر عاماً " فبعثوا الجمل وساروا "، أي فأوقفوا الجمل وساروا به، وهم يظنون أني بداخله، " فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، أي بعدما قطع الجيش مسافة طويلة، " فجئت منزلهم، وليس فيه أحداً، أي فلما عدت إلى المكان الذي كان فيه الجيش إذا بي أفاجأ برحيلهم، وإذا هو بقعة خالية " فأممت منزلي الذي كنت فيه " أي فقصدت المكان الذي فيه هودجي " وظننت " أي علمت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ " فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي " أي غلبني النعاس، " وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني " بضم السين وفتح اللام، وبالذال المعجمة، وكان صحابياً فاضلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله على الساقة، فكان إذا رحل القوم قام يصلي، ثم اتبعهم فمن سقط له شيء أتاه به. أخرجه الطبراني، وكان يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب والأزواد، فيحمله ويقدم به فيفرقه في أصحابه " من وراء الجيش "، أي يتفقد مخلفاتهم بعد رحيلهم، فيوصلها إليهم " فأصبح عند منزلي " أي فكان في الصباح عند المكان الذي أنا فيه " فرأى سواد إنسان نائم " أي فأبصر شخص إنسان نائم، "فأتاني وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ باستِرْجاعِهِ حينَ أناخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِأ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللهِ بْن أُبَيِّ بْنُ سَلُولٍ، فقدِمْنَا المَدِينَةَ فاشْتَكَيْتُ بها شَهْراً والنَّاسُ يفيضُونَ مِنْ قَوْلِ أصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي في وَجَعِي أَنِّي لا أرَى مِنَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أمرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ   يعرفني قبل الحجاب"، أي فلما نظر إليَّ عرف أني عائشة، لأنه كان يعرفني قبل الحجاب، " فاستيقظت باسترجاعه " أي فاستيقظت من نومي على صوته وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، " حين أتاني في راحلته فوطأ يدها " أي داس على يدها ليقعدها " فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة " أي بعد ما نزلوا وقت الظهيرة ليستريحوا " فهلك من هلك " يعني فتورط من تورط في هذه القضية، وخاض في هذه التهمة الباطلة من حديث الإِفك. " وكان الذي تولى الإِفك عبد الله ابن أُبي بن سلول " أي وكان رأس هذه الجماعة الذي تبنى هذه التهمة الكاذبة على عائشة ودعمها وروج لها، وأشاعها هو عبد الله بن أُبي رئيس المنافقين، أما بقية أهل الإِفك فهم كما أفاده النسفي: يزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدوهم " فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً "، أي مرضت شهراً " والناس يفيضون في قول أصحاب الإِفك " أي يتحدثون في هذه الإِشاعة الكاذبة قالت: " ويرييني في وجعي أني لا أرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض " أي ومما بعث في نفسي الريبة والشك والإحساس الداخلي بأن هناك أمراً قد حدث، هو هذا التغير في معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لي حيث لم أعد أجد منه تلك المعاملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 فَيَقُولُ: كيْفَ تِيْكُمْ، لا أشْعُرُ بِشَيْءٍ من ذلكَ، حتَّى نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِع مُتَبَرَّزُنَا، لا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلاً إلى لَيْل، وذلكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذَ الكُنُفُ قَرِيباً مِن بُيُوتِنَا، وأمْرُنَا أمْرُ الْعَرَبِ الأوَلِ في البَرِّيَّةِ أو في التَّنزَهِِ فَأقْبَلْتُ أنَا وأمُّ مِسْطَح بنتُ أبي رُهْم نَمْشِي، فَعَثَرَتْ في مِرْطِهَا، ْ فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٍ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَمَا قُلْتِ: أتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً! فَقَالَتْ: يا هَنْتَاهْ، ألمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟ فَأخْبَرَتْنِي بقولِ أهْلِ الإِفْكِ فازْدَدْتُ مَرَضاً إلى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إلى بَيْتي، دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسلَّمَ، فَقَالَ: كَيفَ تِيْكُمْ، فقُلْتُ: إِئْذَنْ لي إلى   الرقيقة التي كنت أجدها منه إذا مرضت " ولا أشعر بشيء " أي ولا أعلم بسبب ذلك " حتى نقهت " أي حتى تماثلت للشفاء من مرضي، " فخرجت أنا وأم مسطح قِبل المناصع متبرزنا " (1) وهو موضع شرقي المدينة كانوا يتبرزون فيه " قبل أن تتخذ الكنف " أي قبل أن نتخذ المراحيض " وأمرنا أمر العرب الأول في البرية، أو في التنزه " أي وشأننا في قضاء الحاجة شأن العرب القدامى الذين يتبرزون في الخلاء، لا في البنيان " فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي فعثرت في مرطها " بكسر الميم كساء من صوف " فقالت تعس مسطح " دعت عليه بالتعاسة والخيبة " فقلت بئسما قلت " أي لقد قلت قولاً سيئاً ذميماً، لأن بئس من أفعال الذم " أتسبين رجلاً شهد بدراً!! " استفهام تعجبي إنكاري أي كيف تسبين رجلاً من أهل بدر، وهم الذين أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصفهم بالفضل والعاقبة الحميدة. " فقالت: يا هنتاه " أي يا هذه " ألم تسمعي ما قالوا: " من التهمة لك، ثم أخبرتها عما دار حولها من حديث الإفك قالت: " فأخبرتني بقول أهل الإفك "   (1) قال القسطلاني: أي هي متبرزنا، أي موضع قضاء الحاجة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 أبَوَيَّ، قَالَتْ وَأنَا حِينَئِذٍ أرِيدُ أنْ أسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، َ فَأتَيْتُ أبوَيَّ فَقُلْتُ لأُمِّي: مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي على نَفْسِكِ الشَّأنَ، فَوَاللهِ لقَلَّمَا بهَانَتْ امْرَأة قَط وَضيئَةٌ عِنْدَ رَجُل يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إلَّا أكْثَرْنَ عَلَيْهَا، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا، قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَة حَتَّى أصبَحْتُ لا يَرْقَأ لِي دَمْعٌ ولا أكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أصْبَحْتُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -   أي بما تكلموا به في عرضي. قالت عائشة: " فازددت مرضاً على مرضي " عندما علمت بما قذف الناس في عرضي، " فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم، فقال: كيف تيكم " أي كيف حال تلك يشير إلى عائشة، فسأل عنها بلهجة جافة فاترة، تختلف عن لهجته التي كان يتحدث بها سابقاً مع زوجته الحبيبة " فقلت ائذن لي إلى أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر " أي وإنما ذهبت إلى بيت أبي لأتعرّف من أبوي على حقيقة ما دار حولي من حديث الإِفك " فقلت لأمي: ما يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنية هوّني على نفسك الشأن " أي فأرادت أمها " أم رُومَان " تسليتها والتخفيف عنها، فقالت لها: لا تهتمي بالإِشاعة كل هذا الاهتمام، ولا تحزني كل هذا الحزن، وخففي عن نفسك من همومها وأحزانها، فلست أوّل امرأة حسناء قيل عنها ما قيل، بل قلما كانت امرأة جميلة محبوبة عند زوجها لها ضرائر يغرن منها إلاّ تحدثن عنها بما تكره، وهو معنى قولها " لقلما كانت امرأة قط وضيئة " أي جميلة لا عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها " أي إلاّ أكثرن عليها الأحاديث بما يسيء إليها " فقلت: سبحان الله " تعجباً مما سمعت " قالت: فبت تلك الليلة لا يرقأ لي دمع " أي فبت تلك الليلة كلها أبكي لا يكف لي دمع وقضيتها كلها ساهرة، لا أذوق طعم النوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْي يَسْتَشِيرهمَا في فِرَاقِ أهْلِهِ، فَأمَّا أسَامَة فَأشَارَ عَلَيْهِ بالَّذِي يَعْلَم في نَفْسِهِ مِنَ الْودِّ لَهمْ، فَقَالَ أسَامَة: أَهلُكَ يَا رَسولَ اللهِ ولا نَعْلَم وَاللهِ إِلَّا خَيْراً، وأمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يُضَيِّقِ الله "عَلَيْكَ، وَالنِّسَاء سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ فَقَالَ: يَا بَرِيرَة هَلْ رَأيْتِ فِيهَا شَيْئاً يرِيبُكِ؟ فَقَالَتْ بَرِيرَة: لا وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ إِنْ رَأيْت   من شدة ما أقاسيه من الهموم والأحزان، وكنت في حالة نفسية سيئة جداً لهول تلك الصدمة العنيفة التي فاجأتني. وفي رواية أخرى عن أم رومان، أن عائشة قالت لها: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم، وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرت مغشياً عليها، فما أفاقت إلاّ وعليها نافض أي مصحوبة برجفة ورعشة بدنية، وهو ما يسمى " النفاضة " " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أيى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي " أي عندما تأخر الوحي " يستشيرهما في فراق أهله " أي في طلاق عائشة " فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم " أي أما أسامة فتحدث عنهم بما يشعر به نفسياً من المودة لهم " فقال أهلك " أي فقال له: احفظ أهلك " ولا نعلم إلاّ خيراً " أي ولا نعلم عن سيرتها وسلوكها إلاّ الخير والصلاح، وأما علي فقال: يا رسول الله " لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير " وفي رواية قال له مسلياً له، مخففاً من همومه وأحزانه، قد أحل الله لك غيرها وأطاب، طلقها فانكح غيرها، قال ذلك لما رأى ما عنده - صلى الله عليه وسلم - من الغم والقلق " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: " يا بريرة هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟ " أي هل رأيت في سلوكها وتصرفاتها ما يبعث على الشك والريبة فيها؟ " فقالت: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت فيها أمراً أغمصه عليها " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 مِنْهَا أَمْرَاً أغمِصُهُ عَلَيْهَا أكْثَرَ مِنْ أنَّهُّا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنِ الْعَجِين فَتَأتِي الدَّاجِنُ فَتَأكُلَهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلْولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُل بَلَغَنِي أذَاهُ في أهْلِي، فوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي إِلَّا خَيْراً، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً ما عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْراً، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مَعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أنَا وَاللهِ أعْذِرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأوْس ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أمْرَكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُو سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلكنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ والله لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ   أي ما رأيت منها شيئاً يعيبها " أكثر من أنها جارية حديثة السن " أي فتاة صغيرة السن تغفل عن بعض الأمور " تنام عن العجين، تأتي الداجن فتأكله " أي فتأتي الشاة فتأكله " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي " أي من ينصرني عليه " وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً " أي وقد اتهموا أهلي برجل صالح، حسن السيرة والسمعة بين الناس " فقام سعد فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه " أي آخذ لك الحق منه " إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك " أي فنفذنا فيه أمرك، وعاقبناه بالعقوبة التي تريدها، " فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً " غير متهم في عقيدته " ولكن احتملته الحمية " أي غلبت عليه الأنفة والعصبية لقبيلته فعارض سعد بن معاذ " فقال: كذبت لَعَمْرُ الله والله لا تقتله، ولا تقدر على ذلك " لأنه رأى أنه ليس من حق سعد بن معاذ أن يتدخل في أمر يتعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 عَلى ذَلِكَ: فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: كَذَبتَ لَعَمْرُ الله، وَاللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِق تُجادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الأوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسكَتَ وَبَكَيْتُ يَوْمِي لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ ولا أكْتَحِلُ بِنَوْم، فأصْبَحَ عِنْدِي أبوَايَ قَدْ بَكَيْتُ لَيلَتَيْنِ ويَوْماً حَتَّى أظُنُّ أنَّْ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبدِي، قَالَتْ: فَبَيْنَما هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وأنا أبْكِي، إذ استأذَنَتِ امْرأةَ بن الأنْصَارِ فأذنتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَكَ إِذ دَخَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَلَس وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكَثَ شَهْراً لا يُوِحَى إلَيْهِ في شَأنِي شَيءٌ، قَالَتْ: فتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ فَإنهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَان كُنْتِ بَرِيْئَةً فسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وإنْ كُنْتِ   بالخزرج، وأن ذلك من اختصاصه هو، أو أن معنى لا تقتله لا تجد إلى قتله سبيلاً لمبادرتنا إلى قتله قبلك كما أفاده في " بهجة النفوس " " فقام أسيد ابن حضير فقال: كذبت لعمر الله لنقتلنه " أي تأكد وتحقق أنه لو أمرنا رسول الله بقتله قتلناه ولا نبالي ما يكون " فإنك منافق تجادل عن المنافقين " ولم يقصد بذلك وصفه بالنفاق حقيقة، وإنما قال ذلك للمبالغة في زجره، ثم إن هذا السباب لا يقام له وزن، لأنه صدر في حالة غضب، والغضب من الشيطان " فثار الحيان حتى هموا " بالقتال " فخفضهم " أي فهدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من غضبهم وثائرتهم " وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم " وقد تقدم شرحه " حتى أظن أن البكاء فالق كبدي " أي حتى غلب على ظني أن البكاء يشق كبدي " فبيما نحن كذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس " أي جلس عندي " ثم قال: يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 ألْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاسْتَغْفِرِي اللهَ وتُوبِي إِلَيْه، فإِنَّ الْعَبْدَ إِذا اعْترفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطرةً، وَقُلْتُ لِأبِي: أجب عَنِّي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَاللهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: لأمي أجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا قَالَ، قَالَتْ: واللهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: وأنَا جَارِيَة حَدِيثَةُ السِنِّ لا أقْرَأ كَثِيراً مِنَ القُرآنِ، فَقُلْتُ: إِني وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أنَّكُمْ سَمِعْتُمْ ما يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَر في أنْفُسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِني بَريئَة وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَة لَا تُصَدِّقُونِي بذَلِكَ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بَأمْر، واللهُ يَعْلَمُ أني بَرِيئَة لتصَدِّقُنِّي، واللهِ مَا أجَدُ لِي وَلَكُمْ   أي لقد أشاع عنك بعض الناس أنك فعلت كذا وكذا مع صفوان بن المعطل " وإن كنت ألممت " أي وإن كنت فعلت ذنباً، واقترفت خطيئة حقاً " فاستغفري الله وتوبي " أي فاعترفي بالذنب واستغفري الله وتوبي إليه " فإن العبد إذا اعترف بذنبه فتاب تاب الله عليه " لأنّ التوبة توجب المغفرة، ويتوب الله على من تاب. " فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي " أي فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديثه هذا جف دمعي لهول ما سمعت، وعند ذلك التفت إلى أبويّ استنجد بهم في الدفاع عني " قلت لأبي أجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والله ما أدرى ما أقول " لأن الصدمة النفسية كانت قاسية عنيفة غلبت عليه وعلى تفكيره، وأعجزت لسانه عن الإجابة، فهو في موقف يحار فيه أعظم الرجال ماذا يقول، وبماذا يجيب، إذا نظر هنا وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقامه فوق كل مقام، وإذا نظر هناك وجد عائشة ابنته الكريمة الشريفة الطاهرة المطهرة تتعرض لهذه التهمة الشنيعة، أمران يحق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 مَثَلاً إِلَّا أبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأنا أرجُو أن يُبَرِّئَنِي اللهُ، وَلَكِنْ واللهِ مَا ظَنَنْتُ أنْ يُنْزِلَ في شَأنِي وَحْياً، ولأنَا أحْقَرُ في نَفْسِي مِنْ أنْ يَتَكَلَّمَ بالْقُرْآنِ في أمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في النَّوْمِ رُؤيَا تُبَرِّئُنِي، فَوالله مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى   للمرء أن يقول أمامهما لا أدري ما أقول " قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن " أي لا أحفظ الكثير منه، ولكنني أفقه معانيه، فقارنت بين حالي وحال يعقوب، فقلت " والله: لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووقر في أنفسكم " أي واستقر حديث الناس في نفوسكم وأثر في قلوبكم " ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك "، لأنكم تظنون أني كذبت عليكم خشية العار " والله ما أجد في ولكم مثلاً إلاّ أبا يوسف إذ قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) " أي لا يسعني في هذا الموقف إلاّ الصبر والتسليم لأمر الله وانتظار الفرج والبراءة منه عز وجل، فهو الذي يبرئني وحده دون غيره، وهو الذي يدافع عني دون سواه " ثم تحولت إلى فراشي وأنا أرجو أن ييرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحياً، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا تبرئني " أي ما كنت آمل أن ينعم الله علي بمثل ما أنعم، وأن يكرمني بمثل هذا التكريم، فينزل الوحي الصريح، والآيات القرآنية التي تتلى على مر العصور في تبرئتي، لأني في نظري أقل شأناً من ذلك، ولكن من تواضع لله رفعه كُلُّ ما كنت آمله وأتوقعه أن يبرئني الله تعالى من هذه التهمة الباطلة برؤيا مناميّة تثبت براءتي فوقع ما هو أعظم من ذلك "فوالله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْىَ فَأخَذَهُ مَا كَانَ يَأخُذُهُ مِنَ البُرحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ في يَوْم شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أنْ قَالَ لِي: يا عَائِشَةُ احْمَدِي اللهَ فَقَدْ بَرَّأكِ الله"، فَقَالَتْ لِي أمِّي: قُومِي إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ لَا أقومُ إِلَيْهِ، ولا أحْمَدُ إِلَّا اللهَ، فَأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآيَاتِ، فلمَّا أنزلَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ هَذَا في بَرَاءَتِي   ما رام مجلسه" أي ما فارق النبي - صلى الله عليه وسلم - مجلسه " حتى أُنزِلَ عيه الوحي فأخذه ما كان يأخذه " أي فأصابه ما كان يصيبه أثناء نزول الوحي " من البرحاء " أي من ارتفاع الحرارة وشدة العرق " حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان " أي حتى صار العرق يتساقط منه كما تتساقط اللآلىء المتناثرة " في يوم شات " أي حال كونه - صلى الله عليه وسلم - قد حدث له ذلك في يوم شتوي شديد البرودة " فلما سرّي عن رسول الله " بضم السين وكسر الراء المشددة أي فلما انكشف عنه الوحي " وهو يضحك " أي حال كونه ضاحكاً متهلل الأسارير، مشرق الوجه من شدة السرور والفرح ببراءة زوجته الحبيبة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها " فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي قومي إليه واشكريه على بشراه لك بهذه البراءة "، " فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلاّ الله " لأنه هو الذي برأني مما نسب إليَّ بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، أما أنتم فقد شككتم في أمري " فأنزل الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الآيات " إلى آخر قوله تعالى: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فأثبت الله تعالى بالوحي الصريح براءة عائشة حيث قال: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وسمى الله تلك التهمة الشنيعة " إفكاً " فقال: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 قَالَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وكانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أثَاثَةَ لِقَرَابتهِ مِنْهُ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطحٍ شَيْئَاً أبَدأً بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى -إلى قَوْلِهِ- وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فَقَالَْ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بَلَى وَاللهِ إِنِّي لأحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ إلى مِسْطِحٍ الَّذِي كانَ يُجْرِي عَلَيْهِ، وكانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسأل زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْش عَنْ أمرِي، فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ مَا عَلِمْتِ مَا رَأيتِ، فَقالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أحْمِى سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْراً، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِيني فَعَصَمَهَا اللهُ بالْوَرَعِ.   مِنْكُمْ) إعلاناً عن كذبهم وافترائهم فيها، ثم هددهم بالعقوبة عليها في الدنيا والآخرة، حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) " قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه " وذلك أن أم مسطح سلمى كانت بنت خالة أبي بكر الصديق، فغضب وقال: " والله لا أنفق على مسطح شيئاً " بعد ما فعل الذي فعل " فأنزل الله تعالى (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) " أي لا يحلف أصحاب المال والغنى " أن يؤتوا أولي القربى " أي لا يحلفوا على أن لا يعطوا أقاربهم من أموالهم، لأنهم أساؤوا إليهم، قال تعالى: " (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) " يعني ألا تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم مقابل عفوكم عنهم " فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه " أي فأعاد إلى مسطح ما كان يعطيه، وكفّر عن يمينه. " فقال: يا زينب ما علمت وما رأيت " أي ما الذي تعلمينه عن عائشة وما هي مرئياتك عنها فيما يتعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 بسلوكها " فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري " أي أصون سمعي من أن أقول سمعت ولم أسمع أو بصرى عن أن أقول رأيت ولم أر " فعصمها الله بالورع " أي فمنعها الورع من الوقوع فيما وقع فيه غيرها، وهو خُلقٌ في النفس يمنع صاحبه من الوقوع في المحرمات والشبهات. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد. ما يستفاد من الحديث: ويستفاد منه فوائد كثيرة نعجز عن استقصائها ونكتفي ببعضها. أولاً: صحة القرعة بين النساء في السفر وغيره، وبه استدل مالك وغيره في العمل بالقرعة في القسم بين الزوجات في السفر وغيره والعتق والوصايا والقسمة ونحو ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد وجماهير العلماء. وحكي عن أبي حنيفة إبطالها، وحكي عنه إجازتها، قال العيني (1): وليس المشهور عن أبي حنيفة إبطال القرعة وأبو حنيفة لم يقل ذلك وإنما قال القياس يأباها، لأنه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة، وذلك قمار، ولكن تركنا القياس للآثار، وللتعامل الظاهر من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من غير نكير. ثانياً: جواز الغزو بالنساء، وخدمة الرجال لهن في الأسفار، لقول عائشة فأقبل الذين يُرَحلون لي فاحتملو هودجي. ثالثاً: فضيلة الاقتصاد في الأكل، وعدم الإِسراف فيه صحياً ودينياً، لقول عائشة رضي الله عنها في وصف نساء الصحابة رضوان الله عليهن في العهد النبوي: " وإنما يأكلن العلقة من الطعام ". رابعاً: أنه يستحب أن يُسَرَّ عَنِ الإِنسان (2) ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة ما يدور حولها من إشاعات كاذبة شهراً، ولم تسمعه بعد ذلك إلا بعارض عرض. خامساً: أن المرأة مهما كانت الأسباب لا تذهب إلى بيت أبويها إلاّ بإذن زوجها لأن عائشة رضي الله عنها قالت:   (1) " شرح العيني " ج 13. (2) " شرح العيني " ج 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 " فقلت ائذن لي إلى أبوي " فاستأذنته وهي في أسوأ الأحوال بدنياً ونفسياً، وهكذا يجب أن تكون المرأة الصالحة لأن سيرة هؤلاء الأبرار إنما ندرسها لنتأسى بها في حياتنا ونطبقها عملاً في سلوكنا، لا نستعرضها كما تستعرض التحف القديمة الثمينة، حتى إذا ما تحدث أحدٌ عن تطبيقها، قالوا: ذلك عصر وهذا عصر، أين نساؤنا من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأين نحن منه، كلمة حق أريد بها باطل. نعم أين نحن منه في عصمته ومكانته عند ربه، أما في الواجبات والفرائض فإننا يجب علينا أن نتبعه فيها، لأنها يستوي فيها المسلمون جميعاً، لا فرق بين طبقة وطبقة، وكذلك نساؤنا يجب عليهن أن يتبعن أمهات المؤمنين في الواجبات التي لا بد منها، كالحجاب واستئذان الزوج في خروجهن، وطاعة أمره، والمحافظة على ماله وعرضه، هذه كلها واجبات لا يجوز لمسلم أو مسلمة إذا أمر باتباع سيرة المصطفى أو الصحابة أو الأسرة النبوية الكريمة أن يقول: أين نحن من أولئك حتى تطالبنا باتباعهم فالواجب واجب، والحق حق، والفرض فرض في كل قرن وعصر. نعم فيما يتعلق بالفضائل والمستحبات والمندوبات الأمر فيها واسع بعض الشيء، أما الواجبات، أو المحرمات فلا نقاش فيها " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " هذا هو أساس التشريع الإِسلامي في كل عصر ومصر. سادساً: لُبابُ هذا الحديث وجوهره والعنصر الأساسي فيه هو بيان فضل السيدة عائشة وتبرئتها القاطعة من التهمة الباطلة التي نسبت إليها بوحي صريح منزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرآن يتلى على مر العصور والأزمان يقطع ألسنة المرجفين، ويقضي على إشاعات المغرضين والملحدين، وأدلة براءتها من حديث الباب والآيات المنزلة في شأنها كثيرة، وأهمها ثلاثة الأول: التبرئة الصريحة الحاسمة في قوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) قال البغوي يعنى عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع (1). الثاني: شهادة القرآن لعائشة   (1) " تفسير البغوي " سورة النور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 بأنها الطاهرة المطهرة حيث قال فيها (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) قال ابن كثير أي ما كان (1) الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاّ وهي طيبة، لأنه أطيب من كل طيّب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً. الثالث: أن الله سمي هذه التهمة الباطلة إفكاً حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) والإفك أبلغ الكذب (2)، وأشنع الافتراء والبهتان الذي لا تشعر به حتى يفجأك. وقد افتخرت عائشة رضي الله عنها بهذه الفضائل التي ميزها الله بها، وأنعم بها عليها، قال البغوى: روي (3) أن عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطتها لم تعط امرأة مثلها، وهي أن جبريل أتى بصورتها في قطعة من حرير، وقال: هذه زوجتك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجرها، ودُفِن في بيتها وكان ينزل عليه الوحي وهو معها في لحافه، ونزلت براءتها من السماء، وأنها ابنة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدِّيقه، وخلفت طيبة ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً. سابعاً: ما ترجم له البخاري من جواز تعديل النساء للنساء، وتزكية بعضهن لبعض، لأنّه - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة وزينت عن عائشة فزكتاها، وتحدثتا عن صلاحها وكمال دينها، حيث قالت: زينب والله ما علمت عنها إلّا خيراً. وقالت بريرة: إن رأيت منها أمراً أغمضه عليها، أي ما رأيت منها أمر قبيحاً أعيبها عليه من أجله، وفي رواية أن بريرة لما سئلت عن عائشة قالت: سبحان الله، ما علمت عليها إلا كما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر (4) وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة حيث قال: بجواز تعديل النساء بعضهن (5) بعضاً، وقبول تزكية المرأة للمرأة إذا شهد امرأتان ورجل في   (1) " مختصر تفسير ابن كثير " للصابوني ج 2. (2) " تفسير أبي السعود " ج 6. (3) " تفسير البغوي " سورة النور. (4) " تفسير البغوي " سورة النور. (5) " شرح العيني " ج 13. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 724 - " بَاب إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلاً كَفَاهُ " 824 - عن أبي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أثْنَى رَجُل عَلى رَجُلٍ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ " مِرَاراً، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ كان مِنْكُمْ مَادِحاً أخَاهُ لَا مَحَالَةَ " فَلْيَقُلْ أحْسِبُ فُلاناً واللهُ حَسِيبَهُ، ولا أُزَكِّي عَلى اللهِ أحَداً، أحسِبُهُ كَذَا وَكَذا إنْ كان يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ ".   قضية، وهو مذهب البخاري، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة عن حال عائشة ولما أجابت ببراءتها اعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم - قولها، فخطب واستعذر من ابن أُبيّ. وقال مالك والشافعي ومحمد (1) بن الحسن: لا تقبل تزكية المرأة للمرأة، وأجاب القاضي عياض عن حديث الباب بأن قضية عائشة ليست من باب الشهادات، وإنما هي من باب التحقيق الشرعي لإظهار براءة المتهم أو إدانته (2) والله أعلم. ثامناً: قال ابن بطال: من سَب عائشة رضي الله عنها بما برأها الله تعالى منه يقتل لتكذيبه بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. مطابقة الحديث للترجمه: في كونه - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب وبريرة عن عائشة فعدلتاها، وزكتاها، فدل ذلك على مشروعية تعديل النساء بعضهن لبعض كما ترجم له - البخاري. 724 - " باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه " أي تكفي في تزكية الشاهد المزكي الواحد والمسألة فيها خلاف قوله رضي الله عنه: " أثنى رجل على رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك " إلخ.   (1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 4. (2) " شرح العيني " ج 13 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع رجلاً يثني على رجل آخر ويطريه، ويبالغ في مدحه ويصفه بما ليس فيه، فحذره من ذلك " فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك " أي أهلكته وأضررت به، حيث وصفته بما ليس فيه، فربما جره ذلك إلى العجب والغرور والشعور بالكمال، فلا يزداد من الفضائل، فيصبح كالمقطوع الرأس المتوقف عن الحركة، أو كالمشلول العاجز عن العمل. " ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة " أي إذا كان لا بد من مدحه لأن المقام يقتضي الثناء عليه اقتضاًء شرعياً كتزكية الشاهد مثلاً " فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه "، أي إن كان لا بد من الثناء عليه لمصلحة مشروعة فليقتصر على وصفه بما يعلم فيه من خصال الخير الموجودة، ويقول أثناء وصفه له: أحسبه رجلاً عدلاً، أو صالحاً، أو كريماً مثلاً، أو شجاعاً، أو ماهراً في صنعته إن كان يعلم أن هذه الصفة موجودة فيه، لا أن يثني عليه جزافاً، ثم يقول: " والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً " أي ولا أقطع لأحد بشيء في المستقبل ولا أقطع له بشيء في ضميره، لأنه لا يعلم الغيب إلاّ الله، وإنما أظن أنه على هذه الصفة: والله أعلم به. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وأحمد وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية تزكية المسلم بما يعلم فيه عند الشهادة أو غيرها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فليقل أحسبه كذا أو كذا إن كان يعلم ذلك منه " أي يصفه بما يعلم عنه دون إسراف في الثناء أو مبالغة فيه. ثانياًً: استدل أبو حنيفة بهذا الحديث على جواز الاكتفاء في التزكية برجل واحدٍ وهو مذهب البخاري كما تدل عليه الترجمة، وبه قال أبو يوسف، وقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن: لا بد في التزكية من اثنين. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة حسب مفهوم البخاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 725 - " بَاب إِذَا تسَارَعَ قَوْمٌ في اليَمِينَ " 825 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ على قَوْم الْيَمِينَ فأسْرَعُوا، فَأمرَ أن يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ في اليَمِينِ أيُّهُمْ يَحْلِفُ ".   725 - " باب إذا تسارع قوم في اليمين " 825 - قوله " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على قوم اليمين " الخ. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده الحافظ تخاصم إليه اثنان تنازعا عيناً ليست في يد واحدٍ منهما، ولا بينة لواحد منهما، وكانت تلك العين في يد شخص ثالث غيرهما، فعرض عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - اليمين، فتسارعا إليه، وبادر كل منهما لأدائه، قال: " فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف " أي فأجرى - صلى الله عليه وسلم - بينهما قرعة، فأيهم خرج سهمه وجه إليه اليمين. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه إذا تداعى رجلان متاعاً في يد ثالث، ولم يكن لهما بينة، أو لكل منهما بينة، وقال الثالث: لا أعلم إن كان هذا المتاع لهذا أو ذاك، فالحكم أن يقرع بين المتداعيين، فأيهما خرجت له القرعة يحلف ويعطى له، وهو قول علي رضي الله عنه، وقال الشافعي: يترك في يد الثالث، وقال أبو حنيفة: يجعل بين المتداعيين، وقال أحمد والشافعي في قول: يقرع بينهما في اليمين كقول على. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله " فأمر أن يسهم بينهم ". *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 726 - " بَاب كَيْفَ يسْتَحْلَفُ " 826 - عن ابْنِ عمَرَ رَضِيَ الله "عَنْهمَا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ كَانَ حَالِفَاً فَلْيَحْلِفْ باللهِ أوْ لِيَصْمتْ "   726 - " باب كيف يستحلف " أي إذا وجهت اليمين إلى أحد الخصمين فبأي شيء يحلف. 826 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " إلخ. معنى الحديث: هذا الحديث رُوِيَ في هذه الرواية مختصراً من حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ركب، أي في جماعة راكبين على الإبل أكثر من عشرة " وعمر يحلف بأبيه " فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " بضم الميم، ومعناه من احتاج إلى القَسَم لتأكيد خبر من الأخبار، أو للوصول إلى حقه، أو للدفاع عن نفسه أمام الحاكم الشرعي، فليقسم بالله تعالى، أو بأحد أسمائه وصفاته "، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا، ومقلب القلوب " وإلا فليسكت ولا يقسم بشيء من مخلوقات الله أبداً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك صريحاً، الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى، وهو ما أجمع عليه أهل العلم، كما أفاده ابن عبد البرّ، وقال الصنعاني: لا يخفى أن الأحاديث واضحة في التحريم لما سمعت، ولما أخرجه أبو داود، والحاكم واللفظ له من حديث ابن عمر أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف بغير الله كفر " ثانياًً: أن اليمين التي يستحلف بها هي اليمين بالله تعالى، وهي التي توجّه إلى المدعى عليه. والمطابقة: في قوله: " فليحلف بالله ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ الصُّلْحِ " 727 - " بَاب لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الناس " 827 - عَنْ أمِّ كُلْثُوم بنْتِ عُقْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَيْس الكَذابُ الذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاس فَيَنْمِي خَيراً، أوْ يَقُولَ خَيْراً ".   " كتاب الصلح " والصلح لغة: حسم الخصام بين المتخاصمين، بإنهاء الخلاف بينهم بالوسائل السلمية. وشرعاً: عقد ينهي الخصومة بين المتخاصمين، ويسمى كل منهما مصالحاً، والحق المتنازع عليه مصالحاً عنه، وما يؤديه أحدهما لخصمه بدل الصلح. وهو نوعان: (أ) عام: ويشمل كل اتفاقية بين طرفين متنازعين تؤدي إلى إنهاء النزاع بينهما، سواء كانا زوجين أو متداعيين، فرداً أو جماعة (ب) خاص: وهو الصلح بين المتداعيين أمام الحاكم الشرعي. وخلاصة القول ما ذكره ابن رشد حيث قال: " واتفق المسلمون على جواز الصلح على الإِقرار، واختلفوا في جوازه على الإنكار، فقال مالك وأبو حنيفة: يجوز، وقال الشافعي: لا يجوز، لأنه منَ أكل أموال الناس بالباطل. 727 - " باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس " 827 - راوية الحديث: هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية، أخت عثمان بن عفان لأمه رضي الله عنهما، أسلمت قديماً، وهاجرت إلى المدينة عام الحديبية، فجاء أخواها يطلبانها من النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يردها إليهما، روت حديثين، أحدهما هذا الحديث. معنى الحديث: أن الذي يكذب ويخبر بخلاف الواقع ليصلح بين شخصين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 728 - " بَابُ قَوْلِ الإمَامِ لأصْحَابِهِ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِح " 828 - عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ أهلَ قُبَاءَ اقْتَتَلُوا حتَّى تَرَامَوْا بالحِجَارَةِ، فأخْبِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِذلِكَ   متنازعين ليس هو الكذاب المذموم شرعاً ما دام يريد أن يصلح بين رجلين من المسلمين، ويزيل ما في قلبيهما من العداوة والبغضاء والكراهية " فينمي (1) خيراً " أي فينقل كلام الخير، ويروي لأحدهما أن صاحبه أثنى عليه ومدحه، وذكره بالأوصاف الجميلة، وهو كاذب في قوله ليقارب بين قلبين متباعدين، ويزيل ما فيهما من نفور ووحشة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في الاصلاح بين الناس، وإزالة الخصومات فيما بينهم، سواء كانت في القضايا المالية، أو في الأحوال الشخصية، أو بين أعضاء الأسرة فإنه مندوب إليه شرعاً. ثانياً: جواز الكذب للإصلاح بين المتخاصمين بأن ينقل بينهم من كلام الخير ما لم يقولوه ليلين قلوبهم، كما في هذا الحديث، وفي رواية أخرى عن أم كلثوم رضي الله عنها أنها قالت: " لم أسمعه - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء مما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث، وهي الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين الناس " أخرجه مسلم والنسائي، وقال آخرون: لا يجوز الكذب مطلقاً، وحملوا الكذب هنا على التورية والتعريض، كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس، وهو يريد اللهم اغفر للمسلمين. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ". 728 - " باب قول الإِمام: اذهبوا بنا نصلح " 828 - معنى الحديث: يحدثنَا سهل بن سعد رضي الله عنهما "أن   (1) بفتح الياء وسكون النون كما أفاده القسطلاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 فَقَالَ: " اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ (1) بَيْنَهُمْ ".   أهل دماء اقتتلوا" أي وقعت بينهم خصومة شديدة أدّت إلى الاشتباك بالأيدي والضرب بالحجارة، حتى ترامت أخبارهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة " فقال: اذهوا بنا نصلح بينهم " أي فخرج إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماعة من أصحابه، وروي في سبب ذلك أن امرأة من الأنصار يقال لها " أم زيد " كان بينها وبين زوجها شيء فحبسنها في عُلِّيَّةِ بيته، فبلغ ذلك قومها، فجاءوا وجاء قومه، واقتتلوا بالأيدي والنِّعال، فأنزل الله تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة. فقه الحديث: دل هذا الحديث. على مشروعية خروج الإمام عند حدوث النزاع والخصام، وتفاقم الأمر، للإصلاح بين الطرفين المتنازعين، وهو مصداق قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مدارأة -أي خصومة- في حق بينهما، فقال أحدهما: لآخذن حقي عنوة لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر أن يحاكمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تواقعا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنِّعال والسيوف (2)، فنزلت هذه الآية. قال أهل العلم: لا يخلو الأمر إما أن يقع البغي منهما جميعاً فالواجب حينئذ السعي بينهما بما يصلح ذات البين، ويؤدي إلى المكافّة والموادعة، فإن لم يصطلحا قوتلا، وإما أن يقع البغي من إحداهما، فالواجب أن تقاتل فئة البغي حتى تكف وتتوب، فإن التحم القتال بينهما   (1) يجوز فيه الجزم لأنه جواب الأمر، ويجوز الرفع على تقدير نحن نصلح كما أفاده العيني. (2) " تفسير القرطبي " ج 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 729 - " بَابٌ كَيْف يَكْتُبُ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ فُلانُ بنُ فُلان، وفلانُ بْنُ فلان، وإنْ لَمْ يَنْسُبهُ إلى قبيلَتِهِ أو نسَبِهِ " 829 - عنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "اعْتَمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذِي الْقَعْدَة، فأبَى أهْلُ مَكَّةَ أنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حتَّى قَاضَاهُمْ علَى أنْ يقيمَ بِهَا ثَلَاَثةَ أيَّامٍ، فَلَمَّا كتبُوا الْكِتَابَ   لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند نفسها محقة، فالواجب إزالة الشبهة فإن أصرتا على القتال، ولم ترجعا إلى الحق، فهما باغيتان يجب قتالهما (1). اهـ. كما أفاده القرطبي في " تفسيره ". والمطابقة: في قوله " اذهبوا بنا نصلح بينهم ". 729 - " باب كيف يكتب هذا ما صالح عليه فلانُ بن فلان فلانَ بن فلان " 829 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة " أي خرج - صلى الله عليه وسلم - في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة إلى مكة معتمراً، " فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة " أي فلما وصل - صلى الله عليه وسلم - الحديبية صده كفار قريش. ومنعوه من دخول مكة، وحالوا بينة وبين العمرة في تلك السنة، فعقد معهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلحاً وهدنة لمدة عشر سنوات على شروط معينة، منها أن يعود إلى المدينة ذلك العام دون عمرة على أن يعتمر من العام القابل، وأن يدخلوا مكة وسلاح كل واحد منهم في قرابه، أي في جعبته، وأن لا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام وهو معنى قوله: " حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام " أي: حتى صالحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يعتمر من العام القابل، ولا يقيم بمكة أكثر من ثلاثة أيام، وأن لا   (1) " تفسير القرطبي " ج 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: لا نُقِرُّ بِهَا، فلوْ نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا مَنَعْنَاكَ، لَكِنْ أنتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ: أُنا رَسُولُ اللهِ، وأُنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبدِ اللهِ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، امْحُ رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: لا واللهِ لا أمْحُوكَ أبَداً، فَأخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكِتَابَ فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، لا يَدْخُلُ مَكَّةَ سِلَاحٌ إلا في القِرَابِ، وأنْ لا يَخْرُجَ مِنْ أهلِهَا بأحَدٍ إِنْ أرادَ أن يَتَّبِعَهُ، وأن لا يَمْنَعَ أحَداً مِنْ أصْحَابِهِ أرادَ أنْ يُقِيمَ بِهَا، فلمَّا دَخَلَهَا ومضى الأجَلُ، أتَوْا   يأتيه أحد منهم أثناء الهدنة إلا رده إليهم، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه يريد الإِقامة بمكة أن يقيم بها، " قال البراء: فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه " أي هذا هو العهد الذي صالح عليه وعقده " محمد رسول الله، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك " أي لو كنا نعلم ونؤمن برسالتك ما منعناك عن البيت، " ولكن أنت محمد بن عبد الله " أي: ولكن الذي نعرفه عنك أنك محمد بن عبد الله - الذي هو اسمك واسم أبيك المعروف عندنا، " فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله "، فلا مانع من استبدال هذا بذاك، " ثم قال لعلي: امح رسول الله، فقال: لا والله لا أمحوك " أي لا أمحو عنك صفة الرسالة، فأنت رسول الله حقاً وصدقاً " فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله " أي ما صالح عليه " لا يدخل مكة سلاح إلّا في القراب "، أي إلا في جعبته، " وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه "، وفي رواية وعلى أن لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا، " وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها " أي بمكة، "فلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 عَلِيَّاً، فقالُوا: قُلْ لصاحِبِكَ: اخْرُجْ عنَّا فَقَدْ مَضَى الأجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبِعَتْهُمْ ابنَةُ حَمْزَةَ: يا عَمِّ يا عَمِّ، فَتَنَاوَلَهَا عليُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فأخَذَ بِيَدِهَا، وقَالَ لِفَاطِمَةَ: دونَكِ ابنةَ عَمِّكِ احمِلِيهَا، فاخْتَصَمَ فيها عَلِيٌّ وزيْدٌ وجَعْفَرُ، فقالَ عَلِى: أنَا أحَقُّ بِهَا وهي ابنةُ عَمِّي، وقال جَعْفَرُ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالتهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أخِي، فقَضَى بِهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - لخَالَتِهَا، وَقَالَ: " الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأمِّ " وَقَالَ لِعَلِي: أنتَ مِنِّي وَأنَا مِنْكَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍْ: أنْتَ أخونَا وَمَوْلَانا".   دخلها ومضى الأجل أتوا علياً، فقالوا: قل لصاحبك أخرج عنا، فقد مضى الأجل "، أي فلما دخلها - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء، وانتهت ثلاثة أيام جاءوا إلى علي بن أبي طالب وطلبوا منه أن يبلغ صاحبه بالرحيل، " فتبعتهم ابنة حمزة " بن عبد المطلب واسمها أمامة تريد أن ترحل معهم، " فتناولها علي بن أبي طالب، فأخذها بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك " أي خذيها، " فاختصم فيها علي وزيد وجعفر " وأراد كل واحد منهم أن يأخذها، فأمّا زيد فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آخى بينه وبين حمزة، وأما علي فلأنها ابنة عمه، وأما جعفر فهي بنت عمه وزوجته خالتها. قال البراء: " فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: " الخالة بمنزلة الأم " أي فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضانتها لخالتها أسماء بنت عميس زوجة جعفر رضي الله عنهما، لأن الخالة بمنزلة الأم في المحبة " وقال لعلي أنت مني " في النسب والمحبة والأسبقية إلى الإِسلام إلى غير ذلك من الفضائل " وقال لجعفر: أشبهت خلقي " بفتح الخاء وسكون اللام، وهو الصورة الظاهرة " وخلقي " بضم الخاء واللام، وهو الصورة الباطنة من الأخلاق والفضائل " وقال لزيد أنت أخونا ومولانا " أي أخونا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 في الإِسلام وعتيقنا، والولاء لحمة كلحمة النسب. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الصلح مع الكفار، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والعسكرية. معهم لصالح المسلمين، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية حيث صالحهم هذا الصلح الذي كان فتحاً عظيماً للمسلمين على الرغم مما وقع فيه من تنازلات عظيمة ثم إن هذا الصلح كان بأمر إلهي لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، فلا يحق لأحد أن يقول كيف فعل كذا. ثانياًً: أن عقد الصلح يكون بصيغة المصالحة الصريحة كقوله: هذا ما صالح فلان بن فلان فلان بن فلان، وهو ما ترجم له البخاري، أو بما يدل على المصالحة كما في نص الحديث. ثالثاً: جواز المصالحة مع المحاربين لمدة محدودة، وهو ما يسمى في التعبير الحديث بالهدنة المؤقتة، قال العيني: واختلفوا في المدة، فقيل لا تتجاوز عشر سنين، وبه قال الشافعي والجمهور. رابعاً: قال القسطلاني: واستنبط منه أن الخالة مقدمة في الحضانة على العمة، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بها لخالتها مع وجود عمتها صفية بنت عبد المطلب. هذا وقد اختلف العلماء في الخالة والأخت أيهما أولى بالحضانة، فقال أبو حنيفة: الأخت من الأم أولى من الأخت من الأب ومن الخالة، والخالة أولى من الأخت من الأب، وقال الشافعي وأحمد: الأخت من الأب أولى من الأخت من الأم ومن الخالة، وقال مالك: الخالة أولى من الأخت مطلقاً. والأخت من الأم أولى من الأخت من الأب (1). والمطابقة: في قوله " ما قاضي عليه محمد بن عبد الله " الحديث: أخرجه الشيخان. ...   (1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " لابن هبيرة الحنبلي ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 730 - " بَابٌ هلْ يُشِيرُ الإِمَامُ بالصُّلْحَ " 835 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - صوْتَ خُصُوم بِالبَابِ، عَالِيةً أصْوَاتُهُمَا، وَإذَا أحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ، وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيءٍ وهُوَ يَقُولُ: واللهِ لا أفْعَلُ، فخرجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أينَ المُتَألِّي علَى اللهِ لا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟ فَقَالَ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ وَلَهُ أيَّ ذَلِكَ أحًّب ".   730 - " باب هل يسير الإِمام بالصلح " 830 - قولها: " سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم " إلخ. معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع صوت خصمين يتنازعان في قضية مالية، وقد ارتفعت أصواتهما حتى وصلت إلى مسامع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته، فأصغى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأصوات، وإذا به يسمع أحد الرجلين " يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء ". أي يطلب منه أن يضع عنه شيئاً من دينه أو يتنَازل " وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أين المتألي على الله أن لا يفعل المعروف؟ " أي أين الحالف بالله على عدم فعل المعروف " فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب " أي أنا الذي حلفت، ولكن حيث شفعت فيه فإني أجيبه إلى ما يطلب. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب تدخل الإِمام للإصلاح بين الخصمين، والشفاعة لدى صاحب الحق بالتنازل عن بعض حقه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الشروط " الشروط جمع شرط، والشرط شرعاً -كما قال العيني- هو ما يتوقف عليه وجود الشيء، ولم يكن داخلاً فيه، وقيل: ما يلزم من انتفائه انتفاء المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط. وقد قسم الأصوليون الشرط شرعاً إلى ثلاثة أقسام الأول: شرط مكمل لحكمة المشرع، ملائم لها كاشتراط الرهن، والحميل، والنقد في الثمن، وهذا لا خلاف في صحته. الثاني: شرط غير ملائم لمقصود الشارع، بل هو على الضد من ذلك، كشرط إسقاط النفقة على الزوجة أو عدم الانتفاع بالبيع، وهذا لا خلاف في بطلانه لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: " ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل فليس له وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق " فقد أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث كل شرط مخالف لأحكام الشريعة، مناقض لمقصود الشارع، فمقصود الشارع مثلاً من البيع الانتفاع بالمبيع، فإذا اشترط البائع عدم الانتفاع فقد ناقض (1) مقصود الشارع، وشرطه فاسد غير نافذ لمناقضته للحكمة التشريعية المقصودة من البيع. ومن أغراض الشارع في النكاح الإِنفاق على الزوجة وكفايتها مؤونة معيشتها، فإذا اشترط الزوج عدم الإِنفاق فقد ناقض غرض الشارع من النكاح، وشرطه باطل، وقس على هذه المسائل غيرها من الشروط. الثالث: الشرط الذي لا يظهر فيه منافاة لمقصود الشارع، ولا ملاءمة له، وهذا ما دام في باب المعاملات فإنه يكتفى فيه بعدم المنافاة، والأصل فيه الجواز حتى يدل الدليل على خلافه.   (1) " أصول الفقه " للخضري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 731 - " بَابُ الشُّرُوطِ في الْمَهْرِ عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ " 831 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " أحَقُّ الشروطِ أنْ تُوُفُوا بِهِ ما اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوج ". 732 - " بَابٌ إِذَا اشْتَرَطَ في الْمُزَارَعَةِ إذَا شِئْتُ أخرَجْتُكَ "   731 - " باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح " 831 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " أي أولى الشروط بالوفاء شروط النكاح، سواء تعلقت بالمهر، أو بالنفقة وحسن العشرة، أو غير ذلك، ما لم تكن محظورة، أو منافية لعقد النكاح. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الشروط التي تشترط في النكاح هي شروط صحيحة واجبة التنفيذ، فما هي هذه الشروط المقصودة والتي تصح شرعاً؟ الشروط ثلاثة أقسام: الأول ما يقتضيه العقد من مقاصد النكاح، كاشتراط المهر، وحسن العشرة، والنفقة، والكسوة، والسكنى، والقَسم، ونحو ذلك، وهذا صحيح يجب الوفاء به اتفاقاً. الثاني: ما يخالف مقتضى العقد، كاشتراط عدم النفقة، أو اشتراطها أن لا يطأها، وهذا الشرط باطل، ويصح العقد عند أكثر أهل العلم، ويبطل عند الشافعي في قول. الثالث: ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه كاشتراطها أن لا يتزوج عليها، فالشرط باطل، والعقد صحيح عند الجمهور، وقال الأوزاعي وأحمد: الشرط صحيح ويجب الوفاء به عملاً بحديث الباب والله أعلم. والمطابقة: كما قال العيني تؤخذ من معنى الحديث. 732 - " باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 832 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لَمَّا فَدَعَ أهْلُ خَيْبَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، قَامَ عُمَرُ خَطِيباً فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ علَى أمْوَالِهِمْ، وقَالَ: نُقِرُّكُمْ ما أقَرَّكُمْ اللهُ، وإنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إلى مَالِهِ هُنَاكَ، فعُدِيَ عَلَيْه مِنَ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ (1) يَدَاهُ ورِجْلَاهُ، ولَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُو غَيرَهُمْ، هُمْ عَدُوُّنَا وتُهْمَتُنَا، وقدْ رَأيْتُ إجْلَاءَهُمْ، فَلَمَّا أجْمَعَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ أتَاهُ أحَدُ بني أبِي الحُقَيقِ فَقَالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ أتُخْرِجُنَا وَقَدْ أقَرَّنَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وعَامَلَنَا على الأمْوَالِ، وشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أظَنَنْتَ أنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: كَيْفَ بِكَ إذَا أخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ، فقَالَ: كَانَتْ هَذِهِ هُزَيْلَةً مِنْ أبِي القَاسِمِ،   832 - معنى الحديث: أن يهود خيبر غدروا بابن عمر فدفعوه وأسقطوه من مكان عال، فاعوجت يداه ورجلاه، وانقلبت كفاه وقدماه، فخطب عمر رضي الله عنه وأخبر الناس بما وقع لولده من أشخاص مجهولين في خيبر، وأنه ليس له أعداء سوى اليهود فإن التهمة تتوجه إليهم، " وقد رأيت إجلاءهم " يعني إخراجهم من خيبر، " فلما أجمع عمر على ذلك، أتاه أحد بني أبي الحقيق " وهو رئيسهم، " فقال: تخرجنا وقد أقرنا محمد "، أي اتفق معنا على البقاء في خيبر، وعاهدنا عليه، " وعاملنا على الأموال " أي وتعاقد معنا على العمل في مزارع خيبر على طريقة المزارعة والمساقاة، " فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك " أي لا تظن أني نسيت إخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) قال في " القاموس " الفدَع " محركة اعوجاج الرسغ من اليد والرجل حتى ينقلب الكف أو القدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ، فأجْلَاهُمْ عُمَرُ، وأعطَاهُمْ قيمَة مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ وإبلاً وعُرُوضاً مِنْ أقتَابٍ وحِبَالٍ وغَيْرِ ذَلِكَ.   إخراجكم من خيبر حيث قال لك: كيف يكون حالك إذا أخرجت أنت وقومك من خيبر " تعدو بك قلوصك " بفتح القاف أي تسرع بك نياقك، " فقال: كانت هذه هزيلة " (بضم الهاء) أي إنما قال ذلك مازحاً لا جاداً، " فقال: كذبت يا عدوَّ الله. فأجلاهم عمر، وأعطاهم ما كان لهم من الثمر مالاً " الخ أي وأعطاهم قيمة الثمار التي لهم دراهم وإبلاً وأمتعة، " من أقتاب وحبال وغير ذلك " والأقتاب هي جمع قتب وهو ما يوضع فوق ظهر الجمل لوقايته عند الحمل عليه. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه إذا اشترط مالك الأرض في عقد المزارعة أو المساقاة أن يخرج العامل عليها متى شاء كان له ذلك، كما ترجم له البخاري، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اشترط ذلك بقوله كما في حديث الباب " نقركم على ما أقركم الله " وفي رواية أخرى للبخاري أنه قال لهم: " نقركم على ذلك ما شئنا " وثانياً: بهذا الحديث أخذ أهل الظاهر، فقالوا بجواز المساقاة على مدة مجهولة خلافاً للجمهور. قال ابن رشد: وأما الوقت الذي هو الشرط في مدة المساقاة فإن الجمهور على أنه لا يجوز أن يكون مجهولاً، وأجاز طائفة أن يكون إلى مدة غير مؤقتة، منهم أهل الظاهر، وعمدةُ الجمهور ما يدخل في ذلك من الغرر قياساً على الإِجارة، والمطابقة: في قوله " نقركم على ما أقركم الله ". *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الوصايا " الوصايا جمع وصية. والوصية لغة: إيصال شيء لِإنسانٍ ما غائباً أو حاضراً، مالاً أو غيره، فيدخل في ذلك. إيصال السلام والنصيحة والعقاب، والأمر والنهي، والمال والطعام، مأخوذة من وصيته وأوصيته إذا أوصلته إليه. والوصية شرعاً لها معنيان: (أ) معنى عام (ب) ومعنى خاص. (أ) فأما الوصية بالمعنى العام: فهي كل ما تقدمه لغيرك لكي ينتفع به، سواء كان علماً أو أدباً أو أخلاقاً أو مالاً، قال القاري: وقد (1) تستعمل الوصية بمعنى النصيحة، ومنه قوله تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) وقال الحافظ في " الفتح ": " وتطلق على ما يقع به الزجر عن المنهيات، والحث على المأمورات (2). (ب) وأما الوصية بالمعنى الخاص فإنها تأتي لمعنيين: الأول أن يعين الميت قبل موته وصياً على أولاده القاصرين، يشرف عليهم، ويحفظ لهم أموالهم بعد وفاته. الثاني: أن يهب لإنسان ما عيناً أو ديناً أو منفعة يملكها بعد وفاته، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، أمَا الكتاب فقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) حيث جعل الوصية مقدمة على قسمة المواريث. وأما السنة: فإن أول حديث يأتينا يحثُّ على الوصية. ويدخل في النوع الثاني من الوصية ما يهبه الإِنسان بعد وفاته من المال لجهة من الجهات الخيرية كبناء مسجد، أو إنشاء مستشفى، أو غير ذلك من أعمال البر. ومن الملاحظ أن البخاري قد أدخل في كتابه هذا " كتاب الوصايا " جميع أنواع الوصايا، سواء كانت بالمعنى العام أو الخاص حيث نجد فيه كثيراً من المواعظ والزواجر والنصائح البليغة.   (1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري. (2) " فتح الباري " ج 5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 733 - " بَابُ الوَصَايَا وقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكتوبَة عِنْدَه " 833 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا حَقُّ امْرِىء مُسْلِم لَهُ شَيْء يُوصِي فِيهِ يَبِيْتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوصِيتُهُ مكْتوبَة عِنْدَهُ ".   733 - " باب الوصايا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصية الرجل مكتوبة عنده " 833 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه إلخ " معنى الحديث: قال الشافعي: معناه: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلّا أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه، لأنه لا يدري متى تأتيه منيته، فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك. وقوله " يبيت ليلتين " هذا القيد تأكيد لا تحديد، والمعنى لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان، وإن كان قليلاً إلا أن يبيّت وصيته مكتوبة عنده، ولا يكتفي بمجرد الحديث عنها، بل لا بد من كتابتها لضمانها وتوثيقها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الوصية لمن له ورثة يخشى ضياعهم، أو مال يريد أن يهب منه بعد وفاته لشخص. قال داود وغيره: الوصية واجبة. اهـ. والذي عليه أكثر أهل العلم أنها إذا كانت بمعنى هبة بعض المال بعد الوفاة لجهة معينة فهي مندوبة، أما إذا كانت لبيان حق متعلق بالذمة، كدين، أو وديعة فهي واجبة. ولا بد من كتابة الوصية مطلقاً لضبطها وضمانها وتوثيقها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 834 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي أوفى رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنه سُئِل هلْ كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أوْصَى؟ فَقَالَ: لا، فَقِيْلَ لَهُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ، أوْ أمِرُوا بِالوَصِيَّةِ؟ قَالَ: أوْصَى بِكِتَابِ اللهِ ".   834 - قوله: " أنه سئل هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى؟ فقال: لا " إلخ معنى الحديث: أن بعض الناس سأل ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من ماله بعد وفاته؟ فقال: لا، قال النووي: لعله أراد أنه لم يوص بثلث ماله، لأنه لم يترك بعده مالاً، وأما السلاح والبغلة ونحو ذلك فقد أخبر بأنها لا تورث، بل جميع ما يخلفه صدقة، وأما الوصايا بغير ذلك، فلم يرد ابن أبي أوفى نفيها: اهـ. وإنما قصد أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يترك مالاً موروثاً حتى يحتاج إلى الوصية " فقيل له: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية " أي كيف شرعَ - صلى الله عليه وسلم - للناس الوصية، وأمرهم بها، ولم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو إمامنا وقدوتنا، " قال: أوصى بكتاب الله " أي لم يوص بأي وصية مالية، لأنه لا يملك مالاً، ولكنه أوصى لأمته بكنز أعظم من كنوز الدنيا جميعاً وهو القرآن الكريم والسنة النبوية. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الوصية المالية إنما تندب لمن ترك (1) مالاً يحتاج إليه، ولذلك لم يوص النبي - صلى الله عليه وسلم - أي وصية بهذا المعنى، لأنّه لم يترك بعده مالاً موروثاً، وإنما تنحصر وصيته في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما أعظمها من وصية تتحقق بها سعادة الدنيا والآخرة. أخرج هذا الحديث: الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله " كيف كتب على الناس الوصية ".   (1) وذهب ابن حزم إلى أنها واجبة على من ترك مالاً قليلاً كان أو كثيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 734 - " بَابُ الْوَصيَّةِ بِالثلُثِ " 835 - عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَوْ غَضَّ النَّاسُ إلى الرُّبُع، لأنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِير أوْ كَبِيرٌ ".   734 - " باب الوصِية بالثلث " 835 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " لو ينقِّص الناس إلى الربع " يحتمل أن تكون " لو " للِتمني، والمعنى: أتمنى أن يُنقِّص الناس في وصاياهم عن الثلث فيكتفوا في الوصية بالربع فقط، ويحتمل أن تكون " لو " شرطية، وجوابها محذوف (1) تقديره لو غض الناس إلى الربع في الوصية لكان أولى وأفضل، " لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لسعد بن أبي وقاص لما أراد الوصية: " الثلث " أي الوصية تكون بالثلث ولا تزيد عنه، " والثلث كبير " أي والوصية بالثلث كثيرة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الوصية بالثلث. قال ابن رشد: " وأما القدر فإن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في أكثر من الثلث لمن ترك ورثة. واختلفوا فيمن لم يترك ورثة، وفي القدر المستحب منها هل هو الثلث، أو دونه؟ وإنما صار الجميع إلى أن الوصية لا تجوز في أكثر من الثلث لمن له من وارث لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه - صلى الله عليه وسلم - عاد سعد بن أبي وقاص، فقال له: يا رسول الله قد بلغ مني الوجع ما ترى، ولا يرثني إلا ابنة لي، فأتصدق بثلثي مالي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:   (1) " شرح العيني " ج 14. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 735 - " بَابٌ لا وَصِيةَ لِوَارِثٍ " 836 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ ما أحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنثيينِ، وجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وجَعَلَ لِلْمَرْأةِ الثمُنَ والربُعَ، وَلِلْزَوْجِ الشَّطر والربُعَ ".   " لا " فقال سعد. فالشطر، قال: " لا " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له (1) فإن مالكاً لا يجيز ذلك، وكذلك الأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإسحاق، وهو قول ابن مسعود، وسبب الخلاف هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع؟ أم ليس بخاص؟ وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس كما قال عليه الصلاة والسلام، فمن جعل هذا الحكم خاصاً بما فيه هذه العلة وجب أن يرتفع الحكم بارتفاعها، ومن جعل الحكم عبادة -أي حكماً تعبدياً- وإن كان قد علل بعلة أو جعل جميع المسلمين بمنزلة الورثة، قال: لا تجوز الوصية إطلاقاً بأكثر من الثلث. ثانياً: أن الوصية بأقل من الثلث أفضل، وقد قال بهذا كثير من السلف كما أفاده ابن رشد. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم - " الثلث، والثلث كثير ". 735 - " باب لا وصية لوارث " 836 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان المال للولد ". أي كان مال الميت كله لولده لا يشاركه فيه زوجة ولا غيرها،   (1) " بداية المجتهد " لابن رشد ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 ولا أب ولا أمّ لا وكانت الوصية للوالدين " أي وكانت الوصية في أوّل الإِسلام مشروعة للأبوين دون الأولاد، " فنسخ الله من ذلك ما أحب " أي فلما نزلت آية المواريث، نسخ الله ما شاء من الأحكام السابقة، فنسخت الوصية للورثة من الوالدين وغيرهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا وصية لوارث " ونُسِخَ أيضاً تخصيص الولد بالميراث دون البنت، وأشركها مع الولد بقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فجعل لها سهماً، وللولد سهمين، " وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس " أي وفرض لكل واحد من الأبوين السدس عند وجود الولد من الصلب، أو ولد الولد، واحداً، أو متعدداً، فإن كان للميت بنت أو بنت ابن فإن للأم السدس أيضاً لا يزيد ميراثها عنه لوجود الفرع الوارث، وأما الأب فإنه في هذه الحالة يكون له السدس فرضاً وما تبقى عن أصحاب الفرائض تعصيباً، وقد لا يبقى له شيء، فلا يرث إلاّ سدس الفرض، " وجعل للمرأة الثمن " كما أي وفرض للزوجة عند وجود الفرع الوارث ذكراً أو أنثى الثمن كما قال تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) " والربع " أي وفرض للزوجة الربع عند عدم الفرع الوارث ذكراً كان أو أنثى فقال سبحانه: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) " وللزوج الشطر "، أي وفرض للزوج النصف عند عدم الفرع الوارث ذكراً أو أنثى، فقال سبحانه: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ)، " والربع " عند وجوده فقال: (فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الميراث كله كان خاصاً بالولد لا يشاركه فيه غيره، ولا يرث معه سواه، فنسخ الله ذلك، وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، فأشرك معه البنت في الميراث، فجعل لها سهماً وجعل له سهمين. وأشرك معه الزوجة والزوج أيضاً. ثانياً: أن الأم ترث السدس عند وجود الفرع الوارث ذكراً كان أو أنثى، سواء كان ولداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 أو بنتاً وولد ولد أو بنت ولد، لقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ)، وسواء كان واحداً أو أكثر. مثال ذلك: إذا كان للميت بنت، وبنت ابن، وأخت شقيقة، وأم، فللأم السدس لوجود الفرع الوارث وهو البنت، وللبنت النصف، ولبنت الابن السدس (1)، وللأخت الشقيقة الباقي. ويختلف ميراث الأم بحسب اختلاف الأحوال، فترث السدس في حالتين: الأولى عند وجود الفرع الوارث كما تقدم. الثانية عند وجود الأخوة اثنان فصاعداً، ذكوراً أو إناثاً أو مختلفين، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أن الأخوين أو الأختين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، خلافاً لابن عباس رضي الله عنهما، فإنه كان يرى أنه لا يحجبها إلى السدس إلا ثلاثة فأكثر لقوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) واتفق أهل العلم ما عدا ابن عباس رضي الله عنهما على أن للأم السدس عند وجود الإِخوة أو الأخوات اثنين فصاعدا أشقاء أو لأب وأم، أو مختلفين. مثال ذلك: إذا خلّف الميت أختين وأماً وعماً. فإن للأختين الثلثين، وللأم السدس فرضاً، وللعم الباقي تعصيباً. وترث الأم الثلث عند عدم الفرع الوارث والأب والإِخوة والزوجين، لقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) مثال ذلك: إذا خلّف الميت أبوين فقط، فإن للأم الثلث فرضاً وللأب الباقي تعصيباً، لأن الله تعالى قد أضاف المال لهما، ثم جعل للأم الثلث فكان الباقي للأب تعصيباً (2). وترث الأم ثلث الباقي بعد الفرض إذا كانت مع الأب وأحد الزوجين ولم يكن له إخوة، ولا فرع وارث. مثال ذلك: إذا خلّف الميت أباً وأماً وزوجة، فللزوجة الربع فرضاً، وللأم ثلث ما بقى بعد فرض الزوجة   (1) تتمة للثلثين، أي للبنت وبنت الابن ثلثان، فلما استحقت البنت النصف بقي لبنت الابن السدس تتمة الفرض. (2) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 فرضاً، وللأب الباقي تعصيباً. ثالثاً: أن الأب يرث السدس إذا كان للميت ولد ذكر، أو ولد ولد واحداً كان أو أكثر، لقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) ولقوله في حديث الباب: " وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس "، ويختلف ميراث الأب باختلاف الأحوال، فيرث السدس عند وجود الولد. ويكون عصبة فقط عند عدم الفرع الوارث ذكراً كان أو أنثى. مثال ذلك: إذا خلّف الميت أباً وزوجة فقط، فللزوجة الربع فرضاً، وللأب الباقي تعصيباً. ويرث الأب فرضاً وتعصيباً معاً: إذا اجتمع مع إناث الولد - أي إذا كان للميت بنت أو بنات أو بنت ولد أو بنات ولد. فيكون له السدس فرضاً والباقي تعصيباً، مثال ذلك: إذا خلّف الميت أباً وبنتاً فقط، فللبنت النصف فرضاً، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " متفق عليه، فالأب أولى رجل ذكر بعد الابن وابنه (1). رابعاً: أن للزوج الربع عند وجود الفرع الوارث " وهو أولاد الميت ذكوراً وإناثاً وإن نزلوا (2) وله النصف عند عدمه، وللزوجة الثمن عند وجود الفرع الوارث، والربع عند عدمه. خامساً: دل الحديث على أن لا وصية لوارث، قال ابن المنذر: " تبطل الوصية للوارث عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنّها لا تجوز، ولو أجازها الورثة، وهو قول أهل الظاهر، واتفق مالك (3) والثوري والكوفيون والشافعي على أن الورثة إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم. والمطابقة: في قوله " كانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب " الحديث: أخرجه البخاري.   (1) " شرح عمدة الفقه " للمقدسي. (2) " الرائد في الفرائض " للدكتور الخطراوي. (3) " شرح العيني على البخاري " ج 14. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 736 - " بَابُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ المَوْتِ " 837 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُل للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ الصَّدَقَةِ أفْضَلُ؟ قَالَ: " أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأمُلُ (1) الغِنَى وتَخشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حتى إذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَان كذَا، ولِفُلَان كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ ".   736 - " باب الصدقة عند الموت " أي هذا باب يذكر فيه جواز الصدقة، أي الوصية عند الموت وصحتها ونفاذها إذا كانت على الوجه الشرعي الصحيح. 837 - معنى الحديث: أن أحد الصحابة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل أوقات الصدقة، وأعظمها أجراً، وأكثرها مثوبة، فقال: " أن تصدّق وأنت صحيح حريص " أي في وقت صحتك، واستكمال قواك الجسمية، حيث يكون قلبك متعلقاً بالمال، حريصاً عليه، متطلعاً إلى تنميته وزيادته، فإذا سارعت إلى الصدقات، في وجوه الخير، وبادرت إلى قضاء ما عليك من الديون وأنت على هذه الحال، كان أفضل لك من أن تمسك مالك في حال صحتك وقوتك، " حتى إذا بلغت الحلقوم " أي حتى إذا دنت المنيّة ووصلت الروح إلى مجرى الطعام وأوشكت على الخروج " قلت: لفلان كذا ولفلان كذا " أي تبرعت من مالك بعد وفاتك لفلان وفلان، " وقد كان لفلان " أي وبينت الدين الذي عليك لفلان ليسدد من تركتك. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي. أولاً: جواز الوصية لأنه   (1) بسكون الهمزة وضم الميم، أبي تطمع في الغنى كما أفاد القسطلاني " وتخشى الفقر " أي تخاف الفقر، وهو مصداق قوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) الخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب: لما سئل أي الصدقة أفضل؟ قال: " أن تصدَّق وأنت صحيح حريص، تأمل الغنى، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا. ثانياًً: أن الوفاء بالدين والمبادرة إلى قضائه في حال الحياة أفضل من وصية الورثة بقضائه بعد الموت، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان " فإن المراد بقوله: " وقد كان لفلان " الإِقرار بالدين كما أفاده الحافظ رحمه الله. ثالثاً: أن الوصية - كما قال في " تيسير العلام " (1) مشروعة بالسنة وإجماع المسلمين في جميع الأعصار والأمصار، وهي من محاسن الإِسلام حيث جعل لصاحب المال جزءاً من ماله يعود عليه عند الموت، سواء كانت هذه الوصية تبرعاً أو كانت بياناً لدين على الميت، أما الأول: فدليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا " فإن المراد به الوصية، وأما الثاني فدليله قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وقد كان لفلان " فإن المراد به الدين كما أفاده الحافظ رحمه الله. والحاصل أن الوصية في جميع الأوقات مشروعة جائزة نافذة المفعول على شرط أن يكون الموصي كامل الأهلية بالعقل (2) والبلوغ والحرية والاختيار غير سفيه ولا مغفل، فإن كان صغيراً أو مجنوناً، أو عبداً، أو مكرهاً، أو محجوراً عليه، فلا تصح وصيته ولا تنفذ، وأن يكون الموصى له غير وارث، وإلّا فلا تنفذ الوصية إلاّ برضا الورثة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا وصية لوارث " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، رابعاً: أن الصدقة في الحياة وفي حال الصحة أفضل من الوصية والتبرع بشيء من المال يعود إليه بعد الموت ثوابه وأجره. وهي من لطف الله بعباده ورحمته بهم، ولهذا جاء في بعض الأحاديث القدسية يقول الله تعالى:   (1) " تيسير العلام " ج 2. (2) " فقه السنة " للسيد سابق ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 737 - " بَاب هَلْ يَدخل الْوَلَد والنِّسَاءُ في الأقَارِبِ " 838 - عَنْ أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: قَامَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أنزلَ الله "عَزَّ وَجلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فَقَالَ: " يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أو كَلِمَةً نَحْوَهَا، اشْتَروا أنفسَكُمْ لا أغْنِي عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يا بَني عَبْدِ مَنَافٍ لا أغْنِي عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لا أغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يا صَفِيَّة عَمَّةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يا فَاطِمَة بِنْتَ محَمَّدٍ سَلِيني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لا أغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئَاً ".   " يا ابن آدم جعلت لك نصيباً من مالك حين أخذتُ بكظَمك لأطهرك (1) به وأزكيك " (2). الحديث: أخرجه. البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود. والمطابقة: في قوله " حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا ". 737 - " باب هل يدخل الولد والنساء في الأقارب " أي إذا أوصى للأقارب ببعض ماله هل يدخل فيهم النساء والأولاد؟ 838 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وأمره الله تعالى بإنذار عشيرته وأقاربه، سمع الناس وقام فيهم خطيباً على الصفا، فعمم بخطابه أولاً قريشاً كلها وقال: " يا معشر قريش " أي يا جماعة قريش أو يا قبيلة قريش، " اشتروا أنفسكم " أي خلّصوا أنفسكم من عقاب الله بتوحيده، والدخول في دينه، "لا أغني   (1) الكَظَم: بفتح الكاف والظاء: مخرج النفَس من الحلق، أي عند خروج روحه. والحديث أخرجه ابن ماجة رقم (1210) قال البوصيري في الزوائد: في إسناده تعال. (ع). (2) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 عنكم من الله شيئاً" أي فإني لا أدفع عنكم من عذاب الله شيئاً إن لم تؤمنوا به وتوحدوه وتتركوا عبادة آلهتكم الباطلة " يا (1) بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي " أي اطلبي من مالي ما تريدين فإنني لا أبخل به عليك، أما في الآخرة " فإني لا أغني عنك من الله شيئاً " إن لم تؤمني بالله وتوحديه. الحديث: أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أوصى للأقارب دخل فيهم الذكور والإِناث معاً، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، سواء كانوا من قبل أبيه أو من قبل أمه، وقال أحمد: تدخل الأنثى من قبل الأب خاصة، ولا تدخل الأم ولا ما تفرع منها كما أفاده العيني وأبو المظفر في " الافصاح "، وهو مذهب مالك في رواية، وحاصل مذهب أحمد في أظهر الروايتين عنه " أنه ينظر من كان يصله في حال حياته ينصرف إليه ذلك، وإلَّا فالوصية لقرابته من قبل أبيه، وهم أباؤه وأجداده وأولاده لصلبه وأولاد البنين، وإخوته وأخواته، وأعمامه وعماته، ولا تدخل الأم في ذلك بحال " وهكذا فإنّ الأنثى تدخل في الوصية للأقارب إذا كانت من قبل الأب، أما من كان من قبل الأم فإنه لا يدخل في الوصية عند أحمد مطلقاً، سواء كان ذكراً أو أنثى. أما الآباء والأولاد، فقد اختلف الفقهاء فيهم، فذهب أبو حنيفة إلى عدم دخولهم في الوصية للأقارب، وقال الشافعي وأحمد في أظهر روايتيه: يدخل الآباء والأجداد والأولاد، إلاّ أن أحمد اشترط في ذلك أن لا يكون له من يصله في حال حياته، وإلّا رجعت الوصية إليه خاصة. اهـ. كما أفاده أبو المظفر في " الإفصاح " والعيني في " شرح البخاري " (2). ثانياً:   (1) أي ثم وجه الخطاب إلى بني عبد مناف فخصص بعدما عمم (2) " شرح العيني " ج 14 و " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 738 - " بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُتَوَفَّى فَجْأةً أنْ يَتَصَدَّقُوا عَنْهُ، وَقضَاءِ النُّذُورِ عَن الْمَيْتِ " 839 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلْنَبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ أمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وأرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أفَأتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ تَصَدَّقْ عَنْهَا ".   أن قرابة النسب من الأنبياء والصالحين لا تنفع الكافر في النجاة من دخول النار. مطابقة الحديث ترجمة أن الحديث بمنزلة الجواب عنها. 738 - " باب ما يستحب لمن يتوفّى فجأة أن يتصدقوا عنه وفاء النذور عن الميت " 839 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رجلاً " قال بعضهم: " هو سعد " بن أبي وقاص رضي الله عنه " قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أمي أفتلتت نفسها " بالرفع على أنه نائب فاعل، وبالنصب على أنّه مفعول ثاني، أي بادرتها المنية وماتت فجأة " وأراها لو تكلمت تصدقت " بضم الهمزة أي وأظنها لو تمكنت من الكلام لتصدقت في حياتها، كما جاء في رواية أخرى في الجنائز، قال فيها: " إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت " " فأتصدق عنها؟ قال: نعم تصدق عنها " فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق عن أمه بعد وفاتها. الحديث: أخرجه الخمسة (1). والمطابقة: في قوله " نعم تصدق عنها ".   (1) وأخرجه البخاري والترمذي بلفظ: " أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: " نعم " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 840 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ أمِّي مَاتَتْ وَعَلْيْهَا نَذْرٌ، فَقَالَ: " اقْضِهِ عَنْهَا ".   840 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما: " أنّ سعد بن أبي وقاص استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم قضاء النذر عن أمه بعد وفاتها " فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر " لم توفه، لوجود بعض الأعذار الشرعية أو لأنها ماتت فجأة، كما يدل عليه الحديث السابق - أما النذر فقد جاء في بعض الآثار أنّه كان عتقاً، وفي بعضها كان صوماً، وفي بعضها صدقة. " فقال: اقضه عنها " أي فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء النذر عنها بعد وفاتها. الحديث: أخرجه أيضاً مالك والنسائي بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اقضه عنها ". فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لقريب الميت أن يتصدق عنه، قال الترمذي: وبه يقول أهل العلم (1)، يقولون: ليس شيء يصل إلى الميت إلاّ الصدقة والدعاء. اهـ. أي إن وصول نفعهما إلى الميت مجمع عليه، واختلفوا في العبادات البدنية، كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها. اهـ. كما أفاده القاري في " شرح الفقه الأكبر " ونقله عنه في " تحفة الأحوذي " (2). ثانياً: أن موت الفجأة ليس بمكروه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تظهر منه كراهة حين أخبره الرجل أن أمه افتلتت نفسها وإن كان مستعاذاً منها، لما يفوت بها من خير الوصية، والاستعداد   (1) " جامع الترمذي ". (2) " تحفة الأحوذي " ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 739 - " بَابُ الْوَقْفِ كَيْفَ يُكْتَبُ " 841 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أرْضَاً، فَأتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَْ: أصَبتُ أرْضاً لم أصبْ مَالاً قَطُّ أنفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأمُرَنِي بِهِ؟ قَالَ: " إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أنّهُ لا يباعُ أصْلُهَا، ولا يُوهَبُ، ولا يُورَثُ، في الفُقَرَاءِ والْقُرْبَى والرِّقَابِ وفي سَبِيلِ اللهِ والضَّيفِ وابْن   للمعاد بالتوبة، وغيرها من الأعمال الصالحة، كما أفاده القسطلاني (1). ثالثاً: دل الحديث الثاني على استحباب قضاء النذر عن الميت من صوم أو صدقة أو نحو ذلك وأنه ينفعه ذلك ويبرىء ذمته من ذلك النذر ويسقطه عنه وهو قول الجمهور، وقال الظاهرية يجب قضاء النذر عن الميت تعلقاً بظاهر (2) الأمر سواء كان مالياً أو غيره. اهـ. والله أعلم. 739 - " باب الوقف كيف يكتب " أراد البخاري بهذه الترجمة بيان مشروعية كتابة الوقف لضبطه وتوثيقه. 841 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه اشترى قطعة أرض من خيبر كما في رواية النسائي: أنه كان لعمر مائة رأس، فاشترى بها مائة سهم من خيبر فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - راغباً في أن يتصدق بها في سبيل الله، لأنها أغلى أمواله وأحبها إلى نفسه، وسأله أن يأمره - صلى الله عليه وسلم - بما يفعل فيها، فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوقفها على الفقراء والأقارب، وعتق الرقاب وتجهيز الغزاة وإعانة المسافرين حيث " قال: إن شئت حبست أصلها " أي أوقفت الأرض وأصول الشجر الموجودة فيها " لا يباع ولا يوهب ولا يورث " أي فلا يتصرف   (1) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 2. (2) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 السبيلِ، لا جُنَاحَ على مَنْ وَلِيَهَا أنْ يَأكلَ منها بالْمَعْرُوفِ، أو يُطْعِمَ صَدِيقاً غَيْرَ مُتَمَوِّل فِيهِ.   أحد في أصلها ببيع ولا هبة ولا ميراث " في الفقراء والرقاب الخ " وتصدقت بها على الفقراء وغيرهم فيكون أصلها موقوفاً غير قابل للتصرف فيه، ويكون الريع والدخل السنوي صدقة، تصرف في الجهات المذكورة " ولا جناح على من وليها " أي ولا حرج على من تولى النظارة عليها " أن يأكل منها بالمعروف " أي أن يأخذ منها بقدر أجرة عمله " أو يطعم صديقاً " من ثمرها " غير متمول فيه " أي غير متملك لها. الحديث: أخرجه الخمسة إلا ابن ماجة بألفاظ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الوقف والترغيب فيه، وكونه من أفضل الصدقات، ولذلك أشار به النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها " الخ وذلك لأن الوقف يدخل في الصدقة الجارية التي يستمر بها عمل العبد، ويتجدد ثوابه بعد وفاته، لأن العلماء قد فسروا الصدقة الجارية بالوقف، وكان أول وقف في الإِسلام كما أخرجه ابن أبي شيبة وأشار الشافعي إلى أنه من خصائص الإسلام، ولا يعرف في الجاهلية، وهو لغة الحبس، وشرعاً: حبس مال يمكن الانتفاع به على مصرف مباح مع بقاء عينة، وقطع التصرف في رقبته كما أفاده الصنعاني. وقال بعضهم: هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة، أي وصرف منافعه فِي الأقارب ويسمّى بالوقف الأهلي (1)، أو في جهة من جهات الخير ويسمّى بالوقف الخِيري. ثانياًً: مشروعية كتابة الوقف في كتاب يكتب فيه هذه الشروط المذكورة، وغيرها من الشروط المشروعة، والجهة الموقف عليها، كما فعل عمر رضي الله عنه. ثالثاً: مشروعية تعيين ناظر للوقف بأجر   (1) أو الوقف الذري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 740 - " بَابُ قَولِ اللهِ تعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) إلى قوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) "   معين، ونسبة محددة يتقاضاها من غلته، لقوله في حديث الباب: " ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف " ولقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة: " ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: " كما قال العيني في قوله. " إن شئت حبست أصلها " الخ. 740 - " باب قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ... ) " معنى هذه الآية: أن الله جلّت حكمته، شرع لعباده الوصية في الحضر، وأكدها في هذه الآية في السفر حفظاً لحقوق الناس، فقال: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " الخ أي أن الله أمر المسافر إذا أحس بدنو أجله أن يوصي ويشهد على وصيته عدلين من المسلمين إن وجدا، وإلّا أشهد اثنين كافرين ويدفع لهما ما معه من مال ليوصلاه إلى ورثته قال تعالى: " فيقسمان بالله إن ارتبتم " أي فإن شك الورثة في الرجلين فإنهما يوقفان، ويستحلفان بعد العصر أنّهما ما كذبا، ولا خانا قائلين " لا نكتم شهادة الله إنا إذن لمن الآثمين " فإذا ظهرت بعد ذلك خيانتهما، كما قال تعالى: " (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) " أي فإن ظهر كذبهما في يمينهما وشهادتهما، ردت اليمين إلى ورثته، فيقوم رجلان من أوليائه وورثته فيقسمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 842 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا قَالَ: " خَرَجَ رَجُل مِنْ بَنِي سَهْم مَعَ تَمِيم الدَّارِي وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْمِي بأرْضٍ لَيْسَ بها مُسْلِم، فَلَمَّا قَدِمَا بتَرِكَتِهِ فَقَدوا جَاماً مِنْ فِضَّةٍ مخَوَّصاً مِنْ ذَهَبٍ، فأحْلَفَهمَا رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ وجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيم وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أوْلِيَاءِ السَهْميِّ فحلَفَا لَشَهَادَتنَا أحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وِإنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) ".   بالله إنه قد كان معه كذا وكذا، وأن شهادتهما ويمينهما على ذلك أحق وأصدق من شهادة الذين حضروا الوصية التي شرعها الإِسلام في قوله: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها " أي إنما أمركم الله بما أمرم به، لاتخاذ أقوى الوسائل التي تدفع الشهود إلى الصدق في شهادتهم خوفاً من الفضيحة، وتهمة الخيانة. 842 - معنى الحديث: أن " بزيل السهمي " بضم الباء وفتح الزاي وفي رواية " بديل " بضم الباء وفتح الدال سافر مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاءٍ، فمات غريباً بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فلما حضرته الوفاة، أوصى بمتاعه وماله لأهله وأشهد على ذلك هذين الرجلين، ودفع إليهما ما كان معه من مال ومتاع، ليوصلاه إلى ورثته، فلما قدما بتركته على أهله وورثته وتفقدوها، وجدوا أن هناك كأساً فضياً مزخرفاً بالذهب، مثبتاً في وصية الميت بخط يده غير موجود في التركة، فطالبوهما به، فأنكرا، فاحتكموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عدي وتميم قد أسلما، فاستحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهما لم يجدا الكأس المذكورة في تركته، فحلفا، ثم وجد الكأس بمكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 عند بعض الناس، فلما سئلوا عنه أجابوا بأنهم اشتروه من تميم وعدي، وظهرت خيانتهما، وهو معنى قوله في الحديث: " ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي " عند ذلك قام رجلان من أقارب الميت، فشهدا وأقسما على أن هذه الكأس هي كأس الميت المفقودة، وأن شهادتهما ويمينهما أصدق من شهادة الرجلين ويمينهما، فنزلت الآية المذكورة. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: سبب نزول الآية الكريمة، وهو ما تضمنته هذه القصة المذكورة في الحديث، وهذا ما ترجم له البخاري. ثانياًً: تأكيد الوصية والإِشهاد عليها في السفر. ثالثاً: تكليف الشاهدين باليمين عند ارتياب الورثة فيقسمان بالله قائلين " نقسم بالله على كذا، وعلى أننا لم نكتم شهادة الله إنا إذن لمن الآثمين. رابعاً: أنه إذا ظهر ما يدل على خيانتهما، ردت اليمين إلى أقرب الورثة، " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا، إنا إذن لمن الظالمين. خامساً: قال الحافظ: استدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناءً على أن المراد بالغير الكفار، وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه، وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية، منهم ابن عباس والأوزاعي والثوري وأبو عبيد وأحمد وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية، وحديث الباب والله أعلم. والمطابقة: في كون القصة المذكورة سبباً في نزول هذه الآية. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الجهاد والسير " للجهاد معنيان (أ) جهاد أصغر وهو مكافحة النفس والشيطان (ب) وجهاد أكبر وهو مقاتلة الكفار إعلاءً لكلمة الله تعالى، ونشراً لدينه وهل الجهاد أفضل أو طلب العلم أفضل مسألة اختلف فيها العلماء؟ قال في " فيض الباري ": واعلم أن شغل العلم أفضل الأشغال عند أبي حنيفة ومالك، وعند أحمد الجهاد أفضل، كذا في " منهاج السنة " لابن تيمية، وفي كتاب السفاريني: عند أحمد رواية نحو أبي حنيفة ومالك، وهذا كله إذا لم يكن الجهاد فرض الوقت، لأن الكلام في باب الفضائل دون الفرائض ". اهـ. وأما السير: فإن المراد بها هنا أبواب الجهاد أيضاً لأنها متلقاة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده القسطلاني. هذا وقد شرع الجهاد، في السنة الثانية من الهجرة، حيث نزل قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). وحكمه في الأصل فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، حيث قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) فإن الآية تدل على أن الجهاد ليس فرضاً عينياً واجباً على كل فرد من المسلمين، إنما هو فرض كفائي، يجب أن يقوم به طائفة من المسلمين، فإذا قامت به سقط وجوبه عن بقيتهم، ومما يؤكد ذلك ما رواه الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى لما شدد على المتخلفين (1) قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبداً، ففعلوا ذلك، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده، فنزل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ   (1) " تفسير الآلوسي " ج 11. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 741 - " بَابُ فضلِ الْجِهَادِ والسيرِ " 843 - عَنْ أبي هُريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُل إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: دُلَّنِي على عَمَل يَعْدِلُ الْجِهَادَ، قَالَ: " لا أجِدُهُ: قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ ولا تَفْتُرَ (1)، وتَصُومَ ولا تفْطِرَ، قَالَ: ومَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ ".   الْمُؤْمِنُونَ) الآية، ولكن هناك ظروف خاصة يتعين فيها الجهاد على كل مسلم، وذلك إذا هاجم العدو البلد الذي يقيم به المسلمون فإنّه يجب عليهم جميعاً أن يخرجوا لقتاله، وكذلك إذا استنفر الحاكم أحداً من المكلفين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا (2) استنفرتم فانفروا ". 741 - " باب فضل الجهاد والسير " 843 - معنى الحديث: أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدله على عمل يساوي الجهاد في منزلته وقدره، وعظم أجره ومثوبته، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أجد عملاً يماثل الجهاد أو يساويه، لأن رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا كما في الحديث الصحيح " والروحة يروحها أحدكم في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها. وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها " ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك وتعتكف فيه للعبادة دائماً، فتقوم في الصلاة دون انقطاع، وتواصل الصوم دون إفطار، إذا كان هذا ممكناً فإنه هذا وحده هو الذي   (1) قوله " ولا تفتر " بفتح التاء الأولى، وإسكان الفاء، وضم التاء الثانية، وفتح الراء، بالنصب على أنه معطوف على " تدخل ". (2) " فقه السنة " ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 742 - "بَابُ أفضلَِ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبِيلِ اللهِ " 844 - عَنْ أبي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ " قَالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " مُؤْمِن في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ".   يعدل الجهاد، عند ذلك قال الرجل: " ومن يستطيع ذلك " يعني ومن يستطيع مواصلة الصلاة والصيام دائماً وأبداً لا شك أن ذلك أمر فوق مقدور البشر. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن الأعمال قسمان: مقاصد كالحج والصلاة، ووسائل، وأفضلها إطلاقاً الجهاد، لأنه وسيلة إلى إعلاء الدين. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 742 - " باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله " 844 - معنى الحديث: أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أفضل إيماناً، وأعلى درجة، وأعظم مثوبة وأجراً عند الله تعالى، فأجابه - صلى الله عليه وسلم -: أن أفضل المؤمنين رجل مؤمن قام بما يجب عليه نحو دينه وأدى حقّ الله عليه، ثم جاهد بنفسه وماله لِإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فقال بعض الصحابة: ثم من؟ أي من يليه في الأفضلية، فأجاب - صلى الله عليه وسلم -: بأنه يليه في الأفضلية رجل مؤمن رأى فساد المجتمع وانتشار المنكرات فيه، وشعر بأنه لا يستطيع أداء شعائر دينه، وخاف الفتنة، فاعتزل الناس، فعاش في شعب من الشعاب " وهو ما انفرج بين الجبلين " والمراد أنه ابتعد عن الناس ليسلم من شرهم وفتنتهم حيث يتقي الله ويتمكن من طاعته وعبادته، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 845 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ -واللهُ أعلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ في سَبِيلِهِ- كَمَثَل الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ في سَبِيلهِ بأنْ يَتَوَفَّاهُ أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أو يَرْجِعَهُ (1) سَالِماً مَعَ أجرٍ أوْ غَنِيْمَةٍ ".   وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلاّ أن يهرب بدينه من شاهق إلى شاهق " أخرجه البيهقي. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 845 - معنى الحديث: أن المجاهد في سبيل الله لِإعلاء كلمة الله ونصرة دينه يساوي ويماثل القائم الدائم القيام، والصائم الدائم الصيام الذي لا يفتر ولا ينقطع عن صلاته وصيامه طول حياته، كما في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة، أخرجه مسلم. وإنما كان المجاهد كذلك لأنه لا تفوته ساعة دون أجر كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " والله أعلم بمن يجاهد في سبيله " جملة اعتراضية معناها: ولا يعلم بالمجاهد الحقيقي إلاّ الله تعالى، لأنه وحده هو المطلع على نيته، " وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالماً مع أجر وغنيمة " أي ضمن له إحدى الحسنيين، الشهادة والجنة، أو العودة بالسلامة والأجر والغنيمة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.   (1) هكذا بفتح الياء ونصب الفعل عطفاً على يتوفاه كما أفاده العيني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 743 - " بَابُ الغدوَةِ (1) والرَّوْحَةِ في سَبيلِ اللهِ " 846 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لقَابُ قَوْسٍ في الْجَنَّةِ خَيْر مما تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ وتَغْرُبُ " وقالَ: " لَغَدْوَةٌ أوْ رَوْحَةٌ في سبيلِ اللهِ خَيْرٌ مما تَطْلَعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ ".   والمطابقة: في قوله " يدخله الجنة " الخ فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: أن أفضل المؤمنين من أضاف إلى إيمانه الجهاد في سبيل الله. ثانياً: أن المجاهد لِإعلاء كلمة الله يساوي العابد الدائم العبادة طول حياته، الذي لا يفتر عن الصيام والقيام في فضله، ويزيد عليه بأن الله ضمن له الجنة أو العودة بأجر وغنيمة. ثالثاً: فضل العزلة عند تفاقم الفتن والخوف على الدين منها. 743 - " باب الغدوة والروحة في سبيل الله " 846 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب " أي لو خير المجاهد بين الفوز بجزءٍ يسير من الجنة لا تزيد مساحته على طول قوس واحد، أو امتلاك هذه الدنيا وما تصل إليه أشعة الشمس من رحابها وكائناتها العلوية والسفلية لاختار هذا الجزء اليسير من الجنة، وفضله على الدنيا بأسرها، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ولغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب " أي مشاركة يسيرة في الجهاد أوّل النهار أو آخره يزيد ما يفوز به صاحبها من النعيم الأخروي على ما يفوز به من يمتلك الدنيا كلها بما فيها من كنوز ونفائس وذخائر،   (1) بفتح الغين " الغَدْوة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 744 - " بَاب من يُجْرَحُ في سَبِيلِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ " 847 - عَنْ أبي هرَيرةَ رَضِيَ الله عَنْه: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " والَّذِي نَفْسِي بِيَده لا يكْلَمُ أَحَدٌ في سَبِيلِ اللهِ -وَالله أَعْلَم بِمَنْ يُكْلَمُ في سَبِيلِهِ- إلَّا جَاء يَوْمَ الْقِيَامَةِ والَّلْون لَوْن الدَّمَ والرِّيْحُ رِيْحُ الْمِسْكِ " (1).   أو يزيد ثواب هذه المشاركة اليسيرة على ثواب من امتلك الدنيا بأسرها وأنفقها في سبيل الله. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على عظيم فضل الجهاد، والترغيب في المساهمة فيه بأي مشاركة ولو قليلة، لأن المشاركة اليسيرة تعدل الدنيا بأسرها، والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 744 - " باب من يجرح في سبيل الله عز وجل " 847 - معنى الحديث: أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه وخالقه المالك لروحه المتصرف فيها كيف يشاء على أنه ما من أحد يجرح وهو يقاتل حقيقة لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، لا لقومية ولا عصبية " إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك " أي أن دمه الزكي وان كان يشارك الدماء في لونها إلا أنه تفوح منه رائحة المسك. قال القسطلاني: والظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة وجرحه يتصبب من فارق الدنيا وجرحه كذلك، وقوله: " والله أعلم بمن يكلم في سبيله " جملة معترضة بين المستثنى منه والمستثنى، قال القسطلاني: ومعناه والله أعلم تعظيم شأن من يكلم في سبيل الله ويجوز أن يكون تتميماً وتنبيهاً على الإِخلاص في الغزو، وأن الثواب المذكور لمن   (1) وقد ثبت ذلك في الدنيا وظهر للناس، وتواترت الأخبار أن دماء الشهداء الأفغان تفوح مها رائحة المسك. أهـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 745 - " بَاب مَنْ أتاه سَهْم غَرْبٌ فَقَتَلَه " 848 - عنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله "عَنْه: أنَّ أُمَّ حَارِثَةَ بْنَ سُرَاقَةَ أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا نَبِيَّ اللهِ، ألا تحَدِّثُنِي عن حَارِثَةَ، وكانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أصَابَة سَهْمٌ غَرْبٌ، فإن كَانَ في الْجَنَّةِ صَبَرْت، وِإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْت عَلَيْهِ في الْبُكَاء، قَالَ: " يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنها جِنَانٌ في الْجَنَّةِ وإنْ ابْنَكِ أصَابَ الْفِرْدَوْسَ الَأعْلَى ".   أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الشهداء والإِعلان عنهم يوم القيامة، حيث يبعث الشهيد يسيل جرحه دماً، ويفوح طيباً كأنما قتل في تلك اللحظة، والحكمة في ذلك كما قال القسطلاني: أن يكون معه شاهد على بذل نفسه في طاعة الله. ثانياًً: ترغيب المجاهدين في إخلاص النية وتجريد القصد لله كما يدل عليه قوله: " والله أعلم بمن يكلم في سبيله ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي بألفاظ. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. 745 - " باب من أتاه سهم غرب فقتله " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على شهادة من أصابه سهم طائش لا يعرف راميه. 848 - معنى الحديث: أن حارثة بن سراقة كان قد استشهد يوم بدر بسهم طائش لا يعرف مصدره، فجاءت أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله عن مصيره، لأنه قتل برمية غير مقصودة، لهذا قالت: " فإن كان في الجنة صبرت عليه " أي صبرت على فقده، واحتسبته عند الله، مستبشرة بقتله في سبيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 746 - " بَابُ مَنْ قَاتلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا " 849 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمَ، والرَّجُلُ يُقَاتِلُ للذِّكْرِ، والرَّجُلُ يُقَاتِل لِيُرى مَكَانُهُ، فمنْ في سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لَتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي الْعُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ ".   الله، وفوزه بالشهادة " وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء " لأني خسرته، وخسر حياته دون فائدة، " قال: يا أم حارثة إنّها جنان " متعددة " وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى " وهي أفضل الجنان وأعلاها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن كل من خرج في سبيل الله فقتل فهو شهيد، ولو برمية طائشة من سهم، أو رصاصة. ثانياًً: أن منازل الشهداء في الفردوس الأعلى. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. 746 - " باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا " 849 - معنى الحديث: أن رجلاً من الصحابة يسمى لاحق بن ضميرة الباهلي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن المقاتلين تختلف نواياهم ومقاصدهم، فمنهم من يقاتل طمعاً في الغنيمة، ومنهم من يقاتل ليتحدث الناس عنه بالبطولة والفروسية، ومنهم من يقاتل لينال مكانة مرموقة، ومنزلة عالية في المجتمع، فمن هو المجاهد في سبيل الله الذي إذا مات مات شهيداً، وإن سلم عاد إلى أهله بأجر وغنيمة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " المجاهد الحقيقي الذي يحقق لنفسه كل هذه المزايا هو من قاتل لِإعلاء كلمة الله ونصرة دينه دون أي دافع من الدوافع النفسية الأخرى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الجهاد الحقيقي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 747 - " بَابُ ظِلِّ الْمَلاِئكَةِ عَلَى الشَّهِيدِ " 850 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: جِيءَ بأبي إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقَدْ مُثِّلَ بِهِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَهَبْتُ أكشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فنَهَانِي قَوْمِي، فَسَمعَ صَوْتَ نَائِحَةٍ، فَقِيلَ: ابْنَةُ عَمْرو أوْ أخْتُ عَمْرو، فقَالَ: " لِمَ تَبْكِي؟ أوْ لا تَبْكِي، ما زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بأجْنِحَتِهَا "، قُلْتُ لِصَدَقَةَ: أفِيهِ " حَتَّي رُفِعَ؟ " قَالَ: رُبَّمَا قَالَهُ.   الذي تنال به الشهادة أو الأجر والغنيمة هو الجهاد لإعلاء كلمة الله. ثانياً: أن كل غرض من الأغراض الدنيوية تفسد على المسلم جهاده، لأن إخلاص النية شرط في صحة جميع الأعمال وقبولها. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة. 747 - " باب ظل الملائكة على الشهيد " 850 - معنى الحديث: أن جابر بن عبد الله يحدثنا عن استشهاد والده فيقول لما استشهد والده عبد الله بن عمرو مَثّل به المشركون وقطعوا أنفه وأذنه، وبعض أطرافه، فأراد ولده أن يكشف الثوب عن وجهه فمنعه قومه عن ذلك لئلا يرى وجه أبيه على تلك الحالة فيشتد حزنه عليه، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت امرأة تبكي عليه بصوت مرتفع، فقال: من هذه؟ قالوا: إنها أخته فاطمة بنت عمر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ولم تبكي، أولا تبكي، ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها " أي لا تبكي أخته عليه، فإن من حقها أن تفرح وتستبشر وتسر بما لقيه أخوها من الحفاوة والكرامة، فإن الملائكة قد غشيته بعد استشهاده، وما زالت تظلله بأجنحتها حتى رفع. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يلقاه الشهيد من الكرامة وحسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 748 - "بَابُ تمَنِّي الْمُجَاهِدِ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا " 851 - عَنْ أنَس بْنَ مَالِكٍ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا أحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّة يُحِبُّ أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا ولَهُ ما عَلَى الأرض منْ شَيْءٍ إلَّا الشَّهِيدُ (1) يَتَمَنَّى أنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنيا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لما يَرَى من الْكَرَامَةِ".   الاستقبال، حيث تظلله الملائكة منذ استشهاده، احتفاءً به، وترحيباً بمقدمه، وتكريماً له. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 748 - " باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا " 851 - معنى الحديث: أنه ليس هناك أحد يتمنى ويرغب أن يفارق الجنة بعد دخولها، ويعود إلى الدنيا مرة أخرى. ولو أعطي الأرض كلها بما فيها من كنوز ونفائس، وما عليها من قصور عالية وحدائق غناء، ثم استثنى من ذلك الشهيد، فإنه يحب العودة إلى الدنيا عشر مرات لكي يجاهد كل مرة في سبيل الله ويستشهد فيفوز بالشهادة عشر مرات بدل مرة واحدة، وذلك لما يرى من الكرامة التي يلاقيها الشهداء، الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: قال ابن بطال: هذ الحديث أجلُّ ما جاء في فضل الشهادة. اهـ. وحسبك في ذلك أن الشهداء يتمنون العودة إلى الدنيا ليستشهدوا عشر مرات كما في حديث الباب. وفي رواية أخرى "أن الله يقول للرجل منهم سل وتمن، فيقول: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك   (1) قال القسطلاني: " إلا الشهيد " بالرفع، ولأبي ذر بالنصب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 749 - " بَابُ وُجُوبِ النَّفِيرِ وما يَجِبُ مِنَ الْجِهَادِ والنيةِ " 852 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ولكِنْ جِهَاد ونِيَّة، وِإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا ".   عشر مرات". والمطابقة: ظاهرة. 749 - " باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية " أي باب في بيان وجوب النفير، وهو الخروج إلى الجهاد لمن استنفره الإِمام. 852 - معنى الحديث: أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة قبل فتح مكة، لأنها كانت دار كفر، فلما فتحت نسخ وجوبها، وهو معنى قوله: " لا هجرة بعد الفتح " أي لم تعد الهجرة واجبة من مكة بعد فتحها " ولكن جهاد " أي ولكن الفريضة الباقية الدائمة إلى يوم القيامة هي الجهاد في سبيل الله " ونيّة " أي وبقيت أيضاً الهجرة بنية الفرار بالدين من الفتن، والخروج في طلب العلم كما أفاده الطيبي، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا استنفرتم فانفروا " قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة (إلى المدينة) يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإِمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله " وإذا استنفرتم فانفروا ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة قبل الفتح، لأن مكة كانت دار كفر وحرب، فلما فتحت انقطع وجوب الهجرة منها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا هجرة بعد الفتح " فإنه ليس المراد نفي وجوب الهجرة بجميع أنواعها. قال ابن العربي: الهجرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 750 - " بَابُ من اختارَ الغزْوَ على الصَّوْمِ " 853 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ أبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لا يَصومُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أجْلِ الْغَزْوِ، فلمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَم أرَهُ مُفْطِراً إلَّا يَوْمَ فِطر أوْ أضْحَى".   من دار الحرب كانت (1) فرضاً في عهده - صلى الله عليه وسلم - واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان. ثانياً: أن الجهاد يتعين عند استنفار الإِمام. 750 - " باب من اختار الغزو على الصوم " أي هذا باب من فضَّل الغزو على الصوم فترك صوم التطوع لئلا يضعف عن الغزو. 853 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " كان أبو طلحة " وهو زيد بن سهل الأنصاري زوج أم أنس رضي الله عنه " لا يصوم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي لا يصوم صيام التطوع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يقلل منه " من أجل الغزو " أي من أجل الاستعداد للغزو والتقوي عليه، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تقووا لعدوكم " يعني بالإِفطار. " فلما قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أره مفطراً إلاّ يوم فطر أو أضحى " أي فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانتشر الدين، وقوي الإِسلام ورأى أن الجهاد قد أصبح فرض كفاية لا فرض عين بدأ يأخذ بحظه من الصوم، ليجمع بين الحسنيين، ويأتي بالعبادتين، فحرص على الإكثار من الصيام، حتى أنني لم أعد أراه مفطراً إلا في العيدين اللذين حرم الله صومهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، وكذلك أيام التشريق لورود النهي عن صيامها.   (1) " فتح الباري " ج 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 751 - " بَابُ حَفْرِ الْخنْدَقِ " 854 - عَنِ الْبَراء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأحزَابِ يَنْقُلُ التُّراَبَ وقدْ وارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ وهوَ يَقُولُ:   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الجهاد على الصوم وأنه يستحب للمجاهد أن يترك الصوم وأن يفطر ليستعد للجهاد، ويقوي جسمه عليه، كما كان يفعل أبو طلحة وإن تأكد من قدرته على الجمع بينهما دون ضعف أو وهن أو إرهاق، فالصوم أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من صام يوماً في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً " أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. ولا تعارض بين حديث الباب وهذا الحديث، بل يمكن الجمع بينهما بأن يحمل حديث الباب على من خشي على نفسه أن يضعف عن الجهاد بسبب الصوم، ويحمل الحديث الآخر على من لا يضعفه الصوم عن القتال، فيستحب له الجمع بينهما. ثانياًً: مشروعية كثرة الصيام وفضله، وحرص أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، كما دل عليه حديث الباب، حيث كان أبو طلحة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى مفطراً إلاّ في العيدين، وهو كناية عن كثرة الصيام. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله " كان أبو طلحة لا يصوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل الغزو ". 751 - " باب حفر الخندق " 854 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشارك أصحابه في حفر الخندق، ويعمل معهم بيده الشريفة فيحمل التراب كما يحملون، وينقله كما ينقلون، حتى ستر التراب بياض بطنه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يشجعهم ويبعث الحماس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 لولا أنتَ ما اهْتَدَيْنَا ... ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّيْنَا فَأنْزِلِ السَّكِيْنَةَ عَلَيْنَا ... وَثبَتِ الأقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إنَّ الأُلَى قد بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أرَادُوا فِتْنَةً أبَيْنَا   في نفوسهم بما ينشده من الشعر الإِسلامي الذي يقوّي العزائم ويشحذ الهمم "فيقول - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا " فيحمد الله ويثني عليه على ما أنعم به عليهم من الهداية والتوفيق إلى جميع الأعمال الصالحة التي لولا الله ما اهتدوا إليها، ثم يقول: " فأنزل السكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا " فيسأل الله أن يملأ قلوبهم طمأنينة وأمناً، وأن يثبت أقدامهم عند ملاقاة أعدائهم ثم يقول: " إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنةً أبينا " يعنى أن هؤلاء الذين يحاربوننا اليوم، ويريدون هزيمتنا وفتنتنا، والقضاء علينا لن يتمكنوا منا، لأننا نجاهد لِإعلاء كلمة الله، والله معنا. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الخطط الحربية الناجحة في هذه الغزوة حفر الخندق (1)، قال ابن إسحاق: وكان الذي أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق هو سلمان، وكانت أول مشهد شهده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد تحرره، فقال: يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، ويشكل الخندق نصف دائرة، طرفها الغربي غربي مسجد المصلى، والشرقي عند مبتدأ حرة واقم في الشمال الشرقي، قال المطري من علماء القرن الثامن الهجري بالمدينة: وقد عفا أثر الخندق اليوم، ولم يبق منه شيء يعرف   (1) يعني حفر الخندق في غزوة الأحزاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 752 - " بَابُ فضلِ الصَّوْمِ في سَبِيلِ اللهِ " 855 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ صَامَ يَوْمَاً في سبِيلِ اللهِ بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً ".   إلا ناحيته، لأن وادي بطحان استولى على موضع الخندق، وصار موضعه في الخندق. ثانياً: مشروعية اتخاذ أنجح الوسائل الدفاعية لمكافحة العدو كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة. ثالثاً: استحباب إنشاد الشعر الحماسي الذي يقوِّي النفوس والعزائم، ويشجع العاملين على مواصلة أعمالهم، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - عند حفر الخندق. علماً بأن هذا الشعر الذي أنشده النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من نظمه هو، ولكنه من شعر عبد الله بن رواحة، وإنما تمثل به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولمِ ينطق به موزوناً، لأن الله أبعده عن مجرد النطق بالشعر الموزون، تصديقاً لقوله عز وجل: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ). مطابقة الحديث للترجمة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - أمر بحفر الخندق وشارك فيه. الحديث: أخرجه الشيخان. 752 - " باب فضل الصوم في سبيل الله " 855 - معنى الحديث: أن من صام يوماً واحداً أثناء جهاده لِإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، فإن الله يباعد بينه وبين نار جهنم مدة سبعين عاماً، وإذا باعد الله بينه وبين النار كل هذه المسافة، فإن معناها أنه قد حَرمَ جسده على النار وأدخله الجنة مع السابقين الأبرار. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الصيام أثناء الجهاد ومقاتلة الأعداء، وأنه سبب في النجاة من النار. ثانياً: جواز الصيام في السفر خلافاً لمن حرم ذلك. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 753 - " بَابُ فضلِ مَنْ جَهَّزَ غَازِيَاً أوْ خلفَهُ بِخيْرٍ " 856 - عن زَيْدِ بْن خَالِدٍْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ جَهَّزَ غَازِيَاً فِي سَبِيْلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، ومَنْ خَلَفَ غَازِيَاً في سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا ".   الصيام في سبيل الله وهو ما ترجم له البخاري والله أعلم. 753 - " باب من جهز غازياً " 856 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " من جهز غازياً " أي هيأ له أسباب سفره وأعد له وسائل قتاله، من مال وطعام وسلاح وعتاد حربي قدر استطاعته "فقد غزا" أي فقد فاز بأجر المجاهد، وثبت له ثوابه ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "ومن خلف غازياً في سبيل الله " أي ناب عنه في الإِنفاق على أسرته، وقضاء مصالحهم والقيام بخدمتهم " فقد غزا " أي فقد حقق لنفسه بهذا العمل أجر الجهاد في سبيل الله، لأنه لولا قيامه بأمر عياله لما تمكن من الغزو. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن كل من شارك في مساعدة الغزاة، ومد يد المعونة للمجاهدين بإمدادهم بالمال، وتجهيزهم بالسلاح، أو بكفالة أهلهم وأولادهم، فإن الله يمنحه مثل أجر المجاهد كما في هذا الحديث، وكما جاء في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره " أخرجه الطبراني في " الأوسط ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 754 - " بَابُ التَّحَنُّطِ عِنْدَ القِتَالِ " 857 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ أتَى يَوْمَ الْيَمَامَةِ إلى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَقَدْ حَسَرَ عَنْ فَخِذَيه وَهُوَ يَتَحَنَّطُ، فقالَ: يَا عَمِّ ما يَحْبِسُكَ أنْ لا تَجِيءَ؟ فَقَالَ: الآنَ يا ابْنَ أخِي، وَجَعَلَ يَتَحَنَّطُ، ثم جَاءَ فَجَلَسَ فَذَكَرَ في الْحَدِيثِ انْكِشَافاً مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: هَكَذَا عَنْ وُجُوهِنَا حتى نُضَارِبِ الْقَوْمَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِئْسَ مَا عودْتُمْ أقْرَانَكُمْ ".   ثم هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على مشروعية استعمال الحنوط استعداداً للموت. 754 - " باب التحنط عند القتال " 857 - معنى الحديث: أن أنس بن مالك رضي الله عنه جاء يوم اليمامة إلى ثابت بن قيس خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضع الحنوط على جسده تأهباً للاستشهاد في سبيل الله، وكان قد كشف عن فخذيه بسبب اشتغاله بتحنيط جسمه " فقال: يا عم ما يحبسك أن لا تجيء " أي ما الذي أخرك عن خوض المعركة حتى الآن؟ " فقال: الآن يا ابن أخي " ولم يكن " ثابت " عمه، ولكن العرب تتوسع في هذه الكلمات تلطفاً وتودداً، وتعبيراً عن إنزاله منزلة الابن أو ابن الأخ - أي الآن أخوض المعركة " فذكر في الحديت انكشافاً " أي فذكر الراوي أنها وقعت في الجيش هزيمة وتقهقرٌ " فقال: هكذا عن وجوهنا " أي فلما رأى ثابت ما وقع في الناس من هزيمة بلغ به الحماس مبلغاً عظيماً، وكبُر عليه ما رأى، فقال للناس: ابتعدوا عن وجهي وافسحوا لي الطريق لكي أقاتل هؤلاء، " ما هكذا كنا نفعل " أي ما كنا نتقهقر هكذا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - " بئسما عودتم أقرانكم " أي بئس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 755 - " بَابُ مَنِ احْتَبَسَ فرساً في سَبِيلِ اللهِ " 858 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ احْتَبَسَ فَرَساً في سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً بالله، وتصديقاً بِوَعْدِهِ، فَإنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ في مِيزَانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ".   هذا التقهقر الذي يجعل أعداءكم يطمعون فيكم ويستهينون بكم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية التحنط عند القتال تعبيراً عن الاستعداد للشهادة واستحباب تشجيع المحاربين. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله " وهو يتحنط ". 755 - " باب من احتبس فرساً في سبيل الله " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على فضل من أوقف فرساً للجهاد. 858 - معنى الحديث: أن من أوقف فرساً للجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته لكي يحارب عليه الغزاة، ابتغاءً لوجه الله تعالى، وتصديقاً بوعده الذي وعد به، حيث قال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فإن الله يثيبه عن كل ما يأكله أو يشربه أو يخرجه من بول أو روث حتى يضعه له في كفة حسناته يوم القيامة. وعن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ارتبط فرساً في سبيل الله، ثم عالج علفه كان له بكل حبة حسنة " أخرجه ابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في اقتناء الخيل وتوقيفها في سبيل الله ليجاهد عليها الغزاة، فإن العبد إذا فعل ذلك يثاب حتى على أرواثها وأبوالها، فقد جاء في الحديث: " المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها " رواه أحمد وأبو داود. ثانياًً: قال ابن عبد البر: هذه الأحاديث فيها تفضيل الخيل على سائر الدواب، لأنه لم يرو عنه - صلى الله عليه وسلم - في غيرها مثل هذا. ثالثاً: في الحديث كما قال ابن عبد البر الحث على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 756 - " بَابُ ما يُذْكَرُ من شُؤْمِ الفَرسِ " 859 - عن عبد اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّمَا الشُّؤْمُ في ثَلَاثَةٍ: في الفَرَسِ والمَرْأةِ والدَّارِ ".   اقتناء كل ما يساعد على الجهاد والعناية بكل ما فيه قوة الأمة وهيبتها. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 756 - "باب ما يذكر من شؤم الفرس " 859 - معنى الحديث: تعددت الآراء حول هذا الحديث وحول معناه حتى أن بعضهم أنكره على هذه الصيغة فقد جاء في رواية مكحول عن عائشة أنه قيل لها إن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الشؤم في ثلاثة " فقالت: لم يحفظ، إنه دخل وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قاتل الله اليهود يقولون: الشؤم في ثلاثة. فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوّله، إلَّا أن حديث عائشة هذا منقطع، لأن مكحولاً لم يسمع من عائشة، وعن أبي حسان أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الطيرة في الفرس والمرأة والدار " فغضبت غضباً شديداً وقالت: ما قاله، وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك. اهـ. كما أفاده الحافظ. وإنما أنكر بعض الصحابة هذا الحديث وعلى رأسهم عائشة لأنه يدل بظاهره على وجود الشؤم في هذه الثلاثة، -أي وجود النحس والشر فيها- وذلك يتعارض مع ما أنكره الإِسلام من التطير والتشاؤم، ونفي وجوده في أي شيء من الأشياء حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا عدوى ولا طيرة " فكيف ينفي التشاؤم في بعض الأحاديث ويثبته في أحاديث أخرى، لذلك فقد وقف علماء الإِسلام من حديث الباب ثلاثة مواقف، فمنهم من خطأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 أبا هريرة، وقال: إنه لم يحفظ الحديث بلفظه الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قالت عائشة رضي الله عنها، ومنهم من قبل هذا الحديث على ظاهره وقال بوجود النحس في هذه الأمور الثلاثة، ومنهم ابن قتيبة، ومنهم من تأوله بأن المراد بالشؤم عدم ملاءمة الشيء وموافقته، أو سوء طبعه، فشؤم الدار ضيقها، لأنها إذا كانت ضيقة لا تلائم الإِنسان، ولا تريحه في حياته، وشؤم المرأة عدم الوفاق بينها وبين زوجها وعدم التفاهم، وتمردها عليه، وخروجها عن طاعته، وشؤم الفرس سوء طباعها (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن لهذه الأشياء الثلاثة، المرأة، والدار، والفرس، أهمية عظمى، وأثر كبير في حياة الإِنسان، فإن كانت المرأة ملائمة لزوجها خلقياً، متفاهمة معه نفسياً، مخلصة له، مطيعة وفية، وكانت الدار صحية واسعة، مناسبة له ولأسرته، وكانت الفرس أو السيارة التي يركبها قوية مريحة، ارتاح الإِنسان في حياته، وشعر بالسعادة وأحس بالاطمئنان والاستقرار النفسي، أما إذا كانت الزوجة غير صالحة، أو الدار غير مناسبة، أو الفرسِ أو السيارة غير مريحة، فإن الإِنسان يشعر بالتعاسة والقلق، ويتعب جسمياً ونفسياً معاً، وهذا هو المقصود بالحديث، حيث إنه عبارة عن التعب النفسي الذي يعانيه الإنسان بسبب عدم ملاءمة هذه الأشياء وصلاحيتها (1). ثانياًً: أنه ينبغي للمرء إذا أراد أن يتزوج امرأة أو يسكن داراً أو يقتني فرساً، أو سيارة أن يتحرى كل التحري في اختيارها، وأن يتحقق من صلاحيتها وملاءمتها له، ليتمكن من الاستفادة من الاستمتاع بها، لا سيما المرأة الصالحة، فإن لها دوراً كبيراً في نجاح زوجها وصلاحه   (1) وقد جاء الحديث في أكثر الروايات وهي في الصحيحين " إن كان الشؤم في شيء، ففي المرأة، والدار والفرس " وهي تبين المراد من الحديث، وجاء في رواية لابن ماجه " لا شؤم، وقد يكون اليمن في ثلاثة: في المرأة، والفرس، والدار " وهذا نفي للشؤم. والإسلام جاء ينفي الشؤم، ولم يثبته كما تقدم قبل قليل في الأحاديث الصحيحة. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 757 - " بَابُ ناقةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " 860 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: " كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَاقَة تُسَمَّى العَضْبَاءَ، لَا تُسْبَقُ، فجاءَ أعْرَابِي علَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلىَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " حَقٌّ عَلَى اللهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنيا إلَّا وَضَعَهُ ".   في الدنيا والآخرة، أما ما روي أو ما نسب إلى مالك رحمه الله تعالى من وجود النحس في هذه الأشياء أو في بعضها استناداً إلى ما رواه ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن هذا الحديث فقال: كم من دار سكنها ناس فهلكوا، فإن قوله هذا ليس نصاً على وجود النحس فيها، لاحتمال أنه أراد أن موت الناس في ديارهم ظاهرة عامة، فقلما يوجد بيت لم يمت فيه جماعة من الناس فكأنه يقول للسائل: لماذا تتشاءم من دار معينة ما دام أكثر البيوت قد مات فيها أناس من البشر، وهو الأقرب والأنسب بمالك رحمه الله. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الشؤم في ثلاثة في الفرس ". 757 - " باب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - " 860 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له ناقة سريعة لا يسبقها غيرها. وكانت تسمى العضباء (بفتح العين وسكون الضاد) والعضباء في الأصل المقطوعة الأذن، قال في " المصباح " (1): وكانت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقب العضباء لنجابتها لا لشق أذنها .. قال الراوي " فجاء أعرابي على قعود " أي على جمل صغير بدأ يُركب، وأقله سنتان "فسبقها فشق ذلك على   (1) " المصباح المنير ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 758 - "بَابُ مُدَاوَاةِ النساءِ الْجَرْحَى في الغزْوِ " 861 - عَنِ الرُّبَيِّع بنْتِ مُعوِّذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى، ونَرُدُّ القَتْلَى إلى الْمَدِينَةِ ".   المسلمين" أي صعب ذلك عليهم، وعز على نفوسهم وأحزنهم " حتى عرفه " أي حتى عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أصابهم من حزن شديد ظهرت آثاره على وجوههم " فقال: حق على الله أن لا يرتفع لشيء من الدنيا إلا وضعه الله " أي أن هذه هي سنة الله في خلقه، ما بعد الصعود إلاّ الهبوط، وما بعد الطلوع إلّا النزول. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له دواب مختلفة، فكانت له ناقة تسمى العضباء، كما كان له فرس يدعى اللحيف وفرس أخرى يقال له: مندوب، وحمار يدعى " عُفير " بضم العين. ثانياً: أن دوام الحال من المحال، فما بعد الصعود إلاّ الهبوط، وما بعد الارتفاع إلا الانخفاض، وما بعد الطلوع إلا النزول، هذه هي سنة الله في خلقه، وقد قال الشاعر: ما طَارَ طَيْرٌ وَارْتَفَعْ ... إلاّ كَمَا طَارَ وَقَعْ والمطابقة: في قوله: " كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى العضباء ". 758 - " باب مداواة النساء الجرحى في الغزو " 861 - راوية الحديث: هي الربيع بنت معوذ النجارية الأنصارية، كانت من المبايعات تحت الشجرة، قالت رضي الله عنها: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل علي غداة بُني بي، أي صبيحة عرسها، فجلس على فراشي فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر. قالت إحداهن: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 759 - " بَاب مَنِ اسْتَعَانَ بالضُّعَفَاءِ والصَّالِحِينَ في الْحَرْبِ " 862 - عن سَعْدِ بْنِ أبي وَقاص رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هَلْ تنْصَرونَ وتُرزَقونَ إلَّا بِضعَفَائِكمْ ".   وفينا نبي يعلم ما غد، فقال: " دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين " أخرجه البخاري والترمذي. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. عدة أحاديث رضي الله عنها. معنى الحديث: أنها رضي الله عنها كانت هي وبعض الصحابيات الجليلات يخرجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته فيقمن بحمل الماء ونقله إلى المجاهدين وسقيهم، كما كانت أم سليط تزفر القرب يوم أحد (بضم التاء وسكون الزاي) أي تملأ القرب بالماء، وتحملها، وتسقي المجاهدين يوم أحد، وكان هؤلاء النسوة يقمن بمداواة الجرحى وتمريضهن، فيقدمن لهم كل ما يستطعنه من خدمات طبية، كما كن يقمن بنقل القتلى إلى المدينة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية مشاركة المرأة للرجال في الخروج إلى الغزو لكي تقوم بما تستطيعه من سقي المجاهدين، وتقديم الخدمات الطبية لهم، ونقل الموتى إلى بلادهم، أما مشاركة المرأة في الجهاد المسلح وقتال العدو فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد فقال: " جهادكن الحج ". ثانياً: قال الحافظ: وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة. والمطابقة: في قولها: " ونداوي الجرحى ". 759 - " باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب " 862 - معنى الحديث: أن الله يرزق المسلمين بدعاء ضعفائهم، كما يحقق لهم به النصر في الحرب، والتغلب على العدو، وكسب المعركة، قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 في " هداية الباري " تأويل ذلك أن الضعفاء هم أشد إخلاصاً، وأكثر خشوعاً، لخلو قلوبهم من التعلق بزخارف الدنيا، وصفاء ضمائرهم من القواطع عن الله جل شأنه، فبذلك زكت أعمالهم، واستجيب دعاؤهم، لكرامتهم على ربهم، وفي الحديث الصحيح: " ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعِّف لو أقسم على الله لأبرّه ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الاستعانة بدعاء الضعفاء على النصر على الأعداء، إذا كانوا صالحين، وهو ما ترجم له البخاري، لأن النصر إنما هو من عند الله، فلا ينبغي الاعتماد فيه على مجرد القوة العسكرية، أو البطولة والشجاعة، وإنما ينبغي الاعتماد على الله، والإكثار من التضرع والاجتهاد في الدعاء، والتماس دعاء الضعفاء والصالحين، لما له من عظيم الأثر في مثل هذه المواقف، فقد جاء في رواية البخاري عن سبب هذا الحديث، أن سعد بن أبي وقاص رأى أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم "، وفي رواية أنه قال: يا رسول الله أرأيت رجلاً يكون حامية القوم، ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ثكلتك أمك، وهل ترزقون وتنصرون إلاّ بضعفائكم " فلما رأى سعد أنه هو وأمثاله من الفرسان هم الذين كسبوا المعركة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تظن أن المسلمين لم ينتصروا إلا بسواعد أبطالهم، وقوة فرسانهم، بل إنما انتصروا بدعاء ضعفائهم، وفي رواية أخرى " إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائهم، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ". الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 760 - " بَابُ التَّحرِيضِ على الرَّميْ " 863 - عن أبي أسَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ حينَ صَفَفْنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا: " إِذَا أكثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بالنَّبْلِ ".   760 - " باب التحريض على الرمي " 863 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة بدر لأصحابه حين قام بترتيبهم، وتنظيم صفوفهم " إذا أكثبوكم " أي إذا دنوا منكم " فعليكم بالنبل " أي فارموهم بالسهام. والمعنى: إذا قاربوم بحيث تنالهم السهام، فعليكم أن ترموهم بها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحريض على الرمي والحثّ عليه بأي وسيلة من وسائله، سواء كان ذلك بالسهام كما في العصور السالفة، أو بالرصاص والقذائف النارية والقنابل اليدوية كما في العصر الحديث، لأن الرمي أحد عناصر القوة التي أمرنا الله تعالى بها في قوله عز وجل: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ويفسر في كل عصر بحسب ذلك العصر، وما جد فيه من آلات حربية، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: المحافظة على الذخيرة الحربية (1)، واستعمال السلاح المناسب في الوقت المناسب، فإنه إنما أمرهم بالرمي عند القرب فقط أنهم إذا رموهم على بعد قد لا تصيبهم السهام، فتضيع دون فائدة، فاستبقاؤها أولى، وليس المراد بالقرب التلاحم الذي لا ينفع فيه إلاّ السلاح الأبيض، وهو السيوف. والمطابقة: في قوله: " إذا أكثبوم فعليكم بالنبل ". الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود.   (1) وعدم تضييعها دون فائدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 761 - " بَابُ مَا قِيلَ في قِتالَ الرُّومَ " 864 - عَنْ أمِّ حَرَام رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنهَا سَمِعَتْ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: " أوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قدْ أوْجَبُوا " قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أنا فِيهِم؟ قَالَ: " أنتِ فيهِمْ " قَالَتْ: ثُمَّ، قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ جَيْش مِنْ أمَّتِي يَغْزُون مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ " فَقُلْتُ: أنَا فيهمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " لا ".   761 - " باب ما قيل في قتال الروم " أي هذا باب يذكر فيه ما جاء من الأحاديث في غزو الروم في عقر دارهم، ومحاربتهم على أبواب عاصمتهم القسطنطينية. 864 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر أصحابه في هذا الحديث بغزو الامبراطورية الرومانية مرتين، وفي معركتين: الأولى: معركة بحرية أخبر عنها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أوّل جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا " أي أوّل معركة بحرية يغزو فيها المسلمون دولة الروم يكونون قد فازوا فيها بالشهادة، واستحقوا الجنة. وهذه المعركة هي غزوة قبرس التي غزى فيها عثمان بن عفان في السنة الرابعة والعشرين من الهجرة جزيرة قبرس في البحر الأبيض المتوسط. " قالت " أي أم حرام رضي الله عنها: " قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم " فبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّ حرام بالاشتراك في هذه الغزوة البحرية، وقد تحققت هذه البشري فاشتركت أم حرام في هذه المعركة، فلما رجعت وقعت من دابتها، فاندقت عنقها، وماتت شهيدة في سبيل الله. أما المعركة الثانية فهي معركة القسطنطينية، وهي أول غزوة غزا فيها المسلمون هذه المدينة، وفي هذا يقول - صلى الله عليه وسلم -: " أوّل جيش يغزو مدينة قيصر " أي يغزو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 762 - " بَابُ قتالِ الْيَهُودِ " 865 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ: يا مُسْلِمْ هَذَا يَهودِي ورائي فاقْتُلْهُ ".   القسطنطينية التي هي أكبر مدن الروم، وعاصمة ملكهم لأول مرة، وذلك في خلافة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، واشترك في هذه الغزوة بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة في قوله " مغفور لهم " قالت أم حرام " فقلت أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا " لأنها ماتت في غزوة قبرس. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غزو المسلمين للروم في معركة بحرية تدور رحاها في البحر الأبيض المتوسط (1) وهى غزوة قبرس، وتبشيره لمن قتل فيها بالشهادة والجنة، ومنهم أم حرام رضي الله عنها. ثانياًً: تبشيره - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بأول غزوة يقومون بها لمدينة القسطنطينية وقتالهم للروم في عقر دارهم، وعاصمة امبراطوريتهم، وقد تحقق ذلك في عهد يزيد بن معاوية، حيث غزا المسلمون عاصمة الروم بجيش يضم جماعة من أعلام الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو أيّوب الأنصاري وتوفي أبو أيوب في القسطنطنية ودفن عند سورها رضي الله عنهم أجمعين. والمطابقة: في قوله: " أول جيش من أمتي يغزو مدينة قيصر مغفور لهم ". 762 - " باب قتال اليهود " 865 - معنى الحديث: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن محاربة   (1) أي وهذه المعركة هي غزوة قبرس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 763 - " بَابُ مَنْ أرَادَ غَزْوَةً فوَرَّى بِغيْرِهَا " 866 - عن كَعْبِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: " كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا. إلَّا ورَّى بِغَيْرِهَا، حتى كَانَتْ غزْوَةُ تَبُوكٍ، فغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَر شَديدٍ، واسْتَقْبَلَ   المسلمين لليهود في آخر الزمان، وانتصارهم عليهم قبل قيام الساعة، فيهزمون حتى يختبىء أحدهم ويختفي وراء الحجر، فيقول الحجر: " يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله " ويحتمل أن يكون ذلك حقيقة أو مجازاً، فيكون كناية عن انكشاف اليهودي وظهوره، وهزيمته قال القسطلاني قوله: " حتى تقاتلوا اليهود " أي الذين يكونون مع الدجال عند نزول عيسى عليه السلام. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: محاربة المسلمين لليهود في آخر الزمان، وانتصارهم عليهم، وتلك حقيقة ثابتة لا بد من وقوعها ما دام قد أخبر عنها الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: أن هؤلاء اليهود يقضى عليهم في هذه الحرب، ولا تقوم لهم بعدها قائمة بدليل قوله: " حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله ". والمطابقة: في قوله: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود ". الحديث: أخرجه الشيخان. 763 - " باب من أراد غزوة فورَّى بغيرها " 866 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في أكثر غزواته وأغلبها إذا أراد غزو جهة أخفاها، وأظهر أنه يريد غزو جهة أخرى، ليباغت العدو، إلّا في غزوة تبوك، فإنه قد أعلنها للناس وبين لهم الجهة التي يريدها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج إليها في حرّ شديد، وواجه فيها سفراً طويلاً، واستقبل عدواً كثير العدد والعدة كما قال الراوي "فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 سَفَراً بَعِيداً ومَفَازاً، واسْتَقبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ فجلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أمْرَهُمْ لِيَتأهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وأخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الذي يُرِيدُ". 764 - " بَابُ التَّودِيعَ " 867 - عَنْ أبِي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في بعثٍ وَقَالَ لَنَا: "إِنْ لَقِيتُمْ فُلَاناً وَفُلاناً لِرَجُليْنِ مِنْ قريش سَمَّاهُمَا فَحَرِّقُوهُمَا بالنَّارِ " قَالَ: ثُمَّ أتيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أردْنَا   شديد، واستقبل سفراً ومفازاً" قال في " المصباح ": المفاز الموضع المهلك، مأخوذ من فوّز بالتشديد إذا مات، لأنّها مظنة الموت، " واستقبل غزو عدد كثير، فجلَّى للمسلمين أمرهم " أي فأعلن لهم عن هذه الغزوة " ليتأهبوا أهبة عدوهم " أي يستعدوا له. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب التورية في الحرب، وإخفاء الجهة المقصودة تعمية على العَدُوّ سيما في الحروب الخاطفة للتمكن منه والله أعلم. الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجه بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ". 764 - " باب التوديع " 867 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه: " بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث " أي في جيش لقتال العدو، وكان أمير هذا الجيش حمزة بن عمرو الأسلمي كما رواه أبو داود " وقال لنا: إذا لقيتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش " وهما هبار بن الأسود ورفيقه " فحرقوهما بالنار " جزاء لهما على تعديهما على زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحاولتهما قتلها، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أطلق زوجها أبا العاص بن الربيع من الأسر، وجهزها وأرسلها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 ْالْخُروجَ، فَقَالَ: " إنِّي كُنْت أمَرْتُكمْ أن تحَرِّقُوا فُلاناً وفُلاناً بالنَّارِ، وإنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللهُ، فإنْ أخَذْتمُوهمَا فَاقْتلُوهُمَا ". 765 - " بَاب يُقَاتلُ مِنْ وَرَاءِ الإمَامِ " 868 - عَنْ أبي هريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقول: "مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِع الأمِيرَ فَقَدْ أطَاعَنِي، ومَنْ يَعْصِ الأمِيرَ   إليه، تبعها هبار بن الأسود ورفيقه، فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت، " ثم أتينا نودعه " قبل سفرنا " فقال: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذّب بها إلاّ الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - ندم، ورجع عن رأيه، ونهاهم عن قتلهما حرقاً، لأن الحرق لله وحده. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن التوديع عند السفر فيستحب للمسافر أن يودع أكابر أهل بلده،. وأقاربه وأصحابه. ثانياًً: النهي عن القتل حرقاً في الحدود، وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة وعطاء وغيرهم (1)، وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن من حرق يحرّق. الحديث: أخرجه أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " أتيناه نودعه ". 765 - " باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به " 868 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني فقد أطاع الله " أي من نفذ أحكامي أمراً أو نهياً، فقد فاز بطاعة الله ورضوانه وجنته، " ومن عصاني فقد عصا الله " كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ   (1) قالوا: لا يقتل إلا بالسيف كما في " شرح العيني " ج 14. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 فَقَدْ عَصَانِي، وإنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أجْراً، وإنْ قَالَ بِغَيرِهِ فإنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ". 766 - "بَابُ البَيْعَةِ في الْحَرْبِ على أنْ لا يَفرُّوا، وَقَالَ بَعضهُمْ: عَلَى الْمَوْتِ" 869 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:   فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) " ومن يطع الأمير فقد أطاعني " أي ومن يطع ولي الأمر أياً كان أميراً أو قاضياً أو مدير شرطة فقد أطاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، " ومن يعص الأمير فقد عصاني " قال القرطبي: وهو عام في كل أمير عدل للمسلمين " وإنما الإِمام جنة " بضم الجيم، وتشديد النون، أي وقاية للمسلمين وحماية لهم، من الأعداء ينفذ فيهم أحكام الشريعة، التي تحقق الأمن والاستقرار، " يقاتل من ورائه " أي يجب على المسلمين أن يقاتلوا معه الكفار والبغاة " فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن قال بغيره فإن عليه منه " أي أنه لا يجوز الخروج عليه ولو عصى فإن ذلك بينه وبين ربه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب طاعة ولي الأمر ولو فاسقاً لأن فسقه يعود عليه، ما لم يأمر بمعصية فلا طاعة له. ثانياً: وجوب القتال من ورائه. والمطابقة: في قوله: " إنما الإِمام جنة يقاتل من ورائه ". 766 - " باب البيعة في الحرب على أن لا يفروا، وقال بعضهم: على الموت " قال العيني: والمراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 رَجَعْنَا مِن العَامِ المُقْبِلِ، فما اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ على الشَّجَرَةِ التي بايَعْنَا تَحْتَهَا كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللهِ، فَقِيلَ لَهُ: على أيِّ شيءٍ بَايَعَهمْ، عَلَى المَوْتِ؟ قَالَ: لا، بَلْ بَايَعَهُمْ على الصَّبرِ".   المراد به أن يقع الموت ولا بد. اهـ. وعلى هذا فالصيغتان بمعنى واحد. 868 - معنى الحديث: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: " رجعنا من العام المقبل " أي رجعنا إلى مكة معتمرين عمرة القضاء في العام الذي يلي عام الحديبية، وذلك في السنة السابعة من الهجرة " فما اجتمع منا اثنان على الشجرة " أي فإذا شجرة الرضوان قد اختفت آثارها، ولم يبق منها شيء، واختلفنا في تحديد موضعها، فلم يتفق منا اثنان على تحديد مكانها، " وكانت رحمة من الله " أي وكانت موضع رحمة لنا ورضوان من الله تعالى حيث قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) " فقيل له: على أي شيء بايعهم " يعني بأي صيغة بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " على الموت؟ " بحذف همزة الاستفهام تقديره أعلى الموت - يعني هل بايعهم على الموت، " قال: لا على الصبر " يعني بايعهم على الصبر على الأعداء، والثبات في الحرب، والاستمرار فيها، وأن لا يفروا من المعركة. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية المعاهدة في الحرب، سيما في المعارك الخطيرة والمبايعة على الصبر، وعدم الفرار، وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في قوله: " بايعهم على الصبر ". *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 767 - " بَابُ كَرَاهِيَّةِ السَّفَرِ بالمصَاحِفِ إلى أرْضِ الْعَدُوِّ " 870 - عنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أنْ يُسَافَرَ بالقُرْآنِ إلى أرْض العَدُوِّ ". 768 - " بَابُ يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإِقامة " 871 - عَنْ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذا مَرِضَ العَبْد أو سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ   767 - " باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو " 870 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المسلمين عن السفر بالمصاحف إلى أرض المشركين خوفاً من أن يتمكنوا من الحصول عليها، فيعبثوا بها، ويهينوها. قال مالك: إنما ذلك مخافة أن يناله العدو، أي خوفاً من أن يتمكن الكفار من القرآن متمثلاً في المصاحف فيعبثوا به، وهو معنى قوله: " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو " قال الباجي (1): يريد والله أعلم بالقرآن المصحف، لما كان القرآن مكتوباً فيه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على النهي عن السفر بالمصحف الشريف إلى أرض العدو، وقد أجمعوا على أنه لا يجوز ذلك في العسكر الصغير الذي يخاف عليه، أما الكبير فقد أجاز السفر إليه بالمصحف أبو حنيفة، ومنعه مالك مطلقاً كما أفاده الباجي، وأدار الشافعية الكراهية مع الخوف وجوداً وعدماً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو. 768 - " باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإِقامة " 871 - معنى الحديث: أن المؤمن الصالح إذا مرض أو سافر سفر   (1) " المنتقى شرح الموطأ " ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 يَعْمَلُ مُقِيماً صَحِيحاً". 769 - " بَابُ الْجِهَادِ بِإذْنَ الأبَوَيْنَ "   طاعة فمنعه سفره ومرضه عن عبادات وطاعات وأعمال صالحة، كان معتاداً لها، محافظاً عليها أثناء صحته وإقامته، فإن الله يكتب له أثناء مرضه وسفره من الأجر والمثوبة ما يوازي ثواب تلك الأعمال التي كان يفعلها عندما كان مقيماً صحيحاً وهو مصداق قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " كتب له مثل ما كان يعمل إلخ ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المسافر والمريض يكتب لهما ما كانا يعملانه من الطاعات حال إقامتهما وصحتهما، ويوضع في كفة حسناتهما، قال في " هداية الباري " (1) هذا في حق من دأب على عمل صالح، فعرض عليه من الملّمات الجسمانية ما أخرجه عن الاعتدال، وأدخله في دائرة الاعتلال، أو سافر في غير معصية، وعَضَلَهُ سفره عن ذلك العمل، ونيته لولا العارض لثابر عليه. قال ابن المنير (2): وتدخل في ذلك الفرائض التي شأنها أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عن جملتها أو بعضها بالمرض كتب له أجر ما عجز عنه حتى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القائم. 769 - " باب الجهاد بإذن الأبوين " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين.   (1) " هداية الباري " للطهطاوى ج 1. (2) " شرح القسطلاني على البخاري " ج 5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 872 - عن عبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُل إلى النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَأذَنَهُ في الْجِهَادِ فَقَالَ: "أحَيٌّ وَالِدَاك؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ ".   872 - معنى الحديث: أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جاهمة ابن العباس بن مرداس جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبويه هل هما لا يزالان على قيد الحياة، قال: نعم " قال ففيهما فجاهد " الفاء الأولى واقعة في جواب شرط محذوف، والثانية جزائية لتضمن الكلام معنى الشرط، أي إذا كان الأمر كما قلت فاختص المجاهدة في خدمتهما، وفي رواية عنه أنه قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستشيره في الجهاد، فقال: " ألك والدة؟ " قلت: نعم، قال: " اذهب فأكرمها " فإن الجنة تحت رجلها " أخرجه أحمد والنسائي: قال الصنعاني: سمّى إتعاب النفس في القيام بمصالح الأبوين وبذل المال في قضاء حوائجهما جهاداً من باب المشاكلة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز الجهاد إلّا بإذن الأبوين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ففيهما فجاهد " حيث أمره بببرهما وجهاد النفس في القيام بخدمتهما وإرضائهما وطاعتهما، وأصرح منه في وجوب استئذانهما حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: " ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلّا فبرهما " أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان. قال الصنعاني (1): وذهب الجماهير من العلماء إلى أنّه يحرم الجهاد على الولد إذا منعه الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد، فإنه يقدم على طاعة الوالدين. ثانياً:   (1) " سبل السلام " ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 770 - " بَابُ قتْلِ النِّسَاءِ في الْحَربِ " 873 - عن عبْد اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أن امْرَأةً وُجِدَتْ في بَعْض مَغَازِي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَقتُولَةً، فنَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عنْ قَتْل النِّسَاء والصبيَانِ ".   قال الحافظ: استدل بهذا الحديث (1) على تحريم السفر بغير إذن الوالدين، لأن الجهاد إذا منع مع فضيلته، فالسفر المباح أولى، نعم إن كان السفر لتعلم فرض عين حيث يتعين السفر طريقاً إليه فلا منع، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف. ثالثاً: قال الحافظ وفي الحديث فضل بر الوالدين، وتعظيم حقهما، وكثرة الثواب على برهما. اهـ. وقد صرح في حديث آخر بأن بر الوالدين أفضل من الجهاد كما جاء في رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن أفضل الأعمال فقال: " الصلاة " قال: ثم مه: قال: " الجهاد " قال: فإن لي والدين، فقال: " برك بوالديك خير " أخرجه ابن حبان. فقد دل هذا الحديث على أن بر الوالدين أفضل اللهم إذا كان الجهاد فرض عين، فإنه يقدم عليه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة ". 770 - " باب قتل النساء في الحرب " 873 - معنى الحديث: أن امرأة من المشركين وجدت مقتولة في غزوة الفتح، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليهم هذا الفعل، ونهاهم عن قتل النساء والصبيان، ومنع المسلمين أن يقتلوا امرأة أو صبياً عامدين متعمدين ذلك إلاّ في حالات استثنائية، كأن تقاتل المرأة أو الصبي المراهق مثلاً. الحديث: أخرجه الشيخان.   (1) " فتح الباري " ج 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 771 - " بَابُ حَرْقَ الدُّورِ والنَّخِيلَ " 874 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " حَرَّقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَخْلَ بني النَّضِيرِ ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، وهو أمر مجمع عليه فيما إذا لم يقاتلوا أو يختلطوا بالرجال. أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي، أو اختلطوا بالرجال، فيجوز قتلهم عند الجمهور لما جاء في حديث ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة أتي بامرأة مقتولة فقال: " ما كانت هذه تقاتل " أخرجه الطبراني، قال الصنعاني: قوله: " ما كانت هذه تقاتل " يدل على أنها إذا قاتلت قتلت، وإليه ذهب الشافعي (1) وأبو حنيفة أيضاً. اهـ. وأما جواز قتل المرأة إذا اختلطت بالرجال المقاتلين فيدل عليه حديث البخاري عن الصعب بن جثامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال: " هم منهم " أخرجه الستة، فدل ذلك على جواز قتل النساء والصبيان إذا لم يمكن الوصول إلى الرجال إلا بقتلهم وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز قتلهم حتى لو تترس أهل الحرب بهم. والمطابقة: في قول ابن عمر: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء " وهو ما ترجم له البخاري. 771 - " باب حرق الدور والنخيل " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على جواز إحراق دور المشركين وأشجارهم ونخيلهم إذا كان لا يمكن استسلامهم والظفر بهم إلّا بذلك. 874 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد تعاهد مع قبيلة بني   (1) " سبل السلام " ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 772 - "بَاب الْحَرْبُ خدعَة " 875 - عَنْ أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "هَلَكَ كِسْرَى، ثم لَا يَكُون كِسْرَى بَعْدَهُ،   النضير من اليهود فنقضوا العهد الذي بينه وبينهم، وحاولوا قتله غيلة، فأخبره الله بذلك، فغزا ديارهم في جنوب المدينة سنة أربع من الهجرة، وطلب منهم الاستسلام فرفضوا فشدد الحصار عليهم، وخرب ديارهم، وحرق نخيلهم وأشجارهم بعد أن حاصرهم خمسة عشر يوماً، فنزلوا على حكمه، واستسلموا، فأجلاهم عن المدينة. والمطابقة: في قوله: " حرق النبي - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير ". فقه الحديث: قال القسطلاني: استدل الجمهور بذلك على جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو إذا تعين طريقاً في نكاية العدو، وخالف بعضهم فقال: لا يجوز قطع الثمر، وحمل ما ورد من ذلك إِما على غير المثمر، وإما على أن الشجر الذي قطع في قصة بني النضير كان في الموضع الذي يقع فيه القتال، وهو قول الليث والأوزاعي وأبي ثور. اهـ. واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئاً من ذلك، وأجاز ذلك الكوفيون ومالك والشافعي وأحمد (1) وإسحاق والثوري وابن القاسم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. 772 - " باب الحرب خدعة " روى بسكون الدال وضم الخاء وفتحها وكسرها، خُدْعة خَدْعة خِدْعة، وبضم الخاء وفتح الدال خُدَعة، قال القزاز: وفتح الخاء وسكون الدال لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي أصح.   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 15. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وَقَيْصَر لَيَهْلَكَن، ثُم لا يَكُونُ قَيْصَر بَعْدَهُ، وَلتقْسَمَن كُنُوزُهُمَا في سَبِيل اللهِ" وسَمَّى الحَرْبَ خُدْعَةً.   875 - "معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر أصحابه باتساع نطاق الفتح الإسلامي شرقاً وغرباً حتى يفضى على دولتي الفرس والروم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده " فعبر عنه بصيغة الماضي للدلالة على أن هلاكه في حكم الشيء الذي وقع وانتهى، وذلك لقرب وقوعه حيث هلك آخر ملوكهم في عهد الفاروق رضي الله عنه، أما القضاء على الامبراطورية الرومانية فأخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " وقيصر ليهلكن " فعبر عنه بصيغة المضارع، لأن القضاء على الامبراطورية الرومانية في المشرق قد تم على مراحل، حيث أخذت تتقلص ولم يقض عليها نهائياً إِلا على يد السلطان المظفر محمد الفاتح عندما فتح القسططينية سنة 857 هـ " وسمى الحرب " في غزوة الخندق " خدعة " ومعناه أن النصر فيها لا يعتمد على العدد والعدة بقدر ما يعتمد بعد الله على حسن التدبير والحيل الحربية. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: البشارة بزوال الدولة الفارسية في أقرب وقت، كما يدل عليه التعبير بصيغة الماضي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " هلك كسرى ". ثانياً: بشارته - صلى الله عليه وسلم - بزوال الامبراطورية الرومانية من المشرق بعد مدة من الزمن كما يدل عليه التعبير بصيغة المضارع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وقيصر ليهلكن " وهذا ما وقع بالفعل؛ لأنّ الدولة الرومانية أخذت تتقلص على يد الفاتحين شيئاً فشيئاً، فجلت عن بلاد الشام في عهد الفاروق رضي الله عنه، وتوالت الفتوحات حتى فتحت عمورية في عهد الخليفة العباسي المعتصم، ثم تمَّ القضاء عليها في الشرق نهائياً بفتح القسطنطينية على يد الخليفة المظفر محمد الفاتح. حيث غزاها بجيش يبلغ مائتين وخمسين ألفاً، وحاصرها بحراً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 773 - " بَابُ فكاك الأسير " 876 - عَنْ أبي مُوسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فُكوا الْعَانِيَ -يعني الأسير- وأطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعوُدُوا الْمَرِيضَ ".   بمائة وثمانين ألفاً، غير أنه لم تتمكن السفن العثمانية من الوصول إلى القسطنطينية بسبب السلاسل الحديدية التي حالت بينهم وبينها من جهة البحر، فلما رأى السلطان ذلك أمر بوضع ألواح خشبية على البر، وصب عليها الزيت، ونقل عليها السفن البحرية التي تبلغ نحو سبعين سفينة إلى الجانب الآخر من البحر على طريق برّي يبلغ ستة أميال، وتم ذلك في ليلة واحدة، فلم يطلع الصباح حتى رآها الروم قائمة على البحر تحاصر عاصمتهم، فأيقنوا بالهزيمة، واقتحم السلطان المدينة بمائة وخمسين ألفاً مكبرين مهللين، ودخلوا القسطنطينية في 20 جمادى الأولى سنة 857 هـ. واقتحم المسلمون كنيسة القديسة صوفيا حيث كان يصلي البطريق، فخرج منها، وقاتل حتى قتل، وأحال المسلمون تلك الكنيسة إلى مسجد إسلامي. ثالثاً: أن الحرب تدبير واحتيال، وكثيراً ما كان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد في حربه على الخطط العسكرية والحيل الحربية. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 773 - " باب فكاك الأسير " 876 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بفك الأسير وتخليصه من يد المشركين، وفدائه بالمال، كما أمر أيضاً بإطعام الطعام لكل من يحتاج إليه من إنسان أو حيوان، وبعيادة المريض وزيارته أثناء مرضه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية فكاك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 774 - "بَابُ فِدَاءِ الْمُشْرِكين " 877 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رِجَالاً من الأنْصَارِ استَأذَنُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إئْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لابنِ أُخْتِنَا عَبَاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: " لا تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهماً ".   الأسير ومفاداته من يد العدو بالمال، وهو فرض كفاية عند الجمهور، قال إسحاق ومالك في رواية: فكاكه من بيت المال، وقال أحمد: يفادى بالرؤوس، أما بالمال فلا أعرفه. ثانياًً: مشروعية إطعام الجائع وهو فرض كفاية وعيادة المريض وقد تقدم. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " فكوا العاني " أي الأسير. 774 - " باب فداء المشركين " أي هذا باب يذكر فيه مشروعية فداء المشركين بمال يؤخذ منهم. 877 - معنى الحديث: أن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه وقع أسيراً في أيدي المسلمين يوم بدر، فعرض بعض الأنصار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنَّ عليه بإطلاق سراحه، وفك أسره دون أي فداء مالي لما بينه وبينهم من قرابة، لأنهم أخوال أبيه، وهو معنى قولهم: " ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه " قال القسطلاني: وقالوا: ابن أختنا ليكون له المنة عليهم بخلاف ما لو قالوا: ائذن لنا فلنترك لعمك. " فقال: لا تدعون منها درهماً " أي لا بد أن تأخذوا منه الفداء كاملاً دون أن يتبقى منه درهم واحد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية فداء الأسير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 775 - " بَابُ الحْربِيّ إذَا دَخلَ دَارَ الإسْلامِ بِغيْرِ أمَانٍ " 878 - عن سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَهُوَ في سَفَرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثم انْفَتَلَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اطْلُبُوهُ واقتُلُوهُ " فقَتَلَهُ، فَنَفَّلَهُ سَلَبَهُ.   المشرك، وهو أخذ المال من الأسير المشرك مقابل إطلاق سراحه، أو إطلاق أسير مسلم بدلاً عنه، قال في " الإفصاح ": اتفقوا على أن الإِمام مخير في الأسارى بين القتل والاسترقاق، واختلفوا هل هو مخير فيهم بين الفداء، والمن، وعقد الذمة، فقال مالك والشافعي وأحمد: هو مخير فيهم أيضاً بين الفداء بالمال وبالأسارى وبين المن عليهم، وقال أبو حنيفة: لا يمن ولا يفادي، وأما عقد الذمة فقال مالك وأبو حنيفة: هو مخير في عقد الذمة عليهم، وقال الشافعي وأحمد: ليس له ذلك لأنهم قد ملكوا. ثانياً: أنه لا محاباة في الأحكام الشرعية، ولذلك ساوى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين عمه العباس وغيره في أخذ الفداء. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 775 - " باب الحربي إذا دخل دار الإِسلام بغير أمان " 878 - معنى الحديث: أن المشركين أرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جاسوساً في غزوة حنين، جاء يركض على جمل أحمر أناخه ثم انتزع حبلاً من جعبته فقيد به الجمل، ثم تقدم وجلس مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدث إليهم، وأكل معهم ليطمئنوا إليه ويتعرف على أحوالهم، قال الراوى: " ثم انفتل " أي ثم انصرف على هيئة مريبة تبعث على الشك حيث خرج يشتد أي يسرع في سيره، فأتى جمله فأطلق قيده، ثم قعد عليه، فاشتد به، أي أسرع في سيره، فشخصت إليه الأبصار وتنبه له الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتأكد من جاسوسيته، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 776 - " بَابُ استقْبَالَ الْغزَاةِ " 878 م - عَن السَّائِبِ بْنِ يَزيدَ قَالَ: " ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الصبيَانِ إلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ ".   " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اطلبوه فأقتلوه " أي فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء القبض عليه وقتله " فقتله فنفله سلبه " أي فقتله سلمة بن الأكوع فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه، أي أعطاه ما وجده عليه من ثياب وسلاح ونحوها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به مالك على مشروعية قتل الحربي إذا دخل دون أمان، وقال أبو حنيفة يكون فيئاً للمسلمين، وهو قول أحمد أيضاً وقال الشافعي: إذا ادعى أنه رسول قُبِلَ منه. ثانياً: قال النووي: فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر، وهو محل اتفاق، وأما المعاهد والذمي، فقال مالك والأوزاعي ينقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اطلبوه فاقتلوه ". 776 - " باب استقبال الغزاة " 878 م - معنى الحديث: يقول السائب بن يزيد رضي الله عنه " ذهبنا نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصبيان " أي خرجت وأنا غلام صغير مع غلمان المدينة نستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى ثنية الوداع " الواقعة في شمال المدينة بجوار جبل سلع، وعند مفرق طريق العيون وسلطانة، كما جاء في رواية الترمذي حيث قال: " لما قدم (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، فخرجت مع الناس، وأنا غلام " قال الترمذي حسن   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 15. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 777 - " بَابُ مَا يَقُولُ إذَا رَجَعَ مِنَ الْغزْوِ " 879 - عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا قَفَلَ كَبَّرَ ثَلَاثاً قال: " آيِبُونَ إنْ شَاءَ اللهُ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، حَامِدُونَ، لِربَّنا سَاجِدُونَ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ ".   صحيح. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية استقبال القادمين من الجهاد والحج بالحفاوة والترحيب، فهو سنة من سنن سيد المرسلين، وفيه جواز رواية الصبي لأن السائب كان غلاماً. والمطابقة: في قوله: " ذهبنا نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". 777 - " باب ما يقول إذا رجع من الغزو " 879 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل كبّر ثلاثاً " أي كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع من السفر قادماً من غزو أو جهاد كبّر ثلاث تكبيرات ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " ومعنى هذا القول المبارك: أننا عدنا إلى بلدنا الحبيب، وقد عقدنا العزم على العودة إلى الله والتوبة الصادقة المقترنة بالأعمال الصالحة من الشكر لله، والمواظبة على عبادته، والتقرب إليه بالصلاة، وكثرة السجود. الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ مختلفة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب هذا القول عند الوصول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 778 - " بَابُ الصَّلَاةِ إذَا قَدِمَ مِنْ سفَر " 880 - عَنْ كَعْبٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ إذَا قَدِمَ من سَفَرٍ ضُحَىً، دَخَلَ المَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ يَجْلِسَ ".   إلى الوطن لما فيه من التعبير عن مقابلة نعمة السلامة بالشكر لله تعالى، والعزم على التوبة (1) والرجوع إليه. والمطابقة: في قوله: " كان إذا قفل كبّر ثلاثاً إلخ ". 778 - " باب الصلاة إذا قدم من سفر " 880 - معنى الحديث: يحدثنا كعب بن مالك رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر " أي من أي سفر كان، جهاداً أو حجاً أو غيره، " ودخل المسجد " أي دخل مسجده الشريف، لأنه أشرف البقاع " فركع فيه ركعتين " تحية المسجد، شكراً لله على نعمة الوصول بالسلامة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب صلاة ركعتين للمسافر عند وصوله في أقرب مسجد لبيته، لما في ذلك كما قال العيني (2) من معنى الحمد لله على السلامة، والتبرك. والمطابقة: في قوله: " كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد فصلّى ركعتين ". ...   (1) " نزهة المتقين شرح رياض الصالحين " للدكتور مصطفي الخن وشركاؤه. (2) " شرح العيني " ج 15. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب فَرْضُ الْخمُس " 779 - " بَابُ فَرْضُ الْخمُس " 881 - عن علِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبي من الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعْطَانِي شارِفاً مِنَ الْخُمُس، فلما أردْتُ أنْ أبتني بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واعَدْتُ رَجُلاً صَوَّاغاً من بنِي قَيْنُقَاع أنْ يَرْتَحِلَ معي، فَنَأتِيَ بإذْخِرٍ أردْتُ أنْ أبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ وأستعِينَ بِهِ في وَلِيمَةِ عُرْسِي، فَبَيْنَا أنا أجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعاً من الأقْتَابِ والغَرائِرِ والْحِبَالِ وَشَارِفَايَ مُنَاخَانِ إلى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُل من الأنْصَارِ، رَجَعت حينَ جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ، فإذَا   779 - " باب الخمس " 881 - معنى الحديث: أن الإمام علي كرّم الله وجهه يحدثنا في حديثه هذا عن قصة غريبة وقعت له مع عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فيقول: " كانت لي شارف " وهي المسنة من النوق كما أفاده العيني " من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطاني شارفاً من الخمس " أي أنه رضي الله عنه كان قد حَصَلَ على ناقتين كبيرتين من غنائم وخمس بدر " فلما أردت أن أبتني بفاطمة " أي أن أدخل بها " واعدت رجلاً صوّاغاً من بني قينقاع " من اليهود " أن يرتحل معي فنأتي بإذخر " وهو نبت طيب الرائحة " أردت أن أبيعه الصواغين وأستعين به في وليمة عرسي " بضم العين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 شَارِفَايَ قدْ أجِبَّتْ أسْنِمتُهمَا، وبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وأُخِذَ مِنْ أكْبَادِهمَا فَلَم أمْلِكْ عَيْنَّي حِينَ رَأيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظرَ مِنهُما، فقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذا؟ فَقَالُوا: فَعَلَ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ: وهو في هَذَا الْبيتِ في شَرْبٍ من الأنْصَارِ، فانْطَلقْتُ حتى أدْخُلَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعِنْدَهُ زيدُ بنُ حَارثَةَ، فَعَرَفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في وَجْهِي الَّذِي لَقِيْتُ، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ ما رَأيْتُ كاليْومِ قَطُّ، عدَا حَمْزَةُ على نَاقَتَيَّ فَجبَّ أسْنِمَتَهما، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُما، وهَا هُو ذَا في بَيْتٍ مَعه شَرْب، فدَعَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرِدَائهِ، فارْتَدَى، ثم انْطَلَقَ يَمْشِي، واتبَّعْتُهُ أنا وَزَيْدُ ابنُ حَارثَةَ حتى جاءَ الْبَيْتَ الذي فِيهِ حمزةُ، فاسْتَأذَنَ فأذِنُوا لهم، فَإذَا هُمْ شَرْبٌ، فَطَفِقَ رَْسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلُومُ حَمْزَةَ فيما فَعَلَْ، فَإذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةً   أي أستعين بثمنه على شراء طعام العرس، " فبينا أنا أجمع لشارفي متاعاً من الأقتاب " جمع قتب وهو ما يوضع على ظهر البعير " والغرائر " أي الأكياس جمع غرارة بكسر الغين وهم ما يوضع فيه الشيء " رجعت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد أجِبَّتْ أسنمتهما " بضم الهمزة وكسر الجيم، وتشديد الباء، أي قطعت " وبقرت خواصرهما " أي شقت " فلم أملك عيني " أي فلم أستطع أن أمنع عيني عن البكاء " فقالوا: فعل حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار " بفتح الشين وسكون الراء أي جماعة يشربون الخمر " فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم قط أي ما رأيت أشد على نفسي منه " عدا حمزة على " أي اعتدى عليهما " فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بردائه فارتدى، ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء البيت الذي فيه حمزة، فاستأذن فأذنوا لهم، فإذا هم شرب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 عَيْنَاهُ، فنظرَ حَمْزَةُ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم صَعَّدَ النَّظر، فَنَظر إلى رُكْبَتِهِ، ثم صَعَّدَ النَّظر فنَظر إلى سُرَّتِهِ، ثم صَعَّدَ النَّظر، فَنَظر إلى وَجْهِهِ، ثم قالَ حَمْزَةُ: هَلْ أنْتُمْ إلَّا عَبِيدٌ لِأبِي، فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَص رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرىَ، وخَرَجْنَا مَعَهُ.   فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة قد ثمل " أي فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة على ما فعله بناقتي علي، فإذا هو قد شرب وسكر " محمرة عيناه " أي حال كونه قد احمرت عيناه من السكر " فنظر حمزة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صعّد النظر إلى ركبته، ثم صعد النظر فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه " أي فجعل يصوب نظره أولاً إلى ركبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إلى سرته ثم إلى وجهه " ثم قال حمزة: هل أنتم إلاّ عبيد لأبي " قال القسطلاني: يريد والله أعلم أن عبد الله وأبا طالب كانا كأنهما عبدان لعبد المطلب في الخضوع لحرمته، وأنه أقرب إليه منهما " فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد ثمل، فنكص " أي فعرف أنه في حالة سكر لا يعي ما يقوله: ولا يلام على ما يصدر منه، فعاد وتركه. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله رضي الله عنه: " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني شارفاً من الخمس ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية فرض الخمس من الغنيمة، وأنه يجب أخذه منها، وصرفه في مصارفة كما قال تعالى: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ويقسم الخمس على خمسة أسهم: (أ) سهم لله ورسوله: وينفق منه على الفقراء والسلاح والجهاد، ونحو ذلك من المصالح العامة (ب) سهم ذوي القربى: أي أقرباء النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم وبني المطلب الذين آزروه وناصروه، ويستوي فيهم الغني والفقير، والقريب والبعيد، والذكر والأنثى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 780 - " بَابُ مَا ذُكِرَ مِنْ دِرْعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعَصَاهُ وَسَيفهِ وقَدَحِهِ وخاتمِهِ وَمَا استَعْمَلَ الخلَفَاءُ بَعْدَهُ مِن ذَلِك، مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قِسْمَتُهُ، وَمِنْ شَعْرِهِ وَنعْلِهِ وآنِيَتهِ، ممَّا يتَبرَّكُ بِهِ أصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ " 882 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ أبَا بَكْر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما اسْتُخْلِفَ بَعَثَهُ إلى الْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ وخَتَمَهُ بِخَاَتمِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلَاَثةُ أسْطُرٍ: مُحَمَّدُ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، واللهِ سَطْرٌ ".   للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو مذهب الشافعي وأحمد (ج) سهم اليتامى من أطفال المسلمين ويختص بفقرائهم. (د) سهم المساكين. (و) سهم ابن السبيل وهو المسافر. ثانياً: مساوىء الخمر ومضارها وما تؤدي إليه من العداوة والبغضاء. تكملة: اختلفوا في سهمه - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حنيفة: يسقط بعد موته، وقال الشافعي: يصرف في مصالح المسلمين من إعداد السلاح، وإنشاء القناطر والمساجد كالفيء، وهو قول أحمد في رواية، وقال في رواية أخرى: يصرف إلى الذين نصبوا أنفسهم للقتال، وانفردوا (بالثغور). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. 780 - " باب ما ذكر من درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعصاه وسيفة وقدحه وخاتمه وما استعملة الحلفاء بعده من شعره ونعله مما يتبرك أصحابه وغيرهم بعد وفاته " 882 - معنى الحديث: أن أبا بكر لما أرسل أنساً إلى البحرين وكتب له كتاب الزكاة ختمه بخاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي انتقل إليه، وقد كُتب عليه " محمد " في السطر الأول، ورسول في الثاني، والله في الثالث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 883 - حَدَّثَنَا عِيسى بْن طَهْمَانَ قَالَ: " أخْرَجَ إليْنَا أنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهما قِبالانِ، فحدَّثَنِي ثَابِث البنَّانِي بَعْدُ عَنْ أنَسٍ أنَّهمَا نَعْلا النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ". 884 - عَنْ أبِي بُرْدَةَ رَضِيَ الله "عَنْه قَالَ: " أخْرَجَتْ إلَيْنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْه كِسَاءً ملَبَّداً، وَقَالَتْ: في هَذَا نزِعَ روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ". 885 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: " أن قَدَح النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَرَ، فاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ " قَالَ عَاصِم: رَأيْتُ الْقَدَحَ وشَرِبْتُ فِيهِ.   الحديث: أخرجه الترمذي. 883 - معنى الحديث: يحدثنا عيسى بن طهمان راوي الحديث فيقول " أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين " بفتح الجيم وسكون الراء أي قديمين مجردين عن الشعر " لهما قبالان " أي زمامان يدخلهما من يلبسهما بين أصبعيه " قال ابن طهمان: فحدثني ثابت البناني بعد عن أنس أنهما نعلا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال القسطلاني: كأنه رأى النعلين مع أنس ولم يعلمه أنهما نعلاه - صلى الله عليه وسلم -، فحدثه بذلك ثابت عن أنس. الحديث: أخرجه البخاري. 884 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها " أخرجت كساء ملبداً " أي مربعاً " وقالت: في هذا نزع روح النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فاضت روحه. الحديث: أخرجه الخمسة غير النسائي. 885 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن قدح النبي - صلى الله عليه وسلم - " الذي كان يشرب فيه " انكسر فاتخذ مكان الشعب " أي فوضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 886 - عَنْ عَلِيّ بْنِ حسين أنَّهُمْ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مِنْ عِنْدِ يزيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلي رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ لَقِيَهُ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ إليَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأمُرني بِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: لَا، فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أنت مُعْطِيَّ سَيْف رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإنِّي أخَافُ أن يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، وأيْمُ اللهِ لئن أعْطَيْتَنِيْهِ لا يُخْلَصُ إليْهِمْ أبَداً حَتَّى تبلَغَ نَفْسِي.   النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضع الشق والكسر " سلسلة من فضة " ليربط بها الإناء " قال عاصم " الأحول " رأيت القدح " عند أنس رضي الله عنه. الحديث: أخرجه البخاري. 886 - معنى الحديث: يحدثنا الراوي " أنهم " أي آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعهم الحسين بن علي الملقب بزين العابدين رضي الله عنهم " حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين " في شهر عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة " لقيه المسور بن مخرمة " أي استقبله بما يليق به من حفاوة. ثم قال له: " هل أنت معطيَّ سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي وددت أن تسلمني سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحفظه لك عندي " وايم الله لئن أعطيتنيه " أي سلمته إلي " لا يخلص إليهم أبداً " أي أقسم بالله لئن سلمته لي لا يصدون إليه " حتى تبلغ (1) نفسي " أي حتى تفارقني روحي. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون هذه الأحاديث اشتملت على الأشياء المذكورة. فقه أحاديث الباب: اشتملت هذه الأحاديث على ذكر الأشياء التي خلفها   (1) بضم التاء وفتح اللام أي حتى تقبض روحي وفي " مرآة الزمان " أنه - صلى الله عليه وسلم - وهبه لعلي قبل موته ثم انتقل إلى آله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 781 - " بَابُ ما كَانَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وغَيرَهُمُ مِنَ الْخمُس ونَحْوِهِ " 887 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " قَالَ النّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّي أُعْطِي قُرَيْشاً أتألفُهُمْ لأنهُمْ حَدِيْثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ ".   النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتقل بعضها إلى خلفائه كالخاتم، أو إلى أصحابه كقدحه ونعليه، أو إلى زوجاته كالكساء المربع -عند عائشة- أو إلى آل بيته كسيفه الذي وهبه لعليّ ثم انتقل إلى عترته الطاهرة، والله أعلم. 781 - " باب ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس " 887 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يختص قريشاً بإعطائهم من الغنيمة أكثر من غيرهم، إما بأن يعطيهم من الخمس، أو من خمس الخمس تأليفاً لقلوبهم، لأنهم حديثوا عهد بجاهلية، وأيضاً كان يزيدهم ترغيباً لنظرائهم من أشراف القوم في اعتناق هذا الدين. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يختص المؤلفة قلوبهم بقدر زائد من الغنيمة، قال الحافظ: واختلف من أين كان يعطي المؤلفة، فقال مالك وجماعة: من الخمس، وقال الشافعي وجماعة: من خمس الخمس. اهـ. أما البخاري فقد استدل بالأحاديث التي أخرجها في هذا الباب على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم من الخمس ونحوه، كالخراج والفيء والجزية والزكاة، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي بألفاظ. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة كما فهم البخاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 782 - " بَابُ مَنْ لَمْ يُخمِّس الأسْلَابَ " 888 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أنَا وَاقِف في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظرتُ عَن يَمِيني وَشِمَالِي، فَإِذَا أنَا بِغُلَامَيْنِ من الأنْصَارِ حَدِيثَةٍ أسْنَانُهُمَا، تَمَنيتُ أنْ أكُونَ بَيْنَ أضْلَعَ مِنْهُمَا، فغَمَزَنِي أحَدُهُمَا فَقاَل: يا عَمِّ هَلْ تَعْرِفْ أبَا جَهْل؟ قُلْتُ. نَعَمْ مَا حَاجَتُكَ إلَيْهِ يا ابْنَ أخِي؟ قَالَ: أخْبِرْتُ أنهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأيْتُهُ لا يُفَارِقُ سَوادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذلِكَ، فغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لي مِثْلَهَا، فلَمْ أنشَب أنْ نَظرتُ إلى أبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: ألا إِنَّ هذا صَاحِبُكمَا الذِي   782 - " باب من لم يخمس الأسلاب " " والأسلاب " جمع سلب وهو ما يوجد على المقتول من السلاح وعدة الحرب، وما يتزين به المحارب، أما ما كان معه من جواهر ونقود ونحوها إنما هو غنيمة. 888 - معنى الحديث: أن عبد الرحمن بن عوف بينما كان واقفاً في الصف يوم بدر رأى غلامين صغيرين يقاتلان قتال الأبطال، ويصارعان صراع الفرسان، حتى أنه تمنى أن يكون مثل أعظمهما فروسية ونضالاً، قال رضي الله عنه: " فغمزني أحدهما " أي همزني بيده " فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم ما حاجتك إليه " أي ماذا تريد منه " قال: أخبرت أنه يسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده، الخ " أي لا يفارق شخصي شخصه حتى يقتك أسرعنا منية، قال " فغمزني الآخر، فقال مثلها " أي مثل مقالة صاحبه "فلم أنشب أن نظرت إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 سَألتُمَانِي فابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَربَاهُ حتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَراهُ، فَقَالَ: " أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ " قَال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: " هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ " قَالا: لا، فَنَظر في السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: " كِلاكُمَا قَتَلَهُ، فَأَعطى سَلَبَهُ لِمُعَاذِ بنِ عَمْرو بْنِ الجَمُوحِ وَكَانَا مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاء ومُعَاذَ بْنَ عَمْرو بْنِ الجَمُوحِ.   أبي جهل يجول في الناس" أي فلم ألبث إلاّ قليلاً حتى رأيت أبا جهل يجول ويصول، وينتقل من مكان لآخر " فقلت: ألا إن هذا صاحبكما " أي فدللتهما عليه " فابتدراه بسيفيهما " أي فأسرعا إليه، فقتلاه بسيفيهما " ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتهما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله " أي شارك في قتله، وذلك لوجود الدم على السيفين معاً " فأعطى سلبه " أي ثيابه وسلاحه " لمعاذ بن عمرو بن الجموح " لأنه هو الذي أثخنه وأعمق سيفه فيه " وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح " أي وكان هذان الفارسان اللذان قتلاه هما هذان الفتيان. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فأعطى سلبه لمعاذ بن عمرو ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن السلب لا يخمّس دائماً، بل يعطى للقاتل، وقد اختلف في ذلك الفقهاء، فذهب الشافعي وأحمد وطائفة من أهل الحديث: إلى أنه لا يخمّس، واحتجوا بحديث الباب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى معاذ بن عمرو سلب أبي جهل، ولم يخمسه، وقضى في السلب للقاتل كما في رواية أبي داود. وقال مالك في رواية: يخمس، وفي رواية: الإِمام مخير فيه. ثانياًً: إثبات الحقوق المالية بالقرائن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استدل بالدم الذي على السيف على من قتل أبا جهل، وحكم له بالسلب والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ الجِزْيَة والمُوَادَعَةِ مَعَ أهْلِ الذِّمَّةِ والحَرْبِ " 783 - " بَابُ مَا جَاء في أخذِ الجِزْية مِن الْيَهُودِ والنَّصَارَى والمَجوسِ " 889 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه: أنَّهُ كَتَبَ إلى عَامِلِهِ بالأهْوَازِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ: فرِّقُوا بَيْنَ كلِّ ذِي مَحْرَم مِنَ الْمَجُوسِ، ولم يَكُنْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوس حتى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أخذَهَا مِنْ مَجُوس هَجَرَ ".   782 - " كتاب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس " والجزية: هي ما يؤخذ سنوياً ممن كان تحت حكم المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم. 889 - معنى الحديث: أن الفاروق رضي الله عنه كتب لعامله على الأهواز جزء بن معاوية " بفتح الجيم وسكون الزاي " كتاباً قال فيه: " فرقوا بين كل ذي مَحْرَم من المجوس " أي فرقوا بين كل مجوسي وزوجته التي تزوج بها وهي محرم له إذا ظهر لكم ذلك عنهما " ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر " أي وكان عمر رضي الله عنه قد توقف في أوّل الأمر عن أخذ الجزية من المجوس، لأنه ظن أنها خاصة بأهل الكتاب، حتى حدثه عبد الرحمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 784 - " بَاب إذا غَدَرَ المُشْرِكونَ بالمُسلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ " 890 - عن أبِي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " اجْمعُوا إلي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ يَهُودَ، فَجُمِعُوا له، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ؟ فَهَلْ أنتُم صَادِقيَّ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ: مَنْ أبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلَان، فَقَالَ: كَذَبْتُمْ، بل أبُوكمْ فُلَانٌ، قالوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَهَلْ أنْتُمْ صَادِقِيَّ فِي شَيْءٍ إنْ سَألتُ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يا أبَا القَاسِمْ وإنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كما عَرَفْتَهُ في أبِينَا،   ابن عوف، وشهد عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي .. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية أخذ الجزية من أهل الذمة عامة، سواء كانوا يهوداً أو نصارى، أو مجوساً وهم عبدة النار، لشهادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر، وقد اختلف في ذلك أهل العلم، فذهب أبو حنيفة إلى أنها تؤخذ من كل كافرٍ إلاّ مشركي العرب، وقال مالك: تؤخذ من كل كافر مطلقاً، وقال أحمد والشافعي: تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس، وهو ما يدل عليه حديث الباب. وأقل الجزية عند الجمهور في كل عام دينار، والله أعلم. والمطابقة: في قوله: " حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر " والله أعلم. 784 - " باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم " 890 - معنى الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة، وأهدت إليه - صلى الله عليه وسلم - امرأة يهودية شاة مشوية مسمومة، فأخذ الذراع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أهْلُ النَّارِ؟ قَالُوا: نَكُون فِيهَا يَسِيراً، ثم تَخْلُفُونَا فيها، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: اخْسَؤوا فِيهَا، وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أبداً، ثمَّ قَالَ: هَلْ أنتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْء إِنْ سَألتُكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ يا أبَا الْقاسِمْ، قَالَ: هَلْ جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ على ذَلِكَ؟ قَالُوا: أردنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبَاً نَسْتَرِيحُ، وإن كُنْتَ نَبِيَّاً لَمْ يَضُرَّكَ ".   منها وأكله، وحذر أصحابه منها، فقال لهم: ارفعوا أيديكم، وكان اسم هذه المرأة زينب بنت الحارث، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان هناك من اليهود، ووجه إليهم أولاً أسئلة أخرى ليكشف عن كذبهم، ثم سألهم عن أهل النار فزعموا أنهم يدخلونها فترة من الزمان، ثم يخلفهم فيها المسلمون من بعدهم، فكذبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: " اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبداً " وتقول العرب: خَسَأتُ الكلبَ يعني زجرته مستهيناً به، والمعنى كفوا عن هذه الدعوى الكاذبة الباطلة، فأنتم أولى بالذل والهوان، وعذاب النار وبئس القرار، ولن نخلفكم أبداً لأنكم مخلّدون فيها أبداً، أما عصاتنا، فإن بقاءهم في النار مؤقت محدود، ولا يخلدون فيها، ثم ختم حديثه - صلى الله عليه وسلم - بسؤالهم عن الشاة، وهل وضعوا له السم فيها، فأقروا بالحقيقة، واعترفوا بأنهم وضعوا له السم فيها، " قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح " أي أردنا أن نتأكد من نبوتك، فإن كنت كاذباً تموت بذلك السم فنستريح منك، وإن كنت صادقاً لا يضرك ذلك السم، ولا يؤذيك، الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المعاهد إذا نقض العهد فإن الإِمام مخير فيه إن شاء قتله وإن شاء لم يقتله، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 785 - " بَابُ إثْمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ " 891 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَاراً ولا دِرْهَماً، فقَيلَ لَهُ: وَكَيْفَ   لم يأمر بقتل اليهودية من أول الأمر حين اكتشف أنّها وضعت له السم ونقضت العهد، وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه (1)، وقال ابن قدامة (2): ومن حكمنا بنقض عهده منهم خير الإِمام بين أربعة أشياء، القتل والاسترقاق، والفداء، والمنّ كالأسير الحربي، لأنه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهد ولا عقد ولا شبهة ذلك، فأشبه اللص الحربي. اهـ. وقال مالك في رواية ابن وهب وابن نافع وهو المشهور عنه: أنهم يقتلون ويسبون كما فعل رسول الله ببني أبي الحقيق، وهو مذهب أبي حنيفة. ثانياًً: استدل مالك بهذا الحديث على أن القتل بالسم (3) كالقتل بالسلاح يوجب القصاص لأنه لما مات بشر ابن البراء من هذه الشاة المسمومة سلم اليهودية لأوليائه فقتلوها قصاصاً، وقال الكوفيون: لا قصاص فيه، ولكن فيه الدية. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتل اليهودية (4) لأنها نقضت العهد. 785 - " باب إثم من عاهد ثم غدر " 891 - معنى الحديث: أن أبا هريرة يحذر المسلمين من نقض عهد الذمة وينذر من سوء عاقبته فيقول: "كيف بكم إذا لم تجتبوا ديناراً ولا   (1) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2. (2) " المغني " لابن قدامة ج 9. (3) " شرح العيني على البخاري " ج 15. (4) فإن قيل: إنه قتلها أخيراً، فالجواب إنّه لم يقتلها لنقض العهد، وإنما قتلها قصاصاً حين مات بشر بن البراء متأثراً بسمها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 تَرَى ذَلِكَ كَائِنَاً يَا أبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: إيْ وَالَّذِي نَفْسُ أو هُرَيْرةَ بِيَدِهِ عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا: عَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: تُنْتَهَكَ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَشُدُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلُوبَ أهْل والذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِي أيدِيهِمْ ".   درهماً" أي كيف تكون حالكم إذا انقطعت عنكم الأموال من جزية أو خراج. " فقيل له: وكيف ترى ذلك كائناً؟ " أي فقالوا متعجبين: وكيف تظن أن ذلك يمكن أن يكون، وأنت ترى أموال الخراج والجزية تتدفق على المسلمين من كل جانب، " قال: إي " بكسر الهمزة أي نعم يحدث هذا " والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق "، أي وأقسم بالله الذي روحي بيده أنني لم أقل ذلك من عندي وإنما أرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق فإنني سمعته منه، " قالوا: عم ذلك؟ " أي فما سبب انقطاع الجبايات المالية عن المسلمين، " قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله " أي سببه أن المسلمين ينقضون عهد الله وعهد رسوله الذي يتعلق بحقوق أهل الذمة، ويعاملونهم بالظلم والعدوان، فيعاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة " فيشد الله قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم من الأموال " أي فيقوّي الله قلوب أهل الذمة على المسلمين، ويمنعون عنهم الأموال. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن لأهل الذمة حقوقاً يجب على إمام المسلمين رعايتها والمحافظة عليها وأن لهم عهداً وذمة يجب الوفاء بها، وهو ما يسمى عند الفقهاء "عقد الذمة " ومعناه أن يقر الحاكم أو نائبه بعض أهل الكتاب أو غيرهم على كفرهم بشرطين: الشرط الأول: أن يلتزموا بأحكام الإِسلام في الجملة، الشرط الثاني: أن يدفعوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 786 - " بَابُ إِثْمِ الْغادِرِ لِلبَرِّ والْفَاجِرِ " 892 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولٌ: "لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ   الجزية، ويسري هذا العقد على الشخص الذي عقده ما دام حياً، وعلى ذريته من بعده، ما لم يوجد ما ينقضه، ويترتب عليه تحريم قتالهم، والمحافظة على أموالهم، وصيانة أعراضهم، وكفالة حرياتهم، والكف عن أذاهم، لما روى عن علي رضي الله عنه أنّه قال: " إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا ". أما الأحكام التي يجب عليهم الالتزام بها فهي أحكام المعاملات المالية، فلا يجوز أن يتصرفوا في هذه المعاملات بما يخالف أحكام الإِسلام، كعقد الربا مثلاً، كما أنهم تقام عليهم الحدود، إذا فعلوا ما يوجب ذلك، وقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - يهوديين زنيا بعد إحصانهما، أما ما يتصل بالشعائر الدينية من عقائد وعبادات أو ما يتصل بالزواج والطلاق فلهم الحرية في ذلك. وقد دل الحديث على أن المسلمين إذا انتهكوا عقد الذمة هذا عاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، ونزع هيبتهم من قلوب أهل الذمة، فاستهانوا بهم. ثانياًً: أن المسلمين يجب عليهم الوفاء بالعهد، وأن الغدر ونقض العهود كبيرة من الكبائر، وسبب في ضعف المسلمين، وزوال هيبتهم وقلة مواردهم المالية، وتدهور اقتصادهم. الحديث: أخرجه البخاري والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. 786 - " باب إثم الغادر للبر والفاجر " أي هذا باب يذكر فيه عقوبة الله للغادر، سواء غدر بطائع أو عاص. 892 - معنى الحديث: أن الله يعاقب الغادر يوم القيامة بفضيحته، وهتك ستره، فينصب لكل غادر لواءً يكشف به عن غدره وخيانته إمعاناً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 لِغَدْرَتِهِ " (1).   في التشهير به أمام الملأ إلحاقاً للخزي والعار به. وذلك أشد العقوبة وأنكاها لما فيه من إهانته وإذلاله وإهدار كرامته مقابل استخفافه بعهود الناس وغدره بهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الغدر كبيرة من الكبائر، وإلا لما ترتب عليه هذا الوعيد الشديد من فضح الغادر، والتشهير به يوم القيامة أمام الخلائق، وإهدار كرامته، وذلك أشد العقوبة وأنكاها. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. الحديث: أخرجه الشيخان. ...   (1) قال القسطلاني قوله: " لغدرته " باللام وفتح الغين المعجمة أي لأجل غدرته في الدنيا، أو بقدرها، ولأبي ذر وابن عساكر بغدرته بالموحدة بدل اللام، أي بسبب غدرته، والمراد شهرته في القيامة بضعة القدر ليذمه أهل الموقف. اهـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب بدء الخلق " والمراد من هذا الكتاب بيان أمرين: الأول: كما قال القاري ذكر الأحاديث الصحيحة التي تتعلق بظهور الخليقة، ومبدأ وجود الكائنات، الأول فالأول. الثاني: ذكر أحوال الخليقة من المبدأ إلى المحشر، وما ورد من الأخبار عن عجائب المخلوقات من العرش والسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح والملائكة وصفة الجنة والنار، والعوالم غير المنظورة من الجن والشياطين والملائكة، أما الأخبار الواردة عن بدء الخليقة فإن فيها الكثير من الإسرائيليات المروية عن وهب بن منبه وكعب الأحبار والسدي وغيرهم، وأغلبها لا يعتد به، ولا تقوم به حجة، فما يوجد منها في " صحيح البخاري " فإن كان من الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من الحقائق الثابتة والأخبار المقبولة، أما ما نقله من الأخبار عن الصحابة والتابعين ولم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه موضع بحث ونظر، لأن الصحابة والتابعين قد أخذوا عن حسن نية الكثير من الأخبار الإسرائيلية، وتحدثوا بها، وحكم الإِسلام بالنسبة إلى الإسرائيليات أنّها تعرض على الكتاب والسنة، فما وافقهما فهو حق لا شك فيه، وما خالفهما فباطل لا شك فيه، وما سكت عنه الكتاب والسنة فهو خبر عادي يحتمل الصدق والكذب، وهو المقصود بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " والحاصل أن جميع الأخبار المتعلقة بالموجودات وسنن الكائنات ينظر فيها، فإن كانت قرآناً أو سنة صحيحة فعلى الرأس والعين، وإن كانت خلاف ذلك، فإنها تخضع للبحث العلمي والنقد الصحيح، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 787 - " بَابُ ما جَاءَ في قَوْلِ اللهِ تعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) " 893 - عن عمران بن حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "دَخَلْتُ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بالبَاب، فَأتَاهُ نَاسٌ من بني تَمِيم فَقَالَ: اقبَلُوا البُشرى يا بني تَمِيم، قَالُوا: قد بَشِّرتَنَا فأعْطِنَا مَرَّتَيْنِ، ثم دَخَلَ عَلَيْهِ نَاس مِن أهلِ اليَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا البُشرْى يا أهلَ   787 - " باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يتعلق بتفسير قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) معناه أنه تعالى هو الذي بدأ خلق هذه الكائنات أول مرة على غير مثال سابق، وهو الذي يعيدها مرة أخرى عند بعثها، والإِعادة أهون من البداية، وإن كان الله تعالى يستوي أمام قدرته كل شيء. 893 - معنى الحديث: أن عمران بن حصين يقول: " دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي " أي ربطت ناقتي، ثم دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا والواو المطلق الجمع، لا تفيد ترتيباً ولا تعقيباً " فأتاه ناس من بني تميم، فقال: اقبلوا البشري يا بني تميم " بما أتحدث به إليكم " قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين " أي فقال الأقرع بن حابس: قد بشرتنا أن تعطينا فأعطنا، قال ذلك مرتين، لأن جُلَّ اهتمامهم كان بالدنيا، فلم يفهموا من البشرى إلّا العطاء المادي فقط، بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد بالبشرى أن يخبرهم عن وجود الله تعالى قبل كل موجود، وخلقه لكل موجود، وسماه بشرى لأنه يتعلق بتوحيد الربوبية الذي هو أصل من أصول العقيدة الإِسلامية التي يترتب عليها الفوز بالجنة والنجاة من النار. قال: "ثم دخل عليه ناس من أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 اليَمَنِ إذ لَمْ يَقْبَلْهَا بنو تَمِيم، قالوا: قَدْ قبِلْنَا يا رَسُولَ اللهِ، قَالُوا: جِئْنَا نَسْألُكَ عن هذا الأمْرَ قال: " كَانَ اللهُ ولَمْ يَكُنْ شيءٌ غَيْرُهُ، وكان عرشُهُ على المَاءِ، وَكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيءٍ، وخلقَ السَّمَواتِ والأرْضَ، فَنَادَى مُنادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يا ابْنَ الْحُصَيْنِ، فانْطَلَقْتُ فإذا هِيَ يَقطعُ دونَهَا السَّرَابُ، فواللهِ لَوَدِدتُ أنِّي تَرَكْتُهَا ".   اليمن" وهم الأشعريون " فقال: اقبلوا البشرى "، أي اقبلوا مني هذا الخبر " قالوا: قبلنا يا رسول الله " أي قبلنا منك ذلك، فهات ما عندك " فإنما جئناك نسألك عن هذا الأمر " وفي رواية أخرى في البخاري " فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أوّل هذا الأمر " فما هو أول هذا الأمر الذي سألوا عنه. قال ابن تيميّة: إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات، وسواء كان السؤال عن الأوّل أو الثاني، فإن الذي يظهر لنا من مجموع الروايات أن رسول الله قد أجابهم عن بدء الخليقة عامة، لما جاء في رواية أخرى عن عمران بن حصين نفسه قال فيها: " فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدّث عن بدء الخلق والعرش " أخرجه البخاري، فهذا نص صريح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجابهم عن بدء الخليقة. فإن كانوا قد سألوا عن بدء هذا العالم، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أجابهم عنه ببدء الخليقة، لأنه أعم وأشمل، وهو متضمن لجواب سؤالهم وزيادة، وإن كانوا قد سألوا عن بدء الخليقة. فالجواب والسؤال متطابقان. " قال: كان الله، ولم يكن شيء " وفي رواية: " ولا شيء قبله " وروي: " معه " لكن رواية الباب أصرح في العدم، وفيها دلالة على أنه لم يكن شيء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، لأن كل ذلك غير الله تعالى، وكلمة " كان " في قوله - صلى الله عليه وسلم - " كان الله " إلخ أزلية كما أفاده الحافظ، ومعناها أن الله تفرد بالوجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 الأزلي دون غيره، فهو الأوّل بلا ابتداء، المنفرد بالأوليّة، وكل ما سواه حادث مخلوق له، بما في ذلك العرش. قال - صلى الله عليه وسلم -: "وكان عرشه على الماء " والمراد بكان هنا الحدوث بعد العدم، كما أفاده الحافظ، ومعناه، كما قال الحافظ: أنه خلق الماء سابقاً، ثم خلق العرش على الماء، قال ابن تيميّة: فالعرش (1) مخلوق أيضاً فإنه تعالى يقول: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي وهو خالق كل شىء: العرش وغيره، ورب كل شيء العرش وغيره، وفي حديث أبي رزين " العقيلي " أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلق العرش ". اهـ. وفي رواية أخرى للبخاري عن عمران بن حصين قال فيها: " فجاء أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن، اقبلوا البشري إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا " فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث عن بدء الخلق والعرش " أي يحدث عن بدء الخليقة، ومنها العرش، فهو من ضمن المخلوقات. قال القسطلاني وأشار بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وكان عرشه على الماء " إلى أن الماء والعرش - كانا مبدأ العالم لكونهما خلقا قبل كل شيء " وكتب في الذكر كل شيء " أي كتب في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. " وخلق السموات والأرض " قال ابن تيميّة: وبعض الرواة ذكر فيه خلق السموات والأرض بثم، وبعضهم ذكرها بالفاء، فأما الجمل الثلاث المتقدمة، فالرواة متفقون على ذكرها بلفظ الواو، قال ابن تيمية: " وسواء كان قوله: وخلق السموات والأرض " أو " ثم خلق السموات والأرض " فعلى التقديرين أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن. وإن كان قد خلق من مادة. فإن كان لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - " ثم خلق " فقد دل على أنه خلق السموات والأرض بعد ما تقدم ذكره وهذا اللفظ أولى بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما فيه من تمام البيان، وحصول المقصود الذي يدل على الترتيب الزمني في خلق هذه الكائنات. اهـ. خلاصة معنى   (1) رسالة لابن تيمية في شرح هذا الحديث نشر دار الكتب العلمية ببيروت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 الحديث: أن الله كان قبل كل شيء ولم يكن أي شيء غيره موجوداً، ثم خلق الماء أولاً والعرش ثانياً، أو خلق العرش في الجهة العليا والماء في السفلى، ثم خلق القلم واللوح المحفوظ، ثم خلق السموات والأرض، هذا هو الترتيب الزمني لخلق هذه الكائنات العلوية والسفلية. " فنادى منادٍ ذهبت ناقتك " أي هربت " فانطلقت " أي فذهبت خلفها " فإذا هي يقطع دونها السراب " أي فإذا هي قد ابتعدت كثيراً حتى حال دونها السراب " فوالله لوددت أني تركتها " أي تمنيت أني تركتها تذهب وبقيت في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الله هو الأول بلا ابتداء كما قال تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء " وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " كان الله ولم يكن شيء غيره " والإِيمان بهذه الصفة أمر تقتضيه الفطرة السليمة ويدل عليه المنطق الصحيح، لأن خالق الكائنات لا بد أن يكون موجوداً قبلها، وإلّا لما خلقها. فهو سبحانه أزلي أبدي لم يسبقه عدم، ولا يلحقه فناء، لأنه واجب الوجود. ثانياًً: بيان حدوث العالم وبدء الخليقة، وأن لهذا الوجود خالقاً هو الله تعالى، لا كما يقول الطبيعيون إنه وجد هذا العالم بمحض الصدفة، مما يرفضه العقل والتفكير السليم، لأن كل حادث لا بد له من محدث، وكل مصنوع لا بد له من صانع، وهذا يقتضى أن الكائنات كلها مخلوقة، والله هو خالقها ومبدعها، وأوّل هذه المخلوقات الماء في الجهة السفلى، والعرش في الجهة العليا. ثالثاً: أن القلم أوّل المخلوقات المعنوية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وكتب في الذكر كل شيء ". رابعاً: أن وجود اللوح المحفوظ من الحقائق الإِيمانية الثابتة التي يجب الإِيمان بها. خامساً أن الكلام في حدوث العالم وعجائب المخلوقات من صميم الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 894 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَشْتِمُنِي ابْنُ آدَمَ، ومَا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَشْتِمَنِي، ويُكَذِّبَنِي، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، أمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِيَ وَلداً، وَأمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأني ".   لما فيه من الدلالة على وجود الله وتوحيده في ربوبيته. والمطابقة: في كون الحديث يدل على بدء الخلق. 894 - معنى الحديث: أن الله تعالى يقول في الحديث القدسي يتجرأ عليَّ هذا الإنسان بما لا أستحقه منه، وقد خلقته ورزقته، وأنعمت عليه بشتى النعم، فلم يقابل ذلك بالإيمان بالله وتوحيده، وتقديسه وتنزيهه عما لا يليق به، وإنما قابل هذه النعم العظيمة بالشرك والكفر والنكران، فبعض هؤلاء البشر شتمني، والبعض منهم كذبني. فأما الذين شتموا الله عز وجل فقد نسب إليه اليهود والنصارى وبعض المشركين الولد، وهو لا يليق به عز وجل حيث إنه يقتضي المجانسة والمشابهة، وهو عز وجل الواحد الأحد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأما الذين كذبوا بالله فقد أنكروا البعث، واستبعدوه مع علمهم بأن الله هو الذي خلقهم على غير مثال سابق، فكيف يخلقهم ابتداءً، ثم يعجز عن إعادتهم مرة أخرى، مع أن الإعادة أسهل كما قال تعالى: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نسبة الولد إلى الله تعالى شتيمة وإنكار لوحدانيته، وتشبيه له بغيره، وهو شرك به، لأن الولد يشبه أباه، وهو عز وجل واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فكيف يكون له ولد يشبهه. ثانياً: أن إنكار البعث تكذيب لله ولوعده. ثالثاً: أنّ الله هو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده، وفي ذلك إثبات لحدوث العالم وإعادة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 788 - " بَاب مَا جَاءَ في سَبْعِ أرَضِينَ، وَقَوْلِ اللهِ تعَالَى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) " 895 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قَالَ: " مَنْ أخَذَ شَيْئاً مِنَ الأرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ به يَوْمَ القِيَامَةِ إلى سَبْعِ أرضِينَ ".   الإِنسان بعد موته، وأن الله هو الذي يعيده يوم القيامة لمجازاته على أعماله. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وأما تكذيبه فقوله ليس يعيدني كما بدأني ". 788 - " باب ما جاء في سبع أرضين، وقول الله: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) " 895 - معنى الحديث: أن من أخذ شيئاً من أرض غيره اختلاساً أو اغتصاباً، فإنه يخسف به يوم القيامة فتنشق الأرض، ويطوق بها إلى سبع أرضين لما جاء في الرواية الأخرى: " من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن هذه الأرض التي نعيش عليها تتكون من سبع أرضين، وذلك يتفق مع قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، قال الآلوسي (1): والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الصفات، فقال الجمهور: المثلية في كونها سبعاً، وكونها طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض كما بين كل سماء وسماء، وقال الضحاك: المثلية في كونها سبعاً بعضها فوق بعض، لا في وجود مسافة بين أرض وأرض، بمعنى أن كل أرض تلي الأخرى مباشرة، وهو ما يسمى في   (1) " تفسير الآلوسي " ج 28. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 789 - " بَابُ صِفَةِ الشَّمْسِ والْقَمَرِ بُحُسْبَانٍ " 896 - عنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي النبي - صلى الله عليه وسلم - حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: " تَدْرِي أينَ تَذْهَبُ؟ " قُلْثُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: " فَإِنَّها تَذْهَبُ حتى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ فَتَسْتَأذِنَ فَيُؤْذَنَ لها، وَيُوشِكُ أن تَسْجد فلا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأذِنَ فلا يُؤذَنَ لَهَا، يُقَالَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئَت، فَتَطْلِعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ".   عصرنا الحديث بطبقات الأرض. قال في " فيض الباري ": وقد ثبت اليوم عند ماهري علم الطبقات أن لها طبقات. ثانياًً: التحذير الشديد من السطو على أرض الغير وأخذ شيء منها ظلماً، والوعيد الشديد لمن فعل ذلك بالخسف به يوم القيامة. والمطابقة: في قوله: " إلى سبع أرضين ". الحديث: أخرجه البخاري. 789 - "باب صفة الشمس والقمر بحسبان " أي هذا باب في تفسير قوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) وبيان كيفية ذلك. 896 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً لأبي ذر عندما غربت الشمس: أتدري أين تذهب هذه الشمس بعد اختفائها عنا عند الغروب؟ فقال أبو ذر: الله ورسوله أعلم. وإنما وجه إليه هذا السؤال مع علمه بأنه لا يستطيع الإِجابة عليه ليستثير في نفسه الاهتمام بجوابه، لأن المعرفة إذا جاءت بعد الحوار والمناقشة كانت أوقع في النفس "قال: فإنها تذهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 حتى تسجد تحت العرش" أي تسجد لربها حقيقة لا مجازاً، وهي أينما سجدت سجدت تحت العرش " تستأذن فيؤذن " أي تستأذن ربها في الطلوع من المشرق ومعاودة سيرها مرة أخرى، فيؤذن لها في ذلك " ويوشك أن تسجد " أي وسيأتي قريباً الوقت الذي تسجد وتستأذن فيه في الطلوع من المشرق " فلا يقبل منها " سجودها، ولا يؤذن لها في الطلوع من المشرق " فتطلع من مغربها " وذلك من علامات الساعة " فذلك قوله تعالى ": أي فذلك هو معنى قوله تعالى: " (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) " أي تتحرك وتسير في طريقها المحدد لها، ولا تزال تجري في مسيرتها هذه حتى ينتهي العالم، " (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) " أي أنها إنما تتحرك حركتها هذه بنظام دقيق محكم، يدل على وجود الله تعالى وتقديره وتدبيره لهذا العالم تدبيراً يليق بعلمه وعزته وحكمته. لا كما يزعم الملحدون أن حركة الكون كلها إنما هي بمحض الصدفة، لأن الصدفة عمياء لا يمكن أن تقوم بتدبير هذه الحركة المنظمة (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال القسطلاني: وظاهر هذا الحديث أن -الشمس- تجري في كل يوم وليلة بنفسها كقوله تعالى في الآية الأخرى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) قال " في ظلال القرآن ": وكان من المظنون أنها -أي الشمس- ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها، ولكن عرف أخيراً أنها ليست مستقرة في مكانها، إنما هي تجري فعلاً في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلاً في الثانية. اهـ. ثانياًً: ثبوت سجودها تحت العرش عند طلوعها، ويتعين الإِيمان به عن يقين ما دام قد أخبر عنه الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه. مطابقة الحديث للترجمة: في كونه يدل على معنى الآية الكريمة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 790 - " بَابُ ذِكْرِ الْمَلاِئكَةِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ " 897 - عن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قال: " إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطنِ أمِّهِ أربَعِينَ يَوْماً، ثم يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثم يَبْعَثُ اللهُ مَلَكاً، فَيُؤْمَرُ بأربع كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ   790 - " باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم " 897 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أخبرنا رسول الله وهو الصادق فيما يخبر به المصدوق في كل ما يوحى إليه من عند ربه: أن الجنين في بطن أمه يمرُّ في تكوينه بأربعة أدوار، فيكون في الدور الأوّل لمدة أربعين يوماً نطفة، أي حيواناً منوياً يجتمع ببويضة الأنثى فيلقحها، وتحمل المرأة بإذن الله تعالى، ثم يتحول في الدور الثاني لمدة أربعين يوماً إلى علقة، أي نقطة دموية جامدة تعلق بالرحم، ثم يتحول في الدور الثالث لمدة أربعين يوماً مضغة، أي قطعة لحم صغيرة بقدر ما يمضغ الإنسان في الفم، ثم في الدور الرابع يبدأ تشكيله وتصويره، ويكون قد أكمل أربعة أشهر، فيرسل الله إليه الملك الموكل بالأرحام وكتابة الأقدار ويأمره بكتابة أقداره الأربعة فيكتب أعماله التي يفعلها طيلة حياته خيراً أو شراً، ورزقه مادياً، كالمال والطعام والشراب واللباس والسكن والصحة، أو معنوياً كالعلم والذكاء والمهارة وغيرها ويكتب أجله، وعمره، ومدة حياته ومتى تنتهي، وفي أي مكان تنقضي. ويكتب خاتمته ومصيره الذي ينتهي إليه إن كان من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة، من أهل الجنة أو النار، فكم من رجل يعمل طول حياته - في نظر الناس بعمل أهل الجنة حتى يكون منها في غاية القرب، فإذا دنا أجله ختم له بالشقاوة لأنه سبق عليه الكتاب في بطن أمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 لَه: اكْتبْ عَمَلَه، ورِزْقَه، وأجَلَه، وشَقِي أو سَعِيدٌ، ثمَّ ينْفَخ فِيهِ الرُّوحَ، فَإنّ الرَّجلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَل حَتَّى مَا يَكون بَيْنَه وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِق عَلَيْهِ كِتَابه فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكونَ بَيْنَه وَبَيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِق عَلَيْهِ الكِتَاب فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ".   فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس بالعكس، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن الرجل منكم ليعمل " أي يعمل بعمل أهل الجنة " حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلاّ ذراع " وهو كناية عن غاية القرب " فيسبق عليه كتابه " أي فيكون قد كتب عليه سابقاً في بطن أمه أنه شقي، فيختم له بالشقاوة " فيعمل بعمل أهل النار " فيدخلها كما سبق به القدر " ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلاّ ذراع " أي وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار حتى يقترب منها غاية القرب " فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل الجنة " فيدخلها (1). والمطابقة: في قوله: " ثم يبعث الله ملكاً ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان مراحل تكوين الجنين في بطن أمه، حيث يمرّ بأربعة مراحل. الأولى: مرحلة التلقيح المنوي وهو المشار إليه بقوله: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً " أي يجمع الله هذا الحيوان التناسلي المنوي بالبويضة فيحصل التلقيح والحمل، وقد ثبت علمياً أن النقطة الواحدة من ماء الرجل تحمل ألوف الحيوانات المنوية، وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة، وتوجد فيه كل خصائص الأب   (1) والذي يحل الإشكال في هذا الحديث، ما جاء في " الصحيحين " من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ". فهناك أشياء لا يطلع عليها إِلا الله تعالى الذي يعلم أعمال العباد ونياتهم، فعلى حسب ذلك تكون خواتيمهم. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وصفاته الجسمية، كالطول والقصر ونحوها، وصفاته العصبية والعقلية والنفسية من ميول واتجاهات وانحرافات واستعدادات. الثانية: مرحلة العلقة: وهي التيِ تتحول فيها الخلية إلى نقطة دموية جامدة عالقة بالرحم، ومدتها أربعون يوماً أيضاً. الثالثة: مرحلة المضغة، التي يصبح فيها الجنين قطعة لحم صغيرة، ومدتها أربعون يوماً. الرابعة: مرحلة التكوين العضوي حيث تتحول قطعة اللحم الصغيرة بعد أن يكون الجنين قد أتم أربعة أشهر إلى جسم بشري مكون من هيكل عظمي، ولحم ودم، وقلب وأمعاء، ورأس وحواس وأعضاء، وبذلك يكمل تصويره وتشكيله، وتتكامل أعضاؤه وحواسه الجسمية. ثانياً: كتابة أقدار كل إنسان وهو ما زال جنيناً في بطن أمّه بعد استكمال تشكيله وتصويره، وتكامل أعضائه وحواسه، حيث دل الحديث على كتابة عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ولذلك فإن خاتمة الإِنسان مرتبطة " قدراً " بما كتب عليه في بطن أمه، فالسعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، ولا شك أن هذه المقادير تكتب مرتين، مرة في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلائق لما في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " أخرجه مسلم، والمرة الثانية في بطن أمه قال ابن رجب: وقد روي عن ابن مسعود أن الملك إذا سأل عن النطفة أمر أن يذهب إلى الكتاب السابق، ويقال له: إنك تجد فيه قصة هذه النطفة. ثالثاً: وجوب الإيمان بالقدر، سواء تعلق بالأعمال أو بالأرزاق والآجال لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا في هذا الحديث أن كل إنسان يكتب عليه قدره في بطن أمه، والقدر نوعان: (أ) قدر حتمي ليس للعبد فيه كسب واختيار، وهو ما يتعلق بالأرزاق والآجال، والصحة والمرض، ونحوها، وكذلك الاستعدادات الفطرية، والمواهب والقدرات البشرية، من ذكاء وفطنة ونحوها، فإنها كلها حتمية لا حيلة فيها للإنسان ولا اختيار له فيها، ولا يقع تحت مسؤوليته، وقدر للإِنسان فيه كسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 واختيار: وهو ما يتعلق بالأعمال من طاعة ومعصية، وكفر وإيمان، فهذه الأعمال التي قدرها الله على الإِنسان، وعلم بوقوعها منه ليست حتمية عليه، ولا هو مجبور عليها، وإنما يفعلها بمحض إرادته واختياره، ولذلك كان مسؤولاً عنها، مثاباً على الخير، معاقباً على الشر. قال الخطابي: " قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون، وإنما معنى القدر الإِخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكتسابات العبد. اهـ. وقد أمر الله الخلق بالإِيمان والطاعة، ونهاهم عن الكفر والمعصية، وفي هذا حجة الله البالغة على عباده، لأنهم إنما كلفوا بالأمر والنهي، أما القضاء والقدر فإنما أمروا بالإِيمان به دون الاحتجاج به في ارتكاب المعاصي ". وقد سئل فضيلة الأستاذ الشعراوي (1): عن القدر الذي هو علم الله بالأشياء قبل وقوعها هل هو صفة جبر فأجاب: بأن العلم ليس صفة جبر، إنما هي صفة انكشاف فقط يكشف الأشياء على ما هي عليه، وضرب لذلك مثلاً بسيطاً فقال: أنت جئت تزورني وعندي خادم، فأرسلته ليحضر كازوزة من البقال فتأخر فقلت لك: هل تعرف لماذا أبطأ، هناك ولد آخر على ناصية الشارع مستولٍ على هذا الولد حينما يراه خارجاً لشراء حاجة يلعب معه، ويأخذ نقوده، والنقود ضاعت من الولد وهو خائف أن يأتي، فلما جاء الخادم سألناه ما الحكاية، فقال: كما قلت أنا، فهل ترى عندما قلت إنه سيحصل منه كذا وكذا أرسلت معه قوة لترغمه على فعل ما قلته لك. فكيف قلت أنا هذا الكلام؟ قلته: لأنني أعرف سوابقه، ومعرفتي لسوابقه للعلم فقط، كذلك ولله المثل الأعلى علم الله تعالى أزلاً ما يكون من عبده المختار، فقال: سيكون من عبدي كذا وكذا، فهو عز وجل كتب لا ليلزم، ولكنه كتب لأنه عالم بما يكون من العبد، والفرق   (1) " القضاء والقدر " لفضيلة الشيخ الشعراوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 898 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كانَ على كُلِّ بَابٍ من أبوَابِ الْمَسْجِدِ المَلَاِئكَةُ يَكْتُبُونَ الأوَّلَ فالأوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وجاءُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ".   بين الصورتين أن العلم في البشر قد يتخلف فيه شيء لكن الحق لا خطأ عنده في علمه، فالحق كتب قديماً، لأنه علم ما يكون من عبده باختياره، فهو لا يكتب ليلزم، لأن العلم صفة انكشاف وليس صفة تأثير كالقدرة. اهـ. رابعاً نفخ الروح في الجنين بعد استكمال تكوينه، وقد اختلفت الأحاديث هل نفخ الروح أولاً أو كتابة المقادير أولاً؟ فدلت رواية البيهقي على أن نفخ الروح أولاً، حيث جاء فيها ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات إلخ، ودلت رواية البخاري هذه على أن كتابة المقادير أولاً. خامساً: إثبات وجود الملائكة ووجوب الإيمان بهم. وهم مخلوقات لطيفة نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة. 898 - معنى الحديث: أن الملائكة يقفون يوم الجمعة على جميع أبواب المسجد، على كل باب طائفة لكتابة الوافدين إلى صلاة الجمعة، وتسجيل أسمائهم الأول فالأول، مع كتابة الوقت الذي حضروا فيه، ولا يزالون وقوفاً على الأبواب حتى يصعد الإِمام إلى المنبر، فإذا جلس الجلسة الأولى طووا تلك الصحف، وأوقفوا التسجيل، ودخلوا المسجد ليستمعوا إلى الخطبة. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة كما تقدم بيانه في الحديث السابق، وهم عالم غير منظور من عالم الغيب لا يظهرون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 899 - عَنْ أبِي هُريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ في سَبيل اللهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: أيْ فُلُ هَلُمَّ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: ذَاكَ الَّذِي لا تَوى عَلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " أرْجُو أن تَكُونَ مِنْهُمْ ".   إلا لمن اصطفاه الله للنبوة، أو لمن شاء من عباده، كما ظهر جبريل لمريم عليها السلام، وقد كلف الله الملائكة بمهام مختلفة، فمنهم السفراء بين الله ورسله كجبريل عليه السلام، ومنهم الحفظة، ومنهم كتبة الأعمال، كهؤلاء الملائكة الذين يكتبون الوافدين لصلاة الجمعة. ثانياً: أن الناس يتفاضلون في المثوبة يوم الجمعة بحسب تبكيرهم إلى الصلاة، فكلما بكّر العبد إلى صلاة الجمعة كان ثوابه أكثر، كما يدل عليه قوله: " يكتبون الأول فالأول " أي يكتبون في هذه الصحف درجات السابقين الأول فالأول، ويسجلون أوقات حضورهم. والمطابقة: في قوله: " كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة ". 899 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من أنفق زوجين في سبيل الله " أي من تصدق بشيئين من صنف واحد درهمين أو دينارين أو ثوبين ابتغاء مرضاة الله سواء كان ذلك صدقة على فقير، أو معونة لمحتاج، أو علاجاً لمريض، أو تجهيزاً لمجاهد في سبيل الله، أو معونة لأهله " دعته خزنة الجنة: أي فُلُ " أي نادته خزنة الجنة من الملائكة " يا فلان " باسمه الذي يعرف به في الدنيا " هلم " أي تعال إلى الجنة ونعيمها، فإنها مفتحة الأبواب لك، " فقال أبو بكر: ذاك الذي لا ثوى عليه " أي ذلك الذي تفتح له أبواب الجنة وتستقبله ملائكتها هو السعيد حقاً الذي نجا من الهلاك وأمن من الخسران. " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرجو أن تكون منهم " ورجاؤه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 900 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: " يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرأ عَلَيْكِ السَّلَامَ، فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لا أرَى، تُرِيدُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ".   - صلى الله عليه وسلم - محقق إن شاء الله. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة، ومنهم خزنة الجنة هؤلاء، وعلى رأسهم رضوان. كما أن منهم خزنة جهنم وعلى رأسهم " مالك ". ثانياً: فضل الإِنفاق في سبيل الله، وبذل المال في وجوه البر، وأنه سبب في دخول الجنة واستقبال الملائكة على أبواب الجنة (1). الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " دعته خزنة الجنة ". 900 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام " وفي رواية " يقرئك السلام " أي يهديك السلام، ويحييك بتحية الإِسلام " فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته " فردّت التحية بأحسن منها، ثم قالت " ترى ما لا أرى، تريد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي إنك يا رسول الله ترى جبريل الذي لا أراه فهنيئاً لك بالوحي والنبوة، ورؤية الملائكة الكرام البررة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات وجود الملائكة وأنهم أصناف متعددة مكلفون بأعمال مختلفة فمنهم خزنة الجنة، ومنهم خزنة النار، ومنهم الحفظة، ومنهم جبريل الأمين سفير الله إلى أنبيائه. ثانياً: فضل عائشة رضي الله عنها ومكانتها، وعلو منزلتها حتى إن جبريل أمين الله على   (1) أي أن الملائكة تستقبل هؤلاء المنفقين على أبواب الجنة كما يستقبل الملوك بالحفاوة والترحيب قائلين لهم: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 901 - عَن سَعِيدٍ بن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِجِبْرِيلَ: " أَلا تَزُورُنا أكثرَ مِمَّا تَزُورُنَا؟ " قَالَ: فَنَزَلَتْ (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا) الآية.   وحيه وسفيره إلى أنبيائه يهديها السلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والمطابقة: في قوله: " هذا جبريل يقرأ عليك السلام ". 901 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا " قال العيني: كلمة ألا هنا للعرض والحض ويجوز أن تكون للتمني. قلت: ويحتمل أن تكون لجميع المعاني والمعنى أننا نعرض عليك الإكثار من زيارتنا ونحضك عليها ونتمنى لو أجبتنا إلى ذلك، لنستأنس بك، " فنزلت " الآية الكريمة " (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) " فإذا أمرنا بالنزول نزلنا " (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) " أي وما كان الله لينسى رسوله وحبيبه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وإن تأخر عنه الوحي، فإن للوحي أوقات محددة، يرسله إن شاء، ويوقفه إن شاء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة، وعلى رأسهم جبريل ملك الوحي. ثانياً: أن للوحي أوقات محددة ولا ينزل إلّا بأمر الله تعالى. ثالثاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينقطع عنه الوحي أحياناً فيشتاق إلى جبريل، فإذا حضر إليه عرض عليه أن يكثر من زيارته، فيعتذر له جبريل بأنه عبد مأمور لا ينزل إلاّ بأمر إلهي. والمطابقة: في قوله: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل " الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 902 - عَنْ أبِي ذَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَ لِي جِبْرِيلُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ، أوْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ، قَالَ: وإنْ زَنَى وِإنْ سَرَقَ قَالَ: وإنْ ". 903 - عن أبي طَلحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتَاً فيهِ كَلْبٌ ولا صُورَة تَمَاثِيلَ ".   902 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قال لي جبريل من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً " أي من مات مؤمناً موحداً لله تعالى " دخل الجنة، أو لم يدخل النار " أي كان مصيره إلى الجنة، ولا يخلد في النار " قال: وإن زنى وإن سرق " قال: وإن " أي قال جبريل: وإن زنى وإن سرق، وهو من باب حذف فعل الشرط والاكتفاء بأداة الشرط عنه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المؤمن الموحد مصيره إلى الجنة، فإن ارتكب كبيرة فعوقب عليها في الدنيا فهو كفارة له، وإن لم يعاقب عليها في الدنيا فهو إلى الله إن شاء عاقبه وأدخله الجنة، وإن شاء عفا عنه، ولا يخلد في النار خلافاً للخوارج. ثانياً: وجود الملائكة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قال لي جبريل ". 903 - معنى الحديث: أن الملائكة وهم مخلوقات طاهرة شريفة، وعباد مكرمون أصفياء، سخرهم الله لخدمة البشر، فهم يدخلون البيوت لخدمة من فيها من الناس والعناية بهم، ولكنهم يمتنعون عن دخول بيت فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 904 - وعنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إِلى فِرَاشِهِ فَأبَتْ فبَاتَ غَضْبَان عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حتى تُصْبِحَ ".   كلب غير مأذون فيه شرعاً، أو صورةٌ لِإنسان أو حيوان - لأنها محرمة، والملائكة تكره المحرمات (1). الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تدخل الملائكة بيتاً " إلخ. ثانياًً: تحريم الصور الحيوانية، وتحريم اقتناء الكلاب عدا المأذون فيها شرعاً، مثل كلاب الصيد والماشية والحرث، لأن الملائكة إنما تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة أو كلب لأن الصورة محرمة، والكلب نجس قذر (2) محرّم شرعاً إلا لحاجة مشروعة. والمطابقة: في قوله: " لا تدخل الملائكة بيتاً ". 904 - معنى الحديث: أن المرأة إذا دعاها زوجها للمباشرة وتمنعت عليه، وبات ساخطاً عليها " لعنتها الملائكة حتى تصبح " أي تدعو عليها بالطرد من رحمة الله حتى الصباح، لأنها عصت زوجها ومنعته حقه الشرعي، وفي بعض روايات البخاري " لعنتها الملائكة حتى ترجع ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الملائكة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لعنتها الملائكة حتى تصبح ". ثانياًً: أنه يحرم عصيان المرأة لزوجها، سيما فيما يتعلق بالفراش والمعاشرة الزوجية، وكونه كبيرة، وإلّا لما ترتب   (1) قال في " هداية الباري ": في إطلاق الملائكة شمول للحفظة واستظهره فريق، وقصره غير واحد على غيرهم. (2) قال في " هداية الباري ": والمعنى المانع ما يتعلق بالأوّل من النجاسة، والصورة معصية فاحشة لما فيها من مضاهاة خلق العلي الكبير المتفرد بالايجاد والتصويت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 791 - " بَابُ ما جَاءَ في صِفَةِ الْجَنَّةِ وأنهَا مَخلُوقَة " 905 - عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ على صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، والَّذِينَ عَلَى إثْرِهِمْ كأشَدِّ كَوْكَبٍ إضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ على قَلْبِ رَجُل وَاحَدٍ، لا اخْتِلافَ بَيْنَهُمْ، ولا تَبَاغضَ، لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهم   عليه هذا الوعيد الشديد، وهو لعن الملائكة. ثالثاً: قال الصنعاني: في الحديث إخبار بأنه يجب على المرأة إجابة زوجها إذا دعاها للجماع، لأن قوله " إلى فراشه " كناية عن الجماع، ودليل الوجوب لعن الملائكة لها، على امتناعها، إذ لا يلعنون إلاّ عن أمر الله، ولا يكون إلاّ عقوبة، ولا عقوبة إلّا على ترك واجب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لعنتها الملائكة ". 791 - " باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة " 905 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصف لنا أهل الجنة جميعاً بالحسن والجمال، وأنهم يتفاوتون في ذلك حسب درجاتهم وأعمالهم، فأول طائفة تدخل الجنة كالقمر ليلة الرابعٍ عشر حين تكمل استدارته، ويتم نوره، فيكون أكثر إشراقاً، وأعظم حسناً وبهاءً، وفي رواية " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " أما الطائفة الثانية فإنها تشبه في صورتها أقوى الكواكب نوراً وضياءً. أما صفاتهم النفسية والخلقية فهم كما وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " على قلب رجل واحد " أي في غاية الاجتماع والاتفاق، حتى كأن قلوبهم جميعاً قلب واحد، كما في الرواية الأخرى حيث قال في وصفهم: " قلوبهم قلب رجل واحد " وهو من التشبيه الذي حذفت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 زَوْجَتَانِ، كلّ وَاحِدَةٍ مِنْهمَا يرَى مخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ من الْحسْنِ، تسَبِّحُونَ اللهَ بكْرَةً وَعشِيَّاً، لا يَسْقَمونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ، ولا يَبْصقُونَ، آنيتُهُمْ الذَّهَب والفِضَّةُ، وأمْشَاطهُمُ الذَّهَبُ، وَقودُ مَجَامِرِهِمْ الألوّة، ورَشْحهُم الْمِسْك".   أداته، أي كقلب رجل واحد، كما أفاده الحافظ. " لا اختلاف بينهم ولا تباغض " أي إن نفوسهم صافية نقية خالية من العداوة والبغضاء، عامرة بالحب والمودة. " لكل امرىء منهم زوجتان " أي لكل واحد منهم زوجتان من نساء الدنيا بالإِضافة إلى عشرات الحور من نساء الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصف أدنى أهل الجنة منزلة: " وإن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا " أخرجه أحمد في "مسنده " (1). أما صفة هؤلاء النساء فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في وصفهن: " كل واحدة منهما " أي من الزوجتين المذكورتين من نساء الدنيا " يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن " فهي لصفاء جسدها ورقة بشرتها جسم شفاف يكشف عما بداخله، فيرى الناظر إليها مخ ساقها من وراء لحمها، كما يرى الماء الصافي داخل الكأس الزجاجي. " يسبحون الله بكرة وعشياً " أي في أول النهار وآخره، والمراد أنهم يسبحون في وقتهما، وإلّا فلا بكرة ثمة ولا عشية. أمّا هذا التسبيح فإنه ليس عن تكليف، وإنما يلهمون به كما يلهمون النفس. " لا يسقمون " أي لا يمرضون فيها " ولا يمتخطون ولا يبصقون " لأن الله طهر أهل الجنة من هذه الأقذار " آنيتهم الذهب والفضة " أي بعض أوانيهم فضية، وبعضها ذهبية كما أفاده القاري. " وأمشاطهم الذهب " أي من الذهب الخالص " وقود مجامرهم الألوّة " بفتح الهمزة وضمها وبضم اللام   (1) وفي سنده شهر بن حوشب، وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 906 - عَن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ في الْجَنَّةِ لَشَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا ".   وتشديد الواو كما أفاده القسطلاني " يعني " أن بخورهم الذي تتقد به مجامرهم هو العود الهندي الذي هو من أطيب الطيب وأزكى البخور. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الجنة التي خلقها الله تعالى لتكون دار النعيم لأوليائه. ثانياًً: جمال أهل الجنة، وحسن وجوههم، حيث وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر " ثم وصفهم بالطهارة والنقاء من جميع العيوب والنقائص الجسمية والنفسية. أما سلامتهم من الأقذار الجسمية، فإنهم كما في الحديث " لا يمتخطون ولا يبصقون، ولا يتغوطون " فالطعام يرشح عرقاً من أجسامهم تفوح منه رائحة ذكية كرائحة المسك، كما جاء في حديث زيد بن أرقم حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كرشح المسك " أخرجه النسائي. أما سلامتهم نفسياً واجتماعياً فإن مجتمع أهل الجنة يقوم على الود الخالص، فلا عداوة بينهم ولا بغضاء، كما في حديث الباب. ثالثاً: أن أهل الجنة يتنعمون بكل مظاهر النعيم والترف، فيأكلون في آنية الذهب والفضة، ويمتشطون بالأمشاط الذهبية، ويتطيبون بالعود الفاخر، وينعمون بأجمل النساء وأعظمهم صفاءً ورقة وشفافية. يسبحون الله ويحمدونه، كما في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً " أنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: " أول زمرة تدخل الجنة ". 906 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن في الجنة لشجرة " أي إن فيها شجرة كبيرة مترامية الأطراف " يسير الراكب " المسرع في سيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 957 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ: " إِنَّ لَهُ مُرْضِعَاً في الْجَنَّةِ ".   " في ظلها مائة عام لا يقطعها " أي يسير تحتها الراكب المجد مائة سنة فلا ينتهي منها، وفي الحديث عن عتبة السلمي مرفوعاً " شجرة طوبى تشبه الجوزة، لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تتكسر ترقوتها هرماً " أخرجه ابن حبان في صحيحه. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على عظمة الجنة، وضخامة أشجارها، حتى إن بعض أشجارها تمتد أغصانها وفروعها إلى مسافات بعيدة تزيد عن مسيرة مائة عام. ثانياً: أن أهل الجنة يتفيئون أشجارها تنعماً وتلذذاً، لا من أجل أن يستظلوا بها من حرارة الشمس، فإن الجنة لا حر فيها ولا برد، وذلك هو مصداق قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) فالجنة كلها ظل لا شمس معه، ونور لا حرَّ فيه، كأنما هم يعيشون دائماً في وقت الإِسفار الذي يسبق طلوع الشمس (1). والمطابقة: في قوله: " إن الجنة لشجرة ". 907 - معنى الحديث: يحدثنا البراء رضي الله عنه " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما مات ابراهيم " أي قال - صلى الله عليه وسلم - يوم وفاة إبراهيم ابن رسول الله من مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان، وتوفي يوم الثلاثاء، لعشر خلون   (1) روى ابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الظل الممدود، وشجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام من كل نواحيها، فيخرج أهل الجنة يتحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم اللهو، فيرسل الله ريحاً، فيحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 908 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ أهلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ في الأفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أوِ الْمَغْرِبِ،   من ربيع الأول سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهراً (1) " إن له مرضعاً " بضم الميم وكسر الضاد " في الجنة " أي إن الله قد أعد له في الجنة من يقوم بإرضاعه حتى يتم رضاعته، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين - تكملان إرضاعه في الجنة " أخرجه مسلم (2). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل إبراهيم عليه السلام، وأنه يحيى في الجنة حياة برزخية كالصديقين والشهداء، ويرزق كما يرزقون، ويتمثل رزقه في ذلك اللبن الذي يرضعه من مرضعته في الجنة، ثانياً: قال النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة، وتوقف فيه بعضهم لحديث عائشة أخرجه مسلم بلفظ " توفي صبي من الأنصار فقلت: طوبى له - " أي له الجنة " لم يعمل سوءاً، ولم يدركه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أو غير ذلك يا عائشة. إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً " الحديث، وأجيب عنه بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على وجود الجنة، وبعض ما فيها. 908 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق " أي أنهم يشاهدون عن بعد أهل المنازل العالية في الجنة كما كانوا يشاهدون في الدنيا   (1) الواقدي. (2) " شرح العيني " ج 8. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: " بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ ". 792 - "بابُ صِفَةِ أْبوَابِ الْجَنَّةِ " 909 - عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " في الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبوَاب، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إلَّا الصَّائِمُون ".   الكوكب البعيد في أفق السماء، " لتفاضل ما بينهم " أي لأن أهل الجنة يتفاضلون في مساكنهم ومنازلهم ودرجاتهم " قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم " الظاهر أنه سؤال واستفهام، والمعنى، هل تلك المنازل العالية هي منازل الأنبياء التي لا يصل إليها سواهم، " قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين "، أي أنها ليست خاصة بالأنبياء، ولكنها للصديقين من هذه الأمة المحمدية. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن أهل الجنة يتفاضلون في منازلهم ودرجاتهم ومساكنهم، وأن منهم من يبعد عن غيره بعد الكوكب الغابر في الأفق عن أهل الأرض. والمطابقة: في قوله: " إن أهل الجنة " (1). 792 - " باب صفة أبواب الجنة " 909 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن في الجنة ثمانية أبواب " كما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 8. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 793 - " بَابُ صِفَةِ النَّارِ وأنهَا مَخلُوقَة " 915 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ".   وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) لأن الواو إنما تأتي بعد (سبعة) " فيها باب يسمّى الريان " بفتح الراء، وهو ضد العطشان، سمى بذلك لما في رواية الترمذي " من دخله لم يظمأ أبداً ". " لا يدخله إلاّ الصائمون " خاصة دون غيرهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن عدد أبواب الجنة ثمانية، وفيه تفسير وبيان لقوله تعالى: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) ثانياًً: أن الله خص الصائمين بباب يسمى الريان لا يظمؤون بعد دخولهم منه، لأنهم ظمئوا في الدنيا فأدخلهم الله منه تبشيراً لهم بانقطاع ظمئهم نهائياً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ثمانية أبواب ". 793 - " باب صفة النار وأنها مخلوقة " 910 - معنى الحديث: كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحمى طاقة حرارية منشأها من نار جهنم. فاللهب الحاصل في جسم المحموم -كما قال الزرقاني- قطعة من نار جهنم، قدر الله ظهورها ليعتبر العباد بذلك، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الحمى من فيح جهنم " كما قال الطيبي: إما أن تكون (من) ابتدائية، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية أي بعض منها، " فابردوها بالماء " بهزة وصل وضم الراء على المشهور (1)، وحكي كسر الراء (2)، أي خففوا من حرارتها باستعمال الماء البارد شرباً وغسلاً للأطراف. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة.   (1) الصحيح، وهو الفصيح. (ع). (2) مع همزة قطع في أولها، وهي لغة رديئة. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 911 - عَنْ أبِي هرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نَاركُمْ جزْء من سَبْعِينَ جزْءَاً منْ نَارِ جَهَنَّمَ " قِيلَ: يَا رَسولَ اللهِ إنْ كَانَتْ لكَافِيَةً، قَالَ: " فضِّلَتْ عليهَا بِتِسْعَةٍ وسِتِّينَ جزْءاً كُلُّهنَّ مِثْلُ حَرِّهَا ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن معظم الحميات نارية ناشئة عن حرارة جهنم، مباشرة، أو عن حرارة الصيف التي هي نَفَس من أنفاسها. فالحمى نفس من أنفاس جهنم، يصيب المحموم، فتصيبه تلك الحرارة الشديدة التي تشتعل في قلبه وتنتشر في دمه وعروقه وسائر أعضاء بدنه. ثانياً: تخفيف الحمى بالماء البارد، وذلك بشربه وغسل الأطراف به (1) قال ابن القيم: خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ومن والاهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية الحادثة من شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً، وذكر أن أصحاب هذه الحمى ينفعهم الماء كثيراً، وقد يغنيهم عن العلاجات الأخرى. ثالثاً: في الحديث وصف لنار جهنم وشدة حرارتها، وكونها مخلوقة الآن لأنّها لو لم تكن موجودة الآن كيف تكون الحمّى نفس من أنفاسها. والمطابقة: في قوله: " الحمى من فيح جهنم " حيث دل على أن جهنم موجودة الآن خلافاً للمعتزلة. 911 - معنى الحديث: أن نسبة الطاقة الحرارية الموجودة في نار الدنيا كنسبة جزء إلى سبعين جزءاً من حرارة نار جهنم في الدار الآخرة، قال الحافظ: والمراد المبالغة في الكثرة لا العدد الخاص، فلما سمع ذلك بعض الصحابة قال: إن نار الدنيا كافية في الإحراق، مجزئة في الإِيلام، فهي محرقة   (1) وقد نصح الطب الحديث المحموم بالحمام البارد لتخفيض الحرارة، أو بكمادات بالماء البارد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 للجماد، فضلاً عن الأجسام البشرية. " قال - صلى الله عليه وسلم -: إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً " أي أن نار الآخرة تزيد قوة حرارتها عن حرارة نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، " كلهن مثل حرها " أي كل جزء منها يعادل حرارة نار الدنيا كلها، ولهذا قال ابن عباس: لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها الآدميون لكانت جزءاً من أجزاء نار جهنم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نار جهنم تزيد طاقتها الحرارية على نار الدنيا بتسعة وستين ضعفاً، وأن نسبة الحرارة الموجودة في نار الدنيا كنسبة واحد إلى سبعين من نار الآخرة. ثانياًً: أن نار الدنيا مخلوقة من نار الآخرة، إلا أنها خُفِّفت عنها مرات كثيرة جداً، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سئل عن نار (1) الدنيا. قال: من نار الآخرة، غير أنها أُطفأت بالماء سبعين مرة، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد. أخرجه ابن عيينة. ثالثاً: أن النار مخلوقة الآن قال الزرقاني (2): النار والجنة مخلوقتان الآن كما دلت عليه أحاديث كثيرة أصرحها قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلاّ دخلها ثم حفها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: يا رب، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، فلما خلق الله النار قال: يا جبريل إذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها فقال: أي رب في عزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلاّ دخلها " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وصححه الحاكم عن أبي هريرة. والمطابقة:   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 15. (2) " شرح الزرقاني على الموطأ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 794 - " بَابُ صِفَةِ إبْلِيس وَجُنُودِهِ " 912 - عَنْ أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَأتِي الشيطَانُ أحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَق كذَا؟ من خلَقَ كَذَا؟ حتى يَقُولَ: من خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ ".   في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ". الحديث: أخرجه الشيخان ومالك في " الموطأ ". 794 - " باب صفة إبليس وجنوده " وصفه ابن عباس رضي الله عنهما في حديث له: بقبح الصورة، وبشاعة المنظر فقال عنه: " جسده جسد خنزير، ووجهه وجه قرد، وعيناه مشقوقتان طولاً، وأسنانه كلها عظم واحد .. إلى آخره 912 - معنى الحديث: أن الشيطان، وهو أعدى أعداء البشر على الإِطلاق لا همَّ ولا شغل له أبداً إلاّ العمل الدائب على إغواء الإِنسان وإضلاله حتى يهلك ويشقى، فيوسوس له شتى الوساوس، ويأتيه من كل جانب، وأهمها أن يأتيه من جهة العقيدة لأنها أساس دينه وإيمانه، وعليها تتوقف نجاته وسعادته في الدار الآخرة فيبعث في نفسه الشكوك حولها، ويثير فيه التساؤلات العديدة عن حدوث الأشياء، ومن أحدثها " فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ " يعني من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق الجبال؟ من خلق الإِنسان؟ فيجيبه نفسياً وعقلياً بقوله: " الله "، وجوابه هذا صحيح وحق وواقع وتوحيد وإيمان، ولكن الشيطان لا يقف عند هذا الحد من الأسئلة، بل يتجاوزها إلى أسئلة ضالّة مضّلة فينتقل من سؤال إلى سؤال " حتى يقول: من خلق ربك " وهنا تبدأ المحاولة الشيطانية لتشكيك الإِنسان في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 توحيده وإيمانه بصفات الله عزّ وجلّ، لأن الله تعالى لا خالق له، فهو الأول بلا ابتداء، والسابق لكل موجود، لم يسبقه عدم، حتى يكون مخلوقاً لغيره، تعالى الله علواً كبيراً " فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته " أي فإذا وصل معه الشيطان إلى هذا الحد من الأسئلة فليستعذ بالله منه، وليكف عن الاستجابة له، قال الحافظ: أي ولينته عن الاسترسال معه في ذلك، ويعلم أنه يريد إفساد دينه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير عن الاستجابة للوساوس الشيطانية، سيما ما يتعلق بعقيدة الإِنسان المتعلقة بالله وصفاته ووحدانيته، فإن هذا النوع من الوسوسة أخطر ما يكون عليه، لأن الشيطان عندما يسأله: " من خلق ربك " إنما يريد بذلك أن يوحي إليه نفسياً بأن الله مخلوق كسائر الكائنات، فإذا استجاب لذلك، والعياذ بالله، كفر بالله، وإذا تنبه لذلك واستعاذ بالله سلم من الشرك بالله، وهذا هو اليقين وصريح الإِيمان. ثانياًً: أن هذه الوساوس الشيطانية كثيرة، فمنها ما يتعلق بصفات الباري جل جلاله، أو صفات رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما يتعلق بالقرآن، ومنها ما يتعلق بالغيبيات كالبعث وعذاب القبر، والجنة والنار، والملائكة إلى غير ذلك من عقائد الإِيمان فيجب الاستعاذة منه عند محاولته التشكيك في هذه العقائد، قال الخطابي: إن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص منه، وكف عن مطاولته اندفع، وإن الاسترسال معه ولو بقرع الحجة بالحجة غير مأمون، لأن الشيطان ليس لوسوسته انتهاء. ثالثاً: إثبات وجود الشياطين، وبقاؤهم إلى يوم القيامة، وهم كثيرون وإبليس هو أبوهم وأصلهم الأول. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي الشيطان أحدكم ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 913 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا استَجْنَحَ (1) اللَّيْلُ -أو كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ- فَكُفُّوا صبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَيّاَطِينَ تَنْتَشِر حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ من الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ، وأغلق بَابَكَ، واذكُرْ اسْمَ اللهِ، وَأطْفِىءْ مِصْبَاحَكَ، واذكُرِ اسْمَ اللهِ، وَأوْكِ سقَاءَكَ، وَاذكُرِ اسْمَ اللهِ، وخَمِّرْ إِنَاءَكَ، واذْكُرِ اسْمَ اللهِ، وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئَاً ".   913 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أمر إرشاد وتوجيه أن نمنع أطفالنا عن الخروج من البيوت عند أول غروب الشمس وإقبال ظلمة الليل، لأن الشياطين والأرواح الخبيثة المؤذية تنتشر في أوّل الليل محاولة الشر والإِفساد والإِضرار بالناس، لا سيما الأطفال لضعفهم، فإذا مضت ساعة بعد الغروب سمح لهم بالخروج. ثم هو - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أيضاً بإغلاق بيوتنا، وقفل أبوابها، لا سيما بالليل، لمنع اللصوص والمعتدين من دخولها، وإطفاء مصابيحنا عند النوم احتياطاً وحذراً من الحريق. ووضع جميع المشروبات التي نتناولها في أوان مغلقة محكمة خوفاً من أن يتسرب إليها بعض الحشرات والميكروبات، وتغطية الأطعمة حتى لا تتلوّث بسقوط الأقذار والجراثيم فيها. وأن نذكر اسم الله تعالى عند كل عمل من أعمالنا هذه أو غيرها نستعيذ به ونعتمد عليه في حمايتنا (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود الشياطين، وكونها مخلوقات شريرة مؤذية للإِنسان وأطفاله. ثانياًً: أنه ينبغي حفظ الأطفال في المنازل، ومنعهم من الخروج منها بعد غروب الشمس مباشرة لمدة ساعة، لأن الشياطين تنتشر في ذلك الوقت فتؤذيهم جسمياً ونفسياً لضعفهم وسرعة   (1) استنجح الليل أي أقبل ظلامه بعد مغيب الشمس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 914 - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجُلانِ يَسْتَبَّانِ، فأحَدُهُمَا احْمَرَّ وجْهُهُ، وانتفَخَتْ أوْداجُهُ، فَقَالَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالهَا   تأثرهم. ثالثاً: يرشدنا - صلى الله عليه وسلم - إلى اتخاذ كل الوسائل المادية لحفظ النفس والمال والصحة، فمن ذلك إغلاق الأبواب وإطفاء المصابيح وتغطية الإِناء، وربط السقاء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "وأوك سقاءك، واذكر اسم الله " صيانة للماء من التلوث في أي وعاء كان، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " وخمر إناءك " فأمر بتغطية وعاء الطعام لحفظه من الحشرات والميكروبات. رابعاً: مشروعية الجمع بين اتخاذ الأسباب والتحصن بذكر الله تعالى وأسمائه، والتوكل عليه، حيث قال: " وأغلق بابك، واذكر اسم الله " أي اجمع بين الوقاية المادية والوقاية الروحية لتشملك العناية الإلهية. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر " أخرج هذا الحديث: الشيخان وأبو داود والنسائي. 914 - راوي الحديث: هو سليمان بن صرد - بضم الصاد وفتح الراء ابن الجون بن الجون بن أبي الجون بن منقذ الخزاعي، كان من خيار الصحابة، شهد وقعة صفين مع علي رضي الله عنه، وعمل كاتباً للحسن بن علي رضي الله عنهما، وقتل سنة خمس وستين من الهجرة، وعمره ثلاث وسبعون سنة رضي الله عنه وأرضاه. معنى الحديث: أن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تخاصما وتشاتما وسب كل منهما الآخر واشتد بأحدهما الغضب، وظهرت آثاره عليه، فاحمر وجهه من شدة فوران الدم وغليانه، وانتفخت عروق عنقه، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وقع له من شدة الغضب فقال لأصحابه: لو قال كلمة واحدة لاستراح وهدأت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 ذَهَبَ عنه ما يَجِدُ، لو قَالَ: أعُوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَعَوَّذْ باللهِ مِنَ الشيطَانِ، فَقَالَ: وَهَلْ بِي جُنُونٌ!   نفسه وهي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن الغضب نزعة شيطانية (1) تخرج الإِنسان عن حالته العادية، ويأتي ببعض الأعمال الجنونية، كتقطيع ثوبه، وكسر آنيته، وشتم من أغضبه. أو ضربه أو قتله فإذا استعاذ العبد بالله واعتصم به، حماه من الشيطان، ومنعه من التسلط عليه " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان " " فقالوا له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تعوذ بالله من الشيطان، فقال: وهل بي جنون " قال النووي: هذا كلام من لم يفقه في دين الله، ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجانين، ولم يعلم أن الغضب من نزعات الشيطان، والاستعاذة تذهب الغضب وهي أقوى سلاح على دفع كيده. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أقوى علاج لتسكين الغضب والقضاء عليه الاستعاذة بالله من الشيطان بنية صادقة، وعزيمة قوية، ويقين وإخلاص، لأن الغضب نزعة شيطانية شريرة، والاستعاذة أقوى سلاح لمحاربة الشيطان فإذا لٍم يستعمل هذا السلاح سخّره في كل ما يغضب الله من أعمال إجرامية إشباعا لغريزة التشفي والانتقام، ولهذا جاء في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: لا تغضب ولك الجنة، رواه الطبراني في الكبير والأوسط لأنه يولّد الحقد (2) والحسد، وإضمار السوء، وهجر المسلم   (1) أي نزعة شيطانية تدفع صاجها إِلى الانتقام، وارتكاب الأفعال الاجرامية. (2) شرح الزرقاني على " الموطأ " ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 795 - " بَاب إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرابِ أحَدِكُمْ فَلْيَغمِسْهُ، فَإِنَّ في إحْدى جَنَاحَيْهِ دَاءً وفي الأخرَى شِفَاءً " 915 - عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرَابِ أحدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثمَّ لِيَنْزِعْه، فَإِنَّ في إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً، وفي الأخرى شِفَاءً ".   لأخيه المسلم، ومنع الحقوق، وتظهر آثار الغضب على سلوك الإِنسان وتصرفاته الشخصية من ضرب وقتل ونحوه، فإن فاته ذلك، رجع إلى نفسه فمزّق ثيابه، ولطم خده، وربما سقط صريعاً، وربما أغمي عليه. وقد حكي أن بعض الملوك كتب في صحيفة: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ثم دفعها إلى وزيره وقال له: إذا غضبت فادفعها إليّ، فجعل الوزير كلما غضب الملك دفعها إليه، فنظر فيها فيسكن غضبه (1). ثانياً: وجود الشيطان وتسلطه على الإِنسان بإثارة غرائزه، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو قال أعوذ بالله من الشيطان ". 795 - " باب إذا وقع الذباب (2) في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء " 915 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه " أي يأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث - إذا وقعت الذبابة في مائع من المائعات أن ندخلها كلها في الإِناء، ثم نخرجها منه "فإن   (1) شرح الزرقاني على " الموطأ " ج 4. (2) قال العسكرى: الذباب واحد والجمع ذبان والعامة تقول ذبابة، وهو خطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 في إحدى جناحيه داء" أي لأن إحدى الجناحين يحمل جرثومة المرض، والثاني يحمل الدواء الذي يقضي عليها وهو معنى قوله: " وفي الأخرى شفاء " ومن طبيعة الذبابة أنها إذا سقطت في مائع وقعت على الجناح الذي يكمن فيه الداء، وأفرزته فيه، فإذا غمس الجناح الآخر خرج منه الدواء الذي يقضي على ذلك الداء، لأن الذباب كما في حديث ابن حبان: " يقدم السم ويؤخر الشفاء ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أمرين، أمر فقهي وهو أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع لا ينجسه (1)، وهو قول الجمهور، ثم عدّى هذا الحكم إلى كل ما لا دم له كالنحلة والزنبور، وأمر طبي وهو غمس الذباب كله، وإدخاله في الإناء ليخرج الشفاء الموجود في جناحه الآخر، فيقضي ذلك الترياق الشافي على ذلك السم الذي وقع في الإناء، قال في " هداية الباري " (2) وهذا طب لا يهتدي إليه الأطباء وأئمتهم، فالطيب العالم الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية. والمطابقة: في كون الترجمة هي لفظ الحديث نفسه. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود وابن ماجة في الطب. ...   (1) " الطب النبوي " لابن القيم. (2) " هداية الباري في ترتيب أحاديث البخاري " ج 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ أحَادِيث الأنبِيَاءِ " 796 - " بَابُ خلْقِ آدَمَ - صلى الله عليه وسلم - وذرِّيَّتهِ " 916 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَطُولُهُ ستُّونَ ذِرَاعاً، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولئِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيتكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ على صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ ".   كتاب أحاديث الأنبياء (1) 796 - " باب خلق آدم " 916 - معنى الحديث: أن الله تعالى خلق الإِنسان الأوّل وهو آدم أبو البشر طويل القامة، بحيث يبلغ طوله ستين ذراعاً، وكان خلقه يوم الجمعة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة. وبعد أن تم خلقه وتكوينه، ونفخ فيه الروح، ودبت فيه الحياة، وأصبح بشراً سوياً، أمره الله أن يذهب إلى الملائكة فيحييهم بالسلام، ويستمع إلى إجابتهم عليه، فتكون تلك التحية المتبادلة بينه وبينهم هي التحية المشروعة له ولذريته من بعده، وهو معنى قوله: " فاستمع ما يحيونك تحيتك وتحية ذريتك " أي فإنها تحيتك وتحية المؤمنين من ذريتك، "فقال السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه   (1) وعدد الأنبياء 12400 والرسل 313 رسولاً كما في حديث أبي ذر أخرجه ابن حبان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 917 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمَاً، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ من دَمِهَا، لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".   ورحمة الله" فأصبح ذلك هو الصيغة المشروعة في الرد على السلام. " فكل من يدخل الجنة على صورة آدم " أي على صورته في الحسن والجمال وطول القامة .. " فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن " فلم تزل تقصر قامة بني آدم حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان خلق آدم عليه السلام، وطول قامته، وأنها كانت ستين ذراعاً، وأن المؤمنين حين يدخلون الجنة يكونون على صورة أبيهم آدم وطول قامته. ثانياً: أن الأجيال السابقة كانوا طوال القامة، وأن قامتهم أخذت تقصر شيئاً فشيئاً، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. قال في " هداية الباري ": ولا يشكل عليه ما يوجد الآن من آثار الأمم الخالية كديار ثمود في الجبال، فإنها تدل على عدم إفراط طولهم لأن تلك البيوت الجبلية اتخذوها مأمناً مما يحيق بهم، لا مساكن للتمتع حتى يشيدوها، ويرفعوا سقوفها كما يرشد إليه قوله تعالى: (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ). المطابقة: في قوله: " خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً " الحديث: أخرجه الشيخان. 917 - معنى الحديث: أنه لا ترتكب جريمة قتل في هذه الأرض فتقتل نفس بشرية بغير حق إلاّ كان على القاتل الأول وهو قابيل بن آدم وولده البكر نصيب من وزرها، لأنه أوّل من سن القتل، وتجرأ عليه ظلماً وعدواناً، كما قال الله تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي فطاوعته نفسه أن يقتل أخاه " هابيل " فخسر الدنيا والآخرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 797 - " بَابُ قِصَّةِ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ " 918 - عَنْ زَيْنَبَ بنْتِ جَحْش رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعَاً يَقُولُ: " لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَيْل لِلْعَربِ مِنْ شَر قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ ومَأجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ -وَحَلَّقَ بأُصْبُعِهِ الإبهَامَ والتي تَلِيهَا- قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: أنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: " نَعَمْ إذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ".   وكان عليه دم أخيه، ونصيب من دم كل نفس تقتل إلى يوم القيامة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن قابيل هو أوّل أولاد آدم عليه السلام، وأول ذريته وهو ما ترجم له البخاري كما يدل عليه قولى - صلى الله عليه وسلم -: " إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ". ثانياًً: أن أوّل جريمة قتل وقعت على هذه الأرض هي جريمة قابيل حين قتل أخاه هابيل، فكان أوّل من سن القتل، ولهذا ما من جريمة قتل تحدث إلاّ وعليه كفل من دمها، والمطابقة: في قوله: " إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. 797 - " باب قصة يأجوج ومأجوج " وهما جنسان متوحشان من البشر يتكونان من قبائل كثيرة تبلغ اثنتين وعشرين قبيلة كما أفاده محيي السنة، 918 - معنى الحديث: تحدثنا زينت بنت جحش رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعاً يقول: لا إله إلاّ الله " أي دخل عليها خائفاً مضطرباً، يلهج لسانه بكلمة التوحيد -كما هي عادته- صلى الله عليه وسلم - عند الخوف من شيء ما، إيذاناً بتوقع أمر مكروه يحدث في هذا العالم لا نجاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 منه إلا بالالتجاء إلى الله، والاستجارة بسلطانه. " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإِبهام والتي تليها " أي فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج الذي بناه ذو القرنين ليكون مانعاً لهما من غزو الشعوب المجاورة ثغرة صغيرة مثل الحلقة التي تُرى عند إيصال طرف السبابة بأصل الإِبهام، قال القسطلاني: والمراد بالتمثيل التقريب لا حقيقة التحديد، قالت زينب: " فقلت: أنهلك وفينا الصالحون " أي كيف يسلّط الله علينا هذه الشعوب المتوحشة فتهلكنا وتقضى علينا وفينا المؤمنون الصالحون، وكأنها أخذت ذلك من قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) " فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا كثر الخبث " أي نعم يهلك العامة بفساد الخاصة، ولو كان فيهم الصالحون إذا انتشرت الفواحش، وفشت المنكرات، ولم ينكرها أحد، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجود يأجوج ومأجوج، واختراقهم للسد في آخر الزمان قرب الساعة. كما تحدَّث عنهم القرآن في سورة الكهف، وذكر أنهم شعوب مخربة حمى الله البشريّة من شرهم بذلك السد، وكما ورد ذكرهم في بعض الأحاديث الصحيحة كحديث الباب، وحديث النواس بن سمعان حيث قال فيه: " فبينما هو كذلك إذا أوحى الله تعالى إلى عيسى أني قد أخرجت عباداً لا يدان لأحد بقتالهم -أي لا يقدر أحد على حربهم- فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها. ثم قال: ويحصر نبي الله عيسى حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار، فيرغب نبي الله، فيرسل الله عليهم النغف -أي الدود- فيصبحون فرسى -أي قتلى- كموت نفس واحدة " أخرجه مسلم. وأرجح ما وصل إليه الباحثون في شأنهم أن يأجوج هم التتر ومأجوج هم المغول أي أنهما من هذين الشعبين وأصلهما من أب واحد يسمى " ترك " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وقد كانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم ما بين التيبت والصين إلى المتجمد الشمالي شمالاً، وتركستان الشرقية غرباً، ويذكر المؤرخون أن هذه الأمم المتوحشة كانت تغير على الأمم المجاورة لها كثيراً حتى وصل غزوهم الوحشي في العهد القديم إلى أوربة، وكثيراً ما أغاروا على بلاد الصين وآسيا الغربية التي كانت مقر الأنبياء، وقد تحدث القرآن عنهم كما تحدث أيضاً عن " سد يأجوج ومأجوج " وجاء ذكره في حديث الباب كما جاء ذكرهم أيضاً. وقد تسربت بعض هذه الشعوب المتوحشة إلى الشرق الأوسط وتحقق ذلك بغزو التتار للمسلمين والعرب، وتخريبهم لبلادهم، وقضائهم على الدولة العباسية، واستيلائهم على بغداد وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتحامهم لهذا السد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعه الإِبهام والتي تليها ". أما هذا السد ومكانه، وأين هو؟ فليس في ذلك نص صريح عليه، وقد دلت الكشوفات العلمية على وجود سدين عظيمين " أوّلهما " شرقي البحر الأسود بالقرب من (1) مدينة باب الأبواب، وقد اكتشف في القرن الحالي. والثاني وراء نهر جيحون في عمالة بلخ واسمه باب الحديد بمقربة من مدينة ترمذ، والذي تدل عليه الدلائل التاريخية والكشوفات العلمية أن سد يأجوج ومأجوج هو هذا السد الأخير الذي وراء نهر جيحون والمسمى بسد باب الحديد، لأنه هو الذي اخترقه التتار والمغول أثناء زحفهم على البلاد الاسلامية، وهو الذي اجتازه هولاكو بجيوشه الغازية لغزو الخلافة العباسية في عهد الخليفة المستعصم بالله، حيث استولى على بغداد في أواسط القرن السابِع الهجري، ووقعت فريسة للسلب والنهب سبعة أيام سالت فيها الدماء أنهاراً، وطرحوا كتب العلم في نهر دجلة وجعلوها جسراً يمرون عليه. وقد مر بهذا السد المسمى " بسد باب الحديد " والذي يترجح أنه سد يأجوج   (1) " تفسير المراغي " ج 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 798 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) " 919 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أكْرَمُ النَّاس؟ قَالَ: " أتْقَاهُمْ "، فَقَالُوا: لَيْسَ عن هذَا نَسْألكَ؟ قَال: "فَيوسفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ   ومأجوج العالم الألماني " سيلد بليجر " في القرن الخامس (1) عشر الميلادي وسجله في كتابه، كما ذكره المؤرخ الإِسباني " كلافيجو " في رحلته التي قام بها عام 1403 م وذكر أنه بين سمرقند والهند. ثانياًً: أن الأمة إذا نشأ فيها الفساد هلكت ولو كان فيها الصالحون، وكذلك إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أو جهروا بالمنكرات، فقد روى مالك في " الموطأ " عن إسماعيل ابن أبي حكيم أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: كان يقال إن الله تبارك وتعالى لا يعذّب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلُّهم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ". 798 - " باب قول الله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) " 919 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل " من أكرم الناس " أي من أفضل الناس وأعلاهم منزلةً عند الله تعالى " قال: أتقاهم " أي أكثرهم طاعة لله، وامتثالاً لأمره، وعملاً بشريعته " فقالوا: ليس عن هذا نسألك " أي لسنا نسألك عن أفضل الناس من جهة الأعمال الصالحة " قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " أي إن كنتم تريدون أن تتعرفوا على أفضل الناس عامة من جهة النسب الصالح فهو يوسف عليه السلام   (1) " في ظلال القرآن " المجلد الرابع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 اللهِ بْنِ خَلِيل اللهِ" قَالُوا: لَيْس عَن هَذَا نَسْألكَ، قَال: " فعن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسألونَ؟ خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إذَا فَقُهُوا ". ْ920 - عن أبي هُرَيَرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلاثَ   لأنه جمع بين نبوة نفسه ونبوة أبيه يعقوب عليه السلام ونبوة جده الأول إسحاق عليه السلام، وخلة جده الثاني إبراهيم عليه السلام، فهو نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله إبراهيم عليه السلام. الذي وصفه الله تعالى بقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) لشدة محبته لله تعالى، وإفراده بها دون سواه " قالوا: ليس عن هذا شألك " أي لا نسألك عن أشرف الناس نسباً " قال: فعن معادن العرب تسألون " أي فهل تسألون عن أشرف العرب نسباً وأفضلهم حسباً إن كنتم تريدون ذلك فالعرب " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " أي أشرفهم قبل الإِسلام نسباً وحسباً هو أشرفهم بعد الإِسلام إذا جمع إلى شرف النسب شرف الإِسلام والتفقه في الدين. فقه الحديث: دل هذا الحديث على وصف إبراهيم عليه السلام بالخلة، وهي إفراد الله تعالى دون غيره بالمحبة الخالصة، كما قال عز وجل: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ابن خليل الله ". الحديث: أخرجه الشيخان. 920 - معنى الحديث: أن خليل الله إبراهيم عليه السلام كان المثل الأعلى في الصدق، لم يكذب طول حياته سوى ثلاث كذبات كلها جائزة مشروعة، لأنها ليست كذباً في الحقيقة، وإنما سماها بذلك لمخالفتها الواقع في الظاهر، فهي ثلاثة أقوال صحيحة تخالف الواقع ظاهراً، وتوافقه حقيقة وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْون مِنْهُنَّ في ذَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلُهُ: (إِنِّي سَقِيمٌ) وقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْم وَسَارَةُ،   معنى قوله: " لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلاّ ثلاث كذبات " قال أبو البقاء: الجيد أن يقال بفتح الذال في الجمع لأنه جمع كذبة بسكون الذال تقول كذب كذبة، كما تقول ركع ركعة، قال: وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولاً يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حقق لم يكن كذباً لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين. اهـ: ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثنتان منهن في ذات الله عز وجل " أي ثنتان من الثلاث كانتا لأجل الله تعالى وحده دون أن يكون فيهما أي حظ لنفسه وهما قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) لأنه قال ذلك ليتخلص من الخروج معهم إلى معبدهم، ومشاركتهم في عبادتهم الباطلة، وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) لأنه قاله ليستدل به على ضعف آلهتهم، فهاتان الكذبتان في ذات الله تعالى، بخلاف الثالثة، فإنها كانت للتخلص من ذلك الجبار، ثم ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الكذبات الثلاث: الأولى: " قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) " وسماها " كذبة " لأنّه قول يخالف الواقع في ظاهره، حيث إنه لم يكن مريض الجسم، ولكنه أراد أنه سقيم القلب، فهو باعتبار هذا المعنى الذي قصده إبراهيم ليس كذباً، وإنما هو عين الصدق. والثانية: " قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) " وقد سماه " كذبة " باعتبار الظاهر الذي فهموه من أن الصنم الأكبر غضب من عبادتهم للأصنام الأخرى فكسرها في حين أنه أراد - كما قال بعضهم: إن هذا الصنم الكبير هو السبب الذي دفعني إلى تحطيم الأصنام الأخرى لأني لما رأيتها مصطفة حوله تعظيماً وتقديساً له حطمتها كلها إمعاناً في إذلاله، واستدلالاً على ضعفه ومهانته، وعجزه عن الدفاع عنها، ولو كان رباً قادراً عزيزاً لدافع عنها وحماها، "وقال بينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 إِذْ أتَى على جَبَّار مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلاً معهُ امْرَأةٌ من أحْسَنِ النَّاسِ، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَسَألهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أخْتِي، فَأتَى سَارَةَ، فَقَالَ: يا سَارَةُ لَيْسَ على وجْهِ الأرْضِ مُؤمِن غَيْرِي وَغيْرُكِ، وِإن هَذا سَألنِي فأخْبَرْته أنَّكِ أُخْتِي فلا تُكَذبِيني، فأرْسَل إليهَا، فلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لي ولَا أضرٌّكِ، فَدَعَتِ اللهَ فأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأخِذَ مِثْلَهَا، أو أشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِى اللهَ لي ولا أضُرُّكِ، فدَعَتِ اللهَ فأطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إنَّكُمْ لَمْ تَأتُونِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أرتيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ، فَأخْدَمَهَا هَاجَرَ،   هو ذات يوم وسارة إذا أتي على جبار " أي قال - صلى الله عليه وسلم - في بيان الكذبة الثالثة لما قدم إبراهيم أرض مصر التي كان يحكمها جبار من الجبابرة، وبصحبته زوجته سارة " فقيل له " أي للجبار " إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس " صورة " فأرسل إليه، فسأله عنها قال: من هذه قال: أختي " وسماه كذبةً باعتبار الظاهر حيث فهم منه الجبار أنّها أخته نسباً في حين أنه أراد أنها أخته في الدين، فجوابه صدق مطابق للواقع بهذا المعنى، " فلما دخلت عليه " أي على جبار مصر " ذهب يتناولها بيده فأخذ " وفي رواية مسلم: " فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة " وفي رواية: " فقامت تتوضأ وتصلى فَغُطَّ (بضم الغين) حتى ركض برجله، أي اختنق، حتى صار كأنه مصروع " فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق " وزالت عنه الحالة التي كان عليها، ولكنه لم يعتبر بما حدث له، بل طمع فيها مرة أخرى كما قال: " ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها " أي فأصيب بمثل ما أصيب في المرة الأولى " فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق " ورجع إلى حالته العادية، فكف نفسه عنها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 فَأتَتْهُ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، فَأوْمَأ بِيَد مَهْيَمُ، قَالَتْ: رَدَّ اللهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أو الفَاجِرِ في نَحْرِهِ، وأخْدَمَ هَاجَرَ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أمُّكُم يا بني مَاءِ السَّمَاءِ".   ويئس منها " فدعا بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان " وفي رواية ما أرسلتم إلي إلاّ شيطاناً، ارجعوها إلى إبراهيم، قال الحافظ: وهذا يناسب ما وقع له من الصرع، " فأخدمها هاجر " أي فوهب لها هاجر - بفتح الجيم لتخدمها، وهو اسم سرياني " فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده " مهيم " بفتح الميم وسكون الهاء أي ما حالك وما شأنك " قالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره " وهو مَثَل تقوله العرب لمن أراد أمراً باطلاً فلم يصل إليه: أي خيَّب أمله وحال بينه وبين مقصوده " وأخدم هاجر " قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء " أي فتلك المرأة التي هي هاجر هي أمكم أيها العرب، لأنها أم إسماعيل، وهو جد العدنانيين من العرب ويقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وإنما نسب العرب إلى ماء السماء نسبة إلى الفلوات التي بها مواقع القطر، وقيل أراد بماء السماء زمزم قال ابن حبان في صحيحه: " كل من كان من ولد إسماعيل يقال له: ماء السماء، لأن إسماعيل ولد هاجر وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل إبراهيم عليه السلام، وذكر بعض أخباره، وأن تصرفاته وأعماله وأقواله كانت لله وفي الله كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ثنتان منهن في ذات الله عز وجل " ثانياًً: أن إبراهيم لم يكذب في حياته سوى هذه الثلاث، وهي ليست كذباً في الحقيقة، وإنما هي " تورية "، ومعناها أن يأتي المتكلم بكلمة لها معنى قريب يتبادر إلى ذهن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 921 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "أوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطق مِنْ قِبَلِ أمِّ إسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقاً لِتُعْفِّيَ أثرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وبابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ، وهيَ ترضِعُهُ حَتَّى وَضَعْهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاء، فوضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وسِقَاءٌ فِيهِ مَاء، ثُمَّ قَفَّى (1) إبْراهِيمُ مُنْطَلِقَاً، فَتَبِعَتْهُ أمُّ   السامع، ومعنى بعيد لا يخطر بباله، فيقصد المعنى البعيد ليخفي عن المخاطب أمراً تقضي الحاجة أو الضرورة إلى إخفائه، وهو ما أراده إبراهيم عليه السلام، كما وضحناه أثناء شرحنا للحديث. وليس هناك كذاب حقيقي، فالأنبياء لا يكذبون، لأنهم معصومون، وأطلق عليه الكذب تجوزاً لكونه على صورته، وإلّا فهو من باب المعاريض وهي فسحة ووقاية من الكذب كما في الخبر " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث تدل على خُلَّة إبراهيم وكمال محبته. 921 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " أوّل ما اتخذ النساء المنطق " بكسر الميم وفتح الطاء، وهو قطعة من قماش تشد بها المرأة وسطها، وتجر أسفله على الأرض " من قبل أم إسماعيل " أي من جهة هاجر أم إسماعيل، وبسببها، فهي أوّل امرأة فعلت ذلك، وسببه أن سارة كانت قد وهبت هاجر لإبراهيم عليه السلام، فلما ولدت إسماعيل غارت منها، فشدت المنطق، وصارت تجر أسفله على الأرض، لتخفي آثار أقدامها، ثم أمره الله تعالى أن يذهب بها إلى مكة ففعل، ولم يكن هناك بيت ولا بناء ولا زرع ولا ماء، فوضعها تحت شجرة هناك فوق مكان زمزم، وكان إسماعيل رضيعاً، ومكة   (1) قفى بتشديد الفاء يعني ولى راجعاً إِلى الشام كما أفاده العيني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 إسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يا إِبْرَاهِيمُ أينَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الذي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ ولا شَيْءٌ، فَقَالَتْ لَهُ: ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ آللهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْراهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْثَّنِيَّةِ حَيْث لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دعَا بَهُؤلاءِ الكَلَمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيه فَقَالَ (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ -حَتَّى بَلَغَ- يَشْكُرُونَ) وجَعَلَتْ أمُّ إسْمَاعِيلَ ترضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ، حَتَّى إذَا نَفِذَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظر إليْهِ يَتَلَوَّى، أوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ،   صحراء قاحلة، وترك لها جراب تمر وسقاء ماء، وعاد راجعاً إلى الشام فقالت له: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي المقفر؟ وأعادت السؤال مراراً، ثم قالت: هل أمرك الله بذلك؟ قال: نعم، قالت: ما دام قد أمرك بذلك، فلن يضيّعنا، وحسبي الله حافظاً ورازقاً، ثم عادت، وسار إبراهيم متضرعاً إلى الله تعالى أن يحفظ ولده، وأن يرزقه وذريته وأن يحوّل هذه الصحراء إلى مدينة عامرة، يأتيها الناس من كل فج عميق " فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ " أي لا نبات فيه " عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ " أي إنما فعلت ذلك ليصبح هذا البيت قبلة للناس في صلاتهم " (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) " أي فاجعل جماعات من الناس تأتيهم " (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) " قال في التفسير المنير: إنما طلب تيسير المنافع لأولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة، وأداء الواجبات. اهـ. وقال الزمخشري: فأجاب الله دعوة خليله، فجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 فَوَجَدَتِ الصَّفَا أقْرَبَ جَبَل في الأرْضِ يلِيهَا، فَقَامت عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظرُ هَلْ تَرَى أحداً، فَلَمْ تَرَ أحداً، فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثمَّ سَعَتْ سَعْي الإنْسَان الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أتت المَرْوَةَ، فَقَامت عَلَيْهَا وَنَظرَتْ هلْ تَرَى أحَداً، فَلَمْ تَرَ أحَداً، ففعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فلذَلِك سَعْيُ النَّاس بَيْنَهُمَا (1)، فلمَّا أشْرَفَتْ على الْمَرْوَةِ سَمِعتْ صَوْتاً، فَقَالَتْ: صَهٍ (2) تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثم تَسَمَّعَت (3) فَسَمِعَتْ أيضاً، فَقَالَتْ: قدْ أسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِى بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعِقْبِهِ -أو قَالَ بِجَنَاحِهِ- حتى ظَهَرَ   شيء رزقاً من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل قرية وعلى أخصب البلاد وأكثرها نماءً، قال ابن عباس: " وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط " أي يحرك لسانه، ويكاد يموت من شدة العطش، فلم تطاوعها نفسها أن تراه على تلك الحالة، وذهبت تبحث عن الماء " فأنطلقت كراهية أن تنظر إليه " وهو على وشك أن يموت من العطش " ثم سعت سعي الإِنسان المجهود " تبحث عن الماء بين الصفا والمروة سبع مرات، فشرع الله للناس السعي في الحج من أجل ذلك، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه " بالبناء على الكسر اسم فعل أمر بمعنى اسكتي " تريد نفسها " أي طلبت من نفسها السكوت لكي تتعرف عن مصدر   (1) أي وكان ذلك سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة. (2) بفتح الصاد وسكون الهاء أو بكسرها منونةً أي اسكتي كما أفاده العيني. (3) أي اجتهدت في الاستماع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الْمَاءِ في سِقَائِهَا، وهو يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يَرْحَمُ اللهُ أمَّ إِسْمَاعِيلَ لوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أو قَالَ: لَوْ لَمْ تَغرِفْ مِنَ الْمَاءِ- لَكَانَت زَمْزُمُ عَيْنَاً مَعِيناً، قَالَ: فَشَرِبَتْ وأرضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَال لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتُ اللهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلامُ وأبوهُ، وِإنَّ الله لا يُضِيعُ أهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعَاً مِنَ الأرْضِ كالرَّابِيَةِ تَأتِيهِ السُّيولُ، فَتَأخُذُ عن يَمِينهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حتى مَرَّتْ بِهِمْ   الصوت، ومن أين أَتى " ثم تسمّعت فسمعت أيضاً " الصوت مرة أخرى " فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث " يعني قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، " فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا " أي فصارت تحيطه بالتراب وتجعله حوضاً " لو تركت زمزم " ولم تحِّوضها " لصارت عيناً معيناً " أي عيناً جاريةً على وجه الأرض " فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة " أي لا تخافوا الضياع والهلاك لأنكم تحت رعاية الله تعالى " وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية " أي مرتفعاً قليلاً، ثم ذكر بقية الحديث أنه مرَّ بذلك المكان أو بالقرب منه جماعة مسافرون من جرهم مروا بأعلى مكة، فرأوا طيراً حائماً على الماء، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكان عهدهم به أنّه واد مقفر، فأرسلوا رسولاً من قبلهم، أو رسولين ليكشف لهم عن الحقيقة، فرجع إليهم رسلهم يخبرونهم عن وجود ماء في تلك البقعة، فأقبلوا على أم إسماعيل، واستأذنوا منها بالنزول في جوارها، فأذنت لهم بذلك، على أن لا يكون لهم حق التملك في ذلك الماء، وإنما لهم أن يشربوا منه فقط، وسكنت جرهم مكة منذ ذلك العهد، واستأنست بسكناهم معها، وشب الغلام في هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 رُفْقَة مَنْ جُرْهُمَ، أوْ أهل بَيْتٍ مِنْ جُرْهُم مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيق كَدَاءَ، فَنَزَلُوا في أسْفَلِ مكةَ، فرأوْا طَائِرَاً عَائِفاً (1)، فَقالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ على مَاءٍ، لعَهَدُنَا بهَذَا الْوَادِي ومَا فِيهِ مَاءٌ، فأرْسَلُوا جَرِيَّاً (2) أوْجَرِيينِ، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فأقْبَلُوا وأمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أتُأذَنِينَ لَنَا أنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ في الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: فألْفَى ذَلِكَ أمَّ إسْمَاعِيلَ وهيَ تُحِبُّ الأنْسَ، فَنَزِلُوا وأرْسَلُوا إلى أهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حتى إِذَا كَانَ بِهَا أهْلُ أبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وشَبَّ الْغُلامُ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وأنفَسَهُمْ وأعجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أمُّ إِسْمَاعِيلَ، فجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ، يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فلم يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأل امْرَأتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَألهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نحنُ بِشَر، نَحْنُ في ضِيق وشِدَّةٍ، فشكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فإذَا جَاءَ زَوْجُكِ فاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ، وقولي لَهُ يُغَير عَتَبَةَ بَابِهِ، فلما جاءَ اسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنسَ شَيْئاً، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أحَدٍ؟   القبيلة، وتعلم منهم اللغة العربية، ثم لما بلغ الرشد زوجوه امرأة منهم اسمها عمارة بنت سعد، قال الراوي: " وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته " أي يتفقد حال أهله وولده " فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا " أي يطلب لنا الرزق " ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم " أي حالتهم "فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة،   (1) وهو الذي يحوم حول الماء. (2) جرياً أي رسولاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فسألَنَا عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، وسألَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أوْصَاكِ بِشَيءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، أمَرَنِي أن أقْرأ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: غَيِّر عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي، وقد أمَرَنِي أنْ أفَارِقَكِ، الْحَقِي بأهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فلَبِثَ عَنْهُمْ إبراهِيمُ ما شَاءَ الله، ثم أَتَاهُمْ بعدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَل على امْرأتهِ فسألَهَا عَنْهُ قَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أنتُمْ؟ وسألها عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسِعَةٍ، وَأثْنَتْ عَلى اللهِ، فَقَالَ: ما طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَما شَرَابُكُمْ، قَالَتْ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في اللَّحْمِ والْماءِ، قَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولم   فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد؟ " أي فلما جاء إسماعيل وكان قد أحس في نفسه أنه جاءها أحدٌ، فسألها قائلاً: هل جاءكم من أحدٍ؟ " قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا " أي صفته كذا، وأخبرته بكل ما دار بين أبيه وبينها، وبقوله غيّر عتبة بابك، " قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك " أي أن أطلقك " الحقي بأهلك " أي أنت طالق فاذهبي إلى أهلك، وهو من كنايات الطلاق " وتزوج منهم امرأة أخرى " وهي رعلة بنت مضامن بن عمرو الجرهمية " فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله " يعني مدة من الزمن " ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، قالت: خرج يبتغي لنا " أي يسعى في طلب الرزق " قال: كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم " أي سألها عن معيشتهم وأحوالهم " فقالت: نحن بخير وسعة " أي نحن في نعمة من الله وسعة في الرزق " وأثنت على الله " أي حمدت ربها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، ولو كان لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فهما لا يَخْلُو عَلَيْهِما أحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ، فاقْرَئي عَلَيْهِ السلامُ، ومُرِيه يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فلما جَاءَ إسْمَاعِيلُ قال: هَلْ أتَاكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أتانا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وأثْنَتْ عَلَيْهِ، فسألَنِي عَنْكَ، فأخْبَرْتُهُ، فسَألنِي كَيْفَ عَيشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا بِخَيْرٍ، قال: فأوصَاكِ بِشَيءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هو يَقْرأ عَلَيْكَ السَّلامَ، وَيَأمُرُكَ أن تُثْبِتَ عتبةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي وأنتِ العَتَبَةُ، أمَرَنِي أنْ أمْسِكَكِ، ثم لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللهُ، ثم جاء بَعْد ذَلِكَ، وإسْماعِيلُ يَبْرِي نَبْلاً له تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيباً من زَمْزَمَ، فلمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إنَّ اللهَ أمَرَنِي بأمْرٍ، قَالَ: فاصْنَعْ مَا أمَرَ رَبُّكَ، قَالَ: وتُعِينُنِي عَلَيْهِ، قَالَ: وَأعِينُكَ قَال: فَإنَّ الله أمَرَنِي أن أبْنِي   وشكرته، لأنها كانت راضية بما قسم لها شأن المرأة الصالحة " فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء " أي فسألها عن طعامهم وشرابهم الذي يعيشون عليه، فذكرت أنّ طعامهم اللحم، وشرابهم الماء. " قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء " فدعا لهم بالبركة في اللحم والماء، فكانوا يقتصرون عليهما دون أن يتضرروا منهما، وأصبح ذلك خاصاً بمكة دون غيرها من البلاد، فإنه لا يقتصر أهل بلد عليهما إلاّ تضرر منهما كما قال: " فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلاّ لم يوافقاه " ومعناه كما في حديث أبي جهم " ليس أحد يخلو (1) على اللحم والماء بغير مكة إلاّ اشتكى بطنه،   (1) أي يعتمد ويداوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 هَا هُنَا بَيْتاً وأشَارَ إلى أكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ على مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأتِي بِالْحِجَارِةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتى إِذَا ارْتَفعَ الْبِنَاءُ، جَاءَ بِهَذا الْحَجَرِ، فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيهِ وَهُوَ يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وهُمَا يَقُولانِ (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ".   " قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم أحد " فأخبرته عن الشيخ الذي جاءها في غيابه، وبأوصافه وما دار بينه وبينها " قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك " أي أن أبقيك في عصمتي " ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً " أي ينحت سهماً ويصلحه " فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد " أي فعانقه معانقة الوالد لولده. " ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر " أي أمرني أن أقوم بعمل في هذا المكان، ثم طلب من ولده إسماعيل أن يعينه، عليه ثم " قال: إن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً وأشار إلى أكمة مرتفعة " أي إلى ربوة مرتفعة قليلاً عن سطح الأرض ليبين له المكان الذي أمر ببناء الكعبة فيه، وهو فوق تلك الأكمة " قال: فعند ذلك رفعا القواعد " أي شرعا في البناء حتى رفعا الأسس التي يقوم عليها البيت " فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء " أي علا وأصبح لا تطوله يده " جاء بهذا الحجر " الموجود حالياً في المقام " فقام عليه، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " فيدعوان الله بقبول في بنائهما هذا، والرضا عنهما فيه، لأنه السميع لدعائهما، العليم ببنائهما. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن في هذه القصة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 922 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: "إِنَّ أباكُمَا كَانَ   العجيبة ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام خليل الله حقاً، وأن محبته لله قد تغلبت على كل مشاعره فأطاعه في كل شيء حتى في مفارقة ولده الوحيد لأنه يحبه فوق كل شيء، ويؤثره على كل موجود، فأي مقام في الخلة أعظم من هذا المقام الذي جعله يفادي بولده في سبيل مرضاة ربه، وهو ما عناه الله تعالى بقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). ثانياًً: أن إبراهيم دعا لمكة أن يسوق الله تعالى إليها وفود الحجاج والمعتمرين وأن تأتيها الأرزاق من كل حدب وصوب، حيث قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فاستجاب الله دعوته، وشرع للناس حج بيته في الأديان الحنيفية كلها. ثالثاً: أصل مشروعية السعى بين الصفا والمروة وأن هاجر كانت أوّل من سعى بينهما. رابعاً: ظهور بئر زمزم وسبب ظهورها حيث أظهرها الله تعالى رحمة بهاجر وولدها إسماعيل حيث حفر جبريل الأرض بمؤخر قدميه فظهر الماء. خامساً: بداية عمران مكة، ومتى سكنتها جرهم، ونشأة إسماعيل في هذه القبيلة وتعلمه العربية منهم. سادساً: أن العرب ليسوا جميعاً من نسل إسماعيل لأن قبيلة جرهم العربية كانت قبل إسماعيل كما يدل عليه حديث الباب، ولهذا قال الحافظ: وهذا لا يوافق من قال: إن العرب كلها من ولد إسماعيل. سابعاً: أن المرأة الكثيرة الشكوى والتبرم من عيشها، والجاحدة لنعمة الله عليها، هي في الحقيقة امرأة سوء، ولذلك أمر إبراهيم إسماعيل بطلاق زوجته الأولى. ثامناً: خصوصية مكة المكرمة في الجمع بين اللحم والماء وحدهما. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون ما فعله إبراهيم أعلى مقامات الخلة. 922 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثيراً ما يعوذ الحسن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 يَعَوِّذُ بِهَا إسْمَاعِيلَ وِإسْحَاقَ: أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنً لامَّةٍ". 799 - " بَابُ قَوْلِهِ تعَالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) " 923 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "نَحْنُ أحقُّ بالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إذ قَالَ:   والحسين ويحصنهما بهذه التعويذة المأثورة، وهي قوله: " أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامّة " أي ألجأ إلى الله تعالى وأستجير به، وأسأله أن يحصّن الحسن والحسين بكلماته الجامعة لكل خير، المانعة من كل شر، أن يصونهما " من كل شيطان وهامة " بالتشديد واحدة الهوام وهي ذوات السموم " ومن كل عين لامّة " أي ومن كل عين شريرة تلم بالإِنسان فتصيبه بمكروه، وقد أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - أن إبراهيم الخليل عليه السلام كان يعوذ ولديه بهذه التعويذة النافعة. الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية هذه التعويذة المباركة التي كان إبراهيم عليه السلام يعوذ بها ولديه، وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بها الحسن والحسين. ثانياًً: ثبوت وجود الأرواح الخفيّة، والعوالم غير المنظورة. ثالثاً: تأثير العين فيمن تصيبه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن كل عين لامّة " قال ابن القيم: ومن التعوذات النافعة الإِكثار من قراءة المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي. والمطابقة: في قوله: " إن أباكما -أي إبراهيم الخليل- كان يعوّذ بهما " 799 - " باب قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) " 923 - معنى الحديث: روي في سبب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ويَرْحَمُ اللهُ لُوطاً، لقد كَانَ يَأوِي إلى رُكْن شَدِيدٍ، ولوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُوْلَ ما لَبِثَ يُوسُفُ لأجَبْتُ الدَّاعِيَ ".   أنه لما نزل قوله تعالى: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) قال بعض الناس: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " أراد بذلك - صلى الله عليه وسلم - المبالغة في نفي الشك عن إبراهيم، أي إذا كنا نحن لا نشك في قدرة الله على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بعدم الشك، وإنما سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى عياناً ومشاهدة ليطمئن قلبه كما قال: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي ليجمع إلى العلم النظري العلم الحسي، لأنه أبلغ في اليقين، ثم تذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لوطاً عندما جاءه أضيافه فخاف عليهم من قومه فقال: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فتعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله هذا وقال: " ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد " أي كيف يتمنى أن يجد معيناً وناصراً يحمي أضيافه من قومه، وقد كان يأوي إلى ركن شديد، وهو الله العزيز المقتدر ثم تحدث عن يوسف عليه السلام، فوصفه كما قال البغوي بالأناة والصبر حيث قال: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) فإنه أرادْ أن لا يخرج من السجن حتى تظهر براءته فقال - صلى الله عليه وسلم - في مدحه والثناء عليه: " ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " أي لأسرعت إلى الإِجابة، قال ذلك إعجاباً بصبر يوسف وقوة عزيمته. وهو من باب تواضع العظماء الذين لا يزيدهم تواضعهم إلاّ رفعة وعلواً وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في الصبر والثبات. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، ودفع ما توهمه بعض الناس من أن إبراهيم قال: (رَبِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 800 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) " 924 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ أمرَهُمْ أنْ لا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا ولَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا واسْتَقَيْنَا، فأمَرَهُمْ أنْ يَطرَحُوا ذلكَ الْعَجِينَ وَيُهْرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ ".   أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) شكاً منه في قدرة الله. ثانياًً: صبر يوسف وأناته. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نحن أحق بالشك من إبراهيم ". 800 - "باب قول الله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) " 924 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحجر، وهي منازل ثمود في غزوة تبوك، أمر أصحابه أن لا يشربوا من آبارها، فأخبروه أنهم عجنوا بمائها وسقوا دوابهم منها، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء ذلك العجين وإراقة ما تبقى من الماء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن ديار ثمود كانت بالحجر في شمال الحجاز. ثانياً: قال النووي في الحديث النهي عن استعمال آبار الحجر، إلا بئر الناقة، ولو عجن منه عجيناً لم يأكله بل يعلفه الدواب. اهـ. والمطابقة: في قوله: " لما نزل الحجر " الحديث: أخرجه الشيخان. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 801 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ -إِلى قوله- وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) " 925 - عَنْ أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالَ كَثِير، ولَمْ يَكْمَلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، ومَرْيم بنْتُ عِمْرَانَ، وِإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ ".   801 - " باب قول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ -إِلى قوله- وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) " 925 - معنى الحديث: أن الذين بلغوا مرتبة الكمال في الفضائل الدينية والأخلاقية من الرجال كثيرون، منهم من بلغ مرتبة الكمال العادي كالعلماء والصلحاء والأولياء، ومنهم من بلغ أسمى مراتب الكمال كالأنبياء، أما اللواتي كملن من النساء فهن قليلات جداً، وعلى رأسهن آسية امرأة فرعون، وهي آسية بنت مزاحم التي ضرب الله بها المثل في كمال الإِيمان، فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وذلك لأنها آمنت بموسى حين تغلب على سحرة فرعون، فلما علم فرعون بإيمانها أوتد يديها (1) ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس وأمر بصخرة عظيمة ألقيت عليها، فلما رأت الصخرة (قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) فأبصرت بيتها في الجنة من دُرَّةٍ بيضاء، وانتزع الله روحها فألقيت الصخرة عليها بعد وفاتها، ولم تجد ألماً. وأما الثانية: " فهي مريم بنت عمران التي ضرب الله بها المثل في حصانتها لنفسها، وكمال عبادتها ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإن فضل عائشة   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 15. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " قال التوربشتي: الثريد أشهى الأطعمة عند العرب شبهت به عائشة لأنها أعطيت من حلاوة المنطق وعذوبة الحديث، والتحبّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يُعْطَ غيرها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن عظماء الرجال والكاملين منهم كثيرون على مر العصور والأزمان، منهم الرسل والأنبياء، أما الكاملات من النساء وفضلياتهن فإنهن قليلات جداً، منهن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران. ثانياًً: استدل بعضهم بهذا الحديث على نبوة آسية ومريم عليهما السلام لأن أكمل الناس الأنبياء ثم الأولياء فلو كانتا غير نبيتين للزم أن لا يكون في النساء ولية ولا صديقة. اهـ. إلاّ أن الحافظ ابن حجر أجاب عنه بأن فائدة ذكرهما بطريق الحصر اختصاصهما بكمال لم يشركهما فيه أحد من نساء زمانهما فهو دون مقام النبوة، قال: وذلك لما نقله العلماء من الإِجماع على عدم نبوة النساء لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ). ثالثاً: فضل آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وكونهما أفضل الفضليات وأكمل الكاملات في عصرهن أو في سائر العصور. رابعاً: قال قتادة: كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم، فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها. والمطابقة: في كون الحديث يدل على كمال آسية ومريم، وهو معنى الآية الكريمة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 802 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) " 926 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خُففَ على دَاوُدَ الْقُرآنَ فَكَانَ يَأمُرُ بِدَوَابِهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأ الْقُرآنَ قَبْلَ أن تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، ولا يَاكلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَده ". 803 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) " 927 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   802 - " باب قول الله تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) 926 - معنى الحديث: قال - صلى الله عليه وسلم -: "خفف على داود القرآن " وقرآن كل نبي الكتاب الذي أنزل عليه. معناه: أن داود عليه السلام يُسِّر له قراءة الكتاب السماوي الذي أنزل عليه من ربه، وهو الزبور، فكان يأمر بوضع السرج على دابته ودواب أتباعه، فلا ينتهي خدمه وعماله من وضع السرج على ظهورها إلاّ وقد قرأ الزبور من أوّله إلى آخره، وأنّ الله علّمه صناعة الحديد، فكان لا يأكل إلاّ من كسب يده. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تخفيف الزبور على داود. ثانياًً: فضل الصناعة واستحبابها، وكونها من أعمال الأنبياء. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " خفف على داود القرآن ". 803 - " باب قول الله تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) " 927 - معنى الحديث: كانت امرأتان من بني إسرائيل قد خرجتا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَتْ امْرَأتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إنما ذَهَبَ بابْنِكِ، وقَالَتِ الأخْرَى: إنما ذَهَبَ باْبِنكِ، فَتَحَاكَمَا إلى دَاودَ فَقَضَى بِهِ للكُبْرَى، فَخَرَجَتَا على سُلَيْمَانَ ابْنِ دَاوُدَ فأخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّيْنِ أشُقه بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَا فقضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ".   البرية وبصحبتهما ابناهما الصغيران، فعدا الذئب على أحد الطفلين وافترسه، وبقي الآخر، فادّعت كل واحدة منهما أن الطفل الموجود هو ابنها، وأن الذئب إنما افترس ابن الأخرى، فتحاكما إلى داود عليه السلام، فحكم به للكبرى منهما، لأنه كان في يدها بينة ولا بينة للصغرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود وأخبرتاه بقضيتهما، فأراد أن يتوصل إلى معرفة أمه الحقيقية بما يتكشف له من مشاعرها وعواطفها، " فقال ائتوني بالسكين أشقه بينهما " فأمّا الكبرى فسكتت، وأما الصغرى فقد تحركت فيها مشاعر الأمومة وآثرت أن تسلمه للكبرى، وأن تضحي بنفسها إبقاءً على حياته، وهو معنى قوله: " فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها فقضى به للصغرى " لما رآه من عظيم جزعها الدال على وجود عاطفة الأمومة فيها، ولم يكترث بإقرارها لأنّه علم أنّها آثرت حياته، فظهر له من وجود الشفقة في الصغرى وعدمها في الكبرى الدليل القاطع على صدقها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال ابن الجوزي: إنما حكما بالاجتهاد (1) إذ لو كان بنص لما ساغ خلافه، وفي الحديث دليل على اجتهاد الأنبياء، وأنهم قد يخطئون في اجتهادهم، ولكنهم لا يقرهم الله   (1) " شرح العيني " ج 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 على الخطأ، بل ينزل الوحي ببيانه كما في هذه القضية حيث قال عز وجل: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) والمراد بالخطأ مخالفة الواقع ونفس الأمر، لا مخالفة الدليل والبينة الظاهرة، إذ لو كان الخطأ الاجتهادي هو مخالفة الظاهر لما كان صاحبه معذوراً ومأجوراً، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر واحد. فإنّ من خالف الدليل الظاهر، وحكم بخلاف البينة الثابتة أثم ولا شك، وقد حكم داود وسليمان بحكمين متناقضين، فلا بد أن يكون أحدهما خطأ وهو حكم داود عليه السلام، والثاني صواب، وهو حكم سليمان عليه السلام كما قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ). ثانياً: مشروعية استعمال الحيل في الأحكام، فإن سليمان فعل ذلك، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما تحيلاً على إظهار الحق، ولم يعزم على ذلك في الباطن وإنما أراد استكشاف الأمر، فحصل على مقصوده، وظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى أنها الأم الحقيقية، ويحتمل أن تكون الكبرى اعترفت بالحق لمّا رأت الجد ودلالة القرائن على كذبها، فحكم عليها سليمان بإقرارها، والإِقرار سيّد الأدلة. ثالثاً: فضل سليمان عليه السلام في العلم والفقه ومعرفة الأحكام الذي اقتضى ثناء الله عليه بقوله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ). رابعاً: أن سليمان هو ابن داود عليهما السلام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فخرجتا على سليمان ابن داود " وهو مطابق للآية الكريمة التي ترجم لها البخاري حيث قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ) الآية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فخرجتا على سليمان بن داود ". *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 804 - " بَاب (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) " 928 - عَنْ عَلي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيْجَةُ ".   804 - " باب (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) " 928 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " خير نسائها " أي أفضل نساء الأرض في عصرها، " وخير نسائها خديجة " أي خير نساء العرب خديجة رضي الله عنها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل بهذا الحديث من يقول بنبوة مريم عليها السلام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " خير نسائها " قالوا: والمراد بقوله: " خير نسائها " أي خير نساء الأرض قاطبة في كل الأزمان والعصور هي مريم العذراء كما يؤكد ذلك ما جاء في الرواية الأخرى حيث قال: " خير نساء العالمين، مريم كقوله تعالى: (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) قالوا: وهذا الاصطفاء والخيرية المطلقة، والأفضلية العامة على نساء العالمين تدل على نبوتها، وبه جزم الزجاج وجماعة من أهل العلم، واختاره القرطبي (1). ثانياً: فضل السيدة خديجة رضي الله عنها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وخير نسائها خديجة " فذهب بعضهم على أنها أفضل نساء هذه الأمة، ورجحه القاضي أبو بكر ابن العربي. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -:   (1) والصحيح أنه اختصاص بكمال، دون مقام النبوة، كما تقدم. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 805 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) " 929 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضي اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: " أنا أَوْلَى النَّاسِ بابْنَ مَرْيَمَ، والأَنْبِيَاءُ أوْلَادُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيني وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ".   " خير نسائها مريم " فإن الخيرية تدل على الاصطفاء المذكور في الآية التي ترجم بها البخاري، والله أعلم. 805 - " باب قول الله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) " 929 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنا أولى الناس بابن مريم " أي أنا أقربهم إلى عيسى عليه السلام وأعظمهم له حباً، وأعلمهم بقدره ومنزلته، ولكن مع ذلك لا أقول عيسى بن الله كما قالت النصارى، وإنما أقول هو عبد الله ورسوله كما نطق بذلك في المهد فقال: " إني عبد الله " " والأنبياء أولاد علات " بفتح العين وتشديد اللام، قال العيني: وهم الإِخوة لأب من أمهات شتى. كما أن الإخوة من الأم فقط أولاد أخياف، والأخوة من الأبوين أولاد أعيان. ومعناه أن أصول الأديان السماوية التي جاء بها الأنبياء واحدة، وفروعها مختلفة متعددة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - أعلم بقدر المسيح، وأشد له حباً من النصارى الذين يزعمون أنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ولكنه لا يقول فيه إلاّ كلمة الحق، وهي أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم الخ. ثانياًً: أن الأديان السماوية متفقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 930 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "رَأى عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: أسَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلَّا وَاللهِ الذِي لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللهِ وَكَذَّبْتُ عَيْني".   على أصول الإيمان، من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والمحافظة على حقوق الإنسان وإن كانت مختلفة في أحكامها الفقهية. والمطابقة: في كون الحديث يتعلق بعيسى الذي انتبذت به أمه مكاناً شرقياً. 930 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق " أي شاهده بعينه وهو متلبس بالسرقة، " فقال له: سرقت " أي فأنكر عليه وقال له: لقد ارتكبت يا هذا جريمة السرقة، واقترفت كبيرة من الكبائر " قال: كلا والله الذي لا إلا هو " أي فأنكر الرجل، ونفى عن نفسه السرقة بشدة، وأكد ذلك بالقسم " فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني " أي صدقت من حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي من كون ما أخذه هذا الرجل سرقة لاحتمال أنه أخذ شيئاً له فيه حق، أو أخذ مالاً أذن له فيه صاحبه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يتعلق بعيسى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل المسيح عليه السلام وشدة تعظيمه لله. ثانياًً: درء الحدود بالشبهات، لأن عيسى تراجع عن حكمه على الرجل بالسرقة لما ظهرت له بعض الشبهات والاحتمالات. ثالثاً: أن القاضي لا يحكم بعلمه، وإنما يحكم بالبينة أو اليمين، وهو مذهب الحنابلة، والراجح عند المالكية، وأجازه الشافعية في غير الحدود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 931 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا تُطرونِي كما أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أرنا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ".   931 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصاً منه على توحيد الله تعالى، وخوفاً على أمته من الشرك الذي وقعت فيه الأم السابقة، حذَّرها عن الغلو فيه، ومجاوزة الحد في مدحه بنسبة أوصاف الله تعالى وأفعاله الخاصة به إليه. كما غلت النصارى في المسيح بوصفه بالألوهية والبنوة لله تعالى، فوقعت في الشرك كما قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ). " فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله " أي فصفوني بالعبودية والرسالة كما وصفني الله تعالى بذلك، ولا تتجاوزوا بي حدود العبودية إلى مقام الألوهية أو الربوبية كما فعلت النصارى، فإن حق الأنبياء العبودية والرسالة، أما الألوهية فإنها حق الله وحده. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من الغلو والإِسراف في المدح، ومجاوزة الحد، والمدح بالباطل، لأن ذلك قد يفضي إلى الشرك، وإنزال العبد منزلة الرب، ووصفه بصفاته، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ". ثانياًً: أن كفر النصارى إنما كان بسبب غلوهم في المسيح والقديسين والقديسات من بعده، وقولهم في عيسى إنه ابن الله، حتى أدى بهم ذلك إلى تحريف الكتب المقدسة، لكي يستدلوا بها على صحة مزاعمهم الباطلة، حتى إن بعضهم تجرأ فاستدل بآية من القرآن الكريم على فهمه السقيم، فقد روي أن عظيماً من النصارى ناظر علي بن الحسين بن واقد المروزي في مجلس الرشيد ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 806 - " بَابُ نزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليْهِمَا السَّلامُ " 932 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " كَيْفَ أنتمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وإمامُكم منكم ".   أن عيسى جزء من (1) الله، وتلا قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) زعم أن قوله تعالى: (وَرُوحٌ مِنْهُ) يدل على أن عيسى جزء من الله تعالى بناء على أن " من " للتبعيض فقرأ المروزي قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) وقال: إذن يلزم أن تكون جميع تلك الأشياء جزءاً من الله تعالى فانقطع النصراني، واقتنع بحجة المروزي وهداه الله للإسلام فأسلم، وحسن إسلامه وفرح الرشيد بذلك فرحاً عظيماً، وكافأ المروزي مكافأة عظيمة. ثانياً: أن في هذا الحديث علاقة متينة بقوله تعالى حكاية عن قول عيسى: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فوصف نفسه بالعبودية والنبوة، وفي هذا حجة قاطعة على كذب النصارى في دعواهم أن عيسى ابن الله. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي في " الشمائل " والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كما أطرت النصارى ابن مريم ". 806 - " باب نزول عيسى بن مريم عليهما السلام " 932 - معنى الحديث: يحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، حيث ينزل كما رواه مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، واضعاً كفيه على أجنحة ملَكين، إذا طأطأ رأسه   (1) التفسير المنير ج 1 للشيخ محمد نووي الجاوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ" وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " أي كيف حالكم إذا نزل فيكم عيسى بن مريم في آخر الزمان، وأنتم تصلون، وإمامكم في الصلاة هو أميركم -المهدي- فيصلي عيسى خلف إمامكم، ويكون تابعاً لملتكم، حاكماً بشريعتكم، وفي حديث جابر: " فيقال لعيسى تقدم يا روح الله، فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم " أخرجه أحمد، وفي رواية مسلم: " فيقال له -أي لعيسى- صل لنا! فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة لهذه الأمة " وقال الهروي: معنى قوله: " وإمامكم منكم " يعني أنه يحكم بالقرآن لا بالإِنجيل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ثبوت نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم " وكما يدل عليه قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا)، وهي قراءة الجمهور، وقرأ ابن عباس، وقتادة، وابن محيصن وغيرهم (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ) بفتح العين واللام بمعنى العلامة، أي إن نزول عيسى من الأشراط القريبة للساعة، والعلامات الكبرى لها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليوشكن أن ينزل ابن مريم حكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية " أخرجه الشيخان فلا يقبل إلاّ الإِسلام وتظهر فيه الكنوز، وترتفع الشحناء (1) والبغضاء من النفوس، ويعم الأمن والسلام حتى يرعى الذئب مع الشاة فلا يضرها وتمتلىء الأرض سلماً، ويرتفع القتال منها، وتكثر الخيرات، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم وكذا الرمانة. أما مكان نزوله ووقته، فقد اختلفت الروايات فيه، وهي بمجموعها تفيد بأنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وهي موجودة اليوم، واضعاً كفيه على   (1) " الإشاعة لأشراط الساعة " للسيد محمد بن عبد الرسول الحسيني البرزنجي المدني .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 أجنحة ملكين. ثانياً: أن عيسى عليه السلام يقتدي بإمام المسلمين وهو (1) المهدي ويصلّي خلفه في بيت المقدس صلاة الصبح، ويحكم بالقرآن وشريعة الإِسلام ويكون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. قال في " الإِشاعة ": يكون عيسى مقرّراً للشريعة النبوية لا رسولاً إلى هذه الأمّة، فهو من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابي، لأنه اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء، وحينئذ فهو أفضل الصحابة أما مدة بقاء عيسى في الأرض، ووفاته، فقد جاء في حديث أبي هريرة أنه يمكث في الناس أربعين سنة، وفي رواية الطبراني: " يخرج الدجال فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة إماماً عادلاً، وحكماً مقسطاً " وفي رواية عن أبي هريرة مرفوعاً: " وينزل الروحاء فيحج منها، أو يعتمر أو يجمعهما " والروحاء مكان بين المدينة ووادي الصفراء في طريق مكة، وأخرج البخاري في " تاريخه " والطبراني وابن عساكر عنه، قال: يدفن عيسى ابن مريم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه فيكون قبره رابعاً. والله أعلم. مطابقة الحديت للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم " حيث دل ذلك على نزول عيسى، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. تتمة وتكملة: استدل بهذا الحديث بعض أهل العلم على ثبوت ظهور المهدي، وأنه خليفة المسلمين عند نزول عيسى، حيث إن المراد بقوله: " وإمامكم منكم " كما في " فيض الباري " (2): الإِمام المهدي، لما جاء في حديث ابن ماجة أنهم قالوا: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل وجُلُّهم ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم فصلى بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى بن مريم، فرجع ذلك الإِمام يمشي   (1) قال الحافظ في " الفتح ": وقال أبو الحسن السجستاني الآبري " في مناقب الشافعي ": تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة، وأن عيسى يصلّي خلفه، ذكر ذلك في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن أنس، وفيه " لا مهدي إلا عيسى ". (2) " فيض الباري " للشيخ محمد أنور الكشميري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 807 - " بَاب مَا ذكِرَ عنْ بَنِي إسْرَائِيلَ " 933 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ الله عَنْه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: بَلِّغوا عَنِّي ولَوْ آيةً، وحَدِّثوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ولَا حَرَجَ، ومَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَة مِنَ النَّارِ ".   القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس" قال: فهذا صريح في أن مصداق ما في الأحاديث هو الإمام المهدي. 807 - " باب ما ذكر عن بني إسرائيل " 933 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " بلغوا عنّي ولو آية " وهذا أمر صريح لكل من وصل إلى مسامعه شيء من حديث رسول الله أن يبلغه، وينقله لغيره، سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولو آية واحدة من القرآن، لأن تلك الآية مع قلة ألفاظها قد تحمل من المعاني والأحكام ما يستفيد منه العلماء الشيء الكثير. وإنما قال: " ولو آية " ولم يقل ولو حديثاً، لأنه إذا كانت الآية القرآنية التي تكفّل الله بحفظها واجبة التبليغ، فتبليغ الحديث من باب أولى كما نقله العيني عن البيضاوى (1) ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إِلى المدينة نهى أصحابه في أوّل الأمر أن ينظروا في كتبهم أو يتحدثوا بأحاديثهم خشية أن يكون في بعض هذه الأحاديث من الأخبار الكاذبة التي قد يضل بها قارئها، ويفتتن بها سامعها، وهم لا زالوا حديثي عهد بهذا الدين، فمنعهم عن ذلك وقاية لهم، وحرصاً على سلامة عقيدتهم، فلما تمكن الإِسلام من النفوس، ورسخت العقائد، وأصبح لديهم من العلم الإسلامي ما يميزون به الصحيح منها، أذن لهم في سماعها والتحدث   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 بها فقال: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " وهو أمر ترخيص لهم بسماع الأحاديث الإِسرائيلية وروايتها، وليس هو أمر وجوب، لأن الأمر إذا جاء بعد النهي اقتضى الإِباحة، ولهذا قال: " ولا حرج " قال الحافظ: أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار. قال (1): وقيل: لا حرج في أن لا تتحدثوا عنهم، لأن قوله أولاً حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وأن الأمر فيه للإِباحة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب تبليغ كلِّ ما تَحَمَّله العالم من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قدر ما عنده، كثيراً كان أو قليلاً، ولو آية واحدة، أو حديثاً واحداً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بلغوا عني ولو آية ". ثانياً: أنه لا مانع من رواية الأخبار، وأخذها عن بني إسرائيل من اليهود والنصارى، للموعظة والاعتبار. فيما لم نتأكد من أنه كذب وباطل لمخالفته للقرآن أو الحديث، أما الإِسرائيليات التي نقطع بكذبها فإنه لا يجوز لنا روايتها إلاّ لتكذيبها وبيان بطلانها، قال الشافعي: من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه وهو نظير قوله: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ". والحاصل أن الأخبار الإِسرائيلية ثلاثة أنواع: الأول: ما وافق القرآن والسنة موافقة صريحة، فهذا مما ينبغي روايته وتبليغه لأنه حق وصدق لا شك فيه. الثاني: ما لم يرد في ذلك في الكتاب أو السنة ولا يعارضهما، فهذا يحتمل الصدق والكذب كسائر الأخبار العادية، ويجوز روايته للموعظة والاعتبار، شريطة أن لا يؤخذ على أنه قضية مسلمة، أو يستدل به على حكم شرعي، أو يقدَّم على حقيقة من الحقائق العلمية الثابتة. الثالث: ما عارض الكتاب أو السنة، فهو كذب محض، لا تجوز روايته إلاّ لتفنيده وتكذيبه، وذلك لما فيه من تكذيب لله ورسوله. مطابقة   (1) " فتح الباري " ج 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 934 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضي اللهُ عَنْهُ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ ".   الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. 934 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون " شعر رؤوسهم ولحاهم، يل يتركون الشيب فيها على حاله، " فخالفوهم " بصبغ شعوركم، وخضب اللحية والرأس. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - فخالفوهم كما قال الحافظ يقتضي مشروعية الصبغ، والمراد به صبغ اللحية والرأس، ولا يعارضه ما ورد من النهي عن إزالة الشيب، لأن الصبغ لا يقتضي الإِزالة، واختلفوا في حكم خضاب الشعر، فذهب مالك إلى أنه جائز، وليس مستحباً، حيث قال في " الموطأ " وترك الصبغ كله واسع، وليس على الناس فيه ضيق، وذهب آخرون إلى سنيته لحديث الباب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بمخالفة اليهود والنصارى، وذلك بصبغ الشعر الذي لا يصبغونه، وأقل مقتضيات الأمر السنية. والاستحباب، وقد تعددت الأحاديث في الأمر بالخضاب وتغيير الشيب، ففي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود " أخرجه أحمد والنسائي والترمذي. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " غيروا الشيب ولا تقربوا السواد " أخرجه أحمد وجاء في مسلم بلفظ " واجتنبوا " بدل " ولا تقربوا " فهذه الأحاديث تؤكد أن خضاب الشعر سنة، أضف إلى ذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خضب شعره كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 قال ابن القيم: فإن قيل: قد ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: لم يخضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل: أجاب أحمد بن حنبل عن هذا وقال: قد شهد غير أنس رضي الله عنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خضب، وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد. اهـ. ثانياًً: أن الأمر بخضاب الشعر في حديث الباب عام في جميع الألوان لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بمخالفة اليهود والنصارى، بتغيير الشيب وخضاب الشعر مطلقاً دون تقييد بلون مخصوص أو استثناء لون معين، لكن جاء في حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد " أخرجه مسلم، ولهذا ذهب قوم إلى تحريم الخضاب بالسواد، واختاره النووي، وذهب أحمد والشافعي في المشهور عنهما إلى أنه يكره الصبغ بالسواد، وأجازه مالك وغيره من أهل العلم، إلاّ أنه يرى أن الخضاب بالسواد خلاف الأولى كما في " الموطأ " قال يحيى، سمعت مالكاً يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أجمع في ذلك شيئاً معلوماً، وغير ذلك من الصبغ أحب إليَّ، بمعنى أن الصبغ بالسواد خلاف الأولى فقط، وليس بمحرم، ولها قال في " المحلى ": يكره عند مالك صبغ الشعر بالسواد من غير تحريم. اهـ. وفي السواد عن أحمد كالشافعية روايتان، المشهورة يكره، وقيل: يحرم (1) وقد أجاز الخضاب بالسواد جماعة من أهل العلم وكثير من السلف من الصحابة والتابعين. قال ابن القيم في " زاد المعاد ": صح عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يخضبان بالسواد، ذكر ذلك ابن جرير عنهما في كتاب " تهذيب الآثار " وذكره عن عثمان بن عفان، وعبد الله ابن جعفر، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبد الله وعمرو بن العاص، رضي الله عنهم أجمعين، وحكاه عن جماعة من التابعين، منهم عمرو بن عثمان، وعلي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم أجمعين، وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دينار، وأبي يوسف رضي الله عنهم   (1) " أوجز المسالك شرح موطأ مالك " للشيخ زكريا الأنصاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 808 - " حَدِيثُ أبْرَصَ وأقْرعَ وأعمَى في بنِي إِسْرَائِيلَ " 935 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ ثَلَاَثةً فِي بني إسْرَائِيلَ أبرَصَ وأقْرَعَ وَأعْمَى، بَدَا للهِ أنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فبعث إلَيْهِمْ مَلَكاً، فأتَى الأبرَصَ فَقالَ:   أجمعين. اهـ. وذهب مالك إلى أن الخضاب بغير السواد أولى وأفضل فقد روى أشهب عن مالك أنه قال: ما علمت أن فيه النهي، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي " (1) أي إنما قال مالك: وغير ذلك من الصبغ أحب إلي، لأن الصبغ بالسواد لم يستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - فغيره أولى. كما أفاده الباجي. ثالثاً: قال شيخ الإِسلام (2) ابن تيمية: أمر - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن مخالفتهم أمرٌ مقصود للشارع، لأنه إذا كان الأمر " في الحديث " بجنس المخالفة حصل القصد، وإن كان الأمر بها في تغيير الشيء فهو لأجل ما فيه من المخالفة. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " حيث ذكر اليهود والنصارى، وهم من بني إسرائيل. 808 - " حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل " 935 - معنى الحديث: أن ثلاثة من بني إسرائيل، وقعت لهم قصة عجيبة قصَّها علينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق، لما فيها من الموعظة والاعتبار التي نستفيد منها في حياتنا، كان كل واحد من هؤلاء الثلاثة مصاباً بعاهة في جسده، فأراد الله أن يمن عليهم بالسلامة من عاهاتهم، وبالغنى بعد فقرهم ابتلاءً لهم، ليجازي من شكر النعمة بزيادتها، ومن كفرها بزوالها، فأما   (1) وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وجنبوه السواد " فقد أجاب عنه ابن القيم في " زاد المعاد " بأن الخضاب بالسواد المنهي عنه هو خضاب التدليس، وأجاب عنه الباجي بأن الحديث ليس بثابت لأنه رواه ليث بن أبي سليم. اهـ. (2) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 أيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْن حَسَن، وَجِلْدٌ حَسَن، قَدْ قَذَرَني النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأعْطِيَ لَوْناً حَسَناً، وجِلْداً حَسَناً، فقالَ: أيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشراءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وأتى الأقْرَعَ، فَقَالَ: أي شَىءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ، فَقَالَ:   الأوّل فهو رجل أبرص بعث الله إليه الملك في صورة إنسان: فقال له: " أي شيء أحب إليك؟ " وسأله عن أمنيته المفضلة " قال: لون حسن وجلد حسن " أي تمنى أن يعود إلى جسمه لونه الصافي الجميل وبشرته النقية السليمة " قد قذرني الناس " قال الحافظ: قذرني بفتح القاف والذال أي اشمئزوا مني " قال: فمسحه فذهب عنه " أي فمسحه الملك بيده فزال عنه داء البرص، وأصبح نقي اللون والبشرة، فسأله عن أحب المال إليه، فقال: الإبل، " فأعطي ناقة عشراء " بضم العين وفتح الشين وهي الحامل التي أَتى عليها في حملها عشرة أشهر. " وأما الثاني " فهو رجل أقرع، أتاه الملك في صورة إنسان من البشر فسأله كما سأل صاحبه الأول عن أمنيته في الحياة، فقال إنه يتمنى أن يعود إليه شعر رأسه، لأن الناس اشمأزوا منه، ومن منظر رأسه البشع، وصورته القبيحة، وهو معنى قوله: " وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا " أي القرع " قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب وأعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطي بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها " بضم أوله على البناء للمجهول، وفي رواية بارك الله لك فيها. " وأما الرجل الثالث " فهو رجل أعمى، أتاه الملك على صورة البشر، فسأله عن أمنيته في الحياة، فقال: أن يعود إلي بصري، فإنه لا شيء أحب إلي من أن أبصر النور وأرى الأشياء حولي، فأعاد إليه الملك بإذن الله بصره، وسأله عن أحب المال عنده فقال: الغنم، فأعطاه ما يحب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 شَعْر حَسَن، ويَذْهَبُ عني هَذَا، قدْ قَذَرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ، وأعْطِيَ شَعْراً حَسَنَاً، قَالَ: فأيُّ المَالِ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فأعْطَاهُ بَقَرةً حَامِلاً، وَقَالَ يُبَارَكْ لَكَ فِيهَا، وأتى الأعْمَى، فَقَال: أيُّ شَيْءٍ أحبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فأبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأيُّ المَالِ أحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الغَنَمُ، فأعْطَاهُ شَاةً وَالداً، فأنتجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فكان لهَذَا وَادٍ مِنْ إبلٍ، وَلِهَذا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ الْغَنَمِ، ثم إنَّهُ أتَى الأبرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلْ مِسْكِين تَقَطَّعَتْ بي الْحِبالُ في سَفَرِي فلا بَلاغَ اليَوْمَ إلَّا باللهِ ثم بِكَ، أسْالكَ بالَّذِي أعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَن، والْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيراً أتبَلَّغُ عَلَيْهِ في سَفَرِي، فَقَالَ لهُ،   وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال فأي المال أحب إليك، قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً " قال الحافظ: أي ذات ولد، ويقال حامل. وقد بارك الله تعالى لهؤلاء الثلاثة فيما أعطاهم، " فأنتج هذان " أي صاحب الإِبل والبقر " وولّد هذا " أي صاحب الغنم، وهو بتشديد اللام. ثم إن الله تعالى قدر على هؤلاء أن يختبرهم وإن كان عز وجل عالماً بحقيقة حالهم، لا يخفي عليه شكرهم وكفرهم ولكن إنما ابتلاهم بذلك. ليظهر لخلقه أحوالهم ويجازيهم بحسب أعمالهم، فيكونوا عبرة لغيرهم وهو معنى قوله: " ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطعت بي الحبال " أي ابتلاني الله بهذا الداء العضال ويئست من الشفاء ولم يبق لي أمل في العافية حيث تقطعت بي حبال الآمال، وسدت أمامي أبواب المعيشة وأسباب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 إنَّ الْحُقُوقَ كَثيرة، فَقَالَ لَهُ: كَأنِّي أعْرِفُكَ، ألَمْ تَكُنْ أبْرَصَ، يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيراً فَأعْطَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: لقدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً، فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى مَا كُنْتَ، وأتى الأقْرَعَ في صورَتِهِ وهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَه مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى ما كُنْتَ، وأتى الأعْمَى في صورَتِهِ فَقَالَ: رَجل مِسْكِينٌ وابْنُ سَبِيل، وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ الْيَوْمَ إلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أسْألكَ بالذي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شاةً أتبَلَّغ بِهَا في سَفَرِي، فَقَال: قَدْ كنْت أعمَى، فَرَدَّ اللهُ بَصَرِي، وفَقِيراً فقد أغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لا أجْهِدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْء أخَذْتَه لله، فَقَالَ: أمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتلِيْتمْ، فَقَد رَضِيَ الله عَنْكَ، وَسَخِطَ على صَاحِبَيْكَ ".   الرزق، وأصبحت فقيراً بائساً مسكيناً " فلا بلاغ اليوم إلاّ بالله ثم بك " أي فلا أحد يوصلني إلى تفرج كربتي إلاّ الله، ثم أنت " أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، والمال بعيراً أتبلغ به " أي يوصلني إلى بلدي " فقال له: إن الحقوق كثيرة " أي إن النفقات التي تلزمني كثيرة، وهي أولى منك، " فقال له: إني أعرفك: ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله " أي فأعطاك الله الصحة والمال. " فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر " وفي رواية كابراً عن كابر، أي ورثت هذا الغنى والعز والشرف أباً عن جد " فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت " أي إلى ما كنت عليه من داء البرص والفقر " وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قاله لهذا " أي للأبرص، " فرد عليه مثل ما رد عليه هذا " أي الأبرص " فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت " عليه من الفقر وسوء الحال، والقرع وسوء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 المنظر. " وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين إلخ " يعني فقال له الملك. مثل ما قال لصاحبه، ولكن الأعمى لم يكن مثل صاحبيه كافراً النعمة، " فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء " أي لا أشق عليك برد شيء تطلبه مني " فقال له: أمسك مال فإنما ابتليتم " أي امتحنتم " فقد رضي عنك " لأنك شكرت نعمة الله وأديت حقها عليك " وسخط على صاحبيك " لأنهما كفرا بنعمة الله. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من كفران النعم، لأنه يؤدي إلى زوالها، والترغيب في شكرها، لأنه يؤدي إلى دوامها وزيادتها، فالحديث مصداق قوله تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ). ثانياً: أن شكر النعمة واجب، وكفرها معصية، ولولا ذلك لما غضب على الأبرص والأقرع وعاقبهما في الدنيا قبل الآخرة. ثالثاً: أنه لا مانع من تذكير الإِنسان بحالته السيئة التي كان عليها إذا كان ذلك لنصحه ودعوته لشكر الله تعالى، أما إذا كان ذلك لتعييره بماضيه أو التشهير به فإنه لا لا يجوز شرعاً. رابعاً: الحث على الصدقة، والرفق بالضعفاء، ومد يد المعونة لهم. خامساً: أن على الإِنسان أن يذكر إذا صار في نعمة ما كان عليه سابقاً من فقر أو مرض أو عاهة، لأن ذلك يدفعه لمزيد الشكر والامتنان. سادساً: الزجر عن البخل، والتحذير من عواقبه السيئة، لأنه رأس كل رذيلة. سابعاً: أن هذه قصة من قصص بني إسرائيل العجيبة التي فيها الكثير من المواعظ والعبر، ولهذا حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكي ننتفع بها في حياتنا وسلوكنا. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن ثلاثة من بني إسرائيل ". *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 936 - عن أبي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " كَانَ فِي بني إسْرَائِيلَ رَجُل قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَاناً، ثُمَّ خَرَجَ يَسْألُ، فَأتَى رَاهِباً، فسألَهُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَل يَسْأل، فَقَالَ لَهُ رَجُل: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فأدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلَاِئكَةُ الْعَذَابِ، فأوْحَى اللهُ إلى هَذِهِ أنْ تَقَرَّبِي وأوْحَى إلى هَذِهِ أنْ تَبَاعَدِي، وقالَ: قِيسُوا ما بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إلى هَذِهِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ ".   936 - معنى الحديث: أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً ظلماً وعدواناً فسأل عن أعلم أهل الأرض كما في رواية مسلم ليستفتيه في قضيته، فدُل على راهب - أي على عابد من عُبّاد النصارى، فجاء إليه واستفتاه، هل تقبل توبته إذا تاب؟ فقال له: لا توبة لك بعد أن قتلت تسعة وتسعين نفساً، فقتل ذلك الراهب، وأكمل به المائة، ثم صار يسأل عن عالم آخر، فدلوه على رجل من أهل العلمٍ غير الأول، حتى وجده، فقال له ذلك الرجل (1) ائت قرية كذا فإنّ بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فذهب من عنده حتى إذا انتصف الطريق أدركه الموت، فمال بصدره بجهد ومشقة إلى جهة القرية الصالحة، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأوحى الله إلى القرية الصالحة، وهي قرية " نصرة " أن تقترب منه، وأوحى إلى القرية التي خرج منها أن تبتعد، وأمرهم أن يقيسوا المسافة بين القريتين فوجدوه أقرب إلى   (1) وفي رواية فقال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إِلى أرض كذا الخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 937 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَاراً لَهْ، فوجَدَ الرَّجُلُ الذي اشْتَرَى الْعَقَارَ في عَقَارِهِ جرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الذي اشْتَرى   القرية الصالحة بشبر، فغفر له. والمطابقة: في قوله: " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التوبة تكفّر الكبائر كلها مهما بلغت، بما في ذلك القتل، لأن الله تعالى قبل توبة هذا الرجل الذي قتل مائة نفس، ولا يقال: إن القتل من حقوق الآدميين التي لا تقبل فيها التوبة إلا باستحلال أصحاب الحقوق ومسامحتهم وإرضائهم، لأن الله إذا قبل توبة العبد أرضي عنه خصمه كما أفاده القسطلاني (1). ثانياً: قال الحافظ: في هذا الحديث فضل العالم على العابد، لأن الذي أفتاه أولاً بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل من جرأته على قتل هذا العدد الكثير، وأما الثاني: فغلب عليه العلم فأفتاه بالصواب (2). اهـ. وهذا يدل على قيمة العلم، وأن العالم مقدم على العابد. ثالثاً: أنه ينبغي لمن تاب من ذنب ولا سيما إذا كان من الكبائر أن يعقبه بالإكثار من العبادات والأعمال الصالحة، ومعاشرة الصالحين، ولهذا أفتاه هذا العالم الواعي أن يذهب إلى تلك القرية الصالحة، ليعايش الصالحين من أهلها، فيقتدي بهم في عبادتهم، فإنّ الحسنة تكفر السيئة، فإذا أضيفت الحسنات إلى التوبة الصادقة كانت خيراً على خير، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. 937 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشترى رجل من رجل   (1) " إرشاد السارى شرح صحيح البخاري " للقسطلاني. (2) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر العسقلاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إنما اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ، ولم أبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وقَالَ الَّذِي لَه الأرْضَ: إنَّمَا بِعْتُكَ الأرْضَ وما فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إلى رَجُل، فَقَالَ الَّذِي تحاكَمَا إلَيْهِ: ألَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أحَدُهُمَا: لِيَ غُلامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِيَ جَارِيَةٌ، قَالَ: أنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وأنفِقُوا على أنفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا".   عقاراً" أي أرضاً أو داراً " فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب " أي فوجد المشترى جرة في داخلها نقود وحلي وسبائك ذهبية " فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض " أي فذهب المشتري إلى البائع، ودفع الجرة إليه قائلاً خذ ذهبك. فإنني لا حق لي فيه، لأنني إنما اشتريت الأرض فقط، ولم أشتر منك هذا الذهب الذي وجدته فيها، فهو حقك " وقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها " فكلُّ ما وجدته فيها من ذهب أو غيره فهو ملكك، ورزق ساقه الله إليك " فتحاكما إلى رجل " وهل هذا الرجل هو الحاكم الشرعي نفسه، أو رجل آخر، في هذا خلاف بين العلماء " فقال " لهما: " ألكما ولد، قال أحدهما: " وهو المشتري " لي غلام، وقال الآخر " وهو البائع " لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية " أي زوجوا ولد المشتري على بنت البائع " وأنفقوا على أنفسهما منه " أي وأنفقوا عليهما من هذا الكنز " وتصدقا منه " أي وتصدقا ببعضه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: صلاح هذين الرجلين وورعهما وعفتهما وزهدهما في هذا الكنز النفيس الذي يتمثل في تدافعهما له، ومحاولة كل منهما التخلص منه، فهما نوع نادر من البشر. ثانياًً: قال الحافظ في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فتحاكما إلى رجل " ظاهره أنهما حكَّماه أي حكما رجلاً غير الحاكم الشرعي المنصوب من قبل ولي الأمر وعلى ذلك، فإن هذا الحديث يصلح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 حجة على أنه يجوز للمتداعيين أن يحكّما غير الحاكم الشرعي، وبهذا قال مالك والشافعي بشرط أن يكون أهلاً للحكم، وأن يحكم بينهما بالحق، سواء وافق رأي القاضي أم لا، واستثنى الشافعي الحدود، واشترط أبو حنيفة أن لا يخالف قاضي البلد، إلاّ أن الروايات الأخرى دلت على أنّهما حكَّما الحاكم الشرعي الذي هو داود عليه السلام، أو قاضياً من قضاة ذي القرنين، وعلى هذا فليس في الحديث حجة على تحكيم غير الحاكم. ويرى القرطبي رحمه الله أن ما أجراه هذا الرجل بينهما ليس حكماً عليهما، وإنما هو إصلاح بينهما. قال الحافظ: وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحدٍ منهما، وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع، فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما. الحديث: أخرجه الشيخان والمطابقة: في قوله: في كون هذه القصة من أخبار بني إسرائيل. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " بَابُ الْمَنَاقِبِ " 809 - " بَابُ قَوْلِ الله تعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ... ) " 938 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذا فَقُهُوا، وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاس في هَذَا   " باب المناقب " ومعظم النسخ في البخاري بلفظ " باب المناقب " "والمناقب " جمع منقبة، بمعنى الشرف والفضيلة، وفي " القاموس ": المنقبة المفخرة، والمناقب المكارم، واحدها منقبة، كأنها تنقب الصخر لقوتها، وتثقب قلب الحسود لشدة وقعها عليه. 809 - " باب قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ... ) " 938 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه الناس في أنسابهم وأصولهم بالمعادن المختلفة المتفاوتة في قيمتها وجوهرها. قال الحافظ: وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه. ولا تتغير صفته، فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، بل من كان شريفاً في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمر شرفه، وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية. وهو قوله: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا " أي فمن جمع بين النسب والحسب والإِسلام والفقه في الدين فهو أعلى المراتب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 الشَّأنِ أشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، وتَجِدُونَ شَرَّ النَّاس ذَا الْوَجْهَيْنِ، الذي يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ، ويَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ".   وأفضلها في نظر الإِسلام. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية " ومعناه أن أصلح الناس وأكفأهم لولاية الأمور من إمارة أو قضاء أو شرطة أو حسبة، أو غيرها أزهدهم فيها، وأشدهم كراهية لها، لأن شدة كراهيته للولاية تدل على شدة ورعه، وقوة شعوره بالمسؤولية " وتجدون شر الناس ذا الوجهين " أي أبغضهم إلى الله تعالى وأكثرهم ضرراً للمسلمين، وخطراً عليهم " المنافق " سواء كان منافقاً في العقيدة يظهر الإسلام ويبطن الكفر، أو منافقاً في سلوكه وأعماله يظهر المودة ويبطن الحقد والعداوة، كما قال تعالى في وصف هؤلاء المنافقين: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل النسب إذا اقترن بالدين والصلاح والعلم في دين الله والفقه في شريعته، وهذا هو أعلى المقامات وأسماها بعد مقام النبوة والصحبة، فإن الناس في نظر الإِسلام تختلف مراتبهم ومقاماتهم (1) على حسب الترتيب الآتي. المرتبة الأولى: من جمع بين النسب والدين والصلاح والفقه في الشريعة، وهذا هو أعلى المقامات. المرتبة الثانية: من جمع بين الدين والصلاح والفقه وكان خامل النسب. المرتبة الثالثة: من جمع بين النسب والدين والصلاح ولم يكن فقيهاً. المرتبة الرابعة: من جمع بين الدين والصلاح، ولم يكن شريفاً ولا فقيهاً. المرتبة الخامسة: من جمع بين الإِسلام والنسب ولم يكن صالحاً ولا فقيهاً. المرتبة السادسة: من كان مسلماً فقط، ولا توجد فيه أي مزية من المزايا وهذا هو أدنى الدرجات. ثانياً: اعتبار الكفاءة   (1) لأنه دل على أن الناس يتفاضلون بحسب مناقبهم وفضائلهم الدينية والاجتماعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 810 - " بَابُ مَنَاقِبِ قُريش " 939 - عن مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وقد بَلَغَهُ أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ   في النسب بالنسبة إلى الزواج. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " قال في " زهر الأدب في مفاخر العرب ": الكفاءة عندنا معاشر الحنابلة معتبرة، وكذا عند الشافعية، وفي إحدى الروايتين عن مالك، ثم قال: ومن الجهل أن يعتقد أحد عدم التفاضل، والتفاضل واقع في أنواع الموجودات، فضل الله السماء السابعة على سائر الموجودات، ومكة على باقي البلاد، وجبريل وميكائيل وإسرافيل على غيرهم من الملائكة. وروى الدارقطني عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء " وفي حديث رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم " ثم قال: وقوله: " ليس لعربي فضل على عجمي " " والمؤمنون تتكافأ دماؤهم " إنما المعنى في هذا كما قال ابن قتيبة أن الناس من المؤمنين كلهم سواء في الأحكام والمنزلة والكفاءة إنما هي في الدين والخلق. ثالثاً: أن أصلح الناس للولاية أزهدهم فيها، لما يدل عليه ذلك من شدة أمانته وتقديره للمسؤولية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية (1) خيارهم في الإسلام. 810 - " باب مناقب قريش " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما جاء في فضل قريش ومفاخرهم. وقريش: هي القبيلة العربية الأصيلة المشهورة، التي أنجبت سيد المرسلين وخاتم   (1) والراجح أن الكفاءة إنما هي في الدين والخلق. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 أنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ فَأثْنَى على اللهِ بما هُوَ أهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أمَا بَعْدُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أن رِجَالاً مِنْكُمْ يَتَحَدَّثُونَ أحَادِيثَ لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ، ولا تُؤْثر عَنْ رَْسُولِ اللهِ، فَأولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ والأمَانِيَّ التي تُضِل أهْلَهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الأمْرَ في قُرَيْش لا يُعَادِيْهِمْ أحَدٌ إلَّا أكبَّهُ اللهُ علَى وَجْهِهِ مَا أقَامُوا الدِّيْنَ".   النبيين، والتحقيق أنها تبدأ من فهر بن مالك بن النضر، فمنه كما قال ابن قتيبة تفرقت قبائل قريش، وتفرعت فروعها وهذا هو الأظهر لأن فهر هو الجد المباشر لقريش الذي تفرعت عنه قبائلها كما قال ابن سعد في " الطبقات " " وما كان فوق فهر فليس بقرشي بل هو كناني. ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في " مختصر سيرة الرسول (1) - صلى الله عليه وسلم - ": وفهر هذا: هو أبو قريش كلها، فكل من كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس قرشياً، ثم " قال ": وقد قيل: إن النضر بن كنانة هو قريش، والصحيح أنه فهر بن مالك. 939 - معنى الحديث: أن معاوية رضي الله عنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يحدث الناس عن ظهور ملك قحطاني تدين له العرب، ويخضع له المسلمون، ويلتفون حوله، فأنكر ذلك الخبر أشد الإنكار، وقال: " فإنه بلغنى أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تؤثر عن رسول الله " أي أن هذه الأخبار التي يتحدث بها عبد الله بن عمرو. عن ظهور ملك قحطاني ليست صحيحة، لأنّها لا تستند إلى كتاب الله، ولا يرويها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هي مجرد خبر إسرائيلي   (1) " مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 - سمعه من اليهود، أو قرأه في التوراة. " فإياكم والأماني التي تضل صاحبها " أي فاحذروا أن تستمعوا إلى هذه الأخبار الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة. ولكن ما تحدث به عبد الله ليس مجرد خبر إسرائيلي، وإنما هو خبر صحيح يستند إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " أخرجه الشيخان. قال الحافظ: هو كناية عن المُلْكِ شبهه بالراعي. قال أرطاة بن المنذر أحد التابعين من أهل الشام: إن القحطاني يخرج بعد المهدي ويسير على سيرته، ثم قال معاوية: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذا الأمر " أي إن الخلافة " في قريش " فهم أحق الناس بها، " لا يعاديهم أحد إلاّ أكبه الله " أي لا ينازعهم فيها أحدٌ إلاّ ألقاه الله على وجهه في النار، " ما أقاموا الدين " أي مدة إقامتهم للدين، وتمسكهم بسنة سيد المرسلين. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الخلافة حق شرعي لقريش مدة إقامتهم لدين الله، فإذا انحرفوا عن العدل والصواب، وحادوا عن منهج السنة والكتاب، زالت الخلافة من أيديهم، وانتقلت إلى غيرهم فلا وجه لإنكار معاوية لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، لأنه لا يتعارض مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإن هذا الأمر في قريش " لأنه مشروط بإقامة الدين. قال الحافظ: وقد وجد ذلك، فإن الخلافة لم تزل في قريش والناس في طاعتهم إلى أن استخفوا بأمر الدين، فضعف أمرهم إلى أن لم يبق لهم من الخلافة سوى اسمها المجرد في بعض الأقطار، وفي تاريخ بني العباس أقوى شاهد على ذلك حتى قال بعض خلفائهم: أليْسَ مِنَ العَجَائِبِ أن مِثْلِي ... يَرى مَا قَلّ مُمْتَنِعاً عَلَيْهِ وتُؤخَذُ بِاسْمِهِ الدُّنْيا جَمِيعاً ... وَمَا مِنْ ذاكَ شيء في يَدَيْهِ وغزاهم التتار فقضوا على الخلافة في بغداد. وفتكوا بالبلاد والعباد. ثانياًً: أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 811 - " بَابُ قِصَّةِ إسْلامِ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " 940 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُنْتُ رَجُلاً من غِفَارٍ، فَبَلَغَنَا أنَّ رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيُّ، فَقُلْتُ لأخِي: انْطَلِقْ إِلى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ، وائْتِني بِخَبَرِهِ، فانْطَلَقَ فلَقِيَه، ثُمَّ رَجَعَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدَكَ؟ فَقَالَ: واللهِ لَقَدْ رَأيْتُ رَجُلاً يَأمُرُنَا بالْخَيْرِ، وَيَنْهَى عَن الشَّرِّ، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تُشْفِنِي مِنَ الْخَبَرِ، فأخَذْتُ جرَاباً وعصى، ثم أقْبَلْتُ إلى مَكَّةَ، فَجَعَلْتُ لا أعْرِفُهُ، وأكْرَه أنْ أَسْأل عَنْهُ، وأشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وأكونُ في   في هذا الحديث منقبة عظيمة لقريش، وهي استحقاقهم للخلافة ما أقاموا الدين، واتبعوا سنة سيد المرسلين. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " إن هذا الأمر في قريش " فإنه منقبة عظيمة لهم. 811 - " باب قصة إسلام أبي ذر " 940 - معنى الحديث: يروي لنا ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وهو يتحدث عن قصة إسلامه، فيذكر لنا أنه لما ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - انتشرت أخباره في قبائل العرب، حتى وصلت إلى قبيلة غفار التي ينتسب إليها أبو ذر، فلما سمع بخروجه - صلى الله عليه وسلم - أرسل أخاه إلى مكة، ليأتيه بخبره، فلما رجع قال له: ما عندك؟ أي ما الذي عرفته من أخبار محمد وحقيقة دينه، فأقسم بالله أنه رأى رجلاً يأمر بكل خير وينهى عن كل شر، وفي رواية: " رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامٍ ما هو بالشعر " قال: " فقلت له: لم تشفني " أي لم تأتني بالجواب الكافي الشافي. قال: " ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه " أي فجعلتُ نفسي كأني لم آت مكة للتعرف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ، فَقَالَ: كأنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلَقَ إلى الْمَنْزِلِ، قَالَ: فانْطَلَقْتُ مَعَهُ، لا يَسْألنِي عَنْ شَيْءٍ ولا أخْبِرُهُ، فَلَمَّا أصْبَحْتُ، غَدَوْتُ إلى الْمَسْجِدِ، لأسْألَ عَنْهُ، ولَيْسَ أحَدٌ يُخْبِرُنِي عَنْهُ بِشَيْءٍ، قَالَ: فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ، فقالَ: أمَا نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ، قَالَ قُلْتُ: لا، قالَ: فانْطَلَقَ مَعِي، قَالَ فَقَالَ: ما أمْرُكَ؟ وما أقْدَمَكَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ، إِنْ كَتَمْتَ عَلَيَّ أخبَرْتُكَ، قَالَ: فَإنِّي أَفعَلُ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلَغَنَا أنَّهُ قَدْ خَرَجَ هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ، فَأرْسَلْتُ أخِي لِيُكَلِّمَهُ، فَرَجِعَ ولَمْ يُشْفِنِي مِنَ الْخَبَرِ، فأرَدْتُ أن ألْقَاهُ، فَقَالَ لهُ، أما إِنَّكَ قَدْ رَشَدْتَ، هَذَا وَجْهِي إِلَيْهِ فاتَّبِعْنِي، ادخُلْ حيثُ أدْخُلُ، فَإِنِّي إِنْ رَأيْتُ أحَداً أخَافُهُ عَلَيْكَ قُمْتُ   على النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأكره أن أسأل عنه " أي ولا أريد أن أسأل عنه أحداً خشية أن تعلم قريش " وأشرب من ماء زمزم " أي أكتفي في طعامي وشرابي بماء زمزم، لأني لا أجد غيره كما في رواية مسلم عن عبد الله بن الصامت، أنه قال: " ما كان في طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني " " قال: فمر بي علي " بن أبي طالب صدفة " فقال: كأن الرجل غريب " أي أظنك غريباً " قلت: نعم، فذهب بي إلى المنزل لا يسألني عن شيء " على عادة العرب لا يسألون الضيف عن أمره حتى يخبرهم بنفسه " فلما أصبحت، غدوت إلى المسجد، فمر بي عليٌ " مرة أخرى " فقال: أما نال للرجل يعرف منزله " أي أما آن لك أن تعرف مسكنك الذي تريد النزول فيه، يريد إرشاده إلى ما قدم إليه وقصده " قال: قلت: لا " أي لم أصل إلى شيء حتى الآن " فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة " أي فسأله عن أمره وقصته، فأخبره أبو ذر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 إلى الْحَائِطِ كَأنَّي أُصْلِحُ نَعْلِي، وَامْض أنْتَ، فَمَضَى وَمَضَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ وَدَخَلْتُ مَعَهُ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ لَهُ: اعْرِضْ عَلَيَّ الإِسْلامَ، فَعَرَضَهُ فَأسْلَمْتُ مَكَانِي، فَقَالَ لِي: "يَا أبَا ذَر، اكْتُمْ هذَا الأمْرَ، وارْجِعْ إلى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظهُورُنَا فأقبِلْ "، فَقُلْتُ. وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فجاءَ إِلى الْمَسْجِدِ وقُرَيْش فِيهِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْش إِني أشْهَدُ أن لَا إِلَه لَّا اللهُ، وأشْهَدُ أن مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلى هَذَا الصَّابِىءِ، فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لأمُوتَ، فأدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ فأكَبَّ علَيَّ، ثمَّ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ، ومَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ على غِفَارٍ، فأقْلَعُوا عَني، فَلَمَّا أن أصْبَحْتُ   رضي الله عنه بقصته بعد أن وثق به، وهو معنى قوله: " قلت له: بلغنا أنه خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي " إلخ أي يدعى النبوة فأردت أن أتعرف على حقيقته " قال: أما إنك قد رشدت " بفتح الراء والشين أي اهتديت ووصلت إلى مقصودك " هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل " أي إني متوجه إليه، فاتبعني وسر معي حيث سرت قال: " ودخلت معه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: اعرض عليّ الإِسلام " أي بين لي أركانه وشرائعه " فعرضه فأسلمت مكاني " أي فأسلمت حالاً " فقال لي: يا أبا ذر أكتم هذا الأمر " يعني فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخفاء إسلامه خوفاً عليه من إيذاء قريش له، وحرصاً على سلامته منهم " فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم " أي لأرفعن صوتي بالشهادتين عالياً في وسطهم " فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأعلن إسلامه أمامهم " فقالوا: قوموا إلى هذا الصابىء " أي الخارج عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 الْغَدَ، رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ ما قُلْتُ بالأمْس، فَقَالُوا: قُومُوا إلَى هَذا الصَّابِىءِ، فصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بالأمْس، وأدْرَكَنِي الْعَبّاسُ فَأكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْل مَقَالَتِهِ بالأمْسِ، قالَ: فَكَانَ هَذَا أوَّلَ إِسْلامِ أبِي ذَرٍّ رحمه الله".   دينه، المفارق لملة آبائه وأجداده " فضربت لأموت " أي فضربوني ضرباً شديداً قاصدين بذلك قتلي والقضاء علي " فأدركني العباس " يعني فأنقذني منهم العباس رضي الله عنه " فأكب عليَّ " أي ألقى بنفسه عليَّ ليحول بينهم وبيني، وحذرهم من قبيلتي، فقال: " ويلكم تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم وممركم على غفار " أي كيف تقتلون هذا الرجل وهو من غفار فتعرضون قوافلكم التجارية للخطر، حيث أن تجارتكم إنما تمر عليها " فأقلعوا عني " أي تركوه " فلما أصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس " الخ. أي فعاودت مقالتي هذه في صبيحة اليوم الثاني، وعاودت قريش ضربها لي، وأدركني العباس فأنقذني منهم، كما فعل في اليوم الأوّل " قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر " أي كانت هذه قصة دخوله في الإِسلام. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قصة إسلام أبي ذر وهو الصحابي الجليل جندب بن جنادة بن السكن بن قيس، وقيل: جندب ابن جنادة بن سفيان بن عبيد، ينتهي نسبه إلى غفار، كان من السابقين إلى الإِسلام وكان طويلاً أسمر اللون نحيفاً أحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، وكان يبدأه بالحديث إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، وهو من أزهد الصحابة رضي الله عنهم قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها، وإنه والله ما منكم من أحد إلاّ وقد نشب فيها بشيء غيره " أخرجه أحمد في مسنده. ثانياًً: فضل ماء زمزم وما أودع الله فيها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 812 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ أن لا يُسَبَّ نسَبُهُ " 941 - عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَتْ: اسْتَأذَنَ حَسَّانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: " كَيفَ بِنَسَبِي "، قَالَ حَسَّانُ: لأسُلَّنَّّك مِنْهُمْ كمَا تُسَل الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِين.   الخصائص حيث جعلها الله رواءً وغذاء وشفاء، حتى أن أبا ذر رضي الله عنه عاش عليها خمسة عشر يوماً كما في رواية مسلم حيث قال: فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها خمس عشرة يوم وليلة مالي طعام ولا شراب إلاّ ماء زمزم. والمطابقة: في كون أبي ذر رضي الله عنه تحدث في هذا الحديث عن قصة إسلامه، وهو ما ترجم له البخاري والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان. 812 - " باب من أحب أن لا يسب نسَبُه " 941 - معنى الحديث: أن حسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأول استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء كفار قريش، وذكر عيوبهم ومساوئهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تسب أنسابهم ونسبي يلتقي بأنسابهم، فإذا عبتهم عبتني، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف بنسبي " قال العيني: أي كيف تهجو قريشاً مع اجتماعي معهم في النسب، عند ذلك " قال حسان: لأسُلنَّك منهم كما تُسل الشعرة من العجين " وفي رواية: " والذي أكرمك لأسلنّك منهم " أي أهجوهم هجاءً يختص بهم، ولا يلحقك منه شيء، فتخرج من هذا الهجاء سليماً نقياً كما تخرج الشعرة من العجين. وقد فعل رضي الله عنه فقال فيهم شعراً يجمع بين مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجوهم، وهو قوله: وإنَّ سَنَامَ المَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... بَنُو بِنْتِ مَخْزُوْم وَوَالِده العَبْدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 813 - " بَابُ مَا جَاءَ في أسْمَاءِ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - " 942 - عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لِي خَمْسَةُ أسْمَاءٍ، أنا مُحَمَّدٌ، وأحْمَدُ،   أي أن مجد بني هاشم انحصر كله في أبناء فاطمة المخزومية وما تفرع من نسلها. وكانت فاطمة زوجة عبد المطلب، فولدت له ثلاثاً عبد الله وأبا طالب والزبير، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من نسل عبد الله، فهو من هذا النسل المبارك. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الدين والمروءة أن يحرص الإِنسان على سمعة آبائه وأجداده، وأن يغار على نسبه ويحميه من أن يعيبه أحد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لحسان لما استأذنه في هجاء المشركين: " كيف بنسبي ". ثانياًً: فضل حسان وقدرته الشعرية العجيبة على حسن التصرف في المديح والهجاء، حيث استطاع أن ينظم شعراً جمع فيه بين مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وهجو غيره من بني هاشم مع أنه يشترك معهم في أصل واحد، وجد واحد. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف بنسبي ". الحديث: أخرجه الشيخان. 813 - " باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " 942 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لي خمسة أسماء " وليس معنى ذلك أن هذه الأسماء لم يسمَّ بها غيره، أو لم يسم بها أحد قبله، فقد سمّي بها في الجاهلية، قال الحافظ: وقد جمعت أسماء من تسمى بمحمد في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، وأشهرهم محمد بن عدي بن ربيعة. قال عياض (1): وإنما سمّى بعض العرب أبناءهم محمداً قرب ميلاده لما سمعوا من الكهان والأحبار أن نبيّاً يبعث في ذلك الزمان يسمى محمداً، فرجوا أن يكونوا، فسمّوا أبناءهم بذلك، وليس معنى ذلك أيضاً: أن أسماءه تنحصر في خمسة أسماء فقط، فإن   (1) " فتح الباري " ج 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 وأنَا الْمَاحِي الذي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وأنَا الْحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاس على قَدَمِي وأنَا الْعَاقِبُ".   له أسماء غيرها، وإنما المراد بقوله: " في خمسة أسماء " أن هذه الخمسة هي أسماؤه المشهورة في الأم الماضية المذكورة في الكتب السابقة وهي كما بينها - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " أنا محمد " وهو علم وصفة معاً كما قال ابن القيم: ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - الموصوف بالمحامد الكثيرة العظيمة، المحمود من الله عز وجل مرة بعد أخرى، لأن محمداً لغة كما قال الزرقاني: هو الذي حُمِدَ مرّةً بعد أخرى، وعن علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول: وَشَقَّ لَهُ من اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُوْ العَرْشِ مَحْمُوْدٌ وَهذَا مُحَمَّدُ قال الزرقاني: وهذا البيت في قصيدة لحسان فأما أنه توارد مع أبي طالب، أو ضمنه شعره، وسمّي بهذا الاسم بإلهام من الله تعالى لجده عبد المطلب، أو رؤيا رآها فقصها على كاهنة قريش فعبرتها بمولود من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السموات والأرض، رواه أبو نُعيم وغيره، وأخرج ابن عبد البر في " الاستيعاب "، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لما ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عنه عبد المطلب، وسماه محمداً، فقيل له يا أبا الحارث: ما حملك على أن سميته محمداً، ولم تسمه باسم آبائه، قال: أردت أن يَحْمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض ". " وأحمد " وهذا هو الاسم الثاني من أسمائه الشريفة، وهو علم منقول من صفة أفضل التفضيل المنبئة عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، فهو - صلى الله عليه وسلم -أحمد الحامدين لله تعالى، لما في " الصحيح " أنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، هذا على أنّه بمعنى الفاعل، وقيل: (أحمد) بمعنى المفعول أي أنه - صلى الله عليه وسلم - أحق الناس بالثناء والحمد. قال: " وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر "، يعني يزيله من الأرض "وأنا الحاشر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 814 - " بَابُ خاتمَ النَّبِيِّينَ - صلى الله عليه وسلم - " 943 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ   الذي يحشر الناس على قدمي" أي يحشر الناس أمامي، ويجتمعون إلي يوم القيامة، وقال الخطابي: القدم (1) ها هنا الدين، بمعنى أن زمن دينه آخر الأزمنة، وعليه تقوم الساعة " وأنا العاقب " يعني آخر الأنبياء، وخاتم المرسلين. الحديث: أخرجه الشيخان، و" الموطأ ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن هذه الخمسة هي أشهر أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان له أسماء غيرها. قال ابن القيم: وأسماؤه - صلى الله عليه وسلم - كما سماه الله تعالى: أعلام دالة على أوصاف مدح، فلا تضادد فيها العملية الوصفية فمحمد صفة في حقه، وإن كان علماً محضاً في حق غيره. اهـ. وقد دل بعض هذه الأسماء على أن دين الإِسلام هو الدين الغالب المهيمن على جميع الأديان، الناسخ لشرائعها بشرائعه ولأحكامها بأحكامه، وأنه الدين الخالد الباقي إلى يوم القيامة، فالحديث هو مصداق قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) الخ. والمطابقة: في كون هذا الحديث يشتمل على أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -. 814 - " باب خاتم النبيين " قال الحافظ أن المراد بالخاتم في أسمائه أنه خاتم النبيين، ولمح بما وقع في القرآن - يعني أشار إلى قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ).   (1) " شرح الباجي على الموطأ " ج 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 رَجُل بَنَى بَيْتاً فأحْسَنَهُ وَأجمَلَهُ إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ من زَاوِية، فَجَعَلَ الناسُ يَطُوفُونَ بهِ، ويَعْجَبونَ لَهُ، ويقولُونَ: هَلَّا وُضعتْ هذِهِ اللَّبِنَّةُ، قَالَ: فَأنا اللبِنَةَ وأنا خَاتَم النَّبِيِّين".   943 - معنى الحديث: كما قال في " شرح صفوة البخاري " (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه حال الأنبياء وتتابعهم لِإصلاح البشر واحداً بعد واحد، حتى تكوَّنَ مما جاءوا به مجموعة إرشادات وتعاليم نافعة، وما شعر به الناس قبل مبعثه من الحاجة إلى مكمل لهذه المجموعة، متمم لمقاصدها بحال بيت وضعت فيه لبنة على لبنة حتى أوشك على التمام وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وجمّله إلاّ موضع لبنة من زاوية " أي ولم يبق من ذلك البيت سوى لبنة واحدة بقي موضعها فارغاً " فجعل الناس يطوفون بالبيت " أي يدورون حول جدرانه " ويعجبون له " أي يستحسنونه، ويمدحونه، ويعجبهم بناؤه، وحسن منظره، " ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة " وهلّا هنا للتحضيض، والمعنى: ولكننا نحضك ونحثك على وضع هذه اللبنة التي لا يزال مكانها خالياً ليصبح هذا البناء في غاية الكمال والجمال، كما في رواية أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: " ألا وضعت هذه هنا لبنة فيتم بنيانك " أخرجه أحمد وفي رواية " أكمل موضع اللبنة " قال - صلى الله عليه وسلم -: " فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " أي فهو - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى الأنبياء السابقين كاللبنة المتممة لذلك البناء، لأن به - صلى الله عليه وسلم - كمال الشرائع (2) السابقة، وليس معنى هذا أن الأديان السابقة كانت ناقصة وإنما المراد أنه وإن كانت كل شريعة كاملة بالنسبة إلى عصرها إلاّ أن الشريعة المحمدية هي الشريعة الأكمل والأتم ومعنى كونه - صلى الله عليه وسلم -   (1) " شرح صفوة البخاري " للشيخ عبد الجليل عيسى. (2) " هداية الباري " ج 1 للطهطاوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 815 - بَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "   " خاتم النبيين " أنها لا تحدث نبوة في أحد من البشر بعد ظهوره - صلى الله عليه وسلم - وتحليه بها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن شريعة الإسلام هي أكمل الشرائع، لأن الله تعالى قد شرع فيها من الأحكام ما لم يكن موجوداً في الشرائع السابقة، ووضع فيها من التشريعات ما يتلاءم مع حاجة الناس ومصلحة البشر منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، في حين أن الشرائع السابقة وإن كانت ملائمة لعصرها، إلاّ أنها غير ملائمة للبشرية في العصور الأخرى، بخلاف دين الإِسلام فإنه الدين المتكامل الذي اشتمل على جميع الأحكام في العبادات والمعاملات والجنايات والأحوال الشخصية والشؤون القضائية والسياسية والعسكرية، ولهذا أوجب الله على أهل الأديان السابقة جميعاً اعتناق هذا الدين، وأخذ عليهم الميثاق باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - عند ظهوره، وبين - صلى الله عليه وسلم - أنه لا دين إلاّ دينه، ولا شريعة إلاّ شريعته حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي ". ثانياً: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، فلا يمكن أن يظهر نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - أو تحدث نبوة لأحد من البشر بعد (1) تحليه بها، ولا ينافي ذلك ظهور عيسى في آخر الزمان، لأنه كان نبياً قبل أن يظهر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه حين ينزل يتعبد بشريعة الإِسلام التي نسخت كل الشرائع. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأنا خاتم النبيين " الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 815 - " باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على صفاته الجسمية والأخلاقية وغيرها.   (1) " هداية الباري " ج 1 للطهطاوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 944 - عَن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ، لَيْس بالطَّوِيلِ، ولا بالقَصِيرِ، أزهَرَ اللَّونِ، لَيس بأبيَضَ أمْهَقَ ولا آدَمَ، لَيْس بِجَعْدٍ قَطِطِ، ولا سَبْطٍ رَجِلٍ، أُنْزِلَ عَلَيْهِ وهُوَ ابْنُ أرْبَعِينَ، فَلَبِثَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، وبالمَدِينَةِ عَشْر سِنينَ، وقُبِضَ وليس في رَأسِهِ ولِحْيَتهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ".   944 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه يحدثنا عن بعض صفات نبينا - صلى الله عليه وسلم - الجسمية، فيقول: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربعة من القوم " بسكون الباء وقد تفتح أي مربوع القامة، متوسط الطول بين الطويل المفرط في الطول، والقصير الشديد القِصر، أما لون بشرته فقد كان " أزهر اللون " أي أبيض مشرباً بحمرة " ليس بأبيض أمهق " أي لم يكن خالص البياض كلون الجير " ولا آدم. " أي ولا أسمر اللون. أما شعره فإنه كان " ليس بجعد قطط " بفتح الطاء أي ليس شعره خشناً شديد الخشونة كشعر الحبشة " ولا سَبط " بفتح السين وكسر الباء أي ولا ناعم الشعر شديد النعومة " رَجلٌ " قال الحافظ: رجل بكسر الجيم، ومنهم من يسكنها، وهو مرفوع على الاستئناف، أي هو رَجل يعني منسرح الشعر، والمعنى، أن شعره - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ناعماً شديد النعومة كشعور الأعاجم ولا خشناً شديد الخشونة كشعر الأحباش، وإنما هو مسترسل فيه بعض التكسر، ثم قال: " أنزل عليه، وهو ابن أربعين، فلبث بمكة عشر سنين "، والصحيح أنه مكث بمكة ثلاثة عشر عاماً. " وبالمدينه عشر سنين وقبض، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء " وفي رواية عن أنس رضي الله عنه " ولم يبلغ ما في لحيته من الشيب عشرين شعرة " أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي و" الموطأ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 945 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "بُعِثْتُ من خَيْرِ قُرُونِ بَني آدَمَ قرْناً فقرْناً، حتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الذي كُنْتُ فِيهِ". 946 - عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسدُلُ شَعْرَهُ، وكَانَ المُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤسَهُمْ، وَكَانَ أهْلُ الكِتَابِ يَسْدُلُونَ رُؤسَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أهلِ، الكِتَابِ فيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأسَهُ ".   945 - معنى الحديث: أن الله اختار نبيه - صلى الله عليه وسلم - من خير طبقات البشر طبقة بعد طبقة، فكان - صلى الله عليه وسلم - ينتقل من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة، حتى ظهر أخيراً من البيت الهاشمي أشرف بيوتات العرب، وأعرقها نسباً، وأعلاها منزلة في جزيرة العرب كلها. الحديث: أخرجه البخاري. 946 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة كان في أوّل هجرته " يسدل شعره " بفتح الياء وسكون السين وكسر الدال وضمها أى يرخي شعر ناصيته ويرسله على جبهته، ويتركه مجتمعاً دون أن يفرقه: وكان المشركون " يفرقون رؤوسهم " بضم الراء وكسرها أي يلقون شعر رأسهم إلى جانبيه ولا يتركون منه شيئاً على جبهتهم كما أفاده العيني. " فكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم " أي يرسلون شعر رؤوسهم على جبهتهم " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء " هذا تعليل وبيان للسبب الذي من أجله سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعره عند أول هجرته إلى المدينة، أي إنما سدَل رسول الله شعره في ذلك الوقت موافقة لأهل الكتاب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 947 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ: لَمْ يَكنْ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشَاً ولا مُتَفَحِّشَاً، وَكَانَ يَقولُ: " إِنَّ مِنْ خِيَارِكمْ أحسَنَكمْ أخْلاقاً ".   يحب موافقتهم في الأعمال التي لم يؤمر بضدها، وهو معنى قوله: " وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء " قال الحافظ: أي فيما لم يخالف شرعَهُ، لأن أهل الكتاب في زمانه كانوا متمسكين ببقايا من شرائع الرسل، فكانت موافقتهم أحب إليه من موافقة عباد الأوثان قال: " ثم فرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي ثم لما أسلمت قريش وغيرها من قبائل العرب، أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفة أهل الكتاب - كما قال الحافظ. فألقى شعر رأسه على جانبيه ورفعه عن جبهته. الحديث: أخرجه الستة. 947 - معنى الحديث: أن ابن عمرو رضي الله عنهما يصف لنا أدب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه، وكيف كان مهذباً في كلامه مع الناس فيقول: " لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً " أي لا يصدر منه الكلام القبيح طبعاً ولا تطبعاً ومجاراة لغيره، فلا يستفزه السفهاء فيجاريهم في سفههم، لأنه أملك الناس لغرائزه وانفعالاته النفسية، فإذا تجرأ عليه سفيه بالشتيمة لا يرد عليه بمثلها امتثالاً لأمر ربه الذي أدّبه بقوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) قال: " وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً " أي من أهل المؤمنين إيماناً أكثرهم تمسكاً بفضائل الأخلاق ومحاسن الشيم، قال الحافظ. وأفضل مكارم الأخلاق بشاشة الوجه، وكف الأذى، وبذل الندى، فهذه هي أمهات الفضائل. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 948 - عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " مَا مَسِسْتُ حَرِيراً ولا دِيبَاجاً ألْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا شَمِمْتُ رِيحاً أو عَرْفاً قَطُّ أطْيَبَ مِنْ رِيحِ أو عَرْفِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ". 949 - وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " مَا عَابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طَعَاماً قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أكَلَهُ، وِإلَّا تَرَكَهُ ".   948 - معنى الحديث: أن أنساً رضي الله عنه يصف لنا نعومة بشرته - صلى الله عليه وسلم - وطيب رائحته - صلى الله عليه وسلم - فيقول: " ما مسست حريراً ولا ديباجاً " بكسر السين الأولى، ويجوز فتحها " ألين من كف النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ما لمست من الأشياء الناعمة حريراً أو ديباجاً، أو غيرها مما يضرب به المثل في الرقة والنعومة شيئاً أرق ولا أنعم من كف النبي - صلى الله عليه وسلم - ونعومة بشرتها. ولا يتعارض ذلك مع حديث هند ابن أبي هالة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان شثن الكفين والقدمين، أي غليظهما في خشونة الذي أخرجه الترمذي فإن المراد بحديث الباب، كما قال الحافظ: اللين، في الجلد، وبحديث الترمذي الغلظ في العظام، ثم قال: " ولا شممت ريحاً أو عرفاً " بفتح العين (1) ومعناه ريحاً أيضاً " أطيب من ريح أو عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ولا شممت رائحة زكية أجمل من رائحته - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية عن أنس: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان. 949 - معنى الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه يصف لنا كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدر نعمة الله تعالى فيقول: " ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يذم طول حياته أي طعام من الأطعمة المباحة، سواء كان من الأطعمة الفاخرة أو الأطعمة البسيطة، وسواء أحبته نفسه أو لا، لأن الطعام   (1) عَرْفاً بفتح العين وسكون الراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 950 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا: " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يحَدِّث حَدِيثاً لَوْ عَدَّة الْعَادُّ لأحْصَاهُ ". 951 - وَعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " إِنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكمْ ".   نعمة من نعم الله يجب تقديرها، وشكر الله تعالى عليها " إن اشتهاه أكله وإلّا تركه " دون أن يعيب فيه. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. 950 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا تكلم تكلم كلاماً واضحاً. بيناً مفصلاً لفظاً لفظاً، وكلمة كلمة، بحيث لو أراد المستمع إليه أن يعد كلماته كلمة كلمة لفعل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي بألفاظ. 951 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتأنى ويتمهل في كلامه، فلا يسرع في النطق بالكلمات ليتمكن السامع من فهمه واستيعابه لأن الإسراع في الحديث يؤدي إلى خفاء معانيه، وهو معنى قول عائشة رضي الله عنها: " لم يكن يسرد كسردكم "، قال العيني: أي لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يتابع الحديث استعجالاً، لئلا يلتبس على المستمع. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. فقه أحاديث الباب: دلت هذه الأحاديث على ما يأتي: أولاً: أنها بينت لنا صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنية والخلقية فمن هذه الصفات ما يتعلق بجسمه وصورته الظاهرة، من لون وبشرة وشعر وقامة إلى غير ذلك، وكلها قد بلغت غاية الكمال والجمال باتفاق المؤرخين والمحدثين. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مربوع القامة أبيض اللون، مشرباً بحمرة، ليس بالأشقر الخالص البياض كلون الجير، ولا بأسمر اللون، ورد في بعض الروايات وصفه بالسمرة وجمع الخطابي بين حديثي السمرة والبياض بأن السمرة فيما برز للشمس من جسمه الشريف والبياض فيما تواريه الثياب، ويؤيده ما جاء في رواية ابن أبي هالة رضي الله عنه أنه قال: "كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 أنور التجرد" وقال ابن حجر الهيتمي: الأولى حمل السمرة على الحمرة التي تخالط البياض، والعرب تطلق على من كان كذلك أنه أسمر لأن الحمرة إذا اشتدت حكت السمرة وشابهتها، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان أبيض مشرباً بحمرة حتى أنه لشدة حمرته يخيّل للناظر إليه أنّه أسمر اللون " والله أعلم. أما بقية صفاته الجسمية: فقد كان شعره - صلى الله عليه وسلم - أسود مسترسلاً ليس بشديد النعومة كشعور الأعاجم، ولا بالشديد الخشونة كشعور الأحباش، وإنما كان مسترسلاً فيه بعض التثني والتكسر، وتلك هي سمات الشَّعرِ العربي. وكان ناعم البشرة ذكي الرائحة كما قال أنس رضي الله عنه في وصفه: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست هذه الرائحة الشذية صادرة عن الطيب الذي يتطيب به، وإنما هي رائحته الذاتية المنبعثة من جسده الشريف - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده الشهاب الخفاجي. أما بقية صفاته التي لم تذكر في أحاديث الباب، أو في الأحاديث التي سقناها فهي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مشرق الصورة، مستدير الوجه في إشراقة البدر واستدارة القمر، وكان كما في حديث كعب: " إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر " وكان كما وصفه ابن أبي هالة: " يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، وكان - صلى الله عليه وسلم - واسع العينين شديد سواد الحدقة، أهدب الأجفان " أي كثير شعر الأجفان " أبلج الوجه " أي مشرق الوجه بالأنوار البهيّة " أزج الحاجبين (1)، كث اللحية. واسع الفم من غير إفراط " والعرب تتمدح بذلك، لدلالته على الفصاحة " يبلغ شعر رأسه شحمة أذنيه، ويتجاوزها إلى منكبيه " قال البراء بن عازب: " ما رأيت من ذي لمّة في حلة حمراء أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وكان - صلى الله عليه وسلم - واسع الصدر عريض الظهر، غليظ الكتفين، بين كتفيه خاتم النبوة وهو غدة حمراء مثل بيضة النعامة، كما كان - صلى الله عليه وسلم - رحب الكفين، واسع القدمين ". " وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا افترّ ضاحكاً افترّ عن مثل سنا البرق، وعن مثل حب الغمام (2)، وإذا تكلم رئي كالنور يخرج من ثناياه " أما صفاته الخلقية   (1) أي دقيق شعر الحاجبين. (2) أي ابتسم عن أسنان تشبه البرَد المتساقط عن السحاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 فقد جمع الله فيه كل مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في سلوكه الخلقي قولاً وفعلاً، فلا يصدر منه القول القبيح طبيعة ولا تطبعاً لأنّه - صلى الله عليه وسلم - حليم النفس، يحافظ على مشاعر غيره، حتى لو أساء إليه فلا يواجه إنساناً بما يكره وكان - صلى الله عليه وسلم - مهذباً في معاملته للناس، متواضعاً لين الجانب، رقيق المشاعر، مرهف الإِحساس، يحسن إلى الناس، ويتودد إليهم، ويعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، يعطي ولا يبخل بالعطاء، ولا يرد سائلاً، أما أدبه في الحديث: فقد كان بليغ المنطق، فصيح الكلام واضح البيان، إذا نطق تأنى في نطقه وأتى بكلامه بيناً مفصلاً جملة جملة، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً يفهمه السامع ويعيه وهذا من فصاحته وحرصه على إفهام الخاطب وقد نزه الله منطقه - صلى الله عليه وسلم - عن التمتمة (1) والفأفأة (2) والتنطع (3) والتمطق (4) والتفيهق (5) وجعله جارياً على السليقة العربية الأصيلة (6) - لا تصنع فيه ولا تكلف. أما نسبه فهو من أشرف الأنساب، وأكرم بيوتات العرب، صانه الله من سفاح الجاهلية، ونقله من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة جيلاً بعد جيل، فاصطفي من ولد إسماعيل كنانة، ومن كنانة قريش، ومن قريش بني هاشم فهو - صلى الله عليه وسلم - خيار من خيار من خيار. ثانياًً: أن في هذه الأحاديث من الأحكام جواز فرق شعر الرأس وسدله إلاّ أن الفرق أفضل، لأنه آخر الأمرين من فعله - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة مستحبة لما في رواية ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيته ما شاء الله، ثم فرق بعد ذلك، فكان الفرق   (1) وهي رد الكلام إلى التاء والميم. (2) وهي ترديد الفاء. (3) وهي التعمق في إخراج الحروف. (4) وهو رفع الشفتين ورفع اللسان إلى الأعلى. (5) وهو ملء الفم بالألفاظ. (6) " محمد المثل الكامل " للأستاذ محمد أحمد جاد المولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 816 - " بَابُ علامات النبوة " 952 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ يَقُولُ: " هَلَاكُ أُمَّتِي علي يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْش " فَقَالَ مَرْوَانُ: غِلْمةٌ!! فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: " إِنْ شِئْتَ أنْ أسَمِّيَهُمْ بَنِي فُلانٍ وبَنِي فُلانٍ ".   آخر الأمرين حين أسلم غالب الوثنيين وغلبت الشقوة على اليهود، ولم ينفع فيهم الاستئلاف فخالفهم، وأمر بمخالفتهم في أمور كثيرة " قال الزرقاني (1): " والصحيح جواز الفرق والسدل، لكن الفرق أفضل لأنه الذي رجع إليه - صلى الله عليه وسلم - لكن لا وجوب (2) لأن من الصحابة من سدل بعده، فلو كان الفرق واجباً ما سدلوا قال مالك: فرق الرأس أحب إلي. والمطابقة: في كون هذه الأحاديث مبينة لصفات النبي - صلى الله عليه وسلم -. 816 - " باب علامات النبوة " العلامات جمع علامة، والعلامة والمعجزة كلاهما أمر خارق للعادة، يدل على ثبوت النبوة، وصدق الرسالة، إلاّ أن المعجزة لا تأتي إلاّ في مقام التحدي، أما العلامة فلا يشترط فيها ذلك بل هي أعم، ولما كانت الخوارق المذكورة في هذا الباب ليست كلها للتحدي عبر عنها بالعلامات حتى تشملها جميعاً لعمومها. 952 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا عن فتية من شباب قريش يتولون أمر هذه الأمة، ويصلون إلى الملك والسلطان عنوة واقتداراً، فيظلمون ويتجبرون، ويحاربون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسفكون دماءهم، ويهلكون   (1) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 4. (2) أي لكن رجوعه - صلى الله عليه وسلم - إلى الفرق لا يدل على وجوبه، لأن بعض الصحابة سدلوا بعد ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 الكثير منهم في حروبهم الدامية وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه هذا الحديث على مسمعٍ من مروان بن الحكم " فقال مروان " وكأنه لم يفهم ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديثه هذا " غلمة " قال الكرماني: فعجب مروان من وقوع ذلك من غلمةٍ " فقال أبو هريرة إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان " أي إن أردت أن أذكر لك أسماءهم الصريحة وأسماء آبائهم، فعلت. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن هلاك كثير من الصحابة وآل بيته الأطهار في المعارك الدامية التي قام بها ضدهم الملوك الجبابرة من شباب قريش وعلى رأسهم يزيد بن معاوية الذي وقعت في عصره وقعة الحرّة واستباحة المدينة. ثانياًً: أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المآسي الدامية من علامات نبوته كما ترجم له البخاري، فقد أوحى تعالى بها إليه قبل وقوعها يقظة أو مناماً، وقد قتل في وقعة الحرة أكثر من سبعمائة (1) من وجوه قريش كما قتل من عامة الناس رجال ونساء أكثر من عشرة آلاف، وسبوا الذرية، واستباحوا الفروج، وأمروا بقتل كل من لم يبايع يزيداً، ودخلت طائفة بيت أبي سعيد الخدري فأخذوا ما فيه من المتاع، ولم يتعرضوا لعلي بن الحسين، لأن يزيد أوصاهم به، وفي " الموطأ " لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الكلب أو الذئب فيقذي على بعض سوارى المسجد - أي يبول عليها، قال القاضي عياض، هذا قد جرى فإنها تركت أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا، وذكر الأخباريون أنه رحل عنها أكثر أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي، وخلت مدة، ثم تراجعوا (2) قال السمهودي: فالظاهر أن ما ذكره القاضي عياض هو الترك الأوّل وسببه كائنة (3) الحرة، كما في حديث أبي هريرة. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: "هلاك أمتي على يدي غلمة   (1) " الإشاعة لأشراط الساعة " للشريف محمد بن عبد الرسول الحسيني البرزنجي. (2) " الإشاعة لأشراط الساعة ". (3) أي وسبب هذا الخراب الذي أصاب المدينة هو وقعة الحرّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 953 - عن خَبَّابِ بْنَ الأرَت من حديثٍ طَوِيل: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِيهِ: " وَاللهِ ليتمَّنَّ هذَا الأمْرَ حتى يَسِيرَ الرَّاكِب من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إِلَّا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، أو الذِّئْبَ على غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ". 954 - عَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْم الْحَسنَ فَصَعِدَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ:   من قريش " فإن إخباره بذلك من علامات نبوته. 953 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " والله ليتمن الله هذا الأمر " المقصود بهذا الأمر الإِسلام حيث يمكنه الله في الأرض " حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب " أي والله ليكملن الله سلطان هذا الدين بنصره وإظهاره على الدين كله، وتقوية شوكته وبسط نفوذه فتطبق أحكامه، فينتشر الأمن والأمان في الأرض ببركة تطبيق الشريعة، حتى يسير الراكب هذه المسافة البعيدة الموحشة آمناً مطمئناً لا يخشى لصاً، ولا يخاف قاطع طريق. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: هذه البشارة العظيمة باستتباب الأمن والأمان، كنتيجة حتمية لظهور الإِسلام، والحكم بما أنزله الله، ْوقد تحقق ذلك في آخر عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ثم في بعض الدول الإسلامية التي نفّذت فيها حدود الله. ثانياً: أن هذه البشارة من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله: " ليتمن الله هذا الأمر ". 954 - معنى الحديث: يقول أبو بكرة رضي الله عنه " أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم الحسن " أي أخرجه معه إلى المسجد وهو غلام صغير "فصعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 " ابْنِي هَذَا سَيّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أنْ يُصْلِحَ بِهِ بيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". 955 - عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هَلْ لَكُمْ مِنْ أنْمَاطٍ " قُلْتُ: وأنَّى يَكُونُ لَنَا الأنْمَاطُ؟ قَالَ: " أمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكُمْ الأنْمَاطُ " فأنَا أقُولُ لَهَا يَعْنِي   به على المنبر" أي على منبر مسجده الشريف " فقال: ابني هذا سيد " أي كريم الأصل، شريف النسب، ينتمى إلى أشرف بيت وجد على وجه الأرض. قال ابن تيمية: وأفضل أهل بيته عليٌ وفاطمة والحسن والحسين الذي أدار - صلى الله عليه وسلم - عليهم الكساء، وخصهم بالدعاء (1) " ولعل الله أن يصلح به بين فئتين " أي طائفتين متخاصمتين " من المسلمين " فيجمع الله به بين الطائفتين خاصة، ويلتئم بذلك شمل المسلمين عامة. فقه الحديث: لا شك أن في هذا الحديث الشريف علامة من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر فيه - صلى الله عليه وسلم - على ما يقوم به هذا السيد الكريم، الحسن بن علي رضي الله عنهما من جمع كلمة المسلمين، والإِصلاح بينهم، ورفع النزاع بين الطائفتين بتنازله عن الخلافة لمعاوية، مما أدى إلى التئام الشمل، وحقن الدماء. والمطابقة: كما قال العيني من حيث إنه أخبر بأن الحسن رضي الله عنه يصلح الله به بين الفئتين من المسلمين، وقد وقع مثل ما أخبر، فإنه ترك الخلافة لمعاوية، وارتفع النزاع بين الطائفتين. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجه. 955 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم يوماً: " هل لكم من أنماط " (2) أي هل يوجد لديكم في منزلكم هذا الذي   (1) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية ". (2) جمع نمط بفتحات، وهو بساط له خمل كما أفاده العيني أي أنه عبارة عن السجاد الفاخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 امرأتَهُ: أخِّرِي عَنَّا أنمَاطَكِ، فَتَقُولُ: ألَمْ يَقُلْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمْ الأنْمَاطُ " فَأدَعُهَا. 956 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "رَأيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ في صَعِيدٍ، فَقَامَ   سكنتموه بعد زواجكم شيء من الأنماط أي البسط الفخمة، وهل أثثتموه بالفرش الفاخرة وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه لا يوجد لديه شيء من ذلك، وإنما أراد بسؤاله هذّا أن يمهد لما سيخبرهم به من الأمور التي تقع في المستقبل قال رضي الله عنه: " قلت: وأنى يكون لنا الأنماط؟ " أي من أين يكون لنا الأنماط وهي بعيدة عنا كل البعد؟ فكيف نقتنيها ونحن لا نملك من النقود ما نشتري به الطعام فضلاً عن أن نشتريها " قال ": الصادق المصدوق: " أما إنه سيكون لكم الأنماط " أي لا تستبعد ما سألتك عنه، فعن قريب من الزمن تمتلكون الفرش الفاخرة، وتزينون بها قصوركم، حيث تكثر الفتوحات والغنائم، قال جابر: " فأنا أقول لها: أميطي عني أنماطك " أي أبعديها عني " فتقول: ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنها ستكون لكم الأنماط " فأدعها لأنها من النعم واللذات المباحة التي أخبرنا عنها - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. فقه الحديث: في الحديث علامة من علامات النبوة حيث أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن اقتناء أصحابه لهذه البسط الغالية في المستقبل. والمطابقة: في قوله: " أما إنه ستكون لكم الأنماط ". 956 - معنى الحديث: يحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث عن رؤيا رآها في منامه تتعلق بالصاحبين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ورؤياه - صلى الله عليه وسلم - كلها حق، يقول - صلى الله عليه وسلم - في حديثه عن هذه الرؤيا: " رأيت الناس " في منامي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوباً أو ذَنُوبَيْنِ، وَفِى بَعْض نَزْعِهِ ضَعْفٌ، واللهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثم أخَذَهَا عُمَرُ، فاسْتَحَالَتْ بِيَدِهِ غَرْباً، فلم أر عَبْقَرِيَّاً في النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ، حتى ضَرَبَ النَّاسُ بعَطنِ".   " مجتمعين في صعيد واحد " أي في أرض واسعة " فقام أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين " أي فلما اجتمعوا واحتاجوا إلى الماء، قام أبو بكر ليخرجه لهم، فأخرج دلواً أو دلوين، وفي رواية: " رأيتني على قليب " أي على بئر، فنزعت منها ما شاء الله إذ جاء أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدلو ليريحني، فنزع ذنوباً أو ذنوبين، الخ الحديث " وفي نزعه ضعف " يعني فكان الماء الذي أخرجه الصديق قليلاً، وهو إشارة إلى قصر مدته وعدم تفرغه لفتح الأمصار بسبب اشتغاله بقتال أهل الردة " يغفر الله له " وليس معناه أن الصديق ارتكب ذنباً، ولكنها كلمة شائعة في استعمالات العرب يرون (1) في بعض الكلام لزومها، ولا يرون ملزومها، ويأتون بها إجلالاً للمخاطب، وإكراماً لحرمته، كقولك: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ومنه قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قال: " ثم أخذها عمر فاستحالت بيده غرباً " أي ثم أخذ عمر ذلك الدلو فانقلبت في يده دلواً عظيمة وفي هذا إشارة إلى طول مدة خلافته، وكثرة فتوحاته، لأن الذنوب التي استحالت غرباً هي كناية عن خلافته كما أفاده العيني " فلم أر عبقرياً في الناس يفري فريه " قال العيني: العبقري الحاذق (2) في عمله، وهذا عبقري في قومه أي سيدهم والمعنى: فلم أر في الناس سيداً عظيماً، ورجلاً قوياً وإنساناً حاذقاً يعمل عمله " حتى ضرب الناس بعطن " بفتح العين والطاء وهو مبرك الإِبل حول الماء، أي ما زال يخرج للناس الماء حتى   (1) " هداية الباري " للطهطاوى ج 1. (2) شرح العيني ج 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 نصب الناس خيامهم، وأقاموا إبلهم حول الماء، قال ابن الانباري (1): وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مثلاً (2) لاتساع الناس زمن الفاروق، وما فتح عليهم من الأمصار والغنائم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الصديق رضي الله عنه، وقيامه بالخلافة على الوجه الأكمل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - فقام أبو بكر فنزع، ويؤكد ذلك ما جاء في الرواية الأخرى حيث قال: " فأخذ أبو بكر الدلو ليريحني " فإن ذلك يدل على أن سياسته الرشيدة كانت مرضية مريحة، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فنزع ذنوباً " فإنه يدل على أنه رضي الله عنه قام بخدمة هذه الأمة، وهيأ لها كل مقومات الحياة التي تتعلق بالدين والدنيا معاً، لأن الماء هو العنصر الأساسي للحياة. ثانياً: أن مدة خلافة الصديق رضي الله عنه قصيرة، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فنزع ذنوباً أو ذنوبين " وأن مدة الفاروق طويلة بعض الشيء، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاستحالت بيده غرباً ". ثالثاً: عبقرية الفاروق رضي الله عنه وتفوقه على غيره، وقدرته على الأعمال العظيمة التي يعجز عنها سواه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلم أر عبقرياً يفري فريه ". رابعاً: أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن حال الخليفتين من بعده علامة من علامات نبوته وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الغيبيات التي وقعت بعده. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. ...   (1) أيضاً شرح العيني ج 16. (2) " هداية الباري " للطهطاوي ج 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 817 - " بَابُ سؤَالِ الْمُشركِينَ أن يُرِيَهُمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - آيَةً فأرَاهُمْ انشِقَاقَ الْقَمَرِ " 957 - عن عبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شِقَّتَيْنِ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اشْهَدُوا ".   817 - " باب سؤال المشركين أن يريهم النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فأراهم انشقاق القمر " 957 - معنى الحديث: أن القمر انشق في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، فكان نصفين، نصفاً من وراء حراء، ونصفاً أمامه، ليكون معجزة له - صلى الله عليه وسلم - على صدق نبوته، لأن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر، أخرجه البخاري، فلما وقع ذلك " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اشهدوا " أي انظروا ماذا حدث، لأنها معجزة عظيمة (1) لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من أعظم المعجزات المادية الكونية التي وقعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - هي معجزة انشقاق القمر التي حدثت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة، والتي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وسببها أن كفار قريش سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر كما قال البخاري فلما حدث ذلك قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة، فانظروا ما يأتيكم السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإلّا فهو سحر،   (1) " شرح القسطلاني على البخاري ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 818 - " بَاب " 958 - عن عُرْوَةَ الْبَارِقي رَضِيَ اللهُ عَنْه: " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعْطَاهُ دِيناراً يَشْتَرِي بِهِ شَاةً، فاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَين، فباعَ إِحْدَاهُمَا بدِينَار، وجاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ في بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى الترابَ لَرَبِحَ فِيهِ ".   فقدم السفار، فسألوهم، فقالوا: رأيناه قد انشق. أخرجه البيهقي. والمطابقة: في قوله: " انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لأن هذا من علامات النبوة. 818 - " باب " (1) 958 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جلباً من الغنم كما في الرواية الأخرى، فأعطى عروة البارقي ديناراً وقال: " ائت لنا الجلب، فاشتر لنا شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة " يعني فكسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ديناراً " فدعا له بالبركة بيعه " فقال: " اللهم بارك له في صفقة يمينه "، كما في رواية أخرى " فكان لو اشترى التراب لربح فيه " ببركة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة التي تتجلى في استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الصحابي الجليل الذي أصبح محظوظاً في التجارة بفضل هذا الدعاء النبوي المبارك، حتى أنه قال: " لقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفاً قبل أن أصل إلى أهلي. ثانياًً: جواز بيع الفضولي، لأن عروة كان وكيلاً في الشراء لا في البيع. وهو مذهب أبي حنيفة   (1) هذا الباب ملحق بباب علامات النبوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 819 - " بَاب في فضائِلِ أصحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "   ومالك وإسحاق والشافعي في قول. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فكان لو اشترى التراب لربح فيه ". 819 - " باب في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " والفضائل كما قال العيني (1) هي الخصال الحميدة، والخلال الرضية التي ينال بها صاحبها شرفاً ورفعة، وعلو منزلة عند الله، أو عند الخلق، والعبرة في نظر الشرع بالأولى، فإذا قيل في لسان الشرع: هذا رجل فاضل، فمعناه أنّ له منزلة عند الله تعالى، وكل ما ذكره البخاري في هذا الباب من هذا النوع. والصحابي: كما عرفه البخاري: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين وقول البخاري: (من المسلمين) هذا قيد يخرج به من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من غير المسلمين ولو أسلم على المعتمد بعد موته. وزاد بعض أهل العلم قيداً آخر، وهو " ومات على ذلك " ليخرج المرتدون، فإنهم ليسوا أصحابه، والله أعلم. وفضائل الصحابة على نوعين: (أ) فضائل عامة تشملهم جميعاً، مثل امتيازهم بعد الأنبياء بالفضل على سائر الخلق كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدكم ولا نصيفه " (ب) وفضائل خاصة ينفرد فيها بعضهم بصفة من الصفات الكريمة من فقه أو أمانة أو زهد أو كثرة رواية، كما لقب أبو عبيدة بأمين الأمة، أما ترتيب الصحابة رضي الله عنهم في الفضل، فقد قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن فضل الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور. قال ابن تيميّة: وأهل السنة يقرّون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمّة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلّثون بعثمان، ويربعون بعلي   (1) " شرح العيني " ج 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 959 - عن عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَيْرُ النَّاس قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهُمْ، ثم يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أحَدِهم يَمِينَهُ، وَيَمِينَهُ شَهَادَتَهُ ".   رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة قد اختلفوا في عثمان وعلي (1) رضي الله عنهما ". اهـ. فروي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان، ولكن ظاهر مذهبه على خلافه، وقال مالك في " المدونة ": لا يفضل (2) أحدهما على الآخر، والذي عليه جمهور أهل السنة تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما، وفي سنن أبي داود عن ابن عمر قال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وفي رواية - للطبراني: " يسمع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره " قال في " الطحاوية ": وحبهم دين، إيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. اهـ. 959 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " خير الناس قرني " أي أن جيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل زمانه من الصحابة الأبرار هم أفضل الأجيال، وخير الناس على الإِطلاق بعد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم يليهم في الفضل الذين أدركوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين، ثم يليهم في الفضل أتباع التابعين. قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته " أي يحرصون على الشهادة ويروجونها بالأيمان الكاذبة فتارة يحلفون (3)   (1) " العقيدة الواسطية ". (2) " التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد. (3) " هداية الباري " ج 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 قبل أداء الشهادة، وتارة يشهدون ثم يحلفون لعدم مبالاتهم بالدين، الحديث أخرجه البخاري ومسلم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الحافظ: استدل بهذا الحديث على تعديل أهل القرون: الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذمومة، لكن بقلة. وقال القسطلاني: هذا صريح في أن الصحابة أفضل من التابعين، وأن التابعين أفضل من تابعي التابعين، وهذا مذهب الجمهور، وذهب ابن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وقد روى أبو أمامة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " طوبى لمن رآني وآمن بي مرة، وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي " قال القسطلاني: والحق ما عليه الجمهور، لأن الصحبة لا يعدلها شيء. ثانياً: استدل به بعض أهل العلم على أن من الصفات الذميمة المبادرة إلى الشهادة وترويجها بالأيمان دون حاجة أو ضرورة وفي رواية أخرى للبخاري قال فيها " ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون " قال النووي: وهذا مخالف في الظاهر للحديث الآخر، " خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسأل " والجمع بينهما إما بأن يحمل الذم على من بادر بالشهادة في حق من هو عالم بها قبل أن - يسألها صاحبها، ويكون المدح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسأل " لمن كانت عنده شهادة لأحد لا يعلم بها، فيخبره ليستشهد به عند القاضي، وهو قول الجمهور، أو يحمل الذم على الشهادة الباطلة التي هي شهادة الزور، أما المبادرة إلى الشهادة الصحيحة من أجل إظهار الحق، وإعانة المظلوم، ودفع الظلم عنه، فإنها عمل صالح يؤجر ويثاب عليه صاحبه، والأحاديث يفسّر بعضها بعضاً، ولهذا قال الصنعاني في حديث عمران ابن حصين الذي جاء فيه: " ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون " إما أنه محمول على شهادة الزور حكاه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 الترمذي عن بعض أهل العلم، أو المراد إتيانهم بالشهادة بلفظ الحلف نحو أشهد بالله ما كان إلاّ كذا، وهذا جواب الطحاوي. أو المراد به الشهادة بما سيكون من الأمور المستقبلة، فيشهد على قوم بأنهم من أهل الجنة من غير دليل، حكاه الخطابي، قال الصنعاني: والأول أحسنها. والمطابقة: في قوله: " خير القرون قرني ". *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 " مَنَاقِبُ الْمُهَاجِرِينَ " 820 - " بَابُ فضلِ أبِي بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " 960 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " كُنَّا نُخَير بَيْنَ النَّاس في زَمَانَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، فَنُخَير أبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ".   820 - " باب فضل أبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - " 960 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي كنا نفضل بعض الصحابة على بعض في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنقول: فلان خيرٌ من فلان " فنخيِّرُ أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان " أي فنقول: أفضل الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ويليه عمر، ويليه عثمان، وفي رواية: فيسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكره. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل أبي بكر الصديق على جميع الخلفاء، وعلى جميع الصحابة، بل على البشر جميعاً بعد الأنبياء، وهذا هو مذهب أهل السنة لقول ابن عمر: " فنخيّر أبا بكر ثم عمر " والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع ذلك فيقره، ولا ينكره، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة شرعية، لأنه نوع من أنواع حديثه - صلى الله عليه وسلم - وسننه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً " وعنه رضي الله عنه أنه قال: " أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الترمذي قال أبو منصور البغدادي (1) من أكابر أئمة الشافعية: أجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة أبو   (1) " شرح الفقه الأكبر " لملا على القاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 821 - " بَاب مَنَاقِبِ عمَرَ بْنِ الْخطَّابِ أبي حَفْصٍ القرَشِيِّ العَدَوَيِّ (1) " 961 - عن أبي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكمْ من بَنِي إسْرَائِيلَ رِجَال يكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أن يَكونوا أنبِيَاءَ فَإِنْ يَكنْ من أمَّتِي مِنْهمْ أحَد فَعمَر ".   بكر فعمر فعثمان فعلي فبقية العشرة المبشرين بالجنة فأهل بدر، فيأتي أهل أحد، فيأتي أهل بيعة الرضوان بالحديبية، فيأتي بقية الصحابة رضي الله عنهم. وقال القاري (2): ولعله أراد بالإجماع إجماع أكثر أهل السنة والجماعة، لأن الاختلاف واقع بين علي وعثمان رضي الله عنهم عند بعض أهل السنة، والمطابقة: في قول ابن عمر رضي الله عنهما: " فنخير أبا بكر ". 821 - " باب مناقب عمر بن الحطاب أبي حفص القرشي " 961 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقد كان فيمن قبلكم من بني اسرائيل رجال يكلمون "، أي قد وجد في الأمم السابقة رجال ملهمون تلقى في قلوبهم العلوم والمعارف الربانية، وتتكلم الملائكة على ألسنتهم بالحق والصواب، " من غير أن يكونوا أنبياء " أي مع كونهم ليسوا بأنبياء " فإن بك من أمتي أحد منهم فعمر " أى فإن عمر رضي الله عنه هو من هؤلاء المكلمين الذين يلهمون الحق والصواب وتتكلم الملائكة على ألسنتهم، فقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري أنه قيل: يا رسول الله وكيف يحدث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه، ومعنى ذلك أن تكلمه الملائكة في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإِلهام " الصادق "، كما أفاده الحافظ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد   (1) سبقت ترجمته رضي الله عنه. (2) أيضاً " شرح الفقه الأكبر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 بقوله: " فإن يك من أمتي أحد منهم فعمر " الشك والتردد في وجودهم، كما قال الحافظ (1): فإن أمته أفضل الأمم وإذا وجد ذلك في غيرهم من الأمم المفضولة، فوجوده فيهم وهم خير الأمم أولى وأحرى، وإنما أورد هذه الجملة مورد التأكيد لا الترديد كما يقول الرجل إن يكن في صديق فإنه فلان، يريد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الصداقة. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكونه من أول الملهمين في هذه الأمة المحمدية كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " فإن يك من أمتي أحد منهم فعمر " لأن الله ألهم قلبه الصواب، وأجراه على لسانه، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " أخرجه الترمذي وصححه، وكذلك رواه أحمد، ويؤيده ما جاء في الحديث عن عقبة بن عامر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب " أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب ورواه أيضاً أحمد في " مسنده " والحاكم في " مستدركه " والطبراني. ثانياً: أن الإِلهام موجود في البشر عامة، وفي هذه الأمة خاصة، قال الحافظ: إذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى. اهـ. ولا يختص الإِلهام بالأنبياء بل يكون لغيرهم، ولكن هناك فرق بين الأنبياء وغيرهم لأن إلهام الأنبياء وحي وتشريع إلهي، وحجة يستند إليها في الأحكام بخلاف إلهام غيرهم. والمطابقة: في قوله: " فإن يك من أمتي أحد منهم فعمر ". ...   (1) " فتح الباري " ج 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 822 - " بَابُ مَنَاقِبِ عُثمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " 962 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ جَاءَهُ رَجُل مِنْ أهْلِ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ " تَعْلَمُ أنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللهُ أكبَرُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنُ لَكَ، أمَّا فِرَارَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فأشْهَدُ أنَّ اللهَ عَفَا عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ، وأمَّا تَغَيبهُ عَنْ بَدْرٍ، فَإنهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ   822 - " باب مناقب عثمان رضي الله عنه " 962 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر " أنه جاءه رجل من أهل مصر " المتعصبين ضد عثمان رضي الله عنه وهو يزيد بن بشر جاء حاجاً، والتقى بعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، " فقال: هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد " أي فر من القتال في غزوة أحد، والفرار كبيرة من الكبائر " قال: نعم " فعل ذلك " قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد " أي ولم يحضرها ففاتته تلك الغزوة الكبرى " قال: نعم " حدث ذلك " قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم " وقع ذلك منه. وعند ذلك " قال " السائل: " الله أكبر " أي كبَّر فرحاً وسروراً بهذا الجواب الذي ظفر به، لأنه ظن أنه أقام الحجة البالغة، والدليل القاطع على نقص عثمان وسوء عمله " قال ابن عمر: تعال أبين لك " أي: ليس في شيء مما ذكرت دليل واحدٌ على سوء عمل عثمان ولكن تعال أفسر لك هذه الأمور تفسيراً صحيحاً " أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له " وذلك في قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلا وجه للطعن فيه بعد عفو الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ لَكَ أجْرَ رَجُل مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً وَسَهْمَهُ، وأمَّا تَغَيبهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلْو كَانَ أحَدٌ أعَزَّ بِبَطنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَان إلى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ يَدُ عثمانَ، فَضَرَب بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَاَنَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ ".   عنه " وأما تغيبه عن بدر، فإنه كانت تحته بنت رسول الله وكانت مريضة " أي فإن عذره في تغيبه عن بدر أن زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت مريضة أثناء ذلك، " فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه " أي فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يبقى معها في المدينة ليقوم بتمريضها، وقال له: إن الله سيكتب لك أجر من شهد هذه الغزوة، وأسهم - صلى الله عليه وسلم - له بسهم من الغنيمة، ففاز بأجرها وغنيمتها ثم قال: " أما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان " لمكانته فيهم " فقال رسول الله: بيده اليمنى هذه يد عثمان " أي فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى يده اليمنى وقال: هذه يد عثمان " فضرب بها على يده " اليسرى " فقال: هذه " البيعة " لعثمان " فبايع عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو غائب، وهذا أشرف فضيلة له " اذهب بها الآن معك " أي اذهب بهذه الأجوبة الصحيحة إلى قومك لتكشف لهم عن شبهاتهم الباطلة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل عثمان رضي الله عنه الذي يتجلى واضحاً في مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وهو غائب في بيعة الرضوان، وهذا يدل على عظيم منزلته عنده، وثقته به - صلى الله عليه وسلم -، ثانياًً: بيان عذر عثمان في الأمور الثلاثة، أما الفرار فبالعفو، وأما التخلف فبالأمر وأما البيعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 823 - " بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " 963 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيٍّ: " أما تَرْضَى أن تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ".   فبإرساله سفيراً إلى أهل مكة. الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. والمطابقة: في قوله: " فقال رسول الله بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان ". 823 - " باب مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه " 963 - معنى الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى تبوك خلّف علياً على أهله، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلاّ استثقالاً له، فأخذ عليّ سلاحه، وخرج حتى أَتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجرف فقال: يا رسول الله زعم المنافقون كذا وكذا، فقال: كذبوا إنما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع واخلفني في أهلي " " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " أي ألا يرضيك أن أجعلك بمنزلة هارون حيث كان يستخلفه موسى، ويجعله نائباً عنه على أهله وقومه إذا ذهب إلى مناجاة ربه، لما بينهما من القربى والمناصرة، فكذلك أنت. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الإمام علي رضي الله عنه، ومكانته العالية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم حيث جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى، وشبهه به في القربى والمناصرة وعلو المرتبة في الدار الآخرة، ويوضح ذلك حديث البراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال لعلي رضي الله عنه: " أنت مني وأنا منك " أخرجه البخاري. ثانياًً: أن هذا الحديث قد تعلقت به الشيعة في أن الخلافة كانت حقاً لعلي أوصى بها إليه في قوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " وليس في الحديث أي دلالة على استخلاف علي بعده، لأن المشبه به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 824 - " بَابُ مَنَاقِبِ جَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ " 964 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلى ابْنِ جَعْفَرَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنَ.   وهو هارون لم يخلف موسى بعد وفاته، حيث توفي قبله بأربعين سنة، فأين الدليل على خلافة علي إذن (1)؟. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ". 824 - " باب مناقب جعفر بن أبي طالب " 964 - معنى الحديث: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قطّعت يداه في غزوة مؤتة فعوضه الله عنهما بجناحين يطير بهما بين الملائكة، فكان ابن عمر رضي الله عنهما: " إذا سلم على ابن جعفر " أي على عبد الله ابن جعفر " قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين " أي يمدحه ويثني عليه بذلك لما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفراً يطيرُ مع الملائكة ". الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حيث لقب بذي الجناحين، لأن الله عوضه عن يديه اللتين فقدهما في مؤتة بجناحين يطير بهما في الجنة، وفي الملأ الأعلى، قال عياض: ولذلك سمى طيّاراً! ". والمطابقة: في قوله: " يا ابن ذي الجناحين ".   (1) انظر " مؤتمر النجف " للعلامة السويدي المطبوع في المطبعة السلفية بعناية محب الدين الخطب. اهـ حسن السماحي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 825 - " بَابُ مَنَاقِب أبي عُبَيدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " 965 - عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ أمَّةٍ أمِيناً، وإِنَّ أمِيْنَنَا أيَّتُهَا الأمَّةُ أبو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ ".   825 - " باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه " 965 - معنى الحديث: أن في كل أمة من الأمم رجل أمين اشتهر بالأمانة أكثر من غيره، وأشهر هذه الأمة بالأمانة أبو عبيدة عامر بن الجراح، فإنه وإن كانت الأمانة صفة مشتركة بينه وبين (1) الصحابة عليهم الرضوان، لكن سياق الحديث يشعر بأنه يزيد عليهم في ذلك، قال القاضي عياض: قوله: " وإن أميننا أيتها الأمة " هو بالرفع على النداء، والأفصح أن يكون منصوباً على الاختصاص وعلى الرفع فالمراد الاختصاص، وإن كانت صورته صورة النداء، أي أخص هذه الأمة بأن أمينها أبو عبيدة. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل أبي عبيدة، وتفوقه على غيره بقدر زائد من الأمانة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لقبه بهذا اللقب العظيم، وخصه به دون غيره، ولا يلزم من وجود فضيلة في شخص عدم وجودها في شخص آخر، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال العيني: خص كل واحد من كبار الصحابة بفضيلة وصفة كما روى عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين   (1) " هداية الباري " ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 826 - " بَابُ مَنَاقِبِ الْحَسَنِ والْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا " 966 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمْ يَكُنْ أحَدٌ أشْبَهَ بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ". 967 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: وسَألهُ رَجُلٌ عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الذُّبَابَ؟ فَقَالَ: أهْلُ الْعِرَاقِ يَسْألونَ عن الذُّبَابِ، وقَدْ قَتَلُوا ابْنَ ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هُمَا رِيحَانَتَايَ مِنَ الدُّنيا ".   وأمين هذه الأمة أبو عبيدة". والمطابقة: في قوله: " وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة ". 826 - " باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما " 966 - معنى الحديث: أن أشبه الناس جميعاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو أشبه أقاربه به - صلى الله عليه وسلم - حفيده الحسن بن علي رضي الله عنه، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: الحسن أشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كان من أسفل من ذلك. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. 967 - معنى الحديث: أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر رضي الله عنهما: هل يجوز للرجل إذا كان محرماً أن يقتل الذباب أم لا؟ فقال متعجباً مستغرباً من اهتمام أمثال هذا الرجل بتوافه الأمور، مع جرأتهم على ارتكاب الكبائر، فقال: " يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي يرتكبون الموبقات ويجرؤون على قتل حفيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 يظهرون كمال التقوى والورع في نسكهم، فيسألون عن قتل الذباب، ثم قال " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هما ريحانتاي من الدنيا " قال القاري: الأولاد يشمون ويقبلون، فكأنهما من جملة الرياحين، وكل نبت طيب الريح من المشموم فهو ريحان، وبه سمي الولد كما في " النهاية ". الحديث: أخرجه البخاري والترمذي. فقه الحديثين: دل هذان الحديثان على ما يأتي: أولاً: أن من فضائل الحسن رضي الله عنه مشابهته للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الجزء الأعلى من جسده الشريف، كما أن الحسين كان يشبهه في الجزء الأسفل من جسده. قال الحافظ: الذين كانوا يشبهون النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الحسن والحسين "، هم جعفر بن أبي طالب، وابنه عبد الله، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والذين كانوا يشبهونه من غير بني هاشم السائب بن يزيد الجد الأعلى للإِمام الشافعي، وعبد الله بن عامر العبشمي وغيره. ثانياًً: أن من فضائل الحسن والحسين شدة محبته - صلى الله عليه وسلم - لهما، وتعلقه بهما، حتى أنه قد قال فيهما: " هما ريحانتاي " لما يجده من الراحة النفسية في تقبيلهما وضمهمها إلى صدره، وشمهما كما يجد الإِنسان راحته عند شم الزهور والرياحين، لأنهما بمثابة أولاده، والولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة، وعن أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يدعو الحسن والحسين فيشمهما ويضمهما إليه " أخرجه الترمذي. والمطابقة: في الحديث الأول في قول أنس رضي الله عنه: " لم يكن أحدٌ أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن ابن علي رضي الله عنهما. وفي الحديث الثاني في قوله - صلى الله عليه وسلم -: عن الحسن والحسين رضي الله عنهما: "هما ريحانتاي " من الدنيا. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 827 - " بَاب مَنَاقِبِ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْه " 968 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنْه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَعَى زَيْداً وجَعْفَراً وابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أنْ يَأتِيَهمْ خَبَرهمْ، فَقَالَ: " أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأصِيبَ، ثم أخَذَ جَعْفَر فَأصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابْن رَوَاحَةَ فَأصِيبَ، وَعَيْنَاه تَذْرِفَانِ حتَّى أخَذَهَا سيف مِنْ سُيُوفِ اللهِ، حَتَّى فتح الله عَلَيْهِمْ ".   827 - " باب مناقب خالد بن الوليد " 968 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أرسل سرية في جمادى الأولى سنة ثمان لغزوة مؤتة - موضع بالبلقاء من أطراف الشام، وأمر عليها زيد بن حارثة، وقال: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر، فعبد الله بن رواحة، فقتل هؤلاء الثلاثة على الترتيب المذكور، فنعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على منبر المدينة قبل أن يؤتى الرسول بخبرهم، وكانت عيناه آنذاك تسيلان بالدموع ثم قال: " حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه " أي حتى لم يبق من هؤلاء الثلاثة أحد فقاد الجيش خالد بن الوليد من غير تأمير له، لكنه رأى المصلحة في ذلك لكثرة العدو، فرضي - صلى الله عليه وسلم - بما فعل وأثنى عليه، وبين أنه " سيف من سيوف الله ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على هذه المنقبة العظيمة التي اختص بها خالد رضي الله عنه، حيث لقبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بسيف الله، ومعنى كونه سيفاً من سيوف الله، أنه القائد المظفر الذي يحالفه النصر دائماً، لأنه يقع كالسيف على رؤوس الأعداء. والمطابقة: في قوله: " سيف من سيوف الله " الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 828 - " بَاب مَنْقَبَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا السَّلَام " 969 - عن المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ الله عَنْه: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " فَاطِمَة بَضْعَةٌ مِنِّي، فمَنْ أغْضَبَهَا أغْضَبَنِي ".   828 - " باب منقبة فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها السلام " 969 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا في هذا الحديث عن شدة محبته " لفاطمة " رضي الله عنها، ومكانتها من نفسه فيقول: " فاطمة بضعة مني " أي جزء مني، وقطعة من كبدي فهي مهجة القلب، وثمرة الفؤاد، وذلك أمر طبيعي يشعر به كل إنسان نحو أولاده، و" من " الاتصالية في قوله: " مني " تفيد اتصال مشاعره بمشاعرها، وأحاسيسه بأحاسيسها، ولهذا قال: " فمن أغضبها أغضبني " وذلك لما بينهما من تجاوب نفسي، ومشاركة وجدانية في الانفعالات والمشاعر. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل السيدة فاطمة رضي الله عنها، ومكانتها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكونها بضعة منه، ولشدة تعلقه بها نفسياً، ومشاركته لها وجدانياً وعاطفياً، وهذه منقبة عظيمة لها، وفضيلة ومزية لها على غيرها كما ترجم له البخاري، ولهذا قال مالك رحمه الله: لا أفضّل أحداً على بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: أن أولاد السيدة فاطمة بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أفاده السمهودي: قال الحافظ: فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء فتأذت به فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يتأذى به بشهادة هذا الخبر، ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد، ومصداق ذلك ما وقع لابن زياد قاتل الحسين، فقد روى الترمذي وقال حديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 حسن صحيح أن رأس عبيد الله بن زياد لما قتل إذا حية عظيمة قد جاءت، تتخلل الرؤوس حتى جاءت ابن زياد فجعلت تدخل في منخريه، فمكثت هنيهة، ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا قد جاءت قد جاءت، فعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. ثالثاً: استدل به بعض أهل العلم على أن فاطمة أفضل، ثم خديجة ثم عائشة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاطمة بضعة مني " قال مالك: لا أفضل أحداً على بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: فأفضلهن فاطمة فخديجة فعائشة، وظاهر الأحاديث أفضليتها على أخواتها، لكونه خصها بالبضعة منه دونهن لتجرعها ألم فقده دونهن لموتهن في حياته، نعم ينبغي أن يلحق بها أخواتها في تفضيلهن أيضاً على أمّهن، قال الحافظ في " الفتح ": أقوى ما استدل به على تقديم فاطمة على غيرها من نساء عصرها، ومن بعدهن خبر أن فاطمة سيدة نساء العالمين إلاّ مريم، وأنها رزئت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها من بناته، فكن في صحيفته، ومات في حياتها، فكان في صحيفتها. قال الحافظ: وكنت أقول ذلك استنباطاً إلى أن وجدته منصوصاً في " تفسير الطبري " عن فاطمة: " أنه ناجاها فبكت ثم ناجاها فضحكت -فذكر في الحديث- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحسب أني ميّت في عامي هذا، وأنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين مثل ما رزئت فلا تكوني دون امرأة منهن صبراً " فبكت، فقال: " أنت سيدة نساء أهل الجنة فضحكت ". رابعاً: أخذ بعض أهل العلم من حديث الباب وغيره تحريم التزوج على بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن يتأذين بذلك، فيتأذى النبي بإيذائهن، ويستاء لاستيائهن، ولهذا قال المحب (1) الطبري في كتابه " ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ": في هذه الأخبار تحريم نكاح علي على فاطمة في حياتها، حتى تأذن، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ). مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاطمة بضعة مني " فهي جزء منه، والجزء يشرف بالكل.   (1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 829 - " بَابُ فضلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا " 970 - عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " فَضْلُ عَائِشَةَ عَلى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ ".   829 - " باب فضل عائشة رضي الله عنها " 970 - معنى الحديث: شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - السيدة عائشة رضي الله عنها بالثريد، وهو من أفخر الأطعمة العربية التي تجمع بين جودة الغذاء، وتمام اللذة، فشبهها به لأنها مثله تجمع بين حسن الخلق، وجمال الصورة، وحسن الحديث وجودة القريحة ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، ومن ثم أخذت منه ما لم تأخذ سواها (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: امتياز السيدة عائشة عن بقية أمهات المؤمنين بقدر زائد من الحظوة والمحبة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك شبهها بالثريد، لأنه أحب الأطعمة إلى نفوس العرب، فإنهم يحبونه أكثر من غيره، قال ابن القيم: تشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بالثريد تعبير منه عن شدة محبته لها رضي الله عنها. ثانياًً: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على تفضيل عائشة على غيرها وأكدوا استدلالهم هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - " يا أمّ سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله مما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها ". قال الحافظ: وليس ذلك بلازم. فلا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق. وقال السبكي: الذي ندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة، والخلاف شهير، ولكن الحق أحق أن يتبع. وقال ابن تيمية:   (1) " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة وكأنه رأى التوقف. وقال ابن القيم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله تعالى فذلك أمر لا يُطَّلَع عليه، وإن أريد كثرة العلم فعائشة لا محالة، وإن أريد شرف الأصل ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها أحد غير أخواتها، وإن أريد شرف (1) فقد ثبت النص لفاطمة وحدها، وقال الحافظ: أما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإن لخديجة ما يقابله، وهي أنها أوّل من أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام، ودعا إليه، وأعان على نبوته بالنفس والمال وقيل: انعقد الإِجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام ". ...   (1) سقطت هذه الجملة من هذا الموضع ولعل شرف فاطمة وفضلها المذكور هنا أنها سيدة نساء العاملين، وأنها رزئت بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث مات في حياتها، فكان في صحيفتها، والله أعلم. المؤلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 بِسمِ الله الرِّحمْنِ الرَّحيمِ " مَنَاقِبِ الأنصَارِ " 830 - " بَابُ حُبِّ الأنصَارِ مِنَ الإِيمَانِ " 971 - عن الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إلَّا مُؤْمِن، ولا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أحَبَّهُمْ أحَبَّهُ اللهُ، ومَنْ أبْغَضَهُمْ أبغَضَهُ اللهُ".   " كتاب مناقب الأنصار " 830 - " باب حب الأنصار من الإِيمان " 971 - معنى الحديث: أن الأنصار لا يحبهم في الجملة لأجل مناصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مؤمن كامل الإِيمان، ولا يبغضهم في الجملة من أجل محبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومناصرتهم له إلاّ منافق في عقيدته. فمن أحبهم لله ورسوله أحبه الله ورضي عنه، ومن كرههم جميعاً لنصرتهم لرسول الله أبغضه الله، وسخط عليه، فخذله في الدنيا والآخرة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من علامات كمال الإِيمان حب الأنصار من أجل مناصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن علامات النفاق بغضهم: من هذه الناحية، لحديث الباب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: " آية الإِيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار " وقد صار اسم الأنصار علماً على الأوس والخزرج سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، فصار علماً لهم ولأولادهم وحلفائهم ومواليهم، وإنما فازوا بهذه المنقبة لأجل إيوائهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصرته فكان ذلك موجباً لمعاداة العرب والعجم، فلذا جاء الترهيب عن بغضهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 831 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلأنصَارِ أنتُمْ أحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ " 972 - عن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: رَأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النِّسَاءَ والصبيَانَ مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ، فَقَامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مُمَثِّلاً فَقاَل: " اللَّهُمَّ أنْتُمْ مِنْ أحَبِّ النَّاسِ إِليَّ " قَالَهَا ثَلاثَ مَرَارٍ.   والترغيب في حبهم، فمن أحبهم، فذلك من كمال إيمانه. ثانياً: فضل الأنصار ومكانتهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلو منزلتهم في الإسلام، حيث جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حبهم إيماناً، وبغضهم نفاقاً، وهذه منقبة عظيمة. ثالثاً: دل هذا الحديث دلالة عامة على أن من الإِيمان محبة أهل الدين والفضل والصلاح، ومن النفاق بغضهم. وإن من الإِيمان بغض أهل الكفر والفسق والفساد، ومن النفاق حبهم، كما يدل عليه قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. 831 - " باب قول النبي للأنصار أنتم أحب الناس إلي " 972 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نساء الأنصار وصبيانهم مقبلين من عرس وهو طعام وليمة الزفاف فانتصب قائماً، وهو معنى قوله: " فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممثلاً " بضم الميم الأولى وفتح الثانية، وكسر الثاء، أي منتصباً قائماً، كما أفاده العيني، " فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إلي، قالها ثلاث مرات " أي فقال: الله يشهد أني لا أفضل عليكم في المحبة أحداً من الناس. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الأنصار من أعز الناس عند رسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 832 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) " 973 - عَن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَجُلاً أتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَضُمُّ هَذَا أوْ يُضِيفُ هَذَا؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فانْطَلَقَ بهِ إِلى امْرأتِهِ، فَقَالَ أكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: ما عِنْدَنا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئي طَعَامَكِ وَأصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَومِي صِبْيَانَكِ إِذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأتْ طَعَامَهَا،   الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقربهم إلى نفسه، وأحبهم إليه. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 832 - " باب قول الله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) 973 - معنى الحديث: أن رجلاً -من الأنصار- جاء يشكو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يعانيه من الجوع الشديد، فقال: يا رسول الله أصابني الجهد أي غلب علي الجوع حتى أضناني، وبذلت كل جهدي في احتماله حتى نفذ صبري، ولم تعد لدي قدرة ولا طاقة على تحمله، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستضيفه في بيته، فلم يجد في بيته - صلى الله عليه وسلم - إلاّ الماء فعرض على أصحابه أن يضمه أحدهم إليه في طعامه، فاستضافه أبو طلحة الأنصاري، وذهب به، وقال لامرأته: " أكرمي ضيف رسول الله " وفي رواية " لا تدخريه شيئاً " أي لا تبقي شيئاً من الطعام الموجود عندنا إلاّ قدميه بين يديه " فقالت ما عندنا إلاّ قوت صبياننا فقال: هيئي طعامك " أي أحضري هذا الطعام الموجود لديك " وأصبحي سراجك " يعني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 وأصْبَحَت سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَاتْهُ، فجعلا يُرِيَانِهِ أنَّهُمَا يَأكلانِ، فَباتا طَاوِيَيْن، فلَمَّا أصبَحَ غَدا إِلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ضَحِكَ اللهُ اللَّيْلَةَ أو عَجبَ مِنْ فَعَالِكُمَا فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ".   وأشعلي مصباحك "ونوّمي صبيانك" دون عشاء، " فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها " أي فعلت كل ما أمرها به زوجها " ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته " أي ثم قامت إلى المصباح، وهي تظهر للضيف أنها تريد إصلاحه، فأطفأته ليصبح البيت مظلماً، فلا يرى الضيف ما تفعله " فجعلا يريانه أنهما يأكلان " أي يحركان أسنانهما ويظهران للضيف أنهما يأكلان وهما لا يأكلان شيئاً " فباتا طاويين " أي جائعين، " فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي ذهب أبو طلحة صباحاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما " التي بلغت الغاية في الجود والكرم والإيثار " فأنزل الله عز وجل (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) " أي فأنزل الله تعالى في وصف الأنصار هذه الآية التي أثنى عليهم فيها بالتضحية والإِيثار وتفضيل مصلحة غيرهم من المسلمين على مصلحة أنفسهم ولو كانوا في أشد حالات الفقر والحاجة، ثم قال: "ومن يوق شح نفسه، فأولئك هم المفلحون " أي ومن يتغلب على غريزة الشح والحرص الموجودة في نفسه ابتغاء وجه الله تعالى فأولئك هم الفائزون في الدنيا والآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ما كان عليه الأنصار رضوان الله عليهم من الجود والسخاء والبذل والعطاء، وإكرام الضيف، وإيثاره على أنفسهم، وأولادهم في حالة الضيق والشدة والفقر، وبذل كل ما يملكونه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 833 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اقْبَلُوا من مُحْسِنِهِم وتجاوَزُوا عن مُسِيئهِمْ " 974 - عن ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وعَلَيْهِ مِلْحَفَة مُتَعَطفَاً بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وعليْهِ عِصَابةٌ دَسْمَاءُ حتى جَلَس على الْمِنْبَرِ فَحَمَدَ اللهَ وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:   لِإخوانهم المسلمين حتى قوتهم، وقوت عيالهم وصبيانهم. ثانياًً: بيان سبب نزول قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) وأنها نزلت بسبب ما فعله الأنصاري وزوجته مع ضيفهما، وأن الذين وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الكريمة هم الأنصار، قال الحافظ: وعند ابن مردويه من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر، أهدي لرجل رأس شاة فقال: إن أخي وعياله أحوجٍ منا إلى هذا فبعث به إليه، فلم يزل يبعث به واحدٌ إلى آخر حتى رجعت إلى الأوّل بعد سبعة، فنزلت هذه الآية " قال: ويحتمل أن تكون نزلت بسبب ذلك كله، فإنها كلها صور ونماذج للتضحية والإِيثار وإنكار الذات. ثالثاً: أن من أعظم وأفضل البر والإِحسان البذل والعطاء في حال الفقر وضيق ذات اليد، كما فعل الأنصاري وزوجته رضوان الله عليهم. والمطابقة: في كون هذه القصة التي تضمنها الحديث سبباً في نزول الآية الكريمة. 833 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم " 974 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا مرض مرض موته وأحس الأنصار بدنو أجله عز عليهم فراقه - صلى الله عليه وسلم - فمر أبو بكر رضي الله عنه بهم في بعض مجالسهم، فوجدهم يبكون، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فخرج - صلى الله عليه وسلم - يتحامل على نفسه، وعليه ثوب قد التحف به، ووضعه على منكبيه، وعلى جبينه عصابة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 " أمَّا بَعْدُ أيّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكثُرُونَ وَتَقِلُّ الأنْصَارُ حتى يكونُوا كالْمِلْح في الطَّعَامِ، فمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أمراً يَضُرُّ فِيهِ أحداً أو يَنْفَعُهُ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئهِمْ ".   سوداء، فصعد المنبر، وخطب في الناس يوصيهم بالأنصار خيراً، فقال: " أما بعد: أيها الناس، فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار " لأنه يقتل منهم الكثير في الفتوحات الإسلامية وحروب الردة، والمعارك الدامية التي تقع بين المسلمين أنفسهم كمعركة الحرّة " حتى يكونوا كالملح في الطعام " أي حتى يكونوا في قلتهم كالملح القليل في الطعام الكثير، فإن الملح في الطعام يكون عادة قليلاً جداً ولذلك ضرب به المثل في قلته، كما ضرب به المثل أيضاً في إصلاحه لغيره قال الشاعر: يَا مَعْشَر القُّرّاءِ يَا مِلْحَ البَلَدْ ... هَلْ يَصْلُحُ الأكْلُ إذَا المِلْحُ فَسَدْ " فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه " أي من ولي منكم ولاية أصبحت له فيها سلطة تنفيذية من إمارة أو شرطة أو غيرها، وصار في استطاعته معاقبة المسيء، ومكافأة المحسن " فيقل من محسنهم " أي فليعاملهم بالحسنى، فيكافىء محسنهم، ويعفو عن مسيئهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى ولاة الأمور بالأنصار أن يبالغوا في حسن معاملتهم بمكافأة محسنهم، والعفو عن مسيئهم، والتجاوز عنهم، وعدم مؤاخذتهم على زلّاتهم ما عدا الحدود الشرعية (1) فليس لولاة الأمور التجاوز عنها، وإنما خص ولاة الأمور بهذا الخطاب لأنهم أقدر من غيرهم في إيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، وإن كان غيرهم لا يخرج عن ذلك، فإنّ على كل مسلم أن يعامل الأنصار وأبناء   (1) " هداية الباري في ترتيب صحيح البخاري " ج 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 834 - " بَابُ مَنَاقِبِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " 975 - عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " اهتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْن مُعَاذٍ ".   الأنصار بهذه المعاملة قدر استطاعته. ثانياًً: إخباره - صلى الله عليه وسلم - لنا عن تناقص عدد الأنصار شيئاً فشيئاً على مرور الزمن بسبب استشهاد أكثرهم في الفتوحات وحروب الردة، والمعارك التي وقعت بين المسلمين كمعركة الحرة وغيرها. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 834 - " باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه " وهو سعد بن معاذ الأنصاري الأشهلي (1) الأوسي رئيس قبيلة الأوس من الأنصار، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية وبإسلامه أسلم بنو عبد الأشهل، ودارهم أوّل دار أسلمت من الأنصار، سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار، وكان مقدماً مطاعاً شريفاً في قومه من أجلة الصحابة وأكابرهم وخيارهم، شهد بدراً وأحداً، ورمي يوم الخندق في أكحله، فلم يرقأ الدم حتى مات بعد شهر في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة وهو ابن سبع وثلاثين، ودفن بالبقيع. 975 - معنى الحديث: أنه لما مات سيد الأنصار " سعد بن معاذ " رضي الله عنه، تحرك عرش الرحمن استبشاراً وسروراً بمقدمه، والتحاقه بالملأ الأعلى لأن أرواح السعداء والشهداء مستقرها تحت العرش. قال النووي: واختلفوا في تأويله، فقالت طائفة: هو على ظاهره ولا مانع منه كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) وهذا القول: هو المختار، وقيل المراد اهتزاز   (1) " شرح المرقاة على المشكاة " ج 5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 835 - " بَابُ مَنَاقِبِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَام " 976 - عَنْ سَعْدِ بْن أبِي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لأحَدٍ يَمْشِي على الأرْض إنَّهُ مِنْ أَهْلِ   أهل العرش وهم حملته من الملائكة وغيرهم، فحذف المضاف، والمراد بالاهتزاز الاستبشار، كقول العرب: فلان يهتز للمكارم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث بأي معنى من معانيه وأي وجه من وجوه تفسيره على فضل سعد بن معاذ ومكانته السامية، ومنزلته العالية عند الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قال في " هداية الباري " (1) وعلى أي تفسير فالاهتزاز منقبة جميلة لذلك الصحابي الكبير. اهـ. وهو ما ترجم له البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على منقبة عظيمة لسعد وهو ما ترجم له البخاري. 835 - " باب مناقب عبد الله بن سلام " 976 - معنى الحديث: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهد لأحد من الذين يمشون على وجه الأرض بالجنة سوى عبد الله بن سلام، ولا شك أن قول سعد هذا يبعث على التساؤل إذ كيف يكون ذلك مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شهد لغيره بالجنة، ومنهم العشرة المبشرون بالجنة، ولهذا قال الحافظ: وقد استشكل هذا الحديث، بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لجماعة إنهم من أهل الجنة غير عبد الله بن سلام، ثم قال الحافظ حلاً لهذا الإِشكال: فالظاهر أن ذلك بعد موت المبشرين بالجنة، لأن عبد الله بن سلام قد عاش بعدهم، قال رضي الله عنه " وفيه نزلت (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) " أي: وفي عبد الله بن سلام نزل قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ   (1) " هداية الباري " ج 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 الْجَنَّةِ إلَّا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلام، قَالَ: وفِيهِ نَزَلَتْ (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) الآيَة".   فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وإنما أنزل الله فيه هذه الآية الكريمة ووصفه بأنه الشاهد العدل الذي شهد من بني إسرائيل على مثله، لأنه شهد على أن محمداً رسول الله حقاً، وأنه موصوف بذلك في التوراة، فآمن بالنبي، وشهد له بالرسالة، وأنكر بنو إسرائيل ذلك وكذبوه، فأنزل الله هذه الآية تنويهاً بشأنه وإقامةً للحجة على غيره من اليهود، بشهادة عالم من أجلّ علمائهم. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خاصمته اليهود أرسل إلى عبد الله بن سلام فقال: أتشهد أني رسول الله مكتوباً في التوراة والإِنجيل " قال: نعم فأعرضت اليهود وأسلم عبد الله، فهو الذي قال الله جل ثناؤه (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) ومعناها كما قال الطبري وآمن عبد الله بن سلام، وصدق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند الله، واستكبرتم أنتم على الإِيمان بما آمن به عبد الله بن سلام يا معشر اليهود. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن عبد الله بن سلام من المبشرين بالجنة كما ينص عليه هذا الحديث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بشره بذلك، وشهد له بها. ثانياًً: أن الله وصفه في الآية الكريمة بأنه الشاهد العدل الذي انفرد دون بني إسرائيل بأداء الشهادة الحق لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد بأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتابه حق، وأنه موصوف بذلك في التوراة والإِنجيل. والمطابقة: في قوله: " وفيه نزلت (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) وفي شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن سلّام بالجنة، والله أعلم. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 836 - " بَابُ تزْويجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خدِيجَةَ وفضلُهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا " 977 - عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَتْ: ما غِرْتُ على أحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْتُ على خَدِيجَةَ، وما رَأيْتُهَا، ولكِنْ كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، ورُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثم يُقَطِّعُهَا أعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فربمَا قُلْتُ لَهُ: كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدنيا امْرَأة إِلَّا خَدِيجَةَ، فَيقُولُ: " كَانت وكانت وكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ ".   836 - " باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة وفضلها رضي الله عنها " قال الحافظ: ذكر المصنف في الباب أحاديث لا تصريح فيها بما في الترجمة ولكن جميع أحاديث الباب يتعلق بالجزء الثاني من الترجمة وهو قوله: وفضلها. أما خديجة وقصة زواجها فهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي أقرب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه نسباً، تزوجها سنة خمس (1) وعشرين من مولده، زوجه إياها أبوها خويلد، وتزوجها ثيباً بعد زوجها الأول أبي هالة، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد سافر في تجارة لها إلى الشام، فرأى منه غلامها ميسرة ما رغّبها فيه، فتزوجته، وعاش معها حياة سعيدة، حتى توفيت في رمضان في السنة العاشرة من البعثة، وقد عاشت معه خمساً وعشرين سنة على الصحيح. 977 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت شديدة الغيرة من خديجة وذلك أمر طبيعي لأن من أبرز صفات المحبة في المرأة المحبة لزوجها أنها تغار عليه أشد الغيرة، وتكره أن تشاركها أي امرأة أخرى في حبه لها، أو تشغل باله وتفكيره، فيكثر من ذكرها، أما إذا سبق لهذه المرأة أنها كانت زوجة   (1) " فتح الباري " ج 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 له، وأنه لا زال يعيش على ذكراها، فإن الغيرة تشتد، وهذا ما وقع للسيدة عائشة رضي الله عنها بالنسبة إلى السيدة خديجة، حيث قالت " ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها " أي مع كوني لم أرها ولم ألتق بها في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - " ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من ذكرها " أي ولكن السبب في شدة غيرتي منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر الحديث عنها " وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة " أي وكان يكرم صديقاتها، ويهدي إليهن الهدايا من أجلها، فكثيراً ما كان يذبح الشاة ويقسمها أقساماً، فيهدي إلى كل واحدة من صديقاتها قسماً منها، وفاءً لخديجة، وذلك من شدة محبته لها، ومحافطه على ودها، والعيش على ذكراها. " فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلاّ خديجة " أي فكثيراً ما كنت أخاصمه إذا ذكرها، وتحدث عنها فأقول له: كأن خديجة أنستك النساء جميعاً، فأصبحت لا ترى غيرها في هذه الدنيا " فيقول: إنها كانت وكانت " أي فيعدد فضائلها ومحاسنها، ويقول: إنها كانت صوامة قوامة محسنة إلى غير ذلك كما سيأتي. " وكان لي منها ولد " بفتح الواو وسكون اللام أي وبالإضافة إلى هذه المزايا كلها فقد رزقني الله منها أكثر ذريتي ذكوراً وإناثاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل السيدة خديجة رضي الله عنها الذي يتجلى في شدة محبته - صلى الله عليه وسلم - لها، وتعلقه بها، وعيشِهِ على ذكراها (1)، وإكرام صديقاتها، كما قالت عائشة رضي الله عنها وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكراها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنت عليه أختها هالة، وسمع صوتها اهتز فرحاً وسروراً وانتعشت نفسه، وأسرع للقائها، لأن صوتها يشبه صوت خديجة   (1) قال النووي: وفي هذا الحديث ونحوه دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 837 " بَابُ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " 978 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أنْزِلَ علَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ ابْنُ أرْبَعِينَ، فَمَكَثَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثم أُمِرَ بالهِجْرَةِ إلى الْمَدِينَةِ، فمكث بِهَا عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوِفِّيَ - صلى الله عليه وسلم - ".   رضي الله عنها قالت عائشة، فقلت: " ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين أي ساقطة الأسنان " هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها " ْأي قد أبدلك الله بي، وأنا خير منها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمنا أولاد النساء " وذلك لأن جميع أولاده منها ما عدا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية. ومن أولادها رضي الله عنها القاسم، وقد مات صغيراً قبل البعثة، وبناته الأربع زينب ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة رضي الله عنهن، وقيل كانت أم كلثوم أصغر من فاطمة، ومن أولادها عبد الله ولد بعد البعثة، وكان يلقب بالطاهر والطيب ويقال هما أخوان له. اهـ. كما أفاده الحافظ. ثانياًً: أن الغيرة غريزة في النفس لا يلام عليها الإِنسان. قال الطبري وغيره الغيرة مسامح للنساء ما يقع فيها لأن من تحصل لها الغيرة كما قال الحافظ - لا تكون في كمال عقلها، فلهذا تصدر منها أمور لا تصدر منها في حال عدم الغيرة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل خديجة، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 837 - " باب مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - " 978 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه الوحي في حراء عندما أتم أربعين سنة وستة أشهر، فنزل عليه جبريل بصدر سورة العلق، وبها بدأت نبوته - صلى الله عليه وسلم -. فنبىء باقرأ ثم فتر عنه الوحي مدة يسيرة، وعاد إليه مرة أخرى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 838 - " حَدِيثُ الإِسْرَاءِ " 979 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ سَمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ في الْحِجْرِ فَجَلا اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِس، فَطَفِقْتُ أخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأنا أنظرٌ إِلَيْهِ ".   بنزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) فأمر بالتبليغ، وبذلك بدأت رسالته ببعثته - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال العلماء: نبىء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وكل ذلك كان في عام واحد عند تمام الأربعين سنة فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشراً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبىء وأرسل عند تمام الأربعين سنة من عمره، لأن هذا السن هو سن الكمال الجسمي والعقلي والنضج الفكري للإِنسان كما يشير إليه قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) اكتمال العقد والرشد (1)، ولذلك: لم يبعث نبي قبل الأربعين وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما " من أَتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره، فليجهز إلى النار (2). ثانياًً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات، وهذا هو الصحيح. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: ظاهرة. 838 - " حديث الإِسراء " وهو رحلته - صلى الله عليه وسلم - على البراق ليلاً من مكة إلى بيت المقدس. 979 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث صبيحة ليلة الإِسراء إلى   (1) " صفوة التفاسير " للصابوني ج 3. (2) " تفسير الألوسي " ج 26. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 قريش عن رحلته تلك الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فكذبوه، وسخروا منه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، وكان قد ذهب إليه بليل، فلم يستطع أن يحدد معالمه، ولكن الله أعانه على ذلك، فبعث إليه جبريل، فكشف له عنه، فصار يرى كل ما فيه، ويصفه لهم، كأنه حاضر بين يديه في تلك الساعة. وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مر بي أبو جهل فقال: هل كان من شيء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس قال أبو جهل: ثم أصبحت بين أظهرنا قال: نعم. قال: فإن دعوت قومك أتحدثهم بذلك، قال: نعم، قال: يا معشر كعب بن لؤي فانفضت إليه المجالس، فقال: حدث قومك بما حدثتني، فحدثهم، قال: فمن بين مُصَفِّقٍ ومن بين واضع يده على رأسه تعجباً، قالوا: أوتستطيع أن تنعت لنا المسجد: فكشف الله عنه، فوصفه لهم كما في حديث الباب حيث قال: " فجلا الله بيت المقدس " قال الحافظ: قيل معناه: كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته " فطفقت أخبرهم عن آياته " أي فبدأت أحدثهم عن علاماته المميزة له " وأنا أنظر إليه " أي أشاهده أمام عيني. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات الإسراء، وأنه كان يقظة لا مناماً، لأنه لو كان مناماً لما تعجبت منه قريش، ولا أنكرته. ثانياً: أن من المعجزات الظاهرة التي تضمنها هذا الحديث كشف الحجاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رأى بيت المقدس، وتمكن من وصفه، كأنه ماثل بين يديه، وقد جاء في حديث أم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " فسألوني عن أشياء لم أتبينها، فكَرِبْتُ كرباً لم أكرب مثله قط، فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلاّ نبأتهم به " قال الحافظ: ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان، وفي حديث أم هانىء أنهم قالوا له: " كم باباً للمسجد؟ قال: ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إليها وأعدها باباً باباً ". والمطابقة: في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 839 - " بَابُ المِعْرَاجَ " 980 - عَنْ أنَسٍ بْنِ مَالِكٍ، عن مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أن نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُمْ عن لَيْلَةَ أُسْرِيَ بهِ قَالَ: " بَيْنَمَا أنا في الْحَطِيم -ورُبَّما قَالَ في الْحِجْرِ- مُضْطَجِعَاً إِذ أَتَاني آتٍ فَقَدْ قَالَ، وسَمعته يَقُول: فَشَقَّ ما بَيْنَ هذِهِ إلى هَذِهِ - قَال الراوي: مِن ثُغْرة نَحْرِهِ إلى شِعْرَتِهِ، فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إيمَاناً، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أعِيدَ، ثُمَّ أتِيتُ بِدَابَّةٍ، دُونَ البَغْلِ، وفَوْقَ الْحِمَارِ، أبيَضَ، قَالَ الرَّاوِي: وهُوَ الْبُرَاقُ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أقصَى طَرَفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حتى أتى السَّمَاءَ الدُّنيا، فاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقد أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أبوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَليْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالابنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حتى أتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فاسْتَفْتَحَ قِيل: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاء، فَفَتَحَ،   كون الحديث يدل على إثبات الإِسراء الذي ترجم له البخاري. 839 - " باب المعراج " والأكثرون على أنه كان في ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وقيل في رجب، وعن الزهري أنه بعد البعثة بخمس سنين، ورجحه القرطبي والنووي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قالَ: هَذَا يَحْيَى وَعيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ، فردَّا، ثُمَّ قَالا: مَرْحَبَاً بالأَخ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحْ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قال: جِبرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ: قِيلَ مَرْحَباً بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبَاً بالأخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحْ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذا   980 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدّث أصحابه عن قصة عروجه إلى السماء في تلك الليلة المباركة، فذكر لهم أنه بينما كان مضطجعاً في الحطيم، وربما قال في الحجر - أي في حجر إسماعيل وهما بمعنى واحد، جاءه ملك فشق صدره من ثغرة نحره إلى شعرته. بكسر الشين. أي شق ما بين الثغرة التي في الرقبة إلى عانته فاستخرج قلبه الشريف، وغسله بماء زمزم ثم جاء بطست ذهبي مملوء إيماناً ويقيناً، فأفرغ في قلبه. كما في رواية أخرى حيث قال فيها: " ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه ". ؤإنما غسل قلبه الشريف، وملىء إيماناً ويقيناً، إعظاماً وتأهباً لما يلقى هناك، مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفاً، كما أفاده ابن أبي جمرة. ثم جاءه جبريل بالبراق وهو دابة بيضاء أصغر من البغل، وأكبر من الحمار، ذات سرعة غريبة تخطو الخطوة الواحدة فتضعها عند منتهى ما يراه البصر، فهي أسرع من الضوء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 إِدْرِيسُ فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالأخِ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِح، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ الخامِسَةِ، فاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فإِذَا هارُونُ، قَالَ: هَذا هَارُونُ فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالأخ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ السادِسَةِ، فاسْتَفتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ أرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذا   فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الدابة، وطارت به إلى بيت المقدس حيث التقى هناك بالأنبياء، وصلّى بهم إماماً، ثم انطلق مواصلاً رحلته إلى السماء (1) قال ابن أبي جمرة: "إنما خص - صلى الله عليه وسلم - بركوب البراق زيادة له في التشريف والتعظيم، لأن غيره من الدواب يقدر غيره على ملكه والتمتع به، والبراق لم ينقل أن أحداً ملكه وتمتع به، أما لماذا لم يعط النبي - صلى الله عليه وسلم - قوة حتى يصعد بنفسه، فإنه لو صعد بنفسه لكان ماشياً على رجليه، والراكب أعز من الماشي، فأعطي البراق ليركب عليه، فيكون أعز وأشرف له كما أفاده ابن أبي جمرة. وظاهر حديث الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب البراق في الإِسراء والمعراج معاً، لأنه لم يذكر غيره وجاء في رواية أخرى: " أنه - صلى الله عليه وسلم - أسري به على البراق، وعرج به على المعراج " وهو مصعدٌ بين السماء والأرض، لا يقال: كيف هو؟ ولا على أي صورة هو، لأنا لا نعلم حقيقته، صعد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت المقدس بصحبة جبريل عليه   (1) على المعراج وهو سلم أرسله الله إليه ليصعد عليه إلى السماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 مُوسَى فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالأخ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ. مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أبكِي لأنَّ غُلاماً بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أمَّتِهِ أكثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أمَّتِي، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فاسْتَفْتَحَ جِبْرِيْلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ، قِيلَ: وقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَباً بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلصْتُ فإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذا أبوكَ فَسَلّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلامَ، قَالَ: مَرْحَباً بالابن الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلَ قِلالِ هَجَرَ، وِإذَا وَرَقُهَا مِثلَ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ:   السلام. حتى أَتى السماء الدنيا - أي الأولى، وسميت بذلك لأنها أقرب السموات إلى الأرض، فاستأذن جبريل من الملائكة هناك، وطلب منهم أن يفتحوا له، فسألوه من أنت. ومن معك؟ فأجابهم: أنا جبريل ومعي محمد، فسألوه: هل أمر بالعروج؟ فقال نعم، فرحبوا به واستقبلوه بالحفاوة والتكريم، وهم يقولون: " مرحباً به فنعم المجيء جاء " أي فقد كان مجيئه مباركاً محموداً، فلما فتحت السماء الدنيا وجد فيها آدم عليه السلام، وعرفهما جبريل ببعضهما، وتبادلا التحية، ورحب به أبوه آدم، ثم صعد - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء الثانية فالثالثة فالرابعة الخ والتقى فيها بالأنبياء آدم ويحيى وعيسى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم السلام، واستمر في رحلته قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "فلما تجاوزت" أي لما تجاوزت موسى " بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي " ولم يكن بكاء موسى حسداً، لأن الحسد منزوع من ذلك العالم السماوي، وإنما كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وِإذَا أرْبَعَةُ أنْهَارٍ، نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أما الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ في الْجَنَّةِ، وأمَّا الظَّاهِرَانِ فالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألفَ مَلَكٍ (1)، ثم أُتِيْتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وإنَاءٍ مِنْ لَبَن، وَإنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأخَذْت اللَّبَنَ، فَقَالَ، هِيَ الْفِطرةُ أنْتَ عَلَيْهَا، وأمَّتكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتِ خَمْسينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْم، فَرَجَعْت، فَمَرَرْتُ عَلَى   أسفاً على ما فاته من الأجر بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر " وهي جرار كبيرة تسع قربتين " وإذا ورقها كآذان الفيلة " ولم يتجاوزها أحد سوى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولذلك سميت سدرة المنتهى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " وإذا أربعة أنهار، نهران ظاهران ونهران باطنان " أي وإذا بتلك السدرة ينبع من تحتها أربعة أنهار تجري في الجنة، نهران منهما باطنان - أي لم يرهما أحد من البشر لأنّه لا يراهما أحدٌ إلاّ في الدار الآخرة، وهما السلسبيل والكوثر، ونهران منهما ظاهران، نراهما في الدنيا، وهم النيل والفرات وهو معنى قوله: " فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان نهران في الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات " قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم رفع لي البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك " فلا يعودون إليه مرة أخرى، وهو في السماء السابعة حيال الكعبة قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، وقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك " قال الحافظ: أي دين الإِسلام يعني أن هذا الشراب الذي اخترته هو الشراب الطيب الموافق لدينك وشريعتك، والموافق للطبيعة البشرية، لأنه أوّل شيء يدخل بطن المولود، ويشق أمعاءه ويغذي جسمه   (1) هكذا في رواية الكشميهي بزيادة: يدخله كل يوم سبعون ألف ملك وفي الرواية الأخرى بدون هذه الزيادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْم، قَالَ: إِنَّ أُمَّتك لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْم؟ وِإنِّي واللهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فارْجِعْ إلى رَبِّكَ فأسْالهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى، فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْراً، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْم، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ   أثناء طفولته، ويكون له غذاءً ودواء وسقاء أثناء الرضاعة، بخلاف الخمر، فإنها شراب خبيث يفتك بشاربه صحياً وجسمياً، أما العسل فقد شرب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلاً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت، فمررت على موسى، قال: بم أمرت، قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم " أي لا تقدر على ذلك " وإني والله قد جربت الناس قبلك " يعني بني إسرائيل " وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة " أي عانيت منهم كثيراً " فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك " بالتنقيص من عدد الصلوات تيسيراً وتسهيلاً عليهم ليتمكنوا من أداء ما فرض الله عليهم دون مشقة أو عناء " فرجعت فوضع عني عشراً " أي فلما عدت إلى ربي، وسألته التخفيف نقص عني عشراً من الخمسين فصارت أربعين " فرجعتُ إلى موسى فقال مثله " أي فلما رجعت إلى موسى، وأخبرته أن الله قد وضع عني عشراً لم يكتف بذلك، وإنما أعاد عليَّ قوله الأوّل، فقال لي أن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال - صلى الله عليه وسلم -: " فرجعت، فوضع عني عشراً " فصارت ثلاثين " فرجعت إلى موسى فقال مثله " أي قال لي: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 بخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْم، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْم، قَالَ: إِن أُمتك لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْم، وِإنِّي قَدْ جَرَّبْت النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْت بني إسْرَائِيلَ أشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَاسْألة التَّخْفِيفَ لأمَّتِكَ، قَلَ: سَألْت رَبِّي حَتَّى استحْيَيْت، ولكِنْ أرْضَى (1) وأُسَلِّم، قَالَ: فلَمَّا جَاوَزْت نَادَانِي منَادٍ: أمْضَيْت فَرِيْضَتِي، وخَفَّفْت عَنْ عِبَادِي".   " فرجعت " إلى ربي " فوضع عني عشراً " فصارت عشرين صلاة " فرجعت إلى موسى فقال مثله " أي مثل قوله الأول، " فرجعت " إلى ربي " فأمرت بعشر صلوات " أي بعشر صلوات في اليوم والليلة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فرجعت " إلى موسى " فقال مثله " أي فقال لي: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف لأمتك " فرجعت فأمرت بخمس " أي فأمرني الله تعالى بخمس، يعني فصارت خمس صلوات في اليوم، واستقر الأمر على ذلك حيث قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: " أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " أي نفذت حكمي وجعلت الصلاة خمساً، تخفيفاً على عبادي من هذه الأمة المحمدية، فلله الحمد والمنة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من المعجزات العظيمة الثابتة للنبي - صلى الله عليه وسلم - معجزة الإِسراء والمعراج (2)، والصحيح أنهما وقعتا في   (1) قال الحافظ: " قوله: ولكن أرضي وأسلم " فيه حذف، تقدير الكلام: سألت ربي حتى استحييت فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم ولكني أرضي وأسلم. اهـ. (2) قال الإمام أبو حنيفة في " الفقه الأكبر": " وخبر المعراج حق، فمن رده فهو ضال مبتدع، وقال القاري في شرحه عليه: من أنكر المعراج ينظر إن أنكر الإسراء من مكة إلى بيت المقدس فهو كافر، ولو أنكر المعراج من بيت المقدس لا يكفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة (1) وإنما كان بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من الطائف ليكون في ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم - وتقوية لنفسه الشريفة على ما يواجهها من المصاعب. وقد رويت قصة الإسراء والمعراج عن كثير من الصحابة عَدَّد منهم في " المواهب اللدنية " ستة وعشرين صحابياً. واختلف السلف والخلف: هل كان الإسراء بالروح فقط أو بالروح والجسد معاً، فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، وإلى هذا ذهب معاوية وابن مسعود وعائشة والحسن البصرى في رواية كما في " الشفاء " للقاضي عياض، واحتجوا بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) لأن الرؤيا لا تطلق إلاّ على ما يشاهد في النوم، أما ما يشاهد في اليقظة فإنه يسمى رؤية لا رؤيا، قالوا: فلما سمّى الله المعراج رؤيا علمنا أنه كان مناماً، واحتجوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الروايات: " بينا أنا نائم بالحطيم " وقول أنس رضي. الله عنه " وهو نائم في المسجد الحرام " وذكر القصة ثم قال في آخرها: فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام. اهـ. غير أن الإمام ابن القيم " نفي عن معاوية وعائشة أنهما يقولان بأن الاسراء كان مناماً، فقال في " زاد المعاد ": وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناماً، وإنما قالا أسري بروحه، لم يفقد جسده، وفرّق بين الأمرين، بأن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور الحسيّة، فيرى أنه قد عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد، ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له الأمثال. اهـ. وذهب معظم السلف والخلف إلى أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح معاً، وهو قول ابن عباس وجابر وأنس وابن المسيب وابن شهاب والحسن البصري والنخعي، وهو قول أكثر المتأخرين، وأجابوا بأن قوله تعالى:   (1) وبه جزم النووي، وأما شهره، فقيل كان في ربيع الأول، وقيل في ربيع الآخر وقيل في رمضان، وقيل في شوال، وقيل في رجب، حكاه ابن عبد البر، وجزم به النووي في الروضة، وأما ليلته فقيل في السابع والعشرين، وقيل في السابع عشر، والله أعلم. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ليس نصاً صريحاً على نفي الرؤية بالبصر، فإن الرؤيا لا تختص بالرؤيا المنامية وحدها، فتخصيصها بما يرى في النوم غير صحيح من عدة وجوه، منها ما ذكره السهيلي من أن الرؤيا تأتي في كلام العرب بمعنى ما يشاهد في اليقظة ويرى بالعين أيضاً، ومن ذلك قول الراعي: وَكَبَّرَ للرُّؤيَا وَهَشَّ فُؤادُهُ ... وَبَشَّرَ قَلْباً كَانَ جَماًّ (1) بَلابِلُهْ ومنها، وهو أقواها أن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الرؤيا في الآية بأنها رؤيا بصرية لا منامية حيث قال: " هي رؤيا عين رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رؤيا منام " وابن عباس رضي الله عنهما حجة في اللغة ولسان العرب، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولو كانت مناماً ما افتتن به الناس حتى ارتد كثير ممن أسلم. وأما قول عائشة رضي الله عنها: " ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) فإنه يعارض قول أبيها الصديق رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به: طلبتك يا رسول الله في مكانك فلم أجدك، فأجابه: " إنّ جبريل حملني إلى المسجد الأقصى " أخرجه البيهقي وابن مردويه، والصديق أدرى من عائشة بما وقع في تلك الليلة، لأنها كانت إذا ذاك طفلة صغيرة، لا يتجاوز عمرها على أقرب الروايات سبع سنوات، هذا إذا قلنا إنه - صلى الله عليه وسلم - أسرى به قبل الهجرة بعام، أما على القول بأن الإسراء كان قبل الهجرة بخمس سنوات فإن عمرها إذ ذاك لا يتجاوز ثلاث سنين، فهل نأخذ بقولها أو بقول أبيها: على أنها رضي الله عنها لم تتحدث بذلك عن مشاهدة، لأنها لم تكن زوجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت، فلماذا يرجح   (1) قوله: كان جماً بلابله، أي كان كثير الأشواق والهواجس النفسية. (2) قال القاري في " شرح الفقه الأكبر ": وقد أغرب شارح العقائد في تأويل قول عائشة رضي الله عنها: " ما فقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج " حيث قال: معناه ما فقد جسده عن الروح، بل كان معه روحه، قال: وغرائبه لا تخفى، والتأويل الصحيح لقول عائشة أن المعراج كان بمكة في أوائل البعثة حين لم تولد عائشة، أو يقال: القضية كانت متعددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 حديثها على حديث أبيها الذي قاله عن مشاهدة ومعاينة وحضره بنفسه؟. اهـ. كما أفاده القاضي عياض. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أنا نائم في المسجد الحرام " وذكر القصة فقد قال عياض: ليس في الحديث أنه كان نائماً في القصّة كلها، فلعله كان نائماً، فلما جاءه جبريل أيقظه كما قال في رواية أخرى فهمزني بعقبه، وأما قوله " ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام " فلعل معناه أنّه لما عاد - صلى الله عليه وسلم - نام بقية تلك الليلة فلما استيقظ في الصباح وجد نفسه في المسجد الحرام. واستدل القائلون بأن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح معاً بقوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) حيث افتتحها الله بالتسبيح المشعر باستعظام ما كان في الأمر، والتعجب منه، لأنه حادث خارق للعادة، مخالف للسنن الكونيّة، فلو كان الإسراء بالروح فقط لم يكن ثمة ما يقتضي هذا لأنه أمر عادي يقع لكل واحد. ثم إنه قال " بعبده " وهو نص قاطع في الموضوع، لأن العبد لا يطلق إلاّ على الشخص المكون من الروح والجسد واستدلوا أيضاً بما جاء في أحاديث الإسراء والمعراج من أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرهم بذلك هاج هائجهم، وقامت قيامتهم، فمنهم الواضع يده على رأسه تعجباً، ومنهم المصفق بيده، وارتد بعض من كان على الإِسلام، فهل ترى أن ذلك كله كان من أجل رؤيا منامية أخبرهم عنها - صلى الله عليه وسلم -. كما أن في القصة ما هو أكثر وأقوى دلالة من هذا وهو أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عيرهم فأجابهم بأنه مر بها، وقد ند منها بعير فانكسر، وأنه مر بعير أخرى قد ضلوا ناقة لهم، وكان معهم قدح من الماء فشربه - صلى الله عليه وسلم -، فسألوهم عندما قدموا مكة: فصدقوا ذلك، فهل ترى أن الروح هي التي شربت وقد قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في " مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " "ثم أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده على الصحيح (1) من المسجد الحرام   (1) " مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - " للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 840 - " بَابُ تزْويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا " 981 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " تَزَوَّجَنِي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا   إلى بيت المقدس إلى أن قال ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء" إلخ. القصة. وأما رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه: فقد اختلف فيها السلف فأنكرتها عائشة حيث قالت لمسروق: " ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) الآية، وبقول عائشة قال جماعة من الفقهاء المحدثين .. وثبت عن ابن عباس من طرق متعددة: (1) أنه قال: " إن الله اختص موسى بالكلام، ومحمداً بالرؤية، وإبراهيم بالخُلة " أخرجه النسائي والحاكم. قال النووي وقد قال معمر بن راشد (2) حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس رضي الله عنهما أثبت شيئاً نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي (3). ثانياًً: بيان الزمان والمكان الذي فرضت فيه الصلوات الخمس، أما الزمان فهو ليلة الإِسراء، وأما المكان فهو السماء العليا، وذلك لِإظهار فضلها، وشرفها. مطابقته للترجمة: في اشتماله على قصة المعراج، وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. 840 - " باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها " 981 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا بقصة زواجها   (1) " الشفا " للقاضي عياض. (2) " شرح النووي على مسلم ". (3) قال الحافظ في " الفتح " ويمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. قال ابن كثير ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه لأخبر بذلك، ولقال ذلك للناس. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 في بني الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَوُعِكْتُ فَتَمَزَّقَ شَعْرِي، فَوَفَى جُمَيْمَةً، فأتَتْنِي أمِّي أمُّ رُومَانَ، وِإنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ ومعي صَوَاحِبٌ لي، فصَرَخَتْ بي فأتَيْتُهَا لا أدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فأخَذَتْ بِيَدِي حتى أوْقَفَتْنِي على بَابِ الدَّارِ، وِإنِّي لأنْهَجُ حتى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثم أخَذَتْ شَيْئاً مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي ورَأسِي، ثم أدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِن الأنْصَارِ في الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ والْبَرَكَةِ، وعلى خَيْرِ طَائِرٍ، فأسْلَمَتْنِي إلَيْهِنَّ، فأصْلَحْنَ مِنْ شَأنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا رَسُولُ اللهِ ضُحَى، فأسْلَمْنَنِي إليه، وأنا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْع سِنين".   بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه عقد عليها وهي بنت ست سنين، فقدمت مع أهلها إلى المدينة، ونزلت في بني الحارث بن الخزرج فمرضت رضي الله عنها، وتمزق شعرها، ثم شفيت وعاد إليها شعرها، وأخذ يتكاثر ويطول حتى وصل إلى المنكبين، وهو معنى قولها: " فوفي جميمة " قالت رضي الله عنها: " فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة " أي وأنا ألعب راكبة على حبل مشدود بين خشبتين مع بعض صديقاتي، قالت: " فأخذت بيدي " أي فأمسكت بيدي وأخذتني معها " حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج " أي تتردد أنفاسي من التعب والإِعياء " ثم أخذت شيئاً من الماء فمسحت به وجهي ورأسي " وذلك لتهدئتها " ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة " أى جعله الله زفافاً سعيداً مباركاً " وعلى خير طائر " أي وتقدمين على أسعد حظ. " فأصلحن من شأني " أي فقمن هؤلاء النسوة بإصلاح شعرها وإلباسها أحسن ثيابها، وإعدادها لزوجها، قالت عائشة: " فلم يرعني إلاّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - ضحى " أي فلم أشعر إلاّ وقد دخل عليّ رسول الله صباحاً في وقت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 841 - " بَابُ هِجْرَةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وَأَصحَابِهِ إلى الْمَدِينَةِ " 982 - عن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَمْ أعْقِلْ أبَوَيَّ قَطُّ إلَّا وَهُمَا يَدينَانِ الدِّيْنَ، ولم يَمُرُّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إلَّا يَأتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَي النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلما ابْتلِيَ الْمُسْلِمُونَ، خَرَجَ أبوْ بَكْرٍ مُهَاجِراً نحو أرْض الْحَبَشَةِ، حتىْ إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أيْنَ تُرِيدُ يا أبَا بَكْرٍ؟   الضحى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قصة زواجه - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة رضي الله عنها وهو ما ترجم له البخاري. ثانياً: أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، لأن رسول الله عقد على عائشة وعمرها ست سنوات، ودخل عليها وعمرها تسع سنوات. ثانياً: مشروعية إعداد العروس وتزيينها لزوجها، وإلباسها أفخر ثيابها ليلة زفافها وعرسها، لقول عائشة رضي الله عنها: " ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني ". والمطابقة: في كون الحديث مشتملاً على قصة زواجه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. 841 - " باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة " 982 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا في حديثها هذا عن قصة الهجرة النبوية، فتمهد لذلك بقولها: " لم أعقل أبوي إلاّ وهما يدينان الدين " يعني أن أبويها أسلما قديماً، وهي لا زالت صغيرة جداً، حتى إنها لا تذكر وقت إسلامهما، لأنها منذ أن فتحت عينينها وعرفت أبويها، وجدتهما يعتنقان الإِسلام، فلما اشتد الأذى على أبي بكر مثل غيره، من المسلمين، خرج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 فَقَالَ أبو بَكْرٍ: أخرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أنْ أسِيْحَ في الأرْض، وأعْبُدَ رَبِّي، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أبا بَكْر لا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْوِي الضَّيْفَ (1)، وَتُعِينُ عَلَى نَوائِبِ الْحَقِّ، فأنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ واعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فرَجَعَ وارْتَحَلَ معَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَة عَشِيَّةً في أشْرَافِ قُرَيْشِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أبَا بَكْر لا يَخْرُجُ مِثْلُهُ ولا يُخْرَجُ، أتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويُعِينَ عَلَى نَوائِبِ الْحَقِّ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُريشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وقالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أبا بَكْر فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ في دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وَليْقَرأ مَا شَاءَ، ولا يُؤْذِينَا   مهاجراً إلى الحبشة، قالت عائشة: " فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد " بفتح الباء وسكون اللام وكسر الغين موضع في طريق اليمن على بعد خمسة مراحل " لقيه ابن الدغنة " بالدال المفتوحة المشددة والغين المكسورة والنون المفتوحة المخففة " وهو سيد القارة " أي رئيس قبيلة القارة بفتح الراء، وهي من بني الهون بن خزيمة بن مدركة بن الياس " فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج " بفتح الباء وضم الراء " ولا يخرج " بضم الياء وفتح الراء أي لا ينبغي أن يخرج بنفسه، ولا أن يخرجه قومه من بلده، " إنك تكسب المعدوم " أي إنك من المحظوظين في التجارة تربح ما لا يربح غيرك " وتصل الرحم، وتحمل الكل " أي تعين الضعيف العاجز " وتقوي الضيف " أي تكرمه " وتعين على نوائب الحق " أي وتقف عند الحوادث والنوازل إلى جانب الحق فتنصر المظلوم وتضرب على يد   (1) تقدم مثله فٍى وصف السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة من باب بدء الوحي، وشرحناه هناك شرحاً وافياً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 بِذَلِكَ، ولا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أن يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وأبنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِك ابْنُ الدَّغِنَةِ لأبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أبو بَكْرٍ بذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ في دَارِهِ، ولا يَسْتَعْلِنُ (1) بِصَلَاتِهِ ولا يَقْرأ في غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبي بَكْرٍ فابْتَنَى مَسْجِداً بِفِنَاءِ دَارِهِ، وكانَ يُصَلِّي فِيهِ ويَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ عليه نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وأبنَاءُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، ويَنْظرٌونَ إِلَيْهِ، وكان أبو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرأ الْقُرآنَ، فأفْزَعَ ذَلِكَ أشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فأرْسَلُوا إلَى ابْنِ الدَّغنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فقالُوا: إِنَّا كُنَّا أجَرْنَا أبا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ علَى أن يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِداً بِفِنَاءِ دَارِهِ، فأعْلَنَ بالصَّلَاةِ والقِرَاءَةِ فِيهِ، وِإنَّا قَدْ خَشِينَا أن يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وأبنَاءَنَا، فانْهَهُ، فَإِنْ أَحبَّ أن يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دَارِهِ فَعَلَ، وَإنْ أَبَى إلَّا أن   الظالم. " فأنا لك جار " أضعك في جواري وحمايتي وأدافع عنك " فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة " أي فلم يجرأ أحد من قريش على أن يرد جوار ابن الدغنة أو يخفره وينتهكه " وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره " أي سراً ولا يجاهر بعبادته لئلا يفتن النساء والصبيان عن دينهم " فقال ذلك ابن الدغنه لأبي بكر " أي فأبلغه هذا الشرط لكي يلتزم به، ويقوم بتنفيذه " فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره " مدة من الزمن يعبد ربه سراً في بيته " ولا يستعلن بصلاته " أي لا يجاهر بصلاته ولا بقراءته " ثم بدا لأبي بكر " أي ثم ظهر لأبي بكر أن يجاهر بعبادته، " فابتنى مسجداً بفناء داره " أي في ساحة المنزل المكشوفة للناس " وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن " أي وصار يصلي ويعبد ربه بالصلاة وقراءة القرآن جهاراً أمام أعين الناس "فيتقذف عليه نساء   (1) ولا يستعلن أي لا يجاهر بصلاته وقراءته للقرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِليْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أن تَقْتَصِرَ علَى ذَلِكَ، وإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلِيَّ ذِمَّتِي، فإني لا أحبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أخْفِرْتُ في رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَإِنِّي أردُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وأرْضَى بِجِوَارِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِلْمُسْلِمِينَ: إِنِّي أُرِيْتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لابتَيْنِ، وهُمَا الحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ منْ كَانَ هَاجَرَ بأرْضِ الْحَبَشَةِ إلى الْمَدِينَةِ، وتَجَهَّزَ أبو بَكْرٍ قِبَلَ، الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: وَهَلْ   المشركين" أي يزدحم عليه النساء والأطفال ويتدافعون حتى يتساقطون عليه " فأفزع ذلك أشراف قريش " أي أخافهم وأقلقهم " فأرسلوا إلى ابن الدغنة " وكلموه في شأن الصديق وطلبوا منه أن يلتزم بالشرط " فقالوا: إنا كما قد أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره " أي إنا كنا قبلنا جوارك لأبي بكر والتزمنا به، وحافظنا عليه، على شرط أن يعبد ربه سراً، ولا يجاهر بعبادته، فيؤذينا، ويضل نساءنا وصبياننا " فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل " أي فله أن يفعل ذلك، مع بقاء الجوار نافذاً " وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك " أي وإن أصر أن يعبد ربه علناً " فسله أن يرد إليك ذمتك " أي فاطلب منه أن يرد إليك جوارك وحمايتك له " فإنما كرهنا أن نخفرك " أي أن ننتهك حرمة الجوار الذي بيننا وبينك. قالت عائشة رضي الله عنها: " فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه " أي أنت تعرف الشرط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أبو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ، وعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ، وَرَقَ السَّمُرِ -وَهُوَ الخَبَطُ- أرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْماً جُلُوسٌ في بَيْتِ أبِي بَكْرٍ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قالَ قَائِلٌ لأبِي بَكْرٍ، هَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَقَنِّعاً في سَاعةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: فداءٌ لَهُ أبِي وأمِّي، وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ في هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فجاءَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ   الذي شرطته على قريش في جواري لك، " فإما أن تقْتَصِر على ذلك " وتحافظ عليه، ولا تتعدى حدوده، " وإما أن ترجع إليَّ ذمتي " وترد إليَّ جواري " فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت " أي فإني أخشى أن تضطر قريش إلى انتهاك حرمة جواري على نقض عهدي، ويكون ذلك وصمة لي " فقال أبو بكر فإني أرد إليك جوارك " وذلك رغبة منه في أن يتحرر في عبادته فيعبد الله كيف شاء " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين: إني أريت دار هجرتكم " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - أطلعه الله في منامه على " المدينة " التي سيهاجر إليها " وتجهز أبو بكر قبل المدينة " أي تهيأ واستعد أبو بكر للرحيل إلى المدينة التي أمر الله بالهجرة إليها " فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رسلك " أي تمهل قليلاً فلعلك ترافقني في الهجرة إليها " فحبس أبو بكر نفسه " أي فتوقف أبو بكر وتأخر عن السفر من أجل أن يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - " وعلف راحلتين عنده ورق السمر وهو الخبط (1) " أي ما يخبط بالعصى من أوراق الشجر، " فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة " أي عند الهاجرة، وبقرب الزوال "قال قائل   (1) وهو شجر الطلح، والطلح كما قال أبو عبيدة والفراء: شجر عظام له شوك. اهـ. في " تفسير القرطبي " ج 17. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 أخْرِج مَنْ عِنْدَكَ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: إِنَّما هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: فَإِنِّي قَدْ أذِنَ لِي في الْخُرُوجِ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بأبي أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ، قَالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ بأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: بالثَّمَنِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهزْنَاهُمَا أحثَّ الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً في جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذاتَ النِّطَاقِيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبَو بَكْرٍ بغَارٍ في جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وهُوَ غُلامٌ شَابٌ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيَدَّلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا   لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً" أي مغطياً رأسه " فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي " والمعنى أجعل أعز الأشياء عندي وهما أبي وأمي فداءً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. " ما جاء به في هذه الساعة إلاّ أمر " أي لم يأت في ساعة الظهيرة إلا لأمر هام له شأنه وخطره " قالت عائشة رضي الله عنها: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن، فأذن له، فدخل " عليهم في منزلهم " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أخرج من عندك " من الغرباء، لأنه يريد أن يتحدث معه في شأن الهجرة " فقال أبو بكر إنما هم أهلك " أي ولا يوجد في البيت أحد غريب. " قال: فإني قد أذن لي في الخروج " أي فإن الله قد أذن لي بالهجرة إلى المدينة " فقال أبو بكر رضي الله عنه: الصحابة " أي أسألك صحبتك، ومرافقتك في هجرتك قالت عائشة رضي الله عنها: " فجهزناهما أحّث الجهاز " بفتح الجيم أي فجهزناهما بأحسن ما يحتاج إليه المسافر في سفره من أثاث ومتاع ولباس، أو فجهزناهما بأسرع جهاز ممكن، لأن الوقت كان ضيقاً، ويجوز في جهاز وجهان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 بِسَحرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ، بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فلا يَسْمَعُ أمراً يَكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ في رِسْلٍ، وَهُو لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهمَا، حتَّى يَنْعَقَ بِهَا عامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، واسْتَأجَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيل، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْن عَدِي هَادِياً خِرِّيتاً -والخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بالهِدَاية- قَد غَمَسَ حلِفَاً في آلِ العَاصِ بْن وَائِلٍ السَّهْمِي، وهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْش، فَأمنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأتاهُمَا بِرَاحِلَتِيهما صُبْحٍ ثلَاثٍ، وانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ والدَّلِيلُ، فأخَذَ   فتح الجيم وكسرها " كما أفاده العيني " " وصنعنا لهما سفرة " أي وأعددنا لهما زادهما من الطعام، " فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها " أي من الحبل الذي تشد بها وسطها عند العمل " فربطت " أي فربطته بتلك القطعة من نطاقها، " ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه، أي اختفيا فيه "، لأنّ قريشاً دبروا أمرهم لقتله - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة، فأتى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك. فلما كانت عتمة الليل، اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه نم على فراشي، وخرج - صلى الله عليه وسلم - ومعه حفنة من تراب في يده، فجعل ينثر على رؤوسهم، وهو يتلو (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ). إلى قوله: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) ثم انصرف بصحبة الصديق رضي الله عنه إلى غار ثور "فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ، قَالَ: سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْن جُعْشُم، جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْش يَجْعَلُونَ في رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أوْ أسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أنا جَالِسٌ في مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِج أقْبَلَ رَجُل مِنْهُمْ حتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأيْتُ آنِفاً أسْوِدَةً بالسَّاحِلِ أرَاهَا مُحَمَّداً وأصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أنَهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأيْتَ فُلَاناً وَفُلاناً، انْطَلَقُوا بأعْيُننَا، ثُمَّ لَبِثْتُ في الْمَجْلِس سَاعَة ثُمَّ قُمْتُ، فدَخَلْتُ، فأمَرْتُ جَارِيَتي أنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أكَمَةٍ فَتَحْبِسهَا عليَّ، وَأخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأرْضَ، وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بي، حَتَّى   غلام شاب ثقف لقن" أي حاذق فطن " فيدلج من عندهما بسحر " أي فيعود من عندهما إلى مكة آخر الليل " كبائت " أي فيكون في مكة صباحاً مع الفجر كأنما كان بائتاً بها، ولم يفارقها " فلا يسمع أمراً يكتادان به " أي يدبر ضدهما " إلاّ وعاه " أي عرفه واطلع عليه فيخبرهم به " ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم " أي شاة من غنم يأتيهما بلبنها " فيبيتان في رسل "، وهو اللبن الطازج الطري " وهو لبن منحتهما ورضيفهما " والرضيف اللبن توضع فيه الحجارة المحماة بالشمس ليسخن " حتى ينعق بها " بكسر العين أي يصبحِ بها " بغلس " أي فِي آخر الليل " واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الديل " قبيلة من كنانة، واسمه عبد الله بن أريقط " هادياً خريتاً " أي دليلاً ماهراً " قد غمس حلفاً في آل العاص " أي تحالف معهم: " قال سراقة بن جعشم: جاءنا رسل من كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرْتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فأهْوَيْتُ يَدِي إلى كِنَانَتي فاسْتَخْرَجتُ مِنْهَا الأَزْلامَ، فاسْتَقْسَمْتُ بِهَا، أضُرُّهُمْ أَمْ لا؟ فخرج الذي أكرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأزْلَامَ تُقَرِّبُ بي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِراءَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ لا يَلْتَفِتُ وَأبو بَكْرٍ يُكْثِرُ الالْتِفَاتَ، سَاخْت يَدَا فَرَسِي في الأرْض حتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذا، لأثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِع في السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فاسْتَقْسَمْتُ بالأزْلامِ فخرَجَ الذي أكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بالأمَانِ، فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حتَّى   دية كل واحد منهما" أي مقدار ديته، وهي مائة من الإِبل " فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة " أي أمرتها أن تخرج لي فرسي متسترة عن الناس وراء مرتفع من الأرض لئلا يعلموا بخروجي، فيسبقني أحد إلى محمد وصاحبه، " وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجِّه الأرض وخفضت عاليه " أي أرخيت رمحي حتى مس زجه الأرض، وبالغت في خفض أعلاه لئلا يظهر لمن بعد عنه، والزج الحديدة التي في أسفل الرمح " حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي " أي فأسرعت بفرسي لكي تقربني منهما، وتقطع المسافة في زمن قصير إليهما " حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها " أي حتى اقتربت من محمد - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، فعثرت في فرسي عثرة شديدة حتى سقطت عن ظهرها " فأهويت بيدي إلى كنانتي " أي فمددت يدي إلى كيس الأزلام الذي معي " فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ " أي فأخرجت منها سهماً لأعرف هل أستطيع أن أضرهم أم لا " فخرج الذي أكره " أي فخرج لسهم يدل على أني لا أضرهم "فركبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ في نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ من الْحَبْسِ عَنْهُمْ، أن سَيَظْهَرُ أمرُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وأخْبَرْتُهُمْ أخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وعَرَضْتُ عَلَيهمْ الزَّادَ والْمَتَاعَ، فلَمْ يَرْزآنِي، ولم يَسأَلانِي إلَّا أن قَالَ: اخْفِ عَنَّا، فَسألتُهُ أن يَكْتُبَ لِي كتابَ أَمْنٍ، فأمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرةَ فَكَتَبَ في رُقْعَةٍ مِنْ أدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَقِيَ الزُّبَيْرَ في رَكْبٍ مِنَ اْلمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّاراً قَافِلينَ مِنَ   فرسي وعصيت الأزلام" أي فلم ألتفت إلى ما ظهر لي من الأزلام، بل ركبت فرسي وتبعت محمداً وصاحبه " حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض " أي غاصت في الأرض " ثم زجرتها " أي صحت عليها بشدة " فنهضت، فلم تكد تخرج يديها " أي فقامت الفرس بعد محاولة شديدة حتى أنها كادت أن لا تستطيع إخراج يديها من الأرض " فلما استوت قائمة إذا لِأثر يديها عُثَان ساطع (1) في السماء " أي فلما اعتدلت الفرس، وقامت من سقطتها، رأيت لأثر يديها غباراً شديداً " مثل الدخان " يشبه الدخان في سواده " فناديتهم بالأمان " أي فأعطيتهم الأمان. " فوقفوا " أي فوثقوا بي ووقفوا وفي رواية: " فناديت القوم أنا سراقة بن مالك بن جعشم أنظروني (2) أكلمكم، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه ". اهـ. فوقفوا ينتظرونه، ليعرفوا ما عنده " ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فتيقنت بعدما منعت عن الظفر بهم، أن محمداً رسول الله حقاً، وأن دينه سيعلو " وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني " أي فلم يأخذا مني شيئاً "فسألته   (1) أي مرتفع في الجو والعثان بضم العين وفتح الثاء الغبار. (2) أنظروني، أي انتظروني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بَكْر ثِيَابَ بَياض، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ فكانُوا يَغدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إلى الْحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فانْقَلبُوا يَوْماً بَعْدَ ما أطالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أوَوْا إلى بُيُوتِهِمْ أوْفَى رَجُل مِنْ يَهودَ عَلى أطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لأمْرٍ يَنْظرٌ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أنْ قَالَ بأعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمْ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إلى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا   أن يكتب لي كتاب أمن" أي كتاب موادعة يؤمنني فيه حتى إذا التقيت بالمسلمين في المدينة أو غيرها لا يتَعرض لي أحد منهم بسوء " فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم " أي فكتب في كتاب موادعة في قطعة من جلد، وأعطاني إيّاه. لكي أستفيد منه عند الحاجة. " وسمع المسلمون بالمدينه مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة " أي وسمع المسلمون من الأوس والخزرج بالمدينة بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة قادماً إلى المدينة " فكانوا يفدون كل غداة إلى الحرّة " أي فكانوا يخرجون كل صباح إلى حرة قباء ينتظرون قدومه " حتى يردهم حر الظهيرة " أي إلى أن يأتي وقت الظهر، فيعودون إلى ديارهم، " فانقلبوا يوماً " أي فعادوا يوماً إلى بيوتهم، " فلما آووا إلى بيوتهم " أي فلما وصلوا إلى منازلهم، " أوفي رجل من يهود على أطم من آطامهم " أي صعد رجل من اليهود على حصن من حصونهم " فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين "، أي فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعليهم الثياب البيضاء " يزول بهم السراب " أي يغطون السراب " فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدُّكم الذي تنتظرون " أي فلم يستطع اليهودي أن يتمالك نفسه، ولم يسعه إلاّ أن ينادي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ حتى نَزَلَ بِهِمْ في بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وذلكَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ من شَهْرِ رَبِيعِ الأوَّلِ، فقامَ أبو بَكْرٍ لِلنَّاس، وَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامِتاً، فَطَفِقَ مَنْ جاء مِنَ الأنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحيِّي أبَا بَكْرٍ، حَتَّى أصَابَتْ الشَّمْسُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عَمْرِو بْن عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وأسسَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسسَ عَلى التَّقْوَى، وَصَلَّى فيهِ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسار يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتىَّ بَرَكَتْ   بأعلى صوته يا معشر العرب من الأوس والخزرج هذا هو حظكم السعيد قد أقبل بقدوم نبيكم، " فثار المسلمون إلى السلاح " أي فتقلد المسلمون أسلحتهم لاستقبال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحراسته من اليهود " فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة " أي فاستقبلوه - صلى الله عليه وسلم - فوق الحرة المتصلة بقباء " فعدل بهم ذات اليمين " أي فاتجه في سيره إلى غرب قباء " حتى نزل في بني عمرو بن عوف " بن مالك الأوسي، وكانوا ينزلون غربي قباء " وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول " الموافق للثاني عشر من ربيع الأول، عند اشتداد الضحى، قبل الزوال كما أفاده ابن إسحاق. قال ابن كثير: والظاهر أن بين خروجه من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوماً " فقام أبو بكر للناس " أي فوقف أبو بكر يسلم على المستقبلين " فطفق من جاء من الأنصار يحيي أبا بكر " أي يبدأ بالسلام على أبي بكر يظن أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - " حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه " أي فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى وقف خلفه، وظلل عليه من أشعة الشمس بردائه " فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فلما ظلل عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - بالمَدِينَةِ، وهُو يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وكان مِرْبَداً لِلتَّمْرِ لِسَهْل وَسُهَيْل غُلَامَيْنِ يَتيمَيْنِ في حَجْرِ أسْعَدِ ابْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلته: هَذَا إن شَاءَ   الصديق عرف الناس عند ذلك من هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف " أي فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف نزيلاً على كلثوم بن الهدم، " بضع عشرة ليلة " أي أربع عشرة ليلة كما في حديث أنس، وقال ابن إسحاق: أقام خمساً، وهو أنسب الأقوال وأظهرها، وأكثرها ملاءمة لسياق القصة، لأنه توجه إلى المدينة يوم الجمعة، وصلاها في الطريق (1)، فتكون إقامته في قباء خمسة أيام من الاثنين إلى الجمعة إذا حسبنا يوم الخروج منها. " وأسس المسجد الذي أسس على التقوى " وهو مسجد قباء، أوّل مسجد بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. اهـ. فالجمهور على أن المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء. قال الحافظ: وهو ظاهر الآية لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نزلت (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) في أهل قباء، أخرجه أبو داود. وقال بعضهم: إن قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) يقتضي أنه مسجد قباء، لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الهجرة. " ثم ركب - صلى الله عليه وسلم - راحلته فسار يمشي معه الناس " قال ابن إسحاق: فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بين أظهرهم - أي في وسطهم وهم يحفون به الخ. " حتى بركت عند مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - " وأدركته الجمعة في الطريق في بني سالم بن عوف. فنزل وصلاها هناك، ثم واصل سيره إلى المدينة حتى   (1) أي وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أوّل جمعة له بالمدينة في الطريق بين مكة وقباء، فلو أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام أكثر من خمسة أيام لصلى هذه الجمعة في مسجد قباء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 اللهُ الْمَنْزِلُ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الغُلَامَيْنِ فساوَمَهُمَا بِالمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِداً، فَقَالا: لَا، بَلْ نَهِبُهُ لَكَ يَا رَسُول اللهِ، فَأبى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حتى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِداً، وَطَفِقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْقُلُ مَعَهُمْ اللَّبِنَ في بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هذَا الحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أبَرُّ رَبَّنَا وَأطْهَرْ وَيَقول: اللَّهُمَّ إِنَّ الأجْرَ أجرُ الآخِرَةِ ... فارْحَمِ الأنْصَارَ والْمُهَاجِرَه فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُل مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي".   بركت ناقته في موضع مسجده - صلى الله عليه وسلم - "وكان مربداً للتمر " أي موضعاً يجفف فيه التمر " لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة " أي تحت وصايته - " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل " أي هذا هو الموضع والمكان الذي ننزل فيه إن شاء الله تعالى، لأن الله تعالى اختاره لنزولنا، وفي رواية عن أنس أنه قال: " قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما دخل جاء الأنصار برجالها ونسائها، فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: دعو الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري " (1) إلخ الحديث، وفي رواية موسى بن عقبة: أنه كان يقول: دعوها فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله، فلما انتهت إلى دار أبي أيوب بركت به على الباب، فنزل فدخل بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه " ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين، فساومهما بالمربد " أي فساوم وصيَّهُما في شراء ذلك المربد كما في رواية ابن عيينة حيث قال فكلم عمهما أن يبتاعه منهما. كما أفاده الحافظ   (1) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 " ليتخذه مسجداً " أي ليبني على تلك الأرض مسجده - صلى الله عليه وسلم - " فقالا: بل نهبه " أي نعطيه لك دون ثمن. " فأبى أن يقبله منهما هبة " أي فرفض أن يقبله منهما بدون ثمن، " ثم بناه مسجداً " أي ثم اشتراه منهما، وبنى في مكانه مسجداً، " وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل معهم اللبن في بنيانه " أي وشرع رسول الله في بناء المسجد، وشارك أصحابه بيده في بنائه، فصار ينقل معهم اللبن " ويقول وهو ينقل اللبن " يعني وينشد أثناء ذلك قول الشاعر: هَذَا الحِمَالُ لَا حِمَالُ خيْبَرْ ... هَذا أبرُّ رَبّنا وَأطْهَرْ أي إن ما يحمله المسلمون في بناء المسجد أعظم وأجل من أحمالِ خيبر وتمورها كلها، لما يُنَالُ به من نعيم الآخرة الذي لا يحول ولا يزول ويقول: اللهم إنَّ الأجْرَ أجْرُ الآخرة ... فارْحَمِ الأنصَارَ وَالمُهَاجرَة أي الأجر الحقيقي هو الأجر الأخروي، لأنه كما قال بعضهم: لو كانت الدنيا من جوهر يفنى والآخرة من خزف يبقى لكانت الآخرة أفضل، ثم دعا - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين والأنصار بالرحمة والرضوان في قوله: " فارحم الأنصار والمهاجرة ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على فوائد وأحكام كثيرة: أولها: بيان قصة هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة والحفاوة البالغة التي قوبل بها، فكانوا يفدون كل غداة إلى الحَرَّة ينتظرون قدومه لكي يستقبلوه حتى يردهم حر الظهيرة، ثم لما جاءتهم البشرى بوصوله إلى المدينة تقلدوا سيوفهم، وذهبوا لاستقباله، وأحاطوا به خوفاً عليه من اليهود وقالوا: اركبا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ، فركب نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح، فقيل بالمدينة: جاء نبي الله جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشرفوا ينظرون، ويقولون: جاء نبي الله - أي فصار أهل المدينة يتطلعون إلى رؤيته، ويهتفون باسمه قائلين: جاء نبي الله، جاء نبي الله، قال البراء بن عازب: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث جعلت الإِماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 يقلن: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه البخاري، وقال أنس: فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن: نَحْنُ جَوارٍ مِنْ بَنِي النَجَّارِ ... يَا حَبَّذا مُحَمَّداً مِن جَارِ أخرجه الحاكم. واحتفي به - صلى الله عليه وسلم - كل أهل المدينة رجالاً ونساءً، ووقف العواتق على شرفات المنازل يترائينه - صلى الله عليه وسلم - ويتطلعن إليه يقلن: " أيهم هو؟ " وخرج إليه - صلى الله عليه وسلم - الرجال والغلمان والخدم يقفون على جانبي الطريق يهتفون باسمه، ويكبرون، ويقولون -كما روى ذلك أنس- الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الشيخان. ثانيها: أن الهجرة كانت نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإِسلامية، وفاتحة نصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، وكانت كما قال ابن القيم: مبدءاً لإعزاز دين الله، ونصرة عبده ورسوله، وكانت استجابة لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أمره الله بها، وتحقيقاً لها، حيث أمره أن يقول: (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) فحقق الله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الهجرة كل المآرب، ووجد في طيبة الطيبة أرضاً خصبة لنشر دعوته، فازدهرت الدعوة الإِسلامية، وقويت، واشتدت، ومكن الله لها في الأرض، ولذلك أجمع الصحابة في خلافة الفاروق على أن يؤرخوا بالهجرة، وكان ذلك في السنة السابعة عشرة (1) حيث استشار عمر المسلمين في وضع تاريخ إسلامي يتعرفون به آجال الديون وغيرها من القضايا الهامة، ثم اختار عمر الهجرة، وجعل بداية العام الهجري من محرم، لأنه أول الشهور العربية. ثالثها: أن في نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار أبي أيوب رضي الله عنه شرف وفضيلة عظيمة له رضي الله عنه. قال ابن كثير: وهذه منقبة عظيمة لأبي أيوب، وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما قدم أبو أيوب رضي الله عنه البصرة، وكان ابن عباس رضي الله عنهما نائباً عليها من قبل علي رضي الله عنه بالغ ابن   (1) " البداية والنهاية " لابن كثير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 عباس في تكريمه حتى أنه خرج لأبي أيوب عن داره (1)، وأنزله فيه، كما أنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره وملكه كل ما أغلق عليه، ثم أعطاه عند سفره عشرين ألفاً وأربعين عبداً، وقد صارت دار أبي أيوب من بعده إلى مولاه أفلح، ثم اشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار، وأصلحها، ووهبها لأهل بيت فقراء. رابعها: مشابهة الصديق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أغلب شمائله حتى أنّ ابن الدغنة وصفه بالصفات التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قولها: " إنك لتصل الرحم، إلخ. خامسها: أن هجرته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن سهلة ميسورة، وإنما كانت صعبة قاسية محفوفة بالمخاطر، فقد خرج - صلى الله عليه وسلم - من مكة في شهر يونيه من سنة 622 م (2) حيث اشتد الحر، وتوهجت الصحراء، وسار - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه فوق الحجارة الحارة، والرمال الجارحة التي أدمت أقدامهما، ولم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار حتى تفطرت قدماه، ثم إنهما مكثا في ذلك الغار الموحش الرهيب ثلاثة أيام أشد ما يكون الطلب عليهما، فقد جعل أهل مكة في كل منهما ديته مائة من الإبل، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عالماً بذلك، فاجتهد في إخفاء أثر قدميه، حتى أنه كان يمشي على أطراف قدميه، حتى حفيت قدماه، فحمله الصديق يشتد به حتى أتى الغار. سادسها: معجزته - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة مع سراقة بن جعشم عندما لحق به، فساخت قدما فرسه مرتين إلى آخر ما جاء في ذلك. سابعها: أن هجرته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن عن رأي شخصي، وإنما كانت بأمر إلهي، حيث أمر بذلك في قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا). ثامنها: أن الهجرة كانت رحلة مخططة منظمة بأمر إلهي وتدبير سماوي، ومن هذا التدبير المحكم أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره جبريل أن لا يبيت في فراشه تلك الليلة، وأن   (1) " البداية والنهاية " لابن كثير. (2) " فيض الخاطر " لأحمد أمين جـ 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 يخرج من داره ليفوّت على قريش فرصة اغتياله، فذهب إلى الصدِّيق وخرجا سوياً من خلف البيت، وسارا معاً حتى وصلا غار ثور، ورتب - صلى الله عليه وسلم - أمر إيصال الطعام إليهما، كما كلفا عبد الله بن أبي بكر بإيصال الأخبار إليهما أولاً بأوّل، والمطابقة: في كون الحديث متضمناً لقصة الهجرة. الحديث: أخرجه البخاري. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ الْمَغازِي " 842 - " بَابُ قِصَّةِ غَزْوة بَدر "   كتاب المغازي 842 - " باب قصة بدر " وبدر: قرية على طريق المدينة مكة، على بعد مائة وخمسين كم من المدينة، وكانت هذه الغزوة يوم الجمعة الموافق للسابع عشر من رمضان على رأس تسعة عشر شهراً من الهجرة النبوية سنة 624 م وسببها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع بأبي سفيان مقبلاً في عير تجارية لقريش قُدِّرَ رأسُ مالها بعشرين ألف جنيه (1) ومعها ثلاثون أو أربعون رجلاً، فندب المسلمين إليها، وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، وكان يقصد من وراء ذلك أن يستولي على هذه الأموال تعويضاً للمسلمين عن الأموال التي أخذها المشركون من المهاجرين، وأن يضعف الناحية الاقتصادية لقريش، لارتباطها الوثيق بالناحية العسكرية، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن خرج معه في الثامن من رمضان وكلف ابن أمّ مكتوم أن يصلي بالناس في المدينة وعين أبا لبابة والياً عليها، وعلم أبو سفيان بخروجه - صلى الله عليه وسلم -، فحذره ومال بالعير إلى الساحل واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالاً ليأتي إلى مكة ويستنفر قريشاً، فخرجوا مسرعين، ولم يتخلف منهم إلاّ أبو لهب، وكان أبو سفيان قد أحس أن هناك أمراً يدبر له من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فسار بالقافلة على ساحل البحر حتى نجا بها، وخرجت قريش بقوتها وفرسانها، لتشفي غليلها، وتحمي عيرها، وكان أبو جهل يبذل كل جهده في تحريضها، وكان   (1) " محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " للأستاذ محمد رضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 عددهم ألفاً، معهم مائة فرس وسبعمائة بعير، وهم في غاية البطر والخيلاء، معتمدين على قوتهم، وكثرة عددهم، وجاءهم رسول أبي سفيان يخبرهم أنه نجا بالعير، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نأتي بدراً، فنقيم هناك ثلاث ليال، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبداً. وخرج - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وليس معهم من الإِبل سوى سبعين ومعهم فرسان فقط، وكان معهم رايتان سوداوان راية المهاجرين ويحملها علي رضي الله عنه، وراية الأنصار ويحملها رجل منهم، وكان اللواء الأبيض يتلألأ خفاقاً بيد مصعب بن عمير، فلما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - وادي الصفراء، علم أن أبا سفيان قد نجا بعيره، وأن قريشاً قد أقبلت لقتال المسلمين فاستشار أصحابه، فقال: إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فماذا تقولون؟ فنهض من المهاجرين المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا) ولكنا نقول لك: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت فينا عين تطرف. فوالله الذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغماد لَسِرْنَا مَعَكَ. وكان - صلى الله عليه وسلم -: قد أراد أن يتعرف على رأي الأنصار لأن المعاهدة التي عقدها معهم في بيعة العقبة إنما تنص على حمايته في المدينة فهو لا يريد منهم أن يخرجوا معه إلى حرب خارج المدينة إلاّ بمحض إرادتهم واختيارهم، وأدرك الأنصار ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الاستشارة، فوقف رئيسهم سعد بن معاذ، وقال: لعلك تريدنا معاشر الأنصار؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم فقال سعد: قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، ولعلك تخشى أن يكون الأنصار لا ينصروك إلاّ في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار: فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك والذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. فزاد سرور النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، العير أو النفير، فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. وبنوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - عريشاً يكون فيه، ورأى - صلى الله عليه وسلم - قريشاً مقبلة من الكثيب فقال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك، وتكذّب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، وحاول حكيم بن حزام أن تعود قريش إلى مكة دون حرب، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد هل لك أن لا تزال تذكر بخير إلى آخر الدهر، قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، فقام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو من عشيرته، فارجعوا فخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وأرسل إلى عامر بن الحضرمي يحثه على الأخذ بثأر أخيه، فصاح عامر: واعمراه واعمراه، فحميت الحرب وبدأ القتال بالمبارزة، فخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فخرج إليهم فتية من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم حاجة، يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فبارز عبيدة وهو أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة وبارز عليٌّ الوليد بن عتبة، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة حتى قتله، وأما عليٌّ فلم يمهل الوليد حتى قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه، ثم التقى الفريقان وتزاحف الناس، ونظّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش، ورتب الصفوف، ودخل إلى العريش يناشد ربّه ما وعده من النصر، وهو يقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد "، وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك وخرج - صلى الله عليه وسلم - يحرّض الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 843 - " بَابُ عِدَّةِ أصْحَابِ بَدر " 983 - عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: " حَدَّثَنِي أصْحَاب محَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً أنَّهمْ كانوا عِدَّةَ أصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوزُوا مَعَة النَّهْرَ، بِضْعَةَ عشرَ وثَلاَثمِائَةٍ، قَالَ البَرَاء: لا واللهِ مَا جَاوَزَ مَعَة النَّهْرَ إلَّا مؤْمِنٌ ".   ويبشرهم بالجنة، فقال عمرو بن الحمام وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلاّ أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من الحصباء، ولفحهم بها، وقال: شاهت الوجوه، فكانت الهزيمة عليهم فقتل من قتل من صناديد قريش وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وقتل أبو جهل وأمية بن خلف، وكانت هزيمة ساحقة للمشركين، حيث قتل فيها سبعون منهم وأسر سبعون. وانتهت المعركة بانتصار المسلمين مع قلة عددهم وعدتهم، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). 843 - " باب عدة أصحاب بدر " 983 - معنى الحديث: أن المسلمين الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة بدر كان عددهم مثل أصحاب طالوت الذين اجتازوا معه نهر الأردن، لقتال جالوت الجبار، وقد كانوا بضعة عشر وثلاثمائة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان عدد المسلمين في غزوة بدر، وأنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، قال ابن كثير (1) وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر،   (1) " البداية والنهاية " لابن كثير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 844 - " بَابُ قتلِ أبِي جَهْلٍ " 984 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَنْظر ما صَنَعَ أبو جَهْل؟ " فانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أبُو جَهْلٍ؟ قالَ: فَأخَذَ بِلِحْيَتهِ قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُل قَتَلْتُمُوهُ أو رَجُل قَتَلَهُ قَوْمُهُ.   وكان المهاجرون ستة وسبعين، والباقون من الأنصار. ثانياًً: أن الله قد نصر المسلمين في بدر مع قلة العدد والعدة على جيش يبلغ أضعاف جيشهم، كما نصر أصحاب طالوت على جالوت، وقد قال فريق منهم (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي لا قدرة لنا على محاربتهم فضلاً عن أن تكون (1) لنا الغلبة عليهم، ولكن الآخرين أجابوهم قائلين (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) حيث يكتب الله لها التوفيق والنصر. والمطابقة: في كون الحديث دل على عدد المسلمين في غزوة بدر وهو ما ترجم له البخاري. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي 844 - " باب قتل أبي جهل " 984 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: من يذهب إلى أبي جهل فيأتينا بأخباره، وما فعل الله به، فبادر إليه عبد الله بن مسعود، فوجده جريحاً مثخناً بجراحه، وقد ضربه غلامان من الأنصار " حتى برد " أي حتى أصبح في الرمق الأخير من حياته لم يبق به كما قال الحافظ، إلاّ مثل حركة المذبوح " قال: فأخذ بلحيته " أي فأمسك ابن مسعود بلحيته " فقال: أنت أبو جهل " أي فقال متشفياً فيه أنت أبو جهل طاغية قريش أراك اليوم صاغراً ذليلاً قد صرعتك سيوف المسلمين " قال: هل فوق رجل قتلتموه " أي إذا كنت   (1) " تفسير المراغي " ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 845 - " بَابُ شُهُودِ الْمَلَاِئكَةِ بَدراً " 985 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ بَدْرٍ: " هَذَا جِبْرِيلُ آخِذ بِرَأس فَرَسِهِ عَلَيْهِ أدَاةُ الْحَرْبِ ".   قد قتلت فكم من الأبطال قد قتله قومه، فلا عار عليَّ في ذلك يا رُوَيْعيَّ الغنم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على قصة مقتل أبي جهل في غزوة بدر، وقد اختلفت الروايات فيمن قتله، ففي حديث أنس هذا أن الغلامين أثخناه جراحاً، فأدركه ابن مسعود في الرمق الأخير من حياته فأجهز عليه، أما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقد روى لنا في حديثه أن أبا جهل قتله غلامان من الأنصار، ثم انصرفا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أيكما قتله قال كل منهما: أنا قتلته، قال: وهل مسحتما سيفيكما قالا: لا، قال: فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخر معاذ ابن عفراء. فقوله: " وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح يدل على أنه قتله لأن الحكم له بالسلب يدل على أنه قاتله. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على قصة مقتل أبي جهل. 845 - " باب شهود الملائكة بدراً " 985 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار يوم بدر إلى شخص معين ولفت إليه أنظار الصحابة ونبههم عليه، فلما نظروا إليه قال: هذا الذي ترونه بأعينكم هو جبريل، وقد أمسك برأس فرسه أو بناصيته، أو بزمامه، وهو مدجج بأسلحة الحرب. وروى ابن إسحاق (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خفق خفقة ثم   (1) شرح القسطلاني على البخاري ج 6. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 846 - " بَاب حَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ " 986 - عَنْ ابنِ عمَرَ رَضِيَ الله عَنْهمَا قَالَ: " حَارَبَتِ النضِير وقرَيْظَة، فَأجْلَى بَني النَّضِيرَ، وَأقَرَّ قرَيْظَةَ وَمَنْ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبَتْ قرَيْظَة، فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ، َ وَقَسَمَ نِسَاءَهمْ وأوْلادَهمْ وأمْوَالَهُمْ بَيْنَ المسْلِمِينَ، إِلَّا بَعْضَهمْ لَحِقوا بالنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فآمَنَهمْ وأسْلَمُوا، وأجْلَى يَهودَ المدِينَةِ كلَّهمْ بَنِي قَيْنقَاعَ وَهمْ رَهْط عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلام، وَيَهودَ بَني حَارِثَةَ، وكُلَّ يَهودِ الْمَدِينَةِ ".   انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه، يقوده على ثناياه الغبار. فقه الحديث: دل هذا الحديث على شهود الملائكة غزوة بدر، وعلى رأسهم جبريل عليه السلام حيث رافق النبي - صلى الله عليه وسلم - من أوّل الغزوة إلى آخرها، ليشرف بنفسه على خطة سيرها، ويكون عوناً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومدداً له، ومؤيداً لأصحابه. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " هذا جبريل " فإنه دليل على الترجمة. الحديث: أخرجه البخاري. 846 - " باب حديث بني النضير " وبنو النضير قبيلة يهودية مشهورة، كانت منازلهم في قربان جنوبي المدينة، قال الشريف العياشي (1): وهي في موضع الحدائق المعروفة اليوم بأم عشر وأم أربع وجيدة وسمّان، وسليهم وغيرها، وفي هذه البقعة يقع قصر كعب بن الأشرف النبهاني نسباً والنضيري خؤولة، ولا يزال هذا القصر قائم العين، وآثاره باقية حتى الآن في جنوب بستان أم عشر.   (1) " المدينة بين الماضي والحاضر " للشريف إبراهيم العياشي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 986 - معنى الحديث: أن ابن عمر رضي الله عنهما يحدثنا عن قصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع القبائل اليهودية، وكيف كانت نهايتهم: فيذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد عقد معهم العهود والمواثيق، وجعل بينه وبينهم أماناً، وشرط عليهم أن لا يظاهروا عليه أحداً ولكنهم لم يحترموا الميثاق ونقضوا العهد الذي بينه وبينهم فجازاهم على غدرهم وخيانتهم. فأجلى بني قينقاع وبني النضير عن المدينة. وأما بنو قريظة فقتل رجالهم، وصادر أموالهم، وجعل نساءهم وأولادهم غنيمة للمسلمين، أما كيف وقع ذلك، فسيأتي شرحه في فقه الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان غدر اليهود، ونقضهم العهد، بمحاربتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يشير إليه قول ابن عمر: " حاربت النضير وقريظة: ". ثانياً: الإشارة إلى قصة بني قينقاع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت نهايتهم الجلاء عن المدينة، وقد كانوا من موالي الخزرج وحلفاء عبد الله ابن أبي، وكانوا قلة يسكنون عند منتهى جسر بطحان ما بين المراكشية والمشرفية (1) عند أول الطريق النازل من قباء كما أفاده الشريف العياشي (2) وقد تحولت هذه المنطقة حالياً إلى شوارع فرعية تعرف بهذا الاسم، وكان لهم سوق هناك يعرف بسوق بني قينقاع، وكانوا صاغة يعملون في الذهب، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وادعته اليهود كلها، فوادعهم، وكتب بينه وبينهم كتاباً، وشرط عليهم شرطاً أن لا يظاهروا عليه فلما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحاب بدر بغت يهود، وقطعت ما كان بينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عهود، فجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قينقاع فقال: يا معشر اليهود، احذروا من الله عز وجل   (1) كانت المراكشية والمشرفية بستانين معروفين عند أوّل طريق قباء النازل فتحولا حالياً إلى شارعين فرعيين يعرف أحدهما بشارع المشرفية والثاني بالمراكشية. (2) " المدينة بين الماضي والحاضر " للشريف العياشي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، فقالوا: لا يغرنك من لقيت، ولئن قاتلتنا لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا وصادف في تلك الأيام أن جاءت امرأة نزيعة من قبيلة عربية من غير أهل المدينة، ولكنها متزوجة برجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع لتبيع حلياً فجلست عند صائغ، فجاء رجل من بني قينقاع، فحل ثوبها إلى ظهرها بشوكة، أي ربط بين طرفي ثوبها إلى ظهرها -فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها، فقام إلى اليهودي رجل من المسلمين فقتله، فاجتمعوا عليه وقتلوه ونبذوا العهد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحاربوا، وكانوا أول من نقض العهد، فسار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت منتصف شوال على رأس عشرين شهراً (1) من الهجرة فحاصرهم في حصنهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، ونزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بهم فربطوا، فذهب عبد الله بن أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أحسن في مواليَّ، وألح عليه في إطلاقهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجلوهم لعنهم الله، وأمر بهم أن يجلوا من المدينة- فكانت نهايتهم الجلاء كما أشار إلى ذلك ابن عمر في آخر الحديث حيث قال: " وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام " أي وكان عبد الله بن سلام منهم، وقد جعل الله أموالهم غنيمة، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم (2) آلة صياغتهم، وأسلحة كثيرة، وأجلاهم، فذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا بدعوته - صلى الله عليه وسلم - عليهم حيث قال لابن أبي لما شفع فيهم: " هم لك لا بارك الله لك فيهم " وكانت غزوة بني قينقاع، وإجلاؤهم عن المدينة في شوال من السنة الثانية من الهجرة. ثانياًً: دل الحديث على غدر بني النضير ونقضهم العهد، ومحاربتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإجلائه لهم - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى خيبر، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: " حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير ". وكانت   (1) " المغازي " للواقدي ج 1. (2) " محمد رسول الله " للأستاذ محمد رضا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 منازلهم جنوب قربان جهة الحرة، تمتد في البقعة المعروفة بأم عشر كما تقدم، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم يستعين بهم في دية رجلين من بني عامر كان قد قتلهما عمرو بن أمية، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعين بهم في ديتهما، وكان معه نفر من المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وكلمهم أن يعينوه في دية الرجلين، وكان بين بني النضير وبني عامر (1) حلف وعقد، فقالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك، ثم حلا بعضهم إلى بعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، أي لن تجدوا فرصة تتيح لكم اغتياله مثل هذه الفرصة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستند إلى بيت من بيوتهم، وأشار عليهم حُييُّ بن أخطب أن يطرحوا عليه وعلى من معه من الصحابة حجارة من فوق هذا البيت الذي هو تحته، وقال لهم: لن تجدوه أخلى منه الساعة، فإنه إن قتل تفرق أصحابه ونصحهم سلام بن مشكّم أن لا يحاولوا ذلك وكان عمرو بن جحاش قد هيأ الصخرة ليرسلها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أشرف بها جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعاً كأنّه يريد حاجة، وتوجه إلى المدينة، وجلس أصحابه يتحدثون لبعض حاجته، فلما يئسوا من ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ما مقامنا ها هنا بشيء، فقاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة، فسألوه عنه، فقال رأيته داخلاً المدينة فأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهوا إليه، فأخبرهم بما كانت اليهود تريده من الغدر به، وأرسل إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من بلده، وقال لهم: لا تساكنوني بها، وقد هممتم بالغدر وقد أجلتكم عشراً، فمن بقي بعد ذلك ضربت عنقه، فأرسل إليهم ابن أبي: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصونكم، فيموتون عن آخرهم، وتمدكم قريظة وغطفان، فطمع حُييٌّ فيما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنّا لن نخرج من ديارنا،   (1) " شرح العيني على البخاري " ج 17. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 فاصنع ما بدا لك، فأعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الحرب، وصلّى العصر بفناء بني النضير في " قربان " وعليٌّ يحمل راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام اليهود على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقطع نخلهم ولم ينصرهم بنو قريظة، وخذلهم عبد الله بن أبي وقومه وقذف الله في قلوبهم الرعب، كما أخبرنا الله تعالى بذلك في سورة الحشر فقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) قال ابن إسحاق: فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ست ليال، وتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخيل والتحريق فيها -فلما رأوا ذلك قالوا: نخرج من بلادك، فقال: اخرجوا ولكم دماؤكم وما حملت الإِبل إلاّ الحلقة- أي السلاح، فرضوا بذلك، ونزلوا عليه، واحتمل بنو النضير من أموالهم ما استقلت به الإِبل، وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى كل ثلاثة بعيراً يتعقبونه، وقبض رسول الله ما تركوه من الأموال والدروع والسلاح، وخلفوا بعدهم النخيل والمزارع والحدائق الغناء في منطقة قربان. وكانت أموال بني النضير من الفيء الخاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق منه على أهله ويدخر منه قوت السنة من الشعير والتمر، وما فضل جعله في السلاح والكراع. وذهب الشافعي إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أموال بني النضير على المهاجرين ليرفع مؤونتهم عن الأنصار، وهذا يتفق مع ما رواه ابن إسحاق. وكانت غزوة بني النضير كما حكاه البخاري عن الزهرى بعد بدر بستة أشهر قال البيهقي (1): وذهب آخرون إلى أنّها وقعت بعد أحد (2) وهو الأصح، لأن قصة غدر بني   (1) " البداية والنهاية " لابن كثير. (2) وهو ما ذكره ابن إسحاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 847 - " بَابُ قتلِ كَعْب بن الأَشْرَفِ " 987 - عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسولَهُ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أتحِبُّ أن أقتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أن أَقُولَ شَيْئاً، قَالَ: قُلْ، فَأتاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلنَا صَدَقَةً وَإنَّهُ قَدْ عَنَّانا، وَإنِّي قَدْ   النضير بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما وقعت حين ذهب إليهم يطلب منهم مساعدته في دية الرجلين الذين قتلا من بني عامر، وهما إنما قتلا بعد أحد لا قبلها، وكانت نهاية أمرهم الجلاء عن المدينة، وقد أنزل الله تعالى في شأنهم سورة الحشر، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما يسميها سورة بني النضير. أما بنو قريظة فإنهم كما في حديث الباب لما نقضوا العهد قتلوا وصودرت أموالهم، وسبيت ذراريهم ونساؤهم كما سيأتي. والمطابقة: في قوله: " فأجلى بني النضير ". 847 - " باب قتل كعب بن الأشرف " ولم يكن كعب يهودياً، ولكنه كان عربياً نبهانياً، وأخواله من بني النضير، وهم بطن من طيء، وكان طويلاً جسيماً ذا بطن وهامة، وكان وسيماً جميل الصورة كما يدل عليه الحديث. 987 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ندب أصحابه ودعاهم إلى قتل كعب بن الأشرف، فقال: " من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله " أي من يقتله منكم، ويريحنا من شره وأذاه، ويفوز بأجر ذلك وثوابه، فإنه استحق ذلك لشدة إيذائه لله ورسوله، فتصدى لذلك محمد بن مسلمة غير أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن له في أن يقول لكعب كلاماً ظاهره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 أتَيْتُكَ أسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأيضاً واللهِ لَتَمَلُنَّهُ، قَالَ: فَإِنَّا قد اتَبّعْنَاهُ فلا نُحِبُّ أنْ نَدَعَهُ حتَّى نَنْظرُ إلى أي شَيْء يَصِيرُ شَأنُهُ، وقد أرَدْنَا أن تُسْلِفَنَا وَسْقاً أوْ وَسْقَيْنِ، فَقَالَ: نَعَمْ ارْهَنُوني، قَالُوا: أيُّ شَيْء تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وأنت أجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أبْنَاءكُمْ، قالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ، أحَدُهُمْ فَيُقَالُ رُهِنَ بوَسق (1) أو وَسْقَيْنِ؟ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، ولَكِنَّا نَرْهَنُك اللأمَةَ، فوَاعَدَهُ أن يأتِيَهُ، فَجَاءَهُ لَيْلاً، وَمَعَهُ أبو نَائِلَةَ، وَهُوَ أخُو كَعْب،   العداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - احتيالاً عليه، فأذن له - صلى الله عليه وسلم - بذلك، قال في الحديث " فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة " أي إن محمداً قد فرض علينا هذه الصدقة التي طلبها منا وسمّاها زكاة " وإنه قد عنانا " أي أثقل علينا " وإني أتيتك أستسلفك " أي جئتك لأشتري منك الطعام بالدَّين " قال: وأيضاً والله لتملَّنّهُ " أي فوجد كعب الفرصة سانحة للطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - والنيل منه فقال: والله لترين من محمد الشيء الكثير حتى تمله وتكرهه وتجزع منه " قال: فإنا قد ابتعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه " أي إننا ننتظر ما يكون من شأنه ونترقب ذلك " فقال: نعم ارهنوني " أي إذا أردتم أن أسلفكم، فادفعوا لي رهناً، وعرض عليهم أن يرهنوه نساءهم، فاعتذروا وقالوا كما في رواية ابن سعد: وأي امرأة تُمنَعَ منك لجمالك، ثم عرض عليهم أن يرهنوه أبناءهم، فاعتذروا بأن ذلك يسيء إلى سمعتهم، ويكون سبة وعاراً عليهم، وعرضوا عليه أن يرهنوه اللامة، وفسرها سفيان بأنها السلاح قال: نعم، وأرادوا بذلك أن لا ينكر عليهم إذا جاؤوه بالسلاح، ولا يشك فيهم   (1) والوسق ستون صاعاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 من الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُمْ إلى الْحِصْنِ، فنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امرَأتُهُ: أيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وأخِي أبو نَائِلَةَ، وَقَالَ غيرُ عَمْرو: قَالَت: أسْمَعُ صَوْتاً كَأنَّهُ يَقْطرٌ مِنْهُ الدَّمُ، قَالَ: إنَّمَا هُوَ أخِي مُحَمَّد بْن مسلِمَة وَرَضِيعِي أبو نَائِلَةَ، إِنَّ الكَرِيمَ لَوْ دُعِي إلى طَعْنَةٍ بِليل لأجَابَ، وَيُدْخِلُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ، قَال عَمرو: جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ، فَقَالَ: إذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِل بِشَعَرِهِ فَأشَمُّهُ، فَإِذَا رَأيْتُمُونِي استمكَنْتُ مِنْ رَأسِهِ فدُوُنكُمْ فاضْرِبُوهُ، وَقَالَ مَرَّةً: ثم أُشِمُّكُمْ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحاً، وَهُو يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ: مَا رَأيتُ كَالْيَومِ رِيحاً، أي أطْيَبَ، وَقَالَ غَيْرُ عمرو: قَالَ: عِنْدِي أعْطرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ وأكمَلُ الْعَرَبِ، قَالَ عَمْروٌ فَقَالَ: أتَأذَنُ لي أنْ أشُمَّ رَأسَكَ، قَالَ: نَعَمْ، فَشَمَّهُ ثم أشَمَّ أصْحَابَهُ، ثم قَالَ أتَأذَنُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ: دُونَكُمْ، فَقَتَلُوهُ، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأخبَرُوهُ".   " فواعده " محمد بن مسلمة " أن يأتيه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة " ولهذا صحبه معه " فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة " المتأخرة من الليل " وقال: غير عمرو قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر من الدم " أي صوت عدوٍ يريدك " قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة " أي وأخي من الرضاعة أبو نائلة ثم قال: " إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب " أي إن الكريم يجيب من دعاه بالليل، ولا يتأخر عنه، ولو كان في ذلك الخطر على حياته " ويدخل محمد معه رجلين " أي فدخل عليه محمد بن مسلمة، وأدخل معه رجلين والظاهر أنّهما أبو نائلة وعباد بن بشر " فقال ": محمد بن مسلمة " ما رأيت كاليوم ريحاً " أي ما شممت أطيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 من هذه الرائحة ولا أعطر منها " قال: عندي أعطر نساء العرب " أي أطيبهن عطراً " فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم، فشمه ثم أشم أصحابه " ثم تركه وشغله بالحديث قليلاً " ثم قال أتأذن لي " أن أشمك مرة أخرى " قال: نعم فلما استمكن منه قال دونكم " أي أخذ بفودي رأسه، وأمسك بشعره، وتمكن منه، فقال: اضربوا عدو الله، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه. قال: وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلاّ وقد أوقدت عليه نار. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كيف تم قتل كعب ابن الأشرف النبهاني بتدبير محكم، وحيلة ودهاء على يد الصحابي الجليل محمد ابن مسلمة ورفاقه، وكان ذلك في شهر ربيع الأوّل من السنة الثالثة من الهجرة يولية سنة 624 م. وقد أستنكر بعض المستشرقين اغتيال كعب بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه استحق ذلك، لأنه خان وغدر، ونقض العهد، ودفعه الغرور بثروته وجاهه وقدرته الشعرية إلى هجو النبي - صلى الله عليه وسلم - بأفظع الهجاء، بعد أن عاهده مع أخواله من اليهود فنقض العهد ونشط يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشعاره، ورحل إلى مكة يبث الدعوة للقتال، قال موسى بن عقبة: وكان كعب بن الأشرف، قد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجاء، وركب إلى قريش فاستقواهم، وقال له أبو سفيان وهو بمكة: أناشدك الله أديننا أحب إلى الله أم (1) دين محمد وأصحابه؟ فقال له كعب: أنتم أهدى منهم سبيلاً، فأنزل الله على رسوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) ولم يخرج من مكة حتى أجمع أمرهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يشبب بأم الفضل بنت الحارث وبغيرها من نساء المسلمين، وروي أن كعب بن الأشرف صنع طعاماً (2)، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه،   (1) " البداية والنهاية " " شرح العيني على البخاري ". (2) " فتح الباري " ج 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 848 - " بَابُ غَزْوَةِ أحُدٍ "   وتواطأ مع جماعة من اليهود على الفتك به إذا حضر هذه الوليمة، فجاء - صلى الله عليه وسلم - ومعه بعض أصحابه فأعلمه جبريل بما دَبَّرَهُ له كعب بن الأشرف فجلس معه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فستره جبريل بجناحه، فخرج من بينهم دون أن يراه أحد، فلما فقدوه تفرقوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ينتدب لقتل كعب. ثانياً: استدل السهيلي (1) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله " على وجوب قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذا عهد، خلافاً لأبي حنيفة. ثانياً: أنه لا بأس بالكذب إذا ترتبت عليه مصلحة شرعية ومنفعة للمسلمين لقول محمد ابن مسلمة: " إن هذا الرجل قد سألنا الصدقة وإنه قد عنانا " وقوله: " ولكن نرهنك اللامة " أي السلاح وهو لا يريد أن يرهنه شيئاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الحديث متضمناً لقتل كعب بن الأشرف. 848 - " باب غزوة أحد " وغزوة أحد كانت يوم السبت 15 شوال من السنة الثالثة من الهجرة، وسببها أن قريشاً لما أصابها في بدر ما أصابها، كلموا أبا سفيان وجميع المساهمين في تلك العير التي كانت سبباً في وقعة بدر فقالوا: إن محمداً قد قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، فكان أبو سفيان أول من أجاب، فجعلوا لتلك الحرب التي عزموا على شنها ضد محمد - صلى الله عليه وسلم - ربح تلك العير، ويبلغ خمسين ألف دينار، وتجهزت قريش ومن والاها من قبائل كنانة وتهامة، وكان عددهم ثلاثة آلاف معهم الدفوف والمعازف والخمور، وكان قائدهم أبو سفيان بن حرب، وكان خروجهم لخمس مضين من شوال، وساروا حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد، وكان وصولهم يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال، واستشار النبي   (1) " الروض الأنف " ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الخروج، فرأى كبار المهاجرين والأنصار التحصن بالمدينة، وهو رأي عبد الله بن أبي أيضاً، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد رأى رؤيا أفزعته، وقصها على أصحابه، فقال: والله إني قد رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي -أي في طرفه- ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم فهو رجل من أهل بيتي يقتل وأوّلت الدرع الحصينة بالمدينة وقال: امكثوا في المدينة، فإن دخل القوم قاتلناهم ورُمُوا من فوق البيوت وكانوا قد شبّكوا المدينة بالبنيان، فهي كالحصن، ولكن حمزة بن عبد المطلب وجماعة من شباب الصحابة اختاروا الخروج لئلا تظن قريش أنهم لم يخرجوا جبناً وخوفاً منهم فوافق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيهم فصلى الجمعة ووعظ الناس وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ثم صلى العصر، ودخل بيته، ولبس لأمته وخرج متقلداً سيفه، فندم الذين اختاروا الخروج، وقالوا: ما كان ينبغي لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها فخرج يوم الجمعة، فأصبح في الشعب من أحد يوم السبت منتصف شوال، وجعل لواء الأوس بيد أسيد بن حضير ولواء الخزرج بيد حباب بن المنذر، ولواء المهاجرين بيد علي بن أبي طالب، وكان في المسلمين مائة دارع، وكان عددهم ألف مقاتل، فانخذل عبد الله بن أبي ورجع ومعه ثلثمائة، وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وعلي المشاة صفوان بن أمية. وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرماة عبد الله بن جبير الأوسي، وكان عددهم خمسين رامياً أقامهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجبل المعروف بجبل الرماة وقال لهم: احموا ظهورنا، وإن رأيتمونا هزمنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، ونشب القتال، ولم يزل حملة اللواء يقتلون واحداً بعد الآخر حتى أصبح اللواء طريحاً على الأرض فحملته امرأة، وهي عمرة بنت علقمة الحارثية وكان عدد الذين قتلوا من حملة اللواء أحد عشر رجلاً، فتفرّق جيشهم إلى كتائب متعددة، وانهزم المشركون. غير أن المسلمين اهتموا بالغنائم، وقال أصحاب عبد الله بن جبير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 988 - عَنِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "لَقِينَا المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وأجْلَسَ النبي - صلى الله عليه وسلم - جَيْشاً مِنَ الرُّمَاةِ، وأمَّرَ   وهم الرماة: الغنيمة الغنيمة، تاركين مؤخرة الجيش، ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل، فوجده خالياً، فكر بالخيل وتبعه عكرمة فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم، وقتلوا أميرهم وارتبك المسلمون، وصار يضرب بعضهم بعضاً، ووقعت الهزيمة وثبت رسول الله وبعض أصحابه، وذاع في الناس وشاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، وأصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة حتى أغمي عليه، وخدشت ركبتاه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشجّ وجهه، وجرحت شفته السفلى، وثبت معه أربعة عشر رجلاً من أصحابه، والتفوا حوله، وكان عدد الشهداء من المسلمين سبعين رجلاً وعدد القتلى من المشركين ثلاثة وعشرين رجلاً، والله أعلم. 988 - معنى الحديث: أن البراء بن عازب رضي الله عنه يقصّ علينا بعض ما وقع في غزوة أحد، فيذكر لنا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام جماعة من الرماة على الجبل المعروف بجبل الرماة، يبلغ عددهم خمسين رامياً تحت إمارة عبد الله بن جبير وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أراد من ذلك أن يحمي بهم مؤخرة الجيش كما جاء في رواية أخرى أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: " انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتنا من خلفنا " وأمرهم أن لا يتركوا أماكنهم مهما كانت الأحوال والظروف، فلما التقى الجيشان انهزم المشركون حتى أسرع النساء هاربات من أرض المعركة، وقد ارتفعت ثيابهن عن سوقهن من شدة الجري، وظهرت خلاخلهن، فعند ذلك طمع الرماة في الغنيمة، وأسرعوا إلى الغنائم يأخذونها قائلين الغنيمة الغنيمة، وذكَّرهم أميرهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم أن لا يبرحوا الجبل، فلم يلتفتوا إليه، وذهبوا لجمع الغنائم فلما وقع ذلك منهم، نظر خالد بن الوليد إلى مؤخرة الجيش، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ، وقَالَ: لَا تَبْرَحُوا إنْ رَأيتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فلا تَبْرَحُوا، وِإنْ رَأيْتُموهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فلا تُعِينُونَا، فَلمَّا لَقِينَاهُمْ هَرَبُوا حتَّى رَأيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ في الْجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قد بَدَتْ خلاخِلُهُنَّ، فأخذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنيمَةَ، فَقالَ عَبْدُ اللهِ: عَهِدَ إِليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا تَبْرَحُوا، فَأبَوْا، فلمَّا أُبوْا صُرِفَ وُجُوهَهُمْ، فَأصِيبَ سَبْعُونَ قَتيلاً، وأشْرَفَ أبو سُفْيَانَ فَقَالَ: أفِي الْقَوْمِ مُحَمَّد؟ فَقالَ: لا تُجيبُوهُ، فَقَالَ: أفِي الْقَوْمِ ابْنُ أبي قُحَافَةَ؟ قَالَ: لا تُجِيبُوهُ، فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ الخَطَّاب؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أحْيَاءً لأجابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ أبقَى اللهُ عَلَيْكَ مَا يُحْزِنُكَ، قَالَ   فرأى الجبل خالياً، ولم يبق عليه سوى القليل فكر بخيله عليهم، فقتل عبد الله بن جبير ومن معه، وهاجم مؤخرة الجيش فارتبك المسلمون، وصار يضرب بعضهم بعضاً، ووقعت الهزيمة فيهم، فأصيب منهم سبعون قتيلاً، وشاع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل (1) ووصلت هذه الإشاعة إلى أبي سفيان، فأراد أن يتأكد من ذلك، فنادى بأعلى صوته أفي القوم محمد؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم عمر؟ فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يجيبوه، فلما لم يسمع منهم جواباً قال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يقدر عمر أن يسيطر على نفسه، ويمنعها عن الإِجابة، فقال لأبي سفيان: " كذبت يا عدوَّ الله " أي كذَّب الله ظنك، وخيَّب أملك " وأبقى الله عليك ما يحزنك " وهو بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أبو سفيان أن يعبر عن فرحه وسروره واعتزازه بآلهتهم الباطلة، فقال:   (1) قال ابن عباس: وصاح الشيطان قتل محمد، فلم يشك فيه أنه حق فما زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 أبو سُفْيَانَ: أعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أجيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: الله أعْلَى وَأجَلُّ، قَالَ أبُو سُفْيَانَ: لَنا الْعُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجيبُوهُ، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا الله مَوْلانا ولا مولى لَكُمْ، قَالَ أبو سُفْيَانَ: يَوْم بِيَوْمِ بَدْرٍ، والْحَرْبُ سِجالٌ، وتجِدُونَ مُثْلةً لَمْ آمُرْ بِهَا، وَلَمْ تَسُؤنِي".   أعل هبل؟ أي زدت عزاً ورفعة وعلواً يا هبل بانتصارنا على محمد وأصحابه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يجيبوه بقولهم: الله أعلى وأجل. فأراد أبو سفيان أن يفاخر المسلمين ببعض أسماء آلهتهم، وأنهم ليس لهم مثلها " فقال: لنا العزى ولا عزى لكم " فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه بقولهم: " الله مولانا ولا مولى لكم "، أي الله ناصرنا ولا ناصر لكم. عند ذلك قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، أي هذا اليوم مقابل يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أصاب منهم يوم بدر سبعين قتيلاً وأصابوا من المسلمين يوم أحد سبعين شهيداً: فكانت هذه بهذه " والحرب سجال " أي نوب، نوبة لك ونوبة لنا، مرة تغلبنا، ومرة نغلبك فأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان على ذلك ولم يجبه، لأنه الحقيقة والواقع، ثم قال أبو سفيان: " وتجدون مثلة " بضم الميم وسكون الثاء أي وتجدون في قتلاكم بعض التمثيل بهم من جدع أنوفهم، وقطع آذانهم، قال: " لم آمر بها " أي لم آمر بهذه المثلة قبل وقوعها، " ولم تسؤني " بعد وقوعها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب على الجند طاعة القائد فيما يأمرهم به، لأن مخالفة أوامره من أعظم أسباب الهزيمة، فإن المسلمين لم ينهزموا في أحد إلاّ بسبب مخالفتهم كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 989 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ: أرَأيْتَ إِنْ قُتِلْت فَأيْنَ أنَا؟ قَالَ: في الْجَنَّةِ، فألْقَى تَمَرَاتٍ في يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ".   وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما: وإنما عنى بهذا (1) الرماة. قال الحافظ: وفيه شؤم ارتكاب المنهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه. ثانياًً: قال الحافظ: فيه من الفوائد (2) منزلة أبي بكر وعمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصوصيتهما به، بحيث كان أعداؤه لا يعرفون غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما. والمطابقة: في كون الحديث دل على بعض ما وقع في غزوة أحد مما يتعلق بالترجمة. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود. 989 - معنى الحديث: أن رجلاً أراد أن يتأكد يوم أحد من مصيره إذا قتل في ذلك اليوم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخبره أين هو إن قتل في هذه المعركة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " في الجنة " لأن الشهيد في سبيل الله قد بشره الله بالجنة في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فلما سمع الرجل من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه البشارة العظيمة، كانت في يده بعض تمرات، فألقاها، وقاتل حتى قتل. أما من هو هذا الرجل؟ فقد قال بعضهم: إنه عمير ابن الحمام لكن رجح الحافظ أنه رجل آخر غيره، لأن عمير بن الحمام وإن وقع منه ذلك أيضاً، لكنه وقع منه في غزوة بدر كما صرح بذلك أنس في حديثه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الحافظ: فيه ما كان عليه الصحابة من حب نصر الإسلام، والرغبة في الشهادة ابتغاء مرضاة   (1) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 3. (2) " فتح الباري " ج 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 990 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أن عَمَّهُ غَابَ عَنْ بَدْرٍ، فَقَالَ: غِبْتُ عَنْ أوَّلَ قِتَالَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَئِنْ أشْهَدَنِي اللهُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أجِدُّ، فَلَقِىَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَهُزِمَ النَّاسُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، وأبرَأ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَتَقَدَّمَ بِسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: أيْنَ يَا سَعْدُ؟ إِنِّي أجِدُ ريحَ الْجَنَّةِ دُونَ أحُدٍ، فَمَضَى فقُتِلَ، فما عُرِفَ حتَّى عَرَفَتْهُ أخْتُهُ بِشامَةٍ أو بِبَنَانِهِ، وبِهِ بِضْعٌ وثمَانُونَ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ ".   الله. ثانياً: مشروعية تمني الشهادة، واستعجالها، كما فعل هذا الصحابي الجليل، حيث ألقى التمرات من يده، ثم قاتل حتى قتل، والمطابقة: في كون هذا الحديث دل على بعض ما وقع في غزوة أحد ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 990 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن عمه " أنس بن النضر " غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي عن أوّل غزواته الكبرى، وهي غزوة بدر " لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فأقْسِمُ لئن بلّغني الله حضور غزوة أخرى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليرين " بفتح الياء الأولى والراء والياء الثانية " الله ما أجدّ " بفتح الهمزة، وكسر الجيم، أي ليرين الله تعالى كيف أبالغ في القتال والجهاد في سبيله وقال ابن التين: صوابه بفتح الهمزة وضم الجيم، من جد يجُدُّ إذا اجتهد في الأمر، أي ليرين الله كيف أجتهد في قتال الكفار، " فهزِمَ الناس، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين " من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وترك الجبل " فقال يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد " أي عند أحد، ولعله شم ريحاً طيبة، فعرف أنها ريح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 849 - " بَابُ ذِكْرِ أمِّ سَلِيطٍ " 991 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَسَمَ مُرُوطاً بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ أهلِ الْمَدِينَةِ، فَبَقِىَ مِنْهَا مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يا أَميرَ الْمُؤْمِنِينَ أعْطِ هذَا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي عِنْدَكَ، يُرِيدُونَ أمَّ كُلْثُوم بِنْتِ عَليٍّ، فَقَالَ عُمَرُ: أمُّ سَلِيطٍ أحقُّ بِهِ مِنْهَا، وأمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أحُدٍ.   الجنة " فمضى فقتل فما عرف " من كثرة جروحه " حتى عرفته أخته بشامة " أي بالخال الموجود فيه أو ببنانه " وبه بضع وثمانون من طعنة " برمح " وضربة " بسيف. فقه الحديث: دل هذا الحديث على وفاء أنس بن النضر بالعهد الذي قطعه على نفسه بالاستبسال في القتال، عند أول غزوة إسلامية وما أظهره في غزوة أحد من شدة النضال، وصدق الجهاد، حتى استشهد في سبيل الله. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فلقي يوم أحد " إلخ. 849 - " باب ذكر أم سليط " 991 - معنى الحديث: يقول ثعلبة بن مالك راوي الحديث " إن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً " جمع مرط، وهو كساء من صوف يؤتزر به، أو تلقيه المرأة على رأسها " فبقي منها مرط " بكسر الميم وسكون الراء " فقال له بعض من عنده: أعط هذا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عندك " أي التي هي زوجتك " فقال عمر: أمّ سليط أحق به منها " فآثر أم سليط الأنصارية على زوجته، ورأى أنها أولى بهذا الكساء منها "قال عمر: فإنها كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 850 - " بَابُ قتلِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ " 992 - عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْن عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّهُ قَالَ لِوَحْشِيٍّ: ألا تُخْبِرنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلايَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ. إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاس عَامَ عَيْنَيْنِ -وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ   تزفر لنا القرب يوم أحد" أي كانت تحمل القرب ملأى على ظهرها فتسقي الناس منها. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل أم سليط تلك الصحابية الجليلة التي ساهمت في الجهاد بخدمة المسلمين يوم أحد، وحمل الماء على ظهرها لتسقي المجاهدين، فسجل لها التاريخ ذلك وشهد لها عمر رضي الله عنه بهذه المنقبة العظيمة، التي فضّلها بها على آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانياًً: توجيه النصح وتقديم المشورة إلى إمام المسلمين، لا سيما ممن حوله من الوزراء والكتاب ونحوهم. والمطابقة: في قوله: " أم سليط (1) أحق بها منها ". 850 - " باب قتل حمزة رضي الله عنه " 992 - ترجمة راوي الحديث: وهو عبيد الله - بالتصغير ابن عدي بن الخيار النوفلي القرشي، ذكره ابن حبان في الصحابة، وقال العجلي: تابعي ثقة من كبار التابعين، روى عن عمر وعثمان وعلي، وتوفي بالمدينة في خلافة الوليد ابن عبد الملك. معنى الحديث: أن عبيد الله بن الخيار سأل وحشياً أن يحدثه عن قتل حمزة ابن عبد المطلب رضي الله عنه، فقال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي   (1) بفتح السين وكسر اللام اشتهرت بكنيها، ولا يعرف اسمها كما أفاده العيني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 أُحُدٍ، بَيْنَه وبَيْنَه وَادٍ- خَرَجْت مَعَ الناسِ إلى القِتَالِ، فَلَمَّا أنْ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ من مُبَارِزٍ؟ قَال: فَخَرَجَ إليْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يا ابْنَ أمِّ أنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ البُظُورِ، أتحَادُّ اللهَ وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: ثمَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَكَانَ كأمْس الذَّاهِبِ، قَالَ: وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فأضَعُهَا في ثُنَّتِهِ، حتى خَرَجت مِنْ بَيْن وَرِكَيْهِ، قَالَ: فَكَانَ ذَاكَ الْعَهْدَ بِهِ، فلمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْت مَعَهُمْ، فأقَمْتُ بِمَكَّةَ حتَّى فشا فيها الإسْلامُ، ثمَّ خَرَجت إلى الطَّائِفِ، فأرْسَلُوا إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَسُولاً، فَقِيْلَ لي: إِنَّه لا يَهِيجُ الرُّسُلَ، فخَرَجُتُ مَعَهُمْ حتى قَدِمْتُ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رَآنِي قَالَ: آنْتَ وَحْشِيُّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أنْتَ قَتَلْتَ   في غزوة بدر، وهو عم جبير بن مطعم وكان وحشي عبداً له قال: " فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر " أي فوعده سيده بعتقه إن قتل حمزة رضي الله عنه " قال: فلما أن خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بجيال أحد " أي فلما خرج الناس للقتال في غزوة أحد " خرجت مع الناس " أي خرجت معهم وأنا حريص على قتل حمزة، لكي أظفر بعتق رقبتي " فلما أن اصطفوا للقتال، خرج سباع " أي سباع بن عبد العزى بكسر السين وفتح الباء المخففة " فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا ابن أم أنمار مقطعة البظور (1) " يعيره بأمه، وكانت جارية مملوكة تختن النساء " أتحاد الله ورسوله " أي أتتجرأ على معاداتهما " فشد عليه فكان كأمس الذاهب " أي فهجم عليه فأزاله عن الحياة زوال الأمس عن اليوم "قال:   (1) البظور بضم والظاء جمع بظر وهو اللحمة التي تقطع من فرج المرأة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنَ الأمْرِ مَا قَدْ بَلَغَكَ، قالَ: فَهَل تَسْتَطِيعُ أنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي؟ قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ قُلْتُ: لأخْرُجَنَّ إلى مُسَيْلَمَةَ لَعَلِّي أقْتُلُهُ فأكَافِىءَ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، فَكَانَ من أمْرِهِ مَا كَانَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في ثَلْمَةِ جِدَارٍ كَأنَّهُ جَمَلٌ أوْرَقُ، ثَائِرُ الرَّأسِ، قَالَ: فرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فأضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثب إلَيْهِ رَجُل مِنَ الأنْصَارِ، فَضَرَبَهُ بالسيفِ على هَامَتِهِ".   وكمنت لحمزة" أي اختبأت له " فأضعها في ثُنَّتِه " أي فرميته بالحربة فوضعها في ثُنَّته أي ما بين السرة والعانة " حتى خرجت من وركيه " تثنية ورك، بفتح الواو وكسر الراء " (1)، قال في " المصباح ": وهما وركان فوق الفخذين كالكتفين فوق العضدين، قال: " ثم خرجت إلى الطائف " وذلك بعد فتح مكة " فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً " أي فأرسل أهل الطائف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وفي رواية أخرى رسلاً " فقيل لي إنه لا يهيج الرُّسل " (2) أي لا يصيبهم بمكروه " فخرجت معهم " إليه، "قال: أنت قتلت حمزة " مرتين " قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك " أي قد وقع مني قتل حمزة كما بلغك عني " قال: فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عني " يعني: فطلب منه أن لا يواجهه خوفاً من أن يثير مشاعره عليه، قال: " فخرج مسيلمة الكذاب فقلت لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله، فأكافىء وبه حمزة " أي أقابل السيئة بالحسنة، فتكون هذه بهذه. " فخرجت مع الناس " إلى اليمامة "فإذا رجل قائم في ثلمة   (1) قال في " المصباح ": ويجوز التخفيف بكسر الواو وسكون الراء. اهـ. (2) وفي رواية لا يهيج رسولاً بالإفراد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 جدار" أي في ثقب جدار متهدم " وكأنه جمل أورق " أي كأنه في سماره جمل رمادي اللون " فأضعها بين ثدييه " أي فرميته بالحربة فأصبته في صدره بين ثدييه، قال: " ووثب إليه رجل من الأنصار " وهو عبد الله بن زيد " فضربه بالسيف على هامته " أي على رأسه فكانت القاضية عليه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان مقتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، كان رضي الله عنه فارساً عظيماً في الجاهلية والإِسلام (1) وكانت قصة إسلامه مثلاً رائعاً للبطولة الفذة، فقد اعترض أبو جهل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا وشتمه، ونال منه، فسمع حمزة بذلك، فأقبل نحوه حتى إذا أقام على رأسه ضربه بقوسه، فشجه شجَّةً منكرة، فقام رجال من بني مخزوم يناصرون أبا جهل وقالوا: ما نراك يا حمزة إلاّ قد صبوت، قال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي الحق، أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين، وهكذا تحداهم البطل جميعاً، وجبن أبو جهل فقال: دعوا أبا عمارة، وأسلم حمزة في السنة الثانية من البعثة، ولازم نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد بدراً وأبلى في ذلك بلاء عظيماً، وقتل شيبة بن ربيعة وطعيمة ابن عدي، وهو الذي أوغر عليه صدر جبير بن مطعم، وهند بنت عتبة، ودفعهما لأخذ الثأر منه، فأوعز جبير إلى مولاه وحشي بقتل حمزة، ووعده بعتق رقبته مكافأة له على ذلك، فتم أمر الله، ونفذ قضاؤه، فاستشهد البطل على يد ذلك العبد الحبشي، ولم يقتل مواجهة ولا مبارزة، فما كان لوحشي أن ينال من سيد الفوارس شعرة لو واجهه، ولكن حمزة كما قال الدكتور هيكل لم يُصرع كما تصرع (2) الأبطال، وإنما كما يغتال الكرام في حلك الظلام، وما   (1) " غزوة أحد " لمحمد أحمد باشميل. (2) " حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - " للدكتور محمد حسين هيكل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 851 - " بَابُ غَزْوَةِ الْخنْدَقِ "   عسى أن تغني الشجاعة حين يختبىء الاغتيال في حندس الليل، فيورد صاحبه حتفه، وهكذا شاء القدر (1) أن يستشهد البطل على يد ذلك العبد الحبشي الذي هاب حمزة وهو مجندل على الأرض، فلم يجرأ على الاقتراب " لأخذ حربته منه. ثانياً: أن الإِسلام يجب ما قبله، وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف التشفي والانتقام وإلّا فقد وقع " وحشي " قاتل عمه بعد فتح الطائف في قبضة يده، فما مد إليه يده بسوء، وما زاد على أن قال له: " فهل تستطع أن تغيب وجهك عني " فلم يثأر منه لعمه حمزة، مع شدة حزنه عليه، لأن الإِسلام يغفر لصاحبه ما قد سلف. ثالثاً: أن المرء لا يلام على شعوره بالاستياء، وعدم الارتياح لمقابلة من أساء إليه، أو إلى أحد أقاربه، لأن ذلك من الانفعالات النفسية الخارجة عن إرادته، وإلا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني ". الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث متضمن لقصة قتل حمزة رضي الله عنه. 851 - " باب غزوة الخندق " وقد كانت هذه الغزوة في شوال من السنة الخامسة من الهجرة الموافق لشهر فبراير 627 م، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أجلى بني النضير خرج نفر من أشرافهم، منهم حيي بن أخطب إلى مكة يحرضون قريشاً على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووعدوهم بأنهم سيكونون معهم حتى يستأصلوه، وما زالوا بهم حتى وافقوا على محاربته، ثم ذهبوا إلى سليم وغطفان، ودعوهم إلى مشاركتهم في هذه الحرب، وأعلموهم أن قريشاً بايعوهم، فوافقوا، فجهزت قريش أربعة آلاف مقاتل وخرجوا بقيادة أبي سفيان، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران بسبعمائة بقيادة سفيان بن عبد شمس، وخرجت بنو أسد وغطفان وفزارة وبنو مُرَّة حتى بلغ المجموع عشرة آلاف   (1) هذه العبارة لا ينبغي أن تقال، وإنما يقال: وهكذا شاء الله تعالى، لأن المشيئة لله وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 مقاتل. حفر الحندق: ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبأ هذه الجموع التي جاءت لمحاربته - صلى الله عليه وسلم - ندب الناس، وشاورهم، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق تجاه العدو ليكون بمثابة خط دفاعي يتحصنون به من عدوهم، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وضرب الخندق على المدينة، قال الأستاذ الأنصاري: وقد تم حفره من شمالي المدينة الشرقي إلى غربها، فالخندق كما نتخيل كان يشكل نصف دائرة، طرفها الغربي يقع غربي مسجد المصلى " مسجد الغمامة " والشرقي عند مبدأ حرة واقم. قال المطري: وقد عفا أثره اليوم، أي في القرن الثامن الهجري. لأن وادي بطحان استولى على موضع الخندق، وصار مسيله في الخندق. وقد شارك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن هشام: " فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترغيباً للمسلمين في الأجر، فدأب فيه ودأبوا كما سيأتي تفصيله في الأحاديث الآتية: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عقد عهداً مع بني قريظة أن لا يظاهروا عليه أحداً، فأغرتهم بنو النضير على نقض العهد، وخرج حيي بن أخطب سيد بني النضير إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة، فلما سمع صوته أغلق باب الحصن دونه، فلم يزل يلح عليه حتى فتح له، وما زال يستميله ويحاول معه حتى نقض العهد، وانضم إلى قبائل قريش وغطفان وغيرها من القبائل التي جاءت لمحاربته - صلى الله عليه وسلم -. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين لثمان مضين من ذي القعدة، وكان يحمل لواء المهاجرين زيد ابن حارثة، ولواء الأنصار سعد بن عبادة، وكان عددهم ثلاثة آلاف، وأقبلت قريش فنزلت بمجتمع الأسيال بين الجرف والغابة، وأقبلت غطفان ومن تابعها ونزلت بذنب نقمي (1) بجانب أحد، وكانت تلك الظروف ظروفاً قاسية اشتد فيها الحصار وتفاقم البلاء، سيما بعد أن نقضت قريظة عهدها، وانضمت إلى العدو فكانت هذه مفاجأة أليمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون   (1) منطقة بشمال المدينة وشمال أحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 كل ظن، وهمّ بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأن بيوتهم عورة، أي مكشوفة للعدو، مهددة بالخطر، لأنهم كانوا خارج المدينة في الجهة الغربية منها، وهي المنطقة الواقعة غربي سلع إلى القبلتين، وحاول النبي - صلى الله عليه وسلم - مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة، واستشار - صلى الله عليه وسلم - سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة فقالا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر تحبه فتصنعه، أم شيء أمرك الله به، ولا بد لنا من العمل به أم شيء تصنعه لنا، قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رَمَتْكُمْ عن قوس واحدة فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإِسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأنت وذاك: ودام الحصار شهراً ووقعت بين الفريقين بعض المناوشات الحربية واقتحم بعضهم الخندق، فتورط، وقتل، كما وقع لعبد الله بن المغيرة المخزومي. وكان مما أنعم الله به على المسلمين إسلام نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه، والخدعة التي قام بها، ويحدثنا رضي الله عنه (1) عن ذلك فيقول: لما سارت الأحزاب سرت مع قومي حتى قذف الله في قلبي الإِسلام فكتمت قومي إسلامي، فأخرج حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء، وأجده يصلي، فلما رآني جلس، ثم قال: ما جاء بك يا نعيم؟ قلت: إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق، فمرني بما شئت يا رسول الله، فوالله لا تأمرني بأمر إلاّ مضيت له، وقومي لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم، قال: ما استطعت أن تخذل الناس فخذل، قال: قلت أفعل، ولكن يا رسول الله فأذن لي أقول ما أقول من المكر والحيلة، قال: قل ما بدا لك، فأنت في حل، قال: فذهبت حتى جئت بني قريظة، فلما رأوني   (1) " المغازي " للواقدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 رحبوا بي، وأكرموا وحيوا، وعرضوا عليَّ الطعام والشراب، فقلت: إني لم آت لشيء من هذا، إنما جئتكم تخوفاً عليكم لأشير عليكم برأيي، وقد عرفتم ودي إياكم، فقالوا: قد عرفنا ذلك، وأنت عندنا على ما تحب من الصدق والخير، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: إن هذا الرجل يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم - صنع ببني قينقاع وبني النضير وأجلاهم عن بلادهم، وأرى الأمر قد تطاول، وإنكم والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة، فإنهم إن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن أصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم، وأنتم لا تقدرون على ذلك، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، فلا تقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم مخافة أن لا يستمروا في مواصلة قتاله، وأن ينسحبوا ويتركوكم معه وحدكم، قالوا: أشرت بالرأي علينا، ونحن فاعلون، قال: ولكن اكتموا عني، قالوا: نعم نفعل. ثم خرج إلى أبي سفيان فقال: يا أبا سفيان قد جئتك بنصيحة فاكتم عني، قال: أفعل، قال: تعلم أن قريظة قد ندموا على ما صنعوا وأرادوا صلح محمد، وأرسلوا إليه وأنا عندهم إنا سنأخذ من قريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلاً نسلمهم إليك تضرب أعناقهم وترد أجنحتنا التي كسرت إلى ديارهم، يعني بني النضير، ونكون معك على قريش، إن بعثوا إليكم يسألونكم رهناً، فلا تدفعوا إليهم أحداً، ولكن اكتموا عني، قالوا: لا نذكره، ثم خرج حتى أَتى غطفان، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وكان رجلاً منهم فصدقوه، وأرسلت اليهود إلى أبي سفيان غزال بن السموأل ليقول له: إن ثواءكم -أي إقامتكم- قد طال، ولم تصنعوا شيئاً، لو وعدتمونا يوماً تزحفون فيه إلى محمد ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم يكونون عندنا، فإنا نخاف إن مستكم الحرب، أو أصابكم ما تكرهون تركتمونا، وقد نابذنا محمداً بالعداوة، فلم يُرجعوا إليهم - أي لم يردوا عليهم جواباً، وقال أبو سفيان لقريش: هذا ما قاله نعيم. ونجح نعيم بن مسعود في خطته، وزال شبح الخطر، وبدت بوادر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 الفرج، وأراد الله تعالى أن يمد المسلمين بقوة سماوية، فأرسل إليهم جنداً من عنده، وأرسل على قريش وغطفان عاصفة شديدة في ليلة شاتية باردة أكفأت قدورهم وقوّضت خيامهم، وأصيبوا بالمرض، متأثرين بذلك البرد القارس، وأنزل الله في قلوبهم الرعب، كما قال تعالى في سورة الأحزاب: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) قال ابن إسحاق: " وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة، فلما رأى أبو سفيان ما رأى قال: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف أي الخيل والإِبل. وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل. *** الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 993 - عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأحْزَابِ، وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَأيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى وَارَى عَنِّي الغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ، وكانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَهُو يَنْقُلُ مِنَ التُّرابِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَوْلا أنْتَ ما اهْتَدَيْنَا ... ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّيْنَا فَأنْزِلَنْ سكِينَةً عَلَيْنَا ... وثَبِّتِ الأقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إِنَّ الأُلى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وِإنْ أرَادُوا فِتْنَةً أبَيْنَا قَالَ: ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بآخِرِهَا.   993 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع ما أجمعت عليه قريش وغطفان من محاربته - صلى الله عليه وسلم - ضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة، وشارك المسلمين في حفره ترغيباً لهم في الأجر والثواب، وكان ينشد شعر ابن رواحة وغيره في تشجيعهم وحثهم على مواصلة الحفر، وكان ينقل التراب معهم حتى غطى الغبار جلدة بطنه، ومما أنشده - صلى الله عليه وسلم - من شعر ابن رواحة قوله: " اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا " وفي هذا ثناء على الله تعالى، وشكر له على نعمة الهداية والتوفيق لجميع الأعمال الصالحة من صلاة وصدقة وغيرها، فإنه لا توفيق إليها إلَّا بالله: " فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 994 - عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الأحْزَابِ: " نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا ".   وفي هذا تضرع إلى الله تعالى أن يمدهم بالطمأنينة والصبر وثبات الأقدام عند ملاقاة العدو. "إن الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا" أي إن هؤلاء المشركين الذين اعتدوا علينا، وتجمعوا لقتالنا ليفتنونا عن ديننا، سيخيب الله آمالهم لأننا جند الله، ونأبى أن نخضع لأي قوة تصرفنا عن دين الله. ولينصرن الله من ينصره. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أمره - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق بعد أن استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفره، ليكون خطاً دفاعياً ضد العدو، ففيه أنه ينبغي أن نأخذ من غيرنا ما فيه مصلحة لنا ما دام لا يتعارض مع أحكام شريعتنا، سيما فيما يتعلق بالأمور العسكرية والعمرانية والزراعية وغيرها. ثانياًً: مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في الأعمال الكبيرة تشجيعاً لهم، وهكذا ينبغي للرؤساء أن يشاركوا في الأعمال التي فيها مصلحة للمسلمين. ثالثاً: أن من السنَّة إنشاد بعض الشعر الحماسي أثناء العمل تشجيعاً للعاملين، وترغيباً لهم كما فعل - صلى الله عليه وسلم -. والمطابقة: في قوله: " وخندق رسول الله - صلى الله عليه وسلم ". الحديث: أخرجه الشيخان. 994 - معنى الحديث: يحدثنا سليمان بْن صرد رضي الله عنه في حديثه هذا عن تبدل حال المسلمين من ضعف إلى قوة بعد غزوة الخندق، فيقول: مستشهداً بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب " أي بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بعد انصرافه من غزوة الخندق بقوله " نغزوهم ولا يغزوننا " أي يصبح لكم من الشوكة العزة والمنعة، وينزل الله الرعب في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 995 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي أوفَى رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الأحْزَاب فَقَالَ: " اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأحزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ ".   قلوبهم، فلا يجرؤون على مبادأتكم بالغزو والحرب بعد غزوة الخندق لما حقق الله فيها من النصر على الأحزاب المختلفة من المشركين واليهود واستئصال قريظة من المدينة، وقطع دابرهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن غزوة الخندق كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، وبداية عهد جديد، تهيأت فيه لهم كل أسباب القوة والمنعة، حيث انتصروا على الأحزاب، وقضوا على اليهود في المدينة، وأمنوا على أنفسهم من الفتن والحروب الخارجية والداخلية وأصبحت لهم دولة إسلامية قوية عزيزة الجانب، يرهبها الأعداء، ويحسبون ألف حساب قبل أن يفكروا في غزوها ومحاربتها. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب. 995 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن أبي أوفي " دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب " أي على طوائف الكفار التي اجتمعت لقتال المسلمين من اليهود والمشركين " فقال: اللهم منزل الكتاب " أي يا منزل الكتاب الذي وعدت فيه المسلمين بالنصر على أعدائهم، في قولك الحق: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) " سريع الحساب " أي ويا سريع الانتقام من أعدائه " اهزم الأحزاب " أي اجعل لنا الغلبة عليهم ومكنَّا منهم " وزلزلهم " أي وسلط عليهم من أنواع البلاء ما تضطرب له قلوبهم، وترتجف له نفوسهم خوفاً وقلقاً ورعباً. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه. والمطابقة: في قوله: " دعا على الأحزاب ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 852 - " بَابُ مرْجِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب ومخرَجِهِ إلى بَنِي قُريْظَةَ " 996 - عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نَزَلَ أهلُ قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأرسَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سَعْدٍ فأتَى عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسجِدِ، قَالَ للأنْصَارِ: قومُوا إلى سَيِّدِكُمْ أو خَيْرِكُمْ، فَقَالَ: هَؤُلاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ، فَقَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمُ وتَسْبِي ذَرَارِيَّهمْ، قَالَ: قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللهِ، وَرُبَّمَا قَالَ: بِحُكْمَ الْمَلِكِ ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية الدعاء على الأعداء بالهزيمة وللمسلمين بالنصر عليهم، لا سيما في ميادين القتال، فإن الدعاء فيها إذا خلصت النية مستجاب، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة. 852 - " باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته لهم " 996 - معنى الحديث: أن بني قريظة لما نقضوا العهد، وانتهت غزوة الخندق بانتصار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهزيمة المشركين، فعادُوا إلى ديارهم خائبين، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لمقاتلة بني قريظة، وحاصرهم مدة من الزمن حتى استسلموا، ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، أي وافقوا على قبول حكمه فيهم، وكان حليفاً لهم، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فأتى راكباً على حمار، لأنه كان يعاني من الجرح الذي أصيب به في أكحله يوم الخندق، فأتوا به راكباً على حمار، فلما اقترب من المسجد أمر النبي الأنصار أن يخفوا لاستقبال سيدهم، والترحيب به، وإعانته على النزول، ثم أخبره أن بني قريظة قد وافقت على حكمه فيهم، فحكم فيهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 سعد أن يقتل رجالهم القادرين على القتال منهم، وأن تُصادر أموالهم، وتكون نساؤهم وصبيانهم غنيمة للمسلمين، فأعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس أن سعداً قد وفق في حكمه هذا، وأنه قد حكم بحكم الله من فوق سبع سموات، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استسلام بني قريظة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزولهم على حكم سعد بن معاذ بعد أن حاربهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله تعالى، حيث جاءه جبريل بعد انتهاء غزوة الخندق في بيت عائشة معتجراً (1) بعمامة من إستبرق (2) على بغلة عليها قطيفة من ديباج فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فإني عائدٌ إليهم، فمزلزل بهم، وكانت منازل بني قريظة بالحرّة الشرقية الجنوبية من العوالي شرقي " حاجزة " (3) الحديقة المعروفة التي يقع على بابها مسجد بني قريظة وتنتهي هذه الحرة عند مشربة أم إبراهيم، فلما أمر - صلى الله عليه وسلم - بالخروج أمر بلالاً أن يؤذن في الناس: إن الله يأمركم أن لا تصلوا العصر إلَّا في بني قريظة، وأعطى اللواء لعلي، وخرج إليهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى جهدهم الحصار، وألقى الله في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم سيدهم كعب بن أسد أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويصدقوه، فقالوا: لا نفارق حكم التوراة، فعرض عليهم أموراً أخرى فرفضوها، ولما شدد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم الحصار استسلموا له، ونزلوا على حكمه، فحاولت الأوس وهم حلفاؤهم تخفيف الحكم في حقهم وشفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: أما ترضون أن يحكم فيهم   (1) واضعاً العمامة على رأسه. (2) الاستبرق والديياج نوعان من الحرير. (3) " المدينة بين الماضي والحاضر " لمؤرخ المدينة الأستاذ إبراهيم العياشي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 رجل منكم، قالوا: بلى، قال: فذاك سعد بن معاذ، وكان سعد رضي الله عنه إذ ذاك في خيمة بالمسجد، تمرضه امرأة من أسلم، وتداوي الجرح الذي أصيب به، فحمله قومه على حمار، وهم يقولون له: يا أبا عمرو أحسن إلى مواليك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى إليهم رجال قريظة، فلما انتهي سعد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قوموا إلى سيدكم، ثم قال لسعد: هؤلاء نزلوا على حكمك، فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيهم إلى سعد رضي الله عنه فقال: إني أحكم أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية، وتقسم أموالهم " أخرجه أحمد. وهكذا كان حكم سعد صارماً حيث حكم بتصفيتهم نهائياً. ثانياً: أن حكم سعد باستئصال بني قريظة كان موافقاً لحكم الله تعالى كما قال - صلى الله عليه وسلم -: قضيت بحكم الله عز وجل، ولا مجال لمناقشة هذا الحكم، فهو حكم الله العادل وقد نفذ فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الله، فألقى القبض على رجالهم وسجنوا في دار بنت الحارث النجارية الأنصارية، وهي في موضع الحديقة الرومية (1) التي أنشأ في مكانها فندق التيسير، ثم هدم وأدخل في مشروع الحرم النبوي، وقال الشريف العياشي (2): الذي أراه أنها ما فيه مدرسة آل مظهر، وما يقع في شرقيها، حيث كان مربد غنم الأغوات، وهذا الموضع في اتساع ما يكفي لأسرى قريظة، وأقل ما عُدَّ هو خمسمائة رجل، وأكثر ما قيل ثمانمائة، ولما حُبَسَ هؤلاء في دار بنت الحارث خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سوق المدينة، وأمر أن تحفر الخنادق، وأخرجوا أرسالاً أي أفواجاً، فضربت أعناقهم، ومنهم حيي بن أخطب، وكعب بن أسد، وكان عددهم ستمائة، وتولى ضرب أعناقهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام،   (1) " وفاء الوفاء " للسمهودي. (2) " المدينة بين الماضي والحاضر " للعياشي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 853 - " بَابُ غَزْوَةِ الحُدَيْبيَّةِ "   وذلك بحضور النبي - صلى الله عليه وسلم - فصاحت نساؤهم عند قتلهم، وشققن جيوبهن، ونشرن شعورهن، وضربن خدودهن، وملأت المدينة نواحاً، وجمعت ما في حصونهم، فخمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع النَّخل والسبي، ثم بعث بالسبايا فباعها في نجد، واشترى بثمنها خيلاً وسلاحاً، واصطفي لنفسه ريحانة بنت عمرو، ولما استأصل بنو قريظة لم تقم لليهود بعد ذلك قائمة، وخضع المنافقون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطهرت المدينة من الخونة والغادرين. ثالثاً: استغل بعض المغرضين قصة مقتل بني قريظة في إثارة الشبهات ضد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في فيض الباري: اتفق لي مرة أن أسقفاً من النصارى سأل مسلماً إن نبيكم لو كان صادقاً فلم قتل ستمائة نفس من اليهود، وأنا أنظر ما يجيب، فرأيت المسلم عاجزاً عن الجواب، فبادرت إليه قائلاً: وهل تخبرني كم مرة عفا عنهم مع غدرهم؟ فما جزاء الغدر في شريعتكم، فسكت، وسكوته يدل على أن جزاءه القتل، ثم قلت: أنا أعلم بكتابكم منكم. والمطابقة: كما قال العيني: تفهم من معنى الحديث، وذلك أن نزولهم على حكم سعد رضي الله عنه كان بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم (1). 853 - " باب غزوة الحديبية، وقول الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) " أما أسبابها: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه أنه دخل مكة، وطاف بالبيت معتمراً، فأخبر أصحابه فاستبشروا بذلك، فتاقت نفوسهم إلى الطواف بالكعبة، واشتد حنينهم لمكة وخرج - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في ذي القعدة سنة ست   (1) وإنما اخترت هذا الحديث من بين أحاديث الباب الأخرى رغم خفاء المطابقة فيه لما اشتمل عليه من فوائد عظيمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 معتمراً لا يريد حرباً، ومعه ألف وخمسمائة، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليعلم الناس أنه خرج زائراً للبيت، معظماً له، حتى كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت راحلته، فقالوا: خلأت القصواء، أي وقفت ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما خلأت القصواء -أي ما وقفت بنفسها عن سوء طبع فيها، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل- إشارة إلى فيل أبرهة، الذي حبسه الله عن دخول مكة، والَّذِي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله، ويسألونني فيها صلة الرحم، إلا أعطيتهم إياها " ثم زجرها فوثبت به تعدو حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، وفزعت قريش لنزوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فأحب أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فعرض على عمر أن يذهب إليهم فقال: يا رسول الله ليس بمكة أحدٌ من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها وإنه مبلغ ما أردت، فأرسل إليهم عثمان ليخبرهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأت لقتال، وإنما جاء معتمراً، وتأخر عثمان في مكة، وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قد قتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيعة، فثار المسلمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد نفسه، وقال: هذه عن هذه عن عثمان، فكانت هذه هي بيعة الرضوان التي وقعت تحت شجرة سمرة في الحديبية، فأنزل الله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) ولعل هذا أيضاً من أسباب تسميتها بغزوة الحديبية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه مقتل عثمان عزم على مناجزتهم وقتالهم، وبايع أصحابه على أن لا يفروا، وبينما هو كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة يسأله عما جاء به، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إنا لم نجىء لقتال، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد أنهكتهم الحرب، فإن شاءوا ماددتهم، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن أبوا إلَّا القتال، فوالذي نفسي بيده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 997 - عَنِ البَراءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وقد كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحاً، ونَحْنُ   لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي والسالفة صفحة العنق، فلما بلغهم ذلك قال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها، ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فدعا الكاتب، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله على أن تخلوا ما بيننا وبين البيت فنطوف، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب، أننا أخذنا ضغطة ولكن ذلك في العام المقبل، ثم اصطلح الفريقان على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وعلى أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد، لم يردوه إليه، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وكان لهذه الشروط وقع أليم على نفوس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل على الناس من ذلك أمرٌ عظيم، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلح، قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وعظم ذلك على المسلمين، لكن لما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نحر وحلق، تواثبوا ينحرون ويحلقون (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فقد أصبح هذا الصلح فتحاً عظيماً. 997 - معنى الحديث: أن البراء بن عازب رضي الله عنه لما سمع الصحابة يتحدثون عن فتح مكة، ويفسرون به الفتح المبين في قوله تعالى: (إِنَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 نَعدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، والْحُدَيْبِيَةُ بِئْر، فَنَزَحْنَاهَا، فَلَمْ نَتْرُكْ فِيْهَا قَطرةً، فَبلَغَ ذَلِكَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَاهَا، فَجَلَسَ على شَفِيرِهَا، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءِ، فتَوَضَّأ، ثمَّ مَضْمَضَ ودَعَا، ثُمَّ صَبَّهُ فيهَا، فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثمَّ إنَّهَا أصْدَرَتنا ما شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابَنَا".   فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: إنكم ترون أن الفتح المذكور في الآية هو فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً عظيماً للمسلمين، حيث أصبحت به مكة دار إسلام، وطهر الله فيه بيته الحرام من الشرك وعبادة الأصنام، وصدق الله وعده، ونصر عبده، ولكننا نرى أن الفتح المبين المذكور في الآية هو صلح الحديبية، ثم ذكر البراء في بقية حديثه أن عدد الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية ألف وأربعمائة، وقد نزلوا على بئر الحديبية، فلم يجدوا فيه إلاّ القليل من الماء، فلم يلبثوا حتى شربوه، ولم يبق فيه قطرة ماء، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على حرفها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ منه، ودعا الله تعالى، ثم أفرغ ما تبقى منه في البئر، فصار الماء يتفجر فيها بغزارة قال حتى شربنا منها جميعاً، وسقينا دوابنا، ورجعنا عنها، وقد روينا كما في رواية زهير حيث قال: فأرووا أنفسهم وركابهم، وهذا كله، بفضل بركته - صلى الله عليه وسلم -. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن صلح الحديبية كان فتحاً عظيماً للمسلمين، ولذلك سماه الله تعالى فتحاً مبيناً، وأنزل فيه قوله عز وجل (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال الزهري: فما فتح في الإِسلام فتح قبله كان أعظم منه، حيث كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس، وكلّم بَعْضُهُمْ بَعْضاً، فلم يُكَلَّمْ أحد في الإِسلام يعقل (1) شيئاً إلَّا دخل فيه،   (1) قوله: " يعقل شيئاً " أي يفهم الأشياء فهماً صحيحاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 ولقد دخل في تينك السنتين مثلما كان دخل في الإِسلام قبل ذلك أو أكثر، قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف، وقال ابن القيم: هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإِسلام جهرة آمنين، ولهذا سماه الله فتحاً مبيناً، وكان هذا الصلح في الصورة الظاهرة ضيماً وهضماً للمسلمين، وفي الباطن عزاً وفتحاً ونصراً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق. قال الندوي (1): ودلت الحوادث الأخيرة على أن صلح الحديبية الذي تنازل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبول كل ما ألحت عليه قريش كان فتح باب جديد لانتصار الإسلام وانتشاره في جزيرة العرب، وكان باباً إلى فتح مكة، ودعوة ملوك العالم كقيصر وكسرى والمقوقس والنجاشي وأمراء العرب كما كان من مكاسب هذا الصلح اعتراف قريش بمكانة المسلمين كفريق قوي كريم، تبرم معه المعاهدات، ثم كان من أفضل ثمار هذا الصلح الهدنة التي استراح فيها المسلمون من الحروب التي لا أوَّل لها ولا آخر، فاستطاعوا في هذه الفترة السلمية أن يقوموا بدعوة الإِسلام في جو من الهدوء والسكينة. ثانياً: معجزته - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة التي تبدو لنا واضحةً في تواجد الماء في البئر بعد أن لم يبق منه شيءٌ. والمطابقة: في قوله: " ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ". ...   (1) " السيرة النبوية " للندوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 854 - " بَابُ غَزْوَةِ خيْبَرَ "   854 - " باب غزوة خيبر " وخيبر مدينة في شمال المدينة المنورة، على بعد سبعين ميلاً وغزوة خيبر كانت جائزة (1) من الله لأهل الحديبية وأصحاب بيعة الرضوان، فبشرهم عز وجل بالفتح القريب في قوله تعالى (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) وكانت مقدمة هذه الفتوح والمغانم غزوة خيبر، وكانت خيبر كما يقول الأستاذ الندوي (2) مستعمرة يهودية، وكانوا يتآمرون مع القبائل العربية لغزو المدينة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمن من جهتهم، فخرج إليهم في شهر المحرم من السنة السابعة، وأقبل - صلى الله عليه وسلم - بجيشه وكانوا ألفاً وأربعمائة، ونزل - صلى الله عليه وسلم - بالرجيع بين اليهود وغطفان، ليحول بين هؤلاء وهؤلاء، فقد كانوا مظاهرين لهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا غزى قوماً لم يغزهم حتى يصبح، فإذا جمع أذاناً أمسك، فبات - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أصبح لم يسمع أذاناً، فركب وركب القوم، واستقبلوا عمال خيبر وقد خرجوا بمساحيهم وبمكاتلهم، فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هرباً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، ونازل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصون خيبر حتى فتحها حصناً حصناً، وأتى عليٌّ رضي الله عنه حصن القموص، فخرج مرحب ملك اليهود يرتجز فاختلفا ضربتين فبدره علي بضربة فَفَلَقَ مغفر رأسه ووقع في الأفراس، وكان الفتح، وفتحت الحصون واحداً بعد الآخر بعد قتال دام أياماً، حتى سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح، فصالحهم - صلى الله عليه وسلم - على أن لهم الشطر من كل زرع وثمر مقابل عملهم فيها، وخدمتهم لها، ما بدا لرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم فيها، وكان من بين المغانم التي   (1) أي مكافأة لهم. (2) " السيرة النبوية " للندوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 998 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أتَى خَيْبَرَ لَيْلاً، وكانَ إِذَا أَتَى قَوْماً بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِح، فَلَمَّا أصْبَحَ خَرَجَتِ الْيَهُودُ بِمَساحِيهم وَمَكَاتِلِهِمْ، فلما رَأوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدُ وَاللهِ، مُحَمَّدُ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْم فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ".   غنمها المسلمون صحائف من التوراة فجاء اليهود يطلبونها فسلمها إليهم، وكان آخر الحصون التي افتتحها المسلمون السلالم والبطيح، ووجد المسلمون فيهما 400 سيف و1000 رمح و500 فرس وبعد انتهائه - صلى الله عليه وسلم - من خيبر صالحه أهل فدك، وكانوا يشكلون حكومة مستقلة في أعالي الحجاز من اليهود على نصف فدك، فقيل ذلك منهم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقسمه حيث يرى من مصالحه ومصالح المسلمين. 998 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى غزوة خيبر لم يدخلها بالليل، لأنه كان من سنته - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قوماً لم يغزهم حتى يصبح. قال ابن إسحاق: إنه - صلى الله عليه وسلم - نزل بواد يقال له الرجيع، بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم، قال أنس: " وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى قوماً بليل لم يغربهم حتى يصبح " بضم الياء وكسر الغين المعجمة، أي لا يغير عليهم حتى يصبح، كما في الجهاد، وفي رواية أخرى في الأذان، فإن سمع أذاناً كفَّ عنهم، وِإلَّا أغار " فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم " أي فبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة هناك، فلما طلع الصبح صلّى صلاة الصبح عند أول طلوع الفجر، ولم يسمع أذاناً، فركب وركب القوم، ودخلوا خيبر، واستقبلوا عمالها ذاهبين إلى أعمالهم وبأيديهم مساحيهم ومكاتلهم - جمع مكتل، وهو القفة الكبيرة " فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس " أي هذا محمدٌ وجيشه قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 855 - " بَابُ غَزْوَةِ مُؤتةَ "   أقبل علينا يريد قتالنا " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خربت خيبر " والمراد بخرابها القضاء على الدولة اليهودية فيها، وإزالة نفوذهم منها، لأن خيبر كانت مستعمرة يهودية وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -، ذلك بطريق الوحي أو تفاؤلاً لما رآه في أيديهم من الآلات المشعرة بتقويض دولتهم وكسر شوكتهم، لأن لفظ مسحاة مأخوذ من السحو، وهو إزالة الشي " إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " أي إنّا معشر المسلمين إذا نزلنا بديار قوم لقتالهم، ومحاربتهم فبئس الصباح صباحهم، لأنه شر ووبال عليهم، فالساحة هي فناء الدار، والمراد بها هنا الدار والبلد نفسُها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: غزوه - صلى الله عليه وسلم - لمدينة خيبر التي كانت مستعمرة يهودية في جزيرة العرب للقضاء على دولتهم، وكسر شوكتهم، لأنها كانت معقلاً وقاعدة حربية لهم، ولهذا كان فتحها من أعظم الفتوحات الإِسلامية، وقد كان يهود خيبر، لا سيما رؤساء بني النضير، التي أجلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - يضمرون أشد الحقد والعداوة لمحمد وأصحابه، ويحاولون بكل الوسائل حمل القبائل العربية على محاربة المسلمين، وإثارة الفتن والقلاقلِ ضد بني الإِسلام. ثانياًً: أن من سياسته - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة الموفقة أنه لا يغزو عدواً بليل حتى يصبح، ويصلي الصبح، فإن جمع أذاناً كفَّ عنهم، وإلَّا قاتلهم كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في خيبر، وذلك ليفاجىء العدوَّ، ويأخذه بغتة وعلى غير انتظار. والمطابقة: في قوله: " أتي خيبر ليلاً ". 855 - "باب غزوة مؤتة " وموتَة بضم الميم وسكون الواو دون همز، كما أفاده القسطلاني: قرية على بعد 12 كم جنوب اليرموك وكانت غزوة موتة في جمادى الأولى من السنة الثامنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 999 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أمَّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ مُوْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ، وِإنْ قُتل جَعْفَرٌ فعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ " قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ فِيهِمْ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أبِي طَالِبٍ، فوَجَدْنَاهُ في الْقَتْلَى، وَوَجَدْنَا في جَسَدِهِ بِضْعَاً وتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ.   من الهجرة، الموافق لشهر سبتمبر سنة 629 م. أما سببها فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب فأوثقه وضرب عنقه، فاشتد الأمر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وندب الناس للقتال. وقال: " زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض الناس رجلاً "، وعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - لواءً أبيض، ودفعه إلى زيد، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل، فلما فصل المسلمون سمع العدو فجمع لهم مائة ألف مقاتل، فلما التقى المسلمون بالمشركين أخذ زيد اللواء حتى قتل، ثم أخذه جعفر فقاتل حتى قتل، فأخذه عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، فأخذه ثابت بن الأرقم، وقال: يا معشر الناس اصطلحوا على رجل منكم فاصطلحوا على خالد، فأخذه ونظر إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينة، فقال: الآن حمي الوطيس، أي جدت الحرب، فانحاز خالد بالجيش حتى خلصهم من أيدي الأعداء وألقى الله الرعب في قلوبهم. 999 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة موتة زيد بن حارثة " أي عيّنه أميراً على الجيش " فقال: إن قتل زيد فجعفر " يتولى القيادة بعد استشهاده " وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة " أي فعبد الله يتولاها من بعده، فلما وقعت المعركة قتل هؤلاء الثلاثة على الترتيب المذكور، "فالتمسنا جعفر بن أبي طالب، فوجدناه في القتلى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 " غَزْوَةُ الْفَتْحِ " 856 - " بَاب أيْنَ رَكَزَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحَ " 1000 - عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "سَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ، فبَلَغَ ذَلِكَ قُريْشاً، خَرَجَ أبو   ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية" (1) أي وجدنا فيه أكثر من تسعين إصابة ما بين طعنة رمح، ورمية سهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إسناده - صلى الله عليه وسلم - قيادة هذا الجيش لزيد بن حارثة فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة. ثانياً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - إن قتل زيد فجعفر ... إلخ صريح في أن هؤلاء الثلاثة يكرمهم الله بالشهادة، وقد روي (2) أن نعمان اليهودي لما جمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل ثم قالوا: إن أصيب فلان فلو سمي مائة أصيبوا جميعاً. والمطابقة: في قوله: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة ". الحديث: أخرجه البخاري. 856 - " باب أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح " يعني أين نصب رايته يوم فتح مكة، والراية علم الجيش كما أفاده في " المصباح " وكان اسم رايته - صلى الله عليه وسلم - العُقاب. 1000 - معنى الحديث: يحدثنا عروة بن الزبير في هذا الحديث عن غزوة الفتح ، فيقول: " سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح " وفي رواية ابن عباس   (1) " شرح القسطلاني " ج 6. (2) " المغازي " للواقدي ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ وَحكِيمُ بْنُ حِزَام، وَبُدَيلُ بنُ وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَر عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأقبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بنِيرَان كأنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأنَّهَا نيرانُ عَرَفَةَ! فَقَالَ بُدَيلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نيرَانُ بَني عَمْروٍ، فَقَالَ أبُو سُفْيَانَ: عَمْرو أقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - فأدْرَكُوهُمْ، فأخَذُوهُمْ فأتوْا بِهِمْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأسْلَمَ أبو سُفْيَانَ، فَلمَّا سَارَ قَالَ للْعَبَّاسِ: احْبِس أبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الْخَيْل حَتَّى يَنْظُرَ إلَى الْمُسْلِمينَ، فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَتِيبَةً كَتِيبَةً على أبِي سُفْيَانَ، فمَرَّتْ كَتِيبَة قَالَ: يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: هذه غِفَارُ، قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارٍ، ثم مَرَّتْ جُهَيْنَةُ قَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْم،   رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في رمضان من المدينة، ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة " خرج أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر " أي فخرج هؤلاء الثلاثة يتحسسون الأخبار، ويحاولون الاطِّلاع على حقيقة ذلك " فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة " أي فإذا هم يفاجؤن بمشاهدة نيران كثيرة، كأنها نيران عرفة في موسم الحج " فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو" أي ظنها نيران بني عمرو قبيلة من خزاعة " فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك " أي فاستبعد أبو سفيان ذلك " فرآهم ناس من حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوهم " أي فألقوا عليهم القبض " فأتوا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فساقوهم حتى أوصلوهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فأسلم أبو سفيان " قال الحافظ: وفي رواية: فدخل بديل وحكيم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما، ومعنى ذلك أن هؤلاء الثلاثة أسلموا جميعاً فِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 فقال مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْم، فقال مِثْلَ ذَلِكَ، حتى أقْبَلَتْ كتِيبَةٌ لم يرَ مِثْلَها، قَالَ: مَنْ هَذه؟ قَالَ هَؤُلاءِ الأنْصَارُ عَلَيْهِمُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَه الرَّايَةُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يا أبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، فَقَالَ أبو سُفْيَانَ: يا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ، ثم جَاءَتْ كَتيبَة، وَهِيَ أقَلُّ الْكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابُهُ، وَرَايَةُ النَّبِيِّ   هذا اليوم قبل دخول مكة " فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند حطم الخيل " أي في الموضع الذي تزدحم فيه الخيل لكي يستعرض الكتائب العظيمة ويطلع على قوة المسلمين وكثرة عددهم " فجعلت القبائل تمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كتيبة كتيبة على أبي سفيان " وهكذا تحركت كتائب الفتح الإسلامي زاحفة نحو البلد الحرام أمام أبي سفيان، وهو يسأل عنها كتيبة كتيبة " حتى أقبلت كتيبة لم يرَ مثلها " أي لم ير أبو سفيان لها مثيلاً في الكتائب الأخرى التي سبقتها " قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار " أي هذه كتيبة الأنصار، وكانت كثيرة العدد، قوية العدة، مدججة بالسلاح، فلما رأى ما هم عليه قال: ما لأحد بهؤلاء من طاقة، " وعليهم سعد بن عبادة ومعه الراية " أي وقائدهم سعد بن عبادة ومعه راية الأنصار " فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة " أي هذا يوم مذبحة قريش الكبرى، " اليوم تستحل الكعبة " أي وهذا هو اليوم الذي يحل لنا القتال عند الكعبة، فنشفي صدورنا من قريش وننتقم منها أشد الانتقام وفي رواية اليوم أذل الله قريشاً. " فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار " أي فأثّرت هذه الكلمات التي قالها سعد بن عبادة في نفس أبي سفيان، وهيّجت مشاعره، وأثارت فيه الحمية لبلده وقومه، والحرص على الدفاع عنهم، والذود عن كرامتهم، فقال " حبذا يوم الذمار " قال الخطَّابي تمنى أبو سفيان أن تكون له يد أي قوة فيحمي قومه ويدفع عنهم، قال: "ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 - صلى الله عليه وسلم - معَ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأبِي سُفْيَانَ قَالَ: ألمْ تَعْلَمْ ما قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَاَدَةَ؟ قَالَ: ما قَالَ؟ قَالَ: قَالَ كَذَا وَكَذَا! فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْم تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ، قَالَ: وأمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بالْحَجُونِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلزُّبَيْرْ: يَا أبَا عَبْدِ اللهِ هَا هُنَا أمرَكَ رَسُولُ اللهِ أن تَرْكُزَ الرَّايَةَ، قَالَ: وَأمرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنِ الْوَلِيدِ أن يَدْخُلَ مِنْ أعلَى مَكَّةَ من كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كُدَىً، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ وخَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ حُبَيْشُ بْنُ الأشْعَرِ وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ ".   جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " أي ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبة خضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلَّا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله! يا عباس من هؤلاء، قال: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً، قال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال فنعم إذاً " فلما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا وكذا، فقال: كذب سعد " أي أخطأ سعد في مقالته هذه، وقال خلاف الواقع " هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة " وأعلن للناس جميعاً أنَّ فتح مكة ليس احتلالاً لها، ولا حرباً انتقامية من قريش، وإنما هو نصر لهذا البيت وإعلاء لدين الله، وما يوم الفتح إلَّا يوم تعظم فيه الكعبة، وتطهر من الشرك وعبادة الأصنام، ويعز الله فيه مكة وأهلها بالإسلام كما جاء في رواية أخرى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله فيه قريشاً، ويعظم الله الكعبة " وأرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس. قال " وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركز رايته بالحجون " وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 موضع بالمعلاة بالقرب من مقبرة مكة، وقد بني هناك مسجد يقال له مسجد الراية كما أفاده الحلبي في " السيرة " " وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء " بفتح الكاف، وهو عند الثنية العليا، " ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كُدى " بضم الكاف والقصر، أي من عند الثنية السفلى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ذكر بعض الأحداث التي وقعت في غزوة الفتح، وغزوة الفتح كانت في رمضان سنة ثمان من الهجرة يناير 630 م وسبب ذلك أنه بيت نفر من بني بكر خزاعة على ماء فأصابوا منهم رجالاً وتناوشوا واقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم أشراف من قريش يستخفون ليلاً، وبذلك نقضت قريش العهد الذي بينها وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث حاربت حلفاءه، واعتدت عليهم، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليه وأنشده أبياتاً ينشده فيها الحلف الذي بينهم وبينه ويخبره أن قريشاً نقضوا العهد ويسأله النصر والنجدة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: نصرت يا عمرو بن سالم فخير قريشاً أن يدفعوا دية قتلى خزاعة أو يبرأوا ممن نقض العهد، أو ينبذ إليهم على سواء الهدنة التي بينه وبينهم، فأجابه بعض زعمائهم، لكن ننبذ إليك على سواء، وبذلك برأت ذمته من قريش، وقامت عليهم الحجة، وقال - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه الخبر: " لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي " وأخذ - صلى الله عليه وسلم - يستعد سراً للزحف على مكة وخرج لليلتين خلتا من رمضان، وخرج أبو سفيان من مكة يصحبه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، فرآهم حرس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وألقوا عليهم القبض وأخذوهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلموا، وعقد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرايات بقديد، فأعطى لكل قبيلة لواءً ورايةً، وكانت راية النبي - صلى الله عليه وسلم - يحملها الزبير بن العوام، وهي سوداء، أما اللواء فقد كان أبيض اللون، وأوصى رؤساء الجيمش أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، ودخل - صلى الله عليه وسلم - من أسفل مكة، ودخل خالد من أعلاها، ولم يلق مقاومة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 857 - " بَاب قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) إِلَى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ) "   تذكر إلا ما وقع لخالد حيث تصدى له جماعة من بكر وهذيل ورموه بالنبل فقاتلهم، فانهزموا، وقتل أربعة وعشرون من قريش، وأربعة من هذيل، ودخل - صلى الله عليه وسلم - مكة، فطاف وسعى، واستلم الحجر، ودخل الكعبة، وقال وهو واقف على باب الكعبة: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة رجالاً ونساءً في الصفا، وهدم الأصنام التي كانت على الكعبة وهو يقول: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). ثانياً: أن فتح مكة لم يكن حرباً انتقامية وإنما كان يوماً مباركاً تعظّم فيه الكعبة، وتعز فيه قريش بالإِسلام. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية بالحجون ". 857 - " باب قول الله عز وجل (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ ... ) " أقول وبالله المستعان: الكلام على هذه الترجمة يتلخص في الحديث عن غزوة حنين، وتفسير الآية الكريمة، وحنين وادٍ في طريق الطائف من جهة عرفة على بعد بضعة عشر ميلاً من مكة، وقال في " دائرة المعارف الإسلامية ": حنين واد عميق غير منتظم، به أحراج من شجر النخيل على مسيرة يوم من مكة على طريق من الطرق الممتدة إلى الطائف، وكانت غزوة حنين في العاشر من شوّال عام ثمان من الهجرة الموافق لفبراير سنة 630 م، وذلك أنّ هوازن لما سمعت بفتح مكة أغاظها ذلك، وأرادت أن يكون لها الفضل في استئصال شأفة الإِسلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 فقام مالك بن عوف سيد هوازن، ونادى بالحرب، واجتمع إليه ثقيف وجُشم وسعد بن بكر، وأجمع السير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه القبائل، ومعهم أموالهم ونساؤهم وذراريهم، ليستميتوا في الدفاع عن أرضهم وعرضهم، وأمرهم أن يكسروا جفون سيوفهم وأن يشدوا شدة رجل واحد، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ألفان من مكة حديثو عهد بالإِسلام، وعشرة آلاف من المدينة، فأعجب أناس بكثرتهم، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، ورتب النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وقسم الألوية، فسلم علياً لواء المهاجرين، وأسد بن حضير لواء الأوس، والحباب بن المنذر لواء الخزرج، واستقل المسلمون عدد هوازن، وانتصروا عليهم أوّل الأمر، غير أنهم أكبوا على الغنائم يأخذونها، وكانت هوازن قد كمنت لهم في شعاب الجبل، فلما رأوا انشغالهم بالغنائم فاجؤهم بهجوم خاطف، فما راع المسلمين إلَّا وقد رشقوهم بالنبال، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، وكانوا مهرة في الرماية، فانهزم المسلمون، وطار في الناس - وشاع فيهم أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل وانحسر عنه المسلمون، حتى تم ما أراده الله من تأديب المسلمين على إعجابهم بكثرتهم، عند ذلك ردّ الله لهم الكرة على الأعداء، رحمة بهم، ونصراً لدينه، وإكراماً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللَّذين ثبتوا معه من المؤمنين، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صامداً في موقفه على بغلته الشهباء يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ولما استقبلته كتائبهم أخذ قبضة من تراب، ورمى بها إلى عيونهم فملئت أعين القوم، وأنزل الله ملائكته لنصرة المسلمين، وانتهت المعركة بهزيمة هوازن، وغنم المسلمون كثيراً، فأسروا نحو 6000 امرأة، و2400 بعير وأكثر من 40000 أربعين ألف شاة و4000 أوقية من الفضة. وقسم - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، فَمنَّ على السبي، وأطلق سراحهم إكراماً لوفد هوازن الذي كان فيه أبو برقان عمه - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة. وهكذا نصر الله المسلمين بعد إدبارهم وهزيمتهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 عَنْكُمْ شَيْئًا) إلى آخر الآية الكريمة، التي يمن الله تعالى فيها على المسلمينَ، ويذكرهم بأنه عز وجل قد نصرهم في وقائع كثيرة فيقول: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) أي في غزوات كثيرة ما كنتم تؤمّلون فيها بالظفر لقلة عددكم وعتادكم، ونصَركُمْ أيضاً في غزوة حنين الذي أعجبتكم فيها كثرتكم (1)، إذ كنتم اثني عشر ألفاً، وكان الكافرون أربعة آلاف فقط فقال قائلكم: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت الهزيمة لكم عقوبة على هذا الغرور، والعُجب، (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا) أي فلم تكن تلك الكثرة التي غرتكم كافية لانتصاركم (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي واشتد عليكما الخوف (2) حتى ضاقت عليكم الأرض، فلم تجدوا فيها موضعاً تلجؤون إليه (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي ثم وليتم ظهوركم لعدوكم مدبرين لا تلون على شيء، (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي ثم أنزل الله تعالى من سماء عزته على قلب نبيه والمؤمنين من حوله الشعورَ بالأَمن والهدوء والطمأنينة والارتياح النفسي بعد ما عَرَض لهم من الحزن والقلق عند وقوع الهزيمة لِإخوانهم. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعض المؤمنين الذين أحاطوا به وهم قلة لا يتجاوزون التسعة، فإنهم ثبتوا كالأَطواد الراسيات. قال الحافظ في الفتح: وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال: " لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولين (3)، وما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة رجل "، قال الحافظ: " وهذا أكثر ما وقفت عليه (4)، وقال بعض المفسرين معنى قوله تعالى: (وَعَلَى   (1) " تفسير المنار " ج 10. (2) " التفسير المنير " ج 1. (3) هكذا ذكر هذه الكلمة بالنصب الحافظ في " الفتح "، وقد وقفت على الحديث في " سنن الترمذي " بلفظ " لقد رأينا يوم حنين وإن الفئتين لموليتان وما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة رجل ". وقال المباركفوري في " التحفة ": قوله: " وإن الفئتين لموليتان " كذا في النسخ الحاضرة. وأشار إلى ما ذكره الحافظ. (4) من عدد من ثبت يوم حنين. (ع). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 1001 - عَنِ البرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَدْ سَألهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ حُنَيْن؟ فقَالَ: "لَكِنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَفرَّ، كانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وِإنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا، فأكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فاسْتُقْبِلْنَا بالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأيتُ   الْمُؤْمِنِينَ) أن الله أنزل السكينة على الفارين وأعاد إليهم ما زال عنهم من الصبر والثبات ورباطة الجأش، ولا سيما عندما سمعوا نداء العباس يدعوهم إلى نبيهم " (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) " أي أنزل جنوداً روحانية من الملائكة لم تروها بأبصاركم " وعذب الذين كفروا " بالقتل والأسر والسبي " وذلك جزاء الكافرين " في الدنيا ما داموا يستحبّون الكفر على الإِيمان ويقاتلون أهله. 1001 - معنى الحديث: أن رجلاً من قيس سأل البراء بن عازب هل فرّ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم غزوة حنين " فقال لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر " يعني أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ثبت ومعه قليل من أصحابه، قال الحافظ: تضمن جواب البراء هذا إثبات الفرار لهم، لكن لا على طريق التعميم، " كانت هوازن رماة " أي وسبب فرار المسلمين يوم حنين وهزيمتهم أن هوازن كانوا مهرة في رماية السهام " لما حملنا عليهم " أي لما هجمنا عليهم هجوماً عنيفاً " انكشفوا " أي انهزموا هزيمة ظاهرة " فأكببنا على الغنائم " أي فأسرعنا إلى الغنائم، وفي رواية " فأقبل الناس على الغنائم " أي فأقبلوا إليها يأخذونها كما وقع في أحد " فاستُقْبلنا بالسهام " أي فلما أقبلنا على الغنائم، فاجأتنا هوازن بهجوم خاطف، وأمطرتنا بوابل من السهام حيث هجموا عليهم بالنبال فهزموهم، وكان ذلك تأديباً لهم، قال جابر: وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في جوانبه ومضايقه، فوالله ما راعنا إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد قال: "ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - على بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وِإنَّ أبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِزَمَامِهَا وَهُو يَقُولُ: أنَا النبي لا كَذِبْ".   بغلته البيضاء" التي أهداها إليه الجذامي " وإن أبا سفيان " ابن الحارث " آخذ بزمامها " أي ممسك بزمام بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال جابر: وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ثم قال: إِليَّ، أيها الناس، هلم إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، وبقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من المهاجرين وأهل بيته، وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيتة علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه الفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ، قال " وهو يقول " أي والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أنا النبي لا كذب " ... أنا ابن عبد المطلب ولم يذكر الشطر الثاني في هذه الرواية، وذكره في رواية مسلم حيث قال: " ودعا واستنصر، وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب (1) اللهم أنزل نصرك. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن حب الدنيا كان دائماً، وفي جميع الظروف والأحوال هو رأس كل خطيئة، وسبب كل هزيمة، فإن المسلمين انهزموا في أحد وفي حنين بسبب إسراعهم إلى الغنائم وانكبابهم عليها، كما قال البراء. " لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببْنا على الغناثم فاسْتُقْبلنا بالسهام " فكانت الهزيمة لنا، ودارت الدوائر علينا، وهناك أيضاً سبب آخَر لهزيمتهم يوم حنين، وهو إعجابهم وغرورهم بكثرتهم كما قال تعالى: (وَيَوْمَ   (1) وقال الخطابي: إنما خصَّ عبد المطلب بالذكر تثبيتاً لنبوته لما اشتهر وعرف من رؤيا عبد المطلب المبشرة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أنبأت به الأحبار والرهبان من ظهور نبي من أبناء عبد المطلب، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بد مما وعدت به من النصر، لئلا ينهزموا عنه، ويظنوا أنه مقتول ومغلوب. اهـ. كما أفاده السهيلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 858 - " بَابُ وَفْدِ بَني حَنِيفَةَ وَحَديثِ ثُمَامَةَ بْنِ أثالٍ " 1002 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النبي - صلى الله عليه وسلم -خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُل مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيةٍ مِنْ سَوارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " ما عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " قَالَ: عِنْدِي خَيْر يا مُحَمَّدُ إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وِإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شاكِرٍ، وإِنْ كُنْتَ ترِيدُ الْمَالَ   حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا). ثانياًً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " أنا النبي لا كذب " لا يقتضي كونه شاعراً، لأنّه خرج منه هكذا موزوناً ولم يقصد به الشعر، أو أنه لغيره وتمثل به، وإنه كان: أنت النبي لا كذب ... أنت ابن عبد المطلب (1) والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرَّ " الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 858 - " باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال (2) " 1002 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أرسل فرساناً إلى نجد بقيادة محمد بن مسلمة في العاشر من محرم سنة ست من الهجرة ليقاتلوا أحياء بني بكر الذين منهم بنو حنيفة، فأغاروا عليهم، وهزموهم، وأسروا ثمامة بن أثال وأتوا به إلى المدينة، وربطوه إلى سارية من سواري المسجد النبوي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما عندك: أي ماذا تظن أني فاعل بك " قال: عندي خير " أي لا أظن بك، ولا أؤمل منك إلا الخير، مهما فعلت معي "إن تقتل تقتل   (1) " شرح القسطلاني على البخاري ". (2) لم تكن القصتان في وقت واحد، لأن وفد بني حنيفة في العام التاسع، وقصة ثمامة قبل فتح مكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: " مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ " قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حَتَى كَانَ بَعْدَ الغَدِ فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: أطْلِقُوا ثُمَامَةَ، فانْطَلَقَ إلى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فاغْتَسَلَ، ثُمَّ دخَلَ الْمَسْجِدَ فقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اْللهُ، وَأشْهَدُ أن مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ ما كَانَ عَلَى الأرْضِ، وَجْهٌ أبغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أصبَحَ وَجْهُكَ أحَبَّ الْوُجُوهِ إلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ دِين أبغَضَ إِليَّ مِنْ دِينكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أبغَضَ إِلَيَّ   ذا دم" أي إن تقتلني فذلك عدل منك، ولم تعاملني إلَّا بما أستحق، لأني مطلوب بدم، فإن قتلتني قتلتني قصاصاً، ولم تظلمني أبداً " وإن تُنْعِمْ تنعم على شاكر " أي وإن تحسن إليَّ بالعفو عني فالعفو من شيم الكرام، ولن يضيع معروفك عندي، لأنك أنعمت على كريم يحفظ الجميل، ولا ينسى المعروف أبداً " وإن كنت تريد المال " يعني وإن كنت تريد أن افتدي نفسي بالمال " فسل منه ما شئت " ولك ما طلبت " فتركه حتى كان من الغد، قال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك " يعني فتركه مربوطاً إلى السارية حتى كان اليوم الثاني فأعاد عليه سؤاله الأوّل، وأجابه ثمامة بنفس الجواب الأوّل، ثم تركه اليوم الثالث، وأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السؤال، وأجابه ثمامة بالجواب نفسه " فقال: أطلقوا ثمامة " أي فكوه من رباطه " فانطلق إلى نجل قريب من المسجد " أي فذهب إلى ماء قريب من المسجد " فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إِله إِلَّا الله " أي وأعلن إسلامه ونطق بالشهادتين، ثم قال: " والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك " أي ثم عبّر رضي الله عنه عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 مِنْ بَلَدِكَ، فَأصْبَحَ بَلَدُكَ أحبَّ الْبِلادِ إِلَيَّ، وإن خَيْلَكَ أخَذَتْنِي، وَأنَا أرِيدُ الْعُمْرَةَ، فماذا تَرَى؟ فبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأمَرَهُ أنْ يَعْتَمِرَ، فلمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِل: صَبَوْتَ، قَالَ: لا وَاللهِ، وَلَكِنْ أسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا وَاللهِ لا يَأتِيَكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.   شعوره نحو النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحو دينه الحنيف، ونحو بلده الحبيب المدينة المنورة، فقال: ما كان هناك وجه أكرهه مثل وجهك " فقد أصبح وجهك " أي فلما أسلمت أصبح وجهك " أحب الوجوه إليَّ " حيث تحول البغض والكراهية إلى محبة شديدة لا تعدلها أي محبة أخرى " والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليَّ " وهكذا عاطفة الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب " والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ " لأن محبتي لك دفعتني إلى مزيد الحب لبلادك، وقد قال الشاعر: دَارُ الحَبِيْبِ أحقُّ أن تهْوَاهَا ... وَتَحِنُّ مِنْ طَرَب إلَى ذِكْرَاهَا ثم قال: " وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى " أي فهل تأذن لي في العمرة " فبشره " بغفران ذنوبه كلها، وبخيري الدنيا والآخرة " وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت " أي خرجت من دين إلى دين " قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد رسول الله " أي ولكني تركت الدين الباطلَ ودخلت في دين الحق. " ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن بها رسول الله " أي حتى يأذن رسول الله في إرسالها إليكم، فانصرف إلى اليمامة، وكانت ريف مكة، فمنع الحنطة عنهم حتى جهدت قريش، وكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة، ففعل - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 1003 - عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَعَلَ يَقُولُ: إنْ جَعَلَ لي مُحَمَّد الأمْرَ مِنْ بَعْد تَبِعْتُهُ، وَقَدِمَهَا في بَشَرٍ كثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فأقْبَلَ   والمطابقة: في كون الحديث عن ثمامة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ذكاء " ثمامة " ورجاحة عقله، وفصاحته وبلاغته العظيمة، التي تجلت في جوابه الحاضر، وسرعة بديهته، فإن ثمامة في جوابه الشافي الكافي قد أحاط بالموضوع من أطرافه، وأجاب عن كل ما يتوقع السؤال عنه في كلمات قصيرة، حيث وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدل إذا حكم، وأمل فيه العفو والكرم، ووعده بحفظ الجميل، وصدق الوفاء، واستعد لمفاداة نفسه بالمال، إن طلب منه الفداء، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن جوابه، واستدل به على فضله ونبله، فأنعم عليه بإطلاق سراحه دون فداء، مكافأة له على حسن جوابه. ثانياً: فائدة العفو عند المقدرة، فهو أقرب طريق إلى قلوب الرجال. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. 1003 - معنى الحديث: أنه لما فتحت مكة وأسلمت ثقيف، وسقط أكبر حصن من حصون المقاومة أمام دين الله بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتبُ إلى الملوك والأمراء، ورؤساء القبائل يدعوهم إلى الإسلام، وكانت السنة التاسعة من الهجرة حافلة بقدوم الوفود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سميت عام الوفود، وكان من هذه الوفود التي قدمت إلى المدينة وفد بني حنيفة، ومعهم مسيلمة الكذاب، هو معنى قوله " قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته " أي إن جعل لي الخلافة من بعده دخلت في دينه كما أفاده الحافظ " وقدمها في بشر كثير من قومه " بني حنيفة، وكان عددهم سبعة عشر رجلاً كما قال الواقدي " فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس " خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان في يده - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 إِلَيْهِ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ ثَابِث بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس، وَفي يَدِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَطْعَة جَرِيدٍ حتى وقَفَ علَى مسَيْلَمَةَ في أصْحَابِهِ فَقَالَ: لَوْ سَألتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ ما أعْطَيْتكَهَا، ولنْ تَعْدُوَ أمْرَ اللهِ فِيكَ، ولَئِنْ أدْبَرْتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وَإنِّي لأرَاكَ الذِي أرِيت فيهِ مَا رَأيْت، وهَذَا ثَابِت يُجِيْبكَ عَنِّي، ثمَّ انْصَرَفَ عَنْه.   قطعة من الجريد كما في الحديث " فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها " أي فلما قابله النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب منه أن يشركه في النبوة كما أفاده القسطلاني، فقال: لو سألتني هذه الجريدة لما أعطيتك إياها فضلاً عن النبوة " ولن تعدو أمر الله فيك " أي لن تخرج عن حكم الله فيك أنك كذاب ومقتول " ولئن أدبرت ليعقرنك الله " أي ولئن خرجت عن الطاعة، وفارقت الجماعة ليهلكنك الله " وإني لأراك الذي أريت فيه " أي وأعتقد أنك الشخص الذي رأيت فيه في منامي ما رأيت، وذلك أنه رأى - صلى الله عليه وسلم - في منامه سوارين من ذهب، فقال له جبريل: انفخهما فنفخهما، فطارَا، فأولهما كذابين يخرجان بعده أحدهما مسيلمة، والآخر العنسي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان قصة قدوم مسيلمة الكذاب إلى المدينة في جماعة من قومه في السنة التاسعة من الهجرة فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشركه في النبوة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك، فرجع عدو الله إلى اليمامة، وتنبأ، ثم جعل يسجع السجعات، وظاهر حديث البخاري أنه لم يسلم أصلاً إلَّا أن المؤرخين يذكرون أنه أسلم عند التقائه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، ثم ارتد بعد عودته إلى اليمامة كما في زاد المعاد نقلاً عن ابن إسحاق. ثانياًً: قال ابن القيم: في هذه القصة أن للإِمام أن يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار، وتوكيل العالم بعض أصحابه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 859 - " قِصَّةُ أهْلِ نجْرَانَ "   أن يتكلم عنه. ثالثاً: قال الحافظ في " الفتح " يؤخذ منه أن السوار وسائر أنواع الحلي تعبر للرجال بما يسوءهم، قال ابن القيم: " ومن ها هنا دل لباس الحلي للرجل على نكد يلحقه وهمّ يناله ". قال أبو العباس أحمد بن عبد الرحيم المقدسي المعروف بالشهاب العابر: قال لي رجل: رأيت في رجلي خلخالاً، فقلت له تخلخل رجلك بألم، فكان كذلك، وقال لي آخر رأيت كأن في أنفي حلقة ذهب، وفيها حب مليح أحمر، فقلت له: يقع بك رعاف شديد فجرى كذلك. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون مسيلمة الكذاب إنما قدم في وفدٍ من بني حنيفة كما أفاده. 859 - " قصة أهل نجران " أي قصة قدوم وفد نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة في السنة التاسعة من الهجرة، وذلك أن نصارى نجران لما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام بعثوا وفداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكوناً من ستين رجلاً منهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، منهم ثلاثة يؤول إليهم أمرهم، وهم العاقب أمير القوم، والسيد مستشارهم، وأبو حارثة أسقفهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحبرين " أسلما: قالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تسلما، قالا: بل قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما يمنعكما من الإِسلام ادّعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالوا: فمن أبوه يا محمد، فصمت رسول الله، فلم يجبهما حتى أنزل الله تعالى عليه صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية، فتصدى النبي - صلى الله عليه وسلم - لمناقشتهم، فقاله لهم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلَّا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قال: فهل يملك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلَّا ما علمه الله، قالوا: لا، قال: فإن الله صوّر عيسى في الرحم كيف يشاء، فهل تعلمون ذلك، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، ولا يحدث الحدث، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة، ثم غذّي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم في يشرب ويُحْدث، قالوا: بلى، قال: وكيف يكون هذا؟ فسكتوا، وعجزوا عن الجواب، فلما لم تنفع معهم الحجة والبرهان، وأبوا أن يقروا، أمر الله تعالى نبيه بمباهلتهم، وأنزل عليه قوله تعالى (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) فدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة. قال ابن كثير: " فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له، وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة فقال شرحبيل لصاحبه: لئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك. فقال له صاحباه: فما الرأى يا أبا مريم؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً، فتلقى شرحبيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك، فقال: وما هو؟ فقال: نحكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فما حكمت بيننا فهو جائز " ا. هـ. فصالحهم - صلى الله عليه وسلم - على أن يدفعوا له ألف حلة في رجب وألف حلة في صفر، مع كل حلة أوقية، وعليهم إعارة ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً لمن يقاتلون من المسلمين في أرض اليمن، وكتب لهم أن تكون لهم الحرية في ملتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 1004 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ، والسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدَانِ أنْ يُلاعِنَاهُ، قالَ: فَقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لا تَفْعَلْ، فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيَّاً فلاعَننَا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا، قَالا: إنَّا نُعْطِكَ مَا سَأَلتَنَا، وابْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً أمِيناً ولا تَبْعَثْ مَعَنَا إلَّا أمِيناً، فَقَالَ: "لأبعَثَنَّ مَعَكُمْ   1004 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل نجران كتاباً قال فيه: " من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أمّا بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام " فقدم إليه وفد من أشرافهم منهم " العاقب " أميرهم و" السيد " مستشارهم فسألهم وسألوه عن عيسى، فأنزل الله تعالى في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية، فتصدى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآيات لمناقشتهم، وأقام عليهم الحجة والدليل القاطع على أن عيسى ليس إلهاً ولا ابناً لله تعالى كما يزعمون، ولكنه عبد الله ورسوله (1)، فلما أصرّوا على عقيدتهم أمره الله تعالى بمباهلتهم، ومعنى " المباهلة " أن يجتمع الطرفان رجالاً ونساءً وأطفالاً ويبتهلا إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى، ولذلك عبّر عنها في الحديث بالملاعنة حيث قال " يريدان أن يلاعناه " أي يلاعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين طلب منهم ذلك، فقال أحدهما لصاحبه وهو العاقب: لا تفعل، والله لقد علمتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، وما لاعن قوم نبياً قط فيبقى كبيرهم أو ينبت صغيرهم، " لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا " أي نهلك نحن وأبناؤنا و" قالا: إنا نعطيك ما سألتنا " أي نعطيك   (1) وقد تقدم لنا شرح هذه المناقشة أثناء كلامنا على الترجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 رَجُلاً أمِيناً حَقَّ أمِين، فاسْتَشْرَفَ لَهُ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: " قم يَا أبَا عُبَيدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ " فَلَمَّا قَامَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " هَذَا أمِينُ هَذ الأمَّةِ ".   ما تطلبه منا " وابعث معنا رجلاً أميناً " قال ابن كثير (1): فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين " فاستشرف له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي فتطلع لهذا المنصب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رغبة في الإمارة، ولكن حرصاً على هذه الصفة الكريمة صفة الأمانة " فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة " فوصفه بهذه الصفة الكريمة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصميمه على مباهلة وفد نجران تنفيذاً لأمر الله تعالى في قوله عز وجل (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)، أما نصارى نجران فإنهم أحجموا وَوَجَمُوا عن المباهلة خشية أن يصابوْا بسوء، قال الإمام محمد عبده (2): وهذا الطلب -أي طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - المباهلة- يدل على قوة يقين صاحبه، وثقته بما يقول، كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب على امترائهم فيما يعتقدون، وكونهم على غير بينة ولا يقين. ثانياً: أن في الحديث منقبة عظيمة لأبي عبيدة رضي الله عنه حيث وصفه بأنه أمين هذه الأمة، وتلك صفة عظيمهَ أشرأبت لها أعناق كبار الصحابة. ثالثاً: جواز صلح أهل   (1) " البداية والنهاية " لابن كثير ج 5. (2) " تفسير المنار " ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 860 - " بَابُ حِجَّةِ الْوَدَاعَ " 1005 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَأنَّهُ حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجَّةً وَاحِدَةً، لَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا، حَجَّةَ الْوَدَاعِ.   الكتاب -كما قال ابن القيم (1) - على ما يريد الإمام من الأموال والثياب وغيرها، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزيّة عليهم. رابعاً: أن للإِمام أن يبعث الرجل العالم إلى أرض الهدنة في مصلحة الإِسلام، وأنه ينبغي أن يكون أميناً، وهو الذي لا غرض له ولا هوى، وإنما مراده مجرد مرضاة الله تعالى ورسوله. اهـ. كما أفاده ابن القيم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على قصة أهل نجران مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ترجم له البخاري. 860 - " باب حجة الوداع " 1005 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر بنفسه تسع عشرة معركة إسلامية تسمى كل واحدة منها غزوة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضرها بنفسه، وكل معركة يحضرها بنفسه تسمى " غزوة " وجمعها غزوات. قال: " وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة " يعني وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلَّا حجة واحدة " لم يحج بعدها " أي لم يحج بعدها حجة أخرى غيرها " حجة الوداع " بالنصب على أنه بدل من حجة واحدة، ويجوز فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ، والتقدير هي حجة الوداع. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - سوى حجة واحدة، هي حجة الوداع، فهي حجته الوحيدة   (1) " زاد المعاد " لابن القيم ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 بعد الهجرة (1)، وكانت حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة الموافق لشهر مارس سنة 632 م، فما كاد - صلى الله عليه وسلم - يعلن عن حجه حتى قدم مَنْ حول المدينة، وخرج - صلى الله عليه وسلم - لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فوافاه في الطريق بشر كثير، فكانوا بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله مد البصر حتى زاد عددهم عن مائة ألف، وخرج - صلى الله عليه وسلم - يوم السبت بعد أن صلّى الظهر بالمدينة أربعاً، وسار إلى ذي الحليفة، فأحرم منها قارناً ملبياً، ثم نزل بذي طوى، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل، ودخل مكة نهاراً من أعلاها، ووصل المسجد ضحى، وعمد إلى البيت، وحاذى الحجر الأسود، واستلمه ولم يزاحم عليه، وجعل البيت عن يساره، ورمل في الثلاثة الأشواط الأولى واضطبع بردائه فجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن (2) وطرفيه على كتفه الأيسر، وكان كلما حاذى الحجر أشار إليه واستلمه بمحجنه، فلما فرغ من طوافه، وقف خلف المقام، وقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وصلّى ركعتين، ثم أقبل على الحجر فاستلمه ثم خرج إلى الصفا، فسعى بين الصفا والمروة سبعاً، وأقام بمكة أربعة أيام من الأحد إلى الأربعاء، فلما كان يوم الخميس توجه إلى منى فنزل بها، وصلّى الظهر والعصر، وبات بها، وكانت ليلة الجمعة، فلما طلعت الشمس سار إلى عرفة، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل حتى زالت الشمس، فرحل على ناقته القصواء حتى أَتى بطن عرنة، فخطب الناس على راحلته، ثم أمر بلالاً فأذن، وأقام الصلاة فصلى الظهر ركعتين ثم أقام فصلى العصر ركعتين، فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف،   (1) أما قبل الهجرة فقد اختلف في ذلك. قال ابن الأثير: "كان يحج كل سنة، وفي سنن الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر ... " وفي سنده زيد بن الحباب عن الثورى، وهو صدوق يخطيء في حديث الثورى ولذلك قال الترمذي: هذا حديث غريب. (ع). (2) والاضطباع هو أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة، وهو مستحب في طواف القدوم. اهـ. كما في " العمدة " لابن قدامة وشرحه للمقدسي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 وأخذ في الدعاء والابتهال، وللحاج أن يدعو بما تيسر، ولا بأس أن يقول: " اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني (1) وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفي عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق المقرُّ بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً " وهناك أنزلت عليه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فلما غربت الشمس أفاض من عرفة إلى مزدلفة، وهو يقول: " أيها الناس عليكم بالسكينة " ولم يقطع التلبية حتى أَتى المزدلفة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، فصلى المغرب، قيل: حط الرحال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء، ثم نام حتى أصبح، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم سار من مزدلفة عند الإسفار حتى أَتى منى، فرمى جمرة العقبة راكباً بعد طلوع الشمس، وقطع التلبية، ثم رجع إلى منى، فخطب في الناس خطبة بليغة أعلن فيها وجوب المحافظة على حقوق الإِنسان، حيث قال فيها: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا .. إلخ ثم نحر - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وستين بدنة بيده، وأمر علياً أن ينحر الباقي من المائة، ثم استدعى الحلاق، فحلق شعره، ثم أفاض إلى مكة راكباً، وطاف طواف الإِفاضة، ثم أتى زمزم، فشرب منه وهو قائم، ثم رجع إلى منى من يومه، فقضى فيها ثلاثة أيام يرمي الجمرات الثلاث كل يوم عند الزوال حتى أكمل أيام التشريق الثلاثة، فنهض إلى مكة، فطاف طواف الوداع من الليل سحراً، وأمر الناس بالرحيل والتوجه إلى المدينة (1). والله أعلم. ثانياً: أن عدد غزواته - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة. والمطابقة: في قوله: " وإنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوادع ".   (1) " السيرة النبوية " لأبي الحسن الندوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري تأليف حمزة محمد قاسم راجعه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عني بتصحيحه ونشره بشير محمد عيون الجزء الخامس مكتبة دار البيان ص. ب 2854 - هاتف 229045 دمشق - الجمهورية العربية السورية مكتبة المؤيد ص. ب 10 - هاتف 7321851 الطائف - المملكة العربية السعودية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 حقوق الطبع محفوظة للمؤلف بيروت 1410 هـ - 1990 م الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 861 - " بَابُ غَزْوَةِ تبوك وهي غَزْوةُ العُسْرَةِ " 1006 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إلى تَبُوكَ واسْتَخْلَفَ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،   وأخيراً ختم المصنف رحمه الله تعالى الغزوات بغزوة تبوك، لأنها آخر الغزوات الإِسلامية الكبرى فقال: 861 - " باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة " 1006 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك وحضرها بنفسه، كما يحضر المعارك الإسلامية الكبرى، ولذلك سميت غزوة كما هو معروف عند أصحاب السير والتاريخ. وقد وقعت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة، الموافق لشهر سبتمبر سنة 630 م (1) حيث يشتد الصيف، وتقوى الحرارة، ويلتهب الجو، وتتوقد أشعة الشمس، وحيث يقل الزاد، وتشح المؤونة، ولا يبقى من التمور إلا النزر (2) اليسير، واستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفراً بعيداً، ومفازاً وعدداً كثيراً، فكانت غزوة تبوك عسيرة حقاً في زمنها، وفي عدم توفر المؤونة الكافية، وقلة الماء، حتى أنهم كانوا ينحرون البعير ليعتصروا فَرثه يبلّون به ألسنتهم، وكان الركاب قليلاً حتى أن العشرة يتعاقبون على بعير واحد، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فقد وصلت الأخبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الروم تهيؤوا لغزو حدود العرب الشمالية، وأجْلَبَتْ معها غسان وغيرها من متنصرة العرب، حتى وصلت مقدمتهم إلى البلقاء، فاهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمر، وأعلن الجهاد، وجدّ في السفر، وحضّ أهل الغنى على النفقة في سبيل الله فبادر عثمان بالإِجابة وجهز جيش العسرة، وأنفق ألف دينار، قال ابن   (1) والظاهر أن ذلك كان في برج السنبلة. (2) قال في " تفسير المنار " وكانت عسرة في الزاد، إذ كانت عند انتهاء فصل الصيف الذي نفدت فيه مؤنتهم من التمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 فَقَالَ: أتُخَلِّفُنِي في الصِّبْيَانِ والنِّسَاءِ؟ فَقَالَ: ألا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أنَّهُ لَيْسَ نَبِيّ بَعْدِي ".   إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلّ ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد المشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو، ليتأهب الناس لذلك أهبته، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين ألفاً، وهو أكبر جيش خرج به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، وكان الجيش منظّماً مرتباً موزّع الألوية والرايات، ولما انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك بلغه خبر انسحاب الروم، ولم يقابل الروم هذا الزحف بزحف مقابل، وبتحركات عسكرية مضادة، بل كان هناك انسحاب مقابل هذا التحدي السافر، وصاروا يحسبون لهذه القوة الناشئة حساباً لم يحسبوه من قبل، وقد روى لنا سَعْدٌ في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك " وذلك في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة كما ذكرنا وتقع تبوك في شمال الحجاز، على بعد 700 كم من المدينة " واستخلف عليَّاً رضي الله عنه " أي تركه في المدينة ليكون نائباً عنه في الإِشراف على أهله ونسائه والقيام عليهن " فقال أتخلفني في الصبيان والنساء " أي أتتركني في المدينة مع النساء والصبية، ولا أخرج معكم إلى الجهاد، ولا أشارككم في القتال؟! " فقال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " أي أما ترضى أن تكون خليفة عني في سفري هذا، بمنزلة استخلاف موسى أخاه هارون على بنى إسرائيل حين توجه إلى الطور. اهـ. كما أفاده العيني. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: ذكر غزوة تبوك، وخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها لغزو الروم، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبَتْ عليه شجاعته وبطولته وإقدامه أن يبقى في المدينة بعيداً عن مواطن الجهاد والاستشهاد فقال: أتخلفني في الصبيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 862 - " حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) 1007 - عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ أتخَلَّفْ عَنْ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إلَّا في غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أنِّي كُنْتُ تَخلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْر، وَلَمْ يُعَاتِبْ أحَداً تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْش، حتى جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وبيْنَ   والنساء. ثالثاً: استدل الشيعة بهذا الحديث على أن الخلافة لعلي رضي الله عنه، واعتبروه نصاً صريحاً على خلافته، قال القسطلاني: ولا متمسك لهم فيه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال هذا حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، ويؤيده أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى، لأنّه توفي قبل موسى بنحو أربعين سنة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك " 862 - " حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، وقول الله عز وجل: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) " 1007 - معنى الحديث: أن كعب بن مالك يقصّ علينا قصة تغيبه عن غزوة تبوك، فيمهد لذلك بقوله " لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها إلَّا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش " أي أنه رضي الله عنه لم يكن من عادته التخلف عن الجهاد، فهو رضي الله عنه قد حضر جميع غزوات الرسول، ولم يتغيب عن غزوة منها عدا غزوة بدر، ولا يعد من غاب عنها متخلفاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما خرج من المدينة لم يخرج لقتال، وإنما خرج ليتصدّى لقافلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 عَدُوِّهِمْ على غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حينَ تَوَاثَقْنَا على الإسْلامِ، وما أحبُّ أنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وِإنْ كَانَتْ بَدْر أذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا، كانَ مِنْ خَبَرِي أني لَمْ أكُنْ قَطُّ أقْوَى ولا أيْسَرَ حينَ تَخَلفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ، والله مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتانِ قَط حَتى جَمَعْتُهمَا في تِلك الْغَزْوَةِ، ولمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ غَزْوَةً إلا وَرى بِغَيْرِهَا حتى كَانَتْ، تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شَدِيدٍ، واسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً وعَدُوَّاً كَثِيراً، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أمْرَهُمْ، لِيَتَأهَّبُوا أهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كثِيرٌ، ولا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ -يُرِيدُ   قريش التجارية ويستولي عليها لمصلحة المسلمين، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد العير، واختار الله له النفير فكان القتال، ولذلك لم يعاتب - صلى الله عليه وسلم - أحداً غاب عن بدر، ثم ذكر أنه إذا كان قد غاب عن غزوة بدر، فإن الله قد عوضه عنها بحضور بيعة العقبة التي كان يعتز بها كثيراً، قال كعب " وما أحب أن لي بها مشهد بدر " أي ولو خيرت بين حضورها أو حضور غزوة بدر لاخترتها، وفضلتها عليها " وإن كانت بدر أذكر في الناس " أي وإن كانت بدر أشهر منها عند غيرى من الناس " وكان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني " أي لم أكن في حياتي كلها أقوى جسماً، ولا أحسن صحة، ولا أيسر حالاً، مني في هذا الوقت الذي كانت فيه غزوة تبوك، " ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلَّا ورّى بغيرها " أي إلا أظهر للناس أنه يريد جهة أخرى حرصاً على الكتمان " حتى كانت تلك الغزوة " أي حتى حدثت تلك الغزوة، فلم يخفها، لأنها كانت " في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً " أي وعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 الدِّيوَانَ- قَالَ كَعْبٌ: فما رَجُلٌ يُرِيدُ أنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللهِ، وغَزَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الْغَزْوَةِ حينَ طَابَتِ الثِّمَارُ والظلالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُول اللهِ المسلمُونَ مَعَهُ، فَطفِقْتُ أغدُو لِكَيْ أتجَهَّزَ مَعَهُمْ فأرْجِعُ ولَمْ أقْضِ شَيْئَاً، فَأقولُ في نَفْسِي أَنا قَادِر عَلَيْهِ، فَلم يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حتَّى اشْتَدَّ بالنَّاسِ الجِدُّ، فأصْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - والْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقض مِنْ جِهَازِي شَيْئَاً، فَقُلْتُ: أتجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْم أوْ يَوْمَيْنِ، ثم ألحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أنْ فَصَلُوا لأتَجَهَّزَ،   أنه سيسير بالمسلمين في فلاة وأراض قاحلة ليس فيها قطرة ماء، حتى إن من يسير فيها يعرّض نفسه للهلاك من شدة العطش " وعدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم " أي فبيّن - صلى الله عليه وسلم - لهم أنه يريد غزو الروم " ليتأهبوا أهبة غزوهم " بضم الهمزة وسكون الهاء أي ليأخذوا معهم ما يحتاجون إليه في تلك الغزوة الصعبة من سلاح وعتاد " والمسلمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير " يبلغ عددهم ثلاثين ألفاً " ولا يجمعهم كتاب حافظ " أي لم تقيد أسماؤهم في سجل حتى يعرف الحاضر من الغائب " فما رجل يريد أن يتغيّب إلَّا ظن أن سيخفى له " أي إلَّا اعتقد أنه لا يظهر غيابه وأنه سيخفى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما لم ينزل فيه وحي الله " فيكشفه ويفضحه أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار " أي نضجت الثمار، وحان اجتناؤها " والظلال " أي ورغب الناس في الجلوس تحت الأشجار يستظلون من وهج الشمس " وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه فطفقت للغزو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً " أي فبدأت أذهب كل صباح إلى سوق المدينة لكي أشتري ما أحتاج إليه في هذه الغزوة من عتاد وزاد، ولكنني أعود إلى بيتي وأنا لم أحضر معي شيئاً أغزو " فأقول في نفسي أنما قادر عليه " أي فأقول لنفسى محاولاً إقناعها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقض شَيْئاً، ثمَّ غَدَوْتُ، ثمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أقض شَيْئاً، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أنْ أرْتَحِلَ فَأدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرُ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْد خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهم أحْزَنَنِي أنَّنِي لا أرى إِلَّا رَجُلاً مَغمُوضاً عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أو رَجُلاً مِمَّن عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى بَلَغَ تَبُوكَ، فقالَ وهُوَ جَالِسٌ في الْقَوْمِ بِتَبُوكٍ:   إذا كنت لم أخرج اليوم فإنَّ في إمكان الخروج غداً " فلم يزل يتمادى بي " أي فلم يزل هذا الحال مستمراً بي " حتى اشتد بالناس الجِدُّ " حتى ضاعف الناس من جدهم واجتهادهم في التهيؤ والاستعداد لهذه المعركة، ولا زلت أنا كما كنت لم أفعل شيئاً " فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه " أي أصبحوا وقد جهزوا أنفسهم " ولم أقض من جهازي، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين " أي فلجأت إلى التسويف، وصرت أمنّي نفسي، وأحاول إقناعها بأن الفرصة لا زالت مواتية لم تفت بعد، وإن ما لم أفعله اليوم أفعله غداً، والأيام تمر، والوقت يجري " فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز " أي فخرجت إلى السوق بعد أن خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المدينة لأتجهز " ولم أقض شيئاً " أي ولم أفعل شيئاً " ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئاً، ولم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط القوم " أي ثم صرت أذهب كل يوم صباحاً إلى السوق لأجهز نفسي فأعود إلى بيتي وأنا لم أصنع شيئاً حتى انتهت غزوة تبوك، وأسرع الناس بالرجوع إلى المدينة " فهممت أن أرحل وأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك " أي ولكن لم يرد الله تعالى في الخروج " فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم " أي فكنت إذا مررت بالناس بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وتجولت بينهم " لا أرى إلا رجلاً مغموضاً عليه النفاق " أي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 " ما فَعَلَ كَعْبُ؟ " فَقَالَ رَجُلْ مِنْ بَنِي سَلِمةَ: يا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظرهُ في عِطْفَيْهِ، فقالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَل: بِئْسَمَا قُلْتَ: واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ما عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيراً، فَسَكتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فلما بَلَغَنِي أنَّهُ تَوَجَهَ قَافِلاً حَضَرَنِي هَمِّي، فَطَفِقْتُ أتذَكَّرُ الْكَذِبَ، وأقولُ: بماذَا أخرُجُ من سَخَطِهِ غَداً، واسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأيٍ مِنْ أهْلِي، فلمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أظَلَّ قَادِماً زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أنَّي لَنْ أخرُجَ مِنْهُ أبداً بِشَيءٍ فِيه كَذِب، فأجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وأصبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَادِماً، وكانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأ بالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثم جَلَسَ لِلنَاسِ، فلمَّا فَعَلَ ذَلِكَ، جَاءَهُ   لا أرى إلَّا رجلاً متهماً في دينه " أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء " يعنى أو رجلاً معذوراً شرعاً لمرض بدني أو عجز جسمي كالأعمى والمقعد والمريض ونحوهم " ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك " أي ولم يتذكرني النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم أخطر بباله ولم يتحدث عني حتى وصل إلى تبوك " فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب " يعني أي شيء فعل كعب ولماذا تأخر عنا " فقال رجل من بني سلمة " وهو عبد الله بن أنس، قال الحافظ، وهو غير الجهني الصحابي المشهور: " حبسه برداه " تثنية بُرْد وهو ثوب مخطط، ويجمع على أبرَاد وأبرد وبُرُد " ونظره في عطفيه " تثنية عِطف وهو الجانب، وكنى بالجملتين عن إعجابه بلباسه، وإعجابه بنفسه " فقال معاذ: بئسما قلت " أي ما أقبح هذا القول الذي نطقت به، فإنك قد اغتبت الرجل في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - " فلما بلغني أنه توجه قافلاً " أي فلما وصلتني الأخبار عن توجهه من تبوك عائداً إلى المدينة " حضرني همّي " أي بَدَأتِ الأفْكار والهموم تسيطر على نفسي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وكانُوا بِضْعَة وثمانينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلانِيتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، واسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرائِرَهُمْ إلى اللهِ تَعَالى، فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ علَيْهِ، تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثم قَالَ: " تَعَالَ " فجِئْتُ أمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: " مَا خَلَّفَكَ ألمْ تَكُنْ قَد ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ "، فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللهِ يا رَسُولَ اللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدُّنيا لَرَأيْتُ أنْ سَأخرُجَ   " فطفقت أتذكر الكذب " أي فخطر في بالي أن أعتذر إليه بعذر كاذب " وأقول في نفسي بماذا أخرج من سخطه غداً " وفي رواية ابن أبي شيبة: وطفقت أعد العذر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء وأهيىء الكلام " واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهْلي " أي وصرت أستشير كل صاحب رأي سديد من أقاربي مستعيناً برأيه " فلما قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظَلَّ قَادماً " يعني قد دنا قدومه من المدينة " زاح عني الباطل " أي زالت من رأسي جميع الأفكار السيئة " وعرفت أني لن أخرج منه أبداً " أي لن أتخلص وأنجو حقيقة " بشيء فيه كذب " لأن حبل الكذب قصير " فأجمعت صدف " لأن النجاة في الصدق " وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس " أي لاستقبالهم والحديث معهم وإرشادهم وتعليمهم، والحكم بينهم " فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يعتذرون، فطفقوا يعتذرون " بالأعذار الكاذبة " ويحلفون له " الأيمان الباطلة " وكانوا بضعة وثمانين رجلاً " والبضع على المشهور ما بين ثلاث إلى تسع " فقبل منهم علانيتهم " أي قبل منهم ظاهر أمرهم " ووكل سرائرهم إلى الله تعالى " أي ترك الحكم على ما أضمروه وأخفوه في نفوسهم إلى الله تعالى يحكم فيهم بما يشاء " فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسّم المغضب " أي تبسم لي ولكن آثار الغضب بادية على وجهه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقابل إنساناً بما يكره "ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أعْطِيتُ جَدَلاً، ولكنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي، ليوشِكَنَّ اللهُ أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، ولَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْق تَجِدُ عليَّ فِيهِ أنَّي لأرجُو فِيهِ عَفْوَ اللهِ، لا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أقْوَى ولا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أما هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ " فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَبّعَونِي،   قال: تعال " أي تقدم إليَّ، واقترب مني " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: ما خلفك؟ " أي ما هو سبب تغيبك عن هذه الغزوة وما عُذْرك في ذلك؟ " ألم تكن قد ابتعت ظهرك " أي اشتريت راحلتك " فقلت: بلى والله يا رسول الله، ولو جلست عند غيرك من أهل الدنيا " أي لو جلست عند الناس العاديين من الحكام والملوك والأمراء " لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر " أي لوجدت عذراً كاذباً يرضيه، وتخلصت منه بهذا العذر الكاذب " ولقد أعطيت جدلاً " أي ولقد أعطيت منطقاً قوياً " ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب " أي لو اعتذرت لك اليوم بعذر كاذب " ترضى به عني ليوشكن الله، يسخطك عليّ " أي ليأتينك الوحي قريباً فيفضح كذبي عندك، فتسخط عليّ وتغضب مني " ولئن حدثتك حديث صدق " واعترفت لك بالحقيقة، وقلت لك قولاً صادقاً مطابقاً للواقع " تجد عليّ فيها " أي تغضب علي اليوم بسببه " إني لأرجو فيه عفو الله " أي فإني حين أقول الصدق الذي يغضبك اليوم مني أنتظر أن يعفو الله عني مكافأة لي على صدقي، ثم قال: "والله ما كان لي من عذر " فاعترف أنه لا عذر " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما هذا فقد صدق " وأخبر بالواقع " فقم حتى يقضي الله فيك " أي فقم الآن من مجلسي هذا، وانتظر حتى يحكم الله فيك "وثار رجال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 فَقَالُوا لِي: واللهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أذنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا، ولَقَدْ عَجَزْتَ أن لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إلى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما اعْتَذَرَ بِهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، وَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنبكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ لَكَ، فَواللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حتى أردْتُ أن أرجِعَ فَأكَذِّبَ نَفْسِي، ثم قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعي أحدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلانِ، قَالا مِثْلَ مَاْ قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبيعِ العَمْرِي وهِلَالُ ابْنُ أُمَيَّةَ الواقِفِيُّ، فذَكَرُوا لي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شَهِدَا بَدْراً، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، ونَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وتَغيَّرُوا لنا، حتَّى   من بني سلمة" أي فقمت من مجلسه، وقام معي رجال من بني سلمة " فقالوا لي: ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا " أي لم يسبق أن أذنبت ذنباً أو ارتكبت معصية قبل هذه المرة " ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت " أي فلماذا لم تخلص من غضبه - صلى الله عليه وسلم - بعذر من الأعذار التي اعتذر بها المتخلفون " وكان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك " أي ولو اعتذرت إليه لأستغفر لك، فكان استغفاره لك كافياً لمحو خطيئتك وتكفير ذنبك " وما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فَأًكذِّبَ نفسي " أي فأكذّب نفسي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قولي السابق " ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك " أي قال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - قم حتى يقضي الله فيك " فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الوافقي " وكلاهما أنصاريان من الأوس " فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً " وفازا بقول الله تعالى لهم: "يا أهل بدر، اعملوا ما شئتم فقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 تَنَكَّرَتْ في نَفْسِي الأرْضُ، فَمَا هِيَ التَّي أعْرِفُ، فَلَبِثْنَا على ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فأمَّا صَاحِبَايَ فاسْتَكَانَا وقَعدا في بُيُوتِهِما يَبْكِيَانِ، وأمَّا أنا فَكُنْتُ أشَبَّ القَوْمِ وأجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أخْرُجُ فأشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَأطوفُ في الأسْوَاقِ، ولا يُكَلمُنِي أحدٌ، وآتِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ في مَجْلسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأقولُ في نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أمْ لا؟ ثُمَّ أصَلي قَرِيباً مِنْهُ، فَأسَارِقُهُ النَّظر، فَإِذَا أقْبَلْتُ عَلَى صَلَاِتي أقبَلَ إِلَيَّ، وَإذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ من جَفوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَورْتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قُتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وأحبُّ النَّاسِ إِليَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ: يا أبا قَتَادَةَ أنشُدُكَ بِاللهِ! هَلْ تَعْلَمُنِي أَُحبُّ الله وَرَسُولَهُ،   غفرت لكم" " فيهما أسوة " أي لي فيهما قدوة صالحة وأسوة حسنة " فمضيت حين ذكروهما لي " أي فلم سمعت بهما قررت الاستمرار فيما أنا عليه من الالتزام بالصدق " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة " برفع الثلاثة على أنها خبر لأي، والمعنى فمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عن التكلم معنا نحن الثلاثة المذكورون " فاجتنبنا الناس " أي قاطعونا وهجرونا " حتى تنكرت في نفسي الأرض " أي حتى تغير في عيني كل شيء على هذه الأرض " فأمّا صاحبي فاستكانا " أي اعتزلا في دارهما " وأما أنا فكنت أشبَ القوم " أي أصغرهم سِنَّاً " وأجلدهم " أي أقواهم جسماً " فكنت أخرج فأشهد الصلاة " أي صلاة الجماعة " فأسلّم عليه " أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - " فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه يرد السلام عليَّ أم لا؟ " أي أشك في كونه رد السلام أو لم يرده " فأسارقه النظر " أي أنظر إليه خفية "فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليَّ وإذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتْ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وتَوَلَّيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، قَالَ: فَبَيْنَا أنَا أمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أنباطِ أهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً من مَلِكِ غَسَّانَ، فَإذا فِيهِ أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أن صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ ولا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأتُهَا: وَهَذَا أيْضاً مِنَ الْبَلاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّور فَسَجَرْتُهُ بِهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أرْبَعُونَ ليْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يَأتِيني فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ   التفت نحوه أعرض عني" أي صرف نظره عني ليظهر لي الغضب والمقاطعة " حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس " أي من مقاطعتهم وهجرانهم " مشيت حتى تسورت جدار حائط " أي بُسْتان " أبي قتادة وهو ابن عمّي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ " أي أسألك بالله تعالى هل تعلم محبتى لله ورسوله " فسكت " ولم يجبه بشيء، ثم أعاد عليه هذا السؤال مرَّةً أخرى كما قال: " فعدت فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم " وتخلص من الجواب برد العلم إلى الله ورسوله " فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا بنبطي " بفتح النون وكسر الطاء، أي فإذا في أفاجأ بفلاح من الشام، " فطفق الناس يشيرون له " فبدأ الناس يشيرون إليَّ، ويدلونه عليَّ " حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتاباً من ملك غسان " وهو جبلة بن الأيهم " فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أنْ صاحبك " يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - " قد جفاك " أي قد هجرك هو وأصحابه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُكَ أن تَعْتَزِلَ امْرأتَكَ، فَقُلْتُ: أطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ قَالَ: لا بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلا تَقْرَبْهَا، وأرْسَلَ إلى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرأتِي: الْحَقِي بِأهْلِكِ فَتكُونِي عِنْدَهُمْ حتى يَقْضِيَ اللهُ في هَذَا الأمْرِ، قَالَ كَعْبُ: فَجَاءَتْ امْرأةُ هِلَالِ بْنِ أمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هِلالَ بْنَ أمَيَّةَ شَيْخ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِم، فَهَلْ تَكْرَهُ أن أخدِمَهُ، قَالَ: لا، وَلَكِنْ لا يَقرَبْكِ، قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ ما بِهِ حَرَكَة إِلَى شَيْءٍ، وَاللهِ ما زَالَ يَبْكِي مُنذُ كَانَ مِنْ أمرِهِ مَا كَانَ إلى يَوْمِهِ هذَا، فَقَالَ لِي بَعْضُ أهْلِي: لو استَأذَنْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في امْرَأتِكَ، كما أذِنَ لامْرأةِ هِلَالِ بْنِ أمَيَّةَ أن تَخْدِمَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لا اسْتَأذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وما يُدْرِيني مَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اسْتَأذَنْتُهُ فِيهَا، وأَنا رَجُلٌ شَابٌ، فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً من حِينِ نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلامِنَا، فلما صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صُبح خَمْسِينَ   وأصبحوا يعاملونك بعداوة وجفاء" ولم يجعلك الله بدار هوان " أي ولست ممن يقبل الضيم، أو يرضي الإِقامة بأرض يهان فيها "ولا مضيعة " أي ولست ممن يضيع حقه، أو تهدر كرامته " فألحق بنا نواسك " أي فاحضر إلينا تجد كل مواساة وعون وإكرام " فقلت لما قرأتها: وهذا والله من البلاء " أي وهذا امتحان آخر يَبْتَلِيني الله به، لأن ملك غسان أراد بذلك أن ينتهز هذه الفرصة ليفتن كعب بن مالك عن دينه " فتيممت بها التنور " أي فقصدت بها التنور فألقيتها فيها " فسجرته بها " أي فأشعلت ناره بها " حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك " أي أن لا تقربها ولا تباشرها "فقلت لامرأتي الحقي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 لَيْلَةً، وأَنا على ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَينَا أنَا جَالِسٌ علَى الْحَال الذي ذَكَرَهُ اللهُ تعالى: قَدْ ضَاقَتْ علَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عليَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أوفَى على جَبَلِ سَلْعٍ بأعلى صَوْتِهِ: يا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أبشِرْ، قَالَ: فخَرَرْتُ سَاجِداً، وعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وآذَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَوبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْفَجْرِ، فذهَبَ النَّاسَ يُبَشَرونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشَرُونَ، وَرَكَض إليَّ رَجُلٌ فرَساً، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فأوْفَى علَى الْجبَلَِ، فكَانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ   بأهلك" بفتح الحاء أي اذهبي إلى دار أهلك " فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إنَّ هلال بن أمية شيخ " أي رجل عجوز، وشيخ كبير طاعن في السن، " ضائع " أي غير قادر على خدمة نفسه لضعف جسمه " فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك " أي لا يباشرك أي مباشرة زوجية " قالت: إنه والله ما به حركة " أي ليس له أي رغبة أو حركة إلى النساء لسوء حالته النفسية " فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة " أي من صبح الليلة المكملة للخمسين ليلة " فبينما أنا جالس على الحال الذي ذكره الله " أي على الصفة التي وصفنا الله تعالى بها في قوله عز وجل (وضاقت عليهم الأرض بما رحبت) " قد ضاقت عليَّ نفسي " لما كنت أشعر به من ضيق الصدر، وامتلاء القلب بالهموم والغموم " وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت " أي وشعرت بأن هذه الأرض الواسعة قد ضاقت عليَّ من شدة الألم والحزن والخوف الذي أصابني " سمعت صوت صارخ " أي صوت رجل ينادي بأعلى صوته " أوفى على جبل سلع " أي صعد فوق جبل سلع، وصار ينادي " يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجداً " حمداً لله تعالى وشكراً له على توبته عليه " وآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا " أي أعلن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَي فَكَسَوْتُهُ إِيَاهُمَا بِبُشْرَاهُ، واللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، واسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وانْطَلَقْتُ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجاً فَوجاً يُهَنِّؤُونِي بالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ، قَالَ كَعْبُ: حتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إليَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حتَّى صافَحَنِي، وَهَنَّأنِي، وَاللهِ مَا قَامَ إليَّ رَجُل مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، ولا أنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبُ: فَلمَّا سَلَّمْتُ على رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - وَهُو يَبْرقُ وَجْهُهُ مِنَ السرورِ: أبشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عليكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمُّكَ، قَالَ قُلْتُ: أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ قَالَ: لا، بَلْ مِنْ عِنْدِ الله، وكانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -   في الناس توبة الله علينا، " وركض إليَّ رجل فرساً " أي وامتطى رجل جواداً واستحثه على الإِسراع إليَّ، فجاء يجري بسرعة كي يبشرني بهذه البشارة " وسعى ساع من أسلم " أي وجاء رجل آخر يجري بسرعة " فأوفى على الجبل " أي صعد فوق جبل سلع، فجعل ينادي بأعلى صوته يبشرني بالتوبة " فلما جاءني الذي سمعت صوته نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه " أي كسوته ثَوْبيَّ اللذين لا أملك غيرهما، مكافأة له على بشارته لي " وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقاني الناس فوجاً فوجاً " أي جماعة جماعة " يهنئوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك " بكسر النون كما رجحه الحافظ، وقال السفاقسي: الأصوبُ فتح النون لأنه من الهناء " فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور " أي يتلألأ وجهه تلألؤ البرق من شدة الفرح: " أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ كَأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فلما جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ مِنْ تَوبَتي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلى اللهِ وإلى رَسُولِ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذي بِخَيْبَرَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ اللهَ إِنَّمَا نَجَّانِّي بِالصِّدْقِ، وِإنَّ مِنْ تَوْبَتي أن لا أحَدِّثَ إلَّا صِدْقاً مَا بَقِيتُ، فَواللهِ ما أعْلَمُ أحَداً مِنَ المُسْلِمِينَ أبلاهُ اللهُ في صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلكَ لِرَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - أحسَنَ مِمَّا أبلانِي، ما تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى يَوْمِي هَذَا كَذِباً، وَإنِّي لأرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فيما بَقِيتُ، وأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -إِلى قَوْلِهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)   أي أبشر يا كعب بخير يوم مرَّ عليك في حياتك كلها " قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله " لعله أراد هل أنزل الله تعالى في توبته عَليَّ قرآناً يتلى أم لا؟ فأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله أنزل في توبته عليه وعلى صاحبيه قرآناً "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استنار" أي ظهر السرور على محيّاه فأضاء وجهه الشريف إضاءة القمر المنير " قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي " أي أن أتصدق بكل مالي في سبيل الله " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك عليك بعض مالك " أي تصدق بالبعض فقط، وأبق عندك شيئاً من مالك لكي تنفق به على نفسك وعيالك، " فقلت: يا رسول الله إن الله نجَّاني بالصدق " أي بسبب أني صدقت القول معك واعترفت لَكَ أن لا عذر لي " فوالله ما أعلم أحداً من السلمين أبلاه الله في صدق الحديث " أي لا أعلم أحداً اختبره الله في الصدق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 فَوَاللهِ مَا أنْعَمَ اللهُ عليَّ مِنْ نِعمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أنْ هَدَانِي للإسْلامِ أعْظَمَ في نَفْسِى مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا أكونَ كَذَبْتُهُ فَأهْلَكَ كَمَا هَلَكَ الذَّينَ كَذَبُوا، فَان اللهَ تَعَالى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا، حِينَ أنزلَ الْوَحْيَ شَرَّ ما قَالَ لأحدٍ، فَقال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ -إِلى قَوْلِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).   " أحسن مما أبلاني " أي أحسن مما اختبرني " وأنزل الله عز وجل على رسوله (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -إِلى قَوْلِهِ- وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) " يعني وأنزل الله فينا قوله تعالى (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وهذه منقبة كبرى، وشرف عظيم لنا، حيث أعلن الله تعالى توبته علينا في هذه الآيات الكريمة، وأنزل في حقنا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة مكافأة لنا على صدقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلد ذكرنا وجعلنا مثلاً يحتذى، وأمر المؤمنين أن يكونوا صادقين مثلنا، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ثم قال كعب " فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني الله للإِسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا " يعني ما أعطاني الله نعمة بعد نعمة الإِسلام -في حياتي كلها- أعظم وقعاً في نفسي من كونه وفقني إلى الصدق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعصمني من الكذب فلم أهلك كما هلك الذين كذبوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين " فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 شرَّ ما قال لأحد" أي قال فيهم شر كلام قاله في أحد من البشر، ووصفهم بأقبح الصفات القبيحة " فقال الله عز وجل (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ -إلى قوله- فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) " يعني فقال الله في حقهم (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) وهذا شر مقال قاله الله في أحد من خلقه. حيث أمر عز وجل بالإِعراض عنهم وعدم معاتبتهم احتقاراً لهم، ثم أمر باجتنابهم، والابتعاد عنهم، لأنهم " رجس "، والرجس والنجس بمعنى واحد، ثم توعدهم أشد الوعيد في قوله (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ثم بيّن أن محاولتهم التخلص من التوبيخ والتأنيب، وإرضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالأيمان الكاذبة لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، لأن الله سيفضح أمرهم، ويهتك سترهم في هذه السورة التي سميت سورة الفاضحة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الإِمام إذا استنفر المسلمين للغزو لزمهم النفير، ولحق اللوم من تخلف منهم، ولذلك اشتد الغضب على من تخلف عن غزوة تبوك، وإن كان الجهاد في حد ذاته فرض كفاية، ولكن لما أمر - صلى الله عليه وسلم - بالنفير العام تعيّن الخروج على كل قادر عليه. ثانياًً: جواز ترك السلام على المذنب، وهجره أكثر من ثلاثة أيام. ثالثاً: فائدة الصدق وعاقبته الحميدة، فإن الله تعالى تاب على هؤلاء الثلاثة، وعفا عنهم بسبب صدقهم كما قال كعب: " إنما نجَّاني الله بالصدق ". رابعاً: شؤم الكذب وعاقبته الوخيمة، فإن المنافقين الذين اختلقوا الأعذار الكاذبة سرعان ما فضحهم الله وهتك سترهم، ووصفهم بأقبح الصفات في قوله تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). خامساً: أن الخطأ لا يعالج بخطأ آخر، وِإلا تفاقم الشر، وتضاعف الخطأ، وأصبحت المعصية معصيتين، ولذلك آثر كعب الصدق لئلا يجمع بين ذنبين. سادساً: مشروعية التبشير بالخير والتهنئة بالنعمة كما فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة. سابعاً: استحباب سجود الشكر عند حدوث نعمة من النعم. ثامناً: استحباب المبادرة إلى الصدقة وأعمال البر والإِحسان عند التوبة لقول كعب رضي الله عنه: " إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله ". تاسعاً: قال ابن القيم: وقول كعب لامرأته الحقي بأهلك دليل على أنه لا يقع بهذه اللفظة طلاق ما لم ينوه. عاشراً: أن أمرهم باعتزال نسائهم في آخر المدة كما قال ابن القيم فيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة، وشد المئزر، وفي هذا إيذان بقرب الفرج. الحادي عشر: قال ابن القيم: وفيه دليل على أن إعطاء البشير من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف، وعلى تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، والأولى أن يقال له: ليهنك ما أعطاك الله، وما منّ الله به عليك، ونحو هذا الكلام. الثاني عشر: قال ابن القيم: فيه (1) دليل على أن خير أيام العبد على الإِطلاق، وأفضلها يوم توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمّك ". الثالث عشر: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك " دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه، بل يجوز له أن يبقى منه بقية، ولم يعين له - صلى الله عليه وسلم - قدراً، ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية، قال ابن القيم: وهذا هو الصحيح، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به، فنذره لا يكون طاعة فلا يجب الوفاء به، وفي الحديث فوائد كثيرة، فقد قال العيني: " فيه أكثر من خمسين فائدة " وما لا يدرك كله لا يترك جله. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث المذكور هو حديث كعب المنصوص عليه في الترجمة.   (1) " زاد المعاد في هدى خير العباد " لابن القيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 863 - " بَابُ مَرَض النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَوَفَاتِهِ " 1008 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ انَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَّ في بَيْتي، وَفي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وأنَّ اللهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ، وأنا مُسْنِدَة رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرأيْتُهُ   863 - " باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته " 1008 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مَرِضَ مَرَضَ موته (1) استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة، فأذنّ له تلبية لرغبته - صلى الله عليه وسلم -، فانتقل إلى بيته لتمرّضه، وتشرف على خدمته، وتشمله بعطفها وحنانها، وما زال في حجرتها حتى توفي على صدرها كما قالت رضي الله عنها في هذا الحديث " إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي " أي في حجرتي الخاصة بي " وفي يومي " أي وفي اليوم الذي هو يوم نوبتي كما جاء توضيح ذلك في رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضه الذي مات فيه يقول: أين أنا غداً، يريد عائشة فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها " وبين سحري ونحري " بإسكان الحاء في الكلمتين، والسحر بسكون الحاء هو أعلى البطن، والنحر موضع العقد من الصدر، والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - فاضت روحه وهي محتضنة له - صلى الله عليه وسلم - على صدرها، ورأسه الشريف عند ذقنها، كما جاء في رواية أخرى " وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي " أي ما بين بطني وذقني، " وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته " أى مزج بين الريقين معاً، فجعل ريقها رضي الله عنها يصل إلى فمه، وريقه   (1) قال السهيلي: والوجع الذي كان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الوجع الذي يسمى خاصرة وهو عرق في الكلية إذا تحرك وجع صاحبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 يَنْظر إليْهِ، وَعَرَفْتُ أنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخذُهُ لكَ؟ فأشارَ بِرأسِهِ أنْ نَعَمْ، فتَنَاوَلْتُهُ، فاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وقُلْتُ: أليِّنهُ لكَ؟ فَأشَارَ بِرأسِهِ أنْ نَعَمْ، فَلَيَّنتهُ، وَبَيْنَ يَدَيه رَكْوَة -أوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَر- فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدخِل - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْه في الْمَاءِ، فَيمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ - صلى الله عليه وسلم -: " لا إِلَهَ إلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوتِ سَكَراتٍ " ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فجعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الأعْلَى حتى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ - صلى الله عليه وسلم - "   - صلى الله عليه وسلم - يصل إلى فمها قبيل وفاته بلحظة قصيرة، وسبب ذلك قصة السواك التي ذكرتها في قولها: " دخل علي عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي مسندة له بصدري " فرأيته - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه " يعني إلى السواك " وعرفتُ أنه يحب السواك " أي عرفت من نظراته أنه يرغب أن يستاك في تلك اللحظة " فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم " أي فأشار برأسه إشارة معناها نعم " فتناولته " أي فأخذت السواك لكي أعطيه إياه " فاشتد عليه " أي السواك " فقلت: ألينه لك " أي هل تريد أن أليّن لك السواك فأمضغه بأسناني " فأشار برأسه أن نعم فلينته " أي فمضغته بأسناني حتى صار ليناً " وكان بين يديه رَكوةٌ (1) فيها ماء " أي قربة من جلد مملوءة ماء " فجعل يدخل يده، فيمسح بها وجهه " أي فيمسح وجهه بالماء ليخفف من شدة الألم الذى يعانيه " ويقول: لا إله إلا الله إنّ للموت سكرات " أي شدائد وأهوال وآلام عظيمة " ثم نصب يده " مدها على الأرض " فجعل يقول في الرفيق الأعلى " والرفيق الأعلى: الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وقيل هو الجنة. وفي النهاية: هو جماعة   (1) بفتح الراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين. اهـ. كما أفاده الزبيدي (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام أثناء مرضه في بيت عائشة، وقضى أيامه الأخيرة في حجرتها كما قالت رضي الله عنها: " إن من نعم الله تعالى عليّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري " إلخ. وقد روى أحمد في " مسنده " عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنه ليهون على (يعني الموت) أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة " قال في المواهب اللدنية: فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب عائشة حباً شديداً وإنما اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمرّض في بيت عائشة، لأن المريض يكون أثناء مرضه أحوج ما يكون إلى من يرتاح إليه نفسياً، وهي أحب الناس إليه. ثانياًً: أن للموت سكرات، وأن سكرات الموت أشد ما تكون على نفوس أحباب الله من أنبيائه وأوليائه وأصفيائه كما وقع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه البخاري، قال القرطبي (2): لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان، إحداهما: تكميل فضائلهم، ورفع درجاتهم، وليس ذلك نقصاً ولا عذاباً، بل هو كما نجاء أن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. والثانية: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت، لأنه باطن، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في (خبرهم) شدة ألمه عليهم مع كرامتهم على الله تعالى قطع الخلق بشدة الموت التي يقاسيها الميت. ثالثاً: أنه يجوز للإِنسان أن يشكو لزوجته أو لصديقه أو طبيبه ما يعانيه من شدة أو ألم أو مرض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة رضي الله عنها: " لا إِله إلا الله إن للموت سكرات " فاشتكى من سكرات الموت، وأما ما روي عن جماعة من الشافعية "أن تَأوَّهُ المريض مكروهٌ، فقد قال النووي: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت   (1) " إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين " للمرتضى الزبيدي. (2) " شرح الصدور بشرح حال الموتى وأهل القبور " للسيوطي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 فيه نهي مخصوص (1)، وهو لم يثبت فيه ذلك. والحاصل أن إخبار المريض عن مرضه لا بأس به، وهو لا ينافي الرضا بقضاء الله وقدره، فكم من شاك وهو راض، وكم من ساكت وهو ساخط، والمعول في ذلك على عمل القلب اتفاقاً، لا على نطق اللسان، ا. هـ كما أفاده الحافظ. رابعاً: أن آخر كلمة قالها - صلى الله عليه وسلم - وهو على فراش الموت: اللهم في الرفيق الأعلى، قال السهيلي: وجدت في بعض (2) كتب الواقدي أن أول كلمة تكلم بها وهو مسترضع عند حليمة: الله أكبر، وآخر كلمة تكلم بها " في الرفيق الأعلى "، وفي رواية: " مع الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً " وعلى هذه الكلمة فاضت روحه - صلى الله عليه وسلم -، ووَدَّع الحياة الدنيا والتحق بالرفيق الأعلى. وقد كانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - كما قال صاحب المواهب : يوم الإِثنين بلا خلاف وقت دخول المدينة في هجرته حين اشتد الضحى، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء، وعند ابن سعد عن ابن شهاب: توفي - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين حين زاغت الشمس ورثته عمته صفية رضي الله عنها بمراثي كثيرة، منها قولها: ألَا يَا رَسُولَ اللهِ كُنْتَ رَجَاءَنَا ... وَكُنْتَ بِنَا بَرَّاً وَلَمْ تَكُ جَافِيَا وَكُنْتَ رَحِيْماً هَادِياً وَمُعَلِّمَاً ... لِيَبْكِ عَلَيْكَ اليَوْمَ مَنْ كَانَ بَاكيا فِدىً لِرَسُوْلِ اللهِ أُمِّي وَخَالَتِي ... وَعَمِّي وَخَالِي ثُمَّ نَفْسِي ومَآليا ورثاه حسان بن ثابت رضي الله عنهما بقوله: كُنْتَ السَوَادَ لِنَاظِري ... فَعَمَى عَلَيْكَ النَاظِرُ مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ ... فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ (3)   (1) " المواهب اللدنية " ج 2. (2) " الروض الأنف للسهيلي " ج 4. (3) " المواهب اللدنية " للقسطلاني ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 1009 - عَنْ عَائِشَةَ وابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: " أنَّ أبَا بَكْير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبَّلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ مَوْتِهِ ". 864 - " بَاب آخِرُ مَا تكَلَّمَ بِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - " 1010 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:   ورثته السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنه بقولها: مَاذَا عَلى مَنْ شَمَّ تربَةَ أحْمَدٍ ... أنْ لا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِب لَو أنَّهَا ... صُبَّتْ عَلَى الأيامِ صِرْنَ لَيَالِيَا الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قول عائشة رضي الله عنها: " من نعم الله تعالى عليَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحَري ونحري " إلخ. 1009 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة وابن عباس رضي الله عنهم في هذا الحديث: " أن أبا بكر رضي الله عنه قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته " أي أن أبا بكر دخل حجرة عائشة والنبي - صلى الله عليه وسلم - مسجى بثوبه، وقد فاضت روحه، والتحق بالرفيق الأعلى، فكشف الغطاء عن وجهه، وقبّله مودعاً له الوداع الأخير، وبكى كما رواية أخرى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية توديع الميت وتقبيله وكشف الغطاء عن وجهه لتوديعه الوداع الأخير، لأن أبا بكر الصديق دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، وكشف الثوب عن وجهه وقبله. ثانياً: جواز البكاء على الميت عند موادعته بشرط أن لا يكون فيه نياحة، فإن كان فيه نياحة فلا. والمطابقة: كما قال العيني في قوله: " بعد موته ". الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة. 864 - " باب آخر ما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: " إنَّهُ لَمْ يُقْبَضُ نَبِي حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَير " فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أفَاقَ فأشْخَصَ بَصَرَهُ إلى سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: " الفهُمَّ الرفِيقَ الأعْلَى " فَقُلْتُ: إِذَاً لا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: " اللَّهُمَّ الَّرفِيقَ الأعلَى ".   1010 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح " أي في حال صحته وسلامة جسمه " إنه لم يقبض نبي " أي لا يموت نبي " حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر " بين البقاء في هذه الدنيا، والانتقال إلى الرفيق الأعلى " فلما نزل به " أي فلما صار في حال الاحتضار وأوشكت روحه أن تفيض إلى مولاها " غشي عليه " أي أغمي عليه " ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت " أي رفع بصره إلى سقف الحجرة، وثبت نظره إليه، وصار لا يطرف جفنه، ولا تتحرك عيناه " ثم قال: اللهم الرفيق الأعلى " أي أسألك الجنة ومرافقة عبادك الصالحين من الملائكة والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين " فقلت: إذن لا يختارنا (1) " أي فعلمت أنّه - صلى الله عليه وسلم - آثر الآخرة على الدنيا، وأنه خيّر فاختار كما كان يحدثنا. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن آخر ما تكلّم به - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يفارق الدنيا قوله " اللهم الرفيق الأعلى ". ثانياً: أنه - صلى الله عليه وسلم - خُيّر قبل وفاته كغيره من الأنبياء فاختار الانتقال إلى الدار الآخرة. والمطابقة: في قولها: فكانت آخر كلمة تكلم بها: اللهم الرفيق الأعلى. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي.   (1) أي لا يختار البقاء معنا في هذه الدنيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب التفسير " التفسير لغة: كما قال الحافظ: التفْصيل، من الفسْر، وهو البيان، تقول: فسرت الشيء بالتخفيف، أفسِرُهُ (1) فسراً، وفسَّرته بالتشديد أفسِّره تفسيراً إذا بينته، وأصل الفسر نظر الطبيب إلى الماء -أي البول- ليعرف العلة. والتفسير في لسان الشرع: كما قال بعضهم: علم يعرف به فهم كتاب الله تعالى المنزل، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه، واستمدادُه من علم النحو والصرف واللغة والبيان وأصول الفقه والقراءات والناسخ والمنسوخ إلى آخره. ويقول شيخ الإِسلام ابن تيميّة: الاختلاف في التفسير على نوعين، منه ما مستنده المنقول فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره، فما كان منه منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قُبِل، وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب، ككعب ووهب، توقفنا عن تصديقه وتكذيبه، وما نقل عن الصحابة فالنفس إليه أسكن مما نقل عن التابعين، لاحتمال أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما التفسير بغير المنقول فهو بيان مقاصد القرآن استناداً إلى الفهم الصحيح القائم على معرفة لغة العرب وأساليبها، وعلوم القرآن ووجوه الإِعراب، والناسخ والمنسوخ، وأصول الفقه، والتشريع الإِسلامي إلى غير ذلك من العلوم والمعارف، ولا يقتصر هذا التفسير على مجرد النص الحرفي المنقول عن الصحابة والتابعين، وإنما يعتمد على الفهم الشخصي المستند إلى الكتاب والسنة. أما التفسير الذي عناه البخاري: وترجم له بقوله " كتاب التفسير " فهو النوع الأوّل، وهو التفسير المأثور المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة أو التابعين، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إلَّا النزر اليسير، ومن أشهر مفسري الصحابة   (1) تقول العرب: فسَرَ يَفْسِر على وزن ضرب يضرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 865 - " بَابُ مما جَاءَ في فَاتِحَةِ الْكِتَابِ " 1011 - عَنْ أبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قالَ: كُنْتُ أُصَلِّي في الْمَسْجدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ أجبه، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كَنْتُ أصَلي، قَالَ: " ألمْ يَقُلْ اللهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ)؟ ثُمَّ قَالَ لِي: " لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أعظَمُ السُّوَرِ في الْقُرآنِ قَبْلَ أن تَخرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ " ثُمَّ أَخذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ   علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وكان تفسيرهم للقرآن إما سماعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اجتهاداً منهم والله أعلم. 865 - " باب ما جاء في فاتحة الكتاب " 1011 - ترجمة الراوي: وهو أبو سعيد الحارث بن المعلّي (1) الأنصاري (2). قال ابن عبد البر: لا يعرف في الصحابة إلَّا بحديثين (3)، توفي سنة 74 من الهجرة. معنى الحديث: أنه بينما كان أبو سعيد بن المعلى يصلي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناداه النبي - صلى الله عليه وسلم -أثناء الصلاة، فلم يجبه، فلما انتهى من صلاته لامه - صلى الله عليه وسلم -، وسأله: أي شيء منعك عن الإِجابة، فاعتذر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في صلاة، والمصلي لا يتكلم في صلاته، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ألم تعلم أن إجابة النبي واجبة، لأن الله أمر بإجابته قي قوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ثم قال: " لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن   (1) قال العيني: أصح ما قيل والله أعلم في اسمه الحارث بن نفيع بن المعلّى الأنصاري. (2) وقد اختلف في اسمه، فقيل: رافع، وقيل الحارث، وقواه ابن عبد البر. (ع). (3) قال الحافظ في " الفتح ": وليس لأبي سعيد هذا في البخاري سوى هذا الحديث. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 أنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: ْ ألمْ تَقُلْ: " لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أعْظَمُ سُورَةٍ في الْقُرآنِ " قَالَ: " (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِيَ السَّبْعُ المثَانِي والْقُرآنُ العَظِيمُ الذِي أوُتِيتُهُ ".   قبل أن تخرج من المسجد" ومعنى تعليمه إياها أنه يخبره بأنها سورة كذا " فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة ... إلخ " أي فلما أراد الخروج ذكّرته بالوعد الذي وعدني به " قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) " يعني أن السورة التي هي أفضل سور القرآن وأعظمها شأناً، هي سورة الفاتحة " وهي السبع المثاني والقرآن العظيم " أي وهي السورة العظيمة التي قال الله تعالى فيها (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فسماها بالسبع المثاني، لأنها سبع آيات تتكرر قراءتها في كل ركعة وفي كل صلاة، وسماها بالقرآن العظيم، لاشتمالها على وجازتها وقلة ألفاظها على أهم مقاصد القرآن الكريم من إثبات التوحيد، والنبوة، والمعاد، والعبادة المتضمنة لأركان الإِسلام. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى في الصلاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي سعيد لما لم يجبه وهو في الصلاة: " ألم يقل الله تعالى (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) " فدل ذلك على أن إجابته واجبة في جميع الأحوال، ولا تبطل صلاته عند بعض الشافعية وبعض المالكية، لأن إجابته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة حكم استثنائي خاص به. ثانياًً: أن للفاتحة أسماء كثيرة فمن أسمائها السبع المثاني والقرآن العظيم، وسورة الحمد، والشكر، والشافية، وأم القرآن وغيرها. ثالثاً: أن هذه السورة هي أفضل السور القرآنية في أهميتها، وكثرة ثوابها، وعظم نفعها، عاها الله بالسبع المثاني لأنها السورة الوحيدة التي تتكرر قراءتها في الصلوات الخمس دون غيرها، ولولا فضلها وأهميتها لما أوجب الله قراءتها في كل صلاة، وفي كل ركعة من الصلاة حيث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 " سُورَةُ الْبَقَرَةِ " 866 - " بَابُ قَولِهِ تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) " 1012 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: " أن تَجْعَلَ للهِ نِدَّاً وهوَ خَلَقَكَ " قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيم، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: " أن تَقْتُلَ وَلَدكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قُلْتُ: ثمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: " أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ ".   لا تصح الصلاة إلَّا بها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وأما فائدتها ونفعها فإنها رقية يستشفى بها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيد الخدري: " وما أدراك أنها رقية " ولذلك تسمى الشافية إلى غير ذلك من الفوائد. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وهي السبع المثاني والقرآن العظيم " حيث ذكر بعض أسمائها. " سورة البقرة " 866 - " باب قوله تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) " ومعنى الآية: كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد هو الحق الذي لا يشك فيه أحد، وحذف المفعول به ليكون المعنى أعم، ويقدر تقديرات كثيرة. 1012 - معنى الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه سأل النبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 867 - قَوْلُهُ تعَالَى (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)   - صلى الله عليه وسلم - عن أكبر الكبائر وأعظمها عقوبة عند الله تعالى فقال له: أكبر الكبائر على الإِطلاق الشرك بالله تعالى، ومعناه أن تجعل لله شريكاً أو نظيراً أو شبيهاً في عبادته أو أفعاله أو صفاته، أو تُشَبِّه الله بمخلوقاته، فتجعل له ولداً أو زوجة كما فعلت النصارى، فسأله ابن مسعود عن أكبر الكبائر بعد الشرك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أن تقتل ولدك، تخاف أن يطعم معك " أي لئلا يضايقك في معيشتك، ويشاركك في طعامك، وذلك غاية الخسة وقسوة القلب، " قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك " أي زوجته، لأنّك بذلك تجمع بين جريمتين الزنا والتعدي على حق الجار وخيانته في عرضه. الحديث: أخرجه الخمسة غير ابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " أن تجعل لله نداً ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الأصل الأوّل في جميع الأديان السماوية هو التوحيد، وهو ما يقتضيه العقل والفطرة السليمة، ويؤدي إليه العلم الصحيح، كما يدل عليه قوله: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). ثانياًَ: أن الشرك أكبر الكبائر على الإِطلاق. ثالثاً: أن أكبر الكبائر بعد الشرك قتل الأولاد والزنا بحليلة الجار. 767 - " قوله تعالى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) " ومعنى الآية: أن الله امْتَنَّ على بني إسرائيل بوقايتهم من حرارة الشمس حيث سخّر لهم السحاب يتظلَّلون به وأَمَّنَ لهم طعامهم دون عناء، فأنزل عليهم المنّ يتساقط عليهم كالثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأنزل عليهم السلوى، وهو طائر كالسُّماني، فكانوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 1013 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الْكَمْاة مِنَ المَنِّ وَمَاؤهَا شِفَاء لِلْعَيْنِ ". 868 - " بَابٌ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) " 1014 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً وَقُولُوا   ينعمون بذلك الغذاء دون مشقة أو عناء. 1013 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " الكمأة من المن " وهي نبْتَة خلوية تنبت في الصحراء دون استنبات وتكثر في الربيع عند نزول الأمطار، وتتابع العواصف الرعدية، ويسميها العرب نبات الرعد، وهي أنواع كثيرة، منها ما يسمونه " الفقع " ويكثر في الأراضي النجدية وأواسط الجزيرة العربية، وتؤكل نيئةً ومطبوخة، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أنها من المن، قال الكثيرون شبهها بالمن الذي أنزل عليهم لأنّها تنبت دون استنبات. فقه الحديث: دل الحديث على أن الكمأة من النعم التي أنعم الله بها على هذه الأمة، فيسر لهم الحصول عليها دون عناء، كما سخر المن لبني إسرائيل دون تعب أو مشقة. والمطابقة: في قوله: " من المن ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 868 - " باب (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ) " 1014 - معنى الحديث: أن بني إسرائيل أمروا أن يدخلوا بيت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 حِطَّةٌ، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتَاهِهِمْ فبدلوا، وَقَالُوا: حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِى شَعَرَةٍ". 869 - بَابُ (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) 1015 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقرَؤونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لأهْلِ   المقدس ساجدين شاكرين قائلين حطة. أي اللهم حط عنا ذنوبنا، فدخلوا زاحفين وهم يقولون مستهزئين ساخرين: حبة في شعيرة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير هذه الآية الكريمة. ثانياً: إمعان بني إسرائيل في الضلال والاستخفاف بأوامر الله واستهتارهم بأحكامه. والمطابقة: في قوله: " فبدلوا وقالوا: حبة في شعير ". 869 - " باب (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) " أي قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 136]. ومعنى هذه الآية إجمالاً: أن الله تعالى أمرنا أن نقول لأهل الكتاب إننا آمنا بالله وبرسولنا - صلى الله عليه وسلم - وكتابنا، كما آمنا بما أنزل على الأنبياء السابقين من الكتب السماوية، وصدقنا بأنّها منزلة من عند الله تعالى. 1015 - معنى الحديث: أن بعض علماء اليهود بالمدينة كانوا يقرؤون على المسلمين بعض نصوص التوراة، ويترجمونها لهم إلى العربية، ولعل ذلك أسلوب من أساليب التبشير بالدين اليهودي فلما سمع بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 الإِسْلَام، فَقَالَ رسَولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذبُوهُمْ (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) " الآيَة.   أصحابه أن يقفوا من ذلك موقف الحيطة والحذر، فلا يُصدقُونهم فيه ويأخذونه منهم قضية مسلمة لأن التوراة قد أدخل عليها الكثير مما ليس فيها، ولا يكذبونهم فيه لاحتمال أن يكون من بقية الوحي السماوي الذي أنزل على موسى، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " لأنه يحتمل الصدق والكذب، هذا إذا لم يكن مخالفاً للقرآن والسنة الصحيحة، وإلا فإنه في هذه الحالة يرفضُ تماماً، لأنه كذب صريح، أو كان موافقاً لهما موافقة صريحة، فإنه يقبل ويصدق، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) أي (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). فقه الحديث دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التوراة التي كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي هي موجودة في زماننا هذا، والنصوص والأخبار التي فيها ليست كلها صحيحة منزلة من عند الله تعالى، لأنها لم تبق على حالتها الأصلية التي كانت عليها عندما ما أنزلت على موسى، كما أنها ليست كلها باطلة، لأن فيها بقايا صحيحة مما أنزل على موسى، ونحن معاشر المسلمين نقف منها موقف الحق والعدل والإنصاف، فأما ما وافق القرآن فهو حق لا شك فيه، وهو من الوحي الذي أنزل على موسى، وقدْ أوجب الله علينا في الآية الكريمة أن نؤمن به، وأما ما خالف القرآن فهو باطل، وأمّا ما لم يخالف ولم يوافق فيحتمل الصدق والكذب. ثانياًً: هذا الحديث أصل في وجوب التوقف عما يشكل من الأمور (1) فلا نحكم عليه بصحة ولا بطلان، ولا بتحليل   (1) كما نقله العيني عن الخطابي في " شرحه على البخاري " ج 18. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 870 - " بَابُ قَوْلِهِ تعَالَى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) " 1016 - عنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيقُولُ: لَبيكَ وسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيقولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لأمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ما أتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّد وَأمَتّهَ، فَيشْهَدُونَ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ   ولا تحريم، وقد كان السلف يتوقفون في بعض ما أشكل عليهم، فلما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين، قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، ولما سئل ابن عمر عن رجل نذر أن يصوم كل اثنين، فوافق ذلك اليوم يوم عيد، فقال: أمر الله بالوفاء بالنذر، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم العيد، فهذا مذهب من يسلك طريق الورع. اهـ. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: وقولوا (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) الآية. 870 - " باب قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) " 1016 - معنى الحديث: أن الله يوم القيامة ينادي نوحاً فيجيبه بقوله: لبيك وسعديك، أي: إجابة بعد إجابة، وإسعاداً بعد إسعاد، فيكرر الإجابة مرتين للتأكيد، على أنه طوع أمره، فيسأله عز وجل: هل بلغ رسالته لقومه؟ فيقول: نعم، فيسأل قومه، فينكرون، فيطالبه بالبينة، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيسأل رب العزة والجلال أمة محمد أن يدلوا بشهادتهم، فيشهدون على أن نوحاً بلّغ رسالة ربه، فيقال لهم: وما علمكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 شَهِيداً، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وَالْوَسَطُ: العَدْلُ ". " تفسير سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ " 871 - " بَابُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) " 1017 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَلا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآية (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ   بذلك، فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقنا، وهكذا تشهد هذه الأمة للأنبياء بالتبليغ، ويشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بالعدالة، فيزكيها، فذلك قول الله عز وجل (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أي ومن جملة النعم التي أنعم الله تعالى بها عليكم يا أمة محمد أن جعلكم عدولاً أمناء لتشهدوا على الناس يوم القيامة بتبليغ الرسل لهم ما أنزل عليهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة. ثانياًً: عدالة هذه الأمة واختيارها للشهادة على الأمم الأخرى، وهذا شرف عظيم. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في قوله: " فيشهدون أنه قد بلغ ". 871 - " باب قوله عز وجل: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) " ذكر البخاري هنا من الأحاديث ما يتعلق بتفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) إلي قَوْلِهِ: (أُولُو الْأَلْبَابِ) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " فَإِذَا رَأيْتُ الَّذِيْنَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهُ مِنْهُ، فأولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فاحْذَرُوهُمْ ".   الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ومعنى الآية كما قال السعدي (1) أن الله أنزل القرآن محتوياً على المحكم الواضح المعنى، وعلى المتشابه الذي يحتمل معان متعددة لا يتعين أحدهما حتى يضم إلى المحكم، فأمّا أهل الزيغ والضلال فإنهم يعمدون إلى المتشابه فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وأما أهل العلم الراسخ واليقين الثابت، فإنهم لا يأخذون إلَّا بالآيات المحكمة، ويردون المتشابه إلى المحكم، ويفسرونه به لأنهم يعلمون أن القرآن كله من عند الله، فإذا خفيت عليهم آية متشابهة فسروها بآية أخرى محكمة. 1017 - معنى الحديث: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) إلخ الآية، ثم حذر علماء أمته أن يعتمدوا على الآيات المتشابهة، ويستدلوا بها على العقائد والأحكام، لأنها تحتمل معان مختلفة، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال، وقد بالغ - صلى الله عليه وسلم - في التحذير والتنفير من ذلك وأمر باجتناب من يفعله فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه " أي إذا رأيت الذين يتقصدون الآيات المتشابهة ليستدلوا بها على مذاهبهم الباطلة، كما يفعل الخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع والأهواء " فأولئك الذين سمّى الله فأحذروهم " أي فأولئك الذين وصفهم الله بالزيغ والضلال في قوله تعالى:   (1) " تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن " للشيخ عبد الرحمن السعدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الزيغ والضلال الاعتماد على المتشابه في العقائد والأحكام، لأن الله تعالى قد وصف من يفعل ذلك بالزيغ، فقال عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) وقال - صلى الله عليه وسلم - مؤكداً ذلك، إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله. ثانياً: التحذير الشديد من الإِصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه وسماع كلامهم لقوله فاحذروهم، قال الحافظ: وأول ما ظهر ذلك في الإِسلام من الخوارج. ثالثاً: أن الاعتماد في العقائد والتشريع على المحكم من آيات القرآن الكريم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما حذر من الاعتماد على المتشابه دل ذلك على أن المحكم هو الأصل الذي يعتمد عليه، ويحتج به في الأحكام اعتقادية كانت أو عملية، كما قال تعالى: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أي أصله (1) الذي يعتمد عليه. والقول الصحيح الذي عليه أهل السنة كما قال العلامة السعدي (1) إن المتشابه إذا وجدنا في مقابله نصاً محكماً، وجب أن نرده إليه، ونحمله عليه، ونفسره به، كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) فإن قوله: (فَنَسِيَهُمْ) من المتشابه الذي يقابله من المحكم قوله عز وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) فنرد المتشابه إلى المحكم، ونفسره بمقتضاه، فيكون معنى قوله: (فَنَسِيَهُمْ) أي حرمهم من فضله، ومنعهم من رحمته، لأن الله لا ينسى، كما دلت عليه الآية المحكمة، فوجب صرف النسيان إلى معنى يتفق معها، ويليق بجلال الله سبحانه وتعالى. اهـ. وإن لم نجد ما يقابله من المحكم كأوائل السور فإننا نتوقف عن تفسيره، ونقول: الله أعلم بمراده، لأنه مما استأثر الله بعلمه، فإنما وقع في الزيغ والضلال من وقع من الكفار وأهل البدع والأهواء بسبب احتجاجهم بالآيات المتشابهة دون الرجوع إلى المحكمات التي هي أم الكتاب،   (1) " تيسير الكريم الرحمن " للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 872 - " بَاب (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) " 1018 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشيطانِ إِيَّاهُ، إلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا " ثُمَّ يَقُولُ   أو تفسير ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه، دون خلقه، فمن الأول ما رواه ابن جرير عن الربيع أن الوفد الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى نجران خاصموا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: ألست تزعم أنّه -أي عيسى- كلمة الله وروح منه، قال: بلى، قالوا: فحسبنا، فأنزل الله عزّ وجل (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)، ثم إن الله جل ثناؤه أنزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) الآية: ومن الثاني: ما روي أن أبا ياسر بن أخطب وحيي بن أخطب ونفراً من اليهود ناظروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قدر مدة أجله وأجل أمته وأرادوا علم ذلك (1) من قوله تعالى: (الم) و (المص) و (الر) فقال جل ثناؤه فيهم (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) يعني فأما هؤلاء اليهود الذين قلوبهم مائلة عن الهدى والحق فيتبعون ما تشابه منه من معاني هذه الحروف المقطعة المحتملة للوجوه المختلفة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ". 872 - " باب. (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) " 1018 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مولود يولد إلّا   (1) " تفسير الطبري " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 أبو هُرَيرَة: واقْرؤوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). 873 - بَابُ (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) 1019 - عنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قَالَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام حِينَ ألقِيَ   والشيطان يمسه " أي ينخسه ويطعنه في جنبه " فيستهل صارخاً " أي فيرفع صوته بالبكاء عقب الولادة مباشرة بسبب ذلك النخس الذي نخسه به الشيطان " إلاّ مريم وابنها " عيسى، فإن الله عصمهما منه عند الولادة، لدعوة امرأة عمران إذ قالت: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فاستجاب الله دعوة امرأة عمران، فحفظ مريم وابنها " المسيح " من نخس الشيطان، كما جاء في رواية مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مولود يولد إلاّ نخسه الشيطان إلّا ابن مريم وأمه " ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وفي رواية البخاري: " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب، وهو غشاء الجنين. فقه الحديث: قال القرطبي في تفسيره: أفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء (1) إلَّا مريم وابنها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث مفسِّراً للآية الكريمة. 873 - " قوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) " 1019 - معنى الحديث: أن البخاري يروي بسنده المتصل هذا   (1) " تفسير القرطبي " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 في النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ". 874 - " بَابٌ (لَا تَحْسَبَنَّ (1) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) " 1020 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رِجَالاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ   الحديث " عن ابن عباس " رضي الله عنهما أنّه قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار " أي أن هذه الكلمة العظيمة قالها: نبيان هما أشرت الأنبياء في أشد المواقف محنة وابتلاءً حيث قالها إبراهيم الخليل وهو يلقى في النار، فأنجاه الله منها، وكانت برداً وسلاماً " وقالها محمد حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم " أي عندما تجهّز إلى بدر الصغرى، فأتاه المنافقون، وقالوا: نهيناكم عن الخروج في أحد فعصيتمونا فظفروا بكم، وأنتم في دياركم والآن وهم في ديارهم، وقد جمعوا الجموع الكثيرة " فاخشوهم " أي احذروا الخروج إليهم، وإلا لم يرجع منكم أحدٌ " فقالوا حسبنا الله " أي كافينا الله إياهم. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على سبب نزول الآية، وعلى أنّ من توكل على الله كفاه. والمطابقة: في كون الحديث دل على سبب نزول الآية الكريمة. 874 - " باب (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) " أي هذا باب ما جاء في تفسير قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ   (1) بالتاء والياء قراءتان سبعيتان. والفاعل على الأولى ضمير المخاطب، وعلى الثانية الذين. اهـ. كما في " حاشية الجمل على الجلالين ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الْغَزْوِ، تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وأَحَبُّوا أنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) الآيَة.   بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). 1020 - معنى الحديث: أن جماعة من المنافقين كانوا يقعدون عن الغزو معه - صلى الله عليه وسلم - فرحين بتغيبهم عن المعركة التي خرج إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة اعتذروا إليه بالأعذار الكاذبة، وحلفوا على ذلك الأيمان الفاجرة، فقبل منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أعذارهم، فازدادوا فرحاً وسروراً لما حصلوا عليه من الحمد والثناء لأنهم يحبون المديح دون عمل مقابل، فنزل (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) إلى آخر الآية، والمعنى لا تظنن أيها الرسول الكريم أن هؤلاء المنافقين الذين يفرحون بما فعلوه من التخلف عن الغزو معك، ومخادعتك بالأعذار والأيمان الكاذبة، ويحبون الحصول على ثنائك عليهم، دون عمل صالح يستحقون عليه هذا الثناء، لا تظنن أنهم بمنجاة من عذاب الله، فإنهم سيلقون عذاباً شديداً بالنار وبئس القرار. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول الآية وتفسيرها. ثانياً: الوعيد الشديد لكل من يريد أن يمدحه الناس بما ليس فيه، وأنها صفة ذميمة من صفات المنافقين والمرائين في كل عصر ومصر. ثالثاً: قال الشيخ السعدي في تفسيره: دلت الآية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من الخير إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة أنه غير مذموم، بل هذا من الأمور المطلوبة التي أخبر الله أنه يجزي بها المحسنين في الأعمال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 " تفسير سُورَةِ النِّسَاءِ " 875 - " بَابٌ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) " 1021 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّهَا سَألهَا عُرْوَةَ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) قَالَتْ: يَا ابْنَ أخْتِي، هَذِهِ اليَتيمَةُ تَكُونُ في حَجْرِ وَلِيِّهَا تَشْرَكُهُ في مَالِهِ، وَيُعْجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أن يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا فَيُعْطِيْهَا مِثلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فنُهوا عَنْ أنْ يَنْكِحُوهُنَّ إِلَّا أنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ، وَيَبْلُغُوا لَهُنَّ أعْلَى سُنَّتِهِنَّ في الصَّدَاقِ، فَأمِرُوا أن يَنْكِحُوا ما طَابَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ.   والأقوال (1)، وأنه جازى بها خواص خلقه، وسألوها منه كما قال إبراهيم عليه السلام: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ). والمطابقة: في كون الحديث دل على سبب نزول الآية. 875 - " باب (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى) " 1021 - معنى الحديث: أن عروة سأل عائشة رضي الله عنها عن معنى قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) فقالت: معناها أن تكون الفتاة في كفالة رجل من أوليائها، وتكون شريكة له في ماله، وهي وسيمة جميلة فيرغب في جمالها، ويريد أن يتزوجها، ولكن لا يريد أن يعدل في صداقها فيعطيها مهر مثيلاتها، فأمره الله تعالى بأحد أمرين: إما أن ينصفها من نفسه، فيتزوجها بأعلى مهر   (1) " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " لعلامة القصيم للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 876 - " بَابُ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) الآيَة " 1022 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ نَاساً مِنَ المُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرونَ سَوَادَ المُشْرِكِينَ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى بِهِ فَيُصِيبُ أحَدَهُمْ فَيَقْتُلُه، أو يُضْرَبُ فَيُقْتَلَ فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ).   مثيلاتها، أو يتركها ويتزوج غيرها من النساء، والنساء كثيرات. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة وبيان سبب نزولها. ثانياًً: أن اليتيمة إذا كانت في حجر وليها لا يجوز له أن يتزوجها بأقل من مهر المثل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية. 876 - " باب (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) الآية " 1022 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما يفسّر لنا قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)، ويبيّن سبب نزولها، فيقول رضي الله عنهما إن جماعة من المسلمين كانوا قد تخلفوا في مكة، ولم يهاجروا إلى المدينة، فكانوا إذا وقعت غزوة خرجوا مع المشركين فيها، فإذا أطلق المسلمون سهامهم أصيب هؤلاء بتلك السهام، فقتلوا في صفوف المشركين، فأنزل الله تعالى في حقهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 " تفسير سُورَةِ المَائِدَةِ " 877 - " بَابٌ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) " 1023 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً كَتَمَ شَيْئَاً مِمَّا أنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللهُ   أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). وأخبرنا أن الذين قبضت الملائكة أرواحهم، وهم في دار الشرك، حالة كونهم ظالمي أنفسهم، برضاهم الإقامة هناك، وإيثارهم الدنيا على الهجرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هؤلاء قالت لهم الملائكة توبيخاً وتأنيباً: في أي مكان كنتم؟ قالوا معتذرين: كنا مستضعفين مستذلّين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، فقالت لهم الملائكة: ألم تكن أرض الله التي يمكنكم فيها القيام بواجبات الدين واسعة فتهاجروا فيها، ولكنكم رضيتم، وآثرتم الدنيا على نصرة الحق، فأولئك جزاؤهم جهنم وبئس المصير مصيرهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة وسبب نزولها. ثانياً أنه يجب على المسلم أن يهاجر من البلاد التي لا يتمكن فيها من إقامة شعائر دينه. فالهجرة في هذه الحالة واجبة ولا يستثنى من ذلك سوى الشيوخ والعجزة من النساء والولدان الذين لا يستطيعون الهجرة، وقد ضاقت بهم الحيل. ثالثاً: أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة قبل الفتح لأنها لم تكن دار إسلام. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية الكريمة وبياناً لسبب نزولها. 877 - " باب (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) " 1023 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تقول: من أخبرك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أخفى شيئاً من الوحي عن أمته فقد كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 يَقْول (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) الآية.   الكذب، واتهمه بالخيانة ومخالفة أمر الله تعالى، لأنّ الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في محكم كتابه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وذلك هو قولها " من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب " أي فقد كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد الكذب حيث اتهمه بالكتمان الذي هو مخالفة لأمر الله تعالى له بالتبليغ، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يكتم شيئاً بعد أن أمره الله تعالى بتبليغ جميع ما أنزل عليه. فقه الحديث: دل فذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من شهادة أن محمداً رسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أدى الأمانة وبلّغ الرسالة، ولم يترك شيئاً من الوحي إلاّ بلغه لأمته امتثالاً لأمر ربه حيث أمره الله تعالى بذلك في قوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ثانياًً: أن من أشد الكذب على رسول الله وأعظم الافتراء عليه القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئاً من الوحي، لأن من قال هذا فقد نسب النبي إلى مخالفة أمر الله بكتمان الوحي الذي أمر بتبليغه، وهذا طعن في عصمته ورسالته، ومن شروط الرسالة العصمة في التبليغ، ولعل عائشة رضي الله عنها علمت بوجود بعض الفرق التي تقول بذلك، فإن بعض غلاة الشيعة كانوا يتحدثون أن عند علي وآل بيته من الوحي ما خصهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الناس، وقد سئل علي رضي الله عنه - كما في الصحيحين: " هل خصكم الرسول بشيء فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قال السائل: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - ما دام قد أمر أن يبلغ ما أنزل إليه فإنه لا بد أن يبلغ كل شيء من الوحي، ومن ادّعى أنه كتم شيئاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 878 - " بَابُ قَولِهِ تعالى (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) " 1024 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: " كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولَيْسَ مَعَنَا نِسَاء، فَقُلْنَا: ألا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أنْ نَتَزَوَّجَ الْمَرْأةَ بالثَّوْبِ، ثُمَّ قَرَأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) ".   من ذلك فقد كذب عليه. 878 - " باب قوله تعالى: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) " 1024 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك " أي كنا نخرج إلى الغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنفارق نساءنا فنعاني كثيراً، فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستأذناه في الاختصاء " فنهانا عن ذلك " لا فيه من القضاء على شهوة الجنس، وتعطيل النسل الذي يتوقف عليه بقاء النوع الإنساني، " فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب " أي وأباح لنا نكاح المتعة، وقد كان ذلك مشروعاً، ثم نسخ في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - " ثم قرأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) " ومعنى هذه الآية الكريمة أن الله نهى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله لهم من طيبات هذه الحياة سواء كانت من المأكولات، أو الملبوسات أو المشروبات المباحة، أو المنكوحات المشروعة، ونهاهم أن يتخذوا من الأسباب ما يحول بينهم وبين الرغبة في النساء، من الاختصاء وغيره، وحرّم عليهم ذلك لما فيه من القضاء على التناسل الذي يتوقف عليه بقاء النوع الإِنساني في هذه الأرض وهو جريمة تتعارض مع شريعة الله في المحافظة على النسل، فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 الله قد خلق هذه الغرائز في الإنسان، وأراد لها أن تبقى لتؤدي دورها في هذه الحياة بما يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، فالغرائز هي مقومات الحياة، وإذا استعملت على الوجه الصحيح الذي يتفق مع منهج الشريعة كانت محبباً لجميع الطاعات، والأعمال الصالحة، فلولا تغذية الجسد بالمأكولات والمشروبات لفقد الجسم قدرته على عبادة الله، ولولا النكاح لما كان هناك تناسل ولا نوع من البشر يعبد الله، ويجاهد في سبيله، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم " ولهذا قال بعضهم: الاعتداء المنهي عنه في قوله تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا) هو محاولة بعض الصحابة الاختصاء كما جاء في الحديث. والحاصل أن الاعتداء يشمل أمرين: الاعتداء في الشيء نفسه بالإِسراف فيه والاعتداء بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه وهو الخبائث. اهـ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن نكاح المتعة كان موجوداً، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رخص لأصحابه فيه عندما خرجوا إلى الغزو وتركوا نساءهم في المدينة فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعانونه، واستأذنوه في الاختصاء فنهاهم عنه، ورخص لهم في نكاح المتعة، ثم نسخ في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: أنه يحرم الغلو في الدين، والتضييق على النفس البشرية وحرمانها من طيبات الحياة التي أحلّها الله، وقد كان ذلك من العبادات المأثورة عند قدماء اليهود واليونان، قلدهم فيها النصارى فشددوا على أنفسهم، وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة. ولما جاء الإِسلام أباح للبشر الزينة والطيبات، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه، والروح حقها، ولذلك كانت الأمة الإسلامية وسطاً بين جميع الأمم. وروى ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية الكريمة " أن نفراً من الصحابة حرّموا على أنفسهم الطيبات بأيمان حلفوا بها، فقالوا: كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها، فأنزل الله تعالى ذكره (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الآية، وفي هذا حجة ظاهرة لمن يقول من حلف على ترك جنس من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 879 - " بَابُ قَولِهِ (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) " 1025 - عَنْ أنسٍ بْنٍ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا كَانَ لَنَا خَمْرٌ غيْرُ فَضِيخِكُمْ هذا الذي تُسَمُّونَهُ الْفَضِيْخَ فإنِّي   المباحات يجب عليه أن يحنث في يمينه، ولا كفارة عليه، لأنها يمين لغو لا كفارة فيها. ثالثاً: أن تهذيب النفس لا يكون بالغلو والحرمان من الطيبات وإنما بإيقافها عند حد الاعتدال دون إفراط ولا تفريط لأنه تعالى لم يخلق هذا الإِنسان ملكاً مجرداً عن النوازع البشرية وإنما خلقه مركباً من روح وجسد، ولا سلامة للعقل والروح وسائر القوى إلاّ بسلامة البدن، وصحة الجسم، كما أنه لا عبادة ولا طاعة إلا في جسم سليم وعقل سليم، ولذلك حرم على الإِنسان كل ما يضر بجسمه، لأن من ضعف جسمه عجز عن الطاعات وسائر العبادات، وربما قصر في أداء واجباته الاجتماعية فلا بد من إعطاء الجسم حقه من الحياة والتمتع بالطيبات المباحة ليقوم بواجباته الدينية والاجتماعية التي هو مكلف بها لئلا يضعف عن أدائها. والمطابقة: في قوله: " فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك " حيث دل ذلك على أن الاعتداء المنهى عنه في الآية هو الاختصاء. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. 879 - " باب قوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) " ومعناها: أن الله تعالى يخبرنا وهو أصدق القائلين أن الخمر من أي مادة كانت، والقمار بجميع أنواعه، والأصنام التي تعبد من دون الله، كل ذلك أشياء قذرة خبيثة ضارة بأصحابها، وإنما يزينها الشيطان لذوي النفوس الضعيفة والعقول السخيفة، ولذلك حرّمها الله وحذر منها أشد التحذير بقوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 لَقَائِمٌ أسْقِي أبا طَلْحَةَ وَفُلاناً وفُلاناً، إذ جَاءَهُ رَجُل فَقَالَ: وَهَلْ بَلَغَكُم الخَبرُ؟ قَالُوا: ومَا ذَاكَ؟ قَالَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، قَالُوا: أهْرِقْ هَذِهِ القِلَالِ يَا أنسُ، فَمَا سَألوا عَنْهَا، ولا رَاجَعُوها بَعْدِ خَبَرِ الرَّجُل".   " (فَاجْتَنِبُوهُ) " أي ابتعدوا عن مجرد القرب منها، فضلاً عن شرب الخمر، أو لعب القمار، أو عبادة الأصنام " (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) " أي لكي تفوزوا بدخول الجنة والنجاة من النار. 1025 - أما معنى الحديث: فيقول أنس رضي الله عنه: " ما كان لنا خمر غير فضيخكم " " يعني " أن الخمر التي كانوا يشربونها بالمدينة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرمها الله بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) كانت من ثمار النخل على اختلاف أنواعها رطباً وتمراً، ومنها الفضيخ وهو يصنع من الرطب ثم ذكر رضي الله عنه اليوم الذي حرمت فيه الخمر بالمدينة، وأنه بينما كان قائماً يسقي أبا طلحة وضيوفه من شراب الفضيخ هذا (1). إذ قدم عليهم رجل فأخبرهم بتحريم الخمر، فأمره أبو طلحة أن يريق تلك الجرار الكبيرة التي كانت مملوءة بالشراب، أما النفر الذين كانوا يشربون عند أبي طلحة، وهم أبو دجانة وسهيل ابن بيضاء وأبو عبيدة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو أيوب رضي الله عنهم فإنهم لما وصلهم خبر تحريمها والكؤوس في أيديهم كفّوا عن شربها حالاً وأراقوا ما فيها ... فقالوا: انتهينا ربنا، انتهينا قال أنس: " ولا راجعوها بعد خبر الرجل " أي انتهوا عنها إلى الأبد ولم يعودوا إليها بعد نزول الآية الكريمة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على بيان معنى الخمر المحرَّمة في الآية الكريمة. وأنها كل شراب مسكر من أي مادة كانت، سواء كان من العنب أو   (1) وهو شراب يصنع من البسر أي الرطب الطري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 " تفسير سورة الأنعام " 880 - " بَابُ قَوْلِهِ تَعالَى (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) " 1026 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللهِ، ولذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنْهَا   من غيره، وأنه لا يلزم أن تكون من العنب، فإن الخمر التي كانت موجودة في المدينة، والتي حرمت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن مصنوعة من العنب، وإنما كانت من البسر. ولهذا قال الجمهور: كل مسكر خمر، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: " الخمر ما كان من العنب خاصة ". وقد جاء التصريح في الأحاديث الصحيحة: أن الخمر يكون من أنواع متعددة غير العنب، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر، ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر " أخرجه أحمد في مسنده (1) وفي رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: " نزل تحريم الخمر وإن في المدينة يومئذ لخمسة أشربة، ما فيها شراب العنب " أخرجه البخاري، والأشربة الخمسة التي كانت بالمدينة. كما قال القسطلاني: هي شراب (2) العسل والتمر والحنطة والشعير والذرة. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه دل على تفسير الآية الكريمة. 880 - " باب قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) " والمعنى: أن الله ينهانا أن نقترب مما عظم قبحه من كبائر الذنوب أقوالاً   (1) " تفسير المنار " ج 7. (2) " إرشاد الساري " ج 7. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 ومَا بَطنَ، ولا شَىْءَ أحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، ولِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ".   وأفعالاً، كالزنا وقذف المحصنات، وأكل الربا، وشرب الخمر. ونحوه، وأن لا نأتي ذلك سراً أو جهراً، ويشمل الباطنُ أعمال القلوب أيضاً من الحسد والكبر (1) والمكر السيء ونحوه. 1026 - معنى الحديث: يقول ابن مسعود رضي الله عنه " لا أحد أغير من الله " أي إن الله تعالى غيور شديد الغيرة على عباده، لا أحد أشد منه غيرة عليهم، وغيرة الله عز وجل على العباد معناها أنه لا يرضى أن يمسهم أحد بسوء، ولا أن يلحق بهم أي ضرر أو عدوان أو يصيب أحداً منهم بأذى في دينه أو نفسه أو عرضه أو عقله ويكره أشد الكره أن يُعتدى عليه في حق من حقوقه الإنسانية. فحرّم الزنا غيرة على أعراض الناس وأنسابهم، وحرّم السرقة والغصب والربا غيرة على أموال الناس أن يعتدى عليها، وحرّم شرب الخمر غيرة على عقول الناس، ومحافظة على سلامتها، وجميع ما حرمه الله من الفواحش إنما حرمه غيرة على حقوق عباده وحماية لها، وهو معنى قوله: " ولذلك حرم الفواحش " أي أنه عز وجل إنما حرم الفواحش غيرة على عباده، وحفظاً لمصالحم، ولا شيء أحب إليه المدح من الله " أي لا أحد أشد حباً للمدح والثناء الصادق الصحيح من الله تعالى، فإنه عزّ وجل يحبُّ الثناء والشكر من عباده، ويكافؤهم عليه بزيادة النعمة كما قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) " ولذلك مدح نفسه " اللام للتعليل أي ومن أجل ذلك أثنى على نفسه بنفسه ليعلّم عباده كيفية الثناء عليه، فقال عز وجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الله تعالى يغار على عباده غيرة شديدة   (1) " تفسير المراغي " ج 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 881 - بَابٌ (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) 1027 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْس مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسَ آمَنْ مَنْ عَلَيْهَا، فذَاكَ حِينَ لا يَنْفع نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ قَبْلُ ".   تظهر آثار هذه الغيرة في تحريم الفواحش من الزنا والقذف والسرقة وغيرها فإن الله إنما حرّمها لما فيها من التعدي على حقوق الناس، والله غيور على عباده. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الحكمة في تحريم الله للفواحش وهي غيرته على عباده. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. 881 - " باب (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) (1) " 1027 - معنى الحديث: لا تنتهي الحياة الدنيا على سطح هذه الأرض لتبدأ الحياة الأخرى حتى تظهر أهم العلامات الكبرى لقيام الساعة، وهي طلوع الشمس من مغربها، وهي آخر أشراط الساعة كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم والبيهقي أن أول الآيات ظهوراً الدجال، ثم نزول عيسى، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها وكما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها " بمعنى أن طلوع الشمس من مغربها هو أهم أشراط الساعة، وأخطرها وأقربها إليها، لأنه آخر علاماتها " فإذا رآها الناس آمن من عليها " أي آمن كل من على هذه الأرض من البشر، " فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " أي فذلك هو الوقت الذي لا ينفع فيه الكافر إيمانه إذا لم يسبق له الإِيمان قبل ذلك، ولا عمل صالح   (1) هكذا الترجمة كما في النسخة التي شرح عليها العيني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 بعد الطلوع، لأن حكم الإِيمان والعمل الصالح حينئذ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة. ثانياًً: أن التوبة تنقطع عند طلوع الشمس من مغربها، فلا ينفع الكافر إيمانه في ذلك اليوم، ولا العاصي توبته، لأنه يغلق باب التوبة، وقد جاء التصريح بعدم القبول كما في حديث معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو مرفوعاً: لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها (1)، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه. ثالثاً: أن من أشراط الساعة الكبرى وأخطرها طلوع الشمس من مغربها وقد اختلفت الأحاديث في أول علامات الساعة ما هي فورد في بعض الروايات: أن أول الآيات خروج الدجال، وفي بعضها أن أوّلها طلوع الشمس من مغربها، وفي بعضها الدابة، وفي بعضها نار تحشر الناس إلى محشرهم، قال الحافظ: وطريق الجمع أن الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغيير الأحوال العامة في الأرض، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهى ذلك بقيام الساعة. والدابة معها، فهي والشمس كشيء واحد، وأن النار أوّل الآيات الكونية المؤذنة بقيام الساعة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على تفسير الآية. ...   (1) عن صفوان بن عسال مرفوعاً أن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " أما سبب عدم قبول الإيمان والتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها فلأنها كما قال الطبرى حالة لا تمتنع فيها نفس عن الإقرار بالله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 " تفسير سُورَةِ الأعْرَاف " 882 - بَابٌ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) 1028 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " أَمرَ اللهُ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاقَ النَّاسِ، أو كَمَا قَالَ ".   882 - " باب (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (1)) " 1028 - معنى الحديث: أن الزبير رضي الله عنه يفسر لنا قوله تعالى: " (خُذِ الْعَفْوَ) " فيقول: " أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ العفو من أخلاق الناس " أي أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يتسامح مع الناس ويتساهل في معاملتهم ويتغاضى عن هفواتهم وأن يرضى بالميسور من أفعالهم وأخلاقهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تفسير قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) وأن المراد به أن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتسامح مع الناس ومعاشرتهم بالحسنى، وقبول ما أَتى من أفعالهم بسهولة ويسر دون إحراجهم، أو التكليف عليهم، بما يشق على نفوسهم، كما دلت الآية الكريمة على وجوب التناصح والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإِعراض عن الجهلاء، والحمقى والسفهاء، وعدم مجاراتهم أو مجازاتهم، والصفح عنهم، والتغاضى عن زلاتهم، وهو معنى قوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) ولا شك أن هذه الأمور الثلاثة هي دعائم الخلق الكامل الذي تكتسب به محبة الناس، وتجمع به القلوب المتنافرة، وتتوثق به الروابط الاجتماعية. والمطابقة: في كون الحديث دل على تفسير قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) وهو ما ترجم به البخاري. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود.   (1) لم تفسر هذه الآية لأن في حديث الباب وشرحه ما يكفي في تفسيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 " تفسير سُورَةِ بَراءَة " 883 - " بَابُ قَولِهِ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) " 1029 - عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، فابْتَعَثَانِى، فانتهَيَا بِي إلى   883 - " باب قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) " معنى الآية الكريمة: روى في سبب نزول هذه الآية أن جماعة تخلفوا عن غزوة تبوك، وهم أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة (1)، ووديعة بن خذام، فندموا على ما فعلوا، وربطوا أنفسهم في سواري المسجد، وأقسموا لا يحلهم إلاّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم بخبرهم، أقسم أن لا يحلهم حتى ينزل فيهم قرآن، فأنزل الله فيهم هذه الآية الكريمة ومن أهل المدينة أناس آخرون غير المنافقين وهم أبو لبابة، ومن معه، هؤلاء اعترفوا بذنوبهم، ولم ينكروها كما فعل المنافقون وخلطوا عملاً صالحاً، وهو خروجهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الغزوات السابقة وآخر سيئاً وهو هذا التخلف الذي وقع منهم بدون عذر، هؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم، ويقبل عذرهم، والله يقبل التوبة، ويعفو ويصفح، وهو الغفور الرحيم. 1029 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص علينا في هذا الحديث رؤيا منامية غريبة فيحدثنا أنه جاءه ملكان وهو نائم فذهبا به إلى مدينة فاخرة   (1) " التفسير المنير " ج 1. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بلَبِنِ ذَهَبٍ، وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَتَلَقَّانا رِجَالٌ، شَطر مِنْ خَلْقِهِمْ كَأحسَنِ ما أنْتَ رَاء، وشَطر كأقْبَحِ ما أنْتَ رَاءٍ، قالا لَهُمْ: اذْهَبُوا فقَعُوا في ذَلِكَ النَّهْرِ، فَوَقَعُوا فيه، ثم رَجَعُوا إلَيْنَا، فَذَهَبَ ذلكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا في أَحْسَنِ صُورَةٍ، قالا لي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْن، وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ، قالا: أمَّا القَوْمُ الَّذِيْنَ كَانُوا شَطر مِنْهُمْ حَسَنٌ، وشَطر مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحَاً وآخَرَ سَيِّئاً تَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُمْ".   عظيمة البنيان مشيدة بالذهب والفضة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " فتلقانا رجال شطر من خلقهم " بسكون اللام " كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر كأقبح ما أنت راءٍ " أي نصف خلقتهم وصورتهم كأجمل صورة تراها العين، والنصف الآخر كأقبح صور تراها العين " فقالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر " أي فقال لهم الملكان اذهبوا إلى ذلك النهر، وهو نهر الحياة واغسلوا أجسامكم فيه. " فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، فذهب ذلك السوء عنهم " أي زال عنهم ما كان فيهم من القبح والبشاعة " قالا لي: هذه جنة عدن، وهذا منزلك " يعني وأطلعاه - صلى الله عليه وسلم - على جنة عدن، وعلى منزله فيها. " قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن، وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً " أي أما القوم الذين نصفهم حسن والنصف الآخر قبيح فإنهم جمعوا بين الحسنات والسيئات معاً، فظهرت الحسنات في صورتهم الجميلة، وظهرت السيئات في صورتهم القبيحة " تجاوز الله عنهم " أي وقد عفا الله عنهم، وأدخلهم الجنة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الذين خلطوا أعمالاً صالحة وأعمالاً سيئة يرجى لهم عفو الله تعالى لقول الملكين كما في الحديث: "أما القوم الذين شطر منهم حسن، وشطر منهم قبيح فأولئك الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم. ثانياً: أن الأعمال الصالحة تمثل يوم القيامة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 " تفسير سُورَةِ الإِسْرَاءِ " 884 - " بَابُ قَولِهِ (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) 1030 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيْرُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثاً، كُلُّ أمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلانُ اشْفَعْ، حتَّى تَنتهِيَ الشَّفَاعَةُ إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فذلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللهُ الْمَقَامَ المَحْمُودَ.   بالصور الجميلة وعكسها الأعمال القبيحة. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) كما أفاده العيني. 884 - " باب قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) " ومعنى الآية: أن الله عز وجل قد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية بإحياء بعض الليل بالصلاة وقراءة القرآن، ووعده فيها بالشفاعة العظمى في قوله: " (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) " والمقام المحمود الذي وعده الله به، هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة، ووعد الله لا يتخلف. 1030 - معنى الحديث: أن الناس يشتد عليهم الكرب في المحشر فيبحثون عن من يخلصهم من ذلك الموقف الشديد، وينقسمون (1) إلى جماعات، وتذهب كل جماعة إلى نبيها تسأله الشفاعة فيعتذر كل واحد منهم عن الشفاعة قائلاً نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً شديداً، ويذكر خطيئته، ويقول: اذهبوا إلى غيري، فينتقلون من واحد إلى آخر حتى يأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فيقول: أنا لها وهو معنى قول ابن عمر: " إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاً "   (1) أي ينقسمون إلى جماعات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 " تفسير سُورَةِ النُّورِ " 885 - " بَابٌ (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) "   أي جماعات جماعات " كل أمة تتبع نبيها " أي تذهب إليه تسأله الشفاعة فيعتذر عنها " حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي حتى يصل إليه طلب الشفاعة، فيقول: أنا لها " فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " أي ففي ذلك اليوم يبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - المقام المحمود، وهو مقام الشفاعة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على إثبات الشفاعة العظمى لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي التي تكون لفصل القضاء وإراحة الناس من ذلك الموقف الشديد الذي تشتد فيه الأهوال وتتفاقم، ويلجأ الناس إلى الأنبياء، فيقولون نفسي نفسي، فيتصدى - صلى الله عليه وسلم - للشفاعة ويبتهل إلى الله ويخرّ ساجداً تحت العرش، فيقول الله تعالى له كما في حديث أبي هريرة: " سل تعطه، واشفع تشفع " الخ أخرجه البخاري وجميع هذه الأحاديث تدل على إثبات الشفاعة كما يدل عليه حديث الباب، وعلى أنّها هي المقام المحمود الذي وعده الله به في قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) فقد أطمع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه الشفاعة فأصبح ما أطمعه فيه حقيقة ثابتة لا يتخلف أبداً، ولهذا قال بعض المفسرين: الرجاء من الله بعسى ولعل وعد محقق. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على معنى المقام المحمود. 885 - " باب (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) " وهي تكملة لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 1031 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ هِلالَ بْنَ أمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأتَهُ عِنْد النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِشرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البَيِّنةُ أوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ" فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ إِذَا رَأى أحَدُنَا على امْرَأتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنةَ، فَجعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:   إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والمعنى أنه إذا رمى الرجل زوجته بالزنا دون بينة فعليه أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم تسأل المرأة فإن أقرت رجمت، وإن أنكرت أمرت أن تشهد أربع شهادات بالله أن زوجها لمن الكاذبين فيما رماها به من الفاحشة، وفي الشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيم اتهمها به، فإذا فعلت سقط عنها الحد، وهو معنى قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا (1) الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) إلخ. 1031 - معنى الحديث: أن هلال بن أمية رضي الله عنه اتهم زوجته بشريك بن سحماء، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إما أن تقيم عليها البينة أو أقيم عليك حد القذف في ظهرك، فقال متعجباً: " إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً يذهب يلتمس البينة " أي كيف أكلف بالبينة وأنا لا يمكنني ذلك، لأنني متى ذهبت لاحضار الشهود فرَّ الرجل من البيت " فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول البينة " بالنصب أي أحضر البينة، أو الرفع على تقدير إما البينة " أو حدّ في ظهرك " يعني أو جزاؤك الحد في ظهرك، " فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد " أي ما يخلصني منه "فنزل جبريل وأنزل عليه   (1) أي يدفع عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 " البَيِّنةُ وِإلَّا حَدّ في ظَهْرِكَ " فَقالَ هِلال: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إني لَصَادِق، فَلَيُنْزِلَنَّ اللهُ مَا يُبَرِّىءُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فنزَلَ جِبْرِيلُ، وأنْزَلَ عَلَيهِ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) فَقَرأ حَتى بَلَغَ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانْصَرَفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسَلَ إليْهَا، فجاءَ هِلال فَشَهِدَ والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أنَّ أحدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فلمَّا كَانَتْ عِنْدَ الخَامِسَةِ، وقَّفُوهَا وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَة، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأت ونكَصَتْ حتى ظَنَنَّا أنَّهَا تَرْجِعُ، ثم قَالَتْ: لا أفضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليَومِ، فَمَضَتْ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:   (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) حتى بلغ (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) " أي فنزل عليه جبريل بآيات الملاعنة التي تبرىء ظهره من الحد، وهي الآيات المذكورة " فأرسل - صلى الله عليه وسلم - إليها فجاء هلال فشهد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب " يعني فلما نزلت آيات الملاعنة أحضرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعظهما قبل إجراء الملاعنة، وحذرهما من غضب الله تعالى على من كان منهما كاذباً، وأخبرهما أن الله مطلع عليهما، عالم بالكاذب منهما، وسيجازيه على ذلك وعذاب الدنيا أهون من عذاب يوم القيامة، ولكنهما أصرا على موقفهما، فتقدم هلال، فشهد وقال في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قامت زوجته فشهدت. " فلما كانت عند الخامسة أوقفوها " أي أوقفوها عن النطق بهذه الشهادة " وقالوا: إنها موجبة " أي احذري أن تؤدي الشهادة الخامسة وأنت كاذبة، فإنها موجبة للعذاب الشديد يوم القيامة " فتلكأت " أي توقفت وترددت وتأخرت بعض الوقت في أدائها " ونكصت " أي رجعت إلى الوراء والمعنى أنها سكتت مدة من الزمن قبل أن تنطق بالشهادة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 " أبصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أكحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابغَ الألْيَتَيْنِ خدَلَّجَ السَّاقَينِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ " فجاءَتْ به كَذَلِكَ، فقَالَ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْلا مَا مَضى مِنْ كِتَابِ اللهِ لَكَانَ لِي ولَهَا شَأنٌ ".   الخامسة " حتى ظننا أنها سترجع " يعني عن إتمام الملاعنة، وتعترف بجريمتها " ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم " أي لا أجلب الفضيحة والخزي والعار لقومي مدى الحياة " فمضت " أي فاستمرت وأتمت الملاعنة حرصاً منها على سمعة قومها " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصروها " أي انظروا إلى ولدها وتأملوا في صورة وجهه وجسمه " فإن جاءت به أكحل العينين " يعني أسود الجفون " سابغ الأليتين " بفتح الهمزة أي ضخم الأليتين " خدلّج الساقين " أي عظيم الساقين " فهو لشريك بن سحماء " أي فهو ابنه " فجاءت به كذلك " أي ولدت ولداً يشبه شريكاً في الصفات المذكورة " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا ما مضى من كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأن " أي لولا ما سبق من حكم الله تعالى بدرء الحد عن المرأة بلعانها، أي لأقمت الحد عليها. قال النووي: اختلفوا في نزول آية اللعان هل هو بسبب عويمر أم بسبب هلال، والأكثرون على أنها نزلت في هلال ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول آيات الملاعنة وتفسيرها تفسيراً عملياً، فإن هذه الآيات نزلت في قصة هلال بن أمية وزوجته على الأصح كما رجحه النووي، ولما نزلت طبق النبي - صلى الله عليه وسلم - الملاعنة المذكورة في الآية عليهما تطبيقاً عملياً كما في الحديث. ثانياً: دل الحديث على أن القذف بالزنا من الكبائر، وأن من قذف زوجته بذلك لزمه أحد أمرين، إما البينة وهي أربعة شهداء كما ذكر، أو اللعان، فإن عجز عن إقامة البينة، وامتنع عن اللعان، حُدَّ حَدَّ القذف ثمانين جلدة، وحكم بفسقه، ورد شهادته، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، لحديث الباب، ولعموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال أبو حنيفة: إن عجز عن البينة لزمه اللعان فإن لم يلاعن حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه فيحدُّ للقذف، وإذا امتنعت المرأة عن الملاعنة أقيم عليها حد الزنا وهو قول مالك والشافعي (1)، وذهب أحمد وأبو حنيفة إلى أنها تحبس حتى تلاعن أو تقرّ بالزنا فتحد. أما الأحكام التي تترتب عليها بعد الملاعنة فهي كما يلي: (أ) يفرّق بينهما فرقة مؤبدة، ويفسخ نكاحهما فسخاً يقتضي التحريم كالرضاع عند مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف، فلا تحل له أبداً، لما جاء في حديث سهل " فمضت السنة بعدُ في المتلاعنين أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبداً " أخرجه أبو داود والبيهقي والدارقطني، فلا يجتمعان ولو أكذب أحدهما (2) نفسه. وقال أبو حنيفة: الفرقة الناشئة عن اللعان طلاق بائن لا يتأبد بها التحريم، وإن أكذب نفسه جاز له تزوجها. لما جاء في حديث عويمر أنه قال بعد الملاعنة: " كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأجاب أبو حنيفة عن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سهل " لا يجتمعان أبداً " بأن معناه لا يجتمعان ما داما على لعانهما، فإن أكذب الرجل نفسه جازت له زوجته وحاصل الخلاف أن مالك والشافعي وأحمد في رواية يرون أن اللعان يستوجب الفسخ والفرقة الأبدية بين الزوجين بنفس اللعان، إما بعد فراغ الرجل من شهادته كما يقول الشافعي، أو بعد فراغ المرأة من شهادتها كما يقول مالك، أما أبو حنيفة فإنه يرى أن اللعان يستوجب الطلاق البائن، ولا يتم الطلاق إلّا إذا أوقعه الزوج على نفسه، أو أوقعه الحاكم عليه نيابة عنه. (ب) أن الولد   (1) والسبب في اختلافهم هذا اختلافهم في معنى قوله: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) فإنهم اختلفوا في تفسير العذاب على قولين، أحدهما حد القذف وبه قال الشافعي ومن وافقه، والثاني: الحبس، وبه قالت الحنفية. (2) تكملة " المنهل العذب المورود على سنن أبي داود " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 إذا نفاه الزوج ألحق بأمه، ونسسب إليها، وانقطع نسبه بأبيه وميراثه منه، واقتصرت علاقته على أمّه فيرثها وترثه، وبه قال مالك ومن وافقه من أهل العلم والدليل على انقطاع نسب الولد من أبيه وإلحاقه بأمّه حديث ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وألحق الولد بالمرأة. أخرجه البخاري ومالك في " الموطأ " وإنما يؤثر اللعان في رفع حد القذف، وثبوت زنا المرأة فله أن يعتمد اللعان لانتفائه وذهب الحنابلة إلى أن الولد يلحق بأمّه ولو لم ينفيه الزوج لما جاء في حديث سهل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا يدعى ولدها لأب ولم يذكر فيه أن الزوج قد نفاه، وأجيب عن ذلك بما جاء في بعض الروايات من حديث سهل " أنها كانت حاملاً فأنكر حملها " أخرجه البخاري. ثالثاً: بيان ألفاظ الملاعنة وكيفيتها أن يبدأ الإِمام بالزوج فيقيمه، ويقول له: قل أربع مرات أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، ولا يحتاج مع الحضور إلى تسميتها، وإن كانت غائبة أسماها ونسبها، فقال: امرأتي فلانة بنت فلان، فإذا شهد أربع مرات أوقفه الحاكم، وقال له: اتق الله فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكل شيء أهون من لعنة الله، ويأمر رجلاً يضع يده على فيه قبل الخامسة حتى لا يبادر بالخامسة، فإذا رآه يمضي في ذلك قال له قل: إن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ثم يأمر المرأة بالقيام، ويقول لها: قولي: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه، وإن كان غائباً أسمته ونسبته، فإذا كررت ذلك أربع مرات، أوقفها، ووعظها كما ذكرنا في الرجل، ويأمر امرأة تضع يدها على فمها، فإن رآها تمضي على ذلك قال لها: قولي: وأنّ غضب الله عليَّ إن كان زوجي هذا من الصادقين، ثم إن هذه الشهادات الخمس شرط، فإن أخل بواحدة منها، لم يصح اللعان، ولو أبدل لفظ أشهد بقوله أحلف فإنه لا يعتد بها عند الحنابلة، وللشافعي وجهان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 " تفسير سُورَةِ الأحْزَابِ " 886 - " بَابُ قَوْلِهِ تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) 1032 - عَنْ كَعبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، أمَّا السَّلامُ عَلَيْكَ، فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فكيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وعلى آل مُحَمَّدٍ،   والصحيح أنّه لا يصح، كما أفاده ابن قدامة. رابعاً: الجمهور على أن اللعان يمين لا شهادة كما أفاده الحافظ خلافاً لأبي حنيفة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على سبب نزول الآية الكريمة. 886 - " باب قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) " ومعنى الآية: أن الله تعالى شرّف رسوله ونوّه بشأنه، وأعلن في هذه الآية الكريمة أنه صلّى عليه بنفسه، وصلّت عليه ملائكته، وأمر عباده بالصلاة عليه فأما صلاة الله عليه فهي رضوان وثناء عليه في الملأ الأعلى، وأما الملائكة فصلاتهم دعاء واستغفار له، وأما أمته فصلاتهم تحية وتكريم وشكر له وثناء عليه بما له عليهم من منة الهداية إلى الصراط المستقيم ثم قال: " وسلّموا تسليماً " فأمرنا أن نتبع الصلاة بالسلام عليه تحية له. 1032 - معنى الحديث: أن كعب بن عُجْرَة -راوي الحديث- سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية المذكورة فقال: إن الله قد أمرنا بالصلاة والسلام عليك، فأما لفظ السلام فقد عرفناه منك، بما علمتنا أن نقول في التشهد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 كمَا صَلَّيْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد، اللَّهُمَّ بَارِك على مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كما بَارَكْتَ على آلِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".   السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فعلمنا كيف نصلّي عليك وماذا نقول؟ " قال: قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " أي فعلَّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلّي عليه بهذه الصلاة الإبراهيمية المأثورة. ومعنى قوله: " وعلى آل محمد " أي وصل على آل محمد، وهم على أصح الأقوال آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس كما أفاده الصنعاني، والمراد بقوله: " آل إبراهيم " إبراهيم نفسه، ومعنى قوله: " اللهم بارك على محمد " أي أكثر له من الخيرات، وأسبغها عليه في الدنيا والآخرة. وقوله: " إنك حميد مجيد " صيغة مبالغة من الحمد والمجد أي كثير الحمد والثناء والعظمة والجلال. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الصلاة الإبراهيمية في كل صلاة بعد التشهد، واختلفوا في حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب الشافعي وأحمد وغيرهما إلى وجوبها في التشهد الأخير، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا اللهم صل على محمد " لأن الأمر هنا للوجوب، قال ابن عبد البر: قال الشافعي: إذا لم يُصَلّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير أعاد الصلاة (1). اهـ. وإنما خُصَّ الوجوب بالصلاة لما في حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ قال: " قولوا: اللهم صل على محمد " أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم. ثانياً: أن الحديث تفسير لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ   (1) " تفسير القرطبي " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 " تفسير سُورَةِ الزُّمَرِ " 887 - " بابُ قَوْلِهِ تعَالَى (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) " 1033 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ نَاساً مِنْ أهْلِ الشركِ كانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأكْثَرُوا، وزَنَوْا وَأكْثَرُوا، فأتَوْا مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - فقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إليهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) الآية،   آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) لأن الآية تضمنت الأمر بالصلاة مجملاً، والحديث تضمن تفسير هذه الصلاة، وبيان صيغتها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث تفسيراً للآية المذكورة. 887 - " باب قوله تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) " 1033 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث " أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا " إلخ. أي أن جماعة من المشركين رغبوا في الإِسلام غير أنهم خافوا من الذنوب الكثيرة التي ارتكبوها من القتل والزنا أن يعاقبوا عليها حتى بعد إسلامهم، " فأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن " أي قد عرفنا أن الدين الذي تدعو إليه حق " لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة " أي لو نجد في دينك ما يكفر عنا ذنوبنا إذا نحن دخلنا فيه لأسرعنا إلى الإيمان وبادرنا إليه "فنزل (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 ونَزَلَ (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا).   اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) الآية" أي فنزل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية أنّهم إن أسلموا وتابوا من ذنوبهم، وعملوا الأعمال الصالحة، كفّر الله عنهم سيئاتهم، وأبدلها حسنات، وغفر لهم ما سلف منهم في جاهليتهم، " ونزل (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) " أي ونزلت هذه الآية التي يأمر الله تعالى فيها نبيّه أن يقول لعباده الذين أفرطوا في المعاصي " (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) " أي لا تيأسوا من رحمة الله وتظنوا أن الله لا يغفر لكم، فإن الله يغفر بالتوبة الصادقة كل ذنب، فتوبوا إلى الله يقبل توبتكم " إنه هو الغفور الرحيم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهو ما تضمنه حديث الباب. ثانياً: أن التوبة الصادقة المقترنة بالإخلاص والعمل الصالح تكفّر جميع الكبائر بما فيها الكفر بالله تعالى، لأن الآية وإن نزلت في الكفار إذا أسلموا إلاّ أن حكمها عام يشمل الكافر والمسلم، لأن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قال تعالى فيها: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث دل على سبب نزول الآية الكريمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 888 - " بَابُ قَولِهِ (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) " 1034 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: " يَقْبِضُ اللهُ الأرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَواتِ بِيَمِنِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أنا الْمَلِكُ أينَ مُلُوكِ الأرْضِ؟ ".   888 - " باب قوله (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) " 1034 - معنى الحديث: أن أبا هريرة يحدثنا في هذا الحديث أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث عن صفات ربّ العزة والجلال فيقول - صلى الله عليه وسلم - " يقبض الله الأرض " أي يقبض الأرضين السبع يوم القيامة كما قال تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) " ويطوي السموات بيمينه " وهو بمعنى قوله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ) " ثم يقول أنا الملك " أي أنا المنفرد بالملك وحدي في هذا اليوم " أين ملوك الأرض " يعني أين ذهب ملوك الأرض الآن، وهو كقوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات الصفات والأفعال الإِلهية المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يطوي السموات بيمينه " وقوله: " يقبض الأرض " وكل ذلك من صفات الله وأفعاله التي يجب الإِيمان بها، وتصديقها، كما جاءت في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ولا تأويل، مع اعتقاد أنه عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والبشر عاجزون عن إدراك كيفية صفات الباري عز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 " سُورَةُ التَّحْرِيمِ " 889 - " بَابُ قَولِهِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) " 1035 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْش ويَمْكُثُ عِنْدَهَا، فوَاطَأتُ أنا وَحَفْصَةُ عَنْ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أكَلْتَ   وجل، لأن إدراك الصفات فرع عن إدراك الذات، قال في " فتح المجيد " (1) وهي تدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة. ثانياً: انفراد الله سبحانه بالملك في ذلك اليوم حيث تفنى جميع الملوك ولا يبقى سوى الملك الحق، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ثم يقول: أنا الملك أنا الديان " وهو مصداق قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) والله أعلم. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله: " ويطوي السموات بيمينه ". 889 - " باب تفسير قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) " 1035 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الحلواء والعسل، وكانت زينب بنت جحش قد أهدِيَ إليها بعض العسل من أقاربها، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتردد عليها، فتسقيه من ذلك العسل، فغارت منها عائشة، وأوعزت إلى حفصة أن تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل عليها: إني أشم منك أو معك ريح مغافير، وهو صمغ كريه الرائحة، واتفقت معها على أنه إذا دخل على أي واحدة   (1) " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ص 622 تحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 مَغَافِيرَ، إِنِّي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، قَالَ: لا، وَلَكِنِّي كُنْتُ أشْرَبُ عَسَلاً عِندَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أعودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لا تُخْبِري بذلك أحَداً".   منهما تقول له ذلك، وهو معنى قولها: " فواطأت أنا وحفصة " أي اتَّفقنا معاً " على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلتَ مغافير، إني أجد منك ريح مغافير " أي أشم منك رائحة هذا، الصمغ الكريه الرائحة " قال: لا " أي فلما دخل عليها، وقالت له: أكلت مغافير، قال: لا، لم آكل مغافير " ولكنني كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش، فلن أعود إليه، وقد حلفت " على أن لا أشربه " لا تخبري بذلك أحداً " أي فلا تخبري بهذا السر أحداً، وقد اختلفت الروايات فيمن شرب عندها، ففي بعضها أنها حفصة، ولكن الأرجح أنها زينب، لأن نساء النبي كن حزبين عائشة وحفصة وسودة وصفية في حزب، وزينب بنت جحش وأم سلمة والباقيات في حزب، وهذا يرجح أن زينب هي صاحبة العسل، لأنها المنافسة لها. قال المفسرون: فلما حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يشرب عسلاً ولا يعود إليه إرضاءً لعائشة وحفصة، أنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ومعناها: أن الله تعالى عاتبه على تحريم ما أحل الله له، فقال عز وجل لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله الله لك، تريد من وراء ذلك إرضاء عائشة وحفصة ثم ختم الآية بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعظيماً لشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنبيهاً على علو مكانته حيث جعل ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه الكريم يعد كالذنب، وإن لم يكن في نفسه ذنباً. " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " أي شرع لكم كفارة اليمين لتتحللوا وتتخلصوا منها بها، فافعل ما حرمته على نفسك، وكفّر عن يمينك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 " سُورَةَ وَيْل لِلمُطَفِّفينَ " 890 - " بَابُ قَوْلِهِ (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) " 1036 - عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) حَتَّى يَغيبَ   بما شرع الله من كفارة اليمين المذكورة في قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) إلخ " (وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ) " أي حافظكم وناصركم، " (وَهُوَ الْعَلِيمُ) " بمصالحكم " (الْحَكِيمُ) " فيما يشرعه لكم من الأحكام التي تتحقق بها مصالحكم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في دلالة الحديث على سبب نزول الآية (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة. ثانياً: أن من حلف على ترك شيء من الطيبات مأكولاً كان أو مشروباً أو ملبوساً فإنه ينبغي له أن يحنث في يمينه، ويكفر عنها، ويأتي بذلك الشيء الذي حلف عليه. ثالثاً: قوة الغيرة وشدة تأثيرها لا سيما على النساء وخاصة بين الضرائر. 890 - " سورة ويل للمطففين (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) " ومعنى هذه الآية وما قبلها: أن الله تعالى يقول: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ) الذين يرتكبون المعاصي مغترين بدنياهم، غافلين عن آخرتهم " (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)   (1) قال ابن كثير: وروى ابن جرير -يعني الطبري- عن سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها، وقال ابن عباس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم حرَّم جاريته (يعنى أم إبراهيم مارية القبطية) فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) إلى قوله (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فكفر يمينه، فصير الحرام يميناً. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 أحَدُهُمْ في رَشْحِهِ إلى أنْصَافِ أذُنَيْهِ".   لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) ومحاسبون على أعمالهم في ذلك اليوم (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي يوم يحشرون في صعيد واحد، ويقفون أمام رب العالمين لمحاسبتهم ومحاكمتهم، فيطول قيامهم حتى يبلغ ثلاثمائة عام، كما قال بعض المفسرين. 1036 - معنى الحديث: يحدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يحشرون من قبورهم إلى أرض المحشر فيجمعون في صعيد واحد لانتظار محاكمتهم ومحاسبتهم في يوم عظيم، يبلغ طوله مئات السنين " حتى يغيب أحدهم في رشحه " أي في عرقه " إلى أنصاف أذنيه " أي حتى يصل العرق إلى أنصاف أذنيه. وعن المقداد بن الأسود الكندي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين، قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه العرق إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً " أخرجه أحمد في مسنده. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تفسير الآية الكريمة وبيان الحالة التي يكون عليها الناس في الموقف من الكرب، والضيق، وكثرة العرق، وشدة الحر، وطول القيام، حتى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة " أخرجه أبو داود. ثانياًً: أن طول القيام وكثرة العرق يكونان لكل واحد كما جاء مصرحاً بذلك في حديث ابن مسعود حيث قال: " قد ألجم العرق كل بر وفاجر " ولكن الله يخففه على العبد الصالح. والمطابقة: في كون الحديث مشتملاً على الآية الكريمة ومتضمناً لتفسيرها. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 " تفْسيرُ سُورَةِ الكَوْثَرِ " 891 - " بَابُ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) " 1037 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَّا عُرِجَ بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى السَّمَاءِ، قَالَ: أتيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوَّفٌ، فقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذا الكَوْثر ".   891 - " تفسير سورة الكوثر قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) " 1037 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أكرمه الله تعالى " بالمعراج " ووصل إلى الملأ الأعلى، ورأى الجنة والنار وما فيهما. شاهد فيما شاهد من العجائب " نهر الكوثر " ووصفه لأمته كما رآه فقال: " أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفاً " أي مررت على نهر في الجنة تنتشر على ضفتيه قباب من اللؤلؤ المجوف " فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر " أي هذا هو نهر الكوثر الذي وعدك الله به في كتابه. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) وبيان معنى الكوثر وأنه نهر أكرم الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ووعده به في الدار الآخرة وهو موجود الآن، والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة (1) فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج " وعن مسروق قال: قلت لعائشة: "يا أم المؤمنين حدثيني عن الكوثر، قالت: نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان   (1) غير الحوض المورود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 892 - سُورَةُ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) 1038 - عَنْ أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ قَالَ: " قِيلَ لِي " فَقُلْتُ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.   الجنة؟ قالت: وسطها حصباؤه الدر والياقوت" أخرجه ابن (1) جرير. ويتضح من هذا أن الكوثر شيء والحوض المورود شيء آخر، فالحوض في الموقف يشرب منه هو وأمته قبل دخول الجنة " والكوثر في بطنان الجنة، أي في وسطها، وكلاهما مما أكرم الله به نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأمة. والمطابقة: في كون الحديث دل على معنى الكوثر، فأصبح تفسيراً للآية. 892 - " سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) " ْ1038 - معنى الحديث: أن راوي الحديث كما في الأصل من صحيح البخاري يقول: سألت أُبي بن كعب قلت له: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا " أي يقول إن المعوذتين ليستا من القرآن، فقال أبي " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعوذتين " يعني سألته هل هما من القرآن؟ " قال: " قيل لي " فقلت: " أي فقال - صلى الله عليه وسلم -: قال لي جبريل إنهما من القرآن، فقلت كما قال جبريل، لأنه أمين على وحي السماء: قال كعب: " فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أي نقول أن المعوذتين من القرآن. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن بعض الصحابة ومنهم ابن مسعود رضي الله عنه كانوا يقولون: إن المعوذتين ليستا من   (1) " تفسير الطبري " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 القرآن (1). ثانياًً: أن المعوذتين من القرآن، لأن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وانعقد عليه إجماع المسلمين ودلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلو أنكر اليوم أحد قرآنيتهما كفر. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كونه يدل على أن المعوذتين من القرآن.   (1) قال الحافظ في " الفتح ": قال البزار: ولم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأهما في الصلاة. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب فضائل القرآن " وفضائل القرآن: هي المزايا والمنافع التي تترتب على قراءته وسماعه، أو المزايا التي يختص بها أهل القرآن، أو الصفات العظيمة التي يمتاز بها القرآن عن غيره وكما أن القرآن كتاب هداية وتشريع، يتعبد بأحكامه والعمل بما فيه، كذلك هو كتاب يتعبد بتلاوته، وتنال المثوبة والأجر بقراءته فقد روى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. وهناك فضائل خاصة تتعلّق بآية أو سورة معينة، فإن القرآن يتفاضل بعضه عن بعض على الأصح من أقوال أهل العلم، لدلالة ظواهر النصوص على ذلك، منها حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: آية الكرسي، فضرب في صدري وقال: " ليهنك العلم يا أبا المنذر " أما معنى الأفضلية أو التفاضل: فقد يكون بزيادة الأجر والثواب، وقد يرجع إلى معنى الآية ومضمونها، فما تضمنته آية الكرسي والحشر وسورة الإِخلاص والفاتحة من المعاني لا يوجد في سورة المسد مثلاً، وقد تكون الأفضلية من جهة أنها تحفظ قارئها كما في آية الكرسي والمعوذتين، أو من جهة كونها رقية وشفاء كما في سورة الفاتحة. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 893 - " بَاب كيفَ نَزَلَ الوحيُ وأول ما نَزِلَ " 1039 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوُتِيتُهُ وَحْياً أوحَاهُ اللهُ إليَّ، فأرْجُو أَنْ أَكُونَ أكثَرَهُمْ تَابعاً يَوْمَ القِيَامَةِ ".   1039 - معنى الحديث: أن من سنة الله في الأنبياء جميعاً أن يمدهم بالمعجزات فلا يبعث نبياً إلاّ أعطاه معجزة يستدل بها على نبوته ويثبت بها رسالته، ويتحدى بها كل من عارضه وكذب به، فالمعجزة أمر خارق للعادة يظهر على يد مدّعي الرسالة ليكون شاهد إثبات له، كما أعطى الله موسى العصى وكما أعطى عيسى إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله. وهذا هو معنى قوله: " ما من الأنبياء نبي إلاّ أعطي ما مثله آمن عليه البشر " أي ليس هناك نبي إلا وقد أعطي من المعجزات ما يكفي لإثبات رسالته فلا ينظر أحد إلى المعجزة التي ظهرت على يديه من أهل النفوس السليمة من العناد والاستكبار إلا بادر إلى الإيمان به كما فعل سحرة فرعون لما شاهدوا معجزة موسى " وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ " أي وإنما كانت المعجزة العظمى التي أعطاها الله لي هي هذا الكتاب الخالد الباقي إلى يوم القيامة، فما من أحد يقرأه بتأمل وتدبّر دون عناد أو حسد أو تكبر إلاّ عرف أنه كلام الله، وأني رسول الله لما فيه من أنباء الغيب التي لا تأتي إلاّ من خبر السماء، وما اشتمل عليه من الأحكام والقوانين الإلهية التي تصانُ بها حقوق الإنسان من دين ونفس ومال ونسب وعقل وعرض. والقرآن لا تنتهي معارفه عند حد، وإنما هي تتجدد وتنكشف على مر العصور والأزمان. وليس معنى هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤت معجزة أخرى غير القرآن كلا فلقد أوتي - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله، ومن ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 894 - " بَابُ فضلِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) " 1040 - عنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   نبع الماء من بين أصابعه، وهي أبلغ من معجزة موسى، لأن نبع الماء من الصخر أمر مشاهد مألوف، أما نبع الماء من بين اللحم والعظم والأصابع فإنه لا يخطر على البال، ولكن معنى قوله: " وإنما كان الذي أوتيته وحياً " أن معجزة القرآن أعظم معجزاته - صلى الله عليه وسلم - لأن تلك المعجزات لا يعرفها إلاّ من عاصرها أما القرآن فإنّه العجزة الدائمة الباقية إلى يوم القيامة يعرفها ويراها ويقرأها كل من أرادها، ويستدل بها على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وصحة رسالته - صلى الله عليه وسلم - " فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً " أي وبما أني قد أعطيت هذه المعجزة العظمى، وهي هذا الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فإني أرجو أن يقرأه الناس على مر العصور، فيدخلوا في دين الله أفواجاً، فأكون أكثر الأنبياء أتباعاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من فضائل القرآن كونه المعجزة الخالدة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في جميع العصور والأزمان، ولهذا اقتصر على ذكره في هذا الحديث، حتى كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بمعجزة أخرى سواه، لا لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بمعجزات أخرى غيره، ولكن لأن تلك المعجزات لا تأثير لها إلاّ في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، أما هذه المعجزة فإنها يستدل بها على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم - مدى الحياة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثانيأ: كثرة أتباع نبينا - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه يدل على أن القرآن أعظم المعجزات على الإِطلاق وهذا من أشرف فضائله ومزاياه. 894 - " باب فضل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) " 1040 - معنى الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم سمعوا النبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لأصْحَابِهِ: " أيعْجِز أحدُكُمْ أن يَقْرأ ثُلُثَ القُرآنِ في لَيْلَةٍ؟ " فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أيُّنَا يطِيق ذَلِكَ يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: " الله الوَاحِدُ الصَّمَد ثُلُثُ القُرآنِ ". 895 - " بَاب فضْلِ الْمُعَوِّذَاتِ " 1041 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أوَى إلى فِرَاشِهِ كلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثمَّ   - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة " وهو استفهام استخباري، معناه ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة واحدة " فشق ذلك عليهم " أي فصعب عليهم ذلك، لأنهم فهموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى قراءة ثلث القرآن في ليلة واحدة " فقالوا: أينا يطيق ذلك " أي لا يقدر على هذا العمل إلا القليل من الناس. " فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن " أى سورة قل هو الله أحد تساوي ثلث القرآن في مضمونه ومعناه، لأن القرآن ثلاثة أقسام توحيد، وأحكام، وأخبار، وسورة الإخلاص تضمنت التوحيد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل سورة الإخلاص، وامتيازها بأنها تحوي في معناها ومضمونها ثلث القرآن لاشتمالها على التوحيد الذي هو أحد مقاصد القرآن الثلاثة، وقال بعض أهل العلم: إنها تساوي ثلث القرآن في أجرها وثوابها (1). اهـ. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " الله الواحد الصمد ثلث القرآن ". 895 - " باب فضل المعوذات " 1041 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا أوى إلى فراشه   (1) انظر بسط هذا الموضوع في كتاب " جواب أهل العلم والايمان " الشيخ الإِسلام ابن تيميّة رحمه الله (حسن السماحي). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأ فِيهِمَا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَد، يَبْدَأ بِهِمَا علَى رَأسِهِ وَوَجْهِهِ ومَا أقبَلَ مِنْ جَسَد، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَاتٍ ".   كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما " أي ألصق الكف اليمنى باليسرى وهما مفتوحتان، ونفخ فيهما بفمه مع شيء خفيف من ريقه " فقرأ فيها " أي قرأ في كفيه (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أي قرأ السور الثلاثة على كفيه، قال القسطلاني: قال الطبري: وظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - نفث في كفيه أولاً، ثم قرأ، وهذا لم يقل به أحد، ولعل هذا سهو من الكاتب أو الراوي (1) لأن النفث ينبغي أن يكون بعد التلاوة " ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ويبدأ من رأسه وما أقبل من جسده " أي ثم يمسح بكفيه ما وصلتا إليه من جسده، بادئاً برأسه وبالجزء الأمامي من بدنه. اهـ. الحديث: أخرجه الستة إلا ابن ماجه بألفاظ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن في قراءة هذه السور الثلاثة قبل النوم صيانة للإنسان وحفظ له من المكاره، ولأنها تعويذة مباركة مأثورة أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، ودلنا عليها (2). ثانياًً: أنه يستحب قراءة هذه السور الثلاثة قبل النوم والتعوذ بها، وكيفية ذلك أن يجمع كفّيه ثم يقرأ هذه السور الثلاث فيها ثم ينفث من ريقه عليهما، ثم يمسح بكفيه ما وصل إليه من   (1) وتعقبه الطيبي فقال: من ذهب إلى تخطئة الرواة الثقات العدول وبما سنح له من الرأي فقد خطأ نفسه، هلا قاس هذه الفاء على ما في قوله: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله "، والمعنى جمع كفيه ثم عزم على النفث فيما قرأ فيهما. اهـ. (2) وقال - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: تعوذ بهن فإنه لم يتعوذ بمثلهن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 896 - " بَاب خيْرُكمْ مَنْ تعَلَّمَ الْقرْآنَ وَعَلَّمَهُ " 1042 - عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ الله "عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَيْركُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ".   جسده وذلك كما قال ابن القيم: لأن الرقية تخرج من قلب الراقي، فإذا صحبها شيء من الريق والهواء كانت أتم تأثيراً. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهذه السور الثلاثة، وهذا يدل على فضلها من حيث إنها تعويذة مباركة. 896 - " باب خيركم من تعلّم القرآن وعلمه " 1042 - معنى الحديث: أن أفضل المسلمين وأرفعهم ذكراً وأعلاهم عند الله درجة من تعلّم القرآن تلاوة وحفظاً وترتيلاً، أو تعلمه فقهاً وتفسيراً، فأصبح عالماً بمعانيه فقيهاً في أحكامه، وعلَّم غيره ما عنده من علوم القرآن مع عمله به، وإلّا كان القرآن حجة عليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " والقرآن حجة لك أو عليك " أو كما قال. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان فضل حامل القرآن ومعلمه، وأنه خير المؤمنين، لأنه أعظمهم نفعاً وإفادة، ولذلك شبهه بالسفرة، لأن السفرة من الملائكة يحملون الوحي إلى الأنبياء، وهو يحمل كلام الله إلى الناس، ولأنه من أكثر الناس أجراً حيث إن له بكل حرف يقرأه حسنة. ثانياً: أن أشرف العلوم علوم القرآن وقد قيل: شرف العلم بشرف متعلقه، وليس هناك أشرف ولا أفضل من كلام الله تعالى. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة والحديث لفظهما واحد. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 897 - " بَابُ اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وتعَاهُدِهِ " 1043 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّمَا مَثَلُ صَاحبِ القُرآنِ كَمَثَل صَاحبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ، إنْ عَاهَد عَلَيْهَا أمْسَكَهَا، وَإِنْ أطْلَقَهَا ذهَبَتْ ". 898 - " بَابُ حُسْنِ الصَّوْتٍ بالْقِرَاءَةِ لِلْقُرآنِ " 1044 - عن أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   897 - " باب استذكار القرآن وتعاهده " 1043 - معنى الحديث: شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - حافظ القرآن وحامله بصاحب الإِبل المربوطة المشدودة بالحبال، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإِبل المعقلة " أي التي عقلها صاحبها بالحبال، لأنها شرود " إن عاهد عليها " أي راقبها، وأبقاها مربوطة، " أمسكها " أي بقيت عنده " وإن أطلقها اذهبت " أي وإن فكها من حبالها وهي شرود هربت، وصعب عليه إعادتها مرة أخرى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الحث الشديد والترغيب الأكيد لحملة القرآن وحفاظه أن يعنوا بتعهده وتكراره وكثرة قراءته وترديد تلاوته محافظة عليه، وحذراً من ضياعه لأن صاحب القرآن كما في الحديث كصاحب الإِبل المربوطة، إن حافظ عليها وأبقاها في رباطها بقيت عنده، وإلّا هربت منه. ثانياًً: أن القرآن إذا نسي صَعُبَ استرجاعه. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله: " إن عاهد عليها أمسكها ". 898 - " باب حسن الصوت بالقراءة " 1044 - معنى الحديث: أن أبا موسى يحدثنا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: " يا أبَا مُوسَى لَقَدْ أوتيْ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيرِ آلَ دَاوُدَ ".   له: " " يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً (1) " ومعناه .. لقد وهبك الله في قراءة القرآن صوتاً جميلاً كصوت داود في قراءة الزبور. قال القسطلاني: لأنه لم يذكر أحد أعطي من حسن الصوت ما أعطي داود، وقال الخطابي قوله: " آل داود " يريد داود نفسه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن صوت داود كان من أعذب الأصوات الجميلة وأحلاها، قال القسطلاني: " كان داود يقرأ الزبور بسبعين لحناً، كما أن صوت أبي موسى كان يشبه صوت داود في عذوبته وحلاوته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستمع إلى قراءته كثيراً، ووصف أبو عثمان النهدي صوت أبي موسى فقال: " دخلت دار أبي موسى الأشعري، فما سمعت صوت صنج (بفتح الصاد) ولا بربط (بفتح الباء) ولا ناي أحسن من صوته " قال الحافظ: سنده صحيح، وهو في الحلية لأبي نعيم. قال الحافظ: والصَّنج بفتح المهملة وسكون النون بعدها جيم، آلة تتخذ من النحاس، والبربط بوزن جعفر هو آلة تشبه العود، فارسي مُعَرَّب. ثانياًً: استدل البخاري بهذا الحديث على استحباب حسن الصوت في قراءة القرآن، وحكى النووي الإِجماع عليه، لأنه أوقع في النفس، وأشد تأثيراً وأرقُّ لسامعه، قال: فإن لم يكن القارىء حسن الصوت فليحسنه ما استطاع. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كونه يدل على استحباب حسن الصوت في القراءة.   (1) والمزمار في الأصل الآلة الموسيقية المعروفة، والمراد به هنا الصوت الجميل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 899 - " بَابُ مَنْ أحَبَّ أنْ يَسْمَعَ القُرآنَ مِنْ غَيْرِهِ " 1045 - عَنْ عَبْدِ اللهَ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ في النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اقْرأْ عَلَيَّ القُرآنَ " قُلْتُ: آقْرا عَلَيْكَ، وعَلَيْكَ أنْزِلَ! قَالَ: " إِنِّي أحِب أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ". 900 - " بَاب في كَمْ يُقْرأُ الْقُرآنُ " 1046 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:   899 - " باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره " 1045 - معنى الحديث: يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - اقرأ علي القرآن " أي اقرأ عليَّ بعض الآيات من القرآن الكريم " قلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ " أي لماذا أقرأه عليك، وأنت في غنى عن سماعه مني، لأنه عليك أنزل، تلقيته من ربك، وحفظته في قلبك وبلغته إلى الناس. " قال: إني أحب أن أسمعه من غيري " أي إنما سألتك أن تقرأه عليَّ، لأنني أحب سماعه من غيري رغبة في تدبره، وزيادة تفهمه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره، وذلك لأجل تدبره وزيادة تفهمه، لأن المستمع أقوى على ذلك من القارىء وأنشط منه. ثانياًً: أنه يستحب الاستماع إلى قارىء القرآن، ولو كان المستمع من حفاظه، اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعاً لسنته. الحديث: أخرجه الستة إلا النسائي. والمطابقة: في قوله: " فإني أحب أن أسمعه من غيري " 900 - " باب في كم يقرأ القرآن " 1046 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن عمرو رضي الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " اقْرَأ القُرْآنَ في شَهْرٍ " قُلْتُ: إِنِّي أجِدُ قُوَّةً، حتَّى قَالَ: " فاقْرَأهُ في سَبْعٍ، ولا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ". 901 - " بَاب إِثْمُ مَنْ رَاءى بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وتأكَّلَ بِهِ أو فَخر بِهِ " 1047 - عن أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رضي الله عنهُ: عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " المُؤْمِنُ الذي يَقْرأ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كالأترجَّةِ، طَعْمُهَا طيَبٌ، وَرِيحُهَا طيَبٌ، والمؤْمِنُ الِّذي لا يَقْرأ القُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ   عنهما " اقرأ القرآن في شهر " أي اختم القرآن مرة واحدة في الشهر، لأن ذلك يساعد على ترتيله، وتدبر معانيه " قلت: إني أجد قوة " أي أجد في نفسي قدرة ونشاطاً على قراءة أكثر من ذلك في الشهر " حتى قال: فاقرأه في سبع " أي فما زال يقول في - صلى الله عليه وسلم - اقرأه في كذا، اقرأه في كذا، وأنا أقول له: " إني أجد قوة " حتى قال لي: أخيراً اقرأه في سبع ليال، " ولا تزد على ذلك " فنهاه - صلى الله عليه وسلم - أن يختم القرآن في أقل من سبع. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: عدم تقدير وقت محدود لختم القرآن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أولاً أن يختمه في شهر، ثم في كذا، ثم في كذا حتى قال له أخيراً: فاقرأه في سبع، وإنما هو بحسب نشاط القارىء واستعداده، وعليه أكثر العلماء كما قاله النووي. ثانياًً: استدل بعض أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ولا تزد على ذلك على أنه يستحب للقارىء أن يقتصر على قدر يحصل معه كمال فهم ما يقرأ، ليجمع بين التعبد بالتلاوة وحسن الترتيل، وتدبر الآيات. والمطابقة: في قوله: " فاقرأه في سبع ". 9010 - " باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكّل به أو فخر به " 1047 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه كل صنف من هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 كالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طيَبٌ، ولا رِيحَ لَهَا، وَمثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرأ القُرْآنَ كالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طيَبٌ، وطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المنافِقِ الَّذِي لا ْ يَقْرأ القُرْآنَ كالحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ أو خَبِيثٌ، ورِيحُهَا مُرٌّ".   الأصناف الأربعة من البشر، بشيء يماثله في الحسن والقبح الأول: المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به، وقد شبهه بالأترجة (1) في حلاوة مذاقها وطيب رائحتها، لأنه يجمع بين حسن الظاهر والباطن. والثاني: المؤمن الذي لا يقرأ القرآن لكنه يعمل به، فهو يشبه التمرة في حلاوة مذاقها، وإن كانت لا ريح لها، لأنه زين باطنه بالعمل بالقرآن، وإن لم يزين ظاهره بتلاوته. والثالث: المنافق الذي يقرأ القرآن رياءً وسمعة، ولا يعمل به في حياته أو يطبقه في سلوكه، فهذا يشبه الريحانة في طيب رائحتها، ومرارة طعمها، لأنه زين ظاهره بحسن التلاوة، وقّبح باطنه بسوء العمل. الرابع: المنافق الذي لا يقرأ القرآن ولا يعمل به، وهذا يشبه الحنظلة في مرارة طعمها وقبح رائحتها، فهو قبيح الظاهر والباطن معاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن. القرآن جمال لأهله على أي حال، فإن عمل به صاحبه جمَّله ظاهراً وباطناً، وسعد به في الدنيا والآخرة، وإن لم يعمل به وقرأه رياءً جمّله ظاهراً، ونفعه في الدنيا فقط. ثانياًً: أن المراءي لا يثاب على قراءة القرآن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالريحانة التي طعمها مرٌ، وهذا يدل على قبح عمله، وعدم انتفاعه به في الآخرة. الحديث: أخرجه   (1) قال في شرح صفوة البخاري: وأهل العراق يطقون لفظ " الأترج " على نوع من فصيلة البرتقال، لكن له رائحة عطرية وطعمه أحلى. قلت: وأهل الشام يسمونه الكبّاد ويكثرون زراعته في البيوت كالنارنج، وقشرته سميكة ومتجعدة، وحجمه كبير يصل إلى حجم البطيخ الصغير ولونه عند نضجه أصفر وقيمته في قشرته حيث يصنع منها أفخر أنواع المربيات. اهـ. حسن السماحي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 902 - " بَابٌ اقْرؤوا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ " 1048 - عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اقْرَؤوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فإذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ ".   الستة. والمطابقة: في قوله: " ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيب وطعمها مر ". 902 - " باب إقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم " 1048 - معنى الحديث: قال العيني: معناه، اقرؤوه على نشاط منكم، فإذا حصل لكم ملل وسآمة فاتركوه، فإنه أعظم من أن يقرأه أحدٌ من غير حضور القلب وقال ابن الجوزي: كان اختلاف الصحابة يقع في القراءات واللغات، فأمروا بالقيام عند الاختلاف، لئلا يجحد أحدهم ما يقرأه الآخر، فيكون جاحداً لما أنزل الله. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحري قراءة القرآن عند توفر النشاط والرغبة النفسية في تلاوته، لأن القراءة مع حضور القلب لها أثرها العميق في نفس القارىء ووجدانه. ثانياًً: أنه إذا وقع الاختلاف في معنى من معاني القرآن أو قراءة من قراءَاته، واشتد حتى أوشك أن يؤدي إلى النزاع والشقاق وجب الإِمساك عنه، وضبط النفس قدر الإِمكان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب النكاح " النكاح لغة: الضم والتداخل، ثم أطلق على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازاً، وقال الزجاجي: النكاح في كلام العرب هو الوطء والعقد جميعاً وأما النكاح شرعاً: ففيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وهو قول الحنفية، ووجه للشافعية. الثاني: أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء، وهو القول الراجح، لكثرة وروده في الكتاب والسنة بمعنى العقد، حتى قيل: لم يرد في القرآن إلاّ للعقد، قال الحافظ: ولا يرد مثل قوله: " حتى تنكح زوجاً غيره " لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنة. الثالث: أنه لفظ مشترك بين العقد والوطء. قال الحافظ: وهذا الذي يترجح في نظري وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد. أما الحكمة في مشروعية النكاح: فإنه لما كان وجود الجنسين وحاجة كل منهما إلى الآخر سنة الحياة، التي أرادها الله، وأودع في كل منهما هذه الغريزة التي تدعوه إلى الآخر. ليتحقق بذلك بقاء النوع البشري على هذه الأرض. شرع له النكاح للتنفيس عن غريزته بطريقة سليمة يتسامى فيها عن غيره من الحيوانات، لأنه أكرم المخلوقات، وحقق بالنكاح منافع عظيمة، منها غض البصر، وكف النفس عن جريمة الزنا محافظة "على أنساب الناس، وصيانة لأعراضهم ومنها: استبقاء النوع البشري على هذه الأرض بالتوالد والتناسل فينتج جيلاً صالحاً نافعاً لبلاده وأمته كما قال - صلى الله عليه وسلم - " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " ومنها تنظيم الأسرة وصيانتها، حيث جعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صحيحة قائمة على نكاح شرعي موثق بشهادة الشهود، معلن عنه عند الناس فكل منهما قد أصبح زوجاً للآخر، وارتبط به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 903 - "بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ استطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ" 1049 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ قَالَ لَنَا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مَعْشَرَ الشَبّاَبِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ".   ارتباطاً شرعياً يحفظ له حقوقه، ويصون سمعته وكرامته، ويثبت نسله منه حتى تقوم الأسرة على أسس قوية متينة. ومن أغراض النكاح المحافظة على صحة الزوجين جسمياً ونفسياً (1) وقد جاء في تقرير هيئة الأمم المتحدة الذي نشرته صحيفة الشعب الصادرة يوم السبت 6/ 6/1959 م أن المتزوجين يعيشون مدة أطول مما يعيشها غير المتزوجين سواء كان غير المتزوجين أرامل أم مطلقين، أم عزاباً من الجنسين. 903 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج " 1049 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجه نداءه إلى الشباب فيقول لهم: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج " أي من وجدت لديه القدرة الجنسية على الجماع والرغبة فيه مع قدرته على مؤونته ونفقته فليتزوج. ليغضَّ بصره، ويحفظ فرجه عن محارم الله، كما جاء في رواية أخرى حيث قال: " فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحفظ للفرج " " ومن لم يستطع فعليه بالصوم " أي ومن لم يستطع الزواج لعجز مالي عن المؤونة والنفقة، ولديه رغبة في الجماع " فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أي فليلجأ إلى الصوم لكسر شهوته وإضعاف رغبته الجنسية " فإنه له وجاء " أي فإن الصوم يقطع الشهوة   (1) انظر كتاب " الأمراض الجنسية " للدكتور نبيل صبحي الطويل. حسن السماحي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 كما يقطعها الوجاء. والوجاء رض الخصيتين (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن النكاح لكل من قدر على نفقاته وتاقت نفسه إليه، وهو مذهب الجمهور، وقالت الظاهرية بوجوبه، لظاهر الأمر به في الكتاب والسنة، وأما من رغب عن الزواج دون عذر، وظن أن البعد عنه فضيلة، وفضل الرهبانية، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حقه: " وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " أي فليس من طريقتي الرهبانية، قال ابن قدامة: والناس في النكاح على ثلاثة أضرب: منهم من يخاف على نفسه الوقوع في المحظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة العلماء، الثاني من يستحب له، وهو من له شهوة ويأمن الوقوع في محظور، فهذا التزوج له أولى من التخلي لنوافل العبادة، وهو قول الحنفية، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو لم يبق من أجلي إلاّ عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها ولي طول النكاح فيهن لتزوجت، مخافة الفتنة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسعيد بن جبير: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء، وقال أحمد: ليست العزوبة من أمر الإِسلام في شيء، وقال أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالباءة ويقول: " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ". الثالث: من لا شهوة له، إما لأنه لم تخلق له شهوة أو كانت شهوة فذهبت بكبر أو مرض أو نحوه، ففيه وجهان أحدهما: يستحب له النكاح، لعموم ما ذكرنا. الثاني: التخلي للعبادة له أفضل، لأنه لا يحصل مصالح النكاح ويمنع زوجته من التحصين بغيره، ويضربها بحبسها على نفسه ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه. ثانياً: أنه ينبغي لمن لا قدرة له، ولا يجد لديه مؤنة النكاح أن يترك التزوج ويكثر الصوم لإضعاف شهوته أما إذا كان قادراً عليه ولكنه لا يرغب فيه، فقد قال الدردير المالكي:   (1) قال في " المصباح " الوجاء مثل كتاب، ويطلق الوجاء على رض عروق الخصيتين حتى تنفضخا من غير إخراج، فيكون شبيهاً بالخصاء لأنه يكسر الشهوة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 904 - " بَابُ نِكَاحِ الأبكَارِ " 1050 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ أرَأيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِياً، وفِيهِ شَجَرَة قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرَاً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، أيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ؟ قَالَ: " في التي لم يُرْتَعْ مِنْهَا " تَعْنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْراً غَيْرَهَا.   " وغير الراغب إن أداه إلى قطع مندوب كره وإلا أبيح، إلا أن يرجو نسلاً، أو خيراً من نفقة على فقيرة فيندب ما لم يؤد إلى حرام وإلا حَرُمَ. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في قوله: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج ". 904 - " باب نكاح الأبكار " 1050 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تزهو بنفسها، وتفخر على غيرها بفضل بكارتها، فقالت: " أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟ " بضم التاء الأولى، وكسر التاء الثانية، وإسكان الراء فيها، وهو مضارع أرتع تقول رضي الله عنها له - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني لو نزلت وادياً فيه أشجار قد رعاها غيرك وأشجار لم يرعها أحد قبلك، ماذا كنت تختار لبعيرك أن يرعاهُ " قال: في التي لم يرتع (1) منها " أي أختار لبعيري أن يأكل من الشجرة التي لم يأكل منها غيره فلما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك " قالت رضي الله عنها: فأنا هيه " كما في رواية أبي نعيم، " تعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكراً غيرها " أي تقصد رضي الله عنها من هذا المثل أنها أفضل نسائه، لأنها البكر   (1) بضم الباء وإسكان الراء وفتح التاء أي لم يؤكل منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 905 - " بَابُ الأكفَاءِ في الدِّينْ " 1051 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ أبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْن رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَْمسٍ، وكان مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبَنَّى سَالِماً وأنْكَحَهُ بِنْتَ أخيهِ هِند بنْتَ الوَلِيدِ بْن عُتْبَةَ وَهُوَ مَوْلى لامْرأة مِنَ الأنْصَارِ كمَا تَبَنَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - زَيداً، وَكَانَ   الوحيدة بينهن فينبغي أن يحبها أكثر من نسائه جميعاً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل الأبكار والترغيب في نكاحهن، لأن البكر مثل الشجرة التي لم يؤكل منها، فهي أرغب وأحب إلى النفس من الشجرة التي أكل منها، وقد جاء الترغيب في نكاح الأبكار في أحاديث كثيرة. منها: حديث عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً، وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير " أخرجه ابن ماجة، والحديث وإن كان راويه عبد الرحمن بن سالم وهو مجهول إلا أنه يؤيده حديث جابر حيث قال له - صلى الله عليه وسلم - هلا بكراً تلاعبها " وفي رواية: " هلا جارية تلاعبها وتلاعبك ". ثانياً: أن حب المباهاة من طبيعة المرأة في كل العصور لم يسلم من ذلك حتى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، كما يدل عليه هذا الحديث. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " في التي لم يرتع منها " حيث يدل على تفضيل البكر، وهو ما ترجم له البخاري. 905 - " باب الأكفاء في الدين " 1051 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث "أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان ممن شهد بدراً مع النبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 من تَبَنَّى رَجُلاً في الجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إليهِ، وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهُ حتَّى أنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ -إلى قوله- وَمَوَالِيكُمْ) فرُدُّوا إلى آبَائِهِمْ، فمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُْ أبٌ كَانَ مَوْلَى وأخَاً في الدِّينِ".   - صلى الله عليه وسلم - تبنى سالماً وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة" أي أن هذا الصحابي الجليل الحسيب النسيب الذي جمع بين شرف النسب وشرف الدين وشهد بدراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى سالم بن معقل وزوّجه ابنة أخيه " هنداً " الحرة الشريفة الكريمة النسب العريقة الأصل " وهو مولى لامرأة من الأنصار " أي والحال أنّه عبد مملوك لامرأة من الأنصار اسمها ثبيتة بنت يعار " كما تبنى النبي - صلى الله عليه وسلم - زيداً " أي زيد بن حارثة، فكان يدعى زيد بن محمد " وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه " أي ألحقوه به نسباً، وأصبح ولداً كأولاده من صلبه " وورث من ميراثه " كولد الصلب تماماً " حتى أنزل الله عز وجل: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) " أي استمر ذلك حتى أنزل الله تعالى قوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ (1) فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فأبطل التبني. فقه الحديث: دل هذا الحديث علي ما يأتي: أولاً: استدل به ابن حزم ومن وافقه من أهل العلم على أن المعوّل عليه في كفاءة النكاح هو الإيمان والدين فقط لأن أبا حذيفة لم تمنعه عراقة نسبه، وشرف منزلته في الجاهلية والإِسلام من تزويج ابنة أخيه الحسيبة النسيبة لعبد مملوك. ولهذا قال ابن حزم ومن وافقه من أهل العلم: لا كفاءة إلاّ في الدين، فلا يجوز للمسلمة أن تتزوج كافراً، أمّا ما عدا ذلك فأي مسلم له الحق أن يتزوج أية مسلمة ما لم تكن زانية أو يكن زانياً ولم يتوبا توبة نصوحاً. وهو مذهب البخاري ورواية عن مالك في   (1) قال أهل العلم: معناه فإن لم تعرفوا شخصاً تنسبونه إليه فقولوا يا أخي أو يا ابن عمي. اهـ. كما في التفسير المنير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 " المدونة " كما في شرح العبدري على متن خليل (1) وهي التي اعتمد عليها الحافظ في قوله: " وجزم مالك باعتبار الكفاءة في الدين خاصة (2). لكن المعتمد عند المالكية أن الكفاءة تعتبر في الدين والحرية والسلامة من العيوب. لقول خليل (3): " والكفاءة في الدين والحال " أي في الدين والسلامة من العيوب. وقال ابن رشد (4): " وأما الحرية فلم يختلف المذهب أنها من الكفاءة. اهـ. ولهذا قال في " الإِفصاح " واختلف الفقهاء في شروط الكفاءة (5)، فقال أبو حنيفة: هي النسب والدين والحريّة وإسلام الآباء والقدرة على المهر والنفقة والصناعة، وقال الشافعي " الكفاءة " ستة: الدين والنسب والحرية والصناعة والبراءة من العيوب والمال في أحد الوجهين، وقال أحمد في الرواية المشهورة عنه، هي خمسة النسب والدين والحرية والصناعة والمال، وعن أحمد رواية أخرى هي النسب والدين فقط. قال ابن قدامة: والدليل على اعتبار النسب في الكفاءة قول عمر رضي الله عنه: لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء قيل له: وما الأكفاء؟ قال: في الأحساب. اهـ. واختلفوا في التفاضل بين القرشيين والهاشميين فالأحناف يرون أن القرشي كفء للهاشمية خلافاً للشافعية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوّج ابنتيه عثمان بن عفان وأبا العاص بن الربيع وهما من بني عبد شمس. قالوا: وشرف العلم دونه كل نسب وكل شرف، فالعالم كفء لأي امرأة مهما كان نسبها وإن لم يكن له نسب معروف لقوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإِسلام إذا فقهوا "   (1) التاج والإكليل لمختصر خليل على هامش الخطاب. (2) " فتح الباري " ج 9. (3) متن خليل في فقه المالكية. (4) " بداية المجتهد " ج 2. (5) " الإفصاح عن معاني الصحاح " لابن هبيرة الحنبلي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 1052 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " تُنْكَحُ الْمَرأةُ لأرْبَع: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينهَا، فاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّيْنِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ".   فجعل الفقه في الدين أعلى الفضائل واستدل الجمهور على اشتراط الحرية في الكفاءة بما ثبت في السنة الصحيحة من تخيير الأمة إذا أعتقت (1) كما أشار إليه ابن رشد. ثانياً: إبطال التبني الذي كان معروفاً ومعمولاً به في الجاهلية وذلك بنزول قوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ). الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في كون أبي حذيفة زوج ابنة أخيه لمولى مع عراقة نسبها وشرفها في الجاهلية والإِسلام. 1052 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " تنكح المرأة لأربع " أي أن من أهم الأشياء التي ترغب الرجل في الزواج من المرأة أربع صفات: الأولى أن تكون غنية فيتزوجها " لمالها " أي طمعاً في ثروتها إما لأنه قد يستغني بها عن الإنفاق عليها، أو لتمكنه من التصرف في مالها، أو لأنه يود أن ينجب منها أولاداً فيعود المال إليهم. الثانية: أن تكون ذات نسب وحسب فينكحها " لحسبها " لكي ينعكس هذا الحسب (2) والنسب على أولادها فتحسن تربيتهم ولأن العرق دساس وللوراثة أثرها الثالثة: أن تكون المرأة جميلة فينكحها " لجمالها " أي لكي يستمتع بحسنها وجمالها. الرابعة: أن تكون المرأة ذات دين وصلاح، فيتزوجها " لدينها " وصلاحها، وهو أسمى المقاصد، لأن المرأة   (1) كما جاء في حديث عائشة قالت: " كان في بريرة ثلاث سنن عتقت فخيّرت، أي أول هذه السنة أنها لما عتقت خيّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تبقى تحت زوجها، وهو مولى، أو يفسخ نكاحها، وهذا يدل على أن الأمة تحت العبد إذا أعتقت لها الخيار في فسخ نكاحها، وهو مذهب الجمهور. (2) والحسب كل ما يفتخر به الإنسان من مركز أو جاه أو نسب شريف وأسرة عريقة وقيل: المراد بحسبها أفعالها الجميلة وأخلاقها الكريمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 الصالحة من أعظم نعم الدنيا، ولذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بالمبادرة إليها وتفضيلها على غيرها، حيث قال: " فاظفر بذات الدين " أي فاحرص على أن تفوز بالمرأة الصالحة المتدينة لأنها خير متاع الدنيا إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك وعرضها. " تربت يداك " ومعناه في الأصل افتقرت يداك، والمراد به هنا التحذير الشديد من مخالفة هذه النصيحة الغالية، وأن من خالفها وتزوج بغير ذات الدين. خسر كل المزايا التي لا تتوفر إلاّ في المرأة الصالحة من سعادة وطاعة وإخلاص، ووفاء وأمانة، واحترام لزوجها، ومراعاة لمشاعره، وحسن تربية لأولادها، ومحافظة على مال زوجها، وصيانة لعرضها، وهذا هو المقصود بقوله: " تربت يداك ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أهم الصفات والمزايا التي يطلبها الرجل في المرأة المال والحسب والجمال والدين، فمن رغب في امرأة طمعاً في مالها، فإن هذا غرض خسيس تأباه النفوس الكريمة أما الرغبة في المرأة لحسبها ونسبها، فإنه لا شك أنه غرض نبيل، لأن العرق دساس، وللوراثة أثرها دون شك، أما الجمال فإن النفس البشرية تميل إليه بطبيعتها وفطرتها، وقد يكون سبباً للوفاق بين الزوجين. ثانياً: الترغيب في الزوجة الصالحة، وتفضيلها على غيرها، لأن من فقد المرأة الصالحة فقد كل شيء كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاظفر بذات الدين تربت يداك " فقد سمّى النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح ذات الدين ظفراً - أي فوزاً وفلاحاً، وحذر من نكاح المرأة التي لا دين لها، لأن نكاحها فقرٌ وإن حسبه غنى، وخسارة وإن ظنه كسباً. وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من تزوج المرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلاً، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقراً، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلاّ دناءة، ومن تزوج امرأة لم يتزوجها إلاّ ليغض بصره، أو يحصن فرجه، أو يصل رحمه بارك الله له فيها، وبارك لها فيه " أخرجه الطبراني في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 906 - " بَابُ يُتَّقَى من شُؤْمِ الْمَرْأةِ وقوله تعالى (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) " 1053 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجَالَ مِنَ النِّسَاءِ ".   الأوسط (1). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يردِيَهُنُّ، ولا تزوجوهن لمالهن فعسى مالهن أن يطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرقاء سوداء ذات دين أفضل " أخرجه ابن ماجة (2). وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله " أخرجه ابن ماجة (3). الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فاظفر بذات الدين تربت يداك ". 906 - " باب ما يتقى من شؤم (4) المرأة وقوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) " 1053 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركت بعدى فتنة   (1) قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4/ 254) وفيه عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب الكلاعي الدمشقي، وهو ضعيف. (ع). (2) وفي مسنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهو ضعيف. (ع). (3) وفي مسنده علي بن يزيد الألهاني ويكفي الحديث الصحيح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فاظفر بذات الدين تربت يداك ". (ع). (4) والمراد بشؤم المرأة إغواءها للرجل وهذا في بعض النساء فقط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 907 - " بَابٌ (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ " 1054 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا: أنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِن في بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِن في بَيْتِكَ، فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أراهُ فلاناً "   أضر على الرجال من النساء" أي لا أحد أقدر على فتنة الرجل وإغوائه من المرأة السوء، لقوة تأثيرها عليه عاطفياً، ولذلك فإن المرأة إذا كانت صالحة أصلحت زوجها غالباً، أو زادته صلاحاً، أو خففت من فساده وإن كانت فاسدة أفسدته غالباً إلاّ من عصمه الله بقوة الدين والعزيمة والإرادة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المرأة تملك من التأثير على الرجل ما لا يملكه سواها، وتستخدم أقوى سلاح لها في التأثير عليه والهيمنة على تصرفاته وسلوكه، وهو قوة حبه لها، ولذلك قدم الله النساء على سائر الشهوات الأخرى، فقال: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) فقدَّمهن على الولد الذي هو مهجة القلب، ثانياً: التحذير الشديد من الانقياد للمرأة والاستجابة لكل رغباتها، لأنها أشد الفتن، وأخطرها على الرجال، فإذا استجاب لرغباتها كلها أضلته عن سواء السبيل لنقصان عقلها وشدة اندفاعها، وانسياقها مع عواطفها. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على شدة ضرر المرأة. 907 - " باب (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " 1054 - معنى الحديث: أن عائشة رضي الله عنها تحدثنا في هذا الحديث " أنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة " أي يطلب الإذن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فسألتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ فُلانٌ حَيَّاً لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ دَخَلَ عَلَيَّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، الرَّضاعَةُ تُحَرمُ مَا تُحَرِّمُْ الوِلادَةُ ".   بالدخول إلى بيت حفصة رضي الله عنها " قالت: فقلت يا رسول الله سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه فلاناً لعم حفصة من الرضاعة " أي أظنه فلاناً الذُي هو عم حفصة من الرضاعة " قالت عائشة: لو كان فلان حياً لعمها من الرضاعة دخل علي " أي لو كان فلان ... الذي هو عمي من الرضاعة موجوداً على قيد الحياة لجاز له الدخول عليَّ قال بعض أهل العلم: أرادت بقولها لو كان فلان حياً " أفلح " أخا أبي القعيس عمها من الرضاعة، " قال نعم " أي لو كان عمك من الرضاعة حياً لدخل عليك " الرضاعة تحرّم ما تحرم الولادة " وفي رواية يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة .. أخرجه مسلم وأبو داود والشافعي ومعناه: يحرم من أجل الرضاعة ما يحرم من أجل الولادة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يحرم من الرضاع الأصناف المحرمة من الولادة والنسب، فتحرم الأم من الرضاعة والجدّة والأخت الشقيقة (1)، والأخت لأب والأخت لأم، والعمة من الرضاعة، والخالة من الرضاعة، وغيرهم وهكذا يحرم من الرضاع كل ما يحرم من النسب. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ". ...   (1) أي أخت أختك أو أخيك الشقيقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 908 - " بَابُ مَنْ قَالَ لا رَضَاعَ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ " 1055 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا رَجُلٌ فكأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، كأنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إنَّهُ أخِي، فقَالَ: انْظرنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ، فإنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ ".   908 - " باب من قال لا رضاع بعد الحولين " 1055 - معنى الحديث: تروي عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها رجل " قال الحافظ: وأظنه ابناً لأبي القعيس " فكأنه تغير وجهه، كأنه كره ذلك " وفي رواية أبي داود " فشق ذلك عليه، فتغير وجهه " فقال: يا عائشة ما هذا؟ " فقالت: إنه أخي " وفي رواية أبي داود: إنه أخي من الرضاعة " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظرن من إخوانكن " أي دققن النظر في سبب هذه الأخوة، وكيف وقعت هذه الرضاعة، فليست كل رضاعة تحرِّم، " إنما الرضاعة من المجاعة " أي إنما الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، ما تكون من المجاعة، حين يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته، وينبت لحمه بذلك، فيصير كجزء من أجزاء المرضعة ويصبح كسائر أولادها في الحرمة. قال الخطابي: معناه أن الرضاعة التي تقع بها الحرمة ما كانت في الصغر، والرضيع طفل يقويه اللبن، ويسد جوعه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الرضاعة المعتبرة شرعاً في تحريم الرضيع هي المغنية من المجاعة التي تكون في مدة الرضاع قبل تمام الحولين، ويؤيده حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: " لا يحرم من الرضاع إلاّ ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام " أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 الرضاعة لا تحرّم إلاّ ما كان دون الحولين (1) وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم شيئاً، وهو مذهب الجمهور في اختلف العلماء في حد الصغر (2) فقال الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: مدة الرضاع المحرِّم حولان، ولا يحرم ما وقع بعدهما، ورواه ابن وهب عن مالك، ودليل أن مدة الرضاع حولين قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) وقال أبو حنيفة في المشهور عنه: " مدة الرضاع المؤثرة في التحريم ثلاثون شهراً من وقت الولادة واستدل له بقوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) حيث أفادت الآية أن مدة كل منهما ثلاثون شهراً، وأجاب الجمهور أن ظاهر الآية يدل على أن الثلاثين شهراً هي مدة للحمل والفصال معاً. وذهب الظاهرية إلى أنه يثبت التحريم برضاع الكبير، مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة أبي حذيفة في حق سالم: " أرضعيه فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة، وأجاب الجمهور بأن هذه رخصة استثنائية خاصة لهم دون غيرهم. ثانياً: أن مجرد التغذية بلبن المرضعة يحرّم سواء كان بشرب أو مص أو حقن أو سعوط أو غيره، وهو قول الجمهور: وقالت الظاهرية: الرضاعة المحرمة بالتقام الثدي ومص اللبن منه (3)، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنما الرضاعة من المجاعة ". ...   (1) " جامع الترمذي ". (2) " تكملة المنهل العذب " ج 3. (3) وقد روى مسلم في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن " فلذلك كانت خمس رضعات مشبعات يحرمن وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 909 - " بَابُ نِكَاحِ الشِّغارِ " 1056 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الشِّغَارِ، والشِّغَارُ أن يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أن يُزَوّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاق ".   909 - " باب نِكاح الشِّغار " والشغار لغة: الخلو، من شغر البلد، إذا خلا، فسمى هذا النكاح شغاراً لخلوه من المهر، ولذلك نجد أنّ الشغار شرعاً هو أن ينكح الرجل المرأة التي تحت ولايته (1) لرجل آخر على أن ينكحه الآخر المرأة التي تحت ولايته بدون صداق، وهو من الأنكحة التي كانت مستعملة معروفة في الجاهلية فأبطلها الإسلام. 1056 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر في هذا الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح الشغار " أي أنّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح الشغار، " والشغار أن يزوج الرجل ابنته " أو أخته مثلاً لرجل آخر " على أن يزوجه " الرجل " الآخر ابنته " أو أخته مثلاً " ليس بينهما صداق " أي ليس بينهما مهر. قال الشافعي: " لا أدري تفسير الشغار في الحديث بهذا التفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من ابن عمر أو من نافع أو من مالك ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم نكاح الشغار، لأن النهي للتحريم، وهو قول الجمهور، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته، فالجمهور على البطلان، وذهب الحنفية إلى صحته، ووجوب مهر المثل، وهو رواية عن أحمد، وقول على مذهب   (1) سواء كانت بنتاً أو أختاً أو أي امرأة يلي أمرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 910 - " بَابٌ نَهْي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ آخِراً "   الشافعي (1) ومنشأ الخلاف هل النهي معلل بعدكم العوض أو غير معلل، فإن كان غير معلل لزم الفسخ على الإِطلاق، وإن كان معللاً بعدم الصداق صح بفرض صداق المثل (2) وهو مذهب الحنفية، لأن الفساد من قبل المهر لا يوجب فساد العقد (3)، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، لأن النهي عن الشغار محمول على عدم مشروعيته اتفاقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا شغار في الإِسلام (4)، وما دام غير مشروع فهو باطل. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قول ابن عمر رضي الله عنهما: "نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار". 910 - " باب نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخراً " قال الحافظ: وقول البخاري " آخراً " يفهم منه أنه كان مباحاً، وأن النهي عنه وقع آخر الأمر، وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك. قال الحافظ: وقد وردت عدة أحاديث صحيحة صريحة بالنهى عنها بعد الأذن فيها، وأقربها عهداً بالوفاة النبوية ما أخرجه أبو داود عن طريق الزهري قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجل يقال له ربيع بن سبرة: أشهد على أبي أنه حدّث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها في حجة الوداع. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: " رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها، أخرجه مسلم وأحمد (5).   (1) " تحفة الأحوذي شرح الترمذي " ج 4. (2) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي. (3) " تكملة المنهل العذب المورود في شرح سنن أبي داود " ج 3. (4) أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه، وهو حديث صحيح. (ع). (5) وفي " صحيح مسلم " عن ربيع بن سبرة عن أبيه سبرة الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم الفتح (يعني فتح مكة) عن متعة النساء، وفي رواية أخرى عند مسلم عن سبرة الجهني "نهى عن المتعة وقال: ألا وإنها حرام = الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 1057 - عَنْ عَلِيٍّ بنِ أبي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ لاْبنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " إِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ ".   1057 - معنى الحديث: أن البخاري يروي بسنده المتصل " عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن عباس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة " أي عن نكاح المتعة، وهو النكاح المؤقت (1) بأن يقول لامرأة: أتمتع بك لمدة كذا، فيتزوجها لمدة عشرة أيام أو عشرين يوماً مثلاً " وعن لحوم الحمر الأهلية " أي ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الأهلية كما جاء في رواية أخرى للبخاري " وعن أكل الحمر الأنسية " " زمن خيبر " أي وكان النهي عن المتعة والحمر الأهلية في غزوة خيبر وقد اختلفت الروايات في وقت تحريمها، ففي بعض الروايات أن المتعة حُرّمت يوم خيبر، وفي بعضها حرمت في فتح مكة، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء ولذلك ذهب بعضهم إلى إنكار بعض الروايات حتى قال ابن عبد البر: وذكر النهي عن المتعة يوم خيبر غلط، وقال السهيلي: النهي عن المتعة يوم خيبر لا يعرفه أحد من أهل السير، ولكن التحقيق في ذلك ما ذهب إليه الإِمام النووي: واختاره من الجمع بين هذه الروايات حيث قال رحمه الله تعالى: " والصواب المختار أن التحريم والإِباحة كانا مرتين كانت حلالاً قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة،   = من يومكم هذا إلى يوم القيامة"، وقد قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " الرواية عن سبرة الجهني بأنها في الفتح أصح وأشهر. (ع). (1) سواء كان مؤقتاً بمدة معلومة كسنة أو مجهولة كقدوم زيد، وسواء كان بلفظ التمتع والاستمتاع أو بلفظ النكاح والزواج. ولا دليل على أن نكاح المتعة الذي أباحه - صلى الله عليه وسلم - ثم حرمه هو ما اجتمع فيه (م ت ع) وليس معناه أن يخاطبها بلفظ أتمتع، أو نحوه، لأن اللفظ يطلق ويراد معناه. اهـ. كما في " أوجز المسالك " ولهذا عرّفه أكثر الفقهاء بأنه النكاح إلى أجل. فقال الباجي: هو النكاح المؤقت، وقال ابن قدامة: هو أن يتزوج المرأة مدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة". فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن نكاح المتعة كان مباحاً مشروعاً أول الإِسلام ثم حرّم. أما كيف كانت مشروعيته، وهل كان حكماً عاماً أو خاصاً فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن نكاح المتعة كان رخصة استثنائية في حال السفر فقط. كما جاء في حديث قيس بن حزام قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس معنا نساء، فأردنا أن نختصى، فنهانا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رخص لنا أن ننكح المرأة إلى أجلٍ بالثوب. ولهذا قال الحازمي: وإنما كان ذلك في أسفارهم، ولم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباحه لهم وهم في بيوتهم، ولهذا نهاهم عنه غير مرة، وأباحه لهم في أوقات مختلفة، حتى حرّمه عليهم في فتح مكة، وهو أصح الأقوال حيث حرمه تحريم تأبيد لا تأقيت فيه، فلم يبق اليوم في ذلك خلاف بين فقهاء الأمصار إلا شيئاً ذهب إليه الشيعة، ويروى أيضاً عن ابن جريج، وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول بجواز نكاح المتعة، فالصحيح أنه رجع عن رأيه هذا، قال الترمذي: وإنما روي عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة، ثم رجع عن قوله حيث أخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). اهـ. وقال الخطابي: وكان ابن (2) عباس رضي الله عنهما يتأول في إباحته للمضطر إليه بطول العزوبة وقلة اليسار، ثم توقف عنه وأمسك عن الفتوى به، فعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: هل تدري ما صنعت وبما أفتيت؟ قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيه الشعراء قال: وما قالت؟ قلت قالوا: قَدْ قُلْتُ للشيخ لَمَا طَاْل مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَل لَكَ في فُتْيَا اْبنِ عَبَّاسِ هَلْ لَكَ في بَيْضاءَ بَهْكَنَةٍ ... تَكُونُ مَثْوَاكَ حَتَّى مَصْدَرِ النَّاسِ   (1) " صحيح الترمذي ". (2) " تكملة المنهل العذب " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 911 - " بَابُ النَّظَرِ إلى المَرْأةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ " 1058 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ جِئْتُ   فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون. والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت، ولا حللت إلاّ مثل ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير، وما تحل إلا للمضطر، وقد جزم بعض أهل العلم بإجماع المسلمين على تحريم المتعة. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم -أي حرم نكاح المتعة- ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها، إلاّ من لا يلتفت إليه من الروافض، وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإِجماع إلاّ عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صح عن عليٍّ أنها نسخت، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد الصادق أنه سئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه (1) هذا وقد اختلف العلماء فيمن نكح نكاح المتعة هل يقام عليه الحد أم لا؟ فعند أكثر أهل العلم لا يجب الحد في نكاح المتعة كما أفاده ابن قدامة حيث قال: " لا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة وغيرها، وهذا قول أكثر أهل العلم، فإن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ الشبهات (2)، وروي عن مالك أنه قال: فيه الحد، ويعاقب إن كان عالماً بمكروه ذلك (3). اهـ. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قد أذن لكم أن تستمتعوا ". 911 - " باب النظر إلى المرأة قبل التزويج " 1058 - معنى الحديث: أن سهل بن سعد يحدثنا "أن امرأة (4) جاءت   (1) " أوجز المسالك إلى موطأ مالك " ج 9. (2) " أوجز المسالك " أيضاً. (3) " أوجز المسالك " أيضاً. (4) وفي الأحكام لابن القطاع أنها خولة بنت حكيم، أو أم شريك، قال الحافظ: وهو باطل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 لأهبَ لَكَ نَفْسِي، فَنَظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَعَّدَ النَّظرَ إليْهَا وَصَوَّبَهُ، ثمَّ طَأطَأ رَأسَهُ، فَلَمَّا رَأت الْمَرأة أنَّهُ لَمْ يَقْضِ فيها شَيْئَاً جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ من أصْحَابِهِ فَقَالَ: أيْ رَسُولَ اللهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ: " وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ "، قَالَ: لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " اذْهَبْ إلى أهْلِكَ فانْظر هَلْ تَجِدُ شَيْئاً " فَذَهَبَ ثم رَجَعَ فَقَالَ: لا واللهِ يا رَسُولَ اللهِ، مَا وَجَدْتُ شَيْئَاً، قَالَ: انْظر وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ، فَذَهَبَ ثم رَجِعَ فقالَ: لا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ولا خَاتَماً مِنْ   إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي" أي لأعرض عليك نفسي بدون مهر " فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعّد النظر إليها وصوّبه " أي فرفع إليها بصره، وشخص فيها بعينيه، وتفحصها جيداً، ثم خفض بصره عنها، " ثم طأطأ رأسه " أي أرخى رأسه ولم يرد عليها بشيء لم تعجبه، " فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً " أي فلما لم يجاوبها بشيء " جلست " تنتظر ما يقول لها، أو ما يتصرف في شأنها " فقام رجل (1) من أصحابه فقال: أي رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها " أي إذا لم تكن لك فيها رغبة فإني أرغب في زواجها " فقال: وهل عندك شيء " أي هل يوجد لديك ما تقدمه صداقاً لها كما في رواية " الموطأ " حيث جاء فيها: " هل عندك شيء تصدقه إياها " " قال: لا والله يا رسول الله " أي لا يوجد لدي شيء من المال أقدمه صداقاً " قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً " أي لعلهم يعينونك فيعطونك شيئاً من المال تقدمه صداقاً " فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله مما وجدت شيئاً " أي لم يعطوني شيئاً من المال أستعين به على صداقها "قال:   (1) وفي رواية عند الطبراني أحسبه من الأنصار. اهـ. كما أفاده في " أوجز المسالك ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 حَدِيد، ولكنْ هَذَا إزارِي فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وِإنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيءٌ" فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ، ثم قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - مُوَلِّياً، فأمَرَ بِهِ فَدُعِيَ، فلمَّا جَاءَ قَالَ: مَاذَا مَعَكَ مِنَ القُرآنِ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وسُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عَدَّدهَا، قَالَ: " أتقْرؤهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " اذهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بمَا مَعَكَ مِنَ القُرآنَ ".   انظر ولو خاتماً من حديد" وفي رواية " فالتمس ولو خاتماً من حديد " " فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد " أي لم أجد شيئاً ولا خاتماً من حديد " ولكن هذا إزاري فلها نصفه " صداقاً لها وفي رواية ليس عندي إلاّ إزاري هذا " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك شيء " أي فلا يجوز لك أن تسلم إزارك لها لما يؤدي إليه ذلك من كشف العورة وهو محرم شرعاً " فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولياً " أي فرآه - صلى الله عليه وسلم - منصرفاً من المجلس بعد أن يئس من المرأة " فأمر به فدعي، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن، قال: معي سورة كذا وسورة كذا " وفي رواية أبي هريرة قال: " ما تحفظ من القرآن " قال سورة البقرة أو التي تليها. أخرجه أبو داود والنسائي " فقال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن " أي زوجتك إياها بتعليمك لها بعض ما تحفظه من القرآن، لما جاء في رواية أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " فقم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك " أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز للرجل النظر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 لمن يريد أن يتزوج بها، ولو بلا إذنها، قال في تكملة المنهل العذب: ولا نعلم في ذلك خلافاً. والحكمة فيه أنّه أدعى لحسن العشرة، وبقاء الزوجية، وروى المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم (1) بينكما " أخرجه النسائي وابن ماجة والترمذي، وقال: هذا حديث حسن، وإليه ذهب بعض أهل العلم فقالوا: لا بأس أن ينظر إليها ما لم ير منها محرّماً، وهو قول أحمد وإسحاق. قال النووي: فيه استحباب النظر إلى من يريد تزوجها، وهو مذهبنا، ومذهب مالك، وأبي حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء، وحكى القاضي عن قوم كراهته، وهذا مخالف لصريح هذا الحديث، ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة، ثم إنه إنما يباح النظر إلى وجهها وكفيها فقط، لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يستدل بالوجه على الجمال، وبالكفين على خصوبة البدن، أو عدمها هذا مذهبنا ومذهب الأكثرين وقال داود: ينظر إلى جميع بدنها، وهذا خطأ ظاهر، منابذ لأصول السنة والإجماع، ثم مذهبنا -أي الشافعية- ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه لا يشترط في جواز النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، لكن قال مالك: أكره نظره في غفلتها مخافة من وقوع نظره على عورة. ثانياً: دل الحديث على أنه لا بد في النكاح من الصداق لقوله: " وهل عندك شيء " وعلى أنه يكفي في المهر أقل ما يتمول (2)، ولهذا قال الشافعي وأحمد: لا حد لأقل المهر، وكل ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون مهراً، وقال (3) أبو حنيفة ومالك: يقدر بما تقطع فيه يد السارق مع اختلافهما في قدره، فهو عند أبي حنيفة عشرة دراهم أو دينار، وعند مالك ربع دينار، واختلفوا هل يفسد النكاح بفساد الصداق أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفسد النكاح بفساد المهر   (1) أي أن تدوم المودة بينكما. (2) " تكملة المنهل العذب " ج 3. (3) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 912 - " بَابُ مَنْ قَالَ: لا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ " 1059 - عَنْ مَعْقَل وبْنِ يَسَار رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: زَوَّجْتُ أخْتَاً لِي مِنْ رَجُل، فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إذا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، جَاءَ يخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ، وَفَرَّشْتُكَ، وأكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا واللهِ لا تَعُودُ إليْكَ أبداً، وَكَانَ رَجُلاً لا بَأسَ بِهِ،   وعن مالك وأحمد روايتان. ثالثاً: دل الحديث على جواز جعل تعليم القرآن صداقاً، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد (1)، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فقد ملكتكها بما معك من القرآن. وقال أبو حنيفة ومالك والليث وأحمد في رواية: لا يجوز، بل لا بد أن يكون الصداق مالاً لقوله تعالى: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) والطول المال. الحديث: أخرجه الستة مع اختلاف في بعض ألفاظه. والمطابقة: في قوله: " فنظر إليها رسول الله ". 912 - " باب من قال لا نكاح إلا بولي " والولي: هو كل ذكر مسلم حرٍّ مكلف، يحق له أن يقوم بعقد نكاح المرأة على غيرها، بعد إذنها لسبب من الأسباب الشرعية التي تخول في ذلك، وهي القرابة والولاء والإِمامة. 1059 - معنى الحديث: يقول معقل بن يسار " زوجت أختاً لي من رجل، فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها، جاء يخطبها " أي فلما انتهت عدتها، وبانت منه جاءني يطلب إرجاعها " فقلت له: زوجتك وفرشتك " أي جعلتها لك فراشاً " فطلقتها " وأهنت كرامتها "ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 وكَانَتْ الْمَرْأةُ تُرِيدُ أنْ تَرْجِعَ إليْهِ، فأنْزَلَ اللهُ هَذه الآيَةَ (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) فَقُلْتُ: الآنَ أفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا إيَاهُ".   إليك أبداً" وفي رواية الترمذي فقال: " يا لكع أكرمتك بها، وزوجتك إياها فطلقتها، والله لا تعود إليك أبداً " الخ " وكان رجلاً لا بأس به " أي حسن السمعة لا عيب في دينه أو خلقه " وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه " أي ترغب في العودة إليه، لأنها تحبه " فأنزل الله " عز وجل (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) أن ينكحن أزواجهن، أي لا تمنعوهن من العودة إلى أزواجهن عند انقضاء عدتهن. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم العضل، فلا يجوز لولي المرأة المطلقة أن يمنعها من العودة إلى زوجها بعد انقضاء عدتها إذا طلب الزوج عودتها إليه، ورغبت المرأة في ذلك. ثانياًً: أنه لا يجوز نكاح المرأة سواء كانت بكراً أو ثيباً إلا بولي، لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيباً، واحتاجت في رجوعها لزوجها إلى موافقة وليها، ولو كان لها أمر نكاحها بدون وليها لزوجت نفسها دون حاجة إليه، وإنما خاطب الله في الآية الأولياء بقوله: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) لأن أمر الزواج بيد الأولياء مع موافقة المرأة، قال الحافظ: والآية أصلح دليل على اعتبار الولي في النكاح، وإلّا لما كان لعضله معنى، وقد وردت في ذلك أحاديث صريحة تدل على توقف النكاح على وجود الولي، فقد روى أبو موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا نكاح إلّا بولي "، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما امرأة - نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له " إلخ أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة. قال ابن رشد: (1) واختلف العلماء هل الولاية شرط لصحة النكاح، فذهب   (1) " بداية المجتهد " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 913 - " بَاب لا يُنْكِحُ الأبُ ولا غَيْرُهُ البِكْرَ والثَّيِّبَ إلَّا بِرِضَاهُمَا " 1060 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتَّى تُسْتَأمَرَ، ولا تُنْكَحُ البِكْرُ حتى تُسْتَأذَنَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ ".   مالك إلى أنه لا يكون نكاح إلاّ بولي، وأنه شرط في صحة النكاح في رواية أشهب عنه، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفأ جاز. اهـ. وهذا الحديث أقوى حجة على اعتبار الولي والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة كما أوضحناه. 913 - " باب لا ينكح الأب ولا غيره البكر والثيب إلاّ برضاهما " 1060 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنكح الأيّمُ " بالبناء للمجهول وبكسر الحاء على أن لا ناهية، ويجوز رفع الفعل على أنّها نافية، وفي رواية أخرى: " لا تنكح الثيب حتى تستأمر " أخرجه الترمذي، والأيم والثيب معناهما واحدٌ، وهي التي ليست بكراً. " حتى تستأمر " أي حتى تستأذن استئذاناً صريحاً، إذ (1) الاستئمار طلب الأمر، والأمر لا يكون إلاّ بالنطق، والمعنى: لا يجوز للولي أن يُزَوّجَ الثيب إلاّ بعد أخذ موافقتها الصريحة بصريح القول بأن تقول رضيت أو قبلت، أو أي عبارة تدل على الموافقة " ولا تنكح البكر حتى تستأذن " بالبناء للمجهول. وكسر " (2) الحاء كما في الجملة   (1) " تحفة الأحوذي " ج 4. (2) أيضاً " تحفة الأحوذي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 السابقة. والبكر هي التي لم تُزَل بكارتها أصلاً، أو زالت بوثبة أو حيضة، أي ولا يجوز للولي أن يزوّج البكر البالغة إلاّ بإذنها وموافقتها ولكن لا يلزم أن تأذن بصريح القول، لأنها يغلب عليها الحياء بل يكفي منها كل ما يدل على رضاها ولو بإشارة، أو سكوت، ولهذا لمّا " قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ " أي وكيف يكون إذنها؟ وهل يلزم أن يكون بصريح القول كالثيب؟ " قال: أن تسكت " كذا في رواية البخاري وأبي داود وغيره من الصحاح، وفي رواية الترمذي: " وإذنها الصموت " أي السكوت أي أنه يكتفى منها بسكوتها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه لا يجوز للولي أن يزوج المرأة التي تحت ولايته إلاّ بإذنها سواء كانت بكراً أو ثيباً، فإن كانت ثيباً عبّرت عن رضاها بصريح القول، بأن تقول أي كلمة صريحة تدل على الرضا، حتى كأنها تأمر وليها بتزويجها منه، لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: تستأمر .. معناه حتى يؤخذ أمرها بذلك. وإن كانت بكراً فإنها تستأذن بكل ما يدل على رضاها ولو بالسكوت. لاستحيائها، لأنها (1) لو تكلمت صريحاً لظن أنها راغبة في الرجال، وهذا لا يليق في البكر واستحب العلماء أن تعلم أن صماتها إذن. اهـ. فيستدل على رضاها بسكوتها، أما رفضها فلا بد فيه من اللفظ الصريح كما أفاده ابن رشد. هذا وقد اتفق أهل العلم على وجوب استئذان الثيب، وأنها لا تزوج إلاّ برضاها كما اتفقوا على أن البكر إذا كان وليها غير أبيها لا بد من رضاها وإذنها، إلا أن إذنها سكوتها، واختلفوا في البكر البالغة التي يكون وليها أبوها، فقال الشافعي وابن أبي يعلى (2) وأحمد وإسحاق وغيرهم: إن كان الولي أباً أو جدَّاً كان الاستئذان مندوباً إليه، ولو زوجها بغير استئذانها صَحَّ، وإن كان غيرهما من الأولياء وجب الاستئذان، ولم يصح نكاحها قبله، وقال الأوزاعي وأبو حنيفة   (1) " أوجز المسالك " ج 9. (2) " تحفة الأحوذي " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 وغيرهما: يجب الاستئذان في كل بكر بالغة. اهـ. كما أفاده النووي، ومذهب مالك كالشافعي فقد روى مالك في " الموطأ " عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله أنهما كانا ينكحان بناتهما الأبكار ولا يستأمرانهن، ثم قال مالك بعد هذا: وعلى ذلك الأمر عندنا في نكاح الأبكار وأما العانس فاختلف قول مالك في إجبارها وقال الحسن البصري: نكاح الأب جائز على ابنته، ولو ثيباً كرهت، والصحيح قول جمهور العلماء أن الثيب إذا زوّجها أبوها بدون إذنها فكرهت ذلك فسخ نكاحها لما أخرجه البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية رضي الله عنها أن أباها زوجها وهي ثيّب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ْفرد نكاحه، وإن وافقت على ذلك فقال أبو حنيفة يصح نكاحها، وذهب الشافعي وأحمد إلى بطلانه واختلفوا في البكر البالغة فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أن لأبيها إجبارها (1) وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق ودليلهم ما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن وإذنها صماتها " فحيث قسم النساء قسمين، وأثبت لاحداهما الحق، دل على نفيه عن الأخرى وهي البكر، فيكون وليها أحق فيها، الرواية الثانية عن الإمام أحمد ليس له إجبارها، وهو مذهب الإمام أحمد والأوزاعي والثوري وأبي ثور واختار هذه الرواية ابن تيمية وابن القيم والعلامة السعدي والشيخ بابطين مفتى الديار النجدية في عصره (2) ودليل عدم إجبار البكر نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تزويجها بدون إذنها فلو لم يكن إذنها معتبراً ما جعله غاية لإِنكاحها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنكح البكر حتى تستأذن " فإن زوّجها أبوها بدون إذنها فالمشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد أن النكاح صحيح وإن كرهت ذلك وقال أبو حنيفة ومن وافقه: إذا لم ترض بذلك فالنكاح مفسوخ   (1) " تيسير العلام " ج 2. (2) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 914 - " بَابُ مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا أتى أهْلَهُ " 1061 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أمَا لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأتِي أهْلَهُ: بِسْمَ اللهَ، اللَّهُمَّ جَنبنِي الشَّيْطَانَ، وَجنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، ثمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا في ذَلِكَ، أو قضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أربداً ".   لما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أن جارية بكراً أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " والبكر تستأذن " أخرجه أبو داود وابن ماجة. والله أعلم. اهـ. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة. 914 - " باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله " 1061 - معنى الحديث: يرغبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نأتي بالبسملة وهذا الدعاء المبارك عند الجماع صيانة لأنفسنا وأولادنا من إيذاء الشياطين، فيقول: " أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله " أي عندما يجامع زوجته " بسم الله اللهم جنبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا " أي اللهم باعد بيني وبين الشيطان، وباعد بينه وبين كل ما أعطيتنا إياه في هذه الليلة من الولد " ثم قدر بينهما في ذلك " أي فإن قال ذلك ثم قدر الله لهما من ذلك الجماع ولداً " لم يضره شيطان أبداً " أي فإن ذلك الولد يكون في عصمة الله محفوظاً من الشيطان مدة حياته، فلا يمسّه بأذى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب التسمية، وذكر الدعاء المأثور عند الجماع، لأن المولود الذي ينشأ عن ذلك لا يضره الشيطان ولا يقربه ولا يكون له عليه أي سلطان، وفيه بشارة بأنه يموت على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 915 - " بَابُ الوَلِيمَةِ وَلَوْ بِشَاةٍ " 1062 - عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " مَا رَأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أولَمَ عَلَى أحدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ، أوْلَمَ بِشَاةٍ ".   الإِيمان والتوحيد ولا يصاب (1) بالصرع مدة حياته. وقيل: لا يضره في بدنه جسمياً ولا نفسياً. ثانياًً: أن الشيطان ملازم لابن آدم لا يطرده عنه إلاّ ذكر الله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة والترمذي، والنسائي في " عمل اليوم والليلة ". والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترغيب في التسمية وذكر هذا الدعاء المأثور. 915 - " باب الوليمة ولو بشاة " 1062 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يولم في كل أعراسه أي يقدم للناس طعاماً بعد دخوله على عروسه، لكن " ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من نسائه ما أولم على زينب أولم بشاة " أي ما صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً لعرس من أعراسه مثل الطعام الذي صنعه في عرسه على زينب بنت جحش حيث أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرسه عليها بشاة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الوليمة، وهل هي واجبة أو سنة؟ اختلف الفقهاء في حكمها، فقال بعضهم: الوليمة واجبة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: " أولم ولو بشاة " حيث أمر بالوليمة، والأمر يقتضي الوجوب، وهو ما حكاه ابن حزم عن أهل الظاهر، ورواه القرطبي   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 916 - " بَابُ حَقِّ إِجَابَةِ الَولِيمَةِ والدَّعْوَةِ " 1063 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأتِهَا ".   عن مالك وابن التين عن أحمد، وحكاه في " البحر " عن أحد قولي الشافعي، قالوا: " ومما يؤكد وجوبها حديث بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي رضي الله عنه لما خطب فاطمة رضي الله عنها: " أنه لا بد للعروس من وليمة " وسنده لا بأس به كما قال الحافظ، لكن الذي عليه جمهور السلف والخلف أن الوليمة سنة، وأن الأمر في قوله: " أولم ولو بشاة " للاستحباب لكونه أمر بشاة، وهي غير واجبة اتفاقاً، ولأن الوليمة كالأضحية فتقاس عليها. ثانياً: أن هذا الحديث يفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم في بقية نسائه بغير لحم، وهذا يدل على أنه لا يلزم في الوليمة أن تكون بشاة، وأنه لا حد لأقل الوليمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يولم بشاة إلّا في زوجته زينب رضي الله عنها، أما في غيرها فقد أولم على صفية بحيس، وعلى بعض نسائه بمدين من شعير، ولهذا قال جمهور أهل العلم: لا حد لأكثر الوليمة ولا لأقلها، ومهما تيسر أجزأ. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم -: أولم على نسائه، وهذا يدل على مشروعية الوليمة. 916 - " باب حق إجابة الوليمة والدعوة " 1063 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم - " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها " أي إذا دعاه أحد المسلمين إلى طعام عرس فليجب دعوته كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما " إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب " أخرجه مسلم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس خاصة، وهو قول المالكية والحنفية والحنابلة، أما الولائم الأخرى والدعوات الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 917 - " بَابٌ إِذَا تزَوَّجَ البِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ " 1064 - عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَلَوْ شِئْتُ أنْ أقُولَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وَلَكِنْ، قَالَ أنَسُ: السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ أقامَ عِنْدَهَا سَبْعَاً، وِإذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أقَامَ عِنْدَهَا ثلاثاً ".   الأخرى فلا يجب إجابة الدعوة إليها، لأن الوليمة إذا أطلقت حملت على طعام العرس فقط. قال الزرقاني (1): المراد وليمة العرس كما حمله مالك في " المدونة " وغيره، لأنها المعهودة عندهم (2) وذهب بعض الشافعية إلى وجوب الإِجابة لكل دعوة، وهو مذهب ابن حزم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود و" الموطأ ". والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ". 917 - " باب إذا تزوج البكر على الثيب " 1064 - معنى الحديث: أن أبا قلابة قال: لو شئت (3) أن أقول إن هذا الأثر هو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقلت ذلك، ولكنت صادقاً فيما قلت: ولكني لم أقل هذا تمسكاً مني بلفظ أنس حيث " قال: السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً " أي أن من سنة المصطفى إذا تزوج الرجل المرأة البكر على المرأة الثيب أقام عندها سبع ليال بأيامهن، ثم قسم بينها وبين الأخرى بالعدل كما في رواية أخرى للبخاري " وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً " أي أقام   (1) " شرح الزرقاني على الموطأ " ج 3. (2) قال ابن القيم: القِرى: طعام الضيفان، والمأدبة: طعام الدعوة، والتحفة: طعام الزائر، والوليمة: طعام العرس، والخرس: طعام الولادة، والعقيقة: الذبح عن الولد، والعذيرة: طعام الختان، والوضيمة: طعام المأتم، والنقيعة: طعام القادم من سفره والوكيرة: طعام الفراغ من البناء. اهـ. حسن السماحي. (3) قال ابن دقيق العيد: قول أبي قلابة يحتمل وجهين أحدهما أن يكون ظن أنه سمعه عن أنس مرفوعاً لفظاً فتحرز عنه تورعاً، والثاني أن يكون رأى أن قول أنس " من السنة " في حكم المرفوع، فلو عبر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصح لأنه في حكم المرفوع، قال: والأول أقرب. اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 عندها ثلاث ليال بأيامهن ثم قسم بينها وبين الأخرى بالعدل. فقه الحديث: قال النووي (1): فيه أن حق الزفاف ثابت للزوجة، فإن كانت بكراً لها سبع ليال بأيامها بلا قضاء، وإن كانت ثيباً كان لها الخيار، إن شاءت سبعاً ويقضي السبع لباقي النساء، وإن شاءت ثلاثاً، ولا يقضي، وهذا مذهب الشافعي، وممن قال به مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن جرير وجماهير العلماء، وهو الذي ثبتت به الأحاديث الصحيحة. اهـ. " قلت " أما مالك وأصحابه (2) فإنهم يقولون: للثيب ثلاث بدون تخيير، وذهب الحنفية إلى أنه لا فرق بين القديمة والجديدة، وليس هناك حق للزفاف تختص به الجديدة بكراً أو ثيباً إلاّ بالبداءة بها فقط (3)، فإن أقام عند البكر سبعاً قضى لكل واحدة من نسائه سبعاً، وإن أقام عند الثيب ثلاثاً قضى لكل واحدة من نسائه ثلاثاً لعموم الأدلة على وجوب العدل بين الزوجات، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، ويؤيد ذلك ما رواه الدارقطني (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة: " إن شئت أقمت عندك ثلاثاً خالصة لك " أي بدون قضاء أما استدلال أبي حنيفة بعموم الأحاديث الواردة في العدل بين الزوجات، فإن حديث أنس وأم سلمة رضي الله عنهم مخصّصة لعموم تلك الأحاديث، والله أعلم. واختلفوا في الإقامة عند (5) البكر سبعاً، وعند الثيب ثلاثاً إذا كانت له زوجة أخرى هل هي واجبة أو مستحبة؟ فذهب الشافعي وموافقوه إلى أنها واجبة، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وروى عنه ابن عبد الحكم أنها على الاستحباب. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً ".   (1) " تحفة الأحوذي " ج 4. (2) " تحفة الأحوذي " ج 4. (3) " تكملة المنهل العذب " ج 3. (4) " تحفة الأحوذي " ج 4. (5) " تكملة المنهل العذب " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الطلاق " والطلاق لغة: عبارة عن حل القيد الحسي كقيد الأسير أو الدابة، ثم أطلق على حل القيد المعنوي كقيد النكاح، يقال: طَلَقَتِ المرأة وطَلُقت المرأة، بتخفيف اللام المفتوحة، والمضمومة إذا بانت. والطلاق مصدر طلَق أو طلُق بفتح اللام المخففة وضمها، أما التطليق فهو مصدر طلق. والطلاق شرعاً: حل رابطة الزواج (1)، وإنهاء العلاقة الزوجية وقال الإِمام محمد عبده: " هو عبارة عن مفارقة (2) المرأة المدخول بها بحل الرجل عقدة الزوجية التي تربطهما معاً " والطلاق ظاهرة اجتماعية ودينية قديمة كانت معروفة في الأديان السابقة من شريعة إبراهيم وغيرها، ومعروفة عند العرب في الجاهلية حيث استعملوا الطلاق دون حدٍّ ولا عدٍّ، حتى جاء الإِسلام فقضى على هذه المضارّة كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الرجل يطلّق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني، ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك، قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنتهى راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكت حتى نزل القرآن (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وهكذا كان الطلاق يستعمل وسيلة للتشفي والانتقام من الزوجة، فلما جاء الإسلام قضى على ذلك كله، ووضع حداً لعدد مرات الطلاق، ونظمه تنظيماً صحيحاً يحفظ لكل من الطرفين كرامة الإنسان. حكمه: لما كانت العلاقة الزوجية من   (1) " فقه السنة " ج 2. (2) " تفسير المنار " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 أقدس العلاقات ولهذا سمّى الله عقد النكاح ميثاقاً. فكل ما يؤدي إلى قطع هذه العلاقة وإلغاء ذلك الميثاق فهو بغيض إلى الله تعالى لما يقضي عليه من منافع مشتركة بين الزوجين لذلك حذّر من الطلاق، وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " أخرجه أبو داود والحاكم وصححه (1) ومن هنا شدد بعض الفقهاء فيه قال في " تيسير العلام " (2): والأصل في الطلاق الكراهة للحديث المتقدم، ولأنه حلٌّ لعرى النكاح الذي رغب فيه الشارع، وجعله سبباً لكثير من مصالح الدين والدنيا، فإن الطلاق سبب في إبطال هذه المصالح، والله لا يحب الفساد " فمن هنا كرهه الشارع، لكنه عند الحاجة إليه نعمة كبيرة حيث يحصل به الخلاص من العشرة المرَّة، وفراق من لا خير في البقاء معه، إما لضعف في الدين، أو سوء في الأخلاق، أو غير ذلك مما يسبب قلق الحياة، وبهذا تعرف جلال هذا الدين وسمو تشريعاته خلافاً للنصارى الذين لا يبيحون الطلاق، فتكون الزوجة غلاًّ في عنق زوجها وإن لم توافقه. اهـ. ويرى الحنابلة أن للطلاق أربعة أحكام، فيكون واجباً وهو طلاق الحكمين، وطلاق المؤلي بعد التربص، ومندوباً عند تفريط المرأة في حقوق الله من صلاة وغيرها (3)، أو كانت غير عفيفة. قال ابن قدامة: ويحتمل أن الطلاق في هذين الموضعين واجب، ويكون مباحاً لسوء خلق المرأة وسوء عشرتها، ويكون محرماً إذا كان لغير حاجة، لأنه ضرر بالزوج وزوجته وإهدار لمصالحهما. اهـ. ...   (1) قال الحافظ في " التلخيص " رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر ورواه أبو داود والبيهقي مرسلاً، ليس فيه ابن عمر، ورجح أبو حاتم والدارقطني في العلل، والبيهقي المرسل. (ع). (2) " تيسير العلام " ج 2. (3) " فقه السنة " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 918 - " بَابُ قوْل الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) " 1065 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتهُ وهِيَ حَائِضٌ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حتى تَطْهُرَ، ثمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمسَكَ بَعْدُ، وَإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أن يَمَسَّ، فتلْكَ العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ أنْ تُطلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ ".   918 - " باب قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) " 1065 - معنى الحديث: أن ابن عمر طلّق زوجته آمنة بنت غفار حال الحيض، وأثناء العادة الشهرية، فذهب والده عمر رضي الله عنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره ويستفتيه " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مره فليراجعها " يعني فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمر أن يأمره بمراجعة زوجته، وإعادتها إلى عصمته، لأن الطلاق أثناء الحيض طلاق بدعي، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها في تلك الحالة لئلا تطول عليها العدة " ثم ليمسكها " بلام مكسورة (1)، ويجوز تسكينها تخفيفاً أي عليه أن يبقيها في عصمته " حتى تطهر " من الحيضة التي طلقها فيها " ثم تحيض ثم تطهر " أي ثم تحيض حيضة أخرى ثم تطهر من الحيضة الثانية " ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق " أي إن شاء أبقاها في عصمته بعد الحيضة الثانية وإن شاء طلقها " قبل أن يمس " أي قبل أن يجامع " فتلك " أي فالطلاق حال الطهر الذي لم يجامعها فيه: هو " العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " أي هو الطلاق   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 للعدة التي أذن الله أن تطلّق لها النساء في قوله تعالى: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي إذا أردتم أن تطلقوا النساء فطلقوهن في وقت يصلح لابتداء عدتهن، وهو وقت الطهر الذي لم يجامع فيه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن طلاق المرأة وهي حائض أو في طهر جامعها فيه حرام باتفاق أهل العلم (1)، ويسمى بالطلاق البدعي لمخالفته للصفة المشروعة للطلاق في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أن يراجعها وجوباً عند مالك وأحمد في رواية (2)، والمشهور عنه وهو قول الجمهور أن المراجعة مستحبة، لأن ابتداء النكاح غير واجب. ثانياً: أن الصفة المشروعة في الطلاق أن يقع في حال طهر لم يجامعها فيه، وأن يشهد على طلاقه. أما الإشهاد فلقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وأما الطلاق في حال الطهر الذي لم يجامعها فيه فدليله هذا الحديث، لأن ابن عمر لما طلق زوجته في حال الحيض أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيدها إليه حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، ثم قال فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء. ومن هذا يتضح لنا أن الطلاق قسمان: (أ) طلاق سني وهو ما وافق الصفة المشروعة في هذا الحديث بأن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، ويشهد على ذلك. وطلاق بدعي: وهو ما خالف المشروع، كأن يطلقها في حيض أو بعد جماع. أو دون إشهاد. وأجمع العلماء على أن الطلاق البدعي حرام، وأن فاعله آثم. ثالثاً: دل هذا الحديث على أن الطلاق في الحيض يقع ويصح ويحسب طلقة واحدة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر بمراجعتها، والمراجعة لا تكون (3) إلاّ بعد طلاق (4)، وهذا قول جمهور العلماء، منهم الأئمة الأربعة،   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 4. (2) أيضاً " تكملة المنهل العذب ". (3) " تيسير العلام " ج 2. (4) ويؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى حيث قال فيها: فحسبت من طلاقها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 919 - " بَابُ مَنْ أجَازَ طَلاقَ الثَلاثِ " 1066 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ رَجُلاً طَلَّقَ امْرَأتَهُ ثلاثاً، فَتَزَوَّجَتْ فَطلَّقَ، فَسُئِلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتَحِلُّ لِلأوَّلِ؟ قَالَ: " لا حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأوَّلُ ".   وذهب بعض العلماء ومنهم شيخ الإِسلام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيم إلى أن الطلاق لاغ لا يقع، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود والنسائي " أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض " قال عبد الله: فردها علي ولم يرها شيئاً، وقد استنكر العلماء هذا الحديث لمخالفته الأحاديث كلها (1)، وأجاب ابن القيم عن أدلة الجمهور بأن الأمر برجعتها معناه إمساكها على حالها الأولى، وأمّا الاستدلال بلفظ " فحسبت من طلاقها " فليس فيه حجة، لأنه غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث: أخرجه الستة. 919 - " باب من أجاز طلاق الثلاث " 1066 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً " أي ثلاث " طلقات دفعة واحدة في لفظ واحد (2) " فتزوجت " برجل آخر " فطلق " أي فطلقها ذلك الرجل " فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأوّل " أي هل تحل لزوجها الأول وإن لم يجامعها الثاني " قال: لا حتى يذوق عسيلتها " والعسيلة تصغير العسل، والمراد بها حلاوة الجماع -أي أن   (1) " تيسير العلام " ج 2. (2) قال ابن القيم في " زاد المعاد " (5/ 261) أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد، بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال: فعل ذلك ثلاثاً، وقال ثلاثاً، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة، هذا هو المعقول في لغات الأم عربهم وعجمهم. كما يقال: قذفه ثلاثاً، وشمته ثلاثاً، وسلم عليه ثلاثاً، وقال ابن القيم (5/ 248): الثلاث بكلمة واحدة، يقع به واحدة رجعية، وهذا ثابت عن ابن عباس، وهو قول طاوس وعكرمة، واختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 تلك المرأة لا تحل لزوجها الأول حتى يجامعها الثاني، ويجد لذة المباشرة وحلاوتها. الحديث: أخرجه الستة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأول بمجرد زواجها من الثاني، بل لا بد من جماعه لها، فلا يجوز لها إذا طلقها الثاني أن تعود إلى الأوّل إلاّ إذا جامعها الثاني قبل طلاقها لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب لما سئل " أتحل للأول؟ قال: " لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاقها الأول ". وهو معنى قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) أي حتى تتزوج غيره، ويذوق عسيلتها، وتذوق عسيلته كما في حديث الباب، قال الأزهري: ويتحقق ذلك بتغييب الحشفة في الفرج مع الإِنزال، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلّا سعيد بن المسيب. قال ابن المنذر: ولا نعلم أحداً وافقه عليه إلاّ طائفة من الخوارج. ثانياًً: أن طلاق الثلاث في لفظ واحد يقع ثلاث طلقات عند الجمهور، ولا يجوز للزوجة في هذه الحالة أن تعود إليه حتى تنكح زوجاً غيره ويجامعها، لأن ظاهر هذا الحديث أن الرجل المذكور طلقها ثلاث طلقات مجتمعة في لفظ واحد (1)، فعدّه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث طلقات ومنع الزوجة أن تعود إلى زوجها الأوّل حتى تذوق عسيلة الثاني ويذوق عسيلتها، وهو مذهب جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم الأوزاعي والنخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق وكثيرون على أن من طلق امرأته ثلاثاً وقعن، ولكنه يأثم. اهـ. كما أفاده العيني. وقال في " أضواء البيان ": ومن أدلتهم ما رواه أبو داود والدارقطني والشافعي والترمذي وابن ماجة وقال أبو داود: هذا حديث صحيح وصححه ابن حبان والحاكم عن ركانة بن عبد الله أنه طلق امرأته سهيمة البتة، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) وهذا ما فهمه البخاري من الحديث، ولذلك أخرجه في هذا الباب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 بذلك فقال: " والله ما أردت إلاّ واحدة؟ " فقال ركانة والله ما أردت إلّا واحدة، فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الحديث صححه أبو داود وابن حبان والحاكم، وهو نص في محل النزاع لأن تحليفه - صلى الله عليه وسلم - ما أردت بلفظ البتة إلاّ واحدة، دليل على أنه لو أراد بها أكثر من الواحدة لوقع، والثلاث أصرح في ذلك من لفظ البتة، لأن البتة كناية، والثلاث صريح، ولو كان لا يقع أكثر من واحدة لما كان لتحليفه معنى. وذهب بعضهم إلى أنه يقع طلقة واحدة، واحتجوا كما في " أضواء البيان " بأربعة أحاديث: الأول: حديث ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " طلق ركانة امرأته ثلاثاً في مجلسٍ واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها؟ قال: ثلاثاً في مجلس واحد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما تلك واحدة فارتجعها إن شئت، والاستدلال بهذا الحديث مردود لأن داود بن الحصين راوى الحديث عن عكرمة ليس بثقة في عكرمة، قال ابن حجر في " التقريب " داود بن الحصين المدني ثقة إلاّ في عكرمة. وإذا كان غير ثقة في عكرمة كان الحديث المذكور في روايته غير ثقة، هذا وجه، وهناك وجه آخر وهو ما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " أن ركانة إنما طلق امرأته البتة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتة على الثلاث، فقال: طلقها ثلاثاً، وبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس (1). الحديث الثاني: من الأحاديث الأربعة التي استدل بها من جعل الثلاث واحدة هو ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثاً فاحتسبت بواحدة، ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة. قال القرطبي في تفسيره ما نصه: "والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته في الحيض، وكان تطليقه   (1) ولحديث ابن عباس طريق أخرى، وقال ابن القيم إلى تصحيحه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية إسناده جيد. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 إياها واحدة، غير أنه خالف السنة". الحديث الثالث: من أدلتهم ما رواه أبو داود في " سننه " عن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: ما يغني عني إلّا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها ففرَّق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلاناً يشبه منه كذا وكذا، قالوا: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: طلقها، ففعل، فقال: راجع امرأتك أم ركانة، فقال: إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت، راجعها، وتلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) قال في " أضواء البيان ": والاستدلال بهذا الحديث ظاهر السقوط لأن ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع، وهي رواية عن مجهول لا يدرى من هو (1). الحديث الرابع: هو ما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم " قال: وادّعاء الجزم بأن معنى الحديث المذكور أن الثلاث بلفظ واحد إدعاء خال من دليل، مع أنه ليس في شيء من روايات الحديث المذكور بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من الشرع ولا من العقل كما ترى. قال النووي: والأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولم ينو تأكيداً ولا استئنافاً يحكم بوقوعه طلقة واحدة لقلة إرادتهم الاستئناف، فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه وغلب عليهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الاطلاق   (1) هذه الرواية يقويها التي قبلها. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 920 - " بَابُ الْخلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاقُ مِنهُ " 1067 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ امْرَأةٍ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أتتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْس مَا اعتِبُ عَلَيه في خُلُق وَلا دِين، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ في الإِسْلامِ،   على الثلاث عملاً بالغالب في ذلك العصر، وبهذا خرج حديث ابن عباس عن موضوع طلاق الثلاث بلفظ واحد وأصبح لا علاقة له به. ومما أجاب به عن الحديث المذكور أن رواية طاووس عن ابن عباس المذكورة مخالفة لما رواه الحفاظ عنه فهذا إمام المحدثين أحمد بن حنبل يرفض حديث ابن عباس هذا لمخالفته لرواية بقية الحفاظ عنه، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك هذا الحديث عمداً لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد انتهى ما ذكره الشيخ محمد الأمين في كتابه " أضواء البيان " عن هذا الموضوع بإيجاز واختصار والله أعلم. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله: " طلق امرأته ثلاثاً " فإنه ظاهر في كونها مجموعة - كما قال العيني: فأمضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث طلقات ومنع الزوجة أن تعود إلى الأول حتى تذوق عسيلة الثاني. 920 - " باب الخلع وكيف الطلاق منه " والخلع لغة: نزع الشيء وإزالته. وشرعاً: إزالة الزوجية أو إزالة عصمة النكاح ببدلٍ وعوضٍ مالي تدفعه المرأة لزوجها مقابل مخالعته لها، لأنها تكرهه ولا تريد البقاء في عصمته. 1067 - معنى الحديث: " أن امرأة ثابت بن قيس " بن شمّاس بتشديد الميم الأنصاري الخزرجي خطيب الأنصار وامرأة ثابت بن قيس، قيل: إنها جميلة بنت عبد الله بن أبي، وبذلك جزم ابن سعد (1) وقيل: إن زوجته   (1) " أوجز المسالك " ج 10. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً ".   حبيبة بنت في سهل " أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين " وفي رواية مالك وأبي داود أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شمّاس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال: من هذه؟ فقالت: أنا حبيبة بنت سهل، قال: ما شأنك، قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس يجمعنا بيت واحدٌ. يعني لا يكون اجتماع بيني وبينه أبداً لما بيننا من التنافر "ما أعيب عليه في خلق ولا دين " أي لا أطعن فيه ديناً ولا خلقاً ولا أعيبه بشيء ينقصه من جهة دينه أو خلقه " لكني أكره الكفر في الإِسلام " والمعنى: ولكني أبغضه لدمامته (1) وقبح صورته، وأخشى أن يؤدي بي هذا النفور الطبيعي منه إلى كفران العشير، والتقصير في حق الزوج، والإساءة إليه، وارتكاب الأفعال التي تنافي الإِسلام من الشقاق والخصومة والنشوز ونحوه مما يتوقعُّ مثله من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها أن تفعله، فسمّت المعاملة السيئة للزّوج كفراً لما فيها من الاستهانة بالعلاقة الزوجية، وجحود حقوقها المشروعة، وهذا يدخل في كفران العشير، وينافي ما يقتضيه الإِسلام. " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتردين عليه حديقته " أي إذا كنت تكرهينه كل هذه الكراهية، وتخشين أن يؤدي بقاؤك في عصمته إلى أمر مخالف لدين الإِسلام فهل تخالعينه وتفتدين منه نفسك بمال فتردين عليه حديقته التي دفعها لك مهراً؟ " قالت: نعم " أفعل ذلك، وعن ابن عباس: أول خلع كان في الإِسلام امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) وفي رواية: كان رجلاً دميماً، فقالت: يا رسول الله والله لولا مخافة الله إذا دخل عليَّ لبصقت في وجهه " الخ أخرجه ابن ماجة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 فقالت: يا رسول الله لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبداً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سواداً، وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم وإن شاء زدته ففرق بينهما. اهـ. " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " وهذا أمر إرشاد وإصلاح لا أمر إيجاب وإلزام. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الخلع ومشروعيته، وهو " فراق زوج يصحُّ طلاقه لزوجته بعوض مالي. وقد أجمع العلماء على جوازه خلافاً لبكر بن عبد الله المزني التابعي ومما يدل على جوازه قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ) ويشترط في الخلع -كالطلاق- أن يكون الزوج مكلفاً والزوج محلاً للطلاق، وأن يكون بصيغة الماضي في الإِيجاب والقبول بأن يقول الزوج: خالعتك على كذا، وتقول الزوجة: قبلت، فإن لم تصرح بالقبول لا يقع الخلع (1) ولا تتحقق الفرقة ولا يستحق العوض. ولا يشترط البدل -أي العوض- عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية وفي رواية أخرى عن أحمد لا يكون خلعاً إلاّ بعوض. ولا يقع الخلع أيضاً بمجرد بذل المال وقبوله، بل لا بد من أن يتلفظ الزوج بالخلع عند أحمد خلافاً للحنفية حيث قالوا: أخذ المال تطليقة بائنة. ثانياًً: استدل بعض أهل العلم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " طلِّقها تطليقة " على أن الخلع لا يُعَدُّ ولا يعتبر طلاقاً إلاّ إذا اقترن بذكر الطلاق، لأنه لو كان الخلع بنفسه طلاقاً لما احتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمره بطلاقها والمسألة خلافية. قال في " الإِفصاح " اختلفوا (2) في الخلع هل هو فسخ أو طلاق، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: " في إحدى روايتيه " هو طلاق بائن وعن أحمد   (1) بخلاف ما إذا قال خالعتك ونوى به مجرد الطلاق فإنه يقع وإن لم تقبله الزوجة، لأن الطلاق لا يحتاج إلى موافقة الزوجة. (2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 921 - " بَابُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُتَلاعِنَيْنِ " 1068 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: ْ" لاعَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ رَجُل وامْرَأةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ".   رواية أخرى أنه فسخ، وليس بطلاق وهي أظهرهما وعن الشافعي قولان كالمذهبين. وقد روى عن الشافعي -كما قال ابن رشد- إنه كناية، فإن أراد به الطلاق كان طلاقاً، وإلّا كان فسخاً. واحتج من جعله طلاقاً بأن الفسخ إنما يكون في الفراق الجبري الذي لا اختيار للزوج فيه، وهذا راجع إلى اختيار الزوج إن شاء خالع وإن شاء لم يخالع، فكيف يسمّى فسخاً. واحتج من لم يره طلاقا ً- كما قال ابن رشد (1) بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) ثم ذكر الافتداء، ثم قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) فلو كان الافتداء طلاقاً لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلاّ بعد زوج هو الطلاق الرابع، واستدل الجمهور على أن الخلع طلقة بائنة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلع تطليقة بائنة. ويترتب على هذا الخلاف حكم فقهي، وهو كما قال ابن قدامة: " إذا قلنا هو طلقة فخالعها مرّة حسبت طلقة فتنقص عدد طلقاته، وإن خالعها ثلاثاً فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وإن قلنا هو فسخ لم تحرم عليه، وإن خالعها مائة مرة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: من حيث إن فيه كيف الطلاق في الخلع كما أفاده العيني. 921 - " باب التفريق بين المتلاعنين " 1068 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما "لاعن   (1) " بداية المجتهد " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 922 - " بَابٌ يُلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْمُلاعِنَةِ " 1069 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بَيْنَ رَجُل وامْرَأتهِ، فانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا، وألْحَقَ الْوَلَدَ بالْمَرْأةِ ".   النبي - صلى الله عليه وسلم - بين رجل وامرأة من الأنصار" وذلك لأن الرجل قذف زوجته بالزنا، وأنكرت هي ذلك، فأجرى عليهما - صلى الله عليه وسلم - حكم الله فيهما وهو الملاعنة " وفرق بينهما " أي وفرّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما وحكم عليهما بالانفصال والفرقة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على وجوب الفرقة بين المتلاعنين بإيقاع الحاكم الشرعي (1) لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرق بينهما وهو قول أبي حنيفة والثوري، ورواية عن أحمد (2) وقال مالك: تقع بعد فراغ المرأة من اللعان، وقال الشافعي: بعد فراغ الزوج. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " وفرق بينهما ". 922 - " باب يلحق الولد بالملاعنة " 1069 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لاعن بين رجل وامرأته " أي أن رجلاً قذف زوجته بالزنا، فأجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - اللعان الشرعي بينهما، "فانتفى من ولدها" أي فقال الزوج: إن هذا الولد ليس ولدي " ففرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة " أي ونسب الولد إلى أمه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الفرقة لا تحصل بمجرد التلاعن وإنما   (1) أي إنما تقع بتفريق الحاكم بينهما لا بمجرد التلاعن. (2) " شرح العيني " ج 20. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 923 - " بَابٌ إذا طَلَّقَهَا ثلاثاً ثمَّ تزَوَّجَتْ بَعْدَ العِدَّةِ زَوْجاً غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا " 1070 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ رِفَاعَة القُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرأةً ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فأتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَتْ لَهُ أنَّهُ لا يأتِيْهَا، وأنه لَيْسَ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هُدْبَةٍ، فَقَالَ: " لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ".   تحصل بتفريق الحاكم، وعلى أن الرجل إذا لاعن زوجته ونفي عنه نسب الحمل ينتفي عنه، ويثبت نسبه من الأم ويرثها وترث منه (1) وهو مذهب جمهور الفقهاء. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " وألحق الولد بالمرأة ". 923 - " باب إذا طلقها ثلاثاً ثم تزوجت بعد العدة زوجاً غيره فلم يمسها " 1070 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن رفاعة " بكسر الراء " تزوج امرأة " اسمها تميمة بنت وهب " ثم طلقها " أي طلقها ثلاثاً " فتزوجت آخر " اسمه عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء " فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا يأتيها " أي لا يجامعها " وأنه ليس معه إلاّ مثل هدبة " بضم الهاء وسكون الدال وهو طرف الثوب، أي أن الذي معه لا يشتد ولا ينتصب " فقال: لا " أي لا يحل لك أن تعودي إلى زوجك الأول " حتى تذوقي عسيلته " أي حتى يجامعك زوجك الثاني.   (1) أيضاً " شرح العيني " ج 20. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 924 - " بَابُ الكحل لِلْحَادةِ " 1071 - عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ امْرأة تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، فَخَشُوْا عَلى عَيْنَيْهَا، فَأتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَأذنُوهُ في الكُحْلِ فَقَالَ: " لا تُكَتحلْ، قَدَْ كانَتْ إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ في شَرِّ أحْلاسِهَا أو شَرِّ بَيْتِهَا، فَإِذَا كَانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، فلا حَتَّى تَمْضِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وَعَشْر ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها الأوّل حتى يطأها الثاني في الفرج لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا حتى تذوقي عسيلته " وأدناه تغييب الحشفة في الفرج (1) وهو مذهب الجمهور. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ. والمطابقة: في قوله: " لا حتى تذوقي عسيلته ". 924 - " باب الكحل للحادة " 1071 - معنى الحديث: تحدثنا أم سلمة في هذا الحديث " أن امرأة توفي زوجها فخشوا " بفتح الخاء وضم الشين " عينيها " أي فمرضت عيناها أثناء عدتها وخافوا أن يتضاعف مرضها " فأستأذنوه في الكحل " أي فاستأذنوه أن يرخص لهم في علاج عينيها بالكحل " فقال: لا تكحل " بفتح التاء والكاف والحاء المشددة (2) وبالجزم بلا الناهية " قد كانت إحداكن تمكث في شرِّ أحلاسها " أي تبقى سنة كاملة مبتعدة عن الزينة لا تلبس إلاّ أردأ ثيابها " فإذا كان حول فمر كلب رمت ببعرة " أي فإذا انقضت سنة من وفاة زوجها ترصدت كلباً يمر بها، فرمت ببعرة، وخرجت من إحدادها لتعلن أن إحداد   (1) " الفقه الإسلامي وأدلته " للدكتور وهبة الزحيلي ج 7. (2) أصله تتكحل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 سنة على زوجها أهون عليها من رمي تلك البعرة " فلا، حي تمضي أربعة أشهر وعشر " أي فلا يجوز لها الكحلُ حتى تمضي مدة الإِحداد الكاملة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية العدة للمتوفى عنها زوجها، وتحديد مدتها بأربعة أشهر وعشر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث " لا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر ". ثانياً: دل الحديث على مشروعية إحداد المرأة على زوجها المتوفى أربعة أشهر وعشراً، وهو واجب عند الجمهور، لحديث الباب، وقال الحسن البصري والشعبي: لا يجب (1)، لحديث أسماء بنت عميس قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال: " لا تحدي بعد يومك هذا " أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، قال أحمد وإسحاق: هذا الشاذ من الحديث لا يؤخذ به لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة في الإحداد، ولهذا ترك أهل العلم العمل به، والإحداد واجب على المرأة صغيرة كانت أم كبيرة. بكراً أو ثيباً. أما المطلقة إن كانت بائنة بينونة صغرى أو كبرى فقال مالك والشافعي: لا إحداد عليها خلافاً للحنفية حيث قالوا: يجب عليها الإحداد قياساً على المتوفى عنها زوجها. ثالثاً: ظاهر هذا الحديث النهي عن الاكتحال مطلقاً لضرورة أو لغير ضرورة لما جاء في رواية ابن حزم أنّها قالت له: إني أخشى أن تنفقأ عينها، قال: " لا وإن انفقأت " وسنده صحيح ولكن الذي عليه أهل العلم جواز الاكتحال للضرورة ورخص فيه عند الضرورة عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأي وقال النووي: حديث الباب دليل على تحريم الاكتحال على الحادة سواء احتاجت إليه أم لا، وجاء في حديث أم سلمة في " الموطأ " وغيره " اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار " ووجه الجمع أنها إن لم تحتج إليه لم يحل، وإن احتاجت إليه لم يجز بالنهار، ويجوز بالليل. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " فاستأذنوه في الكحل فقال: لا تكحل ".   (1) فإن المطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها زوجها تكتحلان وتمتشطان وتتطيبان وتصبغان ما شاءتا. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 بسم الله الرحمن الرحيم " كتَاب النَّفقات " 925 - " بَابُ فَضلُ النَّفَقَةِ (1) عَلَى الأهْلِ " 1072 - عَنْ أبي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أهْلِهِ -وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا- كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً ".   925 - " باب فضل النفقة (1) على الأهل " 1072 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أنفق المسلم نفقة " أي إذا صرف العبد المسلم شيئاً من ماله " على أهله " سواء كان زوجته أو ولده أو عبده أو أمته، وسواء كانت هذه المؤونة طعاماً أو شراباً أو كساءً أو أجرة منزل أو استهلاك ماء أو كهرباء " وهو يحتسبها " أي والحال أنه يريد بها وجه الله وابتغاء مرضاته " كانت في صدقة " أي كافأه الله تعالى على حسن نيته، فأثابه عليها ثواب الصدقة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية النفقة على الزوجة والولد الصغير والأب والعبد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أنفق المسلم نفقة على أهله "، وكل هؤلاء يدخلون في الأهل قال المهلب (2): النفقة على الأهل واجبة   (1) والنفقة شرعاً ما يجب من مؤونة الزوجة والقريب والعبد على سيده من خبز وإدام وكسوة ومسكن، وما يتبع ذلك، وحكمها الوجوب على الزوج والأب والسيد، وقد اتفقوا على وجوب النفقة للزوجة والولد قبل البلوغ، ونفقة الزوجة معتبرة بحال الزوجين موسرين أو معسرين أو متوسطين، وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فلها عليه نفقة المتوسطين، وقال أبو حنيفة في مالك: يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها، وقال الشافعي: يعتبر حال الزوج. (2) " إرساد الساري " ج 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 926 - " بَابُ حَبْسِ نفَقَةِ الرَّجُل قُوْت سَنَةٍ عَلَى أهْلِهِ " 1073 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   بالإِجماع، وإنما سمّاها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أنّ قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة على صدقة التطوع. وقال في " الإِفصاح " (1) واختلفوا فيما إذا بلغ الولد معسراً أو لا حرفة له، فقال أبو حنيفة: تسقط نفقة الغلام إذا بلغ صحيحاً (2)، وتسقط نفقة الجارية إذا تزوجت، وقال مالك كذلك، إلاّ أنه لا تسقط نفقة الجارية حتى يدخل بها الزوج، وقال أحمد: لا تسقط نفقة الولد عن أبيه وإن بلغ إذا لم يكن له كسب ولا مال. واتفقوا فيما إذا بلغ الابن مريضاً أن النفقة واجبة على أبيه، أو كانت جارية مزّوجة ثم طلّقها بعد ذلك، فقالوا: تعود النفقة على الأب، إلاّ مالكاً فإنه قال (3): لا تعود. ثانياًً: دل الحديث على أن النفقة على الأهل إذا قصد بها ابتغاء مرضاة الله وانتظار الثواب والأجر عليها أعطاه الله تعالى أجره كما يعطى المتصدق ثوابه على صدقته، ويستفاد منه أن الأجر لا يحصل بالعمل إلاّ مقروناً بالنيّة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل النفقة على الأهل وهو ما ترجم له البخاري. 926 - " باب حبس نفقة (4) الرجل قوت سنة على أهله " 1073 - معنى الحديث: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يروي لنا   (1) " الإفصاح " ج 2. (2) أي تسقط نفقة الولد البالغ الصحيح الجسم عن والده ولو كان معسراً عند أبي حنيفة ومالك، ولا تسقط عند أحمد. (3) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2. (4) أي ادخار النفقة لمدة سنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَيَحْبِسُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ ".   في هذا الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبيع نخل بني النضير " أي يبيع كل عام ثمرة النخل الذي يخصه من فيء بني النضير في خيبر " ويحبس لأهله قوت سنتهم " أي ويدخر لأهله ما يكفي لقوتهم مدة سنة كاملة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يجوز للمسلم أن يدّخر لأهله وعياله تموين عام كامل، ولا يعد ذلك احتكاراً ولو كان يخدش في التوكل لما فعله إمام المتوكلين - صلى الله عليه وسلم -، فإن فعله - صلى الله عليه وسلم - تشريع لأمته. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " ويحبس لأهله قوت سنتهم ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 بسم الله الرحمن الرحيم " كِتابُ الأطْعِمَةِ " 927 - " بَابُ قَوْل الله تعالى (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) " 1074 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا شَبعَ آل مُحَمَّدٍ مِنْ طَعَام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ".   كتاب الأطعمة 927 - " باب قوله تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) " 1074 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه أمهات المؤمنين لم يشبعوا من الطعام، أو يأخذوا منه القدر الكافي ثلاثة أيام متوالية مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القسطلاني: أي لقلة الشيء عندهم أو لأن الشبع مذموم، فكانوا يتعمدون أن لا يشبعوا بطونهم إلى حد الامتلاء، "حتى لا تثقل أجسامهم وتكسل عن عبادة الله. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته الكرام الإِقلال من الطعام، وعدم الإِفراط في الشبع، لما يؤدي إليه ذلك من الكسل والفتور، والتقصير في العبادة وتبلد الذهن، وقسوة القلب. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على إقلاله - صلى الله عليه وسلم - من الطعام. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 928 - " بَابُ التَّسْمِيَةِ على الطَّعَامِ والأكْلِ بِاليَمِينِ " 1075 - عَنْ عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ غُلاماً في حَجْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يا غُلامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ ".   928 - " باب التسمية على الطعام والأكل باليمين " 1075 - معنى الحديث: يقول عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما " كنت غلاماً " أي كنت ولداً صغيراً دون البلوغ " في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي أعيش في بيته تحت كفالته ورعايته " وكانت يدي تطيش في الصحفة " أي تتحرك في آنية الطعام كلها، وتجول في جميع نواحيها " فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " معلماً وموجهاً: " يا غلام سمّ الله " أي قل بسم الله في بداية الطعام تبركاً بهذا الاسم المبارك " وكل بيمينك " أي وكل بيدك اليمنى " وكل مما يليك " أي من الجهة المقابلة لك من الإناء دون الأطراف الأخرى قال: " فما زالت تلك طعمتي بعد " بكسر الطاء أَي فما زالت تلك الطريقة المهذبة هي طريقتي في الأكل بعد ذلك طيلة حياتي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من آداب الأكل ومستحباته التسمية في بداية الطعام طرداً للشيطان وأصرَحُ مَا وَرَدَ في صفة التسمية ما أخرجه أبو داود والترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعاً " إذا أهل أحدكم طعاماً فليقل: بسم الله، فإن نسي فليقل: بسم الله أوله وآخره " قال العلماء: ويستحب أن يجهر بالتسمية ليُسمع غيره وينبهه عليها، والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 على الطعام، وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض وغيرهما (1). ثانياًً: دل الحديث على استحباب الأكل باليمين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وكل بيمينك " وقد اختلف أهل العلم في مقتضى هذا الأمر. وهل الأكل باليمين واجب أو مستحب؟ فذهب بعضهم إلى أنه واجب (2) كما أفاده العيني لظاهر الأمر، ولورود الوعيد في الأكل بالشمال ففي " صحيح مسلم " عن سلمة بن الأكوع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال: " كل بيمينك " قال: لا أستطيع، قال: " لا استطعت ما منعه إلاّ الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه ". وروى أحمد بسند حسن عن عائشة مرفوعاً: " من أكل بشماله أكل معه الشيطان " والذي عليه أكثر أهل العلم استحباب الأكل والشرب باليمين، وكراهية ذلك بالشمال، وكذلك كل أخذ وعطاء، قال القرطبي: هذا الأمر على جهة الندب، لأنه من باب تشريف اليمين على الشمال، لأنها أقوى، وهي مشتقة من اليمن، وقد شرّف الله أصحاب الجنة إذ نسبهم إلى اليمين. والأصل فيما كان من هذا الباب الترغيب والندب. ثالثاً: استدل به بعض أهل العلم على تحريم الأكل بالشمال، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر بن أبي سلمة بالأكل باليمين، والأمر بالشيء نهي عن ضده، واستدلوا أيضاً على تحريم الأكل باليد اليسرى بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله " أخرجه مسلم، قال الصنعاني: الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب بالشمال، فإنه علله بأنه فعل الشيطان وخلقه، والمسلم مأمور بتجنب طريق أهل الفسوق فضلاً عن الشيطان. رابعاً: قال النووي: وفيه استحباب الأكل مما يليه (3)، لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة وهذا في السوائل، فإن كان تمراً وأجناساً فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيد في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهي. قال القسطلاني: وقد   (1) " تحفة الأحوذي ". (2) " نص عليه الشافعي في " الرسالة " ورجحه الحافظ، لأن الأصل في الأمر الوجوب. (3) " تحفة الأحوذي " ج 5. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 929 - " بَابُ الْخبْزِ الْمُرَقِّقِ وَالأَكْل عَلَى الخِوَانِ وَالسُّفْرَةِ " 1076 - عَنْ أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " مَا عَلِمْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ، ولا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، ولا أكَلَ على خِوَان قَطُّ " قِيلَ لقتادَةَ: فَعَلَى مَا كانُوا يَأكلُونَ؟ قَالَ: عَلى السُّفَرِ ".   نص أئمتنا - أي الشافعية على كراهة الأكل مما يلي غيره ومن الوسط والأعلى إلا الفاكهة ونحوها، مما ينتقل به. الحديث: أخرجه الستة وأحمد والدارمي. والمطابقة: في قوله: " يا غلام سم الله ". 929 - " باب الخبز المرقق والأكل على على الخوان والسفرة " 1076 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه " ما علمت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل على سكرجة قط " (بضم السين والكاف، وتشديد الراء) وهي صحاف أو أطباق توضع فيها الكوامخ أي المخلللات والمشهّيات، ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتناول طعامه مصحوباً بهذه المشهيات التي تفتح النفس ولم تكن هذه الأطباق التي فيها الكواخ والمهضمات توضع على مائدته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه لم يكن يشبع من الطعام غالباً، فلا حاجة به إلى هضمه كما أفاده العراقي. " ولا خبز له مرقق " أي ولم يخبز له - صلى الله عليه وسلم - ذلك الخبز الرقيق الفاخر المسمى بالرقاق " ولا أكل على خوان قط " أي ولا أكل في حياته كلها على مائدة من تلك الموائد النحاسية المرتفعة عن الأرض التي يأكل عليها العظماء والمترفون: " قيل لقتادة فعلى ما كانوا يأكلون " أي على أي شيء يأكل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " قال: على السفر " التي تمد على الأرض تواضعاً وزهداً في الدنيا ومظاهرها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - اختار لنفسه طريق الزهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 930 - " بَابُ طَعَامِ الْوَاحِدِ يَكْفي الإِْثنَيْنِ " 1077 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "طَعَامُ الإِثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاَثةِ، وَطَعَامُ الثَّلاَثةِ كَافِي الأرْبَعَةِ ".   والتقشف، وأعرض عن كل ما في هذه الدنيا من ملاذ الحياة ومظاهر الترف والنعيم، فلم يتناول الأطعمة الشهية، ولا أكل على الموائد الفاخرة، ولا استعمل الكوامخ والمشهيات وإنما قنع من الطعام بلقيمات يقمن صلبه، لا تحريماً منه - صلى الله عليه وسلم - (1) لملاذ الحياة وطيباتها، وإنما ترك ذلك زهداً وإيثاراً للحياة الباقية، وفي هذا دليل واضح على أن الزهد سلوك فاضل من هدى النبيين والصديقين وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إمام الزاهدين وقدوتهم لم يترك الدنيا اضطراراً، بل كان في إمكانه أن ينال ما يشاء، ويحصل على ما يريد ولكنه آثر أن يكون عبداً رسولاً، وقال لعمر حين قال له: " ادع الله فليوسع على أمتك فإنّ فارس والروم قد وسّع عليهم، وهم لا يعبدونه " أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " متفق عليه. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قول أنس رضي الله عنه: " ولا خُبزَ له مرقَّق ". 930 - " باب طعام الواحد يكفي الإثنين " 1077 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " طعام الاثنين كافي الثلاثة " أي أن الطعام الذي يشبع الإثنين يشبع الثلاثة إذا اجتمعوا عليه، وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "طعام الواحد يكفي   (1) قال ابن بطال: أكل المرقق جائز مباح، ولم يتركه - صلى الله عليه وسلم - إِلا زهداً في الدنيا وإيثاراً لما عند الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 931 - " بَابُ مَا عَابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طَعاماً قَطُّ " 1078 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " مَا عَابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - طَعَاماً قَطُّ، إِنْ اشْتَهَاهُ أكلَهُ، وَإنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ ".   الاثنين، وطعام الإثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية" أخرجه مسلم والترمذي والنسائي " وطعام الثلاثة كافي الأربعة " أي أن طعام الثلاثة يشبع الأربعة، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنهما مرفوعاً: " طعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية " أخرجه الطبراني. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب الاجتماع على الطعام لا فيه من بركة عظيمة تجعل من القليل كثيراً فينمو الطعام ويزداد حسّاً ومعنى، وتتضاعف قواه الغذائية ويكفي القليل منه الكثير. ثانياًً: قال النووي: فيه الحث على المواساة في الطعام فإنه وإن كان قليلاً تحصل منه الكفاية وتقع فيه بركة تعم الحاضرين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: ظاهرة. 931 - " باب ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط " 1078 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " ما عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً قط " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - من كمال خلقه، وتواضعه، وشكره لنعمة ربه كان لا يذكر عيباً في أي طعام يقدم إليه، فلا يقول فيه: مالح، ولا غير ناضج، ولا يصفه بأي صفة تعيبه " إن اشتهاه أكله وإن كرهه " كالضب مثلاً " تركه " واعتذر عن أكله بعذر يقبله صاحب الطعام، ولا يؤذيه أو يجرح شعوره. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من الآداب الاجتماعية التي شرعها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 932 - " بَابُ التلبينة " 1079 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: " أنَّهَا كَانَتْ إِذا مَاتَ المَيِّتُ مِنْ أهْلِهَا فاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النسَاءُ ثم تَفَرَّقْنَ إلا أهْلَهَا وخَاصَّتَهَا أمَرَتْ بِبُرْمَةٍ من تَلْبِيْنَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ، فَصَبَّتِ التَلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ منهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: التَّلْبِينَةُ مَجَمَّة لِفُؤَادِ المَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ".   الإِسلام أن لا يذم الضيف الطعام الذي يقدم إليه، ولا يذكر فيه عيباً، لأن هذا مما يجرح شعور صاحب الطعام أما إذا كان يريد بذلك النصيحة له فلتكن فيما بينه وبينه، هذا إذا كان هناك عيب حقيقي كالملوحة مثلاً ولا يليق بأهل الفضل والدين أن يتكبروا ويترفعوا عن الأطعمة المتواضعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو دعيت إلى كراع لأجبت ". اهـ. وذلك إرشاد منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن لا يحتقروا من الطعام شيئاً، لأنه نعمة من نعم الله التي يجب احترامها وتقديرها وشكرها. وقد روى عنه أنس رضي الله عنه أنه مشى إليه بخبز شعير وإهالة سنخة، أي شحم قديم متغير الرائحة من السناخة، وهي الزناخة، فانظر إلى تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وسماحة نفسه ومراعاته لشعور غيره. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 932 - " باب التلبينة " 1079 - معنى الحديث: أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت إذا مات أحد أقاربها، واجتمع النساء للعزاء، ثم خرجن ولم يبق سوى قريباتها وصديقاتها، " أمرت ببرمة من تلبينة " أي أمرت أن يطبخ قدر من تلبينة، وهي حساء من دقيق وعسل، أو من دقيق ولبن " ثم صنع ثريد " أي قطع الخبز قطعاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 933 - " بَابُ الأكْلَ في إناءٍ مُفَضَّضٍ " 1080 - عنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ، ولا الدِّيبَاجَ، ولا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ، ولا تَأكلُوا في صِحَافِهَا، فَإنَّها لَهُمْ في الدُّنيا وَلَنا في الآخِرَةِ ".   صغيرة " فصبت التلبينة عليها " أي فصبت تلك التلبينة على الثريد " ثم قالت: كلن منها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: التلبينة مجمة " بفتح الميم الأولى والجيم والميم الثانية مشددة " لفؤاد المريض " أي مريحة لفؤاد المريض مسكنة لآلامه الجسمية والنفسية " وتذهب ببعض الحزن " أي وتخفف عن المصاب أحزانه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التلبينة تريح القلب الحزين وتسكن آلامه النفسية، وذلك كما قال ابن القيم: لأن الهم والحزن يبردان المزاج، وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية، ويذهب ببعض الحزن بخاصية فيه. ثانياًً: دل هذا الحديث على أنه ينبغي لأهل الميت أن لا يستسلموا لأحزانهم، وأن يحاولوا دفعها عنهم قدر المستطاع، أو تخفيفها على الأقل، واتخاذ كل الوسائل التي تعين على تقوية النفس والقلب على تحمل المصيبة ومفارقة الأحبة. إذ لا يملك الإنسان في هذه المواقف سوى الصبر والسلوان واحتساب المصيبة عند الله تعالى، وانتظار الخلف منه. والله مع الصابرين. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " التلبينة مجمة لفؤاد المريض ". 933 - " باب الأكل في إناء مفضض " 1080 - معنى الحديث: أن حذيفة رضي الله عنه يقول: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير والديباج " أي أنه نهي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 الحرير للرجال بجميع أنواعه، سواء كان من النوع المسمى بالديباج (1) أو غيره. " ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة " وهذا نهي صريح عن شرب أي نوع من السوائل في الأواني الذهبية والفضية " ولا تأكلوا في صحافها " قال العيني: جمع صحفة، وهي إناء كالقصعة المبسوطة، والمعنى: أنّه نهى الرجال عن استعمال جميع الأواني الذهبية والفضية في المشروبات والمأكولات سواء كان الإناء من الذهب الخالص أو الفضة الخالصة، أو كان مذهباً أو مفضّضاً مخلوطاً أو مدهوناً أو مضبباً. ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة " أى فإن الحرير والفضة والذهب للكفار في الدنيا وللمسلمين في الآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث، على ما يأتي: أولاً: أنه يحرم لبس الحرير بجميع أنواعه على الرجال خاصة، والوعيد الشديد لمن لبسه في الدنيا بالحرمان منه في الآخرة، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولنا في الآخرة " (2) ولهذا ذهب الجمهور إلى تحريم لبسه وافتراشه على الرجال، وذكر المهدي في " البحر " أنه مجمع عليه، واختلفوا هل يجوز لبسه في بعض الأحوال المرضية والظروف الاستثنائية فمنع مالك وأبو حنيفة من استعماله مطلقاً (3) وقال الشافعي وأبو يوسف يجوز للضرورة، وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يستحب في الحرب. ثانياًً: دل الحديث على تحريم الأكل والشرب (4) في الأواني الذهبية والفضية، وكذلك يحرم كل ما هو في معنى الآنية كأدوات الطيب والكحل،   (1) اسم فارسي معرب لنوع خاص من الحرير. (2) ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه كما في " تيسير العلام " ج 2. (3) " تحفة الأحوذي " ج 5. (4) قال القسطلاني: فيحرم استعمال كل إناء جميعه أو بعضه ذهب أو فضة، واتخاذه، لأنه يجر إلى استعماله، وسواء في ذلك الرجال والنساء، وكذلك المضبب بأحدهما. لغير حاجة. اهـ. وإنما حرم المفضض والمموه، والمضبب لغير حاجة لحديث ابن عمر مرفوعاً: " من شرب في آنية الذهب والفضة، أو إناء فيه شيء في ذلك، فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم " أخرجه الدارقطني والبيهقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 934 - " بَابُ الرُّطَبِ بِالقِثاءِ " 1081 - عن عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: "رَأيت رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأكلُ الرُّطَبَ بِالقِثَّاءِ ".   وبهذا قال جمهور أهل العلم خلافاً للشوكاني والصنعاني فإنهما يريان جواز استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب لأن النص لم يرد إلاّ في الأكل والشرب. ثالثاً: أنه يحرم الأكل والشرب في الإناء المفضض سواء كان مخلوطاً أو مطلياً وهو مذهب الجمهور، واستثنى الفقهاء من ذلك ما كان مضبباً بالفضة بضبة صغيرة للحاجة إليها، أما المضبب بالذهب فإنه يحرم مطلقاً. والمطابقة: في كون الحديث يدل على تحريم الأكل من الإناء الفضي ويدخل فيه المفضض. ْ934 - " باب الرطب بالقثاء " 1081 - معني الحديث: يقول عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الرطب بالقثاء " أي يجمع بينهما في الأكل كما في رواية أخرى عن عبد الله بن جعفر قال: رأيت في يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - قثاء، وفي شماله رطباً، وهو يأكل من ذا مرة ومن ذا مرة " أخرجه الطبراني في الأوسط وفي سنده ضعف. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمع بين القثاء والرطب وفائدة ذلك كما قال القرطبي أن في الرطب حرارة وفي القثاء برودة، فإذا أكلا معاً اعتدلا. ثانياً: ذكر الأطباء أن من فوائد هذا الغذاء المركب تسمين البدن، وورد في بعض الأحاديث ما يؤيد ذلك، فقد أخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: " أرادت أمي أن تهيئني للسمن لتدخلني على النبي - صلى الله عليه وسلم - فما استقام لها ذلك حتى أكلت الرطب بالقثاء، فسمنت كأحسن السِمَن " ولا شك أن الجمع بين الرطب الحار والقثاء الباردة يدخل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 935 - " بَابُ الْعَجْوَةِ " 1082 - عَن سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْم سَبْعَ تَمَرَاتِ عَجْوَةٍ، لَمْ يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَوْمِ سَمٌّ وَلا سِحْرٌ ".   في باب إصلاح المواد بعضها ببعض، وهو أصل من أصول الطب قديماً وحديثاً، وذلك أن الأطباء يرون أن غالب المواد تحتوي على مضار ومنافع، وأنه ينبغي عند استعمالها إصلاح بعضها ببعض، وينصحون لمن تناول طعاماً بارداً بطيء الهضم أن يصلحه بطعام حار هاضم ليزيل ضرر هذا بهذا، وهذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن القيم: " القثاء بارد ورطب في الدرجة الثانية مطفىء لحرارة المعدة الملتهبة، نافع من وجع المثانة، وهو بطيء الانحدار من المعدة، وبرده مضر ببعضها، فينبغي أن يستعمل معه ما يصلحه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أكله بالرطب، فإنه إذا أكل بتمر أو زبيب أو عسل عدله ". اهـ. وقال في " المعتمد ": وهو (1) يبرد ويرطب ويضر المبرودين، ويدفع ضرره بالعسل والزبيب، أي بالمواد السكرية، ومنها التمر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يأكل الرطب بالقثاء ". 935 - " باب فضل العجوة " 1082 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق " من تصبّح كل يوم سبع تمرات عجوةٍ " بالجر فيهما على التمييز (2) أو " تمراتٍ عجوةً " أي من أكل كل يوم صباحاً سبع تمرات من التمر المعروف بالعجوة أو   (1) أي القثاء. (2) بالجر على التمييز، وفي نسخة تمرات عجوة بإضافة تمرات لتاليه. اهـ. كما أفاده الشرقاوي في " فتح المبدي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 من عجوة المدينة خاصة " لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر " أي لا يضره شىء من المواد السامة والسحرية، ويُحفظ من جميع الأشياء الضارة جسمياً أو نفسياً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على فضل عجوة المدينة وفائدتها الطبية في مقاومة السموم والسحر ودفع تأثيرهما والوقاية من أذاهما وضررهما جسمياً ونفسياً، فإنها سلاح قوي ضد الإِصابة بالسم أو بالسحر يقضي عليهما، ويبطل مفعولهما، فإذا تناول المرء كل يوم صباحاً سبع تمرات من عجوة المدينة بالذات، لم يضره شيء من السم أو السحر كما قال - صلى الله عليه وسلم -. والتحقيق أن هذه الفائدة الطبية المذكورة في حديث الباب لا توجد إلاّ في عجوة المدينة، لما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها " أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في عجوة العالية: شفاءً أو إنها ترياق أول البكرة " أخرجه (1) مسلم، وفي رواية " في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم " أخرجه أحمد في " مسنده ": قال ابن القيم: ونفع هذا العدد من هذا التمر من هذا البلد من هذه البقعة بعينها من السم والسحر بحيث يمنع إصابته من الخواص التي لو قالها أبقراط وجالينوس وغيرهما من الأطباء لتلقاها عنهم الأطباء بالقبول والإِذعان والانقياد، مع أن القائل إنما معه الحدس والتخمين والظن، فمن كلامه كله يقين وقطع أولى أن تتلقى أقواله بالقبول والتسليم وقال في موضع آخر: " ولكن من شروط انتفاع العليل بالدواء، قبوله واعتقاد النفع فيه، فتقبله الطبيعة فتستعين به على دفع العلة. حتى إن كثيراً من العلاجات تنفع بالاعتقاد وحسن القبول، وكمال التلقي. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فائدة العجوة والله أعلم.   (1) وفي رواية أخرى عن عائشة " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في عجوة العالية شفاءً أو إنها ترياق أول البكرة " أخرجه مسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 936 - " بَابُ لَعْقِ الأصَابِعِ وَمَصِّهَا قَبلَ أنْ تُمْسَحَ بِالْمِنَدِيلِ " 1083 - عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فلا يَمْسَحْ يَدَهُ حتى يَلْعَقَهَا أوْ يُلْعِقَهَا ".   936 - " باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل " 1083 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما يحدثنا في هذا الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها " أي لا يمسح يده بالمنديل المعد لإزالة الزهومة حتى يلحس يده بفمه، " أو يلعقها " يعني أن يلحسها لغيره من أحبائه الذين لا يتقذرون منه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب لعق الأصابع عند الانتهاء من الطعام دفعاً للكبر وهو مذهب الجمهور، وذهبت الظاهرية إلى وجوبه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مسح الأصابع قبل لعقها. وقد جاء الأمر الصريح بلعق الأصابع في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه. فإنه لا يدري في أي طعامه البركة " أخرجه الترمذي فحمل الظاهرية هذا الأمر على الوجوب، وحمله الجمهور على الندب وينبغي أن يبدأ بالوسطى والحكمة في لعق الأصابع محاولة الحصول على البركة الموجودة في الطعام، لأنه لا يدري أين هي، هل هي فيما أكله من الطعام؟ أو فيما بقي منه؟ كما أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك صراحة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة " (1) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.   (1) أي هل البركة فيما أكله أو فيما بقى على أصابعه، والمراد بالبركة ما تحصل به التغذية والسلامة والصحة البدنية، وتنشأ عنه القوة الجسمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 937 - " بَابُ مَا يَقُولُ إذَا فَرَغَ مِنَ الطَّعَامِ " 1084 - عَنْ أبي أمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: " الحَمْدُ للهِ حَمْداً كَثِيراً طيَباً مُبَارَكاً فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلا مُوَدَّعٍ، وَلا مُسْتَغْنَى عَنْهُ رَبُّنَا ".   الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة. 937 - " باب ما يقول إذا فرغ من الطعام " 1084 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمنا السنة بأقواله وأفعاله، ومن الأذكار المأثورة عنه عند الانتهاء من طعامه أنه " كان إذا رفع مائدته " أي إذا فرغ من أكله، وبدأ في رفع آنية الطعام التي أمامه " قال: الحمد لله " ومعناه أن الثناء (1) والشكر كله في الحقيقة لله وحده دون سواه، " حمداً كثيراً " أي ثناءً كثيراً يليق بجلاله، وجماله وكماله، وشكراً جزيلاً يوازي نعمه التي لا تحصى، ومنته التي لا تستقصى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) " طيباً " خالصاً من الرياء والسمعة " مباركاً " أي مقترناً بالقبول الذي لا يرد، لأن البركة معناها الخير. والعمل الذي لا يقبل لا خير فيه " غير مكفي " بنصب " غير " على الحال وإضافته إلى " مكفي " بفتح الميم وكسر الفاء إسم مفعول، أي نحمده عز وجل حال كونه هو الكافي لعباده، ولا يكفيه أحد من خلقه، ْلأنه لا يحتاج إلى أحد " ولا مودع " حال أخرى أي ونحمده سبحانه حال كونه غير متروك، أي لا يتركه منا أحد لحاجتنا جميعاً إليه.   (1) أما تخصيصه بالثناء، فلأنه المنفرد بالكمال المطلق، وأما تخصيصه بالشكر، فلأن ما من نعمة في الحقيقة إلا هو مصدرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 938 - " بَابُ قَوْلِهِ تعالى (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) " 1085 - عَنْ أنسٍِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أنَا أعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ، كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْألنِي عَنْهُ، أصبْحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَرُوساً بِزَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ، وكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَةِ،   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب هذا الذكر المأثور عند الانتهاء من الطعام. ثانياًً: أن الذكر مستحب ومندوب إليه في أوّل الطعام وآخره، لأن الطعام من أجل النعم التي بها قوام الحياة. فإذا اقترن بذكر الله في أوّله، وشكره والثناء عليه في آخره بصدق وإخلاص، وشعور بالنعمة، أدى إلى دوام النعم واستمرارها، كما قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ). الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة والله أعلم. 938 - " باب قوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يتعلق بقوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي إذا دعيتم إلى وليمة عامة أو خاصة، وفرغتم من تناول الطعام، فتفرقوا، وانصرفوا إلى منازلكم تخفيفاً عن صاحب المنزل، ومراعاة لظروفه. 1085 - معنى الحديث: أن أنساً يقول: أنا أعلم الناس بسبب نزول آية الحجاب الخاص بأمّهات المؤمنين، وهي قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ثم قال أنس: " كان أُبي بن كعب يسألني عنه " أي يسألني عن سبب نزول آية الحجاب فأبينه له، ثم قال: " أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروساً بزينب بنت جحش " أي أصبح من ليلة زفافه بها " فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار " أي في وقت الضحى "وجلس معه رجال بعدما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 فَدَعَا النَّاسَ لِلطعَامِ بَعْدَ ارتِفَاعَ النَّهَارِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَمَا قَامَ الْقَوْمُ، حتَّى قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَمَشى ومَشَيْتُ مَعَهُ، حتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثم ظَنَّ أنَّهُمْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ فرَجَعْتُ مَعَهُ، فإذا هُمْ جُلُوسٌ مَكَانَهُمْ، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ قَامُوا، فَضَرَبَ بَيْيي وبَيْنَهُ سِتراً، وأنْزِلَ الحِجَابُ.   قام القوم" أي تأخروا بعد انصراف المدعوين " فمشى ومشيت معه، حتى بلغ حجرة عائشة " أي فقام النبي من مجلسه ومشى حتى وصل إلى حجرة عائشة ليشير إليهم برغبته في انصرافهم " ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت، فإذا هم جلوس مكانهم " فإذا هم ما زالوا جالسين في مواضعهم. " فرجع ورجعت " أي فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى، ومشى كالمرة الأولى " فإذا هم قد قاموا " أي فلما عاد وجدهم قد انصرفوا " فضرب بيني وبينه ستراً " أي فحجب النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه عن الرجال ووضع بيني وبينه غطاء يستر النساء عن الرجال " وأنزل الله آية الحجاب " وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا) صدق الله العظيم. وموضع الأمر بالحجاب قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الآداب الشرعية المطلوبة من الضيف أن ينصرف بعد فراغه من طعام الوليمة مباشرة، وأن لا يتأخر بعد ذلك مستأنساً بالحديث الذي يدور في المجلس لئلا يؤذي صاحب المنزل، ويثقل عليه، ولا يقدر على مصارحته حياءً منه، فقد أمر الله تعالى الضيف بالخروج عقب الانتهاء من الطعام فوراً، فقال تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا). ثانياًً: دل هذا الحديث على سبب نزول قوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) وهي هذه القصة التي ذكرها أنس رضي الله عنه. ثالثاً: دل هذا الحديث على سبب نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ولهذا حجب النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه عن الرجال عقب نزول هذه الآية مباشرة كما قال أنس رضي الله عنه: " فضرب بيني وبينه ستراً ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون القصة المذكورة سبباً في نزول قوله تعالى: (فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا). *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ العقيقة " 939 - " بَابُ تسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ عَنْهُ وَتحْنِيكِهِ " 1086 - عن أبي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "وُلِدَ لِي غُلامٌ، فأتَيْتُ بِهِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمَّاهُ إبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ،   " كتاب العقيقة " والعقيقة لغة: الشعر الذي يخرج على رأس المولود، كما عرفها أبو عبيد، وسميت بذلك شرعاً لأن المولود يحلق عنه وقيل: إنها من عق بمعنى قطع، ومنه عق والديه، رجحه ابن بعد البر. أما العقيقة شرعاً: فهي كما في " الإِرشاد " ذبح شاة عن المولود سابع ولادته، قال عطاء: " ولا يحسب اليوم الذي ولد (1) فيه إن سبق الفجر، وهي مؤقتة باليوم السابع ولا تشرع قبله ولا بعده، وقيل تجزىء بعد السابع (2) أيضاً (3). 939 - " باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتحنيكه " 1086 - معنى الحديث: يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: " ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعني فبادرت بإحضاره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) وهو مذهب مالك ومن وافقه من أهل العلم، قال ابن عبد البر: نص مالك على أن أول السبعة اليوم الذي يلي يوم الولادة، إلّا إن ولد قبل الفجر، وكذا نقله البويطي عن الشافعي. (2) وحكاه الترمذي عن بعض أهل العلم ولم يذكر أسماءهم. (3) قال ابن القيم في " تحفة الودود بأحكام المولود ": قال عطاء: إن أخطأهم أمر العقيقة يوم السابع، أحببت أن يؤخره إلى اليوم السابع الآخر، وكذلك قال أحمد، وإسحاق والشافعي، ولم يزد مالك على السابع الثاني وقال ابن وهب: لا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث، وهو قول عائشة وعطاء وأحمد وإسحاق (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ وكانَ أكْبَرَ وَلَدِ أبي مُوسَى".   بعد ولادته مباشرة " فسماه إبراهيم " أي فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم في يوم مولده، " فحنكه بتمرة " أي فمضغ في فمه تمرة، وجعلها في فم الصبي كي تحل به البركة " ودعا له بالبركة " أي ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الله فيه الخير والصلاح، ويوفقه في دينه ودنياه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استدل به البخاري على مشروعية التعجيل بتسمية المولود يوم مولده لمن لم يعق عنه (1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمّى غلام أبي موسى بعد ولادته مباشرة، ولم يؤخر تسميته إلى يوم سابعه، ولا خلاف بين أهل العلم في أنه يستحب تسميته في يوم سابعه إن عق عنه، وإلّا فإنه يُسَمَّى قبل ذلك قال: في " منهج السالك على مذهب مالك " ويسمى يوم السابع إن عق عنه، وإلّا سمي قبل ذلك، ولو ومن يوم الولادة. والتسمية يوم السابع سنة مستحبة، فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه تُسَنّ التسمية يوم السابع. قال ابن قدامة (1): ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى، لحديث سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: " كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمّى فيه ويحلق رأسه ". وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن، لما روي أن النبي قال لفاطمة لما ولدت الحسن: " احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة على المساكين والأوفاض " وهم أهل الصفة. قال ابن قدامة: " وإن سمّاه قبل السابع جاز (2)، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ". ثانياًً: دل هذا الحديث على استحباب تحنيك الصبي عند تسميته وقد تقدم معناه أثناء شرح الحديث، والأفضل أن يكون التحنيك بالتمر، فإن لم يتيسر فبالرطب وإلّا فبشيء حلو، وأولاه عسل النحل.   (1) " المغني " لابن قدامة ج 9. (2) " المغني " لابن قدامة ج 9. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 940 - " بَابُ إمَاطَةِ الأذَى عَنِ الصَّبِيِّ في العَقِيقَةِ " 1087 - عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَبِّي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَعَ الغُلَامِ عَقِيقَةٌ، فَأهْرِيقُوا عَنْهُ دَمَاً، وأمِيطُوا عَنْهُ الأذَى ".   قال الحافظ: والحكمة في التحنيك: أن يتمرن الصبي على الأكل ويقوى عليه، ويستحب أن يختار لتحنيكه الصالحون كما تدل عليه أحاديث الباب. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه إبراهيم " حيث سماه بعد الولادة مباشرة وهو ما ترجم له البخاري. 940 - " باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة " 1087 - معنى الحديث: يحدثنا سلمان بن عامر رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مع الغلام عقيقة " أي أن الله شرع لكم مع كل غلام يولد عقيقة تذبح في اليوم السابع من ولادته " فأهريقوا عنه دماً " أي فأسيلوا عنه في يوم سابعه دماً، وذلك بذبح العقيقة المشروعة عنه " وأميطوا عنه الأذى " أي أزيلوا عنه الأذى بغسل جسمه، وإلباسه ثياباً نظيفة وحلق شعره في اليوم الذي تذبحون فيه عقيقته، وهو اليوم السابع من ميلاده. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية العقيقة، وهي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم السابع من ميلاده لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مع الغلام عقيقة " واختلف في حكمها، فذهب الحسن البصري والظاهرية إلى أنّها واجبة، حتى قال ابن حزم: إنها فرض يجبر عليها إذا فضل له من قوته مقدارها، وتمسكوا في ذلك بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " فأهريقوا عنه " حيث حملوا الأمر على الوجوب، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إنها سنة مؤكدة، ولو كان الأب معسراً، وحملوا الأمر على الندب، قال أحمد: العقيقة سنة عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عقَّ عن الحسن والحسين، وفعله أصحابه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الغلام مرتهن بعقيقته " وهو بإسناد جيد، وقال مالك في " الموطأ " ليست العقيقة بواجبة، ولكنها يستحب العمل بها، وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا، فمن عق عن ولده فإنما هي بمنزلة النسك والضحايا. وقال ابن رشد: وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضاً ولا سنة، وقد قيل: إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع، وقد صرح محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة بأن العقيقة تطوع. واستدل الجمهور على أن الأمر بالعقيقة للندب والاستحباب لا للوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده -أي أن يذبح عنه عقيقة- فليفعل " قال الزرقاني: فإن جعل ذلك موكولاً إلى محبته مع تسميته نسكاً يدل على الاستحباب. واختلقوا في العقيقة، هل هي واحدة في الذكر والأنثى أو أنّها تختلف؟ فذهب الشافعي وأحمد إلى أنه يعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وهو قول ابن حبيب من المالكية، واستدلوا بما رواه الترمذي في سننه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يعقوا عن الغلام شاتين مكافئتين، وعن الجارية شاة " وقال: حديث حسن صحيح، وقال مالك: الذكر والأنثى سواء، يعق عن كل واحد منهما شاة، واحتج بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً " أخرجه أبو داود، لكن جاء في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ " كبشين كبشين " واختلفوا هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، فذهب مالك إلى أنه يشترط، وفيه وجهان للشافعية، أصحها أنه يشترط. ثانياً: دل هذا الحديث على استحباب تنظيف المولود يوم سابعه بإزالة ما به من قذر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأميطوا عنه الأذى " وليس المراد بذلك حلق الرأس فقط، بل هو أعم فيشمل حلق رأسه، وتطهيره من الأوساخ التي علقت بجسمه وإلباسه ملابس نظيفة. ويستحب أن يحلق شعره ويتصدق بوزنه فضة، قال ابن قدامة: وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن، وقال ابن أبي زيد في " الرسالة ": وإن حلق شعر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 رأس المولود، وتصدق بوزنه من ذهب أو فضة فذلك مستحب. قال ابن قدامة قال بعض أهل العلم: يستحب للوالد أن يؤذّن في أذن ابنه لما روي عن عبد الله بن رافع رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة " والتهنئة بالمولود مشروعة عرفها السلف في حدود الاعتدال بحيث لا تتعدى الدعاء، قال ابن قدامة: روينا أن رجلاً قال لرجل عند الحسن: ليهنك الفارس، فقال الحسن: وما يدريك أنّه فارس هو أو حمار؟ فقال: كيف نقول؟ فقال قل: بورك لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده ورزقت بره. الحديث: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي (1) أيضاً. ...   (1) كما في " عون المعبود شرح سنن أبي داود " ج 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الصَّيد والذبائح " 941 - " بَابُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الصَيْدِ " 1088 - عن عَدِيّ بْنِ حَاتِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَيدِ المِعْرَاضِ؟ قَالَ: "ما أصَابَ بِحَدِّهِ   " كتاب الصيد والذبائح " الذبائح ما ذكي من الحيوان، والذكاة الشرعية كما قال الفقهاء: هي ذبح الحيوان بقطع حلقومه (1) أو مريئه كما في الغنم والبقر. أو نحره كما في الإِبل وهو أن يضرب البعير بسكين في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، أو عقره: أى عقر الحيوان إذا كان متوحشاً غير مقدور عليه، واقتناصه بالسلاح أو بالجوارح والحيوانات المعلمة. فالعقر أو الصيد. يستعمل في الحيوانات الوحشية غير المقدور عليها، كالطيور والظباء وحمر الوحش، وهو ذكاتها، والذبح والنحر يستعملان في الحيوانات الأليفة المقدور عليها، قال ابن قدامة: " لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإِبل وذبح ما سواها (2) والمراد بالذبائح: كل ما ذُكِّيَ من الحيوان، سواء ذُكي بالذبح أو بالنحر. أما الصيد فهو في الأصل مصدر صاد يصيد، ولكنه عومل هنا معاملة الأسماء فأطلق على الحيوان المصاد وتعريفه شرعاً: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً غير مملوك ولا مقدور عليه .. 941 - " باب التسمية على الصيد " 1088 - معنى الحديث: لقول عدي بن حاتم: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) الحلقوم مجرى النفس من الحيوان، والمريء مجرى الطعام والشراب منه. (2) " المغني " لابن قدامة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 فَكُلْهُ، وَمَا أصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ، وسألتُهُ عَنْ صَيْدِ الكَلْبِ؟ فَقَالَ: مَا أمسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ، فَإِنَّ أخْذَ الكَلْب ذَكَاة، وِإنْ وَجَدْتَ معَ كَلْبِكَ أوْ كِلابِكَ كَلْباً غَيْرَهُ فَخَشِيْتَ أنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ وقَدْ قَتَلَهُ، فلا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ".   عن صيد المعراض" هل هو حلال أم لا؟ والمعراض هو سهم محدد الطرفين، غليظ الوسط، يصيب تارة بحده، وتارة بعرضه " قال: ما أصاب بحده " أي كل ما أصابه بطرفه المحدد فكل، فإنه صيد شرعي مباح الأكل، وفي رواية " إذا رميت بالمعراض، وذكرت اسم الله فأصاب فَخَرَق -أي نفذ في المصيد بحده- فكل " أخرجه الستة، وقال الترمذي: حسن صحيح " وما أصاب بعرضه فهو وقيذ " فإنه يحرم كما يحرم الوقيذ، وهو الحيوان المقتول بشيء مثقل من حجر أو خشبة أو نحوها " وسألته عن صيد الكلب " " والمعنى " أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحيوان الذي يصطاده الكلب المعلم " فقال: ما أمسك عليك فكل " أي ما أمسكه كلب الصيد لك: وصاده من أجلك فكل، وفي رواية " ما علَّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته، وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك " قلت وإن قتل، قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً، فإنما أمسكه عليك " أخرجه أبو داود والترمذي والبيهقي. وأحمد مطولاً ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أمسك عليك فكل " أي ما صاده الكلب المعلم لك، واحتفظ به من أجلك، ولم يأكل منه شيئاً، فإنه صيد شرعي مباح الأكل، فكل منه ما شئت، وأطعم منه من شئت قال - صلى الله عليه وسلم -: " فإنّ أخْذَ الكَلْبِ ذكاة " أي فإن عقره له ذكاة شرعية تبيح أكله كما يبيح الذبح والنحر لحوم الضأن والبقر والإِبل. قال - صلى الله عليه وسلم -: " وإن وجدت مع كلبك أو كلابك كلباً غيره فحسبت أن يكون أخذه، وقد قتله فلا تأكل " أي إن وجدت مع كلابك كلباً آخر وخشيت أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 قد اشترك معها في قتل الحيوان أو انفرد بقتله، فإنه يحرم أكله، لاحتمال أنه استرسل بنفسه، أو أرسله مجوسي لم يذكر اسم الله عند إرساله " فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك، ولم تذكره على غيره " أي فلو صاده الكلب الآخر فإنه يحتمل أنه لم يذكر اسم الله عليه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز الصيد بكل محدد فكل حيوان صيد بمحدد فهو مباح الأكل، ولا يحل صيد المثقل وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، لأنه وقيذ. ثانياًً: دلّ هذا الحديث على أن صيد الكلب وشبهه من ذوات الناب حلال بثلاثة شروط: الأول: أن يكون معلماً إذا أغراه صاحبه بالصيد طلبه، وإذا زجره انزجر، وإذا أمسك الصيد أمسكه على صاحبه، واختلفوا في علامة ذلك ومتى يتحقق كونه معلّماً على صاحبه، فذهب أحمد وأبو يوسف ومحمد والشافعي (1) في أرجح أقواله: أن علامة إمساكه على صاحبه، وكونه معلماً أن لا يأكل من الصيد، فإن أكل منه فلا يجوز الأكل منه، لما في رواية النسائي، " فإن أدركته قد قتل، ولم يأكل فقد أمسكه عليك، وإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئاً فإنما أمسك على نفسه " وفي رواية الترمذي " فإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه "، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن الكلب المعلم يعرف بغالب الرأي، أو بالرجوع إلى أهل الخبرة، فإذا عرف بذلك أنّه معلّم، فإنه يؤكل من صيده ولو أكل منه، لما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا ثعلبة الأعرابي قال: يا رسول الله إنّ لي كلاباً مكلّبة أفتني في صيدها قال: " كل مما أمسكن عليك " قال: وإن أكل منه؟ قال: " وإن أكل منه " أخرجه أبو داود، ولا بأس بسنده. اهـ. الثاني: أنه يشترط في صيد الكلب أن يكون قد سمّى الله عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنما ذكرت اسم الله على كلبك" فإن   (1) " تحفة الأحوذي " ج 5. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 مفهومه أنه إذا لم يذكر اسم الله عند إرساله لا يحل صيده، ويؤكد ذلك نصاً وتصريحاً ما جاء في رواية أخرى عن عدي بن حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه (1)، فإن أدركته لم يقتل فاذبح، واذكر اسم الله عليه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل " الخ أخرجه النسائي. قال في " الإِفصاح " واختلفوا فيما إذا ترك التسمية على رمي الصيد أو إرسال الكلب. فقال أبو حنيفة: إن ترك التسمية في الحالين ناسياً حلّ الأكل منه، وإن تعمد تركها. لم يُبَح في الحالين " (2) وقال مالك: إن تعمد تركها لم يبح في الحالين. وإن تركها ناسياً فهل يباح أم لا؟ عنه روايتان، وعنه رواية ثالثة أنه يحل أكلها على الإِطلاق في الحالين سواء تركها عمداً أو ناسياً. وعن أحمد ثلاث روايات أظهرها أنّه إن ترك التسمية لم يحل الأكل منه على الإِطلاق سواء كان تركه التسمية عمداً أو سهواً والثانية: كمذهب أبي حنيفة والثالثة: إن تركها على إرسال السهم ناسياً أكل، وإن تركها على إرسال الكلب أو الفهد ناسياً لم يأكل. الثالث: أنه يشترط في جواز أكل الصيد أن يكون الكلب مرسلاً، لأن سياق الحديث يدل عليه، وقد جاء مصرحاً به في رواية أخرى عن عدي بن حاتم، قال فيها: " إذا أرسلت كلبك " إلخ أخرجه النسائي. ثالثاً: أنّه إذا وجد الصيد مقتولاً، ووجد مع كلبه كلباً آخر لا يعلم هل تتوفر فيه شروط الصيد أم لا، ولم يعلم أيهما قتله أو علم أنهما قتلاه أو قتله الكلب المجهول لا يحل له الأكل منه. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " فإنما ذكرت اسم الله على كلبك. ...   (1) لقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ). (2) وهو أظهر الروايات عن أحمد كما في " الإفصاح ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 942 - " بَابُ صَيْدِ القَوْس " 1089 - عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّا بِأرْضِ قَوْمٍ أهْلِ كِتَابٍ، أفَنَاكلُ في آنِيَتهِمْ؟ وَبِأرْضِ صَيْدٍ أصِيدُ بِقَوْسِي وبِكَلْبِي الذي لَيْسَ بِمُعَلَّم وَبِكَلْبِي الْمُعلَّمِ، فَمَا يَصْلُح لي، قَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ فإنْ وَجَدْتمْ غَيْرَهَا فلا تَأكُلُوا فيها، وَإنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا، وما صِدْتَ   942 - " باب صيد القوس " 1089 - ترجمة الراوي: وهو أبو ثعلبة جرثوم بن ناشر الخشني. بالخاء المضمومة والشين المعجمتين نسبة إلى بني خشن بطن من قضاعة صحابي جليل، أسلم يوم خيبر، وشهد بيعة الرضوان وذهب إلى قومه بني خشن فدعاهم إلى الإِسلام فأسلموا، توفي سنة 75 هـ. معنى الحديث: يقول أبو ثعلبة رضي الله عنه: " قلت يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب " وهي أرض الشام وهم من النصارى " أفنأكل في آنيتهم " أي هل يحل لنا الأكل في أوانيهم التي يأكلون فيها لحم الخنزير وغيره من اللحوم غير المذبوحة، ويشربون فيها الخمور " وبأرض صيد " أي ونحن في أرض تتوفّر فيها الحيوانات البرية ويكثر فيها الصيد " أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم فما يصلح لي " أي وأنا مولع بالصيد فمرة أصيد بالقوس، ومرة بكلب غير معلم، ومرة بكلب معلم، فما الذي يجوز أكله من الصيد؟ " قال: أمّا ما ذكرت عن أهل الكتاب " يعني أما سؤالك عن حكم آنية أهل الكتاب من الأطباق والقدور ونحوها " فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها " لتتأكدوا من طهارتها " وكلوا فيها " بعد غسلها بالماء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرَ مَعَلَّم فَأدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ".   الطهور، " وما صِدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل " فإنّه صيد شرعي حلال " وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله " عند إرساله " فكل " لأنه حلال " وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " ومفهومه إنك إذا لم تدرك ذكاته فلا تأكل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الاصطياد بالقوس ومشروعيته، ولا خلاف في ذلك. واتفقوا على أن من قصد صيداً بعينه، فرماه بسهمه فأصابه فإنه مباح (1)، ثم اختلفوا فيما إذا أصاب غيره، فقال أبو حنيفة. وأحمد يباح على الإِطلاق، وقال مالك: لا يباح على الإطلاق وقال الشافعي: إذا كان في السمت الذي رمى سهمه حل، وإن كان في غير السمت فلأصحابه وجهان (2) أما البنادق المعروفة اليوم، فهل يجوز الصيد بها أم لا؟ فقد قال الصنعاني (3): وأما البنادق المعروفة الآن، فإنّها ترمي بالرصاص وقد صيرته نار البارود كالميل، فيقتل بحده، فالظاهر حل ما قتلته، وإلى حله ذهب الشوكاني في " نيل الأوطار " والسيد صديق حسن خان والله أعلم. ثانياً: إباحة استعمال أواني الكفار ومثلها ثيابهم عند عدم وجود غيرها بعد غسلها إذا علم استعمالهم لها في المحرمات. ثالثاً: جواز صيد الكلب المعلم بالشروط التي تقدم بيانها في الحديث السابق. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي   (1) وهل يشترط ذكر اسم الله عليه أم لا؟ تقدم بيانه في الحديث السابق. (2) " الإفصاح عن معاني الصحاح " ج 2. (3) " سبل السلام " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 943 - " بَابُ مَن اقتنَى كَلبَاً لَيسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ أوْ مَاشِيَة " 1090 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ اقْتَنى كَلْباً لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أو ضَارِيةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْم مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ ".   وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل ". 943 - " باب من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد أو ماشية " 1090 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " من اقتنى كلباً " أي من اتخذ كلباً في منزله أو حانوته " ليس بكلب ماشية " أي ليس هذا الكلب لحراسة ماشية ولا زرع " أو ضارية " أي وليس كلب صيد " نقص كل يوم من عمله قيراطان " أي نقص من أعماله الصالحة كل يوم مقدار قيراطين. ومعناه: من اقتناه لغير حاجة من هذه الحاجات المعتبرة شرعاً فإنه ينقص من. أجره شيء عظيم " قرّب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا معناه بالقيراطين، والله أعلم قدر ذلك " وذلك لأنه عصى الله باقتنائه، فإن دعت (1) الحاجة إليه لمنفعة ومصلحة شرعية لحراسة الغنم أو حراسة الحقول الزراعية، أو قصد به الصيد فإنه يجوز. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم اتخاذ الكلب لغير مصلحة معتبرة شرعاً، لكونه من البهائم القذرة التي ينجم عن اقتنائها مضار ومفاسد عظيمة من ابتعاد الملائكة عن المكان الذي هو فيه، وترويع الناس بنباحه الكريه أثناء الليل، وتخويف المارة، وقد صرح الحديث بنقصان أجر صاحبه كل يوم قيراطين، وهذا يدل على تحريمه، لأن مثل هذا الوعيد الشديد لا يترتب   (1) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 944 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ المثلةِ والمَصْبُورَةِ وَالمُجَثَّمَةِ " 1091 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ: " لَعَنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ مَثَّلَ بالْحَيْوَانَ ".   إلّا على محرم، واختلف العلماء: هل المنع للتحريم أو للكراهة؟ فذهب إلى تحريم اقتناء الكلب الشافعية إلاّ المستثنى. اهـ. وكذلك الحنابلة، قال النووي، أمّا اقتناء الكلب فمذهبنا أنّه يحرم اقتناؤه لغير حاجة، ويجوز للصيد والزرع والماشية، وهل يجوز لحفظ الدور والدروب ونحوها؟ فيه وجهان أصحها جوازه (1). ثانياً: دل الحديث على أن المنافع المشروعة التي يجوز اقتناء الكلب لأجلها أمران، الأول: الصيد، فإنه يجوز اقتناء الكلب المعلّم المدرَّب على الصيد لاصطياد الحيوانات البرية. الثاني: يجوز اقتناء الكلب لحراسة الماشية والزرع ما عدا الكلب الأسود البهيم، فإنه لا يجوز عند أحمد وإسحاق. قال في تيسير العلام (2): بهذا نعلم مبلغ ما لدى الغربيين من السفاهة وقلة البصيرة، حيث اعتنوا باقتنائها لغير فائدة يلامسونها ويقبلونها، فهل بعد هذا من سفه؟! والعجب أن مثل هذه العادات والأعمال القبيحة مشت عند المستغربين منا. وتدينوا بأعمالهم واعتنقوا كل سفالة عندهم، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " نقص كل يوم من عمله قيراطان ". 944 - " باب ما يكره من المثلة " 1091 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مثل بالحيوان " أي قطع أجزاء جسمه وهو حي، لما في ذلك من تعذيب الحيوان، الذي أوجب الشارع الرحمة والرفق به، والعطف والشفقة   (1) " أوجز المسالك إلى موطأ مالك " ج 15. (2) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 945 - " بَابُ ما أنهَرَ الدَّمَ مِنَ القَصَبِ وَالْمَرْوَةِ " 1092 - عن رَافِع بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ لَنَا مُدَى؟ فَقَالَ: " مَا أنهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ ليْسَ الظُّفُرَ والسِّنَّ، أمَّا الظّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ، وأمَّا السِّنُّ فَعظْمٌ "   عليه، حتى في حال ذبحه، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم تعذيب الحيوان بالتمثيل به وهو حى، أو محاولة الانتصار عليه بخداعه وطعنه بالخناجر والسهام في ظهره استعراضاً لبطولة زائفة في مصارعة كاذبة، كما في مصارعة الثيران التي نرى فيها دعاة الرفق بالحيوان كيف يعذبون الحيوان المسكين، ويتخذون من تعذيبه ملهاة يتسلى بها الجماهير، فإن الإِسلام وهو دين الرحمة قد حرم ذلك أشد التحريم، لما فيه من قسوة ووحشية. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كون - صلى الله عليه وسلم - لعن من مثل بالحيوان. وهذا يدل على تحريم التمثيل به. 945 - " باب ما أنهر الدم من القصب (1) والمروَةِ ". 1092 - معنى الحديث: يحدثنا رافع بن خديج رضي الله عنه " أنه قال: يا رسول الله ليس لنا مُدى " جمع مدية، وهي السكين " فقال: ما أنهر الدم " أي أسأله بكثرة " وذكر اسم الله عليه " عند الذبح حقيقة أو حكماً كما في الناسي فَكُل أي فكل ذبيحته، فإنّ ذبيحته ذبيحة شرعية صحيحة " ليس الظفر والسن " أي ما عدا الظفر والسن، فلا يجوز الذبح بهما وفي رواية أبي داود ما لم يكن سناً أو ظفراً. بضمتين أو بضم الظاء وسكون الفاء. "أما   (1) القصب نبات ذو أنابيب، والمروة حجر أبيض تجعل منه آلة حادّة كالسكين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 ونَدَّ بَعيرٌ فَحَبَسهُ فقالَ: " إِنَّ لِهَذِه الإِبلِ أوابِدَ كأوابِدِ الوَحْشِ فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فاصْنَعُوا بِهِ هكَذَا ".   الظفر فمدى الحبشة" أي أما الظفر فالعلة في تحريمه أنه أداة يذبح بها الحبشة، وهم كفار، وقد نهينا عن التشبه بهم " وأما السن فعظم " أي وأمّا السن فالعلة في تحريمه أنه من العظم الذي هو زاد إخواننا من الجن، فنهينا عن الذبح به، كما نهينا عن الاستنجاء به لئلا يتنجس بالدم، أو بالروث فلا يأكلونه " وندَّ بعيرٌ فحبسه " بفتح النون، وتشديد الدال، أي وهرب بعير على وجهه شارداً فأعياهم إمساكه فرماه - صلى الله عليه وسلم - بسهم " فقال: إن لهذه الإِبل أوابدَ كأوابد الوحش " أي إن الإبل تحدث منها أحياناً أمور غريبة كما يحدث من الحيوانات المتوحشة " فما غلبكم منها " أي فما هرب منكم وعجزتم عن إمساكه " فأصنعوا هكذا " أي فارموه بسهم كما صنعت. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجوز الذبح بكل محدد قاطع، سواء كان مدية أو قصباً أو مروة أو أي محدد. قال النووي: فكلها تحصل بها الذكاة إلاّ السن والظفر والعظام كلها، أما الظفر فيدخل فيه ظفر الآدمي وغيره من كل الحيوانات للحديث وأما السن فيدخل فيه سن الآدمي وغيره، الطاهر والنجس، المتصل والمنفصل، ويلحق به سائر العظام من كل الحيوان المتصل منها والمنفصل، الطاهر والنجس، وبهذا قال جمهور العلماء، وقال الحنفية: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين ويجوز بالمنفصلين، وروي عن مالك روايات أشهرها جوازه بالعظم مطلقاً، لا بالسن مطلقاً (1) قال في " تيسير العلام " أما المشهور من المذاهب (2) فيختص - يعني التحريم بالسن (3) فقط والله   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 3. (2) أي مذهب الحنابلة. (3) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 946 - " بَابُ أكْلَ كُلِّ ذي نابٍ مِنَ السباعَ " 1093 - عن أبي ثَعْلبَةَ الخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ أَكْل كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّباعِ ".   أعلم. ثانياًً: اشتراط التسمية في الذكاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل " وقد اختلف في ذلك الفقهاء فقال الشعبي وابن سيرين وداود الظاهري وأحمد في رواية التسمية على الذبيحة شرط، فلو تركها عمداً أو نسياناً لا تحل لهذا الحديث، ولقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وقال الجمهور: شرط عند الذكر، فإن تركها عمداً لا تحل، وهو مشهور مذهب مالك وأحمد، لظاهر قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وإن تركها نسياناً حلت الذبيحة. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " المسلم يكفيه اسمه فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم، وليذكر اسم (1) الله، ثم ليأكل " أخرجه الدارقطني والبيهقي، وفي سنده محمد بن يزيد بن سنان صدوق ضعيف الحفظ (2)، وذهب الشافعي إلى أن التسمية على الذبيحة سنة مستحبة، وليست شرطاً، فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر، وهو رواية عن أحمد لحديث عائشة رضي الله عنها أنهم قالوا: يا رسول الله إن قوماً حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سموا الله وكلوا " أخرجه الستة وأحمد والبيهقي والدارمي. - والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ". 946 - " باب أكل كل ذي ناب من السباع " 1093 - معنى الحديث: يحدثنا أبو ثعلبة رضي الله عنه "أن رسول   (1) " تكملة المنهل العذب " ج 3. (2) وقد صح موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما كما قال البيهقي وغيره. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 947 - " بَابُ المِسْكِ " 1094 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ذي ناب من السباع" قال ابن الأثير: الناب: السن التي خلف الرباعية، قال ابن سينا: لا يجتمع في حيوان واحد ناب وقرن معاً، والسبع كما في القاموس المفترس من الحيوان (1)، ومعناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل حيوان مفترس له ناب قوي يصطاد به كالأسد والذئب والنمر ونحوه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم السباع التي لها ناب لقوله في حديث الباب: " نهى عن كل ذي ناب من السباع " قال الترمذي: والعمل (2) على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وهو قول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. اهـ. قال في " تحفة الأحوذى ": وهو قول أبي حنيفة، وقال الحافظ: وحكى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك كالجمهور أي أنه يقول بتحريم كل ذي ناب من السباع، وقال ابن العربي: المشهور عنه الكراهة. اهـ. واستثنى الشافعي منه الضبع (3) والثعلب خاصة، لأن نابهما ضعيف. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نهى عن كل ذي ناب من السباع ". 947 - " باب المسك " 1094 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الجليس الصالح   (1) " تحفة الأحوذى " ج 5. (2) " جامع الترمذي ". (3) قال في " الإفصاح: واختلفوا في الضبع والثعلب " فقال أبو حنيفة: لا يحل أكلهما، وقال مالك والشافعي: هما مباحان، وقال أحمد: الضبع مباح رواية واحدة، وفي الثعلب روايتان، إحداهما تحريمه وهي اختيار الخلال، والأخرى إباحته، وهي اختيار عبد العزيز، واختلفوا في الضب واليربوع، فقال أبو حنيفة يكره أكلهما، وقال مالك والشافعي: هما مباحان، وقال أحمد: الضب مباح رواية واحدة وفي اليربوع روايتان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَثَل الجَلِيسِ الصَّالِحِ والسُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أنْ يحْذِيَكَ، وِإمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْه رِيحاً طيِّبةً، وَنَافِخ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَكَ، وِإمَّا أنْ تَجِدَ ريحاً خَبِيثَةً ".   والسوء كحامل المسك ونافخ الكير" في هذا الكلام النبوي البليغ لفٌّ ونشرٌ مرتب، وأصل الكلام مثل الجليس الصالح كحامل المسك، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير. والمعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه الجليس الصالح في دينه وخلقه بمن يحمل معه مسكاً، وشبه جليس السوء بمن ينفخ كيراً وهو آلة من الجلد ينفخ بها الحداد على النار، ثم بين وجه الشبه في قوله: " فحامل المسك إمّا أن يحذيك " أي فإذا جلست إلى حامل المسك لا بد أن تنتفع منه لأنه إما أن يهديك من الطيب الذي معه " وإما أن تبتاع منه " أي تشترى منه مسكاً " وإما أن تجد منه (أى تشم منه) رائحة طيبة وكذلك الجليس الصالح إما أن يفيدك بعلمه أو بنصحه وتوجيهه، أو حسن سلوكه بالاقتداء به. " ونافخ الكير " إذا صحبته لا بد أن يؤذيك فهو " إما أن يحرق ثيابك " من الشرر المتطاير " وإمّا أن تجد منه ريحاً خبيثة " من الدخان الذي يتصاعد من ناره فتشمّ منه رائحة كريهة تخنق أنفاسك، كذلك جليس السوء إما أن يغريك بالسيئة أو تقتدي بسلوكه السيء فتنحرف عن سواء السبيل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في مجالسة أهل الفضل، لأنهم يسعد بهم جليسهم، فإن كانوا علماء استفاد منهم علماً، وإن كانوا صلحاء استفاد منهم صلاحاً، وإن كانوا أبطالاً استفاد منهم شجاعة، لأن الأخلاق والمواهب والعلوم والمعارف والمهارات والآداب تتلاقح ويتأثر بعضها ببعض، وفي الحديث " المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 948 - " بَاب الأَرْنبِ " 1095 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: " أنْفَجْنَا أرْنَبَاً وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى القَوْم فَلَغِبُوا، فَأخذْتُهَا، فَجِئْت بِهَا إلى أبي طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بَوَرِكَيْهَا، أو قَالَ بِفَخِذَيْهَا إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبِلَهَا ".   ثانياًً: دل هذا الحديث على التحذير الشديد من جلساء السوء، لأنهم شر على من يجالسهم، وربما قصدوا أن ينفعوه فيضروه من حيث لا يشعرون. ثالثاً: قال العيني: في الحديث دليل على طهارة المسك، وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند جيد أنه كان له مسك يتطيب به، وعلى هذا جمهور العلماء. وقد كرهه جماعة، منهم عمر رضي الله عنه، وقال: لا تحنطوني به، وكذا عمر بن عبد العزيز إلّا أن هذا الخلاف قد انقرض واستقر الإجماع على طهارته، وجواز استعماله. رابعاً: أن المسك من أجمل العطور وأحلاها وأطيبها وأغلاها ولذلك ضرب به المثل في هذا الحديث. " الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - شبه بالمسك الجليس الصالح، وهذا يدل على فضله وطهارته، وهو ما ترجم له البخاري. 948 - " باب الأرنب " 1095 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " أنفجنا أرنباً " أي هيجنا أرنباً " فسعى القوم " أي فلما أثرناها أخذت تجري أمامنا، فجرى أصحابي خلفها " فلغبوا " بفتح الغين وكسرها أي فأخذوا يطاردونها حتى تعبوا " فأخذتها " وفي رواية للبخاري فأدركتها فأخذتها " فجئت بها إلى أبي طلحة، فذبحها، فبعث بوركيها، أو قال: بفخذيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي فأرسل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 949 - " بَابُ الضَّبِّ " (1) 1096 - عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ ولا أحَرِّمُهُ ". 1097 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنْ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأتِيَ بِضَبّ مَحْنُوذٍ، فَأهْوَى إليْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بيَده فَقَالَ   بفخذيها هدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقبلها " وفي رواية أخرى في الهبة " وأكل منه ". الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز أكل الأرنب، وهو قول عامة العلماء، لأنه ليس من السباع، ولا من أكلة الجيف. والمطابقة: في قوله: " فبعث بوركيها، أو قال بفخذيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبلها ". 949 - " باب الضب " 1096 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الضب لست آكله ولا أحرّمه " أي أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى إليه ضبٌّ، فامتنع عن أكله فظنوا أنه حرام، فتوقفوا عن أكله فقال: " الضب لست آكله " أي لست آكله طبعاً، لأن نفسي تعافه بسبب أنني لم أتعّود على أكله لأنه ليس من طعام أهل مكة " ولا أحرِّمهُ " ديناً وشرعاً، وفي رواية " كلوا فإنه حلال ". الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " ولا أحرمه ". 1097 - معنى الحديث: أن ابن عباس رضي الله عنهما يحدثنا عن خالد رضي الله عنه "أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة فأتي بضب   (1) دويبة صحراوية قاسية اللحم، تأخذ وقتاً طويلاً حتى تنضج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 بَعْضُ النِّسْوَةِ: أخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمَا يُرِيدُ أن يَأكُلَ، فقالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللهِ فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أحَرَامٌ هُوَ يا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بأرْضِ قَوْمَي فأجِدُني أعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فاجْتَرَرتُهُ فأكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظرٌ".   محنوذ" أي مشوي " فأهوى إله رسول الله " أي فمد - صلى الله عليه وسلم - يده إلى اللحم ليأكل منه، وهو لا يعلم أنه لحم ضب " فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده " عن ذلك اللحم، وتوقف عن أكله، " فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي " أي لم يكن في مكة، ولم أتعوّد على أكله " فأجدني أعافه " أي أتقذر منه وأكره لحمه طبعاً ولا أحرمه شرعاً " قال خالد: فاجتررته " أي فنهشت من لحم ذلك الضب وجررته بيدي " فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر " أي ينظر إلي ويشاهدني وأنا آكله. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا ". فقه الحديثين: دل الحديثان على ما يأتي: أولاً: جواز أكل الضب، وإباحة لحمه لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول: " ولست أحرمه " وقوله في الثاني: " فقلت: أهو حرام؟ فقال: لا " وهو مذهب عامة الفقهاء مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وبه قال أهل الظاهر بلا شك (1). ثانياًً: أن من عاف طعاماً أو شراباً وتقذرته نفسه فإنه ينبغي له أن يتركه، ولو كان من المباحات، لأن ذلك قد يؤذيه جسمياً أو نفسياً، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لحم الضب حين عافته نفسه.   (1) " شرح العيني " ج 21. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الأضاحي " الأضاحي: جمع أضحية والأضحية شرعاً: ما يذبح أيام عيد الأضحى في أيام النحر، تقرباً إلى الله تعالى بنيّة الأضحية، وهي مشروعة بالكتاب والسنة، لقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وقد ثبت في الأحاديث الكثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحّى وضحّى المسلمون، وشرعت في السنة الثانية من الهجرة وحكمها: أنها سنة مؤكدة يكره تركها مع القدرة أما الحنفية فإنهم يرون أن الأضحية، واجبة والمالكية يرون أنها سنة مؤكدة يقاتل أهل البلد على تركها كما يقاتلون على ترك الأذان. أما شروط سنيتها: فهى: (أ) القدرة عليها، فلا تسن على عاجز، والقادر عند الشافعية من يملك ثمنها زائداً عن حاجته وحاجة عياله، وعند الحنابلة من يمكنه الحصول على ثمنها، وعند المالكية من لا يحتاج إلى ثمنها لأمر ضروري (مدة) عامه، وعند الحنفية من يملك مائتي درهم. (ب) الشرط الثاني: الحرية، فلا تسن لعبد، وزاد الحنفية في شروطها الإِقامة، وزاد المالكية أن لا يكون حاجاً، ولو كان من أهل مكة. أما شروط صحتها: فقد اتفقوا على اشتراط سلامتها من العيوب الشرعية، فلا تجزىء العمياء والعوراء والعجفاء - أي الهزيلة التي لا مخّ في ساقها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا مقطوعة الأذن، أو اليد، أو نحوها. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 950 - " بَابُ الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلاةِ " 1098 - عن البَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ: " إنَّ أوَّلَ ما نَبْدأ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أن نُصَلِّيَ، ثم نَرجِعَ فَنَنْحَرَ، فمَنْ فَعَلَ هَذَا، فَقَدْ أَصَابَ سُنَتَّنَا، ومَن نَحَرَ فَإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لأهْلِهِ، لَيْسَ من النُّسَكِ في شَيْءٍ " فَقَالَ أبُو بردَةَ: يا رَسُولَ الله: ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أُصَلِّيَ، وعنْدي جَذَعَةٌ خَيْرٌ من مُسِنَّةٍ، فَقَالَ: " اجعَلْهَا مَكَانَهَا، ولَنْ تُجْزِىء أو تُوفِيَ عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ ".   950 - " باب الذبح بعد الصلاة " 1098 - معنى الحديث: يقول البراء بن عازب رضي الله عنه " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب " أي سمعته وهو يخطب خطة عيد الأضحى " فقال: إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا " أي إن أول عمل نبدأ به في هذا اليوم " أن نصلّي " أي أن نؤدي صلاة العيد مع الجماعة " ثم نرجع " أي ثم نعود إلى بيوتنا بعد الصلاة " فننحر " ضحايانا بعد الصلاة، لا قبلها " فمن فعل هذا " أي فمن نحر ضحيته، أو ذبحها بعد صلاة العيد " فقد أصاب سنتنا " وكانت أضحيته شرعية صحيحة. وفي رواية: " من صلّى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك " أخرجه الشيخان وأبو داود، ومعناه: فمن صلّى صلاة العيد، وضحى بعدها مثل أضحيتنا فقد أصاب العمل الموافق للسنة، وأجزأته أضحيته. " ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله " يقول - صلى الله عليه وسلم -: ومن نحر أضحيته، أو ذبح ذبيحته قبل صلاة العيد، فإنما هو مجرّد لحم قدمه لأهله ولا يجزىء عن الأضحية لأنه ذبح قبل وقتها " وليس من النسك في شيء " أي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 وليس من الضحية في شيء " فقال أبو بردة " ابن نِيَار بكسر النون: " ذبحت قبل أن أصلي " أي لم أكن أعرف ذلك فذبحت قبل الصلاة " وعندي جذعة " أي وعندي جذعة من المعز، وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية، فهل تجزئني في الأضحية؟ " فقال: اجعلها مكانها " أي اجعلها ضحية مكان الذبيحة التي ضاعت عليك ولم تحتسب لك " ولن تجزىء أو قال توفي " أي لن تكفي الجذعة " عن أحد بعدك " وإنما هذا الحكم حكم استثنائي لك خاصة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أول وقت الضحية يدخل بعد صلاة العيد، وهو مذهب أحمد ومن وافقه من أهل العلم، قال ابن قدامة: ظاهر هذا اعتبار نفس الصلاة (1)، والصحيح إن شاء الله تعالى أن وقتها في الموضع الذي يصلي فيه بعد الصلاة لظاهر الخبر، فأما غير أهل الأمصار، فأول وقتها في حقهم قدر الصلاة والخطبة. اهـ. وقال مالك: وقتها بعد الصلاة والخطبة وذبح الإِمام، قال الصنعاني (2): ودليل اعتبار ذبح الإِمام ما رواه الطحاوي من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحر، فأمرهم أن يعيدوا. وقال الشافعي: وقت الذبح إذا مضى من الوقت مقدار ما يصلي فيه ركعتين وخطبتين بعدهما. وقال أبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل الأمصار إذا صلّى الإمام العيد، أو مضى وقتها بالزوال إن لم تصلَّ لعذر، ويدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني من يوم النحر، لعدم وجوب صلاة العيد عليهم (3). ثانياً: دل الحديث على أن الجذع من المعز لا يجزىء في الأضحية، وهو ما أتمَّ سنة، ودخل في الثانية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بردة: "ولن تجزىء أو قال توفي عن أحد   (1) " المغني " لابن قدامة. (2) " سبل السلام " ج 4. (3) " تكملة المنهل العذب " ج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 951 - " بَابُ وَضْعِ القَدَمِ عَلَى صَفَحِ الذَّبِيحَةِ " 1099 - عَنْ أنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُضحّى بِكَبْشَيْنِ أملَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ على صَفْحَتِهِمَا وَيَذْبَحَهُمَا بِيَدِهِ ".   بعدك". الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ". 951 - " باب وضع القدم على صفحة الذبيحة " 1099 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين " أي برأسين من الغنم، وهو الضأن " أملحين أقرنين " أي أبيضين، لكل واحد منهما قرنان، " ووضع رجله على صفحتهما " أي وضع قدمه على جانب كل واحد منهما عند ذبحه " ويذبحهما يده " الشريفة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتى: أولاً: أن الأفضل في الأضحية هو الضأن ثم المعز، ثم بقية الأصناف الأخرى، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أبيضين. ثانياً: أنه يسن للذابح أن يضجع ذبيحته على شقها الأيسر، ويضع قدمه على جانبها وشقها الأيمن والحكمة في وضع القدم على صفحتها التقوِّي عليها، ولأنه أسرع في موتها. والمطابقة: في قوله: " وضع رجله على صفحتهما ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 952 - " بَابُ التَّكْبِير عِنْدَ الذَّبْحِ " 1100 - عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " ضَحَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا ".   952 - " باب التكبير عند الذبح " أي هذا باب يذكر فيه من الأحاديث ما يدل على مشروعية التكبير عند ذبح الأضحية وغيرها. 1100 - معنى الحديث: يقول أنس رضي الله عنه: " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين " أي برأسين من الضأن أبيضين لكل واحد منهما قرنان " وذبحهما بيده " الشريفة، ولم يوكّل غيره بذبحهما، " وسمّى وكبر " أي وقال عند الذبح: " بسم الله والله أكبر " " ووضع رجله على صفاحهما " أي على صفحتيهما على مذهب من يقول أقل الجمع اثنان (1)، وإضافة المثنى إلى المثنى تفيد التوزيع، أي وضع رجله على صفحة كل منهما (2). الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب التكبير مع التسمية عند الذبح، لقوله رضي الله عنه: " وسمّى وكبر " وتقدم الكلام على التسمية. ثانياً: أفضلية أن يقوم المضحي بذبح شاته بنفسه. ثالثاً: أن الأفضل في الضحيّة الكبش الأبيض. والمطابقة: في قوله: " وكبر ". ...   (1) " شرح العيني " ج 21. (2) أي على جانب عنقها الأيمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 953 - " بَابُ مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحْومِ الأضَاحِي وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا " 1101 - عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنَّهُ صَلَّى العيد يَوْمَ الأضْحَى قَبْلَ الخطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: يَا أَيّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَاكمْ عَنِ صِيَامِ هَذَيْنِ العِيدَيْنِ، أَمَّا أحدُهُمَا فَيَوْم فِطركُمْ مِنْ صِيَامِكمْ، وأمَّا الآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ ".   953 - " باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها " 1101 - معنى الحديث: أن عمر رضي الله عنه على عهد خلافته " صلى العيد يوم الأضحى قبل الخطبة " كما كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتداءً بسنته " ثم خطب " خطبة العيد بعد الصلاة " فقال: يا أيها الناس إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم عن صيام هذين العيدين " وهما عيد الفطر وعيد الأضحى " أما أحدهما فيوم فطركم من صيامكم " أي أما الأوّل فقد شرع الله فيه الفطر من صيام رمضان، فكيف تخالفون شرع الله وتصومونه " وأما الآخر " وهو عيد الأضحى " فيوم تأكلون فيه من نسككم " أي فهو يوم شَرَعَ الله لكم فيه الأكل من ذبائحكم، فكيف تتركون - صلى الله عليه وسلم - منها وتصومون عنها؟. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الأكل من لحوم الأضاحي دون تحديد وتقييد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم " وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلوا وأطعموا وادخروا " وهذا يدل على مشروعية الأكل، والادخار، والإِطعام الشامل للهدية والصدقة دون تحديد. وقالت الشافعية: يستحب أن يتصدق بمعظمها وأدنى الكمال أن يتصدق بالثلث ويهدي الثلث، وقالت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 الحنفية: يستحب أن لا ينقص التصدق عن الثلث، أما الأكل والهدية فلا تحديد فيهما. ثانياًً: تحريم صيام العيدين. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في قوله: " وأما الآخر فيوم تأكلون فيه من نسككم ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ الأشْرِبَةِ " 954 - " بَابُ قَوْل الله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) .. إلخ " 1102 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا يَزْنِي الزَّانِي حينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ".   " كتاب الأشربة " 954 - " باب قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ) 1102 - معنى الحديث: ظاهر هذا الحديث أن من ارتكب جريمة الزنا أو السرقة، أو شرب الخمر، يخرج من الإِيمان، لكن هذا الحديث معارض بأحاديث صريحة في أن المعصية مهما عظمت لا تخرج صاحبها عن الإِيمان، ولا تخلده في النار، منها حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل فبشرني أن من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق " قلت: " وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق " ثم قال في الرابعة: " على رغم أنف أبي ذر " إذن فما معنى قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 955 - " بَابُ الْخمْرِ مِنَ الْعَسَلِ وَهُوَ البِتْعُ " 1103 - عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَرَابِ البِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ العَسَلِ، وَكَانَ أهْلُ اليَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " كُلُّ شَرَابٍ أسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ ".   - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن؟ " فُسِّر ذلك بمعان متعددة أرجحها معنيان: الأول: أن الإيمان يرتفع عنه عند الزنا وشرب الخمر والسرقة، فيكون على رأسه كالظلة، ثم يعود إليه بعد الفراغ من جريمته. الثاني: أن الزاني والشارب والسارق لا يكون كامل الإِيمان، وإنما يكون مؤمناً فاسقاً، ناقص الإيمان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الزنا والسرقة وشرب الخمر من أكبر الكبائر، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الإِيمان عمن فعل ذلك، فدل على أنها من أعظم الموبقات في الإسلام. ثانياًً: تحريم الخمر وسائر المشروبات المسكرة، لأن أقل ما يقتضيه نفي الإِيمان عن شاربها أنه فاسق عاص شارب للحرام، هذا بالإضافة إلى الوعيد الشديد الذي جاء في الأحاديث الأخرى. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في قوله: " ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ". 955 - " باب الخمر من العسل وهو البتع " 1103 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شرب البتع بكسر الباء وهو نبيذ العسل، فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بجواب عام شامل " فقال: كل شراب أسكر فهو حرام " أي لا عبرة باختلاف الأسماء ولا باختلاف مادته الأولى التي يتخذ منها فكل شراب أسكر فهو خمر محرم من أي نوع أخذ. وهذا من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - وحسن بيانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن جميع الأشربة الكحولية المسكرة حرام. مطلقاً من أي نوع كانت، ومن أي مادة صنعت، لأن العلة في التحريم هي الإِسكار، كما يدل علمه قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل شراب أسكر فهو حرام " ويدخل في ذلك نبيذ التمر والشعير والعسل والزبيب والتين، وسائر المشروبات الكحولية المسكرة، سواء كانت بنسبة قليلة أو كثيرة لاطلاق هذا الحديث وعمومه، فأما إطلاقه فيدل على تحريم الكثير والقليل منه على حدٍ سواء، ولو كان هذا القليل لا يسكر شربه، كما جاء مصرحاً بذلك في حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه " قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان، وأخرجه الترمذي وحسنه، ورجاله ثقات. وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مسكر حرام، ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام " وفي رواية " الحسوة منه حرام " أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، والفرق (بفتح الراء وسكونها) مكيال يسع ستة عشر رطلاً، والحسوة (بضم الحاء) الجرعة الواحدة من الشراب، وهذا يدل على أن القليل والكثير في التحريم سواء، وهو مذهب الجمهور خلافاً لأبي حنيفة. أما عموم هذا الحديث: فإن قوله " كل شراب أسكر فهو حرام " يدل بعمومه وكونه على تحريم كل مادة مسكرة، ولو لم تكن من الأشربة، ولهذا ذهب أهل العلم إلى تحريم الحشيشة وغيرها من المواد التي تشبهها. قال الصنعاني: ويحرم ما أسكر من أي شيء، وإن لم يكن مشروباً كالحشيشة، قال ابن حجر: من قال إنّها لا تسكر وإنما تخدر فهو مكابر، فإنها تحدث ما تحدث الخمر من الطرب والنشوة، وإذا سلم عدم الإِسكار فهي مفترة، وقد أخرج أبو داود أنه " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر ". قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء، وحكى العراقي وابن تيمية الإِجماع على تحريم الحشيشة، وأن من استحلها كفر. قال ابن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 956 - " بَابُ شُرْبِ اللَّبَنِ " 1104 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ، الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو بِإنَاءِ وَتَرُوحُ بِآخَرَ ".   التتار، وهي من أعظم المنكرات، وهي شر من الخمر من بعض الوجوه، لأنها تورث نشوة ولذة وطرباً كالخمر، ويصعب الفطام عنها وقال ابن البيطار: وقبائح خصائها كثيرة، وعدَّ منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دنيوية، وقبائح خصالها موجودة في الأفيون، وفيه زيادة مضار، وقال ابن دقيق العيد: في الجوزة إنها مسكرة، ونقله عنه متأخرو علماء المالكية والشافعية، واعتمدوه. ثانياًً: أنه لا فرق بين ما صنع من العنب، أو غيره في تحريم القليل والكثير منه على السواء، لأن كل مسكر خمر، وكل ما أسكر كثيره فقليله حرام، فيستوي في ذلك جميع الأشربة المسكرة، ولا عبرة بأصلها، ولا بالمادة التي صنعت منها خلافاً لأبي حنيفة، حيث فرّق بين خمر العنب وغيره. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة. 956 - " باب شرب اللبن " 1104 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " نعم الصدقة اللقحة " بكسر اللام وفتحها، وسكون القاف وهي الناقة الحلوب قرب الولادة " الصفي " الحلوب التي تحلب لبناً كثيراً " منحة " بكسر الميم، وسكون النون والنصب على التمييز، والمعنى أن من أفضل الصدقات المحمودة أن تعير ناقتك الحلوب قرب ولادتها لغيرك، فتلد عنده، وتبقى لديه يشرب من لبنها، ويتغذى منها، حتى إذا انتهى لبنها ردها عليك " والشاة الصفي منحة " أي وكذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 من أفضل الصدقات المحمودة إعارة الشاة الصفي التي " تغدو بإناء، وتروح بإناء " أي التي تحلب في الصباح إناء، وفي المساء إناءاً. الحديث: أخرجه البخاري. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل المنيحة واستحبابها، وكونها من أفضل الأعمال. ثانياًً: دل الحديث على فضل اللبن، وأنه من أفضل المواد الغذائية للإنسان، كما يؤكد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تغدو بإناء وتروح بإناء " وحسبك أنه شراب المؤمنين الذي اختاره الله لنبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأمته حيث أخذ اللبن ليلة أسري به فقال جبريل: " الحمد لله الذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر غوت أمتك " قال ابن القيم: واللبن المطلق أنفع (1) المشروبات للبدن الإنساني، لما اجتمع فيه من التغذية والدموية، ولاعتياده حال الطفولة، وموافقته للفطرة الأصلية. اهـ. ولا شيء من الأغذية يغني غناءه، ومن مزاياه أنّه يغني عن الطعام والشراب، واقرأ إن شئت قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه، ومن سقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزىء من الطعام والشراب إلاّ اللبن " أخرجه أصحاب السنن. ولبن اللقاح ينفع من (2) البواسير والاستسقاء، ويهيج شهوة الغذاء والجماع، ويفتح السدد المتولدة في الكبد من الدم الغليظ، وينفع من الربو والاستسقاء، ولبن الماعز نافع من السعال ونزف الدم والسل ونحول الجسم. مطابقة الحديث للترجمة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم الصدقة اللقحة الصفي ". ...   (1) " الطب النبوي " لابن القيم. (2) " المعتمد في الأدوية المفردة " تأليف الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول الغساني التركماني صاحب اليمن المتوفى سنة (694) هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 957 - " بَابُ الشُّرْبِ قَائِمَاً " 1105 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " شَرِبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَائِماً مِنْ زَمْزَمَ ".   957 - " باب الشرب قائماً " 1105 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد الحرام، فطاف على بعيره، ثم أناخه بعد طوافه، فصلى ركعتي الطواف خلف المقام، ثم أتى بئر زمزم، فشرب منه حال كونه قائماً، ولم يجلس أثناء شربه - صلى الله عليه وسلم -. فقه الحديث: قال القسطلاني: استدل بهذه الأحاديث على جواز الشرب قائماً، وهو مذهب الجمهور، وكرهه قوم لحديث أنس عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " زجر عن الشرب قائماً " قال النووي: والصواب أن النهي محمول على كراهة التنزيه. قال ابن القيم: وقالت طائفة: النهي ليس للتحريم بل للإِرشاد يعني فهو إرشاد صحي وتوجيه، فمن يريد وقاية جسمه من الأضرار البدنية والاستفادة التامة من الماء المشروب فعليه أن يحافظ على الشرب جالساً، لأن للشرب قائماً كما قال ابن القيم: آفات عديدة منها: أنه لا يحصل به الري التام، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء، وينزل بسرعة واحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرّد حرارتها وأما إذا فعله نادراً أو لحاجة لم يضره. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كونه يدل على جواز الشرب قائماً، وهو ما أراده البخاري من الترجمة. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 958 - " بَابُ اختِنَاثِ الأسْقِيَةِ " 1106 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " نَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اخْتِنَاثِ الأسْقِيَةِ " يَعْنِى أنْ - تُكْسَرَ أفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا.   958 - " باب اختناث الأسقية " 1106 - معنى الحديث: يقول أبو سعيد الخدري: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث (1) الأسقية " جمع سقاء، وهو وعاء الماء من الجلد، " يعني أن تكسر أفواهها " يعني نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تثنى أفواه القرب، " فيشرب منها " أي من أفواهها، والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب من أفواه القرب على طريقة البادية، وقد جرت العادة عندهم أن الشارب يثني فم القربة فيشرب منه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه ينبغي للشارب أن يراعي القواعد الصحية، فلا يشرب من فم السقاء محافظة على سلامته وسلامة غيره، قال ابن القيم: في هذا آداب عديدة، منها أن تردد أنفاس الشارب قد تكسب الماء رائحة كريهة، ومنها أنه ربما غلب الداخل إلى جوفه من الماء فيتضرر به، وربما كان به حيوان لا يشعر به فيؤذيه، وربما كانت فيه قذارة لا يراها، ومنها أنه يملأ بطنه من الهواء، فلا يأخذ حظه من الماء. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية ". ...   (1) بكسر الهمزة وسكون الخاء وكسر التاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 959 - " بَابُ الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أو ثَلَاَثةٍ " 1107 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَنَفَّسُ في الإِناءِ ثَلَاثاً ".   959 - " باب الشرب بنفسين أو ثلاثة " 1107 - معنى الحديث: يحدثنا أنس رضي الله عنه في هذا الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثاً " أي يرفع فمه عن الإناء بعد كل دفعة منها فيتنفس خارجه ثم يعاود شربه مرة أخرى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب شرب السوائل على دفعات متعددة، وأن يتنفس أثناء الشرب عدة مرات خارج الإِناء. قال ابن القيم: في هذا الشرب فوائد مهمة نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مجامعها بقوله: " فإنه أروى وأمرأ وأبرأ " أي أهنأ للشارب وأصح وأسلم عاقبة من الشرب دفعة واحدة، الذي ربما أدّى إلى فساد مزاج المعدة والكبد. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث دليلاً على الترجمة. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب المرضى " قال ابن القيم: المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن. ومرض القلوب: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن، قال تعالى في مرض الشبهة: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) وأما مرض الشهوات فقال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ). وأما مرض الأبدان: فقد قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وفي هذا يقول الدكتور عادل الأزهرى: " إن هذا القسم فيه من الحكمة الإلهية ما لم يتوصل إليه الأطباء إلّا حديثاً في منتصف القرن الثامن عشر، فقد قسمت الأمراض عموماً إلى قسمين: الأول: الأمراض العضوية التي تنتج عن عدم أداء أي جزء من أجزاء الجسم وظيفته كاملة، أو توقفه عن العمل بالكلية، أو تنتج عن دخول ميكروبات مختلفة الأنواع إلى الجسم، وتصيب أي عضو فيه بالتلف. الثاني: الأمراض النفسية، وهي في الحقيقة أعراض أمراض متنوعة وكثيرة جداً، يشعر بها المريض مع عدم وجود أي مرض عضوي في جسمه، وهذه الأمراض تحدث عن مؤثرات خارجية في الحياة العامة مثل الخوف والشك والغرام وعدم الاكتفاء الجنسي، وكثرة الإجهاد وهذا هو مرض القلوب كما ذكره الله تعالى. ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد عالجوا الأمراض النفسية علاجاً ناجحاً لم يصل إليه علماء النفس رغم هذا التطور الكبير الذي وصل إليه هذا العلم، وذلك لأنّ طب القلوب كما يقول ابن القيم مسلم به للرسل صلوات الله عليهم ولا سبيل إليه إلّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 960 - " بَابُ مَا جَاءَ في كفَّارَةِ الْمَرَضِ " 1108 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ما يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلا هَمٍّ، وَلا حَزَنٍ، وَلا أذىً، ولا غَمٍّ، حَتَّى الشوكَةُ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطايَاهُ ".   من جهتهم. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل إلى بعض هذه الأمراض النفسية ولفت الأنظار إليها، ومن ذلك أنه استعاذ من النفاق وسوء الأخلاق والجبن والكسل. لينبه أمته إلى وجوب التعرف عليها واتخاذ كل الوسائل الممكنة للوقاية منها، وأنجح هذه الوسائل الالتجاء إلى الله تعالى والاستعاذة به من شرّها. 960 - " باب ما جاء في كفارة المرض " والمعنى هنا أن ذنوب المؤمن " تتغطى " بما يقع له من ألم المرض (1) فيعفى عنه، ولا يؤاخذ بتلك الذنوب، وأسند التكفير إلى المرض لأنه سببه فكأنه قال: " باب ما جاء في تكفير الذنوب بسبب المرض ". 1108 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب المسلم من نصب " يعني أن كل ما يصيب المسلم من تعب بدني " ولا وصب " أي ولا مرض عضوي كالحمّى والصداع، وآلام المفاصل، أو آلام العين، أو الأذن، أو غير ذلك. " ولا همّ ولا حزن " أي ولا يصيبه هم، وهو انشغال الفكر من توقع حدوث شيء مكروه، أو فوات شيء محبوب في المستقبل كالخوف من عدوّ، أو مرض، أو مفارقة قريب. " ولا حزن " وهو ألم النفس بسبب وقوع أمر مكروه، في الماضي " ولا أذى " أي ولا يتعدى عليه أحدٌ بأيِّ نوع من   (1) " فتح الباري " ج 10. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 961 - " بَابُ شِدَّةِ الْمَرَضِ " 1109 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " مَا رَأيْتُ أحَداً أشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ".   أنواع التعدي، ولو كان يسيراً " ولا غمّ " يعني ولا يصيبه كرب وضيق نفسي لسبب من الأسباب " حتى الشوكة " أي حتى الشوكة التي يصيبه بها غيره، أو حتى الشوكة التي تصيبه " إلاّ كفر الله بها من خطاياه " أي إلاّ كفر الله بها بعض خطاياه. والمعنى: أنه لا يصاب المسلم بأي مرض نفسي كالهم والغم وغيره، أو مرض بدني كالحمى والصداع ونحوه، أو تعدٍّ أو ظلم من غيره، حتى الشوكة يدْخِلُها غيره في جسده إلاّ كان ذلك غفراناً وتكفيراً لخطاياه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن مجرد الإِصابة بالمرض أو غيره من البلايا كفارة للخطايا كما ترجم له البخاري. قال القرافي: المصائب كفارات جزماً، " سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إذا اقترن بها الرضا عظم التكفير والأجر، وقال الحافظ: والذي يظهر أن المصيبة إذا قارنها الصبر حصل التكفير، ورفع الدرجات، وإن لم يحصل الصبر، ولم يقع من الجزع ما يندم عليه من: قول أو فعل، فالفضل واسع، ولكن ينحط من منزلة الصابر، وإن حصل الجزع فيكون ذلك سبباً لنقص الأجر أو التكفير. ثانياً: البشارة العظيمة للمؤمن، لأن الله جعل " البلاء مكفِّراً له، وهو كما قال القسطلاني: لا ينفك عنه غالباً، فمن صبر فله أجران، أجر على مصيبته وأجر على صبره. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كونه أفاد أن الوصب وهو المرض كفارة للخطايا، وهو ما ترجم له البخاري. 961 - " باب شدة المرض " (1) 1109 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها "ما رأيت أحداً   (1) أي فضل شدة المرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 962 - " بَابُ وُجُوبِ عِيَادَةِ المَرِيضِ " 1110 - عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ ".   أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أي ما رأيت فيمن رأيت من المرضى أحداً أشد مرضاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد عانى في مرضه الأخير من الشدائد والآلام ما لم يعانه أحد ممن عرفت. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وأبو داود وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على فضل شدة المرض (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على شدة مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فضل شدة المرض، لأنه لو لم يكن من الأمور المحمودة العاقبة لما ابتلي به أفضل الخلق على الله، مع ما له من الكرامة والمنزلة العالية، وهو أقوى دليل على فضل شدة المرض، وما له من عاقبة محمودة في تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنات، ورفع الدرجات، وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى عن ابن مسعود قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك -أي يعاني من شدة آلام المرض- فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً! قال: " أجَل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: " أجل ذلك كذلك " وفي الحديث " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل ". 962 - " باب وجوب عيادة المريض " 1110 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " أطعموا الجائع " أي قدموا   (1) ووجه الاستدلال على فضل شدة المرض بشدة مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لو لم يكن من الأمور المحمودة لما ابتلي به النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 963 - " بَابُ فضلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنَ الرِّيحِ " 1111 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ أصْحَابِهِ: ألا أُرِيكَ امْرَأةً من أهْلِ الجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلى،   له من الطعام ما يشبعه، ويذهب عنه غائلة الجوع، لأنّ هذا الدين دين الرحمة والتعاطف، ومن أهم ما يقتضيه ذلك إطعام الفقير الجائع " وعودوا المريض " أي وقوموا بزيارة المريض في كل مرض، وفي كل زمن لعموم الأمر وإطلاقه، " وفكوا العاني " بكسر النون أي خلصوا الأسير من يد الأعداء، بدفع الفداء عنه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أمور ثلاث: الأول: مشروعية إطعام الفقير الجائع، وهو واجب إنساني، وواجب شرعي معاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أطعموا الجائع " وقد نص الفقهاء على أنه فرض كفاية. الثاني: مشروعية عيادة المريض لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وعودوا المريض " وهي مستحبة عند أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أن عيادة المريض فرض كفاية، وقد جزم البخاري بوجوبها على ظاهر الأمر بالعيادة واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " وعودوا المريض " حيث حمل الأمر على الوجوب، وهو الأصل. وقال الجمهور: عيادة المريض في الأصل ندب، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. الثالث: فك الأسير من يد العدو، وفداؤه بالمال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: وفكوا العاني، وهو فرض كفاية، والله أعلم. الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود. والمطابقة: في قوله: " وعودوا المريض ". 963 - " باب فضل من يصرع من الريح " 1111 - معنى الحديث: أن الراوي يحدثنا عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أنه قال لبعض أصحابه: ألا أريك امرأة من أهل الجنة " أي ألا تريد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأةُ السَّوْدَاءُ أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ وإِنِّي أَتكَشَّفُ، فادعُ اللهَ لِي، قَالَ: " إِنْ شِئتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وإن شِئْتِ دَعَوْتُ الله أن يُعَافِيَكِ " فَقَالَتْ: إِنِّي أصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أتكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أن لا أتَكشَّفَ، فَدَعَا لهَا.   أن أريك امرأة مقطوعاً لها بالجَنَّةِ (1) فهي من أهلها حقيقة. لا ظناً وتخميناً " قال: بلى " أريد أن أعرف ذلك " قال: هذه المرأة السوداء " واسمها سعيرة الأسدية، وفي رواية عطاء بن أبي رباح في هذا الحديث " فأراني حبشية صفراء فقال: هذه سعيرة الأسدية " ثم ذكر قصتها، فقال: " أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع " أي أصاب بالصرع، فأفقد وعيي، والصرع كما يقولون: داء يتميز بنوبات فجائية من فقدان الوعي ويقترن غالباً بالتشنج، وسيأتي شرحه "وإني أتكشف" أي يتكشف جسمي أثناء فقدان الوعي " فادع الله لي " بالشفاء من هذا المرض العضال " قال: إن شئت صبرت ولك الجنة " أي وأبشرك بدخول الجنة بغير حساب " قالت إني أصبر " وأؤثر الباقي على الفاني، والآخرة على الدنيا. " فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف " أي فصبرت رضي الله عنها على ما تعانيه من آلام، ولكنها لم تصبر على تكشف جسمها، ونظر الناس إلى عورتها، وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن يدعو الله لها أن يحفظها من التكشف أثناء صرعها " فدعا لها " بذلك. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنّ الصرع من الأمراض الشديدة التي يعظم أجرها وثوابها عند الله تعالى، وقد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المرأة بالجنة مقابل صبرها عليه ولهذا قال البخاري: باب فضل من يصرع. والصرع نوبات فجائية تقترن بالتشنج وتتفاوت في شدتها ومعدل ترددها، وفي الفترة   (1) أي مشهوداً لها بالجنة بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 التي تستغرقها، وقد تكون النوبة هينة عابرة لا تكاد تلحظ، وقد تكون بالغة الشدة، وقد تقع النوبة بغتة بلا نذير، وقد ينذر بها حس سابق يعتري أحد الحواس. كأن يرى المريض شبحاً أو يسمع صوتاً، أو يشم رائحة، ويعقب ذلك وقوع المريض على الأرض فاقداً وعيه، وقد يقع صارخاً ثم تتملكه رعدة تشنجية، قد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً، ويعض المريض لسانه في أثناء النوبة، وقد تحدث له إصابات أو حوادث مرضية خطيرة من جراء هذه النوبات ويعقب النوبة خور في القوى واستغراق في النوم يصحو منه المريض خالي الذهن من تذكر ما حدث له. ويقول ابن القيم (1): الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة وصرع من الأخلاط، وهو الصرع العضوي أو ما يسمى بالأعصاب، قال ابن القيم: والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء، وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه وقد نص على ذلك أبقراط في بعض كتبه فقال " أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج " وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع بالمرض الإلهي. قال ابن القيم: وعلاج هذا النوع يكون بأمرين " أمر من جهة المصروع " و" أمر من جهة المعالج " فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها والتعوذ الصحيح بالقلب واللسان. والثاني: من جهة المعالج بأن يكون لديه قوة اليقين وصدق التعوذ بالله تعالى حتى أن من المعالجين من يكتفي بقوله " أخرج منه " أو يقول: " باسم الله " أو يقول: " لا حول ولا قوة إلا بالله " والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اخرج عدو الله أنا رسول الله (2) وشاهدت شيخنا (3) يرسل   (1) " الطب النبوي " لابن القيم. (2) أخرجه في " مسنده " 4/ 170 و171 و172 من حديث يعلى بن مرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " أخرج عدو الله أنا رسول الله " قال: فبرأ ... ورجاله ثقات. اهـ. مختصراً من زاد المعاد 4/ 68 وانظر " مجمع الزوائد " (9/ 6). (3) والغالب أنه أراد بشيخه ابن تيمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 964 - " بَابُ فضلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ " 1112 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النبي يَقُولُ: " إِنَّ الله تعالى قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيْبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتَهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ ".   إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ اخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع. ثانياً: دل هذا الحديث على أن هذه المرأة من أهل الجنة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدها وبشرها بالجنة إن صبرت فقال لها: " إن شئت صبرت ولك الجنة " فقالت بل أصبر ووفت بوعدها. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإن شئت صبرت ولك الجنة " فإن هذا يدل على فضل الصرع وثوابه. 964 - " باب فضل من ذهب بصره " 1112 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تعالى قال " في الحديث القدسي: " إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه " أي إذا ابتليته بعينيه اللتين هما أحب حواسه إليه، فذهب عنه نورهما " فصبر " على فقدان بصره محتسباً للثواب والأجر الذي أعده الله للصابرين " عوّضته منهما الجنة " أي جعل الجنة عوضاً وبديلاً له عنهما والله لا يخلف الميعاد. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: البشارة العظمى لمن فقد بصره وتعويضه عنه بالجنة. قال الحافظ: وهذا أعظم العوض، لأن التلذذ بالبصر يفني بفناء الدنيا، والالتذاذ بالجنة باق ببقائها. ثانياً: دل هذا الحديث على أن حاسّة البصر من أحب الحواس إلى الإِنسان لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خيرٍ يسر به، أو شر فيجتنبه. الحديث: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 965 - " بَابُ ما رُخِّصَ لِلمَريضِ أنْ يَقُولَ: إِنِّي وَجِعٌ، أوْ وَارَأسَاهُ " 1113 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْ: وَارَأْسَاهُ، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " ذَاكَ لَوْ كَانَ وَأنا حَيٌّ فأسْتَغْفِرُ لَكِ، وأدْعُو لَكِ " فَقَالَتْ: عَائِشَةُ: "وَاثُكْلَيَاهُ، وَاللهِ إِنِّي لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّساً بِبَعْضِ   أخرجه أيضاً الترمذي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن من فقد بصره عوض بالجنة، وهو ما ترجم له البخاري. 965 - " باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع أو وارأساه " 1113 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنها قالت: وارأساه " يعني أنّها أحست بصداع أصابها في رأسها، فشكت من ذلك الألم الذي تحسه منه قائلة: وارأساه، قال القسطلاني: وهو تفجّع على الرأس من شدة صداعه، " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ممازحاً ومداعباً لها: " ذاك لو كان أنا حيٌّ فأستغفر لك، وأدعو لك " أي لو أصابك الموت في حياتي لَفُزْتَ باستغفاري ودعائي لك، وفي رواية عبد الله بن عبد الله بن عتبة قال: " ما ضرك لو مِتِّ قبلي وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك " " فقالت عائشة: واثكلياه " بضم المثلثة، وسكون الكاف، وفتح اللام، وأصل الثكل أن يفقد الشخص من يعزّ عليه، ثم صار يجري هذا اللفظ على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها " والله إني لأظن أنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرساً " أي لو وقع موتي وأظن أنّك تتمناه لا يأتي آخر النهار إلاّ وأنت متزوج بامرأة أخرى " فقال - صلى الله عليه وسلم - بل أنا وارأساه " أي لست أنت التي تشتكين من رأسك، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 أزْوَاجِكَ، فقالَ: النبي - صلى الله عليه وسلم - بَلْ أنَا وَارَأسَاهُ لَقَدْ هَمَمْتُ أو أردْتُ أَنْ أرْسِلَ إلَى أبي بَكْرٍ وَابْنِهِ وأعْهدَ أنْ يَقُولَ القَائِلُونَ، أو يَتَمَنَّى المُتَمَنُّونَ، ثم قُلْتُ: يأبَى اللهُ وَيَدْفَعُ المُؤْمِنُونَ، أوْ يَدْفَعُ اللهُ وَيَأبَى المُؤْمِنُونَ".   بل أنا الذي أشتكي من هذا الصداع الشديد الذي أصابني " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد " أي أوصي بالخلافة من بعدي لصاحبها الذي أراد الله أن يتولاها " أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون " أي أوصي بالخلافة إلى أبي بكر كراهة أن يقول القائلون: الخلافة لفلان أو لفلان، أو يتمنّى المتمنون الخلافة، " ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون " أي ثم قلت: أترك أمر الخلافة لله، ولرأي المسلمين، لأنه يأبى الله إلاّ خلافة أبي أبكر، ويدفع المؤمنون خلافة غيره. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز الشكوى من المرض، وأنه لا ينافي الرضا بقضاء الله، ولا يعارض الصبر، وقد شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه بقوله: " بل أنا وارأساه " وهو سيد الصابرين. ثانياًً: في الحديث إشارة صريحة إلى خلافة الصديق رضى الله عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد ". ثالثاً: دل الحديث على شدة غيرة المرأة على زوجها، حيث كرهت عائشة رضي الله عنها أن تكون له - صلى الله عليه وسلم - زوجة ولو بعد وفاتها. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بل أنا وارأساه ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 966 - " بَابُ نهْي تمَنِّي المَرِيض المَوْت " 1114 - عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمْ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أصابه، فَإن كَانَ لا بدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِني مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي، وتَوَفَّنِي إذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيراً لِي ".   966 - " باب تمني المريض الموت " 1114 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتمنيّن أحدكم الموت من ضر أصابه " وهذا نَهْيٌ في صورة النفي للمبالغة، قال القاري: والنفي بمعنى النهي أبلغ، لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه، وعدم وقوعه بالكلية منه، والمعنى لا يحل للمؤمن أن يتمنّى الموت من أجل ضرر دنيوي لحق به لأن معناه التبرم من قضاء الله " فإن كان لا بد فاعلاً " أي فإن ضاقت به الأحوال واشتدت النوائب حتى اضطرته أن يتمنى. شيئاً تنفيساً عن نفسه وابتغاءً لفرج الله " فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي " أي أبقني حياً إن كان بقائي في هذه الحياة تترتب عليه منفعة في ديني ودنياي وعاقبة أمري " وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً " (1) أي واقبضني إليك على الإيمان والطاعة، إذا كان ذلك خيراً لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري. أو كان بقائي في هذه الدنيا يعرضني للفتنة، وسوء الحال والمآل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه لا يجوز تمني الموت لأي ضرر دنيوي، سواء كان مرضاً بدنياً، أو نفسياً أو خسارة مالية، أو بسبب   (1) ويشبه هذا كثيراً الدعاء الجامع المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو: " اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 967 - " بَاب دُعَاءِ العَائِدِ لِلْمَرِيضِ " 1115 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أتَى مَرِيضاً أو أُتِيَ بهِ إِلَيْهِ قَالَ: "أذْهِبِ   المعاناة من بعض الانفعالات المؤلمة كالخوف والقلق والهم واليأس أو غيره من الأحوال النفسية المزعجة القاسية، لما في ذلك من التبرم بقضاء الله، وعدم الصبر على بلائه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أو هريرة " لا يتمنيّن أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب " أي يحس بالندم فيتوب إلى الله أما هذه الظروف السيئة والعوارض الدنيوية الكريهة، فإنها سرعان ما تزول، لأن هذا العالم حادث، وكل حادث متغير، والدنيا لا تبقى على حال واحد. والمؤمن القوي لا يقابل المكاره بالجزع، وإنما يقابلها بالصبر، ورباطة الجأش، ويواجهها باتخاذ الأسباب المشروعة لمواجهتها مع اعتقاد أن دوام الحال في الدنيا من المحال. وقد قال الشاعر: الدَّهْرُ لَا يَبْقَى على حَالهِ ... لَا بُدَّ أَنْ يقبِلَ أَو يُدْبِر فإنْ أصِبتَ بمَكْرُوْهه ... فاصْبِرْ فَإِنَّ الدَهْرَ لَا يَصْبر ثانياً: دل الحديث على أَنه يستحب للعبد المؤمن إذا اشتدت وعليه الَكروب أن يصبر، ويلجأ إلى الصلاة والتضرع والدعاء، وأن يقول كما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي "، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ". 967 - " باب دعاء العائد للمريض " 1115 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتى مريضاً " أي كان إذا ذهب لزيارة مريض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشفِ وأنتَ الشَّافِي، لا شِفَاء إلَّا شِفَاؤكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَماً".   عالجه بالدعاء الخالص، وكذلك إذا جيء به إليه وضع يده على موضع الداء منه " وقال: أذهب الباس رب الناس " بحذف حرف النداء، والبأس المرض، أي أسألك بربوبيتك للناس جميعاً أن تكشف الداء وشدة المرض عن عبدك هذا الذي لا رب له سواك، ولا شافي له غيرك، كما قلت في محكم كتابك (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) " اشف وأنت الشافي " أي أكرر الدعاء لك بشفائه، وأنت وحدك القادر عليه " لا شفاء إلا شفاؤك " لأن الدواء لا ينفع إلاّ إذا قدرت للمريض الشفاء " شفاء لا يغادر سقماً " أي شفاءً تاماً كاملاً من جميع الأمراض بحيث يصح الجسم صحةً عامةً شاملة لا تبقى معه في جسمه أي داءٍ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب لمن يزور المريض أن يدعو له بهذا الدعاء المبارك المأثور، فإن ذلك علاج روحي نافع إذا اقترن باليقين والإخلاص وقوة الإيمان، وذلك بأن يضع يده على موضع الداء منه فيقول: " اذهب الباس رب الناس الخ " وهناك أدعية أخرى مأثورة يرقى بها المريض، من ذلك أن يرقيه بقوله: " بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك " أخرجه مسلم. وهي رقية جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: " من عاد مريضاً لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلاّ عافاه الله من ذلك المرض " أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبّان، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان وأخرجه أيضاً النسائي والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 وقال الشوكاني: والحديث يقيد الشفاء بهذا الدعاء بعدكم حضور الأجل فإذا كان قد حضر، فكما قال أبو ذؤيب الهذلي: وإذا المَنِيَّةُ أنْشَبَتْ أظْفَارَها ... ألفَيْتَ كُلَّ تميمةٍ لا تَنْفَعُ ثانياً: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا شفاء إلاّ شفاؤك " صريح في أن جميع الأدوية أسباب عادية لا تؤثر في المريض، ولا تحقق مفعولها إلاّ بإذن الله، والله هو الشافي وحده، كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فعلى المؤمن أن يتعاطى العلاجات الطبية آخذاً بالأسباب مع إيمانه ويقينه أن لا شفاء إلّا من الله والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عاد مريضاً دعا له بهذا الدعاء. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ الطِّبِّ " لا شك أنّ الإِسلام قد عني بالناحية الصحية نفسية كانت أو بدنية، واهتم بالطب بسائر أنواعه كما تدل عليه النصوص الإسلامية ففي الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل " أخرجه مسلم، وأحمد والحاكم، وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: " يا عباد الله! تداووا، فإن الله عزَّ وجل لم يضع داء إلّا وضع له شفاء، غير داء واحد " قالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: " الهرم " أخرجه أحمد في " مسنده " والطب كما يقولون: علم يعرف به أحوال الإِنسان البدنية والنفسية من صحة أو مرض، والوسائل الكفيلة بالمحافظة على صحته وهو ما يسمى بالطب الوقائي. والوسائل اللازمة لإعادة الصحة إلى الإنسان، وإزالة المرض عنه بإذن الله تعالى، وهو ما يسمى بالطب العلاجي .. وهو نوعان: طب نفسي، وطب عضوي أو بدني. فالطب النفسي: تعالج به أمراض النفس من حيرة وقلق وهم وغم، وخوف غير عادي، إلى غير ذلك من الأمراض التي لا علاقة لها بأي عضو من أعضاء البدن، ويدخل في ذلك بعض أنواع الصرع التي لا علاقة لها بأي مرض عضوي، والتي لا حيلة للطب البشري في معالجتها كما اعترف بهذا أبقراط ويلجأ الطبُّ النفساني في علاج النَّفس إلى طريقتين: الأولى: الطريقة العلمية النفسية التي تعتمد على التحاليل والجلسات النفسية المعروفة. والثانية: الطريقة الروحية الدينية: وتعتمد على وسيلتين أو علاجين كما في كتاب " الطب النبوي " لابن القيم، الأولى: إصلاح القلب عن طريق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 تقوية الإيمان والعقيدة، وتقوية الصلة بالله في الشدة والرخاء كما قال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما: " يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لمن ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك " وفي رواية أخرى " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً " فهل تعتقد أن إنساناً تغلب على نفسه كل هذه المعاني عقيدة وشعوراً ووجداناً فتملأها صلابة وقوة يمكن أن تجد الأمراض النفسية إلى نفسه سبيلاً، كلا، وقد اعترف بذلك المنصفون من علماء النفس الحديث. وممن نادى بذلك (وليم جيمس) العالم الأمريكي فقال: إن أعظم علاج للقلق ولا شك هو الإيمان، وقال: الرجل المتدين حقاً عصيٌّ على القلق، محتفظ أبداً باتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف. وقال كارل يونج المحلل النفساني: " إن المرء المتدين حقاً لا يعاني قط مرضاً نفسياً " (1) وأشار المؤرخ أرنولد توينبي إلى أن الأزمة التي يعاني منها الأوربيون في العصر الحديث إنما ترجع في أساسها إلى الفقر الروحي ومن هذا يتضح لنا أن من أهم وسائل الطب النفسي وقايةً وعلاجاً هو تقوية الإيمان والعقيدة واليقين. أما العلاج النفسي الثاني في نظر الإِسلام فهو في الأذكار والأدعية المأثورة، والرقى الصحيحة المشروعة بالآيات القرآنية والأذكار والأدعية النبوية، وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا لله رب العرش الكريم، لا إله إلاّ الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم " فهذا ذكر نبوي مأثور لعلاج الإنسان من أزمته النفسية، وكشف همومه القلبية التي يعانيها، ثم هو بالاضافة إلى ذلك دعاء مستجاب لقضاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 الحاجة التي تهم ذلك الإنسان، وتحقيقها له إن كانت خيراً، أو تعويضه بأحسن منها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله " ولكن هذه الأدعية والأذكار لا تعمل عملها في علاج النفس وشفائها إلاّ إذا اقترنت بالعلم بمعناها، واليقين بجدواها ولا شك أن هناك بعض الأعمال كالميكروبات الضارة وهي المعاصي والذنوب، فمن أراد سلامة نفسه من الأمراض النفسية فليجنبها المعاصي والذنوب، ولهذا قال بعض السلف: من أراد عافية القلب فليترك الآثام. أما الطب البشري: فإن الإِسلام قد أثبته، ودعا إلى هذا الطب الذي يعتمد على علاج الجسم بالعقاقير المستخلصة من الأعشاب والمعادن وغيرها، ويدخل في ذلك الفيتامينات " وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض الأدوية النافعة التي تعتبر أصولاً أساسية لجميع أنواع الأدوية الأخرى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي " وإذا تصفحنا كتاب الطب من " صحيح البخاري " أو غيره من الصحاح نجد فيه أنواعاً من الأدوية النبوية المأثورة لعلاج الأبدان، فمن ذلك: العسل، والحجامة، والكي، وألبان الإِبل وأبوالها، والحمية، والحبة السوداء، والسعوط، والحجامة على الرأس من الشقيقة والصداع، والكحل بالإِثمد، والكمأة، ودواء ذات الجنب، وتجد فيه من الأدوية الروحية للجسم، رقية الحية والعقرب، والعين. ومن الأدوية الروحية للجسم والنفس معاً الرقية بالمعوذات، وفاتحة الكتاب، واستخراج السحر إلى غير ذلك. قال ابن القيم: وليس طبه - صلى الله عليه وسلم - كطب الأطباء، فإن طب النبي متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدس، أي تخمين وظنون وتجارب. ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول، واعتقد الشفاء به، فهذا القرآن الذي هو شفاء الصدور إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائها. وقد عُني أئمة العلم والحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 968 - " بَابُ مَا أنْزَلَ اللهُ دَاءً إلا أنزَلَ لَهُ شِفَاءً " 1116 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إلَّا أنزلَ لَهُ شِفَاءً ".   من قديم الزمن بالطب النبوي، واهتم المحدثون برواية ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وجمعه وتدوينه، فهذا مالك في " الموطأ " وأصحاب الكتب الستة قد خصصوا في صحاحهم كتباً وأبواباً خاصة بالطب النبوي ومن علماء الإِسلام من ألف كتباً خاصة بالطب النبوي منهم أبو بكر ابن السني، وابن أبي عاصم الذي سمى كتابه " كتاب الطب والأعراض " وعلاء الدين الكمال المتوفى سنة 720 هـ الذي ألف " كتاب الأحكام النبوية في الصناعات الطبية " وممن ألف في الطب النبوي الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ وشمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعى المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ حيث ذكر في كتابه (زاد المعاد) بحثاً طويلاً في الطب النبوي، وقد أفرد بالطبع. ولا شك أن التداوي لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، لأن الدواء أيضاً من قدر الله، ويدل على ذلك ما روي عن أبي خزامة عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أرأيت رقى نسترقيها، ودواءً نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً فقال: " هي من قدر الله " أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة وصححه الحاكم في مستدركه " 968 - " باب ما أنزل الله من داء إلاّ أنزل له شفاء " 1116 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنزل الله من داء " أي ما خلق داءً " إلاّ أنزل له شفاء " أي إلاّ خلق له دواء يشفيه بإذن الله تعالى، والمعنى أن الله تعالى لم يوجد مرضاً من الأمراض الجسمية أو النفسية إلاّ أوجد له دواء يشفيه ويزيله إذا صادفه وأعطي المريض القدر المناسب في الوقت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 المناسب. وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى لم ينزل داء إلاّ أنزل له دواء، علم ذلك من علم، وجهل ذلك من جهل، إلّا السام " قالوا: يا رسول الله وما السام؟ قال: " الموت " (1) أخرجه الحاكم والبزار. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن لكل داء سواء كان نفسياً أو جسمياً دواء يؤثر فيه ويقضي عليه ما عدا الموت كما قال عنترة: وَلَوْ عَرَفَ الطبيْبُ دَوَاءَ دَاءٍ ... يَرُدُّ المَوتَ مَا قَاسَى النِّزَاعا ولكن الطيب قد يصيب الدواء المناسب، ويهتدي إليه فينجح في معالجة الداء بإذن الله، وقد يخطأ الطيب في معرفة الدواء لجهله به، أو في تشخيص المرض فيفشل في العلاج، والحديث صريح في أنه ليس هناك أمراض مستعصية لا دواء لها، حتى هذه الأمراض المستعصية لها أدوية تؤثر فيها، وتقضي عليها، ولكن الأطباء لم يكتشفوها حتى الآن. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله " أخرجه النسائي، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان والطبراني، ورجاله ثقات (2)، قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد، أقول: وبعض الأمراض لم تكتشف أدويتها (3) حتى الآن، وقد دلت التجارب على صدق هذه القضية، فإن السل وبعض الأمراض الصدرية كانت تعد من الأمراض المستعصية، فلما اكتشف البنسلين أصبح من الأمراض العادية التي يسهل علاجها بإذن الله، سيما إذا كان في الدرجة الأولى أو الثانية. ثانياً: دل هذا الحديث على مشروعية العلاج، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بأن الذي خلق   (1) قال الحافظ: أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه. (2) " الطب النبوي " لابن القيم وتعليقاته للدكتور عادل الأزهري. (3) كالسرطان مثلاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 969 - " بَابُ الشِّفَاءِ في ثَلاثٍ " 1117 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: " الشفَاءُ في ثَلَاثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَل، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكِيَّةِ نَارٍ، وأنهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ " رَفَعَ الحَدِيثَ.   الداء خلق الدواء تنبيهاً لنا وإرشاداً وترغيباً في التداوي، وقد أمرنا - صلى الله عليه وسلم - بذلك صراحة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء ". واستعمال الأدوية لا ينافي التوكل إذا اعتقد أنها تنفع بإذن الله وتقديره، وأنها لا تؤثر إلاّ بإرادته عز وجل، وفي هذه الأحاديث إثبات للطب والعلاج، وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس كما قاله الخطابي، ولو كان مكروهاً لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتداوي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تداووا فإن الله لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء .. فإن هذا الحديث لا يدل على جواز التداوي فقط، بل يدل على استحبابه أيضاً، لأن أقل مقتضيات الأمر الاستحباب، والله أعلم. ثالثاً: أن في هذا الحديث وأمثاله تقوية لنفس المرض، ومساعدة له على مكافحة المرض، وتشجيعاً له على مقاومة الداء، لأنه متى استشعرت نفسه أن لدائه دواء تعلق قلبه بالرجاء، وتفتحت له أبواب الأمل، وزال عنه اليأس والاكتئاب وهذه المشاعر في حدّ ذاتها كفيلة له بالشفاء بإذن الله لأن نفسية الإنسان متى قويت تغلبت على المرض وقهرته ومتى ضعفت تغلب عليها. الحديث: أخرجه النسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. 969 - " باب الشفاء في ثلاث " 1117 - معنى الحديث: قال الحافظ: أورد البخاري هذا الحديث موقوفاً، وآخره يشعر بأنه مرفوع، لقوله: " وأنهى أمتي عن الكي " وقد صرح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 برفعه في رواية سريح بن يونس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الشفاء في ثلاث " أي الشفاء يحصل بأحد ثلاثة أنواع من الأدوية، قال العيني: لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الحصر في الثلاثة فإن الشفاء قد يكون في غيرها، وإنما نبّه بهذه الثلاثة على أصول العلاج. اهـ. واختلافها باختلاف طبيعة الأمراض من باردة إلى حارة إلى غير ذلك " شربة عسل " أي النوع الأول شربة العسل، إما وحده، أو مخلوطاً بالماء، أو مخلوطاً بالسوائل الأخرى، أو مركباً من غيره، لأنه شفاء، كما قال تعالى: (فيه [شفاء] للنّاس) " وشرطة محجم " أي والنوع الثاني من أنواع الأدوية " شرطة محجم " بكسر الميم، وفتح الجيم، وهو في الأصل الآلة التي يجمع فيها دم الحجامة، ويراد بها هنا الآلة التي يشرط بها، ومعناه: أن النوع الثاني من الأدوية إخراج الدم الفاسد بواسطة الحجامة " وكية نار " أي والنوع الثالث: الكي بالنار " وأنهى أمتي عن الكي " لما فيه من إيذاء المريض وتعذيب بدنه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أفضل العلاجات والأدوية النافعة بإذن الله ثلاثة: الأول: العسل الذي أخبر الله تعالى عنه أنّه شفاء للناس، ولا يمنع بن اعتباره دواءً ناجحاً كونه يضر ببعض الأمراض الحارّة مثلاً، فإن العبرة بالغالب والنادر لا حكم له. ويكفي لاعتباره من أهم الأدوية ما ثبت علمياً أنه غني بالمعادن: مثل الحديد والكلسيوم، والصوديوم، والكبريت، والبوتاسيوم. والفوسفور، وله خاصية مبيدة للجراثيم، أما الفيتامينات التي يحتويها، وعلى رأسها الفيتامين (ث) فتساعد على تقوية الكلس في العظام، ولذا فهو مفيد جداً للأطفال إذ يساعد عظامهم على التصلب، ويثبت أسنانهم ويقيهم شر الكساح، وتقوس الساقين، ونخر الأسنان، ومن فوائده الطبية أنه ينظم حركة التنفس، وخاصة بالنسبة للمصابين بأمراض الصدر، كما أن له تأثيراً ملطفاً في حالات الجفاف، وصعوبة البلع والسعال. اهـ. كما أفاده الدكتور القباني في كتابه " الغذاء لا الدواء " وقال في " المعتمد " وهو نافع لأصحاب الأمزجة الباردة والشيوخ يقوي جوهر حرارتهم الغريزية ويولد فيهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 دما جيداً لا سيما في الشتاء. وهو حار يابس يقوّي المعدة، ويلين الطبع، ويحد البصر، ويحفظ على البدن صحته أيام حياته ويزيد في شهوة الباه وينفع من الفالج والاسترخاء وتعجن به الأدوية فيحفظها. اهـ. وقال ابن جريج: قال الزهري: " عليك بالعسل فإنه جيد للحفظ ". الثاني: الحجامة والفصد أيضاً، وذلك لعلاج الأمراض الدموية. قال ابن القيم: وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وشرطة معجم " فإن كان المرض حاراً عالجناه بإخراج الدم بالفصد، أو بالحجامة، لأن في ذلك استفراغاً للمادة، وتبريداً للمزاج، وإن كان بارداً عالجناه بالتسخين، وذلك موجود في العسل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " احتجم وأعطى الحجام أجرة " أخرجه الشيخان. وقال ابن عباس: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: " نعم العبد الحجام، يذهب الدم، ويُخِفُّ الصلب، ويجلو عن البصر " قال ابن القيم: وقد نص الأطباء على أن البلاد الحارة الحجامة فيها أنفع وأفضل من الفصد، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الحجامة في الرأس شفاء من سبع: الجنون، والجذام، والبرص، والنعاس ووجع الأضراس، والصداع، والظلمة يجدها في عينيه " أخرجه أبو نعيم (1)، وفي الحديث: " ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً في رأسه إلاّ قال: احتجم " أخرجه أبو داود. قال العيني: وعن ابن عمر بسند لا بأس به يرفعه: " الحجامة تزيد في الحفظ، وفي العقل، وتزيد الحافظ حفظاً " قال ابن سينا: والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان، والوجه والحلقوم، وقال ابن القيم: الحجامة في أسفل الصدر نافعة من دمامل الفخذ، وجربه، وبثوره، ومن النقرس، والبواسير، ومن حكة الظهر. والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه، والأسنان، والأذنين والعينين والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدم أو فساده. قال أنس رضي   (1) والطبراني، وفيه عمر بن رباح العبدي وهو متروك كما قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 94). (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتجم في الأخدعين والكاهل. أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة وأحمد والحاكم، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتجم ثلاثاً، واحدة على كاهله، واثنين على الأخدعين " ويقول الدكتور عادل الأزهرى في تعليقه على " الطب النبوي ": الحجامات على نوعين، حجامات جافة، وحجامات رطبة، وتختلف الرطبة عن الجافة بالتشريط قبل وضع الحجامات، وتستعمل الجافة إلى الآن لتخفيف الآلام في العضلات، خصوصاً عضلات الظهر نتيجة إصابتها بالروماتزم، أما الحجامة الرطبة فتستعمل في بعض حالات هبوط القلب المصحوبة بارتشاح في الرئتين. وتعمل على ظهر القفص الصدري. أما الفصد فيستعمل الآن في حالات هبوط القلب الشديد المصحوب بزرقة في الشفتين، وعسر شديد في النفس، ويعمل الفصد بواسطة إبرة واسعة القناة، تدخل في وريد ذراع المريض وهذه العملية البسيطة أنقذت حياة كثير من مرضى هبوط القلب في الحالات الأخيرة. اهـ. واختلف الأطباء في الحجامة على نقرة القفا، فكرهها صاحب القانون، ابن سينا، وقال إنها تورث النسيان حقاً، كما قال سيدنا وصاحب شريعتنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن مؤخرة الدماغ موضع الحفظ والحجامة تذهبه وقد روى عن ابن سيرين أنه إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم لانحلال قوى جسده، قال الحافظ: وهو محمول على من لم يتعين حاجته إليها. اهـ. ومما يؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " احتجم بعد هجرته إلى المدينة " وكان قد تجاوز الخمسين من عمره فضلاً عن الأربعين. الثالث من أنواع الأدوية الكي: وذلك كما قال ابن القيم: لأن كل واحد من الأمراض المادية إما أن يكون حاداً فلا يحتاج إليه، وإما أن يكون مزمناً، وأفضل علاجه بعد الاستفراغ الكي في الأعضاء التي يجوز فيها الكي ثانياًً: دل هذا الحديث على أن الكي مكروهٌ أو خلاف الأولى لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه في قوله: " وأنهى أمتي عن الكي " وأقل مقتضيات النهي الكراهة. قال بعض أهل العلم: يكره الكي في حالتين: الأولى، أن يفعله من لا يحتاج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 970 - " بَابُ الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأسِ " 1118 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ في رَأسِهِ ".   إليه في الحال خوفاً من حدوث داء في المستقبل فهذا الذي قيل فيه: " لم يتوكل من اكتوى " لأنّه يريد أن يدفع القدر والقدر لا يدافع. الثانية: أن لا يتعين الكي طريقاً للشفاء، بل يوجد دواء آخر يغني عنه، ويقوم مقامه، فهو في هذه الحالة مكروه أيضاً لما فيه من تعذيب الجسم، وتشويه الصورة، سيما إذا كان في الوجه أو الرأس أو اليدين. أما إذا تعين الكي وأصبح ضرورة لا بد منها، فإنه يجوز في هذه الحالة دون أي كراهة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه عليه (1) أخرجه مسلم، وابن ماجة وأحمد والحاكم، وفي الحديث: " أن رجلاً من الأنصار رمي في أكحله بمشقص، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكوي " أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة، والأولى تركه إذا لم يتعين، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه، وفضل تركه - عند عدم تعينه - مأخوذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وما أحب أن أكتوي " وأيضاً من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأنهى أمتي عن الكي " والحاصل أن الكي جائز مباح بلا كراهة إذا تعين، ولم يوجد غيره يقوم مقامه ويغني عنه. الحديث: أخرجه أيضاً ابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 970 - " باب الحجامة على الرأس " 1118 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه " أي في وسط رأسه، كما جاء   (1) " الطب النبوي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 971 - " بَابُ الْجُذَامَ " 1119 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا عَدْوَى ولا طِيَرةٌ ولا هَامَةٌ،   في حديث عبد الله بن بحينة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم بلحي جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه " بفتح السين ويجوز تسكينها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من وسائل العلاج في الطب النبوي التداوي بالحجامة في الرأس خاصة، وفي رواية: " ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً في رأسه إلاّ قال: احتجم " أخرجه أبو داود. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " احتجم في رأسه ". 971 - " باب الجذام " 1119 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا عدوى " ومعناه على أرجح الأقوال التي ذكرها الحافظ ابن حجر (1): أنه لا صحة لما كانت الجاهلية تعتقده من أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله تعالى، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقاد ذلك ليعلموا أن المرض إنما ينتقل من جسم لآخر بإذن الله ومشيئته، فإذا أراد الله المرض للجسم الآخر انتقل إليه الميكروب من ذلك المريض، وحدثت العدوى، وإلا فلا، لأن الله خلق في الجسم مناعة وأوجد فيه كريات الدم البيضاء وهي تشكل أسلحة مضادة للميكروبات، وتقضي عليها، فإذا أراد الله سلامة الجسم من الميكروبات الوافدة إليه المعبر عنها في الحديث بالعدوى، سلّط الله عليها كريات الدم البيضاء (2) فقضت عليها، وإذا أراد الله   (1) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر ج 10. (2) وتسميتها بالبيضاء مجرد تسمية فقط، ولعل ذلك لتمييزها عن كريات الدم الحمراء، وإلا فهي عديمة اللون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ".   إصابة الجسم بتلك الميكروبات المرضية ضعفت كريات الدم البيضاء عن مقاومتها، وتمكنت من الدخول إلى الجسم، وإصابته، فتحدث العدوى. " ولا طيرة " على وزن (عِنَبَة) بكَسر العين وفتح الياء. أي لا حقيقة للشؤم والنحس الذي كان العرب يعتقدونه في الجاهلية عندما تتوجه الطير شمالاً، وذلك أنهم كانوا إذا أرادوا عملاً أو سفراً زجروا الطير الذي يلاقونه، فإذا انصرف يميناً تفاءلوا، وإلا تشاءموا، ورجعوا عن ذلك العمل، اعتقاداً منهم أنّه شر، والمراد من الحديث نفي مطلق التشاؤم من أي شيء من الأشياء التي يتخيلها بعض الناس نحساً وشراً، كأن يسمع كلمة قبيحة فيكره الشيء الذي هو قادم عليه فينصرف عنه لمجرد وهم كاذب لا أساس له من الصحة. قال القاري: وقوله: " لا طيرة " نفي، معناه النهي، كقوله تعالى: (لا ريب فيه) أي لا تتشاءموا من شيء أبداً، وتعتقدوا فيه الشر والضرر لمجرد خيال كاذب لا أساس له من الصحة، فان ذلك لا يجوز ذرعاً ولا عقلاً .. " ولا هامة " بتخفيف الميم المفتوحة، ويقال له (البوم) وكانت العرب تزعم أن عظام الميت إذا بليت تصير هامة (1)، وتخرج من القبر، وتتردد، وتأتي بأخبار أهله. وقال النووي: إن العرب كانت تتشاءم بها، وهي من طير الليل، وقيل هي البومة، كانت إذا سقطت على دار أحدهم يراها ناعية له نفسه، أو بعض أهله، وهو تفسير مالك بن أنس. اهـ. فأبطل الله تعالى كل هذه الاعتقادات، ونهانا عنها. " ولا صفر " قال أبو داوود في سننه، قال بقيةُ، سألت محمد بن راشد عنه قال: كانوا يتشاءمون بدخول صفر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا صفر " ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن التشاؤم بشهر صفر، لأنه شهر عادي كسائر الشهور الأخرى، ولا حقيقة لما يعتقدونه   (1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 من الشر والنحس " وفر من المجذوم كما تفرُّ من الأسد " أي ابتعد عنه احتياطاً واحترازاً من العدوى، وطلباً للسلامة من الميكروب الذي قد ينتقل، إليك مصحوباً بذلك المرض الخبيث فإن الله قد ربط الأسباب بمسبباتها، وهو خالقها. وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الميكروبات المرضية التي تنقل الجذام من المريض إلى السليم بالأسد لأنها تفترس الجسم الصحيح، وتقضي عليه كما يقضي الأسد على فريسته، ولعل هذا هو السر في تسمية هذا المرض الخطير بداء الأسد: قال ابن القيم: " الجذام علة رديئة (1) تحدث من انتشار المرة السوداء فتفسد مزاج الأعضاء وشكلها حتى تتآكل الأعضاء وتسقط، ويسمى داء الأسد، لكثرة ما يعتري الأسد، أو لأنه يفترس من يقربه ويدنو منه افتراس الأسد، ويشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " وفر من المجذوم فرارك من الأسد ". ويقول الدكتور عادل الأزهري: وخطورة هذا المرض (2) في إتلاف الأعصاب المتطرفة فيفقد المريض حساسية الأطراف أولاً، ثم تتساقط الأصابع تدريجياً، وهو من الأمراض المعدية التي تنتقل عدواها من النفس مع المخالطة الطويلة، ويعزل الآن جميع مرضى الجذام في مصحات خاصة لهم لمنع انتشار المرض. اهـ. ويتميّز عن (3) الأمراض المعدية ببطء ظهور أعراضه، وطول فترة الإصابة به، وطول مدة علاجه، وكان يظن أنه ورائي، ثم تبيّن بعد انكشاف ميكروبه أنه مرض ميكروبي معدٍ ينتقل بالملامسة والمعاشرة، والخلطة الطويلة، وتخرج الميكروبات من جلد المريض مع إفرازات الأنف والحنجرة (4) كما تنتقل العدوى عن طريق الملابس والفراش والأدوات، وتدخل إلى السليم عن طريق الجلد خصوصاً إذا كان به جروح، ثم تأخذ طريقها بواسطة الأوعية إلى الغدد اللمفاوية البلغمية   (1) " الطب النبوي " لابن القيم. (2) تعليقات الدكتور الأزهري على الطب النبوي لابن القيم. (3) طبيبك معك لجماعة من كبار الأطباء في جامعات أوربا وأمريكا. (4) كتاب طبيبك معك لجماعة من كبار العلماء والأطباء في جامعات أوربا وأمريكا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 فتكمن هناك لمدة تختلف من بضعة أشهر إلى سنوات حتى إذا ما ضعفت مقاومة الجسم الطبيعية إثر مرض عارض كالحميات أو الأمراض التناسلية ينشط الميكروب بعد خموله، ويتكاثر مبتدئاً بالأعصاب أولاً، ثم الجلد ثم الأغشية المخاطية. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات العدوى، ومعناها كما قال القاري: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره. أي سريان المرض وانتقاله من المريض إلى الصحيح عن طريق انتقال الميكروب من جسم لآخر في الأمراض الجرثومية من الجذام والبرص والسل. قال ابن القيم: ومقارب (1) المجذوم وصاحب السل يسقم برائحته، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكمال شفقته على الأمة، ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول الفساد إلى أجسامهم وقلوبهم. اهـ. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يأمرنا بالفرار من المجذوم، فإنما يأمرنا بوجوب الحيطة وإبعاد السليم عن مواطن الخطر على ما جرت به العادة وقد وردت عنه - صلى الله عليه وسلم - كثير من الإرشادات الطبية التي يوجهنا فيها إلى الطب الوقائي ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن دخول الأرض الموبوءة. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يوردن ممرض على مصح " إلى غير ذلك. ثانياً: أن العدوى في الحقيقة من الأسباب الظاهرة التي لا تؤثر بطبعها، فإنه قد يتخلف حدوث المرض مع المخالطة، كما يشاهد ذلك كثيراً، وهذا دليل على أن الميكروب لا يؤثر في السليم بنفسه ولا يتمكن من الدخول إلى جسمه وإصابته إلاّ بإذن الله وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا عدوى، أي لا تحدث العدوى، ولا يؤثر الميكروب المرضي إلاّ بإرادة العزيز القدير، ولو كان مؤثراً بطبعه لما تخلف أحياناً، قال ابن القيم: " ولا ريب أنّه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد (2) كامن لقبول الداء، وقد تكون الطبيعة سريعة الانتقال قابلة للاكتساب من أبدان من تجاوره وتخالطه، لأنها نقالة، وقد تصل   (1) " الطب النبوي " لابن القيم. (2) " الطب النبوي " لابن القيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 رائحة العليل إلى الصحيح فتسقمه، وهذا معاين في بعض الأمراض، فلا بد -في العدوى- من وجود استعداد البدن، وقبوله لذلك الداء، وإيضاح ذلك علمياً أن الله أودع في دم الإِنسان ما يسمى بالكرويات البيضاء - وهي على الحقيقة عديمة اللون، وجعل وظيفتها حماية الجسم من الميكروبات، ومحاربة أي ميكروب مرضي يحاول الدخول إلى الجسم البشري، فإذا وقعت الحرب بين الطرفين، وانتصرت الكرويات على الميكروب بمشيئة الله وإرادته لم تحدث العدوى وإن انتصر الميكروب عليها بإذن الله حدثت العدوى. والفاعل في كلتا الحالتين هو الله تعالى. قال في " فتح المجيد ": وأحسن ما قيل فيه قول البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم: أن قوله: " لا عدوى " على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بطعها وإلّا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " وقال: " لا يورد ممرض على مصح " وقال في الطاعون: " من سمع في أرض فلا يقدم عليه " وكل ذلك بتقدير الله. ثالثاً: مشروعية الطب الوقائي، واتخاذ أسباب السلامة من الجراثيم والميكروبات، والمحافظة على الصحة العامة، قال في " فتح المجيد " والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، أو في النار مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتناب مقاربة المريض، والقدوم على بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره، ولا مقدر غيره رابعاً: دل هذا الحديث على تحريم التشاؤم بجميع أنواعه وصوره، سواء كان تشاؤماً من المرئيات والمسموعات، كأن يرى الطير متوجهاً شمالاً، فيتشاءم من العمل الذي أقدم عليه، أو يسمع كلمة كريهة، فيترك الشيء الذي كان يريده، وهو التطير أو التشاؤم من مشاهدة بعض الطيور، ونزولها على بيته فيعتقد أنها نذير موته، أو موت أحد أقاربه، أو يتشاءم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 من بعض الشهور والليالي والأيام، وهو معنى قوله: " ولا صفر ". فإن التشاؤم بأي نوع من هذا أو غيره محرم شرعاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، قال ابن القيم في قوله: " ولا طيرة " يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً، أي لا تطيروا (1)، ولكن قوله في الحديث: " لا عدوى ولا صفر ولا هامة " يدل على أن مراده النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت في الجاهلية. قلت: والنفي هنا يتضمن معنى النهي وزيادة لأنه يكون معناه: لا تعتقدوا هذه الاعتقادات الوهمية، لأن هذه الأشياء التي تعتقدونها باطلة لا وجود. لها في الواقع، ولا أساس لها من الصحة، والواجب على العبد المسلم إذا أحسّ بأي انفعال تشاؤمي أو تخيّل وقوع شر بسبب هذه الأشياء الوهمية كنعيق الغراب، أو صوت البوم، أو نبح الكلاب، أن لا يستسلم لذلك الشعور وأن يستعيذ بالله من الشيطان حتى يصرفه عنه ولا يصده ذلك عن العمل الذي يريده كما روي عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومنا أناس يتطيرون، قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم (2) فقد أمرهم أن يأتوا الأعمال التي تشاءموا منها، ويفعلوها، ولا يمنعهم هذا الشعور عنها، وأرشدنا - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض الأدعية المأثورة لمكافحة التشاؤم، فقد روي عن عروة بن عامر (3) قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة، فقال: أصدقها الفأل، وإذا رأيتم من الطير: شيئاً تكرهونه فقولوا: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلاّ أنت، ولا يذهب بالسيئات إلاّ أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله " (4)، فإن في هذا الدعاء البلسم الشافي من التشاؤم. ويدخل في التشاؤم، التشاؤم ببعض الأشهر والليالي والأيام، ومن ذلك التشاؤم بيوم الأربعاء وبشهر   (1) " فتح المجيد " للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. (2) " فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. (3) وهو كلي اختلف في نسبه فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره: الجهني، واختلف في صحبته، فقال الماوردي له صحبة، وذكره لابن حبان في ثقات التابعين، وقال المزي: لا صحبة له. (ع). (4) رواه أحمد وأبو داود، وهو مرسلاً ضعيف. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 972 - " بَابُ ما يُذْكَرُ في الطَّاعُون " 1120 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ عُمَرَ خَرَجَ إلى الشَّامِ، فلما كَانَ بِسَرْغَ، بَلَغَهُ أنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، فأخْبَرَهُ   شوال حيث كانوا يتشاءمون من النكاح فيه خاصة، وأمّا حديث يوم الأربعاء يوم نحس مستمر (1) فهو حديث ضعيف وحديث " آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر " فهو حديث موضوع كما قال ابن الجوزي وغيره. وأما النكاح في شوال فقد قالت عائشة رضي الله عنها: " تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبني بي في شوال، فأي نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحظى عنده مني، وكانت عائشة تحب أن تدخل نساءها في شوال، وهذا خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. اهـ. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم. والمطابقة: في قوله: " فر من المجذوم ". 972 - " باب ما يذكر في الطاعون " وهو كما قال ابن سينا " مادة سامَّة تُحدث ورماً قتّالاً في المواضع الرخوة من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإِبط، أو خلف الأذن، وعند الأرنبة (2). 1120 - معنى الحديث: يحدثنا عبد الله بن عامر " أن عمر خرج إلى الشام " وذلك في ربيع الثاني سنة ثمان عشرة من الهجرة، وإنما خرج إليها يتفقد رعيته " فلما كان بِسرغ " بفتح السين وسكون الراء منصرفاً وغير منصرف، وهي قريبة في طريق الشام مما يلي الحجاز " بلغه أن الوباء " أي الطاعون " قد وقع بالشام " أي قد أصاب أهل الشام وانتشر فيهم " فأخبره عبد الرحمن بن عوف " بعد نقاش طويل دار بين عمر وبين من معه من الصحابة عندما أمرهم   (1) التعليق على " فتح المجيد " للشيخ عبد القادر الأرنؤوط. (2) شرح العيني على البخاري ج 21. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إذَا سَمِعْتُمْ به بِأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وِإذَا وَقَعَ بِأرضٍ وَأنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِراراً مِنْهُ ".   عمر بالعودة إلى المدينة فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة، أليس إذا رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله، فجاء بن عوف فقال: إن عندي أني هذا علماً وأخبره " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه " بفتح الدال، أي فلا تدخلوا تلك الأرض التي انتشر فيها ذلك الوباء وقاية لكم من الإِصابة بالعدوى، " وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " أي فلا تنتقلوا منها إلى غيرها، وذلك لتطويق الوباء وحصره في البلاد التي وقع فيها، ومنع انتشاره وانتقال ميكروبه إلى البلاد الأخرى الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: خطورة الطاعون وكونه من الأمراض الخبيثة المعدية، وكان يسمى بالموت الأسود وتحصل الإصابة به بواسطة البرغوث حيث يتغذى من فأرٍ مصاب فيمتص دمه الملوث بالبكتيريا، فيلدغ الإِنسان ويقذف فيه من ذلك الدم فتنتشر البكتيريا في دمه ويصاب (1) بالطاعون. ثانياًً: إرشاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى ما يسمّى في عصرنا هذا بالحجر الصحي حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلا تقدموا عليه " وقال: " فلا تخرجوا منها " فمنع من دخول الأصحاء إلى أرض الوباء، ومنع من انتقال المصابين إلى الأرض السليمة " منه لتطويق المرض وحصره في نطاق محدود حرصاً   (1) من تعليقات الدكتور القلعجي على كتاب " الطب من الكتاب والسنة " لموفق الدين البغدادي المتوفي سنة 629. اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 1121 - عنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الطَّاعُونُ شَهَادَة لِكُلِّ مُسْلِم ". 973 - " بَابُ الرُّقْيةِ مِنَ الْعَيْنِ " 1122 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " أَمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ ".   على سلامة الآخرين، وقد روى أبو داود أن فروة بن مُسَيْك قال: يا رسول الله أرض عندنا هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبيئة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعها عنك، فإن من القرف التلف (1)، والقرف كما قال ابن قتيبة، مداناة الوباء والمرض، ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منعه من دخولها، لأن في الاقتراب من الوباء ما يؤدي إلى العدوى بذلك المرض الخبيث الذي ربما كان سبباً في التلف والموت. والمطابقة: في قوله: " إذا سمعتم به -أي بالطاعون- بأرض فلا تقدموا عليها ". 1121 - معنى الحديث: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الطاعون شهادة لكل مسلم " أي أن في الإصابة بالطاعون ثواب عظيم يضاهي ثواب الشهادة، وأجرها لكل من يصاب به من المسلمين إذا صبر واحتسب ومكث في بلده. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على عظم أجر من ابتلي بالطاعون فصبر واحتسب ورضي بقضاء الله، ولم يخرج إلى بلد أخرى فله أجر الشهادة سواء مات به، أو سلم منه. والمطابقة: في قوله: " الطاعون شهادة ". 973 - " باب الرقية من العين " 1122 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: "أمر النبي   (1) وإسناده ضعيف. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 - صلى الله عليه وسلم - أن يسترقى من العين" أي أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نطلب الرقية ممن يعرفها لمعالجة العين من الرمد وسائر أمراض العين الأخرى، أو يكون المراد به النفس الخبيثة (1)، والعين بهذا المعنى: قوة سميّة تنبعث من عين العائن فتصيب المعين بإذن الله، فتضره وتؤذيه، وقد تهلكه كما تنبعث من الأفعى تلك المادة السامة التي تهلك من أصابته. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن تأثير العين وإصابتها للمعين -بإذن الله تعالى- حق لا شك فيه، وسببها استحسان الناظر للشيء. ثانياًً: مشروعية رقية المصاب بالعين بالآيات والأذكار والأدعية المأثورة، ومن ذلك قراءة المعوّذات، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، والتعاويذ النبوية يقول: " بسم الله، اللهم أذهب حرها وبردها ووصبها " أخرجه النسائي والحاكم في " المستدرك " والوصب بفتح الواو والصاد: دوام الوجع ولزومه، ثم يقول بعد هذه الرقية: قم بإذن الله. وإن كانت دابة نفث في منخرها الأيمن، وفي الأيسر ثلاثاً وقال: لا بأس أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي لا يكشف الضر إلاّ أنت. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه. ومن رأى شيئاً فاستحسنه، وخاف أن يصاب منه بالعين، وأراد أن يقيه من شر عينه فليدع له بالبركة، لحديث حزام بن حكيم بن حزام (2) قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خاف أن يصيب شيئاً بعينه قال: " اللهم بارك فيه ولا تضره " أخرجه ابن السني، أو فليقل: ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، فقد روى أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة من   (1) التي تسمى بالنفس وقد رقى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه النفس الخبيثة بقوله: " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك .. ". (2) الذي في ابن السني: حزام بن حكيم بن حزام، وهو تابعي مجهول، فهو مرسل وفي الأذكار للنووي عن ابن السني: عن سعيد بن حكيم، وهو من صغار التابعين، ولم يثبت له لقي بأحد من الصحابة، فيكون على هذا معضلاً. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 أهل أو مال أو ولد فيقول: ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، فيرى فيه آفة دون الموت" أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي (1)، وفي رواية عن أنس: " من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله لم يضره " أخرجه ابن السني (2). والحاصل: أنه من خاف على نفسه قال: ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، اللهم بارك " لي في كذا، ويذكر اسم الشيء الذي خاف عليه، وإن خاف على غيره قال: ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، اللهم بارك له في كذا ويذكر اسم الشيء الذي يخاف عليه. ثالثاً: دل هذا الحديث على مشروعية رقية العين المريضة، لقولها رضي الله عنها: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسترقي من العين " فإنه يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته برقية العين المصابة بالرمد، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لامرأته زينب، وقد اشتكت عينها: " لو فعلت كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان خيراً لك تنضحين في عينك الماء ثم تقولين: أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلاّ شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً " أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قولها رضي الله عنها: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسترقي من العين ". ...   (1) والبيهقي في " شعب الإيمان " والطبراني في الأوسط والصغير، قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10/ 140) وفي سنده عبد الملك بن زوارة، وهو ضعيف. (ع). (2) ورواه أيضاً البزار والديلمي من رواية ابن بكر الهندلي وهو ضعيف جداً، كما قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5/ 109) قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما جاء ذلك في كتاب الله تعالى (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إِلا بالله). (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 974 - " بَابُ رُقْيةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ " 1123 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " رَخَّصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الرُّقْيَةَ من كُلِّ ذِي حُمَةٍ ".   974 - " باب رقية الحية والعقرب " 1123 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعني أذن لأمته " الرقية من كل ذي حُمَة " بضم الحاء وفتح الميم المخففة، أي أذن - صلى الله عليه وسلم - لأمته في معالجة لدغة الحية والعقرب وغيرهما من الحشرات السامة بالرقية الشرعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقه الحديث: دل هذا الحديث على جواز رقية الملدوغ بالعقرب أو الحية بالرُّقية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن يقرأ عليه الفاتحة، وينفث عليه كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ثم إن الرقية من العقرب والحية وغيرها من ذوات السموم نوعان: علاجية تنفع من الداء بعد حصوله كالفاتحة مثلاً وكالمعوذات (1)، ووقائية: تحفظ صاحبها من الإصابة بهذه الحشرات السامة كما في حديث أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، فقال: " أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك " أخرجه مسلم وأحمد. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في كونه - صلى الله عليه وسلم - رخص في الرقية من كل ذي حُمَة - أي من كل حية وعقرب. ...   (1) بأن يضع مكان اللدغة في ماء وملح، ويقرأ المعوذات كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه ابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 975 - "بَابُ رُقْيةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -" 1124 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ لِلمَرِيضِ: " بِسْمِ اللهِ تربَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بإِذْنِ رَبِّنَا ".   975 - " باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم - " 1124 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للمريض: بسم الله إلخ " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يأخذ من ريقه على السبابة، ثم يضعها على التراب، فَيَعْلَق بها شيء منه، فيمسح به الموضع العليل، أو الجريح قائلاً: بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفي سقيمنا، بإذن ربنا " " تربة أرضنا " خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه تربة أرضنا " بريقة بعضنا " أي فيها أو عليها شيء من ريقنا المقترن باسم الله تعالى " يشفي سقيمنا بإذن ربنا " أي يشفي مريضنا بهذه الرقية المباركة بإذن الله ومشيئته. فقه الحديث: قال القرطبي: في الحديث دليل على جواز الرقية من كل الآلام، ووضع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبابته بالأرض، يدل على استحباب ذلك عند الرقية، فلعله لخاصية في ذلك. قال ابن القيم رحمه الله: وهل المراد بقوله " تربة أرضنا " جميع الأرض أو أرض المدينة خاصة، فيه قولان، قال ابن القيم: " ولا ريب أن من التربة ما يكون فيه خاصية ينتفع بخاصيته من أدواء كثيرة، وإذا كان هذا في هذه التربات فما الظن بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واقترنت باسم ربه، وتفويض الأمر إليه، اهـ كما في " الطب النبوي ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه. والمطابقة: في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي المريض بهذه الرقية والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب اللِّباس " وهو من النعم التي أنعم الله بها على عباده فقال تعالى (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ). وأما حكمه فمنه ما هو واجب، ومنه ما هو مندوب، ومنه ما هو حرام، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح. فالواجب: كما قال ابن جُزَيّ ما يستر العورة، ويقي الحر والبرد، ويستدفع به الضرر في الحرب وغيرها. فعن حكيم بن حزام عن أبيه قال: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر، قال: " احفظ عورتك إلَّا من زوجتك " فتهلت فإن كنت خالياً؟ قال: " فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه " قال ابن قدامة: ويكفي ثوب واحد، وبعضه على عاتقه. والمندوب كالرداء في الصلاة، والتجمل بالثياب في الجمعة والعيدين. والحرام كما قال ابن قدامة نوعان: أحدهما: ما يحرم على الرجال والنساء معاً، وهو النجس والمغصوب وما هو من ألبسة المشركين خاصة حتى صارت سمة لهم كالبُرْنَيْطَة (1) وهل تصح الصلاة في المغصوب على روايتين إحداهما لا تصح، والثانية تصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، لأن التحريم لا يخص الصلاة، وثانيهما: ما يحرم على الرجال خاصة، وهو الحرير والمنسوج بالذهب والمموّه به، وهو حرام لبسه عليهم وافتراشه في الصلاة وغيرها. قال ابن عبد البر: هذا إجماع، وكذلك يحرم على الرجال لبس ثياب تشبه ثياب النساء، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال ". والمكروه كما قال ابن جزيّ: هو التلثم وتغطية الأنف في الصلاة   (1) لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خالفوا اليهود والنصارى " وقوله - صلى الله عليه وسلم - " من تشبه بقوم فهو منهم ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 976 - " بَابُ مَا أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُو في النَّارِ " 1125 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ما أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفي النَّارِ ". 977 - " بَابُ الثيابِ البِيضِ " 1126 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   ولباس زى الأعاجم ولباس ما فيه شهرة كلباس الصوف - أي الصوف الخشن. والمباح ما عدا ذلك. 976 - " باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار " 1125 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته من تطويل الثياب تفاخراً فيقول " ما أسفل من الكعبين ففي النار " أي كل ما طال من الثياب حتى تجاوز الكعبين تفاخراً فصاحبه في نار جهنم يوم القيامة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم إسبال الإزار وإطالته حتى يتجاوز الكعبين تكبراً ومباهاة، لأن هذا الوعيد الشديد بالنار يدل على أنه معصية محرمة، أما إذا كان الإِسبال لغير التكبر والمباهاة، فلا يدخل في هذا الوعيد، لما روي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لست ممن يصنعه خيلاء " أخرجه البخاري. الحديث: أخرجه النسائي أيضاً. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 977 - " باب الثياب البيض " 1126 - معنى الحديث: يحدثنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 " رَأيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ ".   حديثه هذا، أنه رأي يوم أحد عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ويساره رجلين عليهما ثياب بيض، لم يسبق له أن رآهما قبل ذلك اليوم، ولم يرهما بعد ذلك اليوم، قال بعض أهل العلم: هما جبريل وميكائيل، ولبسا الثياب البيض لأنّها أحب الثياب إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -. فقه الحديث: دل هذا الحديث على استحباب لبس الثياب البيض لكونها من سنته، ومن أحب الثياب إلي نفسه الشريفة، حتى أن الملكين جبريل وميكائيل ارتديا الثياب البيضاء يوم أُحُد لعلمهما أن أحب الألوان إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - البياض، وفي رواية: " البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفّنوا فيها موتاكم " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم أيضاً، قالوا: وإنما رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في لبس الثياب البيضاء أو البيض ووصفها بأنّها " أطيب " لدلالتها غالباً على التواضع، وعدم (1) الكبر والخيلاء والعجب. أما سبب كونها " أطهر " فلأنها كما قال العيني: أكثر تأثراً من الثياب الملونة، فتغسل أكثر من غيرها، وتَطْهُر أكثر من سواها، وقد تقع في الثياب المصبوغة نجاسة فلا تُرى، أما الثياب البيض فإنها تكشف ما عليها، وفي البياض إشعار بطهارة الباطن من الغش والحقد والعداوة والبغضاء وسائر الأخلاق الذميمة الدنيئة. وفيها تذكير للحي بثوبه الأخير الذي يخرج به من الدنيا، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن الملكين لبسا الثياب البيض لمحبته - صلى الله عليه وسلم - لها.   (1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 978 - " بَابُ لُبْسِ الْحَرِير وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ " 1127 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنيا فَلَنْ يَلْبَسَهُ في الآخِرَةِ ".   978 - " باب لبس الحرير وافتراشه للرجال " 1127 - معنى الحديث: أن من لبس الحرير الخالص في الدنيا لغير عذر حُرِم منه يوم القيامة، إما لحرمانه من الجنة، إن كان مستحِلاً لذلك، أو لأنه يدخل الجنة، ولكنه يحرم منه فيها، وقال الحافظ السيوطي: تأويل الأكثرين هو أنه لا يدخل الجنة مع السابقين الفائزين، ويؤيده ما رواه أحمد عن جويرية: " من لبس الحرير في الدنيا ألبسه الله يوم القيامة ثوباً من نار " (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على تحريم لبس الحرير الخالص للرجال لغير عذر شرعي من جرب أو نحوه، وهو مذهب الجمهور، وكذلك يحرم افتراشه عندهم، وقال أبو حنيفة: لا بأس بافتراش الحرير والديباج والنوم عليهما، وكذا الوسائد والبسط والستور من الديباج والحرير إذا لم يكن فيها تماثيل. وقال أبو يوسف ومحمد: جميع ذلك لا يجوز، والدليل على تحريم افتراش الحرير والديباج حديث حذيفة رضي الله عنه قال: " نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الفضة والذهب، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه " متفق عليه، فالنهي في الحديث محمول على التحريم عند الجمهور، وعلى التنزيه (2) عند أبي حنيفة وهو مذهب بعض الشافعية وابن الماجشون من   (1) وإسناده ضعيف. (2) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 979 - " بَابُ تقْلِيمِ الأظْفَارِ " 1128 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مِنَ الفِطرةِ حَلْقُ الْعَانَةِ، وتَقْلِيمُ الأظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ".   المالكية، وخطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح، والقول بمنع افتراش الحرير للنساء هو قول بعض الشافعية. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: قال العيني: مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأنّه يوضحها. 979 - " باب تقليم الأظفار " 1128 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغبنا في بعض الأعمال التي تتعلق بالنظافة البدنية، والتي لا تتحقق إلَّا بها، فيقول: " من الفطرة " أي من سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وسنن الأنبياء من قبله " حلق العانة " (1) أي إزالة الشعر الذي فوق الذكر وحواليه والشعر الذي حوالي فرج المرأة، " وتقليم الأظفار " أي إزالة ما طال وتجاوز رؤوس الأصابع، " وقص الشارب " أي والسنة الثالثة " قص الشارب " قال الحافظ، والمراد به ها هنا قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال، وقد رواه أبو هريرة بلفظ " تقصير الشارب " وهذا يدل على أن المطلوب هو القص منه حتى يقصر لا إِزالته بالكلية. اهـ. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يسن حلق العانة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكره في هذا الحديث ضمن سنن الفطرة، قال ابن العربي: وشعر العانة أولى الشعر بالإِزالة، لأنه يكثف ويتلبد فيه الوسخ، بخلاف شعر الإِبط، قال: وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع، وكذا قال الفاكهي في "شرح   (1) قال الأزهري: العانة هي منبت الشعر والشعر نفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 العمدة" وقال أبو شامة: ويستحب إماطة الشعر عن القبل والدبر، بل هو من الدبر أولى خوفاً من أن يعلق بشيء من الغائط، فلا يزيله المستنجى إلَّا بالماء. قال النووي: وذكر الحلق لكونه هو الأغلب، وإلَّا فيجوز الإِزالة بالنورة والنتف وغيرهما، وقال ابن دقيق العيد: والأولى في العانة الحلق، بخلاف الإِبط، فإنه بالعكس. ثانياًً: أنه يسن تقليم الأظافر، وذلك لأنّ الوسخ يجتمع تحتها فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة، قال الحافظ: ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث، قال النفراوي في شرح " الرسالة ": قص الأظفار سنة للرجل والمرأة إلَّا في زمن الإِحرام، وأفضل زمن قصها الجمعة لطلبه كل يوم جمعة، ويكون بالمقص أو بالسكين لكراهته بالأسنان، ولأنه يورث المرض، ولا يتعين إصبع للبداءة به، كما لا يتعين زمن القص فيه. ثالثاً: أنه يسن قص الشارب، وفيه دليل لما ذهب إليه مالك رحمه الله من أن المسنون هو قصهُ لا حلقهُ، ولا إزالته بالكلية، قال في " الرسالة ": ومن الفطرة خمسٌ، قص الشارب، وهو طرف الشعر المستدير على الشَّفة لا إحفاؤه، يعني أن المستحب هو قص طرف الشعر النازل على الشفة، لا جز الشارب واستئصاله. قال يحيى في " الموطأ ": سمعت مالكاً يقول: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وهو الإِطار، ولا يجزّه فيمثل بنفسه، وقال أبو حنيفة (1) " وأحمد: هو السنة التمسك برواية: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى " وأخذ مالك بخبر قُصّوا الشوارب، وجمع بعض العلماء بين الخبرين بأن يقص من أعلاه، ويحلق من طرفه للجمع بين الحديثين المتعارضين، وكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون: الإِحفاء أفضل من التقصير، وقال أشهب: سألت مالكاً عمّن يحفي شاربه، فقال: أرى أن يوجع ضرباً، ومعنى الحف الذي ينكره مالك رحمه الله، أن يستأصل الشعر، ويحلق، ويجز   (1) شرح النفراوي على الرسالة ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 حتى يبلغ الجلد، ويرى ما إك أن المستحبَّ هو أن يقص طرف الشعر المستدير على الشفة العليا، أما الحلق، فإنه مُثْلَةٌ لا تجوز، والحاصل أنه اختلف الفقهاء فيما يسن في الشارب، هل هو التقصير أو الحلق والإحفاء؟ فذهب مالك إلى الأول عملاً بحديث الباب، وبه فسر بقية الأحاديث الأخرى. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن السنة هي حلق، الشارب وإحفاؤه كما تقدم، قال ابن القيم في " زاد المعاد ": أما الإمام أحمد فقال الأثرم: رأيت الإِمام أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديداً، وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أحفوا الشوارب "، قال حنبل: قيل لأبي عبد الله: ترى الرجل يأخذ من شاربه أو يحفيه؟ أم كيف يأخذه؟ قال: إِن أحفاه فلا بأس، وإن أخذه قصاً فلا بأس. اهـ. أما الشافعي رحمه الله فقد قال النووي: المختار في الشارب أن يقصه حتى يبدو طرف الشفة، ولا يحفه من أصله، وصرح في " شرح المهذب " أن هذا مذهبنا، وقال الطحاوي: لم أر عن الشافعي في ذلك شيئاً منصوصاً، وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم أخذوا ذلك إلَّا عنه. اهـ. تتمة وتكملة: اقتصر في هذا الحديث على هذه السنن الثلاث، وزاد في رواية أبي هريرة خصلتين أخريين: أولاهما: نتف الإبط (بكسر الهمزة والموحدة وسكونها وهو المشهور)، قال الحافظ ويتأدى أَصل السنة بالحلق، لا سيما لمن يؤلمه النتف، ويستحب البداية باليد اليمنى وهو سنة للرجال والنساء، والنتف أحسن من الحلق. وثانيهما الختان: قال ابن أبي زيد في " الرسالة ": والختان للرجال سنة، يعني سنة مؤكدة في حق الصغير والكبير، قال النفراوي: والزمن المستحب فعله فيه عند أمره بالصلاة ويكره ختنه يوم السابع، وروى ابن حبيب، عدم جواز إمامة وشهادة تاركه عمداً أو اختياراً، وإذا أسلم شيخ كبيرٌ سُنَّ ختنه إلَّا أنْ يَكون يحصل له ضرر، فيرخص له تركه، وقال الباجي: الاختتان عند مالك وأبي حنيفة من السنن كقص الأظفار، وحلق العانة، وقال الشافعي: هو واجب، وهو مقتضى قول سحنون، واستدل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 980 - " بَابُ مَنْ لَمْ يَرُدَّ الطِّيبَ " 1129 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيبَ ". 981 - "بَابُ عَذَابِ المُصَوِّرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ " 1130 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:   القاضي أبو محمد على نفي وجوبه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرنه بقص الشارب، ولا خلاف أن هذه ليست بواجبة، والله أعلم. الحديث: أخرجه الخمسة. والطابقة: في قوله: " تقليم الأظفار ". 980 - " باب من لم يرد الطيب " 1129 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الطيب الذي يهدى إليه ليُسْره، وقلة مؤونته على صاحبه، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الطيب، وكل الروائح العطرية. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من السنة قبول الطيب، وعدم رده على صاحبه، لأنه من الأشياء المفضلة المحببة إلى نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرده، فيستحب الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، عملاً بحديث الباب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه طيب الريح خفيف المحمل " أخرجه أبو داود والنسائي. الحديث: أخرجه الشيخان وابن حبان. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. 981 - " باب عذاب المصورين يوم القيامة " 1130 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن أشد الناس عذاباً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 سَمِعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ أشَدَّ النَّاس عَذَاباً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ ".   عند الله" أي في حكم الله تعالى " يوم القيامة المصورون " والمعنى: أن هؤلاء الذين يصنعون الصور لذوات الأرواح من الإنسان والحيوانات هم من أشد الناس عذاباً يوم القيامة سواء كانت من التماثيل المجسّمة أو كانت رسماً باليد على الورق أو القماش والخشب، أو كانت صورة فوتوغرافية لعموم الحديث. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: كما قال العيني ظاهرة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن تصوير صورة الحيوان حرام أشد التحريم، وأنه من كبائر الذنواب، سواء كان تصويراً مجسماً أو رسماً على الورق والقماش أو صورة فتوغرافية، لعموم الحديث. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والله أعلم. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 بسم الله الرحمن الرحيم " كتابُ الأدَبِ " 982 - " بَابُ مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ " 1131 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُل إلى رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهَ مَنْ أحَقُّ النَّاسِ   " كتاب الأَدَبِ " الأدب نوعان: أدب فني، وأدب نفسي؛ فالأدب الفني أو الدراسي هو الأخذ من كل فن بطرف أو الإِجادة في فني النظم والنثر. والأدب النفسي الأخلاقي هو الأخذ بالسلوك الفاضل، والالتزام بمكارم الأخلاق، واجتناب مساوئها وفق تعاليم الشريعة الإِسلامية، فإن المقصود بقوله " كتاب الأدب " الأخذ بكل ما يتلاءم مع السلوك الحسن من الأقوال والأفعال حسب تعاليم الشريعة، سواء في ذلك ما يتعلق بمعاملة الأبوين والأقارب والأطفال والجيران والخدم والأصدقاء والإِخوان، أو بمحاسن الأفعال من الإِحسان إلى الناس، والشفاعة لهم، وحفظ اللسان، والنصيحة لهم، والصدقة على فقرائهم، وتشميت العاطس، أو يتعلق بالصفات الحميدة، كالرحمة، والرفق، والصدق، والحلم، والحياء، والتواضع، والصبر، ولين الجانب، وضبط النفس عند الغضب، إلى غير ذلك من الآداب، وفي صحيح البخاري نماذج عليا لأخلاقيات الإِسلام وآداب السلوك في شريعة نبيّنا عليه الصلاة والسلام. 982 - " باب من أحق الناس بحسن الصحبة " 1131 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه "جاء رجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: " أمُّكَ " قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " أمُّكَ " قَال: ثُمَ مَنْ؟ قَالَ: " أمُّكَ " قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " ثُمَّ أبوكَ ".   إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ويحتمل أن يكون هذا الرجل هو معاوية بن حيدة لما جاء في حديث يحيى بن سعيد عن بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدّي - يعني معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله من أبَرُّ؟ قال: أمك، إلخ الحديث، والمعنى واحد، إلَّا أنه قال هنا: " فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ " أي منْ أولى الناس بالإحسان إليه والبر به في مصاحبتي له " قال: أمك " أي أولى الناس بحسن المعاملة وطيب المعاشرة الأم " قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْ؟ قَال: أمُّك " وهكذا أوصاه بالأم وأكد حقها في حسن المعاملة ثلاث مرات بياناً لفضلها على سائر الأقارب دون استثناء " قال: ثم من؟ قال: أبوك " فكرر حق الأم ثلالاً، وذكر حق الأب مرة واحدة. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من أعظم الحقوق الاجتماعية بِرُّ الوالدين، فإنه يأتي في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله تعالى، ولهذا جمع الله تعالى بين الأمر بالتوحيد وبر الوالدين، في آية واحدة، فقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) لأن الله هو السبب الحقيقي لوجود الإنسان، والأبوان هما السبب الظاهري لوجوده، لكن حق الأم أعظم من حق الأب كثيراً، لكثرة أفضالها على ولدها، وكثرة ما تحملته من المتاعب الجسمية والنفسية أثناء حملها به، ووضعها وإرضاعها له، وخدمتها وشفقتها عليه كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) لهذا كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - الوصية بها ثلاث مرات، وذكر حق الأب مرة واحدة، لأن الجزاء من جنس العمل، فالتثليث في مقابلة ثلاثة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 983 - " بَابٌ لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمكافِىء " 1132 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِىء، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلهَا ".   أشياء مختصة بالأم، وهي تعب الحمل، والوضع، والرضاع. والمطابقة: في كون الحديث جواباً للترجمة. 983 - " باب ليس الواصل بالمكافىء " 1132 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الواصل بالمكافىء " أي ليس الإِنسان الكامل في صلة الرحم والإِحسان إلى الأقارب هو الشخص الذي يقابل الإِحسان بالإِحسان " ولكن الواصل " أي ولكن الإِنسان الكامل في صلة الرحم هو " الذي إذا قطعت رحمه وصلها " أي إذا أساء إليه أقاربه أحسن إليهم ووصلهم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الآداب الشرعية، والحقوق الاجتماعية التي فرضها الإِسلام صلة الرحم، وهم الأقارب الذين بينك وبينهم نسب، ومعنى صلتهم، الإِحسان إليهم بكل ما تقدر عليه من وجوه الإِحسان، قال ابن أبي جمرة (1): تكون صلة الرحم بالمال، والعون على الحاجة، ورفع الضرر، وطلاقة الوجه والدعاء لهم، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وقد أكد الإِسلام كثيراً على صلة الرحم، ففي الحديث عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: أنا الله، وأنا الرحمن، خلقت   (1) " تحفة الأحوذي " ج 6. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 984 - " بَاب رُحْمَةِ الوَلَدِ وَتقْبِيلهِ وَمُعَانقَتِهِ " 1133 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ الصبيَانَ! فما نُقَبِّلُهُمْ؟ فَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أو أمِلكُ لَكَ إِنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ ".   الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتتُّه" أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. والمعنى كما قال الحافظ (1): " أن الرحم أثر من آثار الرحمة، مشتبكة بها، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله، والله أعلم. ثانياً: دل هذا الحديث على أن الصلة إذا كانت نظير مكافأة من الطرف الآخر لا تكون صلة كامل، لأنها من باب تبادل المنافع، وهذا مما يستوي فيه الأقارب والأباعد. ثالثاً: أنه يستحب في معاملة الأقارب مقابلة الإِساءة بالإحسان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إنّ في قرابة أَصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: " لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفُّهم الملُّ، ولن يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك " أخرجه مسلم، والمل: الرماد الحار. الحديث: أخرجه أبو داود والترمذي. والمطابقة: كون الترجمة من لفظ الحديث. 984 - " باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته " 1133 - معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها " جاء أعرابي " قال العيني: ويحتمل أن يكون هو عيينة بن حصن " فقال: أتقبلون الصبيان؟ " الهمزة للاستفهام الإِنكاري أو التعجبي، ومعنى ذلك أنه عجب   (1) " فتح الباري " ج 10. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 985 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النَّمِيمَةِ " 1134 - عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا يدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ".   واستغرب من تقبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأطفالهم " فما نقبلهم " لأنّهم يتكبرون ويتعاظمون ويحتقرون الصبيان. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال " من لا يرحم لا يُرحَم " " أوَ أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة " أي ماذا أصنع إذا كان الله قد نزع من قلبك عاطفة الرحمة؟ فهل أملك أن أعيدها إليك؟. فقه الحديث: دل هذا الحديث على مشروعية معانقة الأطفال وتقبيلهم، وكونه سنة مستحبّة. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد وابن ماجه. والمطابقة: في كونه يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل أولاده (1). 985 - " باب ما يُكره من النميمة " 1134 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة قتات " على وزن فَعّال بالتشديد، من قتّ الحديث يقتّه قتّاً: إذا تسمّع إلى حديث شخص فنقله إلى غيره بقصد الإِفساد بينهما، وفي رواية: " لا يدخل الجنة نمام " وقيل النمام: الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، وينقل حديثهم إلى غيرهم، والقتات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعملون ثم ينم " (2) والمعنى: لا يدخل الجنة شخص نمّام ينقل الحديث من شخص إلى شخص، أو من جماعة إلى أخرى بقصد الإِفساد، وغرس بذور العداوة والبغضاء   (1) أي في كون الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل أولاده الحسن والحسين. (2) نقله الخطابي عن ابن بطال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 في النفوس، فمن فعل ذلك مستحلاً لما يفعله فقد حرّم الله عليه الجنة، ومن فعله وهو يعلم أنه حرام تحت تأثير نزعة شيطانية فهو فاسق عاص، لا يدخل الجنة حتى يعاقب على جريمته هذه بالنار، إلاّ أن يعفو الله عنه، أو يتوب من جريمته. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن النميمة كبيرة من الكبائر، لأن هذا الوعيد الشديد لا يترتب إلَّا على ارتكاب كبيرة، وذلك لأن " النميمة " ظاهرة عدوانية خطيرة تفكك المجتمع، وتقطع العلاقات وهي وليدة الحقد والحسد، ولهذا كان النمّام بغيضاً إلى نفوس العقلاء منبوذاً عندهم، لا يرتاحون إليه، وقد روي أن بعض الفضلاء زاره أحد هؤلاء، ونقل إليه من غيره ما شاء من حديث، فقال: بئس ما صنعت، أتيتني بثلاث جنايات، بغضت إليَّ أخي، وشغلت قلبي، واتَّهمت نفسك، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يبلِّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " أخرجه أبو داود (1). وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - النمامين بأنهم شرار الخلق، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عبد الرحمن ابن غنم: " خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة (2)، المفرقون بين الأحبة " أخرجه أحمد (3). ثانياًً: أن نقل الحديث إذا ترتب عليه مصلحة شرعية للمنقول إليه كإنقاذه من قاتل، أو لص، أو غير ذلك، أو كان فيه مصلحة للمسلمين، فإنه يكون مستحبّاً، أو واجباً على حسب ما يقتضيه الحال، ولهذا قال البخاري في الترجمة: " باب ما يكره من النميمة " فأتى بكلمة من التبعيضية ليشير بذلك إلى أن المُحرَّم هو بعض النميمة   (1) والترمذي وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (ع). (2) " المرقاة شرح المشكاة " ج 4. (3) وإسناده ضعيف. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 986 - " بَابُ مَا يَكْرَهُ مِنَ التَّمَادُحِ " 1135 - عَنْ أبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأثْنَى عَلَيْهِ رَجُل خَيْراً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ -يقُولُ مِرَاراً- إنْ كَانَ أحدُكُمْ مَادِحاً لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحسَبُ كَذَا وكَذَا، إِنْ كَانَ يُرَى أنَّهُ   لا كلها، فالكافر المعادي للمسلمين يستحب نقل حديثه إليهم ليأخذوا حذرهم منه، مع أن في ذلك إضراراً به، وإفساداً لتدبيره. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن النمام لا يدخل الجنة، وهذ يقتضي تحريم النميمة. 986 - " باب ما يكره من التمادح " 1135 - معنى الحديث: يحدثنا أبو بكرة في حديثه هذا " أن رجلاً ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي أن رجلاً ذكرت سيرته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عبد الله ذو البِجادَين كما قال: الحافظ " فأثنى عليه رجل خيراً " أي فمدحه رجل من الصحابة، وبالغ في مدحه، والمادح هو محجن بن الأدرع الأسلمي " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك " وهي كلمة ترحم وتوجع لمن وقع في مهلكة لا يستحقها " قطعت عنق صاحبك " أي آذيته في دينه وخلقه، لأنه إذا علم بمدحك هذا داخله الغرور، وأعجب بنفسه، فهلك لا محالة، كما جاء مصرحاً به في رواية أخرى عن محجن بن الأدرع قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، فدخل المسجد، فإذا رجل يصلي فقال لي: من هذا؟ فأثنيْتُ عليه خيراً، فقال: " اسكت لا تسمعه فتهلكه " " إذا كان أحدكم مادحاً لا محالة " بفتح الميم أي إذا كان لا بد مادحاً لحاجة تدعو إلى ذلك كالاستشارة أو التزكية "فليقل أحْسب كذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 كَذَلِك، وَحَسِيبُهُ اللهُ، وَلاْ يُزَكِّي عَلَى اللهِ أحداً".   أو كذا" أي أظن أن فيه صفة كذا من صفات الخير " إن كان يرى أنه كذلك " أي إن كان يعتقد أن تلك الصفة موجودة فيه " وحسيبه الله " أي والله وحده المطلع على سريرته العالم بحقيقته، " ولا يزكي على الله أحداً " أي لا يقطع لأحد بكمال الإِيمان أو بالسعادة والجنة إلَّا الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يكره المبالغة في المدح والثناء، لأن ذلك ضرب، من التملق الذي لا يقره الإسلام، سيما إذا كانت هذه الصفة لا توجد في الممدوح، فإنه بذلك يجمع بين التملق والكذب معاً. وكذلك يكره المدح مطلقاً إذا كان يخشى على الممدوح أن يركبه الغرور والإعجاب بنفسه، أما المديح بالباطل فإنه حرام ومعصية، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن كان يرى أول كذلك " مفهومه أنه إذا لم يكن كذلك، فإنه لا يجوز، لأنه كذب وملق ونفاق، وقدا جاء التحذير الشديد من المداحين بالباطل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أُحثوا في وجوه المدَّاحين التراب " قال بعض أهل العلم: معناه زجر المادح، ومنعه عن (1) الاسترسال في مديحه، لأن سماع مثل هذا يدفع الممدوح إلى الكِبْرِ والغرور (2) وقال الخطابي: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة لهم، وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح. ثانياًً: دل الحديث على جواز المدح بثلاثة شروط: الأول: أن يكون المادح صادقاً فيما يقول في ممدوحه حسب اعتقاده (3)، كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن كان يرى أنه كذلك "، الثاني: أن لا يخشى على الممدوح أن يغتر بذلك المديح، فتتغير نفسه، وتفسد أخلاقه،   (1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 4. (2) قال أهل العلم: المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " احثوا في وجوه المداحين التراب " الذين يمدحون الناس في وجوههم بالباطل بما ليس فيهم. (3) أما مدحه لمصلحة شرعية كالشهادة، أو التزكية، أو الدفاع عنه في غيبته، فإن ذلك قد يكون واجباً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 987 - " بَاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) " 1136 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الْحَدِيثِ، ولا تَحَسَّسُوا، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَحَاسَدُوا،   كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " قطعت عنق صاحبك "، ثالثاً: أن يكون المدح مجرّداً عن الغلو والإطراء والقطع بتزكية أحد على الله مهما كان، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا يزكي على الله أحداً ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " قطعت عنق صاحبك " فإن فيه التحذير من مدح الرجل لئلا يغترّ بنفسه. 987 - " باب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) " 1136 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم والظن " أي احذروا من سوء الظن بالناس، واعتقاد الشر فيهم، واتّهامهم بالأعمال القبيحة دون دليل، " فإن الظن أكذب الحديث " أما أن يراد بالحديث حديث النفس، بمعنى أن ما يقع في النفس، ويخطر بالقلب من الظنون السيئة هو من أكذب الأحاديث النفسية، فلا تلتفتوا إليه، أو تعتمدوا عليه، لأنه من وسوسة الشيطان أو يراد به " حديث اللسان " بمعنى أن كل قول لا يستند إلَّا إلى مجرد الظن هو من أكذب الأقوال، وأبعدها عن الحقيقة، فإياكم أن تتحدثوا به من غير دليل تستندون إليه، " ولا تحسسوا ولا تجسسوا " (1) أي لا تتبعوا عورات   (1) والكلمتان بمعنى واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 وَلا تَبَاغضُوا، ولا تَدَابَرُوا، وكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً".   المسلمين " ولا تناجشوا " أي لا يزد أحدكم على أخيه في ثمن السلعة دون رغبة في شرائها ليخدع المشتري، " ولا تحاسدوا " أي لا يحسد بعضكم بعضاً فيتمنى زوال نعمته، سواء أتمنى انتقالها إليه، أو لا، قال تعالى (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ -إلى أن قال- وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) " ولا تباغضوا " أي اجتنبوا الأسباب المؤدية إلى البغض والتنافر فيما بينكم من الشتم وسوء المعاملة ونحو ذلك، أو لا تستسلموا لمشاعر البغض والكراهية، وتنفذوا ما تدعوكم إليه من إيذاء الناس وظلمهم إلخ، فإنّ ذلك في مقدوركم " ولا تدابروا " أي لا يهجر بعضكم بعضاً من الإِدبار، وهو الإِعراض المؤدي إلى العداوة والقطيعة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم العمل بسوء الظن الذي لا يستند إلى دليل والاستجابة له في توجيه التهمة إلى المسلمين لمجرد خاطر نفسي، قال القرطبي: المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم رجلاً بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، فينبغي للمسلم إذا ظن ظناً سيئاً لا دليل عليه أن لا يحققه بالعمل والقول فقد جاء في الحديث عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لازمات أمتي الطيرة، والحسد، وسوء الظن" فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: " إِذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض " أخرجه الطبراني (1). ثانياًً: قال عياض: استدل قوم بهذا الحديث على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، وهو زعم باطل، قال: "وليس المراد بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلاً، بل الاستدلال به لذلك   (1) قال الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8/ 78) وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 ضعيف وباطل. ثالثاً: تحريم التجسس على الناس، وتتبع عوراتهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ولا تجسسوا "، ويستثنى بعض الحالات الاستثنائية كالتجسس على العدو الكافر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل في غزوة الخندق الزبير إلى الأعداء ليطلع على أحوالهم، وكذلك إذا أصبح التجسس وسيلة لإنقاذ نفس من الهلاك فهو مندوب إليه. رابعاً: دل هذا الحديث على أنه يجب على المسلم المحافظة على العلاقات الودية بينه وبين إخوانه، وأن يتجنب الأسباب المؤدية إلى العداوة بينه وبينهم من السباب، والشتائم، وسوء المعاملة، والغيبة، والنميمة، واحتقار الآخرين، وجرح مشاعرهم، وعلى وجوب ضبط النفس، والتحكم في مشاعرها، وأن لا يستسلم المسلم لعاطفة البغض والكراهية في إيذاء الناس والتعدي عليهم، كما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا تباغضوا " خامساً: أنه يحرم على المسلم أن يستجيب لمشاعر الحسد وأن يقاومه ما استطاع، ويستغفر الله منه، فإنه إن فعل ذلك لم يأثم، وصرفه الله عنه، كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " إذا حسدت فاستغفر الله " أخرجه الطبراني، وليس المراد بالاستغفار أن يستغفر بلسانه فقط، وإنما المراد به الإحساس بالندم، والعزم والتصميم على مقاومة هذا الشعور البغيض، والالتجاء إلى الله بقبول التوبة. سادساً: أنه لا يجوز أن يهجر المسلم أخاه المسلم ويقاطعه لغرض من أغراض الدنيا، وقد جاء في الحديث عن أبي أيوب الأنصارى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " متفق عليه. وأجمع العلماء على أنه من خاف من مكالمة أحدٍ وصلته ما يفسد عليه دينه أو مضرة في دنياه يجوز له مجانبته، ورب هجر خير من مخالطة من يؤذيه. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: "إياكم والظن" فإنه مطابق لقوله تعالى (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ)، وفي قوله أيضاً: " فإن الظن أكذب الحديث " وهو مطابق لقوله تعالى (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وتوضيح له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 988 - " بابُ سِتْرِ المُؤمِنِ عَلَى نفْسِهِ " 1137 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " كُلُّ أمَّتِي مُعَافَى، إلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وِإنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ (1) أنْ يَعْملَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ فَيَقُولُ: يَا فُلانُ عَمِلْتُ، البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ ".   988 - " باب ستر المؤمن على نفسه " 1137 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " كل أمتي مُعافى " (2) أي كل واحدٍ من هذه الأمة إذا ارتكب معصية يرجى له عفو الله ومغفرته، والنجاة من النار، لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) " إلا المجاهرين " كذا للأكثر بالنصب، وفي رواية مسلم المجاهرين بالنصب (3)، ويجوز الرفع فيه على مذهب الكوفيين، وتكون " إلَّا " في هذه الحالة بمعنى لكن كما قال ابن مالك، قال الحافظ: والمعنى، لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، والمجاهر الفاسق المعلن بفسقه الذي يأتي بالفاحشة ثم يشيعها بين الناس تفاخراً وتهوراً ووقاحة. " وإن من المجانة " أي الوقاحة والاستهتار بالدين والاستخفاف بحدود الله " أن يعمل الرجل بالليل " أي معصية " ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا " أي يحدث إخوان السوء من أصدقائه بأنه فعل المعصية الفلانية "وقد بات يستره ربه،   (1) وفي رواية " من المجاهرة " ورواية الباب أنسب وأبلغ. (2) بضم الميم وفتح الفاء اسم مفعول من العافية والسلامة فإنه قابل لمغفرة الله وعفوه. (3) قال الحافظ في " الفتح ": وفي رواية النسفي " إلا المجاهرون " بالرفع، وصوابه عند البصريين بالنصب. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 ويصبح يكشف ستر الله عنه" وذلك لأنه لا يريد الستر، وإنما يريد الفضيحة، حيث يراها في نظره مفخرة ومباهاة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب على من ابتلي بمعصية أن يستر على نفسه، وهو ما ترجم له البخاري، وقد جاء الأمر الصريح بالستر في حديث آخر، فقد روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله " أخرجه الحاكم (1)، كما أخرجه مالك مرسلاً من حديث زيد بن أسلم (2). ويدل الحديث على أن ارتكاب المعصية مع سترها أهون وأخف من المجاهرة بها، لأن المعصية مع الستر تقبل العفو الإِلهي، أما مع المجاهرة فإنه لا يعفى عنها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " كل أمتي معافى إلَّا المجاهرون " وذلك لأن المجاهرة وقاحة وجرأة وانتهاك لحدود الله، واستخفاف بالشريعة كما قال - صلى الله عليه وسلم - " وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملتُ البارحة كذا " قال ابن بطال في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله. ثانياً: أن المجاهر بالمعصية يجوز اغتيابه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفه بالمجانة، وهي الاستخفاف بمحارم الله، والتباهي بها أمام الناس، ومن كان هذا حاله ينبغي التشهير به فيجوز اغتيابه، لأنه نزع جلباب الحياء، فلا حرمة ولا كرامة له في نظر الإسلام، وأخذ بعضهم جواز غيبة المجاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل أمتي معافى إلَّا المجاهرون " (3) قال معناه: أن كل واحد من العصاة معافي من الغيبة، فيجب أن يترك عرضه سليماً، ولا يغتابه أحد، إلَّا المجاهر فإنه يجوز انتهاك عرضه بالغيبة، لأنه غير معافى، ولا صيانة لعرضه، ولا كرامة له، وهو استدلال وجيه. الحديث: أخرجه   (1) والبيهقي في " السنن ". (ع). (2) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا. (ع). (3) كما جاء في الحديث: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له " رواه البيهقي في " سننه " (10/ 210) وإسناده ضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 989 - " بَابُ الحَذَرِ مِنَ الغضَبِ " 1138 - عَنْ أبِي هرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الذِي يَمْلِكُ نَفْسَة عِنْدَ الْغَضَبِ ".   الشيخان. والمطابقة: كما قال الحافظ: في كون الحديث مصرّح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر. 989 - " باب الحذر من الغضب " 1138 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليس الشديد بالصُّرعة " وهو من يكثر صرع الأعداء ويتمكن من إسقاطهم، والمعنى: لا تظنوا أن الرجل القوي هو ذلك الرجل الذي يتمتع بقوة بدنية يستطيع بها أن يصرع الفرسان في ميادين القتال، نعم لا شك أن ذلك الرجل رجل قوي، ولكن هناك من ْهو أعظم منه قوة وبأساً، وأجدر منه بهذا اللقب، وهو ذلك الرجل القوي الإرادة الذي يستطيع أن يتغلب على نفسه ويتحكم في غريزته أثناء غضبه " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " أي إنما الرجل القوي الكامل في قوته هو الرجل القوي في إرادته، " الذي يستطيع أن يتحكم في نفسه عند الغضب، ويمنعها عن تنفيذ ما تدعوه إليه من إيذاء الناس بالشتم والضرب والعدوان أو الإساءة إليهم بالقطيعة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من أعظم الأدلة على قوة الشخصية الحلم، وضبط النفس عند الغضب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " لأن الغضب ثورة نفسية عارمة، فالتصدي لمقاومتها في عنفوانها ليس بالأمر السهل، ولا يستطع ذلك إلَّا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 قويت إرادته، وكمل إيمانه ودينه وأصبح له السلطان القاهر على جميع انفعالاته النفسية. ثانياً: دل الحديث على أن الغضب وإن كان غريزة نفسية جبارة، إلَّا أنه يمكن مقاومته بعد وقوعه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ويمكن مقاومة الغضب قبل وقوعه ووقاية النفس منه باجتناب الأسباب المثيرة للغضب، كالخصام والجدال، والمزاح، والسخرية، والاستهزاء، إلى غير ذلك. والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي الدرداء: " لا تغضب " ثلاث مرات أي تجنب دواعي الغضب، والأسباب التي تؤدّي إليه لئلا تقع فيه ولهذا قال العلماء: للغضب دواءان: (أ) دواء وقائي: قبل وقوعه: وهو تجنب أسبابه والابتعاد عن المواقف المؤدّية إليه. كمجالسة السفهاء، ومخالطة الأشرار، وتناول المشروبات المهيجة للأعصاب، وأن يكثر من الاستغفار، وقَول: لا حول ولا قوة إلا بالله بصدق وإخلاص، فإن فيها شفاءً من أدواء كثيرة ... (ب) ودواء علاجي بعد وقوعه: وهو مقاومة النفس عن الاستسلام والانقياد له، وكفها عن الظلم والعدوان، ثم هناك وسائل أخرى للتخفيف من حدة الغضب، أو القضاء عليه نهائياً، كالاستعاذة بالله من الشيطان، والغسل، والوضوء، وتغيير الحالة التي يكون عليها الإِنسان، فإن غضب وهو قائم جلس، أو اضطجع. ثالثاً: أن مقاومة الغضب وامتلاك النفس عند وقوعه من أفضل الأعمال الصالحة التي يثاب عليها، ولولا ذلك لما أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها كل هذا الثناء، وفي الحديث عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رأس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء " أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة، وفي رواية: " من كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ". الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: من حيث أن فيه (1) الإِغراء على التحذير من الغضب.   (1) كما أفاده العيني، وهذا الإغراء في قوله: " إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 990 - " بَابُ مَا يستحَبُّ مِنَ العُطَاس وَمَا يُكْرهُ مِنَ التَّثاَؤبِ " 1139 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثاَؤبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ، فَحَقٌّ علَى كُلِّ مُسْلِم سَمِعَهُ أن يُشَمِّتَهُ، وأما التَّثَاؤُبُ فإنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيَطَانِ، فَلْيَرُدَّهُ ما استطَاعَ، فَإِذَا قَالَ هَا، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ".   990 - " باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب " 1139 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب العطاس " لما فيه من خروج الأبخرة الفاسدة، والمواد الضارّة التي يؤدي خروجها إلى نشاط الجسم، وخفة البدن والدماغ، والتخفيف من حدة الزكام. " ويكره التثاؤب " وإنما يكره التثاؤب كما قال القاري لأنه يمنع صاحبه من النشاط في الطاعة، ويوجب الغفلة. ": فإذا عطس أحدكم وحمد الله " أي فإذا عطس المسلم وقال بعد عطاسه: الحمد لله شكراً لربه على هذه النعمة " فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته " أي فإنه مطلوب من كل من سمعه من المسلمين أن يدعو له بالخير، لأنه عَمِلَ بالسُّنَّةِ وأدى ما عليه من حمد الله وشكره على نعمته، فيكافىء على ذلك بالدعاء له بالخير، ويقول له سامعه: يرحمك الله. " أما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرد ما استطاع " أي فليغلق فمه قدر استطاعته ليخفف من التثاؤب " فإن أحدكم إذا قال ها " أي فإن المرء إذا تثاءب ورفع صوته بالتثاؤب وقال: " ها " " ضحك منه الشيطان " شماتة فيه حين يراه تابعاً ومسخراً له، واستهزاءً منه لأنه انتصر عليها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن العطاس ظاهرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 محبوبة عند الله تعالى لأنه ينشأ من خفة الجسم وأن التثاؤب ظاهرة كريهة عند الله تعالى، لأنها من الشيطان، بسبب الفتور والكسل، قال الخطابي: العطاس محمود لأنه يعين العبد على الطاعات، والتثاؤب مذموم، لأنه يثنيه ويصرفه عن الخيرات. اهـ. أي يمنعه عن العبادات من قيام وصيام وقراءة قرآن ونحوه. فالعطاس مستحب، والتثاؤب مكروه كما ترجم له البخاري. ثانياً: أنه يستحب للعاطس أن يحمد الله على عطاسه، لأنه نعمة من الله تعالى عليه، تخرج بسببه الإفرازات الضارة، والأبخرة الفاسدة، كما يشرع لسامعه أن يشمته إذا حمد الله، ومعنى التشميت أن يدعو له بالخير، فيقول له: يرحمك الله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته " وقال في " بهجة النفوس ": قال جماعة من علمائنا -أي المالكية- إنه فرض عين، وقوّاه ابن القيم في حواشي السنن بأنه جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحق الدال عليه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي: أمَرنا رسول الله، قال: ولا ريب أن الفقهاء يثبتون وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء، وقال قوم: التشميت فرض كفاية، ورجحه أبو الوليد بن رشد، وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة، وقال الشافعية: مستحب على الكفاية. ثالثاً: دل هذا الحديث. على أنه إنما يشرع تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، فإذا لم يحمد الله تعالى فلا يشمت. رابعاً: أنه يستحب للمتثائب أن يرد تثاؤبه قدر استطاعته وعن أبي هريرة: " إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه فإنّ الشيطان يضحك منه ". الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الاستئذان " 991 - " بَابُ تسْلِيمِ الرَّاكِبِ على المَاشِي " 1140 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي، والْمَاشِي علَى   " كتاب الاستئذان " الاستئذان: هو طلب الإذن في دخول مكان لا يملكه المستأذن، وهو واجب بالإِجماع المستند إلى الكتاب والسنة، أمّا الكتاب فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا (1) وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا). وأما السنة: فدليل مشروعية الاستئذان فيها " ما رواه أبو داود وابن أبي شيبة بسند جيد عن ربعي بن حراش قال: حدثني رجل أنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيته فقال لخادمه: " اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم أأدخل " صححه الدارقطني، وظاهر هذا الحديث تقديم السلام على الاستئذان، بخلاف سياق الآية. والحكمة في مشروعية الإِستئذان: أن لا يهجم الإِنسان على عورات الناس، وينظر منهم ما يكرهون، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الاستئذان لأجل البصر " ويختلف الاستئذان باختلاف الناس، فالأجنبي الذي لا خلطة له يستأذن ثلاثاً كما في الحديث، وأما الذي له خلطة فاستئذانه أخف. 991 - " باب تسليم الراكب على الماشي " 1140 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " يسلم الراكب على الماشي "   (1) والاستئناس معناه الاستئذان، كما حكاه الطحاوي عن لغة اليمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 القاعِدُ، والقَلِيلُ على الكَثير". 992 - " بَابُ الاستئْذَانِ مِنْ أجْلِ البَصَرِ " 1141 - عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اطَّلَعَ رَجُل منا حُجْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِدْرَىً يَحُكُّ بِهِ رَأسَهُ فَقَالَ: " لَوْ أعْلَمُ إنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ في عَيْنكَ، إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَرِ ".   يعني أن الراكب يبدأ بالسلام على الماشي تواضعاً منه، حيث رفعه الله بالركوب " والماشي على القاعد " للسبب نفسه. " والقليل على الكثير " أي والمجموعة القليلة على المجموعة الكثيرة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يستحب تسليم الراكب على الماشي قال ابن بطال: تسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه، فيرجع إلى التواضع. ثانياً: دل هذا الحديث على استحباب تسليم الماشي على القاعد لتطمينه، وإشعاره بالأمان، وإزالة الخوف من قلبه. ثالثاً: استحباب تسليم القليل على الكثير تعبيراً عن الاحترام والإكرام لهذه الجماعة والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " يسلّم الراكب على الماشي ". 992 - " باب الاستئذان من أجل البصر " 1141 - معنى الحديث: يقول سهل بن سعد رضي الله عنهما: " اطلع رجل من جُحرْ " بضم الجيم وسكون الحاء وهو الثقب الصغير " في حُجَرِ النبي (1) - صلى الله عليه وسلم - " أي في بيوت - صلى الله عليه وسلم - " ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى " بكسر الميم   (1) بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 وسكون الدال عود يدخله الرجل في رأسه ليضم بعض شعره إلى بعض، وقال الأصمعي وأبو عبيد: هو المشط " فقال: لو علمت أنك تنظر لطعنت به في عينك " أي نخست بهذا العود عينك، والمعنى: أنه بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرته، وبيده عود يحك به رأسه، إذا برجل ينظر من ثقب الباب، فغضب - صلى الله عليه وسلم - وقال: " لو علمت أنك تنظر إلى داخل بيتي لطعنت بهذا العود في عينك، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " والمعنى: إنما شرع الله الاستئذان لئلا ينظر المسلم إلى ما لا يحل له النظر إليه أو ينظر إلى ما يكره صاحب المنزل أن يطلع عليه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية الاستئذان ووجوبه، وقد تظاهرت به دلائل القرآن والسنة، قال الحافظ: ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم، فقد تكون منكشفة (1) العورة، وقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " عن نافع: كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلاّ بإذن ومن طريق علقمة سألت ابن عباس: أأستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت إنها في حجري! قال: أتحب أن تراها عريانة. اهـ. ويظهر لنا من ذلك أن الحكمة في الاستئذان أن لا ينظر الداخل إلى البيت إلى شيء لا يحل له النظر إليه، أو شيء يكره صاحب المنزل أن يطلع أحد عليه. كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " قال الطيبي " والأفضل أن يجمع بين السلام والاستئذان، واختلفوا: هل يستحب تقديم السلام أو الاستئذان؟ والصحيح تقديم السلام، فيقول السلام عليكم أأدخل. ثانياً: دل هذا الحديث على أن للبيوت قداسة وحرمة، فلا يجوز لأحد أن يسترق النظر إلى عورات المسلمين في بيوتهم وينتهك   (1) أي لئلا تكون المرأة متكشفة العورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 993 - " بَابُ زِنا الجَوارِحَ دُونَ الفَرْجَ " 1142 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأيْتُ شَيْئاً أشْبَهَ باللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أبو هُرَيْرَةَ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللهُ كَتَبَ عَلى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ، فَزنَا العَيْنِ النَّظر، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ ".   حرمتهم، ويحرم عليه أن ينظر من ثقب الباب وغيره. ولو فعل ذلك عمداً وطعن في عينه فذهبت فإنها هدر لا دية لها. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. 993 - " باب زنا الجوارح دون الفرج " 1142 - معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أي ما علمت شيئاً أقرب إلى صغائر الذنوب مما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا " قال بعض الشراح: هذا ليس على عمومه، فإن الخواص معصومون عن الزنا ومقدماته، أي إن هناك أهل العفة والاستقامة الذين لم يكتب عليهم ذلك، ولم يفعلوا شيئاً منه بتوفيق الله تعالى، وعلى هذا القول يكون معنى الحديث: إن الله كتب في اللوح المحفوظ على كثير من بني آدم نصيبهم من الزنا أو مقدماته، كالنظرة، واللمسة ونحوها. فالمراد بابن آدم الجنس لا كل فرد من بني آدم " أدرك ذلك لا محالة " أي فمن كتب عليه شيء من ذلك فلا بد أن يصيبه، ولا بد أن يفعله، ولكن ليس مجبراً عليه، بل باختياره " فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق " أي أن الزنا لا يختص بالفرج، وإنما هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 نوعان: زنا الفرج، وزنا الجوارح، فالجوارح كلها تزني زنى يأثم عليه الإِنسان، ولكنه أقل إثماً من زنا الفرج، فزنا العين النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة، وزنا اللسان التحدث إليها بشهوة، وقس على ذلك بقية الجوارح. ثم اعلم أن زنا الجوارح هذا هو من مقدمات الزنا، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زنا لأنه من الأسباب الخطيرة المؤدية إليه، قال ابن بطال: سمي النظر والنطق زنا لأنه يدعو إلى الزنا الحقيقي " والنفس تمنّى وتشتهي " أي وقد ركب الله في النفس غريزة الجنس التي تشتهي أن تشبع رغبتها الجنسية " والفرج يصدّق ذلك ويكذبه " أي ولا يعد زنا الجوارح زنا حقيقياً وكبيرة من الكبائر إلاّ بفعل الفرج فإن الفرج وحده هو الذي يصدّق الزنا ويحققه بالوطء، أو يكذبه بعدمه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير الشديد من جميع أسباب الزنا ومقدماته، كالنظر إلى المرأة الأجنبية، والحديث إليها، وسماع حديثها، ولمسها بشهوة، فإن ذلك محرّم، وإن كان من الصغائر، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زنا تنبيهاً على خطورته، لأنه يؤدى إلى الزنا، ويسوق إليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " النظرة سهم مسموم من سهام إبليس " (1) وقال الشاعر: كُلُّ المَهَالِكِ مَبْدَاهَا مِنَ النَظَر ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَر ثانياً: أن هذه المقدمات المذكورة في الحديث من النظر، والحديث، واللمس بشهوة، كل ذلك من اللمم - أي من صغائر الذنوب كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. ثالثاً: أن الزنا نوعان: زنا الفرج، وهو من الكبائر، وزنا الجوارح وهو من الصغائر، ولكنه طريق المخاطر. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فزنا العين النظر ". ...   (1) رواه الطبراني عن ابن مسعود، والحاكم عن حذيفة، إسناده ضعيف. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 994 - " بَابُ التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبيَانِ " 1143 - عَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ مَرَّ على صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: " كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ ". 995 - " بَابٌ لا يُقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ " 1144 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ منْ مَجْلِسِهِ ثمَّ يَجْلِسُ   994 - " باب التسليم على الصبيان " 1143 - معنى الحديث: " أن أنس رضي الله عنه مرّ على صبيان فسلّم عليهم " أي بدأهم بالسلام اقتداءً بسيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - " وقال: " أي ثم قال أنس مستدلاً على مشروعية فعله وسنيته: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله " أي كان - صلى الله عليه وسلم - يبدأ الصبيان حين يمر عليهم بالسلام مثل ما فعلت. فقه الحديث: قال النووي (1): فيه استحباب السلام على الناس كلهم حتى الصبيان المميزين، وبيان تواضعه، وكمال شفقته على العالمين، قال: وأما المرأة مع الرجل فإن كانت زوجته أو جاريته أو محرماً من محارمه فهي معه كالرجل، وإن كانت أجنبية، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لا يسلم الرجل عليها وإن سلم لم يجز رد السلام. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله " (2). 995 - " باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه " 1144 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقيم الرجل   (1) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 4. (2) فإن معناه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم على الصبيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 فِيهِ". 996 - " بَاب لا يَتَنَاجى اثنانِ دُونَ الثالِث " 1145 - عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - " إِذَا كانُوا ثَلاَثةً فلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ ".   الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه" أي لا يحل له أن يقيمه من المكان الذي سبق إليه ليجلس فيه، فهو خبر بمعنى النهي. فقه الحديث: أن من آداب السلوك في الإِسلام النهي عن إقامة الشخص عن مكانه في المجالس العامة كالمساجد ومجالس الحكام وغيرها، قال النووي: هذا النهي للتحريم، فمن سبق إلى موضع مباح من المسجد وغيره يوم الجمعة أو غيره فهو أحقّ به، ويحرم على غيره إقامته إلاّ أن أصحابنا يعني الشافعية استثنوا من ذلك إذا ألف موضعاً من المسجد يفتي به، أو يقرأ قرآناً أو غيره من العلوم الشرعية فهو أحق به. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. 996 - " باب لا يتناجى اثنان بينهما ثالث " 1145 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كانوا ثلاثة " أي إذا كان الجالسون في المجلس ثلاثة أشخاص " فلا يتناجى اثنان دون الثالث " قال القرطبي: الرواية المشهورة بألف مقصورة ثابتة في الخط، ساقطة في اللفظ، والتناجي التحادث سراً. والمعنى: أنه إذا اجتمع ثلاثة في مجلس واحد، فإن من آداب الإِسلام، ومحاسن السلوك التي يدعو إليها ديننا الحنيف أن لا يتحادث اثنان سراً فيما بينهما دون أن يشركا الثالث معهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه تكره المحادثة سراً بين اثنين معهما ثالث فقط، لأن ذلك يؤذى الشخص الثالث، ويضايقه كما جاء في رواية أخرى عن ابن مسعود أيضاً عن النبي أيضاً " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه " (1) أخرجه مسلم، أي لأنه إذا بقي منفرداً وتناجى من عداه أحزنه ذلك إما لظنه احتقارهم إياه، وإما لأنه قد يقع في نفسه أنّهم يتحدثون في مضرته. اهـ. كما أفاده القسطلاني. أما إذا زاد العدد عن ثلاث فلا بأس أن يتناجى اثنان. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود وأحمد. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. ...   (1) أي لأجل أن لا يحزنه ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الدعوات الدعوات جمع دعوة، هي الدعاء. والدعاء لغة: هو مصدر دعا يدعو، ثم جعل اسماً مستعملاً في لغة العرب لمعان مختلفة منها: التوحيد كقوله تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) ومنها الاستعانة كقوله تعالى: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ومنها السؤال والطلب. أما الدعاء شرعاً: فمعناه سؤال الباري عزّ وجل ورفع الحاجات إليه، وطلب قضائها منه قال النووي: أجمع أهل الفتوى على استحباب الدعاء، وذهبت طائفة من الزهاد الى أن تركه أفضل استسلاماً ودلائل الفقهاء ظواهر القرآن والسنة كيف لا، وفي الدعاء تضرع إلى الله والتجاء إليه، ومناجاة له، واتصال روحي بالعلى الأعلى قال الخطابي: وحقيقة الدعاء إظهار الافتقار إليه، والبراءة من الحول والقوة إلا له، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " أخرجه الترمذي وأحمد وابن ماجة والبخاري في " الأدب المفرد " وصححه ابن حبان والحاكم. وعن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) أي صاغرين، أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي الآية المذكورة وعيد شديد لمن ترك الدعاء إعراضاً واستكباراً. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يسأل الله يغضب عليه " أخرجه الترمذي فالدعاء يزيد العبد من ربه قرباً واعترافاً بحقه، ولذا حث - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 على الدعاء، وعلّم الله عباده دعاءه بقوله: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) وأخبرنا بدعوات رسله وتضرعهم حيث قال: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) إلى آخر ما ذكر من دعوات الأنبياء ودعواته - صلى الله عليه وسلم - في الصباح والمساء والصلوات وغيرها معروفة. اهـ. وحسبك في فضل الدعاء أنه لا بد أن يعود على صاحبه بفائدة في الدنيا أو الآخرة، أو فيهما معاً، كما يدل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما على الأرض مسلم يدعو الله دعوة إلاّ آتاه إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يعجل " أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي والطبراني في الكبير وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وبيّن أنه من أجلِّ العبادات التي يحبها الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " سلوا الله من فضله، فإنه تعالى يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج " رمز السيوطي إلى صحته، وحسنه الحافظ ابن حجر، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: من نزلت به فاقة، فأنزلها بغير الله لم تسد فاقته، ومن نزلت فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل. رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وصححه. وعن ابن عمر مرفوعاً: " من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الإجابة " أخرجه الترمذي وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإسناد كما أفاده الشوكاني في " تحفة الذاكرين ". ومن الأسباب المؤدية إلى استجابة الدعاء عند الضراء، الإكثار منه في السراء، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء " أخرجه الترمذي وقال فيه: حسن غريب، كما أخرجه الحاكم وصححه وأقره الذهبي. ومن آداب الدعاء أن يترصد الأوقات المباركة التي يستجاب فيها الدعاء، كيوم عرفة، ورمضان، والجمعة، وعند نزول الغيث، وإقامة الصلاة، وبين الأذان والإقامة، والسحر وحال السجود. وأن يدعو مستقبلاً الكعبة رافعاً يديه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن ربكم حيي كريم يستحي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 997 - بَابُ " لِكُلِّ نبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ " 1146 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وأرِيدُ أن أخْتَبِىءَ   من عباده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردهما صفراً" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة والحاكم. وأن يخفض صوته، ولا يتكلف السجع في الدعاء، وأن يكون في حال خشوع وتضرع ورغبة ورهبة، كما قال تعالى: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). وأن يجزم بالدعاء، ويوقن بالإِجابة، ويصدق في الرجاء واليقين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإِجابة " وأن يلح في الدعاء، ويكرره ثلاثاً لقول ابن مسعود: " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا دعا ثلاثاً " رواه مسلم، ولا يستبطىء الإِجابة، وأن يستفتح بذكر الله عزّ وجل، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله عزّ وجل يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما. ومن أهم آداب الدعوة وأسباب قبولها التوبة والاستغفار، ورد المظالم إلى أهلها. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً " أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، ثم قال: فأنّى يستجاب لذلك " رواه مسلم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد: " يا سعد أطب مطعمك تستجب دعوتك ". 997 - " باب لكل نبي دعوة مستجابة " 1146 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لكل نبي دعوة " أي أن الله أعطى كل نبي من الأنبياء دعوة واحدة مقطوعاً لها بالإجابة فإجابتها ثابتة محققة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمَّتِي في الآخِرَةِ". 998 - " بَابُ أفضلِ الاسْتِغفَارِ " 1147 - عَنْ شَدَّاد بْنِ أوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:   لا بد منها، لأن الله وعده بإجابتها، وهو لا يخلف الميعاد، أما بقية دعوات الأنبياء فإنها على رجاء الإِجابة (1) " يدعو بها " أي له أن يدعو بها متى شاء فتستجاب له ويعطى سؤله " وأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة " أي وأريد أن أدّخر دعوتي المستجابة وأحتفظ بها إلى الآخرة حتى أجعلها شفاعة لأمتي هناك حين يذهب الناس إلى الأنبياء يسألونهم الشفاعة فيقول كل نبي: نفسي نفسي، لأنّه قد استنفذ دعوته، ودعا بها في الدنيا، فلم يبق له منها شيء. ثم يأتونه - صلى الله عليه وسلم - يسألونه الشفاعة. فيقول: أنا لها، أمتي أمتي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الله جعل لكل نبي دعوة مستجابة فدعا بها في الدنيا (2)، أما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد أخر دعوته لتكون شفاعة لأمته في الآخرة. ثانياًً: قال ابن بطال: في هذا الحديث بيان فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء حيث آثر أمته على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة. قال ابن الجوزي: وهذا من حسن تصرفه إذ جعل الدعوة فيما ينبغي. وقال النووي: فيه كمال شفقته على أمته ورأفته بهم واعتناؤه بالنظر في مصالحهم، فجعل دعوته في أهم أوقات حاجاتهم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. 998 - " باب أفضل الاستغفار "   (1) " فتح الباري " ج 11. (2) من ذلك دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند فراغه من بناء البيت (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة الآيات 126 - 129] ومن ذلك دعوة سليمان عليه السلام: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص: 35] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " سَيِّد الاسْتِغْفَارِ أن تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنا عَبْدُكَ، وَأنا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ منْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أبوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأبوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أنْتَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنَاً بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ، فَهُو مِنْ أهلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ مُوقِناً بها، فَمَاتَ قَبْلَ أن يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أهلِ الْجَنَّةِ ".   1147 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " سيد الاستغفار أن تقول: " أي إذا اقترفت أيها العبد خطيئة وأردت الاستغفار فإن لك أن تستغفر بأي لفظ. شئت، فلو قلت: " اللهم اغفر لي " أو " أستغفر الله " مع التوبة الخالصة، كان ذلك حسناً مقبولاً إن شاء الله، ولكن كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " سيد الاستغفار " أي أن أفضل أدعية الاستغفار وأكثرها نفعاً " أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت " أي لا معبود لي سواك، ولا ملجأ لي إلا إليك " خلقتني وأنا عبدك " أي أنت المستحق للعبادة لأنك أنت وحدك خالقي " وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت " أي وأنا ملتزم بالوفاء بعهدك الذي أخذته على بنى آدم حين أخرجتهم من ظهور آبائهم (1)، وقلت لهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) وبالوعد الذي جاء على لسان نبيك - صلى الله عليه وسلم -: " أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " " ما استطعت " أي على قدر استطاعتي، وفي حدود طاقتي البشرية، واشتراط الاستطاعة معناه الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى، أي وأنا لا أقدر أن أعبدك حق عبادتك، ولكن أجتهد بقدر   (1) أمثال الذر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 طاقتي. اهـ. كما أفاده القاري " أعوذ بك من شر ما صنعت " أي ألجأ إليك أن تجيرني من عقوبة ما اقترفته من الذنوب والآثام. " أبوء لك بنعمتك عليَّ " أي أعترف لك بنعمتك العظمى " وأبوء بذنبي " أي أعترف بذنبي العظيم " فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت " أي فإن ذنوبي لا يملك العفو عنها سواك فأنت غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذو الطول. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " من قالها من النهار موقناً بها، فمات قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة " أي من قال هذه الكلمات مخلصاً من قلبه، مصدقاً بثوابها، مؤمناً بمضمونها إجمالاً وتفصيلاً فمات قبل المساء، فهو من أهل الجنة قال القاري: أي يموت مؤمناً، فيدخل الجنة لا محالة أو مع السابقين، وفي رواية " وجبت له الجنة " وكذلك من قالها من الليل كما في آخر الحديث. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: بيان فضل هذا الدعاء المذكور الذي سمّاه - صلى الله عليه وسلم - " سيد الاستغفار " وفي حديث جابر " تعلموا سيد الاستغفار " قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعافي التوبة كلها استعير له اسم السيد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج فالمراد بسيادة هذا الاستغفار أفضليته على غيره وكونه أكثر نفعاً من سواه، ولهذا ترجم له البخاري بقوله: " باب أفضل الاستغفار " أي أكثر أدعية الاستغفار نفعاً. ثانياً: قال الحافظ في قوله: " فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت " يؤخذ منه أن من اعترف بذنبه غفر له، وهذه قضية ثابتة تضافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، وحسبنا في ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (1). ثالثاً: دل هذا الحديث على أن الاستغفار يكون بصيغة " اغفر لي " أو " اللهم اغفر لي " ولكنه لا ينحصر   (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه " رواه مسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 999 - " بَابُ استِغفَارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في اليَوْمَ واللَّيْلَةِ " 1148 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " وَاللهِ إِنِّي لأسْتَغْفِرُ اللهُ وَأتُوبُ إِلَيْهِ في اليَوْمَ أكثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ".   في هذه الصيغة، بل يجوز أيضاً بلفظ " أستغفر الله " لما جاء حديث ابن مسعود " من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم، وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف " أخرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم. وفيه: رد لقول الربيع بن خثيم: لا تقل أستغفر الله وأتوب إليه، فيكون كذباً إن لم تفعل، بل قل: اللهم اغفر لي وتب عليَّ، قال النووي: هذا أحسن، وأما كراهية أستغفر الله وتسميته كذباً فلا (1) يوافق عليه، لأن معنى أستغفر الله أطلب مغفرته، وليس هذا كذباً، رابعاً: أن سيد الاستغفار هذا لا يؤدي بقائله إلى الجنة إلاّ إذا اقترن باليقين والإخلاص والإِيمان بمضمونه ومدلوله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من قالها من النهار موقناً " فاليقين والإخلاص هو الذي يحقق الثمرة المرجوة من هذا الاستغفار. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي والترمذي. والمطابقة: في قوله: " سيد الاستغفار ". 999 - "باب استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة " 1148 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني لاستغفر الله وأتوب إليه " أي أطلب من الله التوبة والمغفرة في اليوم والليلة " أكثر من سبعين مرة " مع أنه معصوم من الذنب، مغفور له ما تقدم وما تأخر، وفي رواية أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني   (1) "دليل الفالحين شرح رياض الصالحين" لابن علان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 1000 - " بَابُ التَّوْبَةِ " 1149 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ حَدَّثَ بِحَدِيثَيْنِ،   أتوب إليه في اليوم مائة مرة" أخرجه مسلم. أي فأنتم أولى بالرجوع إليه في الساعة الواحدة ألف مرّة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب الاستغفار لكل واحد من المؤمنين محسناً كان أو مسيئاً لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتقين كان يكثر من الاستغفار إلى هذا الحد فكيف بغيره. ثانياً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من الاستغفار مع أنه مغفور له تعليماً لأمته، ولرفع درجاته، وزيادة حسناته، وقضاء حاجاته لأن الاستغفار ذكر وعبادة وقربة إلى الله، ويستعمل لأغراض كثيرة، منها كشف الكربات، وتفرج الهموم، وتكثير الأرزاق، وفي الحديث " من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب " أخرجه أبو داود وابن حبان والنسائي، قال الشوكاني: وفي (1) الحديث الذي ذكرناه أن الإكثار من الاستغفار، فيه المخرج من كل ضيق، والفرج من كل هم، وحصول الأرزاق من حيث لا يحتسب ولا يكتسب، فمن حصل له ذلك عالق في نعمة سالماً من كل نقمة. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنّي لأستغفر الله ". 1000 - " باب التوبة " 1149 - معنى الحديث: أن ابن مسعود تحدث في حديثه هذا بحديثين: أولهما: حديث تحدث به من عنده، وليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما   (1) " تحفة الذاكرين " للشوكاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 أحدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - والآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى في ذُنُوبِهِ كأنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَل يَخَافُ أنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أنْفِهِ، فَقَال بِهِ هَكَذا، ثُمَّ قَالَ: " للهُ أفْرَحُ بتوبةِ عَبْدِهِ منْ رَجُل نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهلكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلتهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلتهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالْعَطَشُ أوْ مَا شَاءَ اللهُ قَالَ: أرْجِعُ إلى مَكَاني، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ فَإذَا رَاحِلتُهُ عِنْدَهُ ".   هو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه وموقوف عليه قال فيه: " إن المؤمن يرى في ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه " أي إن المؤمن الكامل يستعظم ذنوبه، ويستكبرها، ويخاف منها خوفاً شديداً، ولو كانت من الصغائر، فإذا وقع في شيء منها تملكه الرعب، كأنه تحت جبل عظيم يوشك أن يقع عليه. " وإن الفاجر " أي الفاسق المستهتر " يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال به هكذا " أي يستهين بالمعاصي مهما عظمت، حتى أنه يرى كبائر الذنوب سهلة يسيرة كأنها ذباب مرّ على أنفه فلا يعبأ به أو يكترث له. ثانيهما: حديث مرفوع رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه " قال: لله أفرح بتوبة عبده " واللام للتوكيد، كأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول: أؤكد لكم أن الله أشد فرحاً بتوبة عبده إذا تاب إليه " من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة " أي نزل محطة في فلاة من الأرض، لا ماء فيها، ولا أحد يسكنها " ومعه راحلته " أي دابته التي يركب عليها، " عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه، فنام نومة " يسيرة قصيرة " فاستيقظ وقد ذهبت راحلته " أي ذهبت عنه دابته، وتركته في تلك المفازة المهلكة، والأرض القاحلة دون طعام ولا ماء، بمعنى أنه وجد نفسه عندما انتبه من النوم قد فقد دابته، وبقي فريداً وحيداً، منقطعاً لا زاد معه ولا ماء "حتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 إذا اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله" من الخوف والقلق والهموم النفسية واستولى عليه اليأس فاستسلم للموت جوعاً وعطشاً وما كان منه إلا أن " قال: ارجع إلى مكاني فرجع فنام، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده " وعليها طعامه وشرابه، فلما فوجىء هذه المفاجأة السارة، وعاد إليه الأمن والاطمئنان، واستبشر بالسلامة والنجاة، قال كما في رواية أخرى: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " أخطأ من شدة الفرح، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قوة حساسية المؤمن، وشدة خوفه من الله، واستعظامه لما يتعرض له من صغائر الذنوب، حيث يراها كالجبال الضخمة التي توشك أن تقع عليه فتهلكه. وقسوة قلب الفاجر، وعدم إحساسه بالذنوب. ولو كانت كبائر، لأنه يراها كالذباب يمر على وجهه، فلا يلقي لها بالاً. ثانياًً: قبول التوبة الصادقة وفرح الله تعالى بها، ورضاه عن صاحبها، فالتوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها ولكن لها شروط ثلاثة: الأول: ترك المعصية والابتعاد عنها بالكلية، لأن الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين .. كما قال الفضيل بن عياض. وسمع أعرابي وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: اللهم إن إستغفاري مع إصراري للؤمٌ. وإن تركي استغفارك مع علمي بسعة عفوك لَعَجْز، فكم تتحبب إليّ بالنعم مع غناك عني، وكم أتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك إلخ. الثاني: الإِحساس بالذنب والندم عليه، وتألم النفس منه: الثالث: العزم على أن لا يعود إليه. قال ابن حجر: فإن كان عليه حق كقضاء صلاة فلا يسامح بصرف وقت في نفل وفرض كفاية لم يتعين عليه، أي بل يبدأ أولاً بقضاء الفرائض حتى إذا قضاها جميعاً التفت إلى النوافل، فإن كان عليه حق للآدميين فلا تقبل التوبة إلاّ بالتخلص منه، ورد المظلمة إلى صاحبها، أو تحصيل البراءة منه كما قال النووي. ثالثاً: دل الحديث على أن العبد لا يؤاخذ بالخطأ اللساني الذي يقوله في حال دهشته وذهوله، لأن هذا الرجل قال من شدة الفرح: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك ". الحديث: أخرجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 1001 - " بَابُ النَّوْمِ علَى الشِّقِّ الأيْمَنِ " 1150 - عَنَ البَرَاءِ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَوَى إلى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنَ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَاتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبةً إليْكَ، لا مَلْجَأ ولا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي   الشيخان. والمطابقة: في قوله: " لله أفرح بتوبة العبد ". 1001 - " باب النوم على الشق الأيمن " 1150 - معنى الحديث: يقول البراء رضي الله عنه: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى (1) إلى فراشه " أي إذا أَتى مضجعه وأراد أن ينام " نام على شقه الأيمن " أي نام على جانبه الأيمن " ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك " أي جعلتها خالصة لك، منقادة لحكمك " ووجهت وجهي إليك " أي جعلت عملي الصالح لك وحدك " وفوضت أمري إليك " أي توكلت عليك، ورددت أمري إليك " وألجأت ظهري إليك " أي واعتمدت عليك دون سواك " رغبة ورهبة إليك " أي إنما فعلت ذلك طمعاً في رحمتك، وخوفاً من عذابك، كما قال تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) " لا ملجأ (2) ولا منجى منك إلا إليك " وهذه جملة تعليلية، أي وإنما كانت رغبتي ورهبتي إليك، لأنه لا مهرب، ولا مخلص ولا ملاذ (3) من عقوبتك إلاّ إلى رحمتك "آمنت بكتابك   (1) بقصر الهمزة. (2) بالهمزة وبعدمها تخفيفاً. (3) " المرقاة شرح المشكاة " للقاري ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 أرْسَلْتَ" وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ".   الذي أنزلت" وهو القرآن الكريم " ونبيك الذي أرسلت " وهكذا ختم هذا الدعاء بالإِيمان بكتاب الله ورسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ويدخل في ذلك جميع شرائع الإِسلام وعقائد الإيمان " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قالهن " يعني هذه الكلمات " ثم مات تحت ليلته " أي في تلك الليلة " مات كل الفطرة " أي على الإيمان والتوحيد وفي رواية: " وإن أصبحت أصبت خيراً ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: استحباب النوم على الجانب الأيمن، ووضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن لما جاء في هذا الحديث من أنه - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن " والحكمة في استحباب النوم على الشق الأيمن أنه أسرع في الانتباه من النوم، لعدم استقرار القلب بخلاف النوم على الشق الأيسر، حيث يستريح القلب، فيستغرق العبد في النوم، ويبطىء في الاستيقاظ منه. كما أن الإكثار من النوم على الجنب الأيسر، وإن كان أهنأ وأمتع، إلاّ أنه يضر القلب لضغط بقية الأعضاء عليه. ثانياً: استحباب هذا الدعاء المبارك المذكور في الحديث عند النوم، لأنه يعود على صاحبه بفائدة عظيمة، وهي الموت على فطرة الإِسلام، والفوز بخيري الدنيا والآخرة إذا أصبح سليماً معافى، ويستحب له أن يتوضأ قبل هذا الدعاء، لما جاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " إذا أخذت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: " اللهم إني أسلمت وجهي إليك " إلخ قال النووي: وفيه ثلاث سنن مهمة: الوضوء عند النوم، لأن المقصود النوم على طهارة، والنوم على اليمين، والختم بذكر الله. الحديث: أخرجه أيضاً مسلم وأصحاب السنن بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في قوله "نام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 1002 - (بَابُ التَعَوُّذِ والْقِرَاءَةِ عِنْدَ النَّوْمِ) 1151 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كاَنَ إِذَا أخذَ مَضْجَعَهُ، نَفَثَ في يَدَيْه، وقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ ".   على شقه الأيمن". 1002 - " باب التعوذ والقراءة عند النوم " 1151 - معنى الحديث: تحدثنا عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه " أي كان إذا أراد أن ينام " نفث في يديه " أي نفخ في كفّيه نفخاً خفيفاً مصحوباً بريقه " وقرأ بالمعوّذات " أى وقرأ سورة الإخلاص والفلق والناس " ومسح بهما جسده " أي ومسح بكلتا يديه جسده من أعلاه إلى أسفله، يمسح رأسه أولاً، ثم وجهه، ثم بقية جسمه، قال في " شرح المصابيح ": ظاهر الحديث يدل على أنه نفث في كفه أولاً، ثم قرأ المعوّذات، ولم يقل به أحد، والنفث ينبغي أن يكون بعد التلاوة، ليوصل بركة القرآن إلى القارىء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أنه يسن للمسلم إذا أوى إلى فراشه أن يحصن نفسه بهذه التعويذة المباركة، فيقرأ على نفسه الإِخلاص والمعوذتين، وينفخ في كفّيه نفخاً خفيفاً مصحوباً بريقه، ثم يمسح رأسه، ثم وجهه، ثم بقية جسمه، ويفعل ذلك ثلاثاً كما جاء في الرواية الأخرى. الحديث: أخرجه الخمسة غير الترمذي. والمطابقة: في قولها: " وقرأ بالمعوذات ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 1003 - " بَابُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ " 1152 - عنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: أنهُ كَتَبَ إلى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبي سُفْيَانَ أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقُولُ في دبُرِ كُلِّ صَلاةٍ إِذَا سَلَّمَ: " لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَدِير، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لما أعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذَا منك جَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ".   1003 - " باب الدعاء بعد الصلاة " 1152 - معنى الحديث: أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية رضي الله عنه كتاباً ذكر له فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة: " أي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائماً يقول بعد انتهائه من أي صلاة من الصلوات الخمس: " إذا سلم " أي بعد سلامه، يقول: " لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " والجدُّ بفتح الجيم الغنى والثروة، وقال بعضهم: هو البخت والحظُّ، أي لا ينفع الإِنسان حظه من الدنيا إذا حرم من طاعة الله، وخسر في الآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من الأدعية المأثورة المسنونة هذا الذكر المقترن بهذا الدعاء المبارك، فيسن للمسلم أن يدعو به بعد كل صلاة مكتوبة معتقداً لمعناه، موقناً بمضمونه وفحواه، سائلاً ربه من خزائن جوده وكرمه، لأنه المعطي والمانع وحده لا شريك له، متضرعاً إليه أن يوفقه لطاعته، لأن من حُرِمَ ذلك لا يفيده حظه، ولا ينفعه حسبه ونسبه. والمطابقة: في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 1004 - " بَاب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يعْجَل " 1153 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " يُسْتَجَابُ لأحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي ".   قوله: " كان يقول في دبر كل صلاة " إلخ. 1004 - " باب يستجاب للعبد ما لم يعجل " 1153 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " يستجاب لأحدكم " أي يجاب دعاؤه " ما لم يعجل " أي أن العبد لا يزال يجاب دعاؤه مدة عدم استعجاله في حصول الإِجابة، فإذا داوم على الدعاء دون استكثار أو ملل أو سآمة مع رجاء الإِجابة وحسن الظن بالله تعالى فإن دعوته مستجابة إن شاء الله، وإن تأخرت الإِجابة بعض الوقت، لأن الله تعالى قد جعل لكل شيء قدراً فلا يتقدم شيء عن إبانه، ولا يتأخر عن أوانه أما حين يتعجل العبد " ويقول: دعوت فلم يستجب لي " أي قد كثر سؤالي، وتكرر دعائي، فلم أنل شيئاً مما طلبت ويستبطىء حصول المطلوب، وييأس من الإجابة وينقطع عن الدعاء، عند ذلك يحرم بالفعل من الإِجابة، لأنها مشروطة بعدم الاستعجال. قال ابن بطال: ومعنى قوله: " دعوت فلم يستجب لي " أي أنه يسأم فيترك الدعاء، فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أَتى من الدعاء ما يستحق به الإِجابة فيصير كالمتبخّل للرب الكريم، الذي لا تعجزه الإِجابة ولا ينقصه العطاء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من شروط الدعاء وآدابه أن لا يستعجل الإِجابة، وأن يلح في الدعاء مرات ومرات دون يأس أو ملل، أو ضجر نفسي، قال الحافظ في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 1005 - " بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ الكَرْبِ " 1154 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: "لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَواتِ   وهو أن يلازم الطلب، ولا ييأس من الاجابة لما في ذلك من الانقياد والاستسلام، وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الاجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه: " من فتح له منكم باب من أبواب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة " أخرجه الترمذي والحاكم (1). ثانياً: دل هذا الحديث على أن الإلحاح في الدعاء مع قوة الرجاء سبب في الإجابة وتحقيق المطلوب لقول الصادق المصدوق: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ". ثالثاً: قال الداودي: يخشى (2) على من خالف وقال: دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة، وما قام مقامها من الادّخار والتكفير. رابعاً: أنه لا يليق بالمؤمن، ولا يصدق عليه أن يقول: " دعوت فلم يستجب لي " لأن دعوة المؤمن مجابة في عموم الأحوال إما أن تعجل له الإجابة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له في الآخرة خير مما سأل. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 1005 - " باب الدعاء عند الكرب " 1154 - معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما "أن   (1) وإسناده ضعيف، وقال الترمذي هذا حديث غريب. (ع). (2) " فتح الباري " ج 11. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 وَرَبُّ الأرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمَ".   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب" أي عندما يشعر باشتداد الغم عليه، واستيلائه على نفسه الشريفة: قال ابن علان: " الكرب " بفتح فسكون هو الأمر الذي يشق على الإنسان، ويملأ صدره غيظاً. وقال الواحدي: الكرب أشد الغمّ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إلى هذا الدعاء المبارك قائلاً: " لا إله إلاّ الله " أي لا معبود بحق سوى الله " العظيم " أي العظيم القدر، الجليل الشأن في ذاته وصفاته وأفعاله " الحليم " أي الذي لا يعاجل العاصي بالعقوبة، بل يؤخرها، وقد يعفو عنه مع القدرة عليه، " لا إله إلاّ الله رب العرش العظيم " قال ابن علان (1) " العظيم " بالجر عند الجمهور، وقال الداودي: هو بالرفع صفة رب، قال القاري: أي فلا يطلب إلاّ منه، ولا يسأل إلاّ عنه، لأنه لا يكشف الكرب العظيم إلاّ الرَّبُّ العظيم (2) " لا إله إلاّ الله رب السموات والأرض " أي خالق كل شيء فيهما، ومالكه، ومصلحه، والمتصرف فيه كيف شاء وكما شاء. " رب العرش الكريم " بالجر صفة للعرش، فقد وصفه بالكرم، أي بالحسن من جهة الكيفية، ووصفه بالعظمة من جهة الكمية. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال الشوكاني في هذا (3) الحديث مشروعية الدعاء بما اشتمل عليه لمن نزل به كرب، وبعد فراغه يدعو بأن يكشف الله عنه كربه، ويذهب عنه ما أصابه، ويدفع عنه ما نزل به، قال الطيبي: هذا ذكر يترتب عليه رفع البلاء والكرب (4) فإن قيل: هذا   (1) " دليل الفالحين شرح رياض الصالحين ". (2) " المرقاة شرح المشكاة " ج 3. (3) " تحفة الذاكرين شرح الحصن الحصين " للشوكاني. (4) " المرقاة شرح المشكاة " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 1006 - " بَاب فضلِ التهْلِيلِ " 1155 - عَنْ أبِي هرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ قَالَ: لا إلَهَ إلَّا الله وَحْدَة لا شَرِيكَ   ذكر وثناء، وليس فيه أي طلب أو دعاء، فالجواب على ذلك من وجهين: أحدهما: أنه يبدأ ويستفتح بهذا الذكر، ثم يدعو بما شاء، ويذكر حاجته، ويسأل ما يريد، ويؤيده كما قال القاري: ما رواه أبو عوانة: " ثم يدعو بعد ذلك " ثانيهما: أن هذا الذكر والثناء يتضمن الدعاء عن طريق التعريض والإيماء، فإن الشاعر قد يستغني بالثناء على ممدوحه عن التصريح بحاجته وهو أبلغ، وفي هذا يقول أمية بن أبي الصلت: إذَا أثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْماً ... كَفَاه عَنْ تعَرُّضِهِ الثناءُ وفي الخبر: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ". ثانياًً: أن هذا الذكر دعاء عظيم اشتهر عند السلف بدعاء الكرب، قال الطبري: وكان يوصي بعضهم بعضاً بهذا الدعاء ويعلمونه لأولادهم وبناتهم، كما روي أن عبد الله بن جعفر، رضي الله عنه لما زوج ابنته قال لها: إذا نزل بك أمرٌ فاستقبليه بأن تقولي: لا إله إلاّ الله الحليم الكريم الخ، وقد جرب الناس هذا الدعاء، فمن ذلك ما وقع للحسن البصري رحمه الله قال: أرسل إليّ الحجاج، فقلت هذه الكلمات، فلما وصلت إليه قال: والله لقد أرسلت إليك أريد أن أقتلك، فلأنت اليوم أحب إلي من كذا وكذا، وزاد في لفظ أنه قال له: فسل حاجتك. الحديث: أخرجه الشيخان كما أخرجه الترمذي بلفظ آخر. والمطابقة: في قوله: " كان - صلى الله عليه وسلم - يقول عند الكرب لا إله إلاّ الله " إلخ. 1006 - " باب فضل التهليل " 1155 - معنى الحديث: يحدثنا أبو هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير فِي يَومٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَت لَهُ عَدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَة حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَومَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي، وَلَمْ يَأتِ أحَدٌ بِأفْضَلَ مِمَّا جاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أكثَرَ مِنْهُ".   قال: من قال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له" أي من قال هذا الذكر الشريف بعد صلاة الفجر، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه حيث قال: " من قال في دبر صلاة الفجر " " لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له " وهو تأكيد لمضمون الجملة السابقة، لأن معنى لا إله إلاّ الله: لا معبود بحق سواه، وهو معنى قوله: " وحده لا شريك له " إلاّ أن هذه أعمّ، لأن معناها لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وصفاته وأفعاله " له الملك " أي له الملك الدائم الباقي، وكل ملك لغيره إلى زوال " وله الحمد " لأنه المنفرد بالكمال المطلق، ولأنه هو المنعم الحقيقي فما من نعمة في الوجود إلاّ هو مصدرها، والمنعم بها (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) " وهو على كل شيء قدير " فلا يخرج شيء عن قدرته ومشيئته " مائة مرة، كان له عدل عشر رقاب " أي كان له من المثوبة والأجر ما يساوي عتق عشر رقاب " وكتبت له مائة حسنة " " ومحيت عنه مائة سيئة " والمعنى كتبت له في سجل حسناته مائة سمي حسنة، ومحيت من سجل سيئاته مائة سيئة " وكانت له حرزاً من الشيطان " أي حصناً حصيناً من أذى الشيطان " ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به " أي ولم يقل أحد شيئاً من الأذكار المأثورة أفضل مما قال. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل التهليل (1) وأثره في تكفير السيئات، واكتساب الحسنات، ورفع الدرجات، والحفظ من   (1) وهو قول لا إله إلا الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 1007 - " بَابُ فضلِ التَّسْبِيحِ " 1156 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ في يَوْم مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ".   الشيطان، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، لأنه يعدل عتق عشر رقاب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضوٍ منها عضواً منه من النار ". ثانياً: أن التهليل أفضل الأذكار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لم يأت أحد بأفضل مما جاء به " ولما فيه من كتابة مائة حسنة، ومحو مئة سيئة، وعتق عشر رقاب، وكونه حرزاً من الشيطان، وهذه المزايا كلها لا توجد في التسبيح وغيره. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على الترجمة. 1007 - " باب فضل التسبيح " 1156 - معنى الحديث: أن من سبح الله تعالى بهذه الصيغة المباركة " من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة " سواء كان ذلك ليلاً أو نهاراً، صباحاً أو مساءً " حطت عنه خطاياه " أي غفرت ذنوبه " وإن كانت مثل زبد البحر " وهي الرغوة التي تعلو وجه ماء البحر، وما أكثرها في بحور الدنيا، أي ولو كانت ذنوبه في كثرتها مثل زبد البحر الموجود في بحار الدنيا كلها. والباء في قوله: " سبحانه وبحمده " للمقارنة أي أنزه الله تعالى عن كل ما لا يليق به تنزيهاً مقترناً بالثناء عليه ووصفه بكل صفات الكمال والجمال والجلال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيّه - صلى الله عليه وسلم - (1).   (1) وذلك هو توحيد الأسماء والصفات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 1008 - "بَاب فضلِ ذِكْرِ اللهِ تعَالَى" 1157 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ مَلائِكَةً يَطوفونَ في الطُّرقِ، يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْماً يَذْكرونَ الله عَزَّ وَجَلَّ تَنَادَوْا هَلمُّوا إلى حَاجَتِكمْ، قَالَ: فَيَحفُّونهُمْ بِأجْنِحَتِهِمْ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا، قَالَ: فَيَسْألهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أعْلَمُ بِهِمْ: ما يَقُولُ عِبَاديِ؟ قَالَ: تَقُول: يُسَبَّحُونَكَ وَيكَبِّرونَكَ وَيحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ فَيَقُولُ: هَلْ   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل التسبيح عامة، وفضل هذا التسبيح خاصة، وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: أن هذا التسبيح يمحو الذنوب مهما كثر عددها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ولو كانت مثل زبد البحر. الحديث: أخرجه الستة بألفاظ متعددة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أن التسبيح يكفّر الخطايا ولو كانت مثل زبد البحر. 1008 - " باب فضل ذكر الله تعالى " 1157 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق " بضمتين " يلتمسون أهل الذكر " أي أن الله كلف طائفة مخصوصة من الملائكة غير الحفظة للسياحة في الأرض، يدورون في طرق المسلمين ومساجدهم، ودورهم، يطلبون مجالس الذكر، يزورونها ويشهدونها ويستمعون إلى أهلها. قال الحافظ: والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح ونحوها " فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل " وفي رواية مسلم " فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر تنادوا " أي نادى بعضهم بعضاً " أن هلموا إلى حاجتكم " وفي رواية إلى بغيتكم، أي تعالوا إلى ما تبحثون عنه من مجالس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 رَأوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُون: لا وَاللهِ مَا رَأوْكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: فكَيْفَ لَوْ رَأوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَو رَأوْكَ كانُوا أشَدَّ لَكَْ عِبَادَةً، وأشَدَّ لَكَ تَمجِيداً، وأكْثَرَ تَسْبِيحاً، قال: فَيقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْألُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقْولُ: وَهَلْ رَأوْهَا، قَالَ: يَقولُونَ: لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأوْهَا، قَالَ: فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أنَّهُمْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لو أنَّهُمْ رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصاً، وأشَدَّ لَهَا طَلَباً، وأعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَاللهِ يا رَبِّ مَا رَأوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأوْهَا؟ قَالَ: يَقولُونَ: لَو رَأوْهَا كَانُوا أشَدَّ مِنْهَا فِراراً، وأشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيقُولُ: فأُشْهِدُكُمْ أني قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ   الذكر، والوصول إلى أهلها، لتزوروهم، وتستمعوا إلى ذكرهم، " قال فيحفونهم " أي يحيطون بهم إحاطة السوار بالمعصم " فيحفونهم بأجنحتهم " أي يطوفون حولهم بأجنحتهم " إلى السماء " أي حتى يصلوا إلى السماء " قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم " أي وهو أكثر علماً بأحوالهم، تنويهاً بشأنهم في الملأ الأعلى، ليباهى بهم الملائكة " ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك ويمجدونك " أي فتقول الملائكة: إن هؤلاء الذاكرين يقولون: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، فالتمجيد هو قول لا إله إلاّ الله، لما فيه من تعظيم الله تعالى، بتوحيد الألوهية " لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً " لأنّ الاجتهاد في العبادة على قدر المعرفة " قال: فما يسألونني؟ " أي فماذا يطلبون مني " قالوا: يسألونك الجنة " أي يذكرونك، ويعبدونك طمعاً في جنتك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 مِن المَلاِئكَة: فِيهِمْ فُلان لَيْسَ مِنْهُم، إنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جلِيسُهُمْ".   " لو رأوها كانوا أشد عليها حرصاً " أي لكانوا أكثر سعياً إليها، لأنه ليس الخير كالمعاينة. " قال: فمم يتعوذون " أي فأي شيء يخافون منه؟ ويسألون ربهم أن يجيرهم منه " قال: يقولون: من النار " أي يذكرون ويعبدون ربهم خوفاً ً من النار، ويسألونه عز وجل أن يجيرهم منها. " لو رأوها كانوا أشد منها فراراً " أي لكانوا أكثر اجتهاداً في الأعمال الصالحة التي هي سبب في النجاة من النار " قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم " أي قد غفرت لهم ذنوبهم " قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة " أي إنه يوجد من بين هؤلاء الذاكرين " فلان " وهو ليس منهم، ولكنه جاء لحاجة يقضيها فجلس معهم، فهل يغفر له " قال: هم الجلساء لا يشقى جم جليسهم " قال الطيبي: أي هم جلساء لا يخيَّب جليسهم فيشقى. فقه الحديث: قال الحافظ: في الحديث فضل الذكر والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله به عليهم إكراماً لهم. وقال ابن القيم في " الوابل الصيب ": ومجالس الذكر مجالس الملائكة ورياض الجنة، وجميع الأعمال إنما شرعت لِإقامة ذكر الله، وأفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه لله ذكراً. اهـ. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الرفاق " 1009 - "بَابُ مَا جَاءَ الصِّحَّةِ والفَراغ وَلا عَيْشَ إلَّا عَيشُ الآخِرَةِ" 1158 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُون فِيْهِمَا كَثِير مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، والفَراغُ ".   " كتاب الرقاق " قال السيوطى: الرقاق هي الكلمات التي تَرِقُّ بها القلوب إذا سُمِعَتْ، وتَرْغب عن الدنيا بسببها وتزهد فيها. 1009 - " باب ما جاء في الصحة والفراغ ولا عيش إلاّ عيش الآخرة " 1158 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " نعمتان " عظيمتان جليلتان " مغبون فيهما كثير من الناس " أي لا يعرف قدرهما ولا ينتفع بهما كثير من الناس في حياته الدنيوية والأخروية، وهما: " الصحة " أي صحة البدن والنفس وقوتهما " والفراغ " أي خلو الإنسان من مشاغل العيش وهموم الحياة وتوفر الأمن والاطمئنان النفسي، فهما نعمتان عظيمتان، لا يقدرهما كثير من الناس حق قدرهما، ولا ينتهزون فرصة وجودهما في الأعمال النافعة، بل يدعونها تمر دون فائدة، حتى إذا مرت وفاتت الفرصة، وتبدلت الصحة مرضاً، والقوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 ضعفاً، والفراغ شغلاً، تنبهوا من غفلتهم، وشعروا بالندم، وأدركوا أنهم قد خسروا نعمة صحتهم وفراغهم، فغُبنوا، وحزنوا أشد الحزن على ما فرطوا فيه فكان مثلهم في ذلك كمثل التاجر الذي يبيع سلعته بخسارة، حتى إذا شعر بأنه قد نقص رأس ماله حزن وندم على ما وقع له بسبب غفلته. وتفريطه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في انتهاز الفرص المواتية من صحة وفراغ، ومال، ومركز، وجاه، والاستفادة منها فيما يرضي الله (1) تعالى لأن الفرصة قلما تعود إلى صاحبها مرة أخرى، فالعاقل من ينتهزها، ويغتنمها في طاعة الله، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لم يتحسر أهل الجنة إلاّ على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها ". ثانياً: قال السيوطي: في (2) معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس " معناه أن الإنسان لا يتفرغ للطاعة إلاّ إذا كان مكفياً صحيح البدن، فقد يكون مستغنياً، ولا يكون صحيحاً، وقد يكون صحيحاً ولا يكون مستغنياً، فلا يكون متفرغاً للعلم والعمل لشغله بالكسب، فمن حصل له الأمران: " الصحة والفراغ " وكسل عن الطاعات فهو المغبون الخاسر. في تجارته. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في كون الحديث يدل على أهمية الصحة والفراغ وهو ما ترجم له البخاري. ...   (1) وفي الحديث عن عمرو بن ميمون الأزدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: " اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " أخرجه الترمذي مرسلاً، رواه الحاكم في المستدرك موصولاً عن ابن عباس، وصححه ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. (ع). (2) " المرقاة شرح المشكاة " ج 5. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 1010 - " بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ " 1159 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنكِبِي فَقَالَ: " كُنْ في الدُّنيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابرُ سَبِيل "، وَكَان ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذَا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذَا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.   1010 - " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " 1159 - معنى الحديث: يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " أخذ رسول الله بمنكبي " أي أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي، وذلك لتنبيهه إلى التوجه إليه والاستماع إلى حديثه، والمنكب مجمع العضد والكتف " فقال: كن في الدنيا كأنك غريب " أي لا تركن إلى الدنيا، وكن فيها مثل الغريب الذي لا يعلق قلبه إلاّ بوطنه، واعلم أن وطنك الحقيقي هو الدار الآخرة. فلا تغتر بالدنيا، لأنها ليست دار خلود وبقاء، وإنما هي دار زوال وفناء. " أو عابر سبيل " وهو المسافر فما أنت في دنياك إلاّ مسافر إلى وطنك الحقيقي وهو الدار الآخرة، وما هذه الأيام والسنون والأعوام إلاّ مراحل العمر التي تنتهي بك إلى أجلك المحتوم الذي لا تدرى متى يأتي. " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " أي لا تؤخر عملاً من الطاعات إلى الصباح، فلعلك تكون من أهل القبور " وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء " أي فلا تؤخر عمل الخير إلى المساء فقد تعاجلك المنون "وخذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 من صحتك لمرضك" قال ابن رجب (1): معناه اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم " ومن حياتك لموتك " أي واغتنم في حياتك الدنيا ما ينفعك بعد موتك، كما قال تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48]. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه ينبغي للعاقل أن لا يغتر بالدنيا ويجعلها أكبر همه، بل يفكر في مصيره ورحيله عنها إلى دار القرار، فما هو إلاّ عابر سبيل، وقد قال الشاعر: سَبيْلُكَ في الدُّنْيا سَبيلُ مسافِر ... وَلَا بُدَّ مِنْ زَادٍ لكلِّ مُسَافِرِ وقال آخر (2): وَمَا هَذ الأيَّامُ إلَّا مراحِلٌ ... تَمُر وَتُطْوَى والمُسَافِرُ قَاعِدُ وإنما أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفكير في الموت، والانتقال إلى عالم آخر، يجازى فيه ْالمرء على أعماله، خيراً أو ضراً، لأن مجرد التفكير في ذلك المصير المحتوم، وفي ْذلك الموقف العظيم، يؤدي بالعبد إلى الاستقامة وحسن السلوك، والمواظبة على صالح الأعمال، فإن الغرور بالدنيا، والاستغراق في حبّها، والتكالب عليها هو سبب كل الشرور التي تعانيها الإنسانية اليوم، من ظلم، واستبداد، وقلق، وعدوان، وهو مصداق الخبر: " حب الدنيا (3) رأس كل خطيئة " (4) أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " بإسناده إلى الحسن البصري رفعه مرسلاً وقيل: هو من قول عيسى عليه السلام، قيل: من قول مالك بن دينار وقال شيخ الإسلام   (1) " جامع العلوم والحكم " لابن رجب الحنبلي. (2) " الفتوحات الوهبية في شرح الأربعين النووية " للشبرخيتي المالكي. (3) " مشكاة المصابيح " وشرحها للقاري ج 5. (4) وعن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هل من أحد يمشي على الماء إلا ابتلت قدماه؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: كذلك صاحب الدنيا لا يسلم من الذنوب " رواه البيهقي في " شعب الإيمان " وإسناده ضعيف. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 ابن تيمية: هو من قول جندب بن عبد الله البجلي. ثانياً: أنه ينبغي للعاقل مسابقة الزمن، والمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل فوات الأوان كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء " فإنه يحذرنا رضي الله عنه في وصيته من تأخير الأعمال الصالحة عن وقتها خشية أن تحول المنيّة بيننا وبينها. وقد كان محمد بن واسع إذا أراد النوم قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلي لا أقوم من نومتي هذه. قال ابن رجب: فالواجب على المؤمن المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل أن يحال بينها وبينه بمرض أو موت أو غيره، وهو مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم -: كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " أخرجه الحاكم في المستدرك، ولهذا قال سعيد بن جبير: كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة. وقال المزني (1): ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلّا ويقول: يا ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلاّ تنادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي. وقال بعضهم: لا تُرجِ فِعْلَ الخيْرِ يوماً إلى غدٍ ... لَعَلَّ غَداً يصيْرُ إلى زَوَالِ ثالثاً: أن في هذا الحديث تحريض على الإكثار من ذكر هادم اللذات وقد قال بعض أهل العلم: من أكثر ذكر الموت (2) أكرم بثلاثةٍ: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، والنشاط في العبادة. ومن نسيه عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة وعدم الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة. الحديث: أخرجه أيضاً الترمذي وأحمد وابن ماجه. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. ...   (1) " جامع العلوم والحكم " لابن رجب الحنبلي. (2) " شرح الجرداني على الأربعين النووية ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 1011 - " بَابُ مَنْ بَلَغ سِتِّينَ سَنَةً فَقَد أعْذَرَ اللهُ إليْهِ " 1160 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أعْذَرَ اللهُ تَعَالَى إلى امْرِىءٍ أخَّرَ أجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً".   1011 - " باب كل من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه " 1160 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعذر الله إلى امرىء " أي قطع عذره في ارتكاب المعاصي " أخَرَ أَجَله " أي إذا أطال عمره " حتى بلغه ستين سنة " وهو على قيد الحياة. والمعنى: أن من طال عمره حتى بلغ ستين عاماً لم يبق له عذر في اقتراف الخطايا، لأنه يجب عليه أن يستعد للقاء الله تعالى. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الشيخوخة نذير الموت والرحيل عن الدنيا ولهذا ينبغي لمن بلغ الستين الاستعداد للقاء الله، فقد قال بعض الحكماء: الأسنان أربعة: سن الطفولة، وسن الشباب، وسن الكهولة، وسن الشيخوخة، فإذا بلغ الستين وهو آخر الأسنان، فقد ظهر فيه ضعف القوة وتبين فيه النقص والانحطاط، وجاء نذير الموت، فهو وقت الإِنابة إلى الله. ثانياً: قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة انقضاء الأجل، وأصرح من ذلك ما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة رفعه " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك " قال القاري: وأكثر ما اطلعنا في هذه الأمة من المعمرين من الصحابة والأئمة سن أنس بن مالك، فإنه مات وله من العمر مائة وثلاث سنين. الحديث: أخرجه البخاري وأحمد. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 1012 - " بَابُ مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ خيْرٌ لَهُ " 1161 - عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أْحَبُّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا مِنَّا أحَدٌ إلَّا مَالُهُ أحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: " فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أخَّرَ ".   1012 - " باب ما قدم من ماله فهو خير له " 1161 - معنى الحديث: يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قائلاً " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله " يعني أي واحد منكم يحب مال وارثه الذي يتملكه من بعده أكثر مما يحب ماله الذي يملكه في حياته " قالوا: ما منا أحد إلاّ ماله أحب إليه " أي ليس هناك إنسان إلاّ ويجد نفسه يحب ماله الذي يملكه أكثر مما يحب مال غيره، لأن ما يملكه هو الوسيلة إلى تحقيق رغباته " قال: فإن ماله ما قدم " أي هو ذلك المال الذي يصرفه في حياته على نفسه، وصالح أعماله من حج، وزكاة، ووقف، وبناء مدرسة، وعمارة فسجد، ومستشفى، أو ينفقه على نفسه وعياله، لأنه هو الذي ينفعه في الدنيا والآخرة. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في قوله: " فإن ماله ما قدم ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على الترغيب في إنفاق المال في طرقه المشروعة من النفس والأهل والولد، وبذله في المشاريع الخيرية، فإن مال الإِنسان ما ينفقه في حياته، لا ما يتركه بعد مماته، وفي الحديث: " يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 1013 - " بَابُ "كيْفَ كَانَ عَيْشُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصْحَابِهِ وَتخلِّيهِمْ عَنِ الدُّنيَا " 1162 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيِ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: " مَا شَبعَ آل مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامٍ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حتَّى قبِضَ ".   1013 - " باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا " 1162 - معنى الحديث: أن السيدة عائشة رضي الله عنها أرادت أن تصف لنا معيشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم لنا صورة واضحة عنها، فقالت: " ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من طعام بر " أي من طعام قمح " ثلاث ليال تباعاً " أي ثلاث ليال متوالية متتابعة وإنما كان أغلب قوته وقوت أهل بيته الشعير أو التمر " حتى قبض " أي هكذا كانت معيشة سيد الأولين والآخرين، ومعيشة آل بيته الكرام، حتى توفاه الله إليه، كما جاء في رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما أكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - أكلتين في يوم إلاّ إحداهما تمر "، وفي الحديث الصحيح عن قتادة قال: " كنا نأتي أنس بن مالك وخَبَّازه قائم وقال: كلوا فما أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً -أي مشوية- بعينه قط " يعني ما رأى شاة مشوية مدة حياته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي وابن ماجة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كيف كان يعيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته حياة التقشف والزهد ايثاراً للحياة الباقية على الدار الفانية، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه: " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 1014 - " بَابُ حِفْظِ اللِّسَانَ " 1163 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّ العَبْدَ ليتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لا يُلْقِي لهَا بالاً يَرْفَعُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإنَّ الَعبدَ ليتكَلمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله لا يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا في جَهنم ".   ثانياًً: فضيلة الزهد والاكتفاء بالقليل من العيش، وكونه من أخلاق النبيين، وسيرة سيد المرسلين ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما زهد في الدنيا اختياراً فقد كان في إمكانه - صلى الله عليه وسلم - أن ينعم بالدنيا وزهرتها، وأن تصير له الجبال ذهباً وهذا يدل على أن الزهد سلوك إسلامي فاضل مشروع، ولا سبيل لإنكاره، وقد أمر به - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " فدل ذلك على استحبابه، لأن أقل مقتضيات الأمر الاستحباب والندب. والمطابقة: في قولها: " ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بر " من حيث أن فيه بيان عيش آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه المذكور. 1014 - " باب حفظ اللسان " 1163 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله " أي من كلمات الخير التي ترضي الله عزّ وجل من نصيحة أو تعليم، أو أمر بمعروف، أو إصلاح بين الناس، أو نهي عن منكر، أو دفع مظلمة " لا يلقي لها بالاً " أي لا يعيرها اهتماماً، ولا يقيم لها وزناً " يرفع الله بها درجات " أي يرفع الله بها ذلك المتكلم درجات عالية في الجنة " وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله " أي من الكلمات التي تسخط الله كالغيبة والنميمة والكذب مثلاً " لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم " أي يسقط بسببها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 1015 - " بَابُ ليَنْظُرْ إلَى مَنْ هُوَ أسْفَلَ مِنْهُ، ولا يَنْظُرْ إلى مَنْ فَوْقَهُ " 1164 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا نَظَرَ أحَدُكُمْ إلى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والخَلْقِ فَلْيَنْظر إلى مَنْ فُي أسْفَلَ مِنْهُ ".   في جهنم يوم القيامة، وفي رواية: " يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: التحذير من عثرات اللسان ومخاطرها، لأن كلمة الشر كالقذيفة المدمرة التي تعود على صاحبها فتحرقه بنارها في جهنم، قيل لبكر بن عبد الله المزني: إنك تطيل الصمت فقال: إن لساني سبع إن تركته أكلني. وكان المأمون يقول: السخافة كثرة الكلام، وصحبة الأنذال. ثانياًً: الترغيب في الكلمة الطيبة، وكونها سبباً في رفعة الإِنسان في الدنيا والآخرة، فهي كنز من كنوز الخير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ". الحديث: أخرجه الشيخان بألفاظ مختلفة. والمطابقة: في كون الحديث يرغب في حفظ اللسان، وهو ما ترجم له البخاري. 1015 - " باب النظر إلى من هو أسفل منه ولا ينظر إلى من فوقه " 1164 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق " أي إذا امتدت عين المسلم عفواً وعن غير قصد إلى من يفوقه مالاً أو جسماً أو صورة، وتأثر بذلك نفسياً " فلينظر إلى من هو أسفل منه " يعني فليوجه بصره قصداً إلى من هو أقل منه مالاً، وأدنى جسماً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 1016 - " بَابُ مَن هَمَّ بِحَسَنَةٍ أوْ بِسَيِّئَةٍ " 1165 - عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضيَ اللهُ عَنْهمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيمَا يَرْوِي عَنْ ربِّهِ جَلَّ وَعَلا قَالَ: قَالَ "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى كَتَبَ الحَسَنَاتِ والسيئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا،   وصورة من فقراء الناس وضعفائهم، حتى يشعر بالنعمة التي هو فيها، ويشكر الله عليها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إرشاد المسلم إلى أفضل الوسائل التي تؤدي به إلى السعادة النفسية، وتشعره بالرضا بما قسم له، وهو أن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو أقل منه مستوى، فإنه إذا فعل ذلك شعر بالارتياح النفسي حتماً، وفاض قلبه بالشكر والامتنان لله تعالى، فكان من الصابرين الشاكرين. ثانياًً: أن في العمل بهذا الحديث وقاية للإنسان من كثير من الأمراض النفسية كالحسد والحقد والشر، وغيرها. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 1016 - " باب من هم بحسنة أو بسيئة " 1165 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " فيما يروي عن ربه " أي في الحديث القدسي الذي يرويه عن الباري عز وجل " إن الله تبارك وتعالى كتب الحسنات والسيئات " أي أمر الحفظة بكتابة الحسنات والسيئات للعبد ليجازيه بهما في الدار الآخرة " ثم بين ذلك " أي ثم بين الله للملكين كيف يكتبانها " فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " أي فمن نوى حسنة وأراد أن يفعلها، ولكنه لم يفعلها لمانع، أو لغير مانع، كتبها الله عنده حسنة كاملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حسَنَاتٍ إلى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعَافٍ كَثِيرةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَم يَعْمَلْها كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً".   غير منقوصة، والعندية هنا لك شريف والتكريم. " فإذا هو هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة " فقد يضاعف ثوابها إلى سبعمائة وإلى أضعاف ذلك بحسب زيادة الإِخلاص. " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " أي لا ينقص من ثوابها شيء " فإن هم بها فعملها كتبها الله عليه سيئة واحدة " دون زيادة أو مضاعفة كما في الحسنات. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من همّ بالحسنة، ولم يفعلها لعذر أو لغير عذر تكتب له حسنة كاملة، والظاهر أنه لا يشترط أن يكون قد عزم عليها، بل يكفي مجرد الميل إليها، أو حديث النفس بها، لما جاء في رواية الأعرج: " إذا أراد "، وفي رواية أبي هريرة: " إذا تحدث " وهو محمول على حديث النفس. فإذا حدثته نفسه بالحسنة، أو مال إليها، أو أرادها ولم يفعلها كتبت له حسنة، ولا يشترط العزم، بل بمجرد الإرادة تكتب الحسنة، سواء كان الترك لمانع، أم لا. اهـ. كما أفاده الحافظ. ثانياًً: ظاهر الحديث أن من هم بالسيئة ولم يفعلها يثاب على تركها مطلقاً، واختلفوا في معنى ذلك، فذهب بعضهم إلى أن المراد به كلُّ هم ولو عزم على فعلها، ووطن نفسه عليها ولم يفعلها، فإنه يعفى عنه لما في حديث أبي هريرة " فأنا أغفرها له ما لم يعملها " أخرجه مسلم، ويثاب على تركها لقوله في حديث الباب: " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة " وحكاه الماوردي عن كثير من الفقهاء والمحدثين ونُقِل ذلك عن الشافعي. وقال الباقلاني وغيره: من عزم على المعصية بقلبه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو على الخاطر، وحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 1017 - " بَابُ الرِّيَاءِ والسُمْعَةِ " 1166 - عن جُنْدُبَ رضي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي الله بِهِ".   النفس، والميل إلى المعصية دون تصميم عليها، وذكر القاضي عياض أن عامة السلف على ما قاله الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب، والظاهر أنه لا تكتب السيئة حسنة إلاّ إذا تركها خوفاً من الله (1). الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: كما قال العيني في قوله: " فمن همّ بحسنة " وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن هم بسيئة ". 1017 - " باب الرياء والسمعة " 1166 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من سمَّع سمَّع الله به " أي من عمل عملاً من الأعمال الصالحة يَقْصِدُ به أن يسمع به الناس، فيشتهر عندهم بالدين والخير والصلاح، جازاه الله تعالى على عدم إخلاصه بالفضيحة بين الناس، وأظهر لهم منه ما كان يبطنه (2) فأصبحوا ينظرون إليه باستهانة واحتقار، " ومن يرائي يرائي الله وبه " أي وكذلك من يحاول أن يطّلع الناس على أعماله الصالحة لكي ينال عندهم حظاً من المدح والثناء، أو منزلة وجاهاً، فإنَّ الله يُطْلِعُهُمْ على أنه لم يفعل ذلك لوجه الله. فقه الحديث: دل هذا الحديث على التحذير الشديد من الرياء والسمعة لأنّهما يعودان على صاحبهما بالفضيحة في الدنيا، وفساد العمل وبطلانه في   (1) لما جاء في الحديث: " فإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة " أخرجه البخاري. (2) " شرح العيني " ج 23. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 1018 - " بَابُ قَوْل اللهِ تعَالَى (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) " 1167 - عَنْ أبي هُريْرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعاً، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ ".   الآخرة. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: تؤخذ من لفظ الحديث ومعناه. 1018 - " باب قول الله تعالى: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) " 1167 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يعرق الناس يوم القيامة " أي يجمع الله الخلائق في ذلك المحشر العظيم فيشتد الكرب، وتدنو " الشمس من الرؤوس فتشتد الحرارة، وترشح الأجسام بالعرق الغزير، " حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى ييلغ آذانهم " أي يغمر العرق أجسامهم حتى يصل إلى آذانهم وهو كما قال العيني: مأخوذ من ألجمه الماء إذا بلغ فاه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: اشتداد الكرب على الناس في المحشر وتكاثر العرق، فيه بسبب حرارة الشمس، وشدة الزحام، وفي حديث مسلم، " تدنو الشمس يوم القيامة حتى تكون منهم كمقدار ميل " الخ ويبلغ الكرب بالناس مبلغاً عظيماً حتى يتمنّى أحدهم أن يذهبوا به ولو إلى النار، كما في الحديث " إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار " أخرجه الطبراني بسند جيد. ثانياً: أن الناس لا يتساوون في المحشر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 1019 - "بَابُ صِفَةِ الجَنَّةِ والنَّارِ " 1168 - عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيكَ رَبَّنا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى؟ وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ،   ولا يتساوون في العرق أيضاً، بل يعانون منه بحسب أعمالهم، كما روي عن ابن عمر، بسند لا بأس به، قال: " يشتد الكرب ذلك اليوم حتى يلجم الكافر العرق " قيل له: فأين المؤمن قال: " على كرسي من ذهب يظلل عليه الغمام " وفي رواية: " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً " وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فيه " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على شدة ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين. قال العيني: فإنه يتضمن بعض ما فيه (1)، والمناسبة بهذا القدر كافية. 1019 - " باب صفة الجنة والنار " 1168 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة " أي إن الله تعالى ينادي أهل الجنة بنسبتهم إليها تذكيراً لهم بهذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليهم " فيقولون: لبيك ربنا وسعديك " أي إجابة بعد إجابة، وإسعاداً بعد إسعاد " فيقول: هل رضيتم؟ " أي هل رضيتم بما أعطاكم ربكم من الجنة ونعميها؟ أو هل رضيتم   (1) أي يتضمن بيان بعض ما في ذلك اليوم من الشدائد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 فَيَقُولُ: أنَا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَب وَأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيكُمْ رِضْوَانِي فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبداً".   عن ربكم؟ " فيقولون: وما لنا لا نرضى " يعني أي مانع لنا من الرضا، وقد غمرتنا بفضلك وإحسانك وأعطيتنا ما لم يكن يخطر لنا على بال، " وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك " إن من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويصح ولا يسقم، ويشب ولا يهرم، ويحيا ولا يموت. " فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ " أي وهل هناك نعيم أعظم من النعيم الذي نحن فيه " فيقول: أُحِل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " أي فيقول الله تعالى لهم: نعم هناك ما هو أعظم نعمة، وأكثر سعادة من الجنة وما فيها، وهو الرضوان الإلهي الذي لا يساويه شيء من نعم الله، فإذا أردت أن أمنحكم السعادة العظمى، وقد أردت لكم ذلك منحتكم الرضوان الدائم الذي لا سخط بعده. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن نعيم أهل الجنة لا يعدله نعيم، ولا تساويه سعادة أخرى، وأن الله يعطي أهل الجنة ما يرضيهم، ويقرّ أعينهم كما يدل عليه قولهم: " وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، ومن السعادة التي يمنحها الله أهل الجنة رضوانه عليهم الذي وصفه الله تعالى بأنه أكبر من كل نعيم، وأعظم من كل سعادة، حيث قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وإنما كان هذا الرضوان أكبر لأنه سبب كل فوز وكرامة، وطريقٌ إلى رؤية الله تعالى. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 1169 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أخمص قَدَمَيْهِ جَمْرَتَان يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِى المِرْجَلُ بِالقُمْقُمَ ".   1169 - معنى الحديث:. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة " أي إن أخف الناس وأقلهم وأيسرهم عذاباً من أهل النار " رجل على أخمص (1) قدميه جمرتان " أي رجل يوضع على باطن قدميه جمرتان من النار " يغلي منهما دماغه " أي يفور دماغه من شدة حرارتهما " كما يغلي المرجل " أي كما يفور ماء القدر على النار، " والقمقم (2) " أي وكما يفور القمقم قال في " القاموس " المرجل القدر من الحجارة أو النحاس، والقمقم اسم رومي معرّب، وهو كما في " المصباح " إناء من نحاس يسخن فيه الماء. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: شدة نار جهنم، لأنه إذا كان أخفها تغلي له الرؤوس، وتفور الأدمغة، فما بالك بما زاد على ذلك، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن أهون أهل النار عذاباً هو أبو طالب كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه " أخرجه البخاري. ثانياً: أن أهل النار يتفاوتون في العذاب فبعضهم أهون من بعض. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على وصف نار جهنم بشدة عذابها.   (1) والأخمص بفتح الميم وضمها: هو ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم. (2) قال عياض: الصواب " كما يغلي المرجل والقمقم " بواو العطف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 1020 - " بَابٌ في الحَوْضِ " 1170 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " حَوضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاوهُ أبيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ " وَكِيْزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، من شَرِبَ مِنْهُ فَلا يَظْمَأُ أبَداً ".   1020 - " باب في الحوض " أي هذا باب يذكر فيه الأحاديث الواردة في وصف الحوض المورود. 1170 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " حوضي مسيرة شهر " يعني مقدار ما يسير المسافر شهراً كاملاً، وفي رواية: " وزواياه سواء " أي أنه مربع مستوي الزوايا والجوانب كما في حديث أبي ذر حيث قال فيه: " عرضه مثل طوله " أخرجه مسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب " ماؤه أبيض من اللبن " أي أشد بياضاً من اللبن، وفي رواية: " ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل " " وريحه أطيب من المسك " أي أحلى رائحة وأجمل طيباً من رائحة المسك " وكيزانه كنجوم السماء " أي أن الأكواب الموضوعة على جانبيه عدد نجوم السماء، وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال: " ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء " من شرب منه فلا يظمأ أبداً " أي من شرب من ذلك الحوض فإنه يشعر بالري الأبدي، فينقطع عنه الظمأ إلى الأبد، ويجوز في يظماء الجزم على أن من شرطية، والرفع على أنها موصولة كما ذكره الطيبي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: وجوب الإِيمان بحوض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحوض المورود، ومن أنكر ذلك فهو فاسق مبتدع، وقد نفته المعتزلة، والأحاديث الصحيحة حجة عليهم، وفي الحديث الصحيح: "إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 لكل نبي حوضاً، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردةً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردةً" أخرجه الترمذي، وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني فرطكم على الحوض، ومن مرّ علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً " متفق عليه، وقد عد العلماء الإيمان بالحوض المورود من العقائد الإسلامية الثابتة في الأحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ درجة التواتر، قال ابن حجر الهيتمي: " وقد اختلف العلماء: هل الحوض في أرض المحشر قبل جواز الصراط، أو في أرض الجنة؟ " والراجح عند أهل العلم أنه قبل الصراط، وهو قول الجمهور، وصححه بعضهم، لأن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً فيردون الحوض للشرب منه، وهذا هو الصحيح، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بينا أنا نائم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله " فهذا الحديث يدل على أن جماعة يدفعون عن الحوض بعد أن كادوا يَرِدُونه يذهب بهم إلى النار، والذي يمر على الصراط كما قال الحافظ يكون قد نجا من النار، وفي هذا دلالة صريحة على أنّ الحوض قبل الصراط، بل قبل الميزان وقبل الحساب. ثانياً: دل هذا الحديث على وصف ماء الحوض بأنه أشد بياضاً من اللبن، وأطيب رائحة من المسك، وفي بعض الأحاديث " أحلى من العسل " أما أوانيه وأكوابه وأقداحه أو أباريقه فإنها من الذهب والفضة، وعددها أكثر من نجوم السماء. وأما من شرب منه فإنه يرتوي إلى الأبد. وأما طوله فإنه مسيرة شهر، وكل ما جاء من الأحاديث في ذلك فإنه يدور حول هذا المعنى. وأما شكل الحوض فهو مربع مستوي الجوانب والزوايا، كما في الحديث الصحيح " عرضه مثل طوله " أخرجه مسلم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث يدل على وجود الحوض وأوصافه حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " حوضي مسيرة شهر ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب القدر " والقدر: بتحريك الدال، وهو مصدر قدرت الشيء -بفتح الدال المخففة- إذا أحطت بمقداره. وأل في كلمة القدر عوض عن المضاف إليه، أي تقدير الله للأمور قبل وقوعها، ولهذا قالوا: المراد من القدر أن الله تعالى عَلِمَ مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد. قال في " التنبيهات السنية ": القدر تعلق علم الله تعالى وإرادته أزلاً بالكائنات قبل وجودها، فلا حادث إلاّ وقد قدّره أزلاً، أي سبق به علمه، وتعلقت به إرادته. وقال ابن تيمية: الإِيمان، بالقدر على درجتين: الأولى: الإِيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، وكتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأوّل ما خلق القلم: القلم، فقال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإِنسان لم يكن ليخطأه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف، وإذا خلق الله جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه، بعث إليه ملكاً، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وأجله، وشقي أم سعيد، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية، كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد. أما الثانية فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإِيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلاّ بمشيئة الله، لا يكون في ملكه ما لا يريد، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المتقين ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 1021 - " بَاب جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ " 1171 - عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أيعْرَفُ أهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: " كُل يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أوْ لِمَا يُيَسَّرُ لَهُ ".   والعباد فاعلون، والله خالق أفعالهم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، قال: وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية. 1041 - " باب جف القلم على علم الله " 1171 - معنى الحديث: " قال رجل: يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ " أي سأل رجل وهو عمران بن حصين النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل علم الله تعالى أهل الجنة من أهل النار قبل خلقهم، وأطلَعَ ملائكته عليهم فعرفوهم؟ " قال: " نعم " عَلِمَ الله تعالى أهل الجنة وأهل النار منذ الأزل، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وعَرَّف به الملائكة قبل خروج الناس إلى الدنيا فكتبوا الشقيَّ والسعيد منهم " قال: فلم يعمل العاملون " وفي رواية " ففيم العمل يا رسول الله؟ " قال الحافظ: معناه إذا سبق العلم بذلك، فلا يحتاج العامل إلى العمل، لأنه سيصير إلى ما قدر له " قال: كل يعمل لما خلق له " وفي حديث عمر مرفوعاً " إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار " أخرجه مالك والترمذي وأبو داود. ويؤيده ما جاء في حديث علي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 رضي الله عنه حيث قال فيه: " أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة " متفق عليه. قال الحافظ: فإن عمل العبد: أمارة على ما يؤول إليه أمره غالباً. اهـ. وهذا هو معنى قوله: " كلٌّ يعمل لما خلق له أو لما يُسِّر له " أي فإن العمل يسوقه إلى ما كتب له في الأزل من سعادة أو شقاء، فإذا عمل الأعمال الصالحة فليُسَرَّ بذلك، ويرجو أن يكون من أهلها، لأن العمل الصالح علامة على أن العبد قد كتبت له السعادة كما يدل عليه الحديث. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات القضاء والقدر، وكونهما حقيقة ثابتة، لا شك فيهما، ومعناهما كما قال أهل العلم: أن الله تعالى علم بجميع الكائنات وأزمانها وأحوالها وأفعالها من خير أو شر، وكتب في اللوح المحفوظ كل ما يصدر من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان وكفر، وأطلع الملائكة على أحوال الإِنسان قبل ظهوره إلى هذه الحياة عندما أمر الملك أن يكتب عليه أقداره وهو لا يزال في بطن أمه إذن فالقدر حقيقة ثابتة، وهو عقيدة من عقائد الإيمان كما يدل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه مرفوعاً " من مات على غير هذا " أي على غير الإيمان بالقضاء والقدر " فليس منّي " رواه أبو داود في باب القدر، وعن ابن الديلمي رضي الله عنه قال: أتيت أُبي بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: " لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار " قال فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الحاكم في " مستدركه " (1) وفي رواية عن ابن وهب: " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ".   (1) ورواه أيضاً أحمد وأبو داود وابن ماجه، وإسناده صحيح (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 فإن في هذا الأحاديث دلالة واضحة على أن إنكار القدر من أكبر الكبائر لما يترتب عليه من إحباط العمل ودخول النار وبراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن مات على ذلك. وقد انقسمت الأمة بالنسبة إلى القدر إلى طوائف أربعة: الأولى: تعتقد أن الله لا يعلم شيئاً من أعمال الإِنسان إلاّ بعد وقوعه، وتنفي إحاطة العلم الإِلهي بالكائنات قبل وجودها، وهؤلاء أسوأ الفرق لنسبتهم الجهل إلى الله تعالى، وهم غلاة المعتزلة. الثانية: أثبتت علم الله بأفعال العباد قبل وجودها ونفت خلقه لها، فقالت: يعلمها ولا يخلقها، فالانسان هو الذي يخلق الطاعة والمعصية بنفسه، ولا علاقة لله تعالى بذلك، وهم عامة المعتزلة كما صرح بذلك الزمخشري وهو من كبار علمائهم حيث قال: أما الطاعة فمن العبد، ولكن الله قد لطف به في أدائها، وكذلك المعصية منه أيضاً، والله تعالى بريء منها، وهاتان الفرقتان هما القدرية التي جاءت الأحاديث بذمهم والتحذير منهم، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم " أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم. الثالثة: ضلت ففسرت القدر " بالجبر " فقالت: إن أفعال الإِنسان كلها من طاعة أو معصية أو غيرها هي من الله خلقاً وفعلاً، وليس للإِنسان فعل أو إرادة واختيار، وإنما هو مجبر على أعماله وتصرفاته الشخصية، وإضافة الفعل إلى العبد كإضافته إلى الجمادات. فهو كريشة معلقة في الهواء، أو كحجر في الماء حتى، قال شاعرهم: ما حِيْلَةُ العَبْدِ والأقدَارُ جَاريَة ... عَلَيْهِ في كُلِّ حالٍ أيُّها الرائي ألقَاهُ في اليَمِّ مَكْتُوفاً وقالَ لهُ ... إيَّاكَ إيَّاكَ أن تَبْتَلَّ بالماءِ وتسمى هذه الفرقة الجبرية أو المرجئة. الرابعة: وهم أهل السنة والجماعة، ويتلخص مذهبهم في القدر: أن الله يعلم بأفعال العباد قبل وجودها وبخلقها عند وجودها، لكن الإِنسان حرٌّ في أفعاله، فاعل لأعماله، تصدر عنه تلك الأفعال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 حقيقة بمحض حريته واختياره، وتصرفات الإِنسان الشخصية الواقعة في إطار التكليف والمسؤولية كلها اختيارية دون أن يتعارض ذلك مع القدر في شيء، لأن علم الله لا تأثير له في سلب حرية الإنسان واختياره، فإن لله مشيئته وللإِنسان مشيئته، ولا تعارض بين المشيئتين كما قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ولهذا قال الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون، وإنما معناه الإِخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما سيكون من اكتسابات العبد وخلقه لها خيرها وشرها. وعلم الله سبحانه بما سيقع لا تأثير له في إرادة العبد، فإن العلم صفة انكشاف لا صفة تأثير. ثانياً: دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل يعمل لما خلق له " على أنه ينبغي للعبد الإكثار من الطاعات والاجتهاد في الأعمال الصالحة، فإن ذلك دليل السعادة، لأن عمل الإِنسان علامة على ما يؤول إليه أمره غالباً. قال ابن القيم: اتفقت هذه الأحاديث على أن القدر لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد، ولذلك لما جمع بعض الصحابة قوله: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " قال: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن، وذلك لأن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أُقدِرَ عليه، ومُكِّن منه، وهُيىء له، فإذا أَتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب، وكلما ازداد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه، فمن عطل العمل اتكالاً على القدر فهو بمنزلة من عطّل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالاً على ما قدر له. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي. والمطابقة: في كون الحديث يدل على إثبات القدر، وعلم الله بأعمال العباد قبل وقوعها، وهو ما ترجم له البخاري. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الأيْمَانِ والنُذور " الأيمان جمع يمين، واليمين لغة: يطلق على معان متعددة، منها القوة النافذة، واليد اليمنى، كقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) وكقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، ومنها القسم والحلف الشرعي، وهو المقصود باليمين شرعاً. واليمين شرعاً: هو تأكيد الفعل أو الترك، أو الخبر بذكر الشيء المعظم في النفس (1) الذي يشعر الحالف نحوه بالتعظيم المطلق، وغاية الخوف والخشية منه إن خالف ما حلف عليه، ولا يكون اليمين إلاّ بذكر اسم الله تعالى، أو صفة من صفاته إذ لا يجوز الحلف بغير الله، لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به تعظيماً مطلقاً، والخوف والخشية منه، وهي لا تكون إلاّ لله تعالى. وأقسام اليمين: ثلاثة (أ) يمين اللغو (ب) واليمين المنعقدة (جـ) واليمين الغموس. أما اليمين اللغو: فهي الحلف عن غير (2) قصد اليمين كأن يقول المرء: والله لتأكلن أو لتشربن " أو نحو ذلك، ولا يقصد بها قسماً، أو بعبارة أخرى: هي ما يجري على اللسان دون إرادة القسم، وإليه ذهب الشافعية ومن وافقهم، وقال مالك وأبو حنيفة والليث والأوزاعي: لغو اليمين أن يحلف على شيء يظن صدقه، فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وحكم يمين اللغو أنه لا إثم فيها ولا كفارة عليها. أما اليمين المنعقدة وحكمها فهي أن يحلف على أمر مستقبل أن يفعله أو لا يفعله، وحكمها وجوب الكفارة عند الحنث، كما قال تعالى:   (1) " تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ". (2) " فقه السنة " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 1022 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) " 1172 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا عَبْدَ الرَّحْمَنَ بْنَ سَمُرةَ لا تَسْأَلَ الإِمَارَةَ،   (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). أما اليمين الغموس: وتسمى أيضاً يمين الزور، واليمين الفاجرة فهي اليمين الكاذبة، ومعناها أن يحلف على شيء يعتقد فيه الكذب اعتقاداً جازماً ويتأكد أنه خلاف الواقع، ولكنه يحلف قاصداً الخيانة، وإضاعة الحق وتأييد الباطل. أما حكمها: فهي كبيرة من أعظم الكبائر لفظاعتها ولا كفارة فيها عند أكثر أهل العلم لفظاعتها وشناعتها، وعظم جرمها، وإنما تجب فيها التوبة، ورد الحقوق إلى أصحابها، وعن ابن مسعود موقوفاً: " كنا نعد الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذباً ليقتطعته ". قالوا: ولا مخالف له من الصحابة، ولكن تكلم ابن حزم في صحة هذا الأثر، وذهب الشافعي وآخرون إلى وجوب الكفارة في اليمين الغموس، واختاره ابن حزم. 1522 - " باب قول (1) الله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) " 1172 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإِمارة " أي لا تطلب من إمام   (1) هكذا ترجم له في نسخة العيني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 فَإِنَّكَ إِنْ أُوْتِيْتَهَا عَنْ مَسْألةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإنْ أُوْتِيْتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْألةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأيتَ غَيْرَها خَيراً مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنكَ، وائْتِ الذي هُوَ خَيْرٌ".   المسلمين الإِمارة -بكسر الهمزة- أو غيرها من الولايات التي تتعلق بها مصالح الناس، لأنها أمانة كبرى ومسؤولية عظمى " فإنك إن أوْتِيْتَها عن مسألة وكلت إليها " أي فإنك إن وليت فيها بسبب سعيك وإلحاحك في طلبها وُكِلْتَ إلى جهدك وقوتك دون معونة ربانية وأنت لا تقدر عليها دون عون من الله تعالى "وإن أوتيتها عن غير مسألة" أي وإن جاءتك من غير طلب " أعنت عليها " أي أعانك الله على مسؤولياتها. " وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير " قال في " تيسير العلام ": أي إذا حلفت على أمر لتفعله أو لتدعه، فإن كان لا يترتب على حلفك شيء فأنت مخيّر بين المضاء فيها أو التكفير، وإن كان الأحسن هو فعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف (1) على فعله، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: كراهية طلب الإِمارة وغيرها من الولايات والحرص عليها لما في ذلك من تعريض النفس لعمل ربما لا يقوم بحقوقه، فيعرِّض نفسه للخطر ولما فيه غالباً من سوء القصد، فإنه لا يطلبها مع وجود من يقدر عليها إلاّ لغرض مال أو جاه أو غير ذلك من المقاصد. ثانياً: أن من جاءته الولاية دون طلب أو استشراف يعان عليها، لأنه يرى القصور في نفسه وحينئذ سيلتجىء إلى الله تعالى فيعينه عليها. ثالثاً: أنه يستحب الحنث في اليمين والتكفير عنها، إذا رأى أن الخير والأفضل والأنفع شرعاً في ترك المحلوف على فعله، أو في فعل المحلوف على تركه، كما فعل الصديق رضي الله عنه عندما   (1) " تيسير العلام " ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 غضب على مسطح، فحلف أن لا يتصدق عليه، فلما نزل قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) فقال: بلى أحب أن يغفر الله لي، فأعطى مسطح وكفر عن يمينه. رابعاً: وجوب الكفارة على كل من حنث في يمينه كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكفّر عن يمينك وائت الذي هو خير " وهو معنى قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) إلخ، وتتلخص كفارة اليمين في أحد أربعة أمور: الأول: إطعام عشرة مساكين من غالب قوت البلد لكل مسكين مُد (1). الثاني: كسوة كل واحد منهم ثوباً وسروالاً ونحوه. الثالث: عتق رقبة. الرابع: إن لم يكن قادراً على الكفارات السابقة يصوم ثلاثة أيام. خامساً: في الحديث تقديم الكفارة على الحنث حيث قال: فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير، إلاّ أنه انعقد الإجماع على مشروعية تقديم الحنث على الكفارة، فذهبت الحنفية (2) إلى وجوب تقديم الحنث، وذهب جماهير أهل العلم إلى أن تقديم الحنث مستحب لا واجب، وأنه يجوز تقديم الكفارة، لما ورد في هذا الحديث، إلاّ في كفارة الصيام عند الشافعي، فإنه لا يجوز تقديمها، لأنها عبادة بدنية لا يجوز تقديمها عن وقتها، ووقتها بعد الحنث، والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فكفر عن يمينك ". ...   (1) لكل مسكين مد عند مالك والشافعي، وذهب بعضهم إلى أنه لكل مسكين نصف صاع بر أو صاع من غيره، وهو مذهب أبي حنيفة. (2) " سبل السلام " ج 4. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 1023 - " بَابُ كَيْفَ كَانتْ يَمينُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " 1173 - عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كُلِّ شَيءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ: " لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إِلَيْكَ من نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللهِ لأنْتَ أحَبُّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " الآن يَا عُمرُ ".   1023 - " باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - " 1173 - معنى الحديث: أنه بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ممسكاً بيد عمر رضي الله عنه أراد أن يعبر عن شعوره نحوه - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلاّ من نفسي " قال القسطلاني: ذكر حبه لنفسه بحسب الطبع " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده " أي فأقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله الذي روحه بيده على أن عمر لن يبلغ المرتبة العليا حتى يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " أي حتى يصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليك من نفسك " فقال له عمر: فإنه الآن " الخ أي فقال عمر: أمّا الآن فإني أشعر وأحس في أعماق نفسي أنك أحبّ إلي من نفسي. قال الحافظ: جواب عمر الأول كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه، لأنه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة. " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر " أي الآن عرفت فنطقت بما يجب. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الأيمان المأثورة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 1024 - " بَابُ النَّذْرِ في الطَّاعَةِ " 1174 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ نَذَرَ أن يُطِيعَ الله، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ ".   التي كان يحلف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: " والذي نفسي بيده ". ثانياً: أن من كمال الإيمان أن يستشعر المسلم فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حيث أنقذه برسالته من المهلكات وأخرجه من الظلمات إلى النور، فيحبه أكثر من نفسه. ولا غرابة في ذلك، فإن العواطف السائدة كحب الله تعالى وحب الأنبياء وحب العبادة قد تقوى فتصبح أقوى من حب الإنسان لنفسه الذي هو من أقوى غرائزه. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا والذي نفسي بيده ". 1024 - " باب النذر في الطاعة " النذر: لغة الوعد بخير أو شر، وشرعاً التزام طاعة في مقابل حدوث نعمة أو زوال نقمة، ولا يصح إلاّ من بالغ عاقل مختار، ولو كان كافراً. 1174 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله " أي من نذر أن يعمل عملاً صالحاً فيه طاعة وقربة إلى الله تعالى " فليطعه " أي فليوف بنذره بفعل تلك الطاعة من صلاة أو صيام أو حجّ أو عمرة أو صدقة أو اعتكاف أو نحو ذلك، سواء كان النذر مطلقاً كأن يقول: لله عليّ أن أفعل كذا، دون تقييد بشرط، أو كان معلقاً كقوله: " إن شفي الله مريضي أو رد غائبي فعلت كذا " " ومن نذر أن يعصيه " أي ومن نذر أن يفعل معصية كقوله: " لله علي أن أشرب الخمر " " فلا يعصه " أي فلا يوف بنذره، ولا يفعل المعصية التي نذرها. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب الوفاء بنذر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 1025 - " بَابُ مَنْ مَات وعَلَيْهِ نذْرٌ " 1175 - عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " أنَّهُ اسْتَفْتَى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فأفْتَاهُ أن يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ ".   الطاعة، سواء كان نذراً معلقاً وهذا يجب الوفاء به إجماعاً، أو نذراً مطلقاً غير مقيد بشرط كقوله: ابتداءً لله عليّ صوم شهر، فإنه يجب الوفاء به عند أكثر أهل العلم، قال ابن قدامة: وهو قول أهل العراق، وظاهر مذهب الشافعي، وقال بعض أصحابه: لا يلزم الوفاء به، لأن النذر عند العرب وعد بشرط كما قال أبو عمر. قال ابن قدامة: وما حكوه عن أبي عمر: لا يصح، فإن العرب تسمي الملتزَم بفتح الزاي نذراً وإن لم يكن بشرط قال جميل: فَلَيْتَ رِجَالاً فِيْكِ قَدْ نَذَرُوْا دَمِي ... وَهَمُّوا بِقَتْلي يَابُثَيْنُ لَقُوْنِي ثالثاً: أن نذر المعصية لا يحل الوفاء به إجماعاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ويجب على الناذر نذر معصية كفارة اليمين، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه، كما قال ابن قدامة، وهو مذهب مالك والشافعي، لأنه ليس نذراً شرعياً في الحقيقة كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد " أخرجه مسلم. والمطابقة: في قوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه ". الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. 1025 - " باب من مات وعليه نذر " 1175 - معنى الحديث: يحدثنا سعد بن عبادة رضي الله عنه " أنه استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمّه، فتوفيت قبل أن تقضيه " قيل: كان صياماً، وقيل: صدقة، وقيل: عتقاً " فأفتاه أن يقضيه عنها " أي فأمره أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 ينوب عنها في قضاء ذلك النذر " فكانت سنة بعد " أي فكانت فتوى النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة يعمل بها بعده. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية قضاء النذر عن الميت، وقد اختلف أهل العلم في النذور التي تقضى عن الميت، قال ابن قدامة: من نذر حجّاً، أو صوماً، أو صدقة، أو عتقاً، أو اعتكافاً أو صلاة، أو غيره من الطاعات، ومات قبل فعله، فعله الولي عنه، وعن أحمد في الصلاة لا يُصلّى عن الميت، لأنها لا يدل لها بحال، وأما سائر الأعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها، وليس بواجب، ولكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة والمعروف. قلت: وحاصل الخلاف في قضاء النذر عن الميت أربعة أقوال (1): الأول: أنه تقضى عنه جميع الطاعات بدنية كانت أو مالية وهو مذهب الحنابلة. الثاني: أنه تقضى عنه جميع الطاعات ما عدا الصلاة، وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي. الثالث: تقضى عنه جميع الطاعات ما عدا الصلاة والصوم، وهو أحد قولي الشافعي حيث قال في الصيام: يطعم عنه كل يوم مسكيناً. الرابع: أنه تقضي عنه الطاعات المالية دون البدنيّة، وهو مذهب مالك رحمه الله. ثانياً: أن قضاء النذر على ولي الميت مستحب وليس بواجب، إلاّ أن يكون مالياً وللميت تركه، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن أمّي ماتت وعليها صومٌ، أفأصوم عنها؟ فقال: " أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت: نعم، قال: " فصومي عن أمك " متفق عليه، فإن أمره - صلى الله عليه وسلم - في هذا محمول على الندب والاستحباب بدلائل قرائن في الخبر، منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين، وقضاء الدين عن الميت، لا يجب على الوارث ما لم يخلّف تركة يقضى بها. وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على وليه لظاهر الأخبار. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب عن الترجمة.   (1) كما أفاده ابن قدامة في " المغني " وكما يدل عليه حاصل كلامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الفرائض " والفرائض لغة: تأتي من الفرض بمعنى القطع، يقال: فرضتُ لفلان فريضة من المال، أي قطعت له كمية منه، أو من الفرض بمعنى التقدير، فيكون معنى الفريضة المقدار المحدد، ومنه قوله في حديث الزكاة: " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1) أما الفرائض شرعاً فإنها تطلق على معنيين: 1 - معنى خاص: وهي السهام المقدرة في كتاب (2) الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لبعض الورثة والتي هي الثلثان والثلث والسدس والنصف والربع والثمن. ومعنى عام: وهو قواعد فقهية وحسابية (3) يعرف بها نصيب كل وارث من التركة. وقال في " الروض الأنيق " (4): هي عبارة عن فهم قسمة المواريث، وفهم علم الحساب، ومعرفة النسب بين الأعداد. وقال في " أحكام المواريث ": هي عبارة عن فقه المسائل المتعلقة بالإرث، ومعرفة متى يكون الإنسان وارثاً أو غير وارث، ومقدار ما يستحقه الوارث، وكيفية تقسيم التركة على الورثة (5)، وما يتبع ذلك. وموضوع علم الفرائض: هو التركات وما يتعلق بها، وتتعلق بالتركة الأحكام الآتية على الترتيب المذكور. أولاً: تجهيز الميت بغسله، وتكفينه، ودفنه، وفعل ما يحتاج إليه من وقت وفاته إلى مثواه الأخير من غير إسراف ولا تقتير. ثانياً: قضاء ديونه التي لها مطالب من العباد، فلا تقسم التركة حتى   (1) " لسان العرب " لابن منظور ج 7. (2) " المواريث في الشريعة الإسلامية " للصابوني حيث عرّفها بذلك أثناء تعريفه لأصحاب الفروض ص 34. (3) " الفقه الإسلامي وأدلته " ج 8 للدكتور وهبة الزحيلي. (4) " الروض الأنيق " لفضيلة الشيخ عبد الرحمن مضاي المدرس بالحرم النبوي. (5) " أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية " للشيخ محي الدين عبد الحميد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 1026 - " بَابُ مِيرَاثِ الْوَلَدِ مِنْ أبِيهِ وَأُمِّهِ " 1176 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ألحِقُوا الْفَرَائِضَ بأهْلِهَا، فمَا بَقِيَ فَهُوَ لأوْلَى رَجُلٍ ذكرٍ ".   تقضى هذه الديون لقوله - صلى الله عليه وسلم -: نفس الميت معلقة بدينه حتى يقضى. ثالثاً: تنفيذ وصايا الميت في حدود الثلث لغير الوارث بعد أداء ما يكفي للتجهيز وأداء الديون التي عليه. رابعاً: تقسيم ما بقي من التركة بين الورثة حسب الكتاب والسنة وإجماع الأمّة. حكم علم الفرائض: وقد أجمعت الأمة على أنه فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تعلموا الفرائض وعلّموها الناس فإني امرؤ مقبوض، وإن هذا العلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان أحداً يفصل بينهما " رواه الحاكم (1). وأسباب الإِرث ثلاثة: النسب والنكاح والولاء، وموانعه ثلاثة أيضاً: القتل والرق واختلاف الدين، وذهب أحمد إلى أن القريب الوارث إذا كان كافراً وأسلم قبل قسمة التركة فإنه يرث خلافاً للجمهور. 1026 - " باب ميراث الولد من أبيه " 1176 - معنى الحديث،: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته أن يقوموا بتوزيع المواريث وقسمتها على مستحقيها توزيعاً عادلاً يتفق مع حكم الله تعالى، فقال: " ألحقوا الفرائض بأهلها " أي ابدؤوا في القسمة أولاً بأصحاب الفروض الذين لهم سهام مقدرة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فأعطوا لكل واحد منهم سهمه المقدر له شرعاً، " فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " أي فما زاد عن أصحاب   (1) وأبو يعلى والبزار عن ابن مسعود رضي الله عنه وإسناده ضعيف (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 الفرائض فإنه يعطى للعصبة، وهم أقرب الذكور إلى الميت وإنما قال: " لأولى رجل ذكر " مع أن الرجل لا يكون إلاّ ذكراً، حتى لا يظن أحد أن المراد من لفظ الرجل هو الكبير القادر (1) فيمنع الصغير من الميراث، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فإن الذكر وإن كان رضيعاً يستحق الإِرث بالتعصيب وقد يأخذ كل المال بالتعصيب. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن أوّل ما يبدأ به عند قسمة المواريث أصحاب الفروض والسهام المقدرة شرعاً، وهم عشرة: الزوج، والزوجة، والأب، والجد، والأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخ، والأخت الأم، هؤلاء هم أصحاب الفرائض المقدرة شرعاً التي هي النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس، وهم الذين يُبدأ بهم أولاً عند قسمة المواريث، وتختلف أسهمهم حسب اختلاف أحوالهم، كما هو موضح في علم الفرائض. ثانياًً: أن القسم الثاني من الورثة: العصبة، وهو في لسان الشرع أقرب ذكر إلى الميت وقد جعل الشارع له الحق في أن يأخذ ما بقي عن أصحاب الفروض كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فما بقى فهو لأولى رجلٍ ذكر " حيث دل الحديث على أن ما أبقت الفروض يكون لأقرب العصبات من الذكور، لا يشاركه من هو أبعد منه، حكاه النووي وغيره إجماعاً، وإن استووا اشتركوا. وتنقسم العصبة إلى ثلاثة أقسام: الأول: العصبة بنفسه: وهو كل ذكر ينسب إلى الميت ليس بينه وبينه أنثى كالأب والجد وإن علا، والابن وابن الابن وإن سفل، والأخ الشقيق أو لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب، والعم الشقيق أو لأب، وأولادهما، والمعتق ذكراً كان أو أنثى، وحكمه أنه إذا انفرد حاز جميع المال، وإن كان مع أصحاب الفرائض حاز ما بقى عن أصحاب الفرائض، وقد يستغرق أصحاب الفرائض المال كله فلا يرث شيئاً.   (1) " المواريث في الشريعة الإسلامية " للصابوني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 1027 - " بابُ مِيرَاثِ ابْنَةِ ابْنٍ مَعَ ابْنَةٍ " 1177 - عَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنهُ سُئِلَ عَنْ ابْنَةٍ وابْنَةِ ابْن وَأختٍ، فَقَالَ: لِلابْنَةِ النِّصْفُ، ولِلأُخت النِّصْفُ، وأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَيتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وأُخبِر بِقَوْلِ أبي مُوسَى فَقَالَ: "لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذَاً وَمَا أنا مِنَ الْمُهْتَدِينَ! أقْضِي فيهَا بِمَا قَضَى   الثاني العصبة بغيره: وهو كل أخ يعصب أخته من جهتها، وينحصر ذلك في البنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، فإن كل واحدة من هؤلاء الأربعة يعصبها أخوها. الثالث العصبة غيره: وهي كل أنثى تصير عصبة باجتماعها مع غيرها، ويتحقق في الأخوات الشقيقات، أو الأخوات لأب إذا اجتمعن مع البنات أو بنات الابن، فإذا اجتمعت أخت شقيقة مثلاً مع بنت، أخذت البنت النصف فرضاً، وأخذت الأخت الباقي وهو النصف تعصيباً، وإذا اجتمعت مع بنتين أخذت البنتان الثلثين فرضاً، وأخذت الأخت الثلث الباقي تعصيباً، وإذا اجتمعت مع أصحاب فرائض وبنت، أخذت الباقي بعد أصحاب الفرائض والله أعلم. ثالثاً: أن الولد يرث من أبيه وأمه تعصيباً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فما بقى فللأولى رجل ذكر " والولد أقرب الذكور إلى الميت. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " فما بقي فلأولى رجل ذكر ". 1027 - " باب ميراث ابنة ابن مع ابنة " 1177 - معنى الحديث: أن أبا موسى رضي الله عنه سئل إذا اجتمع ثلاثة ورثة، ابنة وابنة ابن وأخت، كيف يكون الميراث بينهن؟ وماذا تستحق كل واحدة منهن، فأفتى أن للبنت النصف، وللأخت النصف، ولا شيء لبنت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 النبي - صلى الله عليه وسلم -: لِلابْنَةِ النِّصْفُ، ولابنَةِ الابنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ، فَأتَيْنَا أبَا مُوسَى فَأخْبَرَنَاه بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لا تَسْألونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ".   الابن، وقال: سل ابن مسعود عن هذه المسألة، فلما سأله عنها، لم يوافق على حرمان بنت الابن من الميراث، وقال: لو أفتيت بذلك لكنت قد أخطأت، ولكنني أحكم في هذه المسألة أن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللأخت الباقي، وهو الثلث تعصيباً. فلما جمع أبو موسى بفتوى ابن مسعود رضي الله عنهما استحسنها، وأثنى عليه بخير، ووصفه بغزارة العلم، وسعة الاطلاع، وقال: " لا تسألوني ما دام هذا الحَبر " بفتح الحاء " بينكم " أي لا تسألوني ما دام هذا العالم الكثير العلم الغزير المعرفة بينكم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الأخت الشقيقة مع البنت أو مع بنت الابن أو معهما معاً تكون عصبة مع غيرها، فإذا اجتمعت معهما كان للبنت النصف فرضاً، ولبنت الابن السدس بقية الثلثين، وللأخت الثلث تعصيباً، وإذا اجتمعت مع البنت وحدها، كان للبنت النصف فرضاً وللأخت النصف تعصيباً، وإذا اجتمعت مع البنتين كان لهما الثلثان فرضاً، ولها الثلث تعصيباً، وإذا اجتمعت مع بنت الابن فحكمها معها كالبنت أو البنات تماماً والله أعلم. الحديث: أخرجه أيضاً الأربعة. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 1028 - " بَابُ مولى القوم من أنفسهم وابن أخت القوم منهم " 1178 - وَعَنْ أنسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ، أوْ مِنْ أنْفُسِهِمْ ".   1028 - " باب مولى القوم من أنفسهم وابن أخت القوم منهم " 1178 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ابن أخت القوم من أنفسهم " أي من أقرب أقربائهم تربطه بهم رابطة قوية متينة كرابطة النسب، فإذا كان النسب يقتضي التوارث بين أبناء العمومة مثلاً، فإن علاقة الخؤولة تقتضي أن يرث الخال ابن أخته أو بنت أخته، وكذلك الخالة والعمة عند عدم ذوي الفرائض والعصبة. فقه الحديث: دل هذا الحديث على توريث ذوي الأرحام عند عدم وجود ْأصحاب الفرائض والعصبة، وهم كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، كأولاد البنات وأبناء الأخوة لأمّ، وأولاد الأخوات، والأخوال والخالات، وغيرهم، وقد اختلف أهل العلم في توريثهم على مذهبين: المذهب الأول: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وكافة علماء العراق وبعض علماء الشافعية أنهم يرثون إذا لم يوجد للميت صاحب فرض ولا عاصب، فإن ماله الباقي بعد تجهيزه وتسديد ديونه ووصاياه يعطى ميراثاً لذوي رحمه، وهو رأي الكثرة الغالبة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمذهب الثاني: وهو قول مالك والشافعي وكثير من فقهاء الأمصار أن ذوي الأرحام لا يرثون أصلاً، ولو مات إنسان وليس له صاحب فرض ولا عاصب فإن ماله لبيت مال المسلمين ميراثاً قال في " الدرة البهية " (1): وقد رجع علماء الشافعية في أواخر القرن الرابع   (1) الدرة البهية على الرحيية للشيخ محي الدين عبد الحميد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 الهجري، وعلماء المالكية في أوائل القرن الثالث الهجري إلى القول بتوريث ذوي الأرحام (1) فصار القول بتوريث ذوي الأرحام قول الجمهور من أواخر القرن الرابع الهجري (2) واستدل القائلون بتوريث ذوي الأرحام بقول الله تعالى (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) قال ابن قدامة: " أي أحق بالتوارث في حكم الله تعالى " وروى الإِمام أحمد بإسناده عن سهل بن حنيف: أن رجلاً رمى رجلاً بسهم فقتله، ولم يترك إلاّ خالاً، فكتب فيه أبو عبيدة إلى عمر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الخال وارث من لا وارث له " قال الترمذي: هذا حديث حسن وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - وارثاً، والأصل الحقيقة، وقد ورث النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن الأخت أيضاً كما في حديث محمد بن يحيى قال: توفي ثابت بن الدحداح ولم يدع وارثاً ولا عصبة، فرفع شأنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ماله إلى ابن أخته أبي لبابة بن عبد المنذر. الحديث: أخرجه البخاري والنسائي. والمطابقة: في كون الترجمة من لفظ الحديث. ...   (1) قال الشافعية والمالكية ومن وافقهم بتوريث ذوي الأرحام عند عدم انتظام بيت مال المسلمين، أما إذا كان منتظماً فهم على رأيهم في عدم التوريث. اهـ. حسن السماحي. (2) حاشية القليوبي بهامش شرح المحلي للمنهاج في مذهب الشافعية، و" نهاية المحتاج " للرملي، وشرح الزرقاني كما في الدرة البهية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الْحُدُودِ " 1029 - " بَابُ الضَّرْبِ بالْجَرِيدِ والنِّعَالِ " 1179 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " اضْرِبُوهُ " قَالَ أبُو   " كتاب الحدود " والحدود لغة: جمع حد، وهو المنع ومنه حدود العقار، لأنها موانع تحول دون امتداد يد الغير إليه، ومشاركته فيه، وأحدّت المعتدة امتنعت عن الزينة وتطلق الحدود أيضاً على الأحكام الشرعية المقرّرة ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أما معنى الحد شرعاً: فهو العقوبة المقدرة حقاً لله تعالى (1) ومعنى كونها مقدرة أنها محدودة معينة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، وليس لها حد أدنى وحد أعلى، وهي حق الله تعالى الذي لا يقبل الإِسقاط من الأفراد ولا من الجماعات، ولا يملك المجني عليه العفو عن المجرم فيها، فلو تنازل المسروق منه بعد بلوغ القضية إلى الحاكم الشرعي لا يؤثر تنازله وعفوه بشيء، ولا تسقط هذه العقوبة عن المجني عليه. لما رواه مالك في " الموطأ " عن سعيد بن المسيب قال: ما من شقي إلا يحب الله أن يعفي عنه ما لم يكن حداً. ولا تجوز الشفاعة في حد أصلاً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة رضي الله عنه " أتشفع في حد من حدود الله؟ ". 1029 - " باب الضرب بالجريد والنعال "   (1) " التشريع الجنائي الإسلامي " عبد القادر عودة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، والضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أخْزَاكَ اللهُ، قَالَ: " لا تَقُولُوا هَكَذَا، لا تُعِيْنُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ ".   1179 - معنى الحديث: يقول أبو هريرة رضي الله عنه " أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب " قيل هو " نُعيمان " بالتصغير الذي اشتهر بالفكاهة والمزاح، وقد امتلأت كتب الأدب " كَنهاية الأرب " وغيرها بفكاهاته ونوادره. وذكر ابن سعد أنه عاش إلى خلافة معاوية، وقصته مع الرجل الأعمى وعثمان رضي الله عنه معروفة مشهورة تجدها في " الفكاهات والنوادر " من كتاب " نهاية الأرب " " فقال: اضربوه " أي فأمرهم بضربه دون تحديد عدد معين من الضرب " فمنا الضارب بيده " أي فبعض الصحابة ضربه بيده دون استعمال أداة أخرى من أدوات الضرب " ومنا الضارب بنعله " لإهانة ذلك الشارب والتنكيل به " ومنا الضارب بثوبه " ولم يستعملوا السوط الذي هو أداة الحد في الضرب " فلما انصرف " أي فلما فرغ الناس من ضربه " قال بعض القوم: أخزاك الله " أي دعا عليه بالخزي، وهو الذل والمهانة والفضيحة بين الناس قيل: إن الداعي هو عمر رضي الله عنه. " فقال " النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقولوا " له هكذا لا تعينوا عليه الشيطان " لأنهم إذا دعوا عليه " بالخزي " ربما استجيب لهم، فبلغ الشيطان مأربه، ونال مقصده ومطلبه أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو طبيب النفوس خشي على الرجل أنه إذا امتهنت كرامته، وجرحت مشاعره، وأهدرت إنسانيته أدَّى ذلك إلى حدوث رد فعل سيىء في نفسه فيصر على الخطيئة، ويتمادى في الانحراف فيكونون بفعلهم هذا قد أسلموه إلى الشيطان، فيتمكن منه ويستولي عليه نتيجة تلك الانفعالات السيئة التي أوجدوها في نفسه. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود وأحمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه ليس لشارب الخمر حد شرعي، وإنما عقوبته عقوبة تعزير لا حد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اضربوه " ولم يعين قدراً محدوداً من الضرب، ولا عدداً معيناً منه. ولقول علي رضي الله عنه: " ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي إلاّ صاحب الخمر، فإنه لو مات لوديته " أي دفعت ديته، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه، أي لم يضع له حداً شرعياً. وكل جريمة لا حد لها فعقوبتها تعزير وهي موكولة إلى اجتهاد الإِمام وقد اختلف أهل العلم في عقوبة شارب الخمر هل هي حد أو تعزير على ثلاثة أقوال: الأول: أنها تعزير أي تأديب مفوّض إلى اجتهاد الإِمام، وبهذا قال بعض أهل العلم، منهم الطحاوي ورجح الشوكاني أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدار معيّن من العقوبة، وأن عقوبة شارب الخمر ترجع إلى اجتهاد الإمام، ومؤدى كلامه هذا أن عقوبته تعزير لا حد. القول الثاني: أن شارب الخمر يعاقب حداً مقداره ثمانون جلدة، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم لإجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين جلدة، فضربه عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام، وروي أن علياً قال في المشورة: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فَحدّه حد المفتري. الثالث: أنها حدٌّ مقداره أربعون جلدة، وهو اختيار الصديق رضي الله عنه، ومذهب الشافعي، لأن علياً جلد الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال: " جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إليَّ " رواه مسلم. قال ابن قدامة: ولا ينعقد الإِجماع على ما خالف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير، ويجوز فعلها إذا رآه الإِمام. ويتلخص مما ذكرنا أن في عقوبة الخمر ثلاثة مذاهب: 1 - أنّها تعزير محض، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسن في ذلك حداً معيناً، ولإمام المسلمين أن يعاقب الشارب بما أدى إليه اجتهاده. 2 - أنها حد شرعي مقدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 1030 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وفي كَمْ تُقْطع؟ " 1180 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " تُقْطعُ الْيَدُ في رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدَاً ".   بثمانين جلدة، وهو مذهب جمهور أهل العلم. 3 - أن الأربعين جلدة حدٌّ، وما زاد فهو تعزير، وهو مذهب الشافعى، ورواية عن أحمد اختارها ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم والشيخ عبد الرحمن السعدي. قال ابن تيمية في " الاختيارات " والصحيح في حد الخمر الرواية الموافقة لمذهب الشافعي وغيره أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإِطلاق، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإِمام كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب. ثانياًً: دل هذا الحديث على وجوب حد الشرب على كل من شرب مادة مسكرة مطلقاً من العنب أو غيره، سكر أو لم يسكر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أتي برجل قد شرب فقال: " اضربوه " حيث رتب الضرب على الشرب، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة، حيث فرّق بين ما كان من عصير العنب وغيره والحديث حجة للجمهور. الحديث: أخرجه أيضاً أبو داود. والمطابقة: في قوله: " فمنا الضارب بنعله ". 1030 - " باب قول الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) " 1180 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " تقطع اليد في ربع دينار " هذا خبر بمعنى الأمر، أي اقطعوا يد السارق بسبب سرقة ربع دينار " فصاعداً " أي فما زاد على ذلك، فإذا سرق السارق ربع دينار أو أكثر فإنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 تقطع يده من مفصل الكف، والدينار مثقال من الذهب وهو درهم وثلاثة أسباع الدرهم والدرهم باق على حاله ومقداره لم يتغيِّر جاهلية ولا إسلاماً. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أنه يجب إقامة حد السرقة على كل من ثبتت سرقته. والسرقة هي الأخذ خفية من مال في حرز مثله لا ملك له فيه، ولا شبهة ملك. ثانياًً: أن نصاب السرقة الذي تقطع فيه يد السارق هو ربع دينار، وهو مذهب مالك وأحمد ومن وافقهم من أهل العلم، ويعادله من الفضة ثلاثة دراهم، ومن العروض ما قيمته ثلاثة دراهم. أما دليل نصاب الذهب، فقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: " تقطع اليد في ربع دينار " أما دليل نصاب الفضة والعروض، فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مِجَنٍّ ثمنه ثلاث دراهم " وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق حيث قالوا: النصاب ربع الدينار أو ثلاثة دراهم، أو عَرَض قيمته أحدهما، وذهب الشافعي إلى أن النصاب ربع دينار ذهباً، أو ما قيمته ربع دينار من الفضة أو العروض، وبه قال كثير من العلماء منهم عائشة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة. واستدل أبو حنيفة بما أخرجه البيهقي والطحاوي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عشرة دراهم. قال في " تيسير العلام " وهذه الرواية وإن خالفت ما في الصحيحين من أن قيمته ثلاثة دراهم، فالواجب الاحتياط فيما يستباح به قطع العضو المحرم، فيجب الأخذ به وهو أكثر وبما أخرجه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا قطع إلاّ في عشرة دراهم " وضعِّف العلماء هذا الحديث والله أعلم. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث جواباً لقوله في الترجمة: " وفي كم تقطع " حيث بيّن في الحديث أنها تقطع في ربع دينار والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب المحاربين " 1031 - " بَابُ لَمْ يُسقَ المرتدُّونَ الُمَحاربُون حَتَّى مَاتُوا " 1181 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَرٌ مِنْ عُكَلِ فَأسلَمُوا، فاجْتَوَوُا المَدِينَةَ، فَأمرَهُمْ أن يَأْتُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أبوَالِهَا وألْبَانِهَا، فَفَعَلُوا،   " كتاب المحاربين " والمحاربون كل جماعة مسلحة تخرج في دار الإِسلام تهدد الأمن وتسفك الدماء وتسلب الأموال وتعتدي على الحريات العامة والحقوق الشخصية سواء كانت هذه الجماعة مسلمة أو ذميّة أو معاهدة ما دامت في دار الإِسلام ويدخل في المحاربين جميع العصابات الإِرهابية، كعصابات القتل وخطف الأطفال والسطو على البيوت والبنوك أو خطف العذارى أو غير ذلك، وكذلك كل فرد عدواني له قوة يهدد بها الأمن العام، فهو محارب وقاطع طريق. وتنفذ في حقه أحكام المحاربة. 1031 - " باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا " 1181 - معنى الحديث: يقول أنسٍ رضي الله عنه: " قدم على النبي نفر من عكل " أي قدم عليه - صلى الله عليه وسلم - سنة ست من الهجرة جماعة من قبيلة عكل (1) ما بين الثلاثة إلى العشرة " فأسلموا " أي دخلوا في الإِسلام " فاجتووا المدينة " قال القاري: أي استوخموها، ولم يوافقهم المقام بها،   (1) أي من قبيلة عكل وعرينة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 فَصَّحُّوا، فارْتَدُّوا، وقَتَلُوا رُعَاتِهَا، واسْتَاقُوا الإبِلَ، فَبَعَثَ في آثارِهِمْ، فأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أْيدِيَهُمْ وأرْجُلَهُمْ، وسَمَلَ أعيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَى مَاتُوا.   وأصابهم الجواء وهو المرض " فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة " أي أمرهم أن يخرجوا إلى المكان الذي فيه إبل الزكاة، ويقيموا هناك " فيشربوا من أبوالها " للتداوي بها، لأنها دواء نافع " وألبانها " للتغذي والتداوي بها أيضاً لأنها شفاء " ففعلوا فصحوا " أي فشربوا ذلك فقويت أجسامهم، وصحت أبدانهم " فارتدوا " وخرجوا عن الإِسلام وعادوا إلى كفرهم " وقتلوا رعاتها " أي قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وطمعوا في المال " واستاقوا الإِبل " وولوا بها هاربين " فبعث في آثارهم " أي فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وجماعة من الصحابة وراءهم ليمسكوا بهم ويلقوا القبض عليهم " فأتي بهم " أي فجيء بهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فقطع أيديهم وأرجلهم " من خلاف كما في رواية الترمذي " وسمل أعينهم " بفتح السين والميم، أي فقأ أعينهم " ثم لم يحسمهم " بسكون الحاء وكسر السين " حتى ماتوا بل تركهم حتى ماتوا " أي تركهم ينزفون حتى الموت ولم يكوهم لينقطع الدم. قال ابن الملك: إنما فعل بهم - صلى الله عليه وسلم - هذا مع نهيه عن المثلة، إما لأنهم فعلوا ذلك بالرعاة، وإما لعظم جريمتهم. والله أعلم. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن المحارب وقاطع الطريق إذا قتل لا بد من قتله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل هؤلاء العرنيين المذكورين في الحديث أما إذا أخاف السبيل، أو سرق المال، ولم يقتل فإن الحديث لم يتعرض لهذا، واختلف الفقهاء في حكمه، هل يجوز للإِمام قتله إذا رأى المصلحة في ذلك؟ أم لا يجوز قتل المحارب إلا إذا قتل؟ وسبب هذا الخلاف اختلافهم في الأحكام الواردة في الآية الكريمة من القتل، والصلب، والقطع والنفي هل هي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 على الترتيب أو التخيير. فقال بعض الفقهاء: (أو) في قوله تعالى: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) للترتيب والتنويع وتدل على توزيع الأحكام على حسب الجنايات، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل فقط، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نفي من الأرض، وهذا هو مذهب الشافعية والصاحبين (1)، وهو مروي عن ابن عباس. وقال بعض الفقهاء: إن (أو) في الآية للتخيير فالإِمام مخيّر في الحكم على المحاربين بأي حكم من الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل أو الصلب أو القطع أو النفي لظاهر الآية الكريمة. وهذا قول مجاهد والضحاك والنخعي، وهو مذهب المالكية (2). اهـ. إلاّ أن التخيير عندهم مقيد بحدود خاصة، وليس على إطلاقه، فقد قال مالك: " الإِمام بنص الآية مخيّر في تطبيق أي جزاء على المحارب حسب اجتهاده (3)، وما يرى فيه المصلحة إلاّ القاتل فإن المحارب إذا قتل لا بد من قتله، وليس للإِمام تخيير في قطعه، ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وإذا أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه ويخير الإمام في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف، وأمّا إذا أخاف السبيل فقط، فالإمام مخير في قتله وصلبه وقطعه ونفيه، بمعنى أن للإِمام الحق في استعمال العقوبة الأشد لا في استعمال الأخف. وقال أبو حنيفة بالتخيير في محارب مخصوص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فالإِمام مخيّر في أمور أربعة: (أ) قطع يده ورجله من خلاف وقتله. (ب) قطع يده ورجله من خلاف وصلبه. (ج) صلبه فقط دون قطع يده ورجله. (د) قتله فقط (4) واختلف الفقهاء في عقوبة النفي ما   (1) " روائع البيان في تفسير آيات الأحكام " للصابوني ج 1. (2) " روائع البيان في تفسير آيات الأحكام " للصابوني ج 1. (3) التشريع الجنائي لعبد القادر عودة ج 1. (4) " فتح الباري " ج 12. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 هي؟ فقال مالك والشافعي: معناها أن يخرج المحارب من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، وزاد مالك: فيحبس فيها، وقال أبو حنيفة: هي أن يحبس في بلده، فالنفي هو السجن، لأن السجن خروج من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه نفي من الأرض، وقد قال بعض الشعراء: خَرَجْنَا مِنَ الدُّنيا وَنَحْنُ مِنْ اهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا وَلاَ الأحيَا إذَا جَاءَنَا السَّجَّانَ يَوْماً لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذا مِنَ الدُّنيا ثانياًً: دل هذا الحديث على أن قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال، فإنه يجوز للإمام أن يقطع يده ورجله من خلاف، ويقتله (1) كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين " حيث قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا " وبهذا قال بعض أهل العلم، وهو مذهب أبي حنيفة حيث قال فيمن قتل وأخذ المال: إن الإمام مخيّر بين أن يقطع يده ورجله من خلاف ويقتله، أو يقطعه ويصلبه أو يصلبه فقط دون قطع يده ورجله، أو يقتله فقط. ثالثاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمل أعين هؤلاء، مع نهيه عن المثلة فقيل: كان هذا (2) قبل نزول آية الحدود، وآية المحاربة، والنهي عن المثلة فهو منسوخ، أو فعله قصاصاً. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الحديث دل على عقوبة المحارب. ...   (1) قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي إخراج المؤمنين من مكة أشد من قتلهم. (2) شرح النووي على مسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 1032 - " بَابُ رَجْمَ الْمُحْصَنَ " 1182 - عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أنَّ رَجُلاً مِنْ أسْلَمَ أتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثَهُ أنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهد عَلَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فأمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أحْصِنَ ".   1033 - " باب رجم المحصن " (1) 1182 - معنى الحديث: يحدثنا جابر رضي الله عنه " أن رجلاً من أسلم " اسمه ماعز بن مالك الأسلمي " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهو في المسجد كما في الرواية الأخرى " فحدثه أنه قد زنى " أي فأخبره أنه قد ارتكب الفاحشة، واعترف على نفسه بالزنا " وشهد على نفسه أربع شهادات " أي أقر على نفسه بالزنا أربع مرات " فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم، وكان قد أحصن " أي فحكم عليه - صلى الله عليه وسلم - بالرجم بموجب إقراره، لأنه محصن، والمحصن حكمه الرجم كما في الآية المنسوخة. تلاوة والباقي حكمها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية رجم الزاني إذا كان محصناً أي متزوجاً قد دخل على زوجته وجامعها بنكاح صحيح، أما إذا عقد عليها، ولم يدخل بها، فإنه يكون غير محصن، ويجب عليه الحد لا الرَّجم. وفيه دليل على أنه يرجم فقط، ولا يجلد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفي برجمه، وهو مذهب الجمهور، خلافا لأحمد في رواية: أنه يجلد، ثم يرجم، لما في حديث علي رضي الله عنه أنه جلد المرأة الهمدانية ورجمها، وقال: "رجمتها   (1) بفتح الصاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 1033 - " بَابُ البِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ " 1183 - عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِى قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأمُرُ فيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَام ".   بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). ثانياً: أن جريمة الزنا تثبت بإقرار الزاني على نفسه كما في هذا الحديث، لأن المرء يؤخذ بإقراره، والإِقرار سيّد الأدلة، والحديث صريح في ذلك، حيث حكم النبي على الزاني بالرجم بموجب إقراره، قال في " تيسير العلام ": اختلف العلماء هل يشترط تكرار الإِقرار بالزنا أربع مرات، أو لا؟ فذهب الإمام أحمد وجمهور العلماء ومنهم الحكم وابن أبي ليلى والحنفية إلى أنه لا بد من الإقرار أربع مرات مستدلّين بهذا الحديث، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقم على ماعز الحد إلا بعد أن شهد على نفسه أربع مرات وقياساً على الشهادة بالزنا فإنه لا يقبل إلاّ أربعة شهود، ولا يشترط أن تكون الإقرارات في مجالس، خلافاً للحنفية، وذهب مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر إلى أنه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد، لحديث " اغد يا أُنيْسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " وإنما اعترفت مرة واحدة، وأجابوا عن حديث ماعز بأن الروايات في عدد الإقرارات مضطربة، أربع مرات ومرتين وثلاثاً. الحديث: أخرجه الشيخان وَأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قول جابر رضي الله عنه: " فأمر به فرجم ". 1033 - " باب البكران يجلدان وينفيان " 1183 - معنى الحديث: يقول زيد بن خالد رضي الله عنه:   (1) قال الحافظ في الفتح: زاد علي بن الجعد: " وجلدتها بكتاب الله " وفي رواية عن أحمد أيضاً: لا يجمع بينهما، كما هو رأي الجمهور. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر فيمن زنى " أي يأمر في كل من وقعت منه جريمة الزنا، رجلاً أو امرأة " ولم يُحْصَن (1) " أي ولم يكن متزوجاً ومجامعاً لزوجته بنكاح شرعي صحيح، فيدخل فيه من عقد على زوجته ولم يدخل عليها، أو من جامع سفاحاً. " جلد مائة وتغريب عام " منصوب بنزع الخافض، أي بجلد مائة جلدة وتغريب عام والمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر في كل زان محصن أن يجلد مائة جلدة وينفي من بلده لمدة سنة كاملة إلى مسافة القصر إذا رأى الإِمام ذلك. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن حد الزاني البكر رجلاً كان أو امرأة جلد مائة جلدة، ونفيه لمدة سنة كاملة، أما الجلد فقد ثبت بكتاب الله حيث قال عز وجل: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) وبهذا الحديث الشريف، وأما تغريب سنة، فقد ثبت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الباب هذا وغيره من الأحاديث الصحيحة الصريحة، فقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى فيمن زنى ولم يُحْصن بنفي عام، وإقامة الحد عليه. أخرجه البخاري. وعن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " أخرجه مسلم. قال أبو عيسى الترمذي: وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفي، ورواه أبو هريرة وزيد بن خالد وعبادة بن الصامت وغيرهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب، وأُبي بن كعب وغيرهم، وكذلك روي عن غير واحد من فقهاء التابعين، وهو قول سفيان الثوري ومالك ابن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد وإسحاق (2). اهـ. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجلد ولا ينفى، قال في " الهداية " (3): ولا   (1) بضم الياء وفتح الصاد على البناء للمجهول. (2) " جامع الترمذي ". (3) " أوجز المسالك على موطأ مالك " ج 3. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 يجمع في البكر بين الجلد والنفي، ولنا قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) لأنه جعل الجلد كل الموجب، ولأن التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة إلاّ أن يرى الإِمام في ذلك مصلحة واستدل بعضهم على عدم مشروعية النفي بحديث زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: " فوق هذا " فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: " دون هذا " فأتي بسوط قد ركب به ولان، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلد، ثم قال: " أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله " أخرجه مالك في " موطئه " (1) قالوا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث اكتفي بجلده. وأما الأحاديث التي ورد فيها النفي فقد حملوا النفي فيها على التعزير، وهو متروك إلى رأي الإِمام قال الحافظ: واختلف (2) القائلون بالتغريب، فقال الشافعي والثوري وداود بالتعميم وخص الأوزاعي النفي بالذكور، وبه قال مالك وقيّده بالحرية، وبه قال إسحاق، وعن أحمد روايتان، واختلف في المسافة التي ينفى إليها، فقيل: هو إلى رأي الإمام، وقيل: يشترط مسافة القصر. الحديث: أخرجه أيضاً بقية الجماعة. والمطابقة: في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمر في الزاني غير المحصن بالجلد والتغريب ". ...   (1) " موطأ مالك ". (2) " أوجز المسالك " ج 13. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 1034 - " بَابٌ كَمِ التَّعْزِيزُ والأدَبُ " 1184 - عَنْ أبِي بُرْدَةَ الأنْصَارِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إلَّا في حَدِّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ".   1034 - " باب كم التعزير والأدب " 1184 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لا يجلد فوق عشر جلدات (1) إلاّ في حد من حدود الله " أي لا يجلد أحد في عقوبة شرعية غير الحد أكثر من عشر جلدات فقط فلا تزيد العقوبة التأديبية في التعزير على عشر ضربات كما جاء مصرحاً به في حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يعزّر فوق عشرة أسواط. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: مشروعية التعزير وهو: عقوبة تأديبية موكولة إلى رأي الإمام، تقام على من ارتكب ذنباً لا يستوجب الحد الشرعي (2) المنصوص عليه، سواء كان هذا الذنب صغيرة أو كبيرة. واختلفوا: هل يجب إقامة عقوبة التعزير على من يستحقها أم لا؟ فقال بعضهم: يجب على الإمام إقامتها عليه كالحد تماماً، وهو قول مالك وأحمد، وعند الشافعي: التعزير ليس بواجب لما جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أصليت معنا؟ " قال: نعم، فتلا عليه (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) فإن هذا يدل على أن الإِمام مخير في إقامة التعزير على من يستحقه   (1) بفتح الجيم واللام والدال. (2) لأن العقوبات الشرعية نوعان. عقوبات مقدرة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كعقوبة الزنا وهي الحدود، وعقوبات غير مقدّرة كعقوبة الإفطار في رمضان ومنع الزكاة، وهذه هي التعزير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 وعدم إقامته عليه. ثانياًً: استدل به بعض أهل العلم على أن الحد الأعلى في التعزير عشرة أسواط لا يزاد عليها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الزيادة على ذلك إلاّ في حد من الحدود الشرعية، وهو مذهب أحمد والليث وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على العشرة، إلاّ أن الشافعي قال: على شرط أن لا يبلغ أدنى الحد، وقال الباقون وعلى رأسهم مالك رحمه الله: هو إلى رأي الإِمام بالغاً ما بلغ، وأجابوا عن حديث الباب، بأن المراد بحدود الله أوامره ونواهيه فكل من خالف ذلك بترك واجب أو فعل محرم فإنه داخل في الاستثناء، ولولي الأمر تعزيره بما شاء حتى يبلغ به الحد الذي يراه رادعاً وزاجراً له ولأمثاله. فبعضهم يكفيه التوبيخ، وبعضهم الضرب والجلد، وبعضهم الحبس، وبعضهم أخذ المال. والذين تندر منهم المعاصي وهم ذوو الهيئات ينبغي التجاوز عنهم كما أن المعاصي تختلف في كبرها وصغرها، فينبغي للحاكم ملاحظة الأحوال والظروف والملابسات، ليكون على بصيرة من أمره، وتكون تعزيراته واقعة موقعها. الحديث: أخرجه الستة. والمطابقة: في كون الحديث دل على الحد الأعلى للتعزير وهو ما ترجم له البخاري. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 بسم الله الرحمن الرحيم كتابُ الدِّيَات 1035 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعالى (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) " 1185 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا يَحِلُ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأني رَسُولُ اللهَ إلَّا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النفْسُ بِالنفْسِ، وَالثيبُ الزَّاني، والْمُفَارِقُ لِدِينِهِ، التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ ".   كتاب الديانات 1035 - " باب قول الله تعالى: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) " 1185 - معنى الحديث: حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المسلم إلا في جريمة شرعية تحل دمه، وحصر ذلك في عدد محدود فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " أي لا يجوز قتل مسلم يُقِرُّ بالأمرين، وينطق بالشهادتين " إلاّ بإحدى ثلاث " الباء للسببية أي إلاّ بسبب ارتكاب إحدى الجرائم الشرعية الثلاث. فإذا اقترف جريمة منها فإنه يقتل في بعضها قصاصاً، وفي بعضها حداً. الجريمة الأولى: " النفس بالنفس " أي أن النفس المسلمة تقتل قصاصاً بسبب قتلها عمداً لنفس مسلمة أخرى ظلماً وعدواناً، وهو مصداق قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ). الجريمة الثانية: " الثيب الزاني " أي أن يزني المسلم المتزوج، فإذا زنى بعد زواجه، فإنه يقتل رجماً بالحجارة كما جاء في الآية المنسوخة تلاوة، والباقي حكمها " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " ويكون قتله حداً، كما أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 القاتل يقتل قصاصاً. الجريمة الثالثة: " المفارق لدينه التارك للجماعة " أي أن يرتد المسلم عن دينه، ويخرج عن الإِسلام ويترك جماعة المسلمين وينضم إلى جماعة أخرى من الجماعات الكافرة، فهذا يقتل حداً بعد استتابته. فإن تاب وإلّا قتل. فهؤلاء الثلاثة يقتلون، لأن في قتلهم سلامة الأبدان والأعراض والأديان (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: تحريم قتل المسلم ذكراً كان أو أنثى صغيراً أو كبيراً بغير حق شرعي، فمن نطق بالشهادتين وأتى بما تقتضيانها واجتنب ما يناقضهما فهو المسلم المحرم الدم والمال والعرض، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم (2). ثانياً: تحريم هذه الجرائم الثلاث التي هي قتل النفس والزنا والردة عن الإِسلام، وكونها من الكبائر. ثالثاً: أن قاتل النفس المعصومة عمداً بغير حق شرعي يقتل قصاصاً، وهذا هو معنى قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (3) وهو ما ترجم له البخاري. رابعاً: أن الزاني الثيب - أي المحصن يقتل حداً، فكل حر مكلف سبق له أن جامع في نكاح صحيح رجلاً كان أو امرأة، إذا زنى، فعقوبته الرجم بالحجارة حتى الموت. خامساً: أن المرتد عن الإِسلام يقتل بعد استتابته ثلاثة أيام، فإن تاب وعاد إلى دينه، وإلّا قتل حداً. الحديث: أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي. والمطابقة: في قوله: " النفس بالنفس ". ...   (1) " تيسير العلام " ج 2. (2) أيضاً " تيسير العلام " ج 2. (3) ولا يقتل المسلم بالكافر عند الجمهور لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر " وقال أبو حنيفة يقتل المسلم بالكافر لعموم قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 1036 - " بَابُ دِيَة الأصَابِعَ " 1186 - عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " هَذِهِ وهَذِهِ سَوَاءٌ، يَعْنِي الخِنْصَرَ، والِإبهَامَ ".   1036 - " باب دية الأصابع " 1186 - معنى الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى الخنصر والإِبهام وقال: " هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإِبهام " متساوية في الدية، وإن كانت الخنصر أكثر مفصلاً من الإِبهام إلا أنه لا فرق بينهما في الدية، لأن دية الأصابع واحدة وهي عشر من الإِبل لكل أصبع. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن الأصابع متساوية في الدية لا فرق بين صغيرها وكبيرها، كما أنه أيضاً لا فرق بين أصابع اليدين والرجلين، وقد جاء ذلك مفصلاً في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أصابع اليدين والرجلين سواء، عشرة من الإِبل لكل أصبع " أخرجه الجماعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن (1) صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة (2) وهو المشهور من مذهب مالك حيث قال: " وفي كل أصبع عشرة " قال في الرسالة (3) وفي كل أصبع عشر من الإبل، وفي الأصبع الزائدة ما في الأصلية حيث كانت مساوية للأصل. الحديث: أخرجه أبو داود   (1) " جامع الترمذي ". (2) " تحفة الأحوذي " ج 4. (3) " الرسالة " لابن أبي زيد القيرواني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 1037 - " بَابُ مَنِ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْم فَفَقَئوا عَيْنَهُ فَلا دِيَةَ لَهُ " 1187 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أبو القَاسِمَ - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ أنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ ".   والترمذي والنسائي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " هذه وهذه سواء " وهو ما ترجم له البخاري. 1037 - " باب من أطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له " 1061 - معنى الحديث: يقول - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن امرءاً اطلع عليك " أي نظر إلى بيتك من ثقب الدار ونحوه " بغير إذن " وفي رواية ولم تأذن له أي والحال أنه ما وقع منك إذن له بالدخول " فخذفته " من الخذف، وهو الرمى بالأصبعين، أي فرميته " بحصاة " أو عود أو نحوها " ففقأت عينه " أي فقلعت عينه " ما كان عليك جناح " أي فلا إثم عليك ولا قصاص ولا دية (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: جواز رمي من يتجسس ولو لم يندفع إلا برميه بشيء يؤذيه، وأنه إن أُصيبَ فقلعت عينه أو أصيب عضو منه فتلف فهو هدر، وهو مذهب الجمهور، وذهب المالكية إلى أنه يجب عليه القصاص (2)، وأنه لا يجوز قصد العين ولا غيرها، لأن المعصية لا تدفع بالمعصية، وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه لا يسمّى معصية. ثانياً: قال   (1) كما في رواية أخرى حيث قال - صلى الله عليه وسلم - " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية ولا قصاصاً رواه أحمد في المسند، والنسائي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح (ع). (2) " فتح الباري " ج 12. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 الحافظ: وفيه مشروعية الاستئذان على من يكون في بيت مغلق، ومنع التطلع عليه من خلل الباب، وأن الاستئذان لا يختص بغير المحارم، بل يشرع على من كان منكشفاً ولو كان أماً أو أختاً. الحديث: أخرجه الشيخان وأحمد في مسنده. والمطابقة: كما قال العيني (1): تؤخذ من قوله: " لم يكن عليك جناح " أي حرج. ...   (1) " عمدة القاري شرح البخاري " للعيني ج 24. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب التعبير " قال الحافظ: التعبير خاص بتفسير الرؤيا، وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها، ويقال: عبرت الرؤيا: إذا فسرتها وعبرتها بالتشديد للمبالغة في ذلك. اهـ. وقد استطاع علماء المسلمين من خلال ما قصه الله عز وجل علينا في القرآن من رؤى وتفسيرها كرؤيا يوسف، ومن خلال الرؤى التي رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفسرها، ورآها أصحابه، وفسَّرها لهم، ومن خلال القواعد المستنبطة والاستقراءات الواسعة أن يتوصلوا إلى تفسير الرؤيا الصادقة، والتمييز بينها وبين غيرها من الرؤى الشيطانية والنفسية، وأن يعرفوا ماذا تعني رموز الرؤى الربانية، لأن الغالب في الرؤى أن تكون رمزية، كما نرى ذلك واضحاً في رؤيا يوسف عليه السلام، والتعبير خاص بالرؤيا الصادقة الصحيحة، وليس كل ما يراه الإنسان يكون صحيحاً، وإنما الصحيح ما كان من الله تعالى. وقد يكون ظاهرها مخيفاً وباطنها مبشراً. ولهذا كان التأويل الخاطىء (1) في غاية الخطورة حتى قالوا: إن تعبير الرؤيا في كثير من الأحوال يشبه الفتوى، ولكل رؤيا مفاتيحها وقد يكون مفتاحها في اسم أو إشارة خفية. ولما كانت الرؤيا تغلب عليها الرمزية، فإن المعبر قد يخطىء في تفسيرها كثيراً، ولذللث كان التعبير ظنياً لا قطعياً، ولهذا قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا) أما أنواع الرؤيا فقد تحدثنا عنها في مواضع كثيرة: منها " باب كيف كان بدء الوحي " عند أول حديث عائشة حيث قالت: "أول ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة ".   (1) " أوجز المسالك " ج 15. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 1038 - " بَابُ الرُّؤيَا مِنَ اللهِ " 1188 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِذَا رَأى أحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فإنَّمَا هِيَ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فإنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيَطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، ولا يَذْكُرْهَا لأحَدٍ فإنَّهَا لا تَضُرُّهُ ".   1038 - " باب الرؤيا من الله " (1) 1188 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله " أي إذا رأى في منامه ما يسرّه فإنما هي بشارة له " فليحمد الله " أي فليشكر الله عليها، لأنها نعمة من نعمه، أو لأنهاه تبشره بنعمة " وليحدث بها " من يوده ويثق به لما جاء في حديث مسلم " فإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر إلاّ من يحب " " وإذا رأى غير ذلك مما يكره " من الرؤيا القبيحة التي يكره صورتها، أو يكره تأويلها " فإنما هي من الشيطان " أي فإنما هي خيالات شيطانية يصوّرها الشيطان لنفس النائم في منامه، ليخوفه بها من ذلك أن يريه وحشاً يفترسه ولا حقيقة لذلك في الواقع " فليستعذ من شرها " عند انتباهه من نومه ليستجير بالله ويتحصّن به منها (2) " ولا يذكرها لأحد " أي ولا يخبر بها أحداً على وجه التعبير، ولو كان حبيباً " فإنها لا تضره " أي فإنه إذا استعاذ بالله منها، ولم يحدِّث بها أحداً، ولم يعبرها له أحد لم تؤذه، بخلاف ما لو عبرها له أحد، فإنه يخشى من وقوعها، لأن الرؤيا كما في الحديث " على رجل طائر إذا عبرت وقعت ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة:   (1) يريد رحمه الله تعالى أن التعبير الإسلامي يفرّق بين الرؤيا الصادقة والرؤيا الشيطانية في التسمية، فيسمى الأولى رؤيا، ويسمى الثانية حلماً للتمييز بينهما، بخلاف اللغة. (2) أي يسأل الله أن يحفظه من المخاوف والوساوس التي تحدثها في نفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنّها من الله ". فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الرؤيا نوعان: (أ) رؤيا حسنة: تسر النفس وهي تضاف إلى الله تعالى، وتسمى " رؤيا صالحة " وإنما تضاف إلى الله عزّ وجل تشريفاً، وتكريماً لها، كما يضاف إليه كل شيء جميل، أو لأنها بشارة من الله تعالى لمن يراها. (ب) ورؤيا سيئة تخيف الرائي، وتفزعه، وهذه تضاف إلى الشيطان وتسمى حلماً، وفي الواقع أن كل ما يراه النائم في منامه يسمى رؤيا وحلماً معاً، ولكن كما قال القاري: غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشر والأمر القبيح وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرواية الأخرى: " الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان " قال العيني: وهذا العرف شرعي، وإلا فالكل يسمّى رؤيا. ثانياًً: أنه يستحب لمن رأى رؤيا صالحة - أي رؤيا حسنة تسر بها نفسه أن يشكر الله عليها، لأنها نعمة، وأن يحدث بها أحبابه الذين يثق بهم، ويطمئن إلى علمهم ورجاحة عقلهم، وفي الحديث: " لا تحدث بها إلاّ لبيباً أو حبيباً " وفي رواية: لا يقصُّ إلاّ على عالم أو ناصح، لأن العالم يؤولها على الخير مهما أمكن، والناصح يرشد إلى ما ينفع، والحبيب إن عرف خيراً قاله، وإن جهل أو شك سكت، فهؤلاء خير من يتحدث إليهم. ويستحب لمن رأى ما يكره وأراد السلامة من تلك الرؤيا أن يفعل ما يأتي: الأول: أن يستعيذ بالله من شرّها بعد أن ينفث عن يساره ثلاثاً لما في حديث أو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات، وليستعذ بالله من شرها، فإنها لا تضره " أخرجه الشيخان والترمذي وروي في أثر صحيح عن إبراهيم النخعي قال: فليقل إذا استيقظ أعوذ بالله بما عاذت به ملائكة الله ورسله من شر رؤياي هذه أن يصيبني فيها ما أكرهه في ديني ودنياي. اهـ. الثاني: أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، لما في بعض الروايات: " وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ". الثالث: أن يصلي ركعتين كما في حديث أبي هريرة "فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليصلّ ولا يحدث بها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 1039 - " بَابُ مَنْ رَأى النَّبَِّي - صلى الله عليه وسلم - في المَنَامِ " 1189 - عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأى الحَق، فَإن الشيطَانَ لا يَتَكَوَّنُنِي ".   الناس" رواه مسلم. الرابع: كما في حديث الباب: لا يذكرها لأحد لأنها تقع على ما تفسر به (1). 1039 " باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام " 1189 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من رآني فقد رأى الحق " وفي رواية أخرى للبخاري في كتاب العلم: " من رآني في المنام فقد رآني " والمعنى كما قال العيني: أنه رأى رؤيا صحيحة ثابتة لا أضغاث أحلام " فإن الشيطان لا يتكوّنني " أي لا قدرة له على أن يتمثل بي. الحديث: أخرجه الشيخان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن رؤيا المسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام رؤيا صادقة، ورؤيا حق، لأن الشيطان لا قدرة له على التشكل بصورته، ولكن متى يقال فيه: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام؟ هناك علامة فارقة يستطع بها المرء أن يعرف من رآه هل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره؟ فإن كان الذي رآه على صورة شبيهة بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتة بالنقل الصحيح عنه في سنته فهو النبي - صلى الله عليه وسلم، وإن كان مخالفاً لصورته - صلى الله عليه وسلم - المعروفة في سنته، بأن رآه طويلاً أو قصيراً جداً، أو شديد السمرة، أو نحو ذلك، فإنه لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. كما أفاده العيني. والمطابقة: في كون الحديث بمنزلة الجواب للترجمة.   (1) كما في حديث أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت " رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، وهو حديث صحيح. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 بسم الله الرحمن الرحيم " كِتاب الفتن " الفتن لغة: جمع فتنة من الفتن، وهو في الأصل كما قال الراغب: إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته. ثم أطلقت الفتنة على اختبار الله تعالى لعبده بالخير والشر فالأول: محنة مقتضية للصبر، والثاني محنة مقتضية للشكر، وكلاهما فتنة. بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر (1). والمراد بالفتن: هنا ما يبتلى به العبد في حياته من المصائب، فإن كان ذلك من الأمور الخارجة عن مقدوره كالأمراض والأسقام فهي ابتلاء من الله لعبده، واختبار لإيمانه، فإن صبر عليها فله البشرى، وإن جزع فله السخط. قال علي رضي الله عنه: " إن الذهب يجرّب بالنار، وإن العبد الصالح يجرّب بالبلاء ولن تبلغ ما تؤمل إلّا بالصبر على ما تكره " وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج كالذهب الإِبريز فذلك الذي نجّاه الله تعالى من السيئات، ومنهم من يخرج كالذهب دون ذلك، فذلك الذي يشك بعض الشك، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد أفتتن " رواه الحاكم (2). وقال ابن القيم (3): من خلقه الله تعالى للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات، فمن صبر على البلوى ورضي بقضاء الله فهنيئاً له بما بشّر الله عباده الصابرين. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت   (1) تعليقات الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة على " هداية المسترشدين ". (2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال: هذا صحيح الإسناد، وأقره الذهبي على صحته. (3) " كتاب الفوائد " لابن القيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 1040 - " بَابُ ظُهُورِ الفِتَنِ " 1190 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيَنْقُصُ العِلْمُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الفِتَنُ، ويَكْثُرُ الْهَرْجُ " قَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ أيمَا هُوَ؟ قَالَ: " القَتْلُ القَتْلُ ".   رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلاّ أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها " قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن كانت الفتن من الأمور الداخلة في مقدور العبد فإنه يكون مسؤولاً عنها ومن ذلك: 1 - ارتكاب المعاصي، فإنها فتنة يعاقب عليها العبد، بل قد تتعدى العقوبة فيها من الفرد إلى الجماعة في الدنيا. ولو كان فيهم الصالحون، ففي الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمّهم الله بعذاب من عنده " رواه أحمد. 1040 - " باب ظهور الفتن " 1190 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهو يتحدث عن أشراط الساعة وعلامات آخر الزمان الدالة على إدبار الدنيا وانتهاء هذه الحياة " يتقارب الزمان " أي من علامات الساعة أن يتقارب الزمان فتقصر السِّنون والأعوام والشهور والليالي والأيام فتصبح السنة كالشهر " وينقص العلم " بموت العلماء أو يرفع العلم النافع المقترن بالعمل الصالح " ويلقى الشح " أي ينتشر البخل الشديد على اختلاف أنواعه، ويتمكن من قلوب الناس حتى يبخل الغني بماله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 ويبخل العالم بعلمه، ويبخل الصانع بصناعته، " وتظهر الفتن " أي تتكاثر الأمور الكريهة التي تضر الناس في دينهم ودنياهم من الخيانة والظلم والحرائق والزلازل وانتشار المعاصي " ويكثر الهرج " أي ويكثر قتل الناس بعضهم لبعض ظلماً وعدواناً لمجرد هوى النفس وإشباع رغباتها الخبيثة، أو استجابة لبعض الأفكار والآراء الهدامة التي تخدم أعداءهم وهم لا يشعرون. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من علامات الساعة كثرة ظهور الفتن والأمور الكريهة، ومن ذلك أن يتمكن الشح من نفوس الأغنياء فيكفوا أيديهم عن البذل والعطاء والإِنفاق على غيرهم من المعوزين، فيزول التعاطف والتضامن، وترتفع المحبة، وتحل مكانها العداوة والبغضاء، وتشتد حتى يتدابر الناس، ويتطاعنون، ويتقاتلون، ويكثر القتل وسفك الدماء، كما قال: " ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج ". ثانياًً: أن الأمة الإِسلامية متى فقدت العلم الشرعي النافع انتشر فيها الشح، وظهرت الفتن، وكثر القتل. فالشح يظهر فيها بسبب جهلها بدينها، وعدم العمل به، ومتى ظهر فيها الشح كثر فيها القتل، لأنه نتيجة حتمية لحرص الناس على المال، وبخلهم به عن الفقراء وتنافسهم عليه كما في الحديث عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه فإن هذا الحديث يشير كما أفاده القاري إلى أن الأمم السابقة إنما هلكت بسبب انتزاع الرحمة من قلوب الأغنياء، وقسوتهم على الفقراء، فبخلوا بأموالهم عليهم، فحقد عليهم الفقراء، وانتشرت بينهم العداوة والبغضاء، حتى أدى بهم ذلك إلى القتال وسفك الدماء فهلكوا. الحديث: أخرجه الشيخان وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " وتظهر الفتن ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 1191 - عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت النبي - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أحْيَاءٌ ". 1041 - " بَاب تكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خيْرٌ مِنَ القَائِمِ " 1192 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيها خَيْرٌ مِنَ القَائِم،   1191 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من شرار الناس " أي من أسوأ الناس عقيدة وعملاً " من تدركهم الساعة وهم أحياء " أي الذين يعيشون في آخر الزمان فتقوم الساعة وهم على قيد الحياة فلا يبقى عند قيام الساعة إلّا شرار الخلق من الكفار والمنافقين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من الإِيمان إلاّ قبضته " أخرجه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " أخرجه مسلم وأحمد والترمذي هذا حديث حسن (1). فقه الحديث: دل هذا الحديث على انقراض أهل الدين والخير والإِيمان في آخر الزمان، حتى لا يبقى عند قيام الساعة إلاّ الأشرار فقط من الكفار والمنافقين والفاسقين. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون الحديث يدل على قيام الساعة على أشرار الناس وهذا من أعظم الفتن. 1041 - " باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم " 1192 - معنى الحديث: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا في حديثه هذا وهو   (1) وفي رواية عند أحمد في المسند " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله ومسندها صحيح. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْر مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْر مِنَ السَّاعِي، مَن تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلجأ أوْ مَعَاذاً فَلْيَعُذْ بِهِ".   الصادق المصدوق أنها ستقع بين المسلمين فتن دموية عظيمة، تنشب فيها الحروب، من أجل خلافات سياسية منشؤها (1) التنازع على السلطة والتنافس على الوصول إلى مراكز النفوذ والسلطان. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من التورط في هذه الفتن، والمشاركة بالقتال فيها، وبَيَّنَ أنَّ الناس تجاهها أربعة أقسام، قاعد عنها لا يشترك في حروبها ولا يساهم بالقتال فيها، وإنما ينظر إليها من بعد وقائم بها مشارك في حروبها ومعاركها يقاتل فيها بنفسه وماله، وداعٍ إليها ومتسبب في وجودها وإثارتها وهم الحكام والرؤساء الذين هم السبب الرئيسي فيها، فالقسم الأول: وهو القاعد عنها هو وحده الذي يسلم من شرورها وآثامها، أما بقية الأقسام الثلاثة فإنّها قد تورطت في شر هذه الفتن، ووقعت في معصية الله. وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والقائم فيها خير من الماشي " أي المشارك بالقتال فيها فقط أخف إثماً من الداعي لها القائم بأسبابها، والداعي لها عاص شديد العصيان، ولكنه أخف معصية من زعيمها ورئيسها المتسبب في وجودها، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والماشي فيها خير من الساعي " أي والداعي لها أخف إثماً من المتسبب الرئيس في إثارتها وإيجادها: قال ابن التين: " يعني أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سبباً لإثارتها، ثم من يكون قائماً بأسبابها، وهو الماشي، ثم من يكون مباشراً لها، وهو القائم، ثم من يكون من النظارة ولا يقاتل وهو القاعد. اهـ. ثم حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من التورط فيها فقال: " من تشرّف لها تستشرفه " بالجزم أي من   (1) أي ليس فيها طرف ظالم وطرف مظلوم، وإنما هي بين طائفتين ظالمتين كما سيأتي في كلام النووي رحمه الله، سنذكره في فقه الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 1042 - " بَابُ خرُوجِ النَّارِ " 1193 - عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ أعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى ".   تطلع لتلك الفتن التهمته بنارها " فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به " أي من استطاع أن يبتعد باعتزال جميع الفرق والتزام الحياد فليفعل. فقه الحديث: قال النووي: هذا الحديث وما في معناه مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته، وطلبوا قتله، فلا يجوز له المدافعة عن نفسه، وهذا مذهب أبي بكرة رضي الله عنه وغيره، وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها إلاّ إن قصد الدفاع عن نفسه، وقال معظم الصحابة والتابعون وعامة علماء الإِسلام: يجب نصر المحق في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين كما قال تعالى: " فقاتلوا التي تبغي " الآية، قال النووي: وهذا هو الصحيح. وتأول الأحاديث. على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين (1) لا تأويل لواحد منهما. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون الترجمة جزءاً من الحديث. 1042 - " باب خروج النار " 1193 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز " ومن المدينة المنورة بالذات، فإذا خرجت " تضيء أعناق الإِبل في بصرى " أي يبلغ ضوؤها أعناق الإِبل في بصرى من أرض الشام.   (1) والمراد بالفتن التي يحرم الاشتراك فيها ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 1043 - " بَابُ ذكر الدجال " 1194 - عَن أَنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إلَّا أنْذَرَ أمَّتَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا إنَّهُ أَعْوَرُ، وَإنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وِإنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على أن من علامات الساعة ظهور هذه النار من الحجاز، قال القرطبي في " التذكرة ": " وقد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء لبدء العتمة - أي العشاء الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، قال: وسمعت أنها رؤيت من مكة وجبال بصرى، قال النووي: وتواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام. اهـ. ويرى الباحثون أنّها انفجار بركاني في حرة قريظة (1). الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: ظاهرة. 1043 - " باب ذكر الدجال " 1194 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث نبي إلاّ أنذر أمته الأعور الكذاب " أي ما من نبي مرسل إلاّ وقد حذّر قومه من المسيح الدجال الأعور الكذاب، وحدثهم عن صفاته وأخباره، ليكونوا منه على حذر. " ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور " أي فتنبهوا أيها المسلمون إلى أهم علاماته الواضحة التي أذكرها لكم العلامة الأولى: كونه أعور ناقص الخلقة، والرب سبحانه وتعالى كامل في ذاته وصفاته، منزه عن العيب والنقصان.   (1) الواقعة شرقي المدينة أو في الجنوب الشرقي منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 والعلامة الثانية: أنه "وإن بين عينيه مكتوب كافر" أي أنه مكتوب بين عينيه كـ ف ر بحروف متقطعة يقرأها كل مسلم كاتب أو غير كاتب، ولا يقرؤها الكفار. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي. فقه الحديث: دل هذا الحديث على علامتين مرئيتين من علامات الدجال المحسوسة: الأولى: كونه أعور مشوّه الصورة، والرب عزّ وجل في غاية الجمال والكمال، منزّه عن كل عيب ونقصان. والثانية: أنه مكتوب بين عينيه كـ ف ر. فتلك علامتان لا تخفيان إلاّ على شقي قد أعمى الله بصيرته. والمطابقة: في قوله: " أنذر قومه الأعور الكذاب ". *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الأحكام " 1044 - " بَابُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِمَامِ مَا لَمْ تكُنْ مَعْصِيَةً " 1195 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ رَأَى من أَمِيرِهِ شَيْئَاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِر، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَيَمُوتَ إلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".   كتاب الأحكام المراد بالأحكام هنا الأحكام المتعلقة بولي الأمر ما له وما عليه. 1044 - " باب السمع والطاعة للإِمام ما لم تكن معصية " 1195 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر " أي فليتحمل منه ذلك المكروه والظلم الذي أصابه، ولا يخرج عن طاعته لظلم ناله منه، أو لمعصية ارتكبها، إلا إذا رأى منه كفراً صريحاً، أو تحليلاً لما حرم الله، أو تحريماً لما أحلّه، أو حكماً بغير ما أنزل الله (1) " فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً " والمعنى ما من أحد يفارق جماعة المسلمين، ويخرج عن طاعة ولي الأمر ويعصيه أقل عصيان " فيموت إلاّ مات ميتة جاهلية " أي كميتة (2) أهل الجاهلية حيث لا يرجعون إلى طاعة أمير، ولا يتبعون هدى إمام قال الحافظ: وليس المراد أنه يموت كافراً بل يموت عاصياً.   (1) وكذلك إذا أمره بمعصية، أو نهاه عن طاعة، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. (2) شرح القسطلاني على البخاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 1045 - " بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الحِرْصِ عَلَى الإِمَارَةِ " 1196 - عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وبئْسَتِ الفَاطِمَةُ ".   فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن من الفتن التي يصاب بها العبد السلم أن يرى من ولي الأمر شيئاً من المعاصي والظلم، فيجب عليه في هذه الحالة الصبر والسمع والطاعة، محافظة على جماعة المسلمين، ما دام لم ير منه كفراً صريحاً، ولم يكرهه على معصية، لما جاء في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " السمع والطاعة كل المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا جمع ولا طاعة "، أخرجه الشيخان وأبو داود. ثانياًً: التحذير الشديد من الخروج على إمام المسلمين، وكونه كبيرة من الكبائر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية " فإن هذا الوعيد الشديد لا يترتب إلّا على مرتكب الكبيرة وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لا في ذلك من حقن الدماء. ثالثاً: استدل به الأصوليون على حجيّة الإِجماع. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ". 1045 - " باب ما يكره من الحرص على الإمارة " 1196 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم ستحرصون على الإِمارة " أي ترغبون أشد الرغبة في تولّي الإِمارة وغيرها من الأعمال الحكومية ذات النفوذ والسلطان، كالقضاء، والشرطة وغيرها، "وستكون ندامة يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 القيامة" لمن لم يكن لها أهلاً، حيث يعاقب أشد العقوبة على عدم القيام بمسؤولياتها " فنعم المرضعَة " أي فما أحسن الوظيفة عندما يتولاها صاحبها في الدنيا فيتمتع بعزها ومركزها ونفوذها، " وبئست الفاطمة " أي وما أسوأ الوظيفة وما أشد ضررها على صاحبها يوم القيامة -إن لم يقم بواجباتها- حيث يسأل عما عمله فيها ويحاسب على تفريطه، وعدم قيامه بمسؤولياتها، فيشتد عذابه، وتنقطع عنه لذاتها، وتبقى له حسراتها، فيكون حاله كحال الرضيع عند فطامه عن ثدي أمه. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن الولاية أياً كان نوعها مسؤولية خطيرة، سواء كانت إمارة أو قضاء أو شرطة. يجب ألا يتولاها إلّا من تتوفر فيه الشروط اللازمة والصلاحية التامة لها، قال ابن تيمية: فيجب على ولي الأمر أن يولّي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من استعمل رجلاً من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين " (1) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين. وقد دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر رضي الله عنه في الإِمارة: " إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذ بحقها وأدّى الذي عليه فيها " رواه مسلم. أما شروط الولاية فأهمها كما قال ابن تيميّة: ركنان القوة والأمانة (2)، كما قال تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خُدْعة والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم   (1) وفي سنده حسن بن قيسي الرحبي، وهو متروك. (ع). (2) " السياسة الشرعية " لابن تيمية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 بالعدل والقدرة على تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله وترك خشية الناس، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ". واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، قال عمر: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فيقدم في إمارة الحروب كما قال ابن تيمية الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، فقد سئل الإِمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أمّا الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيُغزى مع القوي الفاجر. قال ابن تيمية: وإن كانت الحاجة في الولاية (1) إلى الأمانة أشد قدم الأمين، مثل حفظ الأموال، قال: ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، قدم فيما يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. ثانياً: أنه يحرم طلب الولاية (2) لمن لم يكن لها أهلاً لجهله أو لضعفه أو لغلبة الهوى عليه، فقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم تحرصون على الإِمارة، وستكون ندامة يوم القيامة " أي تكون ندامة على من لم يقم بمسؤولياته فيها ولم يؤدّ حق الله وحق العباد أثناء قيامه بها، لأنها أمانة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلاّ لم يجد رائحة الجنة " أخرجه الشيخان. الحديث: أخرجه أيضاً النسائي. والمطابقة: في تحذيره - صلى الله عليه وسلم - من الحرص على الإِمارة، وهو ما ترجم له البخاري.   (1) " السياسة الشرعية " لابن تيمية. (2) ويكره طلبها أيضاً لمن توفرت فيه شروطها لما ورد أن من سألها وُكِلَ إليها، إلاّ إذا تعينت عليه، وتبين بحق أنه لا يصلح لها غيره، فإنه يطلبها، كما فعل يوسف حين قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " أمّا الكتاب: فيراد به القرآن الكريم وقد اشتمل على موضوعات كثيرة "، أهمها العقائد ثم الأحكام الشرعية، فإن في القرآن ما يقارب المائة والأربعين آية في أحكام العبادات، ونحواً من ثلاثين آية في الجنابات، ونحواً من سبعين آية في المعاملات المالية. أما الاحتجاج بالقرآن فقد اتفق المسلمون على أن هذا الكتاب الإلهي حجة شرعية، وأن ما ورد فيه من أحكام يجب اتباعه والعمل به كقانون سماوي لا يجوز مخالفته، فهو مصدر تشريع وهداية باتفاق الأمة، وقد انعقد الإجماع على أنه أساس الشريعة الأوّل في جميع الأزمان وسائر العصور. أما السنة: فإنها تطلق على معان ثلاثٍ. الأول: ما جاء منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، ويدخل في ذلك جميع الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: ما يقابل البدعة، يقال فلان على سنة إذا عمل على وفق (1) ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيراد بالسنة هنا ما وافق القرآن أو الحديث النبوي ويقال فلان على بدعة إذا كان على خلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، المراد بالبدعة ما خالف القرآن والحديث النبوى منطوقاً أو مفهوماً. الثالث: ما استقر عليه عمل الصحابة رضوان الله عليهم وإن لم نقف على مأخذه (2) لأنهم عملوه اتباعاً لحديث لم يصل إلينا، أو اجتهاداً مجمعاً عليه كما فعلوا في جمع المصحف، وتدوين الدواوين، وصلاة التراويح، فإنها تدخل في السنة بهذا المعنى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " ومن الطرائف ما روي أن رجلاً حلف   (1) " أصول الفقه " للشيخ محمد الطاهر النيفر. (2) " أصول الفقه " للشيخ محمد الخضري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 أن لا يطأ زوجته حيناً فأفتاه أبو بكر بأن الحين الأبد، وأفتاه عمر بأنه أربعون سنة (1)، وعثمان بأنه سنة واحدة، وعلي بأنه يوم وليلة، فعرض الرجل ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فقال لأبي بكر: ما دليلك على أن الحين الأبد؟ قال: قوله تعالى في حق قوم يونس: (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي أبقيناهم متمتعين إلى يوم القيامة. وقال لعمر: ما دليلك على أن الحين أربعين سنة؟ قال: قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) فالإِنسان آدم، وقد ألقيت طينته على باب الجنة أربعين سنة، وقال لعثمان: ما دليلك على أنه عام؟ قال: قوله تعالى: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) أي تعطي النخلة ثمرها كل عام. وقال لعلي: ما دليلك على أنه يوم وليلة؟ قال: قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) فأثنى عليهم - صلى الله عليه وسلم - جميعاً - وأمر الرجل أن يأخذ بقول علي تخفيفاً عليه (2). " أما تقسيم السنة من جهة السند " فإن السنة تنقسم من حيث السند إلى ثلاثة أقسام. الأول السنة المتواترة: وهي التي يرويها جمع غفير يستحيل تواطؤهم على الكذب عن مثلهم عن مثلهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والأحاديث المتواترة قليلة جداً، وقد مثل لها ابن الصلاح بحديث " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " وذكر البزار أنه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو أربعين رجلاً من الصحابة رضوان الله عليهم (3) وليس في الدنيا حديث اجتمع هذا العدد على روايته غيره. والأحاديث المتواترة موجودة وإن كانت نادرة، وقد جمعها العلماء في تآليف خاصة منها " الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة " للسيوطي (4) و " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " لأبي عبد الله محمد   (1) شرح الجرداني على الأربعين النووية. (2) وسنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. (ع). (3) وفيهم من قال: رواه نحر المئتين. (ع). (4) المتوفي سنة (911) هـ و" عقد اللآلىء المتناثرة في الأحاديث المتواترة " للمرتضى الزبيدي المتوفي سنة (1205) هـ. (ع). الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 1046 - " بَابُ الاقتِدَاءِ بِسُنَنَ رَسُولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - " 1197 - عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ   ابن جعفر الكتاني (1). وهي أقوى السنن وأعلاها وتفيد القطع والعلم اليقيني، ولذلك اتفق أهل العلم على أنه يحتجّ بالحديث المتواتر في جميع الأحكام الشرعية سواء كانت اعتقادية أو عملية فقهية. الثاني السنة المشهورة: وهي التي يرويها عدد يبلغ حد التواتر في العصور كلها، ما عدا القرن الأوّل - وهو عصر الصحابة رضي الله عنهم، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " كما حققه الفخر الرازي. الثالث: الآحاد: وهي التي يرويها عدد لا يبلغ حد التواتر في كل العصور، ويكثر وجودها ويعمل بها في الفروع والأحكام الفقهية، فهي تفيد الظن الراجح عند جمهور العلماء، وتفيد اليقين عند بعض العلماء على تفصيل في المسألة ومعنى الاعتصام بالكتاب والسنة العمل بهما في جميع الأحكام كالعقائد والعبادات والمعاملات والجنايات والأحوال الشخصية ومن الاعتصام بالكتاب والسنة الاحتجاج بهما واعتقاد أنهما أصلان من أصول التشريع الإِسلامي. 1046 - " باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " 1197 - معنى الحديث: جاء في " صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي الله عنه (2) قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل: أكل عام يا رسول الله، فسكت حتى قالها   (1) المتوفي سنة (1327) هـ ولكن قد تساهلوا وزادوا فيها أشياء كثيرة. (ع). (2) " فتح الباري " ج 13. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 بِسُؤَالِهِمْ، وإخْتِلافِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ، فإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ، وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فَأقُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ".   ثلاثاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: " ذروني ما تركتكم " أو كما قال في حديثنا هذا " دعوني ما تركتكم " والحديثان راويهما واحد، وموضوعهما واحد، ومعناهما واحد. قال ابن علان (1) في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " دعوني ما تركتكم، أو ذروني ما تركتكم كما في رواية مسلم معناه: لا تكثروا الاستفصال في المواضع التي تفيد وجهاً ظاهراً، وإن صلحت لغيره كما في قوله: " فحجوا " فإنه وإن أمكن أن يراد به التكرار ينبغي أن يكتفى منه بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة الواحدة، فإنها مفهومة من اللفظ قطعاً، وما زاد مشكوك فيه، فيعرض عنه، ولا يكثر السؤال، لئلا يقع الجواب بما فيه التعب والمشقة. اهـ. " إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم " وفي رواية مسلم: بكثرة سؤالهم أي فإنما هلكت الأمم السابقة بسبب كثرة أسئلتهم لغير حاجة وضرورة، فإنها تشعر بالتعنت (2) كقولهم لموسى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) لما أمروا بذبح بقرة، ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لأجزأتهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم بكثرة السؤال عن حالها، وصفتها، فشدد الله تعالى عليهم، فلم يجدوا البقرة بذلك النعت إلاّ عند إنسان معين فشروها بوزنها ذهباً أو بملء جلدها ذهباً " واختلافهم على أنبيائهم " بالجرِّ لأنه معطوف على سؤالهم أي أنهم هلكوا بسبب كثرة سؤالهم، وكثرة مخالفتهم، وعصيانهم لأنبيائهم، كاليهود أمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة فأبوا وقالوا: نريد يوم السبت، فشدد الله عليهم، وحرّم عليهم صيد   (1) " دليل الفالحين " ج 1. (2) شرح الأربعين النووية للجرداني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 السمك فيه، وابتلاهم بأن ألهم السمك أن يجتمع كله في هذا اليوم، فلا يرى الماء من كثرته، فإذا مضى تفرق السمك، ولزم قعر البحر، فوسوس الشيطان لبعضهم بأنهم إنما نهوا عن أخذه يوم السبت، ولم ينهوا عن أخذه في غيره، ولو بالحيلة، فحفروا في جانب البحر حفرة كبيرة وجعلوا لها أنهاراً من البحر، فإذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فيقبل الموج بالحيتان إلى الحفرة، فيقع فيها، ولا يقدر على الخروج منها لعمقها، فإذا كان يوم الأحد أخذوه فأهلكهم الله ومسخهم قردة وخنازير " فإذا نقيكم عن شيء فاجتنبوه " أي فإذا منعتكم عن شيء فلا تفعلوه، وابتعدوا عنه كله. إذ الامتثال لا يحصل إلا بترك الجميع. " وإذا أمرتكم بأمر " أي وإذا طلبت منكم فعل شيء " فأتوا منه ما استطعتم " أي فافعلوا منه ما قدرتم عليه على قدر طاقتكم واستطاعتكم وجوباً في الواجب وندباً في المندوب. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: قال ابن علان استفيد منه تحريم الاختلاف وكثرة الأسئلة من غير ضرورة لأنه توعد عليه بالهلاك والوعيد على الشيء دليل تحريمه وعلى كونه كبيرة. قال أهل العلم: والاختلاف المذموم ما يؤدي إلى كفرٍ أو بدعة وأما الاختلاف في الفروع والأحكام والمسائل الفقهية فإنه غير منهي عنه، وقد اختلف الصحابة في الأحكام وأجمع المسلمون على جوازه ومشروعيته. وإنما كان الاختلاف المؤدّي إلى البدعة مذموماً لأنه يؤدّي إلى الزيغ والضلال، وتنافر المسلمين، وظهور الفتن، ونشوب المعارك الدامية، كما وقع في الأمة الإِسلامية من حروب بسبب الخوارج وغيرهم من الفرق الضالة والله أعلم. ثانياًً: وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بسنته، والعمل بأقواله وأفعاله وتقريراته والوقوف عندها أمراً ونهياً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " قال الدكتور عزت عطية: وفي آيات كثيرة يربط الله تعالى بين طاعته سبحانه وطاعة رسوله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 ويجعلهما شيئاً واحداً، فيجعل الأمر بطاعة الرسول مندرجاً في الأمر بطاعته، ليبين أن طاعته سبحانه لا تتحقق إلاّ بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونلمح ذلك في قوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) وقوله عز وجل: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ويجعل الخروج ولو مرة عن حد الاتباع والتسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ضلالاً واضحا وانحرافاً لا شك فيه فيقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). ثالثاً: أن السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإِسلامي. قال الإِمام الشافعي: " إن الله سبحانه قد قرن الإِيمان به بالإِيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإِيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بوجوب طاعته في أقواله وأفعاله ومقرراته أما الآراء التي تتعارض مع الاحتجاج بالسنة، فإنها آراء مشبوهة تعود إلى مذاهب هدامة نشأت بالبصرة في القرن الثاني للهجرة، وعاشت فيها وفرّخت وقد ذكر الإمام الشافعي أنه لقي زعماء هذه الطائفة بالبصرة واطلع على آرائهم. ويذكر الإِمام الشافعي " أن جملة (1) الآراء التي قامت في عصره حول السنة النبوية ثلاثة الأول: ينكر الاحتجاج بالسنة جملة، فلا حجة إلاّ في القرآن، ولا دليل إلّا ما كان مستمداً منه معتمداً عليه. الثاني: ينكر خبر الآحاد، ويقصر الاحتجاج على القرآن والحديث المتواتر. الثالث: لا يقبل من السنة إلاّ ما كان بياناً لحكم قرآني، لأن السنة في زعم هؤلاء لا حجة في ذاتها، وإنما هي مبينة للقرآن فقط، واحتج هؤلاء المنكرون لكون السنة مصدراً تشريعياً بأمور: منها: أن القرآن تكفل بتشريع الأحكام، فلا حاجة إلى مصدر آخر. ومنها: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ومنها: أنّ السنة لو كانت تشريعاً   (1) " أصول الفقه " للعلامة محمد الطاهر النيفر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 عاماً كالكتاب لأمر - صلى الله عليه وسلم - بتدوينها وقد أجيب عن هذه الشبهات الباطلة كلها بأجوبة حاسمة: أما الأولى: فليس صحيحاً أن القرآن تكفل بتشريع الأحكام كلها، لأنه ليس فيه إلاّ بعض الأحكام الشرعية العامة، وهناك الكثير من الأحكام الجزئية التفصيلية لا وجود لها في القرآن. كأركان الصلاة. وشروطها ومبطلاتها، وواجباتها، ونصاب الزكوات، وأحكام الصوم، ومفطرات الصائم، وأحكام المعاملات، والكثير من أحكام الجنايات، وتفاصيل الأحكام الشخصية. وأما الثانية: وهي الاستدلال بقوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) على أن القرآن قد بين كل شيء. فالجواب أن المراد بذلك أصول العقائد والقواعد الكلية العامة، كوجوب الصلاة والزكاة والحج وتحريم الفواحش لا الأحكام الجزئية التفصيلية فإنها غير موجودة. أما الثالثة: وهي قولهم: لو كانت السنة تشريعاً لأمر بتدوينها ولم ينه عنه، فالجواب أن هذا النهي كان في صدر الإِسلام لأنه - صلى الله عليه وسلم - خشي من اختلاط السنة بالقرآن، وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بكتابة حديثه لمن لم يتقنه، كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يكتب الأحاديث، فلامه الناس على ذلك، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " اكتب فوا الذي نفسي بيده ما خرج من بينهما -أي شفتيه الشريفتين- إلّا حق ". اهـ. والله أعلم. رابعاً: دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " على أن الشيء المأمور بفعله واجب بشرط الاستطاعة والقدرة عليه، وبقدر ما يقدر عليه منه، فما لا يدرك كله لا يترك جله. قال الجرداني: ويستفاد منه: أن من عجز عن بعض المأمور به لا يسقط عنه المقدور عليه، بل يجب عليه الإِتيان به، وهذا هو معنى قول الفقهاء: إن الميسور لا يسقط بالمعسور، فإذا عجز عن غسل بعض الأعضاء في الوضوء، أو عن مسحها في التيمم، أتى بالممكن، وصحت عبادته، وإذا عجز عن القيام في الصلاة بأن حصل له أي مشقة شديدة تذهب الخشوع أو كماله، صلّى قاعداً، فإن عجز عن القعود بهذا المعنى اضطجع على جنبه إلى آخره. الحديث: أخرجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 الشيخان، وأبو داود، مع اختصار بعض ألفاظه. والمطابقة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " حيث دلّ ذلك على وجوب العمل والاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ترجم له البخاري. *** الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب التوحيد والرد على الجهمية " التوحيد: لغة مصدر وحّد يوحّد، وهو الحكم بأن الشيء واحد. وأما التوحيد شرعاً: فهو الاعتقاد بأن الله واحد في ذاته وصفاته وأفعاله وعبادته. قال ابن القيم رحمه الله: أما التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب السماوية، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده. وإثبات عموم قضائه وقدره، وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإِفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وآل عمران. والثاني: وهو طلب التوحيد في القصد والألوهية كما تضمنته سورة الكافرون، وأول سورة تنزيل الكتاب وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي، وإما دعوة الرسل إلى عبادته وحده، وهو التوحيد الطلبي. قال الحافظ: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله وإنه مخلوق. وامتنعوا عن وصف الله بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد، حتى قال جهم بن صفوان: لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره. قال: وأصفه بأنه خالق ومحيي ومميت وموجود. أما جهم بن صفوان الذي عُني البخاري عناية خاصة بالرد على مذهبه، وتفنيد معتقده، فقد أخذ عقيدته الفاسدة عن الجعد بن درهم، وإن لم يعاصره، ولهذا قال البخاري: بلغني أن جهماً كان يأخذ عن الجعد بن درهم، وكان خالد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 1047 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالَى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) 1198 - عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يَقولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وَإنْ ذَكَرَنِي في مَلأٍ، ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وِإنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبْرَاً تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِرَاعاً، وإِنْ تَقَرَّبَ إليَّ ذِرَاعاً تَقرَّبْتُ إليْهِ بَاعاً، وإِنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ".   القسري وهو أمير العراق قد خطب فقال: إني مضحٍّ بالجعد بن درهم، لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، قال الحافظ: وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك. 1047 - " باب قول الله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) " 1198 - معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل " أنا عند ظن عبدي بي " قال الحافظ: أي أنا قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به، وهذا خاص بالعبد المؤمن، " فإن ذكرني " بالتسبيح والتهليل أو غيره " في نفسه " أي منفرداً عن الناس " ذكرته في نفسي " أي ذكرته بالثواب والرحمة في نفسي دون أن أطْلِع على ذلك أحداً من ملائكتي " وإن ذكرني في ملٍأ " أي في جماعة من الناس " ذكرته في ملٍأ خير منهم " وهم الملائكة " وإن تقرّب إلى بشبر " أي وإن تقرب إلي بالطاعات مقدار شبر " تقربت إليه ذراعاً " أي تقربت إليه بالرحمة والإِنعام مقدار ذراع " وإن تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً " أي مقدار باع " وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " أي وإن أتاني بالطاعات ماشياً أتيته بالرحمات مسرعاً، قال في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 " المصباح " هرول أسرع في مشيه، وهو بين المشي والعدو. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: الترغيب في حسن الظن في الله تعالى، قال الكرماني: في السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على جانب الخوف، وهو كما قال المحققون من أهل العلم: خاص بالمحتضر، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله " أخرجه مسلم. وأما قبل الاحتضار (1) فقد اختلف العلماء أيهما أفضل الخوف أم الرجاء على ثلاثة أقوال: (أ) الخوف أفضل (ب) الرجاء أفضل، (ج) الاعتدال أفضل، وقد قيل: الخوف والرجاء جناحا المؤمن، ومعنى حسن الظن بالله كما قال القرطبي: ظن القبول عند التوبة، والإِجابة عند الدعاء، والمغفرة عند الاستغفار، والثواب عند فعل العبادة بشروطها، تمسكاً بصادق وعده، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادعو الله وأنتم موقنون بالإِجابة ". اهـ. ثانياًً: إثبات أن لله تعالى " نفساً وذاتاً " لقوله تعالى: " ذكرته في نفسي " وهو ما تنكره الجهمية، حيثَ يقولون: إن الله ليس بشيء ولا حي، قال ابن بطال: " والمراد بنفس الله ذاته " والذي عليه أهل السنة أن لله ذاتاً موصوفة بصفات الكمال، قال في " شرح الطحاوية ": وليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال، وقال ابن بطال: أسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب. أحدها: يرجع إلى ذاته وهو الله. والثاني: يرجع إلى صفة قائمة به كالحي. والثالث: يرجع إلى فعله كالخالق وطريق إثباتها السمع. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه. والمطابقة: في قوله: " ذكرته في نفسي ". ...   (1) أي اختلفوا أيهما أرجح في حال الصحة والعافية؟ فرجح بعضهم جانب الخوف، لأن رأس الحكمة مخافة الله، ورجح بعضهم الاعتدال، ورجح بعضهم الرجاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 1048 - " بَابُ كَلامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الأَنبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ " 1199 - عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ في بَعْضٍ، فَيأتُونَ آدَمَ فَيقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، ولَكِنْ عَلَيكُمْ بإبْراهِيمَ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأتُونَ إبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بموسَى، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللهِ، فَيَأتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَستُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللهِ، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ، فيأتُونِي، فَأقولُ: أنا لَهَا، فأسْتَأذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، ويُلْهِمُني مَحَامِدَ أحْمَدُهُ بِهَا لا تَحْضُرُني الآنَ، فأحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحامِدِ، وأَخرُّ   1048 - " باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم " 1199 - معنى الحديث: أنه إذا كان يوم القيامة، وجمع الخلق في المحشر، ودنت الشمس من الرؤوس، واشتدت الحرارة، وتصبب العرق، وأصاب الناس من الكرب ما أصابهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " وماج الناس " أي اضطربوا من هول ذلك اليوم، فأخذوا يلتمسون الشفاعة عند الأنبياء واحداً واحداً، وكل واحد منهم يعتذر عن الشفاعة قائلاً: لست أهلاً لها ويذكر شيئاً يراه ذنباً ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً شديداً حتى يصلوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيجيبهم إلى طلبهم، ويتصدى للشفاعة ويقول: " أنا لها " قال - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 لَهُ سَاجِداً، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشْفَّعْ، فأقُولُ: يَا رَبِّ أمَّتي أمَتِي، فَيُقَالْ: انْطَلِقْ فأخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمانٍ، فأنْطَلِقُ، فأفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فأحْمَدُهُ بتِلْكَ المَحَامِدِ، ثمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِداً، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُولُ: يَا رَبِّ أمَّتِي أمَّتِي، فيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مثْقالُ ذَرَّةٍ أوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إيمَانٍ، فأنطَلِقُ، فأفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أخِرُّ لَهُ سَاجِداً، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأسَكَ، وقُل يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقُولُ: يا رَبِّ أمَّتِي أمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ، فأخْرِجْ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ أدْنَى أدْنَى أدْنَى مِثقَالِ حَبَّةِ خَرْدَل مِنْ إيمان فأخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فأنْطَلِقُ فَأفْعَلُ".   " فأستأذن على ربي فيؤذن لي " أي يؤذن لي في الكلام " ويدهمني محامد أحده بها " أي فيلهمني في ذلك الوقت ألفاظاً من الثناء عليه، وذكر أوصافه الجمالية والجلالية " لا تحضرني الآن " أي لا أعرف ولا أذكر منها شيئاً في الوقت الحاضر " وأخر له ساجداً " متضرعاً إلى الله عز وجل " فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه " أي تعط ما سألت " واشفع " فيمن شفعت " تشفع " أي تقبل شفاعتك " فأقول: يا رب أمتي " أي أسألك الشفاعة في أمتي " فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان " أي فيقول ربُّ العزة: قد شفعتك في هذه الأمة، فاذهب يا محمّد فأخرج من النار من كان في قلبه مقدار شعيرة واحدة من أعمال الإِيمان بعد التصديق بالعقائد الإِيمانية، لأن التصديق لا يقبل التجزئة " فأفطلق فأفعل " أي فأخرج من النار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 من أمرني الله بإخراجهم، وشفعني فيهم " ثم أعود فأحمده " كما صنعت في المرة الأولى " فيقال: ارفع رأسك " الخ كما قيل في المرة السابقة " فيقال: انطلق، فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة " أي مقدار نملة من أعمال الإِيمان " ثم أعود فأحمده " للمرة الثالثة " فيقال: يا محمد ارفع رأسك " أي فيجيبني بما أجابني في المرّة السابقة، ويأذن في بالشفاعة للمرة الثالثة " فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان " أي من كان في قلبه مقدار أصغر حبة خردل من أعمال الإِيمان بعد التوحيد والتصديق بالأركان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: إثبات كلام الله تعالى (1) مع أنبيائه صلوات الله عليهم يوم القيامة بدليل تكليمه عز وجل لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفّع " وهو ما ترجم له البخاري. ثانياًً: إثبات الشفاعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة بدليل قوله عز وجل " اشفع تشفّع " قال القاضي عياض: شفاعات نبينا - صلى الله عليه وسلم - القيامة خمس شفاعات: الأولى: العامة: وهي التي تكون لفصل القضاء وإراحة الناس من المحشر. الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب. الثالثة: في قوم من أمته استوجبوا النار بذنوبهم، فيشفع فيهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة. الرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين فيخرج بشفاعة نبينا وغيره من الأنبياء والملائكة وإخوانهم من المؤمنين - وهذه الشفاعة أنكرتها المعتزلة أيضاً. الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة الأهلها. قلت: وقد دل حديث الباب على شفاعتين: الشفاعة العامة، والشفاعة لِإخراج العصاة من النار بدليل قوله: " فيقال له: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان " إلخ. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قوله عز وجل:   (1) وفي هذا رد على الجهمية في إنكار كلام الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 1049 - " بَابُ قَوْلِ الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) " 1200 - عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى   " ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفّع ". 1049 - " باب قول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) وأن أعمال بني آدم وأقوالهم توزن " 1200 - مقدمة وتمهيد: هذا الحديث حديث جليل أراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان فضائل الذكر عامة، وفضائل التسبيح خاصة. قال ابن القيم (1): وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة، منها أن الذكر يرضي الرحمن، ويطرد الشيطان، ويزيل الهم، ويجلب السرور، ويقوي القلب والبدن، وينوّر الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويكسو الذاكر المهابة والحلاوة، ويورث محبة الله تعالى والمعرفة والقرب وحياة القلب، ويحط الخطايا، ويرفع الدرجات. والذكر يحدث الأُنس، ويوجب تنزيل الملائكة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكرين، ويسعد الذاكر وجليسه، ويؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة، وهو أيسر العبادات، وغراس الجنة، ونور للعبد في دنياه وفي قبره ويوم حشره. قال ابن القيم: والذكر رأس الولاية وطريقها، وأكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطباً بذكر الله. ومجالس الذكر مجالس الملائكة، ورياض الجنة، والذكر يعين على طاعة الله، ويسهّل كل صعب، وأفضل الذكر القرآن، ثم الثناء على الله تعالى بالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد، وكلها قربة إلى الله تعالى، توزن   (1) " الوابل الصيب " لابن القيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيْزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله العَظِيمَ".   في ميزان العبد يوم القيامة - كما في حديث الباب. معنى الحديث: يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن " أي هناك جملتان صغيرتان من ألفاظ الذكر محبوبتان، محبوب قائلهما عند الله تعالى كأشد ما يكون الحب، مرضي عنه كل الرضا، مقرب إليه غاية القرب، من واظب على هاتين الكلمتين مع اعتقاد معناهما والعمل بمقتضاهما ترقى في درجات القرب، حتى يصل إلى مقام الحب الإِلهي، فيكون من الذين يحبهم الله ويحبونه " خفيفتمان على اللسان " أي هاتان الكلمتان المحبوبتان سهلتان ميسورتان على اللسان، ينطق بهما في خفة ويسر، ويجريان عليه دون مشقة أو عناء، لقلة حروفهما، وسلاسة ألفاظهما، وعذوبة كلماتهما " ثقيلتان في الميزان " أي ولكنهما على الرغم من صغرهما وخفتهما وسهولة جريانهما على لسان الذاكرين ثقيلتان في ميزان الله تعالى، حيث يجاء بهاتين الكلمتين على صورة جسمين مضيئين مشرقين في أجمل صورة رأتها العين، فتوضعان في كفة الحسنات التي تسع ما بين المشرق والمغرب، وما بين السموات والأرض، فتملآنها وترجحانها على كفة السيئات: " سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " أي هاتان الكلمتان هما " سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " لأن سبحان الله تملأ نصف الكفة، والحمد لله تملأ نصفها الثاني، فتثقلان الميزان، وترجحان كفة الحسنات على كفة السيئات، ومعنى " سبحان الله " أنزه الله تنزيهاً كاملاً عن كل ما لا يليق به من النقائص والعيوب وقبيح الصفات، وكل ما يخطر بالبال من مشابهة المخلوقات، فهو المقدس في ذاته وصفاته وأفعاله، وأما قوله " وبحمده " فالواو للحال، أي أنزّه الله عما لا يليق به حال كوني أصفه وأثني عليه بما هو موصوف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 به من صفات الكمال والجمال، فأجمع بين أمرين إثبات صفات الله تعالى، وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين " سبحان الله العظيم " وهي جملة تأكيدية لقوله " سبحان الله أتى بها لتأكيد التنزيه والتقديس الذي ضل فيه المشركون، ثم وصفه بالعظمة بعد وصفه بالحمد، ليجمع بين صفات الجمال من رحمة وإحسان، وصفات الجلال من عظمة وقدرة وقهر وسلطان. فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن التسبيح والتحميد من أفضل الأذكار وأحبها إلى الله تعالى. فتستحب المداومة على قول: " سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم لما يؤدي إليه ذلك من الوصول بالعبد إلى مقام الحب الإِلهي، وتثقيل ميزانه يوم القيامة، وترجيح كفة حسناته. ثانياًً: أن هذا الذكر المبارك متضمن لتوحيد الأسماء والصفات على الوجه الصحيح المطلوب من العباد، لأن قول العبد " وبحمده " إثبات لجميع صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه. وقوله: " سبحان الله " تنزيه لله عن مشابهة المخلوقين، وهذا هو معنى توحيد الصفات، إثبات للصفات دون تشبيه، وتنزيه لله تعالى بدون تعطيل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة. اهـ. ثالثاً: أن الوزن والميزان من الحقائق، وأن أعمال بني آدم وأقوالهم توزن يوم القيامة، ويكون لها ثقل يرجح كفة الحسنات على كفة السيئات، والصحيح الذي عليه جمهور أهل السنة: أن الوزن حقيقي، والميزان حقيقي، وهو ما ترجم له البخاري، وقد وصفه في السنّة الصحيحة الثابتة، بأن له -كما قال القرطبي (1) - كفتين ولساناً، وأن كل كفة منهما طباق السموات والأرض، قال: ولو جاز حمل الميزان على ما ذكروا من الإِنصاف والعدل، لجاز حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجسام، والشياطين والجن   (1) " التذكرة " للقرطبي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 على الأخلاق الذميمة، وهذا كله باطل فاسد، لما جاء عن الصادق المصدوق، وقال حنبل بن إسحاق: من أنكر الميزان فقد رد على الله ورسوله. وقال شارح الطحاوية (1): والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان. وذكر البغوي (2) في تفسيره أن الله تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان، كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خلق الله كفتي الميزان مثل السموات والأرض، فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ فقال: أزن به من شئت " (3) قال النفراوي في شرح الرسالة: (4) وقد بلغت أحاديث الميزان مبلغ التواتر، وانعقد عليه إجماع أهل الحق، وأنه ميزان حِسِّى له كفتان ولسان. أما ما هو الشيء الذي يوزن؟ فإن أهل العلم اختلفوا على ثلاثة أقوال. الأوّل: أنه يوزن العامل مع عمله، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، قال: اقرءوا إن شئتم: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) الثاني: أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال، وقد نقل الآلوسي (5) عن القاضي عياض أن هذا هو قول الجمهور، ولعله أراد أنّه قول أكثر أهل العلم، واستدلوا بحديث عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله سيخلص رجلاً من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجَّلاً كل سجلٍّ مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ قال: لا، يا رب، فيقول: بلى،   (1) شرح الطحاوية في العقائد. (2) تفسير البغوي. (3) ورواه بنحوه وبأطول منه الحاكم في المستدرك (4/ 586) وصححه ووافقه الذهبي، وانظر " الدرر المنثور " للسيوطى (3/ 70). (ع). (4) " الفواكه الدواني شرح رسالة أبي زيد القيرواني " ج 1. (5) " تفسير روح المعاني " للآلوسي ج 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظْلَم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء " أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد في " مسنده " فهذا الحديث يعرف بين أهل العلم بحديث البطاقة، ويدل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال. الثالث: أن الذي يوزن هو نفس الأعمال، وهو مذهب المحققين من أهل العلم. قال الصنعاني (1): " وذهب أهل الحديث والمحققون إلى أن الموزون نفس الأعمال وأنها تجسد في الآخرة، وعلى رأس القائلين بذلك ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: " يؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان، وهذا هو القول الصحيح الذي صححه الحافظ، واختاره ابن تيمية في " العقيدة الواسطية " حيث قال: " وينصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد " (2) وقال في " شرح الطحاوية " (3) وقد وردت الأحاديث بوزن الأعمال نفسها كما في " صحيح مسلم " عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الطهور شطر الإِيمان، والحمد لله تملأ الميزان " وفي الصحيح وهو خاتمة كتاب البخاري: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ولا شك أن هذا الحديث الذي جعله البخاري مسك الختام نص صريح على وزن الأعمال. قال صاحب " المنار " (4): والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد، أو تجعل في   (1) " سبل السلام شرح بلوغ المرام " للصنعاني ج 4. (2) " العقيدة الواسطية " شيخ الإسلام ابن تيمية. (3) شرح الطحاوية في العقائد. (4) تفسير المنار ج 8. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 أجسام، فتصوّر أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن، وفي حديث جابر مرفوعاً: " يوضع الميزان يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار " (1) أما وقت الوزن فإنه بعد الحساب، وهو تكملة له، ومكان الميزان بين الجنة والنار، والقائم به جبريل عليه السلام، حيث يأخذ بعمرده مستقبلاً العرش، وهناك ملك ينادي بصوت يسمعه الخلائق: سعد فلان، وشقي فلان، ويعلن عن نتيجة الوزن. وهل هو ميزان واحد أو موازين؟ هذه مسألة خلافية أيضاً، والأصح أنه ميزان واحد، والمراد بالجمع الموزونات وهي متعددة. الحكمة في وزن الأعمال: قال الخازن (2): فإن قيل: أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد، فما الحكمة في وزنها؟ فالجواب: أن في ذلك حِكَماً كثيرة، منها إظهار العدل، وأن الله عز وجلّ لا يظلم عباده، ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة، وفائدة تعريفهم بمقادير أعمالهم كما قال الشيخ عبد الله ابن الزكي في " ختم صحيح البخاري " أنهم لو دخلوا الجنة قبل الموازنة ربما ظن المطيع أنه نال الدرجات في الجنة عن استحقاق، وتوهم المعذب أن عذابه فوق ذنبه، فتوزن أعمالهم ليقفوا على مقادير أجرها، فيعلم الصالح أن ما ناله من الدرجات بفضل الله، لا بمجرد عمله، ويتيقن المجرم أن ما ناله من العذاب دون ما ارتكب من الحرام. المناسبة في البدء والختام: وأخيراً ما وجه المناسبة في بدء البخاري صحيحه بحديث " إنما الأعمال بالنيات " وختمه بحديث " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله   (1) ذكره الحافظ السيوطي في " الدرر المنثور " (3/ 70) ونسبه لأبي للشيخ عن جابر رضي الله عنه. (ع). (2) تفسير الخازن ج 2. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 العظيم" هذا ما تطرق إليه المحدث الشيخ عبد الله ابن الزكي حيث قال في " ختم صحيح البخاري " (1): ولما كانت النية سابقة للعمل، بدأ بها في المقال رعاية للمقام، وختم بحديث موازين الأعمال لأنها انتهاء غاية التمام. فالبخاري بدأ بالنية التي يتوقف عليها صلاح العمل وفساده، وختم بالميزان الذي يتبين به مصير الإِنسان من سعادة أو شقاء، تنبيهاً للقارىء إلى إخلاص النية في البداية، لما يترتب عليه من ثقل الميزان في النهاية، وذلك غاية المرام وحسن الختام والله أعلم. الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة. والمطابقة: في قوله: " ثقيلتان في الميزان " حيث دل ذلك على وزن أعمال بني آدم، وهو ما ترجم له البخاري. وقد تم الفراغ من تأليف هذا الكتاب - بمدينة المصطفي عليه الصلاة والسلام، في أيام عيد الفطر المبارك من عام ألف وأربعمائة وثمانية هجرية، نحمدك اللهم يا من بنعمته تتم الصالحات، على ما وفقتنا إليه من إتمام هذا الشرح، ونسألك ونضرع إليك وأنت القائل: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أن تمنحه القبول، وتنفع به الناس، وأن تجعله لنا ذخراً في الدار الآخرة، إنك سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ...   (1) وهي " رسالة في ختم صحيح البخاري " للشيخ عبد الله بن الزكي عثرت على نسخة منها مخطوطة للمؤلف في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383