الكتاب: تطور كتابة السيرة النبوية المؤلف: عمار عبودى محمد حسين نصار (المتوفي: معاصر) الناشر: الثقافية العامة - بغداد الطبعة: الأولى - 1418 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تطور كتابة السيرة النبوية عمار عبودى محمد حسين نصار الكتاب: تطور كتابة السيرة النبوية المؤلف: عمار عبودى محمد حسين نصار (المتوفي: معاصر) الناشر: الثقافية العامة - بغداد الطبعة: الأولى - 1418 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) صدق الله العلي العظيم سورة الانشقاق آية (6) الإهداء إلى نبي الرحمة ورسول الإنسانية محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والسائرين على هديه وسيرته. الى الاب الذي ترك ولده تلميذا صغيرا الى الأم التي ما زالت رافعة الكفين موشحتين بالدموع تدعو الله لي بالتوفيق. أهدي بحثي هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) دراسة لنطاقها وتشكلّها تصدير بقلم: الاستاذ الدكتور صالح احمد العلي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مكانة متفردة في تاريخ البشرية، فلم يظهر فيها من يدانيه في الإنجازات التي حققها في تثبيت دعائم الدولة وترسيخ أسسها القائمة على استقرار الحياة البشرية وطمأنينتها وتقدمها، ومرجع ذلك مبادئ سليمة توجه الفرد في قرارة نفسه وعمق ذاته الى ما يؤمن طمأنينته واستقراره ويدفعه الى عمل ما ينفعه وينفع مجتمعه والانسانية. لم تنحصر آثار اعماله في المجتمع الذي عاش فيه ورضي باسسها وعمل على تطبيقها في الحياة، وإنما امتدت وبسرعة هائلة الى بلاد واسعة وظلت مثلا يؤمن بها من يعتنق الإسلام ويجلها ويتخذها كثير منهم موجها في سلوكهم وتصرفاتهم ممن هم من مختلف الأصول العرقية والمشارب من الأشقر والأبيض والأسمر والأصفر والأسود، ممن يقيم في بقاع من الأرض شاسعة ومتباعدة في المكان منذ أن بدأت الدعوة الاسلامية والى ما شاء الله، وقد امتدت آثارها في الأفراد والمجتمعات الصغيرة والواسعة وكانت الفاعل الأقوى في توجيههم ما أدى الى استقرار جذورها في صميم النفس الإنسانية، وبدت واضحة جلية في ثبات هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 المجتمع امام التحديات الداخلية والخارجية التي واجهته والتي لم تصمد امامها كيانات ومجتمعات أكثر منه عددا واغنى ثروة فأز التهم تلك التحديات من الوجود والقت بهم في حضن التاريخ الذي يعنى بدراسة أمثالهم. وقد ظهرت آثار الاسلام في تماسك معتنقيه وصمودهم حديثا فأقصوا وقلصوا ما قام به الغرب المستند الى القوة المادية والعسكرية والدعائية، وصدوا كل محاولة لضعضعته، وما عرف عن هذه القوة المادية المهيمنة انها افلحت في اجتثاث المسلمين ومبادىء الاسلام. اختار الله تعالى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل عليه الوحي وأمره أن يبلغه للناس وأمرهم أن يطيعوا، ونزلت آيات كثيرة تأمرهم بذلك (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (من أطاع الرسول فقد أطاع الله) وأمرهم أن يتخذوه قدوة في الحياة (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقد اتخذ المسلمون منذ القرن الأول أحكام الرسول مصدرا أساسا يتلو القرآن في مكانته وبخاصة فيما يتعلق بتنظيم أحوال الأسرة مما نسميه الأحوال الشخصية، وتنظيم المعاملات التجارية وقد أفاض في أخبارها المعنيون بالفقه والسنن، وأدخلوا فيها كثيرا من آراء نسبوها الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، وقد ألف فيها المعنيون بالفقه مؤلفات قيمة، وكتبت فيها أبحاث قيمة لبعض المستشرقين وأبرزهم كولدزيهر وسانتلانا وجونبول وشاخت وهوارزهر. وعني عدد بمتابعة أخبار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودون بعضهم معلومات وصلنا قليل منها، وكان أوسع من عني بذلك من الأولين أبان بن عثمان ومحمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 شهاب الزهري وموسى بن عقبة، ولم يصلنا كتاب ألفوه، وإنما وصلتنا مقتطفات متفرقة غنية وغير كاملة. وفي مطلع الخلافة العباسية ألف محمد بن إسحاق كتاب سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أورد فيه ما نقله عن عدد ممن سبقه من العلماء وعني بذكر مساند أكثرها. وشمل كتابه مقدمة سميت" المبتدأ" ثم حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) الأولى والمبعث وامتداد الإسلام في مراحله الأولى، ثم أفاض في الكلام على حوادث جرت في المدينة بعد الهجرة، ولم يصلنا كتاب محمد بن إسحاق كاملا كما وضعه وإنما وصلتنا مقتطفات من رواة أفاض مطاع طرابيشي في متابعتهم في دراسة قيمة نشرها في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق ثم وسعها في كتاب مستقل. إن أوسع من روى سيرة ابن اسحاق هو عبد الملك بن هشام وهو ممن عاش في البصرة ونهل من علمائها في اللغة وصارت روايته معتمد الباحثين فركنوا اليها ونقلوها أو بعضها وظلت المعتمد الأول والأكبر لمن كتب السيرة في هيكلها العام أو معلوماتها. أشار ابن هشام إلى حذفه أو اقتضابه بعض ما ذكره ابن اسحاق والى أخطاء وقع فيها في رواية الشعر واضاف إليها معلومات اقتبسها من علماء البصرة لا سيما أبو عبيدة علما أن الشعر يبلغ قرابة ربع ما رواه عن ابن إسحاق ولم ينقد ما رواه ابن اسحاق أو يضيف إليه غير رواياته عن أبي عبيدة وهي في اللغة وليست في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو الأحداث التي مرت به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 عالج عدد من العلماء جوانب من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يفها ابن اسحاق وشملت مصنفاتهم شمائله وخلقه وبعض جوانب حياته الخاصة وما يتصل بها ولكن أحدا منهم لم يفصل في اساليب نشره للإسلام وتعميقه في نفوس معتنقيه وهو كان أساس بناء المجتمع الجديد. وفي الأزمنة الحديثة تزايد الاهتمام بكتابة السيرة وكان ذلك من المستشرقين الغربيين والمسلمين المشارقة. فأما المستشرقون فأغلبيتهم نصارى ومنهم قليل من اليهود تخصصوا في السيرة وأكثرهم متأثر بالمناخ الفكري المتطور في أوربا الذي ظهر في القرن التاسع عشر بسبب بروز العوامل المادية السطحية على حساب القوى الروحية. فأما المستشرقون فكان من أوائل المعنيين منهم بدراسة حياة الرسول وسيرته، المستشرق الإنكليزي (ويليم سيل) الذي ألف في القرن الثامن عشر كتابا متزنا عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكما خص (كارليل) الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) بفصل من كتابه (الأبطال) أشاد فيه بمنجزات الرسول. وأشار عدد من الكتاب الأوربيين الى جوانب من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمثال فولتير وجماعته، برز في كثير منها سطحية وتحامل، وفي بعضها دفاع قائم عن المنجزات وليس عن تفاصيل الأعمال التي قام بها الرسول. وتزايدت مؤلفات المستشرقين منذ أواخر القرن التاسع عشر فكتب عدد منهم كتبا مستقلة في السيرة منهم وستنفلد، وجروهان فيك، ووليم ميور، ثم ديبومين، والفريد جيوم الذيترجم سيرة ابن اسحاق مع مقدمة مهمة، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أواخرهم مونتكمري وات وماكسيم رودنسون وتابعوا فيها سيرة ابن اسحاق مع تعليقات مثيرة بعضها ناشزة، ومن اقوم ما كتب حديثا هو الفصول الواسعة التي كتبها (ليو كايتاني) وتابع تنظيمها على اساس الحوليات وأورد فيها كل ما تيسر له من معلومات عن تلك الحوادث مع تعليقات قيمة وتحليلات مثيرة للتفكير. وللمستشرق دلتور اندريه مكانة خاصة فقد ألف كتابين (سيرة محمد) و (محمد الرجل والنبي) وهما كتابان قصيران أولى فيهما تقديرا لرسالة الرسول الروحية وتعاطفا مع دعوته المنسجمة مع نظريات رجال الدين، علما أنه أحدهم، إذ كان أسقف إبسالا في السويد. لم تكن دراسة سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ضمن المواضيع التي تعنى بتدريسها المدارس في العالم الإسلامي وإنما اقتصرت على أحكامه في الأحوال الشخصية والمالية لكونها جزءا من دراسة الفقه. بدأ الاهتمام بدراسة السيرة النبوية في أوائل الثلاثينيات عندما نشر محمد حسين هيكل ترجمة كتاب أميل در منغهم في سيرة الرسول بمقالات في ملحق جريدة السياسة فأثارت الاهتمام، وتصرف في الترجمة ثم طبعها بكتاب مستقل باسمه بعنوان (حياة محمد) ثم أردفه بكتاب عنوانه (في منزل الوحي) ، ولقي كتاب (حياة محمد) رواجا كبيرا، وأثار الاهتمام فإن لكل من طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد كتبا تابعة لكتاب هيكل وتزايد عدد الكتب والمقالات عن السيرة، وزاد من نشاطها التيار العام الذي نشط في نقد المستشرقين علما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أن كثيرا من هذا النقد دافعه تحدي الغرب وادعائه والحد من ظاهرة محاولات المستشرقين الدس في تاريخ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتشويهه من دون أن يقدموا حججا مقنعة من سوء القصد. ونشطت في الحقبة الحديثة كتابات عن النظم الإسلامية وتناول بعضها جوانب من أعمال الرسول فيها تعليقات على أعماله السياسية، ويبدو أن هذه الكتابات كانت مرحلية ركدت بعدها تلك الدراسات. طغت كتابات المشارقة على كتابات المستشرقين التي تناقصت لتقلص عدد المستشرقين ونتاجاتهم. وكان نتاج المشارقة ثرا واسعا فيه تكرار ودفاع بعضه عاطفي وهو من حيث العموم يعتمد في أساسه على (سيرة ابن اسحاق) فيكرر معلوماتها ويذكر بعض التعليقات المبتسرة ولم يحاول أحد فيما أعلم التطرق الى لب الموضوع وجوهره وهو: ما هي أسس ومقاصد الإسلام التي دعا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) الناس الى الأخذ بها وكان العامل الأكبر في دعوته وخلوده؟ وما هي السبل والمسالك التي اتبعها؟ وكيف توفق في نشرها وتعميمها في نفوس الناس؟ ولابد من الإشارة الى دراسات ظهرت حديثا في انتشار الاسلام بدأت بكتاب نشره (توماس أرنولد) اسمه (الدعوة الى الاسلام) وتبعته دراسات قام بها بعض المستشرقين الفرنسيين عن انتشار الاسلام في شمال افريقيا ثم دراسات عن انتشار الاسلام بين أهل الهند والبرتغال وبين أهل أندنوسيا وأهل الصين وكثير منها تدرس خطوات هذا الانتشار وقلما تذكر خصائص الاسلام التي دفعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 تلك الأقوام الى اعتناقه علما ان كثيرا منها لم تكن في ظل الدولة التي أقامها الاسلام وامتد سلطانها في بلاد الشرق الأوسط من أوسط اسيا شرقا الى المحيط الأطلسي غربا، ولم يتراجع المسلمون في الأندلس اثر تدابير شرسة وعنيفة شنها عليهم أعداؤهم. عرض السيد عمار عبودي نصار في دراسته الموسومة (تطور السيرة النبوية عند المؤرخين المسلمين) المصنفات (المصادر) والأبحاث التي تناولت سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) منذ صدر الإسلام بما في ذلك المصنفات المستقلة التي عرضت سيرة الرسول من مولده إلى وفاته ثم الأبحاث عن مولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته وأزواجه وشمائله وأخلاقه وأعلام النبوة ودلائلها وخصائصه وهي جوانب لم يعن بها الباحثون المحدثون. وأورد في ثنايا بحثه أسماء عدد من المؤلفات والمؤلفين في هذه المواضيع وأشار الى بعض ارائهم. فقدم بذلك كنزا من المعلومات التي لا يستغني عنها باحث في هذا الميدان. وأبدى تعليقات قيمة ضمن كلام يحتاج بعضه الى تركيز ولكنه لا يحجب حقيقة غنى الرسالة بالمعلومات الواسعة والملاحظات السديدة التي قلما تطرق اليها الباحثون القدامى. ولا ريب في ان الرسالة تسد فراغا واسعا وترفعها الى مستوى المراجع التي لا يستغني عنها الباحثون في هذا الميدان. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ... صالح احمد العلي بغداد- نيسان- 2002 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المقدمة تحتل السيرة النبوية مكانا بارزا في ثقافة المسلم، لأنها من الأولويات التي ينبغي له معرفتها لفهم المراحل التي مرت بها الدعوة الإسلامية، فضلا عن الإلمام بطبيعة الظروف والارهاصات التي سبقتها وعوامل نشأتها، وإسهام هذه الأمور مجتمعة في تكوين شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من مولده إلى أن ألتحق بالرفيق الأعلى واكتساب هذه الشخصية صفة القداسة والاحترام المطلق عند المسلمين. ولّدت مكانة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حافزا لدى المسلمين على توثيق كل صغيرة وكبيرة في حياة هذه الشخصية العظيمة، امتثالا لما أمر الله عباده باتباع رسوله وعدّه القدوة والمثال الذي يجب الاقتداء به، وذلك بقوله سبحانه وتعالى في محكم كتابه وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» ، لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «2» . لأجل ما تقدم كان التراث الفكري لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله وأقواله ثرا، ولثراء هذا التراث قام أحد الباحثين بوضع معجم يتضمن أسماء المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله وأفعاله وأقواله ومتعلقاته الأخرى «3» .   (1) سورة الحشر، آية 7. (2) سورة الأحزاب، آية 21. (3) ينظر، المنجد، صلاح الدين، معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1982. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 دفعني هذا الثراء بالتصنيف في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله وامتلاء المكتبات العامة والخاصة بهذا التراث إلى أن أتامل ما إذا كان بالإمكان رصد التطور الحاصل في أساليب هذه المصنفات ومناهجها بمختلف صورها والوصول بذلك إلى معيار شمولي يبين المناحي التي كتبت بها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والجوانب التي خصها المصنفون بالعرض منها دون غيرها من جوانب السيرة الأخرى، أو التركيز في جانب دون آخر، وتشكيل هذه المصنفات مجتمعة الهيكل العام لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الذي من خلاله رصدنا التطور الحاصل في كل مصنف من هذه المصنفات وأثره وفعاليته في هذا الهيكل من حيث التجديد في طرح الروايات ومناقشتها أو التوسعة في سرد الأحداث أو اختصارها. وصلت إلى القناعة بجدوى الشروع برصد التطور الحاصل في كتابة السيرة النبوية بدراسة شاملة تنتهي بنهاية العصر العباسي أسميتها (تطور كتابة السيرة النبوية عند المؤرخين المسلمين حتى نهاية العصر العباسي) ، بعدما وجدت المكتبة العربية تفتقر إلى دراسة أكاديمية من هذا النوع- على حدود إطلاعي المتواضع- وإجابة العديد من الأساتذة المختصين بمثل هذه المواضيع عن افتقار الدراسات الأكاديمية- على حدود علمهم- التي تناولت رصد التطور الحاصل في كتابة السيرة إلى نهاية المدة التي حددتها في هذه الدراسة، فلم تكن هنالك دراسات تناولت هذا الجانب إلا بعض الدراسات التي ناقشت جوانب من مصنفات السيرة في مدة محددة بقرن او قرنين فقط. فمن هذه الدراسات، دراسة المستشرق الألماني يوسف هوروفتس (المغازي الأولى ومؤلفوها) ، ودراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الدكتور عبد العزيز الدوري (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب) ، ودراسات أخرى سارت على منوال هاتين الدراستين ولم تخرج من الفلك الذي دارت فيه، وقد أشرنا الى هذه الدراسات في قائمة المصادر والمراجع. ونهج باحثون اخرون إلى أخذ قسم من مصنفات السيرة والمحاور التي تضمنتها هذه المصنفات، مثل دراسة الدكتور عبد العزيز الدوري عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومؤلفها ابن إسحاق التي أكملتها دراسة الدكتور حسن الحكيم التي بين فيها ريادة محمد بن إسحاق في كتابة السيرة النبوية واردافه هذه الدراسة بدراسة أخرى عرض فيها منهج ابن الجوزي في كتابة السيرة النبوية بكتابه (المنتظم) ، وخصص الدكتور محمد فضيل الكبيسي دراسة مستقلة لمحمد بن عمر الواقدي وكتابه المغازي عرض فيها منهجه وموارده في الكتاب، فضلا عن وجود دراسات أخرى تناولت تقويم بعض مصادر السيرة مثل دراسة الدكتور فاروق حمادة (مصادر السيرة وتقويمها) ، ودراسة أخرى سارت على منوالها ولكن لمصنفات محدودة في عصر معين وهي دراسة الأستاذ محمد عطا الله سلمان (مقاصد المؤرخين المسلمين في كتابة التراجم والسير في القرنين الثاني والثالث الهجري) ، فضلا عن وجود دراسات أخرى تناولت مناهج المؤرخين في كتابة الحوادث التأريخية بصورة شمولية مع جعل سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إحدى الفقرات التي تناولتها دراساتهم لهؤلاء المؤرخين، مثل دراسة المستشرق روز نثال (علم التأريخ عند المسلمين) ، ودراسات أخرى أثبتناها في قائمة المصادر والمراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ولما كان التراث الفكري لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ثرا آليت أن أحصر هذا التراث بمدة محددة جعلتها نهاية العصر العباسي، إذ كان لاختيار نهاية هذا العصر دافع ملموس، تمثل بكون المؤرخين ومصنفي السيرة بخاصة قد استنزفوا معظم الأنماط والمحاور الكتابية في مصنفاتهم إن لم نقل كلها، أشار أحد الباحثين إلى ذلك الأمر حين وصف المصنفات المتأخرة لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالقول: " إن أكثرها كان جمعا لروايات مختلفة أو قبولا لبعض الأساطير المتأخرة، وربما كان أيضا شرحا لبعض الألفاظ والمناسبات أو نظما لأحداث السيرة أو تلخيصا لها" «4» . ساعدت هذه الأمور مجتمعة على تكامل فكرة الموضوع والشروع فيه لما له من أهمية بارزة في مجال الدراسات التأريخية من حيث أن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كانت أحدى الركائز التي استندت اليها كتابة التأريخ عند المسلمين ودخلت في معظم صورها المتنوعة، فضلا عن ذلك إن هذه الدراسة تعطينا إيضاحا للدوافع التي كتبت من أجلها بعض مصنفات السيرة، وأثر العصر في تطور كتابة كل مصنف من هذه المصنفات، مع تبيان المناهج التي كتبت بها واستقلاليتها بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أو شموليتها لباقي الحوادث الأخرى مع إبراز طبيعة الروايات التي حوتها كل من هذه المصنفات مقارنة بسابقتها من حيث قوة الرواية أو ضعفها ودرجة اعتماد من تأخر عنها، وأقوال العلماء في كل مصنف من هذه المصنفات إن وجد.   (4) عباس، إحسان، فن السيرة، دار الثقافة، بيروت، 1956، ص 16- 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ولما كان لكل دراسة مشاقها وصعوباتها فقد تكالبت عليّ صعوبات جمة، كان أهمها بقاء العديد من مصنفات السيرة وجوانبها مخطوطا في خارج القطر مما يصعب الحصول عليه للتكاليف الباهظة في تصويره، والذي خفف من حدة هذه الصعوبة، ان هذه المصنفات كانت من المصنفات المتأخرة التي لم يكن لها أثر يذكر في المصادر التي أتت بعدها، مع وجود مصنفات مشابهة لها في المسلك والمنحى والجانب الذي تناولته من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قد وصلت إلينا كانت أكثر أهمية منها والدليل على ذلك شدة اهتمام العلماء بها قياسا بقريناتها. وحاولنا عرض هذه المصنفات وإسهاماتها في تطور كتابة السيرة، والصعوبة الأخرى التي واجهتني هي طبيعة البحث نفسه الذي تطلب مني جهدا ووقتا مضاعفا في سبيل إكمال فقراته التي تحتاج إلى قراءة شاملة للكتاب الذي يعرض سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وجوانبها المتعددة حتى أخرج بمحصلة نهائية لكل كتاب أثبتها على شكل نقاط تبين وجهة نظري فيه ومدى إسهامه في تطور كتابة السيرة وذلك بمقارنته مع المصنفات التي سبقته وأثره في المصنفات التي أتت بعده، والصعوبة الكأداء التي يعاني منها كل باحث هي ظروف الحصار الظالم الذي يعانيه شعبنا المناضل وما لحقه من تبعات وصعوبات. اقتضت طبيعة البحث تقسيمه على أربعة فصول ومقدمة وخاتمة، وذلك بحسب طبيعة البحث والخطة التي فرضتها المادة التي توفرت بين أيدينا، تناول الفصل الأول من هذا البحث المدلول اللفظي للسيرة مع ذكر المصادر الأولى والجهود المبكرة لكتابتها، وقسمناه على مبحثين خصص المبحث الأول للتعريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بلفظة السيرة واشتراكها بلفظة المغازي واستقلالية هذه اللفظة بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، أما المبحث الثاني فقد عرض المصادر الأولى للسيرة النبوية وإرداف هذه المصادر بعرض سريع للجهود المبكرة في تدوين هذه السيرة ابتداء من كتابات الصحابة ومدونات التابعين حتى ظهور أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. أما الفصل الثاني فقد كرس لدراسة المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من مولده إلى التحاقه بالرفيق الأعلى بشمولية واستقلال عن باقي المصنفات التي ضمنت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن مواضيعها، إذ قسمنا هذا الفصل على مبحثين بحسب طبيعة هذه المصنفات. تناول المبحث الأول المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بإسهاب وتوسع، أما المبحث الثاني فقد خصص للمصنفات التي عرضت هذه السيرة باختصار واقتضاب. لتنوع الصور التي كتبت بها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ودخولها في معظم الجوانب التي كتب بها المؤرخون جعلنا الفصل الثالث للحديث عن طبيعة المصنفات التي دخلت فيها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأصبحت جزء لا يتجزء منها، وهذا ما جعل هذا الفصل ينقسم هو الاخر على مبحثين فقد كان المبحث الأول مكرسا لعرض المصنفات التي كتبت في التأريخ العام، والتي حوت سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مضامينها واثر هذه المصنفات في تطور كتابة السيرة وذلك بما أكسبته لها من مناهج وأساليب لم تعرفها المحاولات الأخرى التي قام بها المؤرخون حين ضمنوا السيرة النبوية في مصنفات أخرى أو خصصوا مصنفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 مستقلا لها، الأمر الذي جعل هذا المبحث من أثرى مباحث هذا الفصل، بل ومباحث فصول الرسالة جميعها من حيث كمية المصنفات التي عرضت فيه فضلا عن تباين هذه المصنفات بعضها مع البعض الاخر في الطرح والأسلوب لأحداث السيرة والحيز المخصص لها في كل مصنف من هذه المصنفات، أما المبحث الثاني فقد بين التطور الحاصل في كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن كتب الطبقات والتراجم، وطبيعة هذا التطور قياسا بسابقيه، أو ما تزامن معه من تطورات في كتابة السيرة. أما الفصل الرابع فقد كان من أوسع فصول الرسالة لطبيعة التطور الذي طرأ على كتابة السيرة والذي تمثل بظهور التصنيف الموضوعي والمستقل للعديد من جوانب السيرة باجتزاء واستقلالية عن باقي المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله بشمولية، ولتنوع الجوانب التي كتبت بها هذه المصنفات كان هذا الفصل ثريا في مباحثه إذ حوى ستة مباحث كان الأول منها مخصصا للحديث عن المصنفات التي كتبت عن حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وبينا فيه وضع وزيف بعض المصنفات التي كتبت عن هذه الحادثة قبل القرن السابع الهجري، أما المبحث الثاني فقد كرس للحديث عن المصنفات التي كتبت عن ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأزواجه ومتعلقيه، وطبيعة تنوع هذه المصنفات وإسهامها في تطور كتابة السيرة، أما المبحث الثالث فقد عرض المصنفات التي كتبت في مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وطبيعة هذه المصنفات ومدى فعاليتها وديمومتها طوال العصر العباسي، أما المبحث الرابع فقد كان مخصصا للحديث عن المصنفات التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 كرسها أصحابها لذكر ووصف أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وشمائله، مع تبيان أثر المحدثين ودورهم في كتابة مثل هذه المصنفات التي كانت فرزة من أبواب كتب الحديث ومضامينها، وتناول المبحث الخامس المصنفات التي كتبت عن أعلام ودلائل النبوة وتثبيتها، وإظهار الدور الذي لعبه المتكلمون في إيجاد مثل هذه المصنفات التي اجتزئت من كتب علم الكلام لتكون أكثر فعالية في مواجهة الدعاوى المنحرفة في إنكار النبوات والمعجزات، أما المبحث السادس فقد خصص للتعريف بالمصنفات التي كتبت عن الخصائص التي اختص بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من بين الأنبياء والبشر مع عرض للمصادر التي اعتمدتها هذه المصنفات وتبيان تأخر هذا الاتجاه في كتابة هذا الجانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ختمنا هذه الدراسة بعرض سريع لأهم النتائج والمحصلات التي خرجنا بها مع إرداف هذا العرض ببعض التوصيات التي إن حظيت بالقبول فلعلها ترفد التراث الفكري لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والدراسات العلمية له، وتفسح المجال أكثر للباحثين أن يخوضوا غمار هذا التراث ويتناولوه بدراسات أوسع واشمل. وأثبتنا في نهاية أوراق هذه الدراسة ثبتا بالمصادر والمراجع التي اعتمدنا عليها، التي كان من أهمها (السيرة النبوية) التي كتبها محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) وهذبها عبد الملك بن هشام (ت 218 هـ) ، وكتاب (المغازي) لمحمد ابن عمر الواقدي (ت 207 هـ) ، و (الطبقات الكبرى) لمحمد بن سعد (ت 230 هـ) ، وكتاب (تأريخ الرسل والملوك) لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) ، إذ كان البحث يعول عليها كثيرا في استشهاداته ومقارناته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فضلا عن كون هذه المصنفات قد كانت المصادر الرئيسة التي اعتمدت عليها معظم إن لم نقل كل المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وجوانبها المختلفة. استعنا في ترجمة مصنفي كتب السيرة وجوانبها بالعديد من كتب التراجم التي تباينت هي الأخرى في مقدار المعلومات التي أثبتتها عن هؤلاء المصنفين، إذ كان في طليعة هذه الكتب كتاب (تأريخ بغداد) للخطيب البغدادي (ت 463 هـ) ، و (معجم الأدباء) لياقوت الحموي (ت 626 هـ) ، و (وفيات الأعيان) لابن خلكان (ت 681 هـ) ، و (تذكرة الحفاظ) للذهبي (ت 748 هـ) ، و (البداية والنهاية) لابن كثير الدمشقي (ت 774 هـ) ، و (تهذيب التهذيب) لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، فضلا عن العديد من كتب التراجم التي اجملناها في قائمة المصادر والمراجع. ولما كان بعض التراث الفكري لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مفقودا، استعنا بكتب البيبلو غرافيا (فهارس الكتب) للإشارة الى هذا التراث المفقود، وكان في طليعة هذه الكتب كتاب (الفهرست) لابن النديم (ت 381 هـ) ، وكتاب (الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ) للسخاوي (ت 902 هـ) ، وكتاب (كشف الظنون) لحاجي خليفة (ت 1067 هـ) ، وكتاب (هدية العارفين) للبغدادي، وكتاب (معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم) للدكتور صلاح الدين المنجد، فضلا عن مصنفات أخرى عرضت قسما من هذا التراث أجملناها في قائمة المصادر والمراجع، لأنها لم تكن بأهمية هذه المصنفات التي عرضناها آنفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كان للدراسات الحديثة التي كتبها الباحثون دور فعال في رفد هذه الرسالة بما توصلوا إليه من نتائج أغنت البحث والباحث عن مراجعة العديد من المصنفات واستقرائها، ومن أهم هذه الدراسات، دراسة المستشرق الالماني يوسف هور وفتس (المغازي الأولى ومؤلفوها) ، ودراسة الدكتور عبد العزيز الدوري (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب) ، إذ كانت هاتان الدراستان في طليعة هذه الدراسات لأن كل واحدة منها حوت بحثا معمقا للجذور الأولى لكتابة السيرة النبوية، وتداخلاتها مع المصنفات الأخرى، ثم دراسة المستشرق فرانتز روز نثال (علم التأريخ عند المسلمين) التي أعانتنا كثيرا في فهم المراحل التي مرت بها الكتابة التأريخية وأنماطها وطبيعة هذه الأنماط، وقد أكملت هذه الدراسة دراسة الدكتور شاكر مصطفى (التأريخ العربي والمؤرخون) التي كانت هي الأخرى منارا نستضيء به لمعرفة المصنفات التأريخية ومراحل كتابتها، فضلا عن دراسات أخرى كانت أضيق أفقا من هذه الدراسات السابقة لا نحسارها بعصر أو مكان معين أو شخصية مؤرخ، أثبتناها في قائمة المصادر والمراجع. وانهي مقدمتي بتأكيد إحدى حقائق التكوين وهي أن الله تعالى قضى لكل كتاب أن يتطرق إليه النقص إلا كتابه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما بذلته في هذه الدراسة كان جل وسعي، فإن أصبت فتوفيق من الله وإن أخطأت فهذا شأن البشر، رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ «5» .   (5) سورة البقرة، آية 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الفصل الأول السيرة النبوية ومصادرها الأولى حتى ظهور السيرة الشاملة المبحث الأول تطور المدلول اللفظي للسيرة عند اللغويين والمؤرخين السيرة لغة بكسر السين وفتح الراء هي السنة والطريقة والهيأة وجمعها سير «1» . وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى «2» ، وقد دلت اللفظة في هذه الاية على (الهيأة) «3» . وتعني هذه اللفظة أيضا أحاديث الأوائل إذا استعملناها بصيغة الجمع (سير) «4» . ووافق الزبيدي (ت 1205 هـ) على ما طرحه سابقوه من معاني لهذا اللفظ «5» . أما بالنسبة إلى أصحاب المعاجم الاصطلاحية الحديثة ودوائر المعارف فقد تناولوا تطورات هذا اللفظ واستعمالاته المتعددة، إذ ذكر أحدهم أن لفظة السيرة تعني" السنة والطريقة والحالة التي يكون عليها الإنسان وأخذت السيرة   (1) الجوهري، إسماعيل بن حماد، (ت 5393) ، الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1977، مادة (سير) ، 2/ 191. (2) سورة طه: آية 21. (3) الفخر الرازي، محمد بن زكريا، (ت 697 هـ) ، التفسير الكبير، القاهرة، د، ت، 21/ 29. (4) الفيروز آبادي، مجد الدين (ت 817 هـ) ، القاموس المحيط، المكتبة التجارية، القاهرة، 1913، مادة سير، 2/ 56. (5) ينظر، محمد بن مرتضى، تاج العروس، تحقيق: مصطفى الحجازي، وزارة الأعلام، الكويت، 1973، مادة (سير) ، 12/ 117- 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 بمعنى الطريقة" «6» . ويضيف آخر" السيرة جمع سير وهي في الأصل الطريقة مطلقا ثم غلبت على أخبار الناس ثم على أحوال النبي وطرائقه" «7» . ومن هذا نرى أن أصحاب المعاجم من القدماء والمحدثين قد اتفقوا على معنى هذه اللفظة ومدلولها فلم نجد منهم من خالف هؤلاء أو شذ عنهم. مما تقدم ذكره يبدو أن لفظة (سيرة) قد مرت بمراحل متعددة حتى تبلورت بهذا الشكل، إذ نلاحظ أن هذه اللفظة في بداية الأمر قد شاركتها في مدلولها وفحواها لفظة (المغازي) المغايرة لها في التركيب، وهذا ما أشار إليه الزبيدي حين أكد مشاركة وترابط هذين اللفظين بالمدلول والفحوى، حيث يقول" إن السيرة مأخوذة بمعنى الطريقة وأدخل فيها الغزوات وغير ذلك إلحاقا وتأويلا" «8» وأضاف التهانوي على هذا الأمر مقالة مفادها" وسميت المغازي سيرا لأن أول أمورها السير إلى الغزو" «9» . ووافقهم الأحمد نكري بما ذكروه من ترابط هاتين اللفظتين إذ قال" وغلبت كلمة سيرة في الشرق على أمور المغازي وسمي كتابها ب (كتاب السير) لأنه يجمع سير النبي وطرقه عليه السّلام في مغازيه" «10» .   (6) التهانوي، محمد علي، كشاف اصطلاحات الفنون، كلكتا، 1866، طبع أوفست، مكتبة المثنى، د، ت، 1/ 633- 664. (7) البستاني، بطرس، دائرة المعارف، دار المعرفة، بيروت، د، ت، 10/ 307. (8) تاج العروس، مادة (سير 9، 12/ 121) . (9) كشاف اصطلاحات الفنون، 1/ 663- 664. (10) عبد النبي بن عبد الرسول، دستور العلماء، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، 1329 هـ، 2/ 194- 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ومن تبيان لفظة المغازي التي تعني مواضع الغزو نفسه ثم اطلقوها على مناقب الغزاة وغزواتهم «11» وبعد ذلك توسعوا في استعمالها فأطلقوها على حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم حتى جعلوها مرادفة للفظة (سيرة) «12» . وهذا الاقتران في معنى هاتين، اللفظتين (السيرة والمغازي) يضيء لنا السبل في تعرف أصل معنى السيرة المركب «13» ويضيف أحد الباحثين في تبيان هذا الأمر ان لفظة السيرة والمغازي مقترنتان ببعضهما في المصنفات القديمة الخاصة بترجمة حياة الرسول إذ يقول" إن اللفظتين سيرة ومغازي مستعملتان بمعنى واحد لا يفترق بينهما ... على أن كلا اللفظتين مضلل بحيث أن موضوع اللفظة (سيرة) غير مقيد بسيرة النبي على الإطلاق في الحالة الأولى ولمغازيه في الحالة الثانية" «14» . من هذا نرى ان هذين المصطلحين قد مرا باستعمالات متعددة واصبحا مترابطين في المعنى والمدلول لمواضيع المصنفات الخاصة بحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في القرون الثلاثة الأولى، وهذا ما أكده ابن النديم (ت 381 هـ) عند ذكره لمصنفات المؤرخين الذين كتبوا عن سيرة الرسول بإطلاق لفظة" وله كتاب في المغازي" «15» .   (11) ينظر ابن منظور، محمد بن مكرم (ت 731 هـ) ، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1968، مادة غزا 51/ 123- 124. (12) ينظر مجموعة من المؤلفين، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1961، مادة (سير 9، 1/ 470. (13) دلا فيلدا، دائرة المعارف الاسلامية، مادة سيرة، ترجمة عبد الحليم النجار، القاهرة، د. ت. 12 م 440. (14) جونس، مارسدن، مقدمة تحقيق: كتاب المغازي محمد بن عمر الواقدين مطبعة اكسفورد، 1966، 1/ 19. (15) ينظر، محمد بن أبي إسحاق، الفهرست، تحقيق: رضا تجدد، طهران، 1971، ص 105، 106- 114، 122، 147، 252، 282، 284، 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وأخذت لفظة السيرة تستقل بمدلولها وذلك في القرون التي تلت القرن الثالث الهجري «16» باستثناء ما قام به الكلاعي (ت 634 هـ) من تسمية كتابه (الاكتفا في مغازي الرسول والثلاثة الخلفا) وتعرضه لجوانب كثيرة جدا من سيرة الرسول ولا سيما الدعوة الإسلامية في المرحلة المكية مدمجة مع أعماله العسكرية (المغازي) «17» . ويعزو الدوري هذا الترابط بين هاتين اللفظتين إلى استمرار فكرة الأيام التي كانت- مع القبائل العربية قبل الإسلام- متعلقة بأذهان المسلمين، فأخذوا يسردون المغازي مشفوعة بذكر الحوادث التي سبقتها والتي تلتها «18» . لم تقتصر استعمالات لفظة (سيرة) على حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وطريقة سلوكه وعيشه بل تعدتها إلى الحديث عن شخصيات أخرى، إذ ابتدأت على هيأة محاولة من قبل الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) يطلب فيها من سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (ت 106 هـ) كتابة سيرة جده عمر بن الخطاب (رض) في أهل القبلة وأهل العهد «19» . لم يكتب لهذه المحاولة النجاح فقد أجاب سالم بن عبد الله بن عمر على طلب الخليفة بالقول" أما بعد فأنك كتبت إلي تسألني ... أن أكتب لك بسيرة   (16) ينظر حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1012- 1013. (17) ينظر سليمان بن موسى، الاكتفا، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1968، 1/ 8- 278 (18) عبد العزيز، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، دار المشرق، بيروت، ط 1، 1960، ص 43. (19) ينظر عبد الحكم، عبد الله (ت 214 هـ) سيرة عمر بن عبد العزيز، تحقيق: أحمد عبيد، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 5، 1954، ص 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عمر وقضائه في أهل القبلة وأهل العهود، وتزعم أنك سائر بسيرته إن الله اعانك على ذلك وانك لست في زمان عمر ولا في مثل رجال عمر" «20» . هذا من حيث الاستعمال أما من حيث التصنيف فان أول من استعملها في هذا المضمار بحسب ما يذكره ابن النديم هو عوانة بن الحكم (ت 147 هـ) وذلك في كتاب أسماه (سيرة معاوية وبني امية) «21» . ولكن هذا الكتاب قد أثار شكوك أحد الباحثين حول صحة نسبته إلى عوانة «22» . وما تأكد أن أول من صنف كتابا استعملت فيه هذه اللفظة هو محمد بن عمر الواقدي (ت 204 هـ) في كتابه الذي أسماه (سيرة أبي بكر ووفاته) «23» وشاركه معاصره عبد الله بن عبد الحكم (ت 214 هـ) في تصنيف كتاب أطلق عليه (سيرة عمر بن عبد العزيز) «24» . استمر المؤرخون بكتابة مصنفات تتناول سير الأعلام البارزين من الخلفاء والعلماء بكتب مستقلة، حتى بلغت الشيء الكثير. وقد بين حاجي خليفة قبل استعراضه لأسماء هذه المصنفات أن لفظة (سيرة) أو (سير) تعني ترجمة حياة شخص ما أو تأريخ حياته، غير أنه إذا أطلق لفظ (سيرة) مشفوعة بألف ولام حصرا يراد بها ترجمة حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأصبحت علما قائما بذاته هو علم السير «25» ، الذي عرفه احد العلماء بالقول: " ومن اعظم العلوم فضلا وشرفا   (20) المصدر نفسه، ص 103- 104. (21) الفهرست، ص 134. (22) نصار، حسين، نشأة التدوين التاريخي عند العرب، دار إقرأ، بيروت، ط 2، 1980، ص 74. (23) ابن النديم، الفهرست، ص 111. (24) ابن عبد الحكيم، سيرة عمر بن عبد العزيز، ص 3. (25) كشف الظنون، 2/ 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 علم السير الذي هو عبارة عن ذكر مناقبه عليه الصلاة والسلام وماثر وبيان اوصافه السنية واحواله العلية وخصائصه ومعجزاته البهية ولذلك ترى الناس في كل مذهب يذهبون نظما وشعرا ونثرا سرا وجهرا في هذه الفنون ومما يتعين على كل متكلف" «26» . وهذا مما يبين لنا أن مصطلح (السيرة) قد أصبح حكرا على المصنفات الخاصة بحياة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «27» . خصص بعض الباحثين المحدثين دراسات مستقلة تناولت التعريف بهذا المصطلح (سيرة) واستعمالاته بكتب مستقلة*، وبينت هذه الدراسات تطورات هذا المدلول واستعمالاته، إذ أشار أحد هؤلاء الباحثين الى تطور هذا المدلول من حيث الاستعمال بقوله: " السيرة نوع من الأدب يجمع بين التحري التأريخي والامتاع القصصي، ويراد به درس حياة فرد من الأفراد ورسم صورة دقيقة لشخصية ما، والسيرة قسمان العام الذي يتناول أشخاصا كثيرين مثل كتب الطبقات، ... ومنها الخاص كالسيرة النبوية وسيرة عمر بن عبد العزيز، وحتى هذه السير الخاصة فأنها تنقسم إلى نوعين سير ذاتية تدور على حياة كاتبها (المذكرات) ، وسير موضوعية تدور حول شخص آخر" «28» .   (26) الرجائي، علي بن الحسين، الغرر العلية في شرح الدرر السنية النبوية، مخطوط في مكتبة الاوقاف العامة، بغداد، برقم (1052) مجاميع. (27) دلا فيلدا، دائرة المعارف الإسلامية، مادة سيرة، 12/ 43. * من هذه الدراسات دراسة الدكتور إحسان عباس (فن السيرة) ، أندريه مورا (أوجه السيرة) ، هاني العمد (دراسات في التراجم والسير) . (28) المقدسي، أنيس، الفنون الأدبية، دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1978، ص 547. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 من قول هذا الباحث نرى أن السيرة النبوية ينطبق عليها مفهوم السير الموضوعية لأنها تدور حول تعرف حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وفهم معاني شخصيته وأحواله من قبل أناس آخرين. بين لنا أحد الباحثين هذا الأمر إذ وصف السيرة الموضوعية بأنها لا تكتسب صفة السيرة بمعناها الحقيقي إلا إذا كانت تفسيرا للحياة الشخصية في جوها التاريخي «29» ، ويضيف باحث آخر واصفا هذا الامر قائلا: " ان هذا النوع من التاريخ قد اعتمد على شيئين: الأول ما كان دائرا بين العرب في أخبار الجاهلية كجرهم، ودفن زمزم وقصة سد مأرب، ونحو ذلك، والثاني أحاديث رواها الصحابة والتابعون عن حياة النبي من ولادته ونشأته ودعوته إلى الإسلام وجهاده للمشركين وغزواتهم، وقد كان تأريخ النبي داخلا في ما يرويه من حديث، فلما رتبت الأحاديث في الأبواب جمعت السيرة في أبواب مستقلة، ثم انفصلت هذه الأبواب عن الحديث وألفت فيها الكتب الخاصة، وإن ظل بعض المحدثين يدخلونها ضمن أبوابها" «30» ، فضلا عن هذا كله فإن مفهوم السيرة يعطي بعدا تأريخا أكثر من إعطائه بعدا أدبيا، وذلك بكون حياة الفرد وخصوصيتها هي المحور الذي تعالجه كتابة السيرة، وهذا المحور هو جزء لا يتجزأ عن المجتمع، ويصف هذه الفكرة المقدسي بقوله: " كلما كانت السيرة تعرض للفرد في نطاق المجتمع، وتعرض أعماله متصلة بالأحداث العامة أو منعكسة منها أو متأثرة بها فان السيرة في هذا الوضع تحقق غاية تأريخية، وكلما كانت السيرة تجتزئ بالفرد   (29) عباس، فن السيرة، ص 15. (30) عفيفي، محمد الصادق، تطور التفكير العلمي عند المسلمين، مكتبة الخانجي، القاهرة ن 1977، ص 306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وتفصله عن مجتمعه وتجعله الحقيقة الوحيدة الكبرى، وتنظر إلى كل ما يصدر عنه نظرة مستقلة فان صلتها بالتأريخ تكون واهية ضعيفة" «31» . وافق على هذا القول باحث آخر وذلك حين استعرض ارتباطات المصطلحات الفكرية المستعملة في المصنفات التي كتبها أصحابها بواقعها الذي كتبت فيه، إذ بين" إن ترجمة الحياة عملية فنية تجمع بين عمل المؤرخ من جهة ارتباطها بسيرة إنسان عاش في بيئة بعينها وزمن بعينه وبين عمل المصور الفنان الذي يتخصص في رسم الصورة التصنيفية للأشخاص" «32» . هذه هي الأمور التي أردنا إيضاحها في تطور المدلول اللفظي (سيرة) واستعماله عند اللغويين والمؤرخين ووجهات نظر الباحثين المحدثين في التراكيب اللفظية التي انفصلت من هذا اللفظ وتخصصت بمفهوم معين.   (31) المقدسي، الفنون الأدبية، ص 547. (32) إسماعيل، عز الدين، الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 5، 1973، ص 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المبحث الثاني المصادر الأولية لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قبل تصنيفها وتبويبها إهن الكتابة في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لم تكن مبوبة ومنسقة قبل الربع الثاني من القرن الثاني الهجري أي قبل تصنيف محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) أول سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «1» . إذ كانت الكتابة في المدة المحصورة بين وفاة الرسول وتصنيف أول سيرة له مقتصرة على بعض المدونات التي كان يستقى منها بعض الأحداث التي رافقت الدعوة الإسلامية، وهذه المدونات اصبحت في ما بعد أصولا يعتمد عليها كل من يريد الكتابة في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله. ولكن هذه المدونات لم تكن مؤرخة لأحداث عصر الرسالة، بل كانت كل مدونة من هذه المدونات تتناول جانبا من هذه الأحداث لا تتناوله مدونة اخرى، أو تشير إليه عرضا، ومن ثم كانت كل مدونة من هذه المدونات مكملة للاخرى، ومتممة لها، حتى إذا جاءت المصنفات المبوبة جمعت شمل هذه المدونات ونسقت بينها في مصنف يحويها مع إضافة ما فات عليها من حوادث «2» . وهذه المدونات (المصادر) هي: -   (1) ينظر، الذهبي، محمد بن أحمد (ت 748 هـ) ، تذكرة الحفاظ، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط 1، 1956، 1/ 151. (2) ينظر، مصطفى، شاكر، التأريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1978، 1/ 92- 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أولا: القرآن الكريم: يعد القرآن الكريم المصدر الأول والأوثق للسيرة النبوية، لأنه كتاب الله تعالى الموصوف بأنه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «3» ، فضلا عن أن القرآن أول الكتب التي دونها المسلمون، لأنه دستورهم في دينهم ودنياهم «4» . كان القرآن أحد الحوافز المهمة التي حفزت المسلمين على تعرف سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، ذلك لأنه حوى في سوره وآياته جوانب عدة من سيرته الشريفة بمختلف أجزائها، حتى كانت هذه السور والايات محط تساؤل واستفهام من قبل المسلمين فما كان منهم إلا أن وجهوا العديد من الأسئلة والاستفسارات للذين عاصروا نزول القرآن وشاهدوا حوادث الرسالة من الصحابة ومن كان له علم بأخبارها ممن أتى بعدهم، حتى كانت هذه الأسئلة والاستفهامات حافزا على كتابة سيرته الشريفة «5» . لأجل ذلك تنبه العديد من الباحثين إلى ما تضمنه القرآن الكريم من وصف لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، فأخذوا بجمع شتات هذه الايات المتفرقة ضمن سور   (3) سورة فصلت، آية 42. (4) عن كتابة القرآن الكريم وأطوارها عند المسلمين، ينظر، السجستاني، عبد الله بن أبي داوود (ت 316 هـ) ، المصاحف، تحقيق: آرثر جفري، المطبعة الرحمانية، القاهرة، ط 1، 1936، ص 3- 18. (5) ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 القرآن المتفرقة بمصنف مستقل يحوي هذه الايات على وفق الخطة التي سار عليها معظم المؤرخون عند استعراضهم لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «6» . وضح أحد المصنفين الذين خصصوا كتبهم لاستعراض الايات القرآنية التي تطرقت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم منحاه في هذا الأمر بقوله الذي أفتتح به كتابه: " وبعد أن استقصيت ما في القرآن الكريم من آيات مكية ومدينة متصلة بالسيرة النبوية ... ايقنت أن في الإمكان كتابة فصول للسيرة النبوية مقتبسة من القرآن الكريم" «7» . ويضيف آخر حول انتهاجه لهذا المسلك في التصنيف: " حاولت جهدي أن أورد ما استطعت إيراده من الايات التي وردت متفرقة في ثنايا السور ولم ترد في سياق القرآن بصورة متوالية كوحدة تأريخية مترابطة للسيرة النبوية بل جاءت في كثير من السور وكأنها معالم بارزة تشير إلى أهم الحوادث في حياة الرسول من مولده إلى مماته، ... وقد سردت أنباء هذه السيرة في سياقها التأريخي المألوف" «8» . ويبدو من هذه المصنفات أنها عاملت النص القرآني بوصفه أحد المصادر المهمة والموثوقة التي لا يدخل إليها الشك والضعف في معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، ولولاه لأصبحت تلك الحوادث التي وثقها مجرد حوادث تأريخية تفتقر إلى القرائن المؤكدة لحصولها.   (6) عن المصنفات التي نحت هذا المنحى، ينظر، إسحاق، علي شواخ، معجم مصنفات القرآن الكريم، دار الرفاعي، الرياض، ط 1، 1984، 3/ 214- 215. (7) دروزه، محمد عزة، سيرة الرسول (ص) ، صور مقتبسة من القرآن الكريم، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط 1، 1، 1965/ 6. (8) إبراهيم، محمد إسماعيل، سيرة الرسول ومعالمها في القرآن والسنة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 1، 1972، ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثانيا: الوثائق النبوية (مكاتبات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم) : تشمل هذه الوثائق الرسائل والمعاهدات والوصايا التي كتبت بأمر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ودونت في حياته الشريفة وفي المرحلة المدنية من الدعوة الإسلامية حصرا لأن هذه الوثائق لم تكتب إلا عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة واصبح قائدا دينيا ودنيويا للمسلمين، وعلل أحد الباحثين افتقار العصر المكي لمثل هذه الوثائق بكون" عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قبل الهجرة عهد تمهيد وتجربة ولا يصح أن يقال إن الجماعة الإسلامية بمكة كانت حينئذ دولة من الدول، فإنه لم يكن لها كيان سياسي ولا نظام إداري. ولا تصادف في هذا العصر ما يطلق عليه اسم السياسة الخارجية سوى بيعتي العقبة والرضوان اللتين أسستا بنيان الدولة الإسلامية وكان لهما أثر عظيم في ما بعد، إلا أنهما لم تكتبا في قرطاس ولم تؤخذا إلا سرا" «9» . استفاد العلماء المسلمون من هذه الوثائق، واعتمدوها في مصنفاتهم بحسب اختصاصهم واهتماماتهم، وذلك لأنها شملت جوانب عدة من حوادث عصر الرسالة، إذ ضمت بحسب ما صنفها الحيدر آبادي: - أ. المعاهدات الجديدة أو تجديد ما سبق من المعاهدات. ب. الدعوة إلى الإسلام. ج. تولية العمال وذكر واجباتهم وكيف ينبغي لهم أن يتصرفوا في أمر من الأمور. د. العطايا من الأراضي أو الغلات وغيرها.   (9) الحيدر آبادي، محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية العائدة للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار التأليف والترجمة، القاهرة، ط 2، 1956، مقدمة الكتاب، ص يه- يو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 هـ. كتب الأمان والتوصية. و. استثناء بعض الأوامر في حق أناس معينين. ز. المتفرقات مثل المكاتيب التي جاءت جوابا عما كتبه النبي (ص) «10» . ومع كل ذلك فإن هذه الوثائق يجب أن لا تؤخذ جميعها على كونها من المسلمات الأكيدة من حيث إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قد أمر بكتابتها، إذ إن هذه الوثائق بحسب ما أشار الحيدر آبادي قد لعبت بها بعض الأيدي، وظهرت من جراء ذلك بعض الوثائق المنحولة والمزيفة والموضوعة التي كتبت لأغراض متعددة. إذ وضع لأجل ذلك معيارا بين فيه مقاييس الوضع والصحة في هذه الوثائق قال فيه: " ونظن أن كتب الأمان التي كتبها النبي (ص) للقبائل المسلمة أو الخاضعة له أو التي لم تتضمن إلا مطالبتهم بأداء الفرائض الدينية صحيحة لأنه لا يوجد فيها ما عسى أن يكون موضوعا إذ لا حاجة لأحد إلى وضعها، ولو كانت بعض هذه الكتب وضعت لتكون مفخرة لقبيلة على أخرى، فان مثل هذا الوضع كان يترك طابعة في أسلوبها، ولكن هذه الوثائق لا تحتوي إلا على إعطاء الأمان والأمر بإقامة الفرائض، أما الوثائق التي لا تشمل إلا على الحقوق والواجبات أو التي تذكر أشياء لم توجد في عصر النبي (ص) فنعدها موضوعة كبعض العهود التي زعموا أن النبي (ص) كتبها للنصارى واليهود والمجوس ... وفوق هذا نجد أن الوثائق الطويلة أكثر تعرضا للتحريف، إذ كان المعتمد في الرواية على السماع، ولذلك نجد أن أطول النصوص أكثرها اختلافا" «11» .   (10) محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، يح- يط. (11) المصدر نفسه، كب- كج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أهتم المسلمون منذ عصر الرسالة بهذه الوثائق فقاموا بحفظ نسخ منها، إذ أكدت إحدى الدراسات الحديثة هذا المنحى بالقول: " إن الصحابة والتابعين كانوا ينسخون صورا من خطابات النبي (ص) المرسلة إلى مختلف الجهات ... لأنه لم يكن ممكنا لأحد أن يجمع مكاتيب الرسول (ص) المرسلة إلى الجهات الأخرى ما لم تكن هناك صور محفوظة منها لدى الصحابة" «12» . اتفقت هذه النتيجة آنفة الذكر مع ما أوردته المصادر المتقدمة أن بعض الصحابة كانوا يحفظون شيئا من هذه المكاتبات عندهم، إذ أوضح القاسم بن سلام (ت 224 هـ) أنه قد اطلع على الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أهل دومة الجندل إذ أتاه به شيخ من أهل تلك المدينة وكان الكتاب مكتوبا في قضيم صحيفة بيضاء فنسخه بتمامه «13» . وأضاف محمد بن عبد الله الأزرقي (ت 232 هـ) إلى أن أسرته قد احتفظت بالكتاب الذي كتبه الرسول لجدهم الأزرق بن عمر وولده إلى أن ذهب هذا الكتاب في أحد السيول الذي اجتاح مكة سنة (80 هـ) «14» . وأكد عبد الله بن يوسف الزيلعي (ت 762 هـ) أن عكرمة مولى عبد الله ابن عباس قد نسخ الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين يدعوه فيه إلى الإسلام «15» .   (12) الأعظمي، محمد حسن، كتاب النبي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1981، ص 26. (13) أبو عبيد، الأموال، تصحيح وتحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة حجازي، القاهرة، 1353 هـ، ص 195. (14) أخبار مكة وما جاء فيها من الاثار، تحقيق: رشدي صالح، دار الثقافة، مكة المكرمة، ط 2، 1965، 2/ 242. (15) نصب الراية لأحاديث الهداية، المجلس العلمي الهندي، ط 1، 1938، 4/ 420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لاقت هذه الوثائق ترحيبا واستجابة من قبل الناس لسماعها وتنفيذ ما جاء فيها من أوامر وذلك في الأجيال التي تلت الجيل الأول من المسلمين، وهذا ما أوضحه محمد بن سعد (ت 230 هـ) في روايته التي أورد فيها مكانة هذه الوثائق وما كانت تلقاه من قبل المسلمين وأن أمرها لنافذ ولا يحتاج إلى مراجعة «16» . لم يصلنا من أصول هذه الوثائق سوى أصلين أو ثلاثة كما ذكر ذلك الحيدر آبادي «17» ، وهذا راجع إلى كون هذه الوثائق قد كتبت على مواد قابلة للتلف والتحلل بسرعة ك (الأعشاب والبردي والرق) ، فضلا عن ذلك كله فإن بقية الوثائق قد حوتها المجاميع الحديثية وكتب السيرة والفقه، إذ بينت دراسة الحيدر آبادي أماكن هذه الوثائق من تلك المصنفات «18» . ثالثا: مدونات الصحابة والتابعين: هذه المدونات هي ما كتبه الصحابة والتابعون في صحف ورقاع مما سمعوه أو شاهدوه من أحداث عاصروها تخص سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، ولكن هذه المدونات قد تضاربت فيها الاراء حول صحة الروايات التي أشارت إلى قيام بعض الصحابة والتابعين بتدوين مشاهداتهم وسماعاتهم لبعض أحداث السيرة «19» .   (16) ينظر، الطبقات الكبرى، نشر ادوارد سخاو، ليدن، هولندا، 1322 هـ، 6/ 77. (17) ينظر، مجموعة الوثائق السياسية، ص 43، 72، 80. (18) ينظر، المصدر نفسه، ص 3- 279. (19) ينظر، عوجان، وليد، النهي عن تدوين غير القرآن، مجلة البحوث والدراسات، جامعة مؤتة، الأردن، مجلد 10، عدد 3، آب، 1995، ص 65- 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 كان سبب هذا التضارب في الاراء هو تناقض الروايات من حيث إباحة التدوين والكتابة والأمتناع عنها «20» . ظلت هذه القضية محل أخذ وعطاء بين الباحثين حتى صرح أحدهم بتأكيد شديد حول نفي الاراء الرافضة لوجود تدوين في بدايات القرن الأول الهجري إذ يقول: " إن قضية العلم العربي الذي ظل محفوظا في الصدور والذاكرة حتى أواسط القرن الثاني الهجري إنما هي محض خرافة" «21» . لم تقتصر تلك المدونات على الجوانب التأريخية لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل كانت تتضمن أحكاما تشريعية؛ وهذه الأحكام هي (السنة) ولذلك نجد أن هذه المدونات قد تلقفتها كتب الحديث والأخبار والسيرة على حد سواء «22» . إن هذا التداخل بين هذه المواضيع في هذه المدونات مرجعه إلى أن الاستقلالية في التصنيف بالعلوم والمعارف آنذاك ولا سيما عند المؤرخين والمحدثين لم تكن قد نشأت بعد؛ فضلا عن اشتراكها باليات البحث لكل منهما وهي (الرواية) «23» .   (20) ينظر، ابن عبد البر، يوسف، (ت 460 هـ) ، جامع بيان العلم وفضله، المطبعة الأميرية، د، ت، 1/ 61- 68، الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، (ت 463 هـ) ، تقييد العلم، تحقيق: يوسف العش، مطبعة إحياء السنة النبوية، القاهرة، 1975، ص 35- 84. (21) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 83. (22) ينظر، السباعي، مصطفى، السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي، دار العروبة، القاهرة، ط 1، 1961، ص 59. (23) ينظر، الجندي، أنور، مقدمات العلوم والمناهج، دار الأنصار، القاهرة، ط 1، 1965، ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولّد هذا الأمر ترابطا وثيقا جدا بين الحديث والتأريخ في بداية تدوينهما عند المسلمين، إذ أسهما في رفد السيرة النبوية بالروايات التي تدخل ضمن اختصاص كل منهما «24» . تجدر الإشارة الى أن معظم أصول هذه المدونات قد فقد، مما حدا بالباحثين على الاعتماد في دراستها على المصادر التي نقلت منها والتي وصلت إلينا، فضلا عن ان بعضها قد تضاربت فيه الاراء من حيث إنها روايات منقولة شفاها أم مدونة. كما يبين لنا استعراض هذه المدونات: - أ. مدونات الصحابة: ارتأينا فصل مدونات الصحابة عن مدونات التابعين، وذلك لأن مدونات كل من هذين الفريقين تختلف بكمها وأسلوبها وطريقة عرضها للحوادث عن الأخرى، وتختلف في انتقائها للحوادث المراد توثيقها، وقبل البدء بعرض هذه المدونات يجب أن نشير إلى أن أقدم ما دون عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان من قبل صغار السن من الصحابة «25» . أما الصحابة الذين ذكرت المصادر والدراسات الحديثة أنهم قد دونوا بعض الأشياء عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله هم:   (24) ينظر، معروف، بشار عواد، مظاهر تأثير علم الحديث في علم التأريخ عند المسلمين، مجلة الأقلام، وزارة الثقافة، العراق، عدد 5، السنة الأولى، كانون الثاني، 1965، ص 22- 37. (25) سزكين، فؤاد، تأريخ التراث العربي، ترجمة: فهمي ابو الفضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، 1/ 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 1. سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي: وهو من صغار الصحابة، ولي اليمن في زمن الإمام علي عليه السّلام (35- 39 هـ) وكان أبوه وأخوه قيس من رؤساء الخزرج وأعيانهم، فضلا عن شهادة من كتب عن تراجم الصحابة بأنه ممن تأكدت صحبته للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «26» . دون هذا الصحابي بعضا من الحوادث التي مرت عليه في عصر الرسالة حتى عدته إحدى الدراسات من أوائل الذين دونوا أشياء عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «27» ، إذ أورد ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) رواية مفادها أن حفيده سعيد بن عمر قد روى عن جده وجادة «28» ، مع العلم أن مصطلح الوجادة يعني عند المحدثين ما يقف عليه الراوي في كتاب شخص يروي بدوره عنه من دون أن يلقاه أو يسمع الحديث منه أو يجيزه برواية الكتاب ونشره «29» . اندثرت هذه المدونة بالروايات التي كتبت فيها، إذ لم يصل منها سوى بعض الروايات المتناثرة في بطون الكتب التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا تصور سوى بعض الأحداث البسيطة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «30» .   (26) ينظر، ابن عبد البر، يوسف، الاستيعاب في معرفة الصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، مكتبة نهضة مصر، د، ت، 2/ 16. (27) سزكين، تأريخ التاراث العربي، 1/ 443. (28) شهاب الدين أحمد بن علي، تهذيب، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، 4، 1359/ 69. (29) ينظر، ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن، (ت 842 هـ) ، مقدمة في علوم الحديث، تحقيق: عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ مركز تحقيق: التراث، القاهرة، 1976، ص 292. (30) ينظر ابن حنبل، أحمد (ت 242 هـ) ، المسند، المطبعة الميمنية، مصر، 1313 هـ، 5/ 222، الطبري، محمد بن جرير (ت 310 هـ) ، تأريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1961، 1/ 114، سزكين، تأريخ التراث، 1/ 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 2. سهل بن أبي حثمة الأنصاري: صحابي من بني ساعدة بن عامر من قبيلة الأوس كان يبلغ من العمر سبعا أو ثماني سنين حين توفي الرسول ومات في أول خلافة معاوية «31» . اهتم بتدوين بعض حوادث السيرة، إذ أشار إلى هذا الأمر حفيده محمد بن يحيى بن سهل إلى أنه كان يعتمد على ما كتبه آباؤه في حوادث السيرة، ومما يؤكد هذا الأمر أنه كان يقول في معرض حديثه عن بعض المغازي التي نقلها منه الواقدي في كتابه (المغازي) «32» ، " وجدت في كتاب آبائي" «33» . فضلا عن ذلك فإن إحدى الدراسات الحديثة قد أكدت أن هذه المدونة قد كانت أحد المصادر المهمة المكتوبة التي اعتمدها الواقدي في كتابه المغازي «34» ووجدت هذه المدونة مكانا آخر لها عند البلاذري (ت 279 هـ) إذ نقل منها رواية واحدة «35» . كانت هذه المدونة أوفر حظا من سابقتها لوجود شخص قد روى بعض متضمناتها من الروايات التي وثقت بعض حوادث السيرة.   (31) ينظر، ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/ 661. (32) ينظر، 2/ 713، 775، 777. (33) سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 444. (34) ينظر، الكبيسي، محمد فضيل، منهج الواقدي وموارده في كتاب المغازي، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1989، ص 194- 195. (35) ينظر، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، تحقيق: محمد حميد الله، جامعة الدول العربية، دار المعارف، ط 1، 1959، 1/ 509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 3. عبد الله بن عباس (ت 68 هـ) : وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ومن الذين أخذ عنه العلم الكثير بمختلف صنوفه حتى لقب بحبر الأمة «36» . أشارت العديد من المصادر إلى دور هذا الرجل بتوثيق أخبار السيرة والسؤال عن الأحداث التي حصلت فيها ممن شاهدها أو سمعها من الصحابة الذين هم اكبر سنا منه، إذ يشير إلى هذا الأمر: " كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وما نزل من القرآن في ذلك وكنت لا أتي أحدا منهم إلا سر باتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم" «37» ، ويضيف أيضا: " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قلت لرجل من الأنصار هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فانهم اليوم كثر قال واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله من فيهم قال فتركت ذلك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عن الحديث فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فأتي وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي التراب فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ألا أرسلت علي فاتيك فأقول لا أنا أحق أن اتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش ذلك الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي ليسألوني فيقول هذا الفتى كان أعقل مني" «38» .   (36) ترجم له ابن سعد ترجمة وافية، ينظر، الطبقات الكبرى، 2/ 2/ 112- 138. (37) المصدر نفسه، 2/ 2/ 124. (38) الطبقات الكبرى، 2/ 2/ 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بينت هذه الرواية أن الناس قد لزموا ابن عباس وأخذوا يسألونه ويستفسرون عن الحوادث التي جرت في عصر الرسالة على الرغم من وجود صحابة عدة للرسول أكبر سنا بكثير منه حتى قال واحد من الذين لازموا عبد الله بن عباس وسمعوا منه: " إني رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إذا تداروا في شيء صاروا إلى قول ابن عباس" «39» . لم يقتصر ابن عباس على السؤال وحده في حفظ أخبار السيرة بل كان يكتب ما يسمعه من أجوبة عن الأسئلة والاستفسارات التي كان يطرحها على الصحابة، حتى رآه بعض الناس وقد حمل ألواحا يكتب عليها عن أبي رافعة شيئا من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم «40» ، حتى كانت حصيلة هذا المجهود المضني أن ترك مجموعة كبيرة من المدونات أو الصحائف في مختلف صنوف العلم وصفها ممن شاهدها بأنها تقدر بحمل بعير «41» . ومن اطلاعنا على الروايات التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مختلف المصادر وجدنا قسما كبيرا منها ينتهي بطرق إسنادها إلى ابن عباس «42» ، وهذا راجع إلى أن ابن عباس كان ممن يحدث الناس بمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مجلس   (39) المصدر نفسه، 2/ 2/ 122. (40) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2/ 2/ 127. (41) ينظر، المصدر نفسه، 5/ 216، الخطيب البغدادي، تقييد العلم، ص 136. (42) ينظر على سبيل المثال لا الحصر ابن هشام عبد الملك، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط 2، 1955. مج 1/ 207، 214، 219، 235، 295، 308، 314، 317، 417، 480، 521، مج 2/ 47، 55، 96، 97، 113، 119، 332، الواقدي، المغازي، 18، 54، 70، 79، 103، 146، 147، 153، 209، 310، 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 كبير يعقده في المدينة، إذ روى من شاهده أنه كان يجلس يوما لا يذكر فيه إلا الفقه ويوما التأويل ويوما المغازي ويوما أيام العرب «43» . تبين لنا هذه الروايات المنقولة عن ابن عباس أنه لم يفصل بين الروايات التي تخص حياة الرسول والروايات التي تخص ما نطق به من أحكام شرعية وما سنه من أفعال وأقوال، حتى كانت هذه السمة التي امتازت بها مدونات ابن عباس عن أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وسيرته. 4. عبد الله بن عمرو بن العاص (ت 65 هـ) : ولد بمكة قبل البعثة بسنتين، وكان من صغار الصحابة الذين دونوا بعضا من أحاديث الرسول في صحيفة أسماها (الصحيفة الصادقة) . وظل هذا الرجل محايدا في اتجاهاته وميوله للأحداث التي عاصرها إلى أن توفي بمصر سنة (65 هـ) في أرجح الأقوال «44» . كانت اهتمامات هذا الصحابي منصبة على تدوين أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ أكد ابن الأثير (ت 630 هـ) هذا الأمر حين وصف مدونة عبد الله بن عمرو بأنها قد ضمت ألف حديث «45» ، حفظ الزمن لنا منها (436) حديثا بحسب   (43) ينظر، ابن سعد، الطبقات، 2/ 2/ 122. (44) ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 7/ 1/ 189، ابن الأثير، علي بن محمد، (ت 630 هـ) ، أسد الغابة في معرفة الصحابة، مطبعة بولاق، مصر، 1280 هـ، 3/ 233. (45) أسد الغابة، 3/ 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 احصائية أحد الباحثين «46» ، وأورد الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) ، أكثر من نصفها في مسنده «47» . تناقل أحفاد عبد الله هذه الصحيفة أو المدونة، ومن الذين وصلت إليهم حفيده عمر بن شعيب، إذ أشار ابن حجر إلى هذا الأمر بقوله: " إذا حدث عمر ابن شعيب عن أبيه عن جده فهو كتاب" «48» كانت هذه المدونة إلى الحديث أقرب منها إلى السيرة ولكن محتوياتها من بعض الأحاديث التي وثقت بعض المواقف والأحداث التي حصلت في عصر الرسالة جعلتنا نوردها ضمن مدونات الصحابة للسيرة، إذ وجدنا الطبري قد اعتمد على رواية متن هذه الصحيفة بطريق عمر بن شعيب في كتابه التأريخ «49» . هذه هي المدونات التي تناولت بعض أحداث السيرة والتي اتفقت المصادر القديمة على قيام الصحابة بتدوينها، وإن لم تكن هي نهاية جهود الصحابة في توثيق أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل توجد هنالك مدونات أخرى لا ترتقي إلى مصاف سابقتها، إذ لم يتعد توثيقها حادثة محددة أو كتابة بعض الأحاديث النبوية «50» .   (46) الخطيب، محمد عجاج، السنة قبل التدوين، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 1، 1963، ص 349- 350. (47) ينظر، أحمد بن محمد الشيباني، المسند، دار صادر، بيروت، ط 1، 1969، 2/ 158- 226. (48) تهذيب التهذيب، 8/ 49. (49) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 86. (50) العمري، أكرم، بحوث في تأريخ السنة المشرفة، مطبعة الإرشاد، بغداد، ط 1967، 1 ص 141- 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ب. مدونات التابعين وتابعيهم: جاء بعد الصحابة جيل التابعين أو من اتصل بهم وسمع منهم أخبار عصر الرسالة بتفصيلاته الدينية والدنيوية، وقد أكمل هؤلاء ما بدأه سابقوهم بتدوين أحداث السيرة ونشرها بين الناس. إذ وجدنا مدوناتهم قد كانت أكثر وضوحا وشمولية من سابقتها، وذلك لتبني بعضهم مهمة جمع وتدوين بعض النصوص التي وقعت بين أيديهم والتي كتبها بعض الصحابة. تلك النصوص التي تخص مشاهد الرسالة والأحداث التي عاصروها من جانب، ومن جانب آخر وجود حافز تمثل في دور مؤسسة الخلافة التي كان الأمويون على رأسها؛ حين اتجهت هذه المؤسسة الى السؤال والاستفسار من بعض هؤلاء التابعين عما يعرفونه من أخبار حول حوادث معينة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وما رافقها من أمور الدعوة والدعاة، وهذا الأمر يعدّ نقلة نوعية في المسار التطوري لكتابة السيرة النبوية، فضلا عن ذلك فإن هذه المدونات تتصف بطابعها الإنساني وواقعيتها ويندر فيها ما نشاهده لدى المؤرخين في ما بعد من مبالغات «51» . ولّدت هذه الأمور مجتمعة دورا أساسا في تكوين مرحلة انتقالية أطلق عليها (المرحلة الانتقالية بين دراسة الحديث ودراسة المغازي) «52» ، ويعطي أحد الباحثين بعدا أكثر شمولية من الرأي السابق إذ يقول: " وقد شرع الناس في الجيل التالي للصحابة، جيل التابعين بجمع روايات وأقوال النبي (ص) وأفعاله   (51) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 21. (52) المصدر نفسه، ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 التي كانت شائعة في عصرهم، وإذا كانت مادة أحاديث عدد من الصحابة المدونة في الصحائف والكتب مشكوكا في صحتها وقيمتها، فانه لا يوجد شك في أن مثل هذه الكتب كانت نادرة في جيل التابعين الذين أخذوا معارفهم عن الصحابة ووجد بينهم أناس يعتبرون علماء بالمغازي" «53» . كانت هذه المدونات من نتاج كل من: 1. أبان بن عثمان (ت 105 هـ) *: وهو ابن الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رض) ولد في المدينة المنورة وسمع من الصحابة بعض الأحاديث والروايات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، وعين واليا عليها في زمن عبد الملك بن مروان (67- 87 هـ) «54» . اشتهر هذا الرجل بتدوينه مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومعرفته بها معرفته دقيقة، إذ تذكر إحدى الروايات أنه قد قام بتدوينها في زمن مبكر، وذلك حين سأله سليمان بن عبد الملك عند زيارته المدينة في موسم الحج عن مشاهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ أجابه أبان: (هي محفوظة عندي) ، فسرعان ما أحضرها له فلما قرأها أمر بتمزيقها ورميها بالنبل؛ وذلك لما رأى فيها من إبراز أبان لدور   (53) هوروفتس، يوسف، المغازي الأولى ومؤلفوها، ترجمة: حسين نصار، دار التأليف والترجمة، القاهرة، 1949، ص 30. (*) كتب الدكتور محمد مفيد آل ياسين بحثا مستفيضا عن هذه الشخصية وعن الملابسات التي رافقتها من حيث تأكيد قيامها بتدوين أحداث السيرة، مجلة المؤرخ العربي، الأمانة العامة الاتحاد المؤرخين العرب، بغداد، العدد 57، 1999، ص 167- 174. (54) ينظر، ابن سعد، الطبقات، 5/ 112، ابن حيان، أبو حاتم محمد البستي (ت 354 هـ) ، مشاهير علماء الأنصار، تحقيق: فيلا شيهمر، مطبعة لجنة التأليف. والترجمة، القاهرة، 1959، ص 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الأنصار في هذه المشاهد، على الرغم من موقفهم المتخاذل في نصرة الخليفة عثمان بعدما حوصر وقتل في داره «55» . تعطينا هذه الرواية- إن صحت- الجواب عن التساؤل الذي يتبادر إلى الذهن حول مصير هذه المدونة عند المعاصرين والمتأخرين عن عصر أبان، ولكن هنالك نص أورده ابن سعد في حديثه عن المغيرة بن عبد الرحمن يقول فيه: " كان ثقة قليل الحديث إلا مغازي رسول الله أخذها من أبان" «56» ، فكان هذا النص مبينا المصير الذي آلت إليه هذه المدونة بعد ما اجتمعت عليها هاتان الصعوبتان اللتان كانتا عاملا مهما في اندثار هذه المدونة، ويعلق أحد الباحثين على هذا الأمر بالقول: " إن أبان بن عثمان لم يرزق التلاميذ والرواة الذين يوصلون مروياته أو مدوناته في المغازي والسير إلى مسامع الناس" «57» ، وقد قطع الدوري بعدم وصول أي شيء من هذه المدونة في المصنفات التي اعتمدت مرويات أقرانه من التابعين عند حديثها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «58» . من هذا كله نخرج بمحصلة نهائية هي أننا لا نستطيع إيضاح الأسس والثوابت التي عرض بها أبان سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مدونته تلك، وذلك لاندثارها، وعدم وجود نقول منها في الكتب المتأخرة عنها، فضلا عن اسقاط أحد الباحثين أبان من ممثلي بدايات كتابة السيرة النبوية.   (55) ينظر الزبيري، الزبير بن بكار، (ت 243 هـ) ، الأخبار الموفقيات، تحقيق: سامي مكي العاني، ديوان الأوقاف، بغداد، ط 1، 1972، ص 331- 334. (56) الطبقات الكبرى، 5/ 156. (57) الأعظمي، محمد مصطفى، مغازي عروة بن الزبير، جمع وتحقيق، منشورات مكتب التربية لدول الخليج العربي، الرياض، ط 1، 1981، ص 21. (58) ينظر، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 2. عروة بن الزبير (ت 94 هـ) : هو ابن الصحابي الزبير بن العوام القرشي الذي يعد من كبار الفقهاء والمحدثين المدنيين، ومن العلماء بالسيرة وأحد الفقهاء السبعة في المدينة «59» . وقد وضحت المعالم الأولى لكتابة السيرة عنده، وذلك لأن لمساته وآثاره فيها كانت أوضح من سابقيه إذ تذكر المصادر المتأخرة أنه أول من ألف بالمغازي «60» . مع كل هذه الأقوال التي بينت تأليف عروة لكتاب في مغازي الرسول، لم تعط القناعة الكافية لأحد الباحثين بحتمية وجود مثل هذا الكتاب في تلك الحقبة، إذ يقول معلقا على هذا الأمر: " أما الخبر القائل بأن عروة قد ألف كتابا في المغازي فليس له مصدر قديم" «61» ، وهذا التشكيك من قبل هذا الباحث له ما يدعمه ويوصله إلى اليقين، إذا ما لا حظنا أن أحد الباحثين بعد ما قام بجمع النقول التي تحدثت عن اسهامات عروة برواية أحداث السيرة «62» ، وجدنا أنها لم تكن سوى رسائل متبادلة بينه وبين الخليفة عبد الملك بن مروان وبعض الولاة،   (59) ينظر، أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله، (ت 430 هـ) ، حلية الأولياء، مكتبة الخانجي، مصر، 1932، 2/ 176، الذهبي، محمد بن عثمان، (ت 748 هـ) ، تذكرة الحفاظ، دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1، 1956/ 62. (60) ينظر، الصفدي، خليل بن أيبك، (ت 764 هـ) ، الوافي بالوفيات، تحقيق: هلموت ريتر، فيسبادن، المانيا، 1961، 1/ 7، السيوطي، عبد الرحمن، (ت 911 هـ) ، الوسائل إلى معرفة الأوائل، تحقيق: محمد اسعد طلس، مكتبة الزوراء، بغداد، 1950، ص 115، حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1774. (61) سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 447. (62) ينظر، الأعظمي، مغازي الرسول لعروة بن الزبير، ص 34- 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 تضمنت إجابة عن تساؤلات عديدة حول حادثة بدء الوحي وبعض المشاهد التي شاهدها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وبعض الشوؤن الخاصة به «63» . كانت هذه الاراء مبينة أن عروة لم يكن سوى مدون لبعض الأحداث من دون أن يجمعها في مصنف حتى يطلق عليه أنه (أول من ألف في المغازي) ، إذ وجدنا رواية تؤكد هذه النتيجة ذكرها ابن سعد قائلا: إن لعروة كتب فقه أحرقها يوم الحرة وندم عليها كثيرا حتى كان يتمنى فقدانه لأهله وماله وبقاء تلك الكتب عنده «64» . نستطيع من تلك النقول التي جمعها الأعظمي تبيان الخطوط العامة التي نهجها عروة في توثيق أحداث السيرة والتي تضمنت: 1. الاستشهاد بالايات القرآنية في توثيق الرواية، وذلك لأن قسما من مروياته تعرض لأسباب نزول بعض الايات التي أوضحت بعض المواقف التي أنتهجها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في الأحداث التي عاصرته «65» . 2. إيراده الأشعار التي قيلت في الحوادث التي عرضها «66» ، وهذا الاهتمام بايراد الأشعار ناشئ من أن عروة بن الزبير كان من الرواة المشهورين للشعر العربي ولا ينازعه فيه منازع «67» .   (63) ينظر على سبيل المثال، الواقدي، المغازي، 1/ 18، 56، 59، 63، 71، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 366، 375، 421- 424. (64) الطبقات الكبرى، 5/ 133. (65) ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 334- 335، 421- 424. (66) ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 37، 72. (67) ينظر، أبو نعيم، حلية الأولياء، 2/ 176، ابن كثير، إسماعيل بن عمر، (ت 774 هـ) ، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، ط 2، 1977، 9/ 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 3. الاعتماد على إرسال الأخبار، وذلك من دون ذكر قائليها مع العلم ان عروة لم يعاصر تلك الأحداث «68» . علل الدوري برزو هذا المنحى عند عروة بأن الإسناد في زمنه كان مرنا وأن الناس لم يطالبوا المحدثين والرواة بإسناد أحاديثهم فضلا عن أن القواعد الدقيقة للإسناد لم تكن قد ظهرت بعد «69» . ولكن مع هذا كله، فإن عروة لم يكن مغفلا أسانيد جميع رواياته بل كانت هنالك بعض الروايات قد أسندها إلى قائليها «70» . هذه هي الخطوط العامة التي نهجها عروة في توثيق ورواية بعض حوادث السيرة التي مثلت نقلة نوعية ببروز الأسس والثوابت المعيارية لها من حيث وضع اللبنات التكوينية الأولى لكتابة السيرة وذلك بتقديمه نماذج أولية مكتوبة لبعض حوادث السيرة يسير عليها المتأخرون عنه ويضيفون عليها ما فات على سابقيهم من ذكر بعض الحوادث. 3. شرحبيل بن سعد (ت 123 هـ) : وهو من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة. ولد في أواخر خلافة عمر بن الخطاب ولقي جماعة كبيرة من الصحابة وسمع منهم وكان يكثر التردد على الصحابي زيد بن ثابت «71» .   (68) الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ، ص 21. (69) المصدر نفسه، ص 21، 74. (70) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 234، 237، 241، 243، 339، 340، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 55- 56، 70، 82. (71) ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 228، البستي، مشاهير علماء الأمصار، ص 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 انصبت اهتمامات شرحبيل بن سعد على دراسة مغازي الرسول بعامة وغزوة بدر بخاصة حتى عدّه بعض من ترجم له أنه كان من أعلم الناس في زمانه بالمغازي والبدريين «72» . أعطى هوروفتس توضيحا لهذه الاهتمامات بجعلها لا تتعدى سوى إعداد القوائم بأسماء المهاجرين إلى المدينة ومن اشترك بغزوتي بدر وأحد «73» ، ولكن أحد الباحثين يفند هذا الرأي باعتماده على مقالة ابن حجر التي يقول فيها" كان شرحبيل بن سعد عالما بالمغازي اتهموه أنه يدخل فيهم من لم يشهدوا بدرا وفيمن قتل يوم أحد إن لم يكن منهم وكان قد احتاج فسقط عند الناس فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال أو ان الناس قد اجترءوا على هذا، فدب على كبر السن وقيد من شهد بدرا وأحدا ومن هاجر للحبشة والمدينة وكتب ذلك" «74» ، إذ يتبين من هذا النص أن كاتب القوائم هو موسى بن عقبة وليس شرحبيل بن سعد كما فهم هوروفتس «75» . ولكن هذا الرأي آنف الذكر لا ينفي بتاتا أن شرحبيل لم يكن مدونا لبعض حوادث السيرة إذ كانت مروياته التي أغفلها المعاصرون له قد ضمت أخبارا عن السيرة، إذ يبين النص الذي أورده ابن حجر والذي أوضح فيه أن أحدا من الناس قد سأل محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) المعاصر لشرحبيل عن سبب إغفاله لمرويات الأخير في المغازي وعدم إدراجها في كتابه أو ضمن   (72) ابن حجر، تهذيب التهذيب، 4/ 321. (73) المغازي الأولى، ص 26. (74) تهذيب التهذيب، 10/ 361. (75) نصار، هامش ص 6 من كتاب المغازي الأولى ومؤلفوها لهوروفتس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الروايات التي يلقيها على مسامع الناس، فأجاب ابن إسحاق على هذا التساؤل بالقول: " وأحد يحدث عن شرحبيل" «76» . كان سبب إغفال هذه الأخبار التي رواها شرحبيل هو لكبره وخرفه واختلال عقله كما ذكر ذلك ابن سعد «77» ، هذا من جانب ومن جانب آخر فأن الناس كانت تتحاشاه مخافة لسانه الذي يكيل التهم لمن يرده من أبناء الصحابة بأن أباك أو جدك لم يشهد بدرا «78» ، أو يجعل من لا سابقة له في الإسلام سابقة «79» . ولّدت هذه الأمور مجتمعة عزوفا من قبل المهتمين بسيرة الرسول لما تفوه به شرحبيل حتى لم نجد أية رواية عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ترجع في إسنادها إليه سوى رواية واحدة أوردها ابن سعد 79 أ. من هذا كله نستنتج أن هذا العزوف لمرويات هذا الراوي يدل على وجود حس نقدي مبكر للرواية والرواة. 4. وهب بن منبه (ت 114 هـ) وهو يماني المولد، فارسي الأصل. سكن المدينة، وحدث بها، وكان من المقربين لدى الخلفاء الأمويين، وممن أشتهر برواية أخبار الأمم السالفة وأهل الكتاب، وعرف العديد من لغات عصره 79 ب.   (76) تهذيب التهذيب، 4/ 321. (77) الطبقات الكبرى، 5/ 288. (78) ابن أبي حاتم، عبد الرحمن الرازي (ت 327 هـ) ، الجرح والتعديل، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الهند، ط 1، 1952، 1، 2/ 4/ 339. (79) ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361. (79 أ) ينظر الطبقات الكبرى. (79 ب) ينظر، ابن سعد، المصدر نفسه، 5/ 543، ابو نعيم الاصبهاني، حلية الاولياء، 4/ 61- 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عدّ هذا الرجل من قبل أحد المتأخرين في عداد من كتب في المغازي «80» ، ومال الى هذا الرأي أحد الباحثين إذ علق على ذلك بالقول: " وقول حاجي خليفة صحيح فقد وجد أحد المستشرقين بين مجموعة أوراق بردي في هيدلبرج [بالمانيا] مجلدا يحوي قطعة من كتاب المغازي هذا" «81» ، ووافق باحث آخر على هذا الرأي ايضا «82» . ولكن نسبة هذه المجلدة في المغازي إلى وهب محل تدبر وتأمل، وذلك بملاحظتنا ان سندها الذي أورده لنا هوروفتس قد حوى في طريق الإسناد إلى وهب سبطه عبد المنعم بن إدريس (ت 228 هـ) «83» الذي اتفق جميع العلماء الذين ترجموا له على أنه وضاع ويضع الحديث على جده وهب «84» . تدل الرواية التي أوردها لنا أبو نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) التي ينتهي إسنادها إلى وهب والتي وجد في أحد طرقها سبطه عبد المنعم على مصداقية الكلام آنف الذكر «85» ، إذ أخرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) هذه الرواية ضمن الموضوعات «86» ، فضلا عن تعليق أحد الباحثين على هذه الرواية بالقول: " وهذه الفقرة طويلة مفصلة ولكن قارئها لا يسعه غلا أن يشك فيها الشك   (80) حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1747. (81) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 34. (82) سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 441. (83) المغازي الأولى، ص 35. (84) الذهبي، الضعفاء والمتروكون، تحقيق: محمد أحمد قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1982، 2/ 23. (85) ينظر، حلية الأولياء، 4/ 73. (86) ينظر، عبد الرحمن، الموضوعات، تحقيق: عبد الرحمن محمد، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط 1، 1966، 2/ 295- 301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الشديد فأسلوبها مما لا نألفه في أساليب تلك الفترة وعبارتها غريبة عن الرجل الذي يعيش في ذلك العصر وكان للخيال فيها دور كبير، ولذلك إن صحت نسبتها لوهب فأننا لا نستطيع إطلاق صفة مؤرخ بل قصاص" «87» . إن الذي دفعنا لإثارة هذه الشكوك حول صحة كتابة وهب لمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هو أننا لم نجد في أثناء تصفحنا للكتب التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم رواية ينتهي سندها إلى وهب أو يكون هو في أحد طرقها هذا من جانب، ومن جانب آخر كانت معظم الروايات التي وصلت إلينا عن وهب تتضمن عرضا لأخبار الأنبياء والرسل والأمم والأقوام السالفة «88» ، مع ذكر ابن النديم (ت 381 هـ) أن له كتابا في هذه المحاور من التأريخ «89» ، وهذا ما دفع بهوروفتس إلى عدّ اسهامات وهب في هذه الجوانب من التأريخ مدخلا متمما لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، لارتباط الرسالات التي استعرضها وهب بالرسالة التي أتى بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلّم «90» ، فضلا عن ذلك فقد عدّ أحد الباحثين تدوين وهب لأخبار الرسل والأمم السالفة حافزا للمؤرخين الذين أتوا بعده على جعلهم وهبا من أوائل من قدم نموذجا للتأريخ العالمي متمثلا في تأريخ الرسالات؛ حتى   (87) نصار، نشأة التدوين التاريخي عند العرب، ص 50. (88) ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 10، 39، 41، 43، 108، 176، 201، 226، 300، 304، 322، 407. (89) ينظر، الفهرست، ص 24. (90) المغازي الأولى، ص 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 كان لذلك صدى قوي في عقل محمد بن إسحاق حين بدأ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأخبار الأمم والأقوام والأنبياء السالفة التي أسماها بأخبار المبتدأ «91» . هؤلاء هم التابعون الذين هم في الطبقة الأولى من علماء المغازي والسير الذين وجدنا أن ملامح كتابتهم لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان يشوبها التشويش والغموض في عدم وضوح المنهج والأسلوب في الكتابة، واندماج الخبر المدون بالخبر المروي شفاها، وعدم وجود قرينة دالة على الفصل بينهما، أما أصحاب الطبقة الثانية ممن تلوا هؤلاء، واسهموا اسهامات جليلة في تطور كتابة السيرة النبوية فهم: 1. عبد الله بن أبي بكر (ت 135 هـ) : ينتمي هذا الرجل إلى أسرة مدينة عريقة في النسب والحسب، ولها أياد بيض في تأريخ الإسلام، وثقه كل من ترجم له، وسمع الحديث من جمع غفير من كبار التابعين «92» . دون هذا الرجل مجموعة كبيرة من أحداث السيرة، إذ يشير الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) إلى أن عبد الملك بن أخي عبد الله قد قدم بغداد وأقام فيها وحدث بأخبار المغازي عن عمه عبد الله، وكتب جلساؤه هذه المغازي ورووها عنه «93» ، ويعطي ابن النديم (ت 381 هـ) بعدا أكثر من ذلك بجعله ممن صنف كتابا مستقلا بالمغازي يحتمل فيه أنه أقتبسه من عمه «94» .   (91) المدني، أمين، التأريخ العربي ومصادره، دار المعارف، القاهرة، 1971، ص 400. (92) ينظر، ابن حيان، مشاهير علماء الأمصار، ص 68، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 5/ 165. (93) أبو بكر أحمد بن علي، تأريخ بغداد، مطبعة السعادة، القاهرة، 1931، 10/ 409. (94) ينظر، الفهرست، ص 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقد اسهم هذا الرجل في تطور كتابة السيرة النبوية بنقلة نوعية، وتمثل هذا الاسهام بعدة جوانب هي: 1. ترتيب الحوادث التي تعرض لها بحسب قدمها الزمني «95» ، وهذه النتيجة مستوحاة من القوائم التي ذكرها محمد بن إسحاق للمغازي وتأريخها من أولها إلى آخرها بالاعتماد على ما كتبه عبد الله بن أبي بكر في هذا الجانب «96» ، مع الإشارة إلى أن هذا الكلام لا ينطبق على السيرة حسب بل شمل الحوادث الأخرى لتاريخ الإسلام التي ذكرها ضمن أخباره التي رواها أو التي دونها «97» . يستدل من هذا على أن عبد الله بن أبي بكر لم يكن مسترسلا في ذكر الحوادث التأريخية بل كان يحاول ضبط الواقعة بحسب سبقها الزمني مع ذكر تأريخ وقوعها، وهذا ما دفع بأحد الباحثين إلى جعله أول واضع للمنهج الحولي عند المسلمين «98» . 2. إيراده بعض الوثائق التي كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والتي أرسلها إلى الملوك والقبائل، أو الوصايا التي أوصى بها صلى الله عليه وآله وسلّم عماله على البلدان «99» ، ومن ذلك الرسالة التي بعثها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى ملوك حمير في اليمن «100» ، أو الوصية التي أوصى بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم جد عبد الله الأكبر عمر بن حزم، وذلك حين   (95) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 43. (96) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 594، 2/ 310، 302، 293، 225، 201، 193، 108، 55. (97) ينظر، الطبري، التاريخ، 3/ 339، 387، 459، 575، 4/ 214، 432، 6/ 192. (98) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 156. (99) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 43. (100) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أرسله من قبله إلى أهالي نجران في اليمن ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم، وتكون هذه الوصية مرجعا له في أموره «101» . ويبدو أن أصل هذه الوثيقة كان موجودا عند عبد الله أو أسرته، وذلك لقيمتها المعنوية لأنها تعدّ شاهدا حيا على دور أسرته وأجداده في خدمة الإسلام، وأن انتخاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لجده من بين باقي الصحابة ليكون عامله على نجران دليل على مكانة هذا الرجل في نفس الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حتى يوليه هذه المهمة. أكد هذا الأمر بروز الترعة القبلية والمفاخرات بين أبناء الصحابة وأحفادهم، ثم انعكاس هذه الترعة على الكتابة التأريخية، حيث تمخض في هذه المرحلة تركيز الرواة في ذكر دور قبائلهم ومتعلقيهم في الحوادث التي عاصروها وإغفال الأدوار التي قام بها الأشخاص الاخرون أو ذكروها عرضا من دون تفصيل، وخير دليل على ذلك هو عدم وجود أية رواية لهذا الرجل عن الحوادث التي رافقت بداية الدعوة والتي سبقت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، إذ عزا الدوري هذا الأمر إلى بقاء فكرة أيام العرب ومفاخراتها عالقة في أذهان وعقول الناس وتصرفاتهم «102» . 3. تضمين الروايات التي يذكرها بما قيل في مناسباتها من شعر «103» ، كما تبين ذلك الروايات التي وردت في السيرة «104» ، وهذا الأمر راجع إلى كون عبد   (101) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 594. (102) بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 26. (103) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 45. (104) ينظر، ابن هشام، 2/ 40- 48، 125- 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الله من أسرة محبة للشعر ورواية له «105» ، فضلا عن أن البيئة التي عاش فيها كانت من أخصب البيئات قريحة لإنشاد الشعر وروايته «106» . 4. إغفاله للرواة الذين سمع منهم أحداث السيرة وتساهله في كثير من إسناد رواياتها، إذ وجدناه يحدث بها كأنه شاهد عيان لها «107» ، ويعلل أحد الباحثين بروز هذا الأمر في الروايات التي رويت من قبل الأشخاص الذين عاشوا في هذه الحقبة من تأريخ الإسلام بأن الإسناد لم تكتمل مقوماته بعد «108» . 5. استشهاده بما نزل في الحوادث التي تطرق إلى ذكرها من آيات قرآنية «109» . 6. لم يختص اهتمام عبد الله بن أبي بكر على الحوادث التي حصلت في عصر الرسالة، ولا سيما بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فقط، بل تعدى ذلك ليشمل الحوادث والأخبار التي سمعها عن الأقوام التي عاشت قبل هذا العصر والتي ذكرت في القرآن الكريم «110» . يبين لنا هذا العرض للجوانب التي اكسبها عبد الله بن أبي بكر لكتابة السيرة أن هذه الكتابة قد بدأت معالمها بالاتضاح شيئا فشيئا نحو الشمولية والتنظيم.   (105) ينظر، أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين (ت 356 هـ) ، الأغاني، دار الكتب المصرية، 1961، 6/ 158. (106) ينظر، ضيف شوقي، الشعر والغناء في مكة والمدينة في العصر الأموي، دار المعارف، القاهرة، 1982، ص 14. (107) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 153، 274، 395. (108) الدليمي، داود سلمان، الإسناد عند المحدثين، رسالة ما جستير غير منشورة، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1987، ص 103. (109) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 216. (110) ينظرن، المصدر نفسه، السيرة، 1/ 57، 168، 435، 446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 2. عاصم بن عمر بن قتادة (ت 120 هـ) *: هو عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر الظفري الأوسي المدني، وكان راوية للعلم وثقه في الحديث «111» . كان هذا الرجل من العلماء بأخبار المغازي «112» ، ولأجل ذلك استقدمه الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) من المدينة ونصب له منبرا في المسجد الجامع بدمشق ليحدث الناس بالمغازي وسيرة الرسول ومناقب الصحابة «113» . تبين لنا المعلومة في النص السابق أن عاصما قد توافرت له فرصة في نشر أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله على الناس بمباركة من الخليفة نفسه مما لم يتوافر لأقرانه من التابعين، الأمر الذي أدى إلى كثرة الروايات التي وصلت إلينا عن هذا الرجل في كتب السيرة والمغازي «114» . ولكن هذا الأمر جعل مسألة تدوين عاصم لأخبار المغازي والسيرة أمرا غير مقطوع بصحته، وذلك لأنه كان رواية أكثر مما هو مدون، وإن كانت إحدى الدراسات الحديثة تؤكد أن المحدثين كانوا يستعينون بصحائف أو رقاع   (*) كتب الدكتور خالد العسلي بحثا. مستفيضا عن هذه الشخصية ودورها في كتابة رواية أحداث الإسلام في مجلة كلية الاداب، جامعة بغداد، عدد 8، 1965، ص 226- 240. (111) ينظر، ابن قتيبة، محمد بن مسلم، (ت 276 هـ) ، المعارف، تحقيق: ثروة عكاشة، القاهرة، 1960، ص 466. (112) ابن حجر، الإصابة في تميز الصحابة، القاهرة، 1328 هـ، 3/ 447. (113) ينظر، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 5/ 54- 55. (114) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 321، 345، 382، 405، الواقدي، المغازي، 1/ 129، 2/ 500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يدونون فيها ما يحفظونه خوفا من النسيان «115» ، واستدل أحد الباحثين على كون عاصم قد دون معلومات عديدة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالاعتماد على الروايات الطويلة التي كان يرويها للناس «116» ، ومنها روايته لحادثة إسلام سلمان الفارسي «117» . وتبقى هذه الاراء مجرد استنتاجات شخصية لا تؤكدها القرائن، إذ اعطى العسلي توضيحا لهذا اللبس بعد استعراضه للنقول التي ورد فيها اسم عاصم بن عمر حين قال: " وبالرغم من أنه كان عالما بالمغازي ورجال الصحابة لم يرد ذكر لكتاب ألفه عاصم بن عمر بن قتادة في المغازي، فالمعلومات التي وصلت عنه جاء معظمها عن طريق رواية ابن إسحاق رواها ابن هشام والواقدي وابن سعد والطبري، أما من جاء بعدهم من المؤرخين فهم ينقلون المعلومات نفسها التي قدمها ابن هشام وابن سعد والطبري" «118» . مع كل ما ذكرناه من آراء فإن ذلك لا يمنع من أن يكون عاصم قد اكسب كتابة السيرة روافد جديدة لم تألفها سابقا إذ تمثلت هذه الروافد ب: 1. بروز الاتجاه القبلي في رواية أحداث السيرة، إذ تمثل ذلك بالتركيز في رواية أحداث المرحلة المدنية من الدعوة الإسلامية وإبراز دور الأنصار فيها   (115) مصطفى، تأريخ العرب والمؤرخون، 1/ 76- 77. (116) محمد عطه الله، مقاصد المؤرخين المسلمين في التراجم والسير، رسالة ما جستير غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1996، ص 51. (117) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 198- 204. (118) عاصم بن عمر، ص 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ومواقفهم المشرفة وأعمالهم البطولية التي قاموا بها دفاعا عن الإسلام والرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «119» . 2. إيراد المعجزات ودلائل النبوة التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «120» ، وهذا الأمر يعد اتجاها جديدا والتفاتة ذكية من قبل عاصم بايراد هذه الأمور التي لم تألفها مسامع الناس من قبل رواة السيرة والمغازي. 3. وصف المعارك وصفا دقيقا ابتداء من أول حادثة إلى آخرها «121» ، إذ خص معركة بدر فقدم لنا فيها وصفا دقيقا للحوادث التي جرت فيها «122» . 4. التتبع في معرفة من كان حاضرا من الصحابة عند ذكره الحوادث التي يعرضها في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولا سيما الحوادث الكبرى «123» . ساعد هذا التبيان لأسماء المشاركين في الحوادث على تعرّف مواقف كل شخص من الصحابة المعاصرين لذلك الحادث ودوره فيه، مع إعطائه مادة جاهزة لكتاب التراجم يتكئون عليها في حديثهم عن كل شخصية يترجمون لها ويبينون مواقفها في أحداث عصرها. 5. الدقة والتبصر وعدم التكلف في اختيار العبارات عند سرده لحوادث السيرة «124» ، وهذا الأمر يبين لنا أن أصحاب السيرة الأوائل كانت عباراتهم سهلة ولا يكتنفها غموض أو تعبير صعب أو ثقيل على اللسان.   (119) العسلي، عاصم بن عمر، ص 238. (120) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 541، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 107- 110، ابن كثير، البداية والنهاية، 2/ 308. (121) ينظر، ابن هشام، المصدر نفسه، 1/ 606، 2/ 227، 240. (122) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 606. (123) ينظر، الواقدي، المغازي، ص 213، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 354- 355، 364، 398. (124) ينظر، العسلي، عاصم بن عمر، ص 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 6. الاتجاه نحو رواية الحوادث باستقلالية وشمول من دون قطعها، وإن استمرت هذه الحوادث مدة أطول «125» ، مما يعدّ بداية للمنهج الموضوعي في كتابة السيرة، وترك المنهج الحولي القائم على رواية الحوادث على وفق السنين وتسلسلها الزمني، مع العلم أن العسلي يشكك في كون هذا الاتجاه أهو من عند عاصم أم أنه جاء نتيجة تلاعب المؤرخين الذين نقلوا عنه «126» . 7. إبداء الاراء ووجهات النظر برواة الحوادث ودوافعهم في القول «127» ، إذ تمثل هذا الأمر في إبداء عاصم وجهة نظره في الرواية التي ذكرت قولا للعباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي* في الأنصار حين قال: " والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في أعناقنا" «128» . مثّل هذا الأمر نقلة نوعية في بروز الاتجاه النقدي والتعليق على الروايات التي ترد إلى مسامع عاصم بن عمر. هذه هي الروافد التي أكسبها عاصم بن عمر لكتابة السيرة النبوية، مع استمرار المنحى المألوف في ذلك العصر وهو الترسل وعدم الاهتمام والتشدد بذكر مسانيد الروايات التي يذكرها «129» ، وهذا الأمر لم يقطع فيه العسلي إذ يقول: " ولا نعلم هل أن الحذف [في رواة الخبر] هو من ابن إسحاق أم أنه من   (125) ينظر، المصدر نفسه، ص 239. (126) المصدر نفسه، ص 239. (127) هوروفتس، المغازي الأولى، ص 49. (*) صحابي شهد بيعة العقبة وتوفي في عام الرمادة سنة 18 هـ، ينظر، ابن حجر، الإصابة في معرفة الصحابة، 2/ 23. (128) ابن هشام، السيرة، 1/ 446. (129) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 214، 219، 2/ 87، 325، 498، الواقدي، المغازي، 1/ 35، 42، 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عاصم" «130» ، إذ اعتمد العسلي على الإسناد الذي كان يذكره ابن إسحاق عند ذكره لبعض مسانيد رواياته والتي يقول فيها" حدثني عاصم بن عمر عن أشياخ قومه" «131» . ويبدو لنا من الروايات التي ذكر ابن إسحاق فيها اسم عاصم، أنه لم يستعمل هذه العبارة آنفة الذكر في مسانيد باقي رواياته، مما دفعني ذلك إلى التكهن بأن هذه اللفظة مقتصرة على عاصم وأن الأخير هو الذي حذف أو أغفل ذكر رواة الخبر الذي يرويه. 3. محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124 هـ) : من كبار الجيل الثاني من التابعين الذين أخذ عنهم العلم الكثير بمختلف صنوفه وأدى دورا متميزا في كتابة الحديث النبوي ونشره بين الناس مع تقريب الأمويين له وجعله بعضهم مؤدبا ومعلما لصبيانهم «132» . لعبت هذه الشخصية دورا بارزا في إرساء الأسس والثوابت العامة لكتابة السيرة النبوية «133» ، وما ذلك إلا لان الزهري يكتب ويدون كل ما يسمعه من حديث أو حكم أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله فضلا عن أخبار من أتى بعده، إذ يحدث من رآه وصاحبه: " كنا نطوف مع الزهري على العلماء ومعه   (130) عاصم بن عمر، ص 228. (131) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 214، 219، 2/ 87، 325، 498. (132) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 180. (133) سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 450، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الألواح والصجف يكتب كلما سمع" «134» ، وأكدت لنا هذه الرواية مقولة للزهري أوردها أبو نعيم الأصفهاني مفادها" حضور المجلس بلا نسخة ذل" «135» . بينت لنا هذه الروايات أن الزهري كان ممن يشتهرون بتدوين ما يسمعون، مما يجعلنا نعطي صفة التأكيد أن الزهري قد كانت له بعض المدونات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، حتى أن أبا الفرج الأصفهاني يذكر أن الزهري قد شرع بكتابة السيرة في مطلع القرن الثاني الهجري ولم يكتب لها الاكتمال «136» ، حتى عدّ السهيلي (ت 508 هـ) أن أول سيرة ألفت في الإسلام للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هي السيرة التي ألفها الزهري «137» ، فضلا عن وجود متأخرين تابعوا هؤلاء في مقالتهم هذه «138» . مع كل تلك التأكيدات من قبل هؤلاء العلماء حول تأليف الزهري أول سيرة في الإسلام، لم يطمئن أحد الباحثين إليها إذ قال: " من الصعب الجزم بأن المعلومات التي نقلها الرواة عن الزهري مقتبسة من كتبه أم من رواياته" «139» ،   (134) الفسوي، يعقوب بن سفيان، (ت 277 هـ) ، المعرفة والتأريخ، تحقيق: أكرم ضياء العمري، ديوان الأوقاف، بغداد، 1974، 1/ 639، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 102. (135) حلية الأولياء، 3/ 666. (136) ينظر، الأغاني، 22/ 23. (137) ينظر، عبد الرحمن، الروض الأنف، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط 1967، 1، 1/ 214. (138) ينظر، الحلبي، علي بن برهان، (ت 1044 هـ) ، السيرة الحلبية، المكتبة التجارية، القاهرة، 1962، 1/ 3، حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1460، 1747. (139) العلي، صالح أحمد، التدوين وظهور الكتب المصنفة، بحث في المجمع العلمي العراقي، مجلد 31، عدد 2، 1980، ص 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 إذ اعتمد هذا الباحث على مقولة الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) التي مفادها: " أنه لم يكن مع ابن شهاب كتاب إلا كتاب في نسب قومه" «140» . إن هذا الرأي لا ينفي مطلقا كون الزهري قد دون بعض أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في صحف أو دفاتر اعتمد عليها من أتى بعده بدليل أن معمر بن راشد الذي يعد من أحد رواة أحاديثه، قد قال: " كنا نرى انا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من علم الزهري" «141» . وقد طعن الزهري لكثرة تقربه للأمويين ومجالسته لهم، إذ وصف بالقول: " أي رجل الزهري لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك" «142» ، وأن التقرب لدى الحكام كان يعدّ مثلبة تسجل على العلماء، حتى صرح الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت 148 هـ) بالقول معقبا على هذا الأمر: " الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم" «143» ، ولهذا الأمر كان الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) (ت 94 هـ) كثيرا ما كان ينصحه بترك علاقته تلك مع الأمويين وانعكاسها على سمعته كعالم له مكانته حتى بعث له برسالة طويلة بين فيها مساوئ العلاقة بين الحكام والعلماء لأن الحكام يتخذون العلماء مقصدا يلتمسون منه كسب رضا عامة الناس وإيجاد من يسوغ لهم   (140) ابن عبد البر، يوسف، الانباه على قبائل الرواة، دار الثقافة، بيروت، ط 4، 1984، ص 44. (141) ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص 476. (142) الذهبي، تأريخ الإسلام، تحقيق: عبد السلام تدمري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 4، 1995، 5/ 149. (143) أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، 3/ 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أفعالهم ولا يعارض أقوالهم «144» ، حتى صرح الزهري في حقه بالقول: " علي بن الحسين أعظم الناس عليّ منة" «145» . مع كل ما ذكر عن الزهري حول علاقته بالأمويين فإن ذلك لا يقلل من الدور الكبير الذي لعبه في كتابة السيرة، حتى عدّه الدوري أول من أعطى السيرة هيكلا محدودا ورسم خطوطها بوضوح «146» . ويبدو أن هذه المكانة التي حظي بها الزهري والاحتواء لأحداث السيرة وتقعيد أسسها راجع إلى تقصيه وسؤاله كل من كان له علم بحادثة أو موقف من الصحابة والتابعين الذين عاصرهم وشاهدهم بل حتى ربات الحجال من دون تردد في أيام صغره وحداثة عمره «147» . لأجل هذا كله زخرت كتب السيرة والتأريخ بالنقول عن هذا الرجل حتى لا نجد أي كتاب من هذه الكتب إلا وفيه اقتباسات كثيرة عنه «148» . تمثلت الجهود التي بذلها الزهري في تطور كتابة السيرة بعدة محاور هي: 1. الاهتمام والجدية في إيراد مسانيد الروايات والأحاديث، ويعزو الدوري هذا الاتجاه من قبل الزهري الذي خالف فيه سابقيه إلى أن وجهة الزهري هي وجهة محدث في تحصيل العلم واكتسابه «149» .   (144) ينظر، ابن شعبة، الحسن بن علي الحراني، (توفي في نهاية القرن الرابع الهجري) ، تحف العقول عن آل الرسول، المطبعة الحيدرية، النجف، 1965، ص 198- 201. (145) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 158. (146) بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 23. (147) ينظر، الفسوي، المعرفة والتأريخ، 2/ 5. (148) ينظر، الواقدي، المغازي، 3/ 695، 741، 752، 795- 796، 864، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 495، 554. (149) بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قطع الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) بريادة الزهري في إسناد الحديث، إذ يعده أول من تبنى إسناده «150» ، وهذا ما جعل أحد الباحثين يعطي للزهري دورا كبيرا في تاريخ الحديث إذ يقول: " ويتضح لنا من بحث سلاسل أسانيد الحديث أن اسم الزهري يحتل معظم المكان الثاني بعد أسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهذا ما يجعلنا نقرر له دوره الكبير في تأريخ الحديث" «151» . تمثلت النقلة المنهجية في الإسناد الذي تبناه الزهري في رواياته هي كتابة أسانيد متعددة لرواية واحدة أو التي تكمل بعضها بعضا، إذ أطلق على هذا الإسناد (الإسناد الجمعي) «152» . ومما يدل على أهمية الإسناد عند الزهري، أنه طلب منه أحد جلسائه ذات يوم أن يأتي بحديث من دون إسناد فقال الزهري له: " أيرقى السطح بلا سلّم؟ " «153» ، وعلق على راو لا يسند حديثه: " قاتلك الله ... ما أجرأك على الله ألا تسند حديثك؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة" «154» . بينت لنا هاتان الروايتان مدى تشدد وصرامة الزهري بإسناد الأحاديث والروايات، وفي شحذ همم الرواة والمحدثين بذكر أسانيد رواياتهم؛ الأمر الذي   (150) ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، 4/ 1/ 74. (151) سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 48. (152) ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 94. (153) السيوطي، عبد الرحمن، تدريب الراوي، المطبعة الميمنية، القاهرة، 1924، ص 359. (154) الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، (ت 405 هـ) ، معرفة علوم الحديث، تصحيح معظم حسين، دار الافاق الجديدة، بيروت، ط 3، 1979، ص 6، الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1972، ص 556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أثمر النتائج الطيبة في معرفة رواة الأحاديث والأخبار التي كان لها الدور المهم في معرفة قوة الرواية وضعفها مما كان له الأثر الفعال في تسهيل مهمة علماء الجرح والتعديل بعد ذلك. 2. الشمولية في عرض حوادث السيرة من المولد إلى الوفاة وعدم الاقتصار على ذكر جانب واحد أو شذرات متفرقة منها «155» ، إذ أعطى أحد الباحثين وصفا لهذا المنحى الجديد في عرض أخبار السيرة، عدّ فيه الزهري أول جامع لما رواه التابعون عن السيرة مع ما أضاف إليها من الأخبار التي أعطت بعد ذلك الهيكل العام للسير المعروفة عند ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي «156» ولكن مع هذه الشمولية في عرض الزهري لأحداث السيرة، وجدت هنالك فجوات في هذا العرض، إذ إن رواياته عن المرحلة المكية قليلة نسبيا قياسا بحجم الروايات التي تحدث بها عن المرحلة المدنية*، وهذه القلة من الروايات التي تخص المرحلة المكية ليس مرجعها إلى عدم وقوف الزهري على أخبار هذه المرحلة بل أن ذلك راجع إلى مواقف أسرته من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأتباعه والدين الذي بعث به، إذ اتسمت تلك المواقف بالعداء في بداية الدعوة الإسلامية «157» ، فكان من الحرج عليه أن يذكر تلك المواقف خشية أن يعير بها. تخلص مما ذكرنا آنفا إلى أن الزهري قد وضع الأسس والعنوانات للمرتسم الزمني الخاص بحوادث السيرة بحسب أسبقيتها التأريخية وترك المجال   (155) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 655، 660- 661، الطبري، التأريخ، 5/ 499، 6/ 495. (156) جونس، مقدمة تحقيق: كتاب المغازي للواقدي، ص 22. (*) أورد ابن هشام حوالي 9 روايات عن المرحلة المكية، أما بالنسبة للمرحلة المدينة فقد بلغت أكثر من 40 رواية. (157) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 360- 361، 409، 592، 619، 628. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 مفتوحا لمن يأتي بعده ليكمل ما بدأه ويسد الثغرات التي ظهرت في أثناء عرضه حوادث السيرة في تطعيمها بما رافقها من أمور أغفلها أو لم يصل إلى تفاصيلها. 3. إيراد الشواهد من الايات القرآنية التي نزلت في الحوادث التي تطرق لذكرها، وذلك أنها تعطي وثاقة للخبر الذي يرويه في تلك الروايات «158» . أشار الدوري إلى أن هذا المنحى في إيراد الروايات مشفوعة بما نزل فيها من القرآن، قد أظهر بجلاء أن دراسة القرآن بما يحفل به من إشارات إلى شؤون المسلمين بالمدينة بخاصة كان عاملا مساعدا على ظهور الدراسات التأريخية الشاملة «159» . 4. إيراد ما قيل من شعر في الحوادث التي عرضها من أخبار السيرة «160» ، وهذا راجع إلى أن الزهري كان رواية للشعر ومتذوقا له «161» . علل الدوري هذا المنحى من قبل الزهري بالقول: " وهذا طبيعي إذا تذكرنا أن الناس عامة كانوا يميلون للشعر وأنه كان عنصرا أساسيا للثقافة" «162» . هذه هي الجهود التي قام بها الزهري والتي أسهمت اسهاما جادا في تطور كتابة السيرة، وأحدثت نقلة نوعية فيها فضلا عن عرض أحداثها بأسلوب سهل وبسيط «163» .   (158) ينظر، الواقدي، المغازي، 2/ 612- 624، 631- 633. (159) ينظر، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 94. (160) ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 68- 89، ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 343. (161) ينظر، الفسوي، المعرفة والتأريخ، 1/ 561- 562. (162) بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 95. (163) ينظر، نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ومن هذا كله نرى أننا كلما اقتربنا من منتصف القرن الثاني الهجري، أخذت الأصول الأولية للسيرة تأخذ بالوضوح شيئا فشيئا وذلك راجع إلى قربها من مرحلة التبويب والتصنيف التي يحددها الذهبي بسنة (143 هـ) «164» ، إذ كان العلماء على حد قوله قبل هذه السنة يكتبون في صحف غير مرتبة «165» . 4. موسى بن عقبة (ت 141 هـ) : وهو من موالي آل الزبير ومن أعلام عصره، ويعدّ من كبار المحدثين وثقاتهم، برع في الفقه وفي رواية الحديث وكانت له حلقة درس في المسجد، وسمع الحديث من كبار التابعين «166» . كان لهذه الشخصية دور بارز في توثيق أحداث السيرة والمغازي بخاصة، حيث ذكرت بعض المصنفات قيام هذا الرجل بتصنيف كتاب في مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «167» ، وحصلت هذه المدونة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومغازيه على احترام معاصريها حتى أوصى الإمام مالك ابن أنس (ت 179 هـ) أصحابه باعتمادها بقوله: " عليكم بمغازي الشيخ الصالح موسى ابن عقبى فأنها اصح المغازي عندنا" «168» .   (164) ينظر، تذكرة الحفاظ، 1/ 151، 229. (165) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 229. (166) ينظر، ابن حبان، مشاهير علماء الأمصار، ص 80، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 148، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 360. (167) ينظر، ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط 1، 1961، ص 29. (168) ينظر، الذهبي تذكرة الحفاظ، 1/ 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 إن رأي الإمام مالك في مغازي موسى بن عقبة محل تحفظ وتدبر، إذ إنه لم يطلق كلامه هذا جزافا بل أراد منه إيجاد مصنف في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومغازيه يقف ندا للسيرة التي كتبها محمد بن إسحاق لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وما ذلك إلا لتعاظم العداء الشخصي بين الإمام مالك وابن إسحاق الذي وصل حدا أن تقاذف الاثنان التهم بينهما «169» ، فأراد الإمام مالك في مقالته هذه أن يسقط المغازي التي كتبها ابن إسحاق من أعين الناس ويجعل مغازي موسى بن عقبة افضل منها بشحذ همم الناس على قراءتها. لم نرد في هذا الاستدراك أن نحطّ من مكانة المغازي التي كتبها موسى بن عقبة بل أردنا التنبيه فقط إلى الملابسات التي كانت وراء إصدار مالك مثل هذا الحكم على هذه المغازي، إذا ما علمنا أن الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) قد وافق على مقالة مالك ولكنه لم يطعن بباقي المصنفات التي عاصرت مغازي ابن عقبة، إذ قال: " عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة" «170» . حصلت هذه الاراء والأحكام التي أطلقها هؤلاء العلماء على هذه المغازي التي كتبها ابن عقبة، على احترام من جاء بعدها من العلماء، إذ حرصوا   (169) ينظر، ابن أبي حاتم، تقدمة المعرفة في كتاب الجرح والتعديل، تحقيق: عبد الرحمن المعلي، مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1321 هـ، ص 22. (170) الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 على الحصول على إجازة بروايتها «171» ، وأهتم آخرون بتضمين اقتباسات منها في مصنفاتهم واختصار بعض رواياتها «172» . كان وراء كتابة ابن عقبة لمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم موقف ذكره ابن حجر وهو أن ابن عقبة قد رأى الناس يطعنون بشر حبيل بن سعد ويذمونه ويتهمونه بالكذب، فشرع في كتابة مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حتى لا يترك مجالا للطعن لمن تسول له نفسه ذلك «173» . بقيت نقول كثيرة من هذه المغازي في بطون الكتب التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله استطعنا أن نتعرف منها طبية تلك المغازي وأثرها في تطور كتابة السيرة النبوية التي تركزت في عدة محاور أضفتها على كتابة السيرة، إذ تمثلت ب: 1. ربط أحداث السيرة بالأحداث التي سبقتها قبل الإسلام وما جاء بعدها إلى العصر الذي عاش فيه ابن عقبة، وإن كان الذين سبقوه قد برز فيهم هذا المنحى ولكنهم لم يماثلوا ابن عقبة في عرضه هذه الأحداث، إذ أعطى نقلة لمؤلفي الموسوعات التأريخية مثل ابن إسحاق والواقدي وابن سعد والبلاذري وغيرهم، ومنه بدأت ملامح المدرسة التأريخية تتضح أكثر من السابق «174» .   (171) ينظر، ابن خير الأشبيلي، (ت 575 هـ) ، فهرست ما رواه عن شيوخه، تحقيق: فرنشيسكه قراره، دار التعارف، بيروت، 1973، ص 230، سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 55. (172) ينظر، ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 29. (173) ينظر، تهذيب التهذيب، 10/ 361. (174) مصطفى، تأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 2. لم تقتصر مدونته تلك على أخبار المغازي فقط بل تعدتها إلى ذكر أسماء من هاجر إلى الحبشة، والمشتركين ببيعة العقبة وحادثة الهجرة «175» . 3. الاهتمام بالسند وإيراده مع الرواية «176» ، وكانت معظم مروياته عن الزهري حتى عدّ المحدثون كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من اصح الكتب «177» . 4. إيراد الوثائق العائدة إلى عصر الرسالة ضمن مدونته هذه «178» ، ومما يدل على أنه أطلع على أصولها ما ذكره موسى نفسه من أن كريبا مولى عبد الله بن عباس قد وضع عنده حمل بعير من كتب مولاه «179» ، وهذا يبين لنا أن ابن عباس كان ممن يجمعون أصولا من هذه الوثائق. 5. إغفال مدونته هذه الأشعار التي ذكرت في الحوادث التي تطرق لذكرها «180» ، إذ لم يتطرق لهذه الاشعار سوى في أماكن محدودة جدا وفي مصنفين فقط «181» .   (175) ينظر، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361، نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 54. (176) هوروفتس، المغازي الأولى، ص 72. (177) ينظر، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361. (178) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 159. (179) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 216، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 10/ 361. (180) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 73. (181) ينظر، أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، 3/ 16، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 هذا هو منهج موسى بن عقبة في كتابة السيرة الذي نرى منه أن كتابة السيرة أخذت بالاستقرار عنده شيئا فشيئا، وصولا إلى كتابة أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من قبل محمد بن إسحاق «182» . مثّل هذا العرض السابق لجهود التابعين الذين ذكرت المصادر قيامهم بتدوين حوادث السيرة، مرحلة انتقالية بين الكتابة المشوشة المضطربة والكتابة المنسقة الخاضعة لمنهج دقيق، ولم تقتصر على جهود هؤلاء فقط بل وجدت هنالك مدونات أخرى لم تكن بحجم سابقتها ذكرتها بعض المصادر وهي: 1. مدونة نافع مولى عبد الله بن عمر (ت 119 هـ) ، إذ دون فيها غزوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لنبي المصطلق، إجابة منه لتساؤل أحد المسلمين عن هذه الغزوة «183» . 2. مدونة عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب (ت 142 هـ) ، التي دون فيها ما رواه الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري (ت 76 هـ) عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «184» ، وقد وصلت نقول من هذه المدونة في بعض المصنفات التي تطرقت لأحداث السيرة «185» . إن جميع من ذكرناهم من التابعين الذين تبنوا تدوين أحداث السيرة، قد كانوا من أهل المدينة ومن المنتمين إلى مدرستها التي عرفت ب (مدرسة   (182) الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 151. (183) ينظر ابن سلام، الأموال، ص 116. (184) الخطيب البغدادي، تقييد العلم ص 104. (185) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 120، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 المدينة) «186» ، ولكن هذا لا يعني أن تدوين السيرة قد انحصر في المدينة بل شاطرتها أمصار إسلامية في عملها هذا ولكن بصورة أضيق منها، إذ أوضح ابن تيمية الحراني (ت 728 هـ) مكانة كل مصر من هذه الأمصار في تدوين المغازي والسيرة إذ يقول: " أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم" «187» ، في حين يعطي الأوزاعي (ت 133 هـ) وصفا أكثر تطرفا لمكانة هذه الأقاليم بتدوين ورواية السيرة إذ يقول: " ومغازي رسول الله وأصحابه كانت من جانب الشام والحجاز دون العراق" «188» . ذكرت إحدى الدراسات الحديثة أن مكانة أهل الشام لا تقل قدرا عن مكانة أهل المدينة في رواية وتدوين السيرة والمغازي، وذلك باستعراضها للعديد من الأسماء الذين ذكرت بعض المصادر قيامهم بكتابة وتدوين بعض حوادث السيرة «189» ، أما بالنسبة الى مكانة أهل العراق في رواية وتدوين المغازي فكانت أكثر وضوحا من سابقتها إذ أشار أحد المصادر إلى مقولة ذكرها عبد الله بن عمر بن الخطاب عن مكانة عامر الشعبي (ت 103 هـ) برواية المغازي، إذ وصفه- بعد ما سمعه يحدث الناس ويقرأ عليهم المغازي- قائلا: " لهذا أحفظ مني   (186) ينظر، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 49- 169. (187) أحمد بن عبد الحليم، مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1980، ص 9. (188) أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، (ت 182 هـ) ، الرد على سير الأوزاعي، تحقيق: مصطفى السقا، المكتبة السلفية، القاهرة، 1378 هـ، ص 4. (189) ينظر، عطوان، حسين، الرواية التأريخية في بلاد الشام في العصر الأموي، دار الجيل، بيروت، د، ت، ص 95، 206- 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 لها وكأنه شهدها مع رسول الله (ص) " «190» ، وانفردت إحدى الدراسات الحديثة برأي مفاده أن عامرا كان من المدونين والحافظين لأخبار المغازي في كتاب «191» ، وهذا الرأي تعوزه الدقة لأن عامرا الشعبي كان من الذين يميلون الى الحفظ بدلا من التدوين «192» . وجد من بين أهل العراق من ذكرت المصادر قيامه بتدوين أحداث من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في صحائف بقيت نقول منها في المصنفات التي أتت بعدها، وهو: سليمان بن طرخان التميمي البصري (ت 143 هـ) : وهو من التابعين البارزين والمحدثين المشهورين الذين وثقهم كل من ترجم له، سمع الحديث عن أنس بن مالك والامام الحسن بن علي (عليه السّلام) «193» ، وعدّ سزكين هذا الرجل من المهتمين بكتابة السيرة والمغازي وممن صنف فيها «194» ، وكانت لهذا الرأي مصاديق عدة، إذ حصل ابن خير الأشبيلي (ت 575 هـ) على إجازة برواية المغازي التي كتبها سليمان بن طرخان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم واسماها ب [كتاب سيرة النبي] لسليمان بن طرخان «195» ، فضلا عن   (190) ابن سعد، الطبقات الكبرى، 6/ 252، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 12/ 230. (191) ينظر، حمادي، عبد الخضر، الحركة الفكرية في القرن الأول الهجري، رسالة ما جستير غير منشورة، معهد الدراسات القومية والاشتراكية، الجامعة المستنصرية، بغداد، 1984، ص 95- 96. (192) ينظر، الخطيب البغدادي، تقييد العلم، ص 46. (193) ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 294. (194) ينظر، تأريخ التراث العربي، 1/ 453. (195) ينظر، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ذلك فقد أيد السخاوي وجود هذا الكتاب بجعل ولده معتمر (ت 178 هـ) راوية له «196» . كانت المغازي التي كتبها سليمان بن طرخان محل جدل بين بعض الباحثين إذ أغفلها كل من هوروفتس والدوري حين عرضا المدونات الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «197» ، فضلا عن ذلك فقد سوغ باحث آخر إغفال هذه المغازي من قبل بعض الدراسات لأن المصادر القديمة لم تذكر قيامه بتدوينها «198» ، ويضيف آخر أنه لم تكن له تلك الإسهامات الملموسة والواضحة في كتابة السيرة لكي تجعل من صاحبها عنوانا يستشهد به ضمن الذين غرزوا نواة التأريخ العربي «199» . واستدرك أحد الباحثين على هذه المواقف والاراء السابقة بإزاء ابن طرخان وكتابته لمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأن أشار إلى أن أحد المستشرقين (فون كريمر) قد حصل على مخطوط لمغازي الواقدي يضم في نهايته أوراقا من مغازي أبي المعتمر سليمان بن طرخان اسماها ناسخ المخطوطة ب [السيرة الصحيحة] «200» ، ولا يخفي هذا الباحث شكوكه واستغرابه من إغفال الطبري لمغازي سليمان بن طرخان، أكان سبب ذلك الإغفال هو عدم وثاقة الطبري   (196) ينظر، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن، الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، تحقيق: فرانز روزنثال، مكتبة المثنى، بغداد، 1964، ص 159. (197) ينظر، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 3- 96، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص 5- 98. (198) نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 69. (199) المدني، التأريخ العربي ومصادره، 2/ 437. (200) نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بمغازي هذا الرجل؟ أم لانها لم تصل إليه؟ أم لم يؤلف سليمان مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أصلا، وهذه المغازي التي وصلتنا محمولة عليه؟ «201» . تبقى مهمة تعرّف الأسلوب الذي كتب به سليمان المغازي أسيرة الدراسة التي علمها نصار لهذه المغازي «202» وذلك لعدم توفر النسخة التي اعتمد عليها الباحث في معرفة جهود ابن طرخان في كتابة السيرة النبوية، إذ أوضح رأيه فيها بالقول: " إن الذي يتأمل هذه السيرة يجد أنها موجزة ومصغرة ومنسقة ومنتظمة لا تذكر فيها الفواصل والزوائد كما نرى عند المؤرخين الاخرين، مع إغفال الأسانيد للمرويات التي يتعرض لذكرها منفردة وفي موضوع واحد من دون تداخل للمواضيع الأخرى وبعبارة أدق يعتمد سليمان على إيراد كل الروايات التي ذكرت عن الموضوع الذي يطرحه، وأن وصفه يمتاز بالقوة والحياة، ويشعر القارئ بأنه مشرف على المعركة يرى الأبطال ويشاركهم مشاعرهم وأفعالهم كما يشعر بأن المؤلف لا يكتفي بمجرد ذكر الأعمال وإنما يدقق فيها ويبسطها بسطا صادقا يجعلنا نستطيع أن نميز ما يدور في خلد المؤمنين في كل موضع، وكثيرا ما تكون هذه الانفعالات في غير صالح المسلمين، ولكنه يأتي بروايات غريبة عن الغزوات الكبيرة المعروفة تخالف ما أجمع عليه المؤرخون الاخرون ويأتي أيضا بروايات مخالفة في غزوات النبي (ص) لنبي قريظة وخيبر ومؤتة   (201) نصار، المصدر نفسه، ص 69. (202) ينظر، المصدر نفسه، ص 69- 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 والحديبية ووفاة الرسول (ص) مع عنايته بإيراد الايات القرآنية وشرح مناسباتها التأريخية واعتنى أيضا بإيراد الشعر ولكن بصورة أقل من سابقيه" «203» . ويبدو أن سبب إغفال المؤرخين لهذه المغازي هو وجود آراء مخالفة ومتناقضة أوردها ابن طرخان معارضا فيها الروايات التي أتفق عليها جمع كثير من المهتمين بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، حتى إننا لم نجد أي اقتباس من هذه المدونة في المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله. وذكر بعض الباحثين اسما آخر للتابعين الذين قاموا بتدوين أحداث السيرة قبل أن تكتب السيرة الشاملة التي صنفها ابن إسحاق، وهو: معمر بن راشد (ت 153 هـ) : ولد في البصرة وعاش في اليمن وترعرع فيها، لازم الزهري وسمع منه كثيرا وتصدر للتدريس والفتيا في اليمن، واتفقت المصادر التي ترجمت له على وثاقة حاله «204» . ذكر ابن النديم أن له كتابا أسماه (المغازي) «205» ، وأشار سزكين إلى أن أحد الباحثين قد قام بنشر هذا الكتاب في الولايات المتحدة الأمريكية «206» ، ولم نستطع الحصول على نسخة منه، الامر الذي حرمنا من فرصة الوقوف على منهجية مؤلفه وطريقة عرضه لأحداث السيرة، ولكن سزكين قد تولى عنا هذه   (203) المصدر نفسه، ص 69- 71. (204) ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 375، البخاري، محمد بن إسماعيل، (ت 256 هـ) ، التأريخ الكبير، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط 1، 1361 هـ، 4/ 1/ 78. (205) ينظر، الفهرست، ص 106. (206) ينظر، تأريخ التراث العربي، 1/ 465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المهمة فقام بوصف أسلوب الكتاب ومنهجه، إذ قال: " لم يرتب [معمر بن راشد] مادته ترتيبا زمنيا كما فعل معاصروه ... بل رتبها ترتيبا موضوعيا على غرار عمل المحدثين" «207» ، ومن مراجعتنا للاقتباسات التي نقلت من كتابه هذا تبين لنا مصداقية هذا الرأي وموضوعيته «208» ، فضلا عن ذلك أن معمرا لم يلتزم بالمغازي حصرا بل وجه عنايته كذلك إلى تأريخ أهل الكتاب والأقوام السالفة «209» ، وهذه الظاهرة مشخصة أيضا في النقول التي وصلت إلينا عن مدونة معمر تلك «210» . اعتمد معمر بن راشد كثيرا في مدولته هذه على ما رواه شيخه الزهري «211» ، ولأجل ذلك أطلق عليه النوري (ت 676 هـ) بصاحب الزهري «212» . كانت اتجاهاته في كتابة السيرة موافقة لما نحاه شيوخه ومعاصروه نحو الاهتمام بإيراد سند الحديث والرواية، وإثبات الايات القرآنية التي نزلت في الحوادث التي يتطرقون إلى ذكرها، مع مخالفتهم في إغفال ما قيل في تلك الحوادث من شعر «213» .   (207) المصدر نفسه، 1/ 564. (208) ينظر، الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، (ت 211 هـ) ، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي، بيروت، ط 1، 1972، 5/ 330- 485. (209) ينظر، هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 75. (210) ينظر، الصنعاني، المصنف، 5/ 313، 420، 426، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 34، 40، 83، 98، 121. (211) ينظر، الصنعاني، المصدر نفسه، 5/ 313، 440. (212) محيي الدين بن شرف، تهذيب السماء واللغات، مطبعة المنيرية، القاهرة، 1913، 2/ 107. (213) ينظر، الصنعاني، المصنف، 5/ 322، 324، 340، 342، 347، 357، 358، 359، الواقدي، المغازي، 3/ 889. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بقي لنا أن نذكر أن اتجاهات معمر قد نهجت المنحى الذي سلكه المحدثون في ما بعد، وهو عرض الحوادث من دون إخضاعها لعامل السبق الزمني والقدم، فضلا عن إغفال الأشعار التي قيلت في الحوادث التي يذكرونها «214» ، إذ مثل بمنحاه هذا تطورا نوعيا في كتابة السيرة إذ اتسم منهجه بالطابع النقلي الخاص بعرض الروايات من دون مناقشة أو تعقيب عليها، فضلا عن تشتت وبعثرة الروايات التي يذكرها لفقدان طابع السبق الزمني لهذه الحوادث من حيث أسبقية القدم منها في العرض. هؤلاء هم الأشخاص الذين أدوا دورا في تدوين ورواية أحداث السيرة التي سبقت سيرة محمد بن إسحاق التي تمثّلت فيها جهود معظم هؤلاء الأشخاص «215» . لم تقتصر مدونات سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وذكر أصحابه ومتعلقيه على النثر، بل نظمت كثير من القصائد التي أرخت بعض الحوادث التي حصلت في عصر الرسالة، إذ رفدت القصائد التي جادت بها قريحة الشعراء السيرة النبوية ببعض الحوادث المهمة التي لولاها لبقيت مبهمة وغير معروفة، إذ وصف أحد الباحثين هذه المقاطع الشعرية التي انبرى لجمعها ودراستها بالقول: " تزخر السيرة النبوية بالكثير من النصوص الشعرية التي تمثل جانبا مهما من تراثنا الأدبي والتي لا تقف أهميتها على الناحية الأدبية فحسب بل تتجاوزها إلى نواح أخرى دينية وتأريخية إذ صورت لنا كثيرا من الأحداث والمواقف في الحقبة الأولى من تأريخ   (214) ينظر، الصنعاني، المصنف، 5/ 322، 324، 340، 343، 347، 357، 359، الواقدي، المغازي، 3/ 889، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 286، 322. (215) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الإسلام وتضمنت ذخرا وافرا من المعاني والأفكار التي أفرزها ذلك التغير الشامل والتطور الهائل الذي أحدثه الإسلام في جميع جوانب الحياة" «216» . أشار أحد المصادر إلى أن عددا من القصائد والمقطوعات الشعرية التي قيلت في عصر الرسالة قد كتبها أصحابها أو من سمعها، إذ ذكر ابن سلام الجمحي (ت 193 هـ) أنه قد أطلع على القصيدة التي قالها أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في حق ابن أخيه والتي مطلعها: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل في كتاب كتبه أحد أقاربه قبل أكثر من مئة سنة «217» . بينت هذه الرواية مكانة تلك القصائد في نفوس المسلمين حتى قاموا بتدوينها لتشكل حلقة تكاملية في تكوين ملامح واضحة لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعد إدخالها وتطعيمها بالحوادث التي قيلت فيها، واستنتج أحد الباحثين أن الأنصار كانوا يهتمون بتدوين شعرهم الخاص بأحداث السيرة لأنه زاخر بأمجادهم ومفاخرهم العظيمة في نصرة الإسلام ونبيه «218» . من هذه المدونات النثرية والشعرية التي عرضناها آنفا يتبين لنا المسار الذي سلكته كتابة السيرة قبل منتصف القرن الثاني الهجري عندما شرع محمد بن إسحاق في تصنيف أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «219» .   (216) أحمد، شوقي رياض، شعر السيرة النبوية، دار المأمون، مصر، ط 1، 1987، ص 3. (217) محمد بن سلام، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود شاكر، دار المعارف، القاهرة، د، ت، ص 224. (218) ينظر، أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 120، 128. (219) الذهبي، تذكرة، الحفاظ، 1/ 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 يتبين لنا من عرض هذه المرحلة أنه قد كانت هنالك عوامل عديدة وراء تأخر كتابة أول سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعد ما يقرب من القرن والنصف على التحاقه بالرفيق الأعلى، وهذه العوامل هي: 1. تحجيم الأمويين وولاتهم لأي مشروع في كتابة سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وعلل مرجليوث هذا الدافع من قبل الأمويين بالقول: " وحين نقرأ أنه لم يكن الناس في العهد الأموي يجرؤون على تسمية أبنائهم بعلي أو حسن أو حسين، لا يدهشنا أن تتأخر أقدم ترجمة للنبي إلى ما بعد قيام العباسيين، إذ لم يكن من الممكن أن تروى ترجمة النبي في أيام الأمويين دون زعزعة إخلاص المسلمين لحكمهم زعزعة خطيرة ولم تكن النتائج لتحسن الأوضاع، ... فأنه كلما قل سماعهم أنباء عن صدر الإسلام ازداد احتمال احتفاظهم بطاعتهم" «220» . وردت روايات كثيرة أكدت هذا العامل، فمنها الرواية التي ذكرها أبو الفرج الأصفهاني والتي عرض فيها محاورة جرت بين الزهري وخالد بن يزيد القسري حول طلب الأخير كتابة سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومناقشة الزهري لهذه الرغبة من كون السيرة تحمل في جنباتها ذكرا لماثر الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام، فما كاد الزهري يخبره بهذا الأمر إلا واستشاط غضبا فقال له أتركه ألا تراه في قعر الجحيم «221» ، كذلك ما أورده السيوطي (ت 911 هـ) أن   (220) دراسات عن المؤرخين العرب، ترجمة: حسين نصار، دار الثقافة، بيروت، د، ت، ص 16- 17. (221) ينظر، الأغاني، 22/ 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 سعيد بن المسيب كان لا يذكر اسم علي بن أبي طالب في الروايات والأحاديث التي سمعها منه خوفا من ولاة الأمويين وبطشهم «222» . ولم يكن موقف الأمويين في تحجيم سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ناتجا من ورود اسم الإمام علي عليه السّلام ضمن طياتها فقط بل كان دور الأنصار فيها عاملا آخر أدى بطبيعة الحال إلى هذه النتيجة فقد كانت الرواية التي أوردها الزبير بن بكار (ت 224 هـ) من تمزيق سليمان بن عبد الملك للمغازي التي كتبها أبان بن عثمان بعد ما وجد فيها تسجيلا لمواقف الأنصار المشرفة «223» ، إذ أشار قبيصة بن ذؤيب* إلى أسباب هذا الكره الذي يكنه الأمويون للأنصار بعد ما سأله سليمان عن ذلك فأجاب قبيصة بالقول: " يا ابن أخي أول من أحدث ذلك معاوية بن أبي سفيان ثم أحدثه مروان ثم أحدثه أبوك، فقال: علام ذلك؟ فقال: لأنهم قتلوا قوما من قومكم وما كان في خذلانهم عثمان (رض) فحقدوا عليهم وحنقوهم وأورثوه لكم" «224» ، ويضيف البلاذري في مكان آخر أن عبد الملك قد مر على بعض ولده فرأى في أيديهم بعضا من الصحائف فيها ذكر للمغازي فأخذها وحرقها وقال عليك بكتاب الله فاقرأه والسنة فأعرفها وأعمل بها «225» .   (222) ينظر، الحاوي للفتاوى، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة نهضة مصر، 1374 هـ، 2/ 208. (223) ينظر، الأخبار الموفقيات، ص 332- 333. (*) تابعي من المدنيين الذين سكنوا دمشق وكان فقيها ومن أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت وجعله عبد الملك بن مروان من خاصته (ت 86 هـ) ، ينظر، ابن قتيبة، المعارف، ص 447، ابن عبد البر، الاستيعاب، 4/ 1272، ابن الأثير، أسد الغابة، 4/ 191. (224) البلاذري، أنساب الأشراف، مخطوطة مصورة في مجمع اللغة العربي، دمشق، 1/ 1165، نقلا عن عطوان، الرواية التأريخية في بلاد الشام، ص 77- 78. (225) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 1165، نقلا عن عطوان، المصدر نفسه، ص 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 بين أحد الباحثين أسباب هذا الإحجام من قبل الأمويين في السماح بانتشار ورواية وكتابة أخبار السيرة والمغازي بستة أسباب هي: السبب الأول: إنهم كانوا يعتقدون أن جمهور المسلمين في أيامهم ليسوا كجمهور المسلمين في صدر الإسلام وإنما قد تغيروا وتبدلوا إذ فارقوا أخلاق المسلمين الأولين وصاروا لا يقاربونهم في النقاء والصفاء. السبب الثاني: إنهم كانوا يقرون في قرارة أنفسهم بأنهم ليسوا كمن سبقهم من الخلفاء الراشدين، وإنما هم دونهم درجات فهم لا يبلغون مبلغهم في الصلاح والتقوى والورع. السبب الثالث: إنهم كانوا يؤمنون بأن نظام الحكم في الإسلام له قواعد وأسس ولكنها جميعها ليست ثابتة بل منها المتغير ومنها الثابت وما يصح منها للناس في عصر قد لا يصلح لعصر آخر وما تصح فيه حياة الناس في عهد قد تفسد به حياتهم في عهد ثان. السبب الرابع: إنهم كانوا يخشون أن يندد الناس بسياستهم ويشهروا بممارستهم ويثوروا على خلافتهم ويسعوا للتطويح بدولتهم إذا هم أباحوا لهم الاطلاع على سيرة من سبقهم وسمحوا لهم بروايتها. السبب الخامس: إنهم كانوا يرون أن رواية المغازي والسير تهيج الإحن والضغائن الكامنة وتحرك الحزازات والعداوات القديمة بينهم وبين الأنصار، فقد قتل الأنصار الأمويين وفتكوا بهم يوم بدر وانتقم الأمويون منهم وتشفوا بهم يوم أحد وكان الأنصار يفتخرون بأنهم من أهل السابقة والقدم في الإسلام، وأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 منعوا الرسول الكريم من كفار قريش من الأمويين وغيرهم، وكانوا يعدون الأمويين ممن تأخر إسلامهم وأنهم من المؤلفة قلوبهم، وكان الأمويون لا يغضون عن جراحاتهم ولا ينسون مناهضة الأنصار لهم ولشيعتهم، وكان ذلك مصدر خصام بينهم في صدر الإسلام. السبب السادس: أنهم كانوا يعلمون بأن ليس لهم نصيب من المغازي والسير لأنهم صدوا عن سبيل الله وناصبوا الرسول (ص) العداء وصبوا عليه وعلى من آمن برسالته أصناف العذاب وقتل من قتل منهم وهم يدافعون عن أوثانهم وسلطانهم في أول الدعوة، ولم يدخلوا الإسلام إلا بعد فتح مكة فكفوا الناس عن رواية المغازي والسير لكتمانها وإخفائها وأنهم كانوا يعتقدون أن في إطلاع الناس عليها نشرا لمساوئ الأمويين وازدراء بهم وتجريحا لهم وفيه إظهار لمحاسن الأنصار وثناء عليهم «226» . جعل هذا السبب جهود الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم من الذين عاصروا الدولة الأموية، بتدوين ورواية أحداث السيرة مقتصرة على رغبات شخصية بحتة عدا المدة التي تولى فيها عمر بن عبد العزيز الخلافة (99- 101 هـ) إذ تبنى فيها عملية كتابة وتدوين الحديث ونشره ورواية السيرة ومناقب الصحابة على جمهور المسلمين «227» .   (226) عطوان، الرواية التأريخية في بلاد الشام، ص 67. (227) ينظر، ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ص 98، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 5/ 54- 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 شبه مرجليوث هذا الموقف من قبل الأمويين بالسد الذي تجمعت خلفه المياه فما أن إنصدع هذا السد وتلاشى حتى ظهرت إلى العيان السيرة المبوبة والشاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بإيعاز من السلطة المركزية المتمثلة بالخليفة نفسه «228» . 2. ندرة مواد الكتابة وغلاء أثمانها، إذ كان هذا العامل من العوامل المباشرة التي أدت إلى تأخر عملية التدوين للمرويات الشفوية، بسبب طبيعة مواد الكتابة وأحوالها التي يصفها ابن النديم بالقول: " كتب أهل مصر بالقرطاس المصري ويعمل بالقصب البردي والروم تكتب بالحرير الأبيض والرق وغيره في الطومار المصري، وفي الفلجان وهي جلود الحمير الوحشية، وكانت الفرس تكتب في جلود الجواميس والبقر والغنم، والعرب تكتب في أكتاف الأبل واللخاف وهي (الحجارة الرقاق البيض) وفي عسب النخل، والصين في الورق الصيني ويعمل من الحشيش ... فأما الورق الخراساني فيعمل من الكتان ويقال إنه حدث في أيام بني أمية وقيل في الدولة العباسية ... وقيل أن صناعا من الصين عملوه في خراسان على مثال الورق الصيني ... " «229» . يبدو لنا من كلام ابن النديم أن هذه المواد كانت تتسم بالقلة لاختصاص كل بلد بمادة يكتب فيها لعدم وجود مواد كثيرة منها تساعد على انتشارها في كل البلاد، وإن وجدت فإنها غالية الأثمان، مما أسهم ذلك في قلة الكتابة والاعتماد على الحفظ «230» ، وظل الاقتصاد فيها مستمرا حتى انتقلت صناعة   (228) ينظر، دراسات عن المؤرخين العرب، ص 19. (229) الفهرست، ص 22- 23. (230) ينظر، جب، هاملتون، دراسات في حضارة الإسلام، ترجمة: إحسان عباس وآخرين، دار العلم للملايين، بيروت، ط 2، 1977، ص 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الورق من الصين إلى الدولة العربية الإسلامية عن طريق عمليات الفتوحات الإسلامية ولا سيما عند وصولهم إلى مدينة سمرقند التي يقول عنها الثعالبي عند وصفه لها: " من خصائص سمرقند الكواغيد التي عطلت قراطيس مصر والجلود التي كانوا يكتبون فيها لأنها أحسن وأنعم وأرفق ولا يكون إلا بها وبالصين" «231» ، ومن سمرقند نقل العرب صناعة الورق إليهم وأنشأوا في بغداد مصنعا للورق في زمن العباسيين «232» . ولهذا كانت ندرة مواد الكتابة من العوامل التي عاقت كتابة السيرة ونشرها بين الناس، فما أن أنتشر الورق ورخص ثمنه إلا وأقبل العلماء على تصنيف الكتب بمختلف اتجاهاتها وبضمنها السيرة، وترجمة تراث الأمم المجاورة والقديمة إلى لغتهم «233» . 3. غياب المنهج وأساليب العرض وسبك العبارات وتنسيق الجمل في مجموع متكامل من قبل المسلمين، وهذا العامل راجع إلى أنهم لم يألفوا تصنيف الكتب المبوبة على وفق موضوع معين «234» ، وكان هذا السبب عاملا ليس في تأخر كتابة سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فقط بل في تأخر كتابة العلوم والمعارف الأخرى من قبل المسلمين آنذاك، إذ نلاحظ أن نشأة التدوين التأريخي وبضمنه كتابة السيرة النبوية قد مر بمراحل ثلاث إلى أن وصل إلى صيغته المألوفة وهذه المراحل هي: -   (231) عبد الملك بن محمد، لطائف المعارف، تحقيق: إبراهيم الابياري، حسن كامل، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1960، ص 218. (232) عن تطور صناعة الورق وأثرها في الحركة الفكرية الإسلامية، ينظر، مزبان، سهيلة حسن، الحركة الفكرية في العراق (132- 254 هـ) ، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1992، ص 17- 25. (233) ريسلر، جاك، الحضارة العربية، ترجمة: محمد عزيز نويهض، الدار المصرية للكتاب، 1961، ص 174. (234) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 377، 401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أ. تقييد الفكرة أو الحديث في صحائف مستقلة للمذاكرة والحفظ، وهذه المرحلة هي أدنى المراحل وأيسرها. ب. تدوين الأفكار المتشابهة أو الأحاديث التي اختصت بموضوع معين في ديوان واحد، وتعدّ هذه المرحلة هي المرحلة الوسطى. ج. تصنيف المجاميع وترتيب ما دوّن وتنظيمه ووضعه تحت فصول محددة وأبواب مميزة وهذه المرحلة من أهم هذه المراحل وأعقدها «235» . من هذا نرى أن هذه المراحل قد شكلت الحلقات التي مر بها تصنيف الكتب إذا ما علمنا أن اللغويين عند عرضهم لمعنى كلمة (صنّف) وجدناهم يقولون: " وصنفه تصنيفا جعله أصنافا وميز بعضه عن بعض ومنه تصنيف الكتب" «236» . أعطى أحد الباحثين تعليلا للسبب الذي أدى إلى ظهور أولى المصنفات عند المسلمين في بداية العصر العباسي حصرا بأن طبيعة التطور الذي أحدثه النضج العلمي الذي نشأ بالاتصال الفكري من قبل المسلمين بالأمم المجاورة، واقتباس تجارب هذه الأمم في تصنيف الكتب وتوثيق علومهم ونقلها إلى بلاد الإسلام «237» . هذه هي العوامل والأسباب التي كانت وراء تأخر التصنيف في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، حتى بداية العصر العباسي.   (235) المصدر نفسه، 1/ 92- 100. (236) ابن منظور، لسان العرب، مادة صنف، 9/ 198. (237) ينظر، شلبي، أحمد، موسوعة التأريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، 1966، 3/ 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الفصل الثاني كتابة السيرة الشاملة والمستقلة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتطورها توطئة: بعد العرض الذي تم في الصفحات السابقة للجهد المبكر والأولي في كتابة السيرة النبوية وخط سيرها، نصل إلى الثمرة التي أنتجها ذلك الجهد الذي تمثل بكتابة أول سيرة شاملة ومستقلة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهي السيرة التي صنفها محمد ابن إسحاق (ت 151 هـ) «1» . كانت هنالك عوامل متعددة ساعدت على حدوث هذه النقلة النوعية في كتابة أحداث السيرة وهذه العوامل هي: - 1. تكامل الفكرة والمنهج والأسلوب في كتابة السيرة مع توفر الجدية والتوازن في عرضها «2» ، وهذا الأمر راجع إلى اتصاف الحوادث التي ذكرت بالشمولية، فالذي جمع أخبار السيرة جمع كل شيء من سياسة وحرب واقتصاد واجتماع وصفات شخصية وحياة ذاتية فيها أدق التفاصيل «3» .   (1) الحموي، ياقوت بن عبد الله (ت 626 هـ) ، معجم الأدباء، تحقيق: مرجليوث، مكتبة عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1355 هـ، 18/ 5، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 1/ 151. (2) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 94- 95، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 27، 30. (3) ينظر، زكار، سهيل، التأريخ عند العرب، مجلة قضايا عربية، الدار العربية للدراسات والنشر، بيروت، العدد 2، السنة 3، شباط، 1983، ص 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 2. الدعم المباشر من قبل الخلفاء العباسيين للعلماء وإغداق الهبات عليهم ولا سيما العلماء المهتمين بالسيرة والمغازي واستقطابهم إلى عاصمة الخلافة بغداد، إذ تشير المصادر إلى أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (136- 158 هـ) قد طلب من محمد بن إسحاق أن يصنف لأبنه محمد المهدي كتابا منذ خلق الله تعالى آدم عليه السّلام إلى يومه هذا «4» ، فضلا عن اتباع المهدي العباسي الشيء نفسه عندما تسلم مقاليد الخلافة (158- 169 هـ) وذلك باصطحابه لأبي معشر السندي (ت 170 هـ) * إلى بغداد ليعلم أولاده بعدما عرف فضله وعلمه وتبحره بأحداث الإسلام وذلك عند التقائه به في موسم الحج «5» ، ولم يقتصر الأمر على هذين الخليفتين بل انتهج هارون الرشيد (170- 193 هـ) منهاج آبائه نفسه في تعرّف أخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله ومغازيه وتقريب العلماء المهتمين بمعرفة ذلك، إذ أشارت المصادر التي ترجمت لمحمد بن عمر الواقدي إلى أنه قد حظي بمكانة بالغة في بلاط الرشيد وإبنه المأمون من بعده الذي جعله قاضيا في بغداد وذلك بعدما عرف الأول فضله وتبحره بأحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومغازيه والأماكن التي حصلت فيها حوادث عصر الرسالة عند   (4) الخطيب البغداد، تأريخ بغداد، 1/ 221، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 6. (*) أبو معشر نجيح المدني السندي، كان مكاتبا لامرأة من بني مخزوم فأدى ما عليه من ثمن عتقه فاعتق وله من الكتب كتاب المغازي، توفي ببغداد سنة سبعين ومئة، ينظر، ابن قتيبة، المعارف، ص 504. (5) ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 418. إبن خياط، خليفة، (ت 240 هـ) ، تحقيق أكرم العمري، بغداد، 1966، 1/ 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 زيارته مع يحيى البرمكي لبيت الله الحرام، واطلعهما الواقدي على تلك الأماكن «6» . كان هذا الموقف الذي أنتهجه العباسيون تجاه المهتمين بأخبار السيرة والمغازي تحصيل حاصل وأمرا لا مناص منه، إذ كانت حالة التذبذب والعشوائية في كتابة السيرة هي السمة التي اتسمت بها المدونات الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في العصر الأموي، فما كان من العباسين إلا أن حاولوا تغيير الكيفية والحال الذي سارت عليه كتابة السيرة، باتباع سياسة جديدة تمثلت بدعم وتشجيع المهتمين بها وتقريبهم إلى بلاطهم. شبه بعض الباحثين الدولة الأموية بالسد الذي تجمعت خلفه أشياء كثيرة فعندما تصدعت أركان هذا السد وانهار بسقوط الأمويين ودولتهم، انفتحت لأجل ذلك قرائح العلماء بالكتابة والتصنيف في مختلف الاتجاهات بعد بروز قوى متعددة مثلت كل واحدة من هذه القوى فكرة واتجاها معينا، مما أشعر السلطة الجديدة بمخاطر هذا الأمر، فما كان منهم إلا أن غيروا سياسة المنع وعدم التشجيع بسياسة تمثلت باحتواء هذه الحالة الجديدة فعمدت إلى إلحاق مشاهير العلماء في مختلف ميادين المعرفة، وعلماء السيرة والمغازي منهم بخاصة بالدولة، ودفع هؤلاء بما أجز لوه لهم من عطايا وأموال بتعديل وتزييف بعض الحقائق، فالرقيب العباسي لم يأخذ بسياسة المنع بل لجأ إلى سياسة التعديل والشطب والتغيير وإضافة أشياء مصطنعة «7» .   (6) ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/ 315- 219، 7/ 77، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 279. (7) ينظر، مرجليوث، دراسات عن المؤرخين العرب، ص 16- 17، زكار، التأريخ عند العرب، مجلة قضايا عربية، ص 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 كانت حادثة اشتراك العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في معركة بدر بجانب جيش المشركين واسهامه في إطعامهم بالطريق وقيام المسلمين بأسره في هذه المعركة، خير مثال على الكلام آنف الذكر، فقد أغفل مؤرخو السيرة الأوائل الذين كانت لهم صلات طيبة بالبلاط العباسي هذه الحادثة «8» ، أما الذين كان تأثير العباسيين فيهم قليلا أو بعيدين عنه فقد ذكروا هذه الحادثة بتفاصيلها «9» . 3. توفر المواد الأولية للكتابة ورخص أثمانها بعد تعرف المسلمين على صناعة الورق الصيني الذي يمتاز بقلة سعره قياسا بالقراطيس والجلود فضلا عن انتشاره بكميات كبيرة، إذ شجع هذا الأمر العلماء بالشروع في الكتابة والتصنيف «10» . 4. ظهور التخصص المعرفي في العلوم المعروفة آنذاك من قبل المسلمين، وهذا ما بينه الذهبي (ت 748 هـ) عند عرضه حوادث (سنة 143 هـ) إذ يقول: " وفي هذا العصر شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير وكثر تدوين العلم وتبويبه ودونت كتب العربية واللغة والتأريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان سائر الأئمة يتكلمون عن حفظهم أو يروون من صحف مكتوبة وغير مرتبة" «11» .   (8) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 664، 2/ 7، الواقدي، المغازي، 1/ 138- 139. (9) ينظر، ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4/ 6، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 301، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 426، 463. (10) جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 145. (11) تأريخ الإسلام، 3/ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 شمل هذا التخصص كتابة السيرة النبوية، إذ انفصلت في هذا العصر عرى الارتباط بين أنماط وأساليب المحدثين وأهل الأخبار في كتابة حوادث السيرة، وولّد هذا الفصل تباينا بين العلماء الذين تمنوا كتابتها، فقد كان مصنفوها الأوائل مؤرخين أولا ثم محدثين بالدرجة الثانية «12» . ظهر هذا التخصص المبكر في كتابة السيرة النبوية من قبل بعض العلماء، وذلك لأن المسلمين قد تطلعوا إلى إعادة امتلاك التجربة التأريخية الفريدة (تجربة النبوة والمجتمع المثالي الأول) ، ولأجل إعطاء هذه الصورة التأريخية الشاملة صفة تدعيم فكرة الأمة والمجتمع الناشئ، بعد أن أتصل العرب والمسلمون بالأمم الأخرى، ظهر هذا الحافز بعد أن برزت مشاكل جديدة نتيجة اختلاط العرب والمسلمين بالأمم الأخرى، تيقن هؤلاء ان هذه المشاكل لا يرجى حلها إلا باستعادة تجربة الوحي ومغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وسيرته بكتابتها ضمن منظور تأريخي واسع يجعلها خاتمة تجارب الأمم التي عاشت مع الأنبياء ورسالاتهم، أو كانت لها صلة من أي نوع بفكرة التوحيد، باستلهام هذا المنظور التأريخي من القرآن ومعارف العرب التقليدية وما عرفوه من معايشتهم لأصحاب الكتاب وأهل البلاد المفتوحة «13» . 5. توقف نشاط حركة الفتوحات الإسلامية، والاستقرار الاجتماعي والتمازج الحضاري مع الشعوب، النشاط الذي اختمرت تفاعلاته في هذا   (12) ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 27، دراسة في سيرة النبي (ص) ومؤلفها ابن إسحاق، مطبعة العاني، بغداد، 1966، ص 9. (13) ينظر، المصدر نفسه، ص 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 العصر وكان ثمرة من ثمرات سماحة الإسلام ومرونة العرب وانفتاحهم على غيرهم من الأمم والشعوب «14» . لم تكد تظهر أول سيرة مفصلة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، حتى انتهج المصنفون منحيين في كتابتها، إذ كان المنحى الأول يتمثل بعرض حوادثها بإسهاب وتفصيل والتبعات التي رافقت تلك الحوادث، أما المنحى الثاني فقد تمثل باقتضاب حوادث السيرة وعرضها بمصنفات مختصرة بحسب الكيفية التي يرومها المصنف، وقبل عرض هذه المصنفات التي نحت هذين المنحيين والتي جعلنا كل مبحث من هذا الفصل يتناول واحدا منها، تجب الإشارة إلى المحاور التي رافقت كتابتها، إذ نلاحظ أن العلماء المسلمين قد انتهجوا في بداية كتابتهم للحوادث التأريخية وأخبار الأمم السالفة المعرفة بكل ما وصل إليهم من نصوص مكتوبة عنها وما قرئ على مسامعهم من سرد لهذه الحوادث، وجمع هذه الموارد مجتمعة في مصنفات تبوب بحسب المواضيع التي تخصها من دون إبداء وجهة نظر أو نقد أو مقارنة بين المصنفات المتماثلة أو الروايات المتشابهة، أطلق على الذين اتبعوا هذا الأسلوب في عرض الحوادث بالاخباريين «15» . شمل هذا النهج في الكتابة والتصنيف الذي سلكه الاخباريون جميع المعارف الإنسانية آنذاك، وبضمنها الكتابة التأريخية التي شكلت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم جزء منها «16» .   (14) محمد عطا الله، مقاصد المؤرخين المسلمين في كتابة التراجم والسير، رسالة ما جستير غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1996، ص 56. (15) ينظر، روزنثال، فرانز، علم التأريخ عند المسلمين، ترجمة: صالح العلي، مكتبة المثنى، بغداد، 1963، ص 114. (16) ينظر، جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ولأجل ذلك كانت أولى المصنفات في سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم عبارة عن جمع شتات المدونات الأولية والروايات التي تناقلتها الألسن والشفاه عن أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مصنف مستقل من دون نقد للروايات التي تضمنها من حيث قوتها وضعفها. استمر هذا المنحى عند من أتى بعد هؤلاء الاخباريين، ولكنهم اختلفوا عنهم بكونهم قد فحصوا النصوص التي أوردوها، وبينوا ضعف بعض منها وعدم دقة بعضها الاخر «17» ، ولا نتهاج هؤلاء المصنفين الذين تلوا الاخباريين هذا المنهج في عرض الحوادث التاريخية والسيرة منها بخاصة، عدّ هؤلاء مؤرخين واخباريين في آن واحد «18» . نستنتج من ذلك أن كل مؤرخ هو إخباري ولكن ليس كل إخباري مؤرخا، مما جعل المصنفات التي سنتناولها في هذا الفصل تمتاز بالتنوع بين هذين المنحيين في الكتابة التأريخية، التي ستظهر حدوث تطورين في كتابة السيرة: التطور الأول تمثل بظهور أول مصنف يعرضها بالتفصيل وباستقلالية عن باقي المصنفات التي كتبت في ذلك العصر، والتطور الثاني تمثل بتعدد المناهج والأساليب التي كتب بها هؤلاء المصنفون سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والإضافات النوعية في كل مصنف من هذه المصنفات مقارنة بمثيلاته أو بالمصنفات الأخرى التي دخلت السيرة النبوية في هيكلها.   (17) ينظر، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 92- 101. (18) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 27، دراسة في سيرة النبي، ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المبحث الأول السيرة النبوية المسهبة والمستقلة ومصنفوها: انتجت قرائح العلماء المهتمين بالسيرة مصنفات عدة أسهبوا فيها بذكر الحوادث التي تحدثت عن أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وعلاقته بأحداث عصره، أما أسماء المصنفات التي نهجت هذا المنحى، وأسماء المصنفين الذين كتبوها فهي: 1. السير والمغازي لمحمد بن إسحاق (ت 151 هـ) *: مصنف هذه السيرة هو محمد بن إسحاق بن يسار، ولد سنة (85 هـ) من أسرة كانت تسكن منطقة عين التمر في العراق، إذ وقع جده يسار أسيرا في أيدي المسلمين عندما فتح خالد بن الوليد هذه المنطقة سنة (12 هـ) ، وأصبح بعد ذلك مولى لقيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف ومن هنا جاءت نسبته بالمطلبي المخزومي «1» . سكن محمد بن إسحاق المدينة المنورة واستفاد من هذه البيئة العلمية التي عاش بها إذ أكسبته خزينا فكريا تمثل بجلوسه في الحلقات التي كان يعقدها   (*) كتبت العديد من الدراسات عن هذه السيرة ومؤلفها محمد بن إسحاق، نخص بالذكر منها دراسة الدكتور عبد العزيز الدوري الموسومة دراسة في سيرة النبي ومؤلفها محمد بن إسحاق، وكتب الدكتور حسن الحكيم دراسة أخرى تناول فيها ريادة محمد بن إسحاق في تدوين السيرة النبوية واستعراض الموارد التي اعتمد عليها في ذلك. (1) ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 415، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 219- 222، السهيلي، الروض الأنف، 1/ 3- 4، ياقوت الحموي، 18/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الصحابة المتأخرون وأبناؤهم والتابعون «2» ، ولم يكتف بذلك، بل شد الرحال إلى الأمصار الإسلامية ليسمع من محدثيها ورواتها وذلك في مقتبل حياته «3» . من هذا كله نرى أن البيئة التي سكن فيها محمد بن إسحاق المتمثلة بالمدينة المنورة والموروث السابق لأسرته التي استوطنت في منطقة اتصلت بالمدارس الفكرية المعروفة آنذاك في الحيرة وحران ونصيبين وجنديسابور «4» ، كل ذلك أدى إلى أن تشكل هذه العوامل مجتمعة أرضية صالحة لشخصية تأخذ زمام المبادرة بتصنيف أول سيرة متكاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. وهذا الكلام لا يدفعنا إلى التقليل من جهود السابقين له في هذا المضمار ولكن الجهد المتميز الذي بذله ابن إسحاق جعل من السيرة التي كتبها محط إعجاب المتقدمين والمتأخرين، وخير ما نستشهد به لتبيان هذا الأمر ما ذكره بعض الباحثين حول هذه السيرة والسبب الكامن وراء شهرتها، إذ يقول أحدهم: " كان ثمرة مفهوم أوسع من مفهومات معاصريه وأسلافه، وذلك من حيث أنه لم يقصد تقديم تأريخ للرسول بل رأى أن يقدم تاريخا للنبوات أيضا" «5» ويضيف آخر قائلا: " مهما تكن أهمية أعمال الزهري وموسى بن عقبة فان عمل ابن إسحاق يبقى الأساس فيما يتصل بالسيرة وإلى حد ما بالتأريخ، وتكمن أهميته كمؤرخ في استيعابه لتجارب شيوخه وفي تطويرها وإعادة تنظيمها من   (2) الخطيب البغدادي، 1/ 214. (3) أورد الحكيم قوائم عدة بأسماء الشيوخ الذين سمع منهم في كل مصر من الأمصار الإسلامية، ينظر، محمد بن إسحاق وريادته في تدوين السيرة النبوية، مجلة آداب المستنصرية، كلية الاداب، الجامعة المستنصرية، بغداد، عدد 14، 1986، ص 285- 288. (4) ينظر، بابو إسحاق، رافائيل، مدارس العراق قبل الإسلام، مطبعة شفيق، بغداد، 1955، ص 90- 124. (5) جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 خلال فهمه الجديد للتأريخ ومن خلال نظرته الشاملة النابعة من ثقافته الواسعة وإدراكه للمغزى السياسي (الصورة التاريخية) ومن هنا صار ابن إسحاق شيخ كتاب السيرة وصار من كتبوا بعده عيالا عليه" «6» . ومن ذلك صارت شهرة ابن إسحاق على جميع المصنفين في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من المتقدمين والمتأخرين أشهر من نار على علم، حتى وصفه الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بالقول: " من أراد التبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق" «7» . كانت هنالك عوامل عدة وراء شهرة هذه السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذه العوامل هي: 1. عدم وجود مصنف متكامل وشامل عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قبل مصنفه هذا «8» ، إذ كانت مدونات السيرة قبل هذا الكتاب مجرد صحف ومجاميع لا ترقى بمستواها إلى مصافي الكتب المصنفة والمبوبة. 2. إحالة جمع غفير من العلماء على هذه السيرة، واعترافهم بتبحر هذا الرجل بالمغازي وأخبارها «9» . 3. تلمذة جمهرة واسعة من طلاب العلم على يده وسماعهم السيرة منه وإجازته لهم بروايتها عنه، حتى تعدد الرواة لهذه السيرة الى حد أن خصص لها أحد الباحثين دراسة عنهم «10» .   (6) زكار، سهيل، مقدمة تحقيق كتاب السير والمغازي لمحمد بن إسحاق، دار الفكر، قم، إيران، ط 2، 1990، ص 9. (7) الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 219، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 5. (8) ينظر، المسعودي، علي بن الحسين، (ت 345 هـ) ، مروج الذهب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية، القاهرة، ط 2، 1948، 4/ 314- 315. (9) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 219، ابن سيد الناس، عيون الأثر في فنون المغازي والسير، 1/ 8- 10. (10) ينظر، الطرابيشي، مطاع، رواة محمد بن اسحاق في المغازي والسير، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط 1، 1994، ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 4. التبويب والتنسيق للمواضيع التي شملتها السيرة وحصرها ضمن عناوين متسلسلة غير مضطربة أو مشوشة، وهذا ما جعلها محط رضا من كتب في السيرة أو علق عليها، إذ يصف أحد هؤلاء هذه الميزة التي تميزت بها سيرة ابن إسحاق بالقول: " واستغنيت عن كتاب محمد بن عمر الواقدي لأنه لم يحضرني الان ولكني رأيته كثيرا ما يجري مع ابن إسحاق فاستغنيت عنه به بفضل فصاحة ابن إسحاق في الإيراد وحسن البيان الذي لا يقل معه استحسان الحديث المعاد" «11» . لم تقتصر هذه السيرة على هذه العوامل التي أسهمت في اشتهارها بل توافقت مع أمور أخرى أمتاز بها ابن إسحاق نفسه في عرضه لأخبار السيرة، وهذه الأمور هي: 1. التوفيق بين أسلوب أصحاب القصص والأخبار وبين المحدثين في عرض المادة التأريخية، إذ نراه يتحدث عن أهل الكتاب الذين يسميهم أهل العلم الأول أو أهل التوراة مع إغفاله لأسماء من حدثه من أهلها «12» ، فضلا عن إتباعه أسلوب المدرسة اليمنية المشهور بالقصص والأساطير القديمة «13» ، إذ لمسنا هذا الأمر في الروايات التي سجلها لنا عن الأحداث التي جرت قبل الإسلام «14» ، أما من حيث إتباعه لمنهج المحدثين، فقد كان الإسناد في الخبر والحديث هو السمة   (11) الكلاعي، الاكتفا، 1/ 4. (12) ينظر، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 44، 122، 144، 202، 364. (13) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28. (14) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 5- 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الغالبة على كتابه «15» ، ولا سيما عند حديثه عن مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والحوادث التي تلته إلى أن ألتحق بالرفيق الأعلى «16» . وصفت إحدى الدراسات منهج وأسلوب ابن إسحاق هذا بالقول: " ويتصف بصفة المؤرخ الحق، وتتمثل في الصورة الأخيرة للمزج بين كتابة التراجم على النحو الديني المأثور عند المحدثين وكتابتها على النحو الملحمي الأسطوري المأثور عن القصاص، وهذا الطابع الأصيل الذاتي الذي يتميز به مؤلف ابن إسحاق الذي يفسر العداوة بين مذاهب الرواة، ويبرز في الوقت نفسه النجاح العظيم الذي لقته على مدى الأجيال" «17» ، وتضيف دراسة أخرى بالقول" وحين نأتي إلى ابن إسحاق نحس بخطوط جديدة في التطور ومن مظاهرها الواضحة وجود عنصر القصص الشعبي والاتجاه نحو المبالغة ونحس بأننا انتقلنا إلى علماء هم مؤرخون أولا ثم محدثون من الدرجة الثانية" «18» . 2. إدخال معظم الايات القرآنية التي نزلت بالحوادث التي تطرق إليها بضمن هيكلية النص الذي كتبه لكل حادثة، مما يعطي القارئ لهذا الكتاب الأدلة والقرائن التي أكدت الحدث التأريخي الذي سجله في مصنفه هذا «19» . عد أحد الباحثين هذه السيرة من أقدم المصادر التي وصلت إلينا في أسباب نزول القرآن لما حوته من ذكر لأماكن نزول الايات التي رافقت مسار الدعوة   (15) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28. (16) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 249، 257، 261، 262. (17) دلافيلدا، دائرة المعارف الإسلامية، مادة (سيرة) ، 12/ 452. (18) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 27. (19) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 154- 156، 159، 320- 321، 387- 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الإسلامية «20» ، ولأجل ذلك أعطاها باحث آخر بعدا يتسم بالنقد والتمحيص للروايات التي أوردها ابن إسحاق في أسباب نزول بعض الايات القرآنية فيها، إذ يقول: " ويلحظ على أن ابن إسحاق يعنى بجمع الروايات المتعلقة بالنزول دون تمحيصها والموازنة بينها بترجيح أو تضعيف" «21» ، ويضيف على ذلك الأمر: " ان السيرة التي كتبها ابن إسحاق قد تضمنت أيضا تفسيرا لعدد غفير من الايات القرآنية مع مراعاته إيجاز ذلك وبيان معاني تلك الايات على وجه الإجمال من دون الولوج في التفاصيل أو إيراد الوجوه المتعددة للروايات المختلفة في الموضوع المراد استعراضه" «22» . كان هذا الأمر دافعا إلى وضع هذه السيرة نصب أعين المفسرين الذين تناولوا أسباب نزول الايات القرآنية «23» . 3. استشهاده بالشعر في معظم الايات التي يذكرها «24» ، ولكن هذا العامل كان من السلبيات التي وصف بها منهج ابن إسحاق في كتابة السيرة من قبل نقدة الشعر وأهل المعرفة والدراية في بحوره وأوزانه والرواة له، إذ كان الجمحي   (20) الجويني، مصطفى، مناهج في التفسير، منشاة المعارف، الاسكندرية، مصر، د. ت، ص 25. (21) الزيدي، كاصد، الدراسات القرآنية في سيرة ابن هشام، مجلة آداب الرافدين، كلية الاداب، جامعة الموصل، عدد 13، نيسان، 1981، ص 260. (22) المصدر نفسه، ص 260. (23) ينظر، الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، مكتبة عيسى البابي الحلبي، مصر، ط 2، 1954، 2/ 11، الطوسي، محمد بن الحسن، (ت 460 هـ) ، التبيان في تفسير القرآن، مكتبة الأمين، النجف، 1958، 3/ 17، 22، الطبرسي، الفضل بن الحسن (ت 548 هـ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق: هاشم الرسولي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1379 هـ، 2/ 200. (24) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 23، 50، 51، 100، 213، 268، 413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 (ت 231 هـ) من هؤلاء الذين شنوا هذه الحملة على الشعر الذي ورد في سيرة ابن إسحاق، حيث وصفه بالقول: " وكان ممن افسد الشعر وهجنه، وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار ... وكان من علماء الناس بالسير ... فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط، وأشعار النساء فضلا عن الرجال" «25» ، ونقل الجمحي أيضا رواية ذكر فيها أن أحد العميان من الذين يحفظون الشعر قد سمع الشعر الذي نقله ابن إسحاق فقال: " فلو كان الشعر مثلما وضع لابن إسحاق ... ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل" «26» وأكد ابن النديم (ت 381 هـ) أن ابن إسحاق كانت تعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه فيفعل «27» . دفع هذا العامل ابن هشام إلى أن يقوم برفع الشعر الموضوع والتنبيه على الباقي من حيث صحته أو ضعفه أو خلله إذ يقول: " واني تارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيه ذكر ... ، لما ذكرت من الاختصار وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم يعرفها ... " «28» . اعترف ابن إسحاق بهذا الخلل الموجود في الأشعار التي نقلها مبينا سبب ذلك إلى أنه لا علم له بالشعر المنحول والمصنوع وغيره وإنما يؤتى به فيحمله في سيرته «29» .   (25) محمد بن سلام، طبقات الشعراء، تحقيق احمد محمود شاكر، دار المعارف، مصر، 1963، ص 7- 8. (26) المصدر نفسه، ص 7- 8. (27) الفهرست، ص 105. (28) السيرة، 1/ 4. (29) الجمحي، طبقات الشعراء، ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 علق أحد الباحثين حول هذا الموضوع بالقول: " وكثير من القصائد التي أوردها ابن إسحاق وخاصة التي تتصل بحوادث المدينة، لا يوجد ما يدعو إلى الشك في صحتها، لأنها كانت معروفة لدى علماء الشعر في عصر ابن هشام بأنها صحيحة، أما القصائد الأخرى التي يحيط بها الشك لم يكن ابن إسحاق يتمسك بصحتها، ولم يقم بالبحث في توثيقها، إذ لم يكن له علم بالشعر- على حد قوله- فهو استشهد بهذه الأشعار على قدر ظهورها له جديرة بالاستشهاد لأنها تنفع في تزيين القصة، ولأن إدخال القصائد في الأخبار النثرية كان من الأمور المتبعة في الفن المأثور القديم عن القصاص العرب" «30» . ثمن أحد الباحثين نزاهة ابن إسحاق وموضوعيته في إيراد أشعار المشركين التي قيلت ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من دون حرج حتى وإن كان فيها مساس لشخصه الكريم «31» ، إذ اعتمد في هذا الرأي على مقالة ابن هشام التي استهل بها كتابه: " وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ... أشعار ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم يعرفها وأشياء بعضها يشنع الحديث به وبعضا يسوء بعض الناس ذكره وبعضا لم يقر لنا البكائي في روايته" «32» . وقام- لأجل ذلك- باحث آخر بالتفتيش عن هذه الاشعار وعقد مقارنة بين ما قاله الشعراء المسلمون في الرد على خصومهم في ز من الرسالة وما   (30) أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 146. (31) ينظر، هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 93. (32) السيرة، 1/ 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 تضمنت تلك الأشعار من إشارات إلى وجود قصائد تضمنت هجاء للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم احتمل إيرادها من قبل ابن إسحاق لها «33» . هذه هي الملابسات التي رافقت الشعر الذي أورده ابن إسحاق في سيرته والذي عدّ نقطة تحول وتطور في كتابة السيرة النبوية، لأنه بعمله هذا قد أعطى للأجيال التي تلته حافزا على معرفة باقي الأشعار التي قيلت في تلك الحوادث وتنبيه هؤلاء إلى ما ورد من شعر منحول وموضوع وضعيف في هذه السيرة، مما يشكل حافزا مبكرا على ظهور الدراسات النقدية للشعر عند المسلمين. 4. الاهتمام بإيراد الأنساب وأسماء القبائل التي ينتمي إليها الشخوص الذين يعرض لهم ولأعمالهم ودورهم في أحداث عصرهم عند حديثه عن حوادث عصر الرسالة «34» ، وهذا الأمر راجع إلى طبيعة المجتمع آنذاك الذي تمثل ببروز المفاخرات بين قبائله وبين أفراد القبائل نفسها «35» ، فضلا عن ذلك فإن معظم شيوخه الذين روى عنهم هم من المدينة، إذ كانت السمة الغالبة عليهم هي الشغف بإيراد مواقف قومهم (الأنصار) في الدفاع عن الإسلام، والتفاخر بما عملوه من ماثر وبطولات مع الرسول في معاركه وحياته اليومية «36» .   (33) ينظر، أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 202- 213. (34) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 130- 132، 428- 432، 505- 509. (35) ينظر عن الأنساب ودورها في المجتمع العربي قبيل الإسلام وبعده، علي، جواد، المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1976، 1/ 466- 468. (36) ينظر، الحكيم، محمد بن إسحاق، مجلة آداب المستنصرية، ص 285- 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 لم يقتصر ابن إسحاق على إيراد أسماء المشاركين من أهل المدينة وقبائلهم بل أورد أيضا أسماء المشاركين من المشركين وحتى القتلى والأسرى منهم «37» . مع كل هذا الاهتمام من قبل ابن إسحاق في إيراد أنساب المشاركين في الحوادث وأسمائهم، انتاب هذا الأمر بعض الهفوات نبهنا لها ابن هشام عند تهذيبه للسيرة بالإشارة إلى مواطن هذه الإشارات والقيام بتصحيحها «38» . 5. الشمولية باستعراض الحديث التاريخي وربطه بالأحداث التي سبقته «39» ، وهذا الأمر راجع إلى عدم إيمانه باجتزاء الأحداث وأخذها كمفردة مستقلة لا علاقة لها بما سبقها من حوادث كما فعل الذين سبقوه والذين استعرضنا سابقا اسهاماتهم في تدوين وكتابة السيرة النبوية «40» . أوضح الدوري السبب في إطلاق هذه الصفة على السيرة التي كتبها ابن إسحاق، لأنه قد عبر عن فكرة تأريخية لم يسبقه إليها أحد وهي كتابة تأريخ عالمي من المبتدأ والمغازي وتاريخ الخلفاء «41» ، ويضيف آخر حول اتصاف هذه السيرة بهذا الوصف قائلا: " إن طريقة عرض محمد بن إسحاق لمادته تعتبر أول بادرة في وضع الإسلام ومنشأه في نسق التأريخ العام فهو يرى أن ظهور الإسلام استمرار وتتمة للتأريخ المقدس اليهودي والنصراني من حيث كونه   (37) ينظر، ابن هشام، السيرة، 1/ 677، 706، 708، 2/ 3/ 122- 127، 129. (38) ينظر، السيرة، 1/ 60، 71، 75، 77، 81، 91، 95، 179، 218، 2/ 4، 50، 64. (39) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28. (40) ينظر، ص 13- 43 من هذه الدراسة. (41) ينظر، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ينبعث من الخلق الإلهي ومن دعوة الأنبياء السابقين لمحمد" «42» ، وأتفق باحث آخر مع هذا الرأي مبينا فيه أن فهم ابن إسحاق للتأريخ بعامة والسيرة النبوية بخاصة كان أوسع من مفهوم أسلافه ومعاصريه، وذلك من حيث انه لم يقصد تقديم تأريخ للرسول حسب بل رأى أن يقدم تأريخا للنبوات أيضا ولذلك فقد صار مرجعا رئيسا لتأريخ ما قبل الإسلام وصدره «43» . 6. استعراض الخبر التأريخي بأسلوب جميل وذلك باستعمال إسناد جمعي في ذكر الحوادث، وذلك بجمعه روايات عدة لحدث واحد في نص منسق يستعرض الحادثة من بدايتها إلى نهايتها «44» ، نال ابن إسحاق في عمله هذا إعجاب الباحثين إذ وصف أحدهم بأنه قد اتبع هذا الاسلوب بحرص وكفاءة واستطاع أن يقدم قصة جذابة في رواياته «45» ، ويضيف آخر: " أن ابن إسحاق صاغ سيرته بأسلوب ساحر ويعرض أحداثه بتسلسل، ويجمعها بطريقة تجلب انتباه القارئ على الدوام، مع تصويره للشخصيات التي يصفها بحيث تبرز أمامنا كأننا نراها رأى العين" «46» ، وينتهي أحدهم إلى وصف أسلوب ابن إسحاق هذا بالقول: " كان محايدا في عرضه لنشاط الجانب المناوئ للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم فلا يتخلف عن تدوين ما قيل من الشعر في هجاء الرسول الكريم، وإذا تعرض للغزوات فهو يقدم   (42) دلا فيلدا، دائرة المعارف الإسلامية، 12/ 451. (43) جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 148. (44) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 86، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 28. (45) الدوري، المصدر نفسه، ص 29. (46) نصار، نشأة التدوين التأريخي عند العرب، ص 83- 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 خبرا عاما موحدا من الروايات ثم يعقب بعد ذلك عليها في بعض الأحيان ... " «47» . من هذا كله نرى أن سيرة ابن إسحاق قد مثلت بوتقة انصهرت فيها كل النتاجات السابقة في كتابة وتدوين حوادث السيرة والتأريخ، لأن هذا الجهد المتكامل لا يأتي من فراغ بل هو نتاج حقبة تطورية في كتابة السيرة امتدت قرنا ونصف القرن من الزمان على وجه التقريب، حتى كانت هذه السيرة المعين لكل من يريد الكتابة والاطلاع على سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. 2. السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام المعافري (ت 213 هـ) : هو عبد الملك بن هشام بن أيوب المعافري الذهلي، نشأ في البصرة ثم نزل في مصر ومات بها وصف هذا الرجل بأنه كان أديبا اخباريا نسابة وإماما في اللغة والنحو والعربية «48» . أسهم هذا الرجل اسهاما بارزا في تنقيح وتهذيب السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق، إذ وضح هذا الأمر بديباجته التي افتتح بها تهذيبه هذا والتي مفادها: " هذا كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ... وأنا إن شاء الله مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ... إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل على هذه الجهة من الاختصار إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وتارك   (47) الحكيم، محمد بن إسحاق، مجلة آداب المستنصرية، ص 294. (48) ينظر، القفطي، علي بن يوسف، (ت 646 هـ) ، إنباه الرواة على أنباء النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتب المصرية، 1950، 2/ 211- 212، الحنبلي، عبد الحي بن العماد، (ت 1089 هـ) ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، ط 2، 1979، 2/ 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيه ذكر ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه، [لما] ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها وأشياء بعضها يشنع الحديث به وبعض يسوء بعض الناس ذكره وبعضا مما لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص إن شاء تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به" «49» . كانت هنالك دوافع وحوافز عدة غير التي ذكرها في مقدمته آنفة الذكر، ساعدت على قيام ابن هشام بتهذيب سيرة ابن إسحاق، إذ كانت هذه الحوافز متمثلة بوجود آليات امتلكها ابن هشام ساعدت على شروعه في هذا الأمر، إذ أشارت المصادر التي ترجمت له أنه كان من المشار إليهم بالبنان في التبحر بعلوم العربية والنحو واللغة، وعلما من أعلامها «50» . شكلت هذه الأمور مجتمعة نقطة تحول بارزة في كتابة السيرة النبوية واسهاما جادا في تطورها، حتى عدّت السيرة التي كتبها ابن هشام أحد المختصرات الأربعة التي فضلت على أصولها في التراث الإسلامي «51» ، حتى وصفها ابن حجة الحموي (ت 767 هـ) بالقول: " فان السيرة النبوية المنتظمة بتأليف إمام الحفاظ أبي محمد عبد الملك بن هشام حكم بصحتها وقبلت الشهادة   (49) السيرة، 1/ 1- 4. (50) ينظر، القفطي، إنباه الرواة على أنباء النحاة، 2/ 211- 212، السيوطي، بغية الوعاة في أخبار النحاة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط 1، 1964، 2/ 115. (51) ينظر، السيوطي، المزهر في علوم اللغة، تحقيق: محمد احمد جاد المولى واخرون، دار احياء الكتب العربية، د، ت، 1/ 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 [بها] وعقدت الحناجر وأزال [ت] الإبهام" «52» ، وهذا الأمر راجع إلى المنهج الذي اتبعه ابن هشام في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق، والذي أكسب كتابة السيرة تطورا ملحوظا، إذ تمثل هذا التطور بعدة أمور هي: 1. حذف الأخبار التي يشنع ذكرها وسماعها أو الأحداث التي لا علاقة لها بالسيرة من قريب أو بعيد أو التي فيها حشو وتطويل، وهذا ما لمسناه في مقدمته التي افتتح بها تهذيبه هذا «53» . كان هذا النهج في كتابة السيرة مستحسنا ومستهجنا في آن واحد، ذلك أنه أستحسن عندما هذب السيرة من الأخبار التي لا علاقة لها بها، واستهجن لأنه قد أثار الشبهات والشكوك حول صحة المعلومات التي وردت فيها والأخبار التي حذفها، إذ وصف الصفدي (ت 728 هـ) سيرة ابن إسحاق بأنها قد رواها عنه جماعة منهم من زاد ومنهم من نقص «54» ، فكان ابن هشام كما ذكر هو نفسه ممن نقص وزاد، وأعطى اليافعي (ت 768 هـ) عذرا لتصرف ابن هشام هذا بأنه قد هذب السيرة ولخصها لكونه أديبا ونسابة «55» ، هذا من جانب العلماء الأوائل، أما بالنسبة الى الباحثين المحدثين فقد تباينت وجهات نظرهم في منحى ابن هشام هذا إذ يقول أحدهم: " لكن مما يأسف عليه لجوء ابن   (52) الحموي، أبو بكر، علي بن عبد الله، بلوغ المرام من سيرة ابن هشام والروض الأنف والأعلام، مخطوط في مكتبة الأوقاف، بغداد، برقم (5961) ، ورقة 2. (53) ينظر، السيرة، 1/ 4. (54) الوافي بالوفيات، 1/ 7. (55) ينظر، عبد الله بن أسعد، مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، ط 1، 133 هـ، 2/ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 هشام إلى حذف الكثير من مادة ابن إسحاق التي عدها غير ضرورية ثم صيرورته إلى تعديل بعض الأخبار أو تغذية ألفاظها بحسب ما فهمها ليكسبها قبولا ووضوحا حين رأى أنها تفتقر إليهما، ولا شك في أن تعديلاته وشروحه هذه تأثرت ببيئته الثقافية وطبيعة عصره الذي عاش فيه ... حتى كانت اهتمامات ابن هشام اللغوية قد أثرت تأثيرا كبيرا في طريقته باختيار الأخبار وفي إيرادها، وقد ذهبت بعض اهتمامات ابن إسحاق التأريخية والأخبارية ضحية دقة ابن هشام اللغوية ... ومن ثم فان لهذا النوع من الحذف ولا شك أسبابا سياسية وأخرى تتصل بالصورة التأريخية لعصر ابن هشام عن النبي وصحابته" «56» ، وينتهي آخر إلى ووصف باحث آخر السيرة التي هذبها ابن هشام بأنها لا يطمئن لها من حيث شموليتها لكل الأمور الجوهرية التي ذكرها ابن إسحاق «57» ، وينتهي آخر إلى وصف هذه السيرة بأنها سيرة محرفة ومبسترة ومعدلة «58» . مع كل ما قيل فان هوروفتس لم يكن بحدة هؤلاء إذ وصف تجربة ابن هشام هذه بأنها جهد موفق حفظ لنا جانبا كبيرا من كتاب ابن إسحاق الذي لولا جهد ابن هشام هذا لعددنا كتاب ابن إسحاق في عداد الكتب الضائعة «59» . 2. الاهتمام بالشعر الذي ورد في سيرة ابن إسحاق، إذ تمثل هذا الاهتمام بمحاور عدة: أ- حذف الكثير من الأشعار التي أوردها ابن إسحاق وشمل هذا الحذف:   (56) زكار، مقدمة تحقيق كتاب المغازي والسير لابن إسحاق، ص 15- 16. (57) جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 148. (58) مؤنس، حسين، هامش على كتاب التمدن الإسلامي لجرجي زيدان، دار الهلال، مصر، د، ت، 3/ 107. (59) ينظر، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 82- 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أولا: حذف الأشعار المنحولة، إذ تمثل هذا الحذف بعبارته التي افتتح بها كتابه والتي مفادها: " وتارك ذكر ... أشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها" «60» ، إذ نلمس من هذا الكلام وجود قناعة خاصة في معرفة الأشعار المنحولة التي أثبتها ابن إسحاق في سيرته. تمثلت هذه الفكرة التي نهجها ابن هشام في مواطن عديدة من السيرة التي كتبها للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «61» ، فمن هذه المواطن تعليقه على الشعر الذي أورده ابن إسحاق والذي تضمن ما قاله عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في حادثة ذبح ولده عبد الله: " وبين أضغاث هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر" «62» . علل أحد الباحثين منحى ابن هشام هذا بالقول: " وعموما فان ترك ابن هشام للأشعار المنحولة التي أوردها ابن إسحاق في سيرته والتي لم تصح لديه، لعدم معرفة أحد من أهل العلم بالشعر بها أو لإنكار ثقات لها واقتناعهم بعدم صحتها، هو عمل توثيقي عظيم خلص شعر السيرة من أخطر سوءة كانت تشوه حقيقته، وأعاد إلينا الكثير من الثقة والاطمئنان إلى أصالته" «63» ، ولكن هذا الرأي فيه من المبالغة والتسرع في طرح وجهات النظر الشيء الكثير إذ إن حذف ابن هشام لهذا الشعر الذي خلص السيرة بحسب رأيه من التشويه قد أفقدنا من الناحية التأريخية والعلمية بعض الإشارات والأساليب التي استعملت   (60) السيرة، 1/ 4. (61) ينظر، السيرة، 1/ 51- 52، 65، 116. (62) المصدر نفسه، 1/ 155. (63) أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 في هذا الشعر المنحول إن صح رأيه فيها لأننا لم نحصل على تلك الأشعار حتى نتبين مدى مصداقية ابن هشام في حذفه لها بوصفها أشعارا منحولة، إذ كان الأجدر به إيراد تلك الأشعار مع تبيان رأيه فيها وترك الحكم عليها من قبل قرائها ليتبينوا صحة ما قاله ابن هشام فيها. ثانيا: حذف الأشعار الرديئة، وشملت هذه الأشعار ما لم يتكامل وزنه، والتي في وزنها الشعري ركاكة، والتي اختلفت قوافي أبياتها، إذ نراه قد طبق هذا المنحى في أماكن عديدة، اذ حذف بعض الأبيات من قصيدة قالها أحد الشعراء يرد فيها على قصيدة حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، لاختلاف قوافي هذه الأبيات، وهذا ما جسدته مقالته التي مفادها: " لقيت منها أبياتا تركناها لقبح اختلاف قوافيها" «64» ، وحذف أيضا أبياتا شعرية لأحد المشركين التي رثى بها أبناءه الذين قتلوا في معركة بدر معللا سبب هذا الحذف بالقول: " هذا أفواء وهي مشهورة في أشعارهم وهي عندنا إعفاء، وقد أسقطنا من رواية ابن إسحاق ما هو أشهر من هذا" «65» . من هذا نلاحظ أن ابن هشام قد أشار في بعض الأحيان إلى ما يحذفه من أبيات وقصائد ولكنه من قوله آنف الذكر يبن لنا أنه تارة يذكر سبب حذفه لهذه الأبيات وتارة يترك سبب حذفها من دون إشارة، مما يدل على أن الشعر الذي خفي عنا كان أعظم مما هو مثبت، أما ظاهرة الاقواء التي ذكرها آنفا فقد أوضح معناها أحد الباحثين بالقول: " وظاهرة الاقواء في القصيدة هي اختلاف   (64) السيرة، 2/ 213. (65) المصدر نفسه، 1/ 648. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 شكل القوافي بين الدال المنصوبة والدال المكسورة والتي تأتي على غير ذلك في اختلاف في الشكل" «66» ، أما قول ابن هشام عن هذه الظاهرة- وهي مشهورة في أشعارهم- يدل على أن شعر المكيين كان يكثر فيه هذا العيب الشعري. وهكذا فان ابن هشام في منحاه هذا قام بحذف بعض القصائد والابيات الشعرية لا لشك منه في صحة صدورها من أفواه قائليها بل كان على أساس إنتقاء الأشعار الجيدة والحسنة وإثباتها في تهذيبه هذا لسيرة ابن إسحاق ورفع الأشعار الرديئة التي تشكل برأيه عيبا ظاهرا في هذا التهذيب إن هو اثبت هذه الأشعار، وهذا الأمر أفقدنا معلومات تأريخية مهمة تضمنتها تلك الأشعار التي حذفها ابن هشام. ثالثا: حذف الأشعار المقذعة، ومعنى القذع في اللغة هو الخنا والفحش، وأقذعه أي رماه بالفحش وأساء القول فيه وهو الفحش في الكلام الذي يقبح ذكره، والهجاء المقذع الذي فيه فحش وسب يقبح نشره، وأقذع له أي أفحش في سمته «67» . قام ابن هشام بحذف الأشعار التي تضمنت تلك الصفات التي عناها معنى القذع والتي وصفها بعبارته التي تضمنتها مقدمته: " وأشياء بعضها يشنع الحديث به وبعض يسوء الناس ذكره" «68» ، إذ شمل الحذف الأشعار التي تضمنت قذعا للمسلمين والمشركين على حد سواء، إذ وجدنا أمثلة عديدة على هذا   (66) أحمد، شعر السيرة، ص 222. (67) ينظر، ابن منظور، لسان العرب، مادة (قذع) ، 8/ 262. (68) السيرة، 1/ 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الكلام «69» ، فمن ذلك ما أورده ابن هشام من أبيات قالها حسان بن ثابت في هجاء أحد المشركين لقيامه باعتراض الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وإصابته له في جبهته في معركة أحد، حذف ابن هشام بعض هذه الأبيات معللا ذلك بالقول: " تركنا منها بيتين أقذع فيهما" «70» ، كذلك قام بحذف بعض أبيات قالتها هند بنت اثاثة ترد فيها على موقف هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من قيامها بتأليب المشركين على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمسلمين معللا هذا الأمر بالقول: " تركنا منها ثلاثة أبيات أقذعت فيها" «71» . بين أحد الباحثين المساوئ التي ترتبت على قيام ابن هشام بحذف بعض الأشعار بالقول: " إذا وضعنا في الاعتبار ما حذف من أشعار كان فيها تعريض بالنبي وصحابته دون أن يكون هنالك ما يشير إليها سوى ما قاله في مقدمته، عند ذلك يمكن أن يمثل هذا الحذف في مجموعه نقصا له أهميته في تحديد الأصول الحقيقة في شعر السيرة، ولما كان ابن هشام يستهدف به التهذيب والتنقيح فان ذلك يعني تغاضيه عما استهدفه من توثيق وتحقيق، وواضح أن هذين الهدفين هنا متضادان لا يلتقيان" «72» . نرى مما عرضناه آنفا أن هذا الحذف لم يكن لأشعار مشكوك في صحة نسبتها إلى قائليها، إذ لم يعترض عليه أحد من نقدة الشعر القدامى بمغمز أو ملمز من حيث قطعية صدوره من أفواه قائليه سوى أنه قد حوى فحشا ورميا   (69) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 413، 2/ 19، 20، 32، 93، 177، 178، 225- 226، 567. (70) السيرة، 2/ 81. (71) المصدر نفسه، 2/ 92. (72) أحمد، شعر السيرة، ص 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بالمثالب والصفات النابية وهذا ما وضع رواة هذا الشعر ومدونيه في أمرين لا ثالث لهما، الأمر الأول تقبل هذا الوضع (حذف هذه الأشعار) على الرغم من غياب بعض الحقائق التأريخية والسمات التي كان يتصف بها الأشخاص المقذع فيهم إن صدقت دعوى قائليها، وهذا الأمر يشعرنا بوجود فجوة كبيرة في معرفة شخصيات تلك الحقبة التاريخية وطباعهم وتصرفاتهم التي انعكست بطبيعة الحال على سلوكهم اليومي، وهذا الأمر يعد عقبة تعيق عمل الباحثين من طلاب الحقيقة من الجمهور، إذا ما علمنا أن ابن كثير الدمشقي (ت 772 هـ) قد ذكر بعد إيراده للأشعار التي أوردها ابن هشام في غزوة أحد: " إن ابن إسحاق في يوم أحد قد روى أشعارا كثيرة تركنا كثيرا منها خشية الإطالة وخوف الملالة" «73» ، وهذا ما يبين أن ما خفي من تلك الأشعار كان أعظم مما وصل إلينا، أما الأمر الثاني فهو رواية وتدوين تلك الأشعار، وهذا ما يدخل قائليه وسامعيه في دوامة لا مخرج منها وذلك لأسباب عدة: 1. حرمة سماع السباب والفحش في حق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وقتل الذي يقوم بسبه، بإجماع المسلمين كافة على ذلك «74» ، وهذا الأمر ناشئ من أن ذلك يعد استخفافا بحق هذا الرسول العظيم. أشار السهيلي (ت 581 هـ) إلى هذا الأمر بمقالته التي مفادها: " ولكني لا أعرض لشيء من أشعار الكفرة التي نالوا فيها من رسول الله إلا بشعر من أسلم   (73) البداية والنهاية، 4/ 60. (74) ينظر، ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب، بيروت، 1982، ص 3- 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وتاب بحضرته ككعب وابن الزبعرى، وقد كره كثير من أهل العلم فعل ابن إسحاق لإدخال الشعر الذي نيل فيه من رسول الله، إذ قال أبو عبيد رواية نصف بيت من ذلك حرام وعلى القول بالإباحة، فان النفس تقذر تلك الأشعار وتبغضها وقائليها في النار، فالإعراض عنها خير من الخوض فيها وتتبع معانيها" «75» . 2. الانتقاد من قبل عدم المجوزين لها ونشرها بين الناس، إذ تشير المصادر التي ترجمت لابن إسحاق أنه قد تعرض لحملة عنيفة من قبل العلماء لروايته هذا الشعر وتدوينه ونشره بين الناس «76» ، ولأجل قيام ابن إسحاق بهذا الأمر عدّ ذلك نزاهة وأمانة علمية منقطعة النظير في نقل وقائع الأحداث ومجرياتها من دون مراعاة للمشاعر والعواطف «77» . 3. زعزعة أفكار وآراء المسلمين ببعض الشخصيات المقذع بها لما تضمنت هذه الأشعار من ألفاظ نابية ووصف لما صدر منهم من أفعال معيبة في نظر الاخرين دفعت الشعراء إلى تعييرهم بها، وهذا ما بينه أحد الباحثين بالقول: " ان لهذا النوع من الحذف ولا شك أسبابا سياسية وأخرى تتصل بالصورة التأريخية لعصر ابن هشام عن النبي وصحابته" «78» ، وأضاف آخر على هذا القول آنف الذكر: " ومما لا شك فيه أن الرواة قد أهملوه وانصرفوا عن روايته ولا يرضون   (75) الروض الأنف، 2/ 57. (76) ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 105، الجمحي، طبقات الشعراء، ص 8، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 220- 222. (77) هوروفتس، المغازي الأولى مؤلفوها، ص 93. (78) زكار، مقدمة تحقيق السير والمغازي لابن إسحاق، ص 15- 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 لأنسفهم أن يحملوا تلك الأقوال القادحة في دينهم القاذفة في أعراض نبيهم وصحابته، إذ يرون في حملها وزرا وفي روايتها نكرا" «79» . هذه هي الأسباب التي وقفت حائلا دون تكرار تجربة ابن إسحاق في رواية الشعر المقذع الذي ظل حبيس القلوب لا الورق مما استحسن الرواة والمهتمون بأخبار السيرة وشعرها الأمر الأول الذي ذكرناه آنفا لما فيه من استراحة لنفوسهم وإرضاء لجمهور المسلمين. رابعا: حذف الأشعار للاختصار، لم يكتف ابن هشام بما حذفه من شعر السيرة لعدم صحة نسبته لقائليه أو لرداءة وزنه الشعري، أو للقذع الذي اعتراه، بل راح يحذف بعض ما تبقى من هذا الشعر اختصارا لما يريد كتابته من أحداث مرت بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وصحابته في أثناء الدعوة الإسلامية، إذ أوضح أحد الباحثين هذا الأمر بالقول: " وجد ابن هشام بين يديه كمية ضخمة من الأشعار التي ضمنها ابن إسحاق في سيرته وكانت هذه الأشعار هي شاغله الأكبر حين عزم على تنقيح السيرة واختصارها ومن ثم كان حذفه لكثير منها بين منحول أو رديء أو مقذع، ولكن يبدو أنه لم يجد ذلك كافيا لإخراج السيرة على الصورة التي يريدها وأن الأشعار ما زالت بالكثرة التي تزيد على المطلوب أو ربما وجد كثرتها تكاد تطغى على أحداث السيرة وأخبارها التي تمثل جوهرها الحقيقي وعمادها الرئيسي، فرأى أن يختصر جانبا آخر من هذه   (79) أحمد، شعر السيرة، ص 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الأشعار ليخفف من طيغان كثرتها على جوهر السيرة وليكون المقام الأول فيها هو لما تزخر به من أحداث ومواقف" «80» . أشار ابن هشام في تهذيبه للسيرة إلى المواضع التي اختصر فيها عبارات مختلفة، إذ نلاحظه قد حدد سبب اختصاره لإحدى القصائد بأنه لم يرد فيها ذكر للحادثة التي قيلت فيها سوى بيتين منها «81» ، وفي أماكن أخرى يستطرد في الحديث بأنه قد حذفها خوفا من التطويل «82» ، وفي أماكن أخرى لم يشر ابن هشام إلى الأسباب التي دفعته إلى حذف بعض القصائد والأبيات الشعرية «83» . لم يقف الأمر عند هذا الحد بل استنتج أحد الباحثين ان ترك ابن هشام لقصيدة أو أبيات من الشعر في موضع من مواضع الاستشهاد الشعري ليس معنى ذلك أن هذه الأماكن هي التي حذفت منها الأشعار فقط، بل من المحتمل أنه قد ترك قصائد وأبياتا في مواضع أخرى من دون أن يشير إليها مكتفيا بالسبب الذي ذكره في مقدمته «84» ، ولا يستبعد هذا الباحث أن لابن إسحاق يدا هو الاخر في ترك بعض الأبيات والقصائد التي يستشعر أنها ناقصة ومبتورة «85» .   (80) أحمد، المصدر نفسه، ص 226- 227. (81) ينظر، السيرة، 2/ 38. (82) ينظر، السيرة، 1/ 14، 47، 58، 65، 68، 71، 72، 73، 92، 100، 151، 186، 2/ 79، 374، 428. (83) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 226، 425، 571، 573، 2/ 263. (84) احمد، شعر السيرة، ص 227. (85) ينظر، أحمد، شعر السيرة، ص 229- 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ومن كل ما ذكرنا نرى أن هنالك غايات متعددة دفعت ابن هشام الى حذف بعض الأشعار التي وردت في السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ب. التنبيه على الأشعار المشكوك فيها: بعد أن حذف ابن هشام جما غفيرا من الأبيات والقصائد الشعرية لغايات متعددة، رأيناه قد وجه اهتمامه بعد ذلك إلى ما أثبته من قصائد وأبيات شعرية، إذ عرض تلك الأشعار على نقاد الشعر في عصره ليسترشد بارائهم «86» ، ولأجل ذلك طفحت إلى السطح مشكلة جديرة بالوقوف عندها وهي التعارض في أقوال هؤلاء النقاد الذين استقرأ رأيهم في تلك الأشعار فهم بين مصوب لها من جهة صدورها ومخطئ لتلك الجهة، ولهذا لم يجد ابن هشام مناصا من أن يردف آراءهم عن كل نص شعري حامت حوله الشكوك والشبهات، إذ وضع مقياسا لهذه الأشعار المشكوك في صحتها وذلك بأن بين مع كل نص شعري مقدار الشك الذي يحوم حوله، فعندما تكثر الشكوك حول نص معين يردف ذلك النص بعبارة: " وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها" «87» ، مع العلم أن تعليق ابن هشام في هذه الحالة لا ينسحب على النص نفسه أو يقدح في صحته وأصالته وإنما ينسحب على نسبته إلى قائله الذي نسبه إليه ابن إسحاق، فعبارته آنفة   (86) ينظر، أحمد، شعر السيرة، ص 229- 230. (87) ينظر، السيرة، 1/ 592، 595، 596، 2/ 8- 11، 42، 53، 155، 183، 563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الذكر تعني أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرون أن يكون هذا النص الشعري قد صدر من فم هذا القائل الذي ذكره ابن إسحاق، ولم يشتهر عند الرواة قائل آخر نسبت إليه تلك الأشعار، وهذا ما يفسر لنا عدم ذكر ابن هشام لاسم قائل آخر لهذا الشعر الذي شك فيه، سميت هذه الظاهرة من قبل أحد الباحثين بظاهرة الخلط والتداخل في أشعار السيرة «88» . أما إذا تقلصت تلك الشكوك حول بعض النصوص الشعرية بحيث لم تتعد ذلك الكم الهائل الذي تنطبق عليه عبارة ابن هشام آنفة الذكر، تغيرت عبارته إلى: " وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها" «89» ، وهذا ما يدل على أن هذه العبارة قد خصت بعض الأشعار التي لم تكن شكوك العلماء فيها بنفس حجم سابقتها، وبذلك فان ابن هشام قد حصر الشك أو الإنكار لهذه النصوص في قسم قليل من بعض العلماء، وإذا كان ذلك يعني ترجيح الحكم بالصحة عليها فان ذلك لا يعني القطع بها «90» . لم يردف ابن هشام الاراء التي ذكرها لبعض العلماء في هذه الأشعار برأيه الشخصي فيها في مواطن عدة، وفي مواطن أخرى تدخل برايه في مدى صحة نسبة قصيدة إلى غير قائلها الذي ينسبها إليه ابن إسحاق «91» ، وهذا ما دفع أحد الباحثين إلى التعليق على ذلك بالقول: " ورأينا في تعليقات ابن هشام وتعقيباته مدى دقته في التعبير عن الحقيقة والتزامه بالحيادية في مواقفه، والأمانة في عرض   (88) أحمد، شعر السيرة، ص 192- 202. (89) ينظر، السيرة، 1/ 649، 650، 2/ 23، 28، 39، 141، 165، 168، 176، 177، 178، 268. (90) أحمد، شعر السيرة، 237. (91) ينظر، السيرة، 1/ 14، 88، 89، 101، 129، 227، 232، 497، 643، 2/ 392، 409، 448، 544. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 معلوماته، والعدالة في تقرير أحكامه، ولأجل ذلك يتبين لنا منهجه في توثيق شعر السيرة، وجهده في حصر أوهام الشك التي أحاطت به" «92» . ان هذا الرأي آنف الذكر لم يجانب الحقيقة بكل تفاصيلها إذ أشار ابن هشام نفسه إلى أنه لم يكن موضوعيا ولا أمينا ولا نزيها في نقل بعض الحوادث بتفاصيلها، إذ أشار في مقدمته التي افتتح بها كتابه الى أنه قد حذف أشياء يسوء بعض الناس ذكرها «93» ، فهو بذلك قد راعى مشاعر بعض الناس وحذف تلك الأشياء التي يسوء بنظره ذكرها وتخدش عواطفهم، ولأجل ذلك انبرى أحد الباحثين إلى وضع قائمة ببعض الشعر الذي حذفه ابن هشام الذي راعى فيه العواطف والمشاعر «94» . ج. تلخيص وتمحيص وإضافة بعض الأشعار التي لم يروها ابن إسحاق في سيرته: نرى أن ابن هشام في تهذيبه هذا للسيرة لم يكن راويا لها بالمعنى الحرفي فقط بل أضاف عدة عبارات وألفاظ وأبيات شعرية على الأصل، إذ تبين بعض العبارات التي زخرت بها السيرة هذا الأمر ومن ذلك قوله: " أنشدني بعض أهل العلم بالشعر أو أنشدني غير واحد من أهل العلم بالشعر" «95» علل منحى ابن هشام هذا من قبل أحد الباحثين بما مفاده: " من خلال عرض ابن هشام للأشعار على أهل العلم وجد لديهم روايات مختلفة لبعض   (92) أحمد، شعر السيرة، ص 242. (93) ينظر، السيرة، 1/ 4. (94) ينظر، الحكيم، محمد بن إسحاق، مجلة آداب المستنصرية، عدد 14، ص 299- 312. (95) ينظر، السيرة، 1/ 115، 116، 2/ 468، 503، 514. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الأبيات والعبارات أو الألفاظ فحرص على تسجيلها تعقيبا على رواية ابن إسحاق، أو الأخذ بتلك الروايات وتعديل النص الشعري على أساسها مع الإشارة إلى مواضع التعديل التي أجراها" «96» ، ويضيف هذا الباحث عن الموارد التي استقى ابن هشام منها معلوماته للشعر الذي وثق به أحداث السيرة، إذ يقول: " وبنظرة شاملة لكل ما قام به ابن هشام من تمحيص للأشعار وتصحيح نسبتها واستقصاء للروايات المختلفة التي أخذها من أهل العلم بالشعر نلاحظ أنه كان يراجع في ذلك علماء البصرة ورواتها لأنه كان ينتمي إلى مدرستهم التي نشأ بها وتقلى العلم على أيدي أساتذتها ... " «97» . هذه هي الأمور التي حاولنا تبيينها لإيضاح الرؤية التطورية لكتابة السيرة النبوية عند ابن هشام في نقده للشعر الذي حوته السيرة التي كتبها ابن إسحاق للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ انصبت معظم جهود ابن هشام على هذا الأمر عند تهذيبه لهذه السيرة. 3. إضافة روايات جديدة لم يثبتها ابن إسحاق في سيرته مما يدل على بروز اتجاه تكاملي في كتابة السيرة، وهذا ما وضحته مقالته التي افتتح بها مقدمة كتابه هذا: " ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك بمبلغ الرواية له والعلم به" «98» .   (96) أحمد، شعر السيرة، ص 243. (97) المصدر نفسه، ص 253. (98) السيرة، 1/ 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أدت هذه الروايات التي أردف بها سيرة ابن إسحاق مهمة جديدة وذلك بكشفها حقائق وحوادث مهمة ساد بعضها الغموض لعدم تقصي ابن إسحاق لتفاصيلها «99» ، فضلا عن ذلك أن هذه الروايات لم تشمل تطعيم الروايات التي وردت في سيرة ابن إسحاق حسب بل تعدى ذلك إلى إحالة القارئ إلى مواضع هذه الإضافات التي ذكر قسما منها في مكان وأحال إلى تكملته في مكان آخر بعبارة: " وسأذكر حديثها إن شاء الله تعالى في موضعه" «100» . بينت لنا هذه الفقرة ان الحس التأريخي قد أخذ مساره عند ابن هشام وذلك بتكملة الحوادث التي أورد ها ابن إسحاق مقتضبة وذلك بإعطاء صورة واضحة لها، مما عدّ ذلك تطورا ملحوظا في كتابة السيرة النبوية. 4. إيضاح معاني الألفاظ الغريبة الواردة في متن السيرة، إذ لا نكاد نتصفح ورقة منها إلا ووجدنا فيها إيضاحا لبعض الألفاظ التي وردت فيها «101» . لم يقتصر هذا الإيضاح على تبيان ألفاظ من دون أخرى بل شمل كذلك حتى آيات القرآن الكريم «102» ، واقرب مثال على ذلك ما نراه عند تعرضه لاية لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ «103» ، إذ نراه يقوم بشرح   (99) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 6، 8، 42، 62- 63، 77، 79، 81، 193، 195- 199. (100) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 224، 649، 714، 2، 51، 57، 58، 89، 203. (101) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 27، 37، 45، 72، 96، 119. (102) ينظر، السيرة، 2/ 106- 108، 238، 246، 248، 303. (103) سورة قريش، آية 1- 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 هذه الاية والألفاظ المبهمة فيها مع التحليل اللغوي لمشتقات هذه الألفاظ ومعانيها «104» . شجع هذا العامل الذي اتسمت به سيرة ابن هشام أحد الباحثين على تخصيص دراسة مستقلة تناول فيها هذه الإيضاحات للألفاظ الغريبة الواردة فيها وإبداء رأيه في هذا الجهد الذي بذله ابن هشام وتقويم إسهاماته في هذا الأمر ومقارنته بسابقه ابن إسحاق إذ انتهى هذا الباحث إلى نتيجة مفادها: " إن ابن هشام أمتاز على سلفه ابن إسحاق في هذا الباب المهم في أبواب علم التفسير التفسير باللغة ذلك أن ابن إسحاق وإن كان يفسر الاي تفسيرا مبنيا في الغالب على معانيها التي تدل عليها ظواهرها ومن دون أن يتناولها بخلاف متبادل منها معتمدا جانب الإيجاز، إلا أنه مع هذا المنهج لم يكن يعنى بالاستشهاد اللغوي الذي صار فيما بعد عمدة التفسير اللغوي، على حين عني به خلفه ابن هشام عناية كبيرة وبخاصة الشعر العربي القديم الذي أولاه اهتماما فائقا وكرس له جهدا كبيرا، فكثيرا ما يعقب ابن هشام على ما يورده ابن إسحاق في أسباب نزول الايات وتفسيرها وبيان معاني غريبها والاحتجاج لها بالشعر القديم قصيدة ورجزة ... وهذا التفسير يجري غالبا مجرى الاستكمال لما يورده ابن إسحاق من تفسير، لبيان الحجة في تفسير الغريب بالشواهد الشعرية" «105» .   (104) ينظر، السيرة، 1/ 57- 58. (105) الزيدي، الدراسات القرآنية في سيرة ابن هشام، آداب الرافدين، عدد 13، ص 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 كان لاهتمام ابن هشام باللغة والنحو وتضلعه منهما حتى عد من الأئمة المبرزين في هذين العلمين «106» ، أثر فعال في بلوغ التهذيب هذا المبلغ من الإيضاح والتعبير للألفاظ الغريبة والمستعصية والتي حفزت العلماء الذين أتوا بعد ابن هشام بالاحتذاء بحذوه بإكمال شرح الألفاظ التي برأيهم قد تركها أو التي لم يوضحها بشكل مفهوم، وذلك بإفراد مصنفات مستقلة تناولوا فيها شرح هذه الألفاظ التي أوردها ابن هشام في سيرته «107» . 5. استقصاء وتتبع أسماء الذين استخلفهم رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم على المدينة المنورة في أثناء سيره للمعارك التي قام بقيادتها بنفسه أو عند سفره لبعض الشؤون الأخرى «108» ، وهذا الأمر يبرز لنا فكرا إداريا متطورا شرعه الرسول وجعله سنة لمن يأتي بعده بعدم ترك أمور الناس من قبل الذي يتولاهم دون وصاية أو نائب ينوب عنهم عند غيابه مهما كان وقت ذلك الغياب قصيرا. 6. تصحيح ابن هشام للهفوات والأخطاء التي وقع بها ابن إسحاق في أثناء عرضه لبعض الحوادث التأريخية أو أسماء الأشخاص «109» ، مما شكل ذلك ظاهرة لافتة للنظر تمثلت ببروز مبكر للمنحى النقدي في الروايات التي وردت في السيرة النبوية.   (106) ينظر، القفطي، إنباه الرواة، 211، 2، السيوطي، بغية الوعاة، 2/ 115. (107) ينظر، برو كلمان، كارل، تأريخ الأدب العربي، ترجمة: عبد الحليم النجار، دار المعارف القاهرة، 1968، 3/ 3- 15. (108) ينظر، السيرة، 1/ 591، 598، 601، 612، 2/ 43، 46، 102، 190، 202، 209، 213، 202، 220، 234، 271، 284، 289، 308، 328، 370، 399، 519، 601. (109) ينظر، السيرة، 1/ 19، 78، 89، 95، 282، 299، 323، 2/ 55، 64، 88، 209، 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 7. التعريف بالأعلام الذين ترد أسماؤهم في الروايات وأسماء قبائلهم وأنسابهم «110» ، ولم يقتصر هذا التعريف على الأعلام فقط بل تعداه إلى التعريف بأسماء الأماكن والبقاع التي ترد في سياق العرض بأخبار السيرة وذلك بتوضيح أبعادها ومواقعها وبعدها وقربها عن المدينة ومكة «111» . أعطى هذا التعريف من قبل ابن هشام مادة وفيرة لأصحاب التراجم والأنساب الذين اهتموا بتقصي أحوال الرجال وأنسابهم، هذا بالنسبة إلى التعريف بالأعلام، أما التعريف بأسماء الأماكن والبقاع فقد كان تجربة مبكرة في هذا الجانب حفزت العلماء المسلمين على تكرارها وتخصيص مصنفات مستقلة لها، إذ شكلت هذه التجربة إحدى البواكير الاولى للكتابة الجغرافية عندهم. هذه هي الجوانب التطورية التي أضفاها ابن هشام على كتابة السيرة النبوية والتي أسهمت إسهاما مباشرا في شهرة تهذيبه هذا الذي عدّ أحد المختصرات الأربعة التي فضلت على أصولها «112» ، مع العلم أن هذه الشهرة قد حصلت في. القرون التي تلت القرن الخامس الهجري، وهذا ما أوضحه القفطي حين أشار إلى ذلك الأمر بالقول: " وللمصريين بها [يقصد سيرة ابن هشام] فرط غرام وكثرة رواية وعن المصريين نقلت إلى سائر الافاق «113» ، إذ وجدنا المصنفات التي كتبت قبل القرن الخامس الهجري لم يرد فيها أي اقتباس عن سيرة ابن هشام، مما دفع أحد الباحثين إلى تبيان المسار الذي سلكته هذه السيرة بتقصي   (110) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 62، 77- 78، 81، 82، 83، 97، 109، 112- 114، 178. (111) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 148، 185، 436، 491- 492، 613، 2/ 204، 400، 517، 633. (112) ينظر، السيوطي، المزهر، 1/ 87. (113) إنباه الرواة، 2/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الرواة الذين حصلوا على إجازة روايتها والانتهاء بنتيجة من هذا التقصي تمثلت بقوله: " أما النقول التي وصلت إلينا منها فهي في أغلبها من مصنفات المتأخرين والمغاربة الذين فاحت فهارس إجازاتهم العلمية في الحديث ورواية مصنفات بالطرق والوسائط التي يصل بها هؤلاء إلى ابن هشام لأجل الحصول على رواية السيرة التي هذبها" «114» . أسهمت هذه السيرة التي اختز لها ابن هشام في تحفيز همم بعض العلماء بالشروع في شرحها والتعليق على الروايات التي وردت فيها، واختصار مباحثها، أجملت إحدى الدراسات هذه الشروح والتعاليق والاختصارات في إحصائية بينت الكم من المصنفات الذي اختصت به سيرة ابن هشام، وهذه الإحصائية هي «115» : أ. الشروحات: 1. الروض الأنف الباسم في الذب عن سيرة أبي القاسم لعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت 581 هـ) . 2. الإملاء المختصر في شرح غريب السير لأبي ذر مصعب بن مسعود الخشني (ت 604 هـ) . 3. الوصول إلى السؤول في نظم سيرة الرسول للفتح بن موسى المغربي (ت 663 هـ) . 4. الميرة في حل مشكل السيرة ليوسف بن عبد الهادي (ت 909 هـ) .   (114) الطرابيشي، رواة محمد بن إسحاق، ص 198. (115) ينظر، برو كلمان، تأريخ الادب العربي، 3/ 3- 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ب. المختصرات: 1. مختصر السيرة لعماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي (ت 711 هـ) . 2. خلاصة السيرة النبوية ليحيى بن حمزة بن علي (ت 747 هـ) . 3. مختصر السيرة لمحمد بن أبي بكر بن جماعة (ت 819 هـ) . أشار أحد الباحثين إلى أن المستشرق لويس برونله قد أولى هذه الشروحات والمختصرات اهتماما ملحوظا إذ تصدى للتعليق عليها ودراسة منهجيتها وإسهاماتها في تطور كتابة السيرة من جهة والقيام بنشر بعض هذه الشروحات من جهة أخرى «116» . تضمنت المدة قيد الدراسة وجود اثنين من شروحات السيرة، كان لها أثر فعال في كتابة السيرة بعامة، وهذان الشرحان هما: أولا: الروض الأنف لعبد الرحمن السهيلي (ت 581 هـ) *: أوضح السهيلي الغاية التي من أجلها كتب شرحه لسيرة ابن هشام وذلك بمقدمته التي افتتح بها كتابه، والتي مفادها: " وبعد فاني قد انتجبت في هذا الإملاء بعد استخارة ذي الطول والاستعانة بمن له القدرة والحول إلى إيضاح ما وقع في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سبق إلى تأليفها أبو بكر محمد   (116) ينظر، سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 477. (*) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي الأندلسي مؤرخ حافظ ومحدث نحوي ولغوي مقرئ، تنقل بين بلاد الأندلس والمغرب وكانت له علاقات طيبة مع المرابطين وأهدى كتابه هذا لأحد أمرائهم، وله مصنفات عديدة في فنون مختلفة، ينظر، القفطي، إنباه الرواة، 2/ 162- 164، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 137- 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ابن إسحاق المطلبي ولخصها عبد الملك بن هشام بن المعافري المصري النسابة النحوي مما بلغني علمه ويسر لي فهمه من لفظ غريب أو إعراب غامض أو أعلام مستغلق أو نسب عويص، أو موضع فهم ينبغي التنبيه عليه أو خير ناقص يوجد السبيل إلى تتمته مع الاعتراف بكلول الحد عن مبلغ ذلك الجد" «117» . نستطيع من مقدمته هذه أن نبين المنحى الذي نحاه السهيلي في شرحه السيرة التي لخصها ابن هشام ومدى دور هذا الشرح وأثره فيها، إذ نرى هذا المنحى قد تركز في عدة أمور هي: 1. انتخاب مضامين متعددة من فقرات السيرة ومباحثها للشرح والتعليق وعدم التعليق والشرح عليها برمتها، إذ وضح تعليقاته مصدرة بعبارة: " قال المؤلف، وقال الشيخ المؤلف"، مع إهمال الشرح الذي كتبه ابن هشام للسيرة إلا إذا كانت هنالك ثمة إضافة منه عليه «118» . 2. الشمولية والتوسعة في عرض الرواية، إذ لم يقتصر على شرح ألفاظها فقط بل كان يلم بكل تفاصيلها من حيث ورود آية قرآنية فيها فيقوم بتفسيرها، أو مسألة فقهية ترد ضمنا فيها يقوم بإيضاحها مع تبيان لما يرد في السيرة من أحاديث نبوية يقوم بايضاح مدى صحتها وقوتها وضعفها، مع تعريف بأنساب واحساب الرجال الذين ترد أسماؤهم في الروايات التي   (117) الروض الأنف، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط 1، 1967، 1/ 33. (118) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 45، 75، 3/ 256، 5/ 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يشرحها، وهذا ما أجملته مقالته التي مفادها: " وتحصل في هذا الكتاب من فوائد العلوم والاداب وأسماء الرجال والأنساب ومن الفقه الباطني اللباب، وتعليل النحو وصفة الأعراب ما هو مستخرج من نيف على مائة وعشرين ديوانا ... وقد عنت لي منه فنون، فجاء الكتاب من أصغر الدواوبن حجما ... " «119» . 3. إعطاء الجانب اللغوي في أثناء شرح السيرة أولوية منقطعة النظير، وذلك راجع إلى أن السهيلي كان من المشهود لهم بطول الباع في العربية وغريب الألفاظ والنحو «120» . دفع هذا الاهتمام السهيلي إلى إعطاء القصائد والأبيات الشعرية الواردة في السيرة مكانة بارزة عند شرحه لها والتعليق عليها «121» ، ولكنه استثنى من ذلك أشعار الكفار فلم يتطرق إلى شرحها معللا ذلك بكراهة أهل العلم لهذا الشعر فضلا عن أن النفس تقذر تلك الأشعار وتبغضها مع قائليها «122» . وهذا الأمر راجع إلى ورعه وتحرجه الديني الذي لا يريد بشرحه لهذه الأبيات المساس بمقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الرفيع. 4. الترجيح بين الروايات وإبداء رأيه فيها «123» ، وهذا ما يدل على نبوغ شخصيته العلمية المستقلة وعدم التقليد الأعمى بالشرح لما ورد في المتن من ألفاظ سواء أكانت صحيحة أم سقيمة، وكان هذا الترجيح في معاني الألفاظ   (119) المصدر نفسه، 1/ 35- 36. (120) ينظر، القفطي إنباه الرواة، 2/ 162- 164، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 137- 139. (121) ينظر، الروض الأنف، 1/ 84، 186، 253، 254، 359. (122) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 57. (123) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 109، 126، 366، 5/ 119، 142، 6/ 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 حصرا، وقد بدا لنا أن آراء السهيلي هذه ما هي إلا وجهات نظر خاصة به في هذه الألفاظ، وهذا يؤكد استقلالية هذا الكتاب وعدم التزامه بما ورد في سيرة ابن هشام. أسهمت هذه الأمور بأجمعها في حصول هذا الشرح للسيرة التي لخصها ابن هشام مكانة طيبة في نفوس العلماء الذين اطلعوا عليه، فحاول قسم منهم إبداء رأيهم فيه والتعليق على ما ورد فيه من آراء، وأهتم قسم آخر منهم باختصار الأشياء المهمة التي حواها هذا الشرح وجعلها في مصنف مستقل، وهذا ما أوضحته لنا إحصائية حاجي خليفة لهذه الإسهامات التي تمثلت بمصنفات خص بها العلماء كتاب السهيلي الروض الأنف، وهذه الإحصائية هي «124» . 1. الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم، وهي حاشية كتبها مغلطاي بن قليبج (ت 762 هـ) على ما ورد في الروض. 2. نور الروض، وهو مختصر للروض الأنف كتبه محمد بن أبي بكر المعروف بابن جماعة (ت 819 هـ) . 3. حاشية القاضي عين المناوي (ت 871 هـ) علق فيها أيضا على بعض ما ورد في شرح السهيلي هذا، وقام سبطه زين العابدين بن عبد الرؤوف المناوي بتجريد هذه الحاشية. وأهتم آخرون بالحصول على إجازة بروايته والاجتهاد في طلبها، إذ تبين كتب الفهارس التي كتبها بعض العلماء للمصنفات التي حصلوا على إجازة   (124) ينظر، كشف الظنون، 1/ 917- 918. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بروايتها حقيقة هذا الأمر «125» ، فضلا عن ذلك فان هذا الكتاب قد وجد له متنفسا في بعض المصنفات التي تلته إذ اقتبس مؤلفوها نصوصا منه وكان أحد المصادر التي أعتمد عليها في كتابة هذه المصنفات «126» . ثانيا: الإملاء المختصر في شرح غريب السير لأبي ذر مصعب بن محمد الخشني (ت 604 هـ) «127» : كان لاهتمامه البارز باللغة وعلومها أثر فعال في قيامه بشرح بعض الألفاظ الغريبة الواردة في السيرة، مما جعل كتابه هذا أثرا خالصا في اللغة ومظانها، إذ نلمس ذلك جليا في المقدمة التي افتتح بها كتابه هذا والتي يقول فيها: " قصدت في شرح ما استفهم من غريب معانيه وإيضاح ما التبس تعقيده على حامله وروايه مع اختصار لا يخل وإيجاز يتم به البيان ويستقل" «128» ، ولأجل ذلك كان كتابه هذا تلخيصا لبعض الروايات وشرحها، مع عدم التوسع في إيراد كل مضامين السيرة، وهذا ما وضحته مقالته التي مفادها: " لم يقصد فيه إشارة إلى كتابه الإملاء قصد التأليف فتمتد فصوله وأبوابه وإنما هي عجالة خاطر وغنية   (125) ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 232، الوادي آشي، برنامج الوادي آشي، ص 221. (126) ينظر، الكلاعي، الإكتفا في مغازي الرسول، 1/ 7، ابن كثير، الفصول في اختصار سيرة الرسول، مطبعة العلوم، القاهرة، ط 1358، 1 هـ، ص 37. (127) مصنف هذا الكتاب هو مصعب بن محمد بن مسعود بن عبد الله الجيالي المالكي أديب ونحوي ومؤرخ وشاعر نحرير وفقيه فاضل، عاش في بلاد الأندلس وتضلع بعلوم العربية واللغة وتوابعها، ينظر، ابن الابار، محمد بن عبد الله، (ت 658 هـ) ، التكملة لكتاب الصلة، تحقيق عزت العطار، مطبعة السعادة، مصر، 1955، 2/ 700، السيوطي، بغية الوعاة، 2/ 286- 288. (128) الإملاء المختصر، تحقيق لويس برونله، مطبعة هندية، القاهرة، 1329 هـ، ص 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ناظر ثم عرض عليّ هذا الإملاء بعد كماله فتصفحته، ورغب في حمله عني فبعد لأي ما أذنت لذلك وأبحته" «129» . بين لنا الكلام آنف الذكر تردد الخشني في البداية بالاعتداد بكتابه هذا على أنه كتاب يستحق أن يروى عنه ويتناقله الناس، وذلك لما نهجه فيه من اختصار وترجيح للروايات التي يختارها والتي تكون بنظره الأصوب والأدق فتستحق عند ذلك بنظره الشرح لألفاظها «130» . تمثل ذلك النهج الذي سار عليه الخشني في كتابته لمصنفه هذا مع الإشارة ضمنا إلى أنه لم يردد ما قاله ابن هشام بل كان يعلق على قسم من آرائه ويرد عليها «131» ، فضلا عن ذلك فان هذا الكتاب لم يتطرق إلى ذكر الأخبار والحكايات إلا نادرا وفي أماكن محدودة منه «132» ، وما ذلك إلا لكون هذا الكتاب قد خصص لشرح ألفاظ الأبيات والقصائد حصرا والتي كانت متنا مستقلا بذاته «133» ، بعكس ما انتهجه السهيلي في شرحه للسيرة، من إيراد بعض الروايات والتعليق على أنساب الرجال وأحسابهم فضلا عن تبيان صحة الأحاديث وضعفها حتى حوى كتابه معارف عدة أوضحته مقدمته التي افتتح بها كتابه (الروض الأنف) «134» .   (129) المصدر نفسه، ص 2. (130) ينظر، المصدر نفسه، ص 7، 148، 218، 304، 343. (131) ينظر، المصدر نفسه، ص 106، 148، 159. (132) ينظر، المصدر نفسه، ص 62، 197- 198، 258، 307. (133) ينظر، المصدر نفسه، ص 57، 83، 140، 148، 200. (134) ينظر، الروض، 1/ 35- 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وفي النتيجة فلو أجرينا موازنة بين هذين الشرحين آنفي الذكر للسيرة التي كتبها ابن هشام، لوجدنا أن شخصية السهيلي في كتابه الروض الأنف من حيث شرحه للألفاظ الواردة في السيرة أبرز من شخصية الخشني الذي قلص شرحه إلى أقل حد ممكن من الروايات التي وردت في سيرة ابن هشام، وهذا ما جعل الشرح الذي قام به السهيلي للسيرة، أكثر شمولية وتفصيلا من الشرح الذي كتبه الخشني لها. 3. دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) : مصنف هذا الكتاب هو أحمد بن الحسين بن علي بن موسى بن عبد الله، ولد سنة 384 هـ في بيهق إحدى قصبات نيسابور، درس الحديث والفقه على مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) وبرع فيه حتى صار من كبار الأئمة فيهما، ولأجل ذلك وصف بأنه لو شاء أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه لكان قادرا على ذلك لسعة علومه ومعرفته بالاختلاف، وترك لأجل ذلك مصنفات كبيرة أصبحت في ما بعد أصولا يعتمد عليها معظم المسلمين «135» . كانت هنالك دوافع عدة جعلتنا ندخل هذا الكتاب ضمن كتب السيرة الشاملة مع العلم أن الناظر للعنوان أول وهلة يلاحظ أن الكتاب مخصص للحديث عن الدلائل التي ظهرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ولكن بعد تصفحه تبين أنه كتاب في السيرة قرن فيه مؤلفه الدلائل التي ظهرت من الرسول بأحواله، إذ   (135) ينظر، ابن عساكر، علي بن الحسن، (ت 571 هـ) ، تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام أبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مطبعة التوفيق، دمشق، 1347 هـ، ص 265- 268، ابن الأثير، الكامل في التأريخ، 8/ 104، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/ 57- 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أشار إلى ذلك بمقدمته التي يقول فيها: " واستعنت به في إتمام ما قصدته [تصنيف كتاب في دلائل النبوة] مع ما نقل إلينا في شرف أصله وطهارة مولده وبيان أسمائه وصفاته وقدري حياته ووقت وفاته وغير ذلك مما يتعلق بمعرفته صلى الله عليه وسلم ... والاعتماد على جملة ما تقدمه من الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ" «136» ، ولأجل ذلك كانت هذه الكلمات معبرة عن فحوى الكتاب ومضامينه التي جعلتنا نضعه ضمن مصنفات السيرة الشاملة. شكل هذا الكتاب نقلة نوعية في كتابة السيرة وذلك للإسهامات التي أضفاها والتي تضمنت محاور وأساليب مثلت حلقة مهمة من حلقات التطور في كتابة السيرة النبوية، وهذه الإسهامات هي: 1. كتب البيهقي كتابه هذا على وفق منظور فلسفي وكلامي، وبعبارة أدق كتب سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ميرزا فيها الجانب الإعجازي الذي تضمنها، إذ جعل من سيرة الرسول بمجملها معجزة من المعاجز التي لا تصدر عن أي كائن حي إلا كان نبيا مرسلا من الله سبحانه وتعالى، ولأجل ذلك نراه قد برز قبل استعراضه لهذه السيرة الخوارق والنبوءات السابقة للأنبياء والأصفياء والصالحين ومعاجزهم ومقارنتها بمعاجز الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «137» . كان لهذا المنحى الذي سلكه البيهقي صدى في العديد من المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ أشار ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) إلى هذا الأمر بقوله: " وأن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي   (136) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1986، 1، 1/ 69. (137) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 75- 391، 2/ 3- 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 تصديقه ضرورة، وتشهد بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفي" «138» ، ووافقه ابن كثير في هذا المنحى إذ قال" وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته، أي من دلائل نبوته، ... يظهر بتدبر سيرته من حين ولد إلى أن مات" «139» . بينت هذه النصوص آنفة الذكر مصداقية المنحى الذي سلكه البيهقي في عدّه سيرة الرسول دليلا من دلائل نبوته مقدما إياها مع معاجزه وخوارقه. 2. استعمال النقد والتمحيص بين الروايات والأحاديث وإبداء الاراء فيها، وهذا ما أكده قوله: " وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، فلا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزا فيما اعتمد عليه أهل السنة من الاثار" «140» . استعمل في هذا النقد والتمحيص بين الروايات أساليب المحدثين في ذلك، وكان لانتهاجه هذا الأمر سبب تمثل بطلب أحد تلامذته منه معرفة ما أورده من روايات وأحاديث في هذا الكتاب من حيث صحتها والاحتجاج بموجبها، إذ يقول: " ويعلم أن كل حديث أوردته فيه قد أردفته بما يشير إلى صحته، أو   (138) الفصل في الملل والنحل، المطبعة الادبية، القاهرة، 1320 هـ، 2/ 90. (139) البداية والنهاية، 6/ 70. (140) دلائل النبوة، 1/ 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 تركته مبهما وهو مقبول في مثل ما أخرجته، وأوردته بإسناد فيه ضعف أشرت إلى ضعفه وجعلت الاعتماد على غيره" «141» ، ويضيف على ذلك بالقول: " واستعنت في إتمام ما قصدته من ذكر دلائل نبوة نبينا ومعرفة أحواله من الاكتفاء بالصحيح من السقيم والاجتزاء بالمعروف من الغريب، إلا فيما لا يتضح المراد من الصحيح أو المعروف دونه فأوردته والاعتماد على جملة ما تقدمه الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ" «142» . لم يكتف البيهقي بذلك بل اقترح على قراء كتابه أن يفهموا المعايير التي يبينها فيه في ما يخص الرواية والرواة، إذ يقول في صدر ذلك: " ومن وقف على تميز في كتبي بين صحيح الأخبار وسقيمها وساعده التوفيق على صدق فيما ذكرته، ومن لم ينعم النظر في ذلك، ولم يساعده التوفيق فلا يغنيه شرحي لذلك وإن أكثرت، ولا إيضاحي له وإن أبلغت" «143» . وهكذا فان البيهقي بإشاراته وإيضاحاته هذه للرواية والرواة قد أعطى مفاتيح لمن يريد تعرّف مقدار وثاقة وضعف المحدث والحديث والرواية والرواية، مما يبين انصهار مناهج المؤرخين في عرض الرواية التأريخية بمقاييس المحدثين ومعاييرهم، وهذا مما لا نجده بنفس الوضوح في مصادر أخرى عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مستعملة هذا المنحى في الكتابة. 3. إيراده روايات لم توردها المصادر التي تقدمت عليه ولم تكن معروفة قبله، أو تعرضه لحوادث تناولتها المصنفات التي سبقته بالاختصار والاقتضاب، فمن   (141) المصدر نفسه، 1/ 46. (142) المصدر نفسه، 1/ 69. (143) المصدر نفسه، 1/ 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ذلك ما ذكره عن حديث قس بن ساعدة الإيادي الذي تنبأ فيه بظهور نبي في أرض العرب أوشك زمانه على الحلول «144» ، ورؤية صورة النبي مع صور الأنبياء «145» ، وحديث أحد الكهان الذين تنبأ أيضا بظهور الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «146» ، وغير ذلك من الروايات التي زخر بها هذا الكتاب ولا سيما عند حديثه عن الحقبة الزمنية التي سبقت ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والبعثة النبوية «147» . أما بالنسبة الى الحوادث التي أوردتها المصنفات التي سبقته مختصرة، فقد أرخى البيهقي لنفسه العنان في تفصيل مجريات هذه الحوادث، فمن ذلك حادثة حفر عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لبئر زمزم «148» ، كذلك ذكره لحادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بتفاصيلها «149» ، وإسهابه في ذكر حادثة المباهلة مع نصارى نجران التي تضمنت ذكرا لتفاصيلها ابتداء من دخول هؤلاء النصارى المدينة وانتهاء بخروجهم منها. 4. فسح المجال للأحاديث والروايات الضعيفة والموضوعة والمكذوبة بأن تأخذ مجراها في الكتاب على الرغم من تأكيده التيقظ والروية في إثبات الأحاديث والروايات الصحيحة والمشهورة عند أهل المغازي والتواريخ «150» .   (144) ينظر، دلائل النبوة، 2/ 101- 113. (145) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 385- 391. (146) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 241- 253. (147) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 80- 82، 124، 139- 145، 348- 350، 2/ 71- 72، 116- 117، 118- 121، 260- 261، 316. (148) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 85- 87. (149) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 113. (150) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فمن هذه الروايات ذكره لحادثة شق الصدر بتفاصيل وطرق لم ترد عند سابقيه «151» ، إذ علق بعد إيراده لها: " وقد روى محمد بن زكريا الغلابي بإسناده عن ابن عباس عن حليمة السعدية هذه القصة بزيادات كثيرة وهي لي مسموعة، إلا أن محمد بن زكريا هذا متهم بالوضع فالاقتصار على ما هو معروف عند أهل المغازي أولى، ثم أني استخرت الله تعالى في إيرادها فوقعت الخيرة على ما تقدمه من نقل أهل المغازي لشهرته بين المذكورين" «152» ، فضلا عن هذا كله فقد تضمن أحد أجزاء هذا الكتاب من هذه الروايات الشيء الكثير «153» . لم ترد هذه الروايات التي وردت في كتاب البيهقي هذا في مصنفات سبقت هذا الكتاب، وما ذلك إلا لعدم قناعة المتقدمين عليه بالرواية والرواة فضلا عن أن هذه الروايات هي من نتاج عقليات القصاص الذين يميلون قلوب الناس إليهم وذلك بروايتهم لكل غريب ومستعظم ومهول في نفوس الادميين «154» ، مما دفع هذا التكالب في إيراد الروايات الخاصة في معاجز الرسول والخوارق التي بدرت منه إلى شن أحد المتربصين للإسلام والمسلمين من الذين ينظرون إلى الأمور بجزئية إلى نبذ هذه الروايات كلها، إذ يقول ابن العبري (ت 683 هـ) في معرض حديثه عن دلائل نبوة الرسول والمعجزات التي أحصتها الكتب له: " وقد نقل عنه المعجزات ... كانجذاب الشجر إليه وتسليم الحجر عليه ... ولم يبلغ رواة هذه الغرائب حد التواتر إنما نقلت على سبيل الاحاد وكان اعتماد   (151) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 131- 136. (152) دلائل النبوة، 1/ 139. (153) ينظر، المصدر نفسه، 6/ 7- 553. (154) ينظر، ابن الجوزي، القصاص والمذكرين، ص 10- 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 العلماء من الإسلاميين في إثبات نبوته على القرآن وادعوا فيه الإعجاز لأنه تحدى الفصحاء" «155» . ومن هذا كله نرى أن إيراد هذه الروايات قد كان نقطة ضعف تسجل على هذا الكتاب. 5. استعمال منهجية صارمة في إيراد الروايات التي تعد طريقة فريدة من نوعها في مثل هذه المصنفات، إذ تمثلت هذه المنهجية بتطبيق قواعد وأسس خص بها البيهقي كتابه هذا، ويمكن إجمال هذه القواعد والأسس التي اختطها البيهقي والتي شكلت نقلة نوعية في مناهج كتابة السيرة بعدة محاور هي: أولا: جمع أسانيد الروايات المتعددة في سند جمعي واحد، وذلك بأن يأتي بالطرق التي وردت الرواية بها فيذكرها كلها في سياق واحد، وتستعمل هذه الطريقة عندما تستوي مراتب الرواة وتتفق رواياتهم لفظا ومعنى ويجمع بينهم في سياق واحد «156» ، وسلك البيهقي في هذا الجمع للأسانيد مسالك عدة هي: أ. العطف بين الشيوخ، وذلك بأن يروي الحادثة الواحدة عن شيخين فأكثر من شيوخه عاطفا بينهم بالواو، ثم يذكر الإسناد والمتن لهذه الرواية «157» . ب. تعداد الأسانيد وذكر المتن عقب الإسناد الأول للحديث أو الرواية مع استعمال عبارة: (بمثله، بنحوه، فذكره بمعناه) «158» .   (155) غريغوريوس، مختصر تأريخ الدول، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ط 2، 1984، ص 163. (156) ينظر، الصالح، صبحي، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين، بيروت، ط 3، 1965، ص 280- 285. (157) ينظر، دلائل النبوة، 1/ 106، 126، 162، 163، 220، 235، 238، 268، 3/ 5- 8. (158) ينظر، دلائل النبوة، 1/ 77، 156، 167، 222، 230، 232، 245، 261، 6/ 137، 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ج. إفراد كل سند مع متنه بالرواية، وذلك بأن يروي الحديث أو الرواية بأسانيد متعددة ويتبع كل إسناد بلفظ المتن والذي روي به فيعيد المتن لزيادة ألفاظ أو دلالات أو اختلاف بين الرواة فيه «159» . د. اختصار الأسانيد، وذلك بأن يروي الحديث أو الرواية بسندها أو بمتنها ثم يذكر عقب ذلك باقي الأسانيد، ولكنه يكتفي من ذلك بذكر بعض العبارات التي تبين هذا المنحى مثل: (وبإسناده أو بمثل هذا الإسناد) «160» ، استعمل هذا النمط من أنماط جمع الأسانيد في الروايات التي تتسلسل الواحدة تلو الأخرى ويتشابه رواتها. كان هذا المنحى من قبل البيهقي بجمعه لأسانيد رواياته محاكيا لنهج من سبقه في ذلك وخصوصا محمد بن إسحاق الذي سار على هذا النهج في السيرة التي كتبها للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «161» ، ولكن محاكاته هذه لم تكن بالمعنى الحرفي بل كانت صيغة مغايرة لما انتهجه المصنفون الذين سبقوه، لأن اتجاهه هذا كان ثمرة من ثمار المسيرة الطويلة التي قطعها علم الحديث والإسناد والتي بلغت أكثر من ثلاثة قرون ونصف «162» . ثانيا: إيراد بعض الروايات عن الحوادث التأريخية مقرونة بالقرائن المؤكدة لها سواء أكانت تلك القرائن على هيأة آية قرآنية أم حديث نبوي شريف أم   (159) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 81- 84، 110، 123، 158، 164، 170- 171، 176، 207، 229، 362. (160) ينظر، المصدر نفسه 1/ 76، 169، 285، 6/ 27. (161) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 86، الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ، ص 28. (162) عن علم الحديث وتطوره ينظر، الأعظمي، محمد مصطفى، دراسات في الحديث النبوي، جامعة الرياض، السعودية، ط 1396، 1 هـ، ص 13- 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 موافقة لرواية راو آخر ذكرها بسند مختلف، وقد انتهج البيهقي في إثبات هذه القرائن مناحي عدة، وهذه المناحي هي: أ. بدء بعض أبواب الكتاب بإيراد آيات من القرآن تكون بيانا لما سيتناوله هذا الباب من مباحث، فقرن بذلك آيات القرآن بالحوادث التأريخية التي رافقت نزولها «163» . ب. تقديم الروايات التي لها أصل في الصحيحين (البخاري ومسلم) أو إحداهما على الروايات الأخرى التي ترد بطرق مختلفة، وذلك عند بداية عرضه لبعض حوادث السيرة «164» ، ولم يحد عن هذا المنحى إلا لسبب يقتضي ذلك كأن تكون الرواية أو الحديث المخرج أكثر انطباقا على الصيغة أو العنوان الذي عقده للباب أو الفصل الذي يروم الكتابة فيه من الرواية التي وردت في الصحيحين أو إحداهما «165» . ج. الإكثار من إيراد المتابعات* من الروايات «166» ، إذ كان قصده من إيراد تلك المتابعات هو تقوية تلك الروايات من حيث حقيقة وقوعها، وذلك لأن   (163) ينظر، دلائل النبوة، 1/ 151، 308، 333، 351، 373، 2/ 176، 184، 195، 225، 3/ 5، 28، 45، 74، 267، 310، 312، 6/ 201. (164) ينظر، المصدر نفسه 2/ 212، 215، 244، 262. (165) ينظر، دلائل النبوة، 1/ 145- 148، 152، 153، 2/ 185- 186. (*) المتابعة: هي مشاركة راو لراو آخر في رواية حديث عن شيخه أو عمن فوقه من المشايخ، ينظر، ابن الصلاح، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 38- 40. (166) ينظر، دلائل النبوة 2/ 199، 220، 224، 242، 266- 268، 330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الرواية أو الحديث إذا تعددت طرقه قوي وصار صالحا للاحتجاج به إن كان ضعيفا أما إذا كان صحيحا فإنه يزداد قوة إذ ورد من طريق آخر «167» . هذه هي المنهجة التي اتبعها البيهقي في إيراد الروايات الخاصة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ودلائل النبوة والتي تعد طريقة فريدة من نوعها لأنها مثلت تلاقحا بين مناهج المؤرخين والمحدثين في الكتابة التاريخية بعامة والسيرة النبوية بخاصة. 6. إيراد نصوص شعرية من قصائد وأراجيز لم توردها المصادر التي تقدمت عليه وقد بلغت هذه النصوص (115) نصا شعريا «168» ، ولكن هذه النصوص كانت ناقصة ومبتورة وذلك لتأثير صبغة المحدث التي اصطبغ بها منحاه من إيراد الأشعار، لأن المحدثين كانوا حذرين جدا في إيراد الشعر، أو عدّه من المنمقات للروايات، إذ لم يعتمدوه دليلا على صحة الخبر المروي «169» . عطف على الروايات التي أورد فيها نصا شعريا مبتورا بعبارة: (وذكر سائر الأبيات، أو إلى آخر القصيدة) «170» ، وهذا ما يبين أنه لم يكن مهتما بإيراد جميع أبيات القصائد التي يستشهد بها، ولكن هذا الأمر لم يكن منطبقا على كل   (167) السيوطي، تدريب الراوي، ص 388. (168) ينظر، دلائل النبوة 3/ 316، 328، 329، 330، 341، 370، 378، 439، 442، 4/ 217، 215، 218، 267، 268. (169) عن تحرج المحدثين والفقهاء في رواية الشعر ينظر الجبوري، يحيى، الإسلام والشعر، مطبعة النهضة بعداد 1964، ص 8- 173، أحمد، شعر السيرة، ص 35- 69. (170) ينظر، دلائل النبوة، 3/ 316، 328- 329، 330، 341، 370، 387، 439، 442، 4/ 215، 217، 218، 267، 267، 5/ 12، 48، 211، 314- 315، 410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 صحائف الكتاب بل وجدنا هنالك قصائد قد أوردها كاملة في مضانها «171» ، واللافت للنظر أن هذه القصائد التي أوردها كان لها النصيب الأوفر منها برواية ابن إسحاق لها والتي لم توردها المصادر التي اعتمدت على سيرته التي كتبها. هذه هي طبيعة الأشعار التي وردت في هذا الكتاب والتي حفظ لنا بموجبها قسما من شعر السيرة الضائع الذي أغفلته المصادر السابقة عليه، ولكن هذا الشعر لم يمحص وينقد كما فعل ابن هشام عند عرضه شعر السيرة «172» . حفزت هذه الإسهامات مجتمعة العلماء بإبداء وجهات نظر متعددة في هذا الكتاب وذلك بعد ما اطلعوا عليه واستعملوه في مصنفاتهم، إذ لم نجد مصنفا من المصنفات التي تلته والتي تعرضت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلا وكان هذا الكتاب أحد مصادره الرئيسة «173» ، أما وجهات النظر فقد كانت متفقة على كون هذا الكتاب من المصنفات المهمة لسيرة الرسول ودلائل النبوة، إذ يقول الذهبي في معرض حديثه عن هذا الكتاب: " فعليك يا أخي بكتاب دلائل النبوة   (171) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 27- 30، 130، 181، 2/ 102، 113، 124، 250- 254، 256- 258، 260- 261، 423. (172) ينظر، السيرة، 1/ 4. (173) ينظر، ابن عساكر، تهذيب تأريخ دمشق، مطبعة الترقي، دمشق، 1349 هـ، 1/ 10، 13، 17- 21، 32، الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى، تحقيق: علي اكبر غفاري، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، 1379 هـ، ص 16، 26، 48، 50، 57- 58، 78- 79، 130- 131، ابن شهر آشوب، محمد بن علي (ت 588 هـ) ، مناقب آل أبي طالب، المطبعة العلمية، قم، 1379 هـ، 1/ 6- 10، الأربلي، علي بن عيسى (ت 682 هـ) كشف الغمة في معرفة الأئمة، المطبعة الحيدرية، النجف، ط 1972، 2، 1/ 13، ابن كثير، البداية والنهاية، 6/ 75، 76، 100، 104، 111، 117، 132، 139، الذهبي، تأريخ الإسلام، 1/ 89، 155، 307- 310، السيوطي، الخصائص الكبرى، 1/ 3، 4، 6، 9، 24، 2/ 9، 12، 19، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 للبيهقي فانه شفاء لما في الصدور وهدى ونور" «174» ، ويبدي ابن كثير رأيه بهذا الكتاب فيقول: " وقد جمع الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله كتابا شافيا ... مقتديا بمن تقدمه في ذلك كما اقتدى به كثير ممن أتى بعده" «175» . ولأجل ذلك كانت لهذا الكتاب مكإنة طيبة في نفوس العلماء، إذ شرع بعض المتأخرين باختصاره واقتضابه، إذ ذكر حاجي خليفة أن أبا حفص عمر بن علي الأنصاري المعروف بابن الملقن (ت 804 هـ) قد اختصر هذا الكتاب «176» ، وأطلع برو كلمان على مختصر لكتاب (دلائل النبوة) مخطوطا في مكتبة الظاهرية في سوريا، ولكنه مجهول المؤلف يحمل أسم" بغية السائل عما حواه كتاب الدلائل عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته" مكتوبا سنة 755 هـ «177» . قبل أن نختم عرضنا للمناحي التطورية التي أسهم بها البيهقي في كتابته لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، يجب التنبيه إلى أن هذا الكتاب قد حوى قسما كبيرا من السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق ولا سيما في الباب الخاص بدلائل نبوته من مولده إلى وفاته «178» ، إذ اعتمد على رواية يونس بن بكير* لهذه السيرة التي   (174) سير أعلام النبلاء، تحقيق محيي الدين العمروي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1997، 15/ 39. (175) الفصول في اختصار سيرة الرسول، ص 101. (176) كشف الظنون، 1/ 760. (177) تاريخ الأدب العربي، 6/ 231. (178) ينظر، دلائل النبوة، 6/ 7- 553. (*) هو يونس بن بكير بن واصل الشيباني الكوفي الحافظ المؤرخ صاحب المغازي والسير والمكثر بالرواية عن ابن إسحاق وأحد الطرق المعتمدة عن العلماء في معرفة المغازي والسيرة لابن إسحاق حتى وصف لأجل ذلك بأنه أحد أوعية العلم بالمغازي والسير، ينظر، ابن سعد، الطبقات، 6/ 399، الذهبي، سير أعلام النبلاء، 9/ 245، تذكرة الحفاظ، 1/ 326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 تتضمن بحسب رأي بعض الباحثين روايات لم ترد عند باقي رواتها «179» ، ولأجل ذلك نستطيع وضع مصنف توفيقي بين ما كتبه ابن هشام والطبري من نقول عن سيرة ابن إسحاق وبين ما كتبه البيهقي من نقول من هذه السيرة للكم الهائل من الروايات التي حواها كل مصنف من مصنفات هؤلاء الأعلام. وفي الختام أود أن أشير إلى أن هذا الكتاب يحتاج إلى دراسة مفصلة لمنهجه وموارده وطريقة عرضه للروايات، وذلك لما تضمن من جهد كبير وواسع أردف السيرة النبوية بتراث جم كان على مدار العصور محل إعجاب واعتماد من قبل كل مصنف يبغي الكتابة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعامة، ودلائل نبوته بخاصة. 4. الوفا بأحوال المصطفى لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) : مصنف هذا الكتاب هو عبد الرحمن بن ابي الحسن علي بن محمد برع في الوعظ والإرشاد حتى فاق فيه الأقران، وترك مصنفات كثيرة في مختلف العلوم والفنون والمعارف، نشأ في بغداد وبزغ نجمه فيها إلى أن توفاه الله سنة 597 هـ «180» .   (179) ينظر، الطرابيشي، رواة محمد بن إسحاق، ص 54. (180) ينظر، ابن الأثير، الكامل في التأريخ، 12/ 171، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 2/ 321، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 1342، ابن كثير، البداية والنهاية، 13/ 28- 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 كان لاهتمامات ابن الجوزي في الوعظ والإرشاد أثر ملموس في تضمينه السيرة النبوية في معظم مصنفاته التي كتبها «181» ، فضلا عن أنه كان يكن تقديسا عظيما لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في نفسه، ونلمس ذلك من وصاياه التي يقول فيها: " من أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضا، فليتفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم" «182» ، فضلا عن وجود هذا الشعور في مقالته التي أفتتح بها أحد كتبه: " ولما سميت كتابي هذا صفة الصفوة رأيت أن أفتتحه بذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فانه صفوة الخلق وقدوة العالم" «183» . أشارت إحدى الباحثات إلى هذا الأمر بعدما استعرضت مصنفات ابن الجوزي وخرجت منها بالنتيجة الاتية: " ومن ثبت مؤلفات ابن الجوزي ومقارنتها ببعض نستطيع أن نتبين منهجه في التأليف وطريقته، بأنه كان كثيرا ما يكرر ما كتبه في كتب سابقة ومن باب معين ويألف منه تصنيفا جديدة وبعنوان جديد وبإضافة جديدة إن لم يحذف من مواد الكتاب السابق ولو ألقينا نظرة   (181) ينظر، المنتظم في أحوال الملوك والأمم، مخطوط مصور في مكتبة الإمام الحكيم العامة برقم (577) ، مجلد 1، ورقة 79- 156. مجلد 2، ورقة 1- 76، صفة الصفوة، تحقيق: محمود فاخوري، دار الوعي، حلب، 1389 هـ، 1/ 46- 233، تلقرح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، الهند، 1927، ص 4- 39، المدهش، 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، تحقيق: مصطفى السبكي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1، 1986/ 151- 325. (182) ابن الجوزي، صيه الخاطر، تحقيق محمد الغزالي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، لا، ت، ص 294. (183) صفة الصفوة، 1/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بسيطة على ثبت تاليفه في المواضع المختلفة لرأينا مدى التشابه الكبير في عناوين تلك الكتب وأسمائها في الموضوع المعين الواحد" «184» . خص ابن الجوزي من بين مصنفاته مصنفا مستقلا استعرض فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بشمولية وتفصيل أسماه (الوفا لأحوال المصطفى) بعدما وجد الحاجة ملحة في عصره إلى وجود هكذا مصنف، إذ بين هذا الأمر في مقدمة كتابه هذا التي أفتتحها بالقول: " وأني رأيت خلقا من أئمتنا لا يحيطون علما بحقيقة فضيلته فأحببت أن أجمع كتابا أشير فيه إلى مرتبته وأشرح حاله من بدايته إلى نهايته وأدرج في ذلك الأدلة على صحة رسالته، وتقدمه على جميع الأنبياء في رتبته، فإذا انتهى الأمر إلى مدفنه في تربته ذكرت فضل الصلاة عليه وعرض أعمال أمته وكيفية بعثته، وموقع شفاعته وأخبرت بقربه من الخالق يوم القيامة ومنزلته" «185» . نرى من هذا الاستعراض وجود حافزين ألحا على ابن الجوزي في كتابة مصنفه هذا، الحافز الأول، حافز أخلاقي تمثل بالتبرك بكتابة السيرة النبوية، أما الحافز الثاني فهو حافز علمي تمثل بتصنيف كتاب يعالج فيه أحوال المصطفى وسمو مرتبته وحقيقة فضيلته بعدما جهل بعض الناس هذا الأمر في عصره. ولأجل ذلك كانت المحاور التي حواها مصنف ابن الجوزي هذا من الإسهامات الجادة في تطور كتابة السيرة لأنه استعرض فيها أمورا عدة لم توجد   (184) إبراهيم، ناجية عبد الله، قراءة في مؤلفات ابن الجوزي، المكتبة العالمية، بغداد، ط 1، 1989، ص 14. (185) الوفا بأحوال المصطفى، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار اكتب الحديثة، القاهرة، ط 1، 1966، 1/ 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 في باقي المصنفات التي سبقته والتي تشابهت معه في المنحى والأسلوب في طرح مضامين السيرة ومتعلقاتها الجانبية، وهذه الأمور التي استعرضها هي: أولا: شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأخلاقه، إذ عرضها بشكل منفصل بهذه السيرة وذلك بتخصيص فصل مستقل لها «186» . ثانيا: دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومعجزاته، إذ ضمنها في أماكن متعددة من هذه السيرة «187» ، وهذا ما أشارت إليه مقالته في مقدمته التي افتتح بها كتابه والتي مفادها: " فأحببت أن أجمع كتابا اشير فيه إلى مرتبته وأشرح حاله من بدايته إلى نهايته ... " «188» . ثالثا: خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والميزات التي فضل الله تعالى بها نبيه على سائر الخلق أجمعين وما أوجبه الله تعالى على أمته في طاعته وتقديم محبته على النفس «189» . هذه هي الأمور التي أدخلها ابن الجوزي على كتابه هذا والتي تضمنت جمعا لجوانب شتى من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أفردها العلماء قبله بالتأليف في مصنفات عديدة منذ القرون الأولى حتى عصره «190» ، أما التجديد في عمل ابن الجوزي هذا فهو قيامه بجمع هذه الجوانب في إطار واحد وإدخالها في قالب تنظيمي دقيق جعلها متصلة الحلقات ومترابطة مع الحوادث التي عاصرتها، مع الإشارة ضمنا   (186) ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 415- 645. (187) ينظر، المصدر نفسه، ص 265، 352. (188) الوفا بأحوال المصطفى، ص 2. (189) ينظر، المصدر نفسه، ص 255- 383. (190) ينظر، 171- 230 من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إلى وجود عامل ساعد على جمع هذه الجوانب وذلك بكون ابن الجوزي قد وضع كتابه هذا على أساس الموضوع في عرضه لمضامين الكتاب، إذ كانت هذه المضامين غير خاضعة لمقياس القدم والتسلسل في عرض الحدث التأريخي، وهذا ما أشارت إليه مقدمة كتابه الذي عرض فيه أبوابه ومباحثه «191» . لم تقتصر هذه السيرة التي كتبها ابن الجوزي للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم على هذا المنحى فقط بل صاحبته مناح أخرى كانت بمجملها نقلة نوعية تسجل لهذه السيرة، مع إسهام في تطور كتابتها، وهذه المناحي هي: 1. حذف الأسانيد من الروايات سواء أكانت روايات شفوية أم اقتباسات من مصنفات مكتوبة حصل على إجازة لروايتها «192» . علل ابن الجوزي منحاه هذا بالقول: " ولا أطرق الأحاديث خوفا على السامع من ملالته" «193» . بين لنا هذا المنحى الذي أنتهجه ابن الجوزي في كتابه هذا الاسترسال في ذكر الروايات الغثة والسمينة منها، لأن إيراد هذه الروايات محذوفة السند يبين لنا العفوية وعدم التدبر في إثباتها، حتى شكل ذلك أمرا أظهر فيه أن الإسناد قد بلغ في عصر ابن الجوزي من الوهن مداه، إذ اكتفى المصنفون بالاعتماد على النقولات من الكتب التي سبقتهم وترك الروايات المسندة بطريق شفاهي. 2. اعتماده على المصنفات التي كتبها العلماء السابقون عليه والتي تعرضت للسيرة من قريب أو بعيد وإشارته إليها في مواضع كثيرة من كتابه «194» ، وهذا   (191) ينظر، الوفا، ص 2- 29. (192) ينظر، المصدر نفسه، ص 34، 39، 67، 74، 88، 91، 100، 110، 116. (193) المصدر نفسه، ص 1. (194) ينظر، المصدر نفسه، ص 38، 39، 72، 100، 104، 110، 142، 172، 191، 240، 281، 379، 382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ما يدل على وصول هذه المصنفات إليه واعتماده عليها، فهو بذلك قد حفظ لنا قسما من مضامينها، مما ساعد الباحثين على إجلاء بعض الغموض الذي يصاحب أسماء بعض الكتب التي ذكرها ابن الجوزي والتي أخذتها عوادي الدهر ولم يبق من هذه المصنفات سوى أسمائها ونقول متفرقة في بطون بعض الكتب. فضلا عن ذلك فقد أثبت ابن الجوزي بعض تعليقات شيوخه على قسم من الروايات التي أثبتها في كتابه هذا «195» . ولأجل ذلك كانت هاتان الطريقتان في إثبات النصوص سمة اتصف بها هذا الكتاب مع العلم انها لم تكن وليدة أو انها بل كانت هنالك مصنفات سبقته اتصفت بهذه السمة «196» ، ولكن الميزة التي اتصف بها مصنف ابن الجوزي هذا تمثلت بأن هذا المنحى قد تبلورت جميع اتجاهاته في هذا الكتاب، إذ لم نجد فيه نصا مسندا أو مناقشة لرواية أو ترجيح واحدة على أخرى بل كان مجرد لم شتات من الروايات المبعثرة هنا وهناك في بطون الكتب وإخراجها في مصنف مستقل. 3. إغفال الأشعار الواردة في حوادث السيرة، إذ كاد الكتاب يخلو تقريبا من الأبيات والقصائد الشعرية التي حفلت بها تلك الحوادث، إذ لم نجد في هذا   (195) ينظر، الوفا، ص 142، 268، 270، 320، 324، 350، 351، 358. (196) ينظر، اليعقوبي، أحمد بن واضح، (ت 292 هـ) ، التأريخ، مطبعة الغري، النجف، 1358 هـ، 2/ 4- 102، المسعودي، مروج الذهب، 2/ 272- 303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الكتاب إلا مواضع قليلة جدا استشهد بها ابن الجوزي في ما قيل في تلك الحوادث من شعر «197» . علل إغفال ابن الجوزي لهذه الأشعار برغبته في الاقتصار والاكتفاء بعرض جوانب الموضوع من دون إطالة لأن أشعار السيرة تأخذ حيزا كبيرا من الكتاب المراد تصنيفه فيها «198» . 4. التناسق والترتيب في عرض الحوادث، والمنهجية الدقيقة في تقسيم الكتاب إلى أبواب كبيرة ثم إلى أصغر منها، بحيث أن كل رواية تذهب إلى الباب الذي يوافق مضامينها «199» ، فهو بذلك قد وضع أسسا منهجية لمباحث السيرة لم تكن بهذه الصورة والتقسيم في العرض والإيراد عند من سبقه، حتى انتهج بعض المصنفين المتأخرين في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم خطته هذه في العرض «200» ، إذ أشار هذا المصنف إلى هذا الأمر بالقول: " فهذا كتاب ... ذكرت فيه قطرات من بحار فضائل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مبدأ خلقه قبل خلق سيدنا آدم ... وأعلام نبوته وشمائله وسيرته وأفعاله وأحواله وتقلباته إلى أن نقله الله تعالى إلى أعلى جنابه وما أعد له منها من الانعام والتعظيم ... وأثبت ما فيه من الأبواب، وهي بنحو ألف باب والله الهادي للصواب" «201» ، فضلا   (197) ينظر، الوفا، ص 82- 84، 128- 129، 136، 152- 157، 244، 245. (198) عبد الواحد، مصطفى، مقدمة تحقيق كتاب الوفا، صفحة (ق) . (199) ينظر، الوفا، ص 2- 29. (200) ينظر، الصالحي، سبل الهدى والرشاد، ص 7- 85. (201) سبل الهدى والرشاد، 1/ 1- 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عن اعتماد الصالحي نفسه كتاب ابن الجوزي هذا وجعله في قائمة مصادره التي افتتح بها كتابه (سبل الهدى والرشاد) «202» . 5. التناقض في عرض الروايات، إذ أشار في مقدمة هذا الكتاب الى أنه لا يخلط الصحيح بالكذب كما يفعل غيره من المصنفين لإكثار الروايات «203» ، ولكنه في كتابه هذا لم يلتزم بهذا العهد الذي قطعه على نفسه في كتابه هذا إذ نقل روايات موضوعة فيه أشار هو نفسه في أحد كتبه إلى وضعها «204» ، فمن هذه الروايات ما ذكره حول الطينة التي خلق الله منها نبيه «205» . تنبه العديد من العلماء الذين ترجموا لابن الجوزي في مصنفاتهم إلى هذه الظاهرة في كتبه، إذ علق الذهبي عليه بالقول: " وكان كثير الغلط فيما يصنفه، فانه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبر ... وله وهم كثير في تواليفه يدخل عليها الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر، وأن جل علمه من كتب ما مارس فيها أرباب العلم كما ينبغي" «206» ، وأضاف ابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ) بالقول: " مع هذا فللناس فيه رحمة الله عليه كلام لوجوه، منها كثرة أغلاطه في تصانيفه، وعذره في هذا واضح وهو انه كان مكثرا من التصانيف فيصنف الكتاب ولا يعتبره بل يشتغل بغيره" «207» .   (202) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 15. (203) ينظر، الوفا، ص 1. (204) ينظر المصدر نفسه، ص 34، 273، 402، 575- 577، 667، 807، الموضوعات، 1/ 302، 293، 292، 294، 281، 303. (205) ينظر، المصدر نفسه، ص 35، الموضوعات، 1/ 281. (206) تذكرة الحفاظ، 4/ 1347. (207) عبد الرحمن بن أحمد، ذيل طبقات الحنابلة، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، مصر، 1952، 1/ 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 بهذا المنحى الذي سلكه ابن الجوزي في كتابه هذا أصبح لكتابة السيرة أسلوب يتميز باضفاء بعض الروايات الموضوعة في هيكلها. 6. انطماس شخصية المؤلف في هذا الكتاب، وذلك لعدم وجود رأي مستقل له في الحوادث التي عرضها فيه، إذ لا توجد في هذا الكتاب سوى تعليقات بسيطة في أماكن قليلة منه لا تتعدى أصابع اليد الواحدة «208» . وهذا الأمر مرجعه إلى أن ابن الجوزي كان في كتابه هذا ناقلا أكثر مما هو ناقد، وذلك لبروز الحافز الأخلاقي في هذا الكتاب على حساب الحافز العلمي المتمثل بمناقشة الروايات وغربلتها والترجيح في ما بينها، فضلا عن ذلك لم نجد فيه إحالة واحدة إلى أحد مصنفاته الأخرى التي استعرض فيها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «209» . هذه هي المناحي التي أضفاها هذا المصنف على كتابة السيرة النبوية إذ شكلت إنعطافة مهمة فيها ومغايرة عن المصنفات التي سبقته.   (208) ينظر، الوفا، ص 73، 216، 269، 278، 339. (209) ينظر، المنتظم في أحوال الملوك والأمم، مجلد 1، ورقة 79- 156، مجلد 2، ورقة 1- 76، صفة الصفوة، 1/ 46- 233، تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، ص 4- 39، المدهش، 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، 1/ 151- 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 المبحث الثاني السيرة النبوية المختصرة المستقلة ومصنفوها كتب العديد من العلماء مصنفات مختصرة في مختلف العلوم والفنون والمعارف، وذلك لمن يريد معلومات مكثفة وسريعة عن موضوع ما، إذ علل أحد الباحثين بروز هذا المنحى برغبة الأمراء والعلماء بالتعرف على معلومات سريعة يضيق وقتهم عن أوسع منها وتقل حاجتهم إلى أكثر منها فضلا عن الرغبة في التخلص من نسخ المجلدات الواسعة مع الصعوبة في اقتنائها وفي نقلها التي هي في الوقت نفسه غالية الثمن وقلما يهتم بها إلا المختصون الهواة، وهذا ما أوجد ظاهرة طفحت على بعض المصنفات في التأريخ الإسلامي «1» ، وأضاف آخر حول بروز هذا المنحى الذي عزاه إلى وجود شريحة من الناس ليست لهم المقدرة على قراءة المصادر الموسعة فاتجه بعض العلماء إلى كتابة المختصرات في مختلف العلوم المعروفة آنذاك، بل قام بعض المصنفين باختصار مصنفاتهم لكي تلاقي رواجا أكثر وعناية من قبل القراء والمهتمين بها «2» . شمل هذا المنحى كتابة السيرة النبوية أيضا، إذ نرى أن لهذا المنحى (اختصار السيرة) جذورا قديمة ظهرت مع ظهور المصنفات الأولى في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ أوضح ابن سيد الناس (ت 743 هـ) هذا الأمر بقوله: " وقفت على ما جمعه الناس قديما وحديثا من المجاميع في سير النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه   (1) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 416. (2) روز انثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وأيامه إلى غير ذلك مما يتصل به، لم أر إلا مطيلا مملا أو مقتصرا بأكثر المقاصد مخلا، والمطيل اما معتن بالأسماء والأنساب والأشعار والاداب أو آخر يأخذ كل مأخذ في جمع الطرق والروايات ويصرف إلى ذلك ما تصل إليه القدرة من العنايات، والمقصر لا يعدو المنهج الواحد ومع ذلك فلابد أن يترك كثيرا ما فيه من الفوائد ... " «3» ، وهذا ما لا حظناه عند ما أشار ابن هشام إلى قيامه بكتابة مختصر للسيرة التي صنفها محمد بن إسحاق «4» ، وهذا ما عدّ أول مختصر كتب للسيرة النبوية، ولكننا وضعناه ضمن كتب السيرة المسهبة وذلك لإدخاله وإضافته روايات لم يوردها ابن إسحاق في كتابه «5» ، إذ خرج بذلك هذا الكتاب من كونه مختصرا لما كتبه ابن إسحاق من روايات وأسماء لا دخل لها في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إلى كونه مصنفا مستقلا بذاته ومن ثم فاننا لا نستطيع إطلاق لفظ مختصر عليه لذلك مع كون حجم الكتاب يخالف معنى هذه اللفظة، حتى أطلقت عليه بعض المصنفات التي أشارت إليه بعبارة السيرة النبوية لابن إسحاق بتهذيب ابن هشام «6» . قبل الدخول في دراسة المصنفات المختصرة التي كتبت في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يجب علينا تأكيد أن كتابة المختصرات في سيرة الرسول هي التطور ذاته في كتابة السيرة فضلا عن أن هذا المنحى التطوري في كتابة السيرة   (3) عيون الأثر، 1/ 5. (4) ينظر، السيرة، 1/ 4. (5) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 6، 8، 42، 62- 63، 77، 79، 81، 115، 116، 193، 195- 199، 2/ 468، 503، 514. (6) ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 233، الكلاعي، الإكتفا بمغازي الرسول، 1/ 2، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 117، الكتاني، محمد جعفر، الرسالة المستطرفة لبيان مشهور السنة المشرفة، ط 3، دار الفكر، دمشق، 1964، ص 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قد صاحبه هو الاخر تطور ثان من جراء تعدد المصنفات التي كتبت فيه، أما هذه المصنفات فهي: 1. أوجز السير لخير البشر لأحمد بن فارس اللغوي (ت 395 هـ) : مصنف هذا الكتاب هو من علماء اللغة المشهورين الذين صنفوا فيها كتبا متعددة وذاع صيته في ذلك باسم أحمد بن فارس النحوي «7» ، ومع هذه الشهرة بالنحو واللغة لم يمنع ذلك من تصنيفه مصنفات عدة في السيرة ومواضيعها إذ كتب ثلاثة مصنفات هي «8» : 1. أوجز السير لخير البشر. 2. تفسير أسماء النبي. 3. أخلاق النبي. كتب أحمد بن فارس سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في بضع وريقات «9» عدّت من قبل الصفدي (ت 764 هـ) من أقل ما كتب في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «10» . صرح ابن فارس عن دوافعه في إخراجه مصنفا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بهذا الحجم في مقدمته التي يقول فيها: " هذا ذكر ما يحق على المرء المسلم حفظه وتجب على ذي الدين معرفته من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولده ومنشئه ومبعثه وذكر أحواله في مغازيه ومعرفة أسماء ولده وعمومته وأزواجه،   (7) ينظر، الفيروز آبادي، البلغة في أئمة اللغة، تحقيق محمد المصري، دار الفكر، دمشق، 1972، ص 28. (8) ينظر، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 4/ 84. (9) ينظر، أو جز السير لخير. البشر، تحقيق هلال ناجي، مجلة المورد، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد، عدد 4، مجلد 2، 1973، ص 146- 158. (10) ينظر، الوافي بالوفيات، 1/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فان للعارف بذلك رتبة تعلو رتبه من جهله ... وقد أتينا في مختصرنا هذا من ذلك ذكرى" «11» ، ونقل السخاوي مقالة لابن فارس بين فيها هذا الأمر مفادها: " أن هذا بخصوصه [ويقصد بها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم] مما يحق معرفته على المسلمين، أف على من يزعم أنه عالم ولا يدري من هم السابقون الأولون من المهاجرين، ولا يفرق بين من أنفق من قبل الفتح وقاتل، وبين من أنفق من بعد ذلك، ولا يعرف أهل بدر ... ولا من هم أهل بيعة الرضوان، ولا يعرف من الأنصار ومن المهاجرين" «12» . تبين لنا هاتان المقالتان لابن فارس الهدف الذي حدا به على كتابة هذا المختصر البسيط لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ انصب هدفه في الكتابة على إيجاد مختصر ضئيل ومبسط لسيرة الرسول يستطيع الناس حفظه وتعلمه وفهمه على مختلف طبقاتهم، فهو بذلك أبرز الجانب التعليمي في كتابة السيرة على الجانب العاطفي. كان هذا الهدف احدى السمات التطورية التي أكسبها ابن فارس لكتابة السيرة وذلك بتصنيف كتاب الغرض منه تثقيف الناس ببعض المعلومات عن سيرة الرسول وأحواله باختصار حتى يتسنى لهم حفظها. انتهج ابن فارس في كتابه هذا منهجا كان هو الاخر سمة تضاف إلى كتابه بجعله أحد المصنفات التي أسهمت في تطور كتابة السيرة، إذ تمثل هذا النهج بمحاور عدة هي:   (11) أوجز السير لخير البشر، مجلة المورد، ص 146. (12) الأعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، ص 67- 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 1. كتابة هذا المصنف على وفق منهج حولي شديد الصرامة وذلك بتوثيق الحادثة التأريخية باليوم والشهر والسنة «13» ، فمن ذلك إثباته لتأريخ مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الذي وثقه بعبارته التي مفادها: " ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عام الفيل لثمان خلون من ربيع الأول" «14» ، كذلك توثيقه لحادثه وفاة جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عبد المطلب التي قال فيها: " ولما أتت له ثماني سنين [يقصد الرسول] وشهران وعشرة أيام توفي جده عبد المطلب" «15» ، ووثق أيضا حادثة زواج الإمام علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء (عليهما السلام) إذ يقول فيها: " فلما أتت لهجرته سنة وشهر واثنان وعشرون يوما زوج عليا فاطمة رضي الله عنهما" «16» . 2. إغفال الشواهد والقرائن التأريخية مثل الايات القرآنية والأحاديث النبوية والشعر والخطب النثرية والمحاورات بين شخوص الحدث، إذ لم يستشهد بأي من هذه الشواهد والقرائن في كتابه هذا إلا في مواضع قليلة جدا إستشهد فيها ببعض الايات القرآنية، والأحاديث النبوية «17» . كان وراء هذا الإغفال للشواهد والقرائن سبب وجيه تمثل بأن طبيعة الكتاب نفسه لا تسمح بإيراد مثل هذه الشواهد التي تضخم حجمه وتزيد من كم الروايات التي ترد فيه وإن حصل ذلك فان هذا خروج عن الغاية التي من أجلها صنف كتابه.   (13) ينظر، أو جز السير، مجلة المورد، ص 147، 149، 150، 151. (14) المصدر نفسه، ص 146. (15) المصدر نفسه، ص 147. (16) المصدر نفسه، ص 148. (17) ينظر، المصدر نفسه، ص 150- 151، 147- 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 3. عدم إشارة ابن فارس إلى المصادر التي إعتمد عليها في كتابه هذا سواء أكانت مصادر مكتوبة أم روايات شفاهية باستثناء روايتين ذكر فيهما سلسلة سنده لرواتها «18» . 4. تفرده بروايات لم توردها المصادر المتقدمة مثال ذلك إيراده للخطبة التي قالها أبو طالب في زواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من خديجة «19» ، وهذه الخطبة قد أخذ بنقلها ابن الجوزي وأثبتها في بعض كتبه التي تناولت سيرة الرسول «20» ، كذلك عدّه فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أكبر أولاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «21» ، مع العلم أن العلماء متفقون على أن فاطمة الزهراء هي أصغر أولاد الرسول «22» . نالت هذه السيرة مكانة بارزة عند العلماء الذين اطلعوا عليها، إذ تشير كتب الفهارس وتراجم الشيوخ إلى أن بعض العلماء قد اهتم بالحصول على إجازة روايتها وتدريسها في حلقات الدرس «23» ، وقام آخرون باطلاق عبارات الثناء عليها، إذ وصفها العبدري (ت 688 هـ) بالقول: " وكتابه هذا (اختصار السيرة) هو تأليف نبيل في أوراق يسيرة" «24» ، واطراها الصفدي بالقول: " ومن أصغر ما صنف في ذلك [يقصد به السيرة] جزء لطيف لابن فارس صاحب المجمل في اللغة" «25» .   (18) ينظر، أو جز السير، ص 147، 151. (19) ينظر، المصدر نفسه، ص 147. (20) ينظر، ابن الجوزي، الوفا، 1/ 145، المنتظم، مج 2 ورقة 58. (21) ينظر، المصدر نفسه، ص 147. (22) ينظر، الزبيري، مصعب (ت 233 هـ) ، نسب قريش، تحقيق: ليفي بروفنسال، دار المعارف، مصر، 1953، ص 21، 23، ابن قتيبة، المعارف، ص 142- 143، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 402- 405. (23) ينظر، برنامج الوادي آشي، ص 236. (24) محمد بن احمد، الرحلة، تحقيق: محمد الفاسي، الرباط، د، ت، ص 245. (25) الوافي بالوفيات، 1/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لم يقتصر هذا الأمر على هذا الحد، بل تبع ذلك قيام آخرين بشرح هذه السيرة، إذ أشار محقق هذه السيرة إلى وجود شرحين لها ما زالا مخطوطين، الأول شرح الحسن بن علي بن باديس القسنطيني (ت 768 هـ) ، أسماه فرائد الدرر وفوائد الفكر في شرح مختصر السير، والثاني شرح ابن مدين بن أحمد بن محمد الفاسي (الذي كان حيا سنة 1132 هـ) «26» . هذه هي الغايات التي كتبت من أجلها هذه السيرة والانطباعات التي تركتها على المصنفات التي تلتها والتي أثارت رغبة في تكرار تجربة كتابة مختصرات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إذ حفزت بشكل غير مباشر هذا الأمر ودعمته. 2. الدرر في اختصار المغازي والسير ليوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) : وهو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري ولد في قرطبة وبرع في مختلف العلوم وصنف في مواضيعها، كانت له الأندلس خير موطن فقد عاش ونشأ بها وترعرع فيها إلى أن أصبح إمام عصره وواحد دهره «27» . يعد ابن عبد البر من أوائل المصنفين لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الأندلسيين، والذي جعلنا نطلق هذا الحكم عليه ما قطع به أحد الباحثين بعدم وجود كتب لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ألفها علماء أندلسيون في القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، بعد أن تفحص جميع الكتب التي تحدثت عن النتاج الفكري للعلماء   (26) ينظر، ناجي هلال، مقدمة تحقيق كتاب أو جز السير، ص 145. (27) ينظر، الحميدي محمد بن أبي نصر (ت 488 هـ) ، جذوة المقتبس، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب المصري، ط 2، 1989، ص 344، ابن بشكوال، الصلة، ص 616، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 3/ 306، اليافعي، مرآة الجنان، 3/ 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الأندلسيين في هذه المدة «28» ، إذ أبرز عوامل عدة كانت وراء هذا العزوف من قبل العلماء الأندلسيين عن الكتابة عن سيرة الرسول وأحواله في هذه القرون آنفة الذكر وتأخرها إلى عصر ابن عبد البر النمري، وهذه العوامل «29» هي: 1. ان الأندلسيين أنتابهم شعور مفاده أن التأليف في السيرة النبوية وفي مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هو من اختصاص أهل المشرق وبالذات أهل المدينة المنورة، فقيها نشأ الإسلام وترعرع ونما وأن أبناء الصحابة والتابعين هم الأجدر بالتأليف بالسيرة من غيرهم. 2. اطلع الأندلسيون في رحلاتهم إلى المدينة على ما تم تأليفه في السيرة مما أدى إلى حصول حدس لديهم بعدم جدوى تكرار ما كتبه سابقوهم. 3. ان الأندلس لم يكن لها نصيب وافر من الصحابة والتابعين الذين كانوا يروون على مسامع الناس سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والحوادث التي مرت به وبصحابته. 4. لم تكن ظروف المسلمين في الأندلس وفي النصف الأول من القرن الثاني الهجري مواتية بالاتجاه للتدوين التأريخي، فقد كانت عقوده حافلة بالجهاد داخل وخارج شبه الجزيرة الإيبيرية. 5. عند ما استقرت الظروف في الأندلس بعهد الامارة في منتصف القرن الثاني الهجري اتجه المسلمون فيها إلى العناية بعلوم اللغة العربية والعلوم الشرعية.   (28) ينظر، عجيل، كريم حسن، تطور التدوين التأرخي في الأندلس حتى نهاية القرن الرابع الهجري، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب، جامعة بغداد، 1996، ص 62. (29) ينظر، المصدر نفسه، ص 62- 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 مع تأكيد ما سبق أن السيرة النبوية لم تكن غافلة رواياتها ومصنفاتها عن مسامعهم وأعينهم طوال تلك المدة، بل أنها كانت تدرس في محافلهم وأنديتهم العلمية، فضلا عن رحلة بعض علماء الأندلس إلى المشرق في طلبها، إذ بينت كتب الإجازات العلمية هذا الأمر من حصول هؤلاء العلماء على قسم من تلك المصنفات سواء بالإجازة من قبل مؤلفيها أم الذين حصلوا على روايتها أم اقتناء نسخ منها يقرؤونها على من حصل إجازة روايتها ويقومون بدورهم بمنح هذه الإجازة إلى أبناء بلدهم «30» . تتضح لنا من هذا العرض لهذه العوامل الأسباب الكامنة التي كانت وراء تأخر قيام الأندلسيين بتصنيف سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أن جاء ابن عبد السير ليكسر هذا الحكر الذي قام به المشرقيون لكتابة السيرة، إذ صنف كتابا أسماه (الدرر في اختصار المغازي والسير) . شكل هذا الكتاب نقطة تحول جادة في كتابة السيرة النبوية، وذلك لما نهجه فيه ابن عبد البر من منهج، إذ تمثل نهجه بمحاور عدة هي: 1. غلبة الوازع الأخلاقي في تصنيف هذا الكتاب على الوازع العلمي مما شكل هذا الأمر انعطافة مهمة بكتابة مصنفات الهدف منها الحصول على الثواب من الله في تصنيف هذا الكتاب بالدرجة الأساس وجعل الغاية العلمية في تصنيفه مسألة ثانوية، إذ نلمس ذلك في مقدمته التي قال فيها: " هذا كتاب اختصرت فيه ذكر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وابتداء نبوته وأول أمره في   (30) ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 230- 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 رسالته ومغازيه وسيرته فيها ... وإلى الله أرغب على الأمل فيه والتوفيق لما يرضيه فهو حسبي لا شريك له" «31» . 2. استعمال أسلوب الإحالة إلى مصنفات أخرى «32» ، وهذا الأمر راجع إلى أمور عدة هي: أ. تجنب تكرار الروايات التي يحتم عليه مطلب الكتاب إيرادها، وذلك للمراعاة في اختصار الكتاب وضغطه إلى أقل حد ممكن وهذا ما صورته مقالته التي مفادها: " وأفردت سائر خبره في مبعثه وأوقاته ... لأني ذكرت مولده وحاله في نشأته وعيونا من أخباره في صدر كتاب الصحابة" «33» . ب. تعريف الجمهور للناس بكتبه التي صنفها حتى يشتهر أمرها بين الناس، وهذا عامل نفسي لأن قارئ هذا الكتاب يسبب له نوعا من الجوع المعرفي إذا وجد فيه موضوعا لم يشبعه كاتبه بحثا أو أغفله وأحال قارئيه إلى كتب أخرى وسع الحديث فيها عن هذا الموضوع الذي أغفله، مما يحفزه ذلك على طلب تلك الكتب لإشباع ذلك الجوع، إذ لم نجد في إحالاته تلك أي أسم لكتاب صنفه غيره. 3. إجراء المفاضلة بين الروايات المتعارضة وإبداء الاراء فيها لما يراها أصح «34» ، فمن الروايات المتعارضة التي فاضل بينها الروايات التي أشارت إلى قدم السبق في الإسلام بين الإمام علي (عليه السلام) وأبي بكر الصديق (رضي   (31) الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقيق شوقي ضيف، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1966، ص 29. (32) ينظر، المصدر نفسه، ص 31، 33، 169، 276، 287. (33) المصدر نفسه، ص 29. (34) ينظر، المصدر نفسه، ص 42، 44، 62- 63، 64، 80، 202، 212، 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الله عنه) «35» ، كذلك فاضل بين الروايات التي ذكرت حول من آخاه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الصحابة، إذ انتهى من هذه المفاضلة بالقول: " والصحيح عند أهل السير والعلم بالاثار والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في حين قدومه للمدينة أنه آخى بين علي بن أبي طالب وبين نفسه صلى الله عليه وسلم فقال له أنت أخي في الدنيا والاخرة" «36» دفعت هذه المحاور التي أكسبها ابن عبد البر لكتابة السيرة في مصنفه هذا العلماء إلى اعتماد هذا الكتاب في مصنفاتهم والاجتهاد في الحصول على إجازة بروايته «37» ، هذا من جانب أما من جانب آخر فقد اقتبس العديد من الذين صنفوا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم نصوصه ولا سيما ابن حزم الظاهري الذي عدّ محققو كتابه (جوامع السيرة) صورة مهذبة من كتاب الدرر عند مقارنتهم للروايات الموجودة في هذين الكتابين «38» ، وهذه النتيجة توصل إليها أيضا محقق كتاب الدرر نفسه «39» . لم تكن هذه المحاولة من قبل ابن عبد البر الأولى من نوعها في كتابة السيرة بل سبقتها محاولة، وذلك بكتابة موجز بسيط في سيرة الرسول افتتح به كتابه الاستيعاب «40» ، إذ بجمع الروايات الواردة في هذين الكتابين عن سيرة الرسول   (35) ينظر، المصدر نفسه، ص 40. (36) ينظر، الدرر، ص 97- 98. (37) ينظر، ابن خير الأشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 232، برنامج الوادي آشي، ص 215، ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/ 346- 347. (38) ينظر، عباس، الأسد، مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة، دار المعارف، مصر، 1957، ص 5. (39) ينظر، ضيف، مقدمة تحقيق كتاب الدرر، ص 16. (40) ينظر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 25- 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وبدمجهما مع بعضهما ببعض يتشكل لنا كتاب موسع عن سيرة الرسول وأحواله. 3. جوامع السيرة لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري (ت 456 هـ) : مصنف هذا الكتاب هو أحد العلماء الأندلسيين الذين اسهموا اسهاما جادا في رفد الثقافة والفكر الاسلامي بمصنفات كبيرة وكان هذا الكتاب أحد هذه المصنفات «41» . ولدت هذه السيرة التي صنفها ابن حزم تضاربا بين الباحثين في تحديد العنوان المناسب لها بعد اختلاف عناوينها على ظهور المخطوطات، إذ وضع محققو هذه السيرة عنوانا لها باسم (جوامع السيرة) ، وسوغوا ذلك بأن مضمون الكتاب يلائم هذا العنوان «42» ، وهذا ما أثار حفيظة أحد الباحثين الذي وصف هذا العمل من قبل محققي الكتاب بالتسرع وعدم الدقة العلمية في اختيار وتثبيت الاسم الصحيح للسيرة التي صنفها ابن حزم الظاهري «43» . ومهما يكن من أمر الجلبة التي أثيرت عن هذا الموضوع لا تهم الباحث بقدر ما يهم اتفاق جميع المصادر التي ترجمت لابن حزم حول تصنيفه كتابا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.   (41) تنظر ترجمته، الحميدي، جذوة المقتبس، ص 489- 493، ابن حجر، لسان الميزان، 4/ 198- 202. (42) عباس، الأسد، مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة، ص 15. (43) ينظر، المنجد، صلاح الدين، نقد كتاب جوامع السيرة، مجلة معهد المخطوطات العربية، مصر، السنة الأولى، 1956، ج 1 مجلد 2، ص 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقد قصدنا في عرضنا للملابسات التي اكتنفت هذا الأمر استيضاح وتبيان المكانة التي حظيت بها هذه السيرة من قبل الباحثين. وقبل تبيان المناحي التطورية التي اضفتها هذه السيرة على مثيلاتها من كتب السيرة الأخرى يجب علينا تأكيد أن ابن حزم قد حاكى فيها النهج الذي اكتسبه شيخه ابن عبد البر في كتابة السيرة، إذ وضع كتاب ابن عبد البر (الدرر) نصب عينيه عند كتابته لمصنفه هذا، فاستدل على ذلك محققو هذين الكتابين بمقارنتهما بعضهما ببعض «44» ، إذ بينوا مواضع الاقتباس في كل منهما «45» ، مع تأكيد محقق كتاب الدرر أن ابن حزم قد نقل فقرات كاملة من ابن عبد البر عند حديثه عن مبعث الرسول إلى نهايته، إذ يقول في معرض حديثه عن هذا الأمر: " وبلغ من قيمة هذه السيرة واهميتها في عصره أن وضعها ابن حزم تلميذ ابن عبد البر علما منصوبا أمام بصره حين حاول أن يصنف سيرته النبوية ... فضلا عن كونه لم يتابع ابن عبد البر في نسق كتابه وما تضمنه من أحداث وأسماء الأعلام فحسب بل كان كثيرا ما يتابعه في سرد كلامه ناقلا نص عبارته مع شيء من التصرف أحيانا، وقد يترك النص الذي ينقله عن أستاذه دون تصرف ونراه يتابعه في كثير من مراجعاته وآرائه حتى ليظن من لم يقرأ ابن عبد البر أنها ثمرة اجتهاده" «46» ، ولكن ابن حزم لم يشر في أي مكان من سيرته إلى اسم ابن عبد البر وسيرته التي ألفها حينما اقتبس من نصوصها، مع العلم أنه قد وضع قائمة بأسماء المصادر التي اعتمد عليها في كتابه هذا «47» .   (44) ينظر، عباس، الأسد، مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة، ص 8، ضيف، مقدمة تحقيق كتاب الدرر، ص 14- 15. (45) ينظر، ابن حزم، جوامع السيرة، ص 44، 58، 97، ابن عبد البر، الدرر، ص 35- 39، 50- 51، 101. (46) ينظر، ضيف، مقدمة التحقيق، ص 15. (47) ينظر، جوامع السيرة، ص 33، 36، 38، 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 سار هذا الرجل أيضا على مسار من سبقه في تصنيف سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مدفوعة بدوافع أخلاقية الهدف منها تهذيب النفوس والرغبة بالمثوبة والأجر من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما أشار إليه في مواضع عدّة من كتابه، إذ ينهي فقراته في هذه المواضع بعبارات تنم عن رغبة جامحة في الحصول على الرحمة من الله والمغفرة والتوفيق لخدمته وخدمة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلّم والشفاعة به من النار ببركة متابعته «48» ، هذا مع العلم أن محققي هذه السيرة قد أرادوا جعل الغاية التي صنفت من أجلها غاية علمية بالدرجة الأولى «49» . ولكن هذا الرأي لا يخلو من صحة تجاه القول آنف الذكر، وإن كانت تلك الغاية العلمية التي أشار إليها محققو هذا الكتاب دون المستوى الذي عهدناه في السير السابقة لها والتي استعرضناها في الصفحات السابقة. وصفت هذه السيرة من قبل أحد الباحثين بأنها ليست إلا تكرارا بالمعنى الحرفي لما دونته المصادر المتقدمة عليه في هذا الجانب، مع تأكيده أن شأن ابن حزم يظهر في تأريخ الأفكار أكثر من تأريخ الحوادث والسير «50» ، ولكن هذا الكلام فيه نوع من التجني على ابن حزم وكتابه هذا إذ نرى من استعراض المناحي التي أكسبتها هذه السيرة من تطور لكتابتها، ضعف هذا الرأي، إذ كانت تلك المناحي قد شملت على: 1. الاهتمام بإيراد مشجرات أنساب القبائل التي تتصل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقبيلته ونسبه وبحسب الجد الذي يصل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إذ يصل بإيراده   (48) ينظر، المصدر نفسه، ص 41، 44، 266. (49) ينظر، عباس، الأسد، مقدمة التحقيق، ص 5- 6. (50) المنجد، نقد لكتاب جوامع السيرة، مجلة معهد المخطوطات العربية، ج 1، مجلد 2، ص 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 هذه التشعبات في الأنساب إلى عدنان جد الرسول الواحد والعشرين الذي ينهي به هذه التشعبات، إذ يقول في ختام إيراده لمشجرات النسب: " هاهنا انتهى النسب الصحيح الذي لا شك فيه" «51» ، وبين أيضا عدم جدوى تشعب القبائل القحطانية من أهل اليمن ومن المناطق المجاورة لها والتقاء أنساب هؤلاء بنسب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إذ يقول عن سبب ذلك: " فالله اعلم بتشعبهم إلا أنهم يجتمعون معه في نوح بلا شك" «52» . كان وراء انتهاج ابن حزم لهذا المنحى عامل أساس تمثل باستيعاب ابن حزم لجميع تجارب الذين سبقوه في كتاب أنساب القبائل العربية وتفرعاتها وإخراج هذه الأمور في مصنف مستقل يهذب فيه ما يراه فائضا عن المقصد «53» . 2. الاستفادة من النص التأريخي الخاص بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في دعم آراء مذهبه الفقهي الذي يعتمد على ظاهر النص والذي يعرف بالمذهب الظاهري «54» ، إذ عقب على كثير على نصوص عدة أوردها في سيرته بما يراه مطابقا لاراء مذهبه «55» ، فمن هذه النصوص التي ناقشها، حادثة قيام الرسول بشراء أرض المسجد الذي بني في المدينة «56» ، إذ علق على هذه الحادثة قائلا: " وقد روينا أن النبي أبى أن يأخذه [أي المسجد] إلا بالثمن والله أعلم" «57» ،   (51) جوامع السيرة، ص 2. (52) المصدر نفسه، ص 4. (53) ينظر، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1962، ص 3. (54) للتعرف عن المذهب الظاهري، ينظر، كاشف الغطاء، علي بن محمد رضا، أدوار علم الفقه وأطواره، دار الزهراء، بيروت، ط 1، 1979، ص 170. (55) ينظر، جوامع السيرة، ص 203، 211، 212، 213، 226، 227، 229، 230، 264. (56) ينظر، المصدر نفسه، ص 95. (57) جوامع السيرة، ص 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 كذلك وعلق على حادثة صلاة المسلمين في بني قريظة وتعنيف الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لهم كل بحسب فهمه للأمر الذي أصدره إليهم: (لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة) «58» ، إذ علق على هذه الحادثة قائلا: " فأما التعنيف فإنما يقع على العاصي المتعمد المعصية وهو يعلم أنها معصية وأما من تأول قصدا للخير، فهو وإن لم يصادف الحق غير معنف، وعلم الله تعالى أننا لو كنا هناك لما صلينا عصر ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد أيام" «59» . هذه هي الاراء والتعليقات الفقهية التي بثها في تضاعيف كتابه هذا والتي أعطت صورة ناصعة عن بروز هذا الأثر المذهبي في كتابة السيرة، وهذا الأمر لم يكن مألوفا في مصنفات السيرة التي سبقتها، مع العلم أن محققي هذه السيرة قد قللوا من بروز هذا العامل في الكتاب وجعله مجرد إشارات عابرة لا تستحق الذكر فضلا عن تصريحهم بالقول: " ان الظاهرية لم تستعلم في تفسير ابن حزم للروايات التي أوردها، وان طبيعة السيرة قد حجمت من تحرك ابن حزم من أن ينطلق بانتزاع الأحكام من النصوص" «60» ، وهذا الرأي تدحضه كثرة النصوص التي وردت في ثنايا هذه السيرة مردفة بتعليقات فقهية توافق مذهبه والتي استعرضناها آنفا. كان هذا الكتاب محط أنظار العلماء الذين أتوا بعده، والذين تعرضوا في مصنفاتهم لسيرة الرسول وأحواله، إذ علقوا على آرائه التي أوردها في هذا   (58) ينظر، المصدر نفسه، ص 192. (59) المصدر نفسه، ص 192. (60) عباس، الأسد، مقدمة التحقيق، ص 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الكتاب، فمن هؤلاء عبد الرحمن السهيلي الذي نقل رأي ابن حزم في قضية الصلاة في بني قريظة «61» ، إذ علق على رأي ابن حزم في ذلك قائلا: " ان فهم هذا الأصل أسرا على الظاهرية لأنهم علقوا الأحكام بالنصوص، فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر وإباحة معا" «62» ، ونقل ابن كثير الدمشقي رأي ابن حزم هذا أيضا إذ علق عليه قائلا: " وهذا القول ماش على قاعدته الأصلية بالأخذ بالظاهرية" «63» ، وعلق أيضا على ما طرحه ابن حزم ان غزوة الخندق قد حصلت في السنة الرابعة للهجرة اعتمادا على رواية واحدة رواها عبد الله بن عمر بن الخطاب «64» ، إذ علق على ذلك بالقول: " هذا الحديث مخرج في الصحيح وليس يدعى ما أدعاه ابن حزم لأن مناط إجازة الحرب كان عنده صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، فكان لا يجيز من لم يبلغها، ومن سلفها إجازة فلما كان عمر عبد الله بن عمر يوم أحد ممن لم يجزه، ولما كان قد بلغها يوم الخندق إجازة، وليس ينفي هذا أن يكون قد زاد عليها بسنة أو سنتين أو ثلاث أو أكثر من ذلك، فكأنه قال وعرضت عليه يوم الخندق وأنا بالغ ومن أبناء الحرب، وقد قيل انه كان يوم أحد في أول الرابعة عشرة من عمره وفي يوم الخندق آخر الخامسة" «65» ، إلى غير ذلك من التعليقات التي تناثرت في كتاب ابن كثير هذا «66» ، وقد نقل المقريزي (ت 802 هـ) بالسيرة التي كتبها   (61) ينظر، جوامع السيرة، ص 192. (62) الروض الأنف، 2/ 95. (63) البداية والنهاية، 4/ 118. (64) ينظر، جوامع السيرة، ص 185. (65) الفصول في اختصار سيرة الرسول، ص 56. (66) ينظر، المصدر نفسه، ص 88، 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم نصوصا عدة من كتاب ابن حزم هذا مع إرداف هذه النصوص بتعليقات جمة من قبله «67» ، فمن هذه النصوص التي علق عليها ما ذكره ابن حزم حول أول جمعة أقيمت في الإسلام «68» ، إذ كان تعليق المقريزي على ذلك هو أن ابن حزم في جزمه من قيام مصعب بصلاة الجمعة قول مدحوض لأن ابن إسحاق قد ذكر أن سعد بن زرارة هو الذي جمع الناس في أول جمعة أقيمت في الإسلام «69» . هذه هي بعض النقول والاقتباسات التي اعتمدها المتأخرون الذين اطلعنا على كتبهم من سيرة ابن حزم، مع الإشارة إلى أن ابن حزم في سيرته هذه قد سار على منهجية واحدة اعتمدت على اختصار المواضيع وعدم التوسع في ذكر الأحداث، إذ أغفل ذكر النصوص الشعرية التي قيلت في تلك الأحداث إلا في موضع واحد «70» ، مع استعمال أسلوب الإحالة إلى أحد مصنفاته وذلك في معرض حديثه عن حادثة حجة الوداع «71» ، إذ قال في خاتمة ذكره لهذه الحادثة ما مفاده: " وقد أفردنا لها جزء ضخما استوعبنا فيه جميع خبرها بحمد الله تعالى وبه جل وعلى التوفيق" «72» .   (67) ينظر، أحمد بن علي، إمتاع الأسماع، تصحيح محمود أحمد شاكر، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1941، ص 50، 215، 257، 276. (68) ينظر، جوامع السيرة، ص 72. (69) إمتاع الأسماع، ص 34- 35. (70) ينظر، جوامع السيرة، ص 237. (71) ينظر، المصدر نفسه، ص 260- 262. (72) المصدر نفسه، ص 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 هذه هي المستجدات التي اضافها ابن حزم لكتابة السيرة النبوية. نرى مما تقدم أن هذه السير التي صنفها هؤلاء العلماء سواء أكانت باسهاب أم باقتضاب قد حركتها حوافز متعددة في كتابتها وهذه الحوافز هي: 1. الحافز العلمي وهذا الحافز قد تمثل في السير التي صنفها كل من محمد بن إسحاق وذلك عندما طلب منه المنصور تصنيف كتاب لابنه المهدي منذ خلق الله تعالى آدم (عليه السلام) إلى يومه يكون له مرجعا يرجع إليه لمعرفة أخبار الأمم السالفة وأحداث تأريخ الإسلام «73» ، ونلمسها أيضا في قيام ابن هشام بتهذيب هذه السيرة التي صنفها ابن إسحاق من الأشعار والروايات التي لا دخل لها في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «74» ، وعلى هذا الحافز أيضا كتب أحمد بن فارس سيرته الموجزة لكي تكون سهلة المنال والحفظ أمام طلاب العلم والمعرفة عن نسب الرسول وحياته وأحواله «75» ، وكان ابن الجوزي ضمن مسار مسلك هؤلاء في إيجاد مصنف لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله بعدما رأى خلقا كثيرا من أعلام معاصريه لا يحيطون علما بحقيقة فضيلة الرسول ومكانته «76» . هذه هي المصنفات التي كان الحافز العلمي هو المحرك لكتابتها، مع العلم أن محققي سيرة ابن حزم قد حاولوا عدّ الغايات التي من أجلها صنفت هذه السيرة هي غايات علمية بالدرجة الأولى إذ صرحا بالقول: " لسنا نبعد عن الحق حين نفترض أن ابن حزم في كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرمي إلى   (73) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 221. (74) ينظر، السيرة، 1/ 4. (75) ينظر، أو جز السير خير البشر، مجلة المورد، ص 146. (76) ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وضع مختصر قريب المأخذ سهل المتناول في أيدي طلابه كما فعل في كثير من رسائله التأريخية ... وأنه كان في هذا المختصر يضع الأصول التي لا يستغني عن تذكرها أو استظهارها كل من اشتغل بالسيرة النبوية من طلاب العلم وقد تكون هذه الغاية التعليمية باعثا أكيدا يحدو عالما مثل ابن حزم إلى كتابة السيرة النبوية" «77» ، وقد تبين لنا في الفقرة التي أو ضحنا فيها إسهام سيرة ابن حزم في تطور كتابة السيرة إلى قصور هذه الغاية أمام الغايات الأخلاقية التي حفزت ابن حزم في تصنيف سيرته هذه. 2. الحافز الأخلاقي، إذ تمثل هذا الحافز بكتابة بعض مؤرخي السيرة لمصنفات الغرض منها التبرك بذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله والتقرب بها إلى الله في الحصول على المغفرة والمثوبة والشفاعة له من قبل نبيه الكريم، إذ تمثل هذا الحافز في كل من السيرة التي كتبها ابن عبد البر للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حيث افتتحها بالقول: " فذكرت مغازيه وسيره على التقريب والاختصار والاقتصار على العيون من ذلك دون الحشد والتخليط وإلى الله أرغب على الأمل فيه والتوفيق لما يرضيه فهو حسبي لا شريك له" «78» ، وأوضحت مقالة ابن حزم التي مفادها: " من أراد خير الاخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة واحتواء على محاسن الأخلاق كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعتمد أخلاقه وسيره ما أمكن" «79» ، هذه هي الأمور التي أوضحت مكانة سيرة الرسول وأثرها في تهذيب النفوس والأخلاق حتى   (77) عباس، الأسد، مقدمة التحقيق، ص 5. (78) الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 29. (79) مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق، تصحيح محمد أدهم البستي، مصر، د، ت، ص 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أوضحت مكانة سيرة الرسول وأثرها في تهذيب النفوس والأخلاق حتى كانت السيرة التي صنفها قد حملت في جنباتها بعض الأقوال التي بينت أثر هذا الحافز في كتابتها «80» . كان لهذا الحافز أثر مباشر في كثرة المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول وأحواله في العصور اللاحقة، إذ أشار أحد الباحثين الذين أحصوا هذه المصنفات إلى دور هذا الحافز في وفرة المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «81» ، وإن كان هذا الحافز موجودا أساسا في نفس كل مصنف كتب سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لأغراض علمية لأنه في قرارة نفسه يعتقد اعتقادا قاطعا أنه بعلمه هذا يؤرخ سيرة نبيه الكريم الذي اخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ثم فقد اشترك هذان الحافزان في كتابة هذه المصنفات مع هيمنة واحد منهما على الاخر. هذان هما الحافزان المهمان اللذان كانا وراء كتابة هذه السير للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم واللذان أثرا تأثيرا مباشرا في طبيعة كل مصنف من حيث المنهج الذي كتب فيه الكتاب أو الأسلوب الذي عرضت فيه الروايات.   (80) ينظر، جوامع السيرة، ص 48، 262، 266. (81) ينظر، الندوي، سليمان، الرسالة المحمدية، دار الفتح، دمشق، ط 2، 1963، ص 97- 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الفصل الثالث السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التأريخية مدخل: أرسى المسلمون في مطلع القرن الثالث الهجري الأسس والثوابت الأولى للكتابة التأريخية المنسقة والمرتبة الخاضعة لمنهج دقيق «1» . كانت السيرة النبوية إحدى الفقرات التي شملتها الكتابة التأريخية، إذ تشعبت المحاور التي دخلت فيها السيرة النبوية ضمن المصنفات التي شملها هذا التطور، إذ لم يقتصر المهتمون بكتابة السيرة على إفراد مصنفات مستقلة لها حسب، بل حاولوا إدخالها في مصنفات أعم وأشمل من جعلها في مصنف مستقل. يشعر القارئ لهذه المصنفات بأن السيرة النبوية تتسم بالانعزالية والاجتزاء عن باقي الحوادث التأريخية سواء التي سبقتها ام التي لحقتها هذا من جانب، ومن جانب آخر حاول بعض هؤلاء المهتمين بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم جعلها القدوة والمثال لباقي الشخصيات التي سارت ضمن فلكها فضلا عن كون هذه الشخصية الأساس أو المنهل الذي نهلت منه باقي الشخصيات وبنت عليه أسسها سواء أكانوا خلفاء أم علماء أسهموا في إكمال رسالة الإسلام، فكانت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حافزا للمصنفين   (1) جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 153، مرجليوث، دراسات عن المؤرخين العرب، ص 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الذين كتبوا في هذه الجوانب «2» ، إن دل هذا الأمر على شيء إنما يدل على عدّ حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مرحلة انتقالية أو حقبة حضارية وّلدت نوعا من الشعور الجماعي لدى المسلمين بعامة، والعرب بخاصة إلى عد أنفسهم أمة واحدة لها تأريخ مشترك، فضلا عن عدّ مرحلة الدعوة الإسلامية النقلة النوعية لهم بعد ما كانوا قبل ذلك أقواما وقبائل شتى ينتمي كل فرد منهم بولائه إلى قومه وقبيلته «3» . ولأجل هذا كله تنوعت الاتجاهات التي أدخل المؤرخون فيها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن مصنفاتهم، فضلا عن جعلها ضرورة لازمة عند معظمهم، وهذا يعدّ تطورا ملحوظا وجوهريا في كتابة السيرة، ولم يقتصر هذا الأمر على ذلك حسب، بل تعداه إلى الإسهام في تطور كتابة السيرة ضمن هذه المصنفات وتأثيرها في باقي المصنفات الأخرى المخالفة لها في الأسلوب والمنهج وطريقة العرض، حيث تطورت كتابة السيرة لأجل ذلك تطورين: تطور أفقي شمل إدخال السيرة ضمن مصنفات جامعة وغير مقتصرة على جانب واحد، وتطور عمودي باستعمال المناهج والمناحي التي اتبعها المؤرخون في هذه المصنفات، وجعل سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن المحاور التي شملتها تلك المناهج والمناحي.   (2) ينظر، الدوري بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 57. (3) ينظر، المدني، التأريخ العربي ومصادره، 2/ 174، 190- 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المبحث الأول السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب التأريخ العام تشمل هذه الكتب المصنفات التي تعنى بتأريخ العرب وغير العرب من الأمم والشعوب والتي يصح أن يطلق عليها (كتب تأريخ العالم) ، وذلك لأنها تتناول في بداية حديثها أخبار الخليفة والأنبياء والأمم السالفة، ثم الانعطاف بعد ذلك بالحديث عن أحوال العرب والدول المجاورة لهم قبيل الإسلام، جاعلة هذه المصنفات حديثها هذا عن أحوال هذه الأقوام والشعوب مقدمة لتأريخ الإسلام، إذ تنعطف بعد ذلك للحديث عن أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وبدء الدعوة الإسلامية وما تبعها من حوادث والانتهاء بالحديث إلى ذكر حادثة هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة، عادة تلك الحادثة حدا فاصلا بين حقبتين حضاريتين، لتختص تلك المصنفات بعد ذلك بالحديث عن الحوليات الإسلامية وما جرى فيها من حوادث «1» . اتخذ كتاب التأريخ العام في توثيقهم لحوادث التاريخ الإسلامي منهجين: الأول: منهج حولي يعتمد على إيراد حوادث كل سنة على حدة وإن تجزأ الحدث المتداخل بين السنوات، والثاني: منهج موضوعي يعتمد على إيراد الحوادث متسلسلة ولكن على وفق الموضوعات وليس السنوات، وذلك بجعلهم الموضوع عنوانا والسنوات أو الحوادث التابعة له متنا «2» .   (1) حاطوم، نور الدين وآخرون مدخل إلى التأريخ، مطبعة الإرشاد، دمشق، 1964، ص 286. (2) ينظر، روزنثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 101- 102، 422. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 هذه هي اتجاهات كتابة التأريخ العام، والمناهج التي كتب فيها عند المؤرخين المسلمين، إذ كانت وراء هذا المنحى الكتابي أسباب عديدة من بينها: نشاط حركة التنقل بين الأقاليم والأمصار الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى إنعاش الفكرة العالمية، وتوسع دائرة اهتمام بعض العلماء والمؤرخين فلم يقتصر اهتمامهم على دراسة حادثة أو شخص أو عشيرة أو مدينة بل حوت دراساتهم العالم الإسلامي كله، ومن البديهي أن تكون هذه النظرة العالمية شاملة عند المهتمين بدراسة الإسلام وعلومه، نظرا لأنه دين عالمي بطبيعته وواسع الانتشار بواقعه، فأنتجت عقلية هؤلاء المسلمين تلك التواريخ العالمية الأولى «3» ، ووجد باحث آخر بعد أن عرض مرحلة التغيير الجذري في التصنيف عند العلماء المسلمين في القرن الثالث الهجري، أنه قد حدث في هذا القرن تطور كبير في الكتابة التأريخية حيث ظهر المؤرخون الكبار الذين أفادوا كثيرا من كتب الأخبار، فأعادوا تنظيم مادتها وترتيبها في مصنفات كبيرة سميت ب (كتب التأريخ) ، وقد تميزت بشمولها لأحداث الدولة الإسلامية من دون الاقتصار على أقاليم بعينها كما تميز معظمها باتباع نظام الحوليات «4» . يبين لنا هذا الكلام الواقع الذي فرض على المؤرخ الإسلامي بأن يأخذ في نظر الاعتبار تسليط الضوء على أرجاء المعمورة التي وصلت إليها راية الإسلام؛ ولكن باحثا آخر بين أن هذه العملية (كتابة التأريخ العالمي) هي وليدة حالة سابقة لها أو متمخضة عنها، إذ يقول: " إن مجرد فكرة التنظيم على السنين،   (3) ينظر، روزنثال، المصدر نفسه، ص 183- 184، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 57- 60. (4) ينظر، مصطفى، تأريخ العرب والمؤرخون، 1/ 202- 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ونقل المادة التأريخية يتطلب وجود حركة ترجمة أو على الأقل توفر مجال لعلماء المسلمين بالظفر بمعرفة واسعة بالكتب التأريخية الأجنبية" «5» . يعطينا هذا الرأي السبب وراء تأخر ظهور مثل هذه الكتب إلى القرن الثالث الهجري لأن أول ترجمة منظمة للمعارف الإنسانية من الأمم الأخرى قد حصلت في عصر المأمون (198- 218 هـ) بعد جهود منفردة كانت تتسم بالتذبذب وعدم الانتظام، واقتصرت هذه الجهود على جوانب محددة تبناها بعض الخلفاء الأمويين ومن ثم العباسيين وأولادهم، ولكن تلك الجهود لم تبلغ الشأن الذي وصلته في عصر المأمون «6» . بعد هذا العرض الموجز عن كتابة التأريخ العام عند المؤرخين المسلمين والمناهج المعمول بها، نرى أن هذا النوع من الكتابة التأريخية قد أعطاه المسلمون من الأهمية شيئا كثيرا؛ إذ توضح لنا الفهارس التي ذكرت أسماء هذه الكتب سواء أكانت مختصرة أم مفصلة أنها من الكثرة بحيث يتعذر علينا إيرادها كلها «7» ، وذلك لأن ما طبع منها لا يغطي هذه القوائم كلها، وأما ما بقي منها مخطوطا فهو من الندرة بمكان بحيث لا نستطيع الوصول إليه ولا سيما في الظروف الراهنة، وإن وصل بعضها إلى أيدينا فلا يكون بعدد ما فقد من تراثنا الفكري.   (5) روز نثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 105. (6) الجميلي، رشيد، حركة الترجمة في المشرق الإسلامي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص 31- 34. (7) ينظر، السخاوي، الاعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، ص 301- 314، 318- 332، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 276- 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وجدت السيرة النبوية في خضم هذه الكتب مكانا عظيما لها، فكانت تشغل في معظمها حيزا متباينا؛ فتارة تكون مفصلة وأخرى مختصرة وثالثة متناسبة طرديا مع حجم الكتاب الذي دخلت فيه، فحين يكون الكتاب مختصرا فمن دون شك تكون السيرة مقتضبة وموجزة والعكس صحيح أيضا. وقبل ذكر هذه المصنفات ودورها في كتابة السيرة، نؤكد أن كل مصنّف من مصنفي هذه الكتب قد نحا في مصنفه منحا مغايرا لسابقيه، أو مشابها لهم في مكان ومختلفا معهم في مكان آخر. وأتخذ منهجا موحدا في عرض حوادثه، لذا فان كل ملاحظة نسجلها لكل مصنّف من هذه المصنفات على أنها جوانب تطورية بكتابة السيرة ضمن كتب التأريخ العام هي ملاحظة تشمل باقي أقسام الكتاب؛ ولكن الجانب المهم في الموضوع هو التقاط هذه الملاحظات التي هي جوانب تطورية وتوضيح لتأثر باقي مصنفات المؤرخين سواء أكانت كتب تأريخ عام أم غيرها بكل مصنف من المصنفات التي سبقتها عند عرضهم سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم كما سنلاحظ. أما المصنفات التي وصلت إلينا في التأريخ العام فهي: 1. كتاب التأريخ لخليفة بن خياط العصفري (ت 240 هـ) : * ولد هذا المؤرخ ونشأ في البصرة من بيت علم وتتلمذ على العديد من علماء عصره ونال مكانة سامية في نفوس العلماء والناس واصبح محل ثقتهم، إذ   (*) كتب الدكتور فاروق عمر فوزي دراسة مستقلة عن خليفة بن خياط ومنهجه عنوانها (خليفة بن خياط) ، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 تضلع في الحديث وبرع في التواريخ وأيام الناس وأنسابهم، ولأجل ذلك كانت مصنفاته محل تقدير وإعجاب من اطلع عليها «8» . صنف ابن خياط كتابا في التأريخ العام عدّه بعض الباحثين من أقدم الكتب التي وصلت إلينا في هذا الجانب «9» . خصص ابن خياط في كتابه هذا حيزا كبيرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «10» مقارنة بحجم الكتاب البسيط وأوراقه اليسيرة التي تحدثت عن الحوادث التي تلت السيرة إلى عصر المؤلف «11» . أسهمت هذه السيرة التي حواها هذا الكتاب في تطور كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام وباقي المصنفات التي خصصت للسيرة سواء أكانت مستقلة أم مدمجة وهذه الجوانب هي: 1. عدّ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم البداية التي افتتح بها كتابه «12» ، إذ لم يسلط الضوء على الحقبة التأريخية التي شبقت عصر الرسالة المتمثلة بتأريخ الأنبياء وأخبار الأقوام البائدة وأيام العرب وأنساب قبائلهم، كما فعلت المصادر التي شاطرته المنحى والموضوع «13» .   (8) ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 2/ 15، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 436، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 3/ 160- 161. (9) العلي، صالح مقدمة تحقيق كتاب التأريخ لابن خياط، ص 11، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 235- 236. (10) ينظر، التأريخ، تحقيق أكرم العمري، المجمع العلمي العراقي، مطعة الاداب، النجف، ط 1، 1967، ص 8- 64. (11) ينظر، المصدر نفسه، ص 64- 520. (12) ينظر، المصدر نفسه، ص 5- 8. (13) ينظر، الدينوري أبو حنيفة، الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، وزارة الثقافة، مصر، ط 1، 1960، ص 1- 73/ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وهذا المنحى من قبل ابن خياط يثير الاستغراب والتساؤل عن السبب الذي أدى به إلى إغفال هذه الأمور؛ إذا ما علمنا أن المصادر التي ترجمت حياته ذكرت تضلعه الواسع في أيام الناس وأنسابهم «14» ، وقد انبرى أحد الباحثين لتبيان وجهة نظره حول السبب الذي من أجله عزف ابن خياط عن ذكر الحقب التأريخية التي سبقت عصر الرسالة؛ إذ أشار إلى أن ابن خياط كان مدركا للهدف الذي أراد منه كتابة تأريخه، وذلك بجعله البدء بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بداية التأريخ العربي أو من تأريخ هجرته صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة «15» . 2. إتباع المنهج الحولي في إيراد حوادث السيرة «16» ، وذلك حين أورد تلك الحوادث بحسب أسبقيتها التأريخية، ولكن هذا المنهج قد علقه جانبا عند حديثه عن عمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الشريف «17» ، وعند حديثه أيضا عن عماله ورسله وكتابه «18» ، وكانت الغاية من تعليقه لهذا المنهج عند ذكره لهذه المواضيع هو انها لا تصلح بالإيراد على وفق الحوليات بطبيعتها المستقلة في العرض. لم يقتصر في عرضه الحوادث التي حصلت في السنوات التي شملت حياة الرسول من هجرته المباركة إلى المدينة حتى وفاته بل تعدى ذلك إلى إيراد بعض   (14) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 436، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 3/ 160- 161. (15) ناجي، عبد الجبار، إسهامات مؤرخي البصرة في الكتابة التأريخية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987، ص 179- 180. (16) ينظر، التأريخ، ص 11- 58. (17) ينظر، المصدر نفسه، ص 59- 60. (18) ينظر، المصدر نفسه، ص 61- 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الحوادث التي حصلت في بلاد فارس والتي حدثت في سنوات السيرة نفسها «19» . وهذا مما يدل على أن ابن خياط لم يقتصر بحديثه على تأريخ المسلمين والحوادث التي جرت في بلاده بل خرج من هذه الدائرة إلى التعرض لحوادث حصلت في أقاليم مجاورة في بلاد الإسلام في تلك المدة. كان إتباع ابن خياط لهذا المنهج بهذه الوتيرة لكل حوادث التأريخ الإسلامي ابتداء من سيرة الرسول وانتهاء بحوادث عصره، لم يكن وليد الساعة بل هو نتيجة لتجارب مسبقة من هذا المنط بالكتابة التأريخية «20» . 3. إيراد أسماء بعض الأعلام الذين ولدوا أو توفوا في بعض السنوات التي تعرض لحوادثها «21» ، وهذا الأمر يعد فاتحة لمن أتى بعده من الذين اهتموا بإيراد أسماء الوفيات في حوادث كل سنة تعرضوا لذكر حوادثها «22» . 4. التوفيق بين ما إنتهجه المحدثون والإخباريون في عرض الحوادث التأريخية، وذلك أنه يسند الخبر إذا تعلق الأمر بحادثة اختلفت فيها الروايات «23» ، علما أنه يسترسل في ذكر بعضها من دون الإشارة إلى من ذكر هذه الحادثة من الرواة   (19) ينظر، المصدر نفسه، ص 41، 57- 58. (20) ينظر، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 236. (21) ينظر، التأريخ، ص 12، 24- 25، 41، 56، 57، 58. (22) ينظر، البخاري، التأريخ الكبير، 1/ 1، ص 7- 11، ابن الجوزي، المنتظم، مجلد 2، ورقة 143، مجلد 3، ورقة 29، 51، 65، 67، 82، 118. (23) ينظر، التأريخ، ص 8- 11، 44، 50- 51، 52- 53، 57، 59- 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 والمصنفين «24» ، إتكالا منه على إيراده مصادره المكتوبة والمسموعة أثناء حديثه «25» . وهذا التوفيق بين هذين المنهجين نابع من كونه محدثا له مكانته بين المحدثين «26» ، ومؤرخا له الباع الطويل في أيام الناس وأنسابهم «27» . شكل هذا المنحى الذي نحاه خليفة بن خياط والذين ساروا على منواله من معاصريه مرحلة انتقالية في الكتابة التأريخية تمثلت بوضع الأسس والثوابت الأولى لها، ولا سيما في طريقة عرض الخبر التأريخي والطرائق التي يعرف بها الناس، وذلك لعدم وجود مثل هذه الأمور على هذه الكيفية في المدونات السابقة له «28» . 5. عزف ابن خياط عن إيراد معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ودلائل نبوته أو التعرض لها ضمن الحوادث التي حصلت فيها ولم يقتصر هذا العزوف على هذا الجانب فقط بل تعداه إلى إغفال شمائله وصفاته التي اتصف بها صلى الله عليه وآله وسلّم في الحوادث التي ذكرها عن عصر الرسالة وأثر شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فيها، علما أن معاصرا له وهو ابن سعد قد أشبع هذه الجوانب حديثا حتى ألفت حيزا كبيرا من القسم الذي خصصه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابه الطبقات «29» .   (24) ينظر، التأريخ، ص 39، 41، 53، 56، 62- 63. (25) ينظر عن مصادر خليفة في كتابه التأريخ ومدى استعمالها فيه، العمري، أكرم، مقدمة تحقيق كتاب التأريخ، ص 26- 45. (26) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 436. (27) ينظر، ابن الأثير، اللباب في تهذيب الأنساب، 2/ 140، ابن كثير، البداية والنهاية، 10/ 322. (28) ينظر، مصطفى، شاكر، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 276. (29) ينظر، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 99- 111، 113- 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ويبدو أن سبب عزوف ابن خياط عن تعرضه لمعاجز الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ودلائل نبوته وشمائله نابع من كون كتابه التأريخ يهتم بإيراد حوادث تأريخية على وفق سبقها الزمني ابتداء من هجرة الرسول إلى رحيله إلى الرفيق الأعلى مع الإشارة إلى أن هذه الأمور [دلائل النبوة وعلاماتها والشمائل والأخلاق] هي أمور معنوية والتوثيق التأريخي لها على وفق الحوليات أمر يحتاج إلى وقفة لعدم دقة المعلومات التي وصلت إلى المؤلف عن وقت حصول المعجزة أو دلائل النبوة مع بيان أن هذه الأمور قد حصل بعضها قبل الرسالة وهو جانب قد اختصر فيه ابن خياط «30» . فلو أن ابن خياط اشفع سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم التي أوردها في كتابه بهذه الأمور لكان من الحجم والسعة ما فاق به حجمه الحالي كثيرا، ولكان هناك فارق وتباين ظاهر بين نسق الكتاب الذي تم اختزال الحوادث فيه والحيز الذي خصص للحديث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، مع العلم أن ابن خياط كان يرمي إلى ضغط واختزال المعلومات التي يثبتها في مصنفاته «31» ، وهذا ما أشار إليه أحد الباحثين أن خليفة أراد تقديم مصنف يشمل استعراضا لحوادث التأريخ الإسلامي على وفق تتابع السنوات ابتداء من هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة حتى سنة تصنيفه الكتاب بأسلوب مبسط ومختزل لتفاصيل الحوادث التي يعرضها فيه «32» .   (30) ينظر، التأريخ، ص 8- 11. (31) ينظر، العمري، مقدمة تحقيق التأريخ، ص 26. (32) ينظر، التاريخ، ص 11- 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 هذه هي الجوانب التي اضفاها خليفة بن خياط على كتابه السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام. وقبل نهاية الحديث عن دور ابن خياط في تطور كتابة السيرة، تجب الإشارة إلى أن المؤرخين الذين كتبوا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بمختلف طرائق كتابتها قد أغفلوا المعلومات التي أوردها ابن خياط عن السيرة إذ لم يعتمدوا عليه في كتبهم أو سلاسل إسناد الروايات التي تخص السيرة؛ وهذا الأمر راجع إلى طبيعة الكتاب في استعراض الحوادث موجزة ومقتضبة من جانب، واتكاله على سيرة ابن إسحاق حين يثبت معظم حوادث السيرة من جانب آخر «33» ؛ وهذان الأمران قد ولدا عزوفا عند من أتى بعد ابن خياط من المؤرخين الذين لم يلمسوا في كتابه إضافة نوعية في حوادث لم يكن له فيها فضل سوى نقلها من كتاب متوافر بين أيديهم آنذاك، وبطرائق كثيرة «34» . 2. كتاب التأريخ لأحمد بن إسحاق اليعقوبي (ت 292 هـ) *: هو أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح الإخباري العباسي، أحجمت المصادر عن إعطاء ترجمة مفصلة له وكان ذلك مدعاة لعدم معرفتنا بأحواله «35» .   (33) ينظر، المصدر نفسه، ص 12، 23، 32، 39، 41، 48، 54. (34) عن انتشار سيرة ابن إسحاق والطرق المتعددة لروايتها، ينظر، الطرابيشي، رواة محمد بن إسحاق، ص 72- 463. (*) كتب ياسين إبراهيم الجعفري دراسة مستفيضة عن اليعقوبي ومنهجه في كتابة التأريخ ووصف البلدان، ينظر، اليعقوبي، المؤرخ والجغرافي، دار الرشيد، بغداد، 1980. (35) ينظر، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 5/ 153- 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 صنف اليعقوبي كتابا في التأريخ العام ابتدأه بالحديث عن الأمم الغابرة وتأريخ الأنبياء والأقوام التي سكنت الجزيرة العربية قبل الإسلام «36» ، ثم انعطف إلى الحديث عن التأريخ الإسلامي وحوادثه ابتداء من ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حتى أيام المعتمد العباسي (256 هـ) «37» . كان لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مكان رحب في هذا الكتاب «38» ؛ الذي كتبه بعدما وجد هنالك تعارضا ملحوظا بين الرواة باستعراض الحوادث التأريخية فأراد به إيجاد مصنف يوفق بين هذه الروايات المتعارضة، وهذا ما وضحته مقالته التي مفادها: " ألفنا كتابنا هذا على ما رواه الأشياخ المتقدمون من العلماء والرواة وأصحاب السير والأخبار والتاريخيات، ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصنفه ونتكلف منه ما قد سبقنا عليه من غيرنا، لكنا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمال وزاد بعضهم ونقص بعض فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم" «39» . هذا هو الهدف الذي حدا باليعقوبي الى كتابة تأريخه هذا، مما عدّ ذلك تطورا ملحوظا في كتابة التأريخ العام «40» ، وذلك للجوانب التي أضفاها على هذا المنحى في كتابة التأريخ والتي لم نألفها في المصنفات التي تقدمته؛ إذ شملت هذه   (36) ينظر، التأريخ، 1/ 1- 238. (37) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 4- 241، 3/ 4- 247. (38) ينظر، التأريخ، 2/ 6- 111. (39) المصدر نفسه، 2/ 5. (40) ينظر، الجعفري، اليعقوبي المؤرخ والجغرافي، ص 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الجوانب محاور عدّة فشملت أجزاء الكتاب كله تارة وخص بها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم تارة أخرى، أما الجوانب التي شملت أجزاء الكتاب كله فهي: 1. بروز الأثر الديني والمذهبي في مروياته في هذا الكتاب؛ إذ لمسنا هذا الأثر من استعراض مشايخه في الرواية التي ينتهي طرق إسناد بعضها، ولا سيما قسم السيرة إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت 148 هـ) وآبائه «41» ، وما ذلك إلا لكونه شيعيا إماميا كما قطعت بذلك إحدى الدراسات «42» . اسهم هذا الجانب الذي أمتاز به اليعقوبي وكتابه التأريخ في وجود روايات لم تذكرها المصادر التي تقدمته بسبب عدم اعتماد تلك المصادر على الطريق الذي سلكه اليعقوبي في الرواية والذي أشار إليه في مقدمته بقوله: " وكان ممن روينا عنه في هذا الكتاب: إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي عن أشياخه بني هاشم، وأبو البختري ووهب ابن وهب القرشي عن جعفر بن محمد وغيره من رجاله، وإبان بن عثمان عن جعفر بن محمد ... " «43» ، فمن تلك الروايات: ذكره لحادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مشفوعة بوقت الولادة وأوانها إذ يقول: " وقال من رواه عن جعفر بن محمد [كان مولده صلى الله عليه وآله وسلّم] يوم الجمعة حين طلع الفجر لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان" «44» ، كذلك ذكره لوقت وفاة والد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عبد الله بن عبد المطلب بأنه كان بعد شهرين من مولده على ما رواه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) «45» ، وغير ذلك من الروايات   (41) ينظر، التأريخ 2/ 6، 8، 19، 29، 37. (42) الجعفري، اليعقوبي المؤرخ والجغرافي، ص 29- 30. (43) التأريخ، 2/ 5. (44) المصدر نفسه، 2/ 6. (45) المصدر نفسه، 2/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الكثيرة في هذا الكتاب التي أنفرد في ذكرها ولم يتعرض لها أحد من الذين سبقوة والذين وصلت كتبهم إلينا المتضمنة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «46» . ومع وجود هذا الجانب الذي أمتاز به كتاب اليعقوبي هذا؛ فإن ذلك لم ينعكس على موضوعيته بحيث يجعل نفسه تميل ميلا يجافي الحقيقة أو يستعمل عبارات يستشف منها التعصب والتحامل على باقي الروايات المتعارضة مع ما يعتقده من أفكار، ولأجل ذلك وصفه الدوري بالقول: " بأنه كان متزنا ودقيقا في أخباره" «47» . 2. استعمال المنهج الموضوعي في كتابة التأريخ مع حذف طرق الإسناد من الروايات التي وردت في هذا الكتاب «48» . علل الدوري بروز هذا المنحى عند اليعقوبي في كتابة التأريخ بالقول: " أن النظرة إلى الأسانيد التأريخية الهامة قد استقرت قبله لذلك فانه يكتفي بذكر مصادره في مقدمة قسمه الثاني" «49» . حدد روزنثال مكان السيرة من هذا المنهج المتبع والتطور الذي أكسبه اليعقوبي لكتابه التأريخ ضمن مصنفه هذا إذ يقول في ذلك: " وقد دون سيرة الرسول بالأسلوب المألوف حيث روى فيها عدة أخبار مرتبة ترتيبا زمنيا ما أمكنه ذلك وهي حياته قبل الإسلام، الغزوات، أما الموضوعات التي لا يمكن ترتيبها كذلك كأسماء زوجات النبي أو الفرائض الإسلامية فقد وضعها بعد   (46) ينظر، التأريخ، 2/ 13، 18، 39- 40، 53، 57، 75، 102. (47) بحث في نشأة علم التأريخ، ص 58. (48) الجعفري، اليعقوبي ص 60. (49) بحث في نشأة علم التأريخ، ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 كلامه عن تأريخ النبوة ولكن قبل كلامه عن حجة الوداع ووفاة الرسول أما باقي الكتاب فهو تأريخ خلافة كل خليفة ويبحثها عن إنفراد" «50» . هذا هو المنهج الذي اتبعه اليعقوبي في كتابه التأريخ والذي عدّ منهجا جديدا لتحرره من نمطية المنهج الحولي في إيراد حوادث كل سنة على حدة، وإحلال الكتابة على وفق المواضيع محله باستعمال الكتابة المرسلة الخالية من طرق الإسناد، فكانت محاور السيرة مقسمة لأجل ذلك على وفق الحوادث التي جرت فيها «51» . كان لهذا العامل الذي أتبعه اليعقوبي أثر واضح في المصنفات التي تلته «52» . 3. إيراد طوالع النجوم* في ذكر الحوادث الكبرى مثل ولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «53» ، المبعث «54» ، الهجرة «55» ، الوفاة «56» . علل أحد الباحثين اتجاه اليعقوبي في إيراد طوالع النجوم للأحداث الكبرى بأنه ليشبع فضول الناس أولا، ولإرضاء رغبات الحكام الذين كان يعتقدون   (50) علم التأريخ عند المسلمين، ص 185. (51) ينظر، التأريخ، 2/ 14- 18، 19- 37، 38- 58، 59- 69، 69- 70، 70- 73، 73- 76، 76- 78، 79- 98. (52) ينظر، المسعودي، مروج الذهب، 2/ 265- 269، 287- 289، 292- 297، ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، ص 2- 5. (*) هي الكواكب والنجوم التي تظهر في السماء في أثناء حصول الحادثة وقبلها ويتنبأ بها المنجمون والناس على حسن هذا الطالع وشؤمه، ينظر، نيلينو، كارلو، علم الفلك عند المسلمين، طبع أوفست، مكتبة المثنى، بغداد، د، ت، ص 14- 15. (53) ينظر، التأريخ، 2/ 6. (54) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 15- 16. (55) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 30- 31. (56) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 93- 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بهذه الأعمال ثانيا «57» ، وأبدى آخر رأيا مفاده: " ان حب الاستطلاع العلمي الذي توفر لمؤرخي القرنين التاسع والعاشر لم يتجاهل هذا العلم الذي كان مثار النقاش والجدل، من ذلك نجد اليعقوبي يشير إلى الطوالع والتنجيم في بداية كل حكم" «58» . فضلا عن هذين الرأيين آنفي الذكر يجب أن نعلي من أثر بعض شيوخه الذين اشتهروا في التنجيم أمثال محمد بن موسى الخوارزمي (توفي بعد عام 235 هـ) ، وما شاء الله الحاسب، إذ جعل أقوالهم ومصنفاتهم ضمن مصادره في كتابه التأريخ «59» . نرى من ذلك كله أن هذه العوامل مجتمعة ساعدت على بروز هذا المنحى عند اليعقوبي حتى عدّ ذلك سابقة مهمة في كتابة التأريخ عند المؤرخين والمسلمين. هذه هي الجوانب التي اضفاها اليعقوبي على كتابة التأريخ العام عند المؤرخين والتي كانت بمثابة حلقة تطورية شملت كتابة السيرة بخاصة كما شملت الكتابة التأريخية بعامة، أما الجوانب التي خص بها اليعقوبي سيرة الرسول من باقي أجزاء كتابه فهي: 1. إيراد روايات لم توردها كتب السيرة والمصادر المختلفة التي سبقته في ما بخص الخوارق والمعجزات (أعلام ودلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم) «60» ، وهذا ما يدل على اهتمام اليعقوبي بهذه الأمور وتطعيمه السيرة بالروايات التي تحدث عنها.   (57) الجعفري، اليعقوبي، ص 120. (58) روز نثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 156. (59) ينظر، التأريخ، 2/ 5. (60) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 7- 8، 13، 20، 39، 43- 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 2. خصص اليعقوبي حيزا مستقلا من السيرة التي شملها كتابه التأريخ باستعراض بعض الخطب والأحاديث والأحكام التي قالها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «61» ، إذ كان لهذه الظاهرة أثر ملموس في المصنفات التي تلت كتاب اليعقوبي هذا والتي تضمنت ذكرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «62» ، وإن لم تشر هذه المصنفات ضمنا إلى من سبقها في هذا الأمر من إيراد بعض أقوال وخطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذا الأمر ينسحب أيضا على باقي المستجدات والجوانب التي اضفاها اليعقوبي على كتابة السيرة النبوية بخاصة والتأريخ بعامة، إذ لم تجد لا السيرة ولا باقي أجزاء الكتاب مكانا واضحا في الكتب التي تلت كتاب اليعقوبي هذا من حيث اقتباس تلك الكتب لبعض نصوصه. أرجع أحد الباحثين أسباب هذه الظاهرة إلى: " أن اليعقوبي كان مثالا للعالم المتجرد الذي يعمل في صمت بعيدا عن الأضواء فمن ملاحظة مقدمات كتبه نراه لم يذكر شيئا عن نفسه ولم يدع الكمال في كتابة بحوثه كما فعل غيره ... ولذلك لم يشتهر لأنه لا يحب الشهرة، وربما يعود أيضا إلى طابع عصره إذ أن علماء ذلك العصر لم يقيموا لأنفسهم وزنا لذلك لم يكتبوا شيئا عنها" «63» ، وهذا ما يفسر لنا إنفراد الحموي عن باقي العلماء على إيراد ترجمة لليعقوبي في كتابه (معجم الأدباء) «64» .   (61) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 79- 98. (62) ينظر، المسعودي، مروج الذهب، 2/ 300- 303، ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، ص 543، 578. (63) الجعفري، اليعقوبي، ص 24. (64) ينظر، 5/ 153- 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مع كل الأسباب آنفة الذكر التي استعرضها الجعفري فانها لا تكاد تكون مقنعة تماما بالسبب الذي من أجله عزف العلماء عن اقتباس بعض نصوص هذا الكتاب أو الترجمة لمؤلفيه، إذ ان تواضع العالم ليس له اثر قوي وملموس في عدم اشتهار كتبه فقط، بل هناك أسباب أخرى قد كانت وراء هذا العزوف من قبل العلماء، وهذه الأسباب تكمن في طبيعة بعض الروايات التي أوردها اليعقوبي في ما يخص بعض الحوادث التي اختلفت فيها الاراء وتضاربت إلى حد النقيض مثل حادثة الاسراء والمعراج وتفاصيلها «65» ، والحوادث التي جرت في المغازي ومواقف بعض الصحابة منها «66» ، وحجة الوداع وما رافقها من أمور «67» ، إلى غير ذلك من الحوادث التي حدثت بعد عصر الرسالة والتي أصبحت مثار التراع والاختلاف بين المسلمين في دقة تفاصيلها «68» . إن إيراد اليعقوبي لهذه الروايات التي تحدثت عن تلك الحوادث قد اتسمت بالجرأة في التعرض إلى مواقف أحجمت عن ذكرها باقي الكتب، فضلا عن ذلك فإن الذي وصل إلينا من تأريخ اليعقوبي ليس كل كتابه الذي صنفه بل إن في نهايته نقصا، وذلك لأنه ينتهي بحوادث سنة (256 هـ) «69» ، مع العلم أن وفاته قد حددها أحد الباحثين بالسنوات القليلة التي تلت سنة (292 هـ) «70» ،   (65) ينظر، التأريخ، 2/ 22- 23. (66) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 41، 43، 44، 45- 46، 50، 52. (67) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 102. (68) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 112- 116، 146- 147، 157، 158. (69) ينظر، التأريخ، 3/ 247. (70) ينظر، الجعفري، اليعقوبي، ص 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فالفارق بين السنة التي انتهي بها الكتاب والسنة التي خمن فيها وفاة اليعقوبي هو أكثر من 36 سنة، وإن الكتاب لا توجد فيه خاتمة بل كان فيه بياض مما يحتمل أن صفحاته الأخيرة قد مسحت بفعل فاعل مع تكرار هذا المسح في مواضع عدة من هذا الكتاب «71» . وربما كان لضخامة الانتاج الفكري في ما يخص التدوين التأريخي في الحقبة التي عاش بها اليعقوبي «72» أثر في إحجام العلماء بالاقتباس من نصوصه واكتفاء الكثير منهم بالمشهور. كتب اليعقوبي مصنفه هذا بأسلوب جميل وصفه أحد الباحثين بالقول: " يتميز أسلوب اليعقوبي بالطراوة والحبك ولم يعن بالصنعة البيانية وتزويق الألفاظ كغيره من المؤرخين، وهذا أمر طبيعي فيما نراه لأن للكلمة مكانتها عند اليعقوبي فهو الناقد الذي يختار العبارة المناسبة للتعبير كما يريد بالصورة الدقيقة، فهو أسلوب ... لم نجد فيه استطرادا لا في ذكر الحوادث ... فهو يعطي الحادثة مغزاها ودلالتها لتمكن القارئ من أن يتحسسها ويتذوقها ويتعايش معها ثم يكتبها بأسلوب علمي مفهوم وبيان سلس وأسلوب جذاب ... إذ اننا ما إن نبدأ القراءة [فيه] حتى نتحسس بجاذبية خفية تشدنا إلى الكتاب وتلصقنا به والرغبة في تتبع حوادثه تغمرنا والشوق إلى التعرف إلى ما بعدها تجرنا ... ونبغي المزيد دون ملل أو سأم، فمقدرة اليعقوبي على صياغة الألفاظ ليست هي الوحيدة التي تميز بها وإنما القدرة على إعطاء الوضوح   (71) ينظر، التأريخ، 2/ 42، 68، 120، 123، 137، 140، 142. (72) ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 179- 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 للفكرة التي يريد التعبير عنها، لذلك كان تأريخه بكل ما فيه من حوادث وروايات تضفى عليها طابع الوضوح والانسجام وخالية من كل لفظ شاذ أو تعبير غريب" «73» . هذه هي المحاور والجوانب التي اضفاها اليعقوبي على كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام والتي بينت أهمية هذا الكتاب ضمن المصنفات التي تعرضت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله. 3. تأريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) *: - هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري ولد بطبرستان سنة (224 هـ) وبرع منذ صغره في علوم عصره، ونشأ نشأة أذكت في نفسه الفضيلة والزهد والرفض للمذات الدنيا من الجاه والمناصب بل حتى الزواج أيضا، ترك مصنفات عدة في التفسير والتأريخ واختلاف الفقهاء «74» . كان كتابه تأريخ الرسل والملوك من خيرة المصنفات في مجال الكتابات التأريخية، إذ عدّته إحدى الدراسات الحديثة التي تناولت نشأة وتطور التدوين التأريخي عند المسلمين القمة للهرم الذي وصلت إليه العقلية الإسلامية في كتابة التأريخ، حيث ثبتت في هذا الكتاب نهائيا وجهة نظر المحدثين في كتابة التأريخ تلك النظرة التي جعلت هدف التأريخ التعبير عن فكرة تكامل الرسالات   (73) الجعفري، اليعقوبي، ص 92. (*) كتبت العديد من الدراسات عن الطبري ومنهجه في كتابة التأريخ، ينظر، الحوفي، أحمد، الطبري، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1970، العزاوي، عبد الرحمن، الطبري السيرة والتأريخ، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1989. (74) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 2/ 162- 165، ياقوت الحموي، 18/ 94- 96، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/ 577- 578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ووحدة تجارب الأمة كجزء من التعبير عن المشيئة الإلهية وعن إرادته تعالى في الفعاليات البشرية «75» . خص الطبري سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابه هذا بحيز كبير تناول فيه الحوادث التي جرت منذ ولادته صلى الله عليه وآله وسلّم إلى وفاته «76» . كانت السيرة النبوية لبنة أساسية من لبنات هذا المصنف لما حوته من حوادث تناولها بالتفصيل والاتساع، إذ كان هذا الكتاب كسابقيه من حيث إن مصنفه قد أتخذ منهجا خاصا في كتابة تأريخه من أوله إلى آخره إذ كانت حوادث السيرة ضمن هذا الخضم الهائل من المعلومات التي دونها الطبري في كتابه هذا فشمل السيرة بالمنهج الذي اتبعه في كتابته للتأريخ مما أدى إلى انسحاب كل تطور يحصل في هذا الكتاب إلى السيرة النبوية ويسجل لصالحها، والتطور الذي أكسبه الطبري للكتابة التأريخية قد تركز في محاور عدة هي: 1. كتابة تأريخ عام على وفق منهج حولي يتناول الحوادث على سنوات وقوعها «77» ، فتكون السنة هي الموضوع والحوادث التي تجري فيها هي المادة التي تستعرض فيها «78» . والجديد في هذا المنهج الذي سبقه إليه كثيرون «79» ؛ إنه قد أدسى فيه الدعائم والثوابت الأخيرة في كتابة الحوليات التأريخية عند المسلمين، وذلك   (75) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 32. (76) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 239- 657، 3/ 9- 217. (77) ينظر، العزاوي، الطبري السيرة والتأريخ، ص 189- 197. (78) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 394- 406، 407- 486، 487- 537. (79) ينظر، عن تطور استعمال المنهج الحولي في كتابة التأريخ عند المسلمين، العمري، موارد الخطيب البغدادي في تأريخ بغداد، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ص 127- 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 بوضع حد فاصل بين كتابة التأريخ على وفق الحوليات أو المواضيع مع استعمال المنهج الموضوعي في التعرض لإشباع السنوات التي حصلت فيها الحوادث «80» . 2. الحيادية والصراحة وعدم المحاباة في عرض الروايات المتعارضة في الخبر الواحد أو التي أحجمت بعض المصنفات من إيرادها، وهذا ما بينته مقالته التي افتتح بها كتابه والتي مفادها: " وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره في مما شرطت أني راسمه في إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والاثار التي أنا مسندها إلى رواتها دون ما أدرك لحجج العقول واستنبط بذكر النفوس إلا اليسير منه إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضيين وما هو كائن في أنباء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهده ولم يدرك زمانه إلا بأخبار المخبرين ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضيين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يأت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض الناقلين إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا" «81» . فهو بذلك يبرئ ذمته من كتابه ويرى أنه قد أدى أمانة نقلها إلى الناس ولهم الحكم الأول والاخر عليها من حيث صحة أو كذب مضامينها.   (80) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 239- 393، 3/ 159- 183. (81) المصدر نفسه، 1/ 7- 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 3. الفهم لتجارب من سبقه من المصنفين في مختلف المعارف في التفسير والتأريخ والحديث مع الاستفادة من حركة الترجمة للمصنفات الأجنبية إلى العربية، مما إنعكس ذلك على طبيعة كتابه وطريقة عرضه لرواياته «82» . 4. ذكر النصوص الشعرية مشفوعة بالروايات التي تضمنت الحوادث التي قيلت فيها هذه النصوص «83» ، مع العلم أن ذكره لهذه النصوص لم يجر على وتيرة واحدة في السيرة التي تضمنها كتابه هذا؛ إذ اختصر الطبري منها محل الشاهد «84» . كانت وراء هذا الجانب الذي إنتهجه الطبري في إيراد الحوادث التأريخية مشفوعة بما قيل فيها من أشعار، دوافع عدة هي: أ. اهتمام الطبري بالشعر وولعه بروايته وحفظه، إذ أورد الحموي آراء العديد من العلماء في مقدرة الطبري وقوة حافظته للشعر الذي قيل قبل الإسلام وإثنائه. «85» ، حتى وصفه بالقول: " وكان يحفظ من الشعر للجاهلية والإسلام ما لا يجهله إلا جاهل به" «86» . ب. سعة اطلاع الطبري على الروايات التي حوت في طياتها أخبارا عن حوادث مضت وتضمنت أشعارا قيلت في مناسباتها، كل ذلك مكنه من أن يرصع كتابه بمجموعة صالحة من القصائد البديعة والمقطوعات الجميلة «87» .   (82) ينظر، أدهم، علي، بعض مؤرخي الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، 1974، ص 43. (83) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 380، 448، 3/ 10- 11، 24، 45، 51، 58، 69، 116- 119. (84) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 351، 385، 439، 3/ 38، 48، 64، 86- 87، 116- 117، 171. (85) ينظر معجم الأدباء، 18/ 50. (86) المصدر نفسه، 18/ 50. (87) ينظر، أدهم، بعض مؤرخي الإسلام، ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 هذه هي الاسهامات التطورية التي كسبها الطبري للكتابة التأريخية، مع العلم بوجود اسهامات أخرى أقل منها أثرا تناولتها الدراسات التي تحدثت عن منهج الطبري وأسلوبه في كتابة التأريخ «88» ، وهذه الأمور أدت بدورها إلى جعل السيرة التي تضمنها هذا الكتاب من السير النموذجية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لما حوته من جوانب أسهمت اسهاما فاعلا في تطور كتابة السيرة ليس في كتب التأريخ العام فحسب بل في باقي الكتب التي تناولت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله وهذه الجوانب هي: 1. تضمين القسم الذي خصص لسيرة الرسول باقتباسات كثيرة من السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق، وذلك بطريق مختلف عن الطريق الذي سلكه ابن هشام للوصول إلى السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق، إذ اعتمد على رواية سلمة بن الفضل الأبرش* لهذه السيرة، وذلك في (204) نصوص، حتى عدّه الحموي الطريق الأساس الذي بنى عليه الطبري تأريخه عند تعرضه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «89» . ولأجل ذلك تضمنت السيرة التي وردت في تأريخ الطبري روايات عديدة لم يتطرق لها ابن هشام في التهذيب الذي عمله لسيرة ابن إسحاق، ولا سيما روايات العصر الذي يسبق الرسالة الإسلامية «90» .   (88) ينظر، الحوفي، الطبري، ص 225، العزاوي، الطبري السيرة والتأريخ، ص 225- 230. (*) قاضي الري، كتب سيرة ابن اسحاق في قراطيس، وفضلت روايته لسيرة ابن اسحاق لحال تلك القراطيس، توفي سنة 191، ينظر، إبن حجر، تهذيب التهذيب، 4/ 153، الطرابيشي، رواة محمد بن اسحاق، ص 147- 151. (89) ينظر، معجم الأدباء، 18/ 50. (90) ينظر، التأريخ، 1/ 93، 95، 104، 225، 322، 2/ 24، 119، 121، 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 2. الاهتمام بإيراد النصوص الشعرية مشفوعة بمعظم الروايات التي أرخ فيها حوادث السيرة التي بلغت أكثر من (73) نصا شعريا موزعا على أماكن متفرقة في القسم الذي خصصه الطبري لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابه التأريخ «91» . تمكن قيمة هذا الشعر الذي ذكره الطبري مع حوادث السيرة في أمرين: أ. إيراده نصوصا شعرية لم ترد عند غيره من المتقدمين الذين تعرضوا لحوادث السيرة والشعر الذي قيل فيها «92» ، مثل شعر الإمام علي (عليه السلام) وأبي دجانة الأنصاري في معركة بدر «93» . ب. إيراده الشعر الفاحش والمقذع الذي أحجم ابن هشام عن ذكره عند تهذيبه لسيرة ابن إسحاق بعدما أشار إلى ورود شعر مقذع فيها «94» ، فمن الشعر الفاحش الذي أورده الطبري ما تعرض به حسان بن ثابت لزوج أبي سفيان (هند) بالألفاظ النابية والمقذعة «95» . 3. هضم التجارب السابقة له التي صنفت فيها مصنفات مستقلة، وذلك بتضمين هذه المصنفات بمصنف يجمع المهم منها، إذ أشار إلى ذلك أحد الباحثين بالقول: " وهذا ما سمح بالطبري أن يحتفظ في كتابه بكثير من المقتطفات التأريخية المبكرة في الوجود والتي لا توجد إلا في كتابه، ... وقيمة الطبري إنما هي   (91) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 210، 266، 274، 276، 391، 548، 549، 3/ 38، 39، 48، 135. (92) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 245- 246، 291. (93) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 533. (94) ينظر، السيرة النبوية، 1/ 4. (95) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 488. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 خاصة في حفظ هذه المادة الضائعة وليس بالرأي الذي أعطاه فيها" «96» ؛ وينتهي هذا الباحث بالاستنتاج إلى أن من الأسباب غيرا لمباشرة في ضياع قسم من تلك المدونات التأريخية الأولى هو ما أورده الطبري من مقتبسات من هذه المدونات حتى جعل أمر البحث عنها من قبل الذين عاصروه أو الذين أتوا بعده أمرا لا طائل منه ما دام أنه استقى خلاصة هذه الكتب ووضعها في كتابه «97» . ومن أهم الكتب الذي حفظ لنا قسما منها في الحيز الذي خصصه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هي: 1. كتاب المغازي لأبي معشر نجيح المدني (ت 170 هـ) الذي ذكره ابن النديم ضمن المصنفات التي عددها في كتابه الفهرست «98» ، اعتمد الطبري على هذا الكتاب في أربعة مواضع «99» . 2. كتب هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204 هـ) التي صنفها في مختلف مواضيع السيرة والتي أحصى ابن النديم أسماءها «100» ، واقتبس الطبري من مصنفاته تلك أكثر من عشرين نصا «101» . 3. كتب محمد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ) في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله التي بلغت أكثر من عشرة مصنفات بحسب تعداد ابن النديم لها «102» ،   (96) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 258. (97) المصدر نفسه، 1/ 258. (98) ينظر، ص 107. (99) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 340، 3/ 123، 240، 313. (100) ينظر، الفهرست، ص 108- 110. (101) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 239، 246، 250، 252- 254، 260- 262، 3/ 160، 164. (102) ينظر، الفهرست، ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 إذ اعتمد الطبري على هذه المصنفات في مواضع عديدة من كتابه ولا سيما عند الترجيح بين الروايات المتضاربة «103» ، هذه هي المصادر المكتوبة التي أردفت كتاب الطبري بالروايات العديدة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، أما باقي المصادر التي اعتمد عليها الطبري في ذكره لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فكانت مرويات شفوية غير مدونة حصل عليها الطبري سماعا من أفواه قائليها من دون إشارة المصادر التي تولت ترجمة شيوخه في الرواية إلى قيامهم بتصنيف كتاب في السيرة أو غيرها «104» . إن الكلام آنف الذكر لا يعدو كونه مجرد احتمالات توفيقية بين مسانيد روايات الكتاب والمصنفات التي كتبها شيوخ الطبري الذين وردت لهم مصنفات ذكرتها الكتب التي ترجمت لهم، وربما تكشف لنا الأيام عن تلك المصنفات فتكون تلك الأحكام التي ذكرناها قطعية أو تبقى مجرد تخمين لا أساس له من الصحة. من هذا كله نرى أن هذا الأسلوب في الكتابة لا يعدّ جانبا تطوريا بحد ذاته وإنما يعد إسهاما مهما في رفد السيرة النبوية بمرويات ومصنفات متقدمة لم تصل إلينا. 4. إفراد فقرات مستقلة من السيرة التي كتبها الطبري عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابه هذا للحديث عن الجوانب الشخصية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مثل أزواجه ومن   (103) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 137، 157، 165، 235، 237، 246، 264، 265، 281، 3/ 21، 22، 62، 159. (104) ينظر، علي، جواد، موارد تأريخ الطبري، مجلة المجمع العلمي العراقي، ج 1، عدد 1، السنة الأولى، 1950، ص 179- 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 خطب منهن ولم ينكحهن «105» ، وسراريه «106» وغير ذلك من الجوانب الشخصية التي زخرت بها سيرة الرسول في كتاب الطبري هذا «107» ، وهذا ما لا نجده في المصنفات التي سبقت كتابه هذا سواء أكانت في التأريخ العام أم في غير هذه الكتب التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. 5. إغفال الطبري في كتابه هذا ذكر المعاجز والخوارق (دلائل وأعلام النبوة) التي حصلت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، معللا ذلك بقوله: " والأخبار الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، ولذلك كتاب يفرد إن شاء الله «108» ، وهذا يبين لنا منحى الطبري في عدم تضخيم الكتاب بأخبار عاهد نفسه على أن يخصص لها مصنفا مستقلا؛ ولسوء الحظ لم تشر المصادر التي ترجمت له ولمصنفاته إلى تصنيفه هذا الكتاب، إذ لم تذكره ضمن مصنفاته أو ضمن الكتب التي صنفت في هذا الموضوع من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. 6. وجود أثر ملحوظ لاهتمامات الطبري بالقرآن وتفسيره في قسم السيرة النبوية من كتابه التأريخ وذلك حين يورد الروايات المتعلقة بأسباب نزول عدد جم من الايات القرآنية في الحوادث التي يعرضها في كتابه «109» . وفي ذلك يعكس مكانته بوصفه مفسرا للقرآن الكريم في كتابه ذائع الصيت [جامع البيان   (105) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 160- 168. (106) ينظر، المصدر نفسه، 3/ 169. (107) ينظر، المصدر نفسه، 3/ 169- 183. (108) تأريخ الرسل والملوك، 2/ 297. (109) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 567، 570، 571، 617، 622؛ 3/ 49، 102، 103، 110- 111، 150- 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 في تفسير القرآن] الذي وصف بالقول: " لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا" «110» . علل أحد الباحثين هذا الميل عند الطبري بأنه أراد أن يكون تأريخه تكملة لتفسيره الكبير، ولهذا أورد الروايات التأريخية بالوضوح والتدقيق والتحري نفسه الذي إتسم به التفسير «111» ؛ وهذا ما أوضحه قول الطبري الذي أورده ياقوت الحموي والذي مفاده: " قال أبو جعفر الطبري لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة! فقالوا: هذا مما يفني الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: أتنشطون لتأريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر التفسير" «112» . وحدد الحموي تاريخ شروع الطبري بإملاء تفسيره بسنة (283 هـ) ، وحدد إنهاءه بسنة (290 هـ) ، أما التأريخ فقد كتبه سنة (303 هـ) «113» . من هذا كله نرى أن هناك ترابطا صميميا بين كل من تفسير [جامع البيان في تفسير القرآن] و [تأريخ الرسل والملوك] ، انعكست آثاره على ما ورد فيهما من روايات؛ فقد كان يستشهد بالرواية التي يوردها بتفسيره الجامع في كتابه التأريخ، ومثال ذلك سبب نزول آية بدء القتال في معركة بدر   (110) ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 42. (111) جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 156. (112) معجم الأدباء، 18/ 42. (113) المصدر نفسه، 18/ 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «114» إذ وردت هذه الرواية في التفسير والتأريخ معا «115» ؛ وسبب نزول آية تحويل القبلة «116» الذي ذكر رواية نزولها في التفسير والتأريخ أيضا «117» ، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المشتركة بين الكتابين معا «118» . 7. مناقشة بعض الروايات والترجيح بينها، الأمر الذي بين لنا أن الطبري لم يكن ناقلا حسب بل حاول تقديم الروايات التي وصلت إليه في حادثة معينة ومناقشة هذه الروايات من حيث قوتها وضعفها، حين أورد عبارات متعددة تدل على الترجيح بين هذه الروايات، فمن تلك استعماله لكل من عبارات: [في ما يزعمون، أو يزعم، أو قيل] «119» ، والزعم في اللغة هو القول الذي يحتمل الصدق أو الكذب، أو الأمر الذي نستيقن أنه حق وإذا شك فيه لم ندر كذبه فنقول زعم فلان «120» . فإذا كان هذا الكلام الذي علق به الطبري على بعض الروايات، والذي تضمن وجهة نظره الصريحة في الخبر، فأين القائل الذي صرح وقطع بان الطبري   (114) سورة البقرة، آية 217. (115) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 414، جامع البيان، 4/ 305- 306. (116) سورة البقرة، آية 144. (117) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 146، جامع البيان، 3/ 173. (118) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 417، 421، 424، 447، جامع البيان، 2/ 521، 3/ 399، 409، 443، 578. (119) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 270، 272، 282. (120) ينظر، الزبيدي، تاج العروس، مادة (زعم) ، 8/ 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لم يكن محللا للروايات ومعللا لأحداثها أو ناقدا لها؟ «121» ؛ وذلك اعتمادا منه على مقالة الطبري التي أفتتح بها كتابه والتي يبين فيها أنه لم يكن سوى ناقل للأخبار «122» ؛ ولكن الطبري قد خرج من هذا المسار الذي أراد أن يلزم نفسه به. هذه هي الجوانب التي اضفاها الطبري على كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام بخاصة، وكتب السيرة النبوية بعامة. 4. مروج الذهب ومعادن الجوهر، والتنبيه والأشراف لعلي بن الحسين المسعودي (ت 345 هـ) * هو أبو الحسن علي الحسين بن علي الهذلي، يرجع نسبه إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، نشأ في عاصمة الخلافة بغداد وجاب الأقطار والبلدان ورحل شرقا وغربا للاطلاع والسماع من أهل العلم والدراية والاستفادة من ثقافات الشعوب والأمم، فوصف الأماكن التي زارها في ثنايا كتبه، ولأجل ذلك جمع من الحقائق التأريخية والجغرافية ما لم يسبقه إليه أحد، وافاه الأجل المحتوم في الفسطاط بأرض مصر «123» .   (121) ينظر، أدهم، بعض مؤرخي الإسلام، ص 24. (122) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 1/ 7- 8. (*) كتب الدكتور جواد علي بحث [موارد المسعودي في التأريخ] ، مجلة سومر، دائرة الاثار، العراق، 1964، مج 20/ ج 1، 2/ 1- 49. وكتب الدكتور علي حسين الخر بوطلي دراسة وافية عن المسعودي عنوانها [المسعودي] ، دار المعارف، القاهرة، 1968. وكتب هادي حسين حمود دراسة عنه عنوانها [منهج المسعودي في بحث العقائد والفرق الدينية] ، دار القادسية، بغداد، ط 1، 1984. (123) ينظر، النجاشي، أحمد بن علي، الرجال، يوميى، 1317 هـ، ص 178- 179، السبكي، طبقات الشافعية، 2/ 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 شغلت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مكانا بارزا في مصنفات المسعودي ولا سيما كتبه التي خصصها للحديث عن التأريخ العام للمسلمين وغيرهم، وذلك من الإشارات المتكررة التي حوتها المصنفات التي وصلت إلينا من نتاج المسعودي مثل كتاب (مروج الذهب) وكتاب (التنبيه والأشراف) «124» ، فلو كانت تلك المصنفات التي أحال إليها المسعودي موجودة لوجدنا مدى الحجم الهائل الذي خصص لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم منها، ولكن لم يسلم من تراث المسعودي سوى هذين الكتابين آنفي الذكر، واللذين سنستعرض مكانة كل منهما في الإطار العام لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، في كتب التأريخ العام. أولا: كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر: إن هذا الكتاب في الأصل هو مختصر لكتابيه: (الكتاب الأوسط في الأخبار) ، و (أخبار الزمان ومن أباده الحدثان) ، إذ بين المسعودي هذا الأمر في ديباجة كتابه هذا «125» . اتبع المسعودي في كتابه هذا منهجا موضوعيا تناول فيه الحوادث بحسب وقائعها دون الاعتماد على السنوات التي حصلت فيها تلك الحوادث «126» . اتسمت كتابة المسعودي للتأريخ في كتابه هذا بأنها قد اضفت طابعا تجديديا له، وذلك في قيام المسعودي باستعراض كتب التأريخ والأخبار قبله وتحليلها ونقدها وتبيان مواطن القوة والضعف فيها، وهذا ما بينته مقالته التي مفادها:   (124) ينظر، مروج الذهب، 2/ 217، 281، 283، 284، 285، 298، التنبيه والأشراف، ص 4- 5. (125) ينظر، مروج الذهب، 1/ 9- 10. (126) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 265- 269، 287- 289، 292- 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 " وقد ألف الناس كتبا في التأريخ والأخبار ممن سلف وخلف، وأصاب البعض وأخطأ بعض آخر ... " «127» . كان هذا المنحى الذي أتبعه المسعودي في كتابة التأريخ يعدّ نقلة نوعية في أساليب الكتابة التأريخية عند المسلمين وذلك باتباعهم مناهج يعمل بها الان في الدراسات الأكاديمية التي تعنى بنقد وتحليل المصادر، إذ يشير هذا الأمر إلى كون المسلمين قد ابتكروا هذا الأمر قبل عشرة قرون من الان، وهذا ما يعدّ اسهاما حضاريا اضفته عقلية المسعودي على الكتابات التي صنفت من قبل المسلمين. فضلا عن هذا فإن المسعودي قد نبهنا في مقدمة كتابه هذا إلى ظاهرة لم ينتبه لها المصنفون الذين سبقوه في الكتابة وذلك بحصول حذف وشطب وسرقة لبعض المصنفات التي كتبها العلماء في عصره، إذ يقول مبينا هذا الأمر: " وقد وسمت كتابي هذا بكتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) لنفاسة ما حواه وعظم خطر ما استولى عليه من طوالع بوارع ما تضمنته كتبنا السالفة في معناه ... وجعلته تحفة للأشراف من الملوك وأهل الدرايات ... فمن حرف شيئا من معناه أو أزال ركنا من مبناه أو طمس واضحة من معالمه أو لبس شاهده من تراجمه، أو غيره أو بدله أو اشانه أو اختصره أو نسبه لغيرنا أو أضافه لسوانا فوافاه من الله ووقوع نقمه وفوادح بلاياه ما يعجز عن صبره ويحار له فكره وجعله الله مثلة للعالمين وعبرة للمعتبرين، وآية للمتوسمين وسلبه الله ما أعطاه وحال بينه وبين ما أنعم عليه من قوة ونعمة مبتدع السموات والأرض من أي الملل كان والاراء أنه على كل شيء قدير" «128» ، ويذكر بعد هذا التحذير   (127) المصدر نفسه، 2/ 12. (128) مروج الذهب، 2/ 18، 4/ 409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 والتخويف تسويغا لذلك، إذ يقول: " وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي هذا وآخره ليكون رادعا لمن ميله هوى أو غلبه شقاء فيراقب أمر ربه وليحادر منقلبه فالمدة يسيرة والمسافة قصيرة وإلى الله المصير" «129» . بين لنا هذا الكلام وجود حالات سرقة وتحريف لبعض المصنفات وشطب لبعض المعلومات التي ترد فيها وذلك في عصر المسعودي أو العصر الذي سبقه، فلولا وجود هذه الظواهر في عصره لما كتب هذه العبارات التي يستشف منها الخوف الذي اعترى المسعودي على كتابه هذا من قيام بعض العابثين بتغيير معاله أو بتغيير نسبته إليه؛ وهذا أمر لم نألفه في المصادر التي تقدمته، لاعتزازه الكبير بما كتب من أمور في كتابه هذا والطريقة التي عرض بها الحوادث التي أرخها فيه. شغلت السيرة النبوية حيزا بسيطا من هذا الكتاب «130» ، ولكن المنحى الكتابي لهذه الصفحات القليلة قد تنوع تنوعا جوهريا من حيث أسلوب عرضه الذي لم نألفه في المصادر المتقدمة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذا المنحى الذي أكسب كتابة السيرة عند المسعودي ضمن التأريخ العام بخاصة والسيرة بعامة تطورا، وذلك لعدة أسباب هي: 1. التقديم والتأخير في حوادث السيرة، وعدم الالتزام بالأسبقية الزمنية لكل حدث حين عرضه «131» ، وهذا الأمر ناشئ عن كون المسعودي قد أنتهج نهجا موضوعيا في عرض حوادث كتابه، ولم يقتصر على هذا الحد بل قام أيضا   (129) المصدر نفسه، 2/ 18. (130) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 272- 299. (131) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 277، 280، 285، 287، 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بتكرار بعض الحوادث التي عرضها في أماكن مختلفة في قسم السيرة من كتابه هذا*. وهذا الأمر قد تنبه له أحد الباحثين، إذ أشار إلى ذلك بالقول: " إنه لم يركز بحوثه [المسعودي] وفصول الكتاب الواحد فبينما هو مشغول في موضوع خاص تراه يطفر فجأة إلى موضوعات أخرى فينفصل عنها ويتبسط في الكلام عنها، حتى إذا ما انتهى منها أحس بأنه قد إبتعد عن الموضوع، عاد فيعتذر عن هذا الاستطراد ملمحا بأنه قد بحث عنه بحثا مبسطا في كتبه السابقة، ولذلك فهو يكتفي بما أورده ليعود إلى موضوعه الذي كان فيه ... " «132» ، وينتهي هذا الباحث إلى عدّ هذا المسلك من قبل المسعودي مسلكا إتسم بالعجلة في كتابة المصنفات وعدم رجوعه إلى ما دوّنه سابقا، الأمر الذي أوجد تناقضا في ما كتب حتى أن بعض المستشرقين- على حد قوله- قد وصف منحى المسعودي هذا بالتسرع وقلة الصبر وعدم تمكنه من تركيز جهده في موضوع واحد وبتنقله من موضوع إلى آخر وباستطراده وخروجه من موضوعات رئيسة إلى موضوعات ثانوية «133» . 2. الاقتضاب والاختصار واختزال حوادث السيرة ومتعلقاتها إلى أقصى حد ممكن إذ أشار إلى ذلك الأمر في مقدمته التي افتتح بها كتابه هذا الذي جعله   (*) كرر الحديث عن أخبار الرسول وأحواله صلى الله عليه وآله وسلّم في مولده في ثلاثة مواطن: 2/ 272، 274، 280. وكرر الحديث عن الحوادث التي حصلت في أيامه صلى الله عليه وآله وسلّم قبل البعثة في موضعين: 2/ 275، 280، 294، وكرر الحديث عن وفاته صلى الله عليه وآله وسلّم في ثلاثة مواضع: 2/ 287، 291، 297. (132) علي، موارد المسعودي في التأريخ، مجلة سومر، مج 20، ج 1، ص 21. (133) علي، المصدر نفسه، ص 20- 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 مختصرا لكتابين من كتبه «134» ، إذ أدى ذلك بطبيعة الحال إلى أن يستعمل أسلوب الإحالة إلى الكتب التي صنفها أو صفحات كتابه هذا وذلك في الموضوع الذي اقتضب فيه الحديث «135» . علل المسعودي انتهاجه هذا المسلك بقوله: " ولم نعرض في كتابنا هذا لكثير من الأخبار بل لوحنا بالقول فيها تخوفا من الإطالة ووقوع الملل، إذ ليس ينبغي للعاقل أن يحمل البنية على ما ليس في طاقتها ويسوم النفس ما ليس في حيلتها، وإنما الألفاظ على قدر المعاني" «136» . ان مسلك المسعودي هذا هو أسلوب جديد في الكتابة، إذ لم نألفه بهذه الشاكلة عند من سبقه، باستثناء اليعقوبي الذي أحال إلى بعض صفحات كتابه (التأريخ) «137» ، والطبري الذي فعل الأمر نفسه ولكن ليس بالصيغة التي انتهجها المسعودي «138» . حفز هذا المسلك العلماء الذين أتوا بعده على السير على مساره وإتباع نهجه باختصار مواضيع كتبهم وذلك باستعمال الإحالة إلى المصنفات أو الصفحات من الكتب التي توسعت بذكر تفاصيل الحوادث التي تطرقوا لها «139» .   (134) ينظر، مروج الذهب، 2/ 9- 10. (135) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 274، 277، 281، 283، 284، 285، 290، 291، 292، 303. (136) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 271. (137) ينظر، التأريخ، 2/ 33، 51، 56. (138) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 276، 3/ 183. (139) ينظر، ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 25، 28، ابن حزم، جوامع السيرة، ص 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 3. الابتعاد عن عرض الجوانب الشخصية والإعجازية في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مثل دلائل نبوته وصفاته ومقتنياته من أسلحة وأدوات ودواب، إذ لم يورد أية رواية تضمن ذكرا لهذه الجوانب باستثناء رواية واحدة تعرض فيها لحادثة شق الصدر من قبل الملكين اللذين أخرجا علقة من قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «140» . وقد يكون سبب عزوف المسعودي عن عرض هذه الجوانب طبيعة الكتاب الذي جعله مختصرا على لمع من الأخبار من دون التعرض لتفاصيل الأحداث ومتعلقات الأمور. 4. إيراد الروايات المتعارضة والمختلف فيها بين المؤرخين أنفسهم «141» ، فمن ذلك ما أورد من روايات عن إسلام الإمام علي (عليه السلام) وما قيل فيه، وقد أحال المسعودي بعد ذلك إلى الكتب التي صنفها والتي عرض فيها هذا الموضوع بإسهاب «142» ، وكذلك أورد الاراء المختلفة في أسماء أجداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعد جده عدنان «143» ، إذ بين سبب ذكره هذا الاختلاف بأنه أعلم الناس بعدم اتفاق المؤرخين حول ذلك «144» . علل المسعودي هذا المنحى بغاية أجملها في كتابه قائلا: " وإنما حكينا هذا الخلاف ليعلم من نظر في كتابنا هذا أنا لم نغفل شيئا مما قالوه ولا تركنا شيئا ذكروه إلا انا ذكرنا ما تأتى لنا ذكره، وأشرنا إليه" «145» .   (140) ينظر، مروج الذهب، 2/ 281. (141) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 279، 284، 286، 287- 288، 289، 290. (142) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 283. (143) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 273، 274. (144) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 274. (145) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 5. إيجاد منهج توفيقي بين الاستعراض الحولي للحوادث التي تجري في السنة الواحدة، والاستعراض الموضوعي، إذ تعرض للحوادث باستقلالية عن التي تليها؛ وهذا ما رأيناه واضحا في قسم السيرة من كتابه [مروج الذهب] . إذ أجمل المسعودي فيه حوادث سنوات عمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الشريف في فقرات مستقلة ومبعثرة في أماكن مختلفة من هذا القسم، ورأيناه بعد أن عرض حوادث الرسالة في أبواب مستقلة يقوم في خواتم هذه الأبواب بكتابة فقرة تجمع هذه الحوادث في تقسيمها على سنوات عمره الشريف وذلك حين يعرض هذه السنوات وما حصل فيها من حوادث أسماها" جماع الحوادث" «146» . أوضح المسعودي منحاه هذا والدافع الذي حداه على كتابة السيرة بهذه الشاكلة بأنه ليقرب تناولها ويسهل الأخذ من أخبارها «147» . ولم يقتصر على هذا الحد بل حاول الفصل بين سنوات عمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قبل الهجرة وبعدها، فقد استعرض حوادث سنوات عمره الشريف من السنة الأولى حتى سنة (54 هـ) ؛ وإن كان استعراضه لهذه السنوات متعاقبا ومقتصرا على حوادث السنوات المشهورة «148» ، ويعرج بعد ذلك على حوادث هذه السنوات باستعراضها على وفق سنين التقويم الهجري وليس على حساب سنوات عمره الشريف «149» . وهذا المنهج الذي إتبعه المسعودي في كتابه هذا منهج مستحدث وجديد وغير مطروق عند من سبقه.   (146) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 280- 282، 285- 291، 292- 297. (147) ينظر، مروج الذهب، 2/ 292. (148) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 292- 294. (149) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 294- 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 هذه هي أهم الجوانب التي أضافها المسعودي إلى كتابة السيرة النبوية ضمن كتابه [مروج الذهب ومعادن الجوهر] . ثانيا: التنبيه والأشراف: صنف المسعودي كتابه هذا بعد أن صنف كتابه [مروج الذهب] ، إذ جعل الأخير من ضمن مصادر هذا الكتاب «150» ، وهذا الأمر هو الذي حدانا على عرض هذا الكتاب بعد كتاب المروج في التحليل لقسم السيرة منهما. خصص المسعودي في كتابه هذا حيزا جيدا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «151» ، وقد ناهز ما خصصه المسعودي للسيرة ضعف ما خصصه في كتابه المروج «152» ، علما أن حجم كتاب المروج هو ضعف حجم كتاب التنبيه تقريبا. قبل عرض المناحي التطورية لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتاب التنبيه يجب عقد مقارنة بين هذا الكتاب والكتاب الذي سبقه، لأجل معرفة نقاط الاختلاف والشبه بينهما ومن ثم الاستفادة من هذه المقارنة باستنباط الاسهامات التطورية لكتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام وغيرها؛ ونقاط الاختلاف والشبه بين الكتابين تتلخص بالاتي: 1. إن المصادر التي اختصر المسعودي منها كتابه التنبيه هو أكثر من قرينتها في المروج، إذ جعل كتابه التنبيه مختصرا لستة من كتبه أجملها في قوله الذي مفاده: " فإننا لما صنفنا كتابنا الأكبر في [أخبار الزمان ومن أباده الحدثان] ....   (150) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 4. (151) ينظر، المصدر نفسه، ص 195- 246. (152) ينظر، مروج الذهب، 2/ 272- 299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وشفعناه ب [الكتاب الأوسط] في معناه ثم قفوناه بكتاب [مروج الذهب ومعادن الجوهر] .... ثم تلينا ذلك بكتاب [فنون المعارف وما جرى في الدهور والسوالف] وأتبعناه بكتاب [الاستذكار لما جرى في سالف الأعصار] ذكرنا في هذه الكتب الأخبار عند بدء العالم والخلق ... وذكرنا في كتاب [نظم الأعلام في أصول الأحكام] وكتاب [نظم الأدلة في أصول المللة] وكتاب [المسائل والعلل في المذاهب والملل] تنازع المتفقهين في مقدمات أصول الدين والحوادث التي اختلفت فيها آراؤهم .... وغير ذلك من فنون العلم، وضروب الأخبار، مما لم تأت الترجمة على وصفه، ولا انتظمت ذكره، رأينا أن نتبع ذلك بكتاب سابع مختصر نترجمه بكتاب [التنبيه والأشراف] .... نودعه لمعا من .... تواريخ الأمم .... وغير ذلك من أحوالها وما اتصل بذلك من التنبيهات على ما تقدم جمعه وتأليفه وذكر مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومبعثه وهجرته وعدد غزواته وسراياه وسواربه وكتابه ووفاته .... " «153» . وهذا ما يجيبنا عن سبب اتساع المعلومات التي دونها في هذا الكتاب عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مقارنة بكتابه [مروج الذهب] ؛ وذلك لأن المسعودي قد اعتمد على اثنين من كتبه [أخبار الزمان، الأوسط في الأخبار] اختصر هما وأخرج منهما هذا المصنف «154» .   (153) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 4- 5. (154) ينظر، مروج الذهب، 1/ 9- 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 2. التوثيق التأريخي للحوادث المهمة لسيرة الرسول (المولد، البعثة، الهجرة، الوفاة) على وفق التقاويم العالمية المعمول بها آنذاك «155» . وهذا الأمر هو خصيصة خص بها المسعودي السيرة النبوية في كتابه التنبيه والأشراف حصرا من دون كتابه السابق المروج، ولم نجده في باقي المصنفات التي تعرضت لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. أما توثيقه للحوادث في كتابه المروج فقد تنوع ما بين التوثيق على وفق الحوادث للمرحلة التي سبقت البعثة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وسنوات عمره الشريف أو سنوات الهجرة من دون الإشارة إلى غيرها من التواريخ «156» . 3. أورد المسعودي في كتابه هذا قسما من الايات والمعاجز الدالة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في عرضه حوادث السيرة «157» . 4. التشابه في إجمال الحوادث التي يوردها، وإحالة القارئ إلى مصنفاته الأخرى؛ إذ أشار أكثر من مرة إلى منهجه في اختصار الأخبار وإجمالها في كل من كتابيه المذكورين «158» . هذه هي أوجه الشبه والاختلاف بين المنحى الذي سلكه المسعودي في إيراد الحوادث في كل من كتابيه [التنبيه والأشراف] و [مروج الذهب ومعادن الجوهر] اللذين علق أحد الباحثين على الصلة التي تربط بينهما قائلا: " وقد رأيت أن أطابق بين الكتابين المطبوعين لأرى الفرق بينهما والعلة التي دفعت   (155) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 196، 198، 200، 244. (156) ينظر، مروج الذهب، 2/ 274، 280، 282، 285، 287، 292- 294، 295- 297. (157) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 198- 199، 221، 237. (158) ينظر، مروج الذهب، 2/ 281، 283، 284، 292، 298، التنبيه والأشراف، ص 195، 196، 198، 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 بالمسعودي على تأليف جملة كتب في موضوع واحد، هل هي مجرد إطالة واختصار أو إعادة وتكرار للتظاهر لكثرة التأليف وسعة المعرفة؟ فوجدت أن كتابه التنبيه هو كتاب صغير مختصر بالنسبة إلى كتاب مروج الذهب، إلا اننا لا نستطيع أن نعتبره اختصارا له، لأن الاختصار هو إيجاز تام كامل لمفصل مبسوط، وليس كتاب التنبيه إيجازا له بالمعنى المذكور ففي مروج الذهب فصول عديدة لم ترد في كتاب التنبيه. أما الموضوعات المشتركة التي ترد في التنبيه فهي وإن كانت مذكورة في مروج الذهب ولكنها في الواقع جزء قليل من كثير مزج باستدراكات فاته ذكرها في الكتاب الأول" «159» . بقي لنا أن نذكر الاسهامات التطورية التي اوجدها المسعودي لكتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام أولا ثم كتب السيرة ثانيا في مصنفه [التنبيه والأشراف] ، وهذه الاسهامات هي: 1. إطلاق المسميات على السنوات التي أعقبت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة حتى وفاته «160» ، وتبيان الغرض الذي من أجله أطلقت هذه المسميات على بعض من سنوات الهجرة، وفي بعضها لم يبين سبب إطلاق هذا الاسم من دون غيره عليها، فأما السنوات التي بين سبب إطلاق المسميات عليها فهي: أ. السنة الثانية من الهجرة فقد أسماها ب (سنة الأمر) لأنه أمر فيها بالقتال «161» .   (159) علي، موارد المسعودي في التأريخ، مجلة سومر، ص 19. (160) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 202- 240. (161) ينظر، المصدر نفسه، ص 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ب. السنة الخامسة من الهجرة الشريفة فقد أسماها ب (سنة الأحزاب) وذلك لوقوع معركة الخندق وتجمع قريش والمخالفين ونزول سورة الأحزاب موثقة بعض حوادثها «162» . ج. السنة الثامنة منها فقد أسماها ب (سنة الفتح) وذلك لفتح مكة فيها «163» . د. السنة العاشرة منها فقد أسماها ب (سنة حجة الوداع) «164» ، وذلك لوقوع حجة الوداع التي سميت بهذا الاسم لأنه صلى الله عليه وآله وسلّم ودعهم فيها ولم يحج بعدها «165» . هـ. السنة الحادية عشرة منها فقد أسماها ب (سنة الوفاة) وذلك لوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فيها «166» . هذه هي السنوات التي بين المسعودي أسباب أسمائها، أما باقي السنوات (3، 4، 6، 7) من الهجرة الشريفة، فقد أطلق على كل واحدة منها اسما لم يبين سببه «167» . وإن منحى المسعودي هذا في إطلاق المسميات على هذه السنوات هو اجتهاد شخصي منه، وذلك لأنه سمّى هذه السنوات بأسماء الحوادث المشهورة   (162) ينظر، المصدر نفسه، ص 214- 217. (163) ينظر، المصدر نفسه، ص 230- 237. (164) ينظر، المصدر نفسه، ص 238. (165) ينظر، المصدر نفسه، ص 240. (166) ينظر، المصدر نفسه، ص 240. (167) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 209، 212، 218، 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فيها هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن منحاه هذا لم يتبعه فيه أحد من المؤرخين المتقدمين أو المتأخرين، باستثناء المقدسي الذي نقل بعض المسميات التي أطلقها المسعودي على السنوات التي تلت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى وفاته «168» ، لأن عمله هذا كان مجرد رأي أو تلطيف للقارئ أو لمن يريد حفظ الحوادث وسنوات وقوعها، هذه هي أغراضه من هذه المسميات. 2. الاهتمام بإيراد الأحكام الفقهية التي شرعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للمسائل التي عرضها في كتابه ولا سيما في قسم السيرة منه، إذ ذكر اختلاف الفقهاء في المسائل المتنازع عليها في ما بينهم وآراءهم فيها، في حوادث عدة «169» مثل: حادثة صوم شهر رمضان والوقت الذي شرع فيه «170» ، وحادثة تقسيم غنائم المعارك والاراء التي قيلت فيها «171» ، وحادثة دخول مكة بعدما منّ الله (سبحانه وتعالى) عليه بفتحها، والاختلاف في كون دخوله عنوة أم صلحا «172» ، هذه الأحكام الفقهية التي أوردها في قسم السيرة من كتابه التنبيه والتي اقتصر فيها على عرض الأحكام المختلف فيها حصرا. 3. قدم المسعودي في قسم السيرة من كتابه وصفا فريدا لكل مجموعة عسكرية بحسب عدد أفرادها، لم يسبقه أحد إليه في مثل هذه الكتب، إذ يقول: " وقد ذكر عدة من ذوي المعرفة بسياسة الحروب وتدابير العسكر والجيوش   (168) ينظر، محمد بن طاهر، البدء والتأريخ، نشر كلمان هوار، باريس، 1903، 4/ 180. (169) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 220، 222- 224، 228، 231، 237. (170) ينظر، المصدر نفسه، ص 204. (171) ينظر، المصدر نفسه، ص 205- 206. (172) ينظر، المصدر نفسه، ص 231- 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ومقاديرها وسماتها، ان السرايا ما بين الثلاثة نفر إلى الخمس مئة، وهي التي تخرج بالليل. فأما التي تخرج بالنهار فتسمى السوارب ... وما زاد على الخمس مئة إلى دون الثماني مئة فهي المناسر، وما بلغ الثماني مئة فهو جيش وهو أقل الجيوش وما زاد على الثماني مئة إلى دون الألف فهو الخشخاش، وما بلغ الألف فهو الجيش ... وما بلغ الأربعة آلاف فهو الجيش الجحفل، وما بلغ اثني عشر ألفا فهو الجيش الجرار، وإذا افترقت السرايا والسوارب بعد خروجها فما كان دون الأربعين فهي الجرائد، وما كان من الأربعين إلى دون الثلاث مئة فهي المقانب، وما كان من الثلاث مئة إلى دون الخمس مئة فهي الجمرات، وكانوا يسمون الأربعين رجلا إذا وجهوا العصبة، ويقولون خير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف ... وان الكتيبة ما جمع فلم ينتشر، وان الحضيرة النفر الذين يغزي بهم العشرة فمن دونهم، والنفيضة جماعة يغزى بهم ليسوا الجيش، وان الأرعن الجيش الكثير ... والخميس الجيش العظيم والجرار ... أكثر ما يكون من الجيوش العظمى" «173» . وهذا الأمر يعدّ نقلة نوعية للكتابة التأريخية بعامة، وذلك بسبب ندرة عرض المؤرخين لهذه المسائل ولا سيما مصنفي كتب الأخبار والسير. 4. عرض عقائد الفرق الإسلامية في الروايات التي يحتجون بها من حوادث السيرة، لإثبات صدق دعواهم، مع التعريف بقسم من هذه الفرق، إذ وجدنا هذا الأمر شائعا في كتاب التنبيه «174» ، فمن الروايات التي ذكر فيها آراء الفرق   (173) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 242- 244. (174) ينظر، المصدر نفسه، ص 198- 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 حول الحوادث التي تضمنتها تلك الروايات، الرواية التي تحدثت عن إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم للإمام علي عليه السلام إلى أهل مكة ليقرأ عليهم سورة التوبة في موسم الحج بمعية أبي بكر الصديق (رض) «175» ، إذ عقب على هذه الرواية بالقول: " وهذا الخبر من التنازع والتأول بين فرق أهل الصلاة من أصحاب النص من الشيعة، وأصحاب الاختيار من المعتزلة والخوارج والمرجئة وفقهاء الأمصار وغيرهم من الحشوية والنابتة" «176» . تناول أحد الباحثين منهج المسعودي في هذا الجانب ووصفه بالقول: " إن منهج المسعودي في العقائد والأخرويات يرتفع إلى مستوى أدق مناهج المسلمين في البحث فهو يروي آراء وأخبار العقائد المخالفة ... ويستعرض هذه الاراء بتجرد صارم، محترما آراء الفرق والأديان وموردا لتلك المسائل" «177» ، إن انتهاج المسعودي لهذا الأمر هو تطبيق لما عاهد به نفسه من إيراد أقوال أهل الفرق في الحوادث المختلف عليها، وذلك بقوله: " كان الواجب على كل ذي تصنيف أن يورد جميع ما قاله أهل الفرق" «178» . ينتهي أحد الباحثين إلى وصف منهج المسعودي هذا بالقول: " إن المسعودي كان يبحث بأسلوب العالم المتجرد، وينظر إلى التواريخ نظرة الباحث المحايد والمسجل الأمين بحسب جهده وطاقته" «179» .   (175) ينظر، المصدر نفسه، ص 237. (176) المصدر نفسه، ص 237. (177) حمود، هادي حسين، منهج المسعودي في بحث العقائد والفرق الدينية، ص 47- 48. (178) مروج الذهب، 2/ 139. (179) حمود، منهج المسعودي، ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 5. انفراد المسعودي بذكر رواية لم تعرفها المصادر التي سبقته أو التي جاءت بعده، وخالف فيها كل من تعرض لهذه الحادثة من المؤرخين والمحدثين، ألا وهي حادثة يوم الغدير وحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للإمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) : " من كنت مولاه فهذا علي مولاه" إذ أشارت المصادر التي عرضت هذه الحادثة إلى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قد قالها أثناء منصرفه من حجة الوداع سنة (10 هـ) «180» ، أما المسعودي فقد ذكر أن هذه الحادثة قد وقعت بعد منصرف الرسول من الحديبية سنة (6 هـ) «181» . هذه هي أهم المستجدات التي أضافها المسعودي إلى كتابة السيرة النبوية في مصنفه [التنبيه والأشراف] ، ومن وضع هذه المستجدات جنبا إلى جنب مع مثيلاتها في كتابه الاخر [مروج الذهب ومعادن الجوهر] نجد أنه قد أضاف إلى كتابة السيرة ضمن كتب التأريخ العام إضافة قيّمة ونوعية تمثلت بتنوع المناهج المتبعة مع سلاسة الأسلوب وبساطة العرض المسترسل للأحداث، وعدم التقليد الأعمى للأقدمين في مناحيهم بكتابة التأريخ، بل كان يترك لنفسه العنان في الاسترسال في ذكر الحوادث مع شعوره بعلو كعبه في الكتابة التأريخية على من سبقه إذ يقول: " على أنا لم نجد أحدا حصل ذلك تحصيلنا، ولا رتبه ترتيبنا، فمن أراد علم ذلك فليتصفح كتب من نحا بهذا الشأن من الأسلاف والأخلاف يقف   (180) ينظر، الأميني، عبد الحسين، الغدير في القرآن والسنة والأدب، دار الكتاب العربي، بيروت، 1974، 1/ 5- 8، وقد أورد إجماع المؤرخين والمحدثين على وقوع هذه الحادثة سنة (10 هـ) . (181) ينظر، التنبيه والأشراف، ص 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 على حقيقة ما قلنا وفضيلة ما آتينا فهم ذلك بعد الكفاية يسير، ومطلبه قبل الكفاية عسير" «182» . ومع كل ما قلناه تبقى عملية إعطاء صورة واضحة ومتكاملة عن إسهامات المسعودي التطورية في كتابة السيرة النبوية ناقصة ومشوهة، بسبب فقداننا مصنفاته الأخرى التي أحال عليها في كتابيه المختصرين من مؤلفاته الأخرى، وإذا كان المختصر كما رأينا، فكيف بالمفصل إذن؟. 5. البدء والتأريخ لمطهر بن طاهر المقدسي (ت بعد سنة 355 هـ) : أغفلت المصادر التي ترجمت لأعلام الناس والعلماء والمصنفين عن إيراد ترجمة لهذه الشخصية، ولأجل ذلك ضاعت عملية البحث عن ترجمة للمقدسي أدراج الرياح، كما ذهبت المحاولات السابقة التي بدرت من بعض الباحثين هي الأخرى كذلك، إذ لم تقتصر جهودهم إلّا على إثبات تعليق محقق هذا الكتاب في تبيان صحة نسبته إلى المقدسي «183» ، إذ حصل هنالك لبس بين اسم هذا الكتاب وكتاب آخر بالعنوان نفسه ذكره حاجي خليفة لغير المقدسي «184» . مهما يكن من أمر نسبة هذا الكتاب من حيث الصحة والخطأ إلى المقدسي أو غيره، فإن هذا الأمر لا يهمنا بقدر ما يهمنا أثر الكتاب في تطور كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التاريخ العام وباقي المصنفات، فنجد أن هذا الكتاب   (182) المصدر نفسه، ص 243. (183) ينظر، الزركلي، خير الدين، الأعلام، مطبعة كوستاتوماس، مصر، ط 2، 1978، 8/ 159، كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، المكتبة العربية، دمشق، 1960، 12/ 294. (184) ينظر، كشف الظنون، 1/ 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قد نحا فيه مؤلفه أسلوبا جديدا ومغايرا عما ألفه عصره من أساليب في عرض تأريخ العالم، إذ وصف روز نثال أسلوب المقدسي بالقول: " محاولة لإخضاع التأريخ للفلسفة ومن الناحية الظاهرية على الأقل ... وان الملاحظات الفلسفية هي كالبقع القرمزية التي تناثرت في مختلف ثنايا أجزاء الكتاب" «185» . علق أحد الباحثين على هذا الرأي بالقول: " ان هذه القيمة [إدخال الفلسفة وعلم الكلام بالتأريخ] يجب أن تعطى لمجرد المحاولة التي كانت جريئة ومبتكرة دون شك، أما من ناحية التطبيق فان التأريخ لم يفلسف ... وإنما اقتصر الأمر على إلصاق بعض أبحاث الإلهيات بأبحاث التأريخ موجزة معروفة" «186» . كانت هذه البقع القرمزية التي وصفها روز نثال قد انتشرت بكثرة في القسم الخاص بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من هذا الكتاب «187» ، وشغلت السيرة النبوية من هذا الكتاب حيزا كبيرا، ولأجل ذلك أضفى المقدسي جوانب عدة على هذه السيرة وشملت هذه الجوانب: 1. استعمال أسلوب المحاججة والإفحام للطوائف والملل من غير المسلمين سواء أكانوا أتباع أديان سماوية أم وضعية، إذ نرى في هذا الكتاب هجوما عنيفا على هذه الطوائف والملل في إنكارها نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من جهة، أو رفض فكرة النبوة مطلقا، إذ تركز هذا الهجوم في إيراد الدلائل والمعاجز والقرائن   (185) علم التأريخ عند المسلمين، ص 161. (186) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 408. (187) ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 105- 242، 5/ 1- 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الموكدة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم إذ وصف هذه الدلائل والمعاجز بالقول: " إعلم إنما كان في هذه الأخبار من المعجزات فكلها مصدقة مقبولة إذا صحت الرواية والنقل أو شهد لها نص القرآن والدلالة عليها كذهاب قوائم فرس سراقة في الأرض ... وكخبر الإسراء والمعراج ... وغير ذلك مما يوصف ويحكى مع ما ذكر من هذه الخصال كلها داخلة في حد الجواز والإمكان بعد أن كنا مجيزين للممتنع في الطبع والعادة وفي أيامهم فكيف الممكن المتوهم من ذلك وقد ناقض المنكرون لهذه الحال بخروجها عن العادة ... " «188» ، وينتهي بالقول: " هذا يرحمك الله باب أغنى هذا المتكلف عن الخوض فيه والتمرس به وما أراه أبلى عنا في الإسلام أو رد عنه عاديا إن لم يكن فتح عليهم باب شنعة وتلبيس وسبيل معجزات الأنبياء في خروجها عن العادة سبيل إيجاد أعيان الخلق لا من سابقة وكما أن إيجاد الخلق لا من شيء ... ولكن يعرف ويعلم بقيام الأدلة التي عليه كذلك معجزات الأنبياء (عليهم السلام) غير موهومة ولا معقولة وإنما بعلم بقيام الأدلة عليها" «189» . لم يكتف المقدسي بالمحاججة العقلية في إثبات النبوة ودحض المنكرين لها ولاختصاصها بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إذ قرنها بإيراد بعض الروايات المؤكدة لهذه البراهين، إذ اعتمد لأجل ذلك على إيراد نصوص من التوراة والإنجيل وباللغة التي كتبا فيها، والاحتجاج بها في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وتفنيذ آراء الملل مع   (188) البدء والتأريخ، 4/ 173- 174. (189) المصدر نفسه، 4/ 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مقارنة هذه النصوص بما ذكره القرآن في هذا الخصوص «190» ، إن إيراد هذه النصوص من التوراة والإنجيل تبين لنا تضلع المقدسي في اللغات غير العربية، وهذا الأمر قد انفرد به المقدسي من بين كتّاب التأريخ العام والسيرة معا في اقتباس مثل هذه النصوص وزجها في هذا المصنف ليحاجج به الخصوص ويفحم به المخالفين والمنكرين للنبوة، وهذا ما أوضحته مقالته التي مفادها: " وهذا مما لا يخالج عاقلا فيه شك ولا تعترضه شبهة في أنه غير جائز للخصم المخالف أن يشهد على خصمه بما في كتابه وينتصر بالتسمية عليه من غير أصل ثابت عنده أو مرجوع واضح لديه وهل الاستشهاد على هذا غلا بمنزلة الاستشهاد على المحسوس الذي لا يكاد يقع الاختلاف فيه فكفى بما تلونا من الايات دلالة على صدق ما دعينا" «191» . إن إثبات المقدسي للدلائل المؤكدة لنبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم تبين استعماله المحاججة النقلية والعقلية معا في ذلك وينتهي إلى القول بعد إيراده قسما من هذه الدلائل: " وهذا يرحمك الله باب يعجز كتابنا عن استيفائه ونجتزئ بما ذكرنا عن استقصائه والله المعين برحمته" «192» . يوضح لنا هذا الأمر قوة الصدام الفكري بين الملل والفرق والطوائف في عصر المقدسي حول فكرة النبوة وإثباتها من جهة، والتعرض الى ذكر دلائلها من جهة أخرى وهذا ما دفع بالمقدسي الى أن يخصص حيزا كبيرا من هذه السيرة   (190) ينظر، المصدر نفسه، 5/ 28- 33. (191) المصدر نفسه، 5/ 27. (192) المصدر نفسه، 5/ 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 للرد على هذه التخرصات التي تستهدف تشويه هوية الإسلام بدحض فكرة النبوة أو جعلها مقتصرة على الأنبياء الذين سبقوا الإسلام «193» . بقي لنا أن نشير الى أن محاولة المقدسي لم يكتب لها الاستمرار في من أتى بعده من مؤرخي التأريخ العام أو من مصنفي السيرة، باستثناء كتاب دلائل النبوة الذين كانت مصنفاتهم عبارة عن مزيج بين التأريخ وعلم الكلام باستعمال الروايات التي تؤرخ الحوادث التي وقعت فيها تلك المعاجز والدلائل على النبوة وتطبيق أساليب وأنماط المتكلمين في جعل هذه الروايات ورقة ترفع بوجه المنكرين لها «194» . بين روز نثال المصير الذي انتهت إليه هذه المحاولة بقوله: " ومن سوء الحظ إننا لا نعلم أحدا ممن تلاه استطاع أن يتعمق في بحث التأريخ بالروح نفسها" «195» ، وأضاف آخر على هذا القول: " ان هذه المحاولة كانت فجة ... كما لم تجد الحماس لدى المؤرخين من جهة فلم يظهر من يتابعها فبقي أروع ما فيها هو تلك الرغبة الحارة في ربط الكون والحياة بنظرة كلية شاملة تؤكد ما بين الفلسفة والتأريخ من نظام فكري واحد" «196» . وهذا الجانب قد مثلته الفكرة التي وصف بها هذا الكتاب من حيث ربط الفلسفة بالتأريخ.   (193) ينظر، البدء والتأريخ، 5/ 25- 44. (194) ينظر، ص من هذه الدراسة. (195) علم التأريخ، ص 161- 162. (196) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 هذه هي الفكرة النوعية التي أضفاها المقدسي على كتابة التأريخ ومنه على كتابة السيرة التي عدّت كما لا حظنا آنفا تجربة رائدة في مجال التدوين التاريخي انعكست آثارها على معالجة مفردات السيرة وطريقة عرضها وأسلوب طرحها. 2. تخصيص مبحث مستقل من قسم السيرة الذي تضمنه هذا الكتاب للحديث عن بعض الأحكام المهمة والحيوية التي شرعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في حياته وعلة تشريعها «197» ، إذ علل قيامه بهذا الأمر بالقول: " إعلم أن أصول شريعة الإسلام مأخوذة من الكتاب والسنة وهي مشهورة معروفة يغني القرآن والسنة عند تعدادها وتكلف القول بتكرارها لأن فقهاء الأمة قد قاموا بتدوينها واجتهدوا في تأويلها ... غير أنا لم نستجز إخلاء هذا الكتاب عما يلائمه من ذلك لئلا يكون من طريق العجز ذكر شرائع أهل الأديان والسكون عن شريعتنا وهي لمن أشرف الشرائع وأعلى المراتب" «198» . لم يكتف المقدسي بذكر هذه الشرائع التي سنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل تعدادها إلى تبيان علة تشريعها والهدف من إيجادها، إذ تناول في الحديث الطهارة والعلة التي من أجلها شرعت مع اتصاف المسلمين بها «199» ، كذلك استعرض أحكام التيمم بالتراب عوضا عن الماء والغاية التي جعلت التيمم مقصورا عليه دون غيره «200» ، وبين علة تحريم الميتة والدم لكراهة النفس ونفار الطبع لذلك وإجماع   (197) ينظر، البدء والتأريخ، 5/ 44- 55. (198) المصدر نفسه، ص 44- 55. (199) ينظر، البدء والتأريخ، 5/ 46- 47. (200) ينظر، المصدر نفسه، 5/ 48- 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 أهل الأرض على نجاستهما «201» ، وغير ذلك من علل الشرائع التي سنها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم «202» . يختم المقدسي استعراضه لعلل هذه الأحكام بالقول: " فهذه الأشياء مما يعيبها أهل الإلحاد ففيها من الحكمة ما لا يعلمها إلا الله تعالى" «203» . قدم المقدسي بذكره لهذه الأمور نقلة نوعية في كتابة السيرة وذلك باستعراضه جوانب لم يلتفت إليها أقرانه من الذين سبقوه عند استعراضهم لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مصنفاتهم المختلفة، وهذا الجانب قد أفرد له أحد العلماء مصنفا مستقلا بين فيه معظم إن لم نقل كل الأحكام والغايات التي من أجلها شرعت ووضعت تعاليم ديننا الإسلامي، وقد بيّنت قناعته الشخصية في هذه العلل ومسبباتها التي من أجلها شرعت «204» . شكل نهج المقدسي لهذا الأمر حافزا للذين تأخروا عنه على السير في ضوء إيراده الأحكام التي شرعها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولكن دون تبيان الغاية أو العلة التي من أجلها شرعت «205» ، وإن لم يشيروا ضمنا إلى من اعتمدوا عليه وقلدوه في هذا المنحى.   (201) ينظر، المصدر نفسه، 5/ 55. (202) نظر، المصدر نفسه، 5/ 49- 52، 52، 53- 54. (203) ينظر، المصدر نفسه، 5/ 55. (204) ينظر، الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، (ت 381 هـ) ، علل الشرائع، تحقيق فضل الله الطباطبائي، المدرسة الفيضية، قم، إيران، 1378 هـ، 2/ 2- 292. (205) ينظر، ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، 2/ 523- 580، العاقولي، الرصف فيما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من الفعل والوصف، ص 480- 522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 3. انفراده بروايات لم يذكرها غيره من المؤرخين الذين وصلت كتبهم إلينا التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ أورد أسماء الجن الذين أسلموا على يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعدما سمعوا قراءة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للقرآن «206» ، كذلك أورد المقدسي أيضا كلاما لأبليس في دار الندوة حول اغتيال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهدر دمه بين القبائل وقول الشعر في ذلك «207» ، مع تبيانه إمكانية حصول هذا الأمر وعدم مخالفته للعادة، إذ يقول في ذلك: " وكلام إبليس غير عجيب لأنه قد يقال لمن عمل لعمل إبليس هذا إبليس وكذلك لمن تكلم كلام إبليس يوسوس إبليس بمثله وقد سمى الله عز وجل من اقتدى الشيطان شيطانا فقال وإذا خلو إلى شياطينهم وإبليس شيطان" «208» . فضلا عن ذلك فقد أورد نصوصا شعرية لمحمد بن إسحاق لم ترد في المصنفات التي اعتمدت على سيرته مثل شعر أبي طالب في مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتباشيره به «209» ، وشعر ورقة بن نوفل في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «210» ، مع إثباته أبياتا شعرية ورد فيها من الفحش «211» تورع غيره في ذكرها «212» ، إلى غير ذلك من النصوص الشعرية التي وردت عنده ولم ترد عند غيره أو لم تثبتها   (206) ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 156. (207) ينظر، المصدر نفسه، 4/ 168- 169. (208) ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 174. (209) ينظر، المصدر نفسه، 4، 134. (210) ينظر، المصدر نفسه، 4/ 143. (211) ينظر، المصدر نفسه، 4/ 194- 195. (212) ينظر، أحمد، شعر السيرة النبوية، ص 202- 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 من النصوص الشعرية التي وردت عنده ولم ترد عند غيره أو لم تثبتها المصادر التي قبله «213» . هذه هي الجوانب التي امتازت بها السيرة التي تضمنها كتاب البدء والتأريخ والتي بينت تأثر المقدسي في طرحها بما نهجه المتكلمون والفلاسفة وذلك باستعمال أساليبهم في كتابة تأريخه هذا مع شمولية السيرة النبوية التي حواها هذا الكتاب لتلك الأساليب. 6. المنتظم في أخبار الملوك والأمم لعبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) *: أسهم ابن الجوزي في تطور كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام مع اسهامه السابق في تطورها ضمن كتب السيرة المستقلة «214» ، إذ خصص في كتابه المنتظم حيزا كبيرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «215» ، وهذا الحيز الكبير قد أطلق لابن الجوزي العنان بالتحرك بحرية وتنسيق أحداث السيرة وتوابعها. وقبل البدء بعرض هذه الإسهامات التي أضفاها ابن الجوزي على كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام يجب إعطاء صورة واضحة عن عناصر الشبه والاختلاف- إن وجدت- في ما عرضه ابن الجوزي في كل من كتابيه   (213) ينظر، البدء والتأريخ، 4/ 204، 233، 235، 236، 240، 5/ 22، 26، 36- 40. (*) كتب الدكتور حسن عيسى الحكيم دراستين وافيتين عن منهج ابن الجوزي في كتابه المنتظم والأخرى عن منهجه في كتابة السيرة النبوية في كتابه المنتظم، ينظر، ابن الجوزي، منهجه وموارده في كتابه المنتظم، عالم الكتب، بيروت، ط 1، 1985، منهج ابن الجوزي في دراسة السيرة النبوية، مجلة الرسالة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العراق، السنة 13، العددان 16، 15، نيسان، 1983، ص 93- 124. (214) ينظر، ص 82- 87 من هذه الدراسة. (215) ينظر، مج 2، ورقة 76- مج 4 ورقة 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 [الوفا بأحوال المصطفى] و [المنتظم في أخبار الملوك والأمم] عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، وبعبارة أدق عقد مقارنة بين منهجي ابن الجوزي في كل من كتابيه هذين عند ذكره لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فيهما، وذلك أن استعراض هذه العناصر من الفائدة بمكان، إذ إنها تعطينا صورة واضحة وشاملة للمنهج الذي أتبعه ابن الجوزي في كتابة السيرة بعامة، مما يدل على أن السيرة النبوية قد وضعت في قوالب متعددة ليست بالضرورة تقع ضمن عنوانات أو اتجاهات واحدة في الكتابة، كأن تكون ضمن التأريخ العام، كما فعل المسعودي في كتابيه: [مروج الذهب] و [التنبيه والأشراف] «216» ، أو تكون عرضا لجوانب وتركا لأخرى من السيرة؛ على فرض أن المؤلف قد تناولها في مصنف آخر اختلف فيه المنحى الذي كتب فيه بدعوى الاختصار وعدم التكرار في إيراد الحوادث، وهذا ما مثله ابن عبد البر في كتابيه: [الاستيعاب في معرفة الأصحاب] و [الدرر في اختصار المغازي والسير] «217» ، اللذين كان الأول منهما في التراجم والطبقات، والاخر في كتب السيرة والمغازي المستقلة، مع العلم أن هذا الجانب هو سمة تطورية بحد ذاته في كتابة السيرة من حيث تشعب إيرادها في كتب عدة لمصنف واحد، وهذا ما ممثله ابن الجوزي بحذافيره حين أورد سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في أكثر من مصنف من مصنفاته «218» ، وهذه العناصر هي:   (216) ينظر، مروج الذهب، 2/ 272- 299، التنبيه والاشراف، ص 195- 246. (217) ينظر، الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 29- 289، الاستيعاب، 1/ 25- 53. (218) ينظر، صفة الصفوة، 1/ 46- 234، المدهش، ص 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، 1/ 150- 325، تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، ص 4- 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 1. استعمل ابن الجوزي المنهج الحولي في كتابه هذا عند عرضه لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من مولده إلى وفاته «219» ، أما في كتابه الوفا فقد استعمل المنهج الموضوعي، كما أشارت إلى ذلك أبواب كتابه التي عرضها في مقدمته «220» . كانت طبيعة هذين الكتابين هي السبب الذي دعا ابن الجوزي إلى انتهاج هذين المنهجين المختلفين في كل منهما، فالمنتظم تأريخ مكتوب على وفق استعراض الحوادث التي حصلت على مدار واسع من الزمن ابتداء من عصر الخليقة وانتهاء بحوادث عصر المؤلف، أما الوفا فهو كتاب قد أعطى ابن الجوزي فيه بعدا كبيرا للجوانب الروحية والنفسية والحياتية لشخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من مولده حتى وفاته، ولذلك أصبح استعمال المنهج الموضوعي أمرا لا مفر منه، وذلك لصعوبة إيجاد توافق بين هذه الجوانب والسنوات التي حصلت فيها أفعال أو موقف من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. 2. أفاض ابن الجوزي في ذكر النصوص الشعرية التي قيلت في الحوادث من دون إهمال هذه النصوص أو التقليل من أبياتها «221» ، أما كتابه الوفا فقد خلا تماما من أي نص شعري سوى بعض الاراجيز التي تعدّ على أصابع اليد «222» ، بل ان هذه المواطن التي أورد فيها بعض النصوص الشعرية قد أخذ منها محل الشاهد من القصيدة من دون إيراد أبيات أخرى منها.   (219) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 109، 110، 112، 114، مج 3، ورقة 7، 8، 10، الحكيم، كتاب المنتظم لابن الجوزي، ص 63. (220) ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 3- 29. (221) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 28، 79، 82، 84، 88، 95، 108، 149. (222) ينظر، الوفا بأحوال المصطفى، ص 82، 83، 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 3. استعمال الإسناد في إيراد الروايات التي أثبتها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «223» ، مع العلم أن هذا المسلك في إيراد الروايات لم يتبعه في كتابه الوفا الذي أغفل تماما ذكر أي طريق من طرق الإسناد، إذ بين سبب ذلك بالقول: " ولا أطرق الأحاديث خوفا على السامع من الملالة" «224» ، ولا أعرف الدافع الذي حفز على التناقض في انتهاج هذين المسلكين، مع العلم أنه قد أشار في كتابه الوفا إلى المصادر التي نقل منها معظم مروياته «225» . 4. تعليقه على الروايات التي استعرضها في مواطن كثيرة من ضمن قسم السيرة في كتابه المنتظم «226» ، أما كتابه الاخر فقد كانت آراؤه وانتقاداته وتعقيباته على الروايات لم تتعد أصابع اليد الواحدة «227» ، وذلك مما حدا محققه على أن يصفه بالقول: " يندرج في هذا الكتاب تحت عنوان النقل والأثر فليس من تحليل ولا استدلال" «228» . 5. الإكثار في إيراد أسماء المشتركين في الحوادث الكبرى وذلك على وفق التسلسل الأبجدي للحروف «229» ، وإيراد أسماء الأعلام الذين يتوفون في كل سنة من السنوات التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولا سيما السنوات التي تلت هجرته   (223) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 106، 134، مج 3، ورقة 13، 14، 45، 46، 143، 149. (224) الوفا بأحوال المصطفى، ص 1. (225) ينظر، المصدر نفسه، ص 13- 119، 142، 282، 365- 367، 379، 382. (226) ينظرن المنتظم، مج 2، ورقة 107، مج 3، الورقة 40، 47، 50، 52، 91، 103. (227) ينظر، الوفا، ص 73، 216، 269، 271، 339. (228) عبد الواحد، مصطفى، مقدمة التحقيق لكتاب الوفا بأحوال المصطفى، ص 3. (229) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 143، مج 3، ورقة 15، 26- 28، 30، 48- 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 إلى المدينة «230» ، وهذا ما أغنى الكتاب وجعله زاخرا بقوائم متعددة للأعلام. أما في كتابه الاخر فكانت أسماء الأعلام المشتركين في الحوادث الواردة في الكتاب من الندرة بمكان إذ لا نجد في الحوادث التي أوردها ابن الجوزي أسماء المشتركين فيها أو الذين حضروها أو الذين كانت لهم يد في حصولها «231» . هذه هي العناصر التي تمخضت عنها المقارنة التي أجريناها بين ما كتبه ابن الجوزي عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابيه [المنتظم، الوفا] ، والتي تبين لنا الاختلاف الجذري والعميق في الأساليب التي إنتهجها ابن الجوزي في كتابيه آنفي الذكر، مع العلم أننا نستطيع القول بعد إجراء هذه المقارنة إن كلا من هذين الكتابين متمم للاخر من حيث عرض سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كل منهما؛ حيث حوى كل واحد منهما معلومات لم ترد في الاخر مما يجعل عملية الدمج بينهما أمرا سهل المنال وذلك بجمعهما في مصنف واحد شمولي يكون جامعا للمعلومات التي وردت مفرقة في الكتابين. أعطى ابن الجوزي لكتابة السيرة نقلة نوعية ضمن كتب التأريخ العام بخاصة، وكتب السيرة بعامة، وذلك للإضافات التي أكسبها لها في كتابه هذا والتي تمثلت ب: - 1. تقسيم حوادث السيرة على ثلاثة أقسام «232» : - أ. مرحلة المولد.   (230) ينظر، المصدر نفسه، مج 2، ورقة 142، 143- 144، مج 3، ورقة 8، 30، 31، 52- 54، 60، 67- 76. (231) ينظر، الوفا، ص 82- 84، 92- 94، 128، 129، 152- 158، 244، 245. (232) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 132- 137، 140- 176، مج 4، 6- 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ب. مرحلة المبعث. ج. مرحلة الوفاة. وهذا التقسيم لحوادث السيرة عدّه أحد الباحثين فريدا في بابه ولم يسبقه أحد في ذلك من المؤرخين، بل كان هو صاحب السبق والريادة «233» ، إذ عدّ ابن الجوزي حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم المحور الذي تدور حوله بقية الحوادث التي تليها «234» . هذا هو المنحى الذي سلكه ابن الجوزي في عرضه حوادث السيرة، مع العلم أن منحاه هذا قد سبقه فيه المسعودي ولكن بصورة مختلفة عن التي عرضها ابن الجوزي، إذ قسم المسعودي حوادث السيرة إلى تقسيم ابن الجوزي نفسه ولكن باطلاق لفظ جوامع المولد أو جوامع الهجرة ... الخ من الحوادث «235» ، ولكن يبقى المنحى الذي سلكه ابن الجوزي أكثر اتزانا وشمولية من المنحى الذي سلكه المسعودي في تقسيمه لمراحل السيرة الذي أمتاز تقسيمه بالعشوائية والاضطراب وعدم التناسق في عرض الحوادث من حيث أسبقيتها الزمنية وتداخل بعض الحوادث ببعضها، وذلك عند استعراضنا لإسهامات المسعودي في تطور كتابة السيرة النبوية في كتب التأريخ العام ضمن كتابه مروج الذهب «236» .   (233) ينظر، الحكيم، منهج ابن الجوزي في دراسة السيرة، مجلة الرسالة الإسلامية، ص 93. (234) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 132. (235) ينظر، مروج الذهب، 2/ 280- 282، 285- 291، 292- 297. (236) ينظر، ص 122- 126 من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 2. الاهتمام بإيراد أسماء الأعلام الذين يتوفون في كل سنة من سنوات الهجرة «237» ، وهذه ظاهرة لم نلمسها في أي كتاب من الكتب التي سبقت ابن الجوزي عند استعراضها لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن كتب التأريخ العام، وهذا ما يبين حصول امتزاج بين كتب التراجم وكتب التأريخ العام في مصنف ابن الجوزي هذا. سار على هذا المنوال كثير من المؤرخين الذين أتوا بعد ابن الجوزي، إذ استحسنوا عمله هذا في ذكر أسماء الأعلام الذين يتوفون في كل سنة من السنوات التي تعرضها كتبهم «238» . 3. كتب ابن الجوزي قوائم بأسماء المشاركين في الحوادث على وفق التسلسل الأبجدي «239» ، إلا في حالة واحدة وهي أسماء المشاركين في معركة بدر من الطرفين «240» ، إذ كتبه على المنحى القديم المتمثل في المصنفات التي عرضت أسماء هؤلاء على وفق انتماء اتهم القبلية وليس على وفق الحروف الأبجدية لأسمائهم «241» .   (237) ينظر، مج 2، ورقة 143، مج 3، ورقة 29، 51، 65، 67، 82، 116. (238) ينظر، سبط ابن الجوزي، يوسف بن قزاوغلي (ت 654 هـ) ، مرآة الزمان في وفيات الأعيان، مخطوط مصور في مكتبة الحكيم العامة في النجف برقم (285) ، مج 2، ورقة 715- 844، مج 3، ورقة 2- 185، الذهبي، العبر، 1/ 13- 15، تأريخ الإسلام، 1/ 48- 59، ابن كثير، البداية والنهاية، 7/ 32- 35، 49- 51، 61- 63، 97- 100، 101- 102، 8/ 33. (239) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 143، مج 3، ورقة 15، 26- 28، 30، 48- 51، 67- 76. (240) ينظر، المصدر نفسه، مج 3، ورقه، 20- 23. (241) ينظر، ابن هشام، السيرة النبوية، 1/ 677، 706، 708، 2/ 3، 122، 129، 127، الواقدي، المغازي، 1/ 128- 130، 315- 318، 375- 378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ويعدّ هذا الأمر تقليصا للموروث القبلي، أو الطابع الإفتخاري للقبائل حين عرض أسماء المنتسبين إلى القبائل من المشاركين في حوادث السيرة النبوية ولاسيما المشاركون الى جانب الرسول الأكرم، وإن ابن الجوزي بقيامه بهذا المنحى أراد سلخ هذا الطابع الموروث عند القبائل عن المصنفين الذين عرضوا أسماء أعلامها. هذه هي المميزات التي أضفاها ابن الجوزي على كتابة السيرة والتي جعلته أحد المؤرخين الذين أسهموا في تطور كتابة السيرة النبوية؛ وقد اختزل ابن الجوزي هذا الجهد الذي بذله في كتابه [المنتظم] بمصنف صغير أسماه [شذور العقود في تأريخ العقود] افتتحه قائلا: " واني لما جمعت كتابي الجامع لنكت التواريخ المسمى ب [المنتظم في تأريخ الملوك والأمم] رأيته قد طال، مع اجتهادي في اختصاره فاثرت أن أجتني في هذا الكتاب من أعيان عيونه وأجتبي كلف التنقي من أفنان فنونه ما يكون في المثل كواسطة العقد وبيت القصيد والله الموفق" «242» . وجعل ابن الجوزي في مختصره هذا السيرة النبوية في صفحات قليلة «243» ، وقد اتبع فيه الأسلوب نفسه الذي اتبعه في مفصله [المنتظم] إذ قسم السيرة على ثلاث مراحل «244» ، ولم ينس التعرض إلى من توفي في هذه السنوات من   (242) ابن الجوزي، شذور العقود، ورقة 3، مخطوط مصور في دار صدام للمخطوطات برقم (29856) ، ورقة 3. (243) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 17- 23. (244) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 17، 18، 20، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الأعلام وإن لم يستعرض جميع من ذكرهم في المنتظم «245» ؛ وحذف سلاسل الإسناد وقوائم أسماء المشاركين في الحوادث أيضا «246» . إن هذه القدرة على ضغط الصفحات الواسعة التي شغلتها سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم في كتاب المنتظم «247» إلى صفحات لم تتعد أصابع اليد الواحدة تبين لنا قدرة ابن الجوزي الفائقة على الاختزال، وهذا الأمر راجع إلى تجاربه المتكررة في تدوين سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مصنفاته المتعددة «248» . إن هذا المنحى من قبل مصنفي التأريخ العام في اختصار معظم مصنفاتهم الكبيرة بمصنفات أصغر منها له ما يعلله إذ يشير أحد الباحثين إلى: " أن حاجة الأمراء والعلماء إلى معلومات سريعة يضيق وقتهم عن أوسع منها وتقل حاجتهم إلى أكثر منها ثم ظهور المختصرات في العلوم الأخرى ثم داعي الهرب والتخلص من نسخ المجلدات الواسعة والصعوبة العملية في اقتناء وفي نقل المجلدات الضخمة التي هي في الوقت نفسه غالية الثمن وقلما يهتم بها إلا المتخصصون الهواة، كل ذلك أوجد المختصرات في التواريخ العامة أو للتأريخ الإسلامي" «249» .   (245) ينظر، شذور العقود، ورقة 19، 21، 23. (246) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 18، 20، 22. (247) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 76- مج 4، ورقة 19. (248) ينظر، صفة الصفوة، 1/ 46- 234، المدهش، ص 40- 43، الحدائق في علم الحديث والزهديات، 1/ 150- 325، تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، ص 4- 39. (249) مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 هذه هي المصنفات التي وصلت إلينا، والتي لمسنا فيها تجديدا وتطورا في كتابة السيرة النبوية ضمن كتب التأريخ العام، علما أن هناك مصنفات أخرى قد كتبت في هذا الجانب، ولكنها كانت تقليدية وغير ذات تجديد أو تطوير في جانب من الجوانب، وإن كان بعض المصنفات التي تم عرضها قد سارت على نمط سابقاتها، ولكننا لمسنا فيها أسلوبا أكثر تطورا من سابقاتها؛ مع تأكيد ظاهرة مهمة هي أن هذه الجوانب التي لمسناها بدأت تأخذ بالتضاؤل شيئا فشيئا كلما ابتعدنا عن المصنفات الأقدم ولا سيما بعد منتصف القرن الرابع الهجري حيث ان الكتب التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن كتب التأريخ العام قد شخصنا فيها هذا التضاؤل، وذلك لأن المصنفين الذين سبقوهم قد استترفوا الإمكانيات والمناهج التي وظفت للكتابة في هذا المسعى؛ لذا نرى أن المتأخرين قد وجدوا الأوائل لم يتركوا لهم شيئا يقولونه في هذا الأمر. أما بالنسبة إلى مصنفات التأريخ العام التي وصلت إلينا ضمن المدة قيد الدراسة والتي لمسنا فيها جانب التكرار والتقليد ومتابعة أنماط وأساليب المصنفات التي سبقتها فهي: 1. التأريخ العظيمي لأبي عبد الله محمد بن علي التنوخي (كان حيا سنة 538 هـ) : خصص العظيمي قسما من كتابه هذا للحديث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم باختصار وإيجاز «250» ، وهذه السيرة وجدناها تطابق في منحاها العام ما كتبه   (250) ينظر، التأريخ، مخطوط مصور في دار صدام للمخطوطات، برقم (9416) ، ورقة 32- 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 اليعقوبي عن السيرة في كتابه التأريخ حين أورد الطوالع الفلكية في الحوادث الكبرى والمهمة في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مثل حادثة المولد والمبعث والهجرة «251» ، ولم يقتصر العظيمي على الاقتداء بالعيقوبي فقط بل اقتدى أيضا بالمسعودي وابن عبد البر حين أورد ثبتا بأسماء المصادر التي اقتبس منها نصوصه والرواة الذين اعتمد عليهم في رواياتهم «252» ، أما المناحي الأخرى في إيراد روايات السيرة فقد أتفق فيها مع مسلك معظم كتب التأريخ العام في عرض الروايات «253» . 2. الكامل في التأريخ لأبي الحسن علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) *: كتب ابن الأثير هذا الكتاب معتمدا فيه على ما كتبه الطبري في كتابه التأريخ، وذلك من بدايته إلى حوادث السنة (302 هـ) «254» ، إذ يبين هذا الأمر في مقدمته التي افتتح بها كتابه هذا والتي مفادها: " انني قد جمعت في كتابي هذا ما يجتمع في كتاب واحد ... فأبتدأت بالتأريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري إذ هو المعول عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه من جميع تراجمه ولم أخل بترجمة واحدة منها" «255» .   (251) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 21، 22، 48، اليعقوبي، التأريخ، 2/ 15- 16، 30- 31، 93- 94. (252) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 51- 52، التنبيه والاشراف، ص 4- 5، الاستيعاب، 1/ 20- 25. (253) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 23- 31. (*) كتب الدكتور فيصل السامر دراسة وافية عن ابن الأثير وكتابه الكامل في دراسته التي أسماها (ابن الأثير) ، دار الرشيد، بغداد، 1983. (254) ينظر، الكامل في التأريخ، 6/ 150. (255) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ومن إجراء المقارنة بين ما كتبه الطبري عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «256» ، وما كتبه ابن الأثير في ذلك «257» ، سنجد أن الأخير قد حذا حذو الأول باستعراضه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، باستثناء اقتصاره في الحديث على رفع الروايات المتناظرة في المعنى والفحوى كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه هذا «258» ، وكتابته الحوادث بتسلسل وعدم قطع الحادثة لاستمرار حصولها في سنة ثانية كما فعل الطبري في ذلك «259» . وفي ختام عرضنا لهذا لكتاب يتبين لنا أنه كان أشبه بصورة مختزلة لكتاب [تأريخ الرسل والملوك] للطبري، وبه ننتهي من عرض المناحي التطورية لكتابة السيرة النبوية ضمن كتاب التأريخ العام.   (256) ينظر، تاريخ الرسل والملوك، 2/ 239- 3/ 217. (257) ينظر، الكامل في التأريخ، 2/ 2- 220. (258) ينظر، الكامل في التاريخ، 1/ 5. (259) السامر، ابن الأثير، ص 81- 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 المبحث الثاني السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب الطبقات والتراجم مدخل: قبل البدء بالحديث عن هذا التطور في كتابة السيرة النبوية، وذلك بإدخالها في كتب الطبقات والتراجم، نرى من الضروري التعرض إلى معرفة مدلولي الطبقات والتراجم، وذلك بإعطاء لمحة موجزة عن معانيهما ونشأة الكتابة فيهما والمؤثرات التي أثرت في ظهور هما. دل مصطلح الطبقة على معان عدة، والذي يهمنا منها هو ما دل على أن (الطبقة) هي الجماعة من الناس الذين يعدلون جماعة مثلهم «1» . تناول أحد الباحثين هذا المدلول من حيث نشأته وتطوره واستعمالاته في المصنفات التي ترجمت لأعلام المسلمين «2» ، وبحث آخر استعمالات هذا المدلول ومدى عمق جذوره عند المسلمين فخرج بنتيجة مفادها: " وتقسيم الطبقات إسلاميا أصيل فقد يبدو أنه أقدم تقسيم زمني وجد في التفكير التأريخي الإسلامي وليس له أية علاقة بالأصل بطريقة الترتيب تبعا للسنين التي كانت مألوفة في تقاليد التراجم الأغريقية ... إن تقسيم الطبقات هو نتيجة طبيعية لفكرة (صحابة الرسول) والتي تطورت في أوائل القرن الثاني الهجري للارتباط   (1) ينظر، ابن منظور، لسان العرب، مادة (طبق) ، 10/ 211، الزبيدي، تاج العروس، مادة طبق، 6/ 414. (2) ينظر، العمري، مقدمة تحقيق كتاب (الطقات) ، لخليفة بن خياط، مطبعة الاداب، ط 1، 1967، ص 46- 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 مع نقد علم الحديث للإسناد ... ومما يؤيد الصلة بين تقسيم الطبقات وعلم الحديث هو اقتصار استعمالها على التراجم، فقد استعمل ترتيب الطبقات في أول الأمر ... ثم أصبح بالإمكان استعمالها في تصنيف أنواع الرجال خاصة العلماء ثم استعملت على مر الزمن بشكل غير ملائم بتصنيف الأحداث" «3» . من هذه النتيجة التي توصل إليها روز نثال نجد أن مصطلح الطبقة قد مر بمراحل عدة من الاستعمال في المصنفات التي عرضت تراجم الصحابة والرواة والمحدثين وغيرهم من الأعلام. أما لفظة التراجم فهي كلمة معربة دخيلة وتأريخ دخولها إلى الاستعمال في كتب التراجم فيرجح أنه جرى في أوائل القرن السابع الهجري، في حين انهم كانوا يستعملون لفظة التأريخ في عنوانات كتبهم بدلا من التراجم وذلك في القرون الأولى «4» . وفن التراجم هو الذي يتناول التعريف بحياة رجل أو أكثر، وهذا الفن على نوعين: ذاتي. والذاتي يتناول فيه الكاتب تأريخ حياته، وثانيهما ما يعرف فيه كاتب أحدا غيره. وفن التراجم قديم عند كثير من الأمم وقد أزدهر ازدهارا عظيما عند المسلمين منذ العصور الإسلامية الأولى، وكانت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من أوائل ما عني به المؤرخون المسلمون منذ نهاية القرن الهجري الأول، وقد ظهرت لديهم كتب في التراجم تعرف بالاخرين «5» ، وهي الكتب   (3) روز نثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 33- 34. (4) ينظر، العمد، هاني، دراسات في التراجم والسير، دار عمار، الأردن، ط 1، 1986، ص 12- 15. (5) عفيفي، تطور التفكير العلمي عند المسلمين، ص 309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 التي تعرض حياة الأشخاص كالرواة والمحدثين وغيرهم على وفق تسلسل أبجدي «6» . ونلمس عند أحد الباحثين إيضاحا لما يتداخل بين هذين المصطلحين من معنى مع إعطائه مقياسا للتفرقة بين كتب الطبقات والتراجم، إذ يقول: " وليس هناك فروق بين كتب الطبقات عموما سوى الترتيب، فبينما الأولى رتبت ترتيبا زمنيا طبقة فطبقة، نجد أن كتب التراجم رتبت حسب الألفباء في الأغلب الأعم" «7» . كان وراء هذا الاتجاه في الكتابة عند المسلمين [كتابة الطبقات والتراجم] عاملان أساسيان هما: 1. كتابة السيرة والمغازي النبوية، إذ أدى الاهتمام بهما إلى ظهور الحاجة الى جمع المعلومات لمن يرد ذكره من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أثناء عرض سيرته الشريفة، ومتابعة حياة هؤلاء الصحابة (رض) ودورهم في أحداث عصرهم وإسهاماتهم المعرفية والفكرية في نقل السنة ومبادئ الإسلام وتعاليمه للجيل الذي تلاهم، ومن ثم تصنيفهم على وفق أسبقيات معينة كالسبق إلى الإسلام، أو درجة القرابة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، أو بحسب دخولهم البلدان واستيطانهم فيها وغير ذلك مما يجمع الأشخاص في صفة معينة مشتركة تصلح أداة في التقسيم «8»   (6) ينظر، حاطوم، مدخل إلى لتأريخ، ص 276. (7) معروف، بشار عواد، مظاهر تأثير علم الحديث في علم التأريخ عند المسلمين، مجلة الأقلام، السنة الأولى، العدد 5، 1965، ص 5. (8) ينظر، هوروفتس، المغازي الأولى، ص 131- 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 2. تطور ونمو علم الحديث، إذ بمجرد أن مرت القرون على الإسلام متمثلة بعصر الرسالة والعصر الراشدي والأموي والعباسي وما رافق هذه العصور من حوادث وأمور وفرق ومذاهب واتجاهات فكرية، أدت هذه الأمور مجتمعة إلى ظهور حركة الوضع في الحديث النبوي فضلا عن أن بواعث البحث والتمحيص في مسائل التفسير والحديث والنحو هي التي حدت العلماء على تدوين سير الرواة والنظر في أسانيدهم وتراجمهم وأحوالهم حتى أصبح من شروط الاجتهاد في الفقه والتفسير معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها والإحاطة بأحوال النقلة والتحقق من سنوات ولادتهم ووفاتهم واعتماد بعضهم على بعض في الرواية، ومن ثم معرفة مدى صدقهم والطعن الذي وجه إليهم، الأمر الذي أدى إلى ظهور علم الجرح والتعديل الذي اختص بالبحث عن الرواة من حيث ما ورد من شأنهم بما يشينهم أو يمدحهم أو يزكيهم فضلا عن ذكر نماذج من مروياتهم، هذه الأسباب مجتمعة جعلت العلماء يقسمون رواة كل فن إلى طبقات، فنجد من ذلك التراجم للعلماء والأدباء والفقهاء والنحاة والمفسرين والصوفية وغيرهم «9» . هذه لمحة بسيطة وموجزة عن العوامل والمؤثرات التي أدت إلى ظهور هذه المصنفات في التراث الفكري العربي الإسلامي والتي بينت لنا الاتساع والتطور الذي أحدثه المسلمون في مجال الكتابة العلمية المنهجية ذات البعد الحضاري العميق للإسلام ولرجالاته.   (9) ينظر، عفيفي، تطور الفكر العلمي عند المسلمين، ص 310، العمري، أكرم، بحوث في تدوين السنة المطهرة، ص 41- 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 كانت هذه المصنفات ذات تنوع في طريقة العرض، ولأجل هذا التنوع أفردنا كل قسم منها على حدة للتركيز في هذه الفكرة وعدم التشتت في إعطاء النتائج المتمخضة عن دراسة هذه المصنفات والاراء التي قيلت فيها: أولا: كتب الطبقات: شملت هذه الكتب مصنفات عدة اختلفت بينها من حيث الأشخاص الذين ترجمت لهم في طياتها والذين تشابهوا واشتركوا بصفة معينة أو أكثر لذا سميت هذه المصنفات ب [كتب الطبقات] ، وأقدم من صنف في هذا المجال من العلماء المسلمين هو الهيثم بن عدي (ت 206 هـ) *، إذ صنف كتابين: الأول أسماء (طبقات من روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من الصحابة) ، والثاني (تسمية الفقهاء والمحدثين) «10» ، وشاركه في التصنيف محمد بن عمر الواقدي (ت 204 هـ) في كتابه الذي أسماه (الطبقات) «11» ، وقد بقيت نصوص من هذا الكتاب عند تلميذه ابن سعد في كتابه الطبقات «12» . وقد وصل إلينا قسم من هذه المصنفات، وقد تنوع فيها الحيز الذي شغلته سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من حيث عدد الأوراق، ومع اختلاف بيّن في الأسلوب الذي كتبت فيه هذه المصنفات، وهي بحسب الترتيب التأريخي لها:   (*) هو الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن الثعلبي ولد في الكوفة قبل سنة 130 هـ وعاش في واسط ونشأبها وكان من المهتمين والمطلعين على أنساب العرب وقبائلهم فضلا عن تأريخ المسلمين وحوادثهم، ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 12، 14، 50- 54. (10) ينظر، المصدر نفسه، ص 144، 146. (11) ينظر، المصدر نفسه، ص 144. (12) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 1. الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد (ت 230 هـ) : هو محمد بن سعد بن منيع الزهري الهاشمي البصري، ولد في البصرة سنة (118 هـ) ، ثم انتقل إلى بغداد ولازم دار شيخه محمد بن عمر الواقدي، وسمع منه معظم كتبه ودونها عنه حتى أطلق عليه كاتب الواقدي، وقد نال ابن سعد مكانة سامية في نفوس العلماء وحصل على ثقتهم لدقته العلمية وحرصه الشديد على إتباع أساليب المحدثين في كتاباته ورواياته، وتوفي ابن سعد في بغداد سنة (230 هـ) «13» . خصص ابن سعد حيزا كبيرا من كتابه الطبقات لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «14» حتى عدّت هذه السيرة التي تضمنها هذا الكتاب من الأصول المهمة لقدمها وقرب عهدها من عصر الرسالة «15» . شكل هذا الحيز الكبير حافزا لابن سعد على تبني منهج جديد ومتطور يتناول فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأسلوب مغاير لما ألفته مصنفات عصره، وهذا المنهج قد تمثل بجوانب عدة مهمة أسهمت في بلوغ السيرة مكانة بارزة بين المصنفات الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «16» ، وهذه الجوانب هي: 1. التقاء نشاط المحدثين والإخباريين والنسابة في كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وانصهار تجاربهم في هذا المجال ضمن مصنف ابن سعد هذا «17» ، وما ذلك إلا لورود تراجم عديدة للذين شاركوا في حوادث السيرة أو الذين رووا أخبارها،   (13) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 5/ 321- 322، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 4/ 351. (14) ينظر، الطبقات الكبرى، مج 1/ ق 1/ 1- مج 2/ ق 2/ 98. (15) ينظر، هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 128- 132. (16) المصدر نفسه، ص 92- 93. (17) عباس، إحسان، مقدمة تحقيق كتاب الطبقات لابن سعد، دار صادر، 1967، 1/ 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 إذ وصف أحد الباحثين هذا العامل في كتابه الطبقات، بأنه: " محور وفلسفة جديدة تدل على معيار الشمولية في فهم التأريخ" «18» . علل الدوري منحى ابن سعد هذا بأنه أراد تسليط الضوء على تراجم مصنفي كتب الأيام والمغازي والفتوح ومساعدة المحدثين في تحقيق أسانيد الروايات التي ترد إليهم بتقسيم طبقات المحدثين على وفق مدنهم، مما يتبين أن دراسة الحديث في التأريخ قد أخذت في البروز تدريجيا عند العلماء «19» . أراد ابن سعد من وضعه ترجمة موسعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في بداية كتابه هذا لتبيان علاقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بصحابته وأثر هؤلاء في أحداث عصرهم، ومن ثم التعرف إلى من سار على منوالهم من الذين تتلمذوا عليهم وسمعوا منهم، وجعل سير هؤلاء مجتمعة مقياسا تعرف به عدالة وثقة كل راو منهم، وإلا فبماذا نعلل ورود تلك القوائم الهائلة من الأعلام على وفق البلدان وأسماء الصحابة الذين نزلوا في تلك البلدان وأسماء من رووا عنهم من الناس «20» ؛ غير تعرف الخبر الصادق من الخبر الكاذب الذي رواه الرواة وذلك بالاطلاع على علاقة الصحابة واتصالهم بجمهور المسلمين ومعرفة من روى عنهم، لتكون السيرة التي شملها هذا الكتاب العامل المباشر في ظهور تلك التراجم بأسماء الصحابة ومن تلاهم.   (18) ناجي، عبد الجبار، إسهامات مؤرخي البصرة في الكتابة التأريخية حتى نهاية القرن الرابع الهجري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990، ص 54. (19) ينظر، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 31- 32. (20) ينظر، الطبقات، 2/ 2/ 98- 135، 5/ 1- 143، 6/ 1- 391، 7/ 1/ 1- 119، 2/ 1- 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 2. تخصيص فصول مستقلة للجوانب الشخصية من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم، مثل أسمائه وكنيته «21» ، ومقتنياته الخاصة «22» ، فضلا عن عرض الجوانب الروحية لهذه الشخصية المباركة، مثل دلائل نبوته والمعاجز التي بدرت منه فضلا عن ذكر فضائله والسمات التي أتصف بها «23» . كانت هذه الجوانب التي ذكرها في كتابه هذا مجرد روايات متناثرة هنا وهناك متباعدة في بطون الكتب التي تعرض سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قبل ابن سعد، ولا سيما عند شيخه الواقدي «24» ، ولأجل ذلك عدّ عمله هذا من قبل بعض الباحثين الركيزة الأولى التي وضعت لنشوء المصنفات التي كتبت عن دلائل وأعلام النبوة، وشمائل وأخلاق النبي «25» ، فهو بهذا الأمر قد وضع الخطوط الأخيرة لهيكل السيرة، إذ ذهب أبعد من سابقيه في تنظيم مادته وتبويبها، وفي إعطاء مجموعة أو فى من الوثائق مع إفراد أبواب منفصلة ومتعددة لم تكن معروفة سابقا، مما حدا التواريخ التي تعرض سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعده على أن تتبع الخطة نفسها التي سار عليها ابن سعد في إثبات معلوماته «26» . 3. التركيز في حوادث عصر الرسالة وتفاصيلها عند عرضه حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وجعل أسبقيات الحوادث على وفق أهميتها، وهذا ما يفسر لنا   (21) ينظر، الطبقات الكبرى، مج 1/ ق 1/ 64، 66. (22) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 2/ 157- 186، 2/ 2/ 30، 59، 63. (23) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 2/ 97- 130. (24) ينظر، المغازي 1/ 93- 94، 97- 98، 107، 125- 127، 323- 324. (25) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 128، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 32. (26) الدوري، المصدر نفسه، ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 تقديمه الحديث عن بعض الحوادث التي حصلت في السنوات الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم على أخرى حصلت قبلها بسنوات عدة «27» ، والذي سهل عمله هذا وجعل ترابط الحوادث عنده غير مبعثر هو انتهاجه المنهج الموضوعي في عرض الحوادث من دون البحث عن أسبقية كل حادثة عن أخرى. علل أحد الباحثين منحى ابن سعد هذا بالقول: " أنه جعل معلوماته متسلسلة تأريخيا بعض الأحيان وفي أحيان أخرى دأب على تقديم هيكل عام للحدث التأريخي" «28» . 4. الاستفادة من تجارب شيخه الواقدي في تدوين وكتابة حوادث السيرة «29» ، إذ انصهرت معظم مصنفات شيخه في كتابه، وهذا ما بينته كثرة النقول من الواقدي في كتاب ابن سعد هذا «30» . فضلا عن ذلك فقد أكدت المصادر التي ترجمت لابن سعد صحة هذا الاحتمال، إذ عدّته أحد الأشخاص الأربعة الذين اجتمعت كتب الواقدي عندهم «31» .   (27) ينظر، الطبقات الكبرى، 1/ 2/ 15- 38، 38- 86. (28) ناجي، إسهامات مؤرخي البصرة، ص 55- 56. (29) صنف الواقدي مصنفات عدة عن بعض جوانب السيرة والحوادث التي رافقتها، إذ ذكرت العديد من المصادر قوائم بأسماء هذه المصنفات، ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 111، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 282، الصفدي، الوافي بالوفيات، 4/ 29. (30) ينظر، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 47، 82، 147، 2/ 4، 120، 2/ 1/ 23، 90، 129. (31) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 5/ 321، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 2/ 127، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 473، ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، 2/ 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أراد ابن سعد بعمله هذا أن يتمثل المصنفات التي أثارت على صاحبها شكوكا واتهامات كثيرة «32» ، وذلك باخراجها في مصنف يحوي هذه الكتب ويطبق فيه قواعد المحدثين بصرامة شديدة ليتلافى بذلك الأخطاء التي وقع فيها شيخه من حيث تسهله في بعض الأخبار، حتى وصف لأجل ذلك بعبارات مناقضة لما وصف به شيخه الواقدي «33» ، فمن هذه العبارات ما ذكره الخطيب البغدادي في ترجمته لمحمد بن سعد حين قال: " محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه، فإنه كان يتحرى في كثير من رواياته" «34» . أدت هذه الصرامة الشديدة من قبل ابن سعد في تطبيق قواعد المحدثين في الرواية وتقيده بالإسناد إلى أن جعل كتابه الطبقات بعامة، والسيرة منه بخاصة غفلا من الملاحظات والاراء الشخصية على ما يورده من حوادث وأسماء أشخاص شاركوا فيها أو رووها «35» ، فكان ابن سعد لأجل ذلك مجرد جامع للأخبار وليس ناقدا لها «36» . كل هذه الأمور مجتمعة جعلت من السيرة التي ضمنها ابن سعد كتابه الطبقات محل إعجاب العلماء، وإعجاب الباحثين أيضا حينما جعلوها من   (32) ينظر، الخطيب البغدادي، المصدر نفسه، 3/ 12- 18، ابن سيد الناس، عيون الأثر، ص 20- 21. (33) ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 473، الصفدي، الوافي بالوفيات، 3/ 88، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 9/ 182. (34) تأريخ بغداد، 5/ 322. (35) هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 130. (36) حاطوم، مدخل إلى التأريخ، ص 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 السير التي أسهمت إسهاما فاعلا في إرساء القواعد النهائية لما كتب بعدها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «37» . 2. الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر الأندلسى*: خصص ابن عبد البر حديثه في هذا الكتاب- كما هو واضح في عنوانه- عن تراجم صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولكنه قدم قبل الحديث عنهم عرضا موجزا لحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «38» ، إذ بين ذلك في مقدمته التي افتتح بها كتابه قائلا: " ونبدأ بذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، ونقتصر من خبره وسيرته على النكت التي يجب الوقوف عليها ولا يليق بذي علم جهلها وتحسن المذاكرة بها لتتسم الفائدة للعالم الراغب والمتعلم الطالب في التعرف بالمصحوب والمصاحب مختصرا ذلك أيضا مغنيا عما سواه كافيا" «39» . كانت السيرة التي حواها كتاب الاستيعاب بمثابة مدخل لكتابه عرض فيه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، للتبرك بها وعدّها غاية عليا يطمح جميع المسلمين إلى الاستنان بها، إذ وضحت عبارته التي ختم بها ذكره لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هذا الأمر، إذ يقول: " وقد أكثر الناس في ذكر من أدخله في قبره وفي هيأة كفنه وفي صفة خلقه وخلقه وغزواته وسيرة مما لا سبيل في كتابنا هذا إلى ذكره، وإنما   (37) ينظر، هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ص 128، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ، ص 32، ناجي، إسهامات مؤرخي البصرة، ص 54- 56. (*) تناولها حياته وإسهاماته في كتابة السيرة بالأندلس في ص 93- 94 من هذه الدراسة. (38) ينظر، الاستيعاب، 1/ 25- 47. (39) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أجرينا من ذكره صلى الله عليه وآله وسلّم هاهنا لمعا يحسن الوقوف عليها والمذاكرة بها تبركا بذكره في أول الكتاب" «40» . كان للحافز الأخلاقي الذي كتبت به هذه السيرة التي تضمنها هذا الكتاب أثر ملموس في جعل هذه السيرة سيرة تقليدية، إذ لم تظهر فيها أي سمة تطورية ضمن كتب الطبقات، ولكن الذي ساعد على ديمومة هذه السيرة ضمن مثل هذه المصنفات هو اتباعه أسلوبا مبسطا ومنهجا موضوعيا في الكتابة كان من نتائجه أن وضع مصادره في بداية كتابه هذا «41» ، إذ حاكى بذلك المسعودي الذي وضع هو الاخر قائمة بأسماء مصادره التي اعتمد عليها في أول كتبه «42» ، مع الإحالة إلى مصنفاته التي توسع في الحديث بها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في أكثر من مكان من هذا الكتاب «43» . كان هذا الكتاب مكملا لكتابه الاخر الدرر الذي صنفه بعده، إذ وضح ذلك بقوله: " وهذا كتاب اختصرت فيه ذكر مبعث النبي وابتداء دعوته وأول الأمر في رسالته ومغازيه وسيرته، لأني ذكرت مولده وحاله في نشأته وعيونا من أخباره في كتاب الصحابة" «44» . ولأجل هذا كله كانت السيرة التي تضمنها كتاب الاستيعاب مجرد مختصر بسيط لبعض جوانب السيرة والهدف منه الحصول على المثوبة والذكر الطيب والصدقة الجارية.   (40) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 47. (41) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 20- 25. (42) ينظر، مروج الذهب، 1/ 9- 10، التنبيه والاشراف، ص 4- 5. (43) ينظر، الاستيعاب، 1/ 24- 25، 26، 27، 30، 31، 34، 40. (44) الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 3. أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) *: ثبت ابن الأثير سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم افتتح بها هذا الكتاب «45» ، إذ سار على منوال من سبقه في إيراد سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في صدر الكتب التي ترجمت صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وذلك لإكمال الحلقة في التعرض للصاحب والمصحوب، وهذا ما أوضحه ابن الأثير في كتابه هذا الذي يقول في مقدمته التي افتتحها بالقول: " ونبدأ بذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تبركا باسمه وتشريفا بذكره المبارك لأن معرفة المصحوب ينبغي أن تقدم على معرفة الصاحب وإن كان اظهر من أن يعرف ... " «46» ، ويختم هذه السيرة قائلا: " فهذا القدر كاف ولو ربما شرح أحواله على الاستقصاء لكان عدة مجلدات وفي هذا كفاية للمذاكرة والتبرك فلا نطول فيه والسلام" «47» . كانت هذه السيرة مثل سابقتها التي وردت في الاستيعاب والتي انعدم فيها التطور والتجديد في الكتابة لأن الطابع الذي كتبت فيه ليس طابعا علميا بل كان طابعا عاطفيا وهذا الطابع يكون تقليديا صرفا لأن الموضوع لا نلمس فيه جهدا ملحوظا سوى تطبيق أساليب ومناهج سابقة على موضوع كثرت فيه الكتابات (سيرة الرسول) حتى وصلت حد التخمة في عصره، ولكن الذي لمسناه في هذه السيرة التي ضمنها ابن الأثير في كتابه هذا مخالفة واضحة لما نهجه   (*) تناولنا في الصفحات السابقة من البحث عرض بسيطا لأحوال ابن الأثير الجزري ودوره في كتابة السيرة، ينظر، ص 142- 143 من البحث. (45) ينظر، أسد الغاية، 1/ 12- 34. (46) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 12. (47) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 من أسلوب في عرض مضامين كتابه الكامل في التأريخ ولا سيما قسم السيرة منه، إذ وضح هذا الاختلاف بنقاط عدة هي: 1. إن السيرة التي تضمنها كتاب أسد الغابة قد كان الهدف من إثباتها هو هدف أخلاقي القصد منه التبرك بعكس ما أراده في كتابه الكامل الذي خصص فيه حيزا كبيرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «48» وذلك لأنها شغلت حقبة تأريخية مهمة من تأريخ العالم، ولكنه اعتمد في ذلك على ما كتبه الطبري عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فكانت السيرة التي حواها هذا الكتاب مجرد تهذيب لها «49» . 2. الاعتماد على موارد لم يعتمد عليها في كتابه الكامل، إذ كان الطبري وما كتبه في تأريخه هو المعول عليه عنده كما وضحته مقالته التي افتتح بها كتابه هذا «50» ، أما في كتابه أسد الغابة فقد عرض مصادره في بداية كتابه والتي لم يظهر فيها أي ذكر لتأريخ الطبري الذي اعتمد عليه في كتابه الكامل، إذ شملت على الصحاح والمسانيد والسنن وكتب المغازي وغيرها «51» ، واعتمد أيضا على روايات شفوية لبعض مشايخه وذلك في مواطن عدة من هذه السيرة «52» ، فضلا عن اعتماده على طريق مخالف للطريق الذي سلكه في كتابه الكامل للوصول إلى سيرة ابن إسحاق، إذ كان طريق الطبري المشهور إلى سيرة ابن إسحاق   (48) ينظر، الكامل في التأريخ، 2/ 239- 3/ 217. (49) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 5. (50) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 5. (51) ينظر، أسد الغاية، 1/ 8- 11. (52) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 20، 21، 24، 25، 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 بوساطة شيخه سلمة بن الفضل «53» ، أما الطريق الذي سلكه ابن الأثير فقد كان بوساطة يونس بن بكير «54» . بين هذا الأمر استقلالية ابن الأثير في تصنيفه لكتابه أسد الغابة من حيث الموارد والمنهج عن كتابه الكامل في التأريخ ولا سيما قسم السيرة منه، وإن لم يأت بشيء جديد فيه، ولكن الطريقة التي عرض فيها السيرة ضمن مصنفين من مصنفاته جعلنا نعقد مقارنة بين ما كتبه في كل واحد منهما عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. كل هذه الأمور أدت بطبيعة الحال إلى أن تكون ملامح السيرة المثبتة في كل من هذين الكتابين مغايرة للأخرى، وجاءت بعض الروايات مختصرة عن سابقتها التي وردت في كتاب الكامل في التأريخ «55» . بعد هذه المقارنة بين هذين الكتابين نرى أن كلا منهما لم يرتبط بالاخر ولم يكن مكملا له بل كان كل واحد من هذين الكتابين ولا سيما في قسم السيرة منهما مستقلا عن الاخر، ومن ثم فإن ابن الأثير بتضمينه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابه هذا قد كان آخر من حاول تضمين سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن كتب الطبقات، حتى أن المصادر التي تأخرت عنه والتي كتبت في الموضوع نفسه (الطبقات) قد أغفلت إيراد سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في بدايتها «56» .   (53) ينظر، تأريخ الرسل والملوك، 2/ 3. (54) ينظر، أسد الغاية، 1/ 11. (55) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 15، 20، 22، 23، 24- 25، 27- 28، 29- 30. (56) ينظر، ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 هذه هي ثلاثة نماذج من كتب الطبقات التي استعرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مصحوبة بتراجم الأشخاص الذين صاحبوه والذين أتوا بعده، مع الإشارة إلى أن هذه الكتب لم تكسب السيرة تطورا يذكر الا اذا عددنا سحب السيرة من كونها مستقلة او ضمن كتب التاريخ العام، ودمجها في كتب تراجم الصحابة نوعا من التطور. بقي أن نذكر أن كتب الطبقات لم تكن مقتصرة على شريحة كبيرة من الناس متمثلة بصحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أو تابعيهم، بل تعدت ذلك الى التخصص في الترجمة للأئمة الإثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) ، أو في الترجمة للأصفياء والصالحين، أو في الترجمة للخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وبني العباس، وكتب الطبقات هذه شملت: أ. أئمة أهل البيت (عليهم السلام) : والتخصص في كتابة ترجمة للأئمة (عليهم السلام) قد شمل جماعة من المصنفين جعلوا سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في بداية كتبهم، وقد وصلت الينا مصنفات عدة كتبت في هذا الجانب هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 1. إعلام الورى بأعلام الهدى للفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 هـ) : 2. كانت المصنفات التي سبقت مصنف الطبرسي هذا والتي شاركته في الموضوع قد أغفلت كتابة سيرة مستقلة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «57» ، إذ استغرب الطبرسي من ذلك حتى أوضحت مقدمة كتابه هذا الأمر: " إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله هو الشجرة وهم أغصانها والدوحة وهم افنائها ومنبع العلم وهم عيبته ومعدن الحكم وهم خزانته ... فهو أولى أن يقدم في الذكر وتبيين آياته الناطقة برسالاته وأعلامه الدالة على نبوته ومعاجزه ... " «58» ، ولأجل ذلك افتتح كتابه بعرض موسع لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم شغلت حيزا كبيرا منه قياسا بحجم باقي الكتاب الذي خصص للحديث عن حياة الأئمة (عليهم السلام) «59» ، مع العلم إنه قد أراد اختزالها إلى أقل حد ممكن كما أشار إلى ذلك في مواطن عديدة من هذا الكتاب «60» . اصبح منحى الطبرسي هذا سنة اتبعها كل من حاول الكتابة والتصنيف في حياة الأئمة وأحوالهم وذلك بالافتتاح بذكر سيرة الرسول وأحواله «61» .   (57) ينظر، الشيخ المفيد، محمد بن محمد النعمان، (ت 412 هـ) ، الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد، تحقيق، علي أكبر بخاري، المكتبة العلمية، طهران، 1389 هـ، ص 9. (58) ينظر، أعلام الورى، ص 11- 12. (59) ينظر، المصدر نفسه، ص 12- 154. (60) ينظر، المصدر نفسه، ص 27- 30، 31، 41، 46. (61) ينظر، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1/ 13- 244، الأربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، المطبعة الحيدرية، النجف، ط 2، 1972، 1/ 6- 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ومن هنا نرى أن الطبرسي بمنحاه هذا قد إتجه إلى إدخال السيرة النبوية في مصنفات لم يسبقه إليها أحد، ونتيجة لعمل الطبرسي الرائد هذا ظهرت في السيرة التي كتبها ملامح تجديدية نستطيع عدّها جوانب تطورية في كتابة السيرة ضمن مصنفات (سير الأئمة) وهذه الملامح أو الجوانب التطورية هي: 1. الاعتماد على مصادر لم يعتمد عليها سابقوه من كتاب السيرة بعامة، وهذه المصادر تمثلت بالمصنفات التي كتبها إبان بن عثمان البجلي (ت 153 هـ) *، عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، والتي ذكرتها المصادر التي ترجمت لهم. فالطبرسي بهذا العمل قد حفظ لنا نصوصا من كتب أغفل الذين سبقوه النقل منها في السير التي كتبوها، وكانت هذه النقول من الكثرة بمكان حتى شملت معظم أجزاء السيرة التي افتتح بها الطبرسي كتابه تيمنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم «62» . ويعدّ اعتماد الطبرسي على تلك المصنفات راجعا إلى أنه أخذ من موارد توافقه في الميول والاتجاهات، فهو بعمله قد اقتبس من مصنفات لم تشتهر عند عموم المسلمين كقريناتها الأخرى لتباين وجهات النظر بين مصنفيها في بعض المسائل التي اختلفت الاراء فيها، وقد وجدت هذه الاراء بعض المواطن لها بين طيات السيرة التي تضمنها هذا الكتاب «63» .   (*) أبان بن عثمان الأحمر الكوفي، أحد الرواة المشهورين عن الائمة جعفر بن محمد الصادق وموسى الكاظم (عليهم السلام) ، وله كتاب يجمع المبتدا والمبعث والمغازي والوفاة والسقيفة والرّدة، ينظر القهبائي، زكي الدين ابن شرف، مجمع الرجال، اصفهان، 1384 هـ، 1/ 24- 27. (62) ينظر، أعلام الورى، ص 14، 20، 21- 24، 42، 47، 48، 49، 58، 65، 66- 71، 79- 82، 91، 138، 140، 142. (63) ينظر، المصدر نفسه، ص 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مع هذا كله فالطبرسي لم يجعل من هذه المصادر التي اتفقت معه في الاراء والمشارب حكرا على كتابه بل كانت هناك نقول من مصادر أخرى وجدت لها مكانا طيبا في هذا الكتاب «64» . 2. حوى كتابه على بعض الردود والمحاججات الكلامية مع أصحاب الملل المنكرة للنبوة ولمعاجز الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «65» ، حتى اضطر إلى قطع هذه المحاججات والردود- كما أشار إلى ذلك- خوفا من الإطالة في إيرادها إذ قال: " ولو ذهبنا لضبط ما سطره المتكلمون في هذا الباب من الكلام وما فيه من السؤال والجواب لطال به الكتاب وفي ما ذكرناه هاهنا مقنع وكفاية لذوي الألباب" «66» . هذه هي الجوانب التي لاحظ البحث أنها إضافات أدخلها الطبرسي على كتابة السيرة النبوية جنبا إلى جنب سير الأئمة (عليهم السلام) . 2. مناقب آل أبي طالب لأبي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب (ت 588 هـ) : هو أبو جعفر رشيد الدين السروي من كبار أعلام الشيعة الإمامية وعلمائهم، ومن الذين كان لهم الباع الطويل في علوم القرآن والغريب والنحو حتى قيل فيه: ابن شهر آشوب عند الشيعة كالخطيب البغدادي عند أهل السنة «67» .   (64) ينظر، المصدر نفسه، ص 15، 16، 24- 26، 48، 50، 57، 63، 73، 78، 130. (65) ينظر، المصدر نفسه، ص 28- 31. (66) ينظر، المصدر نفسه، ص 31. (67) ينظر، القمي، عباس، الكنى والألقاب، مطبعة العرفان، صيدا، 1357 هـ، 1/ 321- 322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 صنف ابن شهر آشوب كتابه المناقب على غرار كتاب الطبرسي آنف الذكر بل كان الأخير أحد مصادره «68» ، إذ خصص قسما كبيرا من هذا الكتاب للحديث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «69» . أسهمت هذه السيرة التي تضمنها هذا الكتاب في تطور ملحوظ بكتابة السيرة ضمن كتب سير الأئمة، وذلك للمنحى المغاير الذي إنتهجه في عرضها والذي خالف فيه سابقه الطبرسي عند عرضه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ تمثل هذا المنحى بجوانب عدة هي: 1. إن المقاصد والغايات التي كتب بها ابن شهر آشوب السيرة في كتابه هذا هي مقاصد وأهداف كان وراءها حافز عقائدي تمثل بدحض بعض الاراء والأفكار التي أثيرت على طائفته، فضلا عن تصحيح بعض الأخطاء التاريخية الشائعة في نظره، كما أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه التي افتتحها بالقول: " لما رأيت كفر العداة والشراة بأمير المؤمنين ووجدت الشيعة والسنة في إمامته مختلفين وأكثر الناس عن ولاء أهل البيت ناكصين وعن ذكرهم هاربين وفي علومهم طاعنين ولمحبتهم كارهين انتبهت من نومة الغافلين، فصار لي ذلك لطفا في كشف الأحوال والنظر في اختلاف الأقوال ... فنظرت بعين الأنصاف ورفضت مذهب التعصب في الخلاف وكتب على نفسي أن أميز الشبهة من الحجة والبدعة من السنة وأفرق بين الصحيح والسقيم والحديث والقديم وأعرف الحق من الباطل والمفضول من الفاضل وانصر الحق وأتبعه وأقهر الباطل   (68) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 12. (69) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 13- 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وأقمعه وأظهر ما كتموا، وأجمع ما فرقوا، واذكر ما أجمع عليه واختلفوا فيه على ما أدته الرواية وأشير إلى ما رواه الخاصة ... فاستصوبت من عيون كتب العامة والخاصة معا لأنه إذا أتفق المتضادان في النقل على خبر فالخبر حاكم عليهما، وشاهد للمحق في اعتقاده منهما وإذا اعتقدت فرقة خلاف ما روت ودانت بضد ما نقلت وأخبرت" «70» ، فضلا عن وجود بعد أخلاقي وديني في الكتاب وذلك في قوله: " ونظمته للمعادي لا للمعاش، وأدخرته للدين لا للدنيا. فاسأل الله (تعالى) أن يجعله سبب نجاتي وحط سيئاتي ورفع درجاتي انه سميع مجيب" «71» . أما الطبرسي فقد كانت غايته أخلاقية بالدرجة الأولى كما وضحت ذلك مقدمة كتابه «72» . 2. عقد ابن شهر آشوب في بداية كتابه مبحثا مستقلا عرض فيه مصادره التي اعتمد عليها في كتابه «73» ، وهذا يعدّ تبويبا منهجيا متطورا للكتاب وفصوله بعكس ما نهجه الطبرسي حين أورد المصادر جنبا إلى جنب مع الروايات التي أثبتها في كتابه «74» ، علما أن هناك ظاهرة وجدت في بعض المصنفات التأريخية التي كتبت في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وهي كتابة ثبت بأسماء   (70) المصدر نفسه، 1/ 2- 6. (71) المصدر نفسه، 1/ 13. (72) ينظر، إعلام الورى، ص 11- 12. (73) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 6- 13. (74) ينظر، إعلام الورى، ص 11- 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 المصادر المعتمدة في بداية الكتب «75» ، واستمرت هذه الظاهرة حتى وقت متأخر «76» . 3. عرض ابن شهر آشوب في هذه السيرة الأشعار التي قيلت في حوادث السيرة «77» ، إذ أشار في بداية كتابه إلى هذا المنحى قائلا: " ثم وشمت هذه الأخبار بشواهد الأشعار" «78» ، أما الطبرسي فقد كانت الشواهد الشعرية التي ذكرها في سيرته للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قليلة اذا ما قورنت بالاشعار التي ذكرها ابن شهر آشوب «79» . هذه هي أوجه الاختلاف بين منحى كل من ابن شهر آشوب والطبرسي في كتابة السيرة النبوية ضمن كتب سير أئمة أهل البيت (عليهم السلام) . لم تقتصر السيرة التي كتبها ابن شهر آشوب على هذه المحاور التقليدية والمألوفة في المصنفات العديدة التي سبقته في الكتابة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم سواء أكانت مستقلة أم مدمجة، بل وجدنا في طياتها منحى تطوريا في كتابة السيرة بعامة نضيفه إلى اوجه الاختلاف التي عرضناها آنفا بين السيرة التي كتبها هو والتي كتبها الطبرسي وقد تمثل هذا المنحى التطوري بجوانب عدة:   (75) ينظر، المسعودي، التنبيه والاشراف، ص 4- 5 ابن عبد البر، الاستيعاب، 1/ 20- 25، العظيمي، التأريخ، ورقة، 51- 52. (76) ينظر، الكلاعي، الاكتفا في مغازي الرسول، 1/ 2- 7، ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/ 332- 325، الصفدي، الوافي بالوفيات، 1/ 3- 25. (77) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 18، 20، 21، 22، 23، 25، 26، 27، 28، 30، 32، 34، 36، 39- 40. (78) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 13. (79) ينظر، إعلام الورى، ص 23، 28، 34، 35، 37، 48، 55، 58، 95، 100- 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 1. أورد قصائد الشعراء المتأخرين عن عصر الرسالة الذين صوروا فيها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله بكثرة مفرطة «80» ، ويعدّ هذا الأمر سابقة لم تألفها المصادر التي سبقته، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الرغبة في إيراد متابعات الحوادث بالقصائد التي عبرت عن عواطف وأحاسيس قائليها في ما تضمنته تلك الحوادث من أمور حركت هذه العواطف والأحاسيس التي كانت تصف مجرياتها الدقيقة، وقد تباينت تلك القصائد في الطول والقصر، فبعضها يتكون من اربعة أو خمسة أبيات «81» ، في حين تجاوزت الأخرى ذلك بكثير «82» . استمر هذا المنحى عند المتأخرين عنه إذ أخذوا بتطعيم حوادث السيرة بما قيل في وصفها من شعر لدى المتأخرين عن عصر الرسالة «83» ، وإن لم يكن بالضرورة تأكيد أن ابن شهر آشوب هو أول من اتجه إلى هذا المنحى مع العلم أن المصنفات التي وصلت إلينا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بمختلف أنماط كتابتها حتى عصر ابن شهر آشوب لم يكن فيها مثل تلك القصائد والأبيات الشعرية. 2. عقد فصلا مستقلا في هذه السيرة تحدث فيه عن الخصائص التي خص الله بها نبيه الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلّم من دون الأنبياء والبشر أسماه (فصل في ما خصه الله من اللطائف) «84» ، وهذه الخصائص أو اللطائف لم تكن موجودة   (80) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 20، 25، 30، 32، 48، 50، 57، 69- 70، 72، 78، 79، 82، 84، 88، 91. (81) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 20، 25، 30، 32، 48، 50، 72، 79، 82، 128. (82) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 57، 85، 215- 216. (83) ينظر، ابن عربي، محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، 1/ 44، ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/ 297، 298- 299، الصفدي، الوافي بالوفيات، 1/ 56، 57، 60، 62، 63، 71، 74، 89، 92، 94. (84) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 213- 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 في المصنفات التي سبقته بهذه الاستقلالية، واللطائف تعني الاتحافات الربانية التي حبا بها الله (سبحانه وتعالى) نبيه الكريم في الرفق والعمل والبر والتكرمة والتحفي «85» . وهذا الشروع الجديد من نوعه من قبل ابن شهر آشوب كان أحد العوامل التي ساعدت على ظهور كتابات مستقلة في هذا الجانب (خصائص الرسول) «86» . 3. تقسيمه لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم على أقسام متعددة هي: أ/ معجزات أقوال «87» . ب/ معجزات أفعال «88» . ج/ معجزات ذاتية في نفسه «89» . وهذا التقسيم لم يكن مألوفا عند من أحصى تلك المعجزات سواء أكان إحصاؤه في مصنفات السيرة المستقلة، أم المدمجة في الكتب الأخرى، أم في أحد جوانبها المستقلة، حيث كانت هذه المصنفات عند إيرادها هذه المعجزات تحصيها على وفق أسبقيتها الزمنية مدمجة مع دلائل وأعلام نبوته، أو تقسيم هذه الدلائل على وفق الحوادث، كما أشارت إلى ذلك المصنفات التي اختصت بهذا الجانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «90» .   (85) ينظر، ابن منظور، لسان العرب، (مادة لطف) ، 12/ 261. (86) ينظر، ص 225- 229 من هذه الدراسة. (87) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 107- 115. (88) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 115- 123. (89) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 123- 127. (90) ينظر، ص 207- 224 من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 شكل هذا الاهتمام بالجانب الروحي والإعجازي في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عند ابن شهر آشوب حيزا كبيرا في كتابه هذا ولا سيما في قسم السيرة منه «91» ، مما يبين أثر هذا الجانب ومكانته عند ابن شهر آشوب وطبيعة نظرته إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله. هذه هي الجوانب التي أضفاها ابن شهر آشوب على كتابة السيرة ضمن كتب الطبقات مما شكلت نقطة تحول بارزة في كتابة السيرة النبوية ضمن هذه الكتب. ب. طبقة الأصفياء والصالحين والزهاد: كان للدافع الأخلاقي الدور الفعال عند العلماء بعامة، والمؤرخين بخاصة ولا سيما في الاتجاه إلى الكتابة في توثيق حياة الأصفياء والصالحين في مصنف يحوي تراجمهم، وهذا ما وضحته مقدمات هذه المصنفات التي سنتناولها على وفق أسبقيتها الزمنية، مع تبيان أثر هذا الحافز في كتابتها وابتداء بعضها بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لكون شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم القدوة والمثال لجميع شخصيات المسلمين بوصفه الأسوة الحسنة امتثالا لما أمرهم الله (سبحانه وتعالى) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «92» ، ولأجل هذا الدافع كانت هذه المصنفات فاقدة لأي طابع تطوري عند كتابتها لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن صحائفها التي شملت مصنفات عدة هي:   (91) ينظر، مناقب آل أبي طالب، 1/ 70- 150. (92) سورة الأحزاب، آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 1. صفة الصفوة لعبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) : أوضحت مقدمة ابن الجوزي لهذا الكتاب أثر العامل الأخلاقي في كتابتها، حين بين فيها سبب إدخاله السيرة ضمن هذه الكتب، إذ خص هذا الكتاب منها بحيز كبير افتتحه بها «93» ، إذ وضح هذا العامل بالقول: " ولما سميت كتابي هذا بير افتتحه بها «93» ، إذ وضح هذا العامل بالقول: " ولما سميت كتابي هذا صفة الصفوة رأيت أن افتتحه بذكر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم فانه صفوة الخلق وقدوة العالم «94» ، ثم يؤكد دافعه الأخلاقي في مكان آخر بالقول: " إن كتابنا هذا إنما وضع لمداواة القلوب وإصلاحها" «95» . لم يكن في هذه السيرة التي تضمنها هذا الكتاب أي تطور ملحوظ، إذ كانت الجوانب التي تطرق لها مألوفة في معظم المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «96» ، ومن ثم فقد كانت هذه السيرة مجرد إعادة وتكرار لما كتب سابقا.   (93) ينظر، صفوة الصفوة، 1/ 46- 234. (94) المصدر نفسه، 1/ 32. (95) المصدر نفسه، 1/ 33. (96) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 91، 104، 117، 151، 165، 167، 171، 172، 175، 177، 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 أنباء نجباء الأنباء لمحمد بن ظفر الصقلي (ت 565 هـ) : ضمن ابن ظفر كتابه هذا سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في بدايته «97» ، معللا ذلك بالقول: " افتتحته بكر سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بالتيمن بذكر والتشرف بالإيماء إلى شرف قدره ... إذ هو الواسطة الثمينة والفريدة الكريمة التي أقر الله بها عين ابن آدم والصفوة من بعده" «98» . بينت هذه المقدمة الدور الذي لعبه الحافز الأخلاقي في مفتتح كتابه هذا، حين كانت سيرته هي الأخرى مجرد عرض بسيط لبعض الحوادث الرئيسة «99» . لم يقتصر هذا الحافز على المصنفات التي كتبت في المدة قيد الدراسة بل وجدنا أحد المتأخرين وهو علي بن صدقة السرميني (ت 821 هـ) قد حفزه هذا العامل الأخلاقي على تضمين سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مصنفه الذي تحدث فيه عن أخلاق العباد وذكر الأعلام الذين تساموا في أخلاقهم وتصرفاتهم «100» ، حيث وضح أثر هذا العامل بقوله: " استخرت الله ... العليم في جمع أوراق أذكر فيها طرفا من أخبار السلف الصالحين وابتدأ فيه بذكر النبي العربي وهو أولى من غيره بالذكر ومن بعده ... فلعل الله برحمته ومنه فضله يشركني لذلك في الأجر معهم ويدخلني بينهم وإن لم أكن منهم ولا سيما وأني أحبهم والمرء مع من أحبه" «101» .   (97) ينظر، أنباء نجباء الأنباء، مطبعة التقدم، مصر، 1328 هـ، ص 5- 9. (98) ينظر، أنباء نجباء الأنباء، ص 5- 6. (99) ينظر، المصدر نفسه، ص 6، 7، 8، 9. (100) ينظر، درة الأبكار في وصف الصفوة الأخيار، مخطوط مصور في مكتبة الحكيم العامة، رقم (101) ، تأريخ، ورقة 3- 8. (101) المصدر نفسه، ورقة 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 هذه هي المصنفات التي جعلت من الحافز أو الدافع الأخلاقي مقصدا لها في إدخال السيرة النبوية ضمن كتب الأصفياء والصالحين والتي لم نجد فيها أي تطور لكتابة السيرة لأن هدفها قد أنصب على تهذيب النفوس التي انغمست في المعاصي وتركت العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وصحابته وطريقة عيشهم. ج. طبقة الخلفاء: هذه طبقة أخرى خصها المؤرخون بالتصنيف في مصنفات مستقلة يتحدثون فيها عن كل واحد منهم، إذ أسمى حاجي خليفة هذا النوع من التصنيف ب [علم تأريخ الخلفاء] ، وعرفه بقوله: " وهو من فروع التواريخ وقد أفرد بعض العلماء تأريخ الخلفاء الأربعة وبعضهم ضم معهم الأمويون والعباسيون لاشتمال على مزيد الاعتبار وقد سبق ما صنفوا منه" «102» . أدخل معظم مصنفي هذه الكتب سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في بدايتها وذلك لإكمال الحلقة المفقودة بوجود الخليفة وغياب المستخلف، وكانت السير التي تضمنتها مصنفات طبقة الخلفاء عبارة عن تكرار وإعادة لما ذكر في مصنفات سابقة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذه المصنفات التي وصلت إلينا هي:   (102) ينظر، كشف الظنون، 1/ 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 1. تأريخ الخلفاء لأبي عبد الله محمد بن ماجه (ت 273 هـ) *: هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني مصنف السنن والتأريخ والتفسير والتراجم «103» . صنف ابن ماجه كتابه هذا ابتداء بعصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وانتهاء بعصر المستكفي العباسي «104» ، وأمتاز هذا الكتاب بالاقتضاب والاختصار باستعراض الحوادث التي ذكرها بين هذين العصرين ومن ضمنها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم التي لم تشغل منه سوى ورقات قليلة جدا أشار فيها إلى الحوادث المهمة التي وقعت في عصر الرسالة «105» ، وهذا الاختصار الشديد لم يدع ابن ماجه أن يظهر أي اثر أو منحى تطوري في هذا الكتاب ولا سيما في قسم السيرة منه، بل كان مجرد عرض سريع لأسماء الخلفاء الذين تولوا إمرة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. 2. مختصر تأريخ الخلفاء لأبي محمد إسماعيل بن علي بن إسماعيل الخطي (ت 350 هـ) : كان هذا المصنّف من العلماء البارزين في عصره الذين سكنوا بغداد ودرسوا فيها، برع في معرفة أيام الناس وأخبار الخلفاء، وكان يتحرى الصدق في إيراد أخبارهم كما أشارت إلى ذلك الكتب التي ترجمت له «106» .   (*) قام محمد مطيع الحافظ بتحقيق هذا الكتاب وإصداره بطبعتين الأولى في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق في عددها المرقم 43 لسنة 1976 والثانية بشكل مستقل في مؤسس الرسالة بيروت عام 1979. (103) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 189- 190، ابن حجر، تهذيب التهذيب، 5/ 530- 532. (104) ينظر، تأريخ الخلفاء، مجلة مجمع اللغة العربية، ص 19- 59. (105) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 19- 21. (106) ينظر، الصفدي، الوافي بالوفيات، 1/ 50، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، 1/ 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 عرض الخطي في كتابه هذا سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في ورقات يسيرة «107» ، كان الهدف من إيجازها تسهيل مهمة حفظها وكتابه المختصر الذي يقول في مقدمته: " هذا كتاب مختصر من كتاب تأريخ الخلفاء وتأريخ أقامتهم وأعمارهم وصفاتهم ... فإن ذلك في الكتاب الكبير مرسوم وأسقطته ها هنا ليقرب متناوله ويسهل حفظه" «108» ، إذ بينت هذه المقدمة أن هذا الكتاب مختصر لكتاب أوسع صنفه في هذا المجال مما يدل على أن السيرة التي حوته كانت أوسع بكثير من هذه السيرة التي تضمنها كتابه المختصر، ومع هذا الاختصار فإن هذه السيرة قد حوت في طياتها بعض الجوانب التي بينت شخصية الخطي في كتابه، وهذه الجوانب هي: 1. التصريح بالقول إن الهدف من تصنيف هذا الكتاب هو إيجاد مجموع بسيط يسهل حفظه «109» ، فكان الحافز على تصنيف هذا الكتاب حافزا علميا خالف به معظم المصنفات السابقة التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمنها. 2. استعمال الإسناد في ذكر حوادث السيرة ومتعلقاتها «110» ، وذلك حرصا منه على تدقيق الروايات ونقلها وتسهيل مهمة من يأتي بعده ويطلع على كتابه في أن يتبين مواطن الضعف والقوة في ذكر الأسانيد، ولا سيما قسم السيرة منه، إذ غفل باقي كتابه عن أي سلسلة للسند، وقد صرح في مقدمة كتابه مبينا ذلك بالقول: " ولا أكرر من الأسانيد في ذلك ما يطول عليّ به الكتاب ولا أدع تقييده منها بما لابد منه" «111» ، وأردف بعد ما انتهى من عرض سيرة   (107) ينظر، مختصر تأريخ الخلفاء، مخطوط مصور في مكتبة المجمع العلمي العراقي، برقم (322) ، تأريخ، ورقة 2- 6. (108) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 2. (109) ينظر، مختصر تاريخ الخلفاء، ورقة 2. (110) ينظر، الصدر نفسه، ورقة 2- 6. (111) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابه قائلا: " كل ما أذكره الان في هذا الكتاب بغير إسناد إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان، ... ثم يتغير الإسناد ... وما أذكره عن أبي معشر بغير إسناد كله" «112» . وهذا ما افتقدته المصنفات التي كتبت في ضوء منحاه نفسه، إذ أغفلت معظمها أسانيد الروايات التي وردت فيها، وكما لا حظنا وسنلا حظ من عرضنا لهذه المصنفات التي كتبت في هذا الجانب. أعطانا هذا الأمر عرضا للمصادر المكتوبة التي اعتمد عليها الخطي في كتابه هذا ولا سيما في قسم السيرة منه فضلا عن اعتماده على روايات شفوية لم يعتمد في نقلها على كتاب «113» . 3. الاهتمام بالتوثيق التأريخي للحوادث باليوم والشهر والسنة «114» . هذه هي الجوانب التي اتصفت بها السيرة النبوية في هذا الكتاب عن باقي الكتب التي تناولت تأريخ الخلفاء باستقلالية، وإن كانت الحوادث التي عرضها قد اتصفت بها مصنفات قبله، ولكن هذه المصنفات- كما لا حظنا- اختلفت معه في الموضوع الذي طرحته، مما نستدل به على أن الخطي كان له دور في تطور كتابة السيرة ضمن كتب تواريخ الخلفاء حصرا، وذلك حين أدخل المناهج المتبعة في المصنفات التي تمتاز بالشمولية والتفصيل في ذكر الحوادث، مع   (112) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 6. (113) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 2، 4، 6. (114) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 2، 3، 4، 5، 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 العلم أن هذا الكتاب- كما أشار مصنفه في مقدمته- عبارة عن مختصر لكتاب أشمل وأكبر من هذا الذي بين أيدينا «115» . 3. عنوان المعارف وذكر الخلائف للصاحب بن عباد (ت 385 هـ) *: هو الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد الشاعر الأديب والنحوي البارع الذي كان أعجوبة زمانه تولى الوزارة لأمراء البويهيين واجتمع بحضرته من العلماء والشعراء ما لم يجتمع لغيره «116» ، صنف الصاحب بن عباد هذا الكتاب وضم فيه عرضا مبسطا للخلفاء الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حتى عصره «117» ، مع تخصيص حيز بسيط فيه لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «118» . كان الدافع من تصنيف هذا الكتاب دافعا علميا تمثل بجواب عن أحد الأسئلة التي طرحها أحد تلاميذه عليه في معرفة نسب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله، وهذا ما بينته مقدمته التي يقول فيها: " قد اسعفتك بالمجموع الذي التمسته في نسب النبي صلى الله عليه وآله وبنيه وبناته وأعماله وعماته وجمل من غزواته، وسائر ما يتصل بذلك من مولده ومدفنه وهجرته وتسمية أفراسه ونوقه وسيفه ودرعه، واثبت ذلك من خوطب بالخلافة على النسق وغير مرتب للمفضول   (115) ينظر، مختصر تأريخ الخلفاء، ورقة 2. (*) قام الشيخ محمد حسن آل ياسين بتحقيق هذا الكتاب سنة 1966، وطبع في بغداد. (116) تنظر، ترجمة الثعالبي، يتيمة الدهر، 3/ 169- 170، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 6/ 257. (117) ينظر، عنوان المعارف، ص 7- 48. (118) ينظر، المصدر نفسه، ص 7- 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 على الفاضل ... بعد أن آثرت الاختصار الذي طلبته والإيجاز الذي حاولته" «119» . من هذا نرى أن السيرة التي تضمنها هذا المصنف قد كتبت لغايات علمية ولكنها من الاختصار بمكان إذ لم تظهر فيها أي ملامح تطورية في كتابة السيرة تختلف في مضمونها ونسقها وأسلوبها عن مصنفات عرضت سيرة الرسول قبله، فكانت الأخبار التي وردت فيها معدومة من ذكر أي نقد أو تحليل أو مناقشة مما يبين أن الصاحب بن عباد قد ذكرها على أنها من المسلمات التي لم يختلف عليها أحد، فلم يكن عرضها إلا للتذكير بها. 4. الأنباء في تأريخ الخلفاء لمحمد بن علي بن محمد العمراني (ت 580 هـ) : انتهت محاولات محقق هذا الكتاب في البحث المضني عن ترجمة لهذا المصنف بالفشل «120» ، ووصلت محاولاتي أيضا إلى النتيجة نفسها بعد أن كررت المحاولة في الحصول على ترجمة مهما يكن حجمها عن شخصية هذا المصنف. سار العمراني في كتابه هذا على نهج من سبقه في كتابة سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يفتتح بها مصنفا يحوي أسماء الخلفاء الذين تولوا خلافة المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى عصر المؤلف «121» .   (119) عنوان المعارف، ص 7. (120) ينظر، السامرائي، قاسم، مقدمة التحقيق لكتاب الأنباء، المعهد الهولندي للاثار المصرية، لا يدن، 1973، ص 6. (121) ينظر، الأنباء، ص 44- 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 كانت هذه السيرة التي حواها هذا الكتاب كمثيلاتها من السير النبوية التي استعرضتها المصنفات التي سبقته في هذا الجانب إذ امتازت بالاختصار في عرض المعلومات، وهذا ما بينته مقدمة الكتاب التي تقول: " فإني ذاكر في كتابي هذا طرفا من أخبار الدولة القاهرة العباسية ... وأبتدأ بذكر سيد البشر والشفيع يوم العرض الأكبر ثم بعده للأئمة الأربعة ثم من أفضى إليه الأمر بعدهم ... ونبدأ بمن بدأ الله بذكره وفضله على سائر خلقه وهو سيد المرسلين وخاتم النبيين أبو القاسم محمد (صلوات الله عليه وسلامه) وأنا أذكر نسبه ومولده وأزواجه وحواريه ومواليه وخدمه وعماله" «122» . هذه هي مضامين السيرة التي ضمنها العمراني كتابه والتي لم نلمس فيها أي تطور وتجديد في كتابة السيرة النبوية ضمن هذا النوع من المصنفات، بل كانت مجرد عرض لحوادث وروايات تتفق في منحاها وفحواها مع المصادر التي سبقتها. 5. بلغة الظرفاء في ذكرى تواريخ الخلفاء لعلي بن محمد بن أبي السرور الروحي (كان حيا سنة 648 هـ) : كان هذا الكتاب كسابقيه يعرض في بدايته سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم تناول فيها جوانب من حياته الشريفة «123» ، ولكن الميزة التي امتازت بها هذه السيرة المقتضبة هي أنها كانت أكثر عمقا ودقة في ترتيب وتوثيق الحوادث من   (122) ينظر، الإنباء في تاريخ الخلفاء، ص 43. (123) ينظر، بلغة الظرفاء، مطبعة النجاح، مصر، ط 1، 1909، ص 2- 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 التي سبقتها، فمع الاهتمام بالتوثيق التأريخي للحوادث بالشهر والسنة «124» ، وذكره لمصادره التي اعتمد عليها في إيراده لأخباره «125» ، قسم مراحل السيرة على وفق الحوادث الكبرى التي حصلت فيها، إذ كانت المرحلة الأولى متضمنة حياة الرسول من مولده إلى أن هاجر إلى المدينة «126» ، والمرحلة الثانية تضمنت حياة الرسول من مقدمه إلى المدينة حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى «127» ، وبتقسيمه السيرة النبوية إلى هاتين المرحلتين حرزت هذه السيرة الموجزة ضمن هذه المصنفات السبق والريادة في هذا المجال وإن كان هذا التقسيم معمولا به عند من سبقه ولكن ليس في مثل هذه المصنفات «128» . هذه هي الميزة الوحيدة التي امتازت بها هذه السيرة التي تضمنها هذا الكتاب والتي كانت بمجملها مشابهة لما ورد في المصنفات التي سبقتها من حيث الحوادث التي عرضت فيها. وبهذا الكتاب ينتهي عرضنا للمصنفات التي كتبت في تواريخ الخلفاء أو طبقتهم والتي تضمنت سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، مع اتصاف هذه المصنفات بعوامل مشتركة بينها، وهي: 1. الاقتضاب والاختصار في عرض حوادث السيرة ومتعلقاتها.   (124) ينظر، المصدر نفسه، ص 4- 7. (125) ينظر، المصدر نفسه، ص 3، 7، 8. (126) ينظر، المصدر نفسه، ص 4- 6. (127) ينظر، المصدر نفسه، ص 6- 7. (128) ينظر، ص من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 2. عدم وجود طابع تجديدي وتطوري في كتابة هذه السير ضمن هذه الكتب عدى التطور الذي اشتركت كلها فيه والذي تضمن ابتداء مصنفاتهم بعرض موجز لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم استكمالا لمناحي الكتاب بالتعرض للخليفة والمستخلف. 3. أغفل المصنفون المتأخرون مرويات أصحاب كتب تواريخ الخلفاء عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولم يدرجوها ضمن مصنفاتهم، وذلك لأنها لا تمثل سوى تكرار وإعادة لما ذكرته مصادر أخرى، ولأجل ذلك لم نجد نقولا عنها في المصادر التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للذين تأخروا عن كتابة هذه المصنفات. 4. إن الغاية التي من اجلها أدخلت السيرة النبوية في معظم هذه المصنفات غاية منهجية فرضتها طبيعة تلك الكتب ومضامينها، ومن دون هذه الغاية تعدّ هذه الكتب أو المصنفات ناقصة لو أغفلت إيراد سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أو شيئا منها حتى لو كان عرضا موجزا ومقتضبا، لأن الكتاب سيصبح مفتقرا للسبب أو الحجة التي من أجلها استخلف أي واحد من الخلفاء الذين ترجمت لهم هذه الكتب؛ فكيف يذكر الخليفة من دون أن يذكر شخص المستخلف وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم؟. هذه هي العوامل المشتركة التي اتصفت بها السير التي كتب في المصنفات التي تتحدث عن طبقة الخلفاء وسني حكمهم، والتي كان إدخالها في هذه المصنفات جانبا تطوريا في كتابة السيرة النبوية عند المؤرخين المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ثانيا: كتب التراجم: اتجه عديد من المؤرخين إلى توثيق حياة الأشخاص والأعلام الذين يختلفون صناعة وطبقة وعصرا ومكانا، ولكنهم يتفقون في صفة واحدة تجمعهم ألا وهي صفة الجدارة والاستحقاق بأن يترجم لهم وتدون سيرهم «129» . ضمن بعض المؤرخين من مصنفي هذه التراجم سيرة موجزة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في بداية مصنفاتهم التي تمثلت في الكتب الاتية: 1. التأريخ الكبير لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) : أفرد البخاري في بداية كتابه التأريخ الكبير سيرة موجزة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم تيمنا بذكره «130» ، مردفا هذه السيرة بأسماء المحمدين من الأعلام الذين ترجم لهم وذلك تبركا باسم نبينا صلى الله عليه وآله وسلّم. إن هذه الطريقة في الابتداء بسيرة الرسول وبأسماء المحمدين في بداية الكتاب اتخذها العلماء الذين أتوا بعده سنّة في كتبهم، إذ سار النووي (ت 676 هـ) على هذه السنّة التي سنها البخاري الذي عدّ الرائد في هذه الفكرة إذ قال النووي في مقدمته: " وابتدأ فيه بمن اسمه أحمد كما فعل أبو عبد الله البخاري والعلماء بعده (رضي الله عنهم) لشرف اسم النبي (ص) " «131» ، ونجد أن مصنفات عديدة في كتب التراجم سارت على هذا المنوال في تقديم الذين   (129) ينظر، حسن، محمد عبد الغني، التراجم والسير، دار المعارف، مصر، ط 2، 1969، ص 40. (130) ينظر، التأريخ، 1/ 1/ 5- 11. (131) النووي، تهذيب الأسماء واللغات، 1/ 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 تسموا باسم النبي (ص) في بداية الكتاب، ومن ثم يوردون باقي الأسماء بحسب تسلسل الحروف الأبجدية «132» . كسب البخاري بعمله هذا تطورا ملحوظا في كتابة السيرة النبوية، حين جعلها ضمن كتب التراجم أولا، واتخاذ عمله من قبل معظم الذين أتوا بعده سنة بتقديم اسم النبي في بداية الأعلام الذين يترجمون لهم ثانيا. كانت هذه السيرة الموجزة التي كتبها البخاري قد انحصر وجودها في غاية واحدة هي التبرك والتيمن بالاستفتاح باسم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. لم يقتصر البخاري على إدخال السيرة النبوية ضمن هذا الكتاب فحسب بل جعلها في مصنف آخر من مصنفاته «133» وقد عرض فيه جوانب محدودة من حياته الشريفة أردفها بأسماء من توفي من أصحابه في سنوات البعثة الشريفة ولا سيما بعد هجرته إلى المدينة «134» . إن كتابة أسماء من توفي من الصحابة في سنوات السيرة يعدّ نقلة نوعية وتطورا في كتابة السيرة النبوية لأن الذين سبقوه لم ترد عندهم هذه الحالة على هذه الهيأة من التخصص والتفرد، هذا من جانب، ومن جانب آخر كانت هذه الظاهرة تمهيدا لما نهجه ابن الجوزي في كتابه المنتظم حين خصص عنوانات مستقلة في كل سنة يعرض حوادثها ويذكر فيها من توفي بها من الأعلام   (132) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 213، الصفدي، الوافي بالوفيات، 1/ 55. (133) ينظر، التأريخ الصغير، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1361 هـ، 1/ 1- 13. (134) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 10- 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ولا سيما في قسم السيرة منه «135» ، وإن لم يشر ضمنا إلى الحافز الذي دفعه إلى ذكر هؤلاء الأعلام مع كل سنة. هذه هي الجوانب التي أكسبها البخاري لكتابة السيرة النبوية ضمن كتب التراجم من جهة وكتب السيرة الأخرى من جهة ثانية. 2. كتاب الثقات لابن حبان البستي (ت 354 هـ) : هو أبو حاتم محمد بن حبان البستي أحد الحفاظ الكبار وأحد المصنفين المجتهدين في الحديث وعلم الرجال والفقه، تولى القضاء في بلدته التي نسب إليها إلى أن توفاه الله (سنة 354 هـ) بعد أن ترك مصنفات عدة في الحديث والرجال، كانت محط أنظار العلماء على مدى العصور التي تلته «136» . كان السيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مكان رحب في مصنف ابن حبان، إذ كتب سيرة متكاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الكريم من مولده إلى أن توفاه الله وذلك بإسهاب وتفصيل «137» ، وخصص له في مصنف آخر من مصنفاته حيزا بسيطا عرضها فيه بإيجاز «138» . كان لإسهاب ابن حبان في حديثه عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن كتابه هذا أثر فعال في وجود سمات تطورية في هذا الكتاب، وهذه السمات هي:   (135) ينظر، المنتظم، مج 2، ورقة 143، مج 3، ورقة 29، 51، 65، 67، 82، 116. (136) ينظر، الصفدي، الوافي بالوفيات، 2/ 317- 318، ابن كثير، البداية والنهاية، 11/ 259، ابن حجر، لسان الميزان، 5/ 112. (137) ينظر، الثقات، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، ط 1، 1973، 1975، 1/ 14- 2/ 151. (138) ينظر، مشاهير علماء الأمصار، ص 3- 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 1. اختيار الرواة الثقات وإثبات مروياتهم عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من دون تسامح منهم في جمع كل ما يتصل بالسيرة من أخبار وإن كانت ضعيفة على حد قول قسم من مصنفيها «139» ، وهذا ما أوضحته عبارته التي افتتح بها كتابه هذا والتي يقول فيها: " ولا أذكر في هذا الكتاب ... إلا الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم ... فكل ما أذكره في هذا الكتاب فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره" «140» . كان هذا المنحى من قبل ابن حبان في كتابه هذا يستهدف أمرين: الأمر الأول عدّ شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هو ثقة الثقات لأنه المصدر الثاني الذي تؤخذ منه الأحكام وذلك بوساطة الأحاديث التي يتحدث بها أو الأفعال التي يقوم بها، إذ وضح هذا الأمر في قوله: " ولا سبب إلى معرفة صحة الأخبار وسقيها إلا بمعرفة تأريخ من ذكر اسمه من المحدثين ... " «141» ، والأمر الثاني: هو جعل سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم نموذجا يطبق عليه الروايات التي صرح بها الثقات من الرواة. شكل نهج ابن حبان هذا إنعطافة كبيرة في كتابة السيرة النبوية، وذلك باستحداث منهج في اختيار الروايات التي تكتب في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، من قبل رواة ثقات لا ترقى إليهم الشبهات وهو نهج لم يكن مألوفا عند من سبقه من الذين عرضوا سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله من المؤرخين.   (139) ينظر، البيهقي، دلائل النبوة، 1/ 69، العراقي، عبد الرحيم بن الحسين، (ت 805 هـ) ، الدرر السنية في سيرة خير البرية، مخطوط في دار صدام للمخطوطات برقم (13697) ، ورقة 2. (140) الثقات، 1/ 11- 13. (141) المصدر نفسه، 1/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 2. الاهتمام بإيراد الأعمال العسكرية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وعدم الاكتراث بالجوانب الشخصية والروحية من حياته صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذا الأمر راجع إلى إتباع ابن حبان المنهج الحولي في كتابة حوادث السيرة ولا سيما الحوادث التي وقعت بعد الهجرة مباشرة «142» ، إذ لم يرد في حوادث هذه السنوات التي تلت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أي ذكر لهذه الجوانب التي طالما خصص لها المصنفون الذين سبقوه قسما من مصنفاتهم التي تحدثوا فيها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «143» ، ولأجل ذلك انحصرت الجوانب الشخصية لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في القسم الخاص من حياته الشريفة قبل الهجرة وذلك في أماكن متفرقة من هذا القسم، ومتداخلة مع الروايات التي وردت فيه «144» . 3. تضمين سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم سلسلة نسبه الشريف مشفوعة بذكر أمهاته وجداته من قبل أمه وأبيه «145» ، مع ذكر تضارب بعض الاراء في هذا الأمر من حيث صحة هذه الأسماء ودقتها «146» ، مبينا ذلك بالقول: " نسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصح إلى عدنان وما وراء عدنان فليس عندي منه شيء صحيح اعتمد عليه غير أني اذكر اختلافه فيه بعضهم لبعض من ليس ذلك من صناعته" «147» .   (142) ينظر، الثقات، 1/ 131، 144، 237، 249، 280، 2/ 1، 17، 119، 129. (143) ينظر، ابن سعد، الطبقات، 1/ 1/ 113، ق 2/ 14- 184، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 467- 538، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 169- 183. (144) ينظر، الثقات، 1/ 37، 38- 40، 42- 45، 99- 106. (145) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 26- 32. (146) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 22- 26. (147) المصدر نفسه، 1/ 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 مع كل هذه الإضافات التي أوجدها ابن حبان لكتابة السيرة ضمن كتب التراجم بخاصة وكتب السيرة بعامة فانها بقيت رهينة هذا الكتاب إذ لم تتعد إلى غيره، اذ لم نجد في مصنفات السيرة التي تلته أي اقتباس منه أو سلوك نهج مقارب لنهج ابن حبان في كتابة السيرة وليس هذا حسب، بل اغفل هذا الأمر أيضا من اتبع خطى ابن حبان في كتابة مصنف يخصص لذكر الثقاة من الرواة، إذ وجدنا ابن شاهين (ت 385 هـ) * قد أغفل كتابه ذكر سيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في بدايته عندما سرد أسماء الثقاة الذين نقل عنهم العلم «148» ، وإن هذا الأمر قد يكون ناشئا من طغيان كتب السيرة التي سبقته ورواجها بين الناس حتى قيل في وصف أحدها: من أراد كتابة السيرة فهو عيال على ابن إسحاق «149» ، فضلا عن ذلك فقد كان لانصهار هذه السيرة في مصنف خصص لعرض أسماء الثقاة من الرواة أثر ملموس في عدم الاقتباس من هذه السيرة، إذ انصبت جهود العلماء على تتبع آراء وأسماء الذين أوردهم ابن حبان في كتابه من الثقاة الذين يجوز الاحتجاج بروايتهم من دون النظر إلى ما سبقها وهي (سيرة الرسول) ، إذ كان لديهم شعور يعدّ ذكر ابن حبان لسيرة الرسول في بداية كتابه تبركا وتيمنا بالاستفتاح بذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله. هذه هي الجوانب التي لمسناها في هذا الكتاب والتي بينت المسلك الذي انتهجه ابن حبان في عرضه سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن كتب التراجم.   (*) ابن شاهين أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي، الحافظ العلم والمحدث المفسر، ولد سنة 297 هـ، وأسهم إسهامة فعالة في رواية الحديث ونشره وفي تفسير القرآن، ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 11/ 265- 267، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 3/ 987، ابن كثير، البداية والنهاية، 8/ 316. (148) ينظر، ابن شاهين، تأريخ أسماء الثقات، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986، ص 47- 256. (149) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 1/ 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 1. تهذيب الأسماء واللغات لمحيي الدين بن شرف النووي (ت 676 هـ) : هو الفقيه المحدث يحيى بن شرف بن مرسي بن حسن النووي الدمشقي الشافعي الحافظ اللغوي المشارك بالعلوم الأخرى، ومن الذين لهم الباع الطويل في الكتابة والتصنيف «150» . خصص النووي في بداية كتابه هذا حيزا ذكر فيه عرضا موجزا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «151» ، مقتفيا بذلك أثر من سبقه تيمنا وتبركا بذكر سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يفتتح بها كتابه، إذ بين هذا الأمر في مقالته: " ومقصودي في تشريف الكتاب بتصدير لبعض أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم والحبيب المجتبى [لأنه] خيرة العالم وخاتم النبيين وإمام المتقين وسيد المرسلين هادي الأمة ونبي الرحمة وزاده فضلا وشرفا لديه" «152» . انتهج النووي كسابقيه منحى الاختصار في ذكر تفاصيل السيرة التي كان الهدف من كتابتها التبرك والتيمن، الأمر الذي جعله يختصرها إلى هذا المقدار، إذ أوضح هذا الأمر بالقول: " واعلم أن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيره وما أكرمه الله به وما افاضه على العالمين من آثاره صلى اله عليه وسلم غير محصور ولا يمكن استقصائها لا سيما في هذا الكتاب الموضوع بالإشارة إلى نبذ من عيون الأسماء وما يتعلق بها وفيما ذكرته تنبيها على ما تركته" «153» . لأجل ذلك كانت هذه السيرة التي تضمنها كتاب النووي هذا تقليدية ومفتقرة للتجديد والتطور، باستثناء عقده فصلا مستقلا للحديث عن خصائص   (150) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 250، السبكي، طبقات الشافعية، 5/ 167، اليافعي، مرآة الجنان، 2/ 182- 183. (151) ينظر، تهذيب الأسماء واللغات، 1/ 20- 44. (152) المصدر نفسه، 1/ 37. (153) المصدر نفسه، 1/ 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في الأحكام وغيرها «154» ، إذ عدّ النووي نفسه عمله هذا قفزة نوعية في كتابة السيرة، إذ يقول مبينا هذا الأمر: " وهذا فصل نفيس وعادة أصحابنا يذكرونه في أول كتاب النكاح لأن خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح أكثر من غيره وقد جمعتها في الروضة مستقصيا لها ولله الحمد، وهذا الكتاب لا يحتمل بسطها وأشير فيه إلى مقاصدها مختصرة إن شاء الله «155» ، وبعمله هذا أسهم إسهاما جادا في إيجاد منحى توثيقي بين كتب الفقه والحديث من جهة وكتب المؤرخين من جهة أخرى في ما يخص سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله خلالها. كانت هذه السيرة التي كتبها النووي مشابهة لمثيلاتها من السير التي كتبت في مصنفات التراجم من حيث عدم اعتماد المهتمين بالسيرة على مثل هذه الكتب، إذ لم يقتبسوا أي نص من نصوصها ولم يناقشوا أية رواية وردت فيها، باستثناء تعليق السخاوي (ت 902 هـ) عمّا أورده النووي من ذكر لأعداد خدام النبي ومواليه «156» ، إذ عدّد موالي النبي وخدامه بنحو (130) نفس من الأرقاء: من الرجال (70) ومن النساء (30) ومن الخدم الأحرار نحو (30) نفسا «157» . وفي ختام الحديث عن تطور كتابة السيرة ضمن كتب الطبقات والتراجم نرى أن المصنفات التي كتبت في هذه المحاور قد إنعدم في معظمها التجديد والتطوير، بسبب من الأهداف والدوافع التي من أجلها صنفت هذه الكتب والتي تركزت في مجرد عرض سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مفتتحتا إياها من أجل التبرك   (154) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 38- 44. (155) المصدر نفسه، 1/ 37- 38. (156) ينظر، تهذيب الأسماء واللغات، 1/ 33. (157) ينظر، موالي النبي وخدامه، مخطوط في مكتبة الأوقاف العامة، بغداد، رقم (9696- 9699 مجاميع) ، ورقة 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 والتيمن بذكر اسمه الشريف عند ذكر أسماء الأعلام الذين يترجم لهم في هذه الكتب. ولأجل ذلك نرى أن اثر هذه المصنفات محدود في تطور كتابة السيرة، لا من ناحية جعل سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن هذه المصنفات الذي هو تطور بحد ذاته، بل من ناحية عدم وجود لمسات تجديد في وجهة نظر كل واحد من هؤلاء المصنفين، لأنهم في أثناء عرضهم سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن مصنفاتهم لم يكونوا يريدون أن يثبتوا حجة ما، أو يناقشوا الروايات، أو أن يضيفوا أسلوبا مغايرا لما اعتادوه، بل كان عرضهم سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مجرد عرض أولي وبسيط لا يتجاوز تكرار ما ذكرته المصنفات السابقة؛ وهذا الأمر قد أشار إليه أحد الباحثين في قوله: " وإذا كان من الحق أن نقول ن كتاب التراجم لم يعنوا بالنقد والتحليل والتعليل في ترجمة الرجال أكثر مما عنوا في سرد أخبارهم وذكر آثارهم ونقلهم بعضهم عن بعض حتى تشابهت العبارات في مصادر الترجمة" «158» . وإذا كان ثمة تطور يذكر فهو في إدخال السيرة النبوية الشريفة ضمن كتب تخصصت في مجال الطبقات والتراجم للصحابة والتابعين والأصفياء والصالحين والخلفاء و ... الخ لا غير. وكانت هنالك مصنفات أخرى أدمجت السيرة النبوية ضمن مباحث كتبها، ولكن هذه المصنفات لم تكن مصنفات تأريخية بالدرجة الأولى بل كانت على قسمين: القسم الأول: كتب الحديث، إذ خصص بعض المحدثين قسما من كتبهم للحديث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «159» ، والقسم الثاني: كتب   (158) حسن التراجم والسير، ص 6. (159) ينظر، البخاري، الصحيح، 2/ 166- 118، 3/ 2- 65، مسلم، الصحيح، 15/ 26- 118، الترمذي، الصحيح، 13/ 94- 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الثقافة العامة* التي تعد من ضمن كتب الأدب «160» ، إذ حوت بعض هذه الكتب سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم متباينة من حيث الحجم والكم «161» . وهذا ما بين أن المؤرخين لم يكونوا وحدهم هم الذين ادخلوا سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مصنفاتهم بل تبعهم في ذلك بعض العلماء الذين حوت كتبهم هي الأخرى عرضا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، الأمر الذي شكل تطورا ملحوظا في كتابتها من جانب، وتعريف الأجيال بالترابط الصميمي بين كتب السيرة والنتاجات الفكرية الأخرى للمسلمين من حيث إن السيرة النبوية الشريفة تمثل الانعطافة المهمة في تأريخهم الحضاري من جانب آخر.   (*) وهي الكتب التبي تعنى بتسجيل الأخبار والحكايات التي تصلح للاسمار وتحقق المتعة للقراء فهي تعنى بكل غريب وطريف من الروايات وتمتاز بتناولها للمواضيع بالسطحية والاستطراد بحيث أن المؤلف ينتقل في كتابه من حديث إلى مقطوعة شعرية إلى حكمة أو خطبة ومن نبذة تاريخية إلى بحث للحيوان أو النبات، ينظر، الطرابيشي، أمجد، نظرة في حركة التأليف عند العرب، مطبعة الجامعة، دمشق، 1956، العلي، صالح أحمد، تأريخ العلماء وفهارس المصنفات في المصادر العربية، مجلة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1983، مج 34، ج 1/ 27. (160) ينظر، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي، 3/ 92- 150. (161) ينظر، ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، (ت 281 هـ) ، المعارف، ص 117- 166، ابن عبد ربه الأندلسي، أحمد بن علي، (ت 488 هـ) ، العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين وآخرون، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1944، 4/ 249- 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الفصل الرابع التصنيف المستقل لجوانب السيرة ومفرداتها مدخل: أفرزت نتاجات المسلمين الفكرية بعامة، وكتابات السيرة منها بخاصة ظاهرة جديدة في التصنيف وهي كتابة مصنفات مستقلة تتناول في حديثها جانبا واحدا من جوانب السيرة، إذ لم يكتف المهتمون بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعرضها على نسق شمولي بمصنفات تتناول حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بذكر نسبه الشريف مرورا بمولده الميمون وانتهاء بانتقاله إلى الرفيق الأعلى، وذكر متعلقات حياته في جوانبه الشخصية وأموره المعاشية، بل تعدى ذلك إلى تخصيص مصنفات تتسم بالعرض المستقل لجانب واحد من جوانب حياته الشريفة، مثل ذكر مولده أو أعلام نبوته أو أخلاقه أو صفاته أو أسمائه ... الخ من جوانب السيرة التي عرضها بعض المؤرخين بشمولية عند ذكرهم لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. كانت وراء هذا التطور المستجد في كتابة السيرة عوامل عدة ظهرت في وقت واحد ومتقارب مع العوامل التي ساعدت على كتابة وتصنيف سير متكاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم سواء أكانت مستقلة أم مندمجة مع المصنفات الأخرى «1» ، وهذه العوامل هي:   (1) ينظر، ص 50- 103، 53 من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 1. الخروج من دائرة الاختصار والاقتضاب باستعراض حوادث السيرة والجوانب الشخصية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ضمن كتب السيرة الشاملة والمندمجة مع المصنفات الأخرى، إذ لم تذكر هذه المصنفات كل ما وصل إليها من روايات تخص هذه الحوادث والجوانب، وذلك لأنها لو ذكرت تلك الجوانب كلها لبلغت مصنفاتها من الاتساع حدا لا يستطع أحد الإحاطة به، ولأجل ذلك شرع بعض المؤرخين في إخراج وكتابة مصنفات مستقلة لهذه الحوادث والجوانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يأخذ مصنفها الحرية المطلقة في إثبات كل ما وصل إليه من روايات تبين تلك الوقائع والحوادث والجوانب الشخصية التي يروم الكتابة فيها. 2. استمرار مدرسة الإخباريين في كتابة وقائع الحوادث الانعزالية عن المجريات العامة للحوادث التأريخية عند المسلمين «2» ، وينتهي بعض الباحثين إلى عدّ هذا المنحى في كتابة حوادث وجوانب السيرة بانعزالية استمرارا للنهج الذي سارت عليه مدرسة الإخباريين التاريخية ولا سيما القرن الثالث الهجري الذي تنامى فيه هذا المنحى في الكتابة والتصنيف «3» . 3. تنامي رغبة المحدثين في كتابة مصنفات ومنتخبات من كتبهم في الحديث يتناولون فيها جوانب متعددة من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يطبقون فيها مناهجهم في رواية وكتابة الحديث النبوي، إذ تركزت هذه الجوانب في كتابة المغازي والشمائل النبوية وصفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأعلام نبوته وطريقة عيشه، لأن هذه   (2) ينظر، فهد، بدري محمد، شيخ الإخباريين أبو الحسن المدائني، مطبعة القضاء، النجف، 1975، ص 9- 16. (3) الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 33، جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الجوانب قد كانت ضمن أبواب كتب الحديث «4» ، إذ تمثل عملهم هذا باجتزاء هذه الأبواب من تلك المصنفات التي تضمنت روايات لم تكن فيها أحكام تشريعية بالدرجة الأولى، وبتخصيص مصنفات مستقلة لها، بعبارة أدق، فصل روايات الأحكام والتشريع عن روايات السنن والأفعال التي هي غير واجبة التنفيذ على العباد. إن هذه الرغبة قد تولدت لدى هؤلاء المحدثين لتعاظم النظرة التي يكنها المسلمون لشخصية نبيهم الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم من جانب، ومحاولة تلبية حاجات المجتمع بتقديم القدوة والمثال لهم وهي شخصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، بعدما اتسعت الهوة بين أفراد المجتمع وانسلخ قسم كبير منهم عن تعاليم الإسلام وانغمس بالملذات الدنيوية من جانب آخر «5» ، فكانت هذه المصنفات التي تناولت تلك الجوانب من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم دعوات صارخة تنادي بالرجوع إلى ما اختطه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من مسار للمسلمين وما سار عليه خلفاؤه الراشدون (رض) وصحابته النجباء. وصف أحد الباحثين هذه الحالة والنتائج التي تمخضت عنها بالقول: " وقد دبجت بحوث كبيرة تتناول وظيفة الحديث من الناحية القانونية واللاهوتية حتى كادت نواحي الحديث الشخصية والدينية تهمل وتنسى ... إن الحاجة الماسة إلى إيجاد ينبوع مشروع ليتمم تعاليم القرآن القانونية والأخلاقية هي التي دفعت إلى   (4) ينظر، عبد الرزاق، المصنف، 5/ 313- 339، البخاري، الصحيح، 2/ 175- 235، 3/ 2- 65، مسلم الصحيح، 15/ 26- 118، الترمذي، الصحيح، 13/ 94- 124. (5) ينظر، الأطرقجي، رمزية، الحياة الاجتماعية في بغداد، جامعة بغداد، ط 1، 1982، ص 71- 81، 75- 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 البحث عن أمثلة سنها محمد صلى الله عليه وسلم خلال حياته وفعاله اليومية ... ولولا الحديث لغدا محمد صلى الله عليه وسلم خلال العصور صورة إن لم تكن باهتة فعلى الأقل مختزلة سيميائية لا تغادر قاع دينهم وتأريخهم" «6» ، وينتهي الى القول: " وقد ابتكرت التقوى الإسلامية فيما بعد وسائل أخرى من وسائل التعبير تتمتع بقدر من الحرية أعظم التي كانت خاصة بالحديث، والحديث كان مقيدا بشروط مدرسية قاسية ففي المجال الأدبي المحض نجد ذلك جليا في السير ... التي تتناول الدلائل على صدق دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته كما تتناول أخرى شخصيته (الشمائل) وهناك غير ذلك من الكتب الكثيرة نثرا وشعرا" «7» . 5. تعاظم الأفكار الإلحادية والهدامة في المجتمع الإسلامي، حين أنكر بعض الجماعات وجود الخالق أو الأنبياء والتشكيك بهم «8» ، فكان معظم هذه المصنفات هي جوانب ضمنية لما أثارته هذه الأفكار من حجج وآراء تدحض فكرة النبوة أو تنكرها لشخص الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، «9» ولأجل ذلك اتجهت هذه الكتب إلى منحيين: المنحى الأول: معنوي، تمثل بإبراز الجوانب السامية في شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من حيث إن هذه التصرفات التي تصدر من هذا الشخص ليست تصرفات شخص عادي، وقد اختصت بهذا الجانب كتب الشمائل والأخلاق والصفات.   (6) جب، بنية الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عادل العوا، مطبعة جامعة دمشق، ط 2، 1964، ص 94. (7) جب، المصدر نفسه، ص 95. (8) ينظر، بدوي، عبد الرحمن، من تأريخ الإلحاد في الإسلام، د، م، د. ت، ص 23- 32، 75- 88. (9) ينظر، متن الحضارة الاسلامية، في القرن الرابع الهجري، 1/ 327- 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 المنحى الثاني: مادي، تمثل بالمحاججة العقلية والنقلية للروايات في إثبات صحة النبوة، وقد اختصت بهذا الجانب الكتب التي صنفت لإثبات الأعلام والدلائل التي صدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مع كون هذه المصنفات متممة لسابقتها التي عنيت بإبراز الجوانب الأخلاقية في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. هذه هي العوامل والحوافز التي أدت إلى ظهور هذه المصنفات ضمن هيكل السيرة النبوية التي كانت بمجملها تطورا كبيرا يضاف إلى الحلقات التطورية الأخرى لكتابة السيرة النبوية، مع إسهام كل مصنّف من مصنفي هذه الكتب بمنهج وطريقة خاصة بعرض مضامين كتابه ثم تأثير هذا الكتاب في المصنفات التي لحقته والتي اعتمدت عليه بنقل نصوص منه أو سلكت طريقته في عرض رواياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 المبحث الأول المصنفات التي كتبت في حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أوردت لنا كتب الببليو غرافيا (فهارس الكتب) أسماء مصنفات عدة تناولت حادثة المولد النبوي باستقلالية وانفصال عن باقي الحوادث الأخرى «1» . ومن ملاحظة أسماء كتّاب هذه المصنفات نجد أنهم لا يمتون بصلة إلى القرون الستة الأولى من تأريخ الإسلام- وهي مدة البحث-، وهذا ما أشار إليه السخاوي في تعداده للمصنفات التي كتبت في هذه الحادثة، اذ ذكر أن كتابة هذه المصنفات قد حصلت في القرون المتأخرة من التأريخ الإسلامي «2» ، وهذا ما أكده أحد الباحثين الذي انتهى إلى القول: " ألف المتأخرون بالمولد الشريف فجعلوا فيه أساطير وجعلوا فيه لونا من العبادة" «3» ، وقد بين ابن خلكان صدق هذه الاراء بأن حادثة المولد قد حصل الاحتفال بها أول مرة في أواسط القرن السابع الهجري واتخذت سنّة متبعة في كل عام يصنف فيها كتاب عن هذه الحادثة، ويقرأ على مسامع الناس مبينا تفاصيل حادثة المولد «4» .   (1) ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 2/ 1910- 1911، الكتابي، الرسالة المستطرفة، ص 201- 202، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 20- 37. (2) ينظر، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، ص 164- 165. (3) المنجد، مقدمة التحقيق لكتاب مولد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم لابن كثير الدمشقي، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط 1، 1974، ص 8. (4) ينظر، وفيات الأعيان، 3/ 121- 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ولكن بعض المكتبات احتفظت بنسخ خطية كتب عليها كتاب [مولد النبي] لمحمد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ) «5» ، مع العلم أن المصادر التي ذكرت المصنفات التي كتبها الواقدي لم يرد فيها أي ذكر لهذا الكتاب ضمن قائمة مصنفاته «6» ، حفز هذا الأمر عدد من الباحثين على التشكيك في صحة نسبة هذا المصنف إلى الواقدي «7» . ومن دراسة هذا الكتاب نرى فيه جوانب عدة تدفعنا إلى القول بقطعية عدم صدوره عن الواقدي، وهذه الجوانب هي: 1. إن أسلوب الكتاب يختلف تماما عن أساليب الكتب المدونة في عصر الواقدي، إذ امتاز أسلوبه بوجود محسنات بديعية في الألفاظ ولا سيما السجع، فمن ذلك: " قالت آمنة لما حملت بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) في أول شهر من حملي وهو شهر رجب الأصم بينما أنا ذات ليلة في لذة المنام إذ دخل عليّ رجل مليح الوجه طيب الرائحة وأنواره لائحة ... فقلت له من أنت فقال أنا آدم أبو البشر فقلت له ما تريد قال ابشري يا آمنة فقد حملت بسيد البشر وفخر ربيعة ومضر ... ودخل عليّ رجل فقلت له من أنت فقال أنا شيث فقلت له ما تريد فقال ابشري يا آمنة فقد حملت بصاحب التأويل والحديث ... ودخل عليّ رجل فقلت له من أنت فقال أنا إدريس فقلت له ما تريد قال ابشري يا آمنة فقد حملت بالنبي الرئيس" «8» ، ويضيف في مكان آخر من الكتاب واصفا فيه حالة   (5) ينظر، مخطوطات التأريخ والتراجم والسير في المتحف العراقي، المؤسسة العام للاثار والتراث، وزارة الثقافة والأعلام، العراق، 1982، ص 419- 420، سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 472. (6) ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 111، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 277- 282. (7) بروكلمان، تأريخ الأدب العربي، 3/ 17، سزكين، تأريخ التراث العربي، 1/ 472. (8) مولد النبي، مخطوط في دار صدام للمخطوطات برقم (15221/ 1) ، ورقة 14- 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الولادة" فلما ولد صاحب الناموس وحبيب الملك القدوس بدا في حضرة كالعروس بوجه يحكي القمر نورا وشعرا يحكي سواده ديجورا ... وحاجب حدرت رجته بالمسك تحذيرا وطرف أسنى الجمال به قريرا" «9» . هذا هو الأسلوب الذي كتب به هذا المصنف الذي قطعت الدراسات التي تناولت مناهج المؤرخين وأساليبهم بأن استعمال المحسنات البديعية لم تظهر في الكتابة العربية بعامة، والتاريخية منها بخاصة إلا في قرون متأخرة «10» ، مع العلم أن إحدى الدراسات قد تناولت منهج الواقدي بالبحث، فكان الأسلوب الذي وصفت به كتابات الواقدي مختلفا تماما عن أسلوب هذا الكتاب «11» ، فضلا عن هذا كله فان هذا الأسلوب السجعي في الكتابة قد اتسم ب: " الابتعاد عن الحقائق والدقة، فإذا التزم السجع فلا بد من إضافة جملة قد تكون مجرد تكرار قلما تعين على توضيح صورة الشخصية أو الحادثة، وبذلك تشغل حيزا واسعا ربما كان بالإمكان تخصيصه لحقائق الأخبار ... وبالإجمال فان استخدام السجع إذا كان قد أضفى إلى الكتابة التأريخية جاذبية في نظر القارئ المثقف فانه لم يساهم بشيء في تعميق الفهم التأريخي، كما وان استخدام السجع لم ينتج شكلا جديدا في جوهره من أشكال العرض التأريخي ... وبالتالي لم يكن السجع أسلوبا ملائما في بحث التأريخ بصورة حية" «12» .   (9) المصدر نفسه، ورقة 23- 24. (10) ينظر، روز نثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 241- 255، جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 153. (11) ينظر الكبيسي، محمد فضيل، منهج الواقدي في كتابة المغازي، ص 121- 148. (12) روز نثال، علم التأريخ عند المسلمين، ص 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 كان هذا الأسلوب في الكتابة نقطة ضعف تسجل ضد صحة نسبة هذا الكتاب إلى الواقدي لعدم توافق الأسلوب مع العصر الذي يدعّى كتابته فيه. 2. وجود نمط شعري لم يكن مألوفا في عصر الواقدي ظهر بين أوراق هذا الكتاب، إذ وجدت العديد من المقطوعات الشعرية التي يطلق عليها المدائح النبوية «13» ، وهي من الأنماط الشعرية التي برع فيها شعراء القرون المتأخرة «14» . 3. إغفال المصادر التي اعتمدت على مصنفات الواقدي ورواياته في السيرة لأي اقتباس أو نص من هذا الكتاب، مع العلم أن المصادر قد أجمعت على أن محمد بن سعد كان أحد الأربعة الذين استقر عندهم علم الواقدي ومصنفاته «15» ، فلم يورد ابن سعد أي نص في كتاب الطبقات وفي قسم السيرة منه بخاصة، ولا سيما في حادثة المولد، بل نقل روايات عدة عن الواقدي في هذه الحادثة لم تكن أية واحدة منها موجودة في هذا الكتاب «16» . هذه هي الأدلة التي تغلق الباب أمام كل الاحتمالات التي قد تحاول إثبات نسبة هذا الكتاب إلى الواقدي. وتدفعنا هذه الادلة الى القول إن هذا الكتاب من نتاجات أحد القصاصين في القرون المتأخرة. تنبه أحد الباحثين إلى ظاهرة نسبة بعض المصنفات إلى الواقدي وهو منها براء، إذ انتهى إلى القول بعد أن استعرض أحد الكتب المنسوبة إليه [فتوح المغرب] ودحض هذه النسبة ب: " ولكن مؤلفات الواقدي لم تصل إلينا جميعا   (13) ينظر، مولد النبي، ورقة 2، 3، 6، 7، 9. (14) ينظر، صالح، مخيمر، المدائح النبوية بين الصرصري والبوصيري، دار الهلال، بيروت، ط 1، 1986، ص 15. (15) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 5/ 321، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 2/ 127، 7/ 55، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 473. (16) ينظر، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 63- 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 والذي تثبت نسبته إليه هي مغازي الرسول، بينما يشك في أن تكون فتوح الشام له بينما ما عدا ذلك مما وصل إلينا مستقلا أو منقولا في كتب المتأخرين فيشك في أصالته بل وفي صحة نسبته إليه" «17» . بقي لنا أن نذكر أن إحدى الدراسات قد قالت إن ابن دحية الكلبي هو صاحب أول مصنف في حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «18» ، وسلم هذا المصنف من عوادي الدهر، ولكننا لم نستطع الاطلاع عليه لأنه ما زال مخطوطا في بعض المكتبات العالمية «19» ومن هذا نرى أن الكتابات في حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم التي نسبت لمؤرخين متقدمين قد انتابها بعض الغموض من حيث صحة نسبتها إلى مؤلفيها، إذ كان القصاص بحسب ما يصفهم الصالحي قد اسهموا إسهاما فعالا في نشر أخبار حادثة المولد من دون تتبع منهم ودراية بما يقولون ومن ثم أدرجها المتأخرون عنهم في كتبهم «20» .   (17) عبد الحميد، سعد زغلول، فتح العرب للمغرب بين الحقيقة والاسطورة الشعبية، مجلة كلية الاداب، جامعة الاسكندرية، مج 16، عدد 3، 1962، ص 8. (18) السندوبي، حسن، تأريخ الاحتفال بالمولد النبوي، مطبعة السنة المحمدية، 1948، ص 123. (19) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 23. (20) ينظر، سبل الهدى والرشاد (السيرة الشامية) ، 1/ 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 المبحث الثاني المصنفات التي كتبت في أرحام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته وأزواجه تنوعت اتجاهات المؤرخين في توثيق حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في جوانبها المختلفة، ومن هذه الجوانب تخصيص مصنفات مستقلة للحديث عن أمهات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأزواجه وذريته باستقلالية عن باقي الجوانب الأخرى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ كانت وراء كتابة هذه المصنفات عوامل عدة: 1. استمرار المفاخرات القبلية بين القبائل العربية من حيث صلة قرابتها بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أو مدى علاقة بعض القبائل به ومواقفها من الإسلام والدعوة الإسلامية وأقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فيها «1» . 2. الوقوف في وجه حملات الشعوبيين لتأكيد الترابط بين القبائل العربية وقبيلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الذي يبين وحدة ترابط الأمة باستعراض أسماء القبائل التي ارتبطت مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بمصاهرة أو نسب، كل ذلك أخذته على عاتقها المدرسة العراقية في التدوين التأريخي «2» . شملت هذه المصنفات محاور عدة هي:   (1) ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب، ص 39. (2) ينظر، مصطفى، التأريخ العربي والمؤرخون، ص 98- 99، 169- 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أ. المصنفات التي كتبت في أمهات النبي: لم يرد في فهارس الكتب أي ذكر لأسم مصنف تحدث باستقلالية عن أمهات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في المدة قيد الدراسة باستثناء كتاب علي بن محمد المدائني (ت 225 هـ) ، وكتاب محمد بن إسحاق المسيبي (ت 236 هـ) «3» . لم تصل إلينا هذه المصنفات، وما وصلنا منها كتاب محمد بن حبيب (ت 245 هـ) * الذي أسماه [أمهات النبي] ، إذ صنفه على وفق مسمياتهن، وقبائلهن، بدء من آمنة بن وهب وانتهاء بزوجة معد بن عدنان جد الرسول الأعظم «4» . أمتاز هذا المصنف بالاختصار فلم يتعد في حديثه عن أمهات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلا ذكر أسمائهن ومن تزوج بهن من أجداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من دون البحث في جوانب شخصياتهن وأحوالهن، ويرجع ذلك إلى قلة المعلومات التي يذكرها عنهن، إذ إنه عندما يرتفع إلى ما بعد الجد الثامن للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم تقل السلسلة التي يذكرها بأسماء جداته «5» . كان هذا الموضوع الذي كتب فيه ابن حبيب مصنفه هذا فريدا في بابه، فلم يصنف بعده أي واحد من المتأخرين كتابا مستقلا في هذا الجانب.   (3) ينظر، ابن النديم، الفهرست، ص 113. (*) هو أبو جعفر محمد بن حبيب بن أمية بن عمر كان من العلماء الفضلاء الذين كان لهم الباع الطويل باللغة والشعر والأنساب والتأريخ، توفي في سامراء سنة (245 هـ) ، ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 2/ 278، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 18/ 112. (4) ينظر، أمهات النبي، تحقيق حسين علي محفوظ، مكتبة المعارف، بغداد، 1372 هـ، ص 10- 16. (5) ينظر، أمهات النبي، ص 13- 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 لم يذكر ابن حبيب الدافع المباشر الذي حفزه على كتابة هذا المصنف ولكن من دراسة هذا المصنف يتبين لنا أنه كان محاولة لتعريف المسلمين بأسماء أمهات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وقبائلهن وأزواجهن من أجداده صلى الله عليه وآله وسلّم تأكيدا لطهارة مولده الذي لم يكن من سفاح أو بغي أو زنا، تصديقا لكلام الله (عز وجل) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ «6» ، وتأكيدا لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: " خرجت من نكاح لا من سفاح" «7» . أشار ابن الكلبي إلى هذا الأمر بقوله: " كتبت للنبي خمس مئة أم فما وجدت فيهن سفاح ولا شيء مما كانت في الجاهلية عليه" «8» ، هذا هو الدافع الأساس الذي كان وراء إفراد ابن حبيب مصنفا مستقلا عن أمهات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ب. أزواجه: خصص العلماء الذين اهتموا بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مصنفات مستقلة للحديث عن زوجاته، حيث كان هذا الاهتمام بهذا الجانب مبكرا جدا، إذ أورد لنا ابن النديم إحصائية غير مرتبة بأسماء هؤلاء العلماء الذين تولوا مهمة الكتابة عن هذا الجانب «9» ، فضلا عن ذكر مصنفات أخرى في هذا الجانب تأخرت عن هؤلاء «10» .   (6) سورة الشعراء، آية 216. (7) ابن كثير البداية والنهاية، 2/ 255. (8) القاضي عياض، علي بن موسى، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1950، 1/ 42. (9) ينظر، الفهرست، ص 109، 111. (10) ينظر، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 130، 14، 18/ 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 لم يصل إلينا من هذه المصنفات سوى كتاب واحد هو [تسمية أزواج الني] لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت 207 هـ) «11» ، مع العلم أن المصنفات الأخرى التي تناولت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قد خصص بعضها فصلا مستقلا عرض فيه أسماء زوجاته وأحوالهن «12» ، قدم لنا أبو عبيدة معلومات وافرة عن أزواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فهو من العلماء المشهود لهم بطول الباع في اللغة والأدب فضلا عن الشعر العربي القديم وأيام العرب وأخبارهم وأنسابهم «13» . اسهم هذا الكتاب في تطور ملحوظ بكتابة السيرة النبوية حين قدم نتاجا فكريا مستقلا عن حياة كل زوجة من زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في مصنف واحد يتميز بوحدة الموضوع بعيدا عن التشعب والتداخل مع باقي الحوادث الأخرى في سيرته الشريفة «14» ، إذ لم يكن أبو عبيدة جامعا للروايات التي أوردها في كتابه حسب، بل اتبع فيها منهجا نقديا وشكيا في آن واحد، فضلا عن استدلاله على قوة الرواية وضعفها بما يورده من قرائن تؤكدها، إذ استدل على وقت زواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وولادة خديجة لبناته كلهن في الجاهلية بقوله: " والدليل على وقت تزويجه خديجة، وعلى أنها ولدت بناته هؤلاء في الجاهلية، أنه زوج زينب أبا العاص ابن الربيع بن عبد شمس فلما أسلمت ولم يسلم منعه النبي منها فلو كانت ولدت بعد الوحي لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يزوجها   (11) ينظر، تسمية أزواج النبي، تحقيق: ناصر حلاوي، مطبعة حداد، البصرة، 1969. (12) ينظر، ابن حبيب، المحبر، تحقيق إيلزه شتيتر، المكتب التجاري للطباعة والنشر، 1963، ص 77- 99. البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 398- 453، الطبري، تأريخ الرسل والملوك، 3/ 160- 168. (13) ينظر، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 7/ 170، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/ 124، 3/ 394. (14) ينظر، أبو عبيدة، تسمية أزواج النبي، ص 19- 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 كافرا، ولو كان النبي (صلى الله عليه وسلم) تزوج خديجة بعد هذا الوقت الذي في صدر الكتاب ما بلغت زينب مبلغ النساء، ولا التزويج في الجاهلية" «15» ، واتبع الأسلوب نفسه في حديثه عن أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الذكور من خديجة (ع) إذ يقول: " وولدت في الجاهلية عبد مناف والطيب ... والدليل على ذلك أن عبد مناف لو كان ولد في الإسلام لم يسمه عبد مناف" «16» . إن هذا المنحى من قبل أبي عبيدة في إيراد القرائن وربط الأحداث بعضها ببعض لم يقتصر على الروايات التي ذكرها بل تجاوز ذلك إلى التماس نصوص قرآنية وثقت الحوادث التي يعرضها عن زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، لكي تكتمل الصور عن الحدث المراد ذكر روايته، إذ أورد الايات التي نزلت في زواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من زينب بنت جحش «17» عند عرضه هذه الحادثة وملابساتها «18» ، وغير ذلك من الحوادث التي أثبت ما نزل فيها من الذكر الحكيم «19» . ظهرت هنالك حالة في هذا الكتاب تمثلت بعدم وجود أي نص شعري فيه عند عرضه الحوادث التي وردت في ثناياه إلا في موضع واحد «20» ، وهذا ما أثار   (15) المصدر نفسه، ص 20- 21. (16) المصدر نفسه، ص 21. (17) سورة الأحزاب، آية، 37- 38. (18) ينظر، تسمية أزواج النبي، ص 31- 32. (19) ينظر، المصدر نفسه، ص 24، 36- 37. (20) ينظر، المصدر نفسه، ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 استغرابنا لأن أبا عبيدة كان ممن يشار إليهم بالبنان في رواية وحفظ الشعر الجاهلي والإسلامي «21» ، ولا نعلم سبب هذا العزوف عن ذكر بعض أبيات من الشعر في الحوادث التي تطرق إليها، أكان لعدم قناعة أبي عبيدة بالشعر الذي قيل في تلك الحوادث أم كان محاولة منه لاختزال هذا الكتاب وعدم إكثار شواهد النصوص فيه، على الرغم من ورود بعض الأبيات الشعرية في قسم من مصنفات السيرة عند ذكرها لأزواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحوالهن «22» . فضلا عن هذا كله فإن هذا الكتاب قد شكل مرحلة انتقالية بين ما نهجه كتاب السيرة في الاهتمام بذكر مصادر الرواية التي يثبتونها عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله الشخصية والاسترسال في الكلام وعدم ذكره لمصادر الروايات، إذ نرى أن هذا الكتاب قد أغفل تماما سلاسل الإسناد إلا في مواضع قليلة جدا منه «23» ، مع العلم أن أبا عبيدة قد عاش في وقت كان الإسناد بإيراد الروايات في أوج نشاطه «24» ، ولأجل ذلك كانت الروايات التي شكلت فيها محل استغراب منا، لانه لم يشر في كتابه الى من قال بتلك الشكوك والاراء، وخاصة في بعض المحاور التي اختلف رواة السيرة بالتبيان في صحة أقوالهم، واكتفى بإيراد عبارة [وزعم بعضهم] «25» .   (21) ينظر، ياقوت الحموي، معجم الأدباء، 7/ 169. (22) ينظر، ابن هشام، السيرة، 2/ 304- 307، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 398، 416، 420. (23) ينظر، تسمية أزواج النبي، ص 38، 45، 49. (24) ينظر، الديلمي، الإسناد عند المحدثين، ص 205- 206. (25) ينظر، تسمية أزواج النبي، ص 30، 31، 39، 40- 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 لأجل هذه الأمور كان هذا الكتاب أحد المصادر المهمة التي اعتمد عليه العلماء الذين ذكروا زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتبهم «26» . كان هذا الكتاب إحدى الحلقات المهمة في الهيكل العام لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لإردافه المصنفات التي تحدثت عن السيرة بجوانب مفصلة عرضتها باستقلالية واجتزاء عن باقي المواضيع الأخرى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. لم تنطفئ هذه الجذوة التي أوقدها أبو عبيدة وأقرانه من العلماء، إذ سار المتأخرون عنهم على منوالهم فقد صنف علي بن محمد المدائني كتابا مستقلا عن بعض زوجاته، فضلا عن كتابة بعضهم مصنفات تذكر مناقب أمهات المؤمنين «27» ، مع تخصيص حيز أكبر لزوجاته في المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بشمولية واتساع «28» . هذه هي المصنفات التي كتبت عن زوجات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والتي بينت المكانة التي شغلتها هذه المصنفات بين كتب السيرة بمختلف أنماط كتابتها، وبينت المعايير التي كتب بها العلماء مصنفاتهم هذه والتي أظهرت أن الغايات العلمية كانت وراء تصنيف معظم هذه الكتب مع تبيان وتعريف المسلمين   (26) ينظر، خليفة بن خياط، الطبقات، ص 331، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 456، ابن عبد البر، الاستيعاب، 4/ 1822، 1825، 1849، النويري، أحمد بن عبد الوهاب، (ت 733 هـ) ، نهاية الأرب، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر، 1963، 18/ 192- 193. (27) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 219- 220. (28) ينظر، ابن حبيب، المحبر، ص 77- 99، البلاذري، أنساب الأشراف، 1/ 398- 453، اليعقوبي، التأريخ، 2/ 73- 76، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3/ 160- 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 بزوجات نبيهم، فضلا عن توضيح بعض الحوادث التي جرى فيها الكلام حول علاقة الرسول بزوجاته ومواقف بعض هذه الزوجات منه. ج. ذرياته: كانت ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم موضوعا للبحث المستقل أيضا، فقد خصص العلماء مصنفات عديدة تناولوهم فيها باستقلال عن بقية الشخصيات المتعلقة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من جهة، ومن الهيكل العام للسيرة النبوية من جهة أخرى، إذ أوردت لنا إحدى المصنفات قائمة بأسماء العلماء الذين اهتموا بالكتابة عن ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأسماء كتبهم «29» . ظهرت لأجل هذه الأمور مجتمعة مصنفات عدة في هذا الجانب، إذ صنف محمد بن أحمد الدولابي (ت 380 هـ) كتابا أسماه (الذرية الطاهرة) «30» ، فضلا عنه وجود مصنفات عدة في هذا الجانب ابتداء من عصر الدولابي وانتهاء بالعصر العباسي «31» . لم يصل إلينا من المصنفات التي ذكرت في هذا الجانب سوى كتاب (الذرية الطاهرة) وهو لا يزال مخطوطا إلى الان «32» . شغل هذا الكتاب مكانا طيبا بين مصنفات السيرة، إذ لا حظنا فيه منهجية خاصة تختلف بمجملها عن المنهجيات التي عرضناها آنفا والتي منها بينا التطور   (29) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 224- 229. (30) ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 872. (31) ينظر، هدية العارفين، 2/ 15. (32) ذكر سزكين وجود نسختين خطيتين من هذا الكتاب واحدة في تركيا في مكتبة كوبرلي برقم 428/ 2، والثانية في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب بتونس، ينظر تأريخ التراث العربي، 1/ 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الذي اوجده كل مصنف من مصنفات السيرة من حيث تطورها الأفقي والعمودي. تركزت هذه المنهجية في أمرين أساسين لا ثالث لهما: الأمر الأول: تسليط الضوء على إسهامات كل فرد من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحفاده في روية الحديث ونشره «33» ، إذ وجدنا في هذا الكتاب اهتماما منقطع النظير بإيراد مجموع من الأحاديث والأقوال التي رواها كل من الإمام الحسن (عليه السلام) «34» ، والإمام الحسين (عليه السلام) «35» ، والبتول فاطمة الزهراء (عليها السلام) «36» ، إذ أسمى هذه المجاميع بالمساند. إن هذا الأمر لم نألفه في المصادر التي سبقته والتي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بمختلف جوانبها باستثناء محاولة اليعقوبي إفراد فقرة مستقلة في كتابه التأريخ خصصها لبعض الأقوال والحكم التي قالها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم «37» ، ولكن هذه الفقرة لم تكن بالصيغة نفسها التي جمع بها الدولابي الأحاديث التي رواها أهل البيت (عليهم السلام) ، أما الأمر الثاني: فقد تركز في إيجاد مجموع بسيط يضم في طياته أخبارا تتسم بالاستقلالية لذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأسباطه «38» .   (33) ينظر، الذرية الطاهرة، مخطوط مصور في مكتبة الحكيم العامة في النجف، برقم (544) ، ورقة 21- 37. (34) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 21- 27. (35) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 28- 31. (36) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 31- 37. (37) ينظر، التأريخ، 2/ 79- 98. (38) ينظر، الذرية الطاهرة، ورقة 3- 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 هذه هي المنهجية التي اتسم بها هذا الكتاب الذي أسهم في تطور ملحوظ في الكتابة عن ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحوالهم، فضلا عن هذا كله فقد حوى الكتاب على بعض الروايات التي تدل على تساهل الدولابي في إيرادها ضمن مصنفه هذا «39» ، ومن ثم فان هذا الكتاب لم يكن تقليديا في أسلوبه ومنحاه بل أتبع كما لا حظناه منهجا مغايرا لما نهجته المصادر التي تقدمته عند عرضها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.   (39) ينظر، المصدر نفسه، ورقة 9، 10، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 المبحث الثالث المصنفات التي كتبت في شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأخلاقه الشمائل في اللغة هي الطباع والسجايا والأخلاق التي يتسم بها الشخص «1» ، ولهذا نجد أن المصنفين في موضوع الشمائل قد ترادفت مسميات كتبهم في هذا الجانب، فتارة يسمونها ب (أخلاق النبي) و (شمائل النبي) تارة أخرى. وقبل البدء بعرض هذه المصنفات يجب إعطاء لمحة موجزة عن الجذور الأولى لكتابتها وأسباب العناية بها وتشجيعها، الأمر الذي لأجله ظهرت مصنفات عديدة كتبت في هذا المجال على طول تاريخنا الإسلامي «2» . كان وراء نظرة المسلمين لشخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أثر فعال في كتابة هذه المصنفات، إذ كان شخصه الكريم القدوة والمثال والأسوة الحسنة التي يقتدي بها المسلون، وذلك امتثالا لقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «3» ، وهذا ما دفع المسلمين إلى البحث والتقصي عن الأفعال والتصرفات التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في حياته اليومية ابتداء من قيامه إلى صلاة الفجر وانتهاء بوضع رأسه الشريف على الوسادة وتجسيد هذه التصرفات كواقع حال معمول به من قبلهم هذا من جانب، ومن جانب آخر كان لاضمحلال الاتجاه   (1) ينظر، ابن منظور، لسان العرب، مادة (شمل) ، 11/ 367- 369. (2) ينظر، عن التراث الفكري لشمائل الرسول وأخلاقه، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، ص 192- 197. (3) سورة الأحزاب، آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 العقلي الذي نحاه المعتزلة بعد تحجيم المتوكل العباسي لنشاطهم وإحياء الاتجاه النقلي الذي مثله أهل الحديث، إذ تمثل ذلك بالعودة إلى ما ألفه المسلمون من تقصي وتتبع لأخبار وأحوال عصر الرسالة والخلافة الراشدة بعدما استحوذت العلوم العقلية على أفكار الناس ومعتقداتهم بعد أن فسح المأمون لذلك بترجمة الكتب الفلسفية والنتاجات الفكرية للأمم والشعوب المجاورة وتبني المعتزلة مهمة نشر أفكار هذه الأمم والشعوب «4» . لأجل ما ذكرناه نشأت فكرة متمثلة بتخصيص مصنفات مستقلة يجمل فيها المحدث ما وصل إليه من روايات تبين للمسلمين طريقة عيش الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتصرفاته بعدما أثبت عدد غير قليل من الروايات في المجاميع الحديثية «5» . إن المطلع على كتب الشمائل والأخلاق النبوية يعّدها أقرب إلى كتب الحديث منها إلى كتب السيرة لأنها جزء من السنة التي يجب إتباعها، ولكن الذي حداني على جعلها ضمن مصنفات السيرة أنها قد اتسمت بالاستقلالية في عرض الجوانب الشخصية في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. هذه هي الظروف والعوامل التي رافقت استحداث كتابة هذا الجانب باستقلالية عن باقي المصنفات الأخرى التي تضمنت عرضا للعديد من الروايات الخاصة بموضوع شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.   (4) ينظر، جار الله، المعتزلة، ص 158- 193. (5) ينظر، ابن أنس، مالك، الموطأ، دار الافاق الجديدة، بيروت، ط 1، 1979، ص 771- 548، عبد الرزاق، المصنف، 10/ 379- 466، 11/ 3- 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أما المصنفات التي كتبت في هذا الجانب فقد تنوعت من حيث الأسلوب الذي كتبت به، والروايات التي حواها كل مصنف منها، وهذه المصنفات هي: 1. الشمائل النبوية لمحمد بن عيسى الترمذي (ت 279 هـ) : مصنف هذا الكتاب هو المحدث الحافظ محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الضحاك السلمي الترمذي أحد الأئمة المحدثين وكبارهم، صنف العديد من الكتب في الحديث كان أهمها كتاب (الجامع الصحيح) ، وكان يضرب به المثل في الحفظ والإتقان والورع «6» . كان هذا الكتاب أول مصنف كتب في هذا الجانب «7» ، ولأجل هذه الريادة أكتسب حظوة كبيرة لدى العلماء والباحثين، إذ وصفه ابن كثير بالقول: " وقد صنف الناس في هذا (شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم) قديما وحديثا كتبا مفردة وغير مفردة ومن أحسن من جمع في ذلك وأجاد وأفاد الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله، أفرد في هذا المعنى كتابه المشهور بالشمائل ولنا سماع متصل به ... " «8» وعلّق عليه آخر بالقول: " كان كتاب الشمائل من أجلّ ما ألّف في محاسن قطب الوسائل ومنبع الفضائل" «9» ، ووصف آخر هذا الكتاب بالقول: " إن كتاب الشمائل لعلم الرواية وعالم الدراية الإمام الترمذي كتاب وحيد في بابه فريد في استيعابه لم يأت أحد بمماثل ولا بمتشابه سلك فيه   (6) ينظر، ابن النديم الفهرست، ص 233، الصفدين الوافي بالوفيات، 4/ 295، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 2/ 133. (7) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، ص 168. (8) البداية، والنهاية، 6/ 11. (9) ابن حسوس، محمد بن قاسم، الفوائد الجليلة البهية على الشمائل المحمدية، مكتبة محمد علي، القاهرة، 1927، 1/ 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 منهجا بديعا ورصّعه بعيون الأخبار وفنون الاثار ترصيعا حتى أدّى ذلك الكتاب من المواهب وطار في المشارق والمغارب" «10» ، وينتهي آخر الى وصفه بالقول: " ومن أحسن ما صنف في شمائله وأخلاقه (صلى الله عليه وسلم) كتاب الترمذي المختصر الجامع بحيث أن مطالع هذا الكتاب كأنه يطالع طلعة ذات الخباب ويرى محاسنه الشريفة في كل باب" «11» . فضلا عن هذا كله كانت هذه المصادر التي عرضنا آراء أصحابها في الترمذي مصنف الشمائل عبارة عن شروحات لهذا الكتاب مع وجود شروحات أخرى له أجملها أحد فهارس الكتب «12» . لم تقتصر جهود العلماء على شرح عباراته والتعليق عليه بل تعدت ذلك إلى البحث عن طرق تؤدي إلى حصول إجازة برواية الكتاب عن مصنفه أو عمن سمعه وأجيز بروايته، كما تبين ذلك الكتب التي يعرض فيها العلماء أسماء المصنفات التي حصلوا على إجازة بروايتها ورحلتهم في طلب الحديث «13» ، إذ أشارت العديد من هذه الكتب إلى حصول مصنفيها على إجازة برواية هذا الكتاب بعد مدة متأخرة عن حياة المؤلف «14» ، فضلا عن ذلك فقد كان لهذا الكتاب أثر ملموس في باقي العلماء وإن لم يثبتوه ضمن الكتب التي حصلوا   (10) البيجوري، إبراهيم، المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية، دار الطباعة المصرية، بولاق، 1280 هـ، ص. (11) الدوحي، أحمد عبد الجواد، الإتحافات الربانية بشرح الشمائل المحمدية، المكتبة التجارية الكبرى، 1380 هـ، ص 18. (12) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 192- 197. (13) عن كتب الإجازات ورحلات العلماء، ينظر، الأهواني، عبد العزيز، كتب برامج العلماء، مجلة معهد المخطوطات العربية، جامعة الدول العربية، 1959، مج 1/ 1/ 91- 120. (14) ينظر، ابن خير الاشبيلي، فهرست ما رواه عن شيوخه، ص 204، الوادي آشي، برنامج الوادي آشين ص 210- 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 على إجازة بروايتها، إذ ذكر ابن كثير هذا الكتاب بعبارة: " ولنا سماع متصل به" «15» ، ولم يقتصر جهد العلماء على الحصول على إجازة واحدة برواية هذا الكتاب حسب بل تعددت تلك الإجازات إلى عشرات الشيوخ، إذ ذكر الوادي آشي أنه قد حمل هذا الكتاب عن أربعين شيخا «16» . تدل لنا المقدمات التي أفتتح بها بعض المتصوفة الذين شرحوا هذا الكتاب على أنهم قد وجدوا في هذا الكتاب ضالتهم المنشودة، وذلك حين استعملوا المصطلحات التي تدل على إكبارهم للمصنف وكتابه «17» مثل عبارة القطب، والعارف «18» . ولم تنته اهتمامات العلماء به عند هذا الحد بل انبرى أحد العلماء المتأخرين إلى تخصيص مصنف مستقل للحديث عن الرواة الذين وردت أسماؤهم في كتاب الشمائل أسماه (بهجة المحافل واجمل الوسائل بالتشريف برواة الشمائل) ، إذ يقول في خاتمته: " هذا آخر ما أردنا تلخيصه مما يتعلق برجال هذا الكتاب ... وإن لم أكن له أهل لكني رجوت من حسنت شمائله وفاق عن الحصر فضائله أن يكون لي في الشدائد عونا ... " «19» . يبين لنا هذا الاستعراض المكانة التي حظي بها هذا الكتاب في نفوس العلماء حتى بذلوا من أجله هذا المجهود الكبير بالشرح والتهذيب والرواية، ومواظبتهم   (15) البداية والنهاية، 6/ 11. (16) ينظر، برنامج الوادي آشي، ص 210. (17) ينظر، عن المصطلحات الصوفية، طعمة، صابر، الصوفية، معتقدا ومسلكا، جامعة محمد بن سعود، الرياض، ط 1، 1985. (18) ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 10، 1/ 1060. (19) اللقاني، إبراهيم بن إبراهيم، (ت 1041 هـ) ، مخطوط في المكتبة القادرية في بغداد برقم (1024 ف) ، ورقة 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 في الحصول على إجازة بروايته حتى قرون متأخرة، وهذا ما يفسر لنا العدد الجم والغفير من المخطوطات التي وصلت إلينا من هذا الكتاب في معظم المكتبات العامة والخاصة والتي تحتفظ بالتراث الخطي. نرى مما سبق ذكره أن هذا الاهتمام الذي حصل عليه هذا الكتاب راجع إلى منهجيته الدقيقة وريادته في كتابة هذا الجانب عن حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فضلا عن وجود جوانب أخرى أسهم بها الترمذي في تطور كتابة الشمائل من جهة والسيرة النبوية من جهة أخرى، وهذه الجوانب هي: 1. إيجاد منتخب بسيط يضم في طيات أوراقه ما تناثر من روايات في كتب الحديث عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وطباعه وسجاياه وتصرفاته، فكان هذا الكتاب بوتقة انصهر فيها هذا الخضم الهائل من الروايات التي أوردتها كتب الحديث وما تناقلته شفاه الرواة في هذا الجانب من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فكان نتيجة لذلك كتاب ضم (أربع مئة حديث) ، في ستة وخمسين بابا «20» ، فضلا عن ذلك كله بين الترمذي درجة القوة في كل حديث يورده من حيث صحته أو ضعفه «21» . 2. الاستطراد في ذكر أحاديث وروايات لا تمت بصلة إلى عنوان الكتاب ومباحثه، إذ عرض فيه أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «22» ، وعمره الشريف «23» ، وحادثة الوفاة «24» ، وصولا إلى كيفية رؤيته في المنام «25» .   (20) ينظر، الشمائل النبوية، دار الشرق الجديد، بغداد، 1986، ص 4- 221. (21) ينظرن المصدر نفسه، ص 35، 48، 197، 201. (22) ينظر، المصدر نفسه، ص 195. (23) ينظر، المصدر نفسه، ص 158. (24) ينظر، المصدر نفسه، ص 201. (25) ينظر، المصدر نفسه، ص 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 كانت هذه الأبواب التي أوردها الترمذي في كتابه هذا متممة لما بدأه من عرض لأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وسجاياه فأراد من عرضه لهذه الأبواب إيجاد ترابط معنوي بين أبواب الكتاب مجتمعة وذلك بجعل هذه الأبواب مكملة لسابقتها، مع التنبيه إلى وجود أثر لا شعوري متمثل بمحاولة الترمذي السابقة في كتابة هذه الجوانب ضمن مصنفه (الجامع الصحيح) «26» ، مع العلم أن كتابه هذا قد تضمن ذكرا للعديد من الشمائل والصفات التي أتسم بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وطريقة عيشه «27» . 3. جعل الترمذي كتابه هذا غفلا من ديباجة تفتتح الكتاب وتبين طريقته في التأليف ومقصده منه «28» ، وقد اتبع المنحى نفسه في مصنفه ذائع الصيت [الجامع الصحيح] «29» ، إذ أغفل فيه المقدمة التي يبين فيها منحاه في الكتابة والغاية من التصنيف؛ وهذا ديدن المحدثين في عصره حين يكتبون مصنفاتهم «30» ، وبهذا قد تابع الترمذي في كتابه مناهج المحدثين في عصره من حيث الأسلوب وطريقة الكتابة. إن هذا المنحى الذي سار عليه الترمذي قد لاقى من يؤيده من المصنفين الذين انتهجوا منهجه في تدوين مصنف يجمع الأفعال والتصرفات التي كان   (26) ينظر، الجامع الصحيح، 13/ 94- 122. (27) ينظر، المصدر نفسه، 8/ 17- 89، 173- 174، 9/ 214. (28) ينظر، الشمائل النبوية، ص 4. (29) ينظر، الجامع الصحيح، 1/ 5. (30) ينظر، ابن حنبل، المسند، 1/ 2، البخاري، الصحيح، 1/ 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يقوم بها أثناء يومه الحافل «31» ، ولكن هذا المنحى- لم يكن بحد ذاته- تطورا جذريا على صعيد تدوين المصنفات الخاصة بشمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، بل يعدّ الأساس الأول للأساليب التي كتبت في ضوئها المصنفات الأولى للشمائل، إذ تبين لنا بعد ذلك أن المصنفين في هذا الموضوع قد وضعوا مقدمات لكتبهم عرضوا فيها عناوين الموضوعات التي بحثوها في مصنفاتهم؛ فكان منحى الترمذي هذا بمثابة الدليل الذي استرشد به من أتى بعده من المصنفين الذين طوروا وأضافوا شيئا كثيرا لطريقة الترمذي، فانتهجوا منهجا لا نعدّه مغايرا بل نعدّه منسقا ومرتبا أكثر من سابقه. 4. التعويل على الرواية في عرض الحادثة ومسبباتها، وتبيان درجة قوتها وضعفها بما يطلقه المحدثون من أحكام على الرواية والرواة (صحيح، حسن، ضعيف، غريب، ... ) «32» ، الأمر الذي جعل الكتاب خاليا من الاستنتاجات والتعليقات والربط بين ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من تصرفات في مواقف سابقة تكون مشابهة أو مقاربة لمواقف لا حقة؛ ونتيجة لذلك تبنى أحد المتأخرين مهمة الكتابة عن مسانيد الترمذي في كتابه الشمائل الذي أردف كل شيخ راويا في سلسلة السند بما قيل فيه من جرح أو تعديل من قبل المتخصصين في هذا العلم، وذلك لتتبين وثاقة الراوي والرواية التي يراد الاستنان بها «33» . ولم يقتصر الأمر على هذا، بل قام مصنفون آخرون بالتعليق وطرح الاراء التي تعبر   (31) ينظر، السني، أحمد بن محمد (ت 364 هـ) ، عمل اليوم والليلة، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، مكتبة الكليات الأزهرية، 1969، ص 12- 82. (32) ينظر، الشمائل، ص 8، 28، 37، 43، 50، 65، 75. (33) ينظر، اللقاني، بهجة المحافل وأجمل الوسائل برواة الشمائل، ورقة 3- 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 عن وجهة نظرهم في العديد من الروايات التي أوردها في مصنفه «34» ، الأمر الذي عدّ هو الاخر خروجا جذريا على طريقة الترمذي التي انتهجها في كتابه الشمائل، حين استلهموا الأفكار والطروحات الجديدة من تصرف قام به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في حياته اليومية، وبهذا أوجد هؤلاء ترابطا وثيقا بين ما استنبطه الفقهاء من أحكام شرعية في ضوء فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وقوله، وما استنبطه المهتمون بأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الشخصية من أخلاق مثلتها هذه الأفعال؛ وخير مثل على هذا الأمر تصنيف القاضي عياض كتابه المسمى [الشفا بتعريف حقوق المصطفى] «35» . هذه هي الجوانب التي اتسم بها كتاب الشمائل النبوية للترمذي والتي كانت فاتحة للعديد من المصنفات في هذا الجانب من حياة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. 2. أخلاق النبي لأبي محمد عبد الله بن محمد الاصبهاني المعروف بابن أبي الشيخ (ت 369 هـ) : نال ابن أبي الشيخ مكانة مرموقة عند العلماء بعامة وعند المحدثين بخاصة، إذ وصفوه بعبارات فيها كثير من الثناء والتبجيل، وصنف العديد من الكتب في الحديث النبوي الشريف وعلومه «36» .   (34) ينظر، ابن جسوس، الفوائد الجللية، ص 2- 5. (35) ينظر، الشفا، 1/ 32. (36) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 3/ 147- 149، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، 4/ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 استعمل ابن أبي الشيخ لفظة (أخلاق) عنوانا لكتابه بدلا من (شمائل) ، وهذا يؤكد وحدة دلالة هذين اللفظين، وقد سبقه في استعمال هذه اللفظة مصنفون عديدون في كتابة هذا الجانب من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «37» ، في حين أن جمعا من المؤرخين قد أبقوا استعمال عنوان (الشمائل) في مصنفاتهم التي يغلب عليها التزويق اللفظي واستعمال المحسنات البديعية كالسجع وغيره «38» . ويعدّ كتاب ابن أبي الشيخ مكملا لما بدأه الترمذي، إذ حاول أن يدون مصنفا يحوي مجموعا من الروايات التي تبين للمسلمين وغيرهم الأخلاق والصفات الحميدة والسجايا التي أتسم بها نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلّم، وقد أشار في ديباجة كتابه إلى هذه الأمور قائلا: " ما ذكر من حسن خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكرمه وكثرة تواضعه وصبره على المكروه وإغضائه وإعراضه عما كرهه ... وكظم الغيظ، وحمله، وكثرة تبسّمه، وسروره، ومزاحه وبكائه وحزنه ومنطقه وألطافه، وقوله عند قيامه من مجلسه ومشيته والتفاته، وذكر محبته الطيب وتطيبه، وذكر قميصه وجبتّه وشكره ربه عند سعيه" «39» ، فكان عمله هذا إضافة نوعية لكتاب الترمذي، حين وضع مقدمة لكتابه عرض فيها ما سيذكره فيه بعكس ما فعله الترمذي «40» ؛ فضلا عن هذا الجانب فقد وجدت فيه جوانب أخرى أسهمت في تطور كتابة الشمائل والأخلاق التي اتصف بها رسول الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذه الجوانب هي:   (37) ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 1059، البغدادي، هدية العارفين، 2/ 124. (38) ينظر، الكتاني، الرسالة المستطرفة، ص 105، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 192- 197. (39) أخلاق النبي، تحقيق: عبد الله الغماري، مطبعة الفجالة، القاهرة، ط 1، 1374، ص 16. (40) ينظر، الشمائل النبوية، ص 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 1. التوسع الأفقي والعمودي من حيث مضمون الكتاب ومحتواه، إذ نرى فيه روايات فاق بها سابقيه ولا سيما الترمذي الذي عرضنا جهوده في كتابة الشمائل النبوية، إذ شملت التوسعة الأفقية في الكتابة إدخاله لأبواب وفصول جديدة لم يتطرق لها الترمذي بكتابه [الشمائل] «41» ، ومن هذه الأبواب ذكر محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم للفأل الحسن في القول «42» ، وكيفية حلقه لشعره وشاربيه «43» ، أما التوسعة العمودية فقد تمثلت بإضافة روايات أخرى على الروايات التي أثبتها الترمذي في كتابه [الشمائل] «44» ، فمن تلك الروايات التي أضافها ابن أبي الشيخ على الروايات التي حوتها أبواب الترمذي في كتابه آنف الذكر، إثباته أربع عشرة رواية في صفة مشيه صلى الله عليه وآله وسلّم «45» ، مع العلم ان الترمذي قد أورد ثلاث روايات في هذا الباب من كتابه الشمائل 45 أ، كذلك أورد ابن أبي الشيخ إحدى وأربعين رواية في حسن خلق الرسول محمد «46» صلى الله عليه وآله وسلّم في حين أورد الترمذي أربع عشرة رواية في هذا الباب فقط «47» .   (41) ينظر، أخلاق النبي، ص 16- 95، 259، 280- 283. (42) ينظر، أخلاق النبي، ص 268- 275. (43) ينظر، المصدر نفسه، ص 278- 280. (44) ينظر، المصدر نفسه، ص 16-، 35، 204، 204- 214، الشمائل النبوية، ص 4- 14، 76- 78. (45) ينظر، المصدر نفسه، ص 98- 101. (45 أ) ينظر، الشمائل النبوية، ص 60. (46) ينظر، الشمائل النبوية، ص 60. (47) ينظر، أخلاق النبي، ص 16- 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 إن هذه التوسعة [الأفقية منها والعمودية] ناتجة من أتساع وشمولية لفظة أخلاق عن لفظة شمائل «48» ، مع العلم أن ابن أبي الشيخ لم يكن مقتفيا أثر الترمذي في عرضه مادة الكتاب. إذ رأيناه في بعض الأماكن خاصة في الأبواب الأخيرة منه قد خالف الخطة التي سار عليها الترمذي في كتابه الشمائل، إذ لم يكرر ما أدخله الترمذي في كتابه بإيراد بعض الروايات حول أسماء الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وعمره ووفاته «49» ، وغير ذلك من الروايات التي ختم بها الترمذي كتابه هذا «50» ، كل هذه الأمور قد أغفلها ابن أبي الشيخ وذلك عند كتابته لمصنفه هذا وجدها غير مطابقة لعنوان الكتاب وما يبغيه من عرض لروايات تتصل بصفات الرسول وأخلاقه وسجاياه. فضلا عن هذا كله لم تكن هذه التوسعة لتضخيم حجم هذا الكتاب بل اتبع ابن أبي الشيخ في عرضه للروايات التي أوردها فيه الاختصار في أسانيد الروايات وذلك بعدم تكرار شيوخ السند للحادثة التي رويت فيها روايات عدة ومن طرق مختلفة «51» . 2. التسامح في إثبات الروايات وذلك من دون نقد أو تحليل لما ورد فيها «52» ، خلاف ما نهجه الترمذي في كتابه الشمائل الذي لم يترك رواية أوردها   (48) ينظر، الشمائل النبوية، ص 4- 14. (49) ينظر، ابن منظور، مادة (خلق) ، 10/ 86- 87، مادة (شمل) ، 11/ 367- 369. (50) ينظر، الشمائل النبوية، ص 195- 201. (51) ينظر، المصدر نفسه، ص 212- 222. (52) ينظر، أخلاق النبي، ص 18، 20، 36، 80، 103، 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 في هذا الكتاب إلا وأبدى رأيه فيها من حيث صحتها وضعفها «53» ، وهذا الأمر راجع إلى أن ابن أبي الشيخ قد نهج في تثبيت معظم الروايات التي وصلت إليه والتي تمس مطالب كتابه التي ذكرها في مقدمته «54» ، وهذا بطبيعة الحال قد أدى إلى دخول بعض الأحاديث الضعيفة والواهية إلى هيكل هذا الكتاب ومحتواه «55» . 3. الاستشهاد بالايات القرآنية في تبيان أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وسجاياه «56» ، وذلك أن القرآن الكريم قد حوى بمجمله وصفا عاما لطبيعة شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومكانته، كما هو واضح من نقول هذا الكتاب التي أوردناها آنفا، وهذا ما لم نجده عند الترمذي في كتابته لشمائل الرسول التي كان جل اعتماده على إيراد الروايات التي تبين صفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وشمائله «57» . 4. التحويل بين رجالات السند وتبيان طرق تحمله للرواية الواحدة من شيوخ عديدين ولا سيما بعد وصول هذه الرواية إلى التابعين وتابعي التابعين كما هو مبين في هذا الكتاب «58» . من هذا العرض للجوانب التي أضفاها ابن أبي الشيخ على كتابة الشمائل النبوية ضمن كتب السيرة، نرى فيه تطورا جديا ونقلة نوعية في كتابة الشمائل   (53) ينظر، المصدر نفسه، ص 20- 299. (54) ينظر، الشمائل النبوية 4/ 228. (55) ينظر أخلاق النبي ص 16- 18. (56) ينظر، المصدر نفسه، ص 20، 30، 40، 47، 118، 153، 180، 268- 274، 275. (57) ينظر، المصدر نفسه، ص 17، 19، 28، 45، 48، 73، 165، 187، 188، 191، 195. (58) ينظر، الشمائل النبوية، ص 4- 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أولا والسيرة ثانية، وذلك بعدم الاتكاء والتقليد الأعمى لما طرحه السابقون عليه. مع هذه الجوانب كلها، لم يلق هذا الكتاب الشهرة والانتشار والذيوع مثل كتاب الترمذي [الشمائل] لاستحواذ هذا الكتاب الأخير على مسامع الناس؛ فضلا عن الريادة في الشروع بكتابة مثل هذه المصنفات التي صورت لنا جانبا من حياة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم الشخصية. 3. الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت 544 هـ) *: هو القاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، نشأ وتربى في المغرب وبلاد الأندلس ودرس الفقه على مذهب الإمام مالك، وتولى القضاء في بلاده وصنف مؤلفات عدة في الحديث وأصول روايته والفقه المالكي «59» . وما يهمنا من مصنفاته كتابه الذائع الصيت الشفا بتعريف حقوق المصطفى الذي عدّ من كتب الشمائل على حد تعبير أحد الباحثين حين وصفه بالقول: " فالشفا ليس كتابا في السيرة بالمفهوم الصحيح لمعنى السيرة ولكنه يندرج تحت كتب الشمائل النبوية ويخطئ من يقارنه في منهجه بكتب السيرة" «60» ، كان لهذا التصريح من قبل هذا الباحث دافع جوهري تمثل بتصريح القاضي عياض نفسه   (*) كتبت دراسات عدة عن القاضي عياض ومصنفاته، إذ خصصت مجلة المناهل الصادرة في الرباط عددا مستقلا منها للحديث عن القاضي عياض ومصنفاته وذلك بعددها المرقم 19 لسنة 1980، ص 3- 523. (59) كتب ابن القاضي عياض (محمد) ترجمة كاملة لأبيه أسماها (التعريف بالقاضي عياض) ، قام بتحقيقها محمد بن شريف وزارة الأوقاف، المغرب 1973. (60) شقور، عبد السلام، القاضي عياض الأديب، دار الفكر المغربي ط 1، 1983، ص 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 واصفا كتابه هذا بأنه كتاب في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم على وجه العموم «61» ، ويدحض باحث آخر تصريح القاضي عياض عند دراسته لمضامين كتابه هذا، فينتهي إلى عدّه كتابا واحدا من الكتب الفرعية للسيرة النبوية لأنه لم يتناول فيه غير جانب واحد من التاريخ النبوي لا غير، مع تأكيده أن مباحث الكتاب كانت مما يدخل في مباحث علم الكلام، ولكن الخصوصية التي جاء بها هي رواياته لأخبار وأحاديث تتصل بحياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم النفسية والاجتماعية التي أوضحها عرضه لشمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأخلاقه العالية «62» . كل هذه الاراء قد أنارت لنا السبل في الاهتداء إلى المكان المناسب الذي نضع فيه هذا الكتاب من مجموع المصنفات المختلفة والمتشعبة الجوانب والمواضيع. كان للعصر الذي عاش فيه القاضي عياض أثر واضح وملموس في كتابة مصنفه هذا، إذ كان عصره مرحلة من مراحل الاحتدام الفكري والسياسي بين المذاهب والدول التي نشأت وترعرعت في بلاد المغرب العربي والأندلس والتي حملت كل واحدة منها فكرة مغايرة للأخرى «63» ، إذ تركز لأجل ذلك منهجه في هذا الكتاب في نقطتين بارزتين هما:   (61) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 278. (62) الكتاني، محمد، مقدمة معاصرة لكتاب الشفا، مجلة المناهل، عدد 19، ص 368- 369. (63) ينظر، ألفر، بل، الفرق الاسلامية في الشمال الافريقي، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار ليبيا، بنغازي، 1969، ص 138- 259، سليمان، أحمد السعيد، تاريخ الدول الأسلامية ومعجم الأسر الحاكمة، دار المعارف القاهرة 1972، 1/ 42- 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أولا: تعميق الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ورفع شأنها، وهذا ما أوضحته مقدمته التي افتتح بها كتابه هذا قائلا: " فانك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة والسلام وما يجب له من توقير واحترام وما حكم من لم يوف واجب عظيم ذلك القدر، أو أقصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر ... " «64» ، ويضيف في مكان آخر منها بالقول: " ولا خفاء على من مارس شيئا من العلم أو خص بأنى لمحة من فهم بتعظيم الله تعالى قدر نبينا عليه الصلاة والسلام وخصوصيته إياه بفضائل ومحاسن لا تنضبط بزمام وتنويه من عظيم قدره بما تكل عنه الألسنة والأقلام فمنها ما صرح به تعالى في كتابه ونبه به على جليل نصابه وأثنى به عليه من أخلاقه وآدابه وخص العباد على التزامه ... ومنها ما أبرزه للعيان من خلقه على أتم وجوه الكمال والجلال وتخصيصه بالمحاسن الجميلة والأخلاق الحميدة والمذاهب الكريمة" «65» ، مع العلم أن مصنف القاضي عياض هذا لم يكتبه لمنكر أو جاحد لنبوة محمد بل كتبه للمسلمين والمؤمنين بها حصرا، إذ يبين ذلك بالقول: " إن كتابنا هذا لم نجمعه لمنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ولا لطاعن في معجزاته، فنحتاج إلى نصب البراهين عليها وتحصين حوزتها ... بل ألفناه لأهل ملته الملبين لدعوته المصدقين لنبوته ليكون تأكيدا في محبته له ومنماة لأعماله" «66» ، ومن ثم فإن القاضي عياض بمقالته هذه قد حدد نوع قراء هذا الكتاب الذي صنفه لأجلهم.   (64) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 32. (65) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 42- 43. (66) المصدر نفسه، 1/ 481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ثانيا: المحاججة والمناظرة للاراء وعقائد المذاهب المخالفة له في العقيدة وذلك بإيراده لبعض وجهات النظر الخاصة به في ما يتعلق بمقام النبوة والواجبات اتجاهها، وتفسير النصوص الواردة إليه وتقعيد الأحكام عليها، مثال ذلك قضية تأويل النص الشعري بغير معناه الظاهر «67» ، فضلا عن كثير من القضايا التي صرح القاضي عياض بفساد آراء أصحابها فيها «68» . اقتضى هذا الأمر من القاضي عياض أن يكون له إلمام واسع بدقائق الألفاظ وأوجه اختلاف التعابير والاستيعاب الكامل لجميع الاراء والروايات التي اختصت بهذه الأفكار والعقائد التي طرحها للبحث والناظرة في كتابه هذا، وقد أشار القاضي عياض إلى هذا الأمر في ترجمته لنفسه عندما ذكر تضلعه الواسع بعلوم الفلسفة والمنطق والحديث والعربية بدراسته لها على أيدي أساتذة كان لهم الباع الطويل في هذه العلوم «69» . لأجل ذلك كان هذا الكتاب أحد الصور الناطقة للعصر الذي كتب فيه ومرآة عاكسة لوجهات النظر المختلفة للمذاهب التي ظهرت في المغرب العربي، حتى وصف أحد الباحثين هذا الكتاب بالقول: " نرى الكتاب بمثابة إسهام في تعميق اتجاه ودحض ما عداه" «70» . طبق القاضي عياض هاتين النقطتين بجدية ووضعهما نصب عينيه في كتابه من أوله إلى آخره، ولأجل ذلك كانت هنالك جوانب أسهم بها القاضي عياض في تطور كتابة السيرة النبوية بعامة، ولم يكن مقتصرا على جانب الشمائل   (67) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 604. (68) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 191، 357، 382، 438، 2/ 602، 603. (69) ينظر، القاضي عياض، الغنية، تحقيق: محمد عبد الكريم، الدار العربية للكتاب، بيروت، 1978، ص 13- 254. (70) الكتاني، مقدمة معاصرة لكتاب الشفا، مجلة المناهل، ص 368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 والأخلاق فحسب، وذلك لأن أثره لم يكن منحصرا في الكتب التي صنفت في هذا الجانب، بل تعدته إلى كتب السيرة الأخرى التي لم يماثله أي واحد منها في الأسلوب الذي عالج به الروايات والاراء التي خرج بها من معالجته لها، مما كان لهذا الأمر أثر فعال في ظهور هذا الكتاب بهذه الحلة التي تميز بها عن باقي كتب السيرة، تركز أثر القاضي عياض في تطور كتابة السيرة أولا وكتب الشمائل والأخلاق ثانيا في محاور عدّة هي: 1. الخطابية والصنعة البلاغية في كتابة الجمل الواردة في الكتاب، وهذا الأمر قد أوضحه أحد الباحثين بالقول: " ولعل أهم خاصية يتميز بها [هذا الكتاب] انسياق الجملة عنده لأنها بنيت على أساس خطابي يقترض من الخطابة أدواتها وهو يتخيل القراء أمامه مثل جمهوره الذي يتصل به في كل جمعة أو مناسبة دينية ليخاطبهم فتراه يستعمل ضمير المخاطب ويكثر من استعمال أدوات التنبيه وينوع الجملة من حيث الطول والقصر، ويزاوج بين الجمل الفعلية والاسمية ليضمن استمرار يقظة القارئ" «71» ويضيف هذا الباحث في مكان آخر واصفا هذا الأسلوب: " وأسلوب أي صياغته اللغوية صنفان صنف يغلب عليه السرد العلمي، وآخر يكثر فيه التحليق في فضاء فسيح الأرجاء يفوح بعطر الروضة الشريفة، والحق إن النصوص التي خرج منها عياض عن السرد جاءت بارزة بشكل واضح كأنها واحات يفيء إليها من هجر النقاش الفكري المضني، ففيها كان عياض يجد راحته فيطلق العنان لخياله فأبدع ما شاء الله أن يبدع" «72» .   (71) شقور، القاضي عياض الأديب، ص 141. (72) المصدر نفسه، ص 137- 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فمن الجمل التي استعمل فيها القاضي عياض هذا الأسلوب: " أعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم الباحث عن تفاصيل جمل قدره العظيم إن خصال الجلال والكمال في البشر نوعان ضروري دنيوي اقتضته الجبلة وضرورة الحياة، ومكتسب ديني وهو ما يحمد فاعله ويقربه إلى الله زلفى إذ كان خصال الكمال والجلال ما ذكرناه ووجدنا الواحد منا يشرف بواحدة منها أو اثنتين إن اتفقت ... فما ظنك بعظيم قدر ما اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما يأخذه عدد ... ولا ينال بكسب ولا حيلة" «73» ، وفي موضع آخر من هذا الكتاب ذكر عبارة استعمل فيها فنونا بلاغية أضفت عليها لمسة جمالية، وهذه العبارة تمثلت بقوله: " وجدير بمواطن عمرت بالوحي والتنزيل وترد بها جبريل وميكائيل وعرجت منها الملائكة والروح وضجت عرصاتها بالتقديس والتسبيح واشتملت تربتها إلى جسد سيد البشر، وانتشر عنها مدارس آيات ومساجد وصلوات ومشاد الفضل والخيرات ومعاهد البراهين والمعجزات ومناسك الدين ومشاعر المسلمين ومواقف سيد المرسلين ومتبوأ خاتم النبيين" «74» . وصف أحد الباحثين عمل القاضي عياض بالقول: " إن الكاتب قد أطلق العنان لفكره ولا أقول لخياله ... فعياض يواجه القارئ بمادة دسمة ... فتراه يبرز المعنى الواحد في أثواب مختلفة فكأنما همه أن ترى تلك الثياب التي لا تروقك بألوانها ولكن بشدة الحبك ودقة الحياكة" «75» ، وينتهي هذا الباحث إلى   (73) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 483. (74) المصدر نفسه، 2/ 58. (75) شقور، القاضي عياض الأديب، ص 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 القول: " ويبدو لي إن عياض كان متحررا إلى حد بعيد من الأعراف الأديبة، [وذلك] لأنه هاهنا لا يكتب ليكتب ... ولكنه يكتب ليقول شيئا، وما يقوله ليس لأنه ما يقال عادة، ولكنه لكونه يأمن به وهذا هو سر الصدق الذي يشعر به القارئ بأسلوب القاضي عياض الوظيفي عموما ولأسلوبه في الشفا خصوصا، وهذا هو السر في التقدير الذي لقيه هذا الكتاب على الرغم من وجود العديد من الكتب في موضوعه" «76» . 2. الخروج عن المألوف بطريقة عرضه لمحتويات كتابه، إذ كان مسلكه فيه ينحصر على وضع الفروض ثم يقعد القواعد عليها وبعد ذلك يردفها بالأدلة المانعة أو الموجبة لها، وهذا ما أوضحته مقدمة كتابه التي استعرض فيها المباحث التي سيتطرق إليها في هذا الكتاب «77» إذ كانت مصنفات السيرة تعرض الأحداث على وفق إطارها الزمني او الموضوعي، أما القاضي عياض وجدناه يسلك مسلكا مغايرا لما سلكته الكتب التي سبقته في هذا الجانب. ويبدو ان هذا الامر هو الذي دفع بحاجي خليفة الى أن يصف هذا الكتاب بالقول: " وهو كتاب عظيم النفع كثير الفائدة لم يؤلف مثله في الإسلام شكر الله سعي مؤلفه وقابله برحمته وكرمه" «78» .   (76) المصدر نفسه، ص 147. (77) ينظر، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 31- 40. (78) كشف الظنون، 2/ 1053. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 3. التعظيم والتفخيم لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وذلك باستحداثه لصفات اتسم بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وواجبات ألقيت على عاتق المسلمين اتجاهه وذلك باستنباطها من الروايات التي أوردها في كتابه هذا «79» . دفع هذا الأمر أحد العلماء وهو ابن تيمية الحراني إلى نعته بالقول: " غلا هذا المغيربي" «80» ، وذلك للأمور التي طرحها القاضي عياض في هذا الكتاب حول ما يجب على المسلمين فعله من حقوق وواجبات اتجاه نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ومعرفة هذه الحقوق والواجبات. لاقت هذه الكلمة التي أطلقها ابن تيمية على القاضي عياض عند تصنيفه لهذا الكتاب نوعا من الاستغراب لدى أحد الباحثين؛ إذ عقد لأجل ذلك دراسة مستقلة حول هذه الكلمة وأبعادها ودحض فكرة الغلو التي نسبها ابن تيمية إلى القاضي عياض عند تصنيفه لكتابه هذا «81» ، حيث انتهى إلى عدّ هذه الكلمة التي صدرت من ابن تيمية فلتة لا تقال «82» . وجه انتقاد إلى القاضي عياض لمنحاه هذا من قبل الذهبي، ولكن هذا الانتقاد لم يكن بالحدة نفسها التي انتقد بها ابن تيمية، إذ كان الذهبي أكثر تهذيبا في عباراته من سلفه، وهذا ما بينه وصفه لمصنفاته التي نعتها بالقول: " تواليفه نفسية واشرفها كتاب الشفا لولا ما قد حشاه بالأحاديث المفتعلة كأي عمل إمام لا   (79) ينظر، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 1/ 267، 298، 312، 2/ 54، 87. (80) المقري، أحمد بن محمد، أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، تحقيق: عبد السلام هراس، دار احياء التراث، المغرب، 1980، 5/ 9. (81) ينظر، الفاسي، محمد، مجلة المناهل، عدد 19، ص 223- 248. (82) ينظر، المصدر نفسه، ص 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 نقد له في فن الحديث ولا ذوق، والله يثيبه على حسن مقصده وينفع به شفائه وقد فعل، وهذا فيه من التأويلات البعيدة ألوان، نبينا صلوات الله عليه وسلامه غنيا بمدحة التتريل عن الأحادي الواهيات، فلماذا يا قوم نشبع بالموضوعات فيتطرق إلينا مقال ذوي الغل والحسد" «83» . هذه هي التبعات التي أفرزتها الطروحات الجديدة التي أضفاها القاضي عياض على نظرة المسلمين إلى شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في كتابه هذا. نال هذا الكتاب مكانة بارزة عند العلماء حتى بلغت الشروحات والتعليقات والتخريجات لأحاديثه بحسب إحصائية أحد الباحثين ما يقارب الثلاثين شرحا وتعليقا وتخريجا «84» ، فضلا عن ذلك فقد اهتم علماء آخرون بالحصول على إجازة برواية الكتاب حتى بلغ عدد العلماء الذين حصلوا على إجازة بروايته كثرة كاثرة للحد الذي لم يستطع أحد إحصاءهم، الأمر الذي دفع بالمقري إلى القول: " إن عددا لا يحصى من الأعلام رواه عنه" «85» . وقد استمرت جهود العلماء حتى مدة متأخرة في الحصول على إجازة روايته، وقد بيّن شهاب الدين أحمد الخفاجي (ت 1069 هـ) ذلك بقوله: " وأعلم أن سندي في هذا الكتاب من طرق عالية أعلاها روايتي عن خاتمة المحدثين الشيخ إبراهيم العلقمي ... " «86» .   (83) سير أعلام النبلاء، 15/ 39. (84) ينظر، فهد، بدري محمد، كتاب الشفا للقاضي عياض دراسة وتحليل، مجلة المناهل، عدد 19، ص 235- 534. (85) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، 5/ 41. (86) نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض، المطبعة الازهرية المصرية، ط 1، 1325 هـ، 1/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فضلا عن ذلك فقد لاقت مضامين الكتاب ومحاوره صدى طيبا عند المخالفين له في المذهب، وذلك لموافقتها ما طرحته هذه المذاهب من أفكار ونظريات، إذ نجد- مثلا- أن الخوانساري (ت 1313 هـ) قد وصف هذا الأمر بالقول: " ونقل عنه أصحابنا الإمامية كثيرا، وفيه فوائد كثيرة، وتعليقات منيفة، وأحاديث جليلة في أحوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من الولادة إلى الوفاة" «88» . ولم تقتصر اهتمامات العلماء بالكتاب على هذا الحد بل قام عدد منهم بتقريضه شعرا، ومن الأشعار التي قيلت فيه: إن الشفاء شفاء للنفوس غدت ... تعنى باثار من حيزت له الأثر جاز الإله العياضي الإمام بما ... يجزي به كل من يحي به الأثر «89» وأورد حاجي خليفة بعض الأبيات التي قيلت في مدح الكتاب وصاحبه وهي: عوضت جنات عدن يا عياض ... عن الشفا الذي ألفته عوض جمعت فيه أحاديث مصححة ... فهو الشفا لمن في قلبه مرض «90»   (88) محمد باقر، روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق: أسد الله إسماعيليان، قم، 1392 هـ، 5/ 337. (89) الوادي آشي، برنامج الوادي آشي، ص 217- 218. (90) كشف الظنون، 2/ 1055. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 المبحث الرابع المصنفات التي كتبت في المغازي النبوية كان هذا المنحى في التصنيف مبكرا جدا في تاريخ الإسلام، إذ بينا في الأوراق الأولى من هذه الدراسة سبب التبكير في التصنيف فيه وبينا أسبقيته في الكتابة قبل أن تكتب أي سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «1» ، وكان وراء هذه الأسبقية عامل أساس تمثل ببقاء فكرة أيام العرب في الجاهلية عالقة في أذهان الناس بعد الإسلام مدة طويلة امتدت حتى القرون الأولى منه «2» . كانت أسماء المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم قد اشتركت في مسمياتها مع المصنفات التي اختصت بعرض أعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم العسكرية، وذلك لارتباط معنى كل من لفظتي السيرة والمغازي «3» ، وهذا ما جعل عملية فرز المصنفات التي عرضت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أو مغازيه والتي ذكرت فهارس الكتب أسماءها تحت اسم (كتب المغازي) «4» ، عملية صعبة لفقدان معظم هذه المصنفات التي لم نعرف محاور الروايات التي وردت فيها باستثناء مصنف واحد   (1) ينظر، ص 22- 43، 50- 53 من هذه الدراسة الفصل الأول، المبحث الأول، الفصل الثاني، (المدخل) . (2) ينظر، الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص 29. (3) ينظر، ص 8- 12 من هذه الدراسة. (4) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 135- 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وصل إلينا كاملا وهو كتاب (المغازي) لمحمد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ) *، الذي من حسن الحظ أن بقي كتابه هذا إلى الان برغم قدمه. شكل هذا الكتاب إحدى الدعامات المهمة التي استندت عليها معظم المصنفات عند عرضها لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله وأعماله العسكرية بخاصة، وذلك لأمور عدة أسهمت إسهاما فعالا في نيل هذا الكتاب تلك المرتبة السامية ضمن مصنفات السيرة، وهذه الأمور هي: 1. المشاهدة والمعاينة للمواقع التي جرت فيها الحوادث المتعلقة بمغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتوابعها «5» ، وهذه الخاصية قد بينها الواقدي بقوله: " ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألته، هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه ... وما عملت غراة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه" «6» . أكد تصرف الواقدي هذا مشاهدة أحد الناس له بمكة وهو واضع ركوته التي يحفظ فيها الماء على ظهره، فسأله هذا الشخص عن الوجهة التي يقصد إليها فقال له الواقدي. " أريد أن أمضي إلى حنين حتى أرى الموقع والوقعة" «7» . كان لهذه السمة التي اتصف بها الواقدي أثر ملموس في جعله موضع ثقة معاصرية في استمكان المواضع التي حصلت فيها حوادث السيرة بعامة والمغازي   (*) كتبت دراسة مستفيضة هذا الكتاب ومؤلفه والموارد التي اعتمد عليها الواقدي في كتابه هذا، ينظر، الكبيسي، محمد فضيل، الواقدي ومنهجه وموارده في كتاب المغازي، اطروحة دكتوراه غير منشورة، كلية الاداب جامعة بغداد، 1992. (5) ينظر، المغازي، 1/ 10، 11، 12، 13، 17، 21، 28، 195.. (6) ينظر، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 3/ 6. (7) ينظر، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 3/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 بخاصة، إذ يروي لنا ابن سعد رواية عن شيخه الواقدي يبين فيها مكانته من بين معاصريه من معرفة هذه الأمور، وهذه الرواية مفادها: " حج أمير المؤمنين هارون الرشيد فورد المدينة فقال ليحيى بن خالد [البرمكي] ارتاد لي رجلا عارفا بالمدينة والمشاهد وكيف كان نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ومن أي وجه كان يأتيه وقبور الشهداء، فسأل يحيى بن خالد فكل [من سأله] دله عليه، فبعث إلي فأتيته وذلك بعد العصر فقال لي يا شيخ أن أمير المؤمنين أعزه الله يريد أن تصلي عشاء الاخرة في المسجد وتمضي معنا إلى هذه المشاهد فتوقفنا عليها والموضع الذي يأتي جبريل عليه السلام ... فأتيت به إلى دور المسجد فقلت له هذا الموضع الذي كان جبريل يأتيه [فيه] ... فلم أدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلا مررت بهما عليه ... فلم نزل كذلك حتى وافينا المسجد وقد طلع الفجر" «8» . أعطت هذه السمة التي اتصف بها الواقدي في عرض الحوادث بمشاهدته لأماكن وقوعها حالة من الواقعية والصدق والابتعاد عن المبالغات والضبابية في وصف الحوادث، وذلك بتسليط الضوء على الدور الذي لعبه الموقع الجغرافي واتخاذ الخطط الحربية المناسبة له، ولم يقتصر على هذا الأمر حسب بل أخذ يعرض أيضا المسارات التي تسلكها بعض الغزوات في خروجها من المدينة إلى أماكن حدوث وقائعها مع ذكر مناطق التوقف والمواقع التي يمرون بها «9» . نالت هذه الميزة التي اتصف بها الواقدي إعجاب محقق كتابه، إذ وصف هذه الميزة بالقول: " إنها بحق المرحلة الأولى في الأدب الجغرافي العربي إن لم تكن   (8) الطبقات الكبرى، 5/ 315. (9) ينظر، المغازي، 1/ 215- 219، 2/ 638، 3/ 924- 926، 939. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 اللبنات والأسس التي بنى عليها كل من جاء بعده مثل ابن سعد والبلاذري ومن تلاهما في التأليف لكتب الفتوح والبلدان" «10» . 2. المفاضلة بين الروايات وإبداء الاراء فيها. وذلك باستعمال عبارات يستشف منها حكمه على هذه الروايات مثل: (القول الأول أثبت عندنا) «11» ، أو: (وهذا الثبت عندنا) «12» ، وغير ذلك من العبارات التي يستشف منها هذا المنحى «13» . فضلا عن استعمال هذه العبارات في هذا الكتاب، قام الواقدي باتباع مناح أخرى فيه وذلك بإعطاء حكمه على بعض الروايات التي تصف حادثة واحدة بتكراره الرواية التي يعتقد هو بصحتها «14» ، أو الخروج بمحصلة نهائية للحادثة بعد عرض رواياتها «15» ، ولم يخف الواقدي تردده في حكمه على بعض الحوادث التي تضاربت فيها الاراء، إذ عبر عن ذلك بعبارة: (يقال أو ليس بجمع عليها) «16» ، أو يذكر الروايات من دون تعليق عليها «17» . 3. الأسلوب المستعمل في عرض حوادث الكتاب، إذ أورد الواقدي مصادره التي اعتمد عليها في كتابه هذا سواء أكانت مصادر مكتوبة أم مسموعة مع   (10) جونس، مقدمة التحقيق لكتاب المغازي، 1/ 32. (11) ينظر، المغازي، 1/ 35، 88- 89، 2/ 689- 690، 3/ 961- 962. (12) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 58، 352، 3/ 961. (13) ينظر، المغازي، 1/ 203- 234، 2/ 406- 407، 412، 459، 510، 3/ 737- 738. (14) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 189، 220، 247، 2/ 397، 412، 444، 509، 548، 614، 637، 674. (15) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 91، 250، 2/ 491. (16) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 101، 166، 172، 253. (17) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 87- 88، 89- 91، 309، 2/ 508- 509، 545- 546، 3/ 927، 1100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 عرض سريع للمغازي والسرايا وتواريخ حدوثها، وذلك في بداية كتابه، ليكون مدخلا له وعرضا سريعا لمحتوياته «18» . انعكس هذا الأمر أيضا على بعض الغزوات التي عرضها في كتابه، إذ ذكر مصادره في بداية حديثه عن كل غزوة من هذه الغزوات «19» . نال هذا الأمر إعجاب العديد من الباحثين الذين اطلعوا على كتاب الواقدي، إذ وصفه أحدهم بالقول: " ويبدو واضحا للقارئ الحديث إن من أهم السمات التي تجعل الواقدي في منزلة خاصة بين أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التاريخي العلمي الفني، فاننا نلاحظ عند الواقدي أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير، فهو ... يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الأخبار، ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تاريخ محدد للغزوة بدقة ... ثم يذكر المغازي التي غزاها [الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم] بنفسه ... ومن اليسير أن نستدل على فطنة الواقدي وإدراكه كمؤرخ من المنهج الموحد الذي يستعمله" «20» ، ويضيف آخر واصفا أسلوبه هذا بالقول إنه كان: " أكثر ارتباطا بأساليب مدرسة المدينة ... ونهجه في العرض منظم منطقي يذكر مصادره الأساسية وهي 25 اسما وتواريخ المغازي" «21» .   (18) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 1- 8. (19) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 119، 346، 363، 2/ 384، 395. (20) جونس، مقدمة التحقيق لكتاب المغازي، 1/ 31. (21) مصطفى، التاريخ العربي والمؤرخون، 1/ 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 تبين لنا هذه الاراء التي وصفت أسلوب الواقدي هذا حجم الجهد الذي بذله في كتابته لمصنفه ومقدار النقلة النوعية التي اوجدها لكتابة السيرة النبوية بعامة، إذ انتهج هذا الأسلوب والمنحى مؤرخون عديدون كتبوا في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله «22» . 4. الاهتمام في إيراد المعجزات التي ظهرت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في المغازي، إذ وجدناه يتتبع أخبارها ويحدد أماكن وأوقات حدوثها «23» ، فمنها ما ذكره عن معجزة نبع الماء من بين أصابعه عندما وضعها في ركوة ليس فيها إلا القليل من الماء بعد ما اشتد العطش بالمسلمين عند رجوعهم من غزوة تبوك «24» . كان عمل الواقدي هذا أحد الأسس والثوابت التي اتكأت عليها المصنفات التي اختصت بجمع دلائل نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ومعجزاته، إذ نجد أبا نعيم الأصفهاني (ت 430 هـ) كثيرا ما كان ينقل نصوصا منه في كتابه [دلائل النبوة] «25» ، واعتمد عليه أيضا البيهقي عند إحصائه معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ودلائل نبوته «26» . مع كل هذه الأمور التي أوجدها الواقدي لكتابة السيرة فإنها لم تكن شافعة له بالحصول على ثقة علماء عصره في ما يرويه من حوادث ولا سيما من قبل   (22) ينظر، ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 20- 25، العظيمي، التاريخ، ورقة 51- 52، الكلاعي، الاكتفا، 1/ 2- 7. (23) ينظر، المغازي، 1/ 93- 94، 97- 98، 107، 125- 127، 242، 243، 251، 263- 264، 274، 276، 323- 324. (24) ينظر، المصدر نفسه، 3/ 1040- 1041. (25) ينظر، 1/ 37، 47، 70، 106، 107، 113، 119، 2/ 247، 248، 252، 255، 308. (26) ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 3/ 15- 16، 31، 79- 80، 88- 89، 94- 95، 99، 133، 149- 150، 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 المحدثين فقد نعتوه بأنه كان كذابا ويفتعل الأحاديث ويضعها، ووصفوه أيضا بأنه كان يحدث بالمناكير ويضع الأسانيد ... الخ من الأحكام التجريحية التي وسم بها الواقدي «27» ، ولكن مع هذه الصفات القاسية التي وصف بها الواقدي فقد وجد من يوثق الواقدي ويرفعه إلى مرتبة أمير المؤمنين في الحديث فضلا عن نعوت أخرى تعارض الكلام السابق الذي جرح فيه «28» . علل ابن سيد الناس (ت 734 هـ) هذا التناقض بالأحكام الصادرة على شخص الواقدي من قبل علماء الجرح والتعديل بالقول: " إن سعة العلم مظنة لكثرة الأغراب وكثرة الأحزاب، مظنة للتهمة، والواقدي غير مدفوع عن سعة العلم فكثرت بذلك غرائبه ... وقد روينا عنه من تتبعه آثار المواقع وسؤاله في أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفرادا بروايات وأخبار لا تدخل تحت الحصر وكثيرا ما يطعن في الراوي برواية وقعت له من أنكر تلك الرواية عليه واستغربها منه ثم يظهر له أو لغيره بمتابعة متابع أو سبب من الأسباب من مقتضى الطعن فيتخلص بذلك من العهدة" «29» . تبقى لنا ملاحظة تجب الإشارة إليها وهي معرفة مدى الموضوعية والأمانة في نقل وقائع الأحداث من دون مجاملة أو حذف، إذ قطع أحد الباحثين بأن الواقدي كان أمينا في عرضه لحوادث المغازي «30» ، ولكن باحثا آخر لم يكن رأيه مشابها لهذا الرأي بل وصف الواقدي بالقول: " قلنا إن منهج الواقدي   (27) ينظر، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 3/ 12- 18. (28) ينظر المصدر نفسه، 3/ 9- 12. (29) عيون الأثر، 1/ 20. (30) ينظر، الكبيسي، الواقدي ومنهجه في كتاب المغازي، ص 172- 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 متكامل في التأريخ والحوادث بصورة أكمل [من سابقيه] ولكن يجب علينا تحريا للإنصاف أن نتقبله بحذر في ذكر تأريخ بعض الحوادث" «31» ، ولكن هذا الباحث يستدرك على رأيه هذا فيقول: " أو على الرغم من هذه الاختلافات في التواريخ فإننا نجدها أدق وأثبت بعامة في نظامها من التواريخ المماثلة في كتب السيرة الأخرى هذا فضلا عما أنفرد به الواقدي حين يعرض في مغازيه الأخبار الكثيرة التي لا نجدها عند غيره ... وعلى الرغم مما ذكرت من آراء نقدية مثل الاختلاف في الواقع في بعض تواريخ الحوادث فلابد من الاعتراف بأن مغازي الواقدي أكمل وأتم مصدرا محايد دون تعصب لتأريخ حياة النبي في المدينة" «32» . هذه هي الاراء التي وصف بها الواقدي وأسلوبه وطريقة عرضه للحوادث وما أكسبته هذه الطريقة من تجديد وتطور في أساليب كتابة السيرة النبوية حتى اصبح هذا الكتاب أحد المصنفات المهمة التي لا يستغني عنها كل شخص يريد أن يتعرف على حوادث عصر الرسالة بعامة وأعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بخاصة. وصل إلينا كتاب آخر في المدة قيد الدراسة تناول مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، صنفه أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي (ت 643 هـ) *، وأسماه [الاكتفا في مغازي الرسول والثلاثة الخلفا] «33» .   (31) جونس، مقدمة التحقيق لكتاب المغازي، 1/ 32. (32) المصدر نفسه، 1/ 33- 34. (*) هو أحد العلماء الأندلسيون الذين ولدوا في سنة 565 هـ، في مدينة بلنسيه، وبرع في مختلف علوم عصره، وتوفي شهيدا عند محاربته الفرنجه سنة 643 هـ، ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 209، المقري، نفح الطيب في أخبار الأندلس الرطيب، 2/ 502، 609. (33) ينظر، حاجي خليفة، كشف الظنون، 1/ 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 كان في النية جعل هذا الكتاب من ضمن كتب السيرة المستقلة التي تناولناها في الفصول السابقة «34» ، وذلك لما عاهد الكلاعي نفسه في مقدمة هذا الكتاب على تصنيفه كتابا يحوي ذكرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومواقفه وأحواله وأعماله العسكرية التي يقول فيها: " هذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر نسبه ومولده ومبعثه وكثيرا من خصائصه وأعلام نبوته ومغازيه وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر الله به روحه الطيبة إليه" «35» ، ولكن الذي حصل أنه لم يقم بما اشترط به على نفسه من ذكر الأمور التي ذكر أيامه بعرضها في كتابه هذا، إذ بمجرد الوصول إلى حادثة الهجرة والحوادث التي رافقتها «36» ، انعطف جانبا عن ذكر أحواله الخاصة التي عرضها قبل الهجرة «37» ، ليقتصر في حديثه على ذكر إجراءات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عند دخوله المدينة فقط «38» ، ثم بعد ذلك أخذ بسرد أعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم العسكرية إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى «39» . هذه هي الأسباب التي دفعتنا إلى جعل هذا الكتاب منحصرا ضمن الكتب التي عرضت مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وسراياه.   (34) ينظر، ص 49- 101 من هذه الدراسة. (35) الاكتفا، 1/ 2. (36) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 428- 458. (37) سنظر، المصدر نفسه، 1/ 9- 430. (38) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 458- 493. (39) ينظر، المصدر نفسه، 2/ 3- 444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 نهج الكلاعي في كتابه هذا منهجا مغايرا لما ألفته المصادر التي سبقته عند عرضها حوادث السيرة، فإنه لم يكن مقلدا لها بل كان صاحب نهج مستقل تمثل بمحاور عدة هي: 1. استعمال المحسنات البديعية في كتابة فقرات مختلفة من كتابه «40» ، فمن هذه الفقرات ذكره لحادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إذ يقول فيها: " فولد عبد الله بن عبد المطلب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين وسيد المرسلين، ونخبة الخلق أجمعين، فنسبه أشرف الأنساب وسببه إلى الله سبحانه واصطفائه واختياره له أفضل الأسباب، وبيته من قريش أواسط بيوتها الحرمية وأعرق معادنها الكرمية، ... لؤاهم على من ناوأهم منصور وسؤدد البطحاء عليهم مقصور والعيون إليهم آية سلكوا صور" «41» . وصف محقق كتاب الكلاعي هذا الأسلوب بالقول انه كان: " يلتزم شارات عصره من السجع والجناس والطباق وغير ذلك من المحسنات، فلذلك كان الأسلوب المرضي في ذلك الحين، ولكنه كان يتميز بحاسة مرهفة في اختيار الكلمات الرقيقة وحسن الملائمة بينها في الأسلوب وذلك هو مجال التفاضل بين الكتاب ... وتحسف روح كاتب يطاوعه الأسلوب وتحضره الكلمات المعبرة، ومع التزامه بالسجع فلا تجد فيه عبارة مستكرهة ولا لفظة مجتلبة في غير موضعها مع عاطفة بادية وشعور نابض" «42» .   (40) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 3- 4، 35، 43- 44، 144- 145. (41) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 34- 35. (42) عبد الواحد، مصطفى، مقدمة التحقيق لكتاب الاكتفا، صفحة هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 2. طغيان الجانب العاطفي في كتابة هذا المصنف على الجانب العلمي الذي انعدم فيه وتضاءل، إذ لم نجد فيه نقدا لرواية أو نص أو تعليق على حادثة ما بل كان مجرد مصنف جمعت فيه بعض الأخبار التي تصف الأعمال العسكرية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومجاهدته الكفار، وهذا ما بينته عبارته التي مفادها: " هذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع وإمتاع النفوس والأسماع باتساق الخبر عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نسبه ومولده ... إلى أن استأثر الله به وقبض روحه الطيبة ... وكل ذلك يشهد الله ان المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم وإحسانه العميم ورحمته التي شق لنفسه منها الرحمة، ثم القصد الثاني، متوفر على إيثار الرغبة في إيناس الناس بأخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم هو عمارة خواطرهم بما يكون لهم في العاجل والاجل أنفع وأسلم ... فانه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله في أعداء تنزيله فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله أو يستمعوا ما أمتحنه الله به من المحن التي لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله فيعتبر بعظيم ما لقيه من شدائد الخطواب ويصطبروا لعوارض الكروب تأدبا لأدبه وجريا في الصبر على ما يصيبه والاحتساب لما ينوبهم على طريقة صبره واحتسابه، وتلك غايات لم نبلغ عفوها بجهدنا، ولن أدانيها بنهاية ركضها وشدنا وإنما علينا بذل الجهد في قصد الاهتداء، وعلى الله سبحانه وتعالى المعونة في الغاية والابتداء" «43» ، ويضيف الكلاعي في مكان آخر من كتابه هذا عند حديثه عن أجداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم   (43) الاكتفا، 1/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وأحواله والروايات التي ذكرت مشاركتهم في حوادث عصرهم «44» قائلا: " وكل هذه الأخبار وإن انقطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بني قصي فلا أيضا من الإفادة بنحو ما قصدنا وحسن الاستماع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينضم في سلك واحد مع ما مر في ذلك أو يأتي في أغراضها، وعلينا معونة الله تعالى في تجديد الترتيب كله ... ورد هذه الأحاديث المتفرقة في حكم الحديث المتصل فنطيل ولا نمل ونقصر فلا نقل فلذلك ببركة المختار الذي يهمنا تخليد أولية وتيمن لخدمة آثاره وسيرته صلى الله عليه وسلم" «45» . كان وراء انتهاجه لهذا المسلك عامل جوهري تمثل بالظروف التي تعيشها الأندلس في عصره من الحروب المستمرة والمستعرة بين المسلمين والفرنجة «46» ، فكان هذا الكتاب أحد الوسائل التي أراد بها الكلاعي بث الحماس في صفوف المسلمين في تلك البقعة من أرض الإسلام وذلك بعرضه للمواقف التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وصحابته الكرام في الدفاع عن الإسلام بالروح والجسد والمال والأولاد، ولم يقتصر الكلاعي على ذلك بل كان هو نفسه في طليعة المجاهدين الذين حاربوا الفرنجة وسقط شهيدا في أرض إحدى المعارك التي حصلت معهم «47» .   (44) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 72- 144. (45) المصدر نفسه، 1/ 44. (46) ينظر، المقري، نفح الطيب، 6/ 189- 350. (47) ينظر، الذهبي، تذكرة الحفاظ، 4/ 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 3. إدخال النصوص الشعرية المتأخرة عن عصر الرسالة في سياق عرضه لحوادث السيرة «48» ، فمن هذه النصوص الشعرية التي أوردها الكلاعي في كتابه هذا قصيدة طويلة بلغ عدد أبياتها (121 بيتا) سميت معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب «49» . علل الكلاعي سبب إيراده هذه القصيدة الطويلة في كتابه هذا بالقول: " وقد اعتنى الناس بنسبه نثرا ونظما [يقصد نسب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الشريف] ... وقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهاذ النسب الكريم ... إذ المنظوم أعذب جريا على الألسن وأذهب رأيا في الإفادة بالمستحسن" «50» . كان عمل الكلاعي هذا سنة متبعة في عصره ولكنها لم تكن بمثل هذه الصورة من الترتيب والتنظيم والكثرة، إذ وجدنا مصنفات عدة قد نحت منحاه هذا، بتطعيم بعض الحوادث التاريخية لعصر الرسالة بما قيل في وصفها من شعر لدى المتأخرين «51» . 4. الاختصار والإحالة إلى صفحات كتابه، وذلك بعدم تكرار الروايات التي تشترك في سياق حوادث كثيرة «52» ، فمن ذلك عرضه لأخبار أجداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحوالهم «53» ، ويعرض أخبار جده قصي بن كلاب بشيء من   (48) ينظر، الاكتفا، 1/ 85- 86، 143، 175، 190، 191، 2/ 389، 391. (49) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 36- 43. (50) المصدر نفسه، 1/ 36. (51) ينظر، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1/ 96، 127، 128- 129، 145، 180، 200، 236، 238، 239، ابن عربي، محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، 1/ 44، 49. (52) ينظر، الاكتفا، 1/ 96، 113، 135، 155، 212. (53) ينظر، المصدر نفسه، 1/ 9- 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 التوسعة في العرض ولكنه ينعطف ويقول: " والحديث في ذلك طويل وسنذكره إن شاء الله عند ذكره ولايته للبيت، وهناك نذكر ماثره وعظم غنائه في إقامة أمر قومه إن شاء الله، فان القصد هنا الإيجاز ما أمكن في إيراد هذا النسب المبارك لتحصل لسامعه الفائدة في انتظامه واتصاله ولا يظل ذلك عليه بما تخلل أثنائه من القواطع التي تباعد بين أطرافه" «54» ، هذا مع العلم أن المسعودي قد سبقه في ذلك، ولكنه لم يكن بطريقته نفسها في اختصار الخبر وإحالة القارئ إلى صفحات أخر من الكتاب بل كان المسعودي يكرر ذكره للرواية بالحيز نفسه الذي خصصه لها مسبقا، ولكن باختصار جزئي ضئيل فيها «55» . 5. الاعتماد على المصنفات المكتوبة بدلا من الروايات الشفوية في عرض حوادث الكتاب، وهذا ما أشارت إليه مقدمة كتابه التي ذكر فيها إحصائية للمصادر التي اعتمد عليها في كتابة مصنفه هذا «56» ، والتي كان للسيرة التي كتبها ابن إسحاق أثر بارز في هذه المصادر، إذ وصف هذا الاعتماد من قبله على هذه السيرة بالقول: " ولكن عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق، إياه أردت وتجريده من اللغات وكثيرا من الأنساب والأشعار قصدت، وعلى ترتيبه غالبا جريت ومترعه في أكثر ما يخص المغازي تحريت، فأنه الذي شرب ماء هذا الشأن فأنقع وحل كتابه في نفوس العام والخاص أجل موقع" «57» .   (54) المصدر نفسه، 1/ 32. (55) ينظر، مروج الذهب، 2/ 274، 277، 281، 283، 284، 285، 290، 291، 292، 303. (56) ينظر، الاكتفا، 1/ 2- 7. (57) المصدر نفسه، 1/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 نال هذا الكتاب مكانة في نفوس العلماء المتأخرين عنه، إذ عدّوه من المصنفات المرموقة في مغازي الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتوابعها «58» . بينت هذه المكانة كثرة النسخ الخطية الهائلة لهذا الكتاب التي أشار أحد الباحثين إلى أماكن وجودها في المكتبات التي احتفظت بها «59» . مع كل ما ذكرناه فإن هذا الكتاب لم يسهم إسهاما جادا وجوهريا في تطور كتابة السيرة لأنه لم يصنف كتابه هذا لغاية علمية فيناقش بعض الروايات ويستدل على صحة بعض الحوادث بل كان هدفه كما رأينا هدفا أخلاقيا تمثل بعرض صفحات من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الجهادية في مجابهة المشركين.   (58) ينظر، السخاوي، الأعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ، ص 167، الصالحي، سبل الهدى والرشاد (السيرة الشامية) ، 1/ 3. (59) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 المبحث الخامس المصنفات التي كتبت في أعلام ودلائل نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم كان لانتشار الإسلام في الأقاليم المجاورة للجزيرة العربية «1» أثر فعال في امتزاج وتلاقح هذا الدين وأهله مع أصحاب الديانات التي اعتنقتها الأقوام المجاورة لهم «2» . ولّد هذا الامتزاج والتلاقح الفكري أرضية ملائمة لنشوء الاحتجاجات الفكرية بين أصحاب الدين الجديد وأصحاب الملل والأديان التي يدين بها أهل الأرض المفتوحة والمحررة الذين لم يدخلوا الإسلام بل دفعوا الجزية «3» ، فما كان من المسلمين إلا أن أخذوا على عاتقهم مهمة إقناع وإفحام أصحاب هذه الملل والأديان، وذلك بتبيان فساد وبطلان هذه المعتقدات أمام الدين الإسلامي. وقد اتخذ المسلمون مسارين في هذا المنحى: المسار الأول: تمثل باستعمال الدليل العقلي على بطلان الدعاوى التي يطلقها علماء هذه الأديان في إنكار حقيقة نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. أما المسار الثاني: تمثل باستعمال الدليل النقلي وبعرض مجموعة من البراهين والأدلة على إثبات نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. وهذا المسار   (1) ينظر، البلاذري، فتوح البلدان، نشر صلاح الدين المنجد، القاهرة، 1957، ص 18- 45. (2) ينظر، اوليري، دي لاسي، انتقال علوم الاغريق العرب، ترجمة: متي بيثون، مطبعة الرابطة: بغداد، ط 1، 1958 ص 52- 175، زيعور، علي، الفلسفات الهندية، دار الاندلس، بيروت، 1980، ص 386- 400. (3) ينظر، ترتون، أهل الذمة في الإسلام، ترجمة: حسن حبشي، دار المعارف، القاهرة، 1967، ص 211- 252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 هو مكمل للمسار الأول، لأن الاقتناع بحقيقة هذه البراهين لا يحصل إلا من بعد أن يؤمن الفرد بفساد الدعاوى السابقة المنكرة للنبوة بعامة، ولنبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بخاصة. إذ تبنى مهمة ذلك جمع من العلماء أطلق عليهم اسم [المتكلمين] «4» . عرفت الكتب التي صنفها هؤلاء العلماء باسم (كتب علم الكلام) ، التي عنيت بترسيخ عقيدة المسلم والرد على الشبهات والاراء المنحرفة ومحاججة المخالفين لهم، وقد ظهرت هذه الكتب بعد ترجمة المسلمين لكتب الأقوام المجاورة لهم ولا سيما كتب الهنود واليونان «5» . نشأت من هذه الكتب التي تناولت قضية إثبات النبوة ضمن مباحثها مصنفات مستقلة عنها اقتصرت في حديثها على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بجمع الحجج والبراهين الدالة عليها وذلك باستعمال الدليلين العقلي والنقلي في إثباتها. اعتمدت هذه المصنفات على مختلف المصادر التي سبقتها سواء أكانت كتب سيرة أم كتب حديث، إذ تشير النصوص التي وردت في هذه الكتب الى أن أصحابها قد جمعوا هذه الأدلة والبراهين النقلية حصرا قبل أن تخصص لها مصنفات مستقلة «6» .   (4) ينظر، فرغل، يحيى هاشم، عوامل وأهداف نشأة علم الكلام، مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، مصر، 1972، ص 287- 299. (5) لدراسة أثر هذه الكتب والمحاور التي تناولتها، ينظر، جواد، ناصر مجيد، النبوة والعقل في الإسلام، رسالة ما جستير غير منشورة، كلية الشريعة، جامعة بغداد، 1987، ص 34- 143. (6) ينظر، البخاري، الصحيح، 2/ 175- 184، مسلم الصحيح، 2/ 203- 205، ابن سعد، الطبقات الكبرى، مج 1، ق 1/ 96، 136، الترمذي، الجامع الصحيح، 13/ 111- 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 اتخذت هذه الكتب أسماء عدة، فتارة تطلق على نفسها (كتب أعلام النبوة) أو (كتب دلائل النبوة) ، مع العلم أن كلا من لفظتي (أعلام ودلائل) لهما المعنى نفسه الذي يقصد به: " كل دليل يثبت نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) ويبرهن على صدقه دون تقييده بشروط معينة فيشمل حتى السمات الخاصة في جسده (عليه السلام) كخاتم النبوة، ويشمل تبشير الكتب السماوية ببعثته" «7» ، ولكن الأعلام والدلائل تخالف في معناها ومدلولها ما عنته المعجزات التي أدخلت هي الأخرى في هذه الكتب والتي وصفت بأنها: " أمور خارقة للعادة مقرونة بالتحدي فالمعجزة أخص من الدليل والعلامة" «8» ، إذ نرى من ذلك أن الأعلام والدلائل لم تكن تهدف إلى تحدي الناس بل كان الهدف منها هو ترسيخ فكرة النبوة في شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم من قبل أتباعه، فضلا عن كون المعجزات هي الأخرى دليلا على صدق نبوته لأنها تثبتها وتأكدها، فمن هذا نخرج إلى نتيجة أن كل معجزة هي دليل على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ولكن ليس كل دليل على هذه النبوة معجز. بين ابن حجر العسقلاني هذا الترابط بين معاني هذه الألفاظ آنفة الذكر، وذلك بقوله: " فكل معجزة علامة على نبوة صاحبها حتما ولكن ليس كل علامة أو دليل على النبوة أمرا معجزا يكون خارقا للعادة مقرونا بالتحدي فالمعجزة أخص من الدليل والعلامة" «9» ، ولكن ابن كثير بين هذا الأمر بأسلوب   (7) عتر، حسن ضياء الدين، نبوة محمد في القرآن، دار النصر، حلب، سوريا، ط 1973، 1، ق 1/ 235. (8) الرازي، محمد بن زكريا، الأربعين في أصول الدين، دار التعارف، بيروت، ط 1، ص 388. (9) ينظر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري،؟؟؟؟، 6/ 375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 مغاير عما طرحه ابن حجر، إذ وصف الدلائل بأنها تنقسم على قسمين: حسية وهي المعجزات، وأخرى معنوية وهي الأمانة والصدق والشجاعة والزهد وإيثار الاخرين على نفسه ... الخ من الصفات التي اتسم بها الرسول محمد «10» صلى الله عليه وآله وسلّم. تمثلت هذه الفكرة بما كتبه البيهقي في كتابه دلائل النبوة حين جعل سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم برمتها دليلا من دلائل نبوته «11» ، وما صرح به ابن حزم حين عدّ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم دليلا من دلائل نبوته، وذلك بقوله: " إن سيرة الرسول لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، تشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، فلو لم تكن معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى" «12» . ابتدأ التصنيف في هذه الأمور في مدة مبكرة من تاريخ الإسلام الفكري، إذ تخبرنا فهارس الكتب عن تصنيف العلماء لها في بداية القرن الثالث الهجري، إذ ذكر ابن النديم أسماء عدّة مصنفات تناولت أعلام الرسول ودلائل نبوته «13» ، ثم أخذت المصنفات بالتكاثر شيئا فشيئا من بعد منتصف هذا القرن حتى نهايته، إذ اجمل أحد الباحثين عددها ب (9 مصنفات) «14» ، وهذه المصنفات التي ذكرها هذا الباحث لم تصل إلينا، فضلا عن ذلك فقد كانت مصنفات القرن الرابع والخامس الهجري أوفر حظا من المصنفات التي سبقتها، إذ وصلت إلينا منها   (10) ينظر، البداية والنهاية، 6/ 65- 70. (11) ينظر عن دور البيهقي في ذلك، ص 76- 83 من هذه الدراسة. (12) الفصل في الملل والنحل، 2/ 90. (13) ينظر، الفهرست، ص 113، 129. (14) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، ص 62- 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 مصنفات عدة أسهم كل واحد منها في تطور كتابة أعلام ودلائل النبوة ضمن كتب السيرة النبوية، وهذه المصنفات هي: 1. دلائل النبوة لأبي بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي (ت 301 هـ) : ولد هذا المصنف في فرياب وهي قرية في نواحي بلخ في بلاد ما وراء النهر سنة (207 هـ) ، وكان أحد الحفاظ المجدين الذين حفظوا الحديث ونشروه في بلادهم، وصنفوا العديد من الكتب التي انصب معظمها على الحديث وعلومه «15» . يعدّ كتاب الفريابي هذا من الكتب المهمة في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وذلك لأمور عدة هي: 1. التعويل والاعتماد على مروياته في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من قبل الذين تأخروا عنه وتعرضوا لهذه الجوانب في مصنفاتهم، إذ اعتمد عليه أبو نعيم الاصفهاني في مواضع عدة من كتابه دلائل النبوة التي بلغت أربعة مواضع «16» ، ونقل البيهقي روايات عنه أيضا «17» ، فضلا عن نقل ابن كثير ثلاث روايات عنه 1 17 أ، وقد بينت هذه النقول بمجملها مكانة هذا الكتاب وأثره في المصنفات التي تلته.   (15) ينظر، الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد، 7/ 199، ياقوت الحموي، معجم البلدان، 4/ 259، الذهبي، العبر، 4/ 119. (16) ينظر، دلائل النبوة، 2/ 146- 147، 149- 152. (17) ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 3/ 530- 531، 532، 537- 538- 549. (17 أ) ينظر، البداية والنهاية، 6/ 110- 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 2. الاهتمام بروايته والحصول على الإجازة بها من قبل العلماء وذلك حتى عصور متأخرة «18» . 3. اكتسابه صفة القدم بالنسبة الى المصنفات التي وصلت إلينا عن دلائل وأعلام النبوة. هذه الأمور التي تضمنها هذا الكتاب والتي أكسبته أهمية كبيرة ضمن كتب دلائل النبوة، فضلا عن اتصافه بمميزات عدّة تمثلت بمحاور عدة: 1. التخصص باستعراض جانبين من الجوانب التي شملتها المعاجز الحسية*، وهذان الجانبان هما: أ. ذكر البركة التي حصلت في الطعام القليل الذي أكل منه الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ليشبع الباقي منه عددا غفيرا من المسلمين، وذلك بإيراد الروايات التي تطرقت إلى هذا الأمر «19» . ب: ذكر تكرار حادثة نبع الماء من بين أصابعه عند وضعه لهن في ماء قليل لا يكفي من حوله من الناس، وذلك بجمع طرق الروايات التي اتفقت على حدوث هذه المعجزة وفي مواطن عدة «20» .   (18) كتب محقق هذا الكتاب إحصائية باسماء العلماء الذين حصلوا على اجازة برواية هذا الكتاب حتى نهاية القرن الثامن الهجري، ينظر، جري، عامر حسن، مقدمة التحقيق لكتاب دلائل النبوة للفريابي، دار حراءن المدينة المنورة، السعودية، ط 1، 1986، ص 15- 18. (*) المعاجز الحسية: هي المعاجز التي لمسها وشاهدها المسلمون عيانا كانشقاق القمر ورد الشمس للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ينظر، ابن كثير البداية والنهاية، 6/ 74- 93. (19) ينظر، دلائل النبوة، ص 29- 53. (20) ينظر، المصدر نفسه، ص 55- 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 مع العلم أن الفريابي لم يقتصر على ذكر الروايات التي اختصت بعرض المعاجز التي حصلت ضمن هذين المحورين، إذ أقحم في أحد مواضع كتابه هذا روايات تتضمن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في الأشجار لتكون فيها البركة والخير والنماء «21» . تدل هذه الميزة التي اتصف بها منحى الفريابي على رغبة جامحة تتمثل بإيجاد مجموع بسيط يضم جوانب محدودة من المعجزات الحسية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من دون الإكثار منها والاستفاضة بإيراد جميع ما اثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من معاجز حسية. 2. تعدد طرق الروايات في الخبر الواحد، إذ نراه يورد أكثر من طريق لحادثة واحدة تضمنت ذكرا لمعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وإن اختلفت هذه الطرق في ألفاظها ولكنها أعطت المعنى نفسه «22» . 3. عدم إبداء الاراء من قبل الفريابي في الروايات التي يوردها في كتابه هذا، إذ حشد فيه ما وصل إليه منها في هذا الجانب من دون تبيان مقدار صحة أو ضعف أو غريب هذه الروايات، التي قسمها المحدثون إلى أنواع عدة «23» ، ولأجل ذلك ظهرت روايات عدة اتسمت بالغرابة وأتسم رواتها بالضعف «24» . أعطى البيهقي تعليلا لبروز هذه الحالة في مثل هذه المصنفات إذ يقول: " ومما يجب معرفته في هذا الباب أن تعلم أن الأخبار الخاصة المروية على ثلاثة أنواع   (21) ينظر، المصدر نفسه، ص 54. (22) ينظر، المصدر نفسه، ص 2- 5، 6- 8، 14- 15، 17- 18، 19- 22، 30- 36. (23) ينظر، النيسابوري، معرفة علوم الحديث، ص 25- 39، 52- 103. (24) ينظر، دلائل النبوة، ص 1- 8، 5- 18، 25- 38، 39- 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 نوع أتفق أهل العلم بالحديث على صحته وهذا على حزبين أحدهما أن يكون مرويا من أوجه كثيرة وطرق شتى حتى دخل في حد الانتشار وبعد من توهم الخطأ فيه، أو تواطؤ الرواية على الكذب فيه فهذا الضرب من الحديث يحصل به العلم المكتسب ومن ذلك ما روي في المعجزات والفضائل والأحكام، فقد روي بعض أحاديثها من أوجه كثيرة، والضرب الثاني أن يكون مرويا من جهة الاحاد، ويكون مستعملا في الدعوات والترغيب والترهيب ... وأما في المعجزات ... فقد روت فيها أخبار الاحاد في ذكر أسبابها إلا أنها مجتمعة في إثبات معنى واحد وهو ظهور المعجز على شخص واحد ... ، بل إذا جمع بينها وبين الأخبار المستفيضة في المعجزات والايات التي ظهرت على سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم دخلت في حد التواتر الذي يوجب العلم الضروري وتثبت بذلك خروج رجل من العرب يقال له محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ادعى أنه رسول رب العالمين وظهرت عليه الايات وأورد على الناس من المعجزات التي باين بها من سواه بما آمن عليه من أنعم الله عليه بالهداية مع ما بقي من أمته من القرآن المعجز" «25» . ومن ثم فقد أصبح من المتيقن أن كتّاب الدلائل قد أرادوا إثبات هذه الروايات لأنها قد اتفقت على معنى واحد وهو ظهور المعجزات من شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مع اختلاف في فحوى هذه المعجزات وكيفياتها.   (25) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 1/ 32- 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 أمتاز أسلوب الفريابي بالدوران في فلك الرواية وعدم إبداء وجهات النظر في الأخبار التي ذكرها أو التعليق عليها مقتفيا بذلك أثر المحدثين عند تصنيفهم الكتب وذلك بالتركيز في جمع الروايات على وفق الأبواب التي تنتمي إليها من دون إضفاء أي رأي عليها. هذه هي الأمور التي اضفاها الفريابي في كتابه هذا على كتابة دلائل النبوة أولا وكتب السيرة ثانيا في الإسهام بتطور كتابتها. 2. تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 416 هـ) : هو قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني، وهو من كبار علماء المعتزلة ومتكلميهم الذي انتهت إليه رئاستهم حتى صار شيخها غير مدافع، وفاقت شهرته في الأقاليم الإسلامية حد الوصف، فضلا عن قيامه بتصنيف كتب عديدة في الانتصار لجماعته وتبيان أفكارها وعقائدها «26» . كانت فكرة النبوة وإثباتها من المسائل المهمة التي تناولها القاضي عبد الجبار بالبحث والدراسة، بل خصص لها حيزا كبيرا في مصنفه الكبير (المغني) «27» ، فضلا عن تخصيصه مصنفا مستقلا لها أسماه (تثبت دلائل النبوة) ، وهذا الكتاب هو مدار بحثنا.   (26) ينظر، المرتضى، أحمد بن يحيى (ت 775 هـ) ، طبقات المعتزلة، تحقيق: علي سامي النشار، دار المطبوعات الجامعية، مصر، 1971، ص 118- 120، الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 3/ 202. (27) ينظر، المغني في أبواب العدل والتوحيد، تحقيق: إبراهيم مدكور، دار المعارف، القاهرة، 1958، 15/ 5- 410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 تناول القاضي عبد الجبار هذه الفكرة بفرز واستقلال عن باقي المسائل الاعتقادية الأخرى، إذ عرض القرائن والدلائل التي تؤكد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم «28» . حدد القاضي عبد الجبار تاريخ تصنيفه هذا الكتاب بسنة (385 هـ) «29» ، وهذا التاريخ يجعلنا في محل تريث قبل التسرع في تبيان المحاور التي تناولها هذا الكتاب وإسهامه في تطور كتب الدلائل ضمن كتب السيرة النبوية، إذ كتب هذا المصنف في عصر احتدمت فيه الطروحات الفكرية التي تبنتها الفرق والنحل الإسلامية وغير الإسلامية كافة «30» ، ومن المستبعد أن يكتب القاضي عبد الجبار مصنفه هذا في مثل هذا العصر من دون أن يحاكي مجرياته ومحدثات أموره سواء أكانت بطريقة مباشرة أم غير مباشرة، وذلك لأن لكل عصر أثرا ملموسا في كل مصنف يكتب فيه «31» ، إذ تشير المصادر التي ترجمت لهذه الشخصية الى أنه قد نال مكانة بارزة ضمن علماء عصره، فضلا عن كونه متكلم المعتزلة ورئيسهم «32» ، إذا ما علمنا أن هذه الطائفة قد اسهمت إسهاما بارزا في شحذ همم المسلمين على المحاججة والمناظرة معهم ثم مع الملل الأخرى وتأسيس حلقات الدرس لهذه الأمور مجتمعة «33» .   (28) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، عبد الكريم عثمان، الدار العربية، بيروت، ط 1، 1966، ص 10- 655. (29) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 42- 168. (30) ينظر، متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، 1/ 284- 286. (31) ينظر، روز نثال، مناهج العلماء في البحث العلمي، ص 184- 201. (32) ينظر، المرتضى، طبقات المعتزلة، ص 115. (33) ينظر، جار الله، المعتزلة، ص 203- 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 نال هذا المصنف مكانة بارزة في نفوس العلماء الذين أطلعوا عليه، إذ وصفوه بنعوت عدة فمنها ما وصفه الذهبي بالقول: " إنه [القاضي عبد الجبار] قد أجاد به وبرز" «34» ، ويضيف ابن كثير على هذا الكلام آنف الذكر قائلا: " [كتاب تثبيت دلائل النبوة] من أجل مصنفاه وأعظمها وقد أبان فيه من علم وبصيرة جيدة" «35» ، وينتهي أحد المحدثين إلى وصفه بالقول: " ولم نر ما يقارب كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار في قوة الحجاج وحسن الصياغة في دفع شكوك المشككين" «36» . إن هذه الاراء التي قيلت في هذا الكتاب لم تطلق جزافا ما لم يلمس قائلوها في قرارة أنفسهم نفسا تجديديا أو أفكارا اصيلة ضمن مباحث الكتاب ومناقشة ما ورد فيه من نصوص، وهذا ما كان فعلا، إذ وجدنا فيه مميزات تبين أصالة القاضي عبد الجبار في تصنيفه هذا الكتاب، وهذه الميزات هي: 1. الأسلوب الحواري في كتابة النصوص وذلك بالإجابة عن التساؤلات التي ترد في ذهن المتلقي حول القضايا مدار البحث والبراهنة على صدق هذه الإجابات بما يعرضه فيه من أدلة، إذ استعمل عبارات عدة تبين هذا الأسلوب وهي: " أعلم رحمك الله" «37» ، أو" فإن قلنا كذا قيل   (34) ابن حجر، لسان الميزان، 3/ 368. (35) ابن حجر، المصدر نفسه، 3/ 368. (36) الكوثري، محمد زاهد، مقدمة التحقيق لكتاب تبيين كذب المفتري في ما نسب لأبي الحسن الأشعري لابن عساكر، مطبعة التوفيق، دمشق، 1347، ص 18. (37) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 31، 41، 131، 154، 192- 193، 200، 208، 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 كذا" «38» ، ومن ثم فإن هذا الأسلوب الحواري يظل حكرا على مصنفات المتكلمين بسبب هيمنة المحاججة والمناظرة على أساليبهم في الطرح والكتابة «39» ، وهذا الأسلوب قد اعتمده القاضي عياض في كتابه [الشفا بتعريف حقوق المصطفى] ، وإن لم يشر ضمنا إلى من سبقه في هذه الطريقة «40» . 2. استنطاق الايات القرآنية بما تحويه من دلائل على صدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بأسلوب غير مطروق على مسامع من سبقه من المسلمين، أو من صنف في هذا الجانب من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لأن القاضي عبد الجبار لم يكن في كتابه هذا جامعا لدلائل النبوة من أفواه الرواة الذين نقلوها إلى الناس، ولا سيما في الايات القرآنية التي تضمنت ذكرا لمعجزة حسية مثل الإسراء والمعراج «41» ، أو انشقاق القمر «42» ، بل كان القاضي عبد الجبار في كتابه هذا مفتشا عن دليل حسي لم تلتفت إليه أعين الرواة والمحدثين، وهذا ما جعل الشواهد على هذا الأمر كثيرة في هذا الكتاب «43» ، فمن هذه الايات التي استنطق القاضي عبد الجبار ما تضمنت من دلائل، وإن كان القرآن   (38) ينظر، المصدر نفسه، ص 25، 27، 29، 37، 35، 56، 39، 64. (39) ينظر، دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، ط 4، 1957، ص 95- 97. (40) ينظر، ص 191- 197، من هذه الدراسة. (41) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 46. (42) ينظر، المصدر نفسه، ص 55. (43) ينظر، المصدر نفسه، ص 84، 314، 344، 346، 371، 434، 436، 484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 بمجمله دليلا على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وذلك بوجود الإعجاز فيه «43» ، ولكن وجدت فيه أدلة ضمنية أخرى دلت على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم إذ يقول القاضي عبد الجبار في تعليقه على سورة الكوثر*: " وذلك أن قريشا لما اعييتهم الحيل في أمر رسول الله كانوا يستروحون إلى أدنى غم ينالهم صلى الله عليه وآله وسلّم، فمات إبنه إبراهيم وهو أكبر ولده وبه كان يكنى ومات ابنه عبد الله فسرت قريش بذلك، وقال بعضهم لبعض فقد أبتر محمد، فأنزل الله عز وجل هذه الايات فانبترت ديانات قريش والعرب كلها وبطلت عن آخرها، ولم يبق على ذلك الدين عين تطرف، وتم أمره صلى الله عليه وآله وسلّم وسطع نوره وعلى وقهر وفي هذا غيوب كثيرة أخبر بها قبل أن تكون" «44» ، وفي مكان آخر من هذا الكتاب يتحدث عن أعلام النبوة التي حصلت في أثناء مكثه صلى الله عليه وآله وسلّم في مكة، إذ يقول: " ومنها انقضاض الكواكب وامتلاء السماء منها من كل جانب على وجها انتقضت به العادة وخرج عن المتعاد، وهذه آية عظيمة وبينة جليلة وواضحة جسمية وقد نطق بها القرآن فقال حاكيا عن الجن وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «45» ، فإن قيل ومن أين لكم هذا أو قد سبقكم زمانه ونحن لا نؤمن بكتابكم ولا نقر بنبيكم وخبرونا عن طريق معرفتكم «43» ينظر، ما كتبه القاضي عبد الجبار في كتابه هذا حول هذا الأمر، المصدر نفسه، ص 400- 509.   (*) سورة الكوثر، (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وأنحر، إن شانئك هو الابتر) ، آية 1- 3. (44) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 38- 40. (45) سورة الجن، آية 8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 بذلك هل هو ضرورة أم اكتساب؟ فقيل له العلم بذلك طريقة الاستدلال والاكتساب ويتهيأ لكل عاقل من كافر ومؤمن أن يعرف ذلك ويجب عليه أن يعرف وسبيله سهلة قريبة فمن نظر واستدل عرف، ومن لم يستدل لم يعرف، والدليل على أن ذلك قد كان، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قد تلى هذه السورة واحتج بذلك على العدة والولي، فعلمنا أنه أمر قد كان ووقع، فإن الحجة به قد قامت وظهرت وقهرت، لأنه لا يجوز أن يقصد عاقل إلى قوم يدعوهم إلى صدقه ونبوته ويحرص في إجابتهم إلى طاعته والانقياد ويريد منهم ذلك ثم يقول: من علامة نبوتي ودلائل رسالتي أن النجوم لم تكن تنقظ وأنها الان انتقضت، وهو يعلم أنهم يعلمون أن هذا أمر لا أصل له وأنه قد كذب في ما أدعى، وهذا الأمر لا يقع من عاقل كائنا من كان فكيف بمن يدعي النبوة، وعقله العقل الراجح الموصوف ثم يقصد إلى أمر ظاهر مكشوف في السماء البارزة للخلق أجمعين ... وفي تركهم ذلك دليل على صحة هذه المعجزة" «46» ، على هذه الشاكلة استنطق القاضي عبد الجبار الايات القرآنية في إظهار ما تحويه من دلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم. 3. الاستيعاب والهضم الكامل لاراء الملل والمذاهب الإسلامية، إذ بينت النصوص التي حواها هذا الكتاب مصداقية هذا الاستنتاج «47» ، إذ حشد لهذا الأمر كل إمكانياته العقلية والنقلية لتبيان فساد وضعف ووهن آراء   (46) تثبيت دلائل النبوة، ص 64- 66. (47) ينظر، المصدر نفسه، ص 91- 275، 401، 426- 434، 509- 511، 528- 655. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المخالفين له في الدين والمعتقد، فتراه في كتابه هذا يحاجج معظم الفرق والملل التي كانت في عصره، مما أفاد ذلك في تبيان وجهات نظر تلك الفرق والملل في موضوع النبوة ودلائلها. 4. نقد وتحليل المصنفات التي سبقته أو عاصرته والتي تناولت دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم سواء أكانت مصنفات مستقلة في ذلك أم مذكورة في مصنف أوسع وأشمل، فمن المصنفات التي نقدها، الكتب التي تناولت معجزة الإسراء والمعراج بالدحض والتكذيب «48» ، إذ يقول في ذلك: " وهذه الكتب قد نقضها غير واحد من المعتزلة والمطاعن على الأنبياء كلهم إنما هي من جهة هؤلاء الشيع ... فإعرف هذا فإنه من العجائب، وبك إلى معرفته اشد الحاجة، فمن هذه الكتب كتاب (الجارف) ، و (الأركان) للحداد، وكتاب الحصري في (تسوية أصحاب الكلام بالعوام) وكتاب (الزمردة) وكتاب (غريب المشرقي (وكتاب حنين (البهائم) ، وكتاب (التاج في القدم) لابن الراوندي" «49» ، ولم يقتصر نقده في كتابه هذا على المصنفات التي كتبت في هذا الأمر بل شمل نقده «50» . مناهج دقيقة في تحليل الكتب ونقدها، ومن ثم عكس هذا التحليل على المصادر التي تكتب في موضوع السيرة النبوية ومتعلقاتها.   (48) ينظر، تثبيت دلائل النبوة، ص 46- 52. (49) المصدر نفسه، ص 51- 52. (50) ينظر، المصدر نفسه، ص 64، 71، 72، 75، 802، 129، 194، 198، 24، 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ومع كل ما ذكرنا من جوانب إيجابية تسجل لهذا الكتاب وتعطيه مكانا بارزا في المصنفات التي أسهمت في تطور كتابة دلائل النبوة من جهة وسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من جهة أخرى، ظهرت في هذا الكتاب جوانب سلبية أضعفت من شأنه وحدت من تأثيره، وهذه الجوانب هي: 1. الاستطراد في العديد من أبواب الكتاب والخروج على مضمونه، والمقصد الذي من أجله صنف، حتى ليشعر القارىء له بأن عنوان الكتاب يختلف عما حواه من أمور لا علاقة لها بدلائل النبوة وتثبيتها، ولا سيما ذكره وعرضه لاراء الفرق الإسلامية بالخلافة ومن يصح لها من الصحابة والمسلمين «51» ، فضلا عن سرده للأحداث التي تمخضت عن استخلاف كل واحد من الخلفاء الراشدين (رض) «52» . 2. التحامل وكيل التهم والشتائم وإطلاق بعض الألفاظ النابية والبذيئة على بعض الفرق الإسلامية المخالفة له في العقيدة، مما أبعد الكتاب والكاتب عن الموضوعية والحوار العلمي الذي يجب أن يتصف به شخص مثل القاضي عبد الجبار، حتى أن الذي ينظر إلى هذا الكتاب لا يتصور أنه كتاب يعنى بإثبات دلائل النبوة في معظم صوره بل يراه من جانب آخر كتابا من كتب المحاججة والمناظرة في مسائل اعتقادية لا دخل لدلائل النبوة فيها مثل الإمامة   (51) ينظر، المصدر نفسه، ص 255- 280، 528- 537. (52) ينظر، المصدر نفسه، ص 280- 299، 554- 558، 560- 615. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 والعصمة للإمام ونشوء الفرق الإسلامية ونقل أفكارها مشفوعة بعبارات الازدراء والتحقير لها «53» . ولأجل هذين العاملين لم ينل هذا الكتاب الانتشار بين الكتب ولم يعتمد عليه أحد من العلماء الذين عرضوا دلائل النبوة سواء من المعاصرين له أم من المتأخرين. هذه هي العناصر التي اوجدها القاضي عبد الجبار لكتابة دلائل النبوة وطريقة عرضها للناس من حيث استعمال آليات وأساليب جديدة في كتابتها، وما ذلك إلا لدور العصر الذي عاش فيه القاضي عبد الجبار والذي كان له الأثر الفعال في خروج كتابه على هذا الشكل والصورة. 3. أعلام النبوة لأبي الحسن الماوردي (ت 450 هـ) : هو علي بن محمد بن حبيب قاضي القضاة وأحد أقطاب علماء المعتزلة ومتكلميهم، ولد في البصرة سنة (364 هـ) ، وانتقل إلى بغداد ومكث بها إلى أن وافته المنية، برع في مختلف العلوم العقلية والنقلية «54» . صنف الماوردي كتابه هذا على طريقة من سبقه في استعمال لفظة أعلام بدلا من لفظة الدلائل «55» .   (53) ينظر، المصدر نفسه، ص 34- 42، 46، 90، 52- 91، 201- 211، 245- 252. (54) ينظر، السبكي، طبقات الشافعية، 3/ 303، ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، 3/ 285. (55) استعمل ابن سعد عبارة (علامات النبوة) وذلك عند حديثه عن دلائل نبوة الرسول ومعجزاته، ينظر، الطبقات الكبرى، 1/ 1/ 96- 111، 113- 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 سار الماوردي على هدى شيخه القاضي عبد الجبار في استعمال الدليلين العقلي والنقلي لإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فضلا عن مناقشة هذه الأدلة «56» ، إذ بين منحاه هذا بالمقدمة التي إفتتح بها كتابه قائلا: " الحمد الله الذي أحكم ما خلق وقدر وعدل فيها ودبر وأنذر بما أنشأ وأظهر واستأثر بما أخفى وأسر وأنعم بما امر وخطر، وأرشد إلى إنذاره بتفضيل ما تميز على ما كلف من أوان التعبد فيصل بالعقل إلى علمه واستعلامه إلى فهمه واستفهامه فيصير مهيئا لقبول ما كلف من التعارف ومعانا على ما تعبد به من الشرائع.. وهذا لا يستقر في النفوس إلا برسل مبلغين عن الله ثوابه في ما أمر وعقابه في ما حضر فوجب أن يوضح في إثبات النبوات ما ينتفي عنه ارتياب مغرور وشبهة معاند" «57» . بينت هذه المقدمة أن جل اعتماد الماوردي كان على الاستدلال العقلي في إثبات النبوات وبضمنها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذا الأمر راجع إلى كون المعتزلة قد أولوا العقل مكانة مهمة في محاكمتهم للأفعال والحوادث والعقائد التي يجب على المسلمين التعبد بها، وهذا ما أشار إليه أحد الباحثين الذين درسوا هذه الصلة بالقول: " كانت الطبية النقدية التي اتسم بها فكر المعتزلة منذ تأسيساته الأولى هو السبب المباشر في انتهاج هذه الحركة الطريق العقلي، فإنه بالضرورة السبب الذي دعاه إلى استنباط الحجج العقلانية ومنطقية من خلال قراءتهم الفاحصة لأوراق الفلسفة اليونانية وبالقدر نفسه فانه لم يكن بوسع هؤلاء أن يقفوا على   (56) ينظر، أعلام النبوة، مكتبة الكليات القاهرة، 1971، ص- 223. (57) المصدر نفسه، ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الحياد في معركة أثارتها القوى المعادية للإسلام ... إذ عمدوا في هجومهم على الإسلام إلى استخدام المنطق والفلسفة سلاحا في تثبيت ادعائها،.. فاستعانوا بمثل ما استعان به الخصوم في اعتماد الأسلوب الجدلي والأداة المنطقية وصياغة لغة تحليلة لإبراز ما يمكن في الدين من القوى والفضائل" «58» . ونتيجة لانتهاج الماوردي طريقة سلفه القاضي عبد الجبار في استعمال العقل بالاستدلال على صحة ما أثبته من دلائل وذلك بمناقشته للروايات التي وصلت إليه عن دلائل وأعلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ظهر هنالك اتفاق بالمنحى عند هذين المصنفين في كتابتهما عن دلائل وأعلام نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، ولكن باختلاف في طريقة العرض، إذ لم يقع الماوردي في المزالق التي أوقع القاضي عبد الجبار نفسه بها عندما استطرد في مصنفه إلى قضايا لا تمت بصلة إلى دلائل النبوة والأمور المتعلقة بها «59» . أوضح الماوردي منحاه في كتابة أعلام النبوة الذي طبقه بصرامة شديدة بقوله: " وقد جعلت كتابي هذا مقصورا على ما أفضى ودل عليه ليكون على الحق موضحا وللسرائر مصلحا على صحة النبوة دليلا وشبه المستريب مزيلا وجعلت ما تضمنه مشتملا على أمرين أحدهما ما اختص باثبات النبوة من أعلامها والثاني فيما يختلف من أقسامها وأحكامها ليكون الجمع بينهما أنفى للشبهة وأبلغ في الإبانة" «60» .   (58) الراوي، عبد الستار، ثورة العقل، دار الرشيد، وزارة الثقافة والأعلام، العراق، ط 1، 1982، ص 16. (59) ينظر، ص 211- 216، من هذه الدراسة. (60) إعلام النبوة، ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 دلت مقالة الماوردي آنفة الذكر إن جهوده قد انصبت على إيراد الأعلام الدالة على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، من دون تحميلها فوق طاقتها من إيراد أخبار تشتت فكر القارىء وتبعده عن الموضوعية والتدرج في عرض تلك الأعلام، ولأجل هذا المنحى الذي انتهجه الماوردي كان كتابه هذا اسهاما جادا في تطور كتابة الأعلام والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في مصنفات مستقلة من جهة وأثر هذه المصنفات في تطور كتابة السيرة من جهة أخرى، وذلك بما طرحه من محاور لم تألفها المصادر التي سبقته في هذا الجانب، وهذه المحاور هي: 1. كتابة مدخل توضيحي للكتاب ومضامينه «61» ، وهذا الأمر قد اختصت به المصنفات التي تناولت الأعلام الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، والتي كتبت في عصر الماوردي، إذ قدم أبو نعيم الأصفهاني مدخلا توضيحيا افتتح به كتابه [دلائل النبوة] وضح فيه عملية الاصطفاء الإلهي للأنفس التي يختارها الله للرسالة والنبوة مع التعريف لمعنى النبوة والرسالة والوحي والعناصر المتممة لها «62» ، كذلك فعل البيهقي الشيء نفسه عندما ابتدأ كتابه [دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة] بمقدمة أوضح فيها طريقة عرض الكتاب وطبيعة الأخبار التي ذكرها فيه مع سرد لمباحث الكتاب وأبوابه «63» . اتفق الماوردي في منحاه مع منحى معاصريه، ولكنه اختلف معهم في المضمون الذي حواه مدخله لكتابه أعلام النبوة، إذ اتسم مدخله الذي أسماه   (61) ينظر، المصدر نفسه، ص 9- 54. (62) ينظر، دلائل النبوة، 1/ 32- 38. (63) ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 1/ 5- 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 (مقدمة الأدلة) باستعراض مسائل التوحيد والأدلة على إثبات وجود الله مع تبيان دور العقل في الوصول الى العلم بذلك «64» ، وإفهام المكلف (الإنسان) بعد وصوله إلى إثبات وجود الله والاقتناع بأن معرفة الرسل هي جزء من معرفة الله والأدلة على وجوده «65» ، ثم بعد ذلك يبين دور المكلف باتباع الرسول الذي بعثه الله إليه في كل ما يأمره من أحكام «66» ، وينتهي بعد ذلك إلى إثبات النبوات السابقة وآراء المسلمين وغير المسلمين فيها على اختلاف نحلهم ومللهم، ثم الانتهاء إلى إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم «67» . بين هذا المدخل الذي افتتح الماوردي به كتابه الطريقة التي رسمها لنفسه في عرضه المتدرج والمنسق لمحاور الكتاب ومضامينه، إذ ابتدأ بتوضيح المسائل الأساس في العقيدة الإسلامية وهي إثبات وجود الله ثم بعد ذلك تقعيد الأسس الأولى لفكرة النبوة وارتباطها الجوهري بوجود الله (سبحانه وتعالى) ، والبناء على هذه الأسس في إثبات النبوات وذلك بالأدلة التي تؤكد دعوى أصحابها في ذلك ولا سيما نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذا ما أوجد تسلسلا منطقيا في عرض الأفكار من دون إحداث فجوة أو حلقة مفقودة تضطر القارىء المبتدىء الى الاستعانة بمصنف آخر لكي يردم هذه الفجوة، فكان هذا الكتاب مستقلا بطرح أفكاره من ألفها إلى يائها.   (64) ينظر، أعلان النبوة، ص 9- 12. (65) ينظر، المصدر نفسه، ص 13- 18. (66) ينظر، المصدر نفسه، ص 18- 22. (67) ينظر، المصدر نفسه، ص 22- 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 2. الفصل بين الأعلام التي حصلت في زمني الحرب والسلم من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ يقول في خاتمة كتابه هذا موضحا ذلك: " فهذه جملة متفقة وقاعدة مستقرة في ترتيب رسالاته واحكام شريعته، فأما أحكام جهاده في حروبه وغزواته، فسنذكره في كتاب نفرده في سيرته نوضح به مواقع أعلامه ومبادىء أحكامه، وبالله تعالى التوفيق" «68» . شاطر الماوردي في ذلك الفريابي حين اقتصر على ذكر جانبين من الجوانب التي تعرضت لها كتب دلائل النبوة «69» ، وإن لم يتبع نهجه في عرضها، وهذا ما يشكل سمة تضاف إلى دلائل النبوة وهي تسليط الضوء على جوانب مستقلة من الأمور التي اتفقت عليها المحاور التي حصلت فيها تلك الحوادث والتي عدت دليلا من دلائل النبوة. 3. التوفيق بين منحى المتكلمين القائم على المحاججة والمناظرة العقلية ومناهج المحدثين التي يغلب عليها النقل، وذلك بإيراد الرواية الموافقة للفكرة أو الباب الذي يطرحونه في مصنفاتهم «70» ، إذ أوضح الماوردي أسلوبه القائم على المحاججة بالعقل والنقل في إثبات النبوات وإعلامها، وذلك بقوله: " الكلام في إثبات النبوات يتقرر مع المعترفين ببعثة الرسل إلا أن منكريها يعمون الجميع بها ويدفعون كل مدع لها والكلام معهم قد قدمناه في إثبات النبوات على العموم.. وقد قدمنا أقسام المعجزات فإذا ظهرت إحداهن حجت ودلت على صحة النبوة وقد ظهر محمد صلى الله عليه وآله وسلّم أكثرها مع ما تقدمها   (68) المصدر نفسه، ص 233. (69) ينظر، الفريابي، دلائل النبوة، ص 29- 53، ص 55- 88. (70) ينظر، روز نثال، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، ص 113- 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 من إنذار وظهر في نبوّة بها من آثار، وتحقق بها من نبوات فصارت أعلم النبوات إعجازا وأوضحها طريقا وامتيازا" «71» . دافع الماوردي عن الروايات التي أثبتها في كتابه هذا من حيث إنها أخبار آحاد، وذلك عند رده على بعض التساؤلات التي تطرح من جراء ذلك، إذ يجيب في دفاعه عن مسلكه هذا ب: " فعندنا جوابان أحدهما أن رواة الاحاد قد أضافوه إليه في جمع كثير قد شاهدوه وسمعوا راويه فصدقوه ولم يكذبوه، وفي الممتنع إمساك العدد الكبير عن رد الكذب، كما يمتنع افتعالهم للكذب ولكن جار اتفاقهم على الصدق مع الكثرة والافتراق وامتنع اتفاقهم عن الكذب، فلأن داوعي الصدق علة متناصرة ودواعي الكذب خاصة متنافرة، ولذلك كان صدق أكذب الناس أكثر من كذبه لأنه لا يجد من يصدق به أو يجد من الكذب من لا يقبل به.. والثاني أنها أخبار وردت من طرق شتى وأمور متغايرة فأمتنع أن يكون جميعها كذبا وإن كان في آحادها مجوز، فصار مجموعها من التواتر ومفترقها من الاحاد فصار متواتر مجموعها حجة وإن قصر مفترق آحادها عن الحجة وإذا استقر هذا الأصل في الأخبار لم يخرج المروي من أعلام الرسول عنها" «72» . هذه هي المحاور التي اضفاها الماوردي في كتابه أعلام النبوة، ومع كل ذلك لم يلاق هذا الكتاب الذيوع والانتشار والتأثير في المصنفات التي تلته من حيث الاقتباس من نصوصه، إذ لم نجد سوى نقول قليلة في بعض المصنفات «73» ، ومع   (71) أعلام النبوة، ص 56. (72) المصدر نفسه، ص 91- 96. (73) ينظر، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1/ 79، النباطي، علي بن يونس العاملي (ت 877 هـ) الصراط المستقيم لمستحقي التقديم، تحقيق: موسى بناتي، المكتبة الإسلامية، طهران، 1384 هـ، 1/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 كل ذلك فإن هذا لم يمنع بعض العلماء من أن يصفوه بعبارات الثناء، إذ أطراه طاش كبري زاده وأثنى عليه وعده من الكتب المهمة في إثبات أمارات النبوة «74» ، وفعل الشيء نفسه حاجي خليفة حين وصف هذا الكتاب بعبارات الإعجاب «75» . فضلا عن ذلك فقد إهتم بعض الباحثين والمحدثين به، وعدوه من أحد أنفع الكتب وأحسنها في هذا العلم (أعلام ودلائل النبوة وإثباتاتها) ، على الرغم من كثرتها «76» . وما ذلك إلا لطبيعة الكتاب القائمة على مناقشة النصوص بأسلوب المتكلمين الصعب من حيث سلاسة عباراته وألفاظه، فضلا عن أن الطروحات التي عرضها الماوردي في كتابه هذا لم يسر أحد على منوالها من الذين تأخروا عنه، إذ اختصروا في عرضهم دلائل النبوة على مجرد جمعها من دون إعطاء إيضاحات مسبقة للغاية من عرض هذه الأعلام ومناقشتها وتأسيس الأحكام عليها كما فعل الماوردي بل كانت مجرد استقصاء للروايات التي تحدثت عن دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأعلامه «77» ، وما ذلك إلا لانتفاء المسوغ من تكرار ما قيل في ذلك ما دامت القناعة في النبوة قد تولدت ولم تظهر عند المتأخرين مشكلة مثل التي ظهرت في القرون التي سبقتهم.   (74) ينظر، مفتاح السعادة ومصباح السيادة، 1/ 263. (75) ينظر، كشف الظنون، 1/ 126. (76) ينظر، كرد علي، محمد، كنوز الأجداد، مطبعة الترقي، دمشق، 1950، ص 224، السرحان، محي هلال، مقدمة التحقيق لكتاب أدب القاضي للماوردي، وزارة الأوقاف العراق، 1974، 1/ 51. (77) ينظر، ابن كثير، البداية والنهاية، 6/ 65- 301، ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/ 286- 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ومن ثم كان هذا الكتاب من آخر الكتب التي استعرضت دلائل وأعلام نبوة الرسول مقرونة بمناقشات حامية للطروحات المضادة من قبل المنكرين للنبوات تارة، والرافضين لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم تارة أخرى. 4. دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني (ت 430 هـ) : هو أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى المهراني ولد سنة (336 هـ) باصفهان، وبرع منذ نعومة أظفاره في حفظ الحديث وسيرة السلف، إذ خصص لهذين الأمرين جل مصنفاته التي تضمنت كتبا في التراجم والطبقات والحديث «78» . صنف أبو نعيم كتابه هذا حين سأله أحد تلاميذه بذكر مجموع ما وصل إليه من الروايات التي تحدثت عن معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ودلائل نبوته، وهذا ما أشارت إليه مقدمته التي يقول فيها: " أما بعد فقد سألتم عمر الله بالبصائر الجميلة طوياتكم.. جمع المنتشر من الروايات في النبوة والدلائل والمعجزات والحقائق" «79» . دلت هذه المقدمة على أن المصنفات التي سبقت مصنف أبي نعيم هذا لم تكن ملبية لرغبات الناس في الوقوف على معظم إن لم نقل جميع الدلائل والمعجزات التي ظهرت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فأرادوا إشباع نهمهم في هذا الجانب   (78) ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 1/ 75- 76، ابن كثير، البداية والنهاية، 12/ 45، السبكي، طبقات الشافعية، 3/ 7- 11. (79) دلائل النبوة، ص 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فطلبوا من أبي نعيم لما عرفوا فيه من العلم والفضل أن يصنف لهم كتابا يجمع لهم ما تناثر من هذه الدلائل والمعجزات، وصنف لهم كتابه هذا مع تأكيده أن مهمته تلك ليست بالسهلة اليسيرة، وهذا ما أوضحته مقالته التي مفادها: " وأعلموا أن معجزات المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم أكثر من أن يحصرها عدد وأشهر من أن يحصره سند.. وقصدنا جمع ما نحن بسبيله ... من جمع المنتشر من الابار والصحيح والمشهور من مروي الأخبار" «80» . فلو وجد مصنف حوى هذه الأمور قبل مصنف أبي نعيم لما طرح عليه هذا التساؤل، وهنا يمكن سر نجاح هذا الكتاب واشتهاره، ان هذا المنحى في جمع تلك المعجزات قد صاحبها تطور ملموس في كتابتها ضمن مصنفات السيرة، إذ تمثل هذا التطور بمسائل عديدة هي: 1. فسحه المجال لدخول بعض الروايات التي لم نجد لها أصولا عند من سبقه من العلماء الذين اهتموا بهذه الأمور وأوردوها في كتبهم «81» ، فمن الروايات التي وجدت في هذا الكتاب ولم توجد عند غيره، رواية الصور التي وجدت على ثياب جبلة بن الأيهم الغساني جد الغساسنة وفيها صور كل نبي من آدم (عليه السلام) إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلّم «82» ، كذلك إيراده رواية تضمنت محاورة جرت بين الله (سبحانه وتعالى) ونبيه موسى (عليه السلام) يطلب الأخير   (80) المصدر نفسه، ص 38- 39. (81) ينظر، المصدر نفسه، ص 80- 84، 86- 87، 92- 93، 97- 106، 114- 119، 119- 121. (82) ينظر، المصدر نفسه، ص 56- 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فيها من الله أن يجعله من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم «83» ، نال عمله هذا انتقادا من قبل البيهقي الذي وصف الكتب التي سبقته والمتأخرة منها بخاصة، والتي احتمل محقق كتاب الدلائل أن هذا النعت يعود على كتاب أبي نعيم «84» ، إذ يقول البيهقي واصفا ذلك بالقول: " وقد صنف جماعة من المتأخرين في المعجزات وغيرها كتبا وأوردوا فيها أخبار كثيرة من غير تمييز منهم صحيحها من سقيمها ولا مشهورها من غريبها ولا مرويها من موضوعها حتى أنزلها من حسنت نيته في قبول الأخبار منزلة واحدة في القبول" «85» ، مع العلم أن البيهقي هو الاخر قد وقع في المطب نفسه، إذ أورد هو الاخر روايات لم تعرف في المصادر التي سبقته أو التي كانت متداولة على ألسن العلماء «86» . أوجد هذا الأمر حافزا لدى بعض المتأخرين على إثبات بعض الروايات التي شاكلت هي الأخرى الروايات التي أوردها أبو نعيم في كتابه هذا «87» . ومع كل ذلك تبقى هذه الأمور مسائل ظنية إذ أوضح قطب الدين الراوندي (ت 573 هـ) هذا الخلاف الحاصل من تعارض وجهات النظر في بعض الروايات التي تحدثت عن المعجزات التي حصلت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالقول: " إعلم أن معجزاته على أقسام منها من انتشر نقله وثبت وجوده عاما في كل مكان وزمان من حين ظهوره كالقرآن الذي نتلوه.. ومنها ما رواه   (83) المصدر نفسه، ص 77- 79. (84) ينظر، قلعجي، مقدمة التحقيق لكتاب دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي، 1/ 43. (85) دلائل النبوة ومعرفة أحوال الشريعة، 1/ 39. (86) ينظر، ص 76- 83 من هذه الدراسة. (87) ينظر، ابن عساكر، تهذيب تاريخ دمشق الكبير، 1/ 85- 89، 111- 113، 325- 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 المسلمون وأجمعوا على نقله وكان اختصاصهم بنقله لأنهم كانوا هم المشاهدين له وظهرت بين أيديهم في سفر كانوا هم المصالحبين له في حضرا أم في حضر لم يحضره غيرهم فلذلك انفردوا بنقلها وهم الجماعات الكثيرة التي لا يجوز على مثلها نقل الكذب بما لا أصل له، والثالث من هذه الأقسام ما شاهده بعض المسلمين فنقلوه إلى حضرة جماعتهم وكان المعصوم وراءهم فلم يوجد منهم إنكار لذلك فيستدلوا بتركهم النكيرة عليهم على صدقهم لأنهم على قربهم لا يجوز لهم السكوت على باطل ومنكر يسمعونه فلا ينكرونه.. ومنها ما ظهر في وقته قبل مبعثه تأسيسا لأموره ومنها ما ظهر على أيدي سراياه في البلدان. البعيدة إبانة لتصديقهم إياه في ادعائه النبوة لأنهم ممن لا يظهر عنهم المعجزات إذ لم يكونوا من أوصيائه فيعلم بذلك تصديقه بدعواه" «88» . 2. المفاضلة بين العديد من الروايات والأحاديث التي وردت في هذا الكتاب ونقدها والتعليق عليها «89» ، فمن ذلك ما ذكره حول أحد الدلائل التي أكدت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، والمتضمنة وجود اسم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم واسم أمته في الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل) «90» ، إذ يعلق على إحدى الروايات التي أورد هذه الدلالة بالقول: " وهذا الحديث من غرائب حديث سهيل، لا أعلم أحدا رواه مرفوعا إلا من هذا الوجه" «91» ، ويضيف في مكان آخر حول الروايات التي عرضت قصة أصحاب الفيل وإرسال عبد المطلب   (88) سعد بن هبة الله، الخرائج والحرائح، طبع حجر، إيران، 1305 هـ، ص 173. (89) ينظر، دلائل النبوة، ص 224، 227، 228- 286، 231، 235، 481، 498- 499، 656. (90) ينظر، المصدر نفسه، ص 77- 79. (91) المصدر نفسه، ص 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 لابنه عبد الله إلى ابرهه «92» ما مفاده: " روى قصة أصحاب الفيل من وجوه وسياق عثمان بن المغيرة أتمها وأحسنها شرحا وذكر ان عبد المطلب بعث بابنه عبد الله، فهو وهم بعض النقلة لأن الزهري ذكر أن عبد الله بن عبد المطلب كان موته عام الفيل، وأن الحارث بن عبد المطلب كان أكبر ولد عبد المطلب وكان هو الذي بعثه على فرسه لينظر مالقي القوم" «93» . وهذه النقطة التي سجلت لأبي نعيم تخفف من حدة وقطعية القول الذي أطلقه البيهقي في نعته للكتب التي سبقته من أنها لم تميز بتاتا بين الروايات فأخذتها بمنزلة واحدة في القبول «94» . 3. إدخال النصوص الشعرية التي تتضمن عرضا لدلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «95» ، وهذا ما يدل على أن إدخاله لهذه الأشعار ضمن كتابه هذا لم يكن من دون قصد حيث إنها قد وردت في الرواية التي وصلت إلى مسامعه وأنظاره، بل كان وراء إدخاله لها غاية لأنها تضمنت في أبياتها ذكرا للدلائل التي عرضتها الرواية، فمن ذلك ذكره للبشائر التي سبقت ظهوره صلى الله عليه وآله وسلّم «96» مشفوعة بقصيدة لأحد الشعراء يقول فيها: نهار وليل كلا آدب بحادث ... سواء عليها ليلها ونهارها   (92) ينظر، المصدر نفسه، ص 178- 185. (93) دلائل النبوة، ص 185. (94) ينظر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، 1/ 39. (95) ينظر دلائل النبوة، ص 224، 227، 285- 286، 331، 455، 481، 498- 499، 656. (96) ينظر، المصدر نفسه، ص 102- 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 يود بأن بالأحداث حيث تأدبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خيرها «97» إن هذه الأشعار التي أوردها أبو نعيم في كتابه هذا لم يبين مدى صحة نسبتها الى قائليها أو مدى دقة أوزانها بل نقلها كما وصلت إليه، إذا ما علمنا أن هنالك شعرا منحولا كثيرا في هذا الجانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أضفته الطبيعة البشرية الجامحة نحو التهويل والمبالغة «98» . 4. المقارنة بين المعجزات التي ظهرت من الأنبياء وما ظهر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من معجزات مماثلة لجميع المعجزات التي ظهرت من الأنبياء الذين سبقوه «99» . هذه هي الجوانب التي اضفاها أبو نعيم على كتابة دلائل النبوة من جهة وكتابة السيرة النبوية من جهة أخرى، لأن هذا الكتاب قد أستوعب معظم المصنفات التي سبقته، ليأتي البيهقي ليكمل ما سبقه أبو نعيم إليه «100» . لم تنطفىء جذور التصنيف في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بعد هذين الكتابين بل إستمر العلماء بتصنيف العديد من الكتب في هذا الجانب، وإن لم تكن بمستوى الكتب التي سبقتها، إذ عدد لنا أحد فهارس الكتب التي عنت بجمع   (97) المصدر نفسه، ص 15- 17. (98) ينظر، أحمد شعر السيرة النبوية، ص 96- 192. (99) ينظر، دلائل النبوة، ص 75- 80. (100) ينظر، حماده، مصادر السيرة النبوية وتقويمها، ص 44- 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 أسماء المصنفات التي كتبت في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هذه المصنفات مع تبيان أماكن وجود بعضها والتي لا زالت مخطوطة ولم تر النور حتى الان في المدة قيد الدراسة «101» ، إذ دلت هذه المصنفات على استمرار وديمومة التصنيف في دلائل النبوة. قرن بعض المصنفين في دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم المعجزات التي ظهرت منه، بالكرامات التي ظهرت من الائمة (عليهم السلام) ، وأسبق من نهج هذا النهج من العلماء قطب الدين الراوندي إذ أردف سرده لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بسرد كرامات الائمة (عليهم السلام) «102» ، وهذا ما جعل طريقته تلك منهاجا لبعض المتأخرين عنه في ايراد كرامات الائمة (عليهم السلام) مسبوقة بعرض لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «103» . هذه هي الإسهامات التي أظهرتها كتب أعلام ودلائل النبوة في الهيكل العام لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والتي كانت حلقة من حلقات التطور في كتابة السيرة النبوية.   (101) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 64- 65. (102) ينظر، الخرائج والجرائح، ص 182- 189. (103) ينظر، النباطي، الصراط المستقيم لمستحقي التقديم، 1/ 40- 62، الحر العاملي، محمد بن الحسن (ت 1104 هـ) ، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، تحقيق هاشم الرسولي، المطبعة العلمية، قم، 1379 هـ، 1/ 280- 2/ 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 المبحث السادس المصنفات التي كتبت في خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الخصائص في اللغة هي الأمور التي إنفرد بها الشيء من دون غيره «1» ، ومن ثم فإن هذا المصطلح قد ركز في ذكر الأمور والمزايا التي أنفرد بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن باقي الناس. لم تظهر في القرون الأولى اهتمامات ملحوظة من قبل المهتمين بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في إفراد مصنف مستقل للحديث عن الخصائص التي إنفرد وامتاز بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن باقي البشر. وإن السبب الذي كان وراء هذا العزوف عن تصنيف مثل هذه الكتب، هو ان كتبا في علوم اخرى قد استأثرت به، كأبواب النكاح في كتب الفقه، «2» إذ بين العلامة الحلي الأسباب الموجبة إلى اختصاص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بمزايا لم تكن لأحد من البشر بقوله: " ولا شك أن الله تعالى قد شرف رسوله محمدا عليه افضل الصلاة والسلام وميزه عن سائر خلقه بأن خصه بأشياء فرضها عليه دون خلقه لما في أداء الفرائض من الثواب فإنه لم يتقرب المتقربون إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه وأشياء خطرها على خلقه فأنقسم ما خص به عليه السلام إلى تخفيف وتغليظ والتغليظ إلى ايجاب وتحريم" «3» .   (1) ينظر، ابن منظور، لسان العرب، مادة (خصص) ، 7/ 24. (2) ينظر، الحلي، تذكرة الفقهاء، طبع حجر، إيران، 1282 هـ، (لم ترد في هذه الطبعة أرقاما لصفحات هذا الكتاب) . (3) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 شكل هذا النوع من التصنيف في المسائل بالجوانب الشخصية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم تطورا ملحوظا في كتابة سيرته، إذ نجد في هذه المصنفات التي كتبت عن خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم تجديدا تمثل بابتكار عنوانات وموضوعات جديدة لجوانب السيرة لم تتطرق لها المصنفات الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، أما التي تعرضت لها فكانت نتفا متفرقة فيها «4» . كانت المصنفات التي كتبت عن خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم متأخرة نسبيا عن باقي المصنفات التي كتبت في القرون الأولى من تأريخ الإسلام، وكما أشار إلى ذلك أحد الباحثين حين أحصى هذه المصنفات «5» . كان أقدم كتاب وصل إلينا من هذه المصنفات هو كتاب [نهاية السؤال في خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم] لابن دحية الكلبي (ت 633 هـ) *، وقبل أن نستعرض هذا الكتاب وإسهامه في تطور كتابة السيرة، يجب أن نشير إلى مصنف هذا الكتاب كان صاحب أياد بيض على كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وذلك لوضعه مصنفات عديدة في جوانبها، إذ تشير قائمة مصنفاته إلى وجود مصنفات في جوانب لم يتطرق لها أحد من قبله «6» ، وهذه الجوانب هي:   (4) ينظر، ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، 1/ 142- 145، النووي، تهذيب السماء واللغات، 1/ 37- 44. (5) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 188- 190. (*) هو أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي الأندلسي، كان يكنى نفسه بذي النسبين، وهو أحد العلماء المشهورين بكثرة المصنفات في مختلف العلوم المعروفة آنذاك وهي التفسير والحديث واللغة، ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 121- 123، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، 6/ 227- 230. (6) عن مصنفات ابن دحية الكلبي، ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 113- 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 1. مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وذلك في كتاب أسماه (التنوير في مولد السراج المنير) ، إذ ذكر السندوبي أن ابن دحية هو أول من صنف في هذا الجانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «7» . 2. دلائل النبوة التي ظهرت من أعضاء جسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ صنف كتابا حوى هذه الدلائل أسماه (الايات البينات في ذكر أعضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم صاحب المعجزات) «8» . 3. شرح أسماء النبي، وذلك بكتاب اسماه (المستوفي في أسماء النبي) «9» . هذه هي الجوانب التي خصها ابن دحية الكلبي بالتصنيف، فضلا عن كتابته مصنفا مستقلا في خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كان أحد الكتب المتميزة في هذا الجانب، لأنه أمتاز بخصائص جعلته صاحب الريادة في هذا الجانب، وهذه الخصائص هي: 1. استظهار بواطن معاني الايات التي تتضمن ذكرا لخاصية من خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم غير بارزة أول وهلة للمتتبع «10» ، فمن هذه الايات التي استظهر ابن دحية معانيها آية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «11» ، إذ استدل بهذه الاية وغيرها على أن الله (سبحانه وتعالى) قد   (7) ينظر، تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي، ص 123. (8) ينظر، ابن خلكان، وفيات الأعيان، 3/ 113. (9) ينظر، المصدر نفسه، 3/ 113. (10) ينظر، نهاية السؤال في خصائص الرسول، تحقيق عبد الله الفادني، وزارة الأوقاف، قطر، ط 1، 1995، ص 58، 59، 63، 65، 67، 72، 74- 75. (11) سورة المائدة، آية 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 نادى حبيبه محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم بالنبوة والرسالة «12» ، ونادى (سبحانه وتعالى) بقية الأنبياء بأسمائهم، إذ قال مخاطبا نبيه داود (عليه السلام) : يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ «13» ، ونادى أيضا نبيه زكريا (عليه السلام) : يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا «14» ، واستدل ابن دحية بخاصية أخرى غير هذه في تلك الايات، إذ خاطب الله (سبحانه وتعالى) نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلّم بصيغة الجمع (يا أيها) ، وذلك إن الكناية عن الأسم غاية التعظيم للمخاطب المبجل المكرم والمدعو المرفع المعظم «15» . لم يكن هذا الاستظهار لمعاني الايات القرآنية بهذه الشاكلة والصورة والتوسع والمصادر التي سبقت ابن دحية، وذلك لأن جهده في هذا الأمر كان على محورين: الأول: جمع النصوص المتناثرة في كتب التفسير واللغة والحديث وإدخالها في مصنفه هذا الذي كان يشير فيه إلى تلك الكتب وأسمائها «16» والمحور الثاني: تمثل بإكمال ما بدأه سابقوه من مفسري القرآن الكريم بإضافة الايات القرآنية التي لم يذكروها على أن فيها ذكرا لخاصية أمتاز بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عن باقي الأنبياء والبشر «17» ، فقدم لنا ابن دحية في ذلك نتاجا   (12) ينظر، نهاية السؤال، ص 39- 42. (13) سورة ص، آية 26. (14) سورة مريم، آية 7. (15) نهاية السؤال، ص 42- 58. (16) ينظر، نهاية السؤال، ص 38، 39، 53، 57، 69، 77، 97، 121، 152، 162، 217، 250. (17) ينظر، المصدر نفسه، ص 42- 52، 58، 59، 63، 65- 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 جاهزا جمع فيه ما تناثر من ذكر لخصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في المصنفات التي سبقته فضلا عن إثباته لخصائص أخرى لم تلتفت إليها المصنفات التي سبقته. تطلب هذا الأمر من ابن دحية أن يسبر أغوار العربية وقواعدها، وان يحيط بألفاظها ومدلولات هذه الألفاظ من المعاني، فلولا تضلعه من هذه الأمور لما نهج هذا النهج والطريقة في كتابة خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ورصد الايات القرآنية التي استنبطها منها. 2. إعتماده في مواطن كثيرة من كتابه هذا على الروايات المسندة، على الرغم من طول سلسلة السند التي تبلغ اكثر من سبعة شيوخ «18» . نهج ابن دحية هذا المسلك لأنه أراد أن يذكر الروايات التي تتعلق بخصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والتي يثبتها السابقون له في مصنفاتهم أو لم تكن بهذه الصورة من العرض، إذ أوضح هذا الأمر في مقدمة كتابه التي قال فيها: " فإني ذاكر في هذا الكتاب بإذن الله الذي لا تسقط ورقة إلا بعلمه.. ما يسر لي حفظه وعلمه وقدر لي شرحه وفهمه من خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم التي لم تجتمع لمخلوق وما أوجب الله عز وجل له على جميع خلقه من الحقوق ... " «19» 3. الإحالة إلى مصنفاته أو مصنفات من سبقه، إذ أحال إلى كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) عند اختصاره للرواية التي ذكرت صفة حوض الكوثر وسقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الماء لأمته يوم المحشر «20» ، وأحال أيضا إلى كتابه   (18) ينظر، المصدر نفسه، ص 57، 154، 340- 342، 390- 392، 411- 413، 425، 463- 464. (19) المصدر نفسه، ص 34. (20) ينظر، المصدر نفسه، ص 162- 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 [الابتهاج في أحاديث المعراج] عند عرضه لتناقض الروايات واختلاف الروايات في حادثة الإسراء والمعراج «21» ، فضلا عن وجود إحالات أخرى لمصنفاته في هذا الكتاب «22» ، هذا بالنسبة الى مصنفاته التي أحال إليها، أما بالنسبة الى مصنفات غيره، فقد أسهم في إعطاء وصف لهذه المصنفات وطريقة حصوله عليها عن طريق الوجادة أم الرواية «23» ، فمن المصنفات التي أحلل إليها كثيرا في كتابه هذا كتاب (البرهان في علوم القرآن) لأبي الحسن علي بن إبراهيم الحوفي «24» ، إذ يقول في إحدى إحالته على هذا الكتاب: " فحكى أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي في كتابه البرهان في علوم القرآن وهو عندي في ثلاثين مجلدا وحدثني به جماعة من أشياخ إجازة إذ لم يدخل هذا الكتاب قط كامل فلم يروها إلا إجازة وسماعا منهم" «25» . 4. الزهو والإعجاب والتفاخر بما طرحه في هذا الكتاب من موضوعات لا يستطيع أحد برأيه أن يأتي بمثلها لأنه لا يوجد في زمانه من هو أعلم منه بهذه الأمور، وهذا ما أوضحته مقالته التي مفادها: " فليفتخر بهذا الكتاب من يأخذه عني إذ لا أعلم أحدا أعلم بالصحيح من السقيم مني فهو بحر تلتطم بالكتاب والسنة امواجه وتتقاذف بدرر الاداب أثباجه تنقل منه الاثار الصحيحة وتروى وتسقى من حياضه النيرة الشفاه الظامئة فتروى، فتتنافس فيه البلدان وتتعاطاه   (21) ينظر، المصدر نفسه، ص 328. (22) ينظر، المصدر نفسه، ص 402- 403. (23) ينظر، نهاية السؤال، ص 74، 121- 122، 154، 160، 454- 455، 495. (24) ينظر، المصدر نفسه، ص 38، 39، 152، 162، 217، 250. (25) المصدر نفسه، ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 خراسان وبغدان وتصغي إليه القلوب وتسمع إليه الاذان وتردده الألسن استطابة كأنها الاذان" «26» . شكل اعتداد ابن دحية بنفسه وبكتابه الذي صنفه سابقة خطيرة لم تعهدها المصنفات التي سبقته، إذ كان أغلب المصنفين الذين استعرضنا كتبهم في هذه الدراسة قد بالغوا في التقليل من قيمة ما كتبوه والاعتذار من قراء كتبهم هذه، إن بدر منهم أي زلل فيه لأنه بحسب اعتقادهم لم يولوا مصنفاتهم تلك عناية تامة، ولم يبذلوا فيها جهدا يستحق المفاخرة، مع العلم أنهم كانوا خلاف ما كانت عليه مصنفاتهم من الهشاشة والاسترسال «27» . بين تفاخر ابن دحية بنفسه صدق المقالة التي وصفه بها أحد المترجمين له والتي مفادها: " كان أبو الخطاب يدعي أشياء لا حقيقة لها" «28» . 5. توظيف معظم جوانب السيرة المتفرقة والتقاط ما يمكن التقاطه من خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ وظف معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وقارنها بمعجزات من سبقه من الأنبياء «29» صلى الله عليه وآله وسلّم، فضلا عن علاقته مع زوجاته «29» ، كذلك وظف العقائد التي دعا الإسلام إلى الإيمان بها، ولا سيما الشفاعة من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لمذنبي أمته، إذ جعلها ابن دحية من ضمن خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «30» .   (26) المصدر نفسه، ص 34- 35. (27) عن وصف بعض العلماء لكتبهم، ينظر، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 1/ 8، المسعودي، مروج الذهب، 1/ 10، البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة احوال صاحب الشريعة، 1/ 64. (28) الدجلي، أحمد بن علي (ت 812 هـ) الفلاكة والمفلوكون، مطبعة الشعب، مصر، 1322 هـ، ص 88. (29) ينظر، نهاية السؤال، ص 242- 236. (30) ينظر، المصدر نفسه، 216- 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 حصل هذا الكتاب على ثقة العلماء الذين تناولوا سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، لقناعتهم بقيمته ومنهجه في عرض رواياته، إذ اعتمد عليه الصالحي وجعله في طليعة مصادر السيرة التي كتبها للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «31» . حفز هذا الكتاب على ظهور مصنفات أخرى في خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولكنها تأخرت عن مدة الدراسة (بعد العصر العباسي) ، إذ عدد أحد الباحثين هذه المصنفات وأجملها مع ذكر أماكن وجودها، وذلك لبقاء معظمها مخطوطا حتى الان «32» ، وهذا ما يفسر لنا أن الاهتمام بالجوانب الشخصية للرسول قد حصل في مراحل متأخرة من تاريخنا الإسلامي، إذ وصف أحد الباحثين هذا الأمر بالقول: " وقد اضفت الكتب المتأخرة نوعا من التقديس على شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لا يلمح في المصادر الأولى ويظهر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في أكثر الرواية مبكرا كما صوره القرآن الكريم ... ولم تبق شخصية الرسول على وجه التقريب لما صورته السير الأولى إلا عند المتمسكين بالحديث فإنهم على شعورهم بعظمته ظلوا ينظرون إليه من خلال ما صح من الأحاديث" «33» . هذه هي المصنفات المستقلة لجوانب السيرة المتعددة، مع العلم أن هذا الاستعراض لم يكن حاويا كل الجوانب، وذلك لوجود جوانب أخرى من شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أفرد لها مؤرخو السيرة مصنفات عدة، فقسم من هذه المصنفات ضاع مع ما ضاع من تراثنا، وقسم وصل إلينا مخطوطا ولم يطبع بعد،   (31) ينظر، سبل الهدى والرشاد (السيرة الشامية) ، 1/ 3. (32) ينظر، المنجد، معجم ما ألف عن رسول الله، ص 187- 190. (33) عباس، فن السيرة، ص 17- 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ولكن هذا المخطوط من هذا التراث لم نستطع الحصول عليه لعدم توفر الوسائل والامكانات التي تساعدنا على الوصول إليه، وقد كفانا أحد الباحثين مؤونة إحصاء تلك المصنفات، وجوانب سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، إذ أجمل كل واحد منها على حدة، وأدخله في الحقل الذي ينتمي إليه في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم «34» . هذه هي المصنفات التي كتبت باستقلالية عن جوانب متعددة من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم مع ذكر المحاور التي تناولتها، والتي شكلت بمجملها تطور جذريا في كتابة السيرة النبوية، مع الإشارة ضمنا إلى أن هذا التطور الذي اوجدته هذه المصنفات لكتابة السيرة هو تطور أفقي، وذلك لكثرة الجوانب التي تناولتها هذه المصنفات من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والاقتصار في الحديث عن هذه الجوانب بمصنف واحد أو مصنفين أو أكثر في حالات نادرة، وإن وجد فهو تكرار لما سبق من مصنفات كتبت في الموضوع نفسه، وهذا ما أدى إلى انحسار التطور العمودي الذي ظهر في جوانب قليلة من هذه المصنفات ولا سيما كتب الشمائل والدلائل. كان هذا التطور في كتابة السيرة النبوية بتخصيص مصنفات مستقلة تتناول جوانب مجتزئة من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالإشباع والاستقصاء من أخريات بل خاتمة التطورات التي حصلت في كتابة السيرة النبوية، وذلك لأن المصنفات التي كتبت بعد المدة قيد الدراسة قد انحصر فيها التطور والتجديد واقتصرت على تكرار ما ذكرته المصنفات السابقة، باستثناء ظهور نمط جديد بعد هذا العصر   (34) ينظر، المنجد معجم ما ألف عن رسول الله، ص 37- 40، 44- 45، 236- 237، 292- 293، 198- 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 تمثل بكتابة السيرة على هيأة أراجيز وشروح لهذه الأراجيز، التي كانت على حد تعبير بعض الباحثين لغايات تعليمية ظهرت في القرون المتأخرة «35» ، وقد أشار السخاوي إلى هذه الأراجيز التي كتبت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وجوانبها المختلفة «36» . من هذا كله نرى أن التطور في كتابة السيرة قد أكمل حلقاته في العصر العباسي، أما ما جاء بعد هذا العصر فكان مجرد تكرار لما صنف في السيرة وجوانبها من قبل الأقدمين ليس إلا.   (35) ينظر، روز نثال، علم التاريخ عند المسلمين، ص 240- 255. (36) ينظر، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، ص 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الخاتمة أفرزت المباحث التي مرت بعد أن بينت ورصدت التطور الذي حصل في كتابة السيرة النبوية في العصر العباسي من حيث أساليب عرضها، والمناهج التي كتبت بها مصنفات السيرة وتوابعها، نتائج عدّة ظهرت بين ثنايا السطور، لتكوّن محصلة نخرج بها من هذه الدراسة، وهذه النتائج هي: أولا: اشتراك لفظتي السيرة والمغازي بالمعنى والمدلول في استعمالات مؤرخي السيرة في بداية كتابتها والتصنيف فيها، ولكن هذا الاشتراك بدأت عراه بالانفصال تدريجيا بعد أن اتسعت مصنفات السيرة ومتعلقاتها وأخذت أبعادها الموضوعية بالاستقلال. ثانيا: اتسمت الكتابات الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بالطابع الشخصي في تدوينها، إذ كانت مجرد جهود فردية قام بها ثلة من الصحابة والتابعين وسجلوا بعض الحوادث التي تبين دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومكابداته في نشر الإسلام، فضلا عن تدوين الحوادث التي كان لهم ولأفراد قبيلتهم دور بارز فيها، تمثل بموقفهم في الدفاع عن الإسلام وعلاقتهم بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، فكان من بعض غايات هذه المدونات المفاخرة القبلية التي كانت سائدة بين القبائل العربية قبل الإسلام، مع وجود غايات أخرى تمثلت بكون بعض هذه المدونات عبارة عن جوابات لبعض الأسئلة التي كان الخلفاء والولاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 يطرحونها على المهتمين بأخبار السيرة وأحداثها حول بعض المواقف والتصرفات التي بدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أو من المسلمين أثناء سير الدعوة، حتى كانت هذه المدونات، فضلا عما تناقلته الألسن من وصف لبعض الحوادث، هي المادة الأولى لكتابات الجيل الثاني من التابعين وتابعي التابعين الذين دونوا بعض أحداث السيرة بشمولية واتساع أكثر من سابقيهم ليكونوا بمجهودهم هذا الأساس الذي استندت إليه المصنفات الشاملة والمبوبة لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله. ثالثا: وقفت الدولة الأموية متمثلة بخلفائها وولاتها، إلا الخليفة عمر بن عبد العزيز، موقفا مضادا من كتابة سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وذلك لشعور يختلج في نفوسهم أن كتابة السيرة النبوية بتفاصيلها معناها تشهير بمثالب آبائهم وأجدادهم ومواقفهم السلبية تجاه الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلّم، من جراء ذلك تأخرت كتابة أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم حتى بداية العصر العباسي أي بعد ما يقارب القرن ونصف القرن من وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. رابعا: بالضد من الموقف الذي انتهجته الدولة الأموية في تحجيم تدوين أحداث السيرة، أتبعت الدولة العباسية متمثلة بخلفائها الأوائل سياسة مغايرة للسياسة الأموية، إذ سمحت بكتابة أول سيرة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ولم تقتصر على ذلك، بل دعمت وشجعت ذلك، وقربت المهتمين بأخبار السيرة وأغدقت الهبات عليهم، ولكن هذا الاهتمام والدعم لم يكن يجري دون تنازلات تذكر، بل صاحب ذلك شطب بعض الروايات وحذفها ولا سيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 تلك الروايات التي تتحدث عن مواقف العباس بن عبد المطلب وأحواله أثناء الدعوة الإسلامية، مع تفخيم دور البيت العباسي في انتشار الإسلام. خامسا: كان للتجربة التي قام بها ابن إسحاق حين كتب أول سيرة شاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم صدى واسع عند المسلمين، إذ حفزت هذه التجربة علماء المسلمين ومحدثيهم على إفراد مصنفات تتناول حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ودوره في أحداث عصره خالية من الأقوال والأحكام التشريعية. فكان ذلك بداية لانفصال عرى الترابط بين سيرة الرسول وحياته الشخصية من جهة، وبين أقواله وأفعاله من جهة أخرى؛ مع العلم أن أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله عدّت أحكاما واجبة التنفيذ من قبل المسلمين، لأن السنة النبوية الشريفة المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن، فقام المحدثون بالاهتمام بهذه الأحكام وترك وصف الحوادث التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أهل الأخبار ومن ثم المؤرخين، فنشأ عن هذا الأمر في بدايته مجموع من الإخباريين عرفوا بأصحاب المغازي والسير. سادسا: تعددت مصنفات السيرة وتكاثرت على طول العصر العباسي بسبب تشعب الغايات والمقاصد التي من أجلها كتبت، والظروف التي أحاطت بكتابتها أيضا. إذ كانت هنالك غايات علمية تمثلت جيدا وبوضوح الأمر بجهود عبد الملك بن هشام المعافري في نقد بعض الأشعار التي حوتها سيرة ابن إسحاق، حين بين عبد الملك أن بعض هذه الأشعار نسبت إلى غير قائليها، فضلا عن ضعف وركاكة الأشعار الأخرى، ولكن هذه الغاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 العلمية التي دفعت بابن هشام إلى نقد الشعر الذي ورد في سيرة ابن إسحاق لم تسر على وتيرة واحدة، إذ تأثر ابن هشام بوجهات نظر عصره عن أحداث السيرة ومواقف المشاركين فيها من صحابة مسلمين فضلا عن المشركين وغيرهم، حيث وجدنا منه مجانبة للحقيقة حين غمط بعض الحقائق والروايات حقها حين وصفها بأنها مما يسوء ذكره، فضلا عن امتناع شيخه من إجازته بروايتها، ولمسنا غايات علمية من تصنيف أحمد بن فارس لمختصره في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الذي ضغط أخبارها في ورقات معدودة لم تتعد أصابع اليدين، ليسهل على الناس حفظها واستيعابها. هذا بالنسبة الى الغايات العلمية، أما بالنسبة الى الغايات الأخلاقية، فكانت هذه الغايات وراء الثراء بالتصنيف في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله وجوانبه الشخصية، الأمر الذي أدى إلى اختلاف المصنفات التي كتبت من اجل هذه الغاية من حيث طرحها للروايات وللأسلوب الذي انتهجته في كتابتها، حتى وجدنا نوعين من هذه المصنفات: الأول: اختصر فيه أصحابه الروايات التي تعنى بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأحواله. أما النوع الثاني: فقد أسهب أصحابه في ذكر الأخبار والأحداث التي رويت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. سابعا: كان لتنوع وتشعب الصور التي كتب بها التأريخ عند المسلمين، أثر فعال في تضمين مصنفات التأريخ في صورها كافة، بسرد متباين لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فيها، يختلف بين مصنف وآخر بحسب حجم كل واحد منها، وبحسب نظرة المؤرخ للحيز الذي تستحقه السيرة في كل مصنف من هذه المصنفات التاريخية، الامر الذي أوجد خزينا معرفيا ثرا لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يضاف إلى بقية مصنفات السيرة ومتعلقاتها. وقد أضفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 هذه المصنفات التاريخية تنوّعا ملحوظا في كتابة السيرة، لا من حيث أساليب العرض فحسب، بل من حيث تنوع المناهج التي كتبت بها هذه المصنفات لاختلاف الأوقات التي ظهرت فيها. ثامنا: إن لعظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في نفوس المسلمين أثرا ملحوظا في كتابة مصنفات تتناول جوانب من سيرته تتميز بالاستقلالية والفرز عن باقي الجوانب الأخرى التي تضمنتها السيرة النبوية، إذ ظهرت لأجل ذلك مصنفات تخصصت بعرض شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأخلاقه وصفاته وعلاقاته مع زوجاته وأهل بيته والمسلمين، كان الهدف منها تعريف المسلمين بطريقة عيشه، فضلا عن ذكر حوادث متفرقة من السيرة في مصنفات مستقلة مثل حادثة المولد، أو المغازي وغيرها، إذ كان للعصر الذي صنف فيه كل مصنف من هذه المصنفات التي كتبت من اجل هذه الغاية أثر واضح في كتابته وتداوله بين الناس. تاسعا: أدت الأفكار الإلحادية المنكرة للنبوات إلى ظهور مصنفات أخذت على عاتقها مهمة جمع العلامات والدلائل التي ظهرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والتي أكدت نبوته، فضلا عن ظهور نمط آخر من المصنفات التي صدرت عن المصنفات السابقة عليها والتي جمعت العلامات والدلائل. وقد تمثل هذا التصنيف بكتابة مصنفات تقوم على إثبات هذه العلامات والدلائل عقليا ونقليا، وإعطائها طابع أساليب المتكلمين ليسهم هذان الاتجاهان في ظهور مصنفات كانت من نتاجات كتب الحديث والكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 عاشرا: كانت المصنفات الأولى التي تحدثت عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بمختلف جوانبها ومتعلقاتها وأنماط كتابتها ولا سيما مصنفات القرون الأربعة الأولى أكثر عقلانية ورصانة من المصنفات التي تلتها والتي كانت جمعا محضا وتكرارا لروايات سابقة فضلا عن فسح هذه المصنفات المجال للروايات الضعيفة والواهية أن تدخل في هيكل السيرة، وهذا أوجد كما هائلا من الروايات التي لم تعرفها الأصول الأولى لسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. أحد عشر: تلاقح وانصهار أساليب مناهج المؤرخين والمحدثين فضلا عن المتكلمين والفلاسفة وأهل اللغة والتفسير في تشكيل المصنفات التاريخية التي وثقت حوادث السيرة النبوية بمختلف جوانبها حتى تنوعت هذه المصنفات واختلفت آليات عرض كل واحد منها بوجود وجهات نظر مختلفة كتبت بموجبها سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أو أحد جوانبها. هذه هي محصلة البحث الذي أثبتنا فيه أن كتابة السيرة النبوية قد مرت بمراحل تطورية، وتشكلت بقوالب مختلفة حاكت بها العصر الذي صنفت فيه، وبينت نفسية الكاتب الذي دونها، ووجهة نظره من أحداثها ومدى ارتباطها وأثرها في الأحداث التي سبقتها والتي تلتها. وقبل أن أنهي خاتمة هذه الدراسة يجب علي التنويه ببعض الأمور أو التوصيات، أحسب أن الاخذ بها سوف يسهم في فسح مجال أكبر للتنوع في الدراسات عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وجوانبها المختلفة، وهذه التوصيات هي: 1. نشر وتحقيق التراث الفكري المخطوط للسيرة النبوية بمختلف جوانبه مع جعل الأولوية للمصنفات الأقدم أو التي تنشر جانبا جديدا، أو تسلط مزيدا من الضوء عن جانب من جوانب السيرة النبوية الشريفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 2. تجميع الاقتباسات والنقول المبثوثة في مختلف المصنفات عن السيرة النبوية لابن إسحاق وإضافتها للتهذيب الذي عمله ابن هشام لها ولا سيما الروايات التي لم يثبتها الأخير في تهذيبه، إذ وجدت أثناء إطلاعي على موارد العديد من مصنفي السيرة أنهم قد ضمنوا مصنفاتهم نصوصا عدة من سيرة ابن إسحاق، فضلا عن كون هذه السيرة هي أحد مصادرهم الرئيسة، ومن ثم نستطيع الحصول على مجموع مقارب للسيرة التي كتبها محمد بن إسحاق والتي ضاعت مع ما ضاع من تراثنا. 3. تخصيص دراسات مستقلة وموسعة للمصنفات والمصنفين الذين كتبوا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وجوانبه الشخصية، وذلك لتكمل هذه الدراسات ما شرعنا فيه بهذا البحث، إذ كان كتاب [دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة] لأبي بكر البيهقي في طليعة هذه المصنفات، لتشعب المنهج الذي كتب فيه مصنفه هذا، وتعدد الموارد الذي اعتمدها في إثبات رواياته. هذا واحد من الأمثلة بالنسبة إلى المصنفات؛ أما بالنسبة الى المصنفين فإن ابن الجوزي بتراثه الفكري الواسع الذي خلفه لنا والذي ضم في معظمه سيرة متكاملة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يحتاج إلى دراسة موسعة تتناول هذه الكتب وتحصي إسهامات كل واحد منها وتباينه عن الاخر. وفي ختام هذا البحث نرجو أننا قد وفقنا في هذا الموضوع، في جوانبه المتعددة، وأسال الله (جلّ وعلا) أن يتقبله مني بقبول حسن، وأن يكون خالصا لوجهه الكريم، فإنه نعم المولى ونعم النصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المحتويات الإهداء 4 التصدير: سيرة الرسول 5 المقدمة 12 الفصل الأول: السيرة النبوية ومصادرها الأولى حتى ظهور السيرة الشاملة 22 المبحث الأول: تطور المدلول اللفظي للسيرة عند اللغويين والمؤرخين 22 المبحث الثاني: المصادر الأولية للسيرة قبل تصنيفها وتبويبها 30 الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة المستقلة للرسول وتطورها 90 توطئة 90 المبحث الاول: السيرة النبوية المسهبة والمستقلة ومصنفوها 97 المبحث الثاني: السيرة النبوية المختصرة والمستقلة ومصنفوها 156 الفصل الثالث: السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التاريخية 177 مدخل 177 المبحث الأول: السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب التاريخ العام 179 البمحث الثاني: السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب الطبقات والتراجم 245 مدخل 245 الفصل الرابع: التصنيف المستقل لجوانب السيرة ومفرداتها 291 مدخل 291 المبحث الأول: المصنفات التي كتبت في حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم 296 المبحث الثاني: المصنفات التي كتبت في أرحام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته وأزواجه 301 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 المبحث الثالث: المصنفات التي كتبت في شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأخلاقه 311 المبحث الرابع: المصنفات التي كتبت في المغازي النبوية 334 المبحث الخامس: المصنفات التي كتبت في أعلام ودلائل النبوة للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم 349 المبحث السادس: المصنفات التي كتبت في خصائص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم 380 الخاتمة 390 قائمة المصادر والمراجع 397 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424