الكتاب: بينات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته المؤلف: عبد المجيد بن عزيز الزنداني الناشر: دار الإيمان - القاهرة الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- بينات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته عبد المجيد الزندانى الكتاب: بينات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته المؤلف: عبد المجيد بن عزيز الزنداني الناشر: دار الإيمان - القاهرة الطبعة: - عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [بينات الرسول ص ومعجزاته] مقدّمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران: 102] . يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) [النساء: 1] . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) . [الأحزاب: 70، 71] . أما بعد: * أين كان سكان الأرض الموجودون اليوم قبل مائة عام؟!. * وأين سيكونون- ونحن معهم- بعد مائة عام؟!. والجواب: كنا في عالم الغيب، وسننتقل إلى عالم الغيب مرة أخرى!. فنحن مسافرون بين غيب الماضي وغيب المستقبل!!. * فمن الذي خلقنا وجاء بنا إلى هذا الوجود؟. * وما هي صفاته؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 * ولماذا خلقنا؟. * وماذا يريد منا؟. * وما الذي يرضيه من أفعالنا؟. * وما الذي يغضبه علينا؟. * ولماذا نموت؟. * وما الذي ينتظرنا بعد الموت؟. وما الأدلة على كل ذلك؟. إن الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، لا يمكن أن يتركنا بدون هدى، فهو الذي خلق الكون، وهدى كل مخلوق إلى ما قدر له: هو الذي يهدي الشمس والقمر والليل والنهار، والحيوان والشجر، وجسميات أصغر الذرات إلى ما قدر لها. وشاء الخالق سبحانه أن يهديناا، فخلق لنا أدوات العلم ونحن في بطون الأمهات كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) [النحل: 78] . وبدون هذه الأدوات لا نستطيع كسب أي علم كما لا يقدر أحد أن يمنحنا شيئا منها قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) [الأنعام: 46] وما خلق الله لنا أدوات العلم التي بها نسمع ونرى ونعقل إلا وهو يريد لنا أن نتعلم. يريدنا أن نسمع، فخلق لنا أدوات السمع. ويريدنا أن نرى، فخلق لنا أدوات الإبصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ويريدنا أن نعقل ما نسمع ونرى، فخلق لنا القلب والفؤاد كي نعقل «1» . وبهذه الأدوات نكتسب العلم. وأول علم يريدنا الخالق أن نعلمه هو أن نعلم أنه لا إله إلا هو، وأن نعلم صفاته سبحانه، وأن نعلم أن محمدا رسوله الذي أرسله إلينا هاديا ومبشرا ونذيرا. وأن نعلم الدين الذي ارتضاه لنا. وأن نعلم مستقبلنا ومستقبل البشرية الذي نسير إليه بعد الموت الذي نخرج به من حياتنا الدنيا. لكن هذه العلوم لا تعلم على الوجه الصحيح إلا بتعليم يأتينا من الذي خلقنا، وأحيانا، ويميتنا، ويبعثنا بعد موتنا. لذلك أرسل الله الرسل لتعلمنا بلغة نفهم دلالاتها ومعانيها كما قال سبحانه وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) [إبراهيم: 4] . فلا يبقى لأحد من البشر عذر يعتذر به وحجّة يتعلق بها كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) [النساء: 165] . أما التائهون الذين قال شاعرهم: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت!! ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت!! وسأبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت!!   (1) الفؤاد والقلب مكان عملية التعقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟! لست أدري!! ولماذا لست أدري؟! لست أدري!! لماذا لا يدري هذا الحائر المتخبط؟ لأنه لم يعرف رسول ربه، ولم يتلق الهدى منه، فعاش تائها يتخبط في الطلاسم «1» . والعلم بالرسول وصدقه هو: مفتاح العلم ومفتاح الهدى والفوز في الدنيا والآخرة. لكن إيماننا بالرسول- صلى الله عليه وسلم- لا يتحقق إلا إذا عرفنا أدلة صدقه وبراهين رسالته. وأمّا الكفار فلن يتركوا ماهم عليه من الكفر حتى تأتيهم البينة المصدقة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) [البينة: 1- 3] . ولقد جعل الله البيّنات والمعجزات شهادات إلهية أيّد الله بها رسله حتى لا يكذبهم الناس، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ [الحديد: 25] . ويتحدى الرسول قومه أن يأتوا بمثل ما جاءهم به من المعجزات التي يعجز أمامها البشر، فتخضع رقابهم لبينة الرسول ومعجزاته، ويعلموا أنه مرسل من الله خالقهم.   (1) الطلاسم هي: المعميات ... وهي اسم القصيدة التي منها هذه الأبيات للشاعر «إليا أبو ماضي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وهذه البينات والمعجزات التي يؤيد الله بها رسله هي: التي حولت سحرة فرعون الذين كانوا يقولون لفرعون قبل مواجهتهم مع موسى- عليه السّلام-: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) [الشعراء: 41- 42] فوعدهم فرعون بما طلبوا، وزادهم أن يجعلهم من الحاشية، ولما ألقوا حبالهم وعصيّهم، وجاؤا بسحر عظيم استرهبوا به أعين الناس، أمر الله موسى أن يلقى عصاه فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) [الشعراء: 45] . ُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) [الشعراء: 46- 48] . فانقلب السحر على الساحر، وأسقط أمر فرعون، فتوعد السحرة: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) [الشعراء: 49] . فكان رد الإيمان الذي وقر في قلوب السحرة بعد أن رأوا البينة والمعجزة أن قالوا: قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) [طه: 72] . رأوا البينة والمعجزة، فامنوا بالرسول، وصدّقوه، فهانت الدنيا أمام وعد الآخرة، وصغر فرعون في أعين السحرة المؤمنين، وهان الموت أمام الإيمان. وبينات الرسول ومعجزاته هي: القنطرة التي عبر عليها الصحابة من الكفر والتكذيب إلى الإيمان واليقين. فبعد أن كانوا من المكذبين الذين يرمون الرسول بالسحر والكهانة والشعر والافتراء، صاروا يتسابقون لامتثال أمره ويهتفون قائلين: " فداك أبي وأمي يا رسول الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والعلم ببينات الرسول ومعجزاته هو: العلم الذي يجب أن يأخذ منه كل مسلم ما يثبت له صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه قد جاء بالحق من ربه، قال تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) [الرعد: 19] . وعلى كل مسلم أن يبلّغه أهله وأقاربه وجيرانه والناس جميعا؛ ليخرج الناس من العمى إلى الهدى. والعلم ببينات الرسول ومعجزاته يثمر التصديق للرسول، والإيمان بالوعد والوعيد، فيثمر المحبة لله، والحرص على مرضاته، والفوز بجناته، كما يثمر الخوف من الله ومن عذاب النار. وبهذا يتولد الدافع القوي في نفوس المؤمنين إلى فعل الطاعات واجتناب المحرمات، فيفيض الخير في المجتمع فيضا، ويغيض الشر غيضا. وتسعد البشرية بحياة مصبوغة بالفضيلة، بعيدة عن الرذيلة والجريمة. وبينات الرسول ومعجزاته هي: العروة الوثقى التي يعتصم بها المؤمن أمام أمواج الفتن والشبهات التي لا يصمد أمامها من اكتسب إيمانه تقليدا للأباء أو مسايرة للمجتمع. كما أنها العصمة أمام تيارات العلمانية، والثقافات المعادية للدين التي تغزو الناس بوسائل الإعلام، التي تدخل عليهم البيوت والغرف. فكان لا بد من نشر الدواء الوافي من أمراض الشكوك ومزالق الفتن. فرأينا أن نقدم خلاصة مفيدة لبعض بينات الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومعجزاته التي أيّده الله بها، وأقام بها الحجّة على عباده. ولما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو رسول الله إلى الناس كافة، فقد جعل الله بينات رسالته ومعجزاته باقية متجددة مع كل عصر؛ تكفي كل أصناف البشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 على اختلاف علومهم وثقافاتهم ومداركهم. فمن أراد البينة وجدها وشاهدها، في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وما بعده، وإلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله. فالقرآن هو المعجزة الكبرى الباقية بين أيدينا. معجز في فصاحته وبلاغته. ومعجز في علومه. وهو سجل موثوق لمعجزات الرسالة الموثّقة بأعلى درجات التوثيق التي أقر بها المؤمن والكافر. ومعجز في أخباره. ويمكن للناس التأكد من كل أوجه إعجازه. وقد جعلنا الكتاب خمسة فصول: الفصل الأول: قدمنا فيه للقارئ الكريم بعض البشارات التي لا تزال موجودة في كتب النصارى، واليهود، والهندوس، والمجوس. ونقلناها من مصادرها بلغتها الأصلية، ومن الكتب التي يقدّسها أهلها إلى يومنا هذا. وهذه البشارات من الشهادات التي استشهد الله عليها أهل الكتاب كما قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) . [الرعد: 43] وبينا في الفصل الثاني: المعجزة العلمية في القرآن والسّنّة، وتوسعنا في المعجزات العلمية القرآنية. وهذا النوع يعرفه أكابر علماء عصرنا في مجال العلوم الكونية والطبية، ويأتي هذا الإعجاز محققا لوعد الله القائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [فصلت: 53] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وأما الفصل الثالث: فقد بينا فيه معجزة التحدي بالقرآن، ومنها فصاحة القرآن وبلاغته في مفرداته وتراكيبه، التي أعجزت فصحاء العرب وبلغاءهم، فلم يجد المكابرون والجاحدون منهم إلا أن يقولوا عنه: سِحْرٌ يُؤْثَرُ، لأن القرآن كلام الله الذي يحمل العلم الإلهي وينم عن العظمة والصفات الإلهية التي لا تحدّ بحدّ. ومن معجزات القرآن تحدّيه للإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأعلن القرآن للثقلين من الجن والإنس أنهم لن يقدروا على المجيء بمثل كتاب الله كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88] ، بل تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، كما ذكرنا علامات واضحة في القرآن تدل قارئه وسامعه أنه من عند الله عز وجل واستحالة أن يكون من عند غيره. وأما الفصل الرابع: فقد جمعنا فيه الكثير من الخوارق المعجزة التي أيّد الله بها رسوله في كل مراحل الدعوة، مثل انشقاق القمر، ونزول الملائكة للقتال مع المسلمين، وتكثير الطعام القليل ليكفي جيش المسلمين في عدة غزوات، ونبع الماء من بين أصابعه حتى يفيض على العطشى من جيش الصحابة الذي قد يصل إلى الآلاف، وغيرها من الخوارق الشاهدة بتأييد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وسجل بعضها القرآن كما في سورة الأنفال مذكرا بما أنزل الله على رسوله من الملائكة، والمطر، والنعاس، الذي نزل على المؤمنين أمنة. قال تعالى: ... إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال: 41] . واستعرضنا الخوارق التي سجلت في السّنّة، وبيّنا ما امتازت به السّنّة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الحفظ والتوثيق. وجعلنا الفصل الأخير مذكرا بما بشّرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم من نعيم أبدي، يفوز به أهل الإيمان، وعذاب مقيم يحيط بأهل الكفر، سائلين المولى أن ينفعنا والمسلمين بما قدمنا. كما أننا ننادي كل مؤمن غيور أن يساهم معنا في نشر حقائق الإيمان، وتذكير المسلمين بها، كما قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) [الذاريات: 55] وكما قال تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] . فمن كان من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يساهم في الدعوة إلى الله، كما قال عليه الصلاة والسلام" بلّغوا عني ولو آية" «1» . فعلى الأب أن يبلغ أبناءه. وعلى الولد أن يبلغ أهله. وعلى الأستاذ أن يبلغ طلابه. وعلى الشيخ أن يبلغ رواده. وعلى القائد أن يبلغ جنده. وعلى الزعيم أن يبلغ أتباعه. وعلى المسلمين أن يبلغ بعضهم بعضا، وعليهم أن يبلغوا سائر الأمم. فإذا علم الناس بينات الرسول ومعجزاته، علموا أنه الرسول الصادق، فاتبعوه، وسلكوا طريق الفلاح في الدنيا والآخرة. وننادي أصحاب المال أن يبذلوا من أموالهم. وأن يساهم أصحاب الجاه بجاههم.   (1) أخرجه البخاري وأحمد في مسنده، والترمذي من حديث ابن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وأصحاب العلم بعلمهم. وأصحاب الجهد بجهدهم. وأن تتشابك أيديهم بالتعاون لنشر حقائق الإيمان الذي جعله الله أفضل الأعمال كما قال سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) [التوبة: 19] . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين تأليف فضيلة الشّيخ عبد المجيد الزندانيّ غفر الله له ولوالديه ولسائر المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الفصل الأول وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ البشارات في الكتب السابقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الفصل الأول البشارات تمهيد: شاء الله سبحانه أن ينقذ البشرية في الحقبة الأخيرة من تاريخها- على حين فترة من الرسل- برسالة خاتمة لجميع الرسالات السابقة صالحة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، فاختار سبحانه لهذه المهمّة عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي، وأهله لحمل هذه الرسالة، وجعل له قبل مجيئه وظهوره إلى الدنيا مقدمات وبشارات تنبئ وتبشر بظهوره، وأخذ الله سبحانه الميثاق على جميع الأنبياء بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم، قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) [آل عمران: 81] . قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدّق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم- فيما بلغهم رسلهم- أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه وينصروه «1» . وأشار- سبحانه- إلى القرآن العظيم في كتب الأنبياء السابقين كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) [الشعراء: 196] أي: أن ذكر هذا القرآن موجود ومنوّه به في كتب الأنبياء السابقين، وهذا الكتاب هو الرسالة التي حملها النبي الخاتم إلى البشرية.   (1) أخرجه الطبري بسند حسن كما في التفسير الصحيح 1/ 430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ومن ثمّ تناقلت أمم الأرض عن طريق الأحبار والرهبان والكهان خبر النبي الخاتم الذي بشّرت به النبوات السابقة، ولما انقطعت الرسالة بعد عيسى عليه السّلام فترة من الزمن «1» ، زاد تلهف أمم الأرض إلى النّبيّ الخاتم، وكان عيسى عليه السّلام هو آخر من بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء كما قال تعالى عنه في خطابه لبني إسرائيل: يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] وبدأ أهل الكتب وغيرهم كالهندوس والمجوس يتوقعون قرب ظهوره بناء على ما يجدونه في كتبهم وأخبار أنبيائهم من الوعد بمقدمه والإخبار بزمان ظهوره ومكانه. وقد سجّل التاريخ في هذه الفترة مقدمات وحوادث تدل على قرب مقدمه وظهوره صلى الله عليه وسلم، منها ما كان قبل مولده، ومنها ما كان عند مولده، ومنها ما كان قبل بعثته. فأمّا ما كان قبل مولده فمنه تناقل الأحبار والرهبان لذكر النبي الخاتم، بل كان اليهود في بلاد العرب عندما يقاتلون قبيلة من العرب يخوفونهم بقرب مبعث نبي يقاتلونهم معه فكانوا يقولون سيبعث نبي آخر الزمان نقتلكم به قتل عاد وإرم وكانوا يدعون بين يدي قتالهم مع العرب بقولهم: " اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان". فلما ظهر النّبيّ من غير بني إسرائيل كفروا به كما قال تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) [البقرة: 89] . ومن الإرهاصات على قرب مقدم النّبيّ أن الراهب" عيصا" الذي ترك بلاد   (1) الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام تقدر بستمائة عام، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة: 19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الشام وقدم إلى قرب مكة أخبر أهل مكة أنه قد حان زمن النبي الذي تدين له العرب والعجم، والذي سيكون من أهل مكة «1» . وإنما كان أهل الكتاب يعرفون ذلك من كتبهم وأخبار أنبيائهم كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] . ومن الإرهاصات على مقدمه في عام ولادته أن الله سبحانه أهلك نصارى الحبشة القادمين من اليمن لهدم الكعبة المشرفة التي ستكون قبلة للرسول القادم وأمّته، مع أن قريشا كانت قد أعلنت تخليها عن البيت لعجزها عن الدفاع عنه، حيث قال عبد المطلب: للبيت رب يحميه ومعلوم أن هذا الإهلاك لم يكن لأجل المشركين، وإنما كان ذلك حماية لقبلة الرسول القادم وأمته. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) [الفيل: 1- 5] . ومن إرهاصات مقدمه إلهام الله لجدّه عبد المطلب أن يختار له الاسم الفريد بين قومه" محمد" والذي تطابق مع ما جاء في البشارات السابقة، دون علم من جده أو أحد من أهله بذلك. ومن ذلك خاتم النبوة الذي كان علامة مميزة على ظهره الشريف تدل على نبوته كما ذكر ذلك في الكتب السابقة «2» ، وقد روي أن أحد أحبار اليهود   (1) الخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 50، وقد أورد كثيرا من الأخبار عن إرهاصات مقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أحب الازدياد من ذلك فليرجع إليه. (2) أخبر أحد رهبان النصارى سلمان الفارسي رضي الله عنه أن من علامات النبي الخاتم أن على ظهره خاتم النبوة، وتعرف عليه بعد ذلك في المدينة النبوية بهذه العلامة كما أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أغمي عليه عندما رأى علامة خاتم النبوة على مولود في مكة من غير بني إسرائيل «1» ؛ لأنه وقومه اليهود كانوا يتمنون أن يكون من بني إسرائيل. ومن الإرهاصات في أول طفولته البركة التي حلت في بيت مرضعته حليمة السعدية حيث كانت أنعامهم تروح شباعا ممتلئة باللبن الكثير، بينما كانت تلك البلاد مجدبة والناس يشكون جوع الأنعام «2» . ومن الإرهاصات حادثة شق الصدر، وهو صغير أخبر أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه واستخرج القلب ثم شق القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه فأعاده مكانه وجعل الغلمان يسعون إلى أمه [أي مرضعته] فقالوا: إن محمدا قد قتل!! فجاؤه وهو منتقع اللون، قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره «3» . حفظه من الرذائل والمنكرات: مع أنه شاب عاش في بيئة جاهلية وبين جاهليين، لم يذكر عنه شيء من الرذائل، ولو عرف شيء من ذلك لعيب به، لا سيما مع حرصهم الشديد على إلصاق التهم- الكاذبة- به بعد نبوته. ومع ذلك عاش محفوظا من الرذائل طوال عمره. وقد قال سبحانه: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) [المؤمنون: 69] . وقال- سبحانه- مرشدا رسوله أن يقول لهم: ... فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16] .   (1) الخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 49. (2) رواه ابن حبان والطبراني وقال الذهبي: هذا حديث جيد الإسناد. انظر صحيح السيرة النبوية ص 52. (3) أخرجه أحمد ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وفي خلال هذه الفترة عرف قومه صدقه ونزاهته وأمانته وكريم أخلاقه حتى عرف بينهم بالصادق الأمين، وأمّنوه على ودائعهم وأماناتهم واستمر ذلك منهم حتى أثناء خصومتهم له بعد النبوة، فهل يعقل ممن هذه صفاته أن يصدق الناس ويكذب على الله، ويحفظ أمانات الناس ويخون أمانة الله؟. ومن الإرهاصات أن قريشا كانت تدعوه بالأمين. تسميته صلى الله عليه وسلم بالأمين: فقد اختصمت قريش من يرفع الحجر الأسود عندما أعادوا بناء الكعبة، فحكّموا بينهم أول داخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد جاء الأمين" «1» . ومن حفظ الله له أنه هم أن يستمع للغناء في سمر مع أهل مكة في ليلتين فعصمه الله منهما، بأن ألقى عليه النوم حتى أصبح «2» . ومن مقدمات بعثته أن حجرا كان يسلّم عليه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن» «3» . ومن مقدمات بعثته الرؤيا الصالحة (الصادقة) وتحبيب التعبد إليه: قالت عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه" وهو التعبد" الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق (الوحي) ،   (1) رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. انظر صحيح السيرة النبوية ص 64. (2) رواه ابن إسحاق، وإسحاق بن راهوية والبزار وابن حبان، قال الحافظ: وإسناده حسن متصل انظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد بن يوسف الصالحي 2/ 148 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (3) أخرجه مسلم وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وهو في غار حراء «1» . الذين أسلموا بسبب البشارات: وأما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فقد شاهدنا سرعة إقبال أهل المدينة على الإسلام يحثهم على ذلك ما كانوا يسمعونه من اليهود عن مقدمه، وما كانوا يستفتحون به على أعدائهم كما بينا، بينما كان أهل مكة يصدون عنه ويحاربونه. وكان عبد الله بن سلام ممن أسلم أيضا على هذه البشارات وهو أعلم أحبار اليهود القاطنين في المدينة المنورة باعتراف اليهود أنفسهم، وهو ممن قال الله تعالى فيه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) [الأحقاف: 10] ، وكان عبد الله بن سلام قد بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو أمه؟، قال: أخبرني به جبريل آنفا. فقال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد» ، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فاسألهم عنى قبل أن يعلموا باسلامي. فجاءت اليهود؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا مثل   (1) البخاري ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا يحيى بن بكير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه. قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله «1» . وكان زيد بن سعنة ممن أسلم على هذه البشارات أيضا، وهو من علماء اليهود حيث تعرف على صفات النبي صلى الله عليه وسلم، والتي منها أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما «2» .   (1) أخرجه البخاري ك/ مناقب الأنصار ب/ حدثني حامد بن عمر. (2) أخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل لما أراد هدى زيد بن سعنة قال زيد ابن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلما. قال زيد بن سعنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الحجرات- ومعه علي بن أبي طالب- فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدا. وقد أصابهم سنة وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله- أن يخرجوا من الإسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا؛ فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء يغيثهم به فعلت. فنظر إلى رجل إلى جنبه- أراه عليا- فقال: يا رسول الله ما بقي منه شيء. قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرا معلوما في حائط بني فلان إلى أجل معلوم، إلى أجل كذا وكذا. قال: " لا تسم حائط بني فلان" قلت: نعم، فبايعني، فأطلقت همياني فاعطيته ثمانين مثقالا من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاه الرجل وقال: " اعدل عليهم وأغثهم". قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته، فأخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت له: يا محمد، ألا تقضيني حقي؟ فوالله، ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مطلا، ولقد كان بمخالطتكم علم. ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟، فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى في سكون وتؤده فقال: " يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه. اذهب به يا عمر، فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته". قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر. فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟! قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك. قال: قلت: وتعرفني يا عمر؟! قال: لا قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت، وقلت له ما قلت؟! قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين، لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وممن أسلم على ذلك أيضا من اليهود كعب الأحبار بعد معرفته بتلك البشارات، وقد سأله عبد الله بن عباس كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة ويهاجر إلى طابة ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا صخاب بالأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون يحمدون الله في كل سراء وضراء ويكبرون الله على كل نجد، يوضؤون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويّهم في مساجدهم كدوي النحل، يستمع مناديهم في جو السماء" «1» . وكان ممن أسلم- أيضا- على هذه البشارات جماعة من أهل الكتاب من نصارى الحبشة، ذكرهم الله- سبحانه- بقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) [القصص: 52- 54] . وقد ورد في الروايات التاريخية أن وفدا من نصارى الحبشة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن الدين فأجابهم وعرفوا من أوصافه ما في كتبهم فأسلموا فكان ذلك مثار حنق وأذية المشركين لكن هذا الوفد أعرض عنهم كما قال تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) [القصص: 55] .   شدة الجهل عليه إلا حلما. وقد اختبرتهما، فأشهدك- يا عمر- أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وأشهدك أن شطر مالي- فإني أكثرها مالا- صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال عمر: أو على بعضهم فإنك لا تسعهم، قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وآمن به وصدقه وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة؛ ثم توفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر. رحم الله زيدا. قال الهيثمي 8/ 240: رواه الطبراني ورجاله ثقات؛ وروى ابن ماجه منه طرفا. (1) سنن الدارمي ج 1/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكان ممن أسلم على البشارات في الكتب السابقة سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي لقي أحد رهبان النصارى فذكر له علامات النبي المنتظر، وصفة المدينة ذات النخل التي سيهاجر إليها النبي وهيأ الله لسلمان الفارسي أسبابا ساقته إلى المدينة المنورة فانطبقت عليها أوصاف المدينة التي ذكرها له الراهب فمكث فيها حتى جاءها النبي مهاجرا فتعرف على صفاته التي ذكرت له وأسلم بعد أن رأى التطابق بين الوصف والحقيقة. وكان ممن صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ورقة بن نوفل القرشي الذي كان على الديانة النصرانية، فعند ما قصّ له النبي صلى الله عليه وسلم ما جاءه من الوحي بواسطة الملك جبريل قال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ... ، ثم تمنى أن يطول به العمر لنصر النبي صلى الله عليه وسلم حين يعاديه الناس «1» . وكان ممن صدق النبي صلى الله عليه وسلم من النصارى ملك الحبشة، حيث سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة دين الإسلام المطابق لما جاء به عيسى عليه السّلام «2» ، ولذلك دخل في الإسلام، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين وفاته. وممن أسلم من النصارى أيضا عديّ بن حاتم الطائي عندما سمع نقد بعض الأمور في ديانته من النبي صلى الله عليه وسلم «3» . وممن أقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يدخل في الإسلام هرقل ملك النصارى الروم الذي قال لأبي سفيان بن حرب (بعد أن سأله عن أحوال وصفات محمد صلى الله عليه وسلم) : قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه   (1) البخاري ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا يحيى بن بكير. (2) انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/ 374 دار إحياء التراث العربي. (3) فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت بلى. قال: أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك قال: قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل. انظر السيرة النبوية لابن كثير 4/ 123 دار إحياء التراث العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه «1» . ومثله المقوقس عظيم القبط في مصر الذي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وأهدى له أيضا بغلة يركبها. وكذلك دخل في الإسلام على أساس هذه البشارات عدد كبير من الأحبار والرهبان وغيرهم من أهل الديانات عبر التاريخ وإلى يومنا هذا. ومما يؤسف له أن تلك البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم قد تعرضت للتحريف والاخفاء من قبل بعض علماء اليهودية والنصرانية عبر التاريخ، وما زالت تلك التغيرات تطرأ على الكتب إلى يومنا هذا. ويوجد كثير من البشارات التي تعرضت للإخفاء والتحريف في النسخ التي كان يحتج بها علماء المسلمين عبر التاريخ على اليهود والنصارى، كما كان يحتج بها من أسلم منهم على قومه، كما سيأتي بيانه. وبالرغم من هذا التحريف فقد أبقى الله في هذه الكتب من نور البشارات بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم ما يقيم الحجة في عصرنا على أهل هذه الكتب، ويثبت إيمان المؤمنين، فهيا لنرى ماذا بقي من نور هذه البشارات التي اشتملت عليها الكتب السابقة الموجودة الآن بين يدي أتباعها، وما قالته هذه البشارات عن النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم.   (1) أخرجه البخاري في صحيحه ك/ بدء الوحي ب/ حدثنا أبو اليمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 النبيّ الأمّي 290: 210 And the booK is delivered to him that is not learned, saying, Read this, Ipray thee:and he saith, I am not learned. " ويدفع الكتاب للأمي ويقال له: اقرأ هذا أرجوك فيقول: أنا أمي" أي لست بقارئ سفر أشعيا: الإصحاح 29 الفقرة 12 لقد أشار القرآن الكريم إلى أمّية الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها مذكورة عند أهل التوراة والإنجيل. قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] . إن أمية النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية بدء الوحي إليه لأول مرة موجود عند أهل الكتاب إلى يومنا هذا. فقد جاء في سفر أشعيا: " ويدفع الكتاب للأمي ويقال له: اقرأ هذا أرجوك فيقول: أنا أمي" «1» أي لست بقارئ. [أ] وهذا ترجمة للنص الذي ورد في نسخة الملك جيمس للكتاب المقدس المعتمدة عند النصارى وهي أوثق النسخ للتوراة والإنجيل عندهم «2» .   (1) الإصحاح 29 الفقرة 12. (2) تجد في نهاية المبحث النصوص التوراتية والإنجيلية وغيرها المقتبسة مصورة من مراجعها المشار إليها، ومتسلسلة حسب ورودها في المبحث ومعلمة بالحروف العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 21 IF you give it to someone who cant read and ask him to read it to you, he will answer that he doesntnknow how. " إذا تعطيه إلى شخص لا يستطيع القراءة وتطلب إليه أن يقرأه عليك سيجيب بأنه لا يعرف كيف". Good News Bible وفي النسخة المسماة) Good News Bible ورد ما ترجمته كالآتي: " إذا تعطيه إلى شخص لا يستطيع القراءة وتطلب إليه أن يقرأه عليك سيجيب بأنه لا يعرف كيف". [ب] " أو"" ت يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة"" أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له: اقرأ هذا فيقول: لا أعرف الكتابة"" الكتاب المقدس"/ دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط وبينما نجد هذا النص الواضح في الطبعات الإنجليزية نرى أن القسس العرب قد حرفوا هذا النص في نسخته العربية فجعلوا العبارة كالآتي: " أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له: اقرأ هذا فيقول: لا أعرف الكتابة" «1» . [ت]   (1) النصوص العربية كلها مقتبسة من" الكتاب المقدس"/ دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فانظر كيف حرّفوا النص! فالسائل يطلب القراءة والنبي ينفي عن نفسه معرفة الكتابة! وهذا التحريف مقصود لئلا تتطابق الحادثة المذكورة في النص السابق مع قصة نزول جبريل عليه السّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومطالبته له بالقراءة فنفى النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه القدرة على القراءة. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع في مرسل عبيد بن عمير عند ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل بنمط من ديباج فيه كتاب، قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ» «1» . وكم من الزمن قد مر بعد عيسى عليه السّلام، وما نزل وحي على نبي أمّي إلا على النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدون أميته مكتوبة عندهم حتى يومنا هذا.   (1) فتح الباري ك/ التفسير ب/ تفسير سورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 اسم النبي صلى الله عليه وسلم ث حكوممتكيم فكلو محمديم زيه دودي فزيه ريعي. التوراة: نشيد الأنشاد: الاصحاح الخامس: الفقرة 16: " كلامه أحلى الكلام إنه محمد العظيم هذا حبيبي وهذا خليلي" [1] لا تزال نسخ التوراة باللغة العبرية تحمل اسم محمد جليّا واضحا إلى يومنا هذا. ففي نشيد الأنشاد من التوراة في الاصحاح الخامس الفقرة السادسة عشر وردت هذه الكلمات: حكوممتكيم فكلّو محمديم زيه دودي فزيه ريعي. [ث] . ومعنى هذا: " كلامه أحلى الكلام إنه محمد العظيم هذا حبيبي وهذا خليلي". فاللفظ العبري يذكر اسم محمد جليّا واضحا ويلحقه ب (يم) التي تستعمل في العبرية للتعظيم. واسم محمد مذكور أيضا في المعجم المفهرس للتوراة «1» [ث] عند بيانه هذا اللفظ المتعلق بالنص السابق" محمديم" «2» .   (1) The New Strong Exhaustive Concordance of th Bible, James, LL.D.S.T.D.Thom as Nelson Publishers, Nashville, USA, 1984, P.64) Hebrew Dictionary (. (2) لغة الإنجليزية يكتبونه كما يلي Machmad.: ولافتقار اللغة الإنجليزية للحرف" ح" فإنهم يعبرون عنه بالحرفين "Ch "ويجعلونه أقرب إلى حرف الخاء كما ورد ذلك في المعجم المفهرس المذكور بأن هذا الحرف المكون من "Ch "أقرب ما يكون للخاء الألمانية، أي أن استعمال "Ch "جاء بدلا عن حرف الحاء، فيكون الاسم هو محمد، اسم النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ج 61 His mouth is most sweel:yea.he is al.together lovely.This is my beloved.and this is my friend. " كلامه أحلى الكلام هو المتصف بالصفات الحميدة هذا حبيبي وهذا خليلي" لكن يد التحريف عند اليهود والنصارى تأبى التسليم بأن لفظ" محمد" هو اسم النبي وتصر على أنه صفة للنبي وليس اسما له؛ فيقولون إن معنى لفظ" محمديم" هو" المتصف بالصفات الحميدة" كما جاء في نسخة الملك جيمس المعتمدة عند النصارى. [ج] . ح 61 His speech is most sweet. and he is altogehther desirable.This is my beloved and this is my friend. " كلامه أحلى الكلام إنه صاحب الصفات الحميدة هذا حبيبي وهذا خليلي" النسخة القياسية المنقحة وعليه فيكون المعنى لهذه الإشارة عندهم" كلامه أحلى الكلام «1» إنه صاحب الصفات الحميدة". [ح]   (1) كما جاء في النسخة القياسية المنقحة. Revised Standard Version of the Bible, The Inernational Council of Churches of Christ in the United Sates, 1971. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فمن هو، يا أهل الكتاب، غير" محمديم" محمد العظيم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كلامه أحسن الكلام وهو المحمود في صفاته كلها، وهو حبيب الله وخليله كما جاء ذلك في نفس النشيد عقب ذكر اسمه. " هذا هو حبيبي وهذا هو خليلي". [ج، ح] لكنّي أقول خ لكم الحقّ إنّه خير لكم أنّ أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا ياتيكم المغربى. لكني أقول لكم إنه من الخير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي (الفارقليط) " إنجيل يوحنا: الإصحاح: 16 الفقرة: 7 [2] وأما ما جاء عن اسمه عند النصارى، فقد ورد في عدة أماكن، منها ما جاء في إنجيل يوحنا «1» في قول عيسى عليه السّلام وهو يخاطب أصحابه: " لكني أقول لكم إنه من الخير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي (الفارقليط) . " [خ] وكلمة" المعزي" أصلها منقول عن الكلمة اليونانية (باراكلي طوس) المحرفة عن الكلمة (بيركلوطوس) التي تعني محمدا أو أحمد. " إن التفاوت بين اللفظين يسير جدّا، وإن الحروف اليونانية كانت متشابهة، وإن تصحيف" بيركلوطوس" إلى" باراكلي طوس" من الكاتب في بعض النسخ قريب من القياس، ثم رجح أهل التثليث هذه النسخة على النسخ الآخرى. " «2» .   (1) الإصحاح: 16، الفقرة: 7. (2) إظهار الحق لمؤلفه «رحمة الله بن خليل الهندي» ، ط الدار البيضاء ج 2 ص 280، وأشار إلى هذا التحريف مطران الموصل الذي أسلم، وسمى نفسه عبد الأحد، وهو عبد الأحد داود الآشوري، وذلك في كتابه: محمد في الكتاب المقدس ص 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 " وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله" إنجيل برنابا: الباب: 220 [3] وهناك إنجيل اسمه إنجيل" برنابا" استبعدته الكنيسة في عهدها القديم عام 492 م بأمر من البابا جلاسيوس، وحرّمت قراءته وصودر من كل مكان، لكن مكتبة البابا كانت تحتوي على هذا الكتاب. وشاء الله أن يظهر هذا الإنجيل على يد راهب لاتيني اسمه" فرامرينو" الذي عثر على رسائل" الإبريانوس" وفيها ذكر إنجيل برنابا يستشهد به، فدفعه حب الاستطلاع إلى البحث عن إنجيل برنابا وتوصل إلى مبتغاه عندما صار أحد المقربين إلى البابا" سكتش الخامس. " فوجد في هذا الإنجيل أنه سيزعم أن عيسى هو ابن الله وسيبقى ذلك إلى أن يأتي محمد رسول الله فيصحح هذا الخطأ. يقول إنجيل برنابا في الباب" 220": " وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله. " وقد أسلم «فرامرينو» وعمل على نشر هذا الإنجيل الذي حاربته الكنيسة بين الناس «1» . " إني جعلت اسمك محمدا، يا محمد يا قدوس الرب، اسمك موجود من الأبد" سفر أشعيا [4] هذا وقد كان اسم النبي صلى الله عليه وسلم موجودا بجلاء في كتب اليهود والنصارى عبر التاريخ، وكان علماء المسلمين يحاجون الأحبار والرهبان بما هو   (1) «خليل سعادة» في مقدمته لترجمته لإنجيل برنابا إلى اللغة العربية، وقد نقل قصة فرامرينو مما هو مدون في مقدمة النسخة الإسبانية كما رواها المستشرق سايل، في مقدمة له لترجمة القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 موجود من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ومن ذلك: جاء في سفر أشعيا: " إني جعلت اسمك محمدا، يا محمد يا قدوس الرب، اسمك موجود من الأبد" ذكر هذه الفقرة علي بن ربّن الطبري (الذي كان نصرانيا فهداه الله للإسلام) في كتابه: الدين والدولة، وقد توفي عام 247 هـ «1» . " سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد" سفر أشعيا وجاء في سفر أشعيا أيضا: " سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد" «2» . " إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبل فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده" سفر حبقوق وجاء في سفر حبقوق: " إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبل فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده" ذكره علي بن ربن الطبري في كتابه   (1) وذكرها صالح بن حسين الهاشمي المتوفى عام 668 هـ في كتابه: تخجيل من حرف التوراة والإنجيل، وذكرها القرافي المتوفى عام 682 هـ في كتابه: الأجوبة الفاخرة، وذكرها ابن تيمية المتوفى عام 728 هـ في كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح؛ وذكرها ابن قيم الجوزية المتوفي عام 751 هـ في كتابه: هداية الحيارى من اليهود والنصارى. (2) ذكره الأئمة: صالح الهاشمي والقرافي وابن تيمية وابن القيم في كتبهم السابق ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الدين والدولة «1» ، وذكره إبراهيم خليل أحمد، الذي كان قسا نصرانيا فاسلم في عصرنا ونشر العبارة السابقة في كتاب له عام 1409 هـ. " وما أعطيه لا أعطيه لغيره، أحمد يحمد الله حمدا حديثا، يأتي من أفضل الأرض، فتفرح به البرّية وسكانها، ويوحدون الله على كل شرف، ويعظمونه على كل رابية" سفر أشعيا وجاء في سفر أشعيا أيضا: " وما أعطيه لا أعطيه لغيره، أحمد يحمد الله حمدا حديثا، يأتي من أفضل الأرض، فتفرح به البرّية وسكانها، ويوحدون الله على كل شرف، ويعظمونه على كل رابية" «2» . وذكره عبد الله الترجمان الذي كان اسمه: انسلم تورميدا، وكان قسّا من أسبانيا فأسلم وتوفي عام 832 هـ. ولقد روى جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ لي أسماء، أنا محمّد وأنا أحمد وأنا الماحي الّذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدمي، وأنا العاقب» «3» .   (1) وذكره علي بن محمد الماوردي المتوفى عام 450 هـ في كتابه: أعلام النبوة، وأبو عبيده الخزرجي المتوفى عام 582 هـ في كتابه: مقامع هامات الصلبان ومراتع روضات الإيمان؛ وذكره القرطبي المتوفى عام 671 هـ في كتابه الإعلام؛ وكذلك ذكره الهاشمي والقرافي وابن تيمية وابن القيم في كتبهم التي سبق ذكرها. (2) ذكره الأئمة: الخزرجي والهاشمي والقرطبي والقرافي وابن تيمية وابن القيم في كتبهم التي سبق ذكرها. (3) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم ك/ الفضائل ب/ في أسمائه صلى الله عليه وسلم، والترمذي ك/ الأدب ب/ ما جاء في أسماء النبي، والنسائي في السنن الكبرى 6/ 489 وأحمد في المسند 4/ 80 وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) [الصف: 6] . " المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد" ويقول مطران الموصل السابق الذي هداه الله للإسلام، وهو البروفيسور عبد الأحد داود الآشوري (في كتابه: محمد في الكتاب المقدس) «1» : " إن العبارة الشائعة عند النصارى: " المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" لم تكن هكذا، بل كانت: " المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد" د" أحمد تلقى الشريعة من ربه وهي مملوءة بالحكمة وقد قبست من النور كما يقبس من الشمس".. كتاب السامافيدا: الجزء الثاني: الفقرة 6، 8 [5] ولقد جاء ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المقدّسة عند الهندوس فقد جاء في كتاب" السامافيدا" «2» ما نصه: " أحمد تلقى الشريعة من ربه وهي مملوءة بالحكمة وقد قبست من النور كما يقبس من الشمس".. [د]   (1) فصل: الإسلام والأحمديات التي أعلنتها الملائكة ص 145- 154. (2) في الفقرتين 6 و 8 من الجزء الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ذ" أيها الناس اسمعوا وعوا يبعث المحمد بين أظهر الناس ... وعظمته تحمد حتى في الجنة ويجعلها خاضعة له وهو المحامد" أدرهروويدم: الجزء العشرين: الفصل 127، الفقرة 1- 3 [6] وجاء في كتاب أدروافيدم (أدهروويدم) وهو كتاب مقدس عند الهندوس «1» " أيها الناس اسمعوا وعوا يبعث المحمد بين أظهر الناس ... وعظمته تحمد حتى في الجنة ويجعلها خاضعة له وهو المحامد" «2» . [ذ] ر" في ذلك الحين يبعث أجنبي مع أصحابه باسم محامد الملقب بأستاذ العالم، والملك يطهره بالخمس المطهرات" بفوشيا برانم" بهوشى بهوشى برانم الجزء 3، الفصل 3، العبارة 5 وما بعدها   (1) الجزء العشرين، الفصل 127، الفقرة 1- 3. (2) محامد: محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 [7] وجاء في كتاب هندوسي آخر هو بفوشيا برانم" بهوشى بهوشى برانم" «1» : " في ذلك الحين يبعث أجنبي مع أصحابه باسم محامد الملقب بأستاذ العالم «2» ، والملك يطهره بالخمس المطهرات". [ر] وفي قوله الخمس المطهرات إشارة إلى الصلوات الخمس التي يتطهر بها المسلم من ذنوبه كل يوم «3» .   (1) الجزء 3، الفصل 3، العبارة 5 وما بعدها. (2) أستاذ العالم أي رسول للعالم. (3) مأخوذ من كتاب التيارات الخفية في الديانات الهندية القديمة لمؤلفه" تى محمد". أما النصوص الفارسية والهندية في نهاية هذا المبحث فمأخوذة من كتاب: Muhammad in Parsi, Hindoo and Buddhist Scriptures, A.H.Vidyarthi and U.Ali. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 نسبه (صلى الله عليه وسلم) ز" وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. اثنى عشر رئيسا يلد، واجعله أمة كبيرة" التوراة سفر التكوين: الإصحاح 17 العبارات: 19- 21 لقد دعا سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام الله وهما بمكة أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة له، وأن يبعث فيهم رسولا منهم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى دعاءهما في قوله تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة: 128- 129] . [1] وقد جاء في التوراة ذكر للوعد الإلهي لإبراهيم أن يجعل من ذرية إسماعيل أمة هداية عظيمة، فقد ورد في سفر التكوين «1» ما يأتي: " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثّره كثيرا جدا. اثنى عشر رئيسا يلد، واجعله أمة كبيرة. " [ز]   (1) الإصحاح 17 العبارات من 19- 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 س"" وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك" الإصحاح: 21 فقرة: 12 و 13 [2] وورد فيه أيضا: " وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك" «1» . [س] ولم تكن هناك أمة هداية من نسل إسماعيل إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي قال الله عنها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] . ش" قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبيا من وسط أخواتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه" الإصحاح: 18 الفقرة: 17 [3] وقد جاء في التوراة في سفر التثنية «2» على لسان موسى عليه السّلام: " قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبيا من وسط أخواتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه. " [ش]   (1) الإصحاح 21، فقرة 12 و 13. (2) الإصحاح 18، الفقرة 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 s will scnd them a prophct like you from among their own people: " من وسط إخوتهم" في النسخة الإنجليزية الحديثةGood News Bible والمقصود بإخوتهم أبناء إسماعيل عليه السّلام، لأنه أخو إسحاق عليه السّلام الذي ينسب إليه بنو إسرائيل، حيث هما ابنا إبراهيم الخليل عليه السّلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل ولو كانت البشارة تخص أحدا من بني إسرائيل لقالت: " منهم" «1» . ض" ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى" سفر التثنية: الإصحاح: 34 الفقرة: 10 فمحمد صلى الله عليه وسلم هو من وسط إخوتهم، وهو مثل موسى عليه السّلام نبي ورسول وصاحب شريعة جديدة، وحارب المشركين وتزوج وكان راعي غنم، ولا تنطبق هذه البشارة على يوشع كما يزعم اليهود لأن يوشع لم يوح إليه بكتاب، كما جاء في سفر التثنية:   (1) لقد تنبه المحرفون لهذا فبدلوا العبارة التي تعني" من وسط إخوتهم" في النسخة الإنجليزية الحديثة Good News Bible: إلى عبارة تعني «من بين قومهم» : [ص. (From among their own people) . [ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 " ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى. " «1» [ض] كما أن البشارة لا تنطبق على عيسى عليه السّلام كما يزعم النصارى، إذ لم يكن مثل موسى عليه السّلام من وجوه؛ فقد ولد من غير أب وتكلم في المهد ولم تكن له شريعة كما لموسى عليه السّلام، ولم يمت بل رفعه الله تعالى إليه. ط" قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب. الحجر الّذي رفضه البناؤن هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرّب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إنّ ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" الإصحاح: 21 الفقرة: 41- 42. [4] وفي إنجيل متّى «2» جاء ما يلي: " قال لهم يسوع «3» أما قرأتم قط في الكتب. الحجر الذي رفضه البناؤن هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره". [ط]   (1) الإصحاح 34، الفقرة 10. (2) الإصحاح 21، الفقرة 41- 42. (3) هو عيسى عليه السّلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وهذا معناه أن الرسالة تنتقل من بني إسرائيل إلى أمة أخرى، فيكون الرسول المبشر به من غير بني إسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مكان بعثته (صلى الله عليه وسلم) " وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرّيّة وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برّيّة فاران"" وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران" التوراة الإصحاح 21، الفقرات 21- 22 [1] تذكر التوراة المكان الذي نشأ فيه إسماعيل عليه السّلام، فقد جاء في سفر التكوين «1» : " وفتح الله عينيها «2» فأبصرت بئر ماء «3» فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام «4» وكان الله مع الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران" [ظ] . وقد أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أن إسماعيل عليه السّلام كان راميا، فقد مر على نفر من قبيلة أسلم يرمون بالسهام، فقال لهم: «ارموا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان راميا» «5» .   (1) الإصحاح 21، الفقرات 21- 22. (2) هاجر أم إسماعيل. (3) بئر زمزم. (4) إسماعيل عليه السّلام. (5) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ التحريض على الرمي، وابن ماجه في السنن ك/ الجهاد ب/ الرمي في سبيل الله، وأحمد في مسنده 1/ 364 و 4/ 50 وابن حبان في صحيحه 10/ 548 وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 " وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل 11 الددانيين. " هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكّان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه. 11 " فإنّهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس 10 ع المشدودة ومن أمام شدّة الحرب. فإنّه هكذا قال لي السّيّد في مدّة سنة كسنة 11 11 الأجير يفنى كل مجد قيدار وبقيّة عدد قسيّ أبطال بني قيدار تقل، لأنّ الرّبّ إله إسرائيل قد تكلّم" " وحي من جهة بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه. فإنهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة ومن أمام شدة الحرب. فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار وبقية عدد قسيّ أبطال بني قيدار تقل، لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم" سفر أشعياء: الإصحاح 21 الفقرة 12 [2] كما جاء في التوراة في سفر أشعيا «1» : " وحي من جهة بلاد العرب" [ع] وهذا إعلان عن المكان والأمة التي سيخرج منها الرسول حاملا الوحي من الله إلى الناس.   (1) الإصحاح 21، الفقرة 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 " غتوا للرّبّ أغنية جديدة، تسبيحه من أقصى الأرض، أيّها المنحدرون في البحر وملؤه، والجزائر وسكّانها، " لترفع البرّيّة ومدنها صوتها الدّيّار التي سكنها قيدار. لتترنّم سكان سالع 11 غ من رؤوس الجبال ليهتفوا" " غتوا للرب أغنية جديدة، تسبيحه من أقصى الأرض، أيها المنحدرون في البحر وملؤه، والجزائر وسكانها، لترفع البرّية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار. لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا" سفر أشعيا: الإصحاح: 42 الفقرة 10، 11 [3] ويأتي تحديد آخر للمكان الذي سترتفع فيه الدعوة الجديدة بشعاراتها الجديدة التي ترفع من رؤوس الجبال ويهتف بها الناس، فتقول التوراة في سفر أشعيا «1» : " غنوا للرب أغنية جديدة، تسبيحه من أقصى الأرض، أيها المنحدرون في البحر وملؤه، والجزائر وسكانها، لترفع البرّية ومدنها صوتها «2» الديار التي سكنها قيدار «3» . لتترنم سكان سالع «4» من رؤوس الجبال ليهتفوا «5» " [غ] والأغنية عندهم هي الهتاف بذكر الله الذي يرفع به الصوت من رؤوس الجبال، وهذا لا ينطق إلا على الأذان عند المسلمين، كما أن سكان سالع،   (1) الإصحاح 42 الفقرة 10- 11 (2) رفع الصوت بالأذان. (3) هو أحد أبناء إسماعيل عليه السلام كما تذكر ذلك التوراة في سفر التكوين إصحاح 25، فقرة 12- 13. (4) جبل سلع بالمدينة. (5) رفع الصوت بالأذان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 والديار التي سكنها قيدار هي أماكن في جزيرة العرب، وكل ذلك يدل على أن مكان الرسالة الجديدة والرسول المبشر به هو جزيرة العرب. ف جاء الرّبّ من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبل فاران "" جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبل فاران". التوراة: الإصحاح: 33 الفقرة 2 [4] وجاء في التوراة في سفر التثنية «1» : " جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ من جبل فاران". [ف] ويرى بعض شراح التوراة ممن أسلم أن هذه العبارة الموجودة في التوراة تشير إلى أماكن نزول الهدى الإلهي إلى الأرض. فمجيئه من سيناء: إعطاؤه التوراة لموسى عليه السّلام. وإشراقه من ساعير: إعطاؤه الإنجيل للمسيح عيسى عليه السّلام. وساعير: سلسلة جبال ممتدة في الجهة الشرقية من وادي عربة في فلسطين وهي الأرض التي عاش فيها عيسى عليه السّلام. وتلألؤه من جبل فاران: إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وفاران هو الاسم القديم لأرض مكة التي سكنها إسماعيل عليه السّلام.   (1) الإصحاح 33، الفقرة 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ق 5 How happy are those whose strength comes from you, who are eager to make the pilgrimage to Mount Zion. 6 As they Pass through the dry valley of Baca, it becomes a Place of springs; " ما أسعد أولئك الذين يتلقون قوتهم منك، الذين يتوقون لأداء الحج إلى جبل المجتمع الديني الذي خلص لعبادة الله وهم يمرون عبر وادي بكة الجاف فيصبح مكانا للينابيع" التوراة: المزمور: 84 الفقرة 6 [5] وجاء في التوراة أن داود عليه السّلام يترنم ببيت الله ويتمنى أن يكون فيه، ويعلل ذلك بمضاعفة الأجر هناك «1» . وتقول التوراة نقلا عنه «2» : " ما أسعد أولئك الذين يتلقون قوتهم منك، الذين يتوقون لأداء الحج إلى جبل المجتمع الديني الذي خلص لعبادة الله «3» وهم يمرون عبر وادي بكة الجاف فيصبح مكانا للينابيع" «4» . [ق]   (1) المزمور 84 الفقرة 1- 2- 3- 4 و 10. (2) المزمور 84 الفقرة 6. (3) هو بالنص الإنجليزي، Zion ومعنى:Zion المجتمع الديني الذي خلص لعبادة الله، أو المدينة الفاضلة كما جاء ذلك في قاموس Websters Seventh New Collegiate Dictionary: ذكر معاني أخرى لا تستقيم مع الموضع الجغرافي المذكور في النص. وعند الرجوع إلى أصل الكلمة العبري تبين أنها مقتبسة من جذر يعني: جفاف، صحراوي، أجرد (أرض أو مكان) جاف، مكان مقفر، برية. وهذا كله يشير إلى أن المكان المعبر عنه بكلمه ZION في النص الإنجليزي هو برية مكة الجرداء المقفرة الجافة، راجع كتاب The New Strong Exhaustive Concordance of the Bible, James Strong.LL.D.S.T.D. والمعجم العبري ص 99، فقرة رقم: 6723. انظر نهاية المبحث، الفقرة [م] . Good News Bible (4) ص 585. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 the valley of Bmake it a well ps 6: 48 BACA) ba cah ( (وادي بكة يصيرونه بئرا) المعجم سترونغ المفهرس الشامل للكتاب (المقدس) ص 95 وفي نسخة أخرى: " فيصيرونه بئرا «1» أو ينبوعا «2» ". ووادي بكة قد ورد ذكره في القرآن الكريم وأنه هو الذي فيه البيت الحرام قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) [آل عمران: 96- 97] . وقد ذكر الله جفاف هذا الوادي بقوله- سبحانه- وهو يذكر دعاء إبراهيم عليه السّلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. [إبراهيم: 37] . ومعلوم أن هذا الوادي الجاف قد جعل الله فيه بئر زمزم عند ما سكنت هاجر فيه مع ابنها إسماعيل عليه السّلام.   (1) «وادي بكه يصيرونه بئرا» ، المعجم سترونغ المفهرس الشامل للكتاب (المقدس) ص 95. [ك] . (2) الكتاب المقدس الذي تصدره جمعية الكتاب المقدس بالشرق الأدنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ل" عابرين في وادي البكاء" يصيرونا ينبوعا. " عابرين في وادي البكاء" وقد أخرج النصارى العرب بالنص على وادي بكة! فحرفوه كما في الكتاب المقدس عندهم في الطبعة العربية فقالوا: " عابرين في وادي البكاء" [ل] وحذفوا أيضا لفظ" الحجاج" الذي ورد في النص الإنجليزي المذكورة ترجمته سابقا. ولا توجد صلة بين وادي بكة والبكاء، وقد ورد اسم" بكة" في النص الإنجليزي مبتدئا بحرف كبير مما يدل على أنه علم غير قابل للترجمة) Baca (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 " إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام.." من كتاب" محمد في الأسفار العالمية" للأستاذ عبد الحق. [6] كما جاء في الكتب الزرادشتية «1» بشارات تشير إلى المكان الذي تظهر فيه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: " إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام.." «2» [ن] .   (1) يذهب بعض الباحثين إلى أن الزرادشتية هي المجوسية، وقيل بل المجوسية أسبق من الزرادشتية، وإنما زرادشت أظهر المجوسية وحددها في القرن الثالث الميلادي. قال النبي صلى الله عليه وسلم" سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 435 ومالك في الموطأ 1/ 278 ومن طريقه الشافعي في مسنده 1/ 209 ومن طريق الشافعي البيهقي في السنن الكبرى، وكذلك رواه الطبراني في المعجم الكبير 19/ 437 قال في مجمع الزوائد 6/ 13: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم، وقال في تلخيص الحبير: ورواه (يعني الحديث) ابن أبي عاصم في كتاب النكاح بسند حسن. انظر الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 2/ 1149. (2) من كتاب" محمد في الأسفار العالمية" للأستاذ عبد الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 صفاته (صلى الله عليه وسلم) من صفاته صلى الله عليه وسلم أنه أمي، وقد سبق بيانه. [1] كما وصف في سفر أشعيا «1» بأنه (راكب الجمل) وفي هذا إشارة إلى أنه من الصحراء وهكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم. [2] ووصف في المزامير «2» بأن: " ملوك شبا وسبأ يقدمون هدية" [هـ] ، وقد انتهى ملوك اليمن ولم يظهر نبي دان له ملوك اليمن إلا محمد صلى الله عليه وسلم. [3] ووصف فيها أيضا «3» بأنه" يصلّى عليه ويبارك عليه كل وقت" وهكذا شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون يباركون عليه كل يوم عدة مرات في صلاتهم. [4] ووصف فيها أيضا «4» بأنه" متقلد سيفا"، وفيها أيضا «5» مايلي: " وأنه يرمي بالنبل"   (1) الإصحاح: 21 الفقرة: 6. (2) في مزمور: 72 الفقرة: 10. (3) مزمور: 72 الفقرة: 15. (4) مزمور: 45 الفقرة: 3. (5) الفقرة: 5 من المزمور السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 " قال لهم يسوع أما قرأتم قطّ في الكتب. الحجر الذي رفضه البناؤن هو قد صار 11 ط رأس الزاوية. من قبل الرّب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم إن 11 ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمّة تعمل أثماره" " قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب. الحجر الّذي رفضه البناؤن هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" إنجيل متى: الإصحاح: 21 الفقرات: 41- 44 [1] وجاء في إنجيل متى «1» وصفه بأنه الحجر الذي أتم بناء النبوة، ففيه: " قال لهم يسوع «2» أما قرأتم قط في الكتب. الحجر الذي رفضه البناؤن هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" [ط] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة أمية، لم يكن لها شأن بين الأمم، وكان من العجيب أن يكون الرسول الذي يخرج منها هو رأس الزاوية في بناء النبوة. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلّا موضع لبنة من زاوية، فجعل النّاس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللّبنة؟ قال: فأنا اللّبنة وأنا خاتم النّبيّين» «3» . وتذكر هذه البشارة على لسان عيسى عليه السّلام أن صاحب هذا الوصف ليس   (1) الإصحاح: 21 الفقرات: 41- 44. (2) هو عيسى عليه السّلام. (3) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ خاتم النبيين، ومسلم ك/ الفضائل ب/ ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وابن حبان في صحيحه 14/ 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 من بني إسرائيل، وأن النبوة ستنزع من بني إسرائيل وتعطى لأمة أخرى" تعمل أثماره" أي تحقق ثماره، فكانت هذه الأمة التي كانت مزدراة في أعين الناس هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الأمة الجديدة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس. [6] وجاء في سفر أشعيا «1» : " وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين «2» . هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه. فإنهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة ومن أمام شدة الحرب. فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار وبقية عدد قسيّ أبطال بني قيدار تقلّ؛ لأنّ الرب إله إسرائيل قد تكلم". [ع] تفيد هذه البشارة أن الله أوحى إلى أشعيا: " لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم" بأن وحيا سيأتي من جهة بلاد العرب: " وحي من جهة بلاد العرب" وأن تلك الجهة من بلاد العرب هي الوعر التي تبيت فيها قوافل الددانيين، وددان قرب المدينة النبوية المنورة كما تدل على ذلك الخرائط الكنسية القديمة.   (1) الإصحاح 21 الفقرة 13- 17. (2) ددان: بلد أقرب من تيماء إلى المدينة النبوية المنورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 المرجع: الكتاب المقدس «عند أهل الكتاب» ، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ويأمر الوحي الذي تلقاه أشعيا أهل تيماء أن يقدموا الشراب والطعام لهارب يهرب من أمام السيوف، ومجيء الأمر بعد الإخبار عن الوحي الذي يكون من جهة بلاد العرب قرينة بأن الهارب هو صاحب ذلك الوحي الذي يأمر الله أهل تيماء بمناصرته: " هاتوا ماء لملاقاة العطشان. يا سكان أرض تيماء، وافوا الهارب بخبزه". وأرض تيماء منطقة من أعمال المدينة، وفيها يهود تيماء الذين انتقل معظمهم إلى يثرب. ويذكر المؤرخون (الإخباريون) العرب نقلا عن اليهود في الجزيرة العربية أن أول قدوم اليهود الى الحجاز كان في زمن موسى عليه السّلام عندما أرسلهم في حملة ضد العماليق في تيماء، وبعد قضائهم على العالميق وعودتهم إلى الشام بعد موت موسى منعوا من دخول الشام بحجة مخالفتهم لشريعة موسى لاستبقائهم ابنا لملك العماليق. فاضطروا للعودة إلى الحجاز والاستقرار في تيماء «1» ثم انتقل معظمهم إلى يثرب «2» . فأهل يثرب من اليهود هم من أهل تيماء المخاطبين في النص. وكان تاريخ مخاطبة اشعياء لاهل تيماء في هذا الاصحاح هو النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد. ويفيد الوحي إلى أشعيا أن الهارب هرب ومعه آخرون: " فإنهم من أمام السيوف قد هربوا". ثم يذكر الوحي الخراب الذي يحل بمجد قيدار بعد سنة من هذه الحادثة، مما يدل على أن الهروب كان منهم، وأن عقابهم كان بسبب تلك الحادثة:   (1) كان ذلك منذ اثني عشر قرنا قبل الميلاد. (2) الروض المعطار في خبر الأقطار، معجم جغرافي، محمد بن عبد المنعم الحميري، مكتبة لبنان، 1984 م ص 146- 147. وجاء مثل ذلك في: وفاء الوفاء بأخبار المصطفى، للسمهودي، دار احياء التراث العربي بيروت ج 1 ص 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 " فإنه هكذا قال لي السيد (الله) : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل" وتنطبق هذه البشارة على محمد صلى الله عليه وسلم وهجرته تمام الانطباق؛ فقد نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب، وفي الوعر من بلاد العرب، في مكة والمدينة. وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة من أرض بني قيدار «1» (قريش) الذين كانوا قد عينوا من كل بطن من بطونهم شابا جلدا ليجتمعوا لقتل محمد صلى الله عليه وسلم ليلة هجرته، فجاء الشباب ومعهم أسلحتهم فخرج الرسول مهاجرا (هاربا) ، فتعقبته قريش بسيوفها وقسيّها كما تذكر العبارة: " فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة". ثم عاقب الله قريشا (أبناء قيدار) بعد سنة ونيف من هجرته صلى الله عليه وسلم بما حدث في غزوة بدر من هزيمة نكراء أذهبت مجد قريش، وقتلت عددا من أبطالهم: " كما قال لي السيد (الله) : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل". وتؤكد العبارة أن هذا الإخبار وأن هذا التبشير بنزول الوحي في بلاد العرب وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما يجري له من هجرة ونصر هو بوحي من الله: " لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم" إن ما حملته هذه البشارة من معان لا بد أن يكون قد وقع؛ لأنه يقع في عصر آلة الحرب فيه السيف والنبل، وقد انتهى عصر الحرب بالسيف والنبل. * فهل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن؟!   (1) سبق البيان أن قيدار أحد أبناء إسماعيل الذي سكن برية فاران (مكة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 * وهل هناك نبي هاجر من مكة إلى المدينة واستقبله أهل تيماء غير محمد صلى الله عليه وسلم؟! * وهل هناك هزيمة لقريش بعد عام من الهجرة إلا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر؟! إن هذه البشارة تدل على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها إعلان إلهي عن مقدمه ينقلها أحد أنبياء بني إسرائيل (أشعيا) «1» ، وبقي هذا النص إلى يومنا هذا على الرغم من حرص كفرة أهل الكتاب على التحريف والتبديل. وانسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله 2 إلى الأبد تقلّد سيفك. "" انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد تقلد سيفك" المزمور: 45 الفقرة 3 [7] وجاء في صفته في المزامير «2» : " انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد تقلد سيفك" [و]   (1) عاش في النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد كما ورد في Good News Bible ص 665. (2) المزمور 45 الفقرة 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ي 1 هو ذا عبدي الّذي أعضده مختاري الّذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه 2 فيخرج الحقّ للأمم. لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشّارع صوته. "" هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم. لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته" الإصحاح: 42 الفقرة: 1 [8] وجاء في التوراة في سفر أشعيا «1» في وصفه: " هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم. لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته" [ي] وهذا يتطابق مع ما نقله الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو رضي الله عنه من التوراة التي قرأها في زمنه، فقد قال عطاء بن يسار له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للأمّيّين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكّل، ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب «2» في الأسواق، ولا يدفع بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتّى يقيم به الملّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله، ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صمّا وقلوبا غلفا) «3» .   (1) الإصحاح 42 الفقرة 1. (2) السخب ويقال فيه الصخب هو رفع الصوت بالخصام. (3) أخرجه البخاري ك/ البيوع ب/ كراهية السخب في الأسواق، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 45 وأحمد في المسند 2/ 678. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أ" لأنّي حينئذ أحوّل الشعوب إلى شفة نقيّة ليدعوا كلّهم باسم الرّبّ ليعبدوه بكتف واحدة. " لأني حينئذ أحول الشعوب إلى شفة نقية ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوه بكتف واحدة. سفر صفنيا: الإصحاح: 3 الفقرة: 9، 10 [9] وجاء في صفة الدين الذي يأتي به ما يأتي: أولا: الأذان للصلاة كما سبق بيانه. ثانيا: الصلاة كتفا إلى كتف: فقد جاء في التوراة في سفر صفنيا «1» ما يأتي: " لأني حينئذ أحول الشعوب إلى شفة نقية ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوه بكتف واحدة" [أ] وبالإسلام توحدت لغة العبادة لله، فيقرأ القرآن في الصلاة بلغة واحدة هي العربية، ويصفون كتفا إلى كتف. ب آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي 20 ينبغي أن يسجد فيه، قال لها يسوع يا امرأة صدّقيني أنّه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في 21 أورشليم تسجدون " آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال لها يسوع يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون" إنجيل يوحنا: الإصحاح 4 الفقرة 20- 21   (1) الإصحاح 3 الفقرة 9- 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ثالثا: تحويل القبلة: فقد جاء في إنجيل يوحنا «1» ما يأتي: إن امرأة سامرية تقول لعيسى عليه السّلام: " آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم «2» الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال لها يسوع «3» يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون" [ب] وهذا إعلان بأن القبلة ستتحول من بيت المقدس. ولا يكون ذلك إلا على يد رسول، كما حدث على يد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفقا لأمر الله القائل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] . ت 12" إنّ لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. 13 وأمّا متى جاء ذاك روح الحقّ فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ لأنّه لا يتكلّم من نفسه 14 بل كلّ ما يسمع يتكلّم به ويخبركم بأمور آتيه. " إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتيه" إنجيل يوحنا: الإصحاح 16 الفقرة 12- 13 رابعا: الهداية إلى جميع الدين الحق: فقد جاء في إنجيل يوحنا «4» ما يأتي: يقول عيسى عليه السّلام: " إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتيه" [ت]   (1) الإصحاح 4 الفقرة 20- 21. (2) هي القدس. (3) هو عيسى عليه السّلام. (4) الإصحاح 16 الفقرة 12- 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قال الله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] . وقال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) . [النجم: 3- 4] . ث" هم الذين يختتنون، ولا يربون القزع، ويربون اللحى، وهم مجاهدون وينادون الناس للدعاء بصوت عال، ويأكلون أكثر الحيوانات إلا الخنزير، ولا يستعملون الدرباء للتطهير بل الشهداء هم المتطهرون، ويسمون" بمسلي" بسبب أنهم يقاتلون من يلبس الحق بالباطل، ودينهم هذا يخرج منا وأنا الخالق" بفوشيا برانم: الجزء الثالث: الفصل: 3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 خامسا: ذكر بعض شعائر دينه صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة: فقد جاء في كتاب: بفوشيا برانم «1» وصف لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم: " هم الذين يختتنون، ولا يربون القزع، ويربون اللحى، وهم مجاهدون وينادون الناس للدعاء «2» بصوت عال، ويأكلون أكثر الحيوانات إلا الخنزير، ولا يستعملون الدرباء «3» للتطهير بل الشهداء هم المتطهرون، ويسمون" بمسلي" «4» بسبب أنهم يقاتلون من يلبس الحق بالباطل، ودينهم هذا يخرج منا وأنا الخالق". [ث] وجاء في كتاب" محمد في الأسفار العالمية" ما ترجمه الأستاذ عبد الحق من كتب الزرادشتية بشأن محمد وأصحابه" إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام، ويومئذ يصبحون هم أتباع النبي رحمة للعالمين، وسادة لفارس ومديان وطوس وبلخ «5» وإن نبيهم ليكونن فصيحا يتحدث بالمعجزات" «6» . [ن]   (1) الجزء 3- فصل 3، وهو من كتب الهندوس كما سبق ذلك. (2) ينادون للدعاء: أي ينادون للصلاة لأن الصلاة دعاء. (3) الدرباء نبات يخرج به الهنود الدم من جسم الإنسان ويعدون هذا العمل تطهيرا من الخطايا. (4) مسلي" أي يسمون بالمسلمين، دخل عليها شئ من التحريف. (5) وهي الأماكن المقدسة للزرادشتيين ومن جاورهم. (6) " محمد في الأسفار العالمية" ص 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أفلا يؤمنون وبعد هذه الأمثلة من البشارات التي أشرنا إليها، يتضح لنا أن الكتب المقدسة عند الأمم والشعوب قد أشارت إلى النبي الخاتم الذي يبعث وذلك قبل بعثته بقرون كثيرة. قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) [الشعراء: 196] . وقد تواترت هذه البشارات والأخبار المبشرة ببعثته صلى الله عليه وسلم بين شعوب الأرض جميعا، ذلك أن رسل الله عليهم السلام قد بشروا أقوامهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه البشارات في الكتب السابقة سببا في إسلام كثير من الناس. كما أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا ينتظرون مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما بعث آمن به من آمن من علمائهم وأحبارهم، كعبد الله بن سلام. قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) [الأحقاف: 10] . ومن أهل الكتاب من أعرض عن دين الله وعن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا من عند أنفسهم، وأصروا على عداوته وبغضه، فعمدوا إلى النصوص التي تبين صفاته، فحرفوها وبدلوها، وعملوا على إخفاء كثير من النصوص الصحيحة عن عامة الناس. قال تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام: 91] . وقال تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [النساء: 46] . وقال تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ. [المائدة: 13] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 واستمر تحريفهم وتبديلهم طوال العصور، وإلى يومنا هذا، ولكن بقيت إشارات واضحة إلى يومنا هذا في كتبهم آية بينة تصف محمدا صلى الله عليه وسلم، وتشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين. وقد وجدنا هذه الكتب تصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي، وتذكر اسمه، ونسبه ومكان بعثته وزمانها، وتصف كلامه وأخلاقه، والشريعة التي يأتي بها كما تصف هجرته وهزيمة أعدائه أمامه. ولم تنطبق هذه الصفات على أحد إلا على محمد صلى الله عليه وسلم. فهل آن الأوان لمن ضلوا عن الحق أن يتّبعوا الهدى، ويؤمنوا بدين الله، وبرسول الله والحق الذي نزل عليه؟! قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) [آل عمران: 110] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الفصل الثاني المعجزة العلمية في القرآن والسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 البينة العلمية في القرآن والسنّة [1] وصف الحاجز بين البحرين. [2] الناصية. [3] والجبال أوتادا. [4] فأخرجنا منه خضرا. [5] وأنزلنا الحديد. [6] أو كظلمات في بحر لجّي. [7] فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت. [8] آية اللبن «من بين فرث ودم» . [9] الحاجز بين النهر والبحر «المصب» . [10] معجزة وصف الجنين بعد الليلة الثانية والأربعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 البينة العلمية في القرآن مقدّمة لقد أرسل الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة على اختلاف عصورهم وثقافاتهم ومداركهم، وأيده ببينات متنوعة تتناسب مع جميع من أرسل إليهم إلى يوم القيامة، فمعجزة الفصاحة في كتاب الله أخضعت فصحاء العرب، ومعجزة البشارات أقامت الدليل لأهل الكتاب على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعجزات الخوارق أرغمت الكافرين المعاندين وأوضحت لهم حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الساطعة، ومعجزة الإخبار بالغيب تجلت ولا تزال تتجلى وتتحقق على مر القرون والعصور. فهيا لنرى بعض الأبحاث من معجزة وعد بها القرآن وتجلت في عصرنا وشاهد حقائقها أهل الاختصاصات الكونية العلمية الدقيقة في عصرنا، كعلم الفلك وعلوم الأرض والأرصاد والنبات والحيوان وعلوم الطب المختلفة وعلوم البحار وغيرها من العلوم الكونية، ليكون ذلك دليلا لكل عاقل في عصرنا أن هذا القرآن من عند الله، وأن العلامة الإلهية الشاهدة بأنه من الله هي العلم الذي تحمله الآيات وتجليه الاكتشافات العلمية الدقيقة بعد رحلة طويلة من البحث والدراسة، وباستخدام أدق الآلالات التي لم تصنع إلا في عصر الثورة الصناعية الحاضرة، ولقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الإعجاز ووعد بإظهاره في قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [فصلت: 53] . إن البينة (المعجزة) القرآنية الموجودة بين أيدينا والباقية بعدنا إلى ما شاء الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 تحمل الرسالة الإلهية إلى البشر، كما تحمل الدليل على صدق هذه الرسالة؛ فهي الشاهد والمشهود عليه كما قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ [هود: 17] «1» . والقرآن معجز بلفظه ومعناه، لأنه من عند الله، فألفاظه إلهية ومعانية وعلومه إلهية، وكل منها يدل على المصدر الذي جاء منه هذا القرآن. وهو بذلك أكبر دليل وشهادة بين أيدينا. قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] فهو رسالة ومعجزة لمن نزل عليهم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة. وقد جعل الله العلم الإلهي الذي تحمله آيات القرآن هو البينة الشاهدة على كون هذا القرآن من عند الله كما قال تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) [النساء: 166] أي أنزله وفيه علمه «2» . ففي هذه الآية بيان لطبيعة المعجزة العلمية، التي نزلت ردا على إنكار الكافرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي تبقى بين يدي الناس، وتتجدد مع كل فتح بشري في آفاق العلوم والمعارف ذات الصلة بمعاني الوحي الإلهي. قال الخازن عند تفسير هذه الآية: " لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة،   (1) معنى الآية: أفمن كان على بينة من ربه كمن ليس كذلك، والبينة البرهان الذي يدل على الحق، والمعنى ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن أو من الله عز وجل والشاهد هو الإعجاز الكائن في القرآن أو المعجزات النبوية. فتح القدير للشوكاني بتصرف وبنحوه قال الشنقيطي فيما نقله عنه تلميذه القادري في تفسير سورة هود، وفي الشاهد أقوال أخرى انظرها مجموعة في زاد المسير لابن الجوزي. (2) انظر سبب النزول: ابن الجوزي، الطبري، ابن كثير، تفسير الجلالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك" «1» . وقال ابن كثير- رحمه الله-: " فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم.. ولهذا قال: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ: أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضي والمستقبل" «2» . وقال أبو العباس ابن تيمية «3» : فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه «4» ، فما فيه من الخبر، هو خبر عن علم الله، ليس خبرا عمن دونه، وهذا كقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) [هود: 14] . وكل آية من كتاب الله تحمل علما إلهيا يعرفه البشر عند ارتقائهم بأسباب العلوم والمعارف في ذلك الميدان الذي تتحدث عنه الآية القرآنية. والقرآن مليء بالآيات التي تتحدث عن مظاهر الكون، وحديثه عن الكون هو حديث من يعلم أسراره ودقائقه، مع أن البشرية كلها في وقت النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تعلم معظم تلك الأسرار، وكان يغلب على تفكيرها الأسطورة والخرافة. لذلك رأينا الجراح الفرنسي العالمي الشهير الدكتور: موريس بوكاي يتقدم إلى البشرية بأطروحة قال فيها: لقد قامت الأدلة على أن القرآن الذي نقرأه اليوم،   (1) الخازن في مجموعة من التفاسير. (2) تفسير ابن كثير. (3) الفتاوى: 14/ 196. (4) وإلى هذا المعنى ذهب كثير من المفسرين: ابن الجوزي، الزمخشري، أبو حيان، الآلوسي، الشوكاني، البيضاوي، والنسفي، والخازن، الجلالان (جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 هو نفس القرآن الذي قرأه النبي محمد صلى الله عليه وسلم على الصحابة. وما دام أن القرآن قد أفاض في الحديث عن الكون وأسراره، فإننا نستطيع بهذه الحقيقة أن نعرف منها إذا كان القرآن من عند الله باختبار يعرفه كل عاقل في عصرنا. فإذا كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مملوء بالوصف لمظاهر الكون: الأرض، السماء، الجبال، البحار، الأنهار، الشمس، القمر، النبات، الحيوان، الإنسان، الرياح، الأمطار.. وغير ذلك، فإن حديثه عن هذه المظاهر الكونية سيعكس لنا علم محمد صلى الله عليه وسلم وثقافته عن المخلوقات وأسرارها، كما يعكس لنا علم مجتمعه وبيئته، وعلوم عصره في ذلك المجال، وهي علوم غلبت عليها السذاجة والخرافة والأسطورة، وسنجد القرآن عندئذ مملوآ بالخرافة والأسطورة والخبر الساذج عند حديثه عن الكون وأسراره، كما هو شأن كل الكتب التي دونت في تلك الأزمنة بما فيها الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى (التوراة والإنجيل) التي طرأ عليها التحريف، هذا إذا كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان القرآن من عند الله فسنراه في حديثه عن المخلوقات وأسرارها يسبق مقررات العلوم الحديثة، وسنرى الاكتشافات العلمية تلهث وراءه فتقرر ما فيه من حقائق وتؤكد ما فيه من مقررات في شتى المجالات. ولقد قضى الدكتور موريس بوكاي لتحقيق هذا الاختبار عشر سنوات يتعلم فيها القرآن واللغة العربية، ويقارن بين القرآن وبين الكشوف العلمية الحديثة، ثم ألف كتابا سمّاه: " دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة". وقد أثبت فيه سلامة القرآن من التحريف، ودخول التحريف على التوراة والإنجيل وأثبت تعارض التوراة والإنجيل مع العلوم الحديثة؛ كما أثبت سبق القرآن لهذه العلوم وبين أن هذا مما اشتمل عليه وعد الله القائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [فصلت: 53] . يقول د. بوكاي: " إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل بل هو يظهر أيضا- لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم- طابعه الخاص وهو التوافق مع المعطيات العلمية الحديثة. بل أكثر من ذلك، وكما أثبتنا، يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمد صلى الله عليه وسلم قد استطاع أن يؤلفها، وعلى هذا فالمعارف الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن «1» . فها هو ذا الحق يتبين كما وعد الله، وها هي ذي المعاني التفصيلية التي تضمنتها الآيات القرآنية عن الحقائق الكونية ترى وتتجلى فتعلم، كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) [ص: 87- 88] . قال الفراء «2» في تفسير الحين الذي ذكرته الآية أنه: " بعد الموت وقبله، أي لتظهر لكم حقيقة ما أقول [بعد حين] أي في المستأنف" «3» . وذهب السدي «4» الكبير إلى هذا المعنى «5» .   (1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة/ موريس بوكاي ص 285- 286/ دار المعارف 1977. (2) العلامة صاحب التصانيف أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسدي مولاهم الكوفي النحوي صاحب الكسائي، له كتاب" معاني القرآن" توفي عام 207 هـ. (3) تفسير القرطبي. (4) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الحجازي ثم الكوفي إمام مفسر من التابعين توفي عام 127 هـ. (5) تفسير أبي حيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وقال ابن جرير الطبري، بعد ذكر الأقوال المتعددة، في تفسير الحين الذي ذكرته الآية: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: أن الله أعلم المشركين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين، من غير حد منه لذلك الحين بحد، ولا حد عند العرب للحين لا يجاوزه ولا يقصر عنه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا قول فيه أصح من أن يطلق، كما أطلقه الله، من غير حصر ذلك على وقت دون وقت» «1» . لقد أظهر الله لعباده الكثير من آياته عبر القرون، وفي عصر الاكتشافات العلمية الهائلة، أظهر الله لعباده نوعا جديدا من البينات المعجزة تعارف العلماء على تسميته بالإعجاز العلمي في القرآن. يعرف به أهل عصرنا أن القرآن نزل بعلم الله الذي يعلم السر في السموات والأرض. ويسرنا أن نقدم للقارئ الكريم طرفا من هذه المعجزات والبينات العلمية: [1] وصف الحاجز بين البحرين: التحقيق العلمي: لقد توصل علماء البحار بعد تقدم العلوم في هذا العصر إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخا يفصل بين كل بحرين، ويتحرك بينهما ويسميه علماء البحار (الجبهة) تشبيها له بالجبهة التي تفصل بين جيشين. وبوجود هذا البرزخ يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسبا لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة. ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطا بطيئا، يجعل القدر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي   (1) تفسير الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياه العابرة من بحر إلى بحر؛ ليبقى كل بحر محافظا على خصائصه. تدرج العلم البشري لمعرفة حقائق اختلاف مياه البحار وما بينها من حواجز: * اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافا بين عينات مائية أخذت من البحار المختلفة في عام (1284 هـ- 1873 م) على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة (تشالنجر) ، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة، ومقادير الكثافة، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلة معلومات من 362 محطة مخصصة لدراسة خصائص المحيطات. وملأت تقارير الرحلة 500 ر 29 صفحة في خمسين مجلدا استغرق إكمالها 23 عاما. وإضافة إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضالة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر «1» . * بعد عام (1933 م) قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية، لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عددا كبيرا من هذه المحطات تعطي معلومات موحدة عن خصائص الماء في تلك المنطقة، من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، بينما أعطت بقية المحطات معلومات موحدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة (تشالنجر) .   (1) Introduction to Oceangraphy David A.Ross.2 nd ed.1977, USA, pp.37- 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 * وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الآخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية؟. ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام (1361 هـ 1942 م) . فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجز مائية تفصل بين البحار الملتقية، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة، والأحياء المائية، والحرارة، وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء. وبعد عام (1962 م) عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز. ويبين الشكل التالي حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والملحة، عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة والأقل ملوحة منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 FIG. 6. 71 Mediterronean Sea Water as it enters the Atontic over the Gibratar still Shaded portion repnesents Mediterronean water: temperd- tures are in C.) After PH. H. Kuenen. 3691. Realns. ofwaterNew York: Wilev. P. 76 (. الحاجز بين مياه البحر الأبيض المتوسط ومياه المحيط الأطلسي، ويظهر تميز مياه الحاجز «البرزخ» عن مياه البحرين من حيث درجة الملوحة والمبينة بالخطوط والأرقام والألوان. * وأخيرا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار الملحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسما واحدا، إلا أن هناك فروقا كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة، تظهر بألوان مختلفة تبعا لاختلافها في درجة الحرارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وفي دراسة ميدانية «1» للمقارنة بين مياه خليج عمان والخليج العربي بالأرقام والحسابات والتحليل الكيميائي، تبين اختلاف كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية والنباتات السائدة في كل منهما ووجود البرزخ الحاجز بينهما. خريطة أفقية للخليج العربي وقطاع رأسي يميز منطقة الحاجز بين الخليج العربي وخليج عمان، وذلك باختلاف درجة الملوحة في المناطق الثلاثة.   (1) للباحث محمد إبراهيم السمرة، الأستاذ بكلية العلوم- قسم علوم البحار- في جامعة قطر. قامت بالدراسة سفينة البحوث (مختبر البحار) التابعة لجامعة قطر في الخليج العربي وخليج عمان في الفترة (1404- 1406 هـ) (1984- 1986 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية، وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة، اشترك فيها المئات من الباحثين، واستخدم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة. بينما جلى القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرنا، قال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن: 19- 22] . وقال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً [النمل: 61] . المعاني اللغوية وأقوال المفسرين: مَرَجَ: قال ابن فارس: مَرَجَ: الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب، ومرج الخاتم في الإصبع: قلق، وقياس الباب كله منه ومرجت أمانات القوم وعهودهم: اضطربت واختلطت، وال مرج: أصله أرض ذات نبات تمرج فيها الدواب «1» . الْبَحْرَيْنِ: قال ابن فارس: الباء والحاء والراء، قال الخليل: سمي البحر بحرا لاستبحاره وهو انبساطه وسعته ... ويقال للماء إذا غلظ بعد عذوبته استبحر، وماء بحري أي مالح «2» . وقال الأصفهاني «3» : وقال بعضهم: البحر يقال في الأصل للماء المالح   (1) معجم المقاييس في اللغة: لابن فارس مادة مرج. (2) معجم المقاييس في اللغة، لسان العرب، المفردات للراغب الأصفهاني. (3) العلامة المحقق أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الأصبهاني الملقب بالراغب صاحب تصانيف مفيدة توفي عام 502 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 دون العذب «1» . وقال ابن منظور «2» : وقد غلب على المالح حتى قلّ في العذب «3» . فإذا أطلق البحر دل على البحر المالح، وإذا قيّد دل على ما قيّد به. والقرآن يستعمل لفظ الأنهار للدلالة على المياه العذبة الكثيرة الجارية. ويستعمل لفظ البحر ليدل على البحر المالح. قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ [إبراهيم: 32] . وكذلك يستعمل لفظ البحر في الحديث للدلالة على الماء الملح، فقد سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضّأنا به عطشنا أفنتوضّأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته» «4» . البرزخ: هو الحاجز: وقد ذهب أكثر المفسرين «5» إلى أنه لا يرى. البغي: قال ابن منظور: وأصل البغي مجاوزة الحد «6» ، وبمثله قال   (1) المفردات. (2) محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري، لغوي، عمر وكبر وحدث، له" لسان العرب" وهو من أوسع المعاجم في اللغة العربية توفى عام 711 هـ. (3) لسان العرب. (4) أخرجه أحمد في المسند 2/ 237 ورواه الترمذي في الطهارة ب/ ماء البحر أنه طهور، وابن الجارود في المنتقى 1/ 23، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 59، وابن حبان في صحيحه 4/ 49، والحاكم في المستدرك 1/ 237، وأبو داود في السنن ك/ الطهارة ب/ ماء البحر وابن ماجة ك/ الطهارة وسننها ب/ الوضوء بماء البحر، ومالك في الموطأ 1/ 22، وقال في تلخيص الحبير 1/ 9- 10 وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي، وقال (الحافظ ابن حجر) : إن ابن عبد البر حكم بصحته لتلقي العلماء له بالقبول، ونقل (الحافظ أيضا) عن ابن منده ترجيحه صحته، قال: وصححه أيضا ابن المنذر وأبو محمد البغوي. وكذلك ذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي. (5) منهم: ابن الجوزي، الزمخشري، وأبو حيان، والقاسمي، والخازن، والنسفي. (6) لسان العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الجوهري «1» والأصفهاني «2» . المرجان: قال ابن الجوزي «3» : وحكى القاضي أبو يعلي أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان وروي عن الزجّاج «4» قوله: المرجان أبيض شديد البياض «5» . وقال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر. ونقل أبو حيان «6» عن بعضهم أن المرجان هو الحجر الأحمر «7» . وقال القرطبي: وقيل المرجان عظام اللؤلؤ وكباره، قاله علي وابن عباس رضي الله عنهما واللؤلؤ صغاره، وعنهما أيضا بالعكس أن اللؤلؤ كبار اللؤلؤ والمرجان صغاره وقاله الضحاك وقتادة «8» . وقال الألوسي «9» : وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان، وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانيا فيهما «10» . أي   (1) الصحاح. والجوهري هو إمام اللغة أبو نصر إسماعيل بن حماد التركي صنف كتاب" الصحاح" وهو معجم في اللغة، توفي بنيسابور عام 393 هـ. (2) المفردات. (3) عبد الرحمن بن علي بن محمد القرشي التيمي البكري، محدث مؤرخ حافظ مفسر واعظ فقيه وله مؤلفات متعددة توفي ببغداد عام 597 هـ. (4) إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، نحوي لغوي مفسر، من كتبه" معاني القرآن" توفي عام 311 هـ. (5) زاد المسير. (6) محمد بن يوسف بن علي بن ابن حيان الغرناطي الجياني، نحوي مفسر له تاليف منها البحر المحيط في التفسير توفي بالقاهرة عام 745 هـ. (7) البحر المحيط. (8) الجامع لأحكام القرآن. (9) محمود بن عبد الله محمود الحسيني الألوسي مفسر محدث لغوي أشهر تاليفه" روح المعاني" في تفسير القرآن توفي ببغداد عام 1270 هـ. (10) روح المعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أن اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان اللؤلؤ الصغار. والحاصل أن المرجان نوع من الزينة يكون بألوان مختلفة بيضاء وحمراء، ويكون كبيرا وصغيرا، وهو حجر يكون كالقضبان، وقد يكون صغيرا كاللؤلؤ أو الخرز، وهو في الآية غير اللؤلؤ، وحرف العطف بينها يقتضي المغايرة. هذا والمرجان لا يوجد إلا في البحار الملحة. والآيات ترينا دقائق الأسرار التي كشف عنها اليوم علم البحار؛ فهي تصف اللقاء بين البحار الملحة ودليل ذلك ما يلي: أولا: لقد أطلقت الآية لفظ البحرين بدون قيد، فدل ذلك على أن البحرين ملحان. ثانيا: بينت الآيات في سورة الرحمن أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين ملحين، قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، أي يخرج من كل منهما. فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها رغم اتحادها في الأوصاف الظاهرة التي تدركها الأبصار والحواس؛ فكلها (ملحة، زرقاء، ذات أمواج، وفيها الأسماك وغيرها) وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها؟، والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست، فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر وأمواج وتيارات وأعاصير؟. والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين يختلف كل منهما عن الآخر، إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر لكانا بحرا واحدا، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلاف بينهما مع كونهما ملحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ومَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أي أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب في منطقة الالتقاء، كما تدل اللغة على ذلك بلفظ مرج، وهذا ما كشفه العلم من وصف لحال البرزخ الذي يكون متعرجا ومتنقلا في الفصول المختلفة بسبب المد والجزر والرياح. ومن يسمع هذه الآية فقط، يتصور أن امتزاجا واختلاطا كبيرا يحدث بين هذه البحار يفقدها خصائصها المميزة لها، ولكن العليم الخبير يقرر في الآية بعدها: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) أي ومع حالة الاختلاط والاضطراب هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزا يحجز بينهما يمنع كلّا منهما أن يطغى ويتجاوز حده. وهذا ما شاهده الإنسان بعد ما تقدم في علومه وأجهزته، فقد وجد ماء ثالثا حاجزا بين البحرين يختلف في خصائصه عن خصائص كل منهما. ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلط ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر بخصائصه؛ لأن البرزخ منطقة تقلب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر لتكتسب المياه المنتقلة بالتدريج صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاءت منه وبهذا لا يبغي بحر على بحر آخر بخصائصه، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء، وصدق الله القائل: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) [الرحمن: 19- 20] . ولقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الحاجز الذي يفصل بين البحرين المذكورين هو حاجز من قدرة الله لا يرى «1» . وقد أشكل على بعض المفسرين الجمع بين اختلاط مياه البحار مع وجود البرزخ؛ إذ أن وجود البرزخ (الحاجز) يقتضي منع الاختلاط، وذكر الاختلاط   (1) منهم: ابن الجوزي، الزمخشري، وأبو حيان، والقاسمي، والخازن، والنسفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 (مرج) يقتضي عدم وجود البرزخ، وقد زال الإشكال اليوم باكتشاف أسرار البحر على حقائقها. أوجه الإعجاز في الآيات السابقة: مما سبق يتبين: [1] أنّ القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من 1400 سنة قد تضمن معلومات دقيقة عن ظواهر بحرية لم تكتشف إلا حديثا بواسطة الأجهزة المتطورة، ومن هذه المعلومات وجود حواجز مائية بين البحار، قال تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) [الرحمن: 19- 20] . [2] يشهد التطور التاريخي في سير علوم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار وبخاصة قبل رحلة تشالنجر عام (1873 م) فضلا عن وقت نزول القرآن قبل ألف وأربعمائة سنة الذي نزل على نبيّ أمي عاش في بيئة صحراوية ولم يركب البحر. [3] كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولا مخيفا تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة، وما عرف الإنسان أن البحار الملحة بحار مختلفة إلا في الثلاثينات من هذا القرن، بعد أن أقام الدارسون آلاف المحطات البحرية لتحليل عينات من مياه البحار، وقاسوا في كل منها الفروق في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات فأدركوا بعدئذ أن البحار الملحة متنوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 [4] وما عرف الإنسان البرزخ الذي يفصل بين البحار الملحة، إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية المشار إليها، وبعد أن قضى وقتا طويلا في تتبع وجود هذه البرازخ المتعرجة المتحركة، التي تتغير في موقعها الجغرافي بتغير فصول العام. [5] وما عرف الإنسان أن مائي البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي، ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركة المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائية في تلك المناطق. [6] وما قرر الإنسان هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين في كل بحار الأرض. * فهل كان يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المحطات البحرية، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع حركة الكتل المائية المتنوعة؟. * وهل قام بعملية مسح شاملة، وهو الذي لم يركب البحر قط، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان وخاصة في ميدان البحار؟. * وهل تيسر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه من أبحاث وآلات ودراسات ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟. * إن هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمن وصفا لأدق الأسرار في زمن يستحيل على البشر فيه معرفتها ليدلّ على مصدره الإلهي، كما قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) . [الفرقان: 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 * كما يدل على أن الذي أنزل عليه الكتاب رسول يوحى إليه وصدق الله القائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) [فصلت: 53] . [2] الناصية: وصف القرآن الناصية بأنها كاذبة خاطئة كما قال تعالى: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) [العلق: 16] . والناصية لا تنطق فكيف يسند إليها الكذب؟ ولا تجترح الخطايا فكيف تسند إليها الخطيئة؟. لقد أزال البروفيسور محمد يوسف سكر «1» عني هذه الحيرة «2» عند ما كان يحدثني عن وظائف المخ فقال: إن وظيفة الجزء من المخ الذي يقع في ناصية الإنسان هي توجيه سلوك الإنسان فقلت له: وجدتها! قال: ماذا وجدت؟. قلت: وجدت تفسير قوله تعالى: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) . فقال: دعني أراجع كتبي ومراجعي. وبعد مراجعته لتلك الكتب والمراجع، أكد الأمر وقال: إن الإنسان إذا أراد أن يكذب فإن القرار يتخذ في الفص الجبهي للمخ الذي هو جبهة الإنسان وناصيته، وإذا أراد الخطيئة فإن القرار كذلك يتخذ في الناصية. ثم عرضت الموضوع على عدد من العلماء المتخصصين، منهم البرفسور كيث   (1) البرفسور محمد يوسف سكر: عميد الدراسات العليا بكلية الطب في جامعة الملك عبد العزيز بجدة في حينها وله كتاب باللغة الإنجليزية في وظائف الأعضاء يعد مرجعا في الكليات الأجنبية. (2) صاحبتني هذه الحيرة خمسة عشر عاما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 إل مور «1» الذي أكد أن الناصية هي المسئولة عن المقايسات العليا وتوجيه سلوك الإنسان، وما الجوارح إلا جنود تنفذ هذه القرارات التي تتخذ في الناصية؛ لذلك فالقانون في بعض الولايات الأمريكية «2» يجعل عقوبة كبار المجرمين الذي يرهقون أجهزة الشرطة هي استئصال الجزء الأمامي من المخ (الناصية) ؛ (لأنه مركز القيادة والتوجيه) ليصبح المجرم بعد ذلك كطفل وديع يستقبل الأوامر من أي شخص. وبدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة وجد أنها تتكون من أحد عظام الجمجمة المسمى العظم الجبهي «3» ، ويقوم هذا العظم بحماية أحد فصوص المخ والمسمى الفص الأمامي أو الفص الجبهي «4» ، وهو يحتوي على عدة مراكز عصبية تختلف فيما بينها من حيث الموقع والوظيفة. وتمثل القشرة الأمامية الجبهية الجزء الأكبر من الفص الجبهي للمخ، وترتبط وظيفة القشرة الأمامية الجبهية بتكوين شخصية الفرد، وتعتبر مركزا علويّا من مراكز التركيز والتفكير والذاكرة، وتؤدي دورا منتظما لعمق إحساس الفرد بالمشاعر، ولها تأثير في تحديد المبادأة والتمييز. وتقع القشرة مباشرة خلف الجبهة؛ أي أنها تختفي في عمق الناصية، وبذلك تكون القشرة الأمامية الجبهية هي الموجه لبعض تصرفات الإنسان التي تنم عن شخصيته، مثل الصدق والكذب والصواب والخطأ ... الخ، وهي التي تميز بين هذه الصفات وبعضها البعض وهي التي تحث الإنسان على المبادأة سواء بالخير أو بالشر «5» .   (1) كيث إل مور من كبار الأطباء في العالم، تدرس بعض كتبه في كليات الطب بعدة لغات وله مرجع كبير في تشريح المخ. وقد اشترك في تقديم عدة بحوث في الإعجاز الطبي في مؤتمرات الإعجاز العلمي العالمية. (2) كما أخبرني أحد علماء جراحة المخ الأمريكيين. Frontal Bone. (3) .Frontal Lobe (4) (5) كتاب" الناصية" إصدار هيئة الإعجاز العلمي بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 المناطق الوظيفية لنصف الكرة الأيسر للحاء المخي وتقع منطقة الناصية عند مقدمة اللحاء المخي وعندما قدم البرفسور كيث إل مور البحث المشترك بيني وبينه حول الإعجاز العلمي في الناصية، في مؤتمر دولي عقد في القاهرة «1» ، لم يكتف بالحديث عن وظيفة الفص الجبهي في المخ (الناصية) عند الإنسان، بل تطرق إلى بيان وظيفة الناصية في مخاخ الحيوانات المختلفة، وقدم صورا للفصوص الجبهية في عدد من الحيوانات قائلا: إن دراسة التشريح المقارن لمخاخ الإنسان والحيوان تدل على تشابه في وظيفة الناصية، فالناصية هي مركز القيادة والتوجيه عند الإنسان   (1) مؤتمر الإعجاز الطبي في القرآن والسنة في القاهرة عام (1985 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وكذلك عند كل الحيوانات ذوات المخ، فلفت قوله ذلك انتباهي إلى قوله تعالى: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) [هود: 56] . وتذكرت أيضا بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الناصية كقوله: «اللهمّ إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ... » «1» . وكقوله: «أعوذ بك من شرّ كلّ شيء أنت آخذ بناصيته» «2» . وكقوله: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» «3» .   (1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 391) ، و (1/ 452) ، وابن حبان في صحيحه 3/ 253، والحاكم في المستدرك 1/ 690 وقال: صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله (هو ابن ابن مسعود) عن أبيه فإنه مختلف في سماعه من أبيه، وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 40 والبزار في مسنده 5/ 363 وأبو يعلى في مسنده 9/ 199 والطبراني في المعجم الكبير 10/ 169، وقال في مجمع الزوائد 10/ 136، رواه أحمد وأبو يعلى والبزار إلا أنه قال: وذهاب غمي مكان همي، والطبراني، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمه الجهني وقد وثقه ابن حبان، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم: 198 ورجح سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه وقال: ثبت سماعه منه بشهادة جماعة من الأئمة. (2) صحيح مسلم ك/ الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ب/ ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، وأخرجه الترمذي ك/ الدعوات ب/ ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، وأبو داود في الأدب ب/ ما يقال عند النوم، وأخرجه أحمد في مسنده 2/ 381. (3) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ قول النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لكم الغنائم، ومسلم في الإمارة، ب/ الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والنسائي ك/ الخيل ب/ الخيل، وابن ماجة ك/ الجهاد ب/ ارتباط الخيل في سبيل الله، والترمذي ك/ فضائل الجهاد ب/ ما جاء في فضل من ارتبط فرسا في سبيل الله، وابن حبان في صحيحه 10/ 524، وأحمد في مسنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فإذا جمعنا معاني هذه النصوص نستنتج أن الناصية هي مركز القيادة والتوجيه لسلوك الإنسان، وكذا سلوك الحيوان. الناصية مركز القيادة والتوجيه عند الإنسان، وكذلك عند كل الحيوانات ذوات المخ المعاني اللغوية للآية وأقوال المفسرين: قال تعالى: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) [العلق: 15- 16] . السفع: هو القبض والجذب، وقيل هو مأخوذ من سفع النار، والشمس إذا غيرت وجهه إلى السواد «1» .   (1) روح المعاني للألوسي، فتح القدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الناصية: هي مقدم الرأس «1» . أقوال المفسرين: ذهب جمهور المفسرين إلى تأويل الآية بأن وصف الناصية بالكذب والخطيئة ليس وصفا لها بل هو وصف لصاحبها «2» ، وأمّرها الباقون كما هي بدون تأويل مثل الحافظ ابن كثير. ويتضح من أقوال المفسرين رحمهم الله عدم علمهم بأن الناصية هي مركز اتخاذ القرار بالكذب أو الخطيئة، فحملهم ذلك على تأويلها بعيدا عن ظاهر النص، فالنص يصفها بالكذب والخطيئة، وهم أوّلوا وصفها بذلك، فجعلوه وصفا لصاحبها، فأولوا الصفة والموصوف في قوله تعالى: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. كانت مضافا ومضاف إليه، والفرق واضح في اللغة بين الصفة والموصوف والمضاف والمضاف إليه. وأمرّ آخرون من المفسرين الآية كما هي، دون أن يقحموا أنفسهم فيما لا تطيقه معارفهم وعلومهم في ذلك الزمان. أوجه الإعجاز العلمي: * يقول البرفسور كيث إل مور مستدلا على هذه المعجزة العلمية: إن المعلومات التي نعرفها عن وظيفة المخ لم تذكر طوال التاريخ، ولا نجد في كتب الطب عنها شيئا؛ فلو جئنا بكتب الطب كلها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده بقرون لن نجد ذكرا لوظيفة الفص الجبهي الأمامي (الناصية) ولن نجد له بيانا، ولم يأت الحديث عنه إلا في هذا الكتاب (القرآن الكريم) ، مما يدل على أن هذا من علم الله جل وعلا الذي أحاط بكل شئ علما، ويشهد بأن محمدا رسول الله «3» .   (1) لسان العرب، روح المعاني للألوسي. (2) فتح القدير للشوكاني، الطبري، روح المعاني، الخازن. (3) من بحث ألقاه في المؤتمر العالمي عن الإعجاز الطبي في القرآن والسّنّة، الذي عقد بالقاهرة عام 1985 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 * ولقد كانت بداية معرفة الناس بوظيفة الفص الأمامي الجبهي في عام 1842 م، حين أصيب أحد عمال السكك الحديد في أمريكا بقضيب اخترق جبهته، فأثر ذلك في سلوكه ولم يضر بقية وظائف الجسم، فبدأت معرفة الأطباء بوظيفة الفص الجبهي للمخ، وعلاقته بسلوك الإنسان. * وكان الأطباء يعتقدون قبل ذلك أن هذا الجزء من المخ الإنساني منطقة صامته لا وظيفة لها. فمن أعلم محمدا صلى الله عليه وسلم بأن هذا الجزء من المخ (الناصية) هو مركز القيادة للإنسان والدواب وأنه مصدر الكذب والخطيئة؟!. * لقد اضطر أكابر المفسرين إلى تأويل النص الظاهر بين أيديهم لعدم إحاطتهم علما بهذا السر، حتى يصونوا القرآن من تكذيب البشر الجاهلين بهذه الحقيقة طوال العصور الماضية، بينما نرى الأمر في غاية الوضوح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أن الناصية هي مركز القيادة والتوجيه في الإنسان والدواب. فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم من بين كل أمم الأرض بهذا السر وبهذا الحقيقة؟!. إنه العلم الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو شهادة من الله بأن القرآن من عنده؛ لأنه نزل بعلمه سبحانه. [3] والجبال أوتاد: قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) . [النبأ: 6- 7] . تشير الآية إلى أن الجبال أوتاد للأرض، والوتد يكون منه جزء ظاهر على سطح الأرض، ومعظمه غائر فيها، ووظيفته التثبيت لغيره. بينما نرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا يعرّفون الجبل بأنه: كتلة من الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل «1» . ويقول د. زغلول النجار: إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون أدنى إشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أخيرا أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات «2» . ثم يقول: ولم تكتشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السير جورج ايري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساسا مناسبا للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزآ طافيا على بحر من الصخور الكثيفة المرنة، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكثافة لضمان ثباتها واستقرارها «3» . وقد أصبحت نظرية ايري حقيقة ملموسة مع تقدم المعرفة بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات الزلزالية، فقد أصبح معلوما- على وجه القطع- أن للجبال جذورا مغروسة في الأعماق ويمكن أن تصل إلى ما يعادل 15 مرة من ارتفاعاتها فوق سطح الأرض، وأن للجبال دورا كبيرا في إيقاف الحركة الأفقية الفجائية لصفائح طبقة الأرض الصخرية. هذا وقد بدأ فهم هذا الدور في إطار تكتونية الصفائح منذ أواخر الستينيات.   .Websters Seventgh New Collegiate Dictionary. (1) (2) الفكرة الجيولوجية عن الجبال في القرآن/ الدكتور زغلول النجار ص 3 (بالإنجليزية) ، 1992 إصدارات هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة/ رابطة العالم الإسلامي/ مكة. (3) المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 شكل توضيحي آخر يبين كيف تشبه الجبال الأوتاد في شكلها بسبب جذورها العميقة. ويعرف الدكتور زغلول الجبال في ضوء المعلومات الحديثة فيقول: إن الجبال ما هي إلا قمم لكتل عظيمة من الصخور تطفو في طبقة أكثر كثافة كما تطفو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 جبال الجليد في الماء «1» . ولقد وصف القرآن الجبال شكلا ووظيفة، فقال تعالى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) [النبأ: 7] . وقال تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان: 10] . وقال تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) [الأنبياء: 31] والجبال أوتاد بالنسبة لسطح الأرض، فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض. وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل، فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقة لزجة نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية «2» . ولقد تنبه المفسرون- رحمهم الله- إلى هذه المعاني فأوردوها في تفسيرهم لقوله تعالى: وَالْجِبالَ أَوْتاداً واليك أمثلة من ذلك: [1] قال ابن الجوزي: وَالْجِبالَ أَوْتاداً للأرض لئلا تميد «3» . [2] وقال الزمخشري «4» : وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي أرسيناها بالجبال كما يرسى   (1) المرجع السابق، ويقول: وإن جبلا ذا متوسط جاذبية نوعية مقداره 7، 2 (وهي جاذبية الجرانيت) يمكن أن يغطس في طبقة من الصخور البلاستيكية متوسط جاذبيتها النوعية حوالي 0 ر 3، حتى يطفو مرسلا جذرا يبلغ حوالي تسعة أعشار امتداده الكلي، وتاركا عشر حجمه الكلي فقط فوق سطح الأرض. وفي بعض الحالات تكون نسبة جذر الجبل إلى ارتفاعه الظاهر 15 إلى 1 تبعا لتركيبة صخوره. (2) تسمى المنطقة اللزجة" منطقة الوشاح". (3) زاد المسير. (4) محمد بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري، له باع في اللغة والبيان والتفسير، أخذ بمذهب الاعتزال ودافع عنه، له «الكشاف» في التفسير وغيره من المؤلفات، توفي عام 538 هـ، وكلامه المذكور في كتابه الكشاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 البيت بالأوتاد. [3] وقال القرطبي: وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي لتسكن ولا تتكفأ بأهلها «1» . [4] وقال أبو حيان: وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي ثبّتنا الأرض بالجبال كما يثبت البيت بالأوتاد «2» . [5] وقال الشوكاني «3» : وَالْجِبالَ أَوْتاداً الأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتادا للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرسى البيت بالأوتاد «4» . أول الجبال خلقا: البركانية: عند ما خلق الله القارات بدأت في شكل قشرة صلبة رقيقة تطفو على مادة الصهير الصخري، فأخذت تميد وتضطرب، فخلق الله الجبال البركانية التي كانت تخرج من تحت تلك القشرة، فترمي بالصخور خارج سطح الأرض، ثم تعود منجذبة إلى الأرض وتتراكم بعضها فوق بعض مكونة الجبال، وتضغط بأثقالها المتراكمة على الطبقة اللزجة فتغرس فيها جذرا من مادة الجبل، الذي يكون سببا لثبات القشرة الأرضية واتزانها. وفي قوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ [لقمان: 10] إشارة إلى الطريقة التي تكونت بها الجبال البركانية بإلقاء مادتها من باطن الأرض إلى الأعلى ثم عودتها لتستقر على سطح الأرض. ويجلي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكيفية، فقد روى أنس بن مالك «5»   (1) الجامع لاحكام القرآن. (2) البحر المحيط. (3) محمد بن علي الشوكاني اليماني أحد العلماء المشهورين. له مؤلفات منها التفسير والدراري المضيئة والسيل الجرار وغيرها توفي عام 1250 هـ- بصنعاء. (4) الشوكاني، فتح القدير. (5) أنس بن مالك بن النضر الخزرجي الأنصاري أبو ثمامة أو أبو حمزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه روى عنه كثيرا من الأحاديث رحل إلى دمشق ومنها إلى البصرة وبها توفي سنة 93 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لّما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فعاد بها عليها ... » الحديث «1» . فتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم المبين لكيفية خلق الجبال: " فعاد بها عليها"، أي أن خلقها كان بخروجها من الأرض وعودتها عليها.   (1) أخرجه الترمذي في آخر كتاب التفسير من سننه واللفظ له، وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه (تحقيق أحمد شاكر وآخرين) وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 124، وأبو يعلى في مسنده 7/ 682، وعبد بن حميد في مسنده 1/ 365، والبيهقي في شعب الإيمان 3/ 244، والأصبهاني في العظمة 4/ 1353، وفيه سليمان بن أبي سليمان الهاشمي، قال الذهبي في الكاشف: مجهول، وقال ابن معين: لا أعرفاه، وقال ابن حجر: مقبول من الثالثة، وحسن إسناده المقدسي في المختارة (6/ 153- 154) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أوجه الإعجاز: إن من ينظر إلى الجبال على سطح الأرض لا يرى لها شكلا يشبه الوتد أو المرساة، وإنما يراها كتلا بارزة ترتفع فوق سطح الأرض، كما عرفها الجغرافيون والجيولوجيون. ولا يمكن لأحد أن يعرف شكلها الوتدي، أو الذي يشبه المرساة إلا إذا عرف جزءها الغائر في الصهير البركاني في منطقة الوشاح، وكان من المستحيل لأحد من البشر أن يتصور شيئا من ذلك حتى ظهرت نظرية (سيرجورج ايري) عام 1855 م. فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة الغائبة في باطن القشرة الأرضية وما تحتها على أعماق بعيدة تصل إلى عشرات الكيلومترات، قبل معرفة الناس لها بثلاثة عشر قرنا؟!. ومن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بوظيفة الجبال، وأنها تقوم بعمل الأوتاد والمراسي، وهي الحقيقة التي لم يعرفها الإنسان إلا بعد عام 1960 م؟. وهل شهد الرسول صلى الله عليه وسلم خلق الأرض وهي تميد؟ وتكوين الجبال البركانية عن طريق الإلقاء من باطن الأرض وإعادتها عليها لتستقر الأرض؟!. ألا يكفي ذلك دليلا على أن هذا العلم وحي أنزله الله على رسوله النبي الأمي في الأمة الأمية، في العصر الذي كانت تغلب عليه الخرافة والأسطورة؟. إنها البينة العلمية الشاهدة بأن مصدر هذا القرآن هو خالق الأرض والجبال، وعالم أسرار السموات والأرض القائل: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) [الفرقان: 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 [4] فأخرجنا منه خضرا نّخرج منه حبّا مّتراكبا: قدر الله سبحانه وتعالى أن تعتمد النباتات وكذا الإنسان والحيوانات في غذائها على ما ينتجه النبات في مصانعه الخضراء. وهذه المصانع الخضراء يخرجها النبات بأمر ربه عند بداية نموه وتسمى في كتب العلوم النباتية" البلاستيدات الخضراء" والتي تحتوي على الكلوروفيل الذي عبّر عنه القرآن بالخضر «1» ، حيث يقوم بالاستفادة من الطاقة الضوئية ويحولها إلى طاقة كيمائية ينتج عنها تكوين الحبوب والثمار المختلفة وسائر أجزاء النبات التي نراها في الحدائق والبساتين. ويدلنا القرآن على هذه الحقائق في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) [الأنعام: 99] . التفسير والمعنى اللغوي: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً: أي المطر. فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ: أي فأخرجنا بالمطر كل صنف من النبات. فَأَخْرَجْنا مِنْهُ: أي من الماء وقيل من النبات. خَضِراً: أي شيئا غضّا أخضر «2» . نُخْرِجُ مِنْهُ: أي من الخضر «3» .   (1) لفظة الخضر تدل على ما كانت خضرته خلقية. (2) انظر البحر المحيط، البيضاوي، البغوي، الجلالين، القاسمي، وانظر المعجم الوسيط ومختار الصحاح وفيه: قال الأخفش خضرا: يريد به الأخضر. أي المادة ذات اللون الأخضر. (3) البيضاوي، الجلالين، الخازن، الكشاف، البحر المحيط، الطبري، القاسمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 حَبًّا مُتَراكِباً: أي بعضه على بعض. وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها «1» : الطلع: غلاف يشبه الكوز ينفتح عن حبّ منضود فيه مادة إخصاب النخلة. قِنْوانٌ: جمع قنو وهو العذق الذي هو عنقود النخل. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ: أي وأخرجنا جنات من أعناب. الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ: متشبها ورقها مختلفا ثمرها «2» ، وقيل متشابه في المنظر، مختلف في المطعم «3» . انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ: أي انظروا بأعينكم نظر اعتبار لا نظر الإبصار المجرد عن التفكير، ونبه على حالين: بالابتداء وهو وقت ابتداء الإثمار، والانتهاء وهو وقت نضجه، أي كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به وكيف يعود نضيجا مشتملا على منافع «4» ، والثمر في اللغة: جنى الشجر. وَيَنْعِهِ: نضجه، يقال: ينع وأينع إذا نضج. وقال ابن العربي: قال مالك: الإيناع الطيب بغير فساد ولا نقش، قال مالك: والنقش أن ينقش أهل البصرة الثمر حتى يرطب. يريد: يثقب فيه بحيث يسرع دخول الهواء إليه فيرطب معجلا، فليس ذلك الينع المراد في القرآن وإنما هو ما يكون من ذاته بغير محاولة «5» . إذا فهذه المصانع الخضراء تخرج من النبات عند بدء نموه، والنبات يخرجه الماء من بذوره وأصوله. فالله سبحانه وتعالى أنزل من السماء ماء، فأخرج به   (1) قوله سبحانه (ومن النخل) : خبر مقدم، (من طلعها) : بدل من النخل، (قنوان) : مبتدأ مؤخر، (دانية) : صفة لقنوان. (2) قتادة، الجلالان. (3) ابن جرير، البغوي. (4) البحر المحيط لأبي حيان. (5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 نبات كل شئ، وأخرج من النبات هذه المصانع الخضراء التي منها تخرج المواد الغذائية التي تتكون منها الحبوب والثمار بل وسائر أجزاء النبات. لكن هذه الحقيقة جهلتها البشرية، ولم تعرفها إلا بعد بحث استغرق ثلاثمائة عام، بداية من عام 1600 م، حيث أجرى علماء فسيولوجيا النبات" علم وظائف الأعضاء" أبحاثا وتجارب كثيرة لمعرفة عملية البناء الضوئي. ففي عام 1804 م نشر" دي سواسير" أن هناك نوعين من التبادل الغازي، أحدهما يحدث في الضوء والآخر في الظلام، وأن الأجزاء الخضراء هي التي تمتص ثاني أكسيد الكربون وتطلق الأوكسجين في الضوء" «1» . واستمرت الاكتشافات المتواصلة في هذا المجال. وفي عام 1942 م قال" ماير": إن المصدر النهائي للطاقة المستخدمة في كل من النبات والحيوان هي الشمس وإن الطاقة الضوئية عند ما تمتص في النباتات تتحول إلى طاقة كيماوية عن طريق التمثيل الضوئي" «2» . وقال جلاس 1961 م إن المركبات الأكثر أهمية في تحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كيميائية في النبات هي الصبغات التي توجد داخل البلاستيدات الخضراء" أو حاملات الصبغات" «3» . ويبدأ النبات عملية التمثيل الضوئي من خلال هذه المكونات والعضيات. انظر الشكل «1» . وينشأ من ذلك كله خلق المواد الكربوهيدراتية والتي تدخل في عمليات حيوية معقدة ينتج عنها بناء خامات الجدار الخلوي والأحماض النووية والبروتينات والدهون والهرمونات النباتية والصبغات ... الخ، وهذه المواد هي   (1) من كتاب فسيولوجيا النبات ل روبرت م. ديلفين فرانسيس هـ. ويذام الطبعة العربية ص 407. (2) نفس المرجع السابق. (3) نفس المرجع السابق ص 370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أساس تكوين جميع أجزاء النباتات والتي يتغذى عليها الإنسان والحيوانات أنظر الشكل (2- 3) . يقوم النبات بالاستفادة من الطاقة الضوئية فيحولها إلى طاقة كيميائية فيما يسمى بالفسفرة الضوئية داخل الخضر في البلاستيدة الخضراء وينتج عنه طاقة كيميائية في صورة NADPH ,ATP والتي يستخدمها النبات فيما يسمى بدورة كالفن وبنسون، وينتج عنها الكاربوهيدرات (السكريات) والتي لا تتحطم أو تتكسر تكسيرا كاملا ولكنها تستخدم كأصول لبناء المواد الخلوية الآخرى، بجانب دخولها في عملية تنفس النبات وهذا يؤدي بطريقة مباشرة إلى بناء خامات الجدار الخلوي والأحماض النووية والبروتينات والدهون والهرمونات النباتية والصبغات ... إلخ. ويمكن تلخيص العملية بالمعادلة التالية: المادة الخضراء «الخضر» ثاني أكسيد كربون ماء- سكرجلوكوز أوكسجين ضوء الشمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أوجه الإعجاز: إن العلماء الباحثين في مجال فسيولوجيا النبات اكتشفوا أن المادة الخضراء" الخضر" هي التي تقوم بامتصاص الطاقة الضوئية، وتحويلها إلى طاقة كيماوية ينتج عنها تكوين الثمار المختلفة. وكان هذا الاكتشاف بعد دراسات متواصلة، وتجارب متنوعة استغرقت قرونا ثلاثة امتدت إلى القرن العشرين. إن هذه العملية في تكوين الحبوب والثمار والأشجار كانت سرّا مجهولا يختفي في أعماق الثيلاكويد داخل البلاستيدة الخضراء التي لا ترى بالعين المجردة، عرفها علماء النبات بعد سلسلة طويلة من البحوث والدراسات المتواصلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 التي تجند لها العلماء طوال بضعة قرون. وبعد أن توافرت لهم وسائل البحث العلمي الدقيقة قرروا في نهاية المطاف: أن في النبات مادة خضراء، وأن هذه المادة الخضراء تخرج المواد الكربوهيدراتية التي هي أساس لتكوين جميع المواد المكونة للثمار والأشجار والزروع. وهذا ما قرره القرآن الكريم قبل ألف وأربعمائة عام، على لسان نبي أمي، عاش في بيئة صحراوية، وفي أمة أمية وفي عصر لم تتوافر فيه آلات البحث العلمي. ولقد كان بالإمكان أن تغافل الآية الكريمة ذكر المادة الخضراء ولن يعترض أحد على ذلك الإغفال إلا من يعلم الدور الأساس لتلك المادة، غير أن ذكرها يدل على علم القائل بأنها صاحبة الدور الرئيس في تكوين وإنتاج الحبوب والثمار وسائر الأشجار والزروع. ومن عظمة القرآن الكريم أن يذكر الحقيقة وأن يأخذ بأيدي الناس للوقوف على أول الطريق لمن أراد معرفة السر فيقول: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ، فهو يوجه النظر إلى بداية تكون الثمرة وعلاقتها بالإيناع الذي يتوقف عنده إنتاج تلك الثمار بسبب اصفرار أوراق بعض النباتات وموت خلاياها. فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة؟، وهو النبي الأمي الذي عاش في تلك البيئة الأمية، وفي زمان لم توجد فيه أبسط الأجهزة فضلا عن امتلاك ما تتطلبه معرفة هذه الحقائق من الأجهزة المتطورة ومراكز ومعامل الأبحاث في مجال فسيولوجيا النبات. إن اشتمال القرآن على هذه المعلومات النباتية الدقيقة يشهد أنه من عند الله القائل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) [النساء: 166] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 [5] وأنزلنا الحديد: قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد: 25] . تتحدث هذه الآية عن وجود الحديد في الأرض وأنه وجد فيها بعملية إنزال من السماء، وهذا يسوقنا إلى دراسة كيفية تكوين الحديد في الكون. وقد درس العلماء المتخصصون هذا الأمر فوجدوا أن 98 من الكون يتكون من الهيدروجين والهليوم، وهما أخف العناصر «1» ، وأن ال 2 الباقية تشكل العناصر الأثقل وعددها مائة وخمسة عناصر، مما حمل الدارسين على استنباط حقيقة تكون المواد الأثقل وزنا ذريّا من المواد الأخف، وأن ذلك يتم عن طريق الاندماج النووي «2» الذي تصحبه طاقة هائلة، ووجد الباحثون أن هناك نجوما تصل درجة حرارتها من 300 ألف مليون درجة إلى 400 ألف مليون درجة مئوية «3» تسمح بأن يتكون الحديد بداخلها. فإذا وصلت كمية الحديد إلى 50 من كتلة النجم وأصبح قلب النجم كله حديدا تتوقف العملية بالكامل وعندئذ ينفجر النجم، وإذا انفجر تناثرت أشلاؤه في صفحة الكون ودخلت بقدر الله في مجال جاذبية أجرام سماوية أخرى تحتاج إلى هذا الحديد، ونرى ذلك يحدث الآن كما نرى نيازك حديدية تصل إلى الأرض مثل ما حدث في جنوب السودان حين نزل في مدينة جوبا نيزك كتلته (90 طنا) . وأغلب النيزك يحترق باحتكاكه بالغلاف الغازي، ووصول (90 طنا) من الحديد الصافي يعني أن كتلة هذا النيزك كانت أكبر من ذلك بأضعاف كثيرة.   (1) (يكون غاز الهيدروجين وحده وهو أخف العناصر أكثر من 74 من مادة الكون، يليه في الكثرة غاز الهليوم، ثاني أخف العناصر، الذي يكون أكثر من 24 من مادة الكون) . (2) إن التفاعل الأساسي الذي يولد كميات الطاقة الهائلة التي تشعها الشمس ومعظم النجوم الآخرى سببه الاندماج النووي لعنصر الهيدروجين وتحوله إلى هليوم، الذي تندمج ذراته بدورها مكونة عناصر أثقل وصولا إلى عنصر الحديد. (3) بينما لا تزيد درجة حرارة الشمس عن 600 ألف درجة عن سطحها و 20 مليون في باطنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ونحن نرى النيازك الحديدية تصل إلى الأرض وتصل إلى القمر وإلى المجموعات الآخرى، مما دفع العلماء إلى تصور أن الأرض حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد. ويقول المختصون إن الأرض تشكلت قبل أربعة بلايين ونصف بليون عام، وكانت النيازك والمذنبات تقصفها بشدة وعنف بحيث كانت الحرارة المنبعثة من هذا التصادم والقصف الفائق السرعة كافيه لإذابة الكوكب بأكمله، ثم بدأت تبرد بعد ذلك واستمرت تبرد إلى اليوم، وأخذت المواد الأكثر كثافة مثل الحديد والقادمة من تلك النيازك طريقها إلى قلب ومركز الأرض، بينما صعدت السيليكات الأخف وزنا وكذلك مركبات الأوكسجين الآخرى والماء القادم من المذنبات إلى قرب السطح. ويكون الحديد أكثر من 35 من كتلة الأرض حيث تتكون الأرض من قلب صلب من الحديد ثم يليه قلب منصهر أغلبه من الحديد، ثم أربعة أوشحة متمايزة يشكل الحديد فيها نسبة عالية ثم الغلاف الصخري للأرض وفيه نسبة جيدة من الحديد، ويوضح الشكل الآتي تركز المعادن في طبقات الأرض المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ونلاحظ أن القلب الداخلي يتكون في معظمه من الحديد في حالته الصلبة بينما يتكون القلب الخارجي الذي يحيط به من الحديد و 10 من الكبريت، وبهذا يكون الحديد عنصرا مهما من مكونات طبقات الأرض السبع. وقال البرفسور آرمسترونج «1» أحد مشاهير علم الفلك في أمريكا والذي يعمل في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا حين سألناه كيف تكون الحديد: (سأحدثكم كيف تكونت كل العناصر على الأرض. لقد اكتشفناها، بل لقد أقمت عددا من التجارب لإثبات ما أقول لكم. إن العناصر المختلفة تجتمع فيها الجسيمات المختلفة من إلكترونات وبروتونات وغيرها، لكي تتحد هذه الجسميات في ذرة كل عنصر تحتاج إلى طاقة. وعند حسابنا للطاقة اللازمة لتكوين ذرة الحديد وجدنا أن الطاقة اللازمة يجب أن تكون كطاقة المجموعة الشمسية أربع مرات، ولذلك يعتقد العلماء أن الحديد عنصر   (1) انظر كتاب إنه الحق، الشيخ عبد المجيد الزنداني، ص 67- مطابع المحرابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها. وعند سؤاله متى اكتشف العلماء التجريبيون حقيقة إنزال الحديد إلى الأرض؟ قال: (بأنها لم تعرف عن العلماء التجريبيين إلا في الربع الأخير من القرن العشرين وأنه لم يشر أحد من العلماء المتخصصين والباحثين إلى شيء من ذلك، ولم تشر كتب العلم التجريبي إلى هذه الحقيقة قبل هذا التاريخ) . إن علماء الفيزياء قد تمكنوا من أن يوجدوا عناصر أثقل من عناصر أخف «1» واستطاعوا أن يحسبوا الطاقة اللازمة لتكوين كل عنصر من هذه العناصر وقد وجدوا أن الطاقة اللازمة لتكوين ذرة واحدة من الحديد تحتاج إلى أربعة أضعاف   (1) وأن وراء كل اكتشاف من هذه الاكتشافات جائزة نوبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الطاقة الموجودة في المجموعة الشمسية مما جعلهم يجزمون بأن الحديد لا يمكن أن يكون قد خلق في الأرض أو في المجموعة الشمسية بل لابد أن يكون قد خلق في نجم خارج المجموعة الشمسية ونزل إلى الأرض في صورة حديد. أقوال المفسرين: وهيا لنرى ما قاله علماء التفسير في هذه الآية: لقد انقسم المفسرون إلى فريقين: فمنهم من فسر اللفظ على ظاهره فقالوا: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ بمعنى أن الله أنزل الحديد كما أنزل آدم من السماء إلى الأرض، وهو قول ابن عباس وعكرمة وإليه ذهب الطبري والقرطبي والواحدي. ومنهم من اضطر إلى تأويل اللفظ عن ظاهره لاستبعاد إمكانية تصور نزول الحديد إلى الأرض من السماء ولما يشاهدونه في أزمنتهم وبيئاتهم من استخراج الحديد من باطن الأرض فقالوا: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ بمعنى أنشأناه وخلقناه وهو قول الحسن وإليه ذهب ابن كثير والثعالبي والشوكاني. ونرى من أقوالهم أنهم أوّلوا لفظ أنزلنا إلى خلقنا وجعلنا، وفرق بين الإنزال والخلق والجعل لكنها المعارف البشرية المحدودة في تلك الأزمنة التي كانت تحمل المفسرين على صرف اللفظ عن ظاهره. وجه الإعجاز: لم يتمكن الإنسان من معرفة حقيقة أن الحديد نزل من السماء إلى الأرض إلا بعد أن امتلك من الوسائل العلمية ما تمكن به من معرفة ما جرى ويجري في أعماق النجوم البعيدة لتكوين مادة الحديد، وبعد أن تمكن من تحويل بعض العناصر الخفيفة إلى عناصر ثقيلة وحساب ما يحتاج إليه ذلك من طاقة، وعجزه عن تكوين مادة الحديد من مواد أخف منه؛ إذ يتطلب ذلك طاقة تساوى أربعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أضعاف طاقة المجموعة الشمسية. كما أن استخراج البشر للحديد من مناجمه في باطن الأرض جعلهم لا يتوقعون أن يكون الحديد قد نزل من السماء إلى الأرض وحملهم على الاعتقاد بأنه خلق مع سائر العناصر الأرضية. لذلك خلت العلوم التجريبية من أي إشارة إلى هذه الحقيقة قبل الربع الأخير من القرن العشرين. وكذلك اضطر كثير من المفسرين إلى تأويل اللفظ القرآني وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ إلى معنى لا يحتمله اللفظ بما فيهم مفسرون معاصرون عاشوا في القرن العشرين. فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة التي لم تعرفها البشرية إلا في الربع الأخير من القرن العشرين، والتي خفيت عن كل البشر حتى هذا التاريخ، من؟!، إلا الذي أنزل الحديد وأنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا، القائل: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) [الحديد: 25] «1» . [6] أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ: لقد كانت البحار عالما مجهولا إلى القرن الثامن عشر الميلادي، كما كانت الخرافات والأساطير المتعلقة بالبحار تسود الحضارات القديمة، وكان الرومان يعتقدون بأن قمم الأمواج جياد بيضاء تجر عربة الإله (نبتون) «2» بزعمهم، وكانوا يقومون بالطقوس والاحتفالات لإرضاء هذه الآلهة، وكانوا يعتقدون   (1) أشكل على بعض العلماء قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ فلم يتصوروا إمكانية نزول الأنعام من السماء وقد دلت الكثير من البحوث المتعلقة بالحياة على عجز علماء الحياة أن يخلقوا مادة حية من مكونات الأرض فقرروا أن الحياة قد جاءت من خارج الأرض وقد قرر القرآن أن آدم نزل من الجنة إلى الأرض فما الذي يمنع أن يكون الله قد أنزل هذه الحيوانات من مكان في السماء إلى الأرض بطريقة يعلمها الله. (2) أسرار المحيطات، دار الكتاب العربي، 1996 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بوجود أسماك مصاصة لها تأثيرات سحرية على إيقاف السفن، وكان لليونانيين مثل هذه الاعتقادات كما كان بحارتهم يعزون سبب الدوامات البحرية إلى وجود وحش يسمونه كاربيدس يمتص الماء ثم يقذفه «1» ، ولم يكن بمقدور الإنسان معرفة أعماق الشواطئ الضحلة والمياه الراكدة، ناهيك عن معرفة البحار العميقة والحركات الداخلية في هذه المياه، كما لم يكن بإمكان الإنسان الغوص في هذه الشواطئ إلا في حدود عشرين مترا ولثواني معدودة ليعاود التنفس من الهواء الجوي، وحتى بعد ابتكار أجهزة التنفس للغواصين لم يتمكن الإنسان من الغوص أكثر من ثلاثين مترا نظرا لازدياد ضغط الماء على جسم الغواص مع زيادة العمق والذي يعادل عند عمق ثلاثين مترا أربعة أضعاف الضغط الجوي على سطح الأرض «2» وعندئذ يذوب غاز النتروجين في دم الغواص ويؤثر على عمل مخه فيفقده السيطرة على حركاته «3» ويصاب الغواصون نتيجة لذلك بأمراض تعرف في الطب بأمراض الغواصين، أما إذا نزل الغواص إلى أعماق بعيدة فإن ضغط الماء يكفي لهرس جسمه. التسلسل الزمني لاكتشاف أعماق البحار: * في عام 1300 م استخدم صيادو اللؤلؤ أول نظارات واقية مصنوعة من صدف السلاحف «4» .   .Wiklipedia ,the Free Ency Clopedig. (1) (2) يزداد ضغط الماء على الغواص بمقدار ضغط جوي واحد كلما نزل على عمق عشرة أمتار. (3) عند نزول الغواص إلى هذه الأعماق فإن غاز النتروجين يذوب في الدماء تحت الضغط العالي فإذا ما ارتفع الغواص فجاءة نتيجة لفقدان السيطرة على حركته فإن الضغط يخف ويخرج غاز النتروجين فائرا كما تخرج الغازات الذائبة في قارورة المياه الغازية عند رجها. (4) في عام 1520 م استطاع ماجلان أن يعبر المحيط الهادي بمساعدة ملك البرتغال وفي عام 1522 م تمكنت هذه السفن من أن تبحر حول العالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 * في عام 1860 م تم اكتشاف أحياء في قاع البحر المتوسط باستخدام حبل حديدي (كيبل) . * في عام 1865 م تم ابتكار مجموعة غطس مستقلة بواسطة كل من (روكايرول ودينايروز) . * في عام 1893 م تمكن بوتان من التقاط صور تحت الماء «1» . * في عام 1920 م تم استخدام طريقة السبر بالصدى (صدى الموجات الصوتية) لمعرفة الأعماق. * في عام 1930 م تمكن كل من بارتون وبيبس من أن يغوصا بأول كرة أعماق حتى عمق 3028 قدما وابتكار (أقنعة الوجه والزعانف وأنبوب التنفس) . * في عام 1938 م تم ابتكار قارورة للتنفس (سكوبا) وابتكار صمام التنفس من قبل الكابتن كوستو ودوماس.   (1) في عام 1872 م تم إبحار السفينة «تشالنجر» في رحلة بحث علمية لدراسة البحار، مما ساعد على توفير معلومات علمية عن البحار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 * في عام 1958 م تم إجراء تجارب الاختبارات على غواصة الأعماق (الستينيات) وابتكار (ابرس) غلاصم «1» للتنفس تحت الماء وتجربتها لأول مرة. * وتمكن الإنسان من الغوص إلى أعمق بقعة في المحيط الهادي «2» ، كما تمكن من البقاء في أعماق البحر لعدة أيام «3» ، واكتشف الإنسان وجود فوهات في أعماق البحر «4» ، وصنع الإنسان الغواصة الصفراء «5»   (1) تشبه الخياشيم. (2) في عام 1960 م وفي الثالث والعشرين من يناير نزلت الغواصة (تريستا) وهي عبارة عن كرة من الصلب جدارها يبلغ سمكه 9 سنتمترات وبإمكانها الهبوط والصعود فقط وعلى متنها كلا من: دونالد والش وجاكوى بيكارد وبعد أربع ساعات من الهبوط لمسافة 11 كلم تم الوصول لأعمق منطقة في المحيط الهادي (خانق مريانا) واكتشف الإنسان لأول مرة بواسطة هذه الغواصة وجود براكين تحت الماء وعيون ماء حارة وكثير من الأحياء المائية. (3) في عام 1962 م، تمكن غواصون من البقاء لمدة أسبوع في أول غرفة تشبع" كونشلف "la وهي بيوت مائية للغواصين. (4) في عام 1977 م تم اكتشاف وجود حياة في فوهات أعماق البحار وعثرت مركبة (نوتايل) على فوهات في أعماق البحر قرب المكسيك يتدفق منها الماء وهو في درجة 350 م وحين يرتفع ماؤها فوق الصخور يتفاعل مع المعادن ليتحول إلى اللون الأسود ويصبح شبيها بالمدخنة، كما تم صناعة غواصة الأبحاث الأمريكية (ألفين) القادرة على الغوص إلى عمق 3650 متر. (5) في عام 1995 م صمم البريطاني روبرت ليدز غواصة صفراء تشبه الصحن الطائر معدة للاستخدام التجاري ويمكن بها مراقبة الأسماك على عمق يصل إلى خمسين مترا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 والغواصات النووية «1» . معلومات حديثة في علم البحار: لم تبدأ الدراسات المتصلة بعلوم البحار وأعماقها على وجه التحديد إلا في بداية القرن الثامن عشر عند ما توفرت الأجهزة المناسبة والتقنيات وصولا إلى ابتكار الغواصات المتطورة. وبعد عام 1958 م أي بعد ثلاثة قرون من البحوث والدراسات العلمية وعلى أيدي أجيال متعاقبة من علماء البحار توصل الإنسان إلى حقائق مدهشة منها: [1] ينقسم البحر إلى قسمين كبيرين: (أ) البحر السطحي الذي تتخلله طاقة الشمس وأشعتها. (ب) البحر العميق الذي تتلاشى فيه طاقة الشمس وأشعتها.   (1) صناعة الغواصات النووية (1) : لم يكن باستطاعة الغواصات الصغيرة التي تعمل بالبطاريات من البقاء مغمورة في الماء أكثر من بضعة أيام فقام الإنسان بصناعة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية والتي يمكنها البقاء لأكثر من سنتين وهي كبيرة الحجم وتحمل طاقما كبيرا، وتعتبر الغواصة الروسية (تايفون) من أكبر الغواصات حيث تزن أكثر من 25 ألف طن وطولها 172 مترا، والغواصة الروسية كورست التي غرقت في أغسطس 2000 م وهي تزن 18 ألف طن وعلى متنها 118 فردا في بحر بارتنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 [2] يختلف البحر العميق عن البحر السطحي في الحرارة والكثافة والضغط ودرجة الإضاءة الشمسية، والكائنات التي تعيش في كل منهما ويفصل بينهما موج داخلي. [3] الأمواج البحرية الداخلية: تغطي الأمواج الداخلية البحر العميق وتمثل حدّا فاصلا بين البحر العميق والبحر السطحي، كما يغطي الموج السطحي سطح البحر ويمثل حدّا فاصلا بين الماء والهواء ولم تكتشف الأمواج الداخلية إلا في عام 1904 م «1» . ويتراوح طول الأمواج الداخلية ما بين عشرات إلى مئات   (1) يعود أول تفسير علمي لظاهرة الأمواج الداخلية للدكتور (ف. و. إيكمان V.WEkman في عام (1322 هـ- 1904) ، الذي فسر ظاهرة المياه الراكدة في الخلجان النروجية حين تفقد السفن التي تبحر قدرتها على التقدم فتقف ساكنة في هذه المياه الراكدة، كما لاحظ عالم المحيطات النرويجي (فريتوف نانسن (Nansen تعرض سفينته (فرام (Fram لهذه الظاهرة شمال جزيرة (تايمير) خلال عملية استكشاف القطب الشمالي ما بين (1311 هـ- 1893 م) و (1314 هـ- 1896 م) عند محاولة اجتياز منطقة القطب. لذلك فقد قام نانسن بتشجيع إيكمان على البحث عن تفسير ظاهرة المياه الراكدة فكان رأي إيكمان على أنها تنجم عن الأمواج الداخلية التي تتولد في السطح الفاصل بين المياه السطحية والمياه العميقة للمحيط، وبعد زمن غير طويل وصف (أوتو باترسون (Ottopetterson تأثير الأمواج الداخلية الطويلة التي تحدث في أعماق البحار على هجرة الأسماك من نوع (هيرنج (Herring بالقرب من سواحل جوتلاند (Jutland) بالقرب من الساحل الغربي للسويد في فصل الصيف. ويكون مرور الأمواج الداخلية محسوسا من سفن التنقيب عن النفط عند ما يتغير ثقل المعوم المربوط بين سفينة الحفر وفتحه البئر الكائنة في قاع البحر بصورة مفاجئة وتم التعرف على هذه الأمواج الداخلية بأثيرها على حركة الغواصات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الكيلومترات كما يتراوح ارتفاع معدل هذه الأمواج ما بين 10 إلى 100 متر تقريبا. [4] اشتداد الظلام في البحر العميق مع ازدياد عمق البحر حتى يسيطر الظلام الدامس الذي يبدأ من عمق (200 متر) تقريبا ويبدأ عند هذا العمق المنحدر الحراري الذي يفصل بين المياه السطحية الدافئة ومياه الأعماق الباردة، كما توجد فيه الأمواج الداخلية التي تغطي المياه الباردة في أعماق البحر، وينعدم الضوء تماما على عمق 1000 متر تقريبا. أما فيما يتعلق بانتشار الظلمات في أعماق البحار فقد أدرك صيادو الأسماك أن الضوء يمتص حتى في المياه الصافية وأن قاع البحر المنحدر ذا الرمال البيضاء يتغير لونه بصورة تدريجية حتى يختفي تماما مع تزايد العمق وأن نفاذ الضوء يتناسب عكسيا مع ازدياد العمق. وأبسط جهاز علمي لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط هو (قرص سيتشى. «1» (TheSecchiDisk - ولكن على الرغم من كونه وسيلة سهلة لقياس اختراق الضوء للماء بدرجة تقريبية، وعلى الرغم من استعماله على نطاق واسع فإن قياس الظلمات في ماء البحر بصورة دقيقة لم يتحقق إلا بعد استخدام الوسائل التصويرية في نهاية القرن الماضي «2» ثم بتطوير وسائل قياس شدة الضوء التي استخدمت الخلايا الكهرو ضوئية خلال الثلاثينيات، وبعد اختراع الإنسان أجهزة مكنته من الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة.   (1) أول من وصفه في الكتب العلمية كلا من سيلادي وسيشني CiladiandSecchi في عام 1281 هـ/ 1865 م، وهو عبارة عن قرص أبيض ذي قطر معين يتم إنزاله في الماء ليسجل العمق الذي تتعذر رؤيته كنقطة قياسية ولا يزال هذا القرص قيد الاستعمال حيث يكفي لتحديد قياس تقريبي لشفافية الماء. (2) Fol, H.and Sarasin, E.1884, Sur lapenetration de la Lumiere du jour dans les eaus du lac de Geneve:com- ptes Rendus de sseances do des Sciences, PP 624- 725 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وفي الهامش «1» معلومات عن شدة الضوء عند أعماق مختلفة من المحيط. أما البحار العميقة فالضياء منعدم فيها، والظلمات متراكمة، وتعتمد الكائنات الحية والأسماك التي تعيش فيها على الطاقة الكيميائية لتوليد الضوء الذي تستشعر به طريقها، وهناك أنواع منها عمياء تستخدم وسائل أخرى غير الرؤية لتلمس ما حولها. وتبدأ هذه الظلمات على عمق 200 متر تقريبا وتختفي جميع أشعة الضوء على عمق 1000 متر تقريبا حيث ينعدم الضوء تماما، كما أن أغلب تركيب الأسماك في الأعماق يتكون من الماء لمواجهة الضغوط الهائلة. ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ: إن الظلام الدامس الذي يشتد من خمسمائة متر إلى ألف متر يتكون في أعماق البحار نتيجة لظلمات بعضها فوق بعض، وتنشأ لسببين رئيسين:   (1) من المعروف الآن أن كمية الضوء التي تنفذ إلى أعماق البحار تتناقص تناقصا رأسيا وفقا لما يراه (جيرلوف Jerlov فينخفض مستوى الإضاءة في مياه المحيط المكشوفة إلى نسبة 10 عند عمق 35 م، من السطح وتنخفض إلى 1 عند عمق 85 مترا وإلى 1 عند عمق 135 م، وإلى 01 عند عمق 190 م وإن أفاد بعض الذين قاموا بالدراسة والمراقبة من الغواصات لمدد طويلة أنهم تمكنوا من رؤية الضوء في أعماق تزيد على ذلك ويرى كلا من (كلارك) و (دنتون) أن الإنسان يستطيع أن يرى الضوء المنتشر على عمق 850 م، ومن الواضح أن الأسماك التي تعيش في أعماق البحار ترى أفضل من ذلك إلى حد ما، ولم تبدأ الدراسات المتصلة بعلوم البحار وأعماقها على وجه التحديد إلا في بداية القرن الثامن عشر عند ما توفرت الأجهزة المناسبة والتقنيات وصولا إلى ابتكار الغواصات المتطورة. وبعد عام 1958 م أي بعد ثلاثة قرون من البحوث والدراسات العلمية وعلى أيدي أجيال متعاقبة من علماء البحار توصل الإنسان إلى حقائق مدهشة منها: [1] ينقسم البحر إلى قسمين كبيرين: (أ) البحر السطحي الذي تتخلله طاقة الشمس وأشعتها. (ب) البحر العميق الذي تتلاشى فيه طاقة الشمس وأشعتها.   (1) صناعة الغواصات النووية (1) : لم يكن باستطاعة الغواصات الصغيرة التي تعمل بالبطاريات من البقاء مغمورة في الماء أكثر من بضعة أيام فقام الإنسان بصناعة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية والتي يمكنها البقاء لأكثر من سنتين وهي كبيرة الحجم وتحمل طاقما كبيرا، وتعتبر الغواصة الروسية (تايفون) من أكبر الغواصات حيث تزن أكثر من 25 ألف طن وطولها 172 مترا، والغواصة الروسية كورست التي غرقت في أغسطس 2000 م وهي تزن 18 ألف طن وعلى متنها 118 فردا في بحر بارتنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [2] يختلف البحر العميق عن البحر السطحي في الحرارة والكثافة والضغط ودرجة الإضاءة الشمسية، والكائنات التي تعيش في كل منهما ويفصل بينهما موج داخلي. [3] الأمواج البحرية الداخلية: تغطي الأمواج الداخلية البحر العميق وتمثل حدّا فاصلا بين البحر العميق والبحر السطحي، كما يغطي الموج السطحي سطح البحر ويمثل حدّا فاصلا بين الماء والهواء ولم تكتشف الأمواج الداخلية إلا في عام 1904 م «1» . ويتراوح طول الأمواج الداخلية ما بين عشرات إلى مئات   (1) يعود أول تفسير علمي لظاهرة الأمواج الداخلية للدكتور (ف. و. إيكمان V.WEkman في عام (1322 هـ- 1904) ، الذي فسر ظاهرة المياه الراكدة في الخلجان النروجية حين تفقد السفن التي تبحر قدرتها على التقدم فتقف ساكنة في هذه المياه الراكدة، كما لاحظ عالم المحيطات النرويجي (فريتوف نانسن (Nansen تعرض سفينته (فرام (Fram لهذه الظاهرة شمال جزيرة (تايمير) خلال عملية استكشاف القطب الشمالي ما بين (1311 هـ- 1893 م) و (1314 هـ- 1896 م) عند محاولة اجتياز منطقة القطب. لذلك فقد قام نانسن بتشجيع إيكمان على البحث عن تفسير ظاهرة المياه الراكدة فكان رأي إيكمان على أنها تنجم عن الأمواج الداخلية التي تتولد في السطح الفاصل بين المياه السطحية والمياه العميقة للمحيط، وبعد زمن غير طويل وصف (أوتو باترسون (Ottopetterson تأثير الأمواج الداخلية الطويلة التي تحدث في أعماق البحار على هجرة الأسماك من نوع (هيرنج (Herring بالقرب من سواحل جوتلاند (Jutland) بالقرب من الساحل الغربي للسويد في فصل الصيف. ويكون مرور الأمواج الداخلية محسوسا من سفن التنقيب عن النفط عند ما يتغير ثقل المعوم المربوط بين سفينة الحفر وفتحه البئر الكائنة في قاع البحر بصورة مفاجئة وتم التعرف على هذه الأمواج الداخلية بأثيرها على حركة الغواصات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الكيلومترات كما يتراوح ارتفاع معدل هذه الأمواج ما بين 10 إلى 100 متر تقريبا. [4] اشتداد الظلام في البحر العميق مع ازدياد عمق البحر حتى يسيطر الظلام الدامس الذي يبدأ من عمق (200 متر) تقريبا ويبدأ عند هذا العمق المنحدر الحراري الذي يفصل بين المياه السطحية الدافئة ومياه الأعماق الباردة، كما توجد فيه الأمواج الداخلية التي تغطي المياه الباردة في أعماق البحر، وينعدم الضوء تماما على عمق 1000 متر تقريبا. أما فيما يتعلق بانتشار الظلمات في أعماق البحار فقد أدرك صيادو الأسماك أن الضوء يمتص حتى في المياه الصافية وأن قاع البحر المنحدر ذا الرمال البيضاء يتغير لونه بصورة تدريجية حتى يختفي تماما مع تزايد العمق وأن نفاذ الضوء يتناسب عكسيا مع ازدياد العمق. وأبسط جهاز علمي لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط هو (قرص سيتشى. «1» (TheSecchiDisk - ولكن على الرغم من كونه وسيلة سهلة لقياس اختراق الضوء للماء بدرجة تقريبية، وعلى الرغم من استعماله على نطاق واسع فإن قياس الظلمات في ماء البحر بصورة دقيقة لم يتحقق إلا بعد استخدام الوسائل التصويرية في نهاية القرن الماضي «2» ثم بتطوير وسائل قياس شدة الضوء التي استخدمت الخلايا الكهرو ضوئية خلال الثلاثينيات، وبعد اختراع الإنسان أجهزة مكنته من الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة.   (1) أول من وصفه في الكتب العلمية كلا من سيلادي وسيشني CiladiandSecchi في عام 1281 هـ/ 1865 م، وهو عبارة عن قرص أبيض ذي قطر معين يتم إنزاله في الماء ليسجل العمق الذي تتعذر رؤيته كنقطة قياسية ولا يزال هذا القرص قيد الاستعمال حيث يكفي لتحديد قياس تقريبي لشفافية الماء. (2) 527 -426 PP ,secneicS sed od secnaess ed sudneR setp -moc:eveneG ed cal ud suae sel snad ruoj ud ereimuL al ed noitartenepal ruS ,4881.E ,nisaraS dna.H ,loF . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وفي الهامش «1» معلومات عن شدة الضوء عند أعماق مختلفة من المحيط. أما البحار العميقة فالضياء منعدم فيها، والظلمات متراكمة، وتعتمد الكائنات الحية والأسماك التي تعيش فيها على الطاقة الكيميائية لتوليد الضوء الذي تستشعر به طريقها، وهناك أنواع منها عمياء تستخدم وسائل أخرى غير الرؤية لتلمس ما حولها. وتبدأ هذه الظلمات على عمق 200 متر تقريبا وتختفي جميع أشعة الضوء على عمق 1000 متر تقريبا حيث ينعدم الضوء تماما، كما أن أغلب تركيب الأسماك في الأعماق يتكون من الماء لمواجهة الضغوط الهائلة. ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ: إن الظلام الدامس الذي يشتد من خمسمائة متر إلى ألف متر يتكون في أعماق البحار نتيجة لظلمات بعضها فوق بعض، وتنشأ لسببين رئيسين:   (1) من المعروف الآن أن كمية الضوء التي تنفذ إلى أعماق البحار تتناقص تناقصا رأسيا وفقا لما يراه (جيرلوف Jerlov فينخفض مستوى الإضاءة في مياه المحيط المكشوفة إلى نسبة 10 عند عمق 35 م، من السطح وتنخفض إلى 1 عند عمق 85 مترا وإلى 1 عند عمق 135 م، وإلى 01 عند عمق 190 م وإن أفاد بعض الذين قاموا بالدراسة والمراقبة من الغواصات لمدد طويلة أنهم تمكنوا من رؤية الضوء في أعماق تزيد على ذلك ويرى كلا من (كلارك) و (دنتون) أن الإنسان يستطيع أن يرى الضوء المنتشر على عمق 850 م، ومن الواضح أن الأسماك التي تعيش في أعماق البحار ترى أفضل من ذلك إلى حد ما، وهي قادرة على اكتشاف الضوء المنتشر حتى عمق 1000 متر مع أن شدة الضوء عند هذا العمق تبلغ 13 -10 X L) من شدته عند السطح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [1] ظلمات الأعماق: يتكون شعاع الشمس من سبعة ألوان (الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، النيلي، البنفسجي، الأزرق) ولكل لون طول موجي خاص به «1» وتتوقف قدرة اختراق الشعاع الضوئي للماء على طول موجته؛ فكلما قصر طول الموجة زادت قدرة اختراق الشعاع للماء، لذلك فإن شعاع اللون الأحمر يمتص على عمق 20 مترا تقريبا ويختفي وجوده بعد ذلك، وينشأ عن ذلك ظلمة اللون الأحمر، فلو جرح غواص على عمق 25 مترا تقريبا وأراد أن يرى الدم النازف فسيراه بلون أسود، بسبب انعدام شعاع اللون الأحمر، ويمتص الشعاع البرتقالي على عمق ثلاثين مترا تقريبا فتنشأ ظلمة أخرى تحت ظلمة اللون الأحمر هي ظلمة اللون البرتقالي، وعلى عمق 50 مترا تقريبا يمتص اللون   (1) الأطوال الموجية: اللون/ التردد/ الطول الموجي بنفسجي 10 -7 3. 90 -4. 55 /1014 7. 69 -6. 59 /Violet /أرزق 4. 55 -4. 92 /6. 59 -6. 10 /Blue /أخضر 4. 92 -5. 77 /6. 10 -5. 20 /Green /أصفر 5. 77 -5. 97 /5. 20 -5. 03 /Yellow برتقالي 5. 97 -6. 22 /5. 3 -4. 82 /Orange /أحمر 6. 22 -7. 80 /4. 82 -3. 84 Red / الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الأصفر، وعلى عمق 100 متر تقريبا يمتص اللون الأخضر، وعلى عمق 125 مترا تقريبا يمتص اللون البنفسجي والنيلي، وآخر الألوان امتصاصا هو اللون الأزرق على بعد 200 متر تقريبا من سطح البحر. وهكذا تتكون ظلمات الألوان لشعاع الشمس بعضها فوق بعض؛ بسبب عمق الماء الذي تمتص فيه الألوان بأعماق مختلفة. [2] ظلمات الحوائل: وتشترك ظلمات الحوائل مع ظلمات الأعماق في تكوين الظلمات الدامسة في البحار العميقة، وتتمثل ظلمات الحوائل فيما يأتي: (أ) ظلمة السحب: غالبا ما تغطي السحب أسطح البحار العميقة نتيجة تبخبر الماء، وتمثل حائلا نسبيا لأشعة الشمس «1» ، فتحدث الظلمة الأولى للحوائل والتي نراها ظلالا لتلك السحب على سطح الأرض والبحار.   (1) تقوم السحب بامتصاص جزء من الأشعة وتشتيت جزء آخر والسماح بنفاذ بقية الأشعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 (ب) ظلمة الأمواج السطحية: تمثل الأسطح المائلة للأمواج السطحية في البحار سطحا عاكسا لأشعة الشمس، ويشاهد المراقب على الساحل مقدار لمعان الأشعة التي عكستها هذه الأسطح «1» المائلة للأمواج السطحية. (ج) ظلمة الأمواج الداخلية: توجد أمواج داخلية تغشى البحر العميق وتغطيه، وتبدأ من عمق 70 مترا إلى 240 مترا «2» ، وتعلق ملايين الملايين من الكائنات الهائمة في البحار على أسطح الموجات الداخلية وقد تمتد الموجة الداخلية إلى سطح البحر فتبدو تلك الكائنات الهائمة كأوساخ متجمعة على سطح البحر، مما يجعلها تمثل مع ميل الموج الداخلي حائلا لنفاذ الأشعة إلى البحر العميق فتنشأ بذلك الظلمة الثالثة تحت ظلمتي السحب والموج السطحي. الأمواج الداخلية وهي تحمل على سطحها الكائنات الهائمة وقد وصلت إلى سطح البحر على شكل أقواس كبيرة متعاقبة ويتبين مما سبق أن الظلمات التي تراكمت في البحار العميقة عشر ظلمات وهي: أ- ظلمات الأعماق: وهي سبع ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ تنشأ من   (1) إذا أحدثت موجات في إناء ماء كبير فإنك سترى ظلا لتلك الأمواج في قاع الإناء. (2) في مقابلة مع الدكتور/ فاروق الباز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 التلاشي التدريجي لألوان الطيف السبعة. ب- ظلمات الحوائل الثلاثة: 1- السحب. 2- الموج السطحي. 3- الموج الداخلي. وهي أيضا ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. الاكتشافات العلمية المتعلقة بالآية: مما سبق يتبين أن العلم التجريبي قد اكتشف في فترة طويلة، خلال القرون الثلاثة الماضية، وبعد توفر الأجهزة الدقيقة، وبتضافر جهود أعداد كبيرة من الباحثين وعلماء البحار، الحقائق الآتية: وجود ظلمات في البحار العميقة. * وأن هذه الظلمات بعضها فوق بعض. * تزداد هذه الظلمات بالتدريج مع زيادة العمق حتى تنعدم الرؤية تماما. * وجود أمواج داخلية تغشى البحر العميق. * تعمل الأمواج الداخلية بما عليها من الكائنات الهائمة على حجب الضوء. * عدد الظلمات المتراكمة في البحار العميقة عشر ظلمات، سبع منها بسبب عمق الماء وثلاث بسبب الحوائل الثلاثة: السحاب، الموج السطحي، الموج العميق. تنقسم مياه البحر قسمين: أ- مياه البحر السطحي حيث توجد فيها طاقة الضوء. ب- مياه البحر العميق التي تراكمت عليها الظلمات. وصف القرآن لهذه الأسرار والحقائق البحرية: قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور: 40] . أثبت القرآن وجود ظلمات في البحر العميق، وقيد وصف البحر بلفظ لُجِّيٍّ ليعلم قارئ القرآن أن هذه الظلمات لا تكون إلا في بحر لجي أي عميق، أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ويخرج بهذا القيد البحر السطحي الذي لا توجد فيه هذه الظلمات. وقد بين أهل اللغة والتفسير معنى لفظ لُجِّيٍّ، فقال قتادة وصاحب تفسير الجلالين: لجي هو العميق، وقال الزمخشري: اللجي العميق الكثير الماء، وقال الطبري: ونسب البحر إلى اللجة بأنه عميق كثير الماء، وقال البشيري: هو الذي لا يدرك قعره واللجة معظم الماء، والجمع لجج، والتج البحر إذا تلاطمت أمواجه. وهذه الظلمات تتكون بسبب العمق في البحر اللجي، وهي ظلمات الأعماق التي سبق الإشارة إليها. قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ. قال الزمخشري: (بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب) ، وقال الخازن: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي عميق كثير الماء ... معناه أن البحر اللجي يكون قعره مظلما جدّا بسبب غمورة الماء) ، وقال المراغي: (فإن البحر يكون مظلم القعر جدّا بسبب غور الماء ... ) . وذكر القرآن أن للبحر العميق موج يغشاه من أعلاه. قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ. وذكرت الآية وجود موج آخر فوق الموج الأول، قال تعالى: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ. وهذه صفة للبحر وهي: وجود موجين في وقت واحد أحدهما فوق الآخر، وليست أمواجا متتابعة على مكان واحد بل هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 موجودة في وقت واحد، والموج الثاني فوق الموج الأول. وتشير الآية إلى أن فوقية الموج الثاني على الموج الأول كفوقية السحاب على الموج الثاني. قال تعالى: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ .... ذكرت الآية وجود موج يغشى البحر العميق ويغطيه كما ذكرت وجود موج ثان فوق الموج الأول، وهذا يستلزم وجود بحر فوق (الموج الأول والبحر العميق) وهو البحر السطحي الذي يغشاه الموج الثاني الذي فوقه السحاب. وأثبت القرآن دور هذه الحوائل الثلاثة في تكوين الظلمات في البحار العميقة، وأن بعضها فوق بعض كما قال تعالى: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ [النور: 40] وهو ما فهمه بعض المفسرين: قال الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية: " ظلمة الموج الأول على ظلمة البحر، وظلمة الموج الثاني فوق الموج الأول وظلمة السحاب على ظلمة الموج الثاني". وقال الإمام ابن الجوزي في تفسيره: " ظُلُماتٍ يعني ظلمة البحر وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وظلمة السحاب". اشتملت الآية على ذكر ظلمات الأعماق (السبعة) في أولها وظلمات الحوائل (الثلاثة) في آخرها: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. وذكرت الآية أن هذه الظلمات التي سبق ذكرها بسبب الأعماق أو الحوائل بعضها فوق بعض، واستعمل القرآن لفظ ظلمات الذي تستعمله العرب للدلالة على جمع القلة، من الثلاثة إلى العشرة، فقبلها تقول ظلمة وظلمتان، وبعدها تقول إحدى عشرة ظلمة، ومن ثلاث إلى عشر تقول ظلمات كما هي في الآية، وهذا ما كشفه العلم كما سبق بيانه: سبع ظلمات للألوان متعلقة بالأعماق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وثلاث ظلمات متعلقة بالحوائل (الموج الداخلي، والموج السطحي، والسحاب) . وبينت الآية التدرج في اشتداد الظلام في البحار العميقة باستعمال فعل من أفعال المقاربة وهو (كاد) وجعلته منفيا. قال تعالى: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. فدل هذا الاستعمال الدقيق على معنيين: الأول: أن الذي يخرج يده في هذه الأعماق ليراها لا يراها إلا بصعوبة بالغة كما فهم ذلك بعض المفسرين، ومنهم المبرد والطبري. الثاني: أن الذي يخرج يده في هذه الأعماق ليراها لا يراها البتة، لأن فعل المقاربة كاد جاء منفيا، فإذا نفيت مقاربة الرؤية دلت على تمام نفي الرؤية، وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، أمثال الزجّاج وأبو عبيده والفرّاء والنيسابوري. والآية استعملت تعبيرا يدل على المعنيين معا، فتكون الرؤية بصعوبة في الأعماق القريبة، وتنتفي الرؤية تماما في الأعماق البعيدة، على عمق 1000 متر تقريبا كما مر بنا. فتأمل كيف جاء التعبير القرآني الموجز دالا على المعاني الصحيحة المتعددة. وجه الإعجاز: لقد ذكر القرآن الكريم معلومات دقيقة عن وجود ظلمات في البحار العميقة وأشار إلى سبب تكوينها، ووصفها بأن بعضها فوق بعض، ولم يتمكن الإنسان من معرفة هذه الظلمات إلا بعد عام 1930 م. وأخبر القرآن عن وجود موج داخلي في البحار لم يعرفه الإنسان إلا بعد عام 1900 م، كما أخبر بأن هذا الموج الداخلي يغطي البحر العميق، الأمر الذي لم يعرف إلا بعد صناعة الغواصات بعد الثلاثينيات من القرن العشرين، كما أخبر القرآن عن دور الموج السطحي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والموج الداخلي في تكوين ظلمات في البحار العميقة، وهو أمر لم يعرف إلا بعد تقدم العلم في القرون الأخيرة. وما سبق من المعلومات لم يكتشفه الإنسان إلا بعد أن ابتكر أجهزة للبحث العلمي تمكنه من الوصول إلى هذه الأعماق، ودراسة هذه الظواهر، وبعد أن استغرق البحث فترة طويلة امتدت لثلاثة قرون من الزمن، واحتشد لها مئات الباحثين والدارسين حتى تمكنوا من معرفة تلك الحقائق. فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الأسرار في أعماق البحار في وقت كانت وسائل البحث العلمي فيه معدومة، والخرافة والأسطورة هي الغالبة على سكان الأرض في ذلك الزمان، وبخاصة في مجال البحار؟!. كيف جاءه هذا العلم الدقيق بهذه الأسرار، وهو الرجل الأمي في أمة أمية وبيئة صحراوية، ولم يتيسر له ركوب البحر طوال حياته؟. وحين عرضت هذه الحقائق على البرفسور (راو) وسئل عن تفسيره لظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة وكيف أخبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الحقائق منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام أجاب: (من الصعب أن نفترض أن هذا النوع من المعرفة العلمية كان موجودا في ذلك الوقت منذ ألف وأربعمائة عام، ولكن بعض الأشياء تتناول فكرة عامة ولكن وصف هذه الأشياء بتفصيل كبير أمر صعب جدا، ولذلك فمن المؤكد أن هذا ليس علما بشريا بسيطا. لا يستطيع الإنسان العادي أن يشرح هذه الظواهر بذلك القدر من التفصيل ولذلك فقد فكرت في قوة خارقة للطبيعة خارج الإنسان، لقد جاءت المعلومات من مصدر خارق للطبيعية) «1» . إنه لدليل قاطع على أن هذا العلم الذي حملته هذه الآية قد أنزله الله الذي يعلم السر في السموات والأرض، كما قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ   (1) إنه الحق ص 78، للشيخ/ عبد المجيد الزنداني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) [الفرقان: 6] . وكما قال تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) [النساء: 166] والقائل: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] . [7] فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ: قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] ، وقال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) [فصلت: 39] ، بيّن الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين أثر الماء وأهميته، لحياة الأرض وإنباتها من كل زوج بهيج، وسنبين وجه الإعجاز في ربط القرآن الكريم بين نزول الماء واهتزاز التربة، وربوها، وإنباتها من كل زوج بهيج، فالماء مذيب عام للمعادن التي تحتويها التربة، ووسط تدخل من خلاله المواد المذابة إلى النبات وتتحرك خلال أنسجته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وتتكون الأرض من ثلاثة مكونات هي: [1] مادة التربة الصلبة المكونة من المواد المعدنية والعضوية. [2] محلول التربة المكون من مواد التربة الذائبة في الماء. [3] الهواء المتخلل لحبيبات التربة ومساماتها. وتشتمل المادة الصلبة للتربة على حبيبات ذات أحجام متباينة تتدرج من حبيبات خشنة ذات قطر 2 مم إلى حبيبات ناعمة جدا يصل قطرها إلى أقل من ميكرون «1» . وهذه الحبيبات تتكون من صفائح معدنية متراصة بعضها فوق بعض «2» ملتصقة في حالة سكونها، وهي ما عبر عنه القرآن بقوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً. قوله خاشِعَةً. كما يوجد بين هذه الحبيبات فراغات هوائية. وتحمل الحبيبة على سطحها شحنات كهربائية سالبة «3» . أولا: الاهتزاز: إذا نزل ماء المطر على التربة يحدث فيها الاهتزاز الدقيق الذي أشار إليه القرآن بقوله: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ. وذلك بسبب ما يأتي: (أ) تساقط قطرات المطر على حبيبات التربة، فتنشأ فيها حركة آلية   (1) الميكرون: 001، 0 من المليمتر. (2) يمكن الكشف عنها باستخدام الميكروسكوب الإلكتروني. (3) نتيجة إحلال أو استبدال السلكون الرباعي الشحنة بالألمنيوم الثلاثي الشحنة أو إحلال المغنسيوم الثنائي الشحنة أو الحديد الثنائي الشحنة محل الألمنيوم وهذا الاستبدال يغير حالة التوازن فينتج عن ذلك شحنات سالبة غير معادلة، والمصدر الآخر للشحنة هو التكافؤات الناقصة عند الحافات المحطمة لصفائح السلكا والألمنيوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 (ميكانيكية) . (ب) حركة جزئيات الماء" الحركة البراونية" إذ أن حبيبات التربة الموجودة في الوسط المائي تهتز بسبب حركة جزئيات الماء، وهذا الاهتزاز عملية خفية لا يمكن مشاهدتها بالعين المجردة. وعلى الرغم من أن الميكروسكوب اخترع عام 1590 م فإن ظاهرة اهتزاز الجزيئات في الوسط المائي لم تشاهد إلا في عام 1827 م على يد عالم النبات الاسكتلندي روبرت براون، وكان يعتقد في بداية الأمر أن الحركة الاهتزازية الذبذبيّة مقتصرة على حبوب اللقاح الحية في النبات إذا وضعت في وسط مائي، ثم وجد بعد ذلك أن هذه الحركة نفسها تحصل لحبوب اللقاح الميتة. ومع تقدم العلم ثبت أن هذه الاهتزازات تحصل للجسيمات الدقيقة العالقة في الماء ولو كانت جسيمات من الزجاج أو الجرانيت أو الدخان أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 غيرها كحبيبات التربة، وأنها تحصل بسبب اهتزاز جزيئات الماء «1» . (ج) طرد الماء للهواء الموجود في الفراغات بين تلك الحبيبات، فيحدث اهتزازا في حبيبات التربة، وكلما كانت الحبيبات دقيقة كانت الفراغات بينها أدق تعجز العين المجردة عن إدراكها وإدراك حركة الماء خلالها وما يحدثه الماء من اهتزاز لتلك الحبيبات. (د) ظهور الشحنة الكهربائية على سطوح الحبيبات بسبب نزول المطر والذي يسبب عدم استقرارها، وحدوث حركات اهتزازية لا يمكن سكونها إلا بعد تعادل هذه الشحنات بأخرى. ثانيا: الربو: «2» فعند ما تهتز الصفائح الصغيرة الرقيقة المكونة لحبيبات التربة فإنها تتيح   (1) انظر الموسوعة البريطانية (قرص مدمج) ، موسوعة إنكارتا ميكروسوفت 2002 (قرص مدمج) . انظر أيضا" مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي" د. محمد عابد الجابري» ص 323. (2) ربت الأرض ربوا: عظمت وانتفخت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الفرصة لدخول الماء وأيونات «1» العناصر الذائبة فيه إلى الشقوق المسطحة بين الصفائح الرقيقة فتتباعد الصفائح وتربو الحبيبات وتنتفخ «2» بسبب خزن الماء بين صفائح الحبيبات. كما تحاط الحبيبة بأغلفة مائية ممسوكة بقوى الجذب" الكهروستاتيكي" «3» وهكذا تمتلئ الفراغات بين الحبيبات وبهذا تصبح حبيبات التربة خزانات مائية صغيرة تكون سببا في انتفاخ التربة «4» وزيادة   (1) أيونات: مفردها أيون، وهو ذرة أو مجموعة من الذرات فقدت أو اكتسبت إلكترون أو أكثر. (2) راجع كتاب أساسيات فيزياء التربة للدكتور/ دانيل هليل- الطبعة العربية ص 104. (3) الكهرباء الساكنة. (4) ينبغي التفريق بين تشبع التربة وانتفاخها فالتشبع يعني امتلاء الفراغات بين حبيبات التربة بالماء وهذا يمكن أن يحصل في وقت قصير أما الانتفاخ فسببه تغلغل الماء في أجزاء حبيبة التربة المفردة وهذه عملية بطيئة وخاصة في التربة الطينية الأمر الذي يتطلب غمر بعض أنواع التربة بالماء مدة طويلة لتنتفخ. انظر الموقع: How to run a percolation test University of WWW.extension.umn.deu.Minnesota 1992. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 حجمها وإمداد جذور النباتات بالماء بعد انقطاع المطر. ثالثا: إنبات النبات: وبنزول ماء المطر وخزنه بين صفائح حبيبات التربة وعلى أسطح الحبيبات نفسها يستفيد النبات من ذلك الماء خلال الفترة التي تلي نزول المطر فتبدأ البذور الجافة الموجودة في التربة بامتصاص الماء والمواد المعدنية من الوسط المحيط بها وتتحرك العمليات الكيميائية الحيوية في البذور فتنبت وتنمو الدرنات والأبصال وتصبح مساحة سطحية كبيرة من الشعيرات الجذرية للنباتات معرضة لمحلول التربة مما يسهل عليها عملية امتصاص الماء والعناصر الغذائية. كما تنشط ملايين الكائنات الحية الموجودة في التربة، فالفطريات والبكتريا تحول بقايا النباتات والحيوانات إلى مواد معدنية تمتصها النباتات عبر الجذور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وتقوم ديدان الأرض بحفر الأنفاق عبر التربة مفسحة المجال لدخول الهواء والماء خلال التربة فتصبح الأرض مخضرة بإنباتها من كل زوج بهيج. وقد وصف القرآن هذه الحركة الدقيقة لحبيبات التربة والتي لم تشاهد إلا بالمجهر كما وصف ما يحدث من نمو (ربو) لحبيبات التربة الصغيرة بسبب دخول الماء بين الصفائح المكونة لها، ودخوله بين الحبيبات وما ينتج عن ذلك من خزن طويل للماء فيكون سببا لاستمرار إنبات النبات ونموه في وقت انقطاع المطر. قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5] . المعاني اللغوية: قوله تعالى: هامِدَةً. يقال في اللغة: " همد" الهاء والميم والدال: أصل يدل على خمود شيء «1» . وأرض هامدة: لا نبات بها «2» . والهمود: الموت «3» . قوله تعالى" خاشعة": يقال في اللغة (خشع) : الخاء والشين والعين أصل واحد يدل على التطامن. و" بلدة خاشعة": مغبرة «4» . والخشوع: السكون والتذلل «5» .   (1) معجم المقاييس في اللغة. (2) معجم المقاييس في اللغة، تاج العروس، القاموس المحيط. (3) القاموس المحيط. (4) معجم المقاييس في اللغة، تاج العروس. (5) تاج العروس، المعجم الوسيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 و" خشعت الأرض": يبست لعدم المطر «1» . والهمود في الأرض: ألّا يكون فيها حياة ولا عود ولا نبت ولا أصابها مطر، وترى الأرض هامِدَةً أي جافة ذات تراب «2» . قوله تعالى : اهْتَزَّتْ: يقال في اللغة" هزّ": الهاء والزاء أصل يدل على اضطراب في شئ وحركة «3» . اهتز الشيء: تحرك، واهتز النبات: نما وتحرك وطال، والهزّ تحريك الشيء «4» . قوله تعالى: وَرَبَتْ الربو: الزيادة والنماء. وربت: انتفخت وعلت. وربى الشيء: زاد ونما «5» . أقوال المفسرين: هامِدَةً (أ) يابسة لا تنبت شيئا «6» . (ب) جافة ذات تراب «7» . (ج) غبراء متهشمة «8» . (د) ميتة «9» . خاشِعَةً: (أ) يابسة جدبة «10» . (ب) غبراء متهشمة «11» . (ج) هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة «12» .   (1) تاج العروس، المعجم الوسيط. (2) تاج العروس، ترتيب القاموس المحيط. (3) معجم المقاييس في اللغة. (4) لسان العرب، والمعجم الوسيط. (5) لسان العرب لابن منظور، وترتيب القاموس المحيط، معجم المقاييس في اللغة. (6) القرطبي 12/ 13، ابن كثير 3/ 234، الألوسي 9/ 114. (7) القرطبي 12/ 13. (8) ابن كثير 3/ 234. (9) ابن كثير 3/ 234. (10) القرطبي 15/ 365، الألوسي 12/ 377. (11) الطبري 24/ 122. (12) ابن كثير 4/ 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 اهْتَزَّتْ: (أ) يعني بالنبات «1» ؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفيفة فسماه اهتزازا مجازا. وقال المبرد: المعنى اهتز نباتها فحذف المضاف. والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض «2» . (ب) تحركت لإخراج النبات «3» . (ج) اهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء «4» . ونلاحظ من كلام المفسرين أنهم عزوا الاهتزاز للنبات، وأوّلوا الآية على غير ظاهرها، وقال بعضهم الاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض، وذلك بسبب نقص المعلومات في زمنهم ولأن الاهتزاز على مستوى التربة وحبيباتها خفي لا تراه العيون المجردة مع أن الآية الكريمة صريحة في نسبة الاهتزاز إلى التربة نفسها بعد إنزال الله المطر عليها. وَرَبَتْ: (أ) انتفخت وزادت «5» .   (1) البخاري الجزء الخاص بالتفسير 4/ 1817، القرطبي 12/ 13، الصنعاني 4/ 380، البيضاوي 4/ 115، مجاهد 2/ 571، الواحدي 2/ 828، أبو السعود 6/ 95، الدر المنثور 7/ 330، الطبري 17/ 119، ابن كثير 3/ 209، الثعالبي 3/ 72، القاسمي 12/ 9، البغوي 3/ 275، النسفي 3/ 96، زاد المسير 7/ 260، روح المعاني 24/ ر 126. (2) فتح القدير 3/ 517، القرطبي 12/ 13، البغوي 3/ 275. (3) التبيان في تفسير غريب القرآن 1/ 301. (4) الثعالبي 3/ 72. (5) التبيان في تفسير غريب القرآن 1/ 301، البيضاوي 5/ 116، القرطبي 12/ 13، الصنعاني 4/ 380، أبو السعود 6/ 95 و 8/ 15، الطبري 24/ 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 (ب) ارتعشت قبل أن تنبت «1» . (ج) ارتفعت قبل أن تنبت «2» . (د) انتفخت وعلت لما يتداخلها من الماء ويعلوها من نبات «3» . (هـ) انتفخت وعلت ثم تصدعت عن النبات «4» . اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ: تفرق الغيث في سبختها وربوها «5» . وجه الإعجاز: ذكر القرآن اهتزاز التربة وربوها بعد نزول الماء عليها، وهما عمليتان دقيقتان غير مشاهدتين ولا محسوستين ولا يمكن إدراكهما إلا من خلال استخدام المجهر. وعملية الاهتزاز والربو لحبيبات التربة يحصل بنزول المطر، وهذا الاهتزاز يمكن الماء بإذن الله من التخلل بين الصفائح المكونة للتربة والفراغات بين الحبيبات، فتنتفخ الحبيبات ويزداد حجمها وتصبح مخازن للماء يستفيد منها النبات. حيث تتشرب البذور الموجودة في التربة الماء وتنبت، وتمتصه الشعيرات الجذرية للنباتات فتنمو برحمة الله. وتفاصيل العلاقة بين اهتزاز حبيبات التربة وربوها وإنبات الأرض خفية لم يدركها الإنسان إلا بعد تقدم علم التربة وتطور أدواته المعملية. فأول ملاحظة للاهتزاز كانت في عام 1827 م على الرغم من أن الميكروسكوب الضوئي، وهو الأداة التي لوحظ من خلالها الاهتزاز، قد   (1) الدر المنثور 7/ 330. (2) تفسير مجاهد 2/ 571، ابن كثير 3/ 209 الثعالبي 3/ 72، زاد المسير 5/ 408. (3) روح المعاني 9/ 115، القاسمي 9/ 12. (4) الواحدي 2/ 957. (5) الدر المنثور 6/ 11، الطبري 7/ 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 اخترع «1» عام 1590 م، كما أن الميكروسكوب الإلكتروني الماسح والذي يمكن استعماله في فحص الاتحادات البنائية المكونة لحبيبات التربة لم يخترع إلا في عام 1952 م «2» . ويتجلى السبق العلمي للقرآن بصورة أكثر عند ما نستعرض أقوال المفسرين الذين لم تسعفهم علوم عصرهم في فهم ظاهر الآية الكريمة فاضطر أكثرهم إلى تأويلها وحملها على المجاز. وإخبار القرآن بكل وضوح عن هذه الأسرار دليل على أنه منزل ممن يعلم السر في السموات والأرض القائل: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) [الفرقان: 6] والذي وعدنا في كتابه أنه سيرينا آياته بقوله سبحانه: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها [النمل: 93] .   (1) اخترع الميكروسكوب الضوئي على يد" زكاريا جانسن" في هولندا. راجع موسوعة اكسفورد المجلد 9 ص 105. (2) اخترع على يد المهندس الانجليزي =Sir Charles Oatley =أما الميكروسكوب الإلكتروني الناقل والذي يمكن استخدامه أيضا في فحص الوحدات البنائية للطين فقد اخترع في عام 1934 م على يد المهندسين الألمانيين" ماكس نول" و" ايرنست رسكا". انظر موسوعة إنكارتا ميكروسوفت 2002 (قرص مدمج) ، أساسيات فيزياء التربة ص 144 لمؤلفه دانيل هليل، قسم علوم النبات والتربة جامعة ماسيشيو سيتز أميرست- ماسيشيو شتز، الولايات المتحدة الأمريكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 [8] آية اللبن مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) [النحل: 66] . مقدمة: لقد أدرك البشر منذ زمن بعيد العلاقة بين إدرار اللبن وما يتناوله الحيوان من غذاء، وأن الحيوان يهلك إذا ما حرم من الغذاء، ولكنهم لم يعرفوا العملية التي يتم بها تحول هذا الغذاء إلى لبن أو لحم أو عظم أو أي مادة أخرى. وجاء العلم الحديث ليبين لنا المراحل التي توصلنا إلى تكوين اللبن خالصا سائغا للشاربين فيكشف لنا من آيات الله اللطيف الخبير ما جاء مطابقا لما أخبرنا به القرآن عن أسرار تكون اللبن في بطون الأنعام، ويظهر عظمة إنعام الخالق المنعم على عباده. التدرج التاريخي للاكتشافات العلمية: لم يتمكن الإنسان من معرفة كيف يتكون اللبن في بطون الأنعام إلا بعد أن تمكن من اكتشاف أسرار الجهاز الهضمي ومعرفة وظائف أعضائه، وبعد اكتشاف الدورة الدموية وعلاقتها بعملية امتصاص المواد الغذائية من الأمعاء ودخولها في الدم، وقد استغرق ذلك فترة من الزمن لتطوير الأجهزة واكتشاف الأسرار استمرت قرابة خمسة قرون. أ- تطور الأجهزة وأدوات البحث: سلك العلم التجريبي طرقا دقيقة لمعرفة وظائف أعضاء الجهاز الهضمي بعد أن اخترعت الآلات التي تم بها إجراء التجارب والأبحاث لتحقيق النتائج الدقيقة. ولم يحصل هذا إلا في وقت متأخر. فقد كان علماء الأحياء والأطباء في القرنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الرابع عشر والخامس عشر الميلادي عاجزين عن ترجمة ملاحظاتهم العلمية إلى رسوم وصور، كما كانوا أكثر عجزا عن نشرها بين الطلاب لعدم توافر إمكانيات النشر. وسار التقدم في الأجهزة العلمية التي استعملت في معرفة أسرار عملية الهضم بخطوات متتالية حتى انكشف للباحثين الكثير من أسرار الهضم «1» . ب- تاريخ معرفة وظائف أعضاء الجهاز الهضمي: تتابعت الاكتشافات العلمية «2» في معرفة وظائف أعضاء الجهاز الهضمي   (1) ففي حوالي 1866 م صنع جهاز تقطيع الأنسجة المكون من سكينين متوازيين من قبل هيس His ليتم تحضير الأنسجة كشرائح تحت عدسة المجهر. (تاريخ العلوم العام- العلم المعاصر- القرن التاسع عشر، ص 400) . وكان Meyer في عام 1883 م ول من ألصق الشرائح فوق الشفرات بواسطة زلال البيض. (تاريخ العلوم العام- العلم المعاصر- القرن التاسع عشر، ص 400) . وفي عام 1902 م صنع (ف. أ. ايفس) Ives ((مجهرا ثنائي العينية، ثم طور هذا المجهر حتى عام 1938 م وبواسطته تم فحص خلية حية في ظروف جيدة جدا. (تاريخ العلوم العام- العلم المعاصر- القرن العشرين ص 704- 705) . أما الثورة العلمية الكبرى في القرن العشرين فكانت في اختراع المجهر الإلكتروني الذي بواسطته زاد تكبير المجهريات من 2500 إلى (50 أو 70) ألف مرة وبين عامي (1952- 1953 م) وخلال القرن العشرين أيضا درست العضويات الخلوية. وهي الأعضاء التي تتكون منها الخلية والتي تم اكتشافها في نهاية القرن التاسع عشر من حيث التركيب والوظيفة. (المرجع السابق ص 705) . كما تم توضيح آليات الهضم بصورة تدريجية وبصورة خاصة من خلال فيزيولوجيا الأنسجة والكيمياء الحيوية. (تاريخ العلوم العام- القرن العشرين ص 682) . (2) في عام 1833 م قام (واو. بومونت) بتقديم الملاحظات حول مكونات المعدة والإفرازات المعدية. استكشف (كلود برنار) فيزيولوجيا العصائر الهضمية في البداية، ثم اللعاب (1847 م) والعصارة المعدية (1843 م) وعصارة البنكرياس، ... الخ. وأثبت دور البنكرياس في هضم الشحوم، وحلل هضم السكر مما قادة إلى اكتشاف مهم وهو وظيفة الكبد الجليكوجنية (1848 م) ثم استطاع عزل مادة الجليكوجن: (الماة الكاربوهيدراتية الرئيسة التي تخزن في الكبد والعضلات المستقرة وهي سكر متعدد ويتكون من سلسلة طويلة من وحدات الجلوكوز التي تتحلل إليها عند ما تقوم الحاجة إلى الطاقة) في عام 1855 م. (تاريخ العلوم العام- القرن التاسع عشر ص 474) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 من عام 1833 م إلى أن تم التوصل في القرن العشرين إلى توضيح الأعمال المتتالية لعملية الهضم من تفكك بروتيد البروتينات بواسطة السلاسل الأنزيمية المعدية والمعوية. كما تم توضيح تركيب وتأثير أهم العصائر الهضمية، والتثبت من إنزيمات عديدة ذات دور كبير في عملية هضم الطعام، مثل: اللاكتاز، والليبار والبروتيداز وغيرها، كما اكتشف مفعول الهرمونات المختلفة العاملة في مختلف مراحل عملية الهضم «1» . وفي عام 1902 م، اشترك بايليس) Bayliss) وستارلنغ) Starling (في اكتشاف هرمون السكرتين «2» . وفي عام 1911 م أوضح (و. ب. كانون) العوامل الميكانيكية في الهضم وأوضح (ر. غليا نارد) (1913 م) الدراسة اسينمائية التسجيلية لحركات الأمعاء «3» . ج- تاريخ معرفة الدورة الدموية: اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى وكان يقال قبل ذلك إن الدم ينقى ضمن تجويف في القلب. وقد ترجم اندريا الباغو) Andrea Alpago (عمل ابن النفيس في مطلع القرن السادس عشر إلى اللاتينية، ونشرت الترجمة في البندقية   وفي عام 1850 م أنجز. (ف. شول F.Schultze (اختبارا للسليلور (المكون التركيبي الأساسي لجدران الخلايا النباتية ويدخل في صناعة الأخشاب والورق والمنتجات الليفية وتستخدم مشتقاته في صناعة اللدائن وأفلام التصوير الفوتوغرافي والمتفجرات والأغذية (من الموسوعة البريطانية) . وفي عام 1865 م استخدم (ماكس شلتز M.Schultze أوكسيد دويميوم لتلوين المواد الدهنية في الأنسجة الحيوانية وبه تم معرفة الدهون في الأنسجة الحيوانية. وابتكر بافلو في عام (1890 م) تقنية فيزيولوجية لدراسة (إفراز المعدة) . (1) تاريخ العلوم العام- العلم المعاصر- القرن العشرين- ص 682. (2) هرمون معوي يحث البنكرياس والكبد على الإفراز، وهو أول هرمون نموذجي بالمعنى الدقيق للكلمة التي اخترعها ستارلنغ عام 1905 م. (تاريخ العلوم العام- العلم المعاصر- القرن التاسع عشر ص 481) . (3) تاريخ العلوم العام- العلم المعاصر- القرن العشرين ص 683. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 سنة 1547 م «1» . وجاءت بعد ذلك بحوث هار في حول الدورة الدموية وكانت من أبرز البحوث قبل القرن التاسع عشر «2» . وفي عام 1877 م اثبت كلود برنار أن مقدار سكر الجلوكوز في الدم ثابت وإن اختلال هذا التوازن يسبب مرض السكر «3» ، وصحح (كلود برنار) مفهوم (لافوازية) و (لابلاس) بأن الرئتين مركز الاحتراق بقوله أن الاحتراق يتم في الأنسجة المختلفة «4» . وعمل ماري 1904 -1830)) Marey (م) على تحسين التقنيات الخاصة بدراسة عمل القلب والرئتين، كما تناولت أبحاث وأعمال ماري دورة الدم (1863، 1881) ، وفيزيولوجيا الحركة أو الانتقال «5» . أما فيزيولوجيا دوران الدم فإنه منذ القرن التاسع عشر جرى التعرف على الأعصاب المعدّلة والمسرعة للقلب وعلى التحرك الوعائي وعلى بعض الظواهر التي تتدخل في الضغط الشرياني، وقد بحثت بتوسع في القرن العشرين. وبعد استعمال النظائر المشعة تم معرفة المبادلات التي تحدث عند مستوى الشعيرات الدموية بصورة أفضل. وبعد أن اكتشف الإنسان أسرار الهضم ومراحله ووظائف أعضاء الجهاز الهضمي والدورة الدموية ووظيفة القلب والأوعية الدموية، وسيرها في الجسم وعلاقتها بالجهاز الهضمي وسائر أجزاء الجسم بما فيها ضروع اللبن والغدد اللبنية في الأنعام تمكن الإنسان من معرفة طريقة تكون اللبن من الغذاء الذي تأكله الأنعام.   (1) تاريخ العلوم العام- العلم القديم والوسيط ص 513. (2) تاريخ العلوم العام- القرن التاسع عشر ص 471. (3) المرجع السابق ص 474. (4) المرجع السابق ص 476. (5) المرجع السابق ص 482. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 مراحل تكوين اللبن الخالص السائغ: يتم تكوين اللبن في الأنعام بالتنسيق المحكم والتدرج الدقيق بين الجهاز الهضمي والجهاز الدوري والجهاز التناسلي عن طريق الغدد اللبنية في الضروع وغيرها من الأجهزة حيث جعل الله لكل جهاز وظيفة وأعمالا خاصة يقوم بها ليتكون- في نهاية المطاف- اللبن الخالص السائغ للشاربين. ويمكن أن نجمل مراحل تكون اللبن كالآتي: [1] الهضم:) Digestion ( يتم الهضم على عدة أشكال فمنه الهضم «الحركي» والهضم الكيماوي والهضم الميكروبي بواسطة (خمائر) الميكروبات الموجودة في كرش الأنعام. تبدأ عملية الهضم في الفم بنوعيها: الهضم (الحركي) و (الخمائري) حيث يتم تقطيع مواد العلف بالمضغ وخلطها باللعاب الذي يحتوي على أنزيم (الأميليز) الذي يقوم بهضم مبدئي ثم في المعدة المركبة «1» حيث يتم هضم   (1) التي تتكون في الحيوانات المجترة من أربع ردهات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ميكانيكي وميكروبي وكيماوي. ثم يتم اجترار الكتلة الغذائية من الكرش إلى الفم ليعاد مضغها وخلطها باللعاب ثم إعادة بلعها لتعمل عليها بكتريا الكرش فتحلل (السكريات) «1» و (البروتينات) «2» ثم يحدث الهضم (الخمائري) في المعدة الحقيقية (بالببسين والرنين) . وبعمليات الهضم هذه يتحول العلف إلى فرث. وبانتقال الفرث إلى الأمعاء الدقيقة تستمر عملية الهضم فيتعرض الفرث للإنزيمات الهاضمة «3» في الأمعاء والبنكرياس والعصارة الصفراء في الكبد. وبهذا يتم تحليل الأطعمة المحتوية على الجزئيات المعقدة جدّا إلى جزيئات بسيطة، فالنشاء والسكريات المعقدة تتحول إلى سكريات بسيطة، والدهون تتحول إلى أحماض دهنية، والبروتينات تتحول إلى أحماض أمينية وببتيدات، أما الفيتامينات والأملاح والماء فلا تحتاج إلى هضم قبل امتصاصها. ويتحول الفرث الصلب بعد هضمه في الأمعاء إلى فرث رائق «4» .   (1) هي منتجة أحماض دهنية طيارة كالخليك والبروبيونيك واليبوتريك علاوة على اللاكتيك وثاني أكسيد الكربون والمبتمان. (2) منتجة بيبتيدات وأحماض أمينية في الدم أو تدخل في بناء البروتين البكتيري. (3) كالتربين، كيموتربين، أميليز، ليبز، يتيديز، مالتيز. (4) يمكن تحريكه داخل الأمعاء بسهولة كما يفعل الجزار عند تخلصه من فرث الأمعاء ويمكن امتصاص المواد الغذائية التي تحولت إلى جزيئات بسيطة بواسطة الخملات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 [2] الاستخلاص من بين الفرث: تقوم الخملات «1» في الأمعاء الدقيقة بامتصاص المواد الغذائية المحللة بعدة طرق «2» . وتصل هذه المواد إلى داخل الأوعية الدموية الصغيرة الواقعة تحت النسيج الطلائي، ومنها إلى الأوعية الدموية الأكبر فتدخل في تيار الدورة الدموية. [3] الاستخلاص من بين الدم: ثم يقوم الدم بنقل هذه المواد الغذائية إلى جميع خلايا الجسم والتي منها خلايا الضروع التي يتم فيها امتصاص مكونات الحليب من بين الدم. [4] تصنيع اللبن في الضرع: والضرع مدينة صناعية يتكون من فصوص، وكل فص يتكون من عدد من الفصيصات، وكل فصيص يحتوي ما بين 150- 220 حويصلة مجهرية، والحويصلة المجهرية عبارة عن تركيب يشبه الكيس حيث يصنع اللبن ويفرز. وكل حويصلة تعد وحدة صناعية مستقلة متكونة من تجويف لجمع   (1) وهي عبارة عن بروزات أو نتوآت تغطي سطح بطانة غشاء الأمعاء الدقيقة لكي تزيد من سطح الامتصاص، حيث تبلغ هذه المساحة في الأبقار حوالي 17 م 2 (رعاية الحيوان ص 142) . (2) منها: * الأسموزية أو الانتشار. * النفاذية لاختلاف الشحنات الكهربية. * بالفعل الحيوي للأنسجة الطلائية أي بالاختيارية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 اللبن محاط بطبقة واحدة من الخلايا الطلائية (الظهارية) ، وكل خلية في هذه الوحدة الصناعية وحدة متكاملة قائمة بذاتها تحول ما بداخل جوفها من مواد أولية قادمة من الدم إلى قطيرة لبن تفرز في ذلك التجويف. إن الخلية الطلائية (الظهارية) اللبنية هي التي يجعل الله داخلها جميع عمليات تصنيع اللبن بمكوناته المختلفة، فتصل المكونات الأساسية للبن إلى الغشاء القاعدي للخلية اللبنية فيأخذ كل مكون طريقه عبرها ليصل إلى القسم المناسب داخل الخلية حيث تجري عليه العمليات التي قدرها عالم السر وأخفى سبحانه فيخرج من الجهة العليا للخلية مادة جديدة تشكل مع المواد الآخرى الناتجة لبنا سائغا للشاربين. فتعال معنا نتتبع مسار كل مادة وردت من الدم وما يحصل لها في رحلتها عبر الخلية اللبنية. يبين الشكل آليات انتقال مكونات اللبن من الشعيرات الدموية عبر الخلية اللبنية إلى تجويف الحويصلة بعد تعرض قسم منها إلى معالجات تحولها إلى مواد مناسبة لتركيب اللبن وانتقال قسم آخر دون تغيير عبر الخلية أو عبر مسالك يبين الخلايا اللبنية. [1] الأحماض الأمينية: تنطلق الأحماض الأمينية التي جاءت من الدم وتتوجه إلى القسم المناسب من المصنع وهو الرايبوسومات المتعددة المنتشرة على الشبكة الإندوبلازمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الخشنة، كما في الشكل. وهناك ترتبط تساهميّا لتكوين البروتينات، التي تنتقل بعدها إلى جهاز جولجي حيث تتم معالجتها قبل انتقالها إلى خارج الخلية عبر حويصلات إفرازية تتبرعم من جهاز جولجي. وعند الغشاء العلوي للخلية تلتحم الحويصلة الإفرازية بالسطح الداخلي للغشاء العلوي الأمر الذي يؤدي إلى إحداث فتحة تفرع الحويصلة عبرها محتوياتها من البروتينات في تجويف الخلية البنية 1- إفراز خلوي تسربي 2- دهون 3- نقل قمي 4- نقل عبر الخلية 5- مسلك جوار الخلية الحويصلة. وهكذا توفرت مكونات اللبن من البروتينات. [2] سكر اللبن (اللاكتوز) : ثمة مادة مهمة أخرى من مكونات اللبن وهي اللاكتوز أو سكر اللبن، الذي يجعل اللبن سائغا للشاربين بإذن الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 يدخل سكر الجلوكوز القادم من الدم الخلية عبر غشائها القاعدي الجانبي فيتحول بعضه إلى جالاكتوز ويدخلان معا جهاز جولجي ليتعرضا لتفاعلات تؤدي إلى تكوين (سكر اللبن) (اللاكتوز) ، مما يؤدي إلى سحب الماء إلى داخل الخلية وداخل جهاز جولجي فيكون جزآ من اللبن «1» . وينضم سكر اللبن والماء إلى البروتينات بانتظار مكونات أخرى مهمة ومنها الدهون. [3] الدهون: تستقبل الخلايا الطلائية الخلات والزبدات والأحماض الدهنية الجاهزة والجليسيرول، القادمة من الدم عبر الغشاء القاعدي الجانبي لتشكل مادة دهنية في الشبكه الأندوبلازمية التي يخرج منها الدهن عندئذ في صورة قطيرات دهنية صغيرة تتجمع لتشكل قطيرة أكبر فأكبر تتجه نحو الغشاء العلوي للخلية حتى إذا ما وصلته هداها ربها للاندفاع بقوة للالتحاق بمكونات اللبن السابقة التي حطت رحالها في تجويف الحويصلة ولكن هذه القطيرة بعد أن سارت عبر الخلية دون غشاء تجرف معها جزآ من غشاء الخلية لتحيط نفسها به فيتم تغليف الحبيبة- بإذن الله- وهي في تجويف الحويصلة، وعندئذ تسمى كرية دهنية لبنية بعد أن كانت مجرد قطيرة دهنية. [4] الأجسام المضادة: تأتي الأجسام المضادة من الدم عبر الغشاء القاعدي الجانبي للخلية اللبنية فتتسلمها مستقبلات موجودة على السطح القاعدي الجانبي للخلية ثم تحملها حويصلات النقل (ناقلات) عبر الخلية لتصل إلى السطح الداخلي للغشاء العلوي للخلية فتطرح هذه الأجسام المضادة المناعية في تجويف الحويصلة دون أن   (1) لاحظ أن جهاز جولجي يسهم في معالجة بروتينات اللبن وصناعة اللاكتوز والسحب الاسموزي للماء) ويفرز سكر اللبن ومعظم الماء عبر حويصلات الإفراز مع بروتينات اللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 تتعرض هذه الأجسام لشئ مما تعرضت له المكونات الآخرى من معالجة وتغيير. [5] مكونات أخرى: يشق الماء وكريات الدم البيضاء وبعض الأيونات والأملاح طريقها إلى تجويف الحويصلة عبر مسالك ضيقة بين الخلايا. وهكذا تنتهي الرحلة المقدرة بأمر الله لمكونات اللبن. وليس بمقدور مخلوق من البشر مهما أوتى من علم وإمكانيات أن يحاكي خلية لبنية واحدة تصنع اللبن. ولكن الله القدير العليم جعل من هذه الخلية التي لا ترى إلا بالمجهر مجمعا صناعيا متكاملا يصنع اللبن على مدار الساعة عند الكائنات التي رزقها الله تعالى ذرية تحتاج إلى ذلك اللبن وجعل جزآ كبيرا منه رزقا للعباد وامتن عليهم بقوله: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) [النحل: 66] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 تفسير الآية: المعنى اللغوي: الفرث هو ما في الكرش «1» . وقيل هو السرجين ما دام في الكرش «2» . أقوال المفسرين: اختلف المفسرون في معنى الآية الكريمة بسبب اختلافهم في فهم مدلولات بعض الألفاظ فتصور البعض أن عبارة مِنْ بَيْنِ جاءت للتبعيض أي من بعض الفرث أو من بعض الدم، بينما رأى آخرون أنها مكانية أي من مكان بين الدم والفرث- ونجمل فيما يأتي حصيلة ما قاله المفسرون رحمهم الله تعالى. [1] وردت رواية ضعيفة عن ابن عباس (رضي الله عنهما) مفادها: " أن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طحنته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما. " وقد أورد هذا الحديث كثير من المفسرين، منهم البيضاوي والقرطبي وأبو السعود والشوكاني وابن الجوزي في زاد المسير والآلوسي في روح المعاني وغيرهم. وقد علق بعض هؤلاء المفسرين على القول المنسوب لابن عباس (رضي الله عنهما) بعد أن لاحظوا أنه يخالف الواقع المشهود، فقال كل من أبو السعود والبيضاوي والألوسي أن اللبن والدم لا يتكونان في الكرش. ففي روح المعاني يقول الألوسي: " وتعقب ذلك أي قول ابن عباس الرازي بقوله: ولقائل أن يقول اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس، فإن الحيوانات تذبح دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه".   (1) في القاموس المحيط. (2) الفيروزأبادي/ وابن منظور في لسان العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 [2] ذكر بعض المفسرين أن الفرث هو مصدر الدم واللبن أي يخرج الدم من الفرث ويخرج اللبن من الفرث كذلك. قال بهذا البيضاوي عندما أوّل الكلام المنسوب لابن عباس بقوله: إن صح فالمراد أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم؛ لانهما لا يتكونان في الكرش وقال به الشوكاني في (فتح القدير) . [3] وذكر كثير من المفسرين ما يتفق مع جاء به العلم الحديث من أن مكونات اللبن تستخلص من الفرث ثم تستخلص من الدم. وممن قال بذلك القرطبي وأبو السعود وصاحب معاني القرآن، وفي زاد المسير لابن الجوزي في قوله: " الفرث ما في الكرش والمعنى أن اللبن كان طعاما فخلص من ذلك الطعام دم وبقي فرث في الكرش وخلص من ذلك الدم لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ. وهكذا نلاحظ اختلاف المفسرين في هذه المسألة بسبب عدم توافر المعرفة العلمية في زمانهم، ومع ذلك فقد هدى الله تعالى بعض المفسرين إلى الفهم الصحيح لمعنى مِنْ بَيْنِ وأنها تعنى من بعض الفرث، ثم من بعض الدم، على الرغم من عدم معرفتهم للكيفية التي لم يطلع عليها البشر إلا بعد قرون من نزول هذه الآية الكريمة. [4] أن لفظ خالِصاً في الآية دليل آخر على أن مواد اللبن تخلص من بين الدم بعد أن خلصت من الفرث، وقد ألمح إلى هذا المعنى الطبري بقوله: خلص من مخالطة الدم والفرث فلم يختلطا به. إلا أن المفسرين- رحمهم الله- لم يشيروا إلى هذا المعنى الظاهر وإنما اقتصروا على القول بأن خالِصاً تعنى أن اللبن لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث كما قاله البيضاوي والبغوي؛ أو حمرة الدم وقذارة الفرث كما قاله القرطبي والشوكاني؛ أو خالصا عن شائبة ما في الدم والفرث من الأوصاف كما قاله أبو السعود وصاحبا تفسير الجلالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وجه الإعجاز: ما كان أحد يعلم قبل اكتشاف أجهزة التشريح في القرنين الماضيين أسرار ما يجري في الجهاز الهضمي عند الحيوان والإنسان ووظائف ذلك الجهاز المعقد وعلاقته بالدورة الدموية ومراحل تكون اللبن في بطون الأنعام. فلما تكاملت صناعة الأجهزة والتجارب العلمية عبر قرون عرف الإنسان أن مكونات اللبن تستخلص بعد هضم الطعام من بين الفرث وتجري مع مجرى الدم لتصل إلى الغدد اللبنية في ضروع الإناث التي تقوم باستخلاص مكونات اللبن من بين الدم دون أن يبقى أي آثار في اللبن من الفرث أو الدم وتضاف إليه في حويصلات اللبن مادة سكر اللبن التي تجعله سائغا للشاربين. هذه الأسرار كانت محجوبة عن البشر فلم يكتشفوها إلا بعد رحلة طويلة من التجارب والبحوث العلمية التي استغرقت قرونا واستعملت فيها أجهزة صنعت لأول مرة على أيدي الباحثين لم يكن لها وجود عند البشر قبل ذلك. ولكن القرآن الكريم كشفها أمام قارئيه بأجمل عبارة وأوجز لفظ قبل ألف وأربعمائة عام. فمن علم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من بين سائر البشر في ذلك الزمن أسرار الجهاز الهضمي والجهاز الدوري ودقائق ما يجري في غدد اللبن إلا الذي يعلم السر في الأرض والسماء ويعلم أسرار ما خلق من الكائنات، فيكون ذلك شاهدا على أن القرآن نزل بعلم الله وأن محمدا رسول الله. قال تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) [النساء: 166] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [9] الحاجز بين النهر والبحر (منطقة المصب) : شاهد الإنسان منذ القديم النهر يصب في البحر، ولاحظ أن ماء النهر يفقد بالتدريج- لونه المميز، وطعمه الخاص كلما تعمق في البحر، ففهم من هذه المشاهدة أن النهر يمتزج بالتدريج بماء البحر، ولولا ذلك لكان النهر بحرا عذبا يتسع كل يوم حتى يطغى على البحر. ومع تقدم العلم وانطلاقه لاكتشاف أسرار الكون أخذ يبحث عن كيفية اللقاء بين البحر والنهر، ودرس عينات من الماء حيث يلتقي النهر بالبحر، ودرس درجات الملوحة والعذوبة بأجهزة دقيقة، وقاس درجات الحرارة، وحدد مقادير الكثافة، وجمع عينات من الكائنات الحية وقام بتصنيفها، وحدد أماكن وجودها، ودرس قابليتها للعيش في البيئات النهرية والبحرية. وبعد مسح لعدد كبير من مناطق اللقاء بين الأنهار والبحار اتضحت للعلماء بعض الأسرار التي كانت محجوبة عن الأنظار، واكتشف الباحثون أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أنواع: (1) مياه الأنهار وهي شديدة العذوبة. (2) مياه البحار وهي شديدة الملوحة. (3) مياه في منطقة المصب وهي مزيج من الملوحة والعذوبة، كما أنها منطقة فاصلة بين النهر والبحر وتتحرك بينهما بحسب مد البحر وجزره، وفيضان النهر وجفافه، وتزداد الملوحة فيها كلما قربت من البحر، كما تزداد درجة العذوبة كلما قربت من النهر. ويوجد برزخ مائي يحيط بمنطقة المصب ويحافظ على هذه المنطقة بخصائصها المميزة لها حتى ولو كان النهر يصب إلى البحر من مكان مرتفع في صورة شلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ولا يحدث لقاء مباشر بين ماء النهر وماء البحر في منطقة المصب بالرغم من حركة المد والجزر وحالات الفيضان والانحسار التي تعتبر من أقوى عوامل المزج؛ لأن البرزخ المحيط بمنطقة المصب يفصل بينهما على الدوام. إلا أن ماء النهر يمتزج بماء البحر بصورة بطيئة من خلال المنطقة الفاصلة من مياه المصب، والبرزخ المائي الذي يحيط بها. وتختلف الكتل المائية الثلاث (ماء النهر، ماء البحر، وماء المصب) في الملوحة والعذوبة، وقد شاهد الباحثون الذين قاموا بتصنيف الكائنات الحية الموجودة فيها ما يلي: (أ) معظم الكائنات التي تعيش في البحر أو النهر أو المصب لا تستطيع أن تعيش في غير بيئتها وتموت إذا خرجت منها. إلا أن بعض الأنواع القليلة مثل سمك السلمون، وثعابين البحر تستطيع أن تعيش في البيئات الثلاث، ولها قدرة على أن تتكيف مع كل بيئة «1» . (ب) وبتصنيف البيئات الثلاث باعتبار الكائنات التي تعيش فيها تعتبر منطقة المصب منطقة حجر على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيها؛ لأن هذه الكائنات لا تستطيع أن تعيش إلا في نفس الوسط المائي المتناسب في ملوحته وعذوبته مع درجة الضغط الاسموزي في تلك الكائنات، وتموت إذا خرجت من المنطقة المناسبة لها، وهي منطقة المصب.   (1) فعديدات الأشواك (فيفينس) ومعديّات الأرجل (لبتورينا، نيريتا) والسركانات توجد في المصبات ولكنها يمكن أن تعيش في المناطق البحرية عند مناسبة الظروف البيئية، أما (النيريس) وهي من عديدات الأشواك، ومعديّات الأرجل (نيريتينا، هيدروبيا) والقشريات (سيانثورا) فتعتبر حيوانات لمنطقة المصب ولا توجد في البحر، ومعظم كائنات البيئات الثلاث تموت إذا خرجت من بيئتها الخاصة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ومنطقة المصب في نفس الوقت منطقة محجورة على معظم الكائنات الحية التي تعيش في البحر أو النهر؛ لأن هذه الكائنات تموت إذا دخلتها بسبب اختلاف الضغط الاسموزي أيضا. صورة بالأقمار الصناعية لمنطقة المصب (الحاجز بين النهر والبحر) وقد جعل الله هذا النظام المائي البديع لحفظ الكتل المائية الملتقية من أن يفسد بعضها خصائص البعض الآخر، ليبقى ذلك الاختلاف في الخصائص رحمة للناس بالحفاظ على عذوبة مياه الأنهار ومناسبا لحياة سائر الكائنات. التي تعيش في الماء وإذا كانت العين المجردة لا تستطيع أن ترى هذا الحاجز الذي يحفظ الله تعالى به منطقة المصب، فإن الأقمار الصناعية اليوم قد زودتنا بصورة باهرة، تبين لنا حدود هذه الكتل المائية الثلاث، التي تزداد وضوحا كلما ازداد الفارق في حرارة الماء وما يحمله من مواد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وبالرغم من أن الماء العذب يمتزج مع ماء البحر فإن هناك حدودا على طرفي منطقة الامتزاج المحدودة، التي تفرض قيودا على ما يدخلها أو يخرج منها. وهذا الوصف ينطبق تماما على نظام المصب ولقد وصف القرآن الكريم منطقة اللقاء بين صورة بالأقمار الصناعية لمصبات عدة أنها الكتل المائية الثلاث بأدق وصف وأدل لفظ وأوجز عبارة تضمنت تحديد العلاقة بين الكتل المائية الثلاث وكائناتها الحية التي تعيش فيها. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) [الفرقان: 53] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 المعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية: اللفظ مرج يأتي بمعنيين بارزين: الأول: الخلط: قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) [ق: 5] . وجاء في لسان العرب (أمر مريج: أي مختلط) «1» وقال الأصفهاني في المفردات: (أصل المرج: الخلط) «2» وقال الزبيدي: (ومرج الله البحرين العذب والمالح خلطهما حتى التقيا ... ) . وقال الزجاج: مرج: خلط يعني البحر الملح والبحر العذب «3» . وقال ابن جرير الطبري: (والله الذي خلط البحرين فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه) وأصل المرج: الخلط ومنه قول الله: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: مختلط. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني خلع أحدهما على الآخر. وعن مجاهد: أفاض أحدهما على الآخر. وعن الضحاك بمثل قول ابن عباس «4» وذهب إلى هذا المعنى جمهور من المفسرين منهم: القرطبي «5» وأبو حيان «6» والآلوسي «7» والخازن «8» ...... والرازي «9» والشوكاني «10» والشنقيطي «11» .   (1) لسان العرب 2/ 364. (2) المفردات: 465. (3) تاج العروس: 2/ 99. (4) جامع البيان للطبري 19/ 15. (5) الجامع لأحكام القرآن 13/ 58. (6) البحر المحيط 6/ 50. (7) روح المعاني 19/ 33- 35. (8) تفسير الخازن في كتاب مجموعة التفاسير 4/ 451. (9) التفسير الكبير 24/ 100. (10) فتح القدير 4/ 82- 83. (11) أضواء البيان 6/ 338- 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الثاني: مجيء وذهاب واضطراب (قلق) : قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب) وقال: مرج الخاتم في الأصبع: قلق. وقياس الباب كله منه (ومرجت أمانات القوم وعهودهم) «1» : اضطربت واختلطت «2» وجاء نفس المعنى في الصحاح للجوهري «3» ولسان العرب «4» وبذلك قال الزبيدي «5» والأصفهاني «6» . (البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) : البحر العذب «7» هو النهر، ووصفه القرآن الكريم بوصفين: عذب «8» ، وفرات «9» ومعناهما: أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف (فرات) ، وبهذا الوصف خرج ماء المصب الذي يمكن أن يقال إن فيه عذوبة، ولكن لا يمكن أن يوصف بأنه فرات. وما كان من الماء ملحا أجاجا فهو ماء البحار، ووصفه القرآن الكريم بوصفين (ملح) «10» و (أجاج) «11» وأجاج معناه شديد الملوحة، وبهذا خرج ماء المصب لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة فلا ينطبق عليه وصف: ملح أجاج.   (1) رواه أحمد 2/ 162 في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (2) معجم مقاييس اللغة: 5/ 316. (3) الصحاح: 1/ 341. (4) لسان العرب: 2/ 364- 365. (5) تاج العروس: 2/ 99. (6) المفردات: 465. (7) قال ابن جرير الطبري: " يعنى بالعذب الفرات: مياه الأنهار والأمطار" 191، وقال أيضا: فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب، نفس المصدر، وقال النسفي: " وسمي الماءين الواسعين الكثيرين بحرين" مجموعة التفاسير: 4/ 451، وبمثله الزمخشري 3/ 96، والألوسي 9/ 33، والبقاعي 13/ 406. (8) عذب فرات: شديد العذوبة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة. (9) عذب فرات: شديد العذوبة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة. (10) ملح أجاج: شديد الملوحة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة. (11) ملح أجاج: شديد الملوحة: ذهب إلى هذا جمهور المفسرين وأهل اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وبهذه الأوصاف الأربعة تحددت حدود الكتل المائية الثلاث: [1] هذا عَذْبٌ فُراتٌ: ماء النهر. [2] وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ: ماء البحر. [3] وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً: البرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصب. فما هو الحجر المحجور؟. الحجر والحجر: هو المنع «1» والتضييق. يسمى العقل حجرا: لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي «2» . قال تعالى هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) [الفجر: 5] والسفيه يحجر عليه القاضي من التصرف في ماله فماله في حجر أو حجر والكسر أفصح «3» . وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: " لقد تحجرت واسعا" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد «4» . قال ابن منظور: (لقد تحجرت واسعا) أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك «5» . ونستطيع أن نفهم الحجر هنا: بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر.   (1) لسان العرب: 4/ 167، المفردات للأصفهاني: 109. (2) معجم مقاييس اللغة 2/ 138 قال: " الحاء والجيم والراء أصل واحد، وهو المنع والإحاطة على الشيء ... " ويقال حجر الحاكم على السفيه حجرا، وذلك منعه إياه من التصرف في ماله، والعقل يسمى حجرا لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي، قال تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) . (3) سنن النسائي 3/ 14، ح 1216- 1217، مسند أحمد 2: 239، 283. (4) انظر: سنن أبي داود 1/ 264، ح 380، تحفة الأحوذي 1/ 458، ح 147، سنن النسائي 3/ 14، ح 1216- 1217، مسند أحمد 2: 239، 283. (5) لسان العرب: 4/ 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ووصفت هذه المنطقة أيضا بأنها محجورة أي ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلا عن الأول أي أنها أيضا منطقة ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها فهي: حجر (حبس، محجر) على الكائنات التي فيها. محجورة على الكائنات الحية بخارجها. ويكون المعنى عندئذ: وجعل بين البحر والنهر برزخا مائيّا هو: الحاجز المائي المحيط بماء المصب، وجعل الماء بين النهر والبحر حبسا على كائناته الحية ممنوعا عن الكائنات الحية خارجه الخاصة بالبحر والنهر. ولم يتيسر للمفسرين الإحاطة بتفاصيل الأسرار التي ألمحت إليها الآية؛ لأنها كانت غائبة عن مشاهدتهم لذلك تعددت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية: فقال بعضهم في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الفرقان: 53] أي خلطهما فهما يلتقيان. ويستند هذا القول إلى المعنى اللغوي للفظ: مَرَجَ. وقررت طائفة أخرى من المفسرين أن معنى وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي (وهو الّذي أرسلهما في مجاريهما فلا يختلطان) . قال ابن الجوزي: قال المفسرون: والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما فما يلتقيان، ولا يختلط الملح بالعذب، ولا العذب بالملح «1» . وقال أبو السعود: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: أي خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان، من: مرج دابته: أخلاها «2» . وبمثله قال البيضاوي «3» والشنقيطي في أحد قوليه «4» وطنطاوي جوهري   (1) زاد المسير: 6/ 90. (2) تفسير أبو السعود: 6/ 225. (3) مجموعة التفاسير: 4/ 451. (4) ج 24 ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 في تفسير الجواهر. والذين قرروا هذا المعنى نظروا إلى قوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وتقرير اختلاط الماءين يبدو متعارضا مع وجود البرزخ والحجر المحجور. ولذلك رجح بعض المفسرين معنى الخلط، ورجح الآخرون معنى المنع. وكذلك الحال في تفسير البرزخ، فقد قرر بعض المفسرين أن معنى بَرْزَخاً: حاجزا من الأرض «1» ، وبمثله قال أبو حيان «2» والرازي «3» والآلوسي «4» والشنقيطي «5» . ولقد رد ابن جرير الطبري هذا القول، فقال: (لأن الله تعالى ذكره أخبر في أول الآية أنه مرج البحرين، والمرج هو الخلط في كلام العرب على ما بينت قبل فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضا أو يبسا لم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما. وبين البرزخ فقال: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً: (حاجزا لا يراه أحد) «6» . وقال ابن الجوزي عن هذا البرزخ: (مانع من قدرة الله لا يراه أحد) «7» . وقال الزمخشري «8» : (حائلا من قدرته) كقوله تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد: 2] وبمثلهم، قال: القرطبي «9» والبقاعي «10» وأكثر المفسرين. فتأمل كيف عجز علم البشر عن إدراك تفاصيل ما قرره القرآن الكريم. فمن المفسرين من ذكر أن البرزخ أرضا أو يبسا (حاجز من الأرض) «11» .   (1) ابن كثير: 3/ 322. (2) البحر المحيط: 6/ 506. (3) التفسير الكبير: 24/ 100. (4) روح المعاني: 19/ 33. (5) أضواء البيان: 6/ 339. (6) جامع البيان: 19/ 25. (7) زاد المسير: 6/ 90. (8) الكشاف: 3/ 96. (9) جامع الأحكام: 13/ 58. (10) نظم الدرر: 13/ 406. (11) جامع البيان: 19/ 24- 25، روح المعاني: 19/ 34، التفسير الكبير: 24/ 101، زاد المسير: 6/ 96، ابن كثير: 4/ 424، 3/ 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ومنهم من أعلن عجزه عن تحديده وتفصيله فقال: (هو حاجز لا يراه أحد) ، وهذا يبين لنا أن العلم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه ما هو فوق إدراك العقل البشري في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد عصره بقرون. وكذلك الأمر في الحجر المحجور. فقد ذهب بعض المفسرين إلى حملها على المجاز، وذلك بسبب نقص العلم البشري طوال القرون الماضية. قال الزمخشري: (فإن قلت، حجرا محجورا ما معناه) قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول: وَحِجْراً مَحْجُوراً «1» وبمثل ما قال الزمخشري قال غيره من المفسرين كأبي حيان «2» والرازي «3» والآلوسي «4» ، والشنقيطي «5» مع أنه من المفسرين المتأخرين. عند قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان: 53] لم يكتف النص القرآني بقوله تعالى هذا عذب لأنه قد يختلط على القارئ تحديد المنطقة المقصودة فيدخل فيها منطقة المصب لأن فيها شيء من العذوبة فجاء القرآن بقيد وصف فيه البحر العذب المقصود بشدة العذوبة بلفظ أخرج منطقة المصب، وحصر المعنى في النهر الصافي بقوله تعالى: هذا عَذْبٌ فُراتٌ. وكما أخرج النص القرآني منقطة المصب بزيادة فُراتٌ على الماء العذب، أخرج منطقة المصب مرة ثانية من جهة البحر الملح الشديد الملوحة بإضافة وصف   (1) الكشاف: 3/ 101. (2) البحر المحيط: 6/ 507. (3) التفسير الكبير: 24/ 100. (4) روح المعاني: 19/ 33. (5) أضواء البيان 6/ 439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 للبحر الملح بقوله: أُجاجٌ حتى لا يدعي شخص أن المصب فيه ملوحة وأنه داخل في المقصود فأخرج النص القرآني بزيادة أُجاجٌ ليدل المعنى على البحر الصافي فتحدد بذلك مناطق ثلاث: بحر صاف شديد الملوحة، وبحر عذب شديد العذوبة، ومنطقة المصب وهي مزيج بين العذوبة والملوحة. فانظر كيف حارت العقول الكبيرة عدة قرون- بعد نزول القرآن الكريم- في فهم الدقائق والأسرار، وكيف جاء العلم مبينا لتلك الأسرار، وصدق الله القائل: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها [النمل: 93] . وانظر كيف استقر المعنى بعد أن كان قلقا عند المفسرين. قال تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) [الأنعام: 67] . وقال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) [ص: 88] . فمن أخبر النبي الأمي في الأمة الأمية في البيئة الصحراوية، حيث لا وجود لنهر ولا لمصبه عن هذه الأسرار الدقيقة المتعلقة بالكتل المائية المختلفة التركيب: عذب فرات، ملح أجاج، وبينهما برزخا وحجرا محجورا؟!. والحجر: هو المكان المحجور عن كائنات حية تعيش في هذه البيئات المائية الثلاث. وكم استغرق الإنسان من الزمن؟، وكم استخدم من الآلات الدقيقة والأجهزة الحديثة حتى تمكن من الوصول إلى هذه الحقائق التي جرت على لسان النّبيّ الأمي قبل ألف وأربعمائة عام بأوجز تعبير وأوضح بيان؟. نأمل في الفرق الدقيق الذي يميز التقاء بحرين ملحين عن حالة اللقاء بحر ملح وآخر عذب فسترى أنه في حالة البحرين الملحين لا وجود لمنطقة الحجر المحجور لأن الاختلاف في الضغط التناضحي (الاسموزي) بين البحرين متقارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 مما يسمح بانتقال الكائنات الحية بين البحرين أما في حالة اللقاء بين البحر الملح والبحر العذب (النهر) فإنه لابد من وجود منطقة المصب التي يكون الماء فيها مزيجا بين العذوبة والملوحة، مما ينشأ عنه فوارق كبيرة في درجات الضغط التناضحي الأسموزي الذي يجعل من منطقة المصب منطقة حجر (حبس) على ما فيها من الكائنات الحية فلا يسمح بخروجها لا إلى البحر ولا إلى النهر كما يجعل منطقة المصب أيضا منطقة محجورة على كائنات البحر والنهر فلا يسمح بدخول أي منها إلى منطقة المصب وتأمل كيف عبر القرآن الكريم عن هذه الحقائق بأوضح وأوجز وأجمل بيان فقال في وصف اللقاء بين البحرين الملحين: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) وقال في وصف اللقاء بين البحر الملح والبحر العذب: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) [الفرقان: 53] . فمن أين جاء هذا العلم لمحمد عليه الصلاة والسلام إن لم يكن من عند الذي أحاط بكل شيء علما؟!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 المعجزة العلمية في السنة تمهيد: تظهر المعجزة العلمية لمحمد صلى الله عليه وسلم بإخبار القرآن الكريم بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك إخبار السنة النبوية لأنها وحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهي ما صدر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من قول غير القرآن أو فعل أو تقرير قال تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 3- 4] . وهذا الإعجاز الذي تحمله أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم شاهد على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه سبحانه. كما يشهد بدقة ضبط الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا، أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» . وهي كذلك ستبقى معجزة متجددة إلى قيام الساعة؛ كما قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) [ص: 88] . فأنباء الأرض في القرآن والسّنّة تتجلى في عصر الاكتشافات، وخبر القرآن والسّنّة وما فيهما من أوصاف هو نبأ إلهي عما في الأرض والسماء. وكما زخر القرآن الكريم بأنباء الكون وأسرار الخلق كذلك والسّنّة التي جاءت   (1) أخرجه البخاري ك/ فضائل القرآن، ب/ كيف نزل الوحي وأول ما نزل، ومسلم ك/ الإيمان، ب/ وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 شارحة ومبينة ومفصلة: قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل: 44] فهي شاهدة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما جاء به. وكما تجلت أنوار الوحي الإلهي في القرآن بكشف الأسرار المحجوبة في آفاق الأرض والسماء وفي النفس البشرية، كذلك تتحقق هذه المعجزة في حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو جزء من حديث بدقة علمية معجزة وعبارات مشرقة، فهيا لندبر معجزة من هذه المعجزات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 معجزة وصف الجنين بعد الليلة الثانية والأربعين يحاط الجنين وهو في بطن أمه بظلمات جدر ثلاثة هي: جدار بطن الأم، وجدار الرحم، وجدار المشيمة، ويختفي الجنين عن أعين الناس، داخل تلك الجدر والظلمات، ولقد حاول الإنسان أن يعرف أسرار خلق الجنين فتخبط في أوهام كثيرة. توهم الناس أن الجنين يخلق من دم الحيض، وساد هذا الوهم- الذي تخيله ارسطو- على أفكار البشر طوال ألفي عام، يقول البروفيسور كيث إل. مور «1» : " ويعد كثير من علماء الأجنة أرسطوطاليس" مؤسس علم الأجنة على الرغم من حقيقة كونه روج فكرة: أن الجنين يتطور من كتلة عديمة الشكل تنتج عن اتحاد المني بدم الحيض". ويقول البروفيسور: ج. س. جورنجر- في بحث ألقي في عدد من المؤتمرات الدولية- عن الوهم الذي تخيله أرسطوطاليس: " ولم يرتفع هذا الوهم إلا بعد" إعلان كل من (هام) و (فان لوفينهوك) اكتشاف الحوين المنوي البشري عام 1701 م» «2» . وتوهم الباحثون أن الإنسان يخلق خلقا تاما منذ بداية تكوينه؛ لأن جميع ما يشاهده الناس- لجميع الكائنات الحية- من صور للنمو لا يكون إلا بزيادة حجم الكائن الصغير. وقد عبر علماء أوروبا عن هذه الفكرة في بداية عصر   (1) كيث ال. مور هو من أشهر علماء عصرنا في مجال علم الأجنة، وكتابه مترجم إلى سبع لغات غير الإنجليزية، منها: الروسية، والصينية، واليابانية، والألمانية. (2) نظرة تاريخية في علم الأجنة للبروفسور ج. س. جورنجر جامعة جورج تاون واشنطن العاصمة كتاب: علم الأجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 النهضة بشكل نشر قرابة عام 1672 م. والذي علق عليه البروفسور ج. س. جورنجر بقوله: " ونشرت في الوقت ذاته (أي عام 1672 م) تقريبا مجموعة أخرى من الرسومات تظهر تخلق الجنين البشري الشكل (1- 6) وتعبر كلها عن رسم واحد، ولكن بقياس مختلف (ولم يشر إلى ذلك ناشرو ومحكمو الجمعية الملكية للفلسفة عندئذ) فقد كانوا يعتقدون إلى هذا الوقت أن التخلق الإنساني ليس إلا زيادة في الحجم لصورة واحدة تتسع أبعادها بمرور وقت الحمل، لسيطرة فكرة الخلق التام للإنسان من أول مرحلة على أذهان العلماء" «1» . وحتى بعد اكتشاف المجهر (الميكروسكوب) ، بقي وهم الخلق التام للإنسان من بداية تكوينه مسيطرا على أفكار علماء النهضة الأوروبية. يقول جورنجر وغيره «2» : " والرسم الذي قدمه هارت سوكر للحوين المنوي عام 1694 م. بعد اكتشاف الميكروسكوب (المجهر) بفترة يدل على أن المجهر يومئذ لم يكن كافيا   (1) بروفيسور جورنجر وغيره كتاب: علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة ص 14. (2) زنداني- مصطفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 لبيان تفاصيل تكوين الحوين المنوي، فأكملت الصورة من خيال العلماء، وعبروا مرة ثانية عن الفكرة السائدة عندهم وهي (أن الإنسان يكون مخلوقا خلقا تاما في الحوين المنوي في صورة قزم) «1» . وأضافوا إلى هذا الوهم وهما آخر هو: أن الإنسان يخلق من ماء الرجل فقط (المنوي) ولا دور للمرأة في الجنين إلا كدور الأرض الزراعية في إنبات البذور. وحتى بعد اكتشاف البيضة عند المرأة بقيت فكرة الخلق التام مسيطرة على عقولهم؛ بالرغم من أن علماء النهضة الأوروبية غيروا رأيهم عن دور الرجل في الإنجاب، فزعموا أن الإنسان يخلق خلقا تاما في البييضة في صورة قزم أيضا، ثم ينمو بزيادة الحجم فقط، دون أي تغيير في الصورة التي بدأت من بداية خلق البييضة، وقرروا أن لا دور للرجل في تكوين الجنين إلا كدور المنبه الذي يستحث النمو. يقول البروفيسور جورنجر" وبينما كان فريق من العلماء يرى أن الإنسان يخلق خلقا تاما في بييضة المرأة؛ كان فريق آخر يقرر أن الإنسان يخلق خلقا تاما   (1) المصدر السابق ص 20، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 مي الحوين المنوي. ولم ينته الجدل بين الفريقين إلا حوالي عام (1775 م) ؛ عند ما أثبت سبالانزاني أهمية كل من الحوين المنوي والبييضة مي عملية التخلق البشري. بينما نجد مي القرآن الكريم والسّنّة النبوية أن هذه القضايا قد حسمت، بأن عملية التخلق مشتركة بين الذكر والأنثى. ومما جاء مي ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] «1» . ثم يقول البروفيسور جورنجر عن علماء النهضة الأوروبية في ذلك الوقت: " إنهم لم يعرموا بعد: أن خلق الإنسان مي رحم أمه يمر بأطوار مختلفة الخلق، والصورة؛ وهي الحقيقة التي قررت مي القرآن الكريم، والسّنّة قبل ذلك بقرون. مالقرآن الكريم يقرر: أن خلق الإنسان ينتقل طورا بعد طور مي بطن أمه مي مثل قوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. [الزمر: 6] «2» . هذان الشكلان اللذين عبر بهما علماء أوروبا عن سيطرة فكرة الخلق التام عليهم في القرن السابع عشر والثامن عشر   (1) المصدر السابق ص 21. (2) نفس المصدر ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بطلان فكرة الخلق التام: يقول البروفيسور كيث إل. مور: " في عام 1759 دحض وولف كلا الصيغتين لنظرية الخلق التام منذ بداية التكوين؛ بعد مشاهدته أجزاء من الجنين تتطور في كريات (ربما الكيس الجرثومي) "، ثم قال: " إن الجدل بشأن الخلق التام منذ بداية التكوين انتهى أخيرا في عام 1775 م. عند ما أظهر سبالزاني أن كلا من البييضة والحوين المنوي كانا ضروريين لتطوير فرد جديد. " «1» . الخطأ في تقدير أعمار الأجنة: وبتحرر عقول العلماء في أوروبا من فكرة الخلق التام للإنسان منذ بداية خلقه، ومعرفتهم أن خلق الإنسان يمر بأطوار ومراحل مختلفة في أشكالها وصورها؛ تساءل العلماء متى يأخذ الجنين صورته الإنسانية؟ فوجدوا أنفسهم أمام معضلة كبيرة هي: معضلة تحديد عمر الجنين، فقد كان من العسير على العلماء- قبل اكتشاف بييضة المرأة، وزمن خروجها من المبيض عند المرأة- أن يحددوا عمر الجنين في بطن أمه، أو عمر الجنين الذي يسقط من بطن أمه؛ بسبب عجزهم عن تحديد زمن بداية الحمل، وكان لابد أن يقعوا في خطأ حسابي يزيد ب 21 يوما، أو ينقص كذلك ب 21 يوما؛ لأن علامة الحمل عند المرأة تعرف- عندهم يومذاك- بانقطاع حيضها، فإن بدؤا حساب الحمل من أول الطهر- وقد أمكن أن يقع في نظرهم يومذاك في آخره- فسيكون الخطأ في تقدير عمر الجنين بزيادة تساوي فترة الطهر أي: 21 يوما، وإن اعتبروا أن الحمل وقع في آخر الطهر- مع امكان وقوعه في نظرهم يومذاك في أول الطهر- فسيقع النقص في تقدير عمر الجنين بما يساوي 21 يوما أيضا.   (1) كيث إل. مور في كتابه: الجنين البشري مع الإضافات الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الجهل بالتطورات التي تظهر على الجنين في كل مرحلة زمنية: وكما كان تقدير عمر الجنين متعذرا إلا مع خطأ كبير، فإن تحديد ما يظهر من التطورات في خلق الجنين أثناء جميع مراحل نموه كان كذلك متعذرا، لقلة العينات المتاحة من الأجنة البشرية، ولأن أحدا لا يقبل أن يتبرع بابنه حتى يقوم الأطباء بدراسته؛ ولما يصاحب ذلك من مشقة كبيرة للمرأة إذا أسقط جنينها؛ فالام السقط قريبة من آلام الولادة. ومما يزيد الأمر صعوبة هو أن تطورات أجهزة وأعضاء الأجنة تنمو باطراد؛ يصعب معه تحديد الفترة الزمنية التي يظهر فيها الجهاز، أو العضو بصورته الآدمية في الجنين. كيف تمكن العلماء من تقدير عمر الجنين وتحديد زمن تكون أعضاء الجنين: بعد اكتشاف بييضة المرأة في القرن التاسع عشر الميلادي؛ تمكن الباحثون من تحديد يوم خروجها من المبيض في المرأة، ومكنهم ذلك من تحديد موعد بداية الحمل بخطأ لا يتجاوز- يوم واحد. وبعد أن تمكن علماء الطب أخيرا من غرس (كاميرا) في رحم المرأة أثناء حملها أمكنهم متابعة الحمل بدقة بالغة، وأمكنهم تحديد زمن ظهور أعضاء جسم الجنين، وزمن تشكلها، وأمكنهم تصوير مراحل تكوين تلك الأعضاء. المعجزة النبوية في وصف تخلق الجنين بعد الليلة الثانية والأربعين: رأينا كيف كان علماء النهضة العلمية الحديثة في أوروبا يتخبطون في أوهام متعددة؛ طوال ثلاثة قرون؛ أثناء دراستهم لتخلق الجنين البشري من أهمها: * توهمهم أن الإنسان يخلق من دم الحيض، ولم يتخلصوا من هذا الوهم إلا في القرن السابع عشر الميلادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 * وتوهموا أن الإنسان يخلق خلقا تاما من بداية تكوينه؛ ولم يعرفوا بطلان ذلك إلا في القرن الثامن عشر الميلادي. * وتوهموا في عام 1694- بعد اكتشاف المجهر- أن الإنسان يخلق خلقا تاما في المنوي؛ ولم يرجعوا عن هذا إلا بعد اكتشاف بييضة المرأة عام 1827 م أي: بعد مئة وخمسين سنة من اكتشاف المنوي. * وبعد اكتشاف البييضة توهموا أن الإنسان يخلق خلقا تاما فيها؛ ولم يتبدد وهمهم هذا إلا في الربع الأخير من القرن الثامن عشر عام 1775 م. * وكان علماء الأجنة إذا حسبوا عمر الجنين- قبل اكتشاف بييضة المرأة- يقعون في خطأ يتراوح ما بين زائد أو ناقص 21 يوما، ولم يتمكنوا من تحديد عمر الجنين في مراحله المختلفة إلا في القرن العشرين. * وكان علماء الأجنة يعجزون عن تتبع التطورات التي تحدث على جسم الجنين البشري، وزمن حدوثها؛ إلى بعد الأربعينات من القرن العشرين، وبخاصة بعد أن تمكنوا من النظر إلى الجنين بوضوح، بل وتمكنوا من النظر إلى داخل أجزاء الجنين؛ وذلك بما تيسر لهم من آلات للتصوير والتكبير ووسائل الكشف عن المواد المختلفة. لكن الله الذي يعلم ما في الأرحام، ويعلم السر في السموات والأرض؛ أخبر رسوله النبي الأمي، في الأمة الأمية؛ قبل ألف وأربعمائة عام، بالليلة المحددة التي يبدأ بعدها الجنين البشري في أخذ صورته الآدمية، والتي يأخذ بعدها في تشكيل وتكوين أعضائه الآدمية المعروفة لنا؛ وحجم الجنين لا يزيد في تلك الليلة عن (11 مم) . واليوم وبعد أن تمكن العلم في القرن العشرين من مشاهدة ما يحدث للجنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 من تطورات، وحساب الزمن لكل تطور يظهر على جسم الجنين، يمكننا أن نعتبر الخبر النبوي الذي جاءنا قبل ألف وأربعمائة عام؛ بمثابة اختبار لصدق نبوة ورسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- القائل: " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها. ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؛ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك" «1» . ففي هذا الحديث يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم عشر حقائق من حقائق علم الأجنة هي: [1] خلق الإنسان من النطفة المنوية- من ماء الرجل وبييضة المرأة- كما سبق بيانه- وقد أشار إلى ذلك الحديث النبوي: " إذا مر بالنطفة" أي أن الإنسان يخلق من النطفة لا من دم الحيض- كما كان شائعا بين الأطباء إلى القرن السابع عشر. [2] حدد الحديث ليلة معينة من عمر الجنين؛ يدخل بعدها الملك" إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا". ويقوم الملك بعد هذه الليلة بما يلي: [3] " صورها" أي أن الصورة الآدمية للجنين تبدأ بالظهور بعد الليلة الثانية والأربعين. [4] " وخلق سمعها" وكذلك يبدأ ظهور الأذن وجهاز السمع. [5] " وبصرها" أي وخلق بصرها؛ فيبدأ ظهور العين وجهاز البصر.   (1) صحيح مسلم- كتاب القدر ج 4 ص 2037 ح 3/ 2645، وله طريق آخر عنده عن حذيفة بن أسيد، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 3/ 178 ح 3044، والطحاوي في مشكل الآثار 3/ 278، وأبو داود في كتاب القدر ورقة 44/ 45، وجعفر الفرياني انظر: فتح الباري 11/ 483. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 [6] " وجلدها" ويخلق الملك الجلد بعد الليلة الثانية والأربعين. [7] " ولحمها" ويخلق الملك اللحم (العضلات) بعد نفس الليلة. [8] " وعظامها" ويخلق الملك العظام (الهيكل العظمي) بعد نفس الليلة. [9] " ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى" أي أن الملك يبدأ بتشكيل الأعضاء التناسلية الخارجية (الفرج) في الذكر والأنثى، والتي بها يتم التمييز بين الذكر والأنثى وذلك بعد الليلة الثانية والأربعين أيضا. [10] يمر الجنين بأطوار قبل الليلة الثانية والأربعين؛ وهو ليس في صورة آدمية، ولا توجد فيه الأعضاء والأجهزة التي ذكر الحديث خلقها بعد الليلة الثانية والأربعين. وهيا بنا إلى عدد من قادة علم الأجنة في عصرنا نسألهم عن شهادتهم حول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة عام. شهادة العلم الحديث بصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم: يقول البروفيسور جولي سمسن وآخران «1» وهو أحد كبار علماء الوراثة والأجنة بأمريكا في بحث ألقي في عدد من المؤتمرات العلمية «2» : " وعند نهاية الأسبوع السادس وقبل اليوم الثاني والأربعين لا تكون صورة الوجه واضحة أو شبيهة بصورة وجه الإنسان الشكل [6- 2] . وتكون العين والأذن والأعضاء التناسلية الخارجية في صورة أولية؛ من مراحل تطورها قبل اليوم الأربعين، وهي: لا تعمل، ولا تشبه أعضاء الإنسان «3» ثم   (1) الدكتور/ مصطفى عبد الباسط والزنداني. (2) منها مؤتمرات الرياض، والقاهرة، وإسلام آباد المتعلقة بالإعجاز العلمي. (3) كتاب علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة ص 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الشكل 6- 2: رسم الجنين في الأسبوعين 7،: 6. لا يمكن أن نميز المظهر البشري فيه بوضوح CIBA.Clinical Sumposia, vol, 28, No.3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 يقول «1» : " وتقدير عمر الجنين قبل اكتشاف البييضة وارتباط دورة الحيض بها أمر في غاية الصعوبة" وهذا هو البروفيسور (ت. ف. ن. برساد) من جامعة (مانتوبا ويننج) بكندا وأحد المشاهير والمؤلفين في علمي: أمراض النساء، والأجنة بكندا؛ يحدثنا عن الجنين بعد اليوم الثاني والأربعين، فيقول: " يتكون في بداية الأسبوع السابع من النمو أي: عند حوالي اليوم الثاني والأربعين: الهيكل العظمي الغضروفي؛ الذي يعطي الجنين شكله الآدمي الخاص، فيستقيم جذعه، ويتكون له رأس مستدير الشكل (7- 3) . الشكل (7- 3) الجنين في بداية الأسبوع السابع (40 الي 42) تكون الذراعان مقوستين وتحيطان ببروز القلب وتظهر إشعاعات أصابع القدمين. ويبلغ طوله من الإكليل إلى الكفل 20 ملم. (1) الذراع (2) الأذن (3) المرفق (4) العين (5) مقدمة المخ (6) بروز القلب (7) مؤخرة المخ (8) بروز الكبد (9) منتصف المخل (10) تفتق وسط المعي (11) الفم (12) صفحة اليد المثلمة (13) الحبل السري بإذن من: Permission from:England, color Atles of Life Before Birgh, Chicago, Yera Book Medical Publishers ins.) 1983) وتتحرك العينان إلى الأمام في محلهما في الوجه؛ فيتجلى الشكل الآدمي للجنين الشكل (7- 4) ويتم ذلك أيضا بالنسبة للأنف الذي يأخذ المظهر الآدمي.   (1) المرجع السابق، ص 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الشكل 6- 2: رسم الجنين في الأسبوعين 7، 6. لا يمكن أن نميز المظهر البشري فيه بوضوح CIBA.Clinical Sumposia, vol.28, No.3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أما الأذرع التي ظهرت على شكل براعم في نهاية الأسبوع الرابع، فتصبح أكثر طولا بعد اليوم الثاني والأربعين، وتظهر أصابع واضحة لم تكن موجودة قبل ذلك، أما مؤخرة العمود الفقري البارزة، فتتراجع، وتعتدل تاركة أثرا لا يكاد يلاحظ؛ وللمقارنة بين الجنين الإنساني قبل اليوم الثاني والأربعين وبعده انظر شكل (7- 2) وشكل (7- 4) . أما البدايات الأولية للأعضاء التناسلية الخارجية فتكون متشابهة في بادئ الأمر بين الذكور والإناث، وتبدأ التطور قبل اليوم الثاني والأربعين؛ في الأسبوع الرابع إلا أن الحديبة التناسلية والانتفاخ الشفري العجزي، والطيات البولية التناسلية؛ المنشئة للخواص الجنسية المميزة (لفرج الذكر والأنثى) ، لا تظهر إلا في الأسبوع التاسع (أي بعد الليلة الثانية والأربعين) ، كما أنه لا يمكن التفريق بين الأعضاء التناسلية الخارجية المذكرة، والمؤنثة؛ إلا بعد الأسبوع الثاني عشر. ثم يقول بروفيسور برساد: " وقد ذكر الرسول- صلى الله عليه وسلم- كل هذه التطورات التي وصفت فيما تقدم، ومواعيدها في الحديث الذي رواه مسلم عن حذيفة". وذكر نص الحديث، ثم قال بروفيسور" برساد": فهذا الحديث الشريف يوضح أهمية اليوم الثاني والأربعين في حياة الجنين داخل الرحم، كما يبين التطورات الدقيقة التي تظهر بعد هذا اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وقد أظهرت الدراسات الجنينية الحديثة أن الجنين يكتسب شكله الآدمي خلال هذه الفترة، ويظهر على الجنين كل ما ورد ذكره في الحديث الشريف منذ أربعة عشر قرنا" «1» . صورة رقم 1 هاتان الصورتان منقولتان من كتاب: «من الحمل إلى الولادة (From Conception (to Birth) « لمؤلفه الكساندر تسياراس (Alexander Tsiaras) . صورة رقم 2   (1) علم الأجنة في ضوء القرآن والسّنّة ص 163- 170 الطبعة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقد أخذت هاتان الصورتان بكاميرا خاصة يمكنها رؤية الجسم البشري أو أي جزء منه ومسحه أو تكبيره أو تدويره، والتحكم بشفافيته بحيث يمكننا رؤية ما في داخل الكائن الحي وإضاءته من كل زاوية والصورة رقم (1) للجنين في اليوم الثاني والأربعين حين دخول الملك؛ والثانية بعد دخول الملك بيومين والصورتان تبينان صدق ما أخبر به الرسول من عمل الملك في هذا الزمن المحدد كما جاء في حديث حذيفة الذي رواه مسلم. وهكذا جاء التقدم العلمي مصدقا لما أخبر به الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد مرور أربعة عشر قرنا من الزمان، فدلنا ذلك على أن العلم الذي حمله لنا الحديث الشريف، لا يمكن أن يكون من مصدر بشري، وأنه لابد أن يكون من عند الله المحيط علما بكل شيء. لأن البشرية لم تقف على هذه الحقائق إلا في القرون الثلاثة الأخيرة: الثامن عشر، والتاسع عشر والقرن العشرين كما مر بنا. ولأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعث قبل ألف وأربعمائة عام، في عصر كانت الجهالة هي السائدة، والخرافة هي الغالبة، والأساطير هي الرائجة. ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش في أمة أمية، غرقت أفكارها في عبادة الأصنام، وتاهت عقولها مع مزاعم العرافين والمنجمين، وكان لها من الأساطير والخرافات والضلالات الحظ الكبير. ولم يكن للعرب يومذاك اشتغال بالعلم، وإذا وجد فيهم من يقرأ ويكتب ويركب الخيل فهو الرجل الكامل عندهم. أما أدوات الكتابة إن وجدت عند أحدهم؛ فهي بعض قطع من الجلد، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 العظام، أو الأحجار الرقيقة، أو عسب «1» النخل التي كانوا يكتبون عليها. ولم ينقل عنهم في أقوالهم، أو شعرهم الجاهلي «2» الذي كان محل عنايتهم قبل الإسلام وبعده- ما يدل على عنايتهم بالعلم؛ أو اشتغالهم به؛ فكيف بعلم الأجنة الغائب عن أبصارهم، داخل جدر ثلاثة، لها ظلمات ثلاث؟!، وهو علم لم تنكشف حقائقه للبشرية إلا بعد النهضة العلمية الحديثة، وطوال قرون ثلاثة من البحث والدراسة! وبعد أن توفرت الآلات الحديثة التي ما كان لها وجود قبل قرون النهضة الحديثة!!. وبهذا التطابق بين ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من دقائق علم الأجنة، وبين ما كشفه العلم الحديث من حقائق؛ يتضح برهان من براهين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. إنه برهان العلم الإلهي، الذي تلقاه النبي الأمي، فانفرد بالإخبار به من بين جميع البشر فجاء تقدم العلم في عصرنا مصدقا لكل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يخطئ في واحدة مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. وهل كان أحد يستطيع أن يكذبه- في عصره أو بعد عصره بقرون- لو أنه حدد ليلة أخرى غير الليلة الثانية والأربعين، أو أعضاء غير الأعضاء التي أخبر عن تكونها؟!. وهل كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يحتاج إلى ذكر هذه الحقائق ليصدقه قومه يومذاك وهم لا يعلمون من الأمر شيئا؟!. لكنه الوحي من الخالق العليم سبحانه الذي نزل إلى الرسول بالعلم الإلهي،   (1) عسيب النخل هو جريدة النخل المستقيمة يكشط خوصها وما لم ينبت عليه الخوص وجمع عسيب عسب. (2) الشعر الذي قاله العرب قبل الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وهو المعجزة المدخرة لأجيال عصر الاكتشافات العلمية. وهو الشهادة الإلهية بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الفصل الثالث التحدي بالقرآن * البينة القرآنية* فصاحة القرآن وبلاغته* علامات إلهية في القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 من بينات الرسالة البينة القرآنية لقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن يؤيد رسله ببينات تدل على صدق رسالتهم، وأدلة تقوم بها الحجة على الناس اصطلح العلماء على تسميتها بالمعجزات، وسميت في كتاب الله بينات، كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ [الحديد: 25] «1» . وتنوعت البينات والمعجزات بتنوع الأقوام والأمم، فجعل الله لكل قوم بينة تناسب مستواهم الثقافي والفكري ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة على الناس، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم مرسلا إلى الناس كافة، فقد أيده الله سبحانه ببينات متنوعة تتناسب مع جميع من أرسل إليهم من الأقوام، ومع جميع الأجيال إلى قيام الساعة على اختلاف ثقافاتهم ومداركهم. فكانت الفصاحة والبلاغة من بيناته المناسبة للعرب الفصحاء البلغاء. * ومن بيناته ما يتناسب مع أهل الأديان كالبشارات به في الكتب السابقة. * ومن بيناته ما عجز أهل الأنظمة والقوانين عن المجيء بمثله من تشريعات حكيمة تناسب جميع البيئات والعصور. * ومن البينات الخوارق المشاهدة كخارقة انشقاق القمر التي سجلت عند بعض الأمم ولا تزال آثارها ظاهرة إلى اليوم.   (1) وكذلك سميت المعجزة في كتاب الله: آية وبرهانا وبصيرة وسلطانا، أما لفظ المعجزة فلم يرد في الكتاب والسّنّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 * ومنها معجزة الإخبار بالغيب الماضي والحاضر والمستقبل، والتي لا تزال تنكشف إلى يومنا هذا. * ومنها الخوارق للعادة التي دونت في أوثق سجل عرفه البشر، وهو القرآن الكريم والحديث النبوي. * ومنها ما يتناسب مع أهل الكشوف العلمية في عصرنا كالإعجاز العلمي في القرآن والسّنّة. وقد جعل الله سبحانه القرآن المتضمن لكثير من أنواع هذه المعجزات أكبر بينة لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من الأنبياء نبيّ إلّا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" «1» . يشير الحديث الشريف إلى طبيعة المعجزة في الوحي الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيبقى بعد موته ويتجدد إعجازه على مرّ العصور. وشهادة القرآن بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم متمثلة بما احتوى عليه من الإعجاز في ألفاظه، والإعجاز في العلم الذي جاء به. قال تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) [النساء: 166] قال الخازن عند تفسير هذه الآية: " لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة   (1) أخرجه البخاري ك/ فضائل القرآن ب/ كيف نزل الوحي وأول ما نزل، ومسلم ك/ الإيمان ب/ وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد إلى جميع الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك". وقال ابن كثير- رحمه الله-: " فالله يشهد لك يا محمد بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم ... ولهذا قال تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي: فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل". وقال أبو العباس ابن تيمية: «فإن شهادته بما أنزل إليه هي شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه، فما فيه من الخبر هو خبر عن علم الله، وليس خبرا عمن دونه، وهذا كقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) [هود: 14] وإلى هذا المعنى ذهب كثير من المفسرين» «1» . فالبينة القرآنية تتمثل في العلم الذي تضمنته آياته، وهو الإعجاز العلمي، أما ما تحمله ألفاظه وتراكيبه فهو إعجاز الفصاحة والبلاغة.   (1) ابن الجوزي والزمخشري وأبو حيان والألوسي والشوكاني، البيضاوي والنسائي والخازن، والجلالان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فصاحة القرآن وبلاغته قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] ، بين الله سبحانه أن القرآن العظيم أحسن الكلام وأجوده لأنه نزل بعلمه، وذلك أن الله سبحانه يعلم أي لفظة هي أدل على المعنى المقصود، وأي لفظة تصلح أن تليها أو تسبقها، بل ومناسبة كل حرف لموضعه، فجاء القرآن العظيم في غاية الفصاحة والبلاغة في مفرداته وتراكيبه «1» . سر فصاحة القرآن وبلاغته: لقد كان القرآن العظيم غاية في الفصاحة والبلاغة؛ لأنه كلام الله الذي يحمل العلم الإلهي، وينم عن العظمة والصفات الإلهية التي لاتحد بحد، فأعجز الفصحاء والبلغاء فلم يجدوا إلا أن يقولوا: إنه سحر، كما حكى الله عنهم قولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) [المدثر: 24] . ومن وجوه فصاحته وبلاغته ما يأتي: [أ] تضمنه أصح المعلومات وأدقها وأكملها، وأصدق المعاني وأوضحها، وأحسن الكلام والتعبير بأفصح المفردات والتراكيب وأبلغها وأعذبها، وسريان ذلك فيه من أوله إلى آخره، وإنه ليستحيل على بشر أن يصل إلى هذا السمو، فإنه إن راعى دقة المعلومة فاته رونق اللفظ وعذوبته غالبا، وإن أراد تنميق الألفاظ وتزيينها لم يصل إلى مراده في دقة المعلومة التي يوردها. وإنك لتلاحظ عذوبة ألفاظه حتى في المواضع العقدية والتشريعية التي تستلزم البعد عن اللفظ البديع غالبا.   (1) انظر علم الإيمان الجزء الثاني ق 1/ 160- 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 [ب] جمعه بين صفتي العذوبة والجزالة «1» : مع كونهما كالصفتين المتضادتين لا تكادان تجتمعان في الكلام. [ج] إرواؤه لمطلب العقل والعاطفة معا: بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. [د] قصده في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى: فإنه يجلي المعنى كاملا واضحا في كلمات وعبارات قاصدة ليست بالطويلة المملة، أما البشر فإنه إن أراد الاقتصاد في اللفظ قصر في التعبير عن المعنى المطلوب، وإن أحب تجلية المعنى قاده ذلك إلى التطويل في العبارة، وإن قدّر أنه ضبط اللفظ مع المعنى في جملة أو جملتين، فإن الكلل والإعياء سيلحقه بعد ذلك في بقية الكلام، وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية إلا الفينة بعد الفينة. [هـ] جودة سبكه وإحكام سرده: مع أنه حوى موضوعات كثيرة مختلفة شاملة لحاجات البشر في الدنيا والآخرة من تشريع وقصص ومواعظ وبراهين عقلية ووجدانية ومناقشات وأمثال وحكم وغير ذلك، فقد سبك هذه الموضوعات جميعا وغيرها سبكا حكيما، فتراه مترابطا ترابط الجسم الواحد والروح الواحدة. [و] إشباعه العامة والخاصة على السواء: فالجميع يتذوق حلاوته ويجد فيه من بغيته ما يمتع عقله وقلبه، فالعامة يلتذون به ويفهمون منه على قدر استعدادهم وما تبلغه عقولهم وقلوبهم، والخاصة يجدون حلاوته ويفهمون منه أكثر مما تفهم منه العامة، بخلاف غيره من كلام البشر فتجد منه ما يرضي العامة لسهولته ولكن الخاصة تمجّه لكونه دون مستواهم، وإن أرضى الخاصة لارتفاع مستواه لم يرض العامة لكونهم لا يفهمونه.   (1) العذوبة هي رقة اللفظ وسلاسته، والجزالة: قوته ومتانته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 [ز] مسحته اللفظية المميزة: فهي مسحة خلابة عجيبة، تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي، فأما نظامه الصوتي فإنك تجده متسقا مؤتلفا في حركاته وسكناته ومدوده وغنّاته، واتصالاته وسكتاته، اتساقا عجيبا وائتلافا رائعا، يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور. فجرسه الصوتي يجذب السامع له ويلفت انتباهه، حتى لو كان أعجميا لا يعرف اللغة العربية، ولعل هذا هو الذي حمل بعض العرب في عهد النبوة أن يقولوا: إنه شعر، ثم عادوا إلى أنفسهم فعلموا أنّه فوق الشعر وأنه لا يسير على منهج الشعر ومنواله فقالوا: هو سحر. وأما جماله اللغوي فيظهر فيما امتاز به في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا بديعا، بحيث أنك تجد لذة حين تسمع حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة، فحرف يصفر وآخر ينقر، وهذا يخفى وذاك يظهر، وهذا يهمس وذاك يجهر، فخرج للناس بمجموعة مختلفة مؤتلفة، جامعة بين اللبن والشدة، والخشونة والرقة، والجهر والخفية على وجه دقيق محكم، وضع كلا من الحروف المتقابلة في موضعه بميزان، حتى تألف من مجموع ذلك قالب لفظي مدهش بلغ جماله اللغوي قمة الإعجاز، بحيث لو أدخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه «1» . [ح] إحكام ترابطه وكمال تناسقه: مع كونه قد نزل مفرقا حسب الحوادث في ثلاث وعشرين عاما، بينما البشر يعجزون أن يصنفوا كلاما مترابطا كترابط القرآن إذا كان قد قيل في مناسبات مختلفة وفي أزمنة متباعدة.   (1) مناهل العرفان 2 331/- 335 بتصرف، وانظر كتاب" النبأ العظيم" لمحمد عبد الله دراز، لزيادة التوضيح والتفصيل في إعجاز القرآن وروعته اللغوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقال الخطابي رحمه الله: القرآن صار معجزا، لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، متضمنا أصح المعاني ... «1» . اعتراف العرب الفصحاء ببلاغة القرآن وفصاحته: وقد اعترف العرب الفصحاء بعظيم نظم القرآن وبلاغته وأسلوبه من خلال تأثرهم به، حتى كانوا يحذّرون من قدم إلى مكة من سماع القرآن خشية أن يتأثر به فيسلم، بل تواصوا فيما بينهم باللغو (التشويش) عند سماع القرآن حتى لا يتأثر به السامع. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) [فصلت: 26] . قال مجاهد: الغوا فيه بالمكاء «2» والتصدية «3» والتخليط في الكلام حتى يصير لغوا. قال الشوكاني: عارضوه باللغو الباطل، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له «4» . ولما جاء الطفيل بن عمرو إلى مكة لم يزل به الكفار يحذرونه من سماع القرآن حتى وضع في أذنيه قطنا خشية أن يسمع شيئا من القرآن، وأبى الله سبحانه إلا أن يسمعه شيئا منه مع وجود ذلك القطن، فهدى الله قلبه لسماع القرآن ومن ثمّ شرح الله صدره للإسلام «5» . ولما سمع الوليد بن المغيرة القرآن فكأنّه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه   (1) بيان إعجاز القرآن ص 27. (2) المكاء: الصفير. (3) التصدية: التصفيق. (4) انظر تفسير الشوكاني. (5) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 226- 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوه لك، فإنك أتيت محمدا لتعرّض لما قبله «1» ، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا! قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، قال: وماذا أقول؟!، فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته!!. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه!!. قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره!! فنزلت الآيات في الوليد قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) [المدثر: 11- 26] «2» . فقول الوليد: إن القرآن سحر، يبين عميق التأثير الذي أحدثه القرآن في نفسه. وقال الزهري: حدّثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فلما طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض   (1) أي: أتيت محمدا تريد شيئا من العطاء من جهته. (2) أخرج هذه الحادثة الحاكم في المستدرك 2/ 550 وقال صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وعن الحاكم أخرجها البيهقي في شعب الإيمان 1/ 156- 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذينا «1» على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه «2» . فحرصهم على الحضور ليلا لسماعه مما يدّلّ على تأثرهم به وتعجبهم منه لكونه ليس ككلام البشر، ولكن العناد والمكابرة حملهم على تركه كما قال أبو جهل. ومما يدل على تميز القرآن الذاتي عن كلام العرب ما شهد به أنيس بن جنادة   (1) تجاذينا: مأخوذ من قولهم: جذا الرجل إذا جلس على ركبتيه. (2) سيرة ابن هشام 1/ 337- 338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الغفاري قبل إسلامه، حيث سأله أخوه أبو ذرّ عما يقول الناس في النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر- وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء «1» الشعر فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون ... " «2» . وقدم جبير بن مطعم رضي الله عنه إلى المدينة قبل إسلامه في فداء أسارى بدر فسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور «3» قال: فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن «4» ، وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي «5» . فهؤلاء من قريش أفصح العرب يشهدون ببلاغة القرآن وفصاحته من خلال تأثرهم به «6» . وما أحسن ما سطره الرافعي في تصويره تأثير القرآن في العرب الذين كانت الفصاحة والبلاغة من أبرز مفاخرهم، وأنه لولا فصاحة ألفاظه التي بلغت حد   (1) أقراء الشعر: طرائقه وأنواعه. (2) مسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل أبي ذر، وأحمد في مسند الأنصار من حديث أبي ذر الغفاري. (3) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ فداء المشركين، ومسلم ك/ الصلاة ب/ القراءة في الصبح. (4) أخرجه أحمد في أول مسند المدنيين من حديث جبير بن مطعم، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 444، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 211- 212، والطبراني في المعجم الكبير 2/ 116 والصغير 2/ 265 وغيرهم، وذكره الحافظ في فتح الباري 2/ 492. (5) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ شهود الملائكة بدرا. (6) بل إن بعض نصارى العرب المتأخرين ممن لهم تضلع في اللغة العربية وآدابها قد اعترفوا بذلك، ومنهم الكاتب البليغ: إبراهيم اليازجي وكذلك الشاعر المعروف خليل مطران كما نقله عنهما الرافعي رحمه الله في وحي القلم وكذلك الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة في الجامعة الأمريكانية في كتاب الخواطر الحسان كما نقله عنه الأستاذ: محمد رشيد رضا رحمه الله. انظر علوم القرآن الكريم للدكتور نور الدين عتر ص 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الإعجاز لما استطاع التأثير فيهم لأنه قد قامت فيهم بالفصاحة" دولة الكلام ولكنها بقيت بلا ملك حتى جاءهم القرآن" «1» . تحدي الكافرين أن يأتوا بمثله: قال تعالى مبينا عجز الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بمثل القرآن الكريم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88] . وهذه الآية مكية، نزلت في وقت قلة عدد المؤمنين وضعفهم، وإقدام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الخبر العظيم عن جميع الإنس والجن إلى يوم القيامة أنهم لا يقدرون على الإتيان بمثل القرآن، بل يعجزون عنه، لا يقدم عليه وهو يدعو الناس لتصديقه إلا وهو واثق أن الأمر كذلك، ولا يقدم عاقل على مثل هذا الخبر وهو يشك فيه، في مثل ظرف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، ولم يكن هذا اليقين حاصلا للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا بإعلام الله سبحانه له «2» . وقد تحدى الله الكفار أن يأتوا بمثله إن ظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) [الطور: 34] . وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فقال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) [هود: 13] . ثم تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله فلم يقدروا، وأخبرهم أنهم لن يفعلوا، قال سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ   (1) إعجاز القرآن 157- 160. (2) انظر شعب الإيمان للبيهقي 1/ 55 والجواب الصحيح لابن تيمية 5/ 409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) [البقرة: 23- 24] . ولو كان القرآن من كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما جزم بعدم استطاعة أحد أن يأتي بمثله، وتحقق هذا الجزم بعد ذلك دليل على أن القرآن كلام الله المعجز. وكان بإمكانهم أن يكذبوا القرآن لو استجابوا للتحدي وأتوا بسورة مثل القرآن. ولمّا رأينا أنهم تركوا الاستجابة للتحدي مع أنه أمر لا يكلفهم كثيرا من التبعات واختاروا الطريق الوعر لمواجهة الرسول وهو الحرب وإزهاق الأنفس وإهدار الأموال علمنا علما يقينيا عجزهم عن الإتيان بمثله مع كونهم أساطين الفصاحة والبلاغة. ولو قدّرنا أن رجلا ألف كتابا، أو قال شعرا ثم تحدى الكتاب والشعراء، فقال: عارضوني وإن لم تعارضوني فأنتم كفار مأواكم النار، ودماؤكم لي حلال!! فمن المستحيل أن يحجم الجميع عن معارضته لإنقاذ أنفسهم من القتل، ولدفع وعيده لهم بدخول النار، فإذا لم يعارضوه رغم توافر الدواعي لمعارضته كان ذلك من أبلغ العجائب الخارقة للعادة الدالة على صدقه في تحديه «1» . وهذه البينة (المعجزة) قائمة دائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها «2» .   (1) انظر الجواب الصحيح لابن تيمية 5/ 430. (2) قال بعض الناس (يحكى ذلك عن النظام من المعتزلة وآخرين) : إن وجه الإعجاز في القرآن، هو أن الله صرف همم الكفار عن معارضته، لا لأن نظمه معجز في ذاته، بمعنى أنهم كانوا يقدرون على الإتيان بمثل نظمه لولا أن الله صرف هممهم عن ذلك، وهذا القول غير صحيح لأسباب: أولا: أنه مصادم للنص القرآني الذي يبين أن الخلق لا يستطيعون الإتيان بمثله ولو تعاونوا على ذلك، فيلزم القائلين بالصرفة، أن الخلق يستطيعون الإتيان بمثله لولا أن الله صرفهم عن ذلك. ثانيا: أنه قول لا برهان له ولا دليل عليه، لا من النص ولا من الواقع فلم يشعروا أنهم فقدوا قدرتهم على البلاغة. ثالثا: أنه مخالف لإجماع العلماء قبله على أن القرآن معجز في ذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 علامات إلهية في القرآن هناك علامات واضحة بينة في القرآن تدل قارئه وسامعه أنه من عند الله عز وجل ويستحيل أن يكون من عند غيره ومنها: [1] الجدة الدائمة: إذا أعجبتك قصيدة من عيون الشعر وطربت نفسك عند سماعها فإنها تفقد رونقها وجمالها إذا كررت على سمعك عدة مرات، مع أن اللسان الذي قالها وكررها واحد، والأذن التي سمعتها واحدة، ذلك لأن كلام البشر يفقد رونقه وجماله بالتكرار، ويلمس قارئ القرآن أثرا من إعجازه حين يقرأ القرآن ويعيد قراءته، فكلما قرأه وجده جديدا مهما تكرر على اللسان أو السمع، وكم كرر المسلمون ويكررون سورة الفاتحة وقصار السور كل يوم، وكلهم يجمعون على أن القرآن الكريم لا يزال جديدا على ألسنتهم، وهذه علامة   رابعا: أن حروف القرآن وألفاظه وجمله وتراكيبه قد نزلت بعلم الله، فكانت قرآنا معجزا، والادعاء بأن في قدرة الإنسان أن يأتي بمثله هو ادعاء بأن علم الإنسان في صياغة الكلام كعلم الله، وهذا محال. خامسا: أن القول بالصرفة يبطل الحكمة من تحدي القرآن للكافرين والذي لا يكون إلا مع تمام الحرية لهم في الاستجابة للتحدي والصرفة تتعارض مع ذلك لإظهار العجز المقصود من التحدي. السادس: أنه قد حصلت فعلا محاولات فاشلة للمعارضة، كما صنع مسيلمة وغيره وهذا مما يبطل القول بالصرفة، ولكن هذه المعارضة باءت بالفشل، بل كانت خزيا لصاحبها ودليلا على كذبه وافترائه بما فيها من السماجة والركاكة. وذكر ابن كثير من سخافات مسيلمة ما كان يزعمه قرآنا قوله: - يا ضفدع بنت الضفدعين، نقّي لكم تنقّين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء، وذنبك في الطين ويقول: - والفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل ... وأشياء من هذا الكلام السخيف الركيك انظر البداية والنهاية 6/ 331 وانظر الجواب الصحيح 5/ 429- 431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 تخضع للممارسة من كل قارئ للقرآن في أي زمان وفي أي مكان، كما أنها علامة إلهية في كل سورة. ولقد نطق أحد كبار المستشرقين بهذه الحقيقة، وهو المستشرق" ليون" فقال: حسب القرآن جلالة ومجدا أن الأربعة عشر قرنا التي مرت عليه لم تستطع أن تخفف ولو بعض الشيء من أسلوبه الذي لا يزال غضّا كأن عهده بالوجود أمس. [2] كونه روحا من أمر الله: يكون الكلام انعكاسا لشخصية المتكلم وعلمه وخبرته وصفاته، وقارئ القرآن يقع في نفسه شعور بأن المتكلم إليه هو الله سبحانه. قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] ، فهناك سر خاص وسلطان خاص يحمله القرآن إلى قارئه يدله على أنه كلام الله. [3] أنه كلام فريد: كلام البشر درجات وطبقات متقاربة ويمكن دمج كلام بعضهم ببعض، لكن القرآن يمثل درجة متميزة، وطبقة من الكلام خاصة، تتميز عن سائر كلام البشر، فإذا تكلم الخطيب أو كتب الكاتب، واستشهد بايات من كتاب الله تحس بالفارق الجلي بين مستوى كلام الله وكلام البشر، يشعر به السامع والقارئ، بينما كل كلام للبشر يمكن دمجه بغيره دون الإحساس بفارق «1» . [4] قوة تأثيره والروعة والهيبة التي تلحق قارئه وسامعه: فإذا قرأ القارئ ما شاء من كلام البشر في موضوع ما، ثم قرأ من كتاب الله آيات في نفس الموضوع، فسيشعر بالفرق الكبير في التأثير بين كلام الله وكلام   (1) قال ابن تيمية: نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع، ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأت أحد بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الخطابة ولا الرسائل، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم أ. هـ الجواب الصحيح 5/ 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 البشر. وانظر الفرق بين أثر ما تسمعه من وعظ الواعظ بكلام الله، وبين وعظه بكلامه. بل جرب أن تعظ الناس بكلامك ثم تعظهم بكلام الله، ثم انظر الفرق في وجوه المستمعين وفي نفسك، بشرط شرحك للألفاظ القرآنية التي لا يعرفها العامة في هذا الزمان. ولقد أدرك أحد المستشرقين هذه العلامة الإلهية كما أدركها غيره، فقال: " إن أسلوب القرآن جميل وفياض، ومن العجب أنه يأسر بأسلوبه أذهان المسيحيين، يجذبهم إلى تلاوته، سواء في ذلك الذين آمنوا به، أو من لم يؤمنوا به وعارضوه. " وقد ذكرنا مدى تأثيره في كفار قريش، ويكفي المتأمل ما أحدثه من تأثير هائل في حياة العرب الأميين حتى جعل منهم خير أمة أخرجت للناس قادت البشرية بالعلم والعدل والحق، وصهرت الشعوب في بوتقتها، رغم اختلاف أجناسها وألوانها. تجربة في تأثير القرآن على التوتر العصبي: أجرى الدكتور أحمد القاضي تجربة في عيادات (أكبر) «1» لإثبات ما إذا كان للقرآن أي أثر على وظائف أعضاء الجسد وقياس هذا الأثر إن وجد، واستعملت أجهزة المراقبة الإلكترونية المزودة بالكمبيوتر لقياس أي تغيرات فسيولوجية عند عدد من المتطوعين الصم أثناء استماعهم لتلاوة القرآن وقد تم تسجيل وقياس أثر القرآن عند عدد من المسلمين المتحدثين باللغة العربية وبغير العربية وكذلك عند عدد من غير المسلمين متحدثين بالعربية أو غير متحدثين بها   (1) في مدينة بنما بولاية فلوريدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وتليت عليهم مقاطع من القرآن الكريم كما تليت عليهم ترجمه لهذه المقاطع باللغة الإنجليزية وفي كل هذه المجموعات أثبتت التجارب المبدئية وجود أثر مهدى مؤكد للقرآن في 97 في التجارب المجراة، وهذا الأثر ظهر في شكل تغيرات فسيولوجية تدل على تخفيف توتر الجهاز العصبي التلقائي «1» وقد ظهر من الدراسات المبدئية أن تأثير القرآن المهدئ للتوتر يمكن أن يعزى إلى عاملين: [1] صوت الكلمات القرآنية بغض النظر عما إذا كان المستمع قد فهمها أم لم يفهمها؛ آمن بها أم لم يؤمن بها. [2] معنى المقاطع القرآنية ولو كانت مقتصرة على الترجمة الإنجليزية بدون الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم، ولذلك أجرى بحوث المرحلة الثانية التي تضمنت دراسات مقارنة لمعرفة إذا ما كان أثر القرآن المهدئ للتوتر وما يصاحبه من تغيرات فسيولوجية عائدا لتلاوة القرآن وليس لعوامل أخرى مثل الصوت أو رنة القراءة القرآنية العربية أو معرفة السامع بأن ما يقرأ عليه هو جزء من كتاب مقدس أي أن هدف الدراسة تحقيق الافتراض القائل بأن الكلمات القرآنية في حد ذاتها لها تأثير فسيولوجي بغض النظر عما إذا كانت مفهومة لدى السامع وقد أجريت هذه التجارب خلال اثنين وأربعين جلسة علاجية، تضمنت كل جلسة خمس تجارب وبلغ المجموع الكلي للتجارب مائتين وعشرة تجربة تليت على المتطوعين فيها قراءات قرآنية خلال خمس وثمانين تجربة، كما تليت عليهم قراءات عربية غير قرآنية باللغة العربية مجودة لتطابق القراءات القرآنية من حيث   (1) تفاصيل هذه النتائج عرضت على المؤتمر السنوي السابع عشر للجمعية الطبية الإسلامية في أمريكا الشمالية الذي عقد في مدينة سانتلويس بولاية نيزوري في أغسطس 1984 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الصوت واللفظ والوقع على الأذن خلال خمس وثمانين تجربة أخرى ولم يستمع المتطوعون لأي قراءة خلال أربعين تجربة بحيث كانوا جالسين جلسة مريحة وأعينهم مغمضة خلال تجارب الصمت وهي نفس الحالة التي كانوا عليها أثناء التجارب السابقة ولقد ظهر بوضوح أن التجارب الصامته لم يكن لها أي تأثير مهدئ للتوتر، وكانت النتائج إيجابية في 65 من تجارب القراءات القرآنية بينما لم يظهر هذا الأثر إلا في 33 فقط من تجارب القراءات غير القرآنية. وقد ذكر لي أحد كبار المسئولين في اليمن أنه إذا أوقظ من نومه في الليل يأتيه أرق يمنعه من النوم ثانية، فيلجأ إلى سماع القرآن لإذهاب ما أصابه من توتر والعودة إلى النوم، ويمكن لكل شخص يقع في مثل هذه الحالة أن يعالج نفسه بنفس العلاج، وإن كثيرا من المجهدين بالتوتر العصبي إذا استمعوا إلى كلام الله ارتخت أعصابهم ورأيت النعاس يداعب أجفانهم، إن هذه القوة المؤثرة في الأعصاب تدل على مصدرها الإلهي العظيم. قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] . تأثر الشاعر المعاصر نقولا حنّا: حيث كان نصرانيا، ثم أعلن إيمانه بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم. قال: قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقت به ففتنّي، ثم أعدت القراءة فآمنت.. آمنت بالقرآن الإلهي العظيم، وبالرسول من حمله، النّبيّ العربي الكريم ... إلى أن يقول: وكيف لا أومن ومعجزة القرآن بين يديّ انظرها وأحسها كل حين؟! هي معجزة لا كبقية المعجزات ... معجزة إلهية خالدة تدل بنفسها عن نفسها، وليست بحاجة لمن يحدث عنها أو يبشر بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقال: وكم احتاجت وتحتاج الأديان السابقة إلى علماء ومبشرين وشواهد وحجج وبراهين لحض الخلق على اعتناقها. إذ ليس لديها ما هو منظور محسوس يثبت أصولها في القلوب.. أما الإسلام فقد غني عن كل ذلك بالقرآن فهو أعلم معلّم وأهدى مبشر، وهو أصدق شاهدا وأبلغ حجة وأدمغ برهانا.. هو المعجزة الخالدة خلود الواحد الأزلي المنظورة المحسوسة في كل زمان. ثم نظم قصيدة يبين فيها إعجاز القرآن وعظمته «1» . [5] خلوه من التناقض والاضطراب: للناس آراء ومقررات في حالات الضعف أو الخوف أو الضيق أو الفقر أو القلة أو نقص المعلومات، وترى تلك الآراء والمقررات تتغير إذا تبدل حال الإنسان إلى العكس مما سبق، وترى هذا في كل عمل بشري، لكن لا تجد أثرا لشيء من هذا الاختلاف في كتاب الله. لأنه من كلام الذي لا تغيره الأحوال سبحانه، ولا يشوب علمه النقص، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [النساء: 82] . مع أن القرآن كتاب ضمّ طوال السور وقصارها، ونزل في فترات متقطعة، وفي ظروف مختلفة وشمل علوما متعددة، وتحدث عن آفاق واسعة، تجده يصدق بعضه بعضا ويكمل آخره أوله «2» .   (1) علوم القرآن الكريم د. نور الدين عتر ص 201- 202 وذكر من ضمن أبيات قصيدته: يقولون: ما آياته؟ ضلّ سعيهم ... وآياته- ليست تعدّ- عظام كفى معجز الفرقان للناس آية ... علا وسما كالنجم ليس يرام فكلّ بليغ عنده ظل صامتا ... كأنّ على الأفواه صرّ كمام وشاء إله العرش بالناس رحمة ... وأن يتلاشى حقدهم وخصام ففرّق ما بين الضلالة والهدى ... بفرقان نور لم يشبه قتام. (2) انظر كتاب/ دفع ايهام الاضطراب عن آيات الكتاب للشيخ محمد الأمين الشنقيطي للرد على من توهم وجود تعارض في الآيات القرآنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 [6] علومه الواسعة: اشتمل القرآن على علوم ومعارف تهدي البشر إلى طريق الحق والصواب والسعادة في جميع شؤونهم في حياتهم الدنيا والآخرة، وتجنبهم الشر بحذافيره، في كل زمان ومكان، وقد بلغت هذه العلوم من دقة المعلومات، وصحة الأخبار، ونبالة القصد، ونصاعة الحجة، وحسن الأثر، وعموم النفع مبلغا يستحيل على محمد صلى الله عليه وسلم- وهو رجل أمّي نشأ بين أمّيين- أن يأتي بها من عند نفسه، بل يستحيل على أهل الأرض جميعا من علماء وأدباء وفلاسفة وأخلاقيين أن يأتوا بمثلها من تلقاء أنفسهم ولو تظاهروا على ذلك «1» ، فالعلوم التي في القرآن تدل كل عاقل ومنصف على أنه من عند الله، ولا يمكن أن تكون من عند غيره، ونضرب لك ثلاثة أمثلة مما احتوى عليه من العلوم: (أ) إخباره بالغيب الماضي والحاضر والمستقبل: «2» فمن إخباره بالغيب الماضي: إخباره بقصص الأمم السابقة التي لم يشهدها محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو قومه، مثل قصة نبي الله نوح عليه السّلام مع أمته التي كانت من أقدم الأمم على الأرض. فقد دعا نوح عليه السّلام قومه إلى عبادة الله سبحانه وترك عبادة غيره، واستمر على ذلك مدة طويلة بلغت ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يستجب له إلا قليل من الناس، فدعا ربه أن ينصره على من عاداه، فأنزل الله مطرا غزيرا من السماء وفجر الأرض عيونا فاغرق الكافرين، ونجى الله المؤمنين على سفينة مع نوح عليه السّلام. وأخبر الله سبحانه نبيه في القرآن بعد أن ذكر قصة نوح عليه السّلام مع قومه في سورة هود أن هذه القصة من أخبار الغيب التي لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يعلمها ولا   (1) انظر مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/ 366. (2) وقد ذكرنا أمثلة لذلك في الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قومه، وإنما ساقها الله للعبرة ولتسلية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) [هود: 49] . ولو أن الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون شيئا من ذلك لكانت فرصة لتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم لاذوا بالصمت. قصة هامان: ورد ذكر" هامان" ست مرات في القرآن الكريم، كما ورد اسمه متصلا باسم فرعون كشخص من المقربين إليه ويسند فرعون إليه أعمال البناء، حيث أمره ببناء صرح عال يصعد عليه، قال تعالى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ (37) [غافر: 36- 37] . فهاتان الآيتان تثبتان وجود شخص اسمه هامان مقرب إلى فرعون، ويكلفه بعمل البناء. بينما لم يرد ذكر لهامان في التوراة، ولم يرد ذكره في أي من المقاطع (الروايات) التي تحكي حياة نبي الله موسى عليه السّلام، لكن ورد اسم" هامان" في أحد كتب العهد القديم «1» . لكن هذا الكتاب ذكر أن" هامان" شخص مساعد لملك بابل، وبابل في العراق، وأنه أوقع الكثير من الضرر بالإسرائيليين، ولكن هذه الأحداث كانت   (1) العهد القديم يشمل التوراة بالإضافة إلى بعض الكتب المقدسة الأخرى عند اليهود، ومنها زبور نبي الله داود عليه السّلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بعد نبي الله موسى بمدة طويلة تبلغ 1100 عام. ويدّعى بعض الطاعنين في الإسلام «1» أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كتب القرآن، وأنه نسخ قصص الأمم السابقة من التوراة والإنجيل، فأخطأ في شخصية هامان فذكر أنه وزير فرعون، بينما هو- حسب دعواهم- مساعد ملك بابل. وجاءت الكشوف الحديثة في علم الآثار لتظهر صدق ما جاء في القرآن الكريم وبطلان تلك الدعاوى المزعومة بعد أن حلت رموز وحروف الكتابة الهيرو غليفية المصرية القديمة، التي ورد فيها ذكر شخصية هامان وطبيعة عمله. وتوجد الإشارة إلى هذا الاسم في نصب في متحف هوف في فيينا «2» ، كما ظهر في كتاب بعنوان «3» (in the new Kingdom people) في شعب المملكة الجديدة) الذي تم إعداده استنادا إلى مجموعة من النقوش كما ظهرت في هذه النقوش وظيفة وطبيعة عمل هامان وهو أنه كان: (رئيس عمال الحجارة) " ورد الاسم مذكرا، من المملكة الجديدة. وترجمت المهنة إلى اللغة   (1) Ludwig Marroccio (Confessor to the Pope Innocent XI) , Alcoranus Textus Universus:1698, Published at Paduae, Italy.B.Lewis, V L Menage, Ch.Pellat and J Schacht (Editors) , Encyclopaedia of Islam (New Edition) : 1971, Volume III, E J Brill (Leiden) Luzac Co. (London) , P.110.Arthur Jeffery, The Foreign Vocabulary of the Qur, an:1938, Oriental In- stitute, Baroda, pp.284. (2) Wlater Wreszinski, Aegyptische Inschriften aus dem K.K.Hof Museumin wien:1906, J C Hinrichs, Sche Buchhandlung, Leipzig. (3) Hermann Ranke, Die gyptischen Personennamen, VERZEICHNIS DER NAMEN, Verlag Von JJ Augustion in Gluckstadt, Band I (1935) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الألمانية بمعنى رئيس أو مراقب العمال في مقالع الحجر «1» . وهذا كله يثبت حقيقة ما جاء في القرآن من أن هامان كان في مصر وأنه كان مسئولا عن أعمال البناء وهذه المعلومات لم تكن متوفرة في عهد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الكتابة الهيروغليفية قد تركت منذ زمن قديم حيث يرجع آخر مثال معروف لاستخدامها إلى عام 394 بعد الميلاد «2» ، ثم نسيت هذه اللغة ولم يكن هناك أحد يستطيع أن يخل رموزها أو يفهمها إلى حوالي 200 سنة مضت في عام 1799 م تم اكتشاف" حجر رشيد (Rosetta () Stone "الذي يرجع تاريخه إلى 196 قبل الميلاد، وبواسطته تم حل شفرة الكتابة المصرية القديمة، ومن خلالها توفرت المعلومات عن الحضارة المصرية القديمة وجوانبها الدينية والاقتصادية والتاريخية وغيرها، ومن ذلك معرفة شخصية" هامان" وطبيعة عمله، كما ذكر ذلك في القرآن الكريم. فمن أين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا العلم الذي خفي على البشرية في وقته وإلى عصرنا الحاضر حتى قبل 200 سنة تقريبا، إن الإخبار باسم شخص كان يعيش مع فرعون والإخبار عن وظيفته عند فرعون، مع أن هذا الإسلام قد سقط عند أهل الكتب المقدسة ونسي من ذاكرة التاريخ، ولم يعثر على هذا الاسم إلا بعد نزول القرآن باثني عشر قرنا بعد أن تم اكتشاف حجر رشيد الذي تمكن به علماء الآثار من فك رموز لغة الفراعنة (الهيروغليفية) فوجدوا اسم هامان يذكر في النقوش الفرعونية وأنه وزير فرعون للبناء تماما كما أخبر القرآن، إن ذلك يدل على أن   (1) The name is listed as masculine, from the New Kingdom.The pro- fession translated into German reads Vorsteher der Steinbruch arbeiter The Chief/ Overseer of the workers in the stone quarries, (Aegyptische Inschriften, 134, P.130) Encyclopdia Briannica. (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 مصدر هذا الخبر الغيبي قد نزل في القرآن من علم الله، إنه من الله العليم بكل شيء «1» . غيب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: وكما أخبر القرآن بالغيب الماضي فقد أخبر ببعض الحوادث التي لم يشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهي في زمنه فكانت غيبا بالنسبة له- فأطلعه الله عليها، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسر إلى بعض أزواجه أنه قد حرم على نفسه شرب العسل الذي عند بعض نسائه، لما ظن أن فيه رائحة غير مستحسنة «2» ، وأمرها ألا تخبر بذلك أحدا، فأخبرت بعض نسائه بذلك، فأطلعه الله سبحانه على ذلك وأخبرها به، فسألته عمن أخبره بذلك الغيب فأخبرها أنه الله سبحانه. قال تعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ «3» عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ «4» فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) [التحريم: 3] . ومن أمثلته كذلك ما كان يخفيه المنافقون من بغضهم للإسلام وطعنهم فيه فيطلع الله عليه نبيه، وكان المنافقون يعلمون ذلك ويخشون أن ينزل القرآن ببيان ما أسروا في قلوبهم. قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) [التوبة: 64]   (1) هذا الخلاصة في اسم هامان من مقال للدكتور/ باسم طارق جمال في مجلة الإعجاز العلمي، العدد (14) لعام 1423 هـ. (2) وقيل: إن السر هو تحريم مارية القبطية على نفسه، قال الشوكاني: والجمع بينهما ممكن بوقوع القصتين، قصة العسل، وقصة مارية انظر فتح القدير عند تفسير الآيات المذكورة من سورة التحريم. (3) أطلعه الله عليه. (4) يعني: ذكر لها بعض ما أخبرت به، وسكت عن البعض الآخر تكرما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كما قال تعالى مبينا كذب المنافقين في اعتذارهم في التخلف عن الجهاد: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ [التوبة: 94] «1» . وقد قال أحدهم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلمة كفر بها، حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فقال المنافق: إن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير، فقال زيد بن أرقم: هو والله صادق وأنت شر من الحمار، ولما نقلت كلمته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جحدها، فنزل القرآن الكريم بإثبات تلك الكلمة عليه. قال تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التوبة: 74] «2» . وهكذا كان الوحي يكشف للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يدور بعيدا عنه مما يحاك حوله وما يدور في خفايا النفوس. غيب المستقبل: وهناك نوع آخر من الغيب كشفه الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الغيب المكنون في المستقبل الذي لا سبيل لأحد من البشر أن يعرفه. ومن أمثلته ما وعد الله به المؤمنين من الاستخلاف في الأرض مع أنهم كانوا قلة مستضعفة، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55] .   (1) سميت سورة التوبة الفاضحة لكونها تفضح المنافقين، قال الشوكاني: وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين، وكذلك المبعثرة، والبعثرة: البحث، والمخزية لكونها أخزتهم، والمثيرة: لكونها تثير أسرارهم وغير ذلك من الأسماء. انظر مقدمة تفسير سورة التوبة من فتح القدير. (2) انظر تفسير الشوكاني، وقد روي في سبب نزولها غير ذلك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وقد تحقق ذلك الوعد فخلال قرن من الزمان انتصر المؤمنون على الدولتين العظيمتين في ذلك الوقت وفتحوا الأرض شرقا وغربا ودانت لهم شعوبها بالإسلام ودخلوا في دين الله أفواجا. ومن أمثلة الإخبار بغيب المستقبل أن يقرر القرآن أن أشخاصا معينين بأسمائهم لن يسلموا وأنهم سيموتون على الكفر، وكان بإمكانهم أن يكذبوا القرآن ولو تظاهروا بالإسلام تظاهرا، ولكنهم لم يخرجوا عما قرره القرآن في حقهم، بالرغم من إسلام الأعداد الكثيرة ممن كانوا أشد الناس عداوة له. ومن ذلك ما ذكره سبحانه عن أبي لهب أنه من أهل النار. قال تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) [المسد: 1- 4] وكذلك إخباره عن الوليد بن المغيرة أنه سيصلى النار قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) [المدثر: 26] وكان الأمر كذلك فمات أبو لهب كافرا، ومات الوليد كافرا، إلى غير ذلك من الأمثلة «1» . ب- الشريعة العظيمة التي احتوى عليها: لا يستطيع أحد أن ينظم بدقة وإحاطة أمر مصنوع من المصنوعات إلا إذا كان على علم بأسرار ذلك المصنوع فتأتي إرشاداته وتوجيهاته محققة للسير الصحيح. ومن تأمل في أحوال البشرية وجدها في اضطراب وفساد على الدوام، لكنها عند ما طبقت شريعة الله التي جاء بها رسله استقر أمرها وصلح حالها وختم الله   (1) انظر مزيدا من الأمثلة على إخبار القرآن بالغيب في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6/ 70- 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الشرائع بشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي شيّدت عليها أثبت الحضارات التي عرفها البشر خلال التاريخ الإنساني، وسعدت البشرية في ظل تلك الشريعة التي وحدت بين الأجناس المختلفة والبيئات المتباينة والعصور المتعاقبة، وشهد بذلك الدارسون من أهل الاختصاص، مما يدل على أن هذه الشريعة من قبل خالق الإنسان، الذي يعلم أسرار خلقته وفطرته. فإلى جانب ما احتوى عليه القرآن من الهدى والنور في جانب الاعتقاد والإيمان الذي نزل من أجله، فقد اشتمل على أفضل وأرقى التشريعات التي تكفل سعادة الفرد والمجتمع بل والعالم بأكمله في جميع شؤون حياتهم في جوانب السياسية والقضاء والحكم وإقامة العدل، وفي جوانب الاقتصاد والمال والمعاملات، وفي جوانب الاجتماع والتكافل والأخلاق والآداب والفضائل، وفي جوانب الفكر والبحث والعلم، وفي جوانب الصحة وحماية الأعراض واستتباب الأمن، وفي جوانب العقل والبدن والأسرة والمرأة والمجتمع، وفي جوانب الحرب والسلم والعلاقات بين سائر بني الإنسان، وبيان الحقوق والواجبات فلم يبق جانبا من جوانب الحياة إلا وقد بيّن فيه سبيل الحق والهدى والصواب كما قال تعالى لرسوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] . ومن الأدلة على ذلك أن الأمة الإسلامية قد عاشت أكثر من ألف وأربعمائة عام غنية بما لديها من التشريعات، ولا تزال بعض الدول الإسلامية تتحاكم إليها في محاكمها ولم تحتج في يوم من الأيام إلى قوانين مستوردة من خارج الشريعة الإسلامية، لأن الجهاز التشريعي الضخم قد أغناها عن الحاجة لغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 محاورة مع سفير فرنسا: في أثناء زيارة سفير فرنسا لي، سألني قائلا: هل اكتملت الحياة وصورها؟ * فقلت: لا. * فقال: وهل اكتمل الدين؟. * فقلت: نعم. * فقال: فكيف يتسع الدين المحدود الذي اكتمل لحاجات الحضارة وصورها المتجددة؟!. * فقلت له: هل تركيب عينك هو نفس تركيب أعين من كانوا يعيشون في عصر محمد وفي عصر المسيح عليهما السلام؟. * فقال: التركيب واحد لم يتغير. * فقلت له: هل تركيب أعضاء جسمك، هو نفس تركيب أعضاء أجسام من كانوا يعيشون في عهد النبي محمد وفي عهد المسيح عليهما السلام؟. * فقال: نعم، تركيب أجسامنا لم يتغير ولم يتبدل. * فقلت له: هل تحب، وتكره، وتخاف، وتطمع؟. * قال: نعم. * قلت له: الذين كانوا يعيشون في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي عصر المسيح هل هم مثلنا يحبون ويكرهون ويخافون ويطمعون؟. * قال: نعم. * فقلت له: إذن التركيب النفسي لنا ولهم لم يتغير ولم يتبدل!. * قال: نعم هذا صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 * فقلت له: التركيب النفسي والبدني لمن يعيشون اليوم هو نفس التركيب النفسي والبدني لمن كانوا يعيشون في عهد النبي محمد وفي عهد المسيح عليهما السلام. * فقال: هذا صحيح. * ثم قلت له: لو أن لدينا مليون سيارة مرسيدس، بتصميم هندسي واحد (موديل واحد) ، قد صنعت طبقا لخطة هندسية واحدة، ولها كتاب إرشاد (كتالوج) واحد، فهل يصلح كتاب الإرشاد (الكتالوج) الواحد لتسيير وتشغيل أي سيارة من هذه المليون السيارة؟! * فقال: طالما الموديل واحد والصنعة واحدة، فلابد أن يكون (الكتالوج) واحدا، والكتالوج الواحد يصلح لأي سيارة من هذه السيارات. * فقلت له: ولو وزعناها على القارات في آسيا، وأوروبا، وأمريكا؟! * فقال: ولو وضعت في أي مكان على الأرض، فإنها لا تعمل إلا بنفس (الكتالوج) الذي صنعت طبقا له ما لم يتغير تركيبها. * فقلت له: ولو أننا أخرجنا من مخزن السيارات مائة سيارة بعد عشر سنوات، فهل لا يزال (الكتالوج) يصلح لها؟! * فقال: لا يزال يصلح لها، لأنها لم يحدث لها أي تغيير في تركيبها. * فقلت له: ولو أخرجناها بعد مائة سنة فهل لا يزال الكتالوج يصلح لها. * فقال: يصلح لها ما دام تركيبها لم يتغير. * فقلت له: ولو أخرجناها بعد ألف وأربعمائة عام، فهل لا يزال (الكتالوج) نافعا لها ويصلح لتشغيلها؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 * فقال: نعم، لا يزال يصلح لها ما لم يتغير تركيبها!. * فقلت له: إذا كانت الإرشادات (الكتالوج) التي تقدمها مصانع السيارات تصلح لتشغيل تلك السيارات من نفس تلك الصنعة (الموديل) مهما اختلف الزمان والمكان، فكذلك الشريعة والدين الذي جاء من عند الله متعلقا بفطرة الإنسان البدنية والنفسية التي لم تتبدل ولم تتغير بتغير الزمان والمكان، لا يزال صالحا لفطرة الإنسان التي خلق الله الناس عليها، وصالحا للبشرية الموحدة في فطرتها وخلقتها كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] . * ثم قلت له: والدين الذي جاءنا من عند الله جاء في صورة قواعد كلية هادية تستوعب كل الصور المتجددة لتطورات الحياة، ويقوم العلماء المجتهدون بتنزيل أحكام الدين على صوره المتجددة، كما يقوم الخياط الذي يفصل الملابس وفق قواعد الخياطة فيجعلها متناسبة مع أحجام الناس ونوعية القماش، ومناسبة لفصول السنة وفقا لقواعد التفصيل والخياطة، والبيئة التي يعمل فيها الإنسان. ولو قام المجتهدون بعملهم كاملا لما قصرت الشريعة عن إيجاد حلّ لأي مشكلة تستجد للفطرة الإنسانية الثابتة. وهكذا تعلقت الشريعة بالفطرة الثابتة التي لا تتغير وكانت مرنة بعمل المجتهدين الذين يستنبطون من قواعدها الأحكام المناسبة للصور المتجددة. [ج] الإعجاز العلمي الذي احتوى عليه القرآن: القرآن لا تنقضي عجائبه، فكلما مر الزمن اكتشفت البشرية وجها جديدا من إعجازه، فما إن دخل الناس في عصر العلوم الكونية حتى وجدوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 كتاب الله نبأ صدق ما وعدهم في قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] . وإذا بالوعد يتحقق، [انظر فصل: البينة العلمية] . [7] حفظه من التغيير والتبديل: ومن العلامات الإلهية في القرآن كونه محفوظا من التغيير والتبديل، مع مرور الأزمنة المتطاولة على نزوله، وكثرة المعادين والحاقدين والخصوم المتربصين به وبأهله، ومع ذلك لم تنله يد التغيير والتبديل، وما حصل من محاولات التحريف باءت جميعها بالفشل. فهو محفوظ على مستوى الحرف الواحد بل على مستوى حركة الحرف الواحد، وإنك لتسمع القرآن اليوم يذاع من إذاعات العالم المختلفة ومن الدول المعادية للإسلام «1» ، فإذا هو القرآن المعروف الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كله تصديق لوعد الله سبحانه الذي تكفل بحفظه فقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9] . [8] علامات أخرى: وهناك علامات أخرى تدل المنصف العاقل أن القرآن ليس من عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ذلك: ما نزل من القرآن بعد طول انتظار: فقد حصلت في عهد النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حوادث مهمة وحرجة كانت تستدعي بيانا سريعا لها، وكان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقع في موقف حرج فيها، ومع ذلك كان ينتظر حتى يأتيه الوحي والبيان من الله لتلك   (1) تذيع هذه الدول القرآن تأليفا لقلوب عامة المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 المواقف. ولو فرضنا أن القرآن كان من عنده صلى الله عليه وآله وسلم لأنقذ نفسه من الحرج دون حاجة إلى التأخير: ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما قاله أهل الإفك في زوجته السيدة الطاهرة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، ومكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرابة شهر وأهل الإفك يخوضون في باطلهم ومع ذلك لم يتبين له الأمر حتى نزل الوحي من السماء ببراءة أم المؤمنين رضي الله عنها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) [النور: 11- 18] ، ولو كان القرآن من عنده صلى الله عليه وسلم لأمكنه أن يتلو على الناس بعض الآيات فور ظهور مقالة أهل الإفك في مثل هذه الحادثة التي لا تستدعي أقل وقت للتأخير، وذلك ليبرئ ساحته وعرض أهله، ولكنه لم يفعل لأنه ما كان ليفتري الوحي من دون الله «1» .   (1) ومن ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم- كان يتشوق للاتجاه إلى الكعبة في صلاته كما قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة 144] ومع ذلك لم يفعل ذلك حتى جاءه الوحي به، ومنه أنه سئل عن الروح فلم يدر ما يقول، وتأخر عليه الوحي ثم نزل قوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [الإسراء 85] ، ولو كان الوحي من عنده لأوجد لنفسه المخارج من مثل هذه المضايق. وانظر مناهل العرفان 2/ 425- 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 آيات العتاب له صلى الله عليه وآله وسلم: ولو كان لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم تصرف في القرآن لحجب آيات العتاب الإلهي له في بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة هذا العتاب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لبعض الناس في التخلف عن الجهاد نظرا لما أبدوه من أعذار، فعاتبه الله سبحانه على ذلك مبينا له أن بعض الذين استأذنوه كانوا غير صادقين، فلم يكن ينبغي أن يأذن لهم. قال تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) [التوبة: 43] . وقد عاتبه- سبحانه- عند قبوله الفداء في أسارى بدر مبينا له أنه ما كان ينبغي له قبول الفداء منهم والإسلام مازال في حالة ضعف. قال سبحانه ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) [الأنفال: 67] ، وعاتبه ربه سبحانه عند إعراضه عن عبد الله بن أمّ مكتوم الأعمى لما جاءه ليتعلم منه، لكونه منشغلا بدعوة بعض رؤساء قريش، قال سبحانه عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) [عبس: 1- 4] . وعاتبه ربه سبحانه عند تحريمه العسل على نفسه- كما مر معنا «1» - قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) [التحريم: 1] . ولو كان القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما سجّل على نفسه هذا العتاب، يتلوه الناس بل ويتقربون إلى الله بتلاوته حتى يوم المآب.   (1) انظر موضوع الإخبار بالغيب في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 * الآيات التي تجرد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من نسبة الوحي إليه إذا قرأت القرآن وجدت فيه الآيات التي تجرد النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون له في القرآن مشاركة أو نصيب في تأليفه، بل يصفه القرآن بأنه كان قبل نزول القرآن لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ويمتن عليه بأن الله آتاه الكتاب والحكمة، بل يذكر أنّه لم يكن له رجاء في نزول الوحي عليه. قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء: 113] . وقال سبحانه: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] . وقال سبحانه: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. [القصص: 86] فلو كان القرآن العظيم بما احتوى عليه من معجزات بهرت البشر من تأليف محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما تنصّل من نسبته إليه، بل لكان أعظم مفخرة له أن ينسب إلى نفسه ما تفوّق به على جميع البشر ولكنه لم يفعل، بل تلا على الناس ما أنزله الله عليه من أنه لو قال شيئا من قبل نفسه ونسبه إلى الله سبحانه لعاقبه ربه- سبحانه- على ذلك أشد العقوبة. قال سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [الحاقة: 44- 47] ، أي لو كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- مفتريا علينا كما يزعم الكافرون ... لأخذنا منه بيمينه ثم لقطعنا منه العرق المتصل بالقلب (الوتين) ، ولا يستطيع أحد من البشر عندئذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 أن يدفع عنه «1» . فليتأمل المنصف: أيسرّ أحدا أن يقول هذا عن نفسه في كتاب هو من تأليفه وإنشائه. واقرأ إن شئت قوله تعالى قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) [يونس: 15- 16] . والمعنى: إن هذا القرآن فوق طاقتي وليس من مقدوري وما أنا إلا ناقل له اتبع ما يوحى إليّ منه، وإني أخاف سطوة منزل هذا الكتاب إذا أنا تلاعبت بنصوصه أو غيّرت فيه، فالقرآن كلامه، ولو أراد ألا أكون رسولا بينه وبينكم ما تلوته عليكم ولم تتمكنوا من درايته وفهمه، فقد نشأت بينكم وعرفتم حالي حضرا وسفرا مدة أربعين سنة قبل نزوله- وهو عمر طويل- وأنتم تعلمون أني لم أكن أقرأ ولا أكتب ولا تعلمت من أحد مثله أو قريبا منه، بل أنا أمّي، لم تسمعوا مني مطلقا مثل هذا الكلام المعجز، ولم تجربوا عليّ كذبة واحدة في حياتي، فكيف أفتري على الله سبحانه وأكذب عليه بعد هذا العمر الطويل، أفلا تعقلون؟! «2» . وصدق الله القائل: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [العنكبوت: 48] .   (1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير. (2) مناهل العرفان 2/ 432، وبدائع التفسير من كلام ابن القيم 2/ 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الفصل الرابع المعجزة الخارقة * خوارق العادات. * من دلائل النبوة الخارقة للعادة في العهد المكي. * من دلائل النبوة الخارقة للعادة في العهد المدني. * خوارق ازدياد الطعام والماء. * معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء القليل. * معجزات شفاء المرض وخوارقها. * شهادة الشجر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم. * معجزات خارقة في شهادة الحيوان وانقياده. * معجزات خارقة متفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 تمهيد: كما أيد الله سبحانه رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الذي هو أعظم بيناته، فقد أيده بمعجزات خارقة للعادة أجراها على يده وشاهدها المعاصرون له من أصحابه وأعدائه، فكانت دليلا للجميع على صدقه صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلّغ عن ربه، وعلى تأييد الله سبحانه له، كما أن هذه الحوادث الخارقة التي وقعت لا تزال دليلا بينا لكل عاقل في أيّ زمان ومكان على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّها قد نقلت إلينا نقلا صحيحا أمينا، ووثقت توثيقا بالغا لا يوجد مثله في تاريخ الأمم قديمها وحديثها فكأن السامع لها يراها بين يديه آية بينة تدل على صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدقة توثيقها فيطمئن بها قلبه وعقله. دقة توثيق أخبار المعجزات (خوارق العادات) : إن دلائل النبوة الخارقة للعادة قد سجلت في القرآن الكريم، وفي كتب السّنّة النبوية المطهرة، بأدق طرق التوثيق والنقل، فلننظر كيفية توثيقها في كليهما: أولا: توثيق المعجزات في القرآن الكريم: كانت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الخارقة للعادة) تحصل، فيراها العشرات والمئات وربما الالآف من أتباعه المؤمنين به صلى الله عليه وسلم، ومن أعدائه المعاندين له، ثم ينزل القرآن العظيم ذاكرا لهذه الخوارق والحوادث مستخلصا العبر منها؛ لأنه كان ينزل منجما حسب الأحداث. وبعد نزول القرآن بذكر هذه الخوارق والحوادث صدقها المؤمنون وازدادوا إيمانا وثباتا على دينهم، ولم يتطرق إليهم أدنى شك في وقوع هذه الخوارق التي شاهدوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ولم يملك أعداؤه صلى الله عليه وآله وسلم سوى الصمت تجاه ما يسمعون من آيات القرآن التي تذكر تلك الخوارق والحوادث. ولو افترضنا جدلا أنّها لم تقع لكان أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول المشنّعين عليه بذلك، ولكانت فرصة سانحة ليثبتوا- حسب زعمهم- كذبه صلى الله عليه وآله وسلم (وحاشاه من ذلك) ، لاسيما مع حرصهم الشديد على تكذيبه وتوافر الدواعي لديهم لذلك، واجتماع هممهم للطعن في نبوته، والقدح في صدق رسالته، والتشكيك في أخباره، ولتشكك المسلمون في دينهم وارتدوا عنه. لكن شيئا من ذلك لم يقع، بل ازداد المؤمنون إيمانا وثباتا على دينهم وتصديقا لما سجل في كتاب ربهم، وصمت الكفار أمام ما شاهدوا من خوارق وقعت وسجلها القرآن فدخلوا في دين الله أفواجا، فعلمنا علما يقينيا وقوع تلك الخوارق والحوادث المؤيدة للنبوة والرسالة والشاهدة بصدق النبي ورسالته، وعلمنا أن أولئك العشرات أو المئات أو الآلاف الذين كانوا يشاهدون المعجزة هم الموقعون على محضر المعجزة، وهم الشهود المباشرون لها الشاهدون بصدق وقوعها. محضر الخارقة المعجزة: لقد كان ذكر القرآن الكريم لهذه الخوارق وتسجيله لها حين نزوله وسماع المئات والآلاف من المسلمين والكافرين لما ذكر فيه، بمثابة محضر أقره جميع الحاضرين من المؤمنين والكافرين المشاهدين لتلك الخوارق والحوادث، والسامعين لما سجل عنها في كتاب الله، فكان ثبات المؤمنين على إيمانهم بمثابة التوقيع منهم على صدق ما سجل في القرآن، كما كان سكوت الكافرين وعدم معارضتهم لما سجّل في القرآن، بل وتحول الكثير منهم إلى الإيمان بمثابة التوقيع أيضا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 مطابقة القرآن لما شاهدوه في الواقع. مثال في العهد المكي: حادثة انشقاق القمر: في العهد المكي طلب كفار قريش من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يريهم آية (علامة على صحة نبوته) فشق الله له القمر نصفين، وذكر القرآن الكريم ذلك وسجّله. قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] . فلو أن ذلك لم يحصل لتشكك المسلمون في دينهم وخرجوا منه، ولقال الكفار: إن محمدا يكذب علينا فما انشق القمر ولا رأينا شيئا من ذلك، ولكن الذي حدث أن زاد المؤمنين إيمانا، وتحير الكافرون أمام هذه المعجزة التي لم يملكوا سوى أن يفسروها بأنها سحر مستمر!! «1» . قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) [القمر: 1- 3] «2» . التوثيق التاريخي لانشقاق القمر: سجل تاريخ الهند اسم ملك من ملوكهم هو: (جاكرواني فرماس) وأنه شاهد حادثة انشقاق القمر، فسجلت إحدى المخطوطات التاريخية الهندية مايلي: " شاهد ملك ما جبار" مالابار" بالهند (جاكرواني فرماس) انشقاق القمر؛ الذي وقع لمحمد، وعلم عند استفساره عن انشقاق القمر بأن هناك نبوة عن مجيء رسول من جزيرة العرب، وحينها عين ابنه خليفة له، وانطلق لملاقاته. وقد اعتنق الإسلام على يد النبي، وعندما عاد إلى وطنه- بناء على توجيهات النبي- وتوفي في ميناء ظفار" «3» وهذه المعلومات في مخطوطة هندية محفوظة في   (1) مستمر: أي قوي شديد يعلو كل سحر، كما قال الشوكاني، وقيل غير ذلك. (2) وقد كشف العلم الحديث آثار انشقاق القمر فهي مستقرة باقية إلى يومنا هذا. (3) المخطوطة الهندية موجودة في مكتبة مكتب دائرة الهند بلندن التي تحمل رقم المرجع: عربي 2807، 152 إلى 173 وقد اقتبسها حميد الله في كتابه محمد رسول الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 مكتبة دائرة الهند تحتوي على عدة تفصيلات أخرى عن (جاكرواني فرماس) . وقد جاء في كتب الحديث ذكر الملك الهندي؛ الذي وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففي مستدرك الحاكم: " عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: ثم أهدى ملك الهند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- جرة فيها زنجبيل، فأطعم أصحابه قطعة قطعة، وأطعمني منها قطعة. قال الحاكم ولم أحفظ في أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم- الزنجبيل سواه" «1» . ومن المعلوم أن هذا الملك قد صار صحابيا؛ بملاقته الرسول- صلى الله عليه وسلم- وإيمانه به وموته على ذلك. وقد حفظت المراجع الإسلامية قصة هذا الصحابي الذي قدم من الهند. فذكره الإمام ابن حجر العسقلاني في الإصابة، وفي لسان الميزان «2» وقال إن اسمه (سربانك) وهذا هو الاسم الذي عرف به عند العرب. مثال في العهد المدني: إرسال الرياح والجنود على الأحزاب: اجتمع آلاف الكفار لغزو المدينة النبوية في معركة الأحزاب، فأرسل الله عليهم ريحا باردة أطفأت نيرانهم وكفأت قدورهم واقتلعت خيامهم وهدمت أبنيتهم وشردت خيولهم وإبلهم، وأرسل الله عليهم جنودا لا ترى لتزلزلهم حتى اضطروا للعودة من حيث جاءوا، وفكّ الحصار عن المدينة النبوية، وأنزل الله تعالى ذكر هذه الحادثة ممتنّا على المؤمنين. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) [الأحزاب: 9] . ولو كانت هذه المعجزة لم تقع لتشكك المسلمون في القرآن، وربما ارتدوا   (1) مستدرك الحاكم ك/ الأطعمة ج 4 ص 150. (2) الإصابة ج 3 ص 279، لسان الميزان ج 3 ص 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عن دينهم، وقالوا: كيف نصدق ما لم يقع؟!، ولازداد الكفار عتوّا ونفورا ولقالوا: محمد يكذب علينا وعلى الناس!!، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل، بل ازداد المؤمنون إيمانا وثباتا على دينهم، وصمت الكفار، ثم دخل معظمهم بعد ذلك في دين الله أفواجا، وبهذا يكون القرآن السجل الصادق- الذي لا يتطرق إليه شك- لما وقع من الخوارق والمعجزات التي أيد الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. حفظ القرآن (السجل الصادق للمعجزات) : وعندما كان الوحي ينزل بالآيات القرآنية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بكتابتها فيتسابق المسلمون من أجل حفظها وكتابتها والتعبد بتلاوتها ونشرها بين الناس، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب يكتبون له الوحي حتى اكتمل نزول القرآن وكتبه المسلمون في المصحف، ومن المصحف نسخت مصاحف كثيرة ووزعت في الأقطار آنذاك، ثم في سائر أقطار العالم. إن هؤلاء الصحابة الذين حفظ الله بهم القرآن ونقلوا هاتين الحادثتين: حادثة انشقاق القمر، وهزيمة الأحزاب بالرياح وغيرهما من خوارق العادات التي سجلها القرآن سواء ممن كان مسلما وقت وقوع الحادثة أو أسلم بعد ذلك، كانوا يقرءون القرآن صباح مساء، في صلاتهم ومجالسهم وحلق علمهم ويدونونه ويحفظونه ويتدارسونه فيما بينهم ويتخلقون بأخلاقه ويتحاكمون إلى شريعته، مقرين به ومصدقين له، وعلموه لأبنائهم وأهليهم ومن تبعهم، فمن المستحيل عقلا أن يجتمعوا جميعا على نقله وحفظه وهو لم يقع. وقد حفظ الله القرآن في صدور هؤلاء الذين شاهدوا المعجزات وفي صحفهم، وفي صدور أبنائهم وما دونوه من صحف آبائهم، ونقله الآلاف وعشرات الآلاف بل والملايين وعشرات الملايين عبر العصور المتلاحقة مصدقين به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولقد أجمعت أمة العرب على النص القرآني الذي تلقته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجمع في عهد الخليفة الأول، ونقلت تلك النسخة من بيته إلى بيوت الخلفاء الراشدين الثاني والثالث، وعممت نسخته في زمن عثمان رضي الله عنه على سائر الأمصار والبلدان التي دخلت في دين الإسلام، فتلقت الأمم في مشارق الأرض ومغاربها هذا المصحف عن أمة العرب، وكتبته برسمه العثماني، وتعلمت نطقه العربي جيلا بعد جيل، على اختلاف لغات الشعوب الإسلامية التي شرحت القرآن بلغاتها المختلفة. فترى المصحف الذي يقرؤه الصيني أو الروسي أو الأوروبي أو الأمريكي أو الفارسي أو التركي أو الأفريقي أو العربي هو نفس المصحف الذي تذيعه إذاعة لندن أو إذاعة إسرائيل أو أي إذاعة أو محطة تلفزيون في العالم. ولا يزال الملايين من أبناء المسلمين يتلقون القرآن مشافهة وقراءة وفق الرسم العثماني بسند متصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أمين الوحي جبريل عليه السلام، عن رب العالمين سبحانه وتعالى. وإذا أخذت نسخة من المصحف في أي زمان ومكان لوجدتها تحكي المعجزات كما هي لأن الله سبحانه قد تعهد بحفظ القرآن كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9] ولا يزال المسلمون يحفظونه في الصدور والسطور، والملايين منهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب وعلى مستوى الحرف الواحد منه، بل وعلى مستوى ضبط حركة الحرف الواحد. ولو فتحت أيّ مصحف على وجه الأرض سواء كان من المطبوع حديثا أو من المخطوط قديما، وفتحت سورة الأحزاب لوجدت الآية التاسعة منه تحكي قصة الرياح والجنود التي نصر الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم، وبهذا تعلم ويعلم كل منصف أن القرآن الذي بين أيدينا هو الذي أنزل على محمد صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وآله وسلم وسجّل معجزاته، فكأنك تراها الآن رأي العين. ثانيا: توثيق هذه المعجزات في السنة النبوية: وقد حفظت لنا كتب السنة النبوية الموثقة كثيرا من تفاصيل المعجزات التي سجلها القرآن، كما سجلت كثيرا من الخوارق والمعجزات التي لم تذكر في القرآن، وكان التوثيق في تلك الكتب بالغ الدقة، لا يقبل تشكيك مشكك، فكأنك ترى المعجزات المذكورة فيها رأي العين. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان محط أنظار أصحابه، الذين أمرهم الله بالاقتداء به في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ، كما أمرهم الله بطاعته واتباع أمره واجتناب نهيه. قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . وقال تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 56] ، ولا تتحقق الأسوة والطاعة إلا بتتبع أقواله وأفعاله وأحواله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على الأخذ عنه ومراقبة أفعاله ومتابعتها، كقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسّنّتي" «1» ، وقوله: " خذوا عني مناسككم" «2» ، وقوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي" «3» ونحو ذلك من   (1) أخرجه الترمذي ك/ العلم ب/ ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، وأبو داود ك/ السنة ب/ في لزوم السنة، وابن ماجه ك/ المقدمة ب/ اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، واللفظ له، وأحمد في مسند الشاميين من حديث العرباض بن سارية، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 342 وصحيح سنن ابن ماجه 1/ 13. (2) أخرجه مسلم ك/ الحج ب/ استحباب من جمرة العقبة يوم النحر راكبا ... واللفظ له، والنسائي ك/ مناسك الحج ب/ الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم، وأبو داود ك/ المناسك ب/ في رمي الجمار. (3) أخرجه البخاري ك/ الأذان ب/ الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة، والدارمي ك/ الصلاة ب/ من أحق بالإمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 النصوص التي تحث على ملاحظة أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم. ولذلك كانت أعماله صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله وحركاته وسكناته ومعجزاته الشاهدة بصدق رسالته محل مراقبة من أصحابه لأنها دين يتلقى، ويتوقف دخولهم الجنة، ونجاتهم من النار على اتباعه. ولما كان الصحابة رضي الله عنهم هم الشهود المباشرون لتلك المعجزات النبوية والناقلون لها، وجب علينا أن نعلم مكانتهم من الضبط والعدالة والتوثيق. الصحابة حملة الدين الثقات: (أ) شهادة القرآن والسنة لهم: لقد قيض الله لخاتم الأنبياء والمرسلين جيلا من الصحابة الصادقين المؤهلين لحفظ الدين، وأخبر سبحانه أنّه قد أعدّ هؤلاء الصحابة إعدادا إيمانيا رفيعا، ليكونوا أهلا لشرف الصحبة وحمل الرسالة. قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) [الحجرات: 7] . وشهد الله عز وجل لهؤلاء الصحابة الكرام من مهاجرين وأنصار بصدق الإيمان فقال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) [الأنفال: 74] . وأخبر سبحانه أنه قد رضي عنهم فقال: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة: 100] . وقال تعالى مبينا فضل المهاجرين والأنصار ومثنيا عليهم: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ «1» وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) . [الحشر: 8- 9] . وقال تعالى عن أهل بيعة الرضوان «2» : لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) [الفتح: 18] أي فعلم ما في قلوبهم من صدق النية والوفاء بالبيعة. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حينذاك: " أنتم خير أهل الأرض" «3» . واستخلفهم الله تعالى في الأرض لتمكين دينه ونشره بين الناس، كما قال تعالى مخاطبا نبيه وأصحابه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) [النور: 55] . كما قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج: 41] .   (1) تَبَوَّؤُا الدَّارَ: الدار هي المدينة، دار الهجرة فقد آمن الأنصار وهم في ديارهم قبل قدوم إخوانهم المهاجرين إليهم، انظر تفسير الطبري والبغوي. (2) بيعة الرضوان، كانت في شهر ذى القعدة سنة ست من الهجرة، بمكان يسمى الحديبية حيث بايع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مناجزة قريش الحرب وعلى أن لا يفروا ولا يولوهم الدبر، فرضي الله عنهم، فسميت هذه البيعة بيعة الرضوان. (3) رواه البخاري ك/ التفسير في تفسير سورة الفتح، ومسلم في الإمارة ب/ استحباب مبايعة الإمام الجيش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وأثنى الله سبحانه عليهم فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [عمران: 110] والخطاب في الآيات يدخل فيه الصحابة رضي الله عنهم دخولا أوليّا. لأنهم أول من خوطب بهذه الآيات الكريمات من الأمة المحمدية، ولتحقق التمكين لهم في الأرض كما وعدهم الله. وجعل الله سبحانه الصحابة والأمة من بعدهم شهودا على الأمم، وذلك لفضلهم وخيريتهم كما قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] . ومعنى الوسطية هنا كونهم عدولا وأخيارا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم يا ربّ، فتسأل أمّته هل بلّغكم فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمّد وأمّته، فيجاء بكم فتشهدون. ثمّ قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قال عدلا: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] «1» والصحابة أول الأمة دخولا في هذه الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» «2» . وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تسبّوا أصحابي فلو أنّ أحدكم أنفق   (1) أخرجه البخاري ك/ الاعتصام بالسنة ب/ قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، والترمذي ك/ تفسير القرآن ب/ ومن سورة البقرة. (2) أخرجه البخاري ك/ الشهادات ب/ لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، ومسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ فضل الصحابة ثم الذين يلونهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «1» . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن الصحابة: " ... كانوا خير هذه الأمة: أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا على الهدى المستقيم" «2» . وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ" «3» . (ب) شهادة الأمة بعدالة الصحابة رضي الله عنهم: قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه: " وقد أثنى الله- تبارك وتعالى- على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل «4» ، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنّأهم بما آتاهم   (1) أخرجه البخاري ك/ فضائل الصحابة ب/ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كنت متخذا خليلا، ومسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم. (2) حلية الأولياء (1/ 305- 306) بواسطة اعتقاد أهل السنة في الصحابة الكرام 1/ 98 ط 200، مكتبة الرشد، 1415 هـ- 1995 م. (3) أخرجه أحمد في المسند وإسناده حسن كما في تحقيق المسند 6/ 84. (4) يعني بذلك قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) [الفتح: 29] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدّوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامّا وخاصا وعزما وإرشادا، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر «1» . وقال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى: فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله- عز وجل- لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلاما وقدوة، فحفظوا عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغهم عن الله- عز وجل- وما سنّ وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمر الله ونهيه ومراده، بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقفهم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله- عز وجل- بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشكّ والكذب والغلط والرّيبة والغمز، وسمّاهم عدول الأمة، فقال- عز وجل- في محكم كتابه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] . ففسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الله- عز ذكره- قوله: وَسَطاً قال: " عدلا" «2» فكانوا عدول الأمة وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسّنّة، وندب الله- عز وجل- إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم، والسلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم، فقال: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ   (1) مناقب الشافعي للبيهقي 1/ 442- 443، أعلام الموقعين 1/ 80 بواسطة اعتقاد أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام/ لناصر الشيخ 1/ 104. (2) أخرجه البخاري ك/ الاعتصام بالسنة ب/ قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً، والترمذي ك/ تفسير القرآن ب/ ومن سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) [النساء: 115] ووجدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حضّ على التبليغ في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها منها: أن دعا لهم فقال: «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها فوعاها وحفظها وبلّغها فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» «1» وقال صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: «فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب» . «2» وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بلّغوا عنّي ولو آية ... » . «3» . ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبثّ كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكموا بحكم الله- عز وجل- وأمضوا الأمور على ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظائرها من المسائل، وجرّدوا أنفسهم- مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقّدس اسمه- لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله- عز وجل- رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين" «4» .   (1) أخرجه الترمذي ك/ العلم ب/ ما جاء في الحث على تبليغ السماع واللفظ له، وأبو داود ك/ العلم ب/ فضل نشر العلم، وابن ماجة في المقدمة ب/ من بلغ علما وأحمد في باقي مسند المكثرين، والدارمي في المقدمة ب/ الاقتداء بالعلماء، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 337- 338. (2) أخرجه البخاري ك/ الحج ب/ الخطبة أيام منى، ومسلم ك/ القسامة والمحاربين والقصاص والديات ب/ تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. (3) أخرجه البخاري ك/ أحاديث الأنبياء ب/ ما ذكر عن بني إسرائيل، والترمذي ك/ العلم ب/ ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو ابن العاص. (4) مقدمة كتاب الجرح والتعديل 1/ 7- 8 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 (ج) شهادة الأمم: ولقد شهدت البشرية شعوبا وقبائل وأمما- ممن احتك بهم الصحابة والتابعون- في شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها بصدق ما أخبر به القرآن عن أولئك الصحابة الذين خبروهم «1» في حال السلم والحرب. وبالرغم من أن الصحابة قد جاءوهم فاتحين مقاتلين، إلا أنهم سرعان ما أحبوهم وتعلقت قلوبهم بهم، بعد أن رأوهم في الصورة المثلى للمؤمن الصادق، ونقلت هذه الشعوب إلى أهلها وأبنائها وذراريها من بعدها حب أولئك الأصحاب، فأنشأت علاقة الفتح في قلوب الأمم والشعوب والقبائل التي فتحت المحبة والمودة والتبجيل والثناء والتأسي الحسن بأولئك الأصحاب والتابعين الفاتحين. وهذا بعكس ما شهد ويشهد به تاريخ البشرية من العلاقة السيئة المملوءة بالحقد والكراهية والبغضاء التي تنشأ بين الشعوب المغزوّة والجيوش الغازية. والسر في ذلك هو أن هؤلاء الفاتحين ما جاءوا يريدون دنيا الناس، ولكن جاءوا ليخرجوا هذه الشعوب- بإذن الله- من الظلمات إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام متمثلين قول الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) [القصص: 83] . وقوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . وهذا الجيل الصادق من الصحابة ومن بعدهم ممن تبعهم بإحسان هم الذين رووا لنا ما شاهدوا من البينات والخوارق والمعجزات التي كانت سببا في زيادة إيمانهم وتيقنهم من صدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.   (1) أي: عرفوهم معرفة حقيقية عن معايشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 (د) دقة توثيق الصحابة رضي الله عنهم: لقد كانت أعين هؤلاء الصحب الكرام كعدسات الكميرات، وآذانهم كأجهزة التسجيل الدقيقة التي تلتقط كل شيء لأنهم يعلمون أنّ دخولهم الجنة متوقف على تأسيهم بأفعاله وأحواله صلى الله عليه وسلم، وطاعتهم لأقواله، فكانت أعينهم شديدة المراقبة لحركات الرسول وسكناته، وكانت آذانهم مرهفة السمع لأقواله، وكانت قلوبهم متلهفة ومتعطشة لسماع الحق والنور والهدى ومعرفته وقبوله فنقلوا لنا فيما نقلوا بينات رسالته، وأحوال عبادته، وحديثه وهديه وسنته، ودقائق أحواله الشخصية وتصرفاته عليه الصلاة والسلام، مع أصحابه وأهله وأعدائه، وتفاصيل عادته في يقظته ونومه وطعامه وشرابه وسائر شؤونه، وتصرفه في أحرج اللحظات التي مرت به وكذا في أوج انتصاراته، وحين المكاره، وتفاصيل محاولات الكفار والمنافقين لخداعه ومساوماتهم له، فكانت سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم نورا مشاهدا لمن حوله. ثم نقل لنا هؤلاء الأصحاب ما رأوه وشاهدوه وسمعوه من معجزات نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله وأفعاله، يحدوهم الشوق للأجر في تبليغ العلم والدين كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمعه» «1» ، وتحثهم طاعتهم لرسولهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسارعة في نشر العلم، فهو القائل: «بلّغوا عنّي ولو آية» «2» ، ويدفعهم القرآن   (1) رواه أبو داود والترمذي ك/ العلم ب/ ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن حبان في المقدمة ب/ من بلغ علما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 40، وهذا الحديث من الأحاديث المتواترة. ذكر الحافظ أبو القاسم بن منده أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة وعشرون صحابي. ثم سرد أسماءهم. وقد جمع طرقه الشيخ عبد المحسن العباد في جزء مفرد مطبوع. (2) أخرجه البخاري ك/ أحاديث الأنبياء ب/ ما ذكر عن بني إسرائيل، والترمذي ك/ العلم ب/ ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمرو ابن العاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 إلى الحذر من كتمان العلم كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) [البقرة: 159- 160] . وكقوله عليه الصلاة والسلام: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» «1» . وقد نقلوا ما نقلوه بدقة بالغة وأمانة عالية، لأنهم يعلمون حرمة الكذب في دين الإسلام عامة، وحرمته بشكل أشد على الرسول صلى الله عليه وسلم. كيف وقد رووا عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» «2» ، حتى كان بعضهم يتحرج من الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم خشية أن يخطئ فينقل ما لم يسمع «3» ، مما يدلنا على مدى التوثيق البالغ لسّنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دقة توثيق التابعين: وجاء الجيل الذي بعدهم وهم التابعون ناقلين لبينات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته وأقواله وأفعاله، يدفعهم شوقهم للأجر الكبير في   (1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 52. (2) أخرجه البخاري ك/ العلم ب/ إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومسلم في المقدمة ب/ تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال المنذري: هذا الحديث قد روي عن غير واحد من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حتى بلغ مبلغ التواتر. صحيح الترغيب والترهيب 1/ 42. (3) ومنهم الزبير بن العوام رضي الله عنه، انظر صحيح البخاري ك/ العلم ب/ إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم مع شرحه من فتح الباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 طلب العلم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» «1» . وقوله: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له طريقا إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» «2» . فكان هؤلاء التابعون أرضا صالحة طيبة تتشرب نصوص السّنّة النبوية وأخبارها، تحفزهم دوافع التلقي نفسها التي كانت تحفز الصحابة على التلقي وأخذ الدين، ويحثهم على الضبط والإتقان ما كان يحث الصحابة الكرام على ذلك، وكانوا يعوضون ما فاتهم من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسماعه بكثرة اسئلتهم لشيوخهم من الصحابة ودقة حفظهم، فكانوا كأدق آلات التسجيل حفظا، يخشون أي زيادة أو نقص في الدين، واستعانوا بالتدوين لحفظ ما سمعوا من أقوال وأفعال ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا من جاء بعدهم من تابعيهم ومن بعدهم إلى أن اكتمل تدوين علم الحديث النبوي، ودونت معه المعجزات وبينات الرسالة في الكتب المصنفة التي تناقلتها الآلاف المؤلفة من المسلمين جيلا بعد جيل عن طريق الحفظ والكتابة معا، بحيث يستحيل معه التشكيك فيها وفي نسبتها إلى مؤلفيها. وقد اشترط المحدثون للحديث الصحيح شروطا بالغة الدقة كما سيأتي بيانه ومنها أن يكون جميع رواة الحديث عدولا سالمين مما يقدح في دينهم، ضابطين لما نقلوه من العلم حفظا وكتابة مما يبعث على الثقة في نقلهم.   (1) أخرجه البخاري ك/ العلم ب/ من يرد الله به خيرا. يفقهه في الدين، ومسلم ك/ الزكاة ب/ النهي عن المسألة. (2) أخرجه ابن ماجه في المقدمة ب/ فضل العلماء والحث على طلب العلم، وانظره في صحيح الجامع 2/ 1079، وقد أخرج منه مسلم الجزء الأول إلى قوله: الجنة، ك/ الذكر والدعاء ب/ فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر والتوبة والاستغفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 هذا مع ما بذله حملة الحديث رحمهم الله من جهود عظيمة لجمع الحديث النبوي وتصنيفه وتأليفه، وحفظه عن ظهر قلب، فقد كانوا يسافرون المسافات الطويلة ويتحملون مشاق السفر والاغتراب لجمع الحديث النبوي، والبحث عن الأسانيد العالية «1» ولقاء أكابر العلماء ويبذلون في ذلك أموالهم وأوقاتهم وجهودهم رخيصة في سبيل جمعه، ويسافر أحدهم الليالي والأيام لطلب الحديث الواحد «2» ويقيمون المجالس العلمية لسماع الحديث النبوي وإملائه واختبار حفاظه، وإقامة المدارس لمدارسته وتعليمه للأبناء، مع ما يبذلون من جهود في تدوينه وترتيبه وتبويبه والفحص عن العلل التي قد تكون في إسناده أو متنه، والتحري في ألفاظه وجمع رواياته، والبحث في أحوال رواته وسيرتهم للتوثق من صحة ما ينقلونه من الحديث، حتى وجد في الأمة من يحفظ عشرات الآلاف من الأحاديث بأسانيدها عن ظهر قلب، وكل ذلك يعملونه بنفوس راضية مطمئنة مستبشرة بما تناله من الأجر من الله سبحانه على ذلك، لأنه يشكّل بالنسبة لهم دينهم الذي تقوم عليه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ممتثلين أمر ربهم عز وجل القائل سبحانه: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] . منهج نقد الرواية: ولما ظهر بعد جيل الصحابة بعض من لا يوثق بروايته، قيض الله أئمة الحديث والجرح والتعديل الذين شيدوا علم الرجال والتاريخ والجرح والتعديل، الذي ضم آلاف الرواة مبينا حال كل راو من حيث أنه معروف أو مجهول، ومن حيث مدى   (1) الإسناد العالي هو الأقرب صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. (2) فقد رحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه شهرا لطلب حديث واحد، كما ذكره البخاري في صحيحه ك/ العلم ب/ الخروج في طلب العلم. ورحل أحد التابعين من المدينة إلى دمشق للقاء أبي ذر لسماع حديث نبوي واحد، كما أخرجه ابن ماجة في المقدمة ب/ فضل العلماء والحث على طلب العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 حفظه وضبطه وإتقانه وشيوخه وتلاميذه وسنة ولادته وسنة موته، وهل بقي حفظه كما هو أم تغير في آخر عمره لكبر سنّه، أو لحادث أصابه، وما أشبه ذلك من مقاييس الجرح والتعديل، بل وصل الأمر إلى جمع روايات الثقات العدول ومقارنتها لمعرفة إن كان أحدهم قد وهم في لفظة أو جملة، إلى أن استقر الأمر عند علماء الحديث والسّنّة فوضعوا شروطا للحديث الصحيح المقبول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كون الحديث المروي: [1] منقولا بنقل العدول الضابطين «1» . [2] متصل الإسناد بأن يكون كل راو قد سمع الحديث من شيخه، فلا يكون منقطعا. [3] سالما من الشذوذ «2» . [4] ومن العلة القادحة «3» . فاستبعد علماء الحديث رحمهم الله في تعريفهم الحديث الصحيح من كان مجروحا من الرواة بأي سبب من أسباب الجرح، والتي لخصت في عشرة أسباب: [1] الكذب. [2] الجهالة سواء كانت جهالة عين أو جهالة حال «4» .   (1) العدل: السالم من الفسق وخوارم المروءة. والضبط نوعان، ضبط الصدر: وهو كون الراوي متقنا ذاكرا لما يحفظه تماما، وضبط الكتاب: وهو كون الراوي يصون كتابه لديه من حين سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه. (2) الشذوذ: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه. (3) الحديث المعلّ: ما فيه علة خفية قادحة في إسناده أو في متنه والعلة: سبب غامض خفي قادح في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منه، ولا يعرف ذلك إلا أئمة هذا العلم، انظر نزهة النظر ص 83 وتدريب الراوي. (4) جهالة العين: أن لا يعرف من هو هذا الراوي، بألا يعرف إلا من رواية شخص واحد عنه ولم يوثقه معتبر وجهالة الحال: أن تجهل عدالة الراوي وإن كان شخصه معروفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 [3] التهمة بالكذب. [4] فحش الغلط. [5] الفسق. [6] سوء الحفظ. [7] البدعة. [8] الغفلة. [9] الوهم. [10] مخالفة الثقات «1» . ومما يبين صحة منهج المحدثين رحمهم الله ومنهجيتهم العلمية الدقيقة: عدم قبولهم الخبر المكذوب الذي زعم واضعه أنه قصد بوضعه نصرة الدين الإسلامي أو الحث على بعض فضائل الأعمال، بل اعتبروا ذلك ضلالا من فاعله وابتداعا في الدين «2» . وبهذا يظهر لنا تميز منهج النقد والتوثيق في الحديث النبوي، الذي يشترط الشروط الدقيقة في الرواية، حتى يطمئن المحدث بأن كل من في سند الرواية عدل أمين في روايته، ضابط دقيق في نقله، كأن عينه آلة تصوير، وأذنه آلة تسجيل، وذاكرته وكتابه شريط صاف سجلت عليه الكلمات، وبهذه الطريقة الأمينة الدقيقة نقلت إلينا السّنّة النبوية، وأخبار المعجزات، ووجدنا المعجزة تروى من عدة طرق لرواتها عن الذين حضروها وشاهدوها، فتتكامل تلك الروايات ويصدّق بعضها بعضا، وتلتقي مع ما ذكره القرآن أو أشار إليه. وليس هناك شخص في التاريخ توفرت لأمته تلك الدوافع والحوافز وقواعد الضبط والتحري لنقل أقواله وأفعاله غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين الذي جعله الله حجة على العالمين وتكفل بحفظ بيناته ومعجزاته في سجلات صادقة موثوقة لتقوم بها الحجة على من يأتي بعده إلى قيام الساعة.   (1) نخبة الفكر للحافظ ابن حجر مع شرحها نزهة النظر ص 116- 117 تحقيق: علي الحلبي. (2) تدريب الراوي 1/ 283 ونزهة النظر ص 121- 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فهيّا بنا نستعرض ما تيسر من تلك البينات الخارقة للعادة التي ذكرها الله سبحانه في كتابه الكريم، والتي رواها لنا حملة السنة الثقات، وسنحاول عرضها حسب تسلسلها التاريخي ما أمكن. أ- من دلائل النبوة الخارقة للعادة في العهد المكي: حادثة الفيل: كانت هذه الحادثة المعجزة مقدمة لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أراد نصارى الحبشة الذين كانوا باليمن هدم الكعبة انتصارا لكنيستهم التي كانت باليمن عند ما لطخها بعض العرب، فانطلقوا إلى مكة ومعهم فيل لهدم الكعبة، فردهم الله تعالى على أعقابهم خاسرين وأهلكهم، وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله سبحانه سورة في كتابه تذكر هذه الحادثة العجيبة التي أهلك الله فيها أصحاب الفيل بصورة غير متوقعة عند كل من يسمعها، حيث حبس الله الفيل عن دخول مكة «1» وأرسل على المعتدين طيرا تحمل حجارة من سجيل فأهلكهم. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) [الفيل: 1- 5] «2» .   (1) ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: - إن الله حبس الفيل عن دخول مكة ... الحديث، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بركت ناقته القصواء يوم الحديبية، فقال الناس خلأت القصواء- أي وقفت حين طلب مشيها ورجعت القهقرى- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، أخرجه البخاري ك/ الشروط ب/ الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة ... ومسلم ك/ الحج ب/ تحريم مكة وصيدها وضلاها وشجرها ولغطها. (2) أبابيل: جماعات بعضها في إثر بعض، سجيل: طين متحجر، العصف: ورق الزرع بعد الحصاد كالتبن وقشر الحنطة، سمي بذلك لأن الريح تعصف به فتفرقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فكانت هذه الحادثة توطئة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن تيمية- رحمه الله-: وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان، ودين النصارى خير من دينهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ولد في ذلك العام عند البيت، أو لمجموعهما، وأيّ ذلك كان، فهو من دلائل نبوته، وذلك أنه ليس من أهل الملل من يحج إلى هذا البيت ويصلي إليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي فرض الله عليها ذلك برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا أهلك الله النصارى أهل الكنائس الذين أرادوا هدم البيت، فتعين بذلك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من النصارى، وذلك يستلزم أن نبيهم صلى الله عليه وسلم صادق فيما أتى به من ربه «1» . انشقاق القمر: سأل كفار مكة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يريهم علامة تدل على صدق نبوته. قال أنس رضي الله عنه: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يريهم آية (أي علامة على صدق نبوته) فأراهم القمر شقّتين، حتّى رأوا حراء «2» بينهما «3» . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: انشقّ القمر ونحن مع النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فصار فرقتين فقال لنا: اشهدوا اشهدوا «4» . وفي رواية عنه: أنهم   (1) الجواب الصحيح 6/ 55- 56 بتصرف. (2) حراء: جبل مرتفع من جبال مكة. (3) رواه البخاري ك/ المناقب ب/ انشقاق القمر ومسلم ك/ صفة القيامة ب/ انشقاق القمر وأحمد في المسند 3/ 207 وأبو يعلى في مسنده 5/ 424 والطبري في تفسيره 27/ 85. (4) رواه البخاري ك/ التفسير ب/ (وانشق القمر) ونحوه عند مسلم ك/ صفة القيامة ب/ انشقاق القمر والترمذي ك/ التفسير ب/ ومن سورة القمر، والبزار في مسنده 5/ 202 وابن حبان في صحيحه 14/ 420 وأحمد في المسند 1/ 377 والطبراني في المعجم الكبير 10/ 77 وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 كانوا وقت انشقاقه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى «1» . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم «2» ، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: انفلق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اشهدوا «3» . ونزل القرآن العظيم ذاكرا هذه الحادثة العظيمة قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) [القمر: 1] . ومع ذلك كذب الكفار هذه الآية العظيمة وزعموا أنهّا سحر «4» . قال ابن حجر- رحمه الله-: وقد ورد انشقاق القمر من حديث علي وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم.   (1) رواه البخاري ك/ المناقب ب/ انشقاق القمر ومسلم ك/ صفة القيامة ب/ انشقاق القمر. (2) البخاري ك/ المناقب ب/ انشقاق القمر، مسلم ك/ صفة القيامة ب/ انشقاق القمر. (3) الترمذي ك/ الفتن ب/ ما جاء في انشقاق القمر، وذكر ذلك مسلم في صحيحه ك/ صفة القيامة ب/ انشقاق القمر والطيالسي في مسنده 1/ 257. (4) وذكر الحافظ ابن حجر أن أبا نعيم أخرج في الدلائل: أن كفار قريش زعموا أن ذلك سحر فسألوا المسافرين عن ذلك فأخبروهم بوقوعه فتح الباري شرح: ك/ مناقب الأنصار ب/ انشقاق القمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كبيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شئ من آيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر «1» . «2» . حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (أ) حراسة النبي صلى الله عليه وسلم بالملائكة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل نعم فقال واللات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته أو لأعفّرنّ وجهه في التّراب! قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلّا وهو ينكص «3» على عقبيه ويتّقي بيديه! قال فقيل له ما لك؟ فقال إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا!!، وفي ذلك قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق: 9- 19] «4» .   (1) فتح الباري المرجع السابق. (2) وقد أسلم الاقتصادي السياسي البريطاني: داوود موسى بيكوك وشكل حزبا إسلاميا في بريطانيا بعد إسلامه وهو الآن رئيس هذا الحزب، وكان سبب إسلامه ما ذكره ثلاثة من علماء الفضاء الأمريكان في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) على شاشة التلفزيون البريطاني عند ما قالوا أنهم اكتشفوا إن في القمر آثارا دلتهم على أن القمر قد انشق نصفين وأنه عاد للالتئام مرة ثانية تاركا آثار ذلك الشق واضحة. ولما سأل المسلمين عن تاريخهم وهل سجل لديهم حادث انشقاق القمر وعرف منهم الجواب أعلن إسلامه. (3) النكوص الرجوع إلى الخلف. (4) أخرجه مسلم ك/ التوبة ب/ قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 (ب) حماية الله لرسوله ممن أراد قتله: ومما حصل من حماية الله له في العهد المدني ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نجد فلمّا قفل «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة «2» في واد كثير العضاه «3» فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرّق النّاس يستظلّون بالشّجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة «4» وعلّق بها سيفه ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا «5» فقال من يمنعك منّي فقلت الله ثلاثا ولم يعاقبه وجلس «6» . وفي رواية «7» : " فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال: لا، ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فرجع فقال: جئتكم من عند خير الناس.   وابن حبان في صحيحه 14/ 533 والنسائي في السنن الكبرى 6/ 518 وأبو يعلى في مسنده 11/ 70 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 65. (1) قفل: رجع. (2) القائلة: النوم في الظهيرة. (3) العضاه: كل شجر له شوك كبر أو صغر. (4) السّمر: ضرب من شجر الطلح. (5) صلتا: مجردا من غمده. (6) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة بني المصطلق ومسلم ك/ الفضائل ب/ توكله على الله وعصمة الله تعالى له من الناس وابن حبان في صحيحه 10/ 400 والبيهقي في سننه الكبرى 6/ 319 والنسائي في السنن الكبرى 5/ 236 وعبد بن حميد في مسنده 1/ 327 من المنتخب. (7) رواه سعيد بن منصور وأبو يعلى والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 (ج) قصة الشاة المسمومة: لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبير، أهدت له امرأة يهودية شاة وجعلت فيها سما؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجمعوا لي من كان هاهنا من يهود فجمعوا له، فقال: إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقيّ عنه فقالوا: نعم، قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أبوكم؟ قالوا: فلان فقال: كذبتم، بل أبوكم فلان! قالوا: صدقت. قال: فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألت عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: من أهل النار قالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه سمّا، قالوا: نعم، قال: ما حملكم على ذلك؟، قالوا: إن كنت كاذبا نستريح وإن كنت نبيا لم يضرك «1» . وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أكل من الشاة، وأكل منها بشر بن البراء بن معرور، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة (يعني الشاة) ، ومات بشر بن البراء «2» . حادثة الإسراء والمعراج: قال الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) [الإسراء: 1] .   (1) أخرجه البخاري ك/ الجزية والموادعة ب/ إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ ومسلم ك/ الطب ب/ السم والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 46 قال الحافظ ابن حجر: - وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيب وتكليم الجماد له انظر فتح الباري 10/ 46. (2) أخرجه أبو داود في الديات ب/ فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيقاد منه؟ وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/ 855: حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أسرى «1» الله بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء، ثم عاد فأصبح في مكة المكرمة، ولم يكن من الممكن لأحد في ذلك الزمان قطع هذه المسافة من مكة إلى بيت المقدس إلا في نحو شهر من الزمان ذهابا، وشهر إيابا، وقد اختبرت قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الحادثة: فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لّما كذّبتني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» «2» . وفي رواية عبد الله بن عباس: أنهم بعد أن نعت ووصف المسجد الأقصى لهم قالوا: أمّا النّعت فو الله لقد أصاب «3» . تأييد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق مهاجرين إلى المدينة النبوية، واختفيا في غار ثور ثلاثة أيام، وصعد المشركون إلى الغار بحثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، فحمى الله نبيه وأبا بكر منهما، قال أبو بكر: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما   (1) أسرى به: سار به ليلا ونقله، والسرى: السير بالليل. (2) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ حديث الإسراء ومسلم ك/ الإيمان ب/ ذكر المسيح بن مريم والترمذي في السنن ك/ التفسير ب/ ومن سورة بني اسرائيل وأحمد في المسند 3/ 377 وابن حبان في صحيحه 1/ 252 وغيرهم. (3) أخرجه أحمد في المسند 1/ 309 وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 312 والحارث ابن أبي أسامة في مسنده كما في زوائده للهيثمي، والطبراني في الكبير 12/ 167 والأوسط 3/ 52 والمقدسي في المختارة 10/ 39- 42، والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 84 وقال الهيثمي في المجمع 1/ 65: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما في تحقيق المسند 5/ 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ظنك باثنين الله ثالثهما» «1» ، وأشار القرآن إلى ذلك فقال تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ «2» عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) [التوبة: 40] .   (1) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل أبي بكر الصديق والترمذي ك/ التفسير ب/ ومن سورة التوبة وابن حبان في صحيحه 14/ 181 وأحمد في المسند 1/ 4 وغيرهم. (2) قال ابن كثير: هي النصر والتأييد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وفي طريقهما إلى المدينة لحقهما سراقة بن مالك على فرس له حتى كاد أن يصل إليهما، وسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يلتفت إليه، وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فعثرت به فرسه، وخرّ عنها، ثم قام وركب عليها، فساخت «1» يدا الفرس في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخرّ عنها، ثم زجرها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان «2» ساطع في السماء مثل الدخان، فعندئذ ناداهما بالأمان فوقفا له، قال سراقة: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله، وعرضت عليهما الزاد والمتاع، فلم يرزآني «3» ، ولم يسألاني إلا أن قال: اخف عنا، فرجع سراقة يردّ من يريد اللحاق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، ويقول: قد كفيتم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا ردّه» .   (1) ساخت: غاصت. (2) العثان: الدخان من غير نار، قيل: شبّه الغبار بالدخان، انظر فتح الباري. (3) أي لم ينقصا عليّ شيئا وذلك لأنهما لم يأخذا منه شيئا. (4) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة ومسلم ك/ الزهد والرقائق ب/ في حديث الهجرة، وأحمد في المسند 4/ 175 وابن حبان 14/ 186 بنحوه، والحاكم في المستدرك 3/ 7 وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 [ب] من دلائل النبوة الخارقة للعادة في العهد المدني: معجزات في غزوة بدر: بعد أن أخرج الكفار المسلمين من ديارهم وأموالهم، كانت وقعة بدر أول لقاء مسلح كبير بين الكفر والإيمان، حيث خرج كفار قريش في بطر ورياء وغطرسة لحماية قافلتهم التجارية من هجوم المسلمين. استعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقتال حراس القافلة ذوى العدد المحدود، وكان المشركون قد استعدوا للحرب، فبلغ عددهم ما يقرب من الألف ومعهم سبعون فارسا، والجيش الإسلامي لا يتعدى ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا تقريبا، ومعهم فارسان فقط. ولما كان الجيشان غير متكافئين، واللقاء حتمي بينهما، أيد الله جيش الإسلام والنبوة بآيات خارقة للسنن المعروفة، ومن ذلك: (أ) إنزال المطر عليهم: حيث أنزل الله سبحانه من السماء ماء كان رحمة على المؤمنين. قال تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال: 11] ، فذكر سبحانه أنّه أنزل المطر على المؤمنين لأربعة أسباب: للتطهير من الحدث، ولإذهاب وسوسة الشيطان، ولتثبيت القلوب، ولتلبيد الأرض الرملية في بدر لتثبت عليها أقدام المؤمنين في سيرهم. قال مجاهد: أنزل الله المطر فأطفأ الغبار وتلبدت الأرض وطابت نفوسهم وثبتت أقدامهم «1» ، وقال عروة بن الزبير: بعث الله السماء وكان الوادي دهسا «2» ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه   (1) التفسير الصحيح 2/ 387. (2) دهسا: أي تربته سهلة لينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 مالبّد «1» لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا أن يرحلوا معه «2» . وكان نزول المطر سببا في إذهاب وسوسة الشيطان الذي أراد به تثبيط المؤمنين عن القتال بعد احتلامهم بالليل حيث كانوا يصلون مجنبين، فحين نزول المطر وجد الماء الذي اغتسلوا به من الجنابة، وأذهب الله بذلك رجز الشيطان «3» . ولقد أثبت العلم الحديث أن عضلات القلب عبارة عن ألياف عضلية في شكل خيوط طولية وعرضية تلف القلب، فإذا أفرزت مادة (الأدرينالين) عملت على ارتخاء عضلات القلب وبالتالي ترتخي تلك الألياف والحبال العضلية، كما تعمل على ارتعاش الأطراف، وقد وجد أن من أسرع الوسائل لتخفيض مادة (الأدرينالين) هو أن يرش الجسم بالماء فيربط على القلب بتلك الحبال العضلية بانقباض العضلات، ويزول الارتخاء، كما تثبت الأقدام من ارتعاشها، وصدق الله القائل: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال: 11] . [ب] تقليل عدد كل فريق في نظر الفريق الآخر ومن آيات الله في هذه المعركة أن جعل كل فريق يرى عدد الفريق الآخر قليلا، وذلك لحكمة أرادها الله تعالى وهي أن تتم هذه المعركة وينتصر الحق على الباطل. قال تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) [الأنفال: 44] .   (1) مالبّد الأرض: أي جعلها متماسكة. (2) أخرجه ابن اسحاق كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره. (3) أخرجه بمعناه الطبري بسند حسن عن ابن عباس، انظر التفسير الصحيح 2/ 388، وذكره السيوطي في الدر المنثور عند الآية المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين المسلمين «1» . (ج) إنزال الملائكة للقتال مع المؤمنين: فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى المشركين يوم بدر وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فدعا الله سبحانه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، أن ينصره على المشركين قائلا: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا، وأتاه أبو بكر وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربّك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) [الأنفال: 9] «2» . فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يثب في الدرع ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: 45] «3» . بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحدد مواضع قتل المشركين، فيقول: هذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا وويضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا وويضع يده على الأرض، فكان الأمر   (1) انظر فتح القدير للشوكاني عند قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 45] . (2) أخرجه مسلم ك/ الجهاد والسير ب/ الإمداد بالملائكة، والترمذي ك/ التفسير ب/ ومن سورة الأنفال وابن حبان في صحيحه 11/ 114، وأحمد في المسند 1/ 30 وأبو عوانة في مسنده 4/ 255 وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 357 وغيرهم، وأخرج البخاري منه جملة الدعاء ك/ التفسير ب/ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ. (3) أخرجه البخاري ك/ التفسير ب/ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وأحمد في المسند 1/ 329 والنسائي في السنن الكبرى 6/ 477 والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 46 وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 كما قال صلى الله عليه وسلم «1» . وأمد الله المسلمين في تلك الغزوة بألف من الملائكة الكرام وأمرهم بالقتال مع المؤمنين وأوحى إليهم أن يثبتوا المؤمنين، ووعد سبحانه أنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين. قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) [الأنفال: 12] قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب «2» . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط من فوقه، وصوت الفارس فوقه يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه «3» ، وشقّ وجهه، كضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة «4» . وقال أبو داود المازني: إنّي لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنّه قد قتله غيري «5» .   (1) أخرجه مسلم ك/ الجهاد والسير ب/ غزوة بدر وفي ك/ صفة القيامة والجنة والنار ب/ عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وأبو داود ك/ الجهاد ب/ في الأسير ينال منه الضرب والنسائي ك/ الجنائر ب/ أرواح المؤمنين وأحمد في المسند 1/ 26 وابن حبان في صحيحه 11/ 25 وغيرهم. (2) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ شهود الملائكة بدرا والطبراني في المعجم الكبير 11/ 342. (3) خطم أنفه: أصيب أنفه وضرب. (4) أخرجه مسلم ك/ الجهاد ب/ الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وابن حبان في صحيحه 11/ 115 والبزار في مسنده 1/ 306 وعبد بن حميد في مسنده 1/ 41 من المنتخب والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 119. (5) أخرجه أحمد في المسند 5/ 450، وابن هشام في السيرة وسنده حسن، وأخرجه ابن جرير في تفسيره عنده قوله تعالى: أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آل عمران: 124] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 خطط غزوة بدر الكبرى في 17 رمضان السنة الثانية للهجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 إحدى العدوات في بدر وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني! لقد أسرني رجل أجلح «1» من أحسن الناس وجها، على فرس أبلق «2» ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم «3» . وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن   (1) الأجلح: من انحسر شعره عن جانبي رأسه. (2) الأبلق: ما فيه سواد وبياض. (3) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 117 و 4/ 283 وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 357 والطبري في تفسيره 4/ 78 وفي تاريخه 2/ 40 قال في مجمع الزوائد 6/ 76: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة، واسناده صحيح كما في تحقيق المسند 2/ 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 قتلوهم، بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به «1» . وانتهت المعركة بهزيمة المشركين فقتل منهم سبعون، وأسر كذلك سبعون في وقت وجيز، ولله الحمد والمنة. وقال جبريل عليه السّلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما تعدون أهل بدر فيكم؟، قال: من أفضل المسلمين- أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة «2» . [د] إلقاء النعاس على المؤمنين: كان الصحابة على وجل من قلتهم وكثرة عدوهم، فألقى الله عليهم النعاس أمنة منه. قال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال: 11] وكذلك حصل في معركة أحد، فقد قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد، ولقد سقط السيف من يدي مرارا، يسقط وآخذه «3» . قال ابن كثير رحمه الله: وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم، كما قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح: 5- 6] . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة من الشيطان «4» . قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   (1) أخرجه البيهقي ويونس بن بكير في زيادات المغازي كما قال الحافظ في الفتح 7/ 312. (2) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ شهود الملائكة بدرا. (3) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً [آل عمران: 154] ، والنسائي في السنن الكبرى 6/ 349 وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 370. (4) أخرجه الطبري في تفسيره 4/ 141 وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 1/ 419، وسنده صحيح، انظر التفسير الصحيح 2/ 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام «1» .   (1) مسلم ك/ الفضائل ب/ في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، والبخاري مختصرا ك/ المغازي ب/ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمران: 122] وأحمد في مسنده 1/ 171، والشاشي في مسنده 1/ 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالريح والملائكة في غزوة الأحزاب: تجمع الأحزاب من الكفار لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عددهم نحوا من عشرة آلاف، وتمالئوا مع اليهود القاطنين في شرق المدينة على حرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، واشتد الحال على المسلمين الذين حفروا خندقا بينهم وبين الكفار، واستمر الكفار قريبا من شهر وهم يحاصرون المدينة. فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه أن ينصره على المتمالئين على الإسلام فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم «1» . فاستجاب الله دعاء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأرسل على الأحزاب ريحا شديدة اقضّت مضاجعهم، وجنودا زلزلتهم مع ما ألقى الله بينهم من التخاذل فأجمعوا أمرهم على الرحيل وترك المدينة النبوية. قال حذيفة رضي الله عنه: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقرّ «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة، فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية ثم الثالثة [يعني من شدة الخوف والبرد والجوع] . ثم قال: يا حذيفة، قم فأتنا بخبر القوم، ولا تذعرهم عليّ «3» . قال حذيفة: فلم أجد بدّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فمضيت وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرّا، فدعا له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فذهب عنه   (1) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة الخندق ومسلم ك/ الجهاد والسير ب/ استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو والترمذي ك/ الجهاد ب/ ما جاء في الدعاء عند القتال، وغيرهم. (2) القر: البرد. (3) يعني: ولا تهيجهم عليّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الخوف والبرد، قال حذيفة: فكأني أمشي في حمام «1» ، حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي «2» ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد قوسي، وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تذعرهم عليّ، ولو رميته لأصبته، وهو يقول: الرحيل الرحيل، ثم إني شجعت نفسي فدخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر، يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فو الله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها، ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما انتصف بي الطريق أو نحو من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأنما أمشي في حمام، فأصابني البرد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر القوم وأني تركتهم يرحلون، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، وكان إذا حزبه «3» أمر صلّى، فلم أبرح نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان «4» . وأنزل الله تعالى في كتابه ذكر هذه الحادثة، وذكر حال المؤمنين والمنافقين وأهل الكتاب فيها، وكيف تم النصر، فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما   (1) الحمام: المكان الذي يغتسل فيه بالماء الحميم، أي: الحار. (2) يصلي: يدفئ. (3) حزبه أمر: أي نابه واشتدّ عليه. (4) القصة صحيحة مركبة من رواية مسلم ك/ الجهاد والسير ب/ غزوة الأحزاب والحاكم 3/ 33 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو عوانة في مسنده 4/ 319- 321 والقصة رواها أيضا ابن حبان في صحيحه 16/ 67 وأبو نعيم في حلية الأولياء 1/ 354 وانظر فقه السيرة للغزالي بتخريج الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) [الأحزاب: 9- 13] . وقال سبحانه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) . [الأحزاب: 22- 27] . والريح التي أرسلها الله على الأحزاب، قال مجاهد: هي ريح الصّبا، والجنود هم الملائكة «1» ، وفي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم" نصرت بالصّبا «2» ، وأهلكت عاد بالدّبور «3» "» .   (1) تفسير ابن جرير الطبري. (2) الصّبا: ريح مهبها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار. (3) الدّبور: ريح تهب من المغرب تقابل القبول وهي ريح الصبا. (4) رواه البخاري ك/ الاستسقاء ب/ قول النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت بالصبا ومسلم ك/ صلاة الاستسقاء ب/ في ريح الصبا والدبور وابن حبان في صحيحه 14/ 331، وأحمد في المسند 1/ 223 وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أي صرف الله عنهم عدوهم بالريح التي أرسلها عليهم، والجنود من الملائكة وغيرهم التي بعثها الله عليهم: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: 25] أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم، بل صرفهم القوي العزيز بحوله وقوته. وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعزّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» «1» . قال سليمان بن صرد رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم» «2» . وقد تحقق ذلك فلم تغز المدينة بعد ذلك، بل غزا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفار قريش وفتح مكة فيكون هذا الخبر أيضا من دلائل النبوة لأنه إخبار بغيب المستقبل.   (1) البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة الخندق ومسلم ك/ الذكر والدعاء ب/ التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل. (2) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة الخندق وأحمد في مسنده 4/ 262 دون قوله نحن نسير إليهم وكذلك الطيالسي في مسنده 1/ 182 والطبراني في المعجم الكبير 7/ 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 خوارق ازدياد الطعام والماء بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيئة قليلة الغذاء والماء، وكان هو وأصحابه يتعرضون لحالات من الشدة يقل فيها الطعام والماء أو يكاد ينعدم، فكان مما أيده الله به من المعجزات تكثير القليل من الطعام والماء على يديه، فيتغلب هو وأصحابه بقدرة الله تعالى بهذه المعجزات والخوارق على ظروف البيئة الصحراوية القاسية، التي يحتاجون فيها للطعام والشراب، إلى جانب حاجتهم للماء من أجل الطهارة للعبادة، وأصبح ذلك من معجزاته التي رآها العشرات والمئات بل والآلاف من أصحابه، وتناقلها الناس في عهده ثم نقلت إلينا بأصح طرق الرواية، وإليك طرفا من هذه المعجزات. خوارق ازدياد الطعام: فمن معجزاته- صلى الله عليه وآله وسلم- الخارقة للعادة، أن يكثر الله الطعام القليل الذي لا يكفي إلا الأفراد، فإذا به بعد نزول البركة فيه بفضل دعائه صلى الله عليه وآله وسلم- يكفي العشرات أو المئات أو الآلاف وقد وقع ذلك في مواقف متعددة، منها ما حدث عند حفر الخندق. [1] قصة وليمة جابر رضي الله عنه: قال جابر رضي الله عنه: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية «1» شديدة فجاؤا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعول «2» فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل أو   (1) كدية: أرض صلبة. (2) المعول: آلة من حديد ينقر بها الصخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أهيم «1» فقلت يا رسول الله ائذن لي إلى البيت فقلت لامرأتي هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصا «2» شديدا فأخرجت إلي جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن «3» فذبحتها وطحنت الشعير ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبمن معه فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعا من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سورا «4» فحيّ هلا بكم، فقام المهاجرون والأنصار وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقلت: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم!! فقالت: بك وبك فقلت: قد فعلت الذي قلت، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال ادع خابزة فلتخبز معي واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط «5» كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو، قال: كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة «6» .   (1) أهيم: غير متماسك رملا. (2) خمصا: جوعا، يقال: رجل خمصان إذا كان ضامر البطن. (3) الداجن من الحيوان والطير: ما ألف البيوت وأقام بها. (4) سورا: طعاما للضيافة. (5) لتغط: تغلي فيسمع غليانها. (6) لفظ القصة من مجموع روايتين للإمام البخاري في صحيحه ك/ المغازي ب/ غزوة الخندق وروى القصة أيضا الإمام مسلم في صحيحه ك/ الأشربة ب/ جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، وأحمد في مسنده 3/ 377 والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 274 والدارمي في سننه 1/ 33 وأبو عوانة في مسنده 5/ 177 وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 314 والفريابي في دلائل النبوة ص 53 والأصبهاني في دلائل النبوة أيضا 1/ 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 [2] تكثير الطعام في غزوة تبوك: ومن خوارق تكثير الطعام القليل ليكفي الآلاف من أتباعه صلى الله عليه وسلم ما حدث في غزوة تبوك، حيث أصاب المسلمين فيها مجاعة، فقال الصحابة: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا «1» فأكلنا وادّهنّا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا. قال فجاء عمر فقال: يا رسول الله، إن فعلت قلّ الظّهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثمّ ادع الله لهم عليها بالبركة لعلّ الله أن يجعل في ذلك «2» فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، قال: فدعا بنطع فبسطه ثمّ دعا بفضل أزوادهم قال فجعل الرّجل يجيء بكفّ ذرة قال: ويجيء الآخر بكفّ تمر قال ويجيء الآخر بكسرة حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه بالبركة ثمّ قال خذوا في أوعيتكم قال فأخذوا في أوعيتهم حتّى ما تركوا في العسكر وعاء إلّا ملئوه قال فأكلوا حتّى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنّة «3» . وقد روى سلمة بن الأكوع مثل هذه القصة فعن إياس بن سلمة عن أبيه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتّى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا «4» فأمر نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم على النّطع قال فتطاولت لأحزره كم   (1) نواضحنا: الناضح هو الدابة التي يستقي عليها والمقصود هنا الإبل. (2) قال النووي: فيه محذوف تقديره يجعل في ذلك بركة أو خيرا أو نحو ذلك، شرح صحيح مسلم 1/ 172. (3) أخرجه مسلم ك/ الإيمان ب/ الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، وابن حبان في صحيحه 14/ 465 وأحمد في المسند 3/ 11 وأبو يعلى في مسنده 2/ 412 وابن منده في الإيمان 1/ 178 والفريابي في دلائل النبوة ص 33. (4) ظهرنا: أي بعض إبلنا التي نركب على ظهورها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 هو؟ فحزرته كربضة العنز «1» ونحن أربع عشرة مائة قال: فأكلنا حتّى شبعنا جميعا ثمّ حشونا جربنا «2» . [3] قصة تكثير تمر جابر رضي الله عنه: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا «3» لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبي أن ينظره فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليشفع له إليه فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبي اليهودي- وكان ثمر جابر لا يكفي لقضاء الدين فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها، ثم قال لجابر جدّ له «4» فأوف له، الذي له فجدّه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضلت له سبعة عشر وسقا، فجاء جابر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف بشره، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أشهد أني رسول الله، وقال: أخبر بذلك ابن الخطاب، فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليباركنّ فيها «5» . قال الحافظ ابن كثير: وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة عن جابر   (1) أي كمبركها أو كقدرها وهي رابضة. (2) أخرجه مسلم ك/ اللقطة ب/ استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فيها. (3) وسقا: الوسق مقدار معلوم من الكيل يساوي ستين صاعا، والصاع يساوي أربعة أمداد، والمد ملء اليدين من الرجل المعتدل الكف. (4) اقطع له، والجدّ هنا بمعنى القطع. (5) أخرجه البخاري ك/ الاستقراض وأداء الديون ب/ إذا قاص أو جازفه في الدين تمرا بتمر، وابن ماجه ك/ الصدقات ب/ أداء الدين عن الميت، وأبو عوانه في مسنده 3/ 406 والطبراني في المعجم الأوسط 9/ 68 والفريابي في دلائل النبوة ص 83 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 35، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أشهد أني رسول الله. أخرجه البخاري ك/ الأطعمة ب/ الرطب والتمر. وانظر فتح الباري لمعرفة بعض ألفاظ الروايات المتعددة 6/ 594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بألفاظ كثيرة، وحاصلها أنه ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعائه له، ومشيه في حائطه وجلوسه على تمره، وفّى الله دين أبيه، وكان قد قتل بأحد، وجابر كان لا يرجو وفاءه في ذلك العام ولا ما بعده، ومع هذا فضل له من التمر أكثر وفوق ما كان يؤمله ويرجوه ولله الحمد والمنة «1» . [4] إطعامه صلى الله عليه وآله وسلم مائة وثلاثين رجلا من شاة: عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطعم مائة وثلاثين رجلا من شاة وصاع طعام، وأعطى كل واحد منهم قطعة من سواد بطنها (الكبد) فشبعوا جميعا، وحملوا ما بقي من الطعام معهم «2» . قال النووي- رحمه الله-: في هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما تكثير سواد البطن حتى وسع هذا العدد، والآخرى تكثير الصاع ولحم الشاة حتى أشبعهم أجمعين، وفضلت منه فضلة حملوها لعدم حاجة أحد إليها «3» . [5] البركة في حيسة أم سليم: «4» أطعم الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- عند زواجه بزينب زهاء «5» ثلاث مائة رجل من حيسة صنعتها له أم سليم، وعند ما رفع أنس الحيسة بعد أن   (1) البداية والنهاية 6/ 121. (2) البخاري ك/ الهبة ب/ قبول الهدية من المشركين ومسلم ك/ الأشربة ب/ إكرام الضيف وفضل إيثاره وأبو عوانة في مسنده 5/ 204- 205، وأحمد في مسنده 1/ 197، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 215. (3) شرح صحيح مسلم 14/ 16. (4) الحيس: تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن. (5) زهاء: قدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أكلوا جميعا، قال: فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت؟! «1» . [6] إطعامه سبعين أو ثمانين رجلا من أقراص أم سليم رضي الله عنهما: فتت أم سليم رضي الله عنهما أقراصا قليلة من شعير وأدمته بسمن، فدعا رسول الله بالبركة، وأكل من هذه الأقراص سبعون أو ثمانون رجلا حتى شبعوا «2» . [7] تكثير شطر وسق «3» شعير ببركته صلى الله عليه وآله وسلم: عن جابر أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يستطعمه فأطعمه   (1) أخرجه البخاري ك/ النكاح ب/ الهدية للعروس ومسلم ك/ النكاح ب/ زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب واللفظ له والترمذي ك/ التفسير ب/ ومن سورة الأحزاب والنسائي ك/ النكاح ب/ الهدية لمن عرس وأحمد في مسنده 3/ 163 وأبو يعلى في مسنده باختصار 7/ 315 والطبراني في المعجم الكبير 24/ 46. (2) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ علامات النبوة في الإسلام، ومسلم ك/ الأشربة ب/ جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، والترمذي في سننه ك/ المناقب ب/ في آيات إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما خصه به، وابن حبان في صحيحه 14/ 469، وأبو عوانه في مسنده 5/ 178 ومالك في الموطأ 2/ 927 وعبد بن حميد في مسنده 1/ 371 من المنتخب، وغيرهم. وإليك القصة كاملة: قال أنس بن مالك قال أبو طلحة لأمّ سليم لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء قالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثمّ أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه ثمّ دسّته تحت يدي ولاثتني ببعضه ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ومعه النّاس فقمت عليهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آرسلك أبو طلحة فقلت نعم قال بطعام فقلت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن معه قوموا فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنّاس وليس عندنا ما نطعمهم فقالت الله ورسوله أعلم فانطلق أبو طلحة حتّى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هلمّي يا أمّ سليم ما عندك فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففتّ وعصرت أمّ سليم عكّة فأدمته ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ما شاء الله أن يقول ثمّ قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا ثمّ قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا ثمّ قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا ثمّ قال ائذن لعشرة فأكل القوم كلّهم وشبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا. (3) الوسق: مكيلة معلومة تساوي ستين صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمدّ ملء كفي الرجل المعتدل الكف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 شطر وسق شعير فما زال الرّجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتّى كاله فأتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم «1» . [8] ظهور بركته في شطر شعير لزوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلّا شطر شعير في رفّ لي فأكلت منه حتّى طال عليّ فكلته ففني «2» . [9] قصة تمرات أبي هريرة رضي الله عنه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتمرات فقلت: يا رسول الله، ادع الله فيهنّ بالبركة، فضمّهنّ ثمّ دعا لي فيهنّ بالبركة، فقال: خذهنّ واجعلهنّ في مزودك هذا أو في هذا المزود «3» كلّما أردت أن تأخذ منه شيئا فأدخل فيه يدك فخذه ولا تنثره نثرا، فقد حملت من ذلك التّمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله فكنّا نأكل منه ونطعم، وكان لا يفارق حقوي حتّى كان يوم قتل عثمان فإنّه انقطع «4» . [10] قصعة الثريد التي كانت تمد: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال بينا نحن عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أتي بقصعة فيها   (1) أخرجه مسلم ك/ الفضائل ب/ في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وأحمد 3/ 347. (2) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ فضل الفقر، ومسلم ك/ الزهد والرقائق، وابن ماجه ك/ الأطعمة ب/ خبز الشعير وأحمد في مسنده 6/ 108، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 47 وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 132. (3) المزود: وعاء الزاد. (4) أخرجه الترمذي في المناقب/ مناقب أبي هريرة، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 235: حسن الإسناد قال الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول 11/ 364: وهو حديث حسن وأخرجه أحمد 2/ 352، والبيهقي في الدلائل 6/ 109، وأبو نعيم مجموعا من روايتين 2/ 588- 589، وابن حبان في صحيحه 14/ 467، وإسحاق بن راهواه في مسنده 1/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ثريد» قال: فأكل وأكل القوم فلم يزل يتداولونها إلى قريب من الظّهر يأكل كلّ قوم ثمّ يقومون ويجيء قوم فيتعاقبوه قال: فقال له رجل: هل كانت تمدّ بطعام قال أمّا من الأرض فلا إلّا أن تكون كانت تمدّ من السّماء «2» . [11] إطعام عمر رضي الله عنه أربعمائة من مزينة من تمر قليل: عن النّعمان بن مقرّن قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع مائة من مزينة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمره فقال بعض القوم يا رسول الله ما لنا طعام نتزوّده فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعمر زوّدهم فقال ما عندي إلّا فاضلة من تمر «3» وما أراها تغني عنهم شيئا فقال انطلق فزوّدهم فانطلق بنا إلى علّيّة «4» له فإذا فيها تمر مثل البكر الأورق «5» فقال: خذوا فأخذ القوم حاجتهم قال وكنت أنا في آخر القوم، قال: فالتفتّ وما أفقد موضع تمرة وقد احتمل منه أربع مائة رجل «6» .   (1) الثريد: الخبز يفت ثم يبل بالمرق وربما كان معه لحم. (2) أحمد في المسند 5/ 12، والترمذي في المناقب ب/ ما جاء في آيات نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: حديث حسن صحيح، قال الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول 11/ 363: وهو كما قال، والنسائي في السنن الكبرى 4/ 170، والحاكم في المستدرك 2/ 675 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والبيهقي في الدلائل بإسنادين قال في أحدهما هذا إسناد صحيح 6/ 93 وأبو نعيم في الدلائل 2/ 551، والدارمي 1/ 43 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 192 والطبراني في المعجم الكبير 7/ 232، وابن حبان كما في موارد الظمان ص 527. (3) الفضل من الشيء: ما بقي منه. (4) علّيّة: غرفة في الطبقة الثانية من الدار، أو الثالثة أو ما فوقها. (5) البكر الأورق: الجمل الذي في لونه بياض إلى سواد. (6) أحمد 5/ 445، وأبو نعيم في الدلائل 2/ 548- 549 وابن حبان في صحيحه 14/ 462 وقال الهيثمي في المجمع 8/ 304: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح. وروى أبو داود طرفا منه ولفظه: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه الطعام، فقال: يا عمر اذهب فأعطهم، فارتقى بنا إلى علية فأخذ المفتاح من حجزته ففتح، انظر صحيح سنن أبي داود للألباني 3/ 983 وقال أبو عبد الله المقدسي: وإسناده على شرط الصحيح انظر الجواب الصحيح 6/ 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 [12] در لبن شاة بيده وهي لا تحلب: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: «يا غلام هل من لبن» قال: قلت نعم ولكنّي مؤتمن قال: «فهل من شاة لم ينز عليها الفحل» «1» فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر ثمّ قال للضّرع: «اقلص فقلص» «2» . وروى قيس بن النعمان مثل هذه القصة، وفيها أن الراعي عبد «3» . [13] تكثير اللبن (قصة أبي هريرة رضي الله عنه) : أصاب أبا هريرة رضي الله عنه جوع شديد، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى بيته حيث وجد قدحا من لبن فأمر أبا هريرة فدعا أهل الصّفة «4» فأخذوا مجالسهم من البيت، ثم أمره فسقاهم جميعا حتى رووا من ذلك القدح، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم فشرب، فمازال يقول له: اشرب، حتى قال أبو هريرة لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، فأخذ رسول الله منه القدح وسمى وشرب الفضلة «5» .   (1) يعني لم تحمل فالشاة لا يدر لبنها إلا بعد أن تحمل وتلد. (2) أخرجه أحمد في المسند 1/ 397، 462، وابن حبان في صحيحه 14/ 433 أبو داود الطيالسي 1/ 47 وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 327 وأبو يعلي في مسنده 8/ 403 والطبراني في المعجم الكبير 9/ 78 وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند 6/ 190. (3) الحاكم في المستدرك 3/ 9 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (4) أهل الصّفة: طائفة من الصحابة فقراء كانوا يتخذون من المسجد سكنا لهم. (5) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا والترمذي في السنن ك/ صفة القيامة والرقائق والورع وابن حبان في صحيحه 14/ 472 وأحمد في المسند 2/ 515 والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 446 وهناد في الزهد 2/ 394 وإليك القصة كاملة: قال مجاهد إنّ أبا هريرة كان يقول الله الّذي لا إله إلّا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون منه فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلّا ليشبعني فمرّ ولم يفعل ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلّا ليشبعني فمرّ فلم يفعل ثمّ مرّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسّم حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قال الحافظ ابن حجر: وفيه معجزة عظيمة، وقد تقدم لها نظائر في علامات النبوة من تكثير الطعام والشراب ببركته صلى الله عليه وسلم «1» . [14] تكثير اللبن (قصة المقداد وصاحبيه) : وقريب من قصة أبي هريرة قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع المقداد إلا أن البركة في قصة المقداد نزلت على ضروع الغنم فامتلأت باللبن الكثير في غير وقت حلبها «2» .   رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثمّ قال يا أبا هرّ قلت لبّيك يا رسول الله قال الحق ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال من أين هذا اللّبن قالوا أهداه لك فلان أو فلانة قال أبا هرّ قلت لبّيك يا رسول الله قال الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي قال وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللّبن شربة أتقوّى بها فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بدّ فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت قال يا أبا هرّ قلت لبّيك يا رسول الله قال خذ فأعطهم قال فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى ثمّ يردّ عليّ القدح فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى ثمّ يردّ عليّ القدح فيشرب حتّى يروى ثمّ يردّ عليّ القدح حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلّهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال أبا هرّ قلت لبّيك يا رسول الله قال بقيت أنا وأنت قلت صدقت يا رسول الله قال اقعد فاشرب فقعدت فشربت فقال اشرب فشربت فما زال يقول اشرب حتّى قلت لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكا قال فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة. (1) فتح الباري 11/ 288. (2) أخرجه مسلم ك/ الأشربة ب/ إكرام الضيف وفضل إيثاره، وأحمد في المسند 6/ 2، والترمذي مختصرا ك/ الاستئذان ب/ كيف السلام وكذلك البيهقي في السنن الكبرى 6/ 88 وكذا النسائي في عمل اليوم والليلة ص 283 وأخرجه البزار في مسنده 6/ 42 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 134 وإليك القصة كاملة: عن المقداد قال أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس أحد منهم يقبلنا فأتينا النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم احتلبوا هذا اللّبن بيننا قال فكنّا نحتلب فيشرب كلّ إنسان منّا نصيبه ونرفع للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نصيبه قال فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليما لا يوقظ نائما ويسمع اليقظان قال ثمّ يأتي المسجد فيصلّي ثمّ يأتي شرابه فيشرب فأتاني الشّيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي فقال محمّد يأتي الأنصار فيتحفونه ويصيب عندهم ما به حاجة إلى هذه الجرعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 [15] تكثير السمن لأم مالك: عن جابر أنّ أمّ مالك كانت تهدي للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في عكّة «1» لها سمنا فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندهم شيء فتعمد إلى الّذي كانت تهدي فيه للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتجد فيه سمنا فما زال يقيم لها أدم بيتها حتّى عصرته فأتت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال عصرتيها قالت نعم قال لو تركتيها ما زال قائما «2» .   فأتيتها فشربتها فلمّا أن وغلت في بطني وعلمت أنّه ليس إليها سبيل قال ندّمني الشّيطان فقال ويحك ما صنعت أشربت شراب محمّد فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك!! وعليّ شملة إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي وجعل لا يجيئني النّوم وأمّا صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت قال فجاء النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فسلّم كما كان يسلّم ثمّ أتى المسجد فصلّى ثمّ أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا فرفع رأسه إلى السّماء فقلت الآن يدعو عليّ فأهلك فقال اللهمّ أطعم من أطعمني واسق من أسقاني قال فعمدت إلى الشّملة فشددتها عليّ وأخذت الشّفرة فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا هي حافلة وإذا هنّ حفّل كلّهنّ فعمدت إلى إناء لآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه قال فحلبت فيه حتّى علته رغوة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أشربتم شرابكم اللّيلة قال قلت يا رسول الله اشرب فشرب ثمّ ناولني فقلت يا رسول الله اشرب فشرب ثمّ ناولني فلمّا عرفت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد روي وأصبت دعوته ضحكت حتّى ألقيت إلى الأرض قال فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إحدى سوآتك يا مقداد فقلت يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما هذه إلّا رحمة من الله أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها قال فقلت والّذي بعثك بالحقّ ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من النّاس. (1) العكة: إناء صغير للسمن. (2) أخرجه مسلم ك/ الفضائل ب/ في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحمد في مسنده 3/ 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء القليل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في بيئة صحراوية جافة، وكان هو وأصحابه يخرجون كثيرا للغزوات دفاعا عن الدين، وكانوا يتعرضون لقلة الماء أو فقده فيعطشون ويحتاجون الماء أيضا للطهارة للعبادة، فكان الله سبحانه يري الصحابة خوارق تكثير الماء القليل على يد النبي صلى الله عليه وسلم، ونسوق إليك طرفا من هذه الحوادث التي سجلتها كتب السّنّة من أوثق مصادرها. [1] فوران الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية: عن جابر رضي الله عنه قال: عطش النّاس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة «1» فتوضّأ منها، ثمّ أقبل النّاس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لكم قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضّأ به ولا نشرب إلّا ما في ركوتك قال: فوضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده في الرّكوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون قال فشربنا وتوضّأنا فقلت لجابر كم كنتم يومئذ قال لو كنّا مائة ألف لكفانا كنّا خمس عشرة مائة «2» وقد روى سلمة بن الأكوع مثل هذه القصة «3» .   (1) ركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. (2) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة الحديبية ومسلم مختصرا ك/ الإمارة ب/ استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال وابن خزيمة في صحيحه 1/ 65 وابن حبان في صحيحه أيضا 14/ 480 وأبو عوانة في مسنده 4/ 428 والدارمي في سننه 1/ 27 وابن أبي شيبة في المصنف 7/ 387 وأحمد في المسند 3/ 329 والطيالسي في مسنده 1/ 239 والفريابي في دلائل النبوة ص 70 والأصبهاني في دلائل النبوة أيضا 1/ 48 وغيرهم. (3) أخرجه مسلم ك/ المغازي ب/ استحباب خلط الأزواد إذا قلت، والبيهقي في دلائل النبوة 4/ 118، 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 [2] تكثير ماء بئر الحديبية: وعن البراء رضي الله عنه قال كنّا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها حتّى لم نترك فيها قطرة فجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم على شفير البئر فدعا بماء فمضمض ومجّ في البئر، فمكثنا غير بعيد ثمّ استقينا حتّى روينا وروت أو صدرت ركائبنا «1» . وروى هذه الحادثة أيضا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه «2» . [3] معجزة دغفقة الماء من الإناء: مر بناء في معجزة تكثير الطعام حديث سلمة كيف بارك الله في طعام قليل كربضة العنز فكفى ألفا وأربع مئة من الصحابة رضي الله عنهم وفي تمامه قال سلمة: فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " فهل من وضوء؟ " قال فجاء رجل بإداوة له فيها نطفة فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة «3» (أي نصبه صبا شديدا) . ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء القليل: [4] وضوء سبعين أو ثمانين رجلا من الماء النابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وهي في الإناء: عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء فأتي بقدح رحراح «4» فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه، قال أنس فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، قال أنس فحزرت من توضّأ ما بين السّبعين إلى الثّمانين «5» .   (1) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ علامات النبوة في الإسلام، والبيهقي في دلائل النبوة 4/ 110- 111. (2) أخرجه مسلم ك/ الجهاد والسير ب/ غزوة ذي قرد وغيرها والبيهقي في دلائل النبوة 4/ 111. (3) رواه مسلم ك/ المغازي ب/ استحباب خلط الأزواد إذا قلت. (4) الرحراح: القريب القعر مع سعة فيه. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير. (5) أخرجه البخاري ك/ الوضوء ب/ الوضوء من التور، ومسلم ك/ الفضائل ب/ في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 65، وابن حبان في صحيحه 14/ 481، وأحمد في المسند 3/ 147 وأبو يعلى في مسنده 6/ 72 وعبد بن حميد في مسنده 1/ 403 والبيهقي في دلائل النبوة 4/ 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 [5] وضوء ثلاثمائة من ماء نابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم: عن أنس رضي الله عنه قال أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزّوراء «1» فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضّأ القوم قال قتادة قلت لأنس كم كنتم، قال: ثلاث مائة أو زهاء ثلاث مائة «2» . قال الحافظ بن حجر في هاتين القصتين اللتين رواهما أنس رضي الله عنه: وظهر لي من مجموع الروايات أنهما قصتان في موطنين، للتغاير في عدد من حضر، وهي مغايرة واضحة يبعد الجمع فيها، وكذلك تعيين المكان الذي وقع ذلك فيه «3» . قال عياض: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجم الغفير عن الكافة متصلة بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر، ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته. وقال القرطبي: قضية نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي «4» ... قال: ولم يسمع بمثل هذه المعجزة   (1) موضع بالمدينة. (2) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ علامات النبوة في الإسلام ومسلم ك/ الفضائل ب/ في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن حبان في صحيحه 14/ 484 وأحمد في مسنده 3/ 289 والفريابي في دلائل النبوة ص 56 والأصبهاني في دلائل النبوة أيضا 1/ 127 وكذلك البيهقي في دلائل النبوة 4/ 124- 125. (3) فتح الباري (7/ 283، ط. دار الفكر، 1414 هـ- 1993 م. (4) التواتر المعنوي: هو أن يروي الجمع الذي يستحيل تواطؤه على الكذب حادثة معينة لا بلفظ واحد ولكن بمعنى واحد وألفاظ مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم «1» . وقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مثل قصة أنس: فعنه رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلّ الماء، فقال اطلبوا فضلة من ماء، فجاؤا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثمّ قال حيّ على الطّهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم «2» . [6] قصة تكثير ماء المزادتين: عن عمران قال: كنّا في سفر مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم (فذكر الحديث إلى قوله) : فاشتكى إليه النّاس من العطش، فنزل فدعا رجلا من أصحابه ودعا عليّا فقال اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فتلقّيا امرأة بين مزداتين أو سطيحتين «3» من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه السّاعة، ونفرنا خلوف «4» قالا لها: انطلقي إذا، قالت إلى أين؟ قالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الّذي يقال له الصّابئ؟ قالا: هو الّذي تعنين، فانطلقي، فجاآ بها إلى   (1) قال الحافظ: وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين وأحمد وغيرهم من خمسة طرق وعن جابر بن عبد الله من أربعة طرق وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين وعن ابن أبي ليلى والد عبد الرحمن عند الطبراني ... وأما تكثير الماء بأن يلمسه بيده أو يتفل فيه أو يأمر بوضع شيء فيه كسهم من كنانته فجاء في حديث عمران بن حصين في الصحيحين وعن البراء بن عازب عند البخاري وأحمد من طريقين وعن أبي قتادة عند مسلم وعن أنس عند البيهقي في الدلائل وعن زياد بن الحارث الصدائي عنده وعن حبان بن الصنابح الصدائي. (2) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ علامات النبوة في الإسلام، وأحمد في المسند 1/ 460، والدارمي في مسنده 1/ 28 والبزار في مسنده 4/ 301 والشاشي في مسنده 1/ 359، وأبو يعلي في مسنده 9/ 253 والبيهقي في دلائل النبوة 4/ 129- 130 وغيرهم. (3) المزداة وعاء يحمل فيه الماء في السفر والسطيحة هي المزادة تكون من جلدين لا غير. (4) خلوف: غائبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحدّثاه الحديث، قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإناء ففرّغ فيه من أفواه المزادتين أو سطيحتين وأوكأ «1» أفواههما وأطلق العزالي «2» ونودي في النّاس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء واستقى من شاء ... وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم الله لقد أقلع عنها وإنّه ليخيّل إلينا أنّها أشدّ ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: اجمعوا لها، فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة «3» حتّى جمعوا لها طعاما فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثّوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا «4» من مائك شيئا ولكنّ الله هو الّذي أسقانا (وفي صحيح مسلم قال الراوي عمران بن حصين- رضي الله عنه- فشربنا ونحن أربعون رجلا عطاشى حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وإداوة) فأتت أهلها وقد احتبست عنهم قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الّذي يقال له الصّابئ؟ ففعل كذا وكذا، فو الله إنّه لأسحر النّاس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسّبّابة فرفعتهما إلى السّماء [تعني السّماء والأرض] أو إنّه لرسول الله حقّا، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصّرم «5» الّذي هي منه، فقالت يوما لقومها: ما أرى «6» أنّ هؤلاء القوم يدعونكم عمدا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام «7» .   (1) وأوكأ: شد أفواههما بخيط. (2) العزالي جمع عزلاء، والعزلاء: فم القربة الأسفل. (3) السويق: طعام يتخذ من مدقوقة الحنطة والشعير. (4) ما رزئنا: ما نقصنا. (5) الصّرم: القوم التي هي منهم. (6) أي الذي أرى وأعتقده. (7) أخرجه البخاري ك/ التيمم ب/ الصعيد الطيب وضوء المسلم ومسلم ك/ المساجد ب/ قضاء الصلاة الفائتة وابن خزيمة في صحيحه 1/ 59 مختصرا وابن حبان في صحيحه 4/ 122 وأحمد في المسند 4/ 434 والبزار في مسنده 9/ 59 والطبراني في المعجم الكبير 18/ 133 وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 317 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 37 والبيهقي في دلائل النبوة 4/ 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 [7] تكثير الماء في جفنة فارغة: اشتدت حاجة المسلمين للماء فكلف الرسول صلى الله عليه وسلم جابرا رضي الله عنه أن يبحث عن بقية ماء، فوجد قليلا من الماء في سقاء بالى، قال جابر: فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلّم بشيء لا أدري ما هو، ويغمزه بيديه، ثمّ أعطانيه، فقال: يا جابر: ناد بجفنة، فقلت: يا جفنة الرّكب، فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في الجفنة هكذا فبسطها وفرّق بين أصابعه ثمّ وضعها في قعر الجفنة، وقال: خذ يا جابر فصبّ عليّ وقل: باسم الله، فصببت عليه وقلت: باسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ فارت الجفنة ودارت حتّى امتلأت، فقال: يا جابر ناد من كان له حاجة بماء، قال: فأتى النّاس فاستقوا حتّى رووا، قال: فقلت: هل بقي أحد له حاجة، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده من الجفنة وهي ملأى، وشكا النّاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم فأتينا سيف البحر «1» فزخر البحر زخرة «2» فألقى دابّة، فأورينا «3» على شقّها النّار فاطّبخنا واشتوينا وأكلنا حتّى شبعنا، قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان حتّى عدّ خمسة في حجاج عينها «4» ما يرانا أحد حتّى خرجنا، فأخذنا ضلعا من أضلاعه فقوّسناه، ثمّ دعونا بأعظم رجل في الرّكب، وأعظم جمل في الرّكب، وأعظم كفل «5» في الرّكب، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه «6» .   (1) سيف البحر: ساحل البحر. (2) زخرة: فاض. (3) فأورينا: فأوقدنا. (4) حجاج عينها: عظمها المستدير بها. (5) المراد بالكفل هنا: الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط، قاله النووي في شرح صحيح مسلم 18/ 348. (6) أخرجه مسلم ك/ الزهد ب/ حديث جابر الطويل وابن حبان في صحيحه بنحوه 14/ 457 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 [8] قصة ميضأة أبي قتادة رضي الله عنه: «1» عن أبي قتادة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدا فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد «2» ... ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء قال فتوضأ منها وضوآ دون وضوء «3» قال وبقي فيها شيء من ماء ثم قال لأبي قتادة احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ ... قال فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشنا فقال لا هلك عليكم ثم قال أطلقوا لي غمري «4» قال ودعا بالميضأة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابّوا «5» عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنوا الملأ كلكم سيروى» ، قال ففعلوا فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصب وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ثم صب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي اشرب فقلت لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، قال إن ساقي القوم آخرهم شربا، قال فشربت وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأتى الناس الماء جامّين رواء «6» وكانوا ثلاثمائة «7» .   (1) الميضأة: إناء صغير يحمل فيه الماء للوضوء. (2) أي لا ينتظر أحد أحدا. (3) قال النووي: وضوء خفيفا. (4) الغمر: القدح الصغير أو أصغر الأقداح. (5) تكابوا: تزاحموا. (6) جامين رواء: مستريحين قد رووا من الماء، والحديث أخرجه مسلم ك/ المساجد ومواضع الصلاة ب/ قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها وأحمد في مسنده 5/ 302 وأبو يعلى في مسنده بنحوه 7/ 234- 235 وابن الجعد في مسنده ص 450 والفريابي في دلائل النبوة ص 62- 67 والأصبهاني في دلائل النبوة أيضا 1/ 88 وغيرهم. (7) أحمد في مسنده 5/ 298 وإسناده صحيح على شرط مسلم، كما في تحقيق المسند 37/ 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 [9] قصة تكثير الماء في غزوة تبوك: قال معاذ بن جبل- رضي الله عنه-: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك ... ثمّ قال: إنّكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحي النّهار ... والعين مثل الشّراك تبضّ «1» بشيء من ماء ... ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتّى اجتمع الماء في شيء، قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه يديه ووجهه ثمّ أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر أو قال غزير قال حتّى استقى النّاس، ثمّ قال يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا «2» .   (1) تبض: تقطر وتسيل، والشرك هو سير النعل من الجلد، ومعناه ماء قليل جدا قاله النووي. (2) أخرجه مسلم ك/ الفضائل ب/ في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وابن خزيمة في صحيحه 2/ 82 وابن حبان في صحيحه 4/ 469- 470 وعبد الرزاق في المصنف 2/ 545- 546 وأحمد في المسند 5/ 237 والطبراني في المعجم الكبير 20/ 57 والفريابي في دلائل النبوة ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 معجزات شفاء المرضى وخوارقها كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتعرضون لأنواع من المرض والجراح أثناء غزواتهم، فيأتيه بعضهم فيدعو الله لهم، فيكرمه الله بشفاء من دعا له على الفور أمام أعين المشاهدين، وقد سجلت السّنّة الصحيحة عددا من هذه المعجزات، نذكر منها مايلي: [1] شفاء علي رضي الله عنه من رمده في غزوة خيبر: عن سهل بن سعد رضي الله عنه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر: لأعطينّ الرّاية رجلا يفتح الله على يديه، فقاموا يرجون لذلك أيّهم يعطى فغدوا وكلّهم يرجو أن يعطى، فقال: أين عليّ؟ فقيل يشتكي عينيه، فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتّى كأنّه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا، فقال: على رسلك حتّى تنزل بساحتهم ثمّ ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فو الله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النّعم «1» . [2] شفاء ساق سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: عن يزيد بن أبي عبيد قال رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضّربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال النّاس: أصيب سلمة! فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتّى السّاعة «2» .   (1) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة ومسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل علي بن أبي طالب وابن حبان في صحيحه 15/ 378 والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 106 والنسائي في السنن الكبرى 5/ 46 وسعيد بن منصور في السنن 2/ 215. (2) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة خيبر وأبو داود في السنن ك/ الطب ب/ كيف الرقى وابن حبان في صحيحه 14/ 439 وأحمد في مسنده 4/ 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 [3] شفاء ساق عبد الله بن عتيك: عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهوديّ رجالا من الأنصار، فأمّر عليهم عبد الله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز (وذكر قصة قتله) ثم قال: فعرفت أنّي قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتّى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أنّي قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة ثمّ انطلقت حتّى جلست على الباب فقلت: لا أخرج اللّيلة حتّى أعلم أقتلته؟ فلمّا صاح الدّيك قام النّاعي على السّور فقال أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز! فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النّجاء! فقد قتل الله أبا رافع! فانتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّثته، فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنّها لم أشتكها قطّ «1» . [4] ظهور أثر بركته في مسحه رأس حنظلة بن حذيم: مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأس حنظلة بن حذيم وقال: بارك الله فيك أو بورك فيه، فكان حنظلة بعد ذلك إذا أتي بإنسان متورّم الوجه أو بهيمة وارمة الضرع، يتفل على يديه، ثم يضع يده على رأسه على الموضع الذي مسحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يمسح مكان الورم فيذهب الورم «2» . هذا وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة والمسلمين من بعدهم أدعية يدعون بها لكشف المرض فيجدون الشفاء المستمر، وهذا موجود إلى يومنا هذا، وخاصة   (1) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ قتل أبي رافع والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 80 والروياني في مسنده 1/ 215 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 125 والطبري في تاريخه 2/ 55- 56. (2) رواه أحمد في مسنده 5/ 67 وقال في مجمع الزوائد 4/ 211: ورجاله ثقات ورواه أيضا الطبراني في المعجم الكبير 4/ 6 و 4/ 13 وفي المعجم الأوسط 3/ 191 وابن قانع في معجم الصحابة 1/ 203 وذكره البخاري في التاريخ الكبير 3/ 37 وابن حجر في الإصابة 2/ 133، وذكر أن الحسن بن سفيان رواه في مسنده، وإسناده صحيح كما في تحقيق المسند 34/ 263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 عند مراعاتهم لآداب الدعاء المشروع «1» ، ويدخل ذلك في تصديق الله لرسوله بإجابة دعاء أتباعه الصادقين. ما ظهر من معجزات خوارق العادة في غزوة حنين: أعجب المسلمون بكثرتهم في غزوة حنين، فلم يغن عنهم ذلك شيئا عندما باغتهم العدو بالهجوم، فانهزموا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولم يثبت إلا النبي صلى الله عليه وسلم مع قلة من الصحابة، قال سلمة بن الأكوع: ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما «2» وهو على بغلته الشّهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأى ابن الأكوع فزعا، فلمّا غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة (وفي رواية أنه دعا حينئذ واستنصر وقال اللهم نزل نصرك) «3» ثمّ قبض قبضة من تراب من الأرض ثمّ استقبل به وجوههم فقال شاهت «4» الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلّا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولّوا مدبرين فهزمهم الله عزّ وجلّ، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين «5» وفي رواية أنّه أخذ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: " انهزموا ورب محمد" فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فمازلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبرا «6» .   (1) انظر كتاب: " الأذكار" للحافظ النووي، وكتاب: الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية لجيلان العروسي. (2) منهزما: يعني سلمة، فالكلمة حال لسلمة رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت كما تقدم. (3) رواه مسلم ك/ الجهاد والسير ب/ غزوة حنين. (4) قبحت. (5) أخرجه مسلم ك/ الجهاد والسير ب/ في غزوة حنين وابن حبان في صحيحه 14/ 451 وأبو عوانة في مسنده بنحوه 4/ 278- 279 والدارمي في السنن بنحوه 2/ 289 وابن أبي شيبة في المصنف بنحوه 7/ 419 والروياني في مسنده 2/ 253 وغيرهم. (6) أخرجه مسلم ك/ الجهاد والسير ب/ في غزوة حنين والحاكم في المستدرك 3/ 370 وأبو عوانة في مسنده 4/ 277- 278 والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 197 وعبد الرزاق في المصنف 5/ 380 وأحمد في المسند 1/ 207 وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقد سجل القرآن ذلك في قوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) [التوبة: 25- 26] . سد عكرمة بالطائف حيث حارب الرسول صلى الله عليه وسلم عنده قبيلة ثقيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 غزوة حنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 شهادة الشجر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم: حيث شهد الشجر له بصدق الرسالة، وتحرك الشجر يشق الأرض شقا، ونزل عذق النخلة امتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم، وسمع الصحابة حنين جذع النخلة حين فارقه حتى رجع فسكّنه كما يسكن الصبي، وهذه من الخوارق التي لا تجري إلا على يد رسول صادق مؤيد من الله سبحانه. [1] نزول العذق: «1» عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك نبي؟!، قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة تشهد أني رسول الله؟ فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ارجع، فعاد فأسلم الأعرابي «2» . [2] السلمة التي مشت: «3» عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابيّ فلمّا دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين تريد؟، قال: إلى أهلي، قال هل لك في خير؟ قال: وما هو؟، قال تشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله، قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال هذه السّلمة!   (1) العذق في النخلة: غصنها الذي يكون فيه الرطب، كعنقود العنب. (2) أخرجه الترمذي في المناقب الباب التاسع، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 193 وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك 2/ 676 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، قال ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 131 وهذا إسناد جيد وأخرجه أيضا المقدسي في المختارة 9/ 539 والبيهقي في الاعتقاد ص 48، وأخرج القصة بلفظ آخر وفيه أن الأعرابي من بني عامر أحمد في المسند 1/ 223 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 807 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 51 والمقدسي في المختارة 9/ 555 وذكره في مجمع الزوائد بنحوه 9/ 10 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة وأخرجه كذلك الطبري في تاريخه 1/ 530. (3) السلمة: نوع من الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهي بشاطئ الوادي- فأقبلت تخذّ الأرض خدّا «1» حتّى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت ثلاثا أنّه كما قال ثمّ رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابيّ إلى قومه، وقال: إن اتّبعوني أتيتك بهم، وإلّا رجعت فكنت معك «2» . [3] انقياد شجرتين له صلى الله عليه وسلم: عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصّامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحيّ من الأنصار ... فذكر حديثا عن جابر رضي الله عنه إلى قوله: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى نزلنا واديا أفيح «3» فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فاتّبعته بإداوة «4» من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت معه كالبعير المخشوش «5» الّذي يصانع قائده حتّى أتى الشّجرة الآخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي عليّ بإذن الله فانقادت معه كذلك حتّى إذا كان بالمنصف ممّا بينهما لأم بينهما- يعني جمعهما- فقال: التئما عليّ بإذن الله، فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أحضر «6» مخافة أن يحسّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربي فيبتعد، فجلست   (1) أي: تشق الأرض شقا. (2) أخرجه الدارمي 1/ 22 وأبو يعلى في مسنده 10/ 34 وابن حبان في صحيحه 14/ 434 والطبراني في المعجم الكبير 12/ 431 والفاكهي في أخبار مكة 4/ 29 وقال في مجمع الزوائد 8/ 292: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى أيضا والبزار وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 130 من رواية الحاكم قال: وهذا إسناد جيّد وقال الذهبي: إسناده جيد ص 344 من السيرة النبوية. (3) أفيح: متسعا. (4) الإداوة: إناء صغير يحمل فيه الماء. (5) المخشوش: الذي في أنفه خشاش وهو عود يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع لانقياده. (6) الحضر: السرعة في الجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 أحدّث نفسي فحانت منّي لفتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، وإذا الشّجرتان قد افترقتا، فقامت كلّ واحدة منهما على ساق «1» . أي كما كانت. [4] حنين الجذع شوقا إليه صلى الله عليه وسلم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع «2» إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكّن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها «3» . قال الحافظ ابن كثير: وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن «4» .   (1) أخرجه مسلم في آخر صحيحه ك/ الزهد والرقائق ب/ حديث جابر الطويل وابن حبان في صحيحه 14/ 455- 456 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 53- 55 والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 94 ورواه ابن عبد البر في التمهيد 1/ 222 ورواه من حديث يعلى بن سيابة أحمد في مسنده 4/ 172 وابن قانع في معجم الصحابة 3/ 221 وغيرهما قال ابن عبد البر في التمهيد 1/ 222: وروي عن يعلى من وجوه. ونسبه في مجمع الزوائد 9/ 6، 7 إلى أحمد والطبراني بنحوه وحسّن إسناده وانظر البداية والنهاية لابن كثير 6/ 145- 148. (2) دفع إلى المنبر: أي اتجه إلى المنبر. (3) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ علامات النبوة في الإسلام وابن ماجه ك/ إقامة الصلاة ب/ ما جاء في بدء شأن المنبر والترمذي ك/ المناقب ب/ في آيات إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحمد في مسنده 3/ 300 والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 195 وابن حبان في صحيحه 14/ 435- 438، والمقدسي في المختارة 4/ 356 والدارمي في السنن 1/ 29 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 797- 802 وذكر له طرقا عن جماعة من الصحابة، والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 46 وأبو يعلى في مسنده 5/ 142 وابن الجعد في مسنده ص 466 وابن المبارك في الزهد ص 362 وذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 131- 138 من رواية الشافعي والبزار في مسنده وأبي بكر بن أبي شيبة وعبد بن حميد الليثي أيضا. ونسبه اللالكائي في كتابه المذكور آنفا إلى ابن خزيمة. (4) البداية والنهاية 6/ 131، وذكر الحديث من رواية أبي وأنس وجابر وسهل بن سعد وابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 معجزات خارقة في شهادة الحيوان وانقياده [1] شهادة الذئب بنبوته صلى الله عليه وسلم: عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: قال: عدا الذّئب على شاة فأخذها، فطلبه الرّاعي فانتزعها منه، فأقعى «1» الذّئب على ذنبه، قال: ألا تتّقي الله تنزع منّي رزقا ساقه الله إليّ! فقال يا عجبي! ذئب مقع على ذنبه يكلّمني كلام الإنس!! فقال الذّئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بيثرب يخبر النّاس بأنباء ما قد سبق! قال: فأقبل الرّاعي يسوق غنمه حتّى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثمّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي الصّلاة جامعة، ثمّ خرج فقال للرّاعي: أخبرهم، فأخبرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، والّذي نفسي بيده لا تقوم السّاعة حتّى يكلّم السّباع الإنس ويكلّم الرّجل عذبة «2» سوطه وشراك نعله «3» ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده «4» . وذكر الحافظ ابن عدي عن ابن أبي داود أن ذرية هذا الراعي في مدينة مرو، وأنّه يقال لهم: بنو مكلم الذئب «5» ، واستدل البيهقي بذلك على اشتهار   (1) أقعى: جلس مفترشا رجليه ناصبا يديه. (2) عذبة السوط: طرفه. (3) الشراك هو سير النعل الذي على ظهر القدم. (4) القصة وردت من رواية أبي سعيد الخدري ومن رواية أبي هريرة وقد أخرجها الإمام أحمد في المسند 2/ 306 و 3/ 83- 88. قال ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 150: وهذا إسناد على شرط الصحيح. وابن حبان في صحيحه 14/ 419 والحاكم في المستدرك 4/ 514 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وعبد بن حميد في مسنده 1/ 277 وإسحاق بن راهوية في مسنده 1/ 357 ومعمر بن راشد في الجامع 11/ 383 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 112- 113 والبيهقي في دلائل النبوة 6/ 41- 42 وقال: هذا إسناد صحيح. (5) الكامل لابن عدي 2/ 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 القصة وقوة الحديث «1» . [2] شكوى جمل له من صاحبه: عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلفه ذات يوم ... فدخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا جمل فلمّا رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فمسح ذفراه «2» فسكت، فقال: من ربّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال: أفلا تتّقي الله في هذه البهيمة الّتي ملّكك الله إيّاها، فإنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتدئبه «3» . [3] استجابة جمل استصعب على أهله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون «4» عليه، وإنّ الجمل استصعب عليهم فمنعهم ظهره، وإنّ الأنصار جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنّه كان لنا جمل نسني عليه وإنّه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزّرع والنّخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: قوموا، فقاموا، فدخل الحائط- والجمل في ناحية-   (1) دلائل النبوة للبيهقي 6/ 44، وعنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 152، وانظر الإصابة لابن حجر لمعرفة اسم مكلم الذئب 1/ 141. (2) الذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن. (3) وتدئبه: أي تديم عليه العمل فيتعب، والحديث أخرجه أبو داود ك/ الجهاد ب/ ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم والحاكم في المستدرك 2/ 109، وقال: صحيح الإسناد والمقدسي في الأحاديث المختارة 9/ 158- 160 وأبو عوانة في مسنده 1/ 168، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 13، وابن أبي شيبة في المصنف 6/ 322 وأحمد في المسند 1/ 204 وأبو يعلى في مسنده 12/ 159 والأصبهاني في دلائل النبوة 1/ 159 قال الذهبي في تاريخ الإسلام: أخرج مسلم منه إلى قوله: حائش نخل، وباقية على شرط مسلم ص 348 من السيرة النبوية، وصححه الألباني أيضا في صحيح سنن أبي داود 2/ 484. (4) يسنون عليه: أي: يسقون عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فمشى النّبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه، فقالت الأنصار: يا نبيّ الله إنّه قد صار مثل الكلب الكلب «1» وإنّا نخاف عليك صولته، فقال: ليس عليّ منه بأس، فلمّا نظر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه حتّى خرّ ساجدا بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته أذلّ ما كانت قطّ حتّى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك، ونحن نعقل، فنحن أحقّ أن نسجد لك، فقال: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقّه عليها «2» . قال أبو نعيم في ما تضمنته هذه الحادثة وأمثالها: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعطي علما بمنطق هذه البهائم، فذلك له آية كما كان لسليمان عليه السّلام آية بعلم منطق الطير، أو أنه علم ذلك بالوحي، وأيّ ذلك كان ففيه أعجوبة وآية معجزة «3» . [4] تأدب الوحش معه صلى الله عليه وسلم: قالت عائشة رضي الله عنها: كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحش «4» فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب واشتدّ وأقبل وأدبر، فإذا أحسّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل ربض فلم يترمرم «5»   (1) الكلب الكلب: الذي أصابه داء الكلب، وهو مرض معد ينتقل فيروسه في اللعاب بالعض من الفصيلة الكلبية إلى الإنسان وغيره. (2) أخرجه أحمد في المسند 3/ 158 وجوّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 35 قال ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 142: هذا إسناد جيد، وقد روى النسائي بعضه. وأخرجه المقدسي في الأحاديث المختارة 5/ 266 وحسن إسناده قال في مجمع الزوائد 9/ 4: رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس وهو ثقة وذكر له الحافظ ابن كثير شواهد في البداية والنهاية 6/ 142 وما بعدها، والهيثمي في المجمع 9/ 4 وما بعدها. وذكر نحوه الذهبي في تاريخ الإسلام ص 348 من السيرة النبوية، وفيه: ما سجد لي، ولكن سخره الله لي، وانظر تحقيق المسند 20/ 65- 66. (3) دلائل النبوة 2/ 499. (4) الوحش: حيوان البر الوحشي مثل حمار الوحش وبقر الوحش. (5) يترمرم: أي سكن ولم يتحرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت كراهية أن يؤذيه «1» . [5] ظهور البركة في فرس أبي طلحة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنّ أهل المدينة فزعوا مرّة فركب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فرسا لأبي طلحة كان يقطف أو كان فيه قطاف «2» فلمّا رجع قال وجدنا فرسكم هذا بحرا «3» فكان بعد ذلك لا يجارى «4» . [6] ظهور أثر البركة في بعير جابر رضي الله عنه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة فأبطأ بي جملي وأعيا، فأتى عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: جابر! فقلت: نعم، قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ عليّ جملي وأعيا، فتخلّفت، فنزل يحجنه بمحجنه «5» ثمّ قال: اركب فركبت، فلقد رأيته أكفّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «6» .   (1) أخرجه أحمد في المسند 6/ 112 و 6/ 150 وإسحاق بن راهواه في مسنده 3/ 617 وأبو يعلي في مسنده 7/ 418 والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 195، والطبراني في المعجم الأوسط 6/ 348 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 4: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 154 عن إسناد أحمد: على شرط الصحيح، وقال الذهبي عن الحديث في تاريخ الإسلام: صحيح ص 349 من السيرة النبوية. (2) قطاف أي: بطء في السير. (3) البحر من الخيل: الواسع الجري الشديد العدو. (4) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ الفرس القطوف ومسلم ك/ الفضائل ب/ في شجاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقدمه للحرب والترمذي ك/ الجهاد ب/ ما جاء في الخروج عند الفزع وابن ماجه ك/ الجهاد ب/ الخروج في النفير والنسائي في السنن الكبرى 6/ 263 وأحمد في المسند 3/ 261 وابن حبان في صحيحه 14/ 284 وغيرهم. (5) بمحجنه يعني: يغمزه بالمحجن، والمحجن: العصا المعوجة، وكلّ معوج الرأس. (6) أخرجه البخاري ك/ البيوع ب/ شراء الدواب والحمير ومسلم ك/ المساقاة ب/ بيع البعير واستثناء ركوبه والنسائي ك/ البيوع ب/ البيع يكون فيه الشرط الفاسد وأحمد في المسند 3/ 385 وابن حبان في صحيحه 14/ 450 وأبو عوانة في مسنده 3/ 248، والنسائي في السنن الكبرى 4/ 44، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 معجزات خارقة متفرقة [1] تسبيح الطعام: قال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- وهو يتكلم عن المعجزات في عهد صلى الله عليه وسلم: ولقد كنّا نسمع تسبيح الطّعام وهو يؤكل «1» . [2] معرفته بلحم شاة أخذت بغير إذن أهلها: عن جابر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مرّوا بامرأة فذبحت لهم شاة واتّخذت لهم طعاما، فلمّا رجع قالت: يا رسول الله: إنّا اتّخذنا لكم طعاما فادخلوا فكلوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، وكانوا لا يبدؤن حتّى يبتدئ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وآله فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لقمة فلم يستطع أن يسيغها، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: هذه شاة ذبحت بغير إذن أهلها، فقالت المرأة يا رسول الله إنّا لا نحتشم «2» من آل سعد بن معاذ ولا يحتشمون منّا، نأخذ منهم، ويأخذون منّا «3» .   (1) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ علامات النبوة، والترمذي ك/ المناقب ب/ في آيات إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن خزيمة في صحيحه 1/ 102 والدارمي في السنن 1/ 28 والشاشي في مسنده 1/ 359 وأحمد في المسند 1/ 460 وأبو يعلى في مسنده 9/ 253 واللالكائي في اعتقاد أهل السنة 4/ 803 وأبو الشيخ الأصبهاني بنحوه في العظمة 5/ 1725 واللالكائي في كرامات الأولياء 1/ 134 والفريابي في دلائل النبوة ص 68 والأصبهاني في دلائل النبوة أيضا 1/ 120 وغيرهم. (2) لا نحتشم: لا نستحي. (3) أخرجه أبو داود ك/ البيوع ب/ في اجتناب الشبهات وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 641 والأرناؤوط في تخريجه جامع الأصول 11/ 392 والحاكم في المستدرك 4/ 262 وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأحمد في مسنده 3/ 351 واللفظ له والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 335 والدارقطني في سننه 4/ 285- 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 [3] تكثير المال ببركته صلى الله عليه وسلم: كان على سلمان الفارسي رضي الله عنه مال، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم (قطعة من الذهب) فاستقلّها سلمان وقال: وأين تقع هذه من الّذي عليّ يا رسول الله، قال: خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك، فأخذتها فوزنت لهم منها- والذي نفس سلمان بيده- أربعين أوقية «1» . [4] حصول الضوء في العصا لبعض أصحابه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة ظلماء حندس «2» فكان مع كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما كأشد شيء، فلما تفرقا أضاءت عصا كل واحد منهما، حتى وصل إلى أهله «3» . [5] الذاكرة الخارقة لأبي هريرة رضي الله عنه: كان أبو هريرة رضي الله عنه يشتكي أنه ينسى كثيرا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: من يبسط رداءه حتى اقضي مقالتي ثم يقبضه فلن ينسى شيئا سمعه مني! قال أبو هريرة: فبسطت بردة كانت علىّ، فوالذي بعثه   (1) الأوقية وزن معين يساوي من الذهب أربعة دنانير، والدينار يساوي أربعة جرامات وربعا من الذهب تقريبا، والحديث أخرجه أحمد في المسند 5/ 444 وإسناده حسن كما في تحقيق المسند 39/ 147. (2) حندس: شديدة الظلمة. (3) أخرجه البخاري ك/ مناقب الأنصار ب/ منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر وابن حبان في صحيحه 5/ 378 واللفظ له، عدا جملة: حتى وصل إلى أهله، فهي في البخاري بمعناها والنسائي في السنن الكبرى 5/ 68 والطيالسي في مسنده 1/ 271 والبيهقي في الاعتقاد ص 310 ومعمر بن راشد في الجامع 11/ 280 وأحمد في مسنده 3/ 137 وعبد بن حميد في مسنده 1/ 372 من المنتخب وغيرهم وانظر فتح الباري 7/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه «1» . وهذا الحديث من علامات النبوة؛ لأن أبا هريرة كان أحفظ الناس بعد ذلك للأحاديث النبوية في عصره، وقد أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثا. قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، قال أبو الزعيزعة كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل يحدثه- وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به- حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إليه فسأله، وأمرني أن انظر فما غير حرفا عن حرف «2» . [6] إسماع الله الصحابة صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهم في منازلهم: قال عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم ... الحديث «3» . [7] عاقبة النصراني المستهزئ: روى أنس رضي الله عنه قال: كان رجل نصرانيّا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيّا ولحق بأهل الكتاب، فأعجبوا به ورفعوه، فكان يقول: ما يدري محمّد إلّا ما كتبت له!! فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته   (1) أخرجه البخاري ك/ العلم ب/ حفظ العلم ومسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل أبي هريرة والترمذي ك/ المناقب ب/ مناقب لأبي هريرة والنسائي في السنن الكبرى 3/ 439 والحميدي في مسنده 2/ 483، والطبراني في الأوسط 1/ 247 بنحوه وقد أخرج الحديث غير هؤلاء فانظر للتوسع في تخريجه الإصابة للحافظ ابن حجر 7/ 436- 438. (2) انظر الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر 7/ 431، 433، 438. (3) أخرجه أبو داود ك/ المناسك ب/ ما يذكر الإمام في خطبته بمنى والنسائي ك/ مناسك الحج ب/ ما ذكر في منى وأحمد في المسند 4/ 61 والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 127 وابن قانع في معجم الصحابة 2/ 151، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الأرض، فقالوا: هذا فعل محمّد وأصحابه لّما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه! فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا: هذا فعل محمّد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لّما هرب منهم فألقوه!! فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض فعلموا أنّه ليس من النّاس فألقوه، وتركوه منبوذا «1» . [8] خاتم النبوة: ويلحق بالخوارق ما وجد من علامة على ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم تدل على نبوته، وقد كان أهل الكتاب يعلمون هذه العلامة، وذكر أحد علمائهم ذلك لسلمان الفارسي رضي الله عنه ليعرف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ذهب سلمان إلى المدينة النبوية تحقق من ذلك فرأى الخاتم، ورأى الخاتم أيضا جماعة من الصحابة. فعن السّائب ابن يزيد يقول ذهبت بي خالتي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّ ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثمّ توضّأ فشربت من وضوئه، ثمّ قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النّبوّة بين كتفيه مثل زرّ الحجلة «2» . وقد رأى خاتم النبوة من الصحابة أيضا: جابر بن سمرة «3» ، وأبو زيد الأنصاري «4» ، وعبد الله بن سرجس «5»   (1) أخرجه البخاري ك/ المناقب ب/ علامات النبوة في الإسلام ومسلم ك/ صفات المنافقين وأحكامهم وأبو يعلي في مسنده 7/ 22 وأحمد في مسنده 3/ 222 وعبد بن حميد في مسنده 1/ 381 من المنتخب وانظر فتح الباري 6/ 625. (2) أخرجه البخاري ك/ المرضى ب/ من ذهب بالصبي المريض ليدعى له ومسلم ك/ الفضائل ب/ إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده صلى الله عليه وآله وسلم والترمذي ك/ المناقب ب/ في خاتم النبوة. (3) أخرجه مسلم ك/ الفضائل ب/ إثبات خاتم النبوة ... (4) أحمد في المسند 5/ 77 والحاكم في المستدرك 2/ 663 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (5) مسلم ك/ الفضائل ب/ إثبات خاتم النبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وغيرهم «1» رضي الله عنهم أجمعين. ووجود هذه العلامة الخلقية المطابقة لما ورد في كتب أهل الكتاب أمر لا يقدر عليه إلا الخلاق سبحانه. استجابة الله عز وجل لدعائه صلى الله عليه وسلم: ومن علامات تصديق الله لنبيه أن يجيب دعاءه إذا دعاه في عظيم المطالب ومادونها، وقد كان هذا ظاهرا في علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بربه فما كان يخيّب دعوته وما كان الله ليستجيب دعاء من يدعي النبوة كذبا وزورا، بل لقد أكرم الله أتباعه صلى الله عليه وسلم بإجابة دعائهم، وإن كانت دعوات غيره منها ما يستجاب له ومنها ما لا يستجاب له. وكرامات أتباعه شهادة من الله له بصدق رسالته، وإن كان فضل الله وكرمه يشمل جميع المضطرين من عباده كما قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] لأن المضطر قد علم أن لا ملجأ له إلا إلى الله فيجيبه بعظيم كرمه، لكن ذلك لا يكون بصفة متكررة للكافرين ولا بصفة دائمة للمؤمنين. (أ) استجابة دعائه في الاستسقاء: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال: يا رسول الله! هلكت المواشي وانقطعت السّبل فادع الله يغيثنا، قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهمّ اسقنا، اللهمّ اسقنا، اللهمّ اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السّماء من سحاب ولا قزعة «2» ولا شيئا وما بيننا   (1) للاطلاع على عدد من الروايات في وصف خاتم النبوة، انظر دلائل النبوة للبيهقي 1/ 259- 267 وروى فيه أن رجلا يهوديا أراد الاطلاع على ذلك الخاتم، قال: وإنما كانوا يبحثون عن ذلك لأنه مكتوب عندهم بصفته. (2) ولا قزعة: قطعة من الغيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وبين سلع «1» من بيت ولا دار، قال فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس فلمّا توسّطت السّماء انتشرت ثمّ أمطرت، قال: والله ما رأينا الشّمس ستّا، ثمّ دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السّبل فادع الله يمسكها قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثمّ قال: اللهمّ حوالينا ولا علينا اللهمّ على الآكام «2» والجبال والآجام «3» والظّراب «4» والأودية ومنابت الشّجر، قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشّمس «5» . ومن يملك تكوين المطر في الجو الجاف وإنزاله إلا الله سبحانه وتعالى وعلى إثر دعاء رسوله عطاء وإمساكا، وتلك الاستجابة الإلهية لا تكون لمن يدعي النبوة ويفتري على الله الكذب. وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن منبره حتى وقعت قطرات من المطر على لحيته، وأنه عند ما دعا الله أن يمسك المطر بقيت المدينة محاطة بالسحاب في مثل الإكليل، ولم يأت أحد من جهة من الجهات إلا حدث بالمطر الغزير وسال وادي قناة «6» شهرا «7» . وقال عمر رضي الله عنه: خرجنا إلى تبوك في قيظ «8» شديد فنزلنا منزلا أصابنا   (1) سلع: جبل في المدينة. (2) الآكام: جمع أكمة وهي الراعية. (3) الآجام: جمع أجم وهو الحصن. (4) الظّراب: الجبال الصغار. (5) أخرجه البخاري ك/ الاستسقاء ب/ الاستسقاء في المسجد الجامع. واللفظ له، ومسلم ك/ صلاة الاستسقاء ب/ الدعاء في الاستسقاء. (6) أحد وديان المدينة. (7) أخرجه البخاري ك/ الاستسقاء ب/ من تمطر حتى يتحادر المطر على لحيته، وانظر ب/ الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا. (8) القيظ: الحر الشديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يده فلم يرجعهما حتى قالت السماء «1» فأظلمت ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جازت العسكر «2» . (ب) استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم فيما دعا فيه: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجاب الدعوة فيما يدعو فيه ربه من قضاء الحوائج وتفريج الكرب وشفاء المرض وتحقيق المطالب وحلول البركة، حتى تواتر هذا الأمر عنه، فكان ذلك شاهدا من حاله بتصديق الله له بإجابة دعائه: وحوادث إجابة دعائه صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة: * منها: أنه لما قدم المدينة كانت من أوبأ أرض الله كما قالت عائشة رضي الله عنها فدعا الله أن ينقل حمى المدينة إلى الجحفة «3» وأن يجعل المدينة صحيحة فكان ذلك «4» . ودعا الله لأم أبي هريرة أن تسلم، فلما رجع أبو هريرة إلى البيت أعلنت إسلامها «5» . ودعا لعبد الله بن عباس بالفقه في الدين «6» ، فأصبح أحد علماء الأمة،   (1) يعني تحرك السحاب فيها فأظلمت. (2) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه 1/ 53. (3) الجحفة: قرية بين مكة والمدينة. (4) أخرجه البخاري ك/ الدعوات ب/ الدعاء يرفع الوباء والوجع وفي الحج باب كراهية النبي أن تعرى المدينة، ومسلم ك/ الحج ب/ الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها. (5) أخرجه مسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل أبي هريرة، وأحمد باقي مسند المكثرين. (6) أخرجه البخاري ك/ الوضوء ب/ وضع الماء عند الخلاء، وأحمد في مسند بني هاشم بداية مسند عبد الله بن العباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 حتى لقب بحبر الأمة وترجمان القرآن. * ودعا لأنس بن مالك بالمال والولد والبركة في ذلك، فكان من أكثر الأنصار مالا وولدا «1» . * ودعا للسائب بن يزيد بالبركة، فبلغ أربعا وتسعين سنة وهو جلد معتدل يتمتع بسمعه وبصره «2» . * ودعا لقبيلة دوس بالهداية «3» ، فهداهم الله بعد أن أبوا الإسلام «4» . * ودعا لأم خالد بنت خالد بن سعيد بطول العمر وهي صبية، فبقيت حتى ذكر من بقائها «5» . * ودعا لأبي زيد بن أخطب ومسح على وجهه، فعاش مائة وعشرين سنة وليس في رأسه إلا شعرات بيض «6» .   (1) أخرجه البخاري ك/ الصوم ب/ من زار قوما فلم يفطر عندهم، وأحمد في باقي مسند المكثرين مسند أنس بن مالك، قال أنس: - فإني لمن أكثر الأنصار مالا، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لصلبي مقدم حجاج البصرة بضع وعشرون ومائة، انظر صحيح البخاري ك/ الصوم ب/ من زار قوما فلم يفطر عندهم. (2) أخرجه البخاري ك/ الوضوء ب/ استعمال فضل وضوء الناس، ومسلم ك/ الفضائل ب/ إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده. (3) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم. (4) قال الحافظ ابن حجر: وقع مصداق ذلك (يعني الدعوة لهم بالهداية) ، فذكر ابن الكلبي أن حبيب بن عمرو بن حثمة الدوسي كان حاكما على دوس، وكان يقول: إني لأعلم أن للخلق خالقا لكني لا أدري من هو؟ فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه ومعه خمسة وسبعون رجلا من قومه فأسلم وأسلموا، فتح الباري 8/ 102 بتصرف. (5) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ من تكلم بالفارسية والرطانة، وأبو داود ك/ اللباس ب/ فيما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا، وأحمد في باقي مسند الأنصار حديث أم خالد بن خالد بن سعيد بن العاص. (6) أخرجه الترمذي ك/ المناقب ب/ في آيات إثبات نبوة النبي وما قد خصه الله عز وجل، وذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 * ودعا لعروة البارقي بالبركة في صفقة يمينه، فكان كثير الربح «1» وكذلك عبد الله بن جعفر «2» . * واشتكى إليه جرير بن عبد الله أنه لا يثبت على فرسه، فدعا الله له فلم يسقط عن فرس بعد ذلك «3» . * واشتكى إليه علي بن أبي طالب ضعف الخبرة في القضاء، فدعا له بالبصيرة في القضاء، قال علي: فما شككت في قضاء بعد هذا «4» . * ودعا له أيضا بالشفاء من مرض ألمّ به، قال علي: فما اشتكيت ذلك الوجع بعد «5» . واستأذنه شاب في الزنا فصرفه عن ذلك بأسلوب حكيم «6» ثم دعا له بتحصين فرجه فكان ذلك الفتى لا يلتفت إلى شيء «7» .   (1) أخرجه أبو داود ك/ البيوع ب/ في المضارب يخالف، وأحمد في المسند 4/ 376 وإسناده صحيح على شرط البخاري كما في تحقيق المسند 32/ 100- 102 وانظر الكلام على اسناده هنالك. (2) مسند أحمد 1/ 204، وابن سعد 4/ 36- 37 والنسائي في الكبرى 8604، وأبو داود مختصرا، وإسناد أحمد على شرط مسلم، انظر تحقيق المسند 3/ 279. (3) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة ذى الحليفة، ومسلم ك/ فضائل الصحابة ب/ من فضائل جرير بن عبد الله. (4) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 145 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأحمد في المسند، وهو حديث صحيح كما في تحقيق المسند 2/ 68، 356. (5) مسند أحمد 1/ 83، وصححه ابن حجر كما في تحقيق المسند 2/ 69. (6) حيث قال له: - أدنه، فدنا منه قريبا، فقال: أتحبه لأمك قال: لا والله جعلني فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، ثم سأله هل يحبه لابنته أو أخته أو عمته أو خالته فأجاب بالنفي، فأعلمه أن الناس كذلك لا يحبونه لبناتهم ولا لأخواتهم ولا لعماتهم ولا لخالاتهم ثم وضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وحصن فرجه، فكان الفتى لا يلتفت إلى شيء. (7) مسند أحمد 5/ 256- 257 والطبراني في الكبير وإسناده صحيح كما في تحقيق المسند 36/ 545. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 * ودعا لطفل صغير بالهداية عندما خير بين أبيه المسلم وأمه الكافرة فاختار أباه المسلم «1» . * ودعا الله عز وجل أن يعز الإسلام إما بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام فاستجاب الله له وهدى عمر بن الخطاب في اليوم الثاني «2» . * ودعا لقبيلة ثقيف بالهداية «3» ، فأقبلوا مهتدين بعد أن حاربوا المسلمين «4» . * ودعا لأصحابه يوم بدر بالرزق ففتح الله عليهم بعد ذلك «5» . * ودعا لجعيل الأشجعي بالبركة في فرسه وكانت عجفاء ضعيفة، فأصبحت تسابق الناس وباع مما أنتجته بمال كثير «6» . * ودعا لأم المؤمنين أم سلمة بأن يذهب الله غيرتها «7» ، فاستجاب الله سبحانه له «8» . * ودعا الله أن يعين أصحابه الذين توجهوا لقتل كعب بن الاشرف الذي آذى المسلمين فنجحوا في مهمتهم، رغم تحصنه وصعوبة النيل منه «9» .   (1) أخرجه ابن ماجه ك/ الأحكام ب/ تخيير الصبي بين أبوية، وأحمد في باقي مسند الأنصار من حديث أبي سلمة الأنصاري، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 41. (2) أخرجه الترمذي ك/ المناقب ب/ في مناقب عمر بن الخطاب، وابن ماجه ك/ المقدمة ب/ فضل عمر، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة والحاكم في المستدرك 3/ 574، وصححه الألباني في سنن الترمذي 3/ 204. (3) مصنف ابن أبي شيبة 6/ 423. (4) البخاري ك/ المغازي ب/ قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة: 25] . (5) المستدرك 2/ 144 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأحمد وأبو داود والبيهقي. (6) النسائي في السنن الكبرى 5/ 253، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الإصابة 1/ 490. (7) النسائي في السنن الكبرى 3/ 286. (8) ففي مسند أبي يعلى 12/ 338: فكانت في النساء كأنها ليست منهن لا تجد ما يجدن من الغيرة. (9) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ قتل كعب بن الأشرف، ومسلم ك/ الجهاد والسير ب/ قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 إلى غير ذلك من أنواع الدعوات لمن دعا لهم «1» . قصر كعب ابن الأشرف (ج) استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم على من دعا عليهم: وقد حصل ذلك في حوادث متعددة، فمن ذلك أنه دعا على الكفار حين رأى منهم إدبارا عن الحق، فقال: اللهم سبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع «2» .   (1) للاستزادة انظر دلائل النبوة لسعيد باشنفر 1/ 355- 480، 2/ 497- 536. (2) أخرجه البخاري ك/ الجمعة ب/ دعاء النبي أجعلها عليهم سنين كسنين يوسف، ومسلم ك/ صفة القيامة والجنة والنار ب/ الدخان، ورؤيتهم الدخان إما من بخار حرارة الأرض، أو لتخيلهم ذلك من شدة الجوع كما ذكره الحافظ ابن حجر في شرح الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 * ودعا على سبعة من قريش كانوا يهزؤن به وبالإسلام، فقال عبد الله بن مسعود إنه رآهم صرعى في قليب بدر «1» . * ودعا على عامر بن الطفيل «2» عندما هدد بغزو المدينة، فأصابته غدة «3» ومات على ظهر فرسه «4» . * ودعا على رجل تكبر وأبى أن يأكل بيمينه زاعما أنه لا يستطيع، فقال: لا استطعت!! فما رفعها إلى فيه «5» . وكان ابن أبي لهب يسب النبي صلى الله عليه وسلم فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: اللهم سلط عليه كلبك، فخرج إلى الشام تاجرا فنزل منزلا فقال: إني أخاف دعوة محمد، فطمأنه رفاقه وناموا حوله وجعلوه وسطهم، فجاء الأسد ودخل إليه قاصدا إياه فافترسه «6» . إلى غير ذلك من دعواته صلى الله عليه وسلم على من دعا عليهم «7» ، وإجابة دعواته على من كفر به شهادة من الله على صدق رسالته، وعلى أن الكفر به جريمة يستحق صاحبها العقوبة.   (1) أخرجه البخاري ك/ الوضوء ب/ إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه، ومسلم ك/ الجهاد والسير ب/ ما لقي النبي من أذى المشركين. والسبعة الذين دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هم: عمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد. (2) المستدرك 4/ 92. (3) الغدة: العقدة في الجسم يطيف بها الشحم. (4) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة الرجيع ورعل وذكوان ... (5) أخرجه مسلم ك/ الأشربة ب/ آداب الطعام والشراب وأحكامها، وأحمد في أول مسند المدنيين أجمعين من حديث سلمة بن الأكوع، والدارمي ك/ الأطعمة ب/ الأكل باليمين. (6) الحاكم في المستدرك 2/ 588، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه الحافظ في الفتح 4/ 39. (7) للاستزادة انظر دلائل النبوة لسعيد باشنفر 1/ 355- 480، 2/ 497- 536. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ولقد شهد المؤمنون والكافرون إجابة الله لدعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في خرق السنن المعتادة له، وفي إكرام من دعا لهم، وفي الانتقام ممن دعا عليهم، وكان ذلك سببا في قوة إيمان المؤمنين وفي إقناع المتشككين والكافرين برسالته، وحفظ جيل الصحابة تلك الوقائع بأسماء أصحابها وأماكنها وظروفها وأبلغوها إلى التابعين، وحملها التابعون عنهم إلى من بعدهم بتوثيق دقيق كما سبق بيانه. ويستحيل أن يتحقق ذلك التأييد من الله لمن يدعي الكذب عليه ويفتري دعوى الرسالة وليس بمرسل. خاتمة: وهكذا تشهد الخوارق للعادات والسنن الكونية التي جاء ذكرها في كتاب الله بأن محمدا هو رسول الله المصدق من الله بخرق السنن تأييدا له، كانشقاق القمر وحادثة الإسراء، ونصره له أثناء الهجرة، وفي غزوة بدر بإنزال المطر وإلقاء النعاس على أتباعه، وإنزال الملائكة للقتال معهم، وإرسال الريح على أعدائه والجنود التي لا ترى كما في غزوة الأحزاب، وغيرها من الحوادث. ولقد استفاضت الأخبار في زمن الصحابة بوقائع تأييد الله لرسوله بخرق العادات والسنن الكونية بما يعد شهادة من الله له وتصديقا لرسالته، وقد حفظ المسلمون هذه الوقائع في كتب الحديث بأدق مقاييس الحفظ والتوثيق التي لا تعرف البشرية لها مثيلا، مما جاء مفصلا لما ذكره القرآن من المعجزات أو التي انفردت بها السّنّة من الحوادث الكثيرة التي وقعت للرسول وأصحابه كحوادث تكثير الطعام القليل حتى يكفي حاجة المجموعات أو المئات أو الآلاف من أصحاب رسول الله في إقامتهم أو أثناء رحلاتهم وغزواتهم أو تعرض بعضهم لقلة الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وكحوادث نبع الماء من إناء صغير من بين أصابعه حين يضع يده فيه حتى يسقي منه جيش بأكمله، أو مباركة الماء في أوعيته أو منابعه. وكحوادث حفظ الله له من المتامرين عليه لقتله أو تسميمه، وشفاء الله لمن يدعو له من المرضى أو المصابين. وكحوادث استجابة الشجر لأمره، وحنين الجذع حزنا على فراقه. وشهادة الحيوان بنبوته، وتخاطب الحيوانات معه، وتسبيح الطعام بين يديه، وإضاءة العصا لبعض أصحابه، واستجابة الله لدعائه دون أن يخيبه، وتغيير الكثير من السنن له إجابة لدعوته ولمن دعا لهم أو دعا عليهم. وهذه الدلائل وأمثالها هي التي كانت سببا لزيادة الإيمان واليقين عند المسلمين كما كانت سببا في تحول الكفار من العداء الشديد والكراهية المستحكمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان به والحبّ له أكثر من حب الآباء والأبناء، وحملتهم على تقديم الأرواح والمهج للذبّ عنه ونشر دينه الذي بعث به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الفصل الخامس الوعد الحق * تمهيد. * الموت. * الحياة البرزخية. * فناء شامل. * البعث والنشور. * الحشر إلى الموقف. * طول الموقف والشفاعة لقيام الحساب. * الحساب والجزاء. * اقتصاص المظالم بين الخلق. * الميزان. * الحوض. * سوق الكفار إلى النار. * الصراط. * الجنة. * النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 تمهيد: لقد أيد الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بكثير من البينات والمعجزات التي تثبت صدق رسالته صلى الله عليه وآله وسلم حتى يطمئن الناس أنه لا ينطق عن الهوى وإنما يبلغ وحيا يوحى، وها نحن قد رأينا آيات الله سبحانه وتعالى، وعرفناها وعلمناها كما وعدنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها [النمل: 93] . قوله سبحانه: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) [الأنعام: 67] . وكما أخبرنا الله سبحانه عن هذه الآيات ورأيناها، فقد أخبر سبحانه عن المكان الذي سينتقل إليه الناس، والذي اطلع الله سبحانه وتعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عليه في رحلة الإسراء والمعراج حيث رأى من آيات ربه الكبرى، قال تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) [النجم: 18] حيث رأى الجنة وأهلها والنار وأهلها، وعندما كذبه قومه في رحلة الإسراء والمعراج، أقام الله الدليل له «1» فجاءنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا بما أخبره الله به من رضاه ونعيم جنته، ومنذرا عن غضبه والعذاب في ناره، وهذه من أهم وظائف الرسل، كما قال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) [النساء: 165] هيا بنا لنستمع خبر الخالق عن أحداث اليوم الآخر، وانقسام الناس في ذلك اليوم إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير. فكما رأينا تحقق البينات والمعجزات في الحياة الدنيا فسنرى تحقق ما وعد الله به من النعيم والعقاب، كما قال تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ   (1) انظر قصة الإسراء والمعراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) [الأعراف: 44] . ولنستمع خبر الرسول الذي رأى الجنة والنار، فنقل إلينا خبرهما، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. [النساء: 170] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الموت قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ* [الأنبياء: 35] . وقال تعالى: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] فالموت لا يرده عنك مال ولا بنون، ولا يرده علم ولا جاه، يقهر الملوك في قصورهم، ويأخذ الأطباء من مستشفياتهم، وينتزع الأغنياء والتجار من بين كنوزهم، ويأخذ أرواح الشباب والأطفال إذا جاءت آجالهم، ولكن المؤمن يستسلم لهذا القدر، ويعد نفسه لما بعده حتى يحيا الحياة الأبدية منعما في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. إن الله سبحانه وتعالى قد حدد للإنسان أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد، وقد كان هذا التحديد يوم أن نفخ فيه الروح وهو في بطن أمه، كما جاء في الحديث الشريف « ... ثمّ يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أم سعيد، ثمّ ينفخ فيه الرّوح» «1» . فالحياة الدنيا اختبار وابتلاء، وينتهي هذا الاختبار بخروج الروح من الجسد حيث ينتقل الإنسان من مرحلة الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية. تعريف الموت: الموت هو: مفارقة الروح للبدن، وانتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة.   (1) أخرجه البخاري ك/ بدء الخلق ب/ ذكر الملائكة واللفظ له، ومسلم/ ك/ القدر ب/ كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابه رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، والترمذي ك/ القدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ب/ ما جاء أن الأعمال بالخواتيم، وأبو داود ك/ السنة ب/ في القدر، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 421، وأحمد في مسنده 1/ 382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قال القرطبي: " قال العلماء: الموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف وإنما هو انقطاع تعانق الروح بالبدن، ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار" «1» . حال المؤمن وحال الكافر عند الموت: لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حال المؤمن وقت موته بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) [فصلت: 30] . وأما حال الكافر فكما قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) [الأنعام: 93] . عن البراء ابن عازب قال خرجنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولّما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله وكأنّ على رؤسنا الطّير وفي يده عود ينكت «2» في الأرض فرفع رأسه فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر مرّتين أو ثلاثا ثمّ قال إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدّنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السّماء بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشّمس معهم كفن من أكفان الجنّة وحنوط «3» من حنوط الجنّة حتّى يجلسوا منه مدّ البصر ثمّ يجيء ملك الموت عليه السّلام حتّى يجلس عند رأسه فيقول أيّتها النّفس الطّيّبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج   (1) كتاب التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ص 4، ط. ثانية دار الريان. (2) يضرب ضربا خفيفا. (3) عطر يطيب به الميت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 تسيل كما تسيل القطرة من في السّقاء «1» فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتّى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرّون يعني بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الرّوح الطّيّب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه الّتي كانوا يسمّونه بها في الدّنيا حتّى ينتهوا بها إلى السّماء الدّنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيّعه من كلّ سماء مقرّبوها إلى السّماء الّتي تليها حتّى ينتهى به إلى السّماء السّابعة فيقول الله عزّ وجلّ اكتبوا كتاب عبدي في علّيّين وأعيدوه إلى الأرض فإنّي منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ... قال وإنّ العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدّنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السّماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح «2» فيجلسون منه مدّ البصر ثمّ يجيء ملك الموت حتّى يجلس عند رأسه فيقول أيّتها النّفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال فتفرّق في جسده فينتزعها كما ينتزع السّفّود «3» من الصّوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتّى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الرّوح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه الّتي كان يسمّى بها في الدّنيا حتّى ينتهى به إلى السّماء الدّنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ فيقول الله عزّ وجلّ: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض   (1) وعاء يوضع فيه الشراب. (2) كساء من شعر يكون للتقشف وقهر البدن. (3) حديدة ذات شعب محقفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 السّفلى فتطرح روحه طرحا ثمّ قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ «1» .   (1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 287، 295- 296، وأبو داود ك/ السنة ب/ في المسألة في القبر وعذاب القبر، وأخرجه النسائي في الجنائز ب/ عذاب القبر، وأخرجه ابن ماجة في ما جاء في الجنائز ب/ ما جاء في الجلوس في المقابر وب/ ذكر القبر، والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 54، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: 1672، وصححه أبو نعيم وابن القيم وغيرهم كما ذكر ذلك الألباني في كتابه: الجنائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الحياة البرزخية إن الإنسان إذا توفي يكون بذلك قد انتقل إلى مرحلة أخرى من مراحل الحياة هي: مرحلة الحياة البرزخية وهي: الحياة التي يقضيها بعد الموت إلى قيام الساعة حين يبعث الله الناس لتوفية الحساب. قال تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) [المؤمنون: 99- 100] . فالقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيجلس الرّجل الصّالح في قبره غير فزع ولا مشعوف ... ويجلس الرّجل السّوء في قبره فزعا مشعوفا ... » «1» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربّك فيقول ربّي الله فيقولان له ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرّجل الّذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقولان له وما علمك فيقول قرأت كتاب الله فامنت به وصدّقت فينادي مناد في السّماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنّة وألبسوه من الجنّة وافتحوا له بابا إلى الجنّة قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثّياب طيّب الرّيح فيقول أبشر بالّذي يسرّك هذا يومك الّذي كنت توعد فيقول له من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير   (1) ابن ماجه ك/ الزهد ب: ذكر القبر والبلى، وأورده الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 3443 وصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فيقول أنا عملك الصّالح فيقول: ربّ أقم السّاعة حتّى أرجع إلى أهلي ومالي ... فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربّك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما هذا الرّجل الّذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السّماء أن كذب فافرشوا له من النّار وافتحوا له بابا إلى النّار فيأتيه من حرّها وسمومها ويضيّق عليه قبره حتّى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثّياب منتن الرّيح فيقول أبشر بالّذي يسوؤك هذا يومك الّذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشّرّ، فيقول أنا عملك الخبيث فيقول ربّ لا تقم السّاعة» «1» .   (1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 287، 295- 296، وأبو داود ك/ السنة ب/ في المسألة في القبر وعذاب القبر، وأخرجه النسائي في الجنائز ب/ عذاب القبر، وأخرجه ابن ماجة في ما جاء في الجنائز ب/ ما جاء في الجلوس في المقابر وب/ ذكر القبر، والحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 54، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: 1672، وصححه أبو نعيم وابن القيم وغيرهم كما ذكر ذلك الألباني في كتابه: الجنائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فناء شامل هذا الكون المألوف لدينا والمأهول بالحياة والأحياء ممن نشاهدهم وممن لا نشاهدهم سيبقى منتظما إلى أن يأتي اليوم الذي يختل فيه نظامه، ويفنى جميع ما فيه ولا يبقى إلا الله سبحانه وتعالى مالك الكون الجبار القاهر سبحانه. قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. [الرحمن: 26- 27] . فعند النفخ في الصور تنتهي الحياة في الأرض والسماء، قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] . وهذه النفخة شديدة مدمرة يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشيء، ولا يقدر على العودة إلى أهله، قال تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) . [يس: 49- 50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 البعث والنشور بعد أن يفني الله سبحانه وتعالى جميع المخلوقات ولا يبقى إلا وجهه الكريم، يبعث الله العباد للحساب والبعث هو المعاد الجسماني، وإحياء العباد في يوم المعاد والنشور، وقد حدثنا الحق تبارك وتعالى عن مشهد البعث، فقال سبحانه وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) [يس: 51- 53] . ويركب الإنسان في اليوم الآخر من عجب الذنب عند ما ينزل الله مطرا، فينمو كالبقل، فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( ... ثمّ ينزل الله من السّماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظاما واحدا وهو عجب الذّنب ومنه يركّب الخلق يوم القيامة) «1» . «2» .   (1) أخرجه البخاري ك/ تفسير القرآن ب/ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا، ومسلم ك/ الفتن وأشراط الساعة ب/ ما بين النفختين. (2) انظر بحث عجب الذنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الحشر إلى الموقف يجمع الله العباد جميعا يوم الحشر، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) [الواقعة: 49- 50] . وقال تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 47] . ويحشر الله العباد حفاة عراة غرلا أي غير مختونين فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنّكم محشورون حفاة عراة غرلا) «1» ثم قرأ: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) . [الأنبياء: 104] . وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر النّاس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النّقيّ ليس فيها علم «2» لأحد) «3» .   (1) أخرجه البخاري ك/ أحاديث الأنبياء ب/ قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا واللفظ له، ومسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها وأهلها ب/ فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة. (2) علامة سكنى أو بناء أو أثر. (3) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ يقبض الله الأرض يوم القيامة، ومسلم ك/ صفة القيامة والجنة والنار ب/ في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 طول الموقف والشفاعة لقيام الحساب بعد أن يطول قيام الناس في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ويشتد كربهم وبلاؤهم في الموقف العظيم، يبحث العباد عن أصحاب المنازل العالية ليشفعوا لهم عند ربهم، لفصل الحساب، وتخليص الناس من كربات الموقف وأهواله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة ماج النّاس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذرّيّتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السّلام فإنّه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى عليه السّلام فإنّه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السّلام فإنّه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمّد صلى الله عليه وسلم فأوتى فأقول أنا لها فأنطلق فأستأذن على ربّي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله ثمّ أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفّع ... ) «1» .   (1) أخرجه البخاري ك/ التوحيد ب/ كلام الرب عز وجل يوم القيامة، ومسلم ك/ الإيمان ب/ أدنى أهل الجنة منزلة فيها واللفظ له عن أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الحساب والجزاء بعد أن يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لقيام الحساب ويأذن الله تعالى بذلك. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن مشهد الحساب والجزاء وأنه سيوقف الناس للسؤال عما كانوا يعملون في الحياة الدنيا. فقال سبحانه وتعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) [الصافات: 24] . وقال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) . [الحجر: 92- 93] . وأنه يقضي بينهم بالحق ولا يظلم أحدا. قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) [الزمر: 69] . وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) [آل عمران: 25] . ومن إعذار الله لخلقه وعدله فيهم أن يعطيهم كتب أعمالهم التي سجلتها الملائكة عليهم في الدنيا فيقرأونها ويقال لهم: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) [الإسراء: 14] . فتمتلئ صدور المجرمين حسرة وندما عند معاينة أعمالهم في كتبهم يوم الحساب. قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) [الكهف: 49] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 اقتصاص المظالم بين الخلق يقتص الحكم العدل في يوم القيامة للمظلوم من ظالمه، حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة، حتى الحيوان يقتص لبعضه من بعض. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يقاد للشّاة الجلحاء من الشّاة القرناء) «1» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من ضرب بسوط ظلما، اقتص منه يوم القيامة» «2» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال إنّ المفلس من أمّتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل ما لهذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثمّ طرح في النّار) «3» .   (1) صحيح مسلم ك/ البر والصلة والآداب ب/ تحريم الظلم. (2) صحيح الجامع الصغير 2/ 1090 برقم 6374 ط 1 المكتب الإسلامي. (3) مسلم ك/ البر والصلة والآداب ب/ تحريم الظلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الميزان في ختام ذلك اليوم ينصب الميزان لوزن أعمال العباد، فقد روى الحاكم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لو سعت فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ... » «1» . وهو ميزان دقيق، لا يزيد، ولا ينقص، تظهر فيه مقادير الأعمال يكون الجزاء بحسبها قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) [الأنبياء: 47] . فمن ثقلت موازينه يكون في عيشة طيبة راضية، ومن خفت موازينه فهو في جهنم. قال تعالى فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) [القارعة: 6- 11] .   (1) سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 656 برقم 941. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الحوض يكرم الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في الموقف العظيم بإعطائه حوضا ترد عليه أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللّبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السّماء من شرب منها فلا يظمأ أبدا) «1» .   (1) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ في الحوض واللفظ له، ومسلم ك/ الفضائل ب/ إثبات حوض نبينا وصفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 سوق الكفار إلى النار ومن أرض المحشر يسوق الله تعالى الكفار بعد الحساب إلى نار جهنم، قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً [الزمر: 71] . وقال تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) [الطور: 13] . كما بينت نصوص أخرى أنهم يحشرون إلى النار على وجوههم، لا كما كانوا يمشون في الدنيا على أرجلهم. قال تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) [الفرقان: 34] . وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «أليس الّذي أمشاه على رجليه في الدّنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» قال قتادة: بلى وعزّة ربّنا) «1» .   (1) رواه البخاري ك/ الرقاق، ب/ الحشر ومسلم ك/ صفة القيامة والجنة والنار ب/ يحشر الكافر على وجهه واللفظ لمسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الصراط وبعد أن يذهب الله بالكفرة الملحدين والمشركين الضالين إلى دار البوار وبئس القرار يبقى في عرصات القيامة أتباع الرسل الموحدون وفيهم أهل الذنوب والمعاصي وأهل النفاق ويكون في الظلمة دون الجسر ففي الحديث عن أبي الزبير أنه سأل جابرا عن الورود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن يوم القيامة على كوم فوق النّاس فيدعى بالأمم وبأوثانها وما كانت تعبد الأوّل فالأوّل ثمّ يأتينا ربّنا عزّ وجلّ بعد ذلك فيقول ما تنتظرون فيقولون ننتظر ربّنا عزّ وجلّ فيقول أنا ربّكم فيقولون حتّى ننظر إليه قال فيتجلّى لهم عزّ وجلّ وهو يضحك ويعطي كلّ إنسان منهم منافق ومؤمن نورا وتغشاه ظلمة ثمّ يتّبعونه معهم المنافقون على جسر جهنّم فيه كلاليب وحسك يأخذون من شاء ثمّ يطفأ نور المنافقين وينجو المؤمنون فتنجو أوّل زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون ثمّ الّذين يلونهم كأضوأ نجم في السّماء ثمّ ذلك حتّى تحلّ الشّفاعة فيشفعون حتّى يخرج من قال لا إله إلا الله ممّن في قلبه ميزان شعيرة فيجعل بفناء الجنّة ويجعل أهل الجنّة يهريقون عليهم من الماء حتّى ينبتون نبات الشّيء في السّيل ويذهب حرقهم ثمّ يسأل الله عزّ وجلّ حتّى يجعل له الدّنيا وعشرة أمثالها» «1» . وذكر مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه، ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم- قيل: يا رسول الله وما الجسر؟، قال: (دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك   (1) أخرجه مسلم ك/ الإيمان ب/ أدنى أهل الجنة منزلة، وأحمد في باقي مسند المكثرين من حديث جابر بن عبد الله واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السّعدان فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالرّيح وكالطّير وكأجاويد الخيل والرّكاب فناج مسلّم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنّم ... ) «1» . وفي مسلم أيضا (ويضرب الصّراط بين ظهري جهنّم فأكون أنا وأمّتي أوّل من يجيز ولا يتكلّم يومئذ إلا الرّسل ودعوى الرّسل يومئذ اللهمّ سلّم سلّم) «2» .   (1) مسلم ك/ الإيمان ب/ معرفة طريق الرؤية. (2) مسلم ك/ الإيمان ب/ معرفة طريق الرؤية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الجنة [1] خلق الجنة: الجنة مخلوقة، وقد دل على ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) [النجم: 13- 15] . وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك في قصة الإسراء وفي آخره قال: (ثمّ انطلق بي جبريل حتّى نأتي سدرة المنتهى «1» فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال ثمّ أدخلت الجنّة فإذا فيها جنابذ «2» اللّؤلؤ وإذا ترابها المسك) «3» فالجنة مخلوقة موجودة في السماء عند سدرة المنتهى. زار النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، ورآها، ودخلها، ووصف جنابذها وتربتها، وقد بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في موقف آخر أنه رأى كل شيء وعد الناس به في الدار الآخرة، ورأى قطفا من الجنة، فقصرت يده عن تناوله، فدل ذلك على حقيقة وجود الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ( ... لقد رأيت في مقامي هذا كلّ شيء وعدته حتّى لقد رأيت أريد أن آخذ قطفا من الجنّة حين رأيتموني جعلت أتقدّم ولقد رأيت جهنّم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخّرت ورأيت فيها عمرو بن   (1) سدرة المنتهى: قيل هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر وورقها كأذان الفيلة. انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما جاء في صفة ثمار أهل الجنة. (2) الجنابذ: جمع جنبذ بضم الجيم والباء، وهو البناء المرتفع المستدير من كل شيء كالجلنار بضم الجيم وفتح اللام المشددة وهو: زهر الرمان وغيره انظر القاموس المحيط 1/ 523. (3) أخرجه البخاري ك/ الصلاة ب/ كيف فرضت الصلوات في الإسراء، ومسلم ك/ الإيمان ب/ الإسراء بالرسول إلى السموات وفرض الصلوات، واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 لحيّ وهو الّذي سيّب السّوائب «1» ) «2» . فتأمل يا عبد الله سعة الجنة وعظمها، فقد بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) [آل عمران: 133] . الشوكاني: ذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة «3» . وقال صلى الله عليه وآله وسلم في آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة ( ... إنّ لك مثل الدّنيا عشر مرار) «4» . فإذا كان أقلهم منزلة في الجنة من له مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فكيف يكون ملك أعلاهم منزلة؟! فتصور سعة الجنة وعظمها!!. [2] الجنة دار النعيم: الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله لعباده المؤمنين، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا (108) [الكهف: 107- 108] . وقال تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61] . وقال تعالى في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين   (1) السائبة: ما أطلق من الدواب للآلهة والأصنام فلا يحمل عليها. (2) أخرجه البخاري ك/ العمل في الصلاة ب/ إذا انفلتت الدابة في الصلاة. (3) فتح القدير 1/ 495 ط. مؤسسة الريان. (4) أخرجه البخاري ك/ التوحيد ب/ كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرؤا إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] «1» ) . فدخول الجنة والنجاة من النار هو الفلاح العظيم والفوز الكبير، والنجاة العظمى. قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ. [آل عمران: 185] . وقال تعالى أيضا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة: 72] . قال عز من قائل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء: 13] . فنعيم الجنة يفوق الوصف، ويقصر دونه الخيال ليس لنعيمها نظير فيما يعلمه أهل الدنيا. قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة: 17] . صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى: (أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) «2» . [3] إنها جنان: قال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) [الرحمن: 46] .   (1) رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة في ك/ بدء الخلق، ب/ ما جاء في صفة الجنة فتح الباري 6/ 318 ورقم الحديث 3244 وهو عن أبي هريرة. (2) البخاري ك/ بدء الخلق ب/ ما جاء في صفة الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وقال تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) [الرحمن: 62] . وعن أنس بن مالك أنّ أمّ الرّبيّع بنت البراء وهي أمّ حارثة بن سراقة أتت النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: يا نبيّ الله، ألا تحدّثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب «1» فإن كان في الجنّة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت «2» عليه في البكاء قال: «يا أمّ حارثة إنّها جنان في الجنّة وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى» «3» . وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن) «4» . [4] التهيئة ل دخول الجنة: بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون، وذلك بأن يقتص بعضهم من بعض إذا كانت بينهم مظالم في الدنيا. حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهارا أبرارا، ليس لأحد عند الآخر مظلمة، ولا يطلب بعضهم بعضا بشيء. روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله   (1) أصابه بالخطأ والغرب هو: السهم الذي لا يدرى راميه. (2) قال ابن حجر في الفتح عند شرح هذا الحديث: كان ذلك قبل تحريم النوح. فلا دلالة فيه (أي على جواز النوح) فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر. (3) أخرجه البخاري ك/ الجهاد والسير ب/ من أتاه سهم غرب فقتله. (4) أخرجه البخاري ك/ التفسير ب/ قوله (ومن دونهما جنتان) ومسلم ك/ الإيمان ب/ إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة، واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النّار فيحبسون على قنطرة بين الجنّة والنّار فيقصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدّنيا حتّى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنّة فو الّذي نفس محمّد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنّة منه بمنزله كان في الدّنيا) «1» ، وقال تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) [الحجر: 47] . [5] دخول الجنة: (أ) سوق وفد الرحمن إلى الجنة: قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: 73] . وقال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) [مريم: 85] . قال ابن عباس وفدا: ركبانا «2» . ونقل الطبري في تفسيره عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: (أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم- ولكنهم يأتون بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحال «3» الذهب وأزمتها الزبرجد ويركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة) «4» . (ب) ريح الجنة: ويسير وفد الرحمن إلى الجنة زمرا، فيجدون رائحة الجنة العبقة الزكية التي تفوح من مسيرة سبعين عاما، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( ... وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما) «5» .   (1) صحيح البخاري ك/ الرقاق ب/ القصاص يوم القيامة. (2) تفسير ابن كثير. (3) الرحال جمع رحل، وهو مسكن الرجل وما يستصحبه من أثاث، وهو أيضا رحل البعير وهو أصغر من القتب. انظر مختار الصحاح 237. (4) تفسير الطبري عند الآية الكريمة. (5) أخرجه الترمذي ك/ الديات ب/ ما جاء فيمن يقتل نفسا معاهده، وابن ماجه ك/ الديات ب/ من قتل معاهدا، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 57- 58 برقم 1132، وقد وردت أحاديث أخرى أن رائحة الجنة تشم من مسافات مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 (ج) أبواب الجنة: ويصل وفد الرحمن إلى أبواب الجنة، فينتهي ما سلف في الأيام الخالية من تعب ومكابدة وصبر ومصابرة وحساب وعرض، فيروا أبواب الجنة الثمانية. قال تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) [ص: 50] . قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) [الرعد: 23- 24] . وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (في الجنّة ثمانية أبواب فيها باب يسمّى الرّيّان لا يدخله إلا الصّائمون) «1» . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضّأ فيبلغ أو فيسبغ «2» الوضوء ثمّ يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنّة الثّمانية يدخل من أيّها شاء) «3» . وأبواب الجنة الثمانية لها مصاريع عظيمة، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين مصراعيها بقوله: (والّذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة لكما بين مكّة وهجر «4» أو كما بين مكّة وبصرى «5» » «6» .   (1) البخاري ك/ بدء الخلق ب/ صفة أبواب الجنة. (2) فيسبغ الوضوء: أي يتم ويكمل ويحسن الوضوء. (3) مسلم ك/ الطهارة ب/ الذكر المستحب عقب الوضوء. (4) هجر: مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين، شرح النووي عند هذا الحديث. (5) بصرى: هي مدينة حوران بينها وبين مكة شهر، شرح النووي لصحيح مسلم. (6) أخرجه البخاري ك/ تفسير القرآن ب/ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً، ومسلم ك/ الإيمان ب/ أدنى أهل الجنة منزلة واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وقال صلى الله عليه وسلم: ( ... وليأتينّ عليه يوم وإنّه لكظيظ «1» » «2» . والباب الأيمن من أبواب الجنة خاص بالذين يدخلون الجنة بغير حساب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ... فأقول أمّتي يا ربّ أمّتي يا ربّ أمّتي يا ربّ فيقال يا محمّد أدخل من أمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب ... ) «3» . [6] أول من يدخل الجنة: ويصل وفد الرحمن إلى أبواب الجنة، ويحين دخولهم إليها، فيستفتح سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم، ويقرع باب الجنة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (آتي باب الجنّة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمّد فيقول بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك) «4» . فتفتح أبواب الجنة لوفد الرحمن، قال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] . يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول الداخلين إلى الجنة وأمته أول الأمم دخولا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن الآخرون «5» الأوّلون يوم القيامة ونحن أوّل من يدخل الجنّة ... ) «6» .   (1) لكظيظ: أي ممتلئ. (2) أخرجه أحمد في أول مسند البصريين من حديث بهز بن حكيم برقم 19176، وقال عنه محققو المسند إسناده حسن 33/ 228 برقم 20025. (3) أخرجه البخاري ك/ تفسير القرآن ب/ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. (4) مسلم ك/ الإيمان ب/ في قول النبي «أنا أول الناس يشفع في الجنة» . (5) نحن الآخرون أي في ترتيب الأمم في الدنيا. (6) أخرجه مسلم ك/ الجمعة ب/ هداية هذه الأمة ليوم الجمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ويتقدم أمة محمد صلى الله عليه وسلم السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عرضت عليّ الأمم فأخذ النّبيّ يمرّ معه الأمّة والنّبيّ يمرّ معه النّفر والنّبيّ يمرّ معه العشرة والنّبيّ يمرّ معه الخمسة والنّبيّ يمرّ وحده فنظرت فإذا سواد كثير قلت يا جبريل هؤلاء أمّتي قال لا ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد كثير قال هؤلاء أمّتك وهؤلاء سبعون ألفا قدّامهم لا حساب عليهم ولا عذاب قلت ولم؟، قال كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون فقام إليه عكّاشة بن محصن فقال ادع الله أن يجعلني منهم قال اللهمّ اجعله منهم ثمّ قام إليه رجل آخر قال ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكّاشة) «1» . وبعد ذكر السبعين الألف ذكرت رواية أخرى أن معهم ثلاث حثيات من حثيات ربي قال صلى الله عليه وسلم: ( ... وثلاث حثيات «2» من حثيات ربّي عزّ وجلّ) «3» أي يدخلون الجنة بغير حساب. وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم صورة أول زمرة تدخل الجنة بقوله صلى الله عليه وسلم: (أوّل زمرة «4» تلج «5» الجنّة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوّطون، آنيتهم فيها الذّهب، أمشاطهم من   (1) البخاري ك/ الرقاق ب/ يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب. (2) الحثو: الأخذ بملء الكفين. (3) أخرجه أحمد 5/ 268 والترمذي ك/ صفة القيامة وابن ماجه ك/ الزهد ب/ صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم 3459. (4) الزمرة: الجماعة. (5) تلج: الولوج الدخول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الذّهب والفضّة ومجامرهم «1» الألوّة «2» ورشحهم «3» المسك ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخّ سوقهما من وراء اللّحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد يسبّحون الله بكرة وعشيّا) «4» . [7] استقبال الملائكة: تستقبل الملائكة وفد الرحمن بعد أن فتحت الأبواب بالتسليم والتبشير لهم بالحياة الطيبة، والخلود في الجنة، قال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) [الزمر: 73] . وتتلقاهم الملائكة وتبشرهم وتهنئهم بأنهم قد وجدوا ما كان يعدهم ربهم به في الدنيا من الثواب والنعيم. قال تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. [الأنبياء: 103] . [8] ما يضيفون به عند دخولهم: ويكرم الله سبحانه وتعالى وفده بهدية هي زيادة كبد النون، ثم ينحر لهم ثور الجنة، ويشربون من عين سلسبيل. قال صلى الله عليه وسلم عندما سأله حبر من أحبار اليهود عن تحفة «5» أهل الجنة إذا   (1) مجامرهم: مباخرهم. (2) الألوة: عود يتبخر به. (3) الرشح: العرق. (4) رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق ب/ ما جاء في صفة الجنة ومسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها وأهلها ب/ أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر واللفظ للبخاري. (5) ما يهدى إلى الرجل ويخص به ويلاطف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 دخلوها فقال: (زيادة كبد النّون «1» قال فما غذاؤهم على إثرها؟ «2» قال ينحر لهم ثورا الجنّة الّذي كان يأكل من أطرافها قال فما شرابهم عليه؟ قال من عين فيها تسمّى سلسبيلا) «3» . [9] اهتداؤهم إلى منازلهم: ويهتدي وفد الرحمن إلى بيوتهم ومساكنهم بعد إتحاف الله لهم بزيادة كبد الحوت فلا يخطئون في الوصول إليها، بل هم أهدى إليها من مساكنهم التي كانت في الدنيا. قال تعالى: وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) [محمد: 6] . قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا «4» . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ... فو الّذي نفس محمّد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنّة أدلّ بمنزله كان في الدّنيا «5» ) «6» . أوصاف الجنة: ويشاهد أهل الجنة ما أعد الخالق سبحانه لهم مما لم تر أعينهم قبل ذلك،   (1) النون: الحوت. (2) إثرها: خلفها. (3) أخرجه مسلم ك/ الحيض ب/ صفة مني الرجل والمرأة. (4) تفسير ابن كثير. (5) أخرجه البخاري ك/ المظالم ب/ قصاص المظالم. (6) لقد تمكن الإنسان اليوم أن يضع برنامجا للطائرات لتطير بركابها آليا من قارة إلى قارة لتنزل في مدرج المطار المحدد لها، كما أن طائرات التجسس بدون طيار تطير من قواعدها وتعمل في الأهداف المحددة وتعود إلى أماكنها المرسومة لها فكيف يعجب الناس من قدرة الخالق العظيم الذي يلهم كل شخص للاهتداء إلى منزله في الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ولم تسمع آذانهم، ولم يخطر على قلوبهم، فنعيم الجنة يفوق الوصف، ويقصر دونه الخيال ليس لنعيمها نظير فيما يعلمه أهل الدنيا، قال تعالى فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة: 17] . وقال صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: (أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرؤا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] «1» . فهيا بنا لنتأمل مع أهل الجنة في: [1] درجات الجنة: فالجنة درجات، بعضها فوق بعض، وأهلها متفاوتون فيها بحسب منازلهم فيها، قال تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) [طه: 75] . وينظرون إلى المائة درجة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ... في الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين الأرض والسّماء والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجّر أنهار الجنّة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس) «2» . وقال: (إنّ أهل الجنّة يتراؤن أهل الغرف من فوقهم كما يتراؤن الكوكب الدّرّيّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والّذي نفسي بيده   (1) البخاري ك/ بدء الخلق ب/ ما جاء في صفة الجنة. (2) البخاري ك/ الجهاد ب/ درجات المجاهدين في سبيل الله والترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما جاء في صفة درجات الجنة واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين) «1» . ويمكن لكل أحد أن يرتقي في هذه الدرجات بعمله الصالح وبدعاء واستغفار ولده الصالح له بعد موته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله عزّ وجلّ ليرفع الدّرجة للعبد الصّالح في الجنّة فيقول يا ربّ أنّي لي هذه فيقول باستغفار ولدك لك) وفي رواية: (بدعاء ولدك لك) «2» . [2] أعلى منزلة في الجنة: هي الوسيلة التي كان يسألها المؤمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرا ثمّ سلوا الله لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشّفاعة) «3» . وقد سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين: وما الوسيلة؟ (قال أعلى درجة في الجنّة ... ) «4» .   (1) البخاري ك/ بدء الخلق ب/ صفة الجنة والنار، مسلم ك/ الجنة ب/ ترائي أهل الجنة أهل الغرف. (2) أخرجه أحمد في المسند في باقي مسند المكثرين من حديث أبي هريرة برقم 10202 وذكره الهيثمي 10/ 153 ورواه البزار ورجاله رجال عاصم بن بهدله وهو حسن الحديث وابن ماجه ك/ الأدب ب/ بر الوالدين وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 294 وقال رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن بهدله وقد وثقه والبيهقي 7/ 79 في السنن الكبرى، ومالك في الموطأ ك/ النداء للصلاة ب/ العمل في الدعاء. (3) أخرجه مسلم في الصلاة ب/ استحباب القول مثل قول المؤذن وأبو داود برقم 2523 في الصلاة. (4) أخرجه الترمذي ك/ المناقب ب/ في فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحمد في باقي مسند المكثرين من حديث أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 2857. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 [3] لبنات الجنة: وينظرون إلى بناء الجنة الذي قال عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه: (لبنة من فضة ولبنة من ذهب ... ) «1» . ويشاهدون ملاطها «2» الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (وملاطها المسك الأذفر) «3» . [4] تربة الجنة وطينتها وحصباؤها: وإذا نظر أهل الجنة إلى أرض الجنة التي يمشون عليها فإذا هي كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أدخلت الجنّة فإذا فيها جنابذ اللّؤلؤ وإذا ترابها المسك) «4» . وبين الرسول أن تربتها كالدقيق الخالص البياض، فقال: (درمكة «5» بيضاء مسك خالص) «6» . وقال صلى الله عليه وسلم: (وملاطها المسك الأذفر «7» وحصباؤها اللّؤلؤ والياقوت) «8» .   (1) أخرجه الترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، وأحمد في باقي مسند المكثرين من حديث أبي هريرة، والدارمي ك/ الرقاق ب/ في بناء الجنة، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 310- 311 برقم 2050. (2) ملاطها: ما يوضع بين الأحجار في البناء. (3) الترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، وأحمد في باقي مسند المكثرين عن أبي هريرة، والدارمي ك/ الرقاق ب/ في بناء الجنة وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 310 برقم 2050. (4) أخرجه البخاري ك/ أحاديث الأنبياء ب/ ذكر إدريس وهو جد أبي نوح ويقال جد نوح. (5) الدرمكة: هي الدقيق الخالص البياض. (6) مسلم ك/ الفتن وأشراط الساعة ب/ ذكر ابن صياد برقم 5213. (7) الأذفر: الطيب الريح. (8) الترمذي ك/ صفة الجنة عن رسول الله ب/ ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، وأحمد في باقي مسند المكثرين عن أبي هريرة، والدارمي ك/ الرقاق ب/ في بناء الجنة، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 310 برقم 2050. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 [5] مساكن الجنة: ويطلع أهل الجنة على ما بني لهم في الجنة من مساكن طيبة حسنة كما قال تعالى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ [التوبة: 72] ، تحيط بها الحدائق الغدقة والبساتين النضرة التي فيها من كل الثمرات، وأشجارها دائمة الثمر والظل يحيط بالمساكن التي تجري من تحتها الأنهار، والتي لا يسمع فيها لغو ولا تأثيم، وليس فيها نصب ولا صخب، فيشاهد أهل الجنة ما وصف الله ورسوله لهم من: (أ) غرف الجنة: قال تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) [الزمر: 20] . وقال تعالى: فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37] . وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ في الجنّة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إليه أعرابيّ فقال لمن هي يا رسول الله؟ قال هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطّعام وأدام الصّيام وصلّى لله بالللّيل والنّاس نيام) «1» . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أهل الجنّة يتراؤن أهل الغرف من فوقهم كما يتراؤن الكوكب الدّرّيّ الغابر في الأفق ... ) «2» .   (1) أخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب ك/ البر والصلة عن رسول الله ب/ ما جاء في قول المعروف وهو في صحيح الجامع الصغير 1/ 426 برقم 2123 وقال الألباني حديث حسن. (2) أخرجه البخاري ك/ بدء الخلق ب/ صفة الجنة ومسلم ك/ الجنة ب/ ترائي أهل الجنة عن أبي سعيد رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 (ب) بيوت الجنة: وتتحقق رؤيتهم لما بني لهم من البيوت بما قدموا في الدنيا من الأعمال الصالحة كبناء المساجد، وصلاة النوافل بعد أداء الفرائض، فقد قال تعالى: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم: 11] . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنّة مثله) «1» . وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد مسلم يصلّي لله كلّ يوم ثنتي عشرة ركعة تطوّعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنّة) «2» . (ج) قصور الجنة: وتظهر قصور الجنة الذهبية التي يذهب رونقها وجمالها كل جمال ورونق لقصور الدنيا التي كان يتباهى بها أهلها. تلك القصور التي جعلها سبحانه وتعالى لمن أطاعه، قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) [الفرقان: 10] . القصور التي يراها المؤمنون رأي العين بعد أن كانوا يؤمنون بها بالغيب، قال عبد الله بن بريدة قال سمعت أبا بريدة يقول أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالا فقال: (يا بلال بم سبقتني إلى الجنّة ما دخلت الجنّة قطّ إلا سمعت خشخشتك أمامي إنّي دخلت البارحة الجنّة فسمعت خشخشتك فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف ... ) «3» .   (1) أخرجه مسلم ك/ المساجد ب/ فضل بناء المساجد والحث عليها. (2) أخرجه مسلم ك/ صلاة المسافرين وقصرها ب/ فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وأحمد وأبو داود والنسائي. (3) أخرجه البخاري ك/ التعبير ب/ القصر في المنام، وأحمد في باقي مسند الأنصار من حديث أبي بريدة الأسلمي رضي الله عنه، واللفظ لأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 [د] خيام الجنة: النفس البشرية تشتهي التنويع والتغيير، فتشتهي ألا تبقى على مسكن واحد، بل تريد أن تدخل البيوت والقصور والخيام، والله سبحانه أشبع رغبات المؤمن في الجنة، فجعل له أصناف الماكل والمشارب، وكذلك أصناف البيوت والمساكن، ومن ذلك: الخيام التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنّ للمؤمن في الجنّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوّفة طولها ستّون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا) «1» . ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم عرضها، فقال: ( ... عرضها ستّون ميلا ... ) «2» . ولزيادة متعة المؤمن في الجنة جعل الله خيام اللؤلؤ على حافتي النهر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (دخلت الجنّة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللّؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الّذي أعطاكه الله) «3» . (هـ) أنهار الجنة: ولنتجول مع أهل الجنة بين أنهارها، وتمتع النفس بذلك النعيم الدائم المقيم الذي بشر الله به عباده المتقين، فقال سبحانه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) [البقرة: 25] .   (1) مسلم ك/ الجنة ب/ في صفة خيام الجنة. (2) أخرجه البخاري ك/ تفسير القرآن ب/ (حور مقصورات في الخيام) . (3) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين من حديث أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وقال تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) [الكهف: 31] ، وهذا نهر الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) . [الكوثر: 1] . وقد رآه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحدثنا عنه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما أنا أسير في الجنّة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدّرّ المجوّف قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الّذي أعطاك ربّك فإذا طينه مسك أذفر) «1» . وهذه أنهار الجنة الأربعة من الماء واللبن والخمر والعسل المصفى، قال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) [محمد: 15] . وهذه الأنهار تنشق من بحر العسل والخمر والماء واللبن. ففي سنن الترمذي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ في الجنّة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللّبن وبحر الخمر ثمّ تشقّق الأنهار بعد) «2» . (و) عيون الجنة: وانظر أخي المؤمن إلى عيون الجنة الكثيرة النضاخة المختلفة الطعوم والمشارب   (1) أخرجه البخاري ك/ الرقائق ب/ في الحوض. (2) أخرجه الترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما جاء في صفة أنهار الجنة، وأحمد في أول مسند البصريين من حديث معاوية بن حيدة وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 319 برقم 2078. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 كعين الكافور والتسنيم والسلسبيل التي يشرب منها المقربون. قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) [الذاريات: 15] . وقال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) [الإنسان: 5- 6] . وقال تعالى: وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) [الإنسان: 17- 18] . وقال تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) [المطففين: 27: 28] . (ز) أشجار الجنة وثمارها: وقد زين الله الجنة بأنواع الأشجار والثمار اليانعة والروضات المتفتحة التي تدخل السرور والحبور، قال تعالى: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم: 15] وقد أخبرنا الحق أن في الجنة أشجار العنب والنخل والرمان، كما فيها أشجار السدر «1» والطلح «2» قال تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) [النبأ: 31: 32] . وقال تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) [الواقعة: 27- 29] . وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يجعل مكان كل شوكة في شجرة الطلح ثمرة،   (1) السدر هو شجر النبق الشائك لكنه في الجنة منزوع شوكه. (2) والطلح شجر من أشجار الحجاز من نوع العضاه فيه شوك لكنه في الجنة منضود معد للتناول بلا كدّ ولا مشقه، انظر الجنة والنار للأشقر ص 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فيها سبعون لونا من ألوان الطعام «1» . وفي الجنة من أنواع الثمار والنعيم كل ما تشتهيه النفوس وتلذ العيون، قال تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) [ص: 51] . وقال تعالى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) [الواقعة: 20] . وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) [المرسلات: 41] . وأشجار الجنة دائمة العطاء، قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) [الرعد: 35] . قال تعالى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) [الواقعة: 32: 33] . قال صلى الله عليه وسلم: (ما في الجنّة شجرة إلا وساقها من ذهب) «2» . وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ في الجنّة لشجرة يسير الرّاكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها) «3» . وفي مسند احمد عن أبي سعيد الخدري عندما سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم،   (1) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 518 ط دار الكتب العلمية وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ولفظه تفتق عن اثنين وسبعين لونا ما منها لون يشبه الآخر) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح 10/ 414. (2) أخرجه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما جاء في صفة شجر الجنة. (3) أخرجه البخاري ك/ بدء الخلق ب/ ما جاء في صفة الجنة واللفظ له، ومسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها ب/ إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ما طوبى، قال: (شجرة في الجنّة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنّة تخرج من أكمامها) «1» . والمؤمن يكثر من غرس أشجار جنته بكثرة التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمّد أقرئ أمّتك منّي السّلام وأخبرهم أنّ الجنّة طيّبة التّربة عذبة الماء وأنّها قيعان وأنّ غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) «2» . وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الرجل إذا نزع ثمرة من الجنّة عادت مكانها أخرى) «3» . ومن لطائف ما يجده أهل الجنة عند ما تأتيهم ثمارها أنهم يجدونها تتشابه في المظهر، ولكنها تختلف في المخبر، قال تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 25] . وثمار أشجار الجنة قريبة دانية مذلّله ينالها أهل الجنة بيسر وسهوله، قال تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرحمن: 54] . وقال تعالى: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [الإنسان: 14] .   (1) أحمد في باقي مسند المكثرين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي صحيح ابن حبان وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 639 برقم 1985. (2) صحيح الجامع الصغير 2/ 916 برقم 5152 وأخرجه الترمذي بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه في ك/ الدعوات عن رسول الله ب/ ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل. (3) أخرجه الطبراني في الكبير 1449 والبزار 3530 وذكره الهيثمي في المجمع 10/ 414 وقال: رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني واحد إسنادي البزار ثقات وهو في فيض القدير للمناوي عن ثوبان 2/ 422. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فعرضت عليّ الجنّة حتّى لو تناولت منها قطفا أخذته أو قال تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه) «1» . ومن أشجار الجنة: أشجار الريحان الفائحة التي قال عنها الله تبارك وتعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) [الواقعة: 88- 89 ] وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن سيد ريحان الجنّة الحناء. ففي معجم الطبراني الكبير بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيّد ريحان الجنّة الحنّاء) «2» . (ح) سوق الجنة: يخلق الله سبحانه وتعالى سوقا يغشاه أهل الجنة إتماما للإنعام في دار النعيم، فهذا الإمام مسلم يخرج لنا حديث السوق عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ في الجنّة لسوقا يأتونها كلّ جمعة فتهبّ ريح الشّمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا) «3» .   (1) قطعة من حديث أخرجه مسلم ك/ الكسوف ب/ ما عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار. (2) الطبراني في المعجم الكبير قال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ما خلا عبد الله بن احمد بن حنبل وهو ثقة مأمون 5/ 157 وهو في مصنف ابن أبي شيبة 7/ 32 ط مكتبة الرشد الرياض، وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 407 برقم 1420. (3) مسلم ك/ الجنة ب/ في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 سير المؤمن إلى ملكه: بعد أن طفنا مع أهل الجنة في أوصاف الجنة، آن الأوان أن نسير مع ملك من ملوكها لنرى ما أعده الله له من النعيم الذي قال الله تعالى عنه: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) [الإنسان: 20] . ويرتقي أهل الجنة في الجنة إلى منازلهم بحسب أعمالهم، ويقال لصاحب القرآن كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا فإنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها) «1» . استقبال الخدم له: ويصل أهل الجنة كل واحد إلى مملكته الخاصة به والتي لا يشاركه فيها أحد فتستقبله الولدان. سعة مملكة المؤمن ونعيمها: (أ) سعتها: فيدخل المؤمن مملكته الواسعة وقد وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سعة مملكة آخر أهل الجنة دخولا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي لأعلم آخر أهل النّار خروجا منها وآخر أهل الجنّة دخولا الجنّة رجل يخرج من النّار حبوا فيقول الله تبارك وتعالى له اذهب فادخل الجنّة فيأتيها فيخيّل إليه أنّها ملأى فيرجع فيقول يا ربّ وجدتها ملأى فيقول الله تبارك وتعالى له اذهب فادخل الجنّة قال فيأتيها فيخيّل إليه أنّها ملأى فيرجع فيقول يا ربّ وجدتها   (1) رواه أبو داود ك/ الصلاة ب/ استحباب الترتيب في القراءة، والترمذي ك/ فضائل القرآن ب/ ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر وأحمد 2/ 192 وابن ماجه 3780 وحسنه الأرناؤوط في رياض الصالحين ص 421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ملأى فيقول الله له اذهب فادخل الجنّة فإنّ لك مثل الدّنيا وعشرة أمثالها أو إنّ لك عشرة أمثال الدّنيا قال فيقول أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك قال لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه قال فكان يقال ذاك أدنى أهل الجنّة منزلة) «1» . وذكر مسلم في رواية لأعلى أهل الجنة منزلة عندما سأل موسى عليه السّلام ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة، فقال سبحانه وتعالى: أولئك الّذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال ومصداقه في كتاب الله عزّ وجلّ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة: 17] «2» . ب- نعيمها: [1] صفات أهل الجنة وحليهم ولباسهم: تتغير هيئة أهل الجنة، ويصبح طول أحدهم ستين ذراعا، قال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم وطوله ستّون ذراعا ... فكلّ من يدخل الجنّة على صورة آدم) «3» . وتكون صورة أول زمرة تدخل الجنة كالقمر ليلة البدر، قال صلى الله عليه وسلم: (أوّل زمرة تلج الجنّة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر) «4» . وتكون سنهم ثلاثا وثلاثين سنة، لا تزيد أبدا، قال صلى الله عليه وسلم: (يدخل أهل   (1) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ صفة الجنة والنار، ومسلم ك/ الإيمان ب/ آخر أهل النار خروجا واللفظ له. (2) أخرجه مسلم ك/ الإيمان ب/ أدنى أهل الجنة منزلة فيها. (3) أخرجه البخاري ك/ أحاديث الأنبياء ب/ خلق آدم. (4) أخرجه البخاري ك/ بدء الخلق ب/ ما جاء في صفة الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الجنّة الجنّة جردا «1» مردا «2» بيضا جعادا «3» مكحّلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم ستّون ذراعا) «4» . ويتزين المؤمنون في الجنة بأنواع الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ، قال تعالى: وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) [الإنسان: 12] . قال تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) [الحج: 23] ومن حليهم أساور الذهب والفضة واللؤلؤ. قال الله تعالى: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. [الإنسان: 21] . ومن ألوان الثياب التي يلبسها المؤمنون في الجنة: الخضر من السندس والإستبرق، قال تعالى: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف: 31] . وقال تعالى: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ «5» خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ «6» وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) [الإنسان: 21] وثياب أهل الجنة لا تبلى، قال صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنّة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه) «7» .   (1) الأجرد: الذي ليس على بدنه شعر. (2) الأمرد: الذي لا شعر في ذقنه، ويراد به الحسن. (3) أن شعر رأسهم قصير مجتمع. (4) مسند أحمد، في مسند المكثرين من حديث أبي هريرة وقال محققو المسند حديث حسن بشواهده 5/ 220- 221. (5) السندس: هو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم. (6) الإستبرق: ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر، كما هو المعهود في اللباس، انظر: تفسير ابن كثير. (7) أخرجه مسلم ك/ صفة الجنة ب/ دوام نعيم أهل الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ولباس أهل الجنة أرقى من أي ثياب صنعها الإنسان، فقد أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بثوب من حرير فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ... لمناديل سعد ابن معاذ في الجنّة أفضل من هذا) «1» . ومن حلي أهل الجنة التيجان، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخصال التي يعطاها الشهيد، فقال: (ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها ... ) «2» . ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم إضاءة أدنى لؤلؤة في التاج، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ عليهم التّيجان إنّ أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب) «3» . وأخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أن لأهل الجنة أمشاطا من الذهب وأنهم يتبخرون بعود الطيب، فقال: (وأمشاطهم الذّهب ووقود مجامرهم «4» الألوّة «5» ... ) «6» . [2] نساء أهل الجنة: الزوجات في الجنة من النعيم الذي تتم به نعمة أهل الجنة، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة المؤمنة في الجنة تتم نعمتها وسعادتها بالزوج، وإذا أدخل المؤمن الجنة ودخلت معه زوجته الصالحة، فإنها تكون زوجته فيها أيضا، قال تعالى:   (1) البخاري ك/ اللباس ب/ مس الحرير من غير لبس. (2) أخرجه الترمذي ك/ فضائل الجهاد ب/ ثواب الشهيد، وأحمد في مسند الشاميين من حديث المقداد بن معدي كرب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي. (3) أخرجه الترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة، وابن حبان 16/ 410 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وأبو يعلى وإسنادهما حسن 10/ 419. (4) مجامرهم: مباخرهم. (5) الألوة: عود يتبخر به. (6) البخاري ك/ بدء الخلق ب/ ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) [الرعد: 23] . ويعيش المؤمن مع أزواجه في الجنة حياة سرور ونعيم، قال تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) [يس: 56] . وقال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) [الزخرف: 70] . ويزوج الله المؤمن في الجنة بزوجات من الحور العين «1» . قال تعالى: كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) [الدخان: 54] . وصف القرآن الكريم زوجات المؤمنين في الجنة، فوصف جمالهن، فقال وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) [الواقعة: 22: 23] . الْمَكْنُونِ الذي لم يغير صفاء لونه ضوء الشمس، ولا عبث الأيدي، وشبههن في موضع آخر بالياقوت والمرجان، فقال تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) [الرحمن: 56- 58] . ووصف أعمارهن المتساوية، فقال تعالى: وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) . [النبأ: 33] . والكواعب جمع كاعبة، وهي المرأة الجميلة التي برز ثديها. والأتراب المتقاربات في السن. ووصفهن بأنهن قاصرات الطرف على أزواجهن قال تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) [الرحمن: 72] .   (1) والحوراء: هي التي يكون بياض عينها شديد البياض وسواده شديد السواد والعيناء هي واسعة العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقال تعالى وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) [الصافات: 48] ونساء الجنة لسن كنساء الدنيا، فإنهن مطهرات، قال تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 25] . ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم جمال نساء أهل الجنة بقوله: (ولكل واحد منهما زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن) «1» . وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الدنيا، لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها «2» على رأسها خير من الدنيا وما فيها) «3» . وتغني الحور العين لزوجها في الجنة بصوت جميل عذب: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط ... ) «4» . ووصف الله سبحانه الزوجات في الجنة بأنهن أبكار: قال تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) . [الواقعة: 35- 36] . وقال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) [الرحمن: 74] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما   (1) البخاري ك/ الخلق ب/ ما جاء في صفة الجنة ومسلم ك/ الجنة ب/ أول زمرة تدخل الجنة. (2) النصيف: الخمار. (3) البخاري ك/ الجهاد ب/ الحور العين وصفاتهن. (4) أخرجه الطبراني في الأوسط 5/ 150 وهو في صحيح الجامع الصغير 1/ 325 رقم 1561 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح 10/ 419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 نفضي إليهن في الدنيا قال: (والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء) «1» . [3] خدم أهل الجنة: أكرم الله أهل الجنة بولدان ينشئهم «2» ليخدموهم وهم في غاية الجمال. قال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً [الإنسان: 19] . وقال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) [الواقعة: 17- 18] . قال أبو عبيده والفراء: مخالدون لا يهرمون ولا يتغيرون «3» . [4] طعام أهل الجنة وشرابهم: في الجنة ما تشتهيه الأنفس من الماكل والمشارب، قال تعالى: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) [الواقعة: 20- 21] . وقال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) [المرسلات: 41- 43] .   (1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة 374 والبيهقي في البعث 404 وأبو يعلى في مسنده 2436 وذكره الهيثمي في المجمع 10/ 416. (2) قال ابن القيم في حادي الأرواح: (إذا تأملت لفظه الولدان ولفظة يطوف عليهم واعتبرتها في قوله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ وضممت ذلك إلى ما في حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من مات من أهل الجنة من صغير وكبير يردون بني ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبدا، وكذلك أهل النار» أخرجه الترمذي في صفة الجنة، علمت أن الولدان غلمان أنشأهم الرب تعالى في الجنة خدما لأهلها. وهذا من تمام كرامة الله لأهل الجنة أن يجعل أبناءهم مخدومين معهم. (3) حادي الأرواح لابن القيم ص 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 قد ذكرنا سابقا ثمار الجنة وما فيها من الأنهار والعيون. وأول طعام أهل الجنة هو زيادة كبد الحوت، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أول شيء يأكله أهل الجنة، فقال: (زيادة كبد الحوت) «1» . [5] آنية أهل الجنة: آنية طعام أهل الجنة التي يأكلون ويشربون فيها من الذهب والفضة، قال تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ [الزخرف: 71] . أي وأكواب من ذهب، وقال تعالى أيضا: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) . [الإنسان: 16- 15] . أي اجتمع فيها صفاء القوارير وبياض الفضة. وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ... ) «2» . ومن الآنية التي يشربون بها: الأكواب «3» والأباريق «4» والكؤوس «5» .   (1) البخاري ك/ الرقاق ب/ صفة الجنة والنار واللفظ له، ومسلم ك/ الحيض ب/ بيان صفة مني الرجل والمرأة. (2) البخاري ك/ تفسير القرآن ب/ قوله (ومن دونهما جنتان) ومسلم ك/ الإيمان ب/ إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه. (3) الكوب: مالا أذن معه ولا عروة ولا خرطوم. (4) والأباريق: ذوات الآذان والعرى. (5) والكأس: القدح الذي فيه الشراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة: 17- 18] . [6] قوة أهل الجنة في الأكل والشرب والشهوة: عن زيد بن أرقم قال أتى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم رجل من اليهود فقال: يا أبا القاسم، ألست تزعم أنّ أهل الجنّة يأكلون فيها ويشربون وقال لأصحابه إن أقرّ لي بهذه خصمته قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (بلى والّذي نفسي بيده إنّ أحدهم ليعطى قوّة مائة رجل في المطعم والمشرب والشّهوة والجماع قال فقال له اليهوديّ فإنّ الّذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة قال فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجة أحدهم عرق يفيض من جلودهم مثل ريح المسك فإذا البطن قد ضمر) «1» . وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون فيها، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون) قالوا: فما بال الطعام؟ قال: (جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما تلهمون النّفس) «2» . [7] فرش الجنة: أعدت قصور الجنة وأماكن الجلوس في حدائقها وبساتينها بألوان فاخرة رائعة من الفرش للجلوس والاتكاء ونحو ذلك، فالسرر كثيرة راقية، والفرش عظيمة القدر بطائنها من الإستبرق، فما بالك بظاهرها. وهناك ترى النمارق   (1) أخرجه ابن حبان 16/ 443 والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 416، وقال: وبنحوه رواه البزار ورجال أحمد والبزار رجال ثمامة بن عقبة وهو ثقة، وأحمد في تتمة مسند الكوفيين من حديث زيد بن أرقم وقال محققو المسند صحيح وإسناد رجاله ثقات. (2) أخرجه مسلم ك/ الجنة ونعيمها ب/ صفة الجنة وأهلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 مصفوفة على نحو يسر الخاطر، ويبهج النفس، والزرابي مبثوثة على شكل منسق تكامل، قال تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) [الغاشية: 13- 16] . وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) . [الرحمن: 54] . وقال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) . [الطور: 20] . وقال تعالى أيضا: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) [الواقعة: 13- 16] . وقال تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) [الحجر: 46] . المؤمن في الجنة وذريته: من فضل الله وكرمه على المؤمنين وذريتهم المؤمنة أن يرفع الذرية إلى درجة الآباء دون أن ينقص من درجة الآباء شيئا؛ لتتم النعمة، وتقر العين. قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) [الطور: 21] . التزاور في الجنة: أهل الجنة يزور بعضهم بعضا، ويجتمعون في مجالس طيبة، يتحدثون عما كان منهم في الدنيا وما أنعم الله عليهم من دخول الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) [الطور: 25- 28] . وقال تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) [الحجر: 47] . أماني أهل الجنة: لبعض أهل الجنة أمان لما كانوا يحبونه في الدنيا، مع أنهم فيما تشتهيه أنفسهم في الجنة، وقد حدثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن بعض هذه الأماني وكيفية تحققها، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث وعنده رجل من أهل البادية: (أنّ رجلا من أهل الجنّة استأذن ربّه في الزّرع فقال له أولست فيما شئت «1» قال بلى ولكنّي أحبّ أن أزرع فأسرع وبذر فتبادر الطّرف «2» نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال فيقول الله تعالى دونك يا ابن آدم فإنّه لا يشبعك شيء فقال الأعرابيّ يا رسول الله لا تجد هذا إلا قرشيّا أو أنصاريّا فإنّهم أصحاب زرع فأمّا نحن فلسنا بأصحاب زرع فضحك رسول الله) «3» . ويخبرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: عن مؤمن أخر يشتهي الولد في الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنّة كان حمله ووضعه وسنّه في ساعة كما يشتهي) «4» .   (1) أي فيما شئت من أنواع النعيم وألوان الطعام والشراب. (2) فبادر الطرف: أي سابق النظر. (3) أخرجه البخاري ك/ الحرث والمزارعة ب/ كراء الأرض بالذهب والفضة. (4) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين من حديث أبي سعيد الخدري وقال محققو المسند إسناده حسن 17/ 116- 117، والترمذي ك/ صفة الجنة ب/ ما جاء ما لأدنى أهل الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ورضوان من الله أكبر: أفضل ما يعطاه أهل الجنة رضوان الله والنظر إلى وجهه الكريم: قال: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) [البينة: 8] . وقال تعالى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) [التوبة: 72] . وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال: يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون ألم تبيّض وجوهنا ألم تدخلنا الجنّة وتنجّنا من النّار، قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إلى ربّهم عزّ وجلّ ... ) «1» . قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) . [القيامة: 22- 23] . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنّة يا أهل الجنّة فيقولون لبّيك ربّنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا ربّ وأيّ شيء أفضل من ذلك فيقول أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا) «2» .   (1) أخرجه مسلم ك/ الإيمان ب/ إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى. (2) البخاري ك/ التوحيد ب/ كلام الرب مع أهل الجنة، ومسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها وأهلها ب/ إحلال الرضوان على أهل الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 آمان ونعيم لا ينقطع: أهل الجنة في أمان تام من كل منغصات النعم، فهم في مقام أمين آمنون من كل خوف، قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) . [الدخان: 51- 52] . وقال سبحانه: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) [الدخان: 55] ، فقد أمنوا في الجنة من الموت ومن العذاب، قال: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) [الدخان: 56] . قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثمّ يقوم مؤذّن بينهم فيقول يا أهل الجنّة لا موت ويا أهل النّار لا موت كلّ خالد فيما هو فيه) «1» . وهم آمنون من الخروج من الجنة، أو انقطاع نعيمها، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) [هود: 108] . قال تعالى: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) [ص: 54] . وأمنهم سبحانه من كل خوف وحزن «2» قال سبحانه وتعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الأعراف: 49] . كما أنهم في صحة وشباب آمنون من كل مرض وهرم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ينادي مناد إنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، وإنّ لكم أن   (1) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ يدخل سبعون ألف بغير حساب، ومسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها، ب/ النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، واللفظ له. (2) الحزن ينشأ من الخوف والخوف إما من شيء قادم أو من شيء قد مضى فأصل الخوف يستلزم الحزن ونفي الخوف من كل ما مضى ومن كل ما سيأتي ينتج عنه ذهاب الحزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا، وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا) «1» . وأعظم ما يخافه المؤمن سخط الله سبحانه، وقد أمن الله أهل الجنة منه بقوله تعالى في الحديث القدسي: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا) «2» . آخر دعوى أهل الجنة: قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) [يونس: 9- 10] . ثمن الجنة: الإيمان والعمل الصالح ثمن للجنة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) [الكهف: 107] . كما وعد الله الجنة لمن يبذل نفسه وماله في سبيل الله بوعد مؤكد أخبر به في التوراة والإنجيل والقرآن. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) [التوبة: 111] .   (1) أخرجه مسلم ك/ الجنة ب/ دوام نعيم أهلها. (2) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ صفة الجنة ومسلم ك/ الجنة ب/ إحلال الرضوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وهناك أعمال كثيرة مبيّنة في الكتاب والسنّة مردّها للإيمان والعمل الصالح فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) «1» . وطاعة الله ورسوله في كل أمر من الأمور ثمن الجنة، قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) . [النساء: 69- 70] . الوصول إلى هذا النعيم هو غاية تنافس المؤمنين، قال تعالى: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) [المطففين: 22- 26] .   (1) أخرجه الترمذي ك/ صفة القيامة والرقاق والورع ب/ ما جاء في صفة أواني الحوض وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 297 برقم 1993. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 النّار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسجن فيه المجرمين، وهي الخزي الأكبر والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه ولا خسران أعظم منه قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) . [آل عمران: 192] . وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) [التوبة: 63] . وقال تعالى: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) [الزمر: 15] ، وهي مع ذلك خالدة، وأهلها فيها خالدون ولذلك فإن الحق أطال في ذم مقام أهل النار قال تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) [الفرقان: 66] . قال عز من قائل: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) [ص: 55- 56] . خلق النار: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أوقد على النّار ألف سنة حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف سنة حتّى ابيضّت ثمّ أوقد عليها ألف سنة حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة) «1» .   (1) أخرجه الترمذي صفة جهنم رقم 2516 ج 4/ ص 710 وهو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده كما أخرجه ابن رجب في التخويف من النار ص 66، والمنذري في الترغيب والترهيب 4/ 117 وهو في فيض القدير 3/ 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وقال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) [النبأ: 21- 22] أي مرصدة معدة للعصاة المخالفين للرسل «1» . وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ... والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا) قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟، قال: (رأيت الجنة والنار) «2» . اتباع كل أناس لإمامهم: في ختام يوم الحساب يحشر الله أهل النار إلى النار، ويطلب من كل أمة في آخر ذلك اليوم أن تتبع الإله الذي كانت تعبده، ثم إن هذه الآلهة الباطلة تتساقط في النار، ويتساقط عبادها وراءها في السعير كما قال تعالى في فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) [هود: 98] . وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة أذّن مؤذّن ليتّبع كلّ أمّة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النّار حتّى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برّ وفاجر وغبّر «3» أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنّا نعبد عزير ابن الله فيقال كذبتم ما اتّخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون قالوا عطشنا يا ربّنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النّار كأنّها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النّار ثمّ يدعى النّصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنّا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتّخذ الله من   (1) تفسير ابن كثير. (2) أخرجه مسلم ك/ الصلاة ب/ تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما. (3) غبرهم: بقاياهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربّنا فاسقنا قال فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنّم كأنّها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النّار) «1» . تغيّظ النار عند رؤيتها للكفار: الذي يقرأ النصوص من الكتاب والسّنّة التي تصف النار، يجدها مخلوقا يبصر ويتكلم ويشتكي، ففي الكتاب العزيز أن النار ترى أهلها وهم قادمون عليها من بعيد فعند ذلك تطلق الأصوات المرعبة الدالة على مدى حنقها وغيظها على هؤلاء المجرمين، قال تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) [الفرقان: 12] . وقد خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تخرج عنق من النّار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول إنّي وكّلت بثلاثة بكلّ جبّار عنيد وبكلّ من دعا مع الله إلها آخر وبالمصوّرين) «2» . أبواب النار: أخبر الحق تبارك وتعالى أن للنار سبعة أبواب، قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) . [الحجر: 43- 44] .   (1) أخرجه البخاري ك/ تفسير القرآن ب/ قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] ، ومسلم ك/ الإيمان ب/ معرفة طريق الرؤية واللفظ له. (2) أخرجه الترمذي ك/ صفة جهنم ب/ ماء جاء في صفة النار، واللفظ له، وأحمد في باقي مسند المكثرين، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 320 برقم 2083 ط مكتب التربية العربي لدول الخليج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: " أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه أجارنا الله منها وكل يدخل من باب بحسب عمله ويستقر في درك بحسب عمله" «1» . دركات النار: النار متفاوتة في شدة حرها وما أعده الله من العذاب لأهلها فليست دركة واحدة وقد قال الحق تبارك: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) [النساء: 145] . ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) «2» . فانظر يا أخي الكريم إلى هذا العذاب الشديد النار مع سعتها وعظم خلقها إلا أنها بالنسبة لأهلها ضيقة عليهم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) [البلد: 19] . سعة النار وبعد قعرها: النار شاسعة، واسعة، بعيد قعرها، مترامية أطرافها، قال تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) [ق: 30] . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ سمع وجبة «3» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تدرون ما   (1) تفسير ابن كثير 4/ 162. (2) البخاري ك/ الرقاق ب/ حفظ اللسان وقول النبي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومسلم/ ك الزهد والرقائق ب/ التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، واللفظ له. (3) أي سقطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حين «1» انتهى إلى قعرها) «2» . خزنة النار: يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) [التحريم: 6] . وقود النار: الأحجار والفجرة الكفار وقود النار. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم: 6] . وقال تعالى أيضا: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 24] . قال ابن رجب: (إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت) «3» . شدة حرها وعظيم دخانها وشرارها: قال الله تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ   (1) قال النووي هكذا هو في النسخ فيه محذوف دل عليه الكلام، أي هذا حجر وقع أو هوى حين ونحو ذلك. (2) رواه مسلم ك/ الجنة باب في شدة حر النار 4/ 2184 ورقمه 2844. (3) التخويف من النار لابن رجب ص 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) [الواقعة: 41- 44] . وقد أشارت هذه الآية إلى ما يتبرد الناس به في الدنيا من الكرب والحر وهي ثلاثة أشياء: الماء والهواء والظل، " وبينت الآية أن هذه لا تغني عن أهل النار شيئا بل هي مزيد من العذاب فهواء جهنم السموم وهو الريح الحارة الشديدة وماؤها الحميم الذي قد اشتد حره وظلها اليحموم وهو قطع دخانها" «1» . وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نار جهنم فقال: (ناركم جزء من سبعين جزآ من نار جهنّم قيل يا رسول الله إن كانت لكافية قال فضّلت عليهنّ بتسعة وستّين جزآ كلّهنّ مثل حرّها) «2» . عظم خلق أهل النار: يدخل أهل الجحيم النار على صورة ضخمة، هائلة، لا يقدر قدرها إلا الذي خلقهم، ففي الحديث الذي يرفعه أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين منكبي الكافر في النّار مسيرة ثلاثة أيّام للرّاكب المسرع) «3» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد «4» وغلظ جلده مسيرة ثلاث) «5» ، وفي رواية أحمد:   (1) التخويف من النار لابن رجب ص 85. (2) أخرجه البخاري ك/ بدء الخلق ب/ صفة النار، واللفظ له، ومسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها وأهلها ب/ في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها. (3) أخرجه البخاري ك/ الرقاق ب/ صفة الجنة والنار، ومسلم ك/ الجنة ب/ يدخلها الجبارون واللفظ له. (4) أحد: هو الجبل الذي وقعت عنده معركة أحد. (5) صحيح مسلم ك/ الجنة ب/ النار يدخلها الجبارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 (وفخذه مثل ورقان «1» ، ومقعده من النار مثل ما بيني وبين الربذة «2» ) «3» . شدة ما يكابده أهل النار من عذاب: النار عذابها شديد وفيها من الأهوال وألوان العذاب ما ينسي نعيم الدنيا ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة فيصبغ في النّار صبغة ثمّ يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قطّ هل مرّ بك نعيم قطّ فيقول لا والله يا ربّ ... ) «4» . إنها لحظات قليلة تنسي أكثر الكفار نعيم كل أوقات السعادة والهناء. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى لأهون أهل النّار عذابا يوم القيامة لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي) «5» . إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار وأنى له النجاة: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) [المعارج: 11] ، وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم وألم مستمر.   (1) ورقان: بفتح الواو وكسر الراء، جبل أسود بين المرج والرويثة على يمين الذاهب من المدينة إلى مكة، انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد/ للبناء 24/ 171 طبعة/ إحياء التراث العربي. (2) الربذة: بفتح الراء، هي قرية معروفة قرب المدينة، المسافة بينها وبين المدينة مسيرة ثلاث ليال، انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 7/ 298 برقم 2703 ط/ دار الفكر. (3) أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة، وقال محققو المسند إسناده حسن 14/ 87 برقم 8345. (4) رواه مسلم ك/ صفة القيامة والجنة والنار ب/ صبغ أنعم أهل الدنيا في النار. (5) رواه البخاري في كتاب الرقائق باب صفة الجنة والنار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 صور من عذاب أهل النار: [1] تفاوت عذاب أهل النار: لما كانت النار دركات بعضها أشد عذابا وهولا من بعض كان أهلها متفاوتون في العذاب ففي الحديث الذي يرويه مسلم وأحمد عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل النار: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه «1» ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته «2» ومنهم من تأخذه إلى ترقوته «3» ) «4» . وفي صحيح البخاري رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل توضع في أخمص «5» قدميه جمرة يغلي منها دماغه) «6» . [2] زفير أهل النار وشهيقهم: أهل النار حينما يعذبون فيها، ويذوقون أصناف وألوان العذاب، يكون تنفسهم فيها شهيقا وزفيرا، زيادة في تعذيبهم وهوانهم، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) [هود: 106] . قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: " للعلماء أقوال في معنى الزفير والشهيق وأقربها أنهما يمثلان معا صوت الحمار في نهيقه، فأوله زفير، وآخره الذي يردده   (1) الكعب: العظم الفاصل بين القدم والساق. (2) الحجزة: موضع عقد الإزار وسط الجسم. (3) الترقوة: العظم بين ثغرة النحر والعاتق. (4) أخرجه مسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها ب/ شدة حر النار. (5) أخمص: ما لا يصل إلى الأرض من باطن القدم عند المشي. (6) البخاري ك/ الرقاق ب/ صفة الجنة والنار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 في صدره شهيق" «1» . [3] تبديل الجلود التي أنضجتها النار: إن نار الجبار تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلودا أخرى غير تلك التي احترقت لتحترق من جديد، وهكذا دواليك، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) . [النساء: 56] . وكشف العلم الحديث أن الإحساس بحرّ النار، إنما يكون في الجلود الحية، حيث خلق الله نهايات عصبية في الجلد حساسة، فإذا نضج الجلد ماتت هذه النهايات العصبية، فينعدم الإحساس بحر النار. وعندئذ لا يمثل الاستمرار في النار أي نوع من الألم للكافر، لأن مراكز الإحساس بالألم قد حطمت، لكن العليم الخبير بأسرار خلق الإنسان، يعلم هذا السر،   (1) أضواء البيان عند تفسير الآية الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فأشار إليه في كتابه قبل 1400 عام، وبين سبحانه الطريقة التي سيستمر بها العذاب للكافرين في النار، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) [النساء: 56] . فالخالق يخبر عن علمه بأسرار خلق الجلد، وأنه موطن الإحساس بعذاب النار وأنه إذا نضج ماتت النهايات العصبية الحساسة لألم النار، وانتفى العذاب، فتوعد الله الكافرين بأمر لم يعرف للبشر إلا بعد 1400 عام وهو إعادة خلق الجلد مرة ثانية بأعصاب جديدة حساسة لألم النار، فيستمر بذلك العذاب لأهل النار، وإذا علم صدق الوصف اليوم، فإنه دليل على صدق الخبر. [4] الصهر وتقطيع الأمعاء: من ألوان العذاب: صب الحميم فوق رؤوس أهل النار. والحميم: هو الماء الذي تناهى في حره، فلشدة حره تذوب وتنصهر أمعاؤهم، وما حوته بطونهم. قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) [الحج: 19- 20] . وقال تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: 15] . ويتكرر معنا الإعجاز العلمي، في وصف العذاب بالماء الحميم، الذي يشربه أهل النار ودقة الوصف له، وبيان الطريقة التي يتحقق بها العذاب من شرب هذا الحميم، فقد كشف الطب اليوم أن الأمعاء مبطنة بغشاء مخاطي لا يتأثر بالحرارة- حتى رأينا من الناس من يبتلع الماء أو الطعام الحار بسرعة ليتخلص من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 آلامه إذا نزل إلى الأمعاء- والطريقة الوحيدة للإحساس بألم الحميم هو أن تقطع هذه الأمعاء وينزل منها الماء الحميم إلى الأحشاء الغنية بالنهايات العصبية الحساسة للحرارة والتي تشعر بالآلام الشديدة للماء الحار إذا وصل إليها وكأنه طعن الخناجر. فرأينا الوصف القرآني للإحساس بالعذاب يتقرر بتقطيع الأمعاء، ولو أخبرت الآية بأن الأمعاء تبدل إذا نضجت كالجلود لقال الكافرون تبديل الأمعاء يتضمن وجود أغشية مخاطية في باطن الأمعاء يحول دون الإحساس بحر الحميم، لكن الآية كشفت أن عذاب الحميم يكون بتقطيع الأمعاء لا بتبديلها، وكذلك لو أخبرت الآية بأن الجلود تقطع إذا تعرضت للنار فإن الآلام ستتلاشى بوصولها إلى اللحم. لكن الوصف لكيفية العذاب في الجلود وفي الأمعاء جاء من قبل الذي يعلم السر في تركيب الجلد والأمعاء، فليبقى العذاب في الجلد أخبر المولى بأنه يبدله، وليبقى العذاب في الأمعاء أخبر المولى بأنه يقطعها ليصل الحميم إلى النهايات العصبية الحساسة في الاحشاء، ويتأكد لنا بذلك مرة ثانية صدق الوصف ودقته كما يتأكد صدق الخبر الذي قيل قبل 1400 عام، يوم لم يكن أحد يعلم شيئا عن تشريح الجلد أو الأمعاء «1» .   (1) فلو قالت الآية: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ فقط لقال الكافرون: أمنا من العذاب لأن الجلود التي نضجت لا تتألم ولأن اللحم الذي تحت الجلود ليس فيه نهايات عصبية حساسة لآلام الحرارة وبهذا يبقى الإنسان في النار بغير ألم. ولو قال القرآن: «فسقوا ماء حميما فبدلناهم أمعاء غير أمعائهم» لقال الكافرون لقد نجونا بهذا من الألم لأن الأمعاء تحتوي على غشاء مخاطي يحول دون الإحساس بالام الحرارة، وتبديل الأمعاء بأمعاء جديدة يتضمن وجود غشاء مخاطي جديد غير حساس للحرارة فلا يتألم الكافر بأي شيء من العذاب لا بعذاب الجلد ولا بعذاب الأمعاء لكنه الوحي من الذي يعلم السر في خلقه وهو الشهيد على كل شيء سبحانه جاءنا بالأوصاف المناسبة لتحقيق استمرار العذاب للكافرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 [5] اللفح: أكرم ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يسحبون في النار ويكبون على وجوههم، قال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) [القمر: 48] . وقال تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) [النمل: 90] ، وتلفح النار وجوههم فتشويها، قال تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) [المؤمنون: 103- 104] ، وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته) «1» . وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) [الأحزاب: 66] . أرأيت كيف يقلب اللحم على النار والسمك في المقلى؟!، كذلك تقلب وجوههم في النار نعوذ بالله من عذاب أهل النار. [6] السحب في النار: ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار على وجوههم، ويزيد من آلامهم   (1) أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين من حديث أبي سعيد الخدري، والترمذي ك/ تفسير القرآن ب/ ومن سورة المؤمنون، وقال محققو المسند إسناده ضعيف لضعف أبي السمح- وهو دراج بن سمعان في روايته- عن أبي الهيثم وبقية رجاله ثقات 18/ 350، وقد وثق أبا السمح يحيى بن معين وابن حبان وابن شاهين وقال عثمان الدارمي صدوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل، قال تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) . [غافر: 70- 71] . قال قتادة: يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة «1» . وقال: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) . [القمر: 48] . [7] تسويد الوجوه: يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) [آل عمران: 106] ، وهو سواد شديد كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) [يونس: 22] . قال تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) [عبس: 42] . [8] إحاطة النار بالكفار: لما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة: 49] .   (1) التخويف من النار، لابن رجب ص 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 إن النار تحيط بالكافرين من كل اتجاه، فلا أمل في مهرب ومخرج وعند ما يريد بعضهم الخروج ويأخذون ببعض الأسباب لذلك تعيدهم الملائكة إلى النار وتوبخهم. قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] . فالذين أحاطت بهم ذنوبهم ومعاصيهم فلم تبق لهم حسنة فمأواهم النار خالدين فيها، كما قال الله تعالى في الرد على اليهود الذين قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قال الله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) [البقرة: 81] . (9) اطّلاع النار على الأفئدة: إن النار تدخل في أجساد أهلها حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم وهي الأفئدة. قال تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) [الهمزة: 6- 7 ] ، قال ثابت البناني عندما قرأ هذا الآية قال: تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء «1» . وقال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) [المدثر: 26- 29] . قال بعض السلف في قوله: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ: (تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك) «2» .   (1) التخويف من النار لابن رجب ص 147. (2) التخويف من النار لابن رجب 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 (10) اندلاق الأمعاء في النار: في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرّجل يوم القيامة فيلقى في النّار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرّحى فيجتمع إليه أهل النّار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) «1» . (11) قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم: أعد الله لأهل النار في سلاسلا وأغلالا وقيودا ومطارقا قال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) [الإنسان: 4] . والأغلال توضع في الأعناق: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 33] والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يسلكون فيها كما تسلك حبات الخرز في الخيط وقد روي عن ابن عباس قال: (تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى) ووصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طول هذه السلسلة فقال: (لو أنّ رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل جمجمة أرسلت من السّماء إلى الأرض وهي مسيرة خمس مائة سنة لبلغت الأرض قبل اللّيل ولو أنّها أرسلت من رأس السّلسلة لسارت أربعين خريفا اللّيل والنّهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها) «2» قال تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي   (1) أخرجه البخاري ك/ بدء الخلق ب/ صفة النار وأنها مخلوقة، ومسلم ك/ الزهد والرقائق ب/ عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر واللفظ له. (2) أخرجه أحمد في مسنده وقال محققو المسند إسناده حسن 11/ 443 رقم 6856 والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) [الحاقة: 30- 32] . وقال تعالى: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً (12) [المزمل: 12] . والأنكال القيود سميت أنكالا لأن الله يعذبهم وينكل بهم بها، وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد وهي المطارق التي تهوي على المجرمين، وهم يحاولون الخروج من النار فيعادون مرة أخرى إلى سواء الجحيم، قال تعالى: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) [الحج: 21- 22] . طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم: طعام أهل النار الضريع «1» والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين والغساق قال: ْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) . [الغاشية: 6- 7] . وقال تعالى: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) [الواقعة: 52- 56] . شجرة الزقوم شجرة خبيثة جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر ولذلك شبهه في آية أخرى برؤوس الشياطين وقد استقر في النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لا يرونهم ومع خبث هذه الشجرة إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفرّا من الأكل منها حتى تمتلئ بطونهم فإذا امتلأت أخذت تغلي في أجوافهم كغلي الزيت فإذا   (1) الضريع: قال ابن كثير عن مجاهد: (نبات يقال له: الشبرق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سم) ، وقال قتادة: (من شر الطعام وأبشعه وأخبثه) انظر تفسير ابن كثير 6/ 410. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بلغت بهم الحال مبلغا اندفعوا إلى الحميم وهو الماء الشديد الحر الذي تناهى في حره فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب وتشرب ولا تروى لمرض أصابها وعند ذلك يقطّع الحميم أمعاءهم. قال تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ. [محمد: 15] . وقال تعالى: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ (37) . [الحاقة: 36- 37] . قال ابن عباس رضي الله عنهما الغسلين: الدم، والماء يسيل من لحومهم، وقال علي بن أبي طلحة: الغسلين: صديد أهل النار. قال تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) . [النبأ: 24- 25] . قال الربيع بن أنس: (فأما الحميم: فهو الحار الذي قد انتهى حره وحموه، والغساق: هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم فهو بارد لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه) «1» . وأما لباس أهل النار فقال الله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: 19] . وقال تعالى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) . [إبراهيم: 50] . وكان يقول ابن عباس رضي الله عنهما: القطران: النحاس المذاب، وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النّياحة من أمر الجاهليّة وإنّ النّائحة إذا   (1) انظر تفسير ابن كثير 6/ 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابا من قطران «1» ودرعا «2» من لهب النّار) «3» وفي رواية مسلم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (النّائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال «4» من قطران ودرع من جرب) «5» . أصناف المعذبين: [1] المرتدون: قال تعالى: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) [البقرة: 217] . [2] المنافقون: قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) [التوبة: 68] . وقال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء: 135] . [3] الكفرة والمشركون: قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) [البقرة: 39] .   (1) القطران: مادة سوداء لزجة. (2) الدرع: القميص. (3) أخرجه ابن ماجه ك/ الجنائز ب/ النهي عن النياحة وقال محققه محمد فؤاد عبد الباقي في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات 2/ 504 ط المكتبة العلمية. (4) السربال: الثوب الطويل. (5) مسلم ك/ الجنائز ب/ التشديد في النياحة رقم 1550. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 [4] مضيعو الصلاة: قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) [مريم: 59] . وقال تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) . [المدثر: 42- 43] . قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) . [الماعون: 4- 5] . [5] مانعو الزكاة: قال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) [التوبة: 34- 35] . [6] الممتنعون عن الحج: عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يمنعه عن الحجّ حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديّا وإن شاء نصرانيّا) «1» . [7] الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ كذبا عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار) «2» .   (1) أخرجه الدارمي ك/ المناسك ب/ من مات ولم يحج إسناده جيد، ورواته ثقات. (2) البخاري ك/ الجنائز ب/ ما يكره على ... ومسلم ك/ مقدمة ب/ تغليظ الكذب على رسول الله واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 [8] قاتل النفس التي حرم الله: قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) [النساء: 93] . [9] قاتل نفسه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ «1» بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا ومن شرب سمّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه «2» في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا ومن تردّى «3» من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا) «4» . [10] آكل الربا: قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) [البقرة: 275] . [11] مرتكب الكبائر: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السّبع الموبقات «5»   (1) يتوجأ: يضرب أو يطعن. (2) يتحساه: يشربه ويتجرعه. (3) التردي: السقوط من علو. (4) البخاري ك/ الطب ب/ شرب السم والدماء. ومسلم ك/ الإيمان ب/ غلظ تحريم قتل الإنسان. (5) الموبقات: الذنوب المهلكة في نار جهنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: الشّرك بالله والسّحر وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلا بالحقّ وأكل الرّبا وأكل مال اليتيم والتّولّي يوم الزّحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) «1» . [12] كما أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم قد توعد بالنار كثيرا من أصناف العصاه الذين يخالفون أوامر الله تعالى والذين يتبعون رؤساء الضلال في ضلالهم والذين يتكبرون والذين يراؤن بالعمل الصالح والذين يأكلون أموال الناس بالباطل. وكذلك الذين يعذبون الحيوان والكاسيات العاريات والذين يضربون الناس ظلما والذين يحكمون بالجور والظلم والذين يشربون في آنية الذهب والفضة والذين لا يتنزهون من البول والذين يمشون بالغيبة والنميمة. سئل ابن تيمية رحمه الله تعالى: " ما عمل أهل النار؟ وما عمل أهل الجنة؟. فأجاب- رحمه الله- عمل أهل النار: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب بالرسل، والكفر، والحسد، والكذب والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسّنّة: أي اعتقادا وعملا، وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب للباطل والاستهزاء بايات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم، والربا والفرار من الزحف   (1) أخرجه البخاري ك/ الوصايا ب/ قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" «1» . حسرة أهل النار: عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) [يونس: 54] . عندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النار فإنه يدعو بالثبور والهلاك قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) [الانشقاق: 10- 12] . ويتكرر دعاؤهم بالويل والثبور والهلاك عندما يلقون في النار ويصلون حرها. قال تعالى: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) [الفرقان: 13- 14] . وهناك يعلو صراخهم ويشتد عويلهم قال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) [فاطر: 37] . يعترفون في ذلك الوقت بظلالهم وكفرهم وقلة عقولهم قال تعالى: وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) [الملك: 10- 11] . قال تعالى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) [غافر: 11] .   (1) يقظة أولى الاعتبار ص 222 بواسطة كتاب الجنة والنار للأشقر ص 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ولكن طلبهم يرفض بشدة ويجابون بالتبكيت والتحقير. قال تعالى: قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) [المؤمنون: 106- 107] . وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) [غافر: 10] . ويتوجه أهل النار بعد ذلك بالنداء إلى خزنة النار يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئا مما يعانونه. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (50) . [غافر: 49- 50] . وعند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) [الزخرف: 77] . إنه الرفض لكل ما يطلبون لا خروج من النار ولا تخفيف من عذابها ولا إهلاك بل هو العذاب الأبدي السرمدي الدائم ويقال لهم يوم ذاك، قال تعالى: اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) [الطور: 16] . واستمع إلى عويلهم وهم في العذاب يقولون نادمين كما قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) [الأحزاب: 66- 68] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 شدة بكاء أهل النار: بكاء أهل النار كثير ودموعهم تجري فيها السفن، ويشتد نحيبهم وتفيض دموعهم ويطول بكاؤهم، قال تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) [التوبة: 82] . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت وإنهم ليبكون الدم) «1» . وذلك لأن الكافر يجعل الله جسمه ضخما حتى أنه ليسير الراكب بين كتفيه مسيرة ثلاثة أيام. تخاصم أهل النار بعضهم البعض: وذكر تخاصم أهل النار، فقال تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) [غافر: 47- 48] . وقال تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) [الشعراء: 94- 98] . تبرؤ الشيطان من أتباعه في النار: يتبرأ زعيم الغواية والضلال من أتباعه في النار، ويقف بين أتباعه خطيبا متبرآ منهم كما قال جل ثناؤه: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ   (1) أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 605، وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وهو في الصحيحة برقم 1679، وقال الألباني- رحمه الله-: وحقه أن يزيد قوله على شرط الشيخين فإن رجاله كلهم من رجالهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) [إبراهيم: 22] . محاولة أهل النار الخروج منها: وعندما يعذب أهل النار ويذوقون ألوان العذاب فيها يحاولون الخروج منها هربا من ذلك العذاب، كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) [المائدة: 37] . وقال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) . [السجدة: 20] . الخلود في النار: إن أهل النار سيخالدون فيها جزاء وفاقا لما كذبوا بايات ربهم وكذبوا رسله وتعدوا حدوده وارتكبوا المعاصي والذنوب رغم تحذير الله لهم وتحذير رسله، وماتوا وهم عازمين على نيه أنهم لو خلدوا في الحياة أبدا لكفروا بالله أبدا، فاستحقوا أن يخلدهم الله في النار أبدا. وأهل النار الخالدون فيها لا يرحلون ولا يبيدون ولا يخفف عنهم من عذابها. قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) [فاطر: 36] . وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) . [البقرة: 161- 162] . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنّه كبش أملح «1» فيوقف بين الجنّة والنّار، فيقال: يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟، فيشرئبّون «2» وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النّار هل تعرفون هذا؟، قال: فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح قال: ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النّار خلود فلا موت، قال: ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) . [مريم: 39] . وكتبه عبد المجيد الزّندانيّ غفر الله له ولوالديه ولسائر المسلمين   (1) كبش أملح: هو الذي بياضه غالب لسواده، انظر: لسان العرب 13/ 171. (2) فيشرئبون: أي يرفعون رؤوسهم إلى المنادي، انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 17/ 183. (3) مسلم ك/ الجنة وصفة نعيمها ب/ النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء عن ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 المصادر والمراجع (أ) القرآن الكريم. (ب) كتب التفسير وعلوم القرآن: 1- تفسير القرآن العظيم/ للحافظ ابن كثير. 2- جامع البيان في تأويل آي القرآن/ لمحمد بن جرير الطبري. 3- الجامع لأحكام القرآن/ لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. 4- فتح القدير/ لمحمد بن علي الشوكاني. 5- تفسير الجلالين/ لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي. 6- تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل/ لعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المشهور بالخازن. 7- تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل/ لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي. 8- البحر المحيط في التفسير/ لمحمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي الغرناطي المشهور بأبي حيان. 9- روح المعاني/ لمحمود بن شكري الألوسي. 10- أنوار التنزيل وأسرار التأويل/ عبد الله بن عمر البيضاوي. 11- الكشاف عن حقائق التنزيل/ محمود بن عمر الزمخشري. 12- زاد المسير في علم التفسير/ لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي. 13- محاسن التأويل/ لمحمد جمال الدين القاسمي. 14- التفسير الصحيح [موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور] : حكمت بشير ياسين، دار الماثر، المدينة المنورة ط. أولى، 1420 هـ- 1999 م. 15- مناهل العرفان في علوم القرآن/ محمد عبد العظيم الزرقاني، دار الكتب العلمية بيروت: ط. أولى 1409 هـ- 1988 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 16- صفوة التفاسير/ محمد علي الصابوني، دار الفكر، بيروت. 17- النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن/ محمد عبد الله دراز رحمه الله، دار طيبة الرياض: ط. ثانية، 1420 هـ- 2000 م. 18- بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية/ يسرى السيد محمد، دار ابن الجوزي- الدمام، ط. أولى 1405 هـ. 19- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية/ مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت. ط. 1410 هـ- 1900 م. 20- المعجزة الخالدة، حسن ضياء الدين عتر، ط. الثانية، دار ابن حزم- بيروت- لبنان، 1989 م. 21- الإتقان في علوم القرآن/ للسيوطي. 22- علوم القرآن: نور الدين عتر، دار الخير، دمشق ط أولى، 1414 هـ- 1993 م. 23- بيان إعجاز القرآن/ لأبي سليمان حمد بن حمد بن إبراهيم الخطابي، تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة. ط رابعة، ضمن مجموعة رسائل في إعجاز القرآن. 24- الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي. 25- مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ أبو البركات عبد الله بن أحمد محمود النسفي. 26- تفسير النسائي/ للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي. 27- الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ لأبي الحسن الواحدي. 28- تفسير مجاهد/ مجاهد بن جبر المخزومي التابعي أبو الحجاج. 29- إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم/ محمد بن محمد العمادي أبو السعود. 30- تفسير القرآن/ عبد الرزاق بن همام الصنعاني. 31- الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ جلال الدين السيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 (ج) كتب الحديث وشروحه 1- صحيح البخاري. 2- صحيح مسلم. 3- سنن أبي داود. 4- سنن الترمذي. 5- سنن ابن ماجة. 6- سنن النسائي. 7- مسند الإمام أحمد، نشر مؤسسة قرطبة، مصر. 8- مسند أبي عوانة الإسفراييني، ط. الأولى- دار المعرفة- بيروت 1998 م تحقيق: أيمن الدمشقي في خمسة مجلدات، وطبعة أخرى بدار المعرفة في جزئين. 9- مسند أبي يعلى التميمي ط. الأولى دار المأمون للتراث، دمشق 1404 هـ تحقيق حسين سليم أسد. 10- مسند الحميدي ط. دار الكتب العلمية ومكتبة المتنبي، بيروت- القاهرة تحقيق جيب الرحمن الأعظمي. 11- مسند الروياني ط. الأولى دار القاهرة مؤسسة قرطبة 1416 هـ تحقيق أيمن علي أبو يماني. 12- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ط. الأولى- دار الكتب العلمية- بيروت 1411 هـ- 1990 م، تحقيق/ مصطفى عبد القادر عطا. 13- المعجم الأوسط للطبراني- دار الحرمين- القاهرة 1415 هـ- تحقيق/ طارق الحسيني. 14- المعجم الصغير للطبراني ط. الأولى- المكتب الإسلامي ودار عمار- بيروت وعمان- 1985 م، تحقيق/ محمد أمرير. 15- المعجم الكبير للطبراني ط. الثانية- مكتبة العلوم والحكم- الموصل 1404 هـ 1983 م، تحقيق/ حمدي السلفي. 16- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمبارك فوري، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 17- تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير- لابن حجر العسقلاني- المدينة المنورة 1384 هـ 1964 م، تحقيق السيد/ عبد الله هاشم اليماني المدني. 18- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم للأصبهاني- ط. الرابعة- دار الكتاب العربي- بيروت- 1405 هـ. 19- سنن البيهقي الكبرى- مكتبة دار الباز مكة المكرمة 1414 هـ- 1994 م، تحقيق/ محمد عبد القادر عطا. 20- سنن الدارمي ط. الأولى- دار الكتاب العربي- بيروت 1407 هـ- تحقيق- فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي. 21- صحيح مسلم بشرح النووي تحقيق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة بيروت ط/ 1- 1414 هـ- 1994 م. 22- شعب الإيمان للبيهقي ط. الأولى- دار الكتب العلمية- بيروت 1410 هـ- تحقيق محمد زغلول. 23- المصنف لابن أبي شيبة ط. الأولى مكتبة الرشد- الرياض 1409 هـ- تحقيق/ كمال يوسف الحوت. 24- موطأ الإمام مالك بن أنس، تصحيح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. 25- الأحاديث المختارة/ للمقدسي تحقيق/ عبد الملك بن عبد الله بن دهيش ط. الأولى- مكتبة النهضة الحديثة- مكة المكرمة- 1410 هـ. 26- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني- دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ، تحقيق/ محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب. 27- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لأبي بكر الهيثمي، دار الريان للتراث، دار الكتاب العربي، القاهرة وبيروت، 1407 هـ. 28- السنن الكبرى للنسائي ط. الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411 هـ- 1991 م، تحقيق د. عبد الغفار البنداري، سيد كسروي حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 29- صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، مؤسسة الرسالة، بيروت 1414 هـ- 1993 م، تحقيق شعيب الأرناؤوط. 30- المنتخب من مسند عبد بن حميد، ط. الأولى، مكتبة السّنّة، القاهرة، 1408 هـ- 1988 م، تحقيق/ صبحي البدري السامرائي ومحمد الصعيدي. 31- مسند البزار المسمى البحر الزخار، ط. الأولى، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، 1409 هـ، تحقيق/ محفوظ الرحمن زين الله. 32- التمهيد لابن عبد البر- وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية- المغرب- 1387 هـ- تحقيق/ مصطفى بن أحمد العلوى ومحمد عبد الكبير البكري. 33- صحيح سنن الترمذي للألباني ط. الأولى، المكتب الإسلامي بيروت، 1408 هـ- 1988 م. 34- صحيح الجامع الصغير للألباني، ط. ثانية- المكتب الإسلامية بيروت- 1399 هـ- 1979 م. 35- صحيح سنن ابن ماجة للألباني ط. الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت 1408 هـ- 1988 م. 36- صحيح سنن أبي داود للألباني ط. الأولى المكتب الإسلامي، بيروت 1409 هـ، 1989 م. 37- مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق جماعة من الباحثين بإشراف الشيخ المحدث شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت ط أولى، 1416 هـ- 1995 م. 38- جامع الأصول في أحاديث الرسول لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، دار الفكر، بيروت، ط. ثانية 1403 هـ- 1983 م. 39- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار إحياء السّنّة النبوية، بيروت، ط. ثانية، 1399 هـ- 1979 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 40- نزهة النظر، للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق علي الحلبي. ط. الأولى، دار ابن الجوزي، السعودية 1417 هـ. 41- دلائل النبوة: البيهقي ط. الأولى دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان، تعليق عبد المعطي قلعجي، 1985 م. 42- المسند: أحمد بن حنبل تحقيق أحمد شاكر. 43- دلائل النبوة: سعيد بن عبد القادر بن سالم باشنفر، مكتبة دار الباز ومكتبة الخراز ط. أولى، 1417 هـ- 1996 م. 44- دلائل النبوة: لأبي نعيم الأصبهاني، تخريج عبد الله البر عباس، تحقيق محمد رواس قلعجى، المكتبة العربية، حلب. ط. أولى، 1390 هـ- 1970 م. 45- مسند ابن الجعد: علي بن عبيد تحقيق: عامر أحمد حيدر، مؤسسة نادر، بيروت، ط. أولى 1410 هـ- 1990 م. 46- الزهد لابن المبارك: عبد الله بن المبارك بن واضح المزورى، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمى، دار الكتب العلمية، بيروت. 47- الجامع لمعمر بن راشد: معمر بن راشد الأزدي، تحقيق: حبيب الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت ط. ثانية، 1403 هـ. 48- مسند الشاشي: الهيثم بن كليب الشاشي تحقيق محفوظ الرحمن زين الله، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة ط. أولى، 1410 هـ. 49- سنن الدارقطني: علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386 هـ- 1966 م. 50- دلائل النبوة: جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي تحقيق عامر حسن صبري، دار حراء، مكة المكرمة ط. أولى 1406 هـ. 51- الإيمان: محمد بن إسحاق بن يحيى بن مندة تحقيق/ علي بن محمد ناصر الفقيهي، مؤسسة الرسالة، بيروت ط. ثانية، 1406 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 52- مسند إسحاق بن راهوية: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المروزى تحقيق/ عبد الغفور عبد الحق حسين البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة ط. أولى، 1995 م. 53- الزهد لهناد: هناد بن السري الكوفي، تحقيق عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت. ط. أولى، 1406 هـ. 54- التاريخ الكبير: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، تحقيق: هاشم الندوي، دار الفكر. 55- الإصابة: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد الجباوي، دار الجيل، بيروت ط. أولى، 1412 هـ- 1992 م. 56- الاعتقاد: أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة، بيروت ط. أولى 1401 هـ. 57- أخبار مكة: محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي، تحقيق: عبد الملك عبد الله دهيش، دار خضر، بيروت ط. 1414 هـ. 58- معجم الصحابة: عبد الباقي بن قانع، تحقيق صلاح بن سالم المصراتي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة ط. أولى، 1418 هـ. (د) كتب العقيدة: 1- شرح أصول اعتقاد أهل السّنّة والجماعة- لهبة الله الطبري اللالكائي ط. الرابعة. دار طيبة- الرياض- 1416 هـ- 1995. تحقيق د. أحمد الغامدي. 2- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: للشيخ/ أبي العباس تقي الدين أحمد ابن عبد الحليم بن تيمية، ت: علي بن حسن بن ناصر، وآخرون، دار العاصمة، الرياض ط. ثانية، 1419 هـ- 1999 م. 3- الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية: جيلان بن خضر العروسي، مكتبة الرشد، شركة الرياض للنشر والتوزيع، الرياض ط. أولى، 1417 هـ- 1996 م. 4- علم الإيمان: الشيخ عبد المجيد الزنداني، شركة النور، صنعاء ط. أولى 1420 هـ 2000 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 5- اليوم الآخر الجنة والنار، د/ عمر سليمان الأشقر، ط/ 7 دار النفائس- عمان الأردن- 1418 هـ- 1998 م. 6- اليوم الآخر القيامة الكبرى، د/ عمر سليمان الأشقر، ط/ 11 دار النفائس- عمان الأردن- 1421 هـ- 2000 م. 7- التخويف من النار، ابن رجب الحنبلي- تحقيق/ بشير محمد عيون، ط 3/ مكتبة المؤيد- الرياض، 1413 هـ- 1992 م. 8- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ابن القيم الجوزية، تحقيق الشرجبي وقاسم النوري، ط 2/، مؤسسة الرسالة- بيروت- لبنان 1414 هـ- 1994 م. (هـ) كتب اللغة: 1- لسان العرب للعلامة ابن منظور. 2- معجم المقاييس في اللغة لابن فارس. 3- مختار الصحاح. 4- المعجم الوسيط. 5- القاموس المحيط- للفيروز آبادي. 6- المفردات/ للراغب الأصفهاني. 7- الصحاح للجوهري. 8- تاج العروس. (و) كتب العلوم الحديثة: 1- مجلة العلوم الأمريكية/ أعداد مختلفة. 2- أسرار المحيطات: أكاديميا انترناشيونال الفرع العلمي من دار الكتاب العربي بيروت- لبنان. 3- موسوعة الزاد للعلوم والتكنولوجيا بالكتاب والفيديو: مطابع ديداكو برشلونه، إسبانيا. 4- عالم النبات نباتات الصحراء: أكاديميا، بيروت، 1995 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 5- المحيط الكوني وأسراره: نجيب زبيب، دار الأمير، بيروت ط. أولى، 1415 هـ 1994 م. 6- تاريخ العلوم العام: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت ط/ 2، 1414 هـ- 1994 م. 7- موسوعة العلم والإيمان، الجزء الخامس، منف للنشر والخدمات الإعلامية، رئيس التحرير ممدوح الغالي. 8- معجم البيولوجيا المصور تأليف: كورين ستوكلي- أكاديميا ترجمة د. محمد أحمد شومان، د. محمد دبس، بيروت- لبنان. 9- موسوعة النبات العام د. عبد العزيز الصباغ، منشورات عويدات. 10- عالم النبات- أكاديميا- بيروت- لبنان. 11- النبات العام، مكتبة الأنجلو المصرية تأليف: مجموعة من الدكاترة. 12- موسوعة الزاد، محمد سعيد صباريني. 13- الموسوعة العلمية الشاملة، رئيس التحرير: أحمد شفيق الخطيب، مكتبة لبنان. 14- أسئلة وأجوبة في العلوم وعلوم النبات، مكتبة العبيكان. 15- النباتات الزهرية نشأتها- تطورها- تصنيفها، تأليف الدكتور: شكري إبراهيم سعد، دار الفكر العربي. 16- النباتات وبيئتها تأليف: آر. اف. وينماير، ترجمة الدكتور/ يحيى داود المشهداني، جامعة الموصل. 17- الماء في حياة النبات، تأليف د/ رياض عبد اللطيف أحمد، جامعة الموصل. 18- الأحياء للصف العاشر، وزارة التربية والتعليم الأردنية. 19- مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، د. محمد عابد- مركز دراسات الوحدة العربية. 20- الزراعة الجافة أسسها وعناصر استثمارها د. عبد الله قاسم الفخري، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالعراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 21- موسوعة اكس فورد، (قرص مدمج) . 22- موسوعة انكارتا (أقراص مدمجة) . 23- رحلة إلى عالم النبات (قرص مدمج) . 24- الحياة الخاصة للنباتات (فيلم علمي) . 25- كيف تدافع النباتات عن نفسها. (ز) كتب أخرى: 1- الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية: الشيخ/ محمد مصطفى شلبي، الدار الجامعية، بيروت ط 1982 م. 2- البداية والنهاية: للحافظ ابن كثير، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان. ط. ثانية 1408 هـ. 3- السيرة النبوية: لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وآخرون، دار إحياء التراث العربي- بيروت. 4- المدخل إلى التشريع الإسلامي: كامل موسى، مؤسسة الرسالة، بيروت ط. أولى، 1410 هـ- 1989 م. 5- إنه الحق: الشيخ عبد المجيد الزنداني. 6- دولة القرآن: طه عبد الباقي سرور، المكتبة العلمية، القاهرة. ط. 1961 م. 7- علم الأجنة في ضوء القرآن والسّنّة، من أبحاث المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة المنعقدة في باكستان- إسلام آباد من 25- 28 صفر 1408 هـ. 8- محاضرات مسجلة في إعجاز القرآن الكريم للدكتور طارق السويدان. 9- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب للشيخ محمد الأمين الشنقيطي للرد على من توهم وجود تعارض في الآيات القرآنية. 10- هذه الخلاصة في اسم هامان، من مقال للدكتور/ باسم طارق جمال في مجلة الإعجاز العلمي، العدد (14) ، لعام 1423 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 11- روح التشريع الإسلامي للأستاذ/ عفيف طبارة ص 256 بواسطة الفقه الإسلامي بين المثالية والواقعية 111- 112 للدكتور محمد مصطفى شلبي ط. الدار الجامعية بيروت 1982. 12- مناقب الشافعي للبيهقي 1/ 442- 443، أعلام الموقعين 1/ 80 بواسطة اعتقاد أهل السّنّة والجماعة في الصحابة الكرام/ لناصر الشيخ 1/ 104. 13- البحر المحيط في التفسير/ لمحمد بن يوسف بن عليّ بن حيان الأندلسي الغرناطي المشهور بأبي حيان. 14- الكشاف عن حقائق التنزيل/ محمود بن عمر الزمخشري. 15- الأكمل الأطول في التفسير/ عمر بن محمد النسفي. 16- مسند البزار المسمى البحر الزخار، ط. الأولى، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، 1409 هـ. 17- الأجوبة الفاخرة للقرافي. 18- محمد في الأسفار العالمية للأستاذ عبد الحق. 19- دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاى- ط. دار المعارف 1977 م. 20- إظهار الحق- رحمة الله بن خليل الهندي- ط. دار البيضاء. 21- تخجيل من حرف التوراة والإنجيل: لصالح بن حسين الهاشمي. 22- فسيولوجيا النبات، روبرت م/ ديلفين فرانسيس ط/ العربية 1993 م، الدار العربية للنشر والتوزيع. 23- الناصية- إصدار هيئة الإعجاز العلمي. 24- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة- ط. ثالثة- 1418 هـ- نشر دار الندوة العالمية للطباعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فهرس رقم الصفحة* المقدمة 3 الفصل الأول: البشارات 13* تمهيد 15 * النبي الأمي 25 * اسم النبي 28 * نسبه صلى الله عليه وسلم 37 * مكان بعثته 42 * صفاته صلى الله عليه وسلم 51 * أفلا يؤمنون 63 الفصل الثاني: المعجزة العلمية في القرآن والسنة 65* مقدمة 68 * وصف الحاجز بين البحرين 73 * الناصية 85 * والجبال أوتادا 91 * فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا 99 * وأنزلنا الحديد 106 * وجه الإعجاز 110 * أو كظلمات في بحر لجي 111 * التسلسل الزمني لاكتشاف أعماق البحار 112 * معلومات حديثة في علم البحار 115 * ظلمات بعضها فوق بعض 118 * وصف القرآن لهذه الأسرار والحقائق البحرية 122 * وجه الإعجاز 125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 * فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت 127 * مكونات الأرض 128 * الاهتزاز 128 * الربو 130 * انبات النبات 132 * المعاني اللغوية 133 * أقوال المفسرين 134 * وجه الإعجاز 136 * آية اللبن (من بين فرث ودم) 138 * التدرج التاريخي للاكتشافات 138 * مراحل تكوين اللبن الخالص السائغ 142 * تفسير الآية 150 * وجه الإعجاز 152 * الحاجز بين النهر والبحر (منطقة المصب) 153 * المعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية 157 * البحرين هذا عذاب فرات وهذا ملح أجاج 158 * المعجزة العلمية في السّنّة 165 * معجزة وصف الجنين بعد الليلة الثانية والأربعين 167 * بطلان فكرة الخلق التام 171 * الخطأ في تقدير أعمار الأجنة 171 * الجهل بالتطورات التي تظهر على الجنين في كل مرحلة زمنية 172 * تحديد زمن تكون أعضاء الجنين 172 * المعجزة النبوية في وصف تخلق الجنين 172 * شهادة العلم الحديث بصدق ما أخبر به الرسول 175 الفصل الثالث: التحدي بالقرآن 185* البينة القرآنية 187 * فصاحة القرآن وبلاغته 190 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 * سر فصاحة القرآن وبلاغته، ووجوه فصاحته 190 * اعتراف العرب الفصحاء ببلاغة القرآن وفصاحته 193 * تحدي الكافرين أن يأتوا بمثله 197 * علامات إلهية في القرآن 199 * الجدة الدائمة 199 * كونه روحا من أمر الله 200 * أنه كلام فريد 200 * تجربة في تأثير القرآن على التوتر العصبي 201 * خلوة من التناقض والاضطراب 204 * علومه الواسعة 205 * إخباره بغيب الماضي والحاضر والمستقبل 205 * قصة هامان 206 * غيب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم 209 * غيب المستقبل 210 * الشريعة العظيمة التي احتوى عليها 211 * محاورة مع سفير فرنسا 213 * الإعجاز العلمي الذي احتوى عليه القرآن 215 * علامات أخرى [تدل على أن القرآن من عند الله] 216 الفصل الرابع: المعجزة الخارقة: 221* تمهيد 223 * دقة توثيق أخبار المعجزات (في القرآن) 223 * محضر الخارقة 223 * التوثيق التاريخي لانشقاق القمر 225 * مثال في العهد المدني 226 * حفظ القرآن (السجل الصادق) 227 * توثيق المعجزات في السّنّة النبوية 229 * الصحابة حملة الدين الثقات 230 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 * دقة توثيق الصحابة 237 * دقة توثيق التابعين 238 * منهج نقد الرواية 240 * من دلائل النبوة الخارقة للعادة في العهد المكي 243 * حادثة الفيل 243 * انشقاق القمر 244 * حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم 247 * حادثة الإسراء والمعراج 249 * تأييد الله لرسوله أثناء هجرته 250 * من دلائل النبوة الخارقة للعادة في العهد المدني 254 * معجزات في غزوة بدر 254 * قتال الملائكة مع رسول الله في معركة أحد 256 * نصرة الله لرسوله بالريح والملائكة في غزوة الأحزاب 263 * خوارق ازدياد الماء والطعام 268 * تكثير الطعام في غزوة تبوك 270 * قصة تكثير تمر جابر 271 * إطعام النبي مائة وثلاثين رجلا من شاة 272 * البركة في حيسة أم سليم 272 * إطعامه سبعين أو ثمانين رجلا من أقراص أم سليم 273 * تكثير شطر وسق شعير ببركته 273 * ظهور بركته في شطر شعير لأم المؤمنين عائشة 274 * قصة تمرات أبي هريرة 274 * قصعة الثريد التي كانت تمد 274 * معجزات الرسول في تكثر الماء القليل 279 * تكثير الماء في غزوة الحديبية 279 * نبع الماء من بين أصابعه 281 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 * تكثير ماء المزادتين 282 * ميضأة أبي قتادة 285 * تكثير الماء في تبوك 286 * معجزات شفاء المرضى وخوارقها 287 * معجزات خوارق العادة في غزوة حنين 289 * شهادة الشجر برسالة النبي صلى الله عليه وسلم 292 * معجزات خارقة في شهادة الحيوان وانقياده 295 * معجزات خارقة متفرقة 299 * استجابة الله عز وجل لدعائه 303 * استجابة دعائه في الاستسقاء 303 * استجابة دعائه فيما دعا فيه 305 * استجابة دعائه على من دعا عليهم 309 الفصل الخامس: الوعد الحق 313* تمهيد 315 * الموت 317 * الحياة البرزخية 321 * فناء شامل 323 * البعث والنشور 324 * الحشر إلى الموقف 325 * طول الموقف والشفاعة لقيام الحساب 326 * الحساب والجزاء 327 * اقتصاص المظالم بين الخلق 328 * الميزان 329 * الحوض 330 * سوق الكفار إلى النار 331 * الصراط 332 * الجنة 334 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 * خلق الجنة 334 * الجنة دار النعيم 335 * إنها جنان 336 * التهيئة لدخول الجنة 337 * دخول الجنة 338 * أول من يدخل الجنة 340 * استقبال الملائكة 342 * ما يضيفون به عند دخولهم 342 * اهتداؤهم إلى منازلهم 343 * أوصاف الجنة 343 * سير المؤمن إلى ملكه 355 * استقبال الخدم له 355 * سعة مملكة المؤمن ونعيمها 355 * صفة أهل الجنة وحليهم ولباسهم 356 * نساء أهل الجنة 358 * خدم أهل الجنة 361 * طعام أهل الجنة 361 * آنية أهل الجنة 362 * قوة أهل الجنة في الأكل والشرب والشهوة 363 * فرش الجنة 363 * أهل المؤمن في الجنة وذريته 364 * التزاور في الجنة 364 * أماني أهل الجنة 365 * ورضوان من الله أكبر 366 * أماني ونعيم لا ينقطع 367 * أخر دعوى أهل الجنة 368 * ثمن الجنة 368 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 * النار 370 * خلق النار 370 * اتباع كل أناس لإمامهم 371 * تغيظ النار عند رؤيتها للكفار 372 * أبواب النار 372 * دركات النار 373 * سعة النار وبعد قعرها 373 * خزنة النار 374 * وقود النار 374 * شدة حرها وعظيم دخانها وشرارها 374 * عظم خلق أهل النار 375 * شدة ما يكابده أهل النار من عذاب 376 * صور من عذاب أهل النار 377 * طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم 385 * أصناف المعذبين 387 * حسرة أهل النار 391 * شدة بكاء النار 393 * تخاصم أهل النار 393 * تبرؤ الشيطان من أتباعه في النار 393 * محاولة أهل النار الخروج منها 394 * الخلود في النار 394 * المصادر والمراجع 396 * الفهرس 409 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415