الكتاب: إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: حسن بن محمد المشاط المالكي (المتوفى: 1399هـ) الناشر: دار المنهاج - جدة الطبعة: الثانية - 1426 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وآله وسلم حسن بن محمد مشاط الكتاب: إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: حسن بن محمد المشاط المالكي (المتوفى: 1399هـ) الناشر: دار المنهاج - جدة الطبعة: الثانية - 1426 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مقدمة التحقيق] إنارة الدّجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وسلم شرح العلّامة المحدّث الأصوليّ الفقيه القاضي حسن بن محمّد المشّاط لمنظومة أحمد البدويّ المجلسيّ الشّنقيطيّ في المغازي (ت 1220 هـ تقريبا) هذا الكتاب سما كالشّمس في الأفق ... وقد وعى أهل هذا البيت فكرته لأحمد البدويّ المجلسيّ به ... نظم المغازي الّذي قد شمت روعته وشيخنا حسن المشّاط أوضحه ... بشرحه حقّق الرّحمن بغيته أسماه باسم جميل علّ نيّته ... مقبولة فأتمّ الله رغبته أنار فيه الدّجى بما الحبيب غزا ... أفادنا فجزاه الله جنّته من اسمه حسن والحسن ديدنه ... كأنّ ربّ السّما أعطاه منيته أم القرى شهدت والبيت والحرم ... بقدره والحجاز الرّحب أثبته يقضي بمكّة عن علم ومعرفة ... بين العباد أعزّ الله رتبته وزارنا في بلاد الشّام حين أبي ... رآه سرّ به بل كان بلغته أجازه بعلوم كالحديث أضف ... فقها أذانا وبالإسناد أبحته «1» وبيننا نسب ما زال متّصلا ... بالعلم يزكو فنل إن شئت نسبته حفيده البارع المحمود طوبى له ... معي اعتنى طيّب الرّحمن وجهته بطبعه وبنشر العلم محتسبا ... مولاي فامح ذنوبي واجل صفحته وانفع إلهي بهذا السّفر قارئه ... هبه التّأسي بمن أيّدت بعثته عليه صل على أصحابه مددا ... واخصص أحبّة هادينا وعترته والحمد لله في بدء ومختتم ... يا ذا الجلال أعنّا نحي سنّته محمد عبد الرحمن بن عبد العزيز عيون السّود، الشّيبانيّ   (1) البحت: الصرف، الخالص من كل شيء، وباحته الودّ: خالصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 القسم الأول الترجمة- الدراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ترجمة الشّارح فضيلة الشّيخ حسن محمّد المشّاط «1» 1317- 1399 هـ ولد رحمه الله تعالى بمكة المكرمة، عام (1317 هـ) نشأ في أحضان أسرة علمية من أسر مكة العريقة (آل مشاط) «2» ، تلقّى تعليمه في رحابها المباركة بالمدرسة الصولتية، وبالمسجد الحرام على يد العلماء الأكابر «3» ، وقد أبدى أثناء تحصيله العلم تفوّقا ونبوغا في الدراسة، أهلاه لأن يكون معاونا في الدروس الابتدائية أثناء تعلمه «4» . أقبل على العلم بكليته، شغف به صبيا، وشابا يافعا، وتضاعف شغفه وولعه به كهلا، وشيخا، فكان شريط حياته تعلما وتعليما، استفادة وإفادة. شجعه على هذا التوجه والاتجاه والداه الكريمان، ومن بعدهما زوجه المصون رحمهم الله تعالى؛ إذ هيّؤوا له جوّا عائليا يعبق بالحب، ويشع بالطهر والصفاء، في رعاية أسرية حانية «5» .   (1) قد ترجم لفضيلته ترجمة موسعة في كتابه: «الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة» دراسة وتحقيق تلميذه عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، والمدون هنا رؤوس الموضوعات هناك، وتتم الإشارة بالهامش هنا عن مواطن وجودها في تلك الدراسة. (2) انظر (الفصل الأول: مؤلف الكتاب: ولادته، ونشأته) من دراسة كتاب «الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة» (الطبعة الأولى، بيروت، دار الغرب الإسلامي، عام 1406) ، (ص 17) . (3) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 32) . (4) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 20، 26) . (5) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 18- 22- 24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 حفّته العناية الإلهية سنوات تحصيله، فأوجدت منه محدثا كبيرا، فقيها مالكيا، وأصوليا نحريرا، عالما من علماء السيرة النبوية، متضلعا من العلوم العربية، متحققا بسلوك علماء الآخرة، كل هذا في خشية العالم وتواضعه، وورعه وتقواه، منصرفا عن الدنيا ومظاهرها، عفيف اليد واللسان، كثير الذكر والتأمل «1» . رحل إلى كثير من البلاد العربية: مصر، والشام، وفلسطين، ولبنان، والسودان، فتعرّف على علمائها، فأجازوه وأجازهم، لم ينقطع عن إفادة الناس فيها، وعقد حلقات الدروس في مساجدها، فحلّ بين أهلها عالما مبجلا «2» . أمّا تلاميذه النبغة العلماء.. فهم كثر، ليسوا في مكة وديار الحجاز فقط، بل في البلاد الإسلامية بعامة، وجزيرة العرب بخاصة، في أفريقيا، وجنوب شرق آسيا، ولهم نتاج علمي غزير، ومؤسسات علمية كثيرة، نشرت النور والمعرفة في أصقاع تلك البلاد. أمّا حياته العملية والوظيفية.. فإنّ تاريخ مكة العلمي والتربوي يعتز به واحدا من كبار العلماء المدرّسين، الذين كان تعليم أبناء المسلمين هوايتهم، يبتغون به وجه الله، فتخرّجت بهم أجيال من العلماء والمفكّرين والمثقّفين «3» . اشتغل بالقضاء بالمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة زهاء خمسة عشر عاما، من عام (1361) إلى عام (1375) كان مثال النزاهة والعفّة والعدل، له مواقف قضائية تاريخية، تشهد له بسداد الرأي، والتوفيق- بفضل من الله- إلى الحكم الصواب «4» .   (1) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 25) . (2) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 28- 32- 54) . (3) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 36- 44) . (4) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 45- 51) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فلا غرو أن يكون علما بارزا بين العلماء المكّيّين، ذا مكانة رفيعة في الوسط العلمي، والمجتمع المكّي، رحمه الله رحمة الأبرار، وأدخله جنّته مع النّبيّين، والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما. نشاطه العلمي: درس بالحرم الشريف، والمدرسة الصولتية، وبمنزلة، لعقود طويلة، منذ شبابه حتى مرحلة شيخوخته ومرضه الذي انتقل بعده إلى جوار ربه، رحمه الله. استمرّ يدرس بالحرم الشريف دروسا خاصة وعامة ببرنامج زمني، يكاد يكون نظام العلماء والمدرّسين في هذا المكان المبارك منذ قرون، أمّا العلوم.. فإنّها تختلف من عالم لآخر حسب تمكّنه واتجاهه «1» . أمّا البرنامج العلمي والزمني لفضيلة الشيخ حسن محمد مشاط، وما دأب عليه تلاميذه وروّاده.. فهو كالآتي: دروس ما بين المغرب والعشاء: يخصّص النصف الأول لهذه الفترة لتدريس الفقه المالكي لمجموعة من الطلاب، محدودة العدد، وآخر مجموعة من الدارسين هذا المذهب قد تدرّج بهم من كتب المبادئ في المذهب، مثل: «متن الأخضري» في الفقه، و «منظومة ابن عاشر» ، و «متن الرسالة» ، حتى منتهيا بها بدراسة «متن سيدي خليل المالكي» . يخصص النصف الثاني لما بين المغرب والعشاء لدرس عام، يحضره الخاصة والعامة لتدريس أحد كتب الصحاح الستة، دراسة علمية محققة للسند والمتن وفقه الحديث، وقد درسها مرات عديدة متكررة، والكتب بأيدي الطلاب يدونون عنه الفوائد والنكات العلمية.   (1) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 52) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والدرس بعد صلاة العشاء: يخص الليالي الثلاث الأولى من الأسبوع لتدريس اللغة العربية، والليلتين الأخيرتين- ليلة الأربعاء والخميس- لتدريس مادة أصول الفقه، وقد درس عليه الطلاب في هذه العلوم كتب البدايات حتى النهايات. عدد الدارسين في هذه العلوم وهذه الفترة عدد محدود من طلاب العلم المداومين. أمّا ليلتا الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع.. فقد اعتاد علماء المجسد الحرام اتخاذهما إجازة أسبوعية. وعادة ما يبتدئون الدروس ويختمونها بالدعاء مستقبلين الكعبة المشرفة، وما أن يرتفع صوت الحق بأذان العشاء.. حتى تتوقف كافة الدروس، وترتفع الأيدي بالدعاء إلى الله عزّ وجلّ. هذه صورة تحكي واقعا يوميا مشهودا كل مساء في المسجد الحرام، ليس فيما يخص فضيلة الشيخ حسن محمّد المشاط، بل هو صحيح بالنسبة لكافة العلماء الذين كانت تمتلئ ساحات المسجد الحرام وأروقته بدروسهم وحلقاتهم العلمية، أمثال الشيخ محمد العربي التباني، والسيد علوي مالكي، والسيد محمّد أمين كتبي، والشيخ محمّد نور سيف، والشيخ عبد الله دردوم، والشيخ محمّد مرداد، وغيرهم كثير، حسب برنامج علمي من الدروس الشرعية واللغوية يختص به كل واحد منهم. نشاطه التأليفي «1» : مؤلفات الشيخ حسن محمّد المشاط رحمه الله شاهد حي، يحكي تمكنه في العلوم التي ألّف فيها، كما أنّها تدل أصالة على مقدار عمقه في علوم الآلة: اللغوية، والبيانية التي لا تستقيم العلوم الشرعية بدونها.   (1) انظر قسم الدراسة ل «الجواهر الثمينة» (ص 57- 72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ألّف في أصول الحديث كتابي: «رفع الأستار عن مخدرات طلعة الأنوار» . و «شرح المنظومة البيقونية» . وكلاهما كتابان معتبران، ينالان الاهتمام الدائم من الدارسين في معظم الأقطار الإسلامية، كما كان في الماضي عند ما كان المؤلف على قيد الحياة، وقد طبعا مرات عديدة نالا تدقيق المؤلف، ومراجعته وتحقيقه. ألّف في الفقه على طريقة المحدّثين كتابين هما: 1- «إسعاف أهل الإيمان بوظائف شهر رمضان» . 2- «إسعاف أهل الإسلام بوظائف الحج إلى بيت الله الحرام» . هما كتابا حديث وفقه في موضوعهما، وقد طبعا لعدة مرات، وكان لهما الحظ الوافر من مراجعة المؤلف وتحقيقاته، حظيا بتدريسهما لطلابه في مناسباتهم الدينية لمرات عديدة. كان رحمه الله تعالى عالما من علماء الحديث المشهود لهم في هذا المجال، وعالما من علماء أصول الفقه، قد أنتج في هذا المجال العلمي كتابه: «الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة» «1» ، وقد طبع طبعتين. وحاشية موسعة على «لب الأصول» . ألّف في العقيدة: «البهجة السنية في شرح الخريدة في علم التوحيد» طبع بأندونيسيا، يدرس في معاهدها ومؤسساتها التعليمية.   (1) طبع طبعتين عام (1406) وعام (1412) بتحقيق تلميذه عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 درس بالحرم الشريف شروح «ألفية ابن مالك» كابن عقيل، والمكودي، وحواشيهما مرات عديدة، مدوّنا تاريخ تدريسه لها على صفحات النسخ التي درس فيها، وكذلك علوم البلاغة، غير أنّه لم يؤلف فيهما. وقد ظهرت آثار هذه الدراسات العلمية المتنوعة واضحة في شرحه لهذه المنظومة. تجلّت قدراته اللغوية رحمه الله في التحليل اللغوي للمنظومة عند ما يحتاج النظم إلى ذلك، حيث ضرورات النظم توجب تقديم ما حقه التأخير، وتأخير ما حقه التقديم، فيستوجب هذا بيان وضع كل عبارة أو جملة في موضعها الصحيح، ومن ثمّ إعرابها لتوضيح معناها. إن اطّلاعه الواسع، وقدراته الرفيعة في علم الحديث سندا ومتنا.. أضاف إلى النظم من الوقائع والأحداث ما لا يوجد إلّا في كتب الحديث، وما لا يعرفه إلّا المحدث الضليع، فهو على ذكر ممّا هو مدوّن في هذه المدونات، وما يذكره علماء السيرة النبوية، وقد يتخلل هذا: تعارض الروايات، والأحداث، والوقائع، فيفحصها حسب القوانين العلمية الأصولية، وقد وفق رحمه الله تعالى في هذا الجانب كل التوفيق. وملكاته الفقهية والأصولية قدمت للقارئ معلومات فقهية مهمة كلّما واتت مناسبة لذكرها. الدراسة شروح المنظومة: يوجد شرح آخر لهذه المنظومة للعلّامة الشيخ حماد الأمين الشنقيطي، وقد ذكر الشيخ حسن محمّد المشاط هذا الشرح، واطّلع عليه، واستفاد منه، وذكر منهجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وطريقته، وأنّه من جملة ما اعتمده في شرحه، ولكنه اتّخذ منهجا آخر مستقلا، هو ما وضحه بقوله: (وقد اعتمدت في هذا الشرح على شرح العلّامة الشيخ حمّاد بن الأمين الشنقيطي ابن أخي الناظم على هذا النظم، وهو شرح على طريقة المتقدمين، غير مزج، يذكر جملة من أبيات النظم، ويتكلم عليها على عادة علماء ذلك القطر في الإسهاب، والولوج في كل فن وباب) «1» . مصادر الشرح «إنارة الدجى في مغازي خير الورى» : خصّ الشارح رحمه الله تعالى المقدمة الثالثة بذكر أشهر من ألّف في المغازي، وبيّن المصادر التي اعتمدها بشكل رئيس، وذكر من بينها شرح العلّامة الشيخ حمّاد بن الأمين الشنقيطي، وبيّن منهجه في شرح هذه المنظومة، وقد سلك المؤلف رحمه الله تعالى منهجا مغايرا؛ فقد كان الأول يعتمد وحدة موضوعية من الأبيات، ثمّ يتحدث عن موضوعها جملة، دون تعرض لتحليل الأبيات ومدلولاتها، في حين أنّ الشارح هنا يعتمد الأسلوب التحليلي لكل جملة وعبارة في النظم، وبيان مؤداها ومدلولاتها. وقد ظهر اعتماده على أهم مدونات السيرة النبوية وأكثرها اعتمدا عند علماء هذا الفن، بل أكثر الاعتماد على ابن إسحاق، والحافظ اليعمري، و «روض النهاة» وهي مصادر أصلية ذات وزن كبير في هذا العلم، علما بأنّ الشارح رحمه الله تعالى قد أسعفته ملكاته العلمية، وعمقه في علم الحديث أن يكون من بين مصادره المنثورة في هذا الشرح: «الصحيحان» بشكل خاص، وبقية كتب الصحاح بشكل عام، وكتب شروح الحديث مثل «فتح الباري» وغيره.   (1) (ج 1، ص 6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فمن ثمّ أصبح الشرح موسوعة مصغرة للأحداث والوقائع النبوية من مصادر صحيحة موثقة. صلة الشارح رحمه الله بمنظومة المغازي، وتحقيقه نصوصها: علاقة الشارح رحمه الله تعالى بهذه المنظومة علاقة حفظ ودرس، وأكثر من هذا هي علاقة عشق وهيام، فقد كانت من جملة محفوظاته التي اهتمّ بها في شبابه، واعتنى بها حفظا، ودرسا، وتدريسا، وكتابة، وشرحا على مدى مسيرة حياته رحمه الله، وقد أحبها لأسباب عديدة: أولا: لموضوعها، فهي عرض أمين، وإبراز لمواقف البطولة شاخصة وممثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم. ثانيا: سلاسة عبارتها، وسهولة حفظها. وقد سجل إعجابه بها كتابة عندما ترجم لناظمها رحمه الله تعالى؛ إذ أثنى عليها، وسماها: «فصل الخطاب» في هذا الموضوع، وعدها متفوقة على سابقتها «الدرة السنية في المعالم السنية» من تأليف القاضي أبي عبد الله محمّد بن عيسى بن محمّد بن أصبغ الأزدي، المعروف بابن المناصف، الذي بلغ سبعة آلاف بيت من الرجز «1» . وللحديث عمّا تميزت به هذه المنظومة يقول: (قلت: ومنظومتنا هذه هي فصل الخطاب، والآية في الإعجاب، لا تدع شاذة ولا فاذة من عيون المغازي.. إلّا أتت عليها بأبدع أسلوب، وأسلس تعبير، فهي الفريدة في بابها، الممتعة لطلابها، وها هي ذي بين أيدينا ترفل في أبواب   (1) انظر «إنارة الدجى في شرح مغازي خير الورى» (ج 1، ص 69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 حسنها، مدبجة بكلام الحفاظ والمهرة، من نقدة أهل هذا الشأن، فليحكم لها، أو عليها) «1» . وقد كان لها النصيب الموفور من قراءته وتدريسه لها، وكثيرا ما كان يستشهد بها في دروسه ومجالسه، ويحث طلابه على حفظها. قرأ هذه المنظومة، وصححها على يد شيخه الشيخ محمّد عبد الله زيدان «2» ، ولم تكن النسخة التي استنسخها الوحيدة، بل كانت هناك نسخة أخرى هي نسخة الشيخ حمّاد، وتختلف أحيانا عن نسخته، تعلق الشارح رحمه الله تعالى تعلقا شديدا بهذه المنظومة جعله يقارن بين نسخته وبين ما هو موجود في النسخة الأخرى، وقد ذكر بعض هذه المخالفات، ونوّه عنها في شرحه، من هذه المواضع: 1- أسماء الذين ثبتوا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم هوازن (ج 2/ ص 241، 244) . 2- الاختلاف في صدر البيت، ففي نسخته يذكر أوّله: ومعتب نجل قشير قالا ... وعدنا النّبي أن ننالا وأن في بعض النسخ: وابن قشير معتب قال أما ... وعدنا محمّد أن نغنما وعقب على هذا قائلا: (والخطب سهل، والمعنى واحد) (ج 1/ ص 280) . وهو بهذا التدقيق لنصوص المنظومة يبرهن على عنايته بتحقيق نصوصها تحقيقا علميا سليما.   (1) انظر «إنارة الدجى» (ج 1، ص 70) . (2) انظر «إنارة الدجى» (ج 2، ص 244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 منهج الشارح رحمه الله تعالى: أوّلا: قدم الشارح رحمه الله لشرحه لمنظومة المغازي بمقدمات تعريفية مهمة، يحتاج إليها دارس هذا العلم، مبتدئا حسب الترتيب الآتي: 1- ترجمة الناظم، والتعريف بمكانته العلمية، وجهوده في التأليف في فن المغازي، والأنساب. 2- مشروعية الجهاد، وقد وضح هنا التدرّج التشريعي في هذه الشعيرة الإسلامية المهجورة. 3- في المغازي وفضل تعليمها. 4- في أشهر من ألّف في المغازي، وقد أتى على ذكر أهمها، منذ القرن الأول الهجري.. حتى القرن الحادي عشر الهجري. ثانيا: من المعلوم أنّ النظم لا يتّسع لتفصيل الأحداث والوقائع، وأقصى ما يمكن هو التصريح إجمالا لأهم الأحداث، وما عدا هذا فيكتفى عنه بالإشارة والرمز، فمن ثمّ سلك الشارح رحمه الله تعالى لبيان التفاصيل والإسهاب فيها طريقتين مختلفتين: أ- يسرد الحدث كاملا برواياته، وكافة وقائعه، في عبارة نثرية متسلسلة، وفي النهاية يذكر: أنّ هذا هو ما عناه الناظم من البيت التالي، أو الأبيات التالية، وبهذا يكون القارئ على إلمام بالمقصود، من كل حرف وكلمة في النظم، ثم يعرج بعد هذا على تحليل النظم، تحليلا لغويا بيانيا. ب- وأحيانا يقدم تحليل النظم تحليلا لغويا، وبيانيا كاملا، وبعد هذا يأخذ في سرد موضوع النظم في عبارة نثرية متسلسلة، مترابطة الأحداث بعبارته، والاستشهاد لعرضه من كتب الحديث والسيرة النبوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والمعيار في هذا التراوح عند الشارح: هو علاقة الحدث بما ذكر قبله، أو ما يذكر بعده. ثالثا: استكماله الأحداث والوقائع التي لم يتأتّ للناظم عرضها، والحديث عنها، من ذلك: أ- عمرة القضاء: توقف الناظم عند عقد الصلح (ج 2/ ص 138) دون أن ينوّه عن عمرة القضاء، فرأى الشارح رحمه الله تعالى أنّ الحديث عن عمرة القضاء، وما جرى فيها من وقائع.. يعد جزءا مهما لاستكمال صلح الحديبية ونتائجه البالغة على المسلمين، فمن ثمّ تحدث عنها بالتفصيل. كذلك لم يعرض الناظم للأحداث التي وقعت للمسلمين لما وصلوا إلى تبوك، (ج 2/ ص 294) وقد تنبّه لها الشارح رحمه الله فأكملها. رابعا: عنايته بضبط أسماء الغزوات، والأماكن، والأسماء، ضبطا صحيحا، كتابة بالحروف حسب طريقة الضبط عند القدماء، وذكر الأقوال عند الاختلاف، وترجيح الصحيح، معتمدا في هذا على دواوين اللغة ومعاجمها، وكتب السيرة والتاريخ المتخصصة. انظر مثالا لهذا: (غزوة ذي قرقرة) (ج 1/ ص 132) . خامسا: اختياره من المصادر الأحداث والوقائع التي تنمي في القارئ روح التضحية والفداء في سبيل الله، والتي من شأنها أن تستثير في القارئ نوازع الخير، وتضاعف في نفسه محبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام. سادسا: اهتمامه بتحديد موقع الغزوة، وتاريخ حدوثها، وحامل لوائها، وعدد أفرادها، وذكر اسم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أثناء غيابه عنها. هذه هي العناصر الرئيسة في منهج المؤلف، وقد يقف الدارس بصفاء ذهنه وملكته على جوانب أخرى في منهج الشارح رحمه الله، تضم إلى ما سبق عرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 منهج الشارح رحمه الله تعالى في التعبير عن رأيه: من السّمات البارزة في حياة المؤلف فضيلة الشيخ حسن بن محمّد المشاط تواضعه الجم مع الكبير والصغير، حالا ومقالا، وهو مظهر من مظاهر سلوكه العام، وبنفس السلوك يتعامل مع العلماء وآرائهم وكتبهم، ولا تبدو منه كلمة يشتمّ منها رائحة الجرح، فضلا عن الصريح. يلمس القارئ هذا بوضوح فيما يذكر من آراء خاصة به، أو ترجيح، بعبارة متواضعة يستهلها أحيانا بقوله: (قال العبد الضعيف) في أكثر من موضع، أو مناسبة. انظر (ج 1/ ص 125- 127) . وأحيانا يستهل الجملة عند ما يريد التعبير عن رأيه بقوله: (واعلم) أو بكلمة: (قلت) بضمير المفرد المتكلم. خصائص الشرح: اشتمل الشرح على مجموعة من الخصائص العلمية المهمة نتيجة اهتمام الشارح رحمه الله، وبذله جهدا كبيرا في إنجازه، يطول الحديث في استعراضها تفصيلا، ومن الأجدى عرض أهم تلك الخصائص، ونماذج منها: أولا: تحديد موقع الأماكن التي جرت فيها الأحداث، وتحقيق أسمائها بحسب اشتهارها في الماضي، وتسميتها في الحاضر مثال هذا: هدا الشام حاليا بوادي فاطمة الذي يسمى في كتب السيرة ب (الرجيع) وتنسب إليه وقعة الرجيع، وسماه الإمام في «جامعه» ب (الهداة) ويعلق الشارح رحمه الله تعالى هنا قائلا: (قلت: ويسمى اليوم ب (هدا الشام) ويعرف بهذا الاسم، وله طريق من مر الظهران، وادي فاطمة، بينه وبينها نحو ساعة بالسيارة، وبهذا الموضع مزارع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كثيرة، وهواء طلق، ونخيل، وعيون، وآبار عذبة جدا، جئته يوما من الصباح إلى المساء، فصليت في جامعه، وبه مدرسة ابتدائية، ويقال: إنّ عدد من يسكنها اليوم يقرب من الألف) (ج 2/ ص 51) . ثانيا: تحقيقه للأحداث التي تتضارب فيها الروايات وتصحيحها: ترد بعض الأحيان أحداث تختلف فيها الروايات فيفحصها الشارح رحمه الله بحاسة المحدث، المؤرّخ، الخبير بترتيب الأحداث، فيخرج برأي سديد. من هذا ما ذكره نقلا عن كتاب «الروض الأنف» للسهيلي: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه شيء عن أهل مسجد الضرار، وكان قد استخلف عاصم بن عدي العجلاني على قباء، والعالية، فرده لينظر في ذلك، وضرب له بسهمه مع أهل بدر) (ج 1/ ص 134) . يقول الشارح رحمه الله تعالى في دراسة هذا وفحصه حسب الأصول العلمية: (قلت: هكذا قالوا، ولم يكن إذ ذاك مسجد الضرار، وإنّما كان سنة تسع عند خروجه صلى الله عليه وسلم لتبوك، فيحتمل أن يكون استخلافه عليه الصلاة والسلام على أهل قباء والعالية من المدينة لشيء بلغه عنهم؛ ولذلك عدّ من البدريين، وضرب له بسهم، وهو المعتمد كما ذكره الحافظ في «الإصابة» أمّا ذكر مسجد الضرار.. فلا معنى له) . (ج 1/ ص 135) . ويلجأ إلى التوفيق بين الروايات إذا أمكن، ما لم يؤدّ إلى تعارض أو تناقض، وذلك: بأن تنسب بعض الأحداث إلى بعض الصحابة، وفي روايات أخرى تنسب إلى آخرين سواهم، ولا يمنع العقل والواقع صدوره من كليهما، فيحاول الشارح رحمه الله تعالى بصفاء إيماني، وحب عميق، وإجلال وإكبار لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. التوفيق بينهما بمنطق مقبول، ومن الأمثلة على هذا: ذكر الشارح رحمه الله: أنّ الإمام الزرقاني ذكر في «المواهب» : (عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عروة: أنّه لما وضع فيه- خبيب بن عدي رضي الله عنه- السلاح نادوه- المشركون من بني لحيان فقد كان أسيرهم-: أتحب أنّ محمدا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه) . وذكر الزرقاني رواية أخرى فقال: (ويقال: إنّ ذلك لزيد بن الدثنة، وأنّ أبا سفيان قال له ذلك) . ويعلّق الشارح رحمه الله تعالى على هذا التعارض موفقا بين الروايتين قائلا: (أقول: ولا منافاة، فمن الممكن أن يقع ذلك لكل من الصحابيين، وغايتهم واحدة، هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) (ج 2/ ص 53) . ثالثا: اهتمامه بالروايات المتعددة: إنّ الشارح رحمه الله تعالى معروف بدقته ويقظته الشديدة؛ لما بين مؤلفي السير من اتفاق أو اختلاف في الأحداث والوقائع، أو أسبابها، أو تعددها، وتعدد أسمائها. من هذا ما جاء في (ج 1/ ص 169) في عرض أحداث غزوة بني سليم؛ إذ جاء تحت عنوان (تنبيه) ما يأتي: (جعل الناظم غزوة بني سليم غير غزوة قرقرة الكدر؛ لما سيأتي، فهما غزوتان؛ تبعا لأصله «العيون» ، وجعلهما صاحب «المواهب» واحدة، وتبعه تلميذه الشامي) . رابعا: مقارنته بين هذه المنظومة، وبين رصيفتها منظومة الشيخ غالي بن المختار في «تبصرة المحتاج» ، من هذا: عرض الناظم رحمه الله لقصة العرنيين وسرية سعيد بن زيد رضي الله عنه في الأبيات الثلاث الآتية: وبعدها انتهبها الأولى انتهوا ... لغاية الجهد وطيبة اجتووا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فخرجوا وشربوا ألبانها ... ونبذوا إذ سمنوا أمانها فاقتصّ منهم النّبي أن مثلوا ... بعبده ومقلتيه سملوا وبعد أن أتمّ الشارح رحمه الله تعالى تحليلها وبيانها، وفصل أحداث هذه السرية.. ذكر الآتي: وقد أشار إلى هذه السرية الشيخ غالي بن المختار في «تبصرة المحتاج» بأبسط ممّا ههنا، وسماها بسرية كرز بن جابر الفهري بقوله: فنجل جابر لنيف ذو العلا ... كرز بإثر نفر عدوا على لقاح خير مرسل وقتلوا ... غلامه ومقلتيه سملوا وإذ بهم أتى النّبي قطعا ... أيديهم ونعم ما قد صنعا وقطع الأرجل ثمّ سملا ... أعينهم وردّهم ممتثلا بجانب الحرة يستسقونا ... لما أصابهم فلا يسقونا (ج 2/ ص 74) خامسا: اهتمامه بالجوانب الفقهية: الفقه الإسلامي أحد العلوم التي برع فيها الشارح- رحمه الله تعالى- وملك عنانها، فلا عجب أن يعطي الجانب الفقهي اهتماما كبيرا، خصوصا وأنّ المواقف النبوية في هذه الغزوات ذات طابع خاص.. تعد مصدرا لأحكام شرعية كثيرة لا مجال لإبرازها واستنباطها.. إلّا من خلال أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتحرّكاته في هذه المناسبات بخاصة، وبحكم التفاعل العلمي الفقهي في نفس الشارح رحمه الله تعالى.. لم يأل جهدا أن يتحدث عن الجوانب الفقهية، والأحكام التشريعية إذا طرأت مناسبة لذلك، والأمثلة على هذا كثيرة، ومنثورة في صفحات الكتاب، وعرض الأحداث، ويكتفى هنا بالإشارة إلى عناوين بعضها، مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 1- حكم من دعا بدعوى الجاهلية في الإسلام، وأقوال الفقهاء فيه (ج 2/ ص 85) . 2- حرمة التسبب لإسقاط الأطفال، وحكم استعمال الحبل من أصله (ج 2/ ص 101) . 3- جواز الاجتهاد بحضرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم (ج 2/ ص 50) . 4- حكم أخذ الأجرة على دخول الكعبة (ج 2/ ص 226) . 5- حكم النياحة على الميت، وإرهاق أهل الميت بعمل طعام للمعزين (ج 2/ ص 172، 173) . 6- هل يغسل الشهيد إذا كان جنبا (ج 1/ ص 233- 234) . 7- المعنى الذي ينبغي أن يحمل عليه حديث المغفرة لأهل بدر، وحكم ما إذا ارتكب أحدهم فعلا يوجب حدا شرعيا (ج 1/ ص 128) . سادسا: استخلاص الفوائد والعبر من الأحداث: من أبرز الجوانب التي يحرص عليها الشارح رحمه الله هو استخلاص الفوائد والعبر من الأحداث مما يفيد الأمّة الإسلامية، ويرفع من شأنها، ويعيد إليها أمجادها، قد يطول به الوقوف عند الحدث حسبما يمليه الموقف، وقد يقصر، وهو حريص كل الحرص على توجيه نظر القارئ بخاصة، والمسلمين بعامة إلى الإفادة من التجارب التي مرّ بها المسلمون في عصر النبوة، والخلافة الراشدة، والأخذ بالأسباب التي تقودهم إلى العزة والكرامة، وتباعد بينهم وبين أسباب الذل والانحطاط. تتجلى هذه الروح منذ الصفحات الأولى من هذا الكتاب، ففي نهاية حديثه عن المغازي، وفضل علمها وتعلمها يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 (وإنّ في النظر إلى ما لأسلافنا الكرام القادة في الحرب والسلم، من المقدرة الفائقة، والبطولة النادرة، والتضحية بالمهج الغالية في سبيل العقيدة الحقة، والمبادئ الفاضلة.. ما يملأ القلوب إيمانا بفضلهم، وإعجابا بصنعهم، وإكبارا لجلائل أعمالهم، وحرصا على التأسّي بهم. وفّق الله الأمّة للنظر فيما لسلفها الصالح؛ حتى تفيق من غفلتها، وتنهض من كبوتها، وتتذكر بذلك ما كان لها من عظمة ومجد، فتعمل لاسترجاعه، وتتبوّأ المكان اللائق بها، آمين) . وهكذا تعامله مع كل حدث فيه تذكير واستحثاث لهمة الأمّة، وتوجيه نداء مخلص لأبنائها، والنماذج من هذه الوقفات للشارح رحمه الله تعالى كثيرة، منها: ما ذكره من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في إمضاء شروط صلح الحديبية (ج 2/ ص 121) . وفوائد قصة التحلل من إحرام العمرة بعد إبرام عقد الصلح (ج 2/ ص 127) وغيرها كثير امتلأت به صفحات الشرح. سابعا: ربطه بعض الأحداث قديما بما هو جار في العصر الحاضر: لا ينسى الشارح رحمه الله تعالى أن يقارن الأحداث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجري في عالمنا المعاصر؛ لإذكاء الشعور الإيماني، وبيان الواقع الذي انحدرت إليه الأمة، أو بعض طوائفها، ومن الأمثلة على هذا: 1- حديثه عن مشروعية الوقف في الإسلام بمناسبة تحبيس النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبع حوائط بأنّه: (أحد الأدلة الكثيرة على مشروعية الوقف في الإسلام) . ثمّ يعلّق الشارح رحمه الله تعالى على هذا قائلا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 (خلافا لبعض علماء العصر ممّن يريد حل الأوقاف الإسلامية تبعا للهوى، هدانا الله، وإيّاهم على الصراط المستقيم) (ج 1/ ص 231) . 2- توجيه شباب الأمّة ونصحهم بالاقتداء بالصحب الكرام (ج 1/ ص 219) . ثامنا: استشهاده بالشعر: والشارح رحمه الله تعالى يقول الشعر، ويحفظه، خصوصا الشعر الرصين، الرفيع المعاني، الرقيق الحواشي، البليغ العبارة، وقد نثر هذا في مناسبات عديدة من الشرح، بما يلائم الموقف الذي يتحدث فيه. ففي عرض أحداث غزوة خيبر، وتطلّع الصحابة رضوان الله عليهم إلى أن يعطى كل واحد منهم الراية عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الراية رجلا يحبه الله ورسوله» ، ثمّ أعطاها عليا رضي الله عنه، وكان متخلفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لرمد أصابه، ثم لحق بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانت الراية من نصيبه، ويعلق الشارح رحمه الله تعالى على هذا الحدث العظيم في (ج 2/ ص 146) بقوله: (وفي هذه القصة لطيفة، وهي: أنّ من طلب شيئا، أو تعرّض لطلبه.. يحرمه غالبا، وأنّ من لم يطلب شيئا، ولم يتعرض لطلبه.. ربما وصل إليه) . ثمّ يستشهد على هذا بالبيت التالي: والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ... يوما ويمنعه من حيث يطمعه وإذا دعت المناسبة لذكر بعض الأشعار ذات المعاني الطريفة.. فإنّه يستشهد بها، مقدما لها بعنوان له مدلوله الرقيق (لطيفة) . من هذا ما ذكره تحت هذا العنوان بعد الحديث عن أهل بدر وما خصّهم الله من مغفرة ورضوان قائلا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 اقتبس الحديث المذكور بعض الأدباء فقال في محبوب يسمى بدرا «1» : يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري وقبحوا لك وصلي ... وزيّنوا لك هجري فليفعلوا ما أرادوا ... فإنّهم أهل بدر تاسعا: استطراداته: الاستطراد: عبارة عن إضافة معلومات إلى الموضوع الأساسي ممّا له علاقة به، لأدنى ملابسة، وقد حرص العلماء القدامى على هذا النوع من الإضافات في مؤلفاتهم، حتى إنّها كانت من حسنات التأليف وفضائله. فليس عجبا أن يأخذ الشارح رحمه الله تعالى بهذا المبدأ جريا على عادة المؤلفين السابقين، فيمتلئ كتابه بالاستطرادات الكثيرة، والإضافات المفيدة، فيطيب له إذا وردت مناسبة لذكر فائدة، أو إضافة معلومة ذات علاقة بالموضوع أن يتحدث عنها. ومن الاستطردات المهمة ما جاء في (ج 2/ ص 160) بعد الانتهاء من عرض أحداث أمراء جيش مؤتة رضي الله عنهم إسهابه في التعريف بكل واحد منهم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة بدءا من (ص 164- 180) ، حتى وقد بدأ التعريف بهم بقوله رحمه الله تعالى: (وحيث حدا بنا المقام إلى هؤلاء الأمراء الثلاثة.. فلا بأس أن نلم بشيء من التعريف بهم، تيمّنا بذكراهم، وإن كانوا في غنية عن التعريف؛ لشرفهم العظيم بالانتساب الحقيقي إلى الجناب النبوي رضوان الله عليهم، لكنا في شديد الحاجة إلى معرفة حياتهم في ذلك العصر النبوي؛ لنقتفي آثارهم، ونتيمن بآثارهم، ونعطر النواصي بأريج شذاهم ... ) (ج 62 ص 164) .   (1) (ج 1/ ص 78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وبعد أن أطنب في ترجمة زيد بن حارثة رضي الله عنه.. ساقه الحديث إلى ذكر الأربعة الذين توالدوا صحابة (ج 2/ ص 169) . وبعد أن عددهم.. ساقه الحديث إلى الكلام عن موالي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقدم لذكرهم بمقدمة مدخلا لإيجاد المناسبة لذكرهم قائلا: (وبمناسبة ذكر سيدنا زيد لا بأس بإتمام مواليه صلى الله عليه وسلم تتميما للفائدة) (ج 2/ ص 169) . ومن الاستطرادات المهمة التي أشبع بها الكتاب ذكره حدود الحرم، وتاريخ ترسيم الحدود، لدى عرض أحداث غزوة الفتح، وفتح النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة، وعفوه عن أهلها، وتحريمه لها، فذكر تحت عنوان (تاريخ أنصاب الحرم) (ج 2/ ص 197) اقتباسات مهمة عن مؤرخ مكة المكرمة أبي الوليد الأزرقي، فذكر أول من نصب أنصاب الحرم، وتابع بعد هذا الحديث عن من جددها حتى عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ج 2/ ص 197) . وفي مناسبة أخرى لدى الحديث عن إسلام عبد الله بن أميّة القرشي المخزومي، وكان هو وأبو سفيان بن الحارث شديدي الإيذاء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، وبعد الهجرة، وما كان من إعراض النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنه تأديبا، ثمّ شفاعة أخته أم سلمة رضي الله عنها فيه، ثمّ عفو النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنهما، يقول الشارح تعليقا (ج 2/ ص 192) . ولكن احتضنتهما السعادة، جعلنا الله ممّن سبقت له العناية، وكتب له السعادة: رب شخص تقوده الأقدار ... للمعالي وما لذاك اختيار غافلا والسعادة احتضنته ... وهو منها مستوحش نفار والشارح رحمه الله تعالى يحفظ الكثير من الشعر العذب الرقيق، ويستشهد به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ما عنت له مناسبة. وقد أبدع بعض الشعراء معنى بديعيا من قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرحبا اليهودي مستخدما الجناس التام في البيتين التاليين، هامش (2) (ج 2/ ص 149) يقول الشارح رحمه الله: وأشار لذلك بعضهم وأجاد بقوله: وشادن أبصرته مقبلا ... فقلت من وجدي به مرحبا قدّ فؤادي في الهوى قدة ... قدّ علي في الوغى مرحبا إلى غير ذلك من الاستشهادات العديدة للمعاني الرفيعة، والخيال البديع. عاشرا: العرض الإجمالي لأهم الأحداث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى عام وفاته: ختم الشارح رحمه الله تعالى هذا الكتاب بما اعتاده بعض المؤلّفين في السيرة النبوية الشريفة بعرض بعض الأحداث والتشريعات المهمة، التي وقعت من عام ولادته الشريفة صلى الله عليه وسلم الذي شرف الله به العالمين إلى عام وفاته صلى الله عليه وسلم. ويلاحظ في هذا العرض أمور: أولا: أنّه لم يكن متسلسلا سنة بعد سنة ترتيبا متتابعا، بل حسب وقوع الأحداث، السابق فالتالي، وإن تباعد ما بينهما؛ ولعله لم يوجد بينهما من الأحداث المهمة ما يوجب رصده، والاهتمام به. بدا هذا واضحا منذ بداية العرض الموجز لقائمة الأحداث المهمة، حيث انتقل الشارح رحمه الله تعالى من سنة ولادته صلى الله عليه وسلم إلى السنة الرابعة مباشرة، ومنها إلى السادسة، وقد تتسلسل الأحداث زمنيا إذا حدث ما يستدعى ذكره من الأحداث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ثانيا: لم يكمل الشارح رحمه الله تعالى عرض الأحداث حسب تاريخ ولادته صلى الله عليه وسلم حتى الأمد الذي حدده وهو وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فقد استمرّ يؤرّخ حسب الولادة الشريفة، ثمّ توقف أن يؤرخ بها بعد البعثة النبوية، وتابع رصده التاريخي حسب البعثة النبوية بعد بلوغه صلى الله عليه وسلم الأربعين من عمره الشريف، وأول حدث دونه هو: (وفي السنة الثالثة من النبوة: توفي ورقة بن نوفل) . واستمرّ التاريخ للأحداث حسب البعثة حتى السنة الرابعة عشرة من النبوة، ثمّ توقف في التاريخ بها في السنة الأولى للهجرة. ثالثا: استأنف بعد ذلك التاريخ للأحداث حسب هجرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنوّرة، وبالتفاوت في الرصد التاريخي للأحداث يحقق الشارح رحمه الله تعالى أمرين مهمين: الأول: الرصد التاريخي حسب الحدث الأهم حتى يأتي ما هو أهم منه، فيكون له الأوّلية. الثاني: إبقاء الحدث الأهم حيا في الذاكرة على مدار الفترة الزمنية التي يؤرّخ لها. حادي عشر: النقد العلمي المهذب: استدرك الشارح رحمه الله تعالى على الناظم نقاطا علمية عديدة، بأسلوب علمي موضوعي مهذب، من ذلك: ذكر الناظم أنّ أبا ذرّ الغفاري رضي الله عنه استشهد على يد العصابة من بني غطفان الذين نهبوا لقاح النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك قوله: وأقبلت امرأة الغفاري ... قتيل نهب إبل المختار فاستدرك عليه الشارح رحمه الله بالعبارة التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 (وفي كلامه نظر؛ فإنّه إذا كان الغفاري أبا ذرّ فكيف يصفه بأنّه مقتول للذين أغاروا على اللقاح، فإنّ المعروف عند أهل السير أنّ المقتول هو ابن أبي ذرّ الغفاري واسمه: (ذرّ) ، ولم يقل أحد: إنّ المقتول أبو ذرّ) (ج 2/ ص 64) . وفي مناسبة أخرى عندما قدم الناظم رحمه الله الحديث: موت رفاعة بن زيد كهف المنافقين (ج 2/ ص 83) على حادثة الواردة، (وذلك أنّ أجيرا لعمر بن الخطاب من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود جاء يقود فرسه في موضع الزحام على الماء فازدحم مع سنان بن وبرة الجهني فاقتتلا) (ج 2/ ص 84) . يقول الشارح تعليقا على تقديم الناظم ما حقه التأخير ترتيبا: (ولو أخر هذه الحادثة عن حادثة الواردة.. لكان أولى كما صنعه صاحب الأصل الحافظ اليعمري في «سيرته» ، وكذا غيره) (ج 2/ ص 83) . بمثل هذه العبارة المختصرة المهذبة يعبر الشارح عن نقده واعتراضاته: (وفي كلامه نظر) ، و (لكان أولى) ممّا ينم عن خلق إسلامي رفيع، هو من خصائص العلماء، وأهل الإيمان. ويأخذ النقد عنده أحيانا صورة أخرى وهو اقتراح عبارات للنظم غير ما عبر به الناظم، من هذا قول الناظم: خندق خير مرسل بأمر ... سلمان والحروب ذات مكر يقول الشارح رحمه الله تعالى: (قلت: ولو أنّ الناظم قال: خندق خير مرسل وقد أشار ... سلمان بالخندق نعم المستشار .. لكان أليق بالأدب في حق الجناب النبوي) (ج 1/ ص 269) . ويعتذر للناظم أحيانا، ومن الأمثلة على هذا: أنّ الناظم رحمه الله تعالى قدم مقالة سيدنا سعد بن معاذ في غزوة بدر على مقالة المقداد في تجاوبهم لنداء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وطلب المشورة عليه، في حين أنّ المقداد رضي الله عنه قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 سبقه بمقالته المشهورة، ويعتذر الشارح رحمه الله تعالى عن الناظم بضرورة الشعر ويختم هذا قائلا: (والخطب سهل) (ج 1/ ص 92) . وبعد: فكتاب «إنارة الدجى في مغازي خير الورى» شرح العلّامة المحدث، الفقيه الأصولي، فضيلة الشيخ حسن محمّد المشاط المكي قبل هذا وبعده.. مرآة صافية للروح الإسلامية الشفافة، والحسن الإيماني القوي، ومشاعر الحب الصادقة الدفينة، التي يخفق بها قلب الشارح رحمه الله تعالى حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحبه الأطهار، رضوان الله عليهم، وسلف الأمّة الصالحين؛ فقد كان حديثه عن السيرة النبوية حديثا يفيض إيمانا، يستجمع له مشاعره وإحساساته؛ إجلالا وإعظاما وخشوعا، حديث المتأثر المتفاعل بما يقول، يحسه سامعه، ويدركه على قسمات وجهه مغرورق العينين، وقد أخضلت الدموع لحيته، فيسري تيار من التأثّر والخشوع بين الحاضرين. ولست بمحص، أو معدد خصائص هذا الكتاب وميزاته؛ فإنّ القارئ البصير، الصافي الفكر، سيقف على الكثير ممّا لم تتعرض له هذه الدراسة الموجزة؛ إذ استهدفت الإشارة إلى عرض إجمالي، محدد لخصائص هذا الشرح، ولم تكن تستهدف الحصر والاستقصاء. والله أسأل- وهو خير مسؤول- أن يجزى فضيلة الشيخ حسن بن محمد مشاط شارح هذه المنظومة خير الجزاء؛ على ما بذله في سبيل إعلاء كلمة الدين، ونشر العلوم الشرعية؛ ابتغاء وجه الله، والفوز بالرضا والقبول، ونسأل الله أن يرحم ولده البار الشيخ أحمد حسن مشاط، الذي يسعى حثيثا إلى نشر تراث والده، والتضحية بكل ما يستطيعه في تعميم النفع به، وأن يجعل من ذريته خلف خير، يقتفون آثار الآباء والأجداد، يصلون الحاضر بالماضي، علما وعملا، إنّه سميع قريب مجيب الدعاء، لا يفوتني أن أشكر الآخرين الدكتور السيد قاسم بن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الأهدل، والدكتور صبغة الله نبي قطب الدين تلميذي المؤلف على ما قدماه من جهد في تصحيح الكتاب، وأسأل الله لهما العون، أن يخرجا هذا العمل الجليل إخراجا محققا محررا، حسب أصول التحقيق والبحث العلمي، وصلّى الله وسلم وبارك على سيدنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أبد الآبدين. بقلم تلميذ المؤلف الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان كوالالمبور 16/ 5/ 1413 الموافق 10/ 11/ 1992 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 القسم الثاني كتاب إنارة الدجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تعريف بصاحب النظم ترجم له الأستاذ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي في كتابه «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط» طبعة الجمالية بالقاهرة، سنة (1329 هـ) - (1911 م) فقال: (أحمد البدوي المجلسي ثم البوحمدي: هو العالم الكبير والنسّابة الشهير، وهو الذي أحيا أنساب العرب، بنظمه «عمود النسب» وقد أجاد فيه ومن تأمّل نظمه علم سعة اطّلاعه واقتداره في ذلك الفن، ونظم أيضا غزوات النّبيّ صلى الله عليه وسلم نظما جيدا، يدل على تبحّره في السيرة) . وقال: (إنّه ليس من المتقدمين؛ وما أدري في أي تاريخ كان) اهـ وقال الشيخ غالي بن المختار: قال البساتي الشنقيطي في «وسيلة الخليل إلى بعوث صاحب الإكليل» : (البدوي رحمه الله تعالى: هو أحمد الإمام الشهير بن سيدي محمّد بن أبي أحمد المجلسي) اهـ ولم يزد على ذلك. أمّا «عمود النسب» فيزيد على ألف بيت، وممّا قاله في طالعته: حمدا لمن رفع صيت العرب ... وخصّهم بين الأنام بالنّبي وعمّهم إنعامه بنسبته ... فدخلوا بيمنها في زمرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ودوّخوا بسيفه غلب العجم ... إذ هم بنو أب وأم بالحرم إذ الخيول البلق في فتوحهم ... والرعب والظفر في مسوحهم هم صفوة الأنام من أحبّهم ... بحبّه أحبّهم وودّهم كذاك من أبغضهم ببغضه ... أبغضهم تبّا له من معضه أئمّة الدين عماد السنّه ... لسانهم لسان أهل الجنّه جمان سلك نسب النّبي ... ناهيك من سلك ومن بني ثمّ الصلاة والسلام سرمدا ... على أجل المرسلين محتدا وبعد فالعلوم من أعظمها ... فائدة فكان من أهمها علم عمود نسب المختار ... ثم عمود نسب الأنصار إذ منهما تشعّب الإيمان ... والنور والحكمة والفرقان هذا ووجدت في ظهر نسخة خطّية عتيقة من «عمود النسب» كتبت سنة ألف ومئتين وخمس وثمانين، أنّ الناظم توفي تقريبا في العام العشرين بعد الألف والمئتين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فرحمه الله، وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تصدير الحمد لله الذي جعل العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، وجعل علم المغازي من بينها نبراسا يهتدي بمشكاته السائرون، وسببا متينا يتوصل به السالكون. والصلاة والسلام على من أضاءت قبل وجوده إرهاصاته، وأكرم بها من إرهاصات، وأشرقت في أسرّة طلعته آياته، وأعظم بها من آيات، النّبيّ الأمّيّ، الذي أنار الله الدّجى بطلعة أنواره، فهو سيد الكائنات، ومحا ببعثته معالم الشرك، ومحق بصارم سيفه هام أعدائه فهم في الدركات، رسول الملاحم، ونبيّ الرحمة، الذي بوّأه الله المنزلة العليّة، فهو صاحب المقام المحمود، ومنحه مواهب الشرف في المقامات السنيّة، فهو الشاهد المشهود، سيدنا محمّد، الذي ألبسه الله من الحلل السندسية، حلّة لا تريم «1» ، ورتبة لا ترام، فهو سيد الإنس والجن قبل وبعد، بل سائر البرايا والأنام، صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فقد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، وجاهد في سبيل الله، وقام بنصح الأمّة حقا.. حتى أخذ بحجزها «2» عن الوقوع في المهواة، وعلى آله وصحبه، الذين   (1) لا تريم: لا تبرح، يريد لا تزول ولا تبلى جدتها. (2) بضم الحاء وفتح الجيم، بعدها زاي، جمع حجزة، وهي معقد الإزار، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما مثلي ومثل أمّتي، كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 هم أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم، يبتغون فضلا من الله. أمّا بعد: فإنّه لمّا كان (علم المغازي) من العلوم الشريفة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويشمّر عن ساعد الجد في تحصيلها العاملون؛ إذ هو علم يحثّ المرء على الاقتداء بخير الأنام، ويدعو إلى التخلّق بحقائق أقواله وأفعاله الموصلة إلى دار السلام، وإنّه لعلم يريك بصورة مكبّرة ذلك العهد النّبوي الأنيق، فتستنشق ريّاه، ويعبق لك شذاه، وتشرب من كأسه المختوم الرحيق، وكان هذا من بعض ثمرات هذا الفن، كما هو بديهي لدى كل خبير حاذق مفن.. عنّ لفهمي القاصر أن أنتسب لذلك الجناب الرفيع النّبوي، بخدمة «منظومة المغازي» للإمام الجليل أحمد بن محمّد البدوي الشنقيطي، وشرحها شرحا يناسب طلبة العلم بديارنا المكّية، التي انبثق منها فجر العلم؛ ليوجّهوا إلى ذلك عنايتهم، ويثبتوه درسا من المقررات؛ فإنّ من القبيح أن يجهل الإنسان أحوال ساداته، فكيف بأحوال سيد السادات؟! بل ينبغي أن تعطّر النوادي بذكر أخباره عليه الصّلاة والسّلام؛ فإنّها لم تعمر مجالس الخير بعد كتاب الله تعالى بأحسن من أخبار من هو الرحمة المهداة للأنام. وقد اعتمدت في هذا الشرح على شرح العلّامة الشيخ حمّاد بن الأمين الشنقيطي ابن أخي الناظم على هذا النظم،   - تقحمون فيها» ، ورواه الترمذي في آخر أبواب الأمثال، وقال: حديث حسن صحيح. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وهو شرح على طريقة المتقدمين غير مزج، يذكر جملة من أبيات النظم، ويتكلّم عليها على عادة علماء ذلك القطر في الإسهاب، والولوج في كل فن وباب. ثمّ على سيرة أبي محمّد عبد الملك بن هشام، و «الروض الأنف» عليها، للعلامة أبي القاسم عبد الرّحمن السهيلي، وعلى السيرة للحافظ الشمس أبي عبد الله محمّد بن يوسف الشامي، وغير ذلك ممّا تراه هنا معزوّا. وإنّي أعتذر لأولي البصائر والألباب بكثرة العوائق، وقلة البضاعة، وعدم توافر الأسباب، فإن وقفوا في ذلك على خطأ.. أصلحوه، أو على نقص بعد التأمّل.. ألحقوه، فقلّما يسلم الإنسان من الخطأ، ولا بد أن تقصّر به الخطى، أسأل الله أن يمنّ على العبد الضعيف بإتمام هذا الشرح، ويجعله من الأعمال الموجبة للغفران والصفح، وأن يرزقني به النفع، ويكسوه حلة القبول، ويجعله من العمل الخالص الموصل للمأمول. وقد صدّرت الشرح بمقدمات شريفة تناسب الموضوع، فعسى الله أن يثيبني على هذا العمل، ويجعله من العمل المتقبّل المرفوع؛ فإنّه عمدتي، وبه ثقتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المقدمة الأولى في مشروعية الجهاد قال الحافظ شمس الدين، محمّد بن يوسف الشامي، في «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» : لمّا أذن الله تعالى في الهجرة لرسوله صلى الله عليه وسلم، واستقرّ بالمدينة، وأيّده الله تعالى بنصره، وبعباده المؤمنين، وألّف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله، وكتيبة الإسلام: الأوس، والخزرج، وبذلوا أنفسهم دونه، وقدّموا محبته على محبة الآباء والأبناء، وكان أولى بهم من أنفسهم.. عادتهم العرب، واليهود، ورمتهم عن قوس واحد، وشمروا لهم عن ساق العداوة، وصاحوا بهم من كل جانب.. حتى كان المسلمون لا يبيتون إلّا في السلاح، ولا يصبحون إلّا فيه، فقالوا: ترى نعيش حتى نبيت مطمئنّين لا نخاف إلا الله عزّ وجل؟ فأنزل الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. وعندما اشتدّ الأذى بهم.. أمر الله تبارك وتعالى بالصبر والعفو والصفح، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ حتى إذا قويت الشوكة للمسلمين.. أذن الله لهم في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. ثمّ فرض الله عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم، دون من لم يقاتلهم، قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. ثمّ فرض عليهم قتال المشركين كافة؛ حتى يكون الدين كلّه لله، قال عزّ وجلّ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وقال تبارك وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. فكان محرّما، ثمّ صار مأذونا فيه، ثمّ مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثمّ مأمورا به لجميع المشركين، إمّا فرض عين، أو فرض كفاية. ثمّ كان الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ثلاثة أقسام: قسم صالحهم، ووادعهم على ألّا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه عدوّه، وهم- على كفرهم- آمنون على دمائهم، وأموالهم، وهم طوائف اليهود الثلاثة: بنو قريظة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وبنو النضير، وبنو قينقاع. وقسم حاربوه، ونصبوا له العداوة، وهم قريش. وقسم تاركوه، فلم يصالحوه، ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه. ثمّ من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن كخزاعة، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوّه في الباطن؛ ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون. فعامل صلى الله عليه وسلم كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النّضير، وبني قريظة، فنقض الجميع العهد، فكان من عاقبة أمرهم الوخيمة ما سيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه. وأمره الله سبحانه وتعالى أن يقوم لأهل العقد والصلح بعهدهم، وأن يوفّي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة.. نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم.. حتّى يعلمهم بنبذ العهد، وأمره أن يقاتل من نقض العهد. ولما نزلت (سورة براءة) .. نزلت ببيان هذه الأقسام كلها، فأمره الله تعالى أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب.. حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في دين الإسلام، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين، والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسّنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسما أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم، وظهر عليهم. وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتمّ لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد، ولم يحاربوه، نعم؛ لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجّلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت.. قاتلهم، وهي المذكورة في قوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وهي الحرم المذكورة في قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فالحرم هنا هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان، وهو العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الأول. وليست هي الأربعة المذكورة في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجب، وذو القعدة وذو الحجة، والمحرّم، ولم يسيّر المشركين هذه الأربعة، فإنّ هذا لا يمكن؛ لأنّها غير متوالية، وإنّما أجّلهم أربعة أشهر، ثمّ أمر بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقاتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له- أو له عهد مطلق- أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 واعلم: أنّ الله عزّ وجلّ شرع لنبيّه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة جهاد أعدائه في الوقت الأليق به؛ لأنّهم لمّا كانوا بمكة.. كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر الله المسلمين وهم قليل- بقتال الباقين.. لشق عليهم، فلمّا بغى المشركون، وأخرجوه عليه الصّلاة والسّلام من بين أظهرهم، وهمّوا بقتله، واستقرّ عليه الصلاة والسلام بالمدينة، واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة دار إسلام، ومعقلا يلجؤون إليه.. شرع الله جهاد أعدائه، فبعث عليه الصلاة والسلام البعوث والسرايا، وغزا وقاتل هو وأصحابه.. حتّى دخل الناس في دين الله أفواجا، فلله الحمد والمنّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المقدمة الثانية في المغازي وفضل علمها وتعلّمها الغزاة: المرة الواحدة من الغزو، والجمع غزوات، مثل: شهوة، وشهوات، والمغزاة كذلك، والجمع المغازي، والفاعل غاز، يقال: غزوت العدوّ غزوا، ويعدّى بالهمزة، فيقال: أغزيته، إذا بعثته يغزو، وإنّما يكون غزو العدو في بلاده، كذا في «المصباح» . قلت: والمراد هنا بالمغازي ما كان عن قصد منه عليه الصّلاة والسّلام للكفار بنفسه الشريفة، أعم من أن يكون إلى بلادهم، أو إلى الأماكن التي حلّوها ونزلوها؛ حتى يشمل مثل أحد، والخندق. وقد جاء في فضل هذا الفن أخبار وآثار كثيرة: منها: ما روي عن محمّد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزّهري قال: (في علم المغازي خير الدنيا والآخرة) . وعن سيد أهل زمانه زين العابدين سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنهما قال: (كنّا نعلّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلّم السور من القرآن) . وعن إسماعيل بن محمّد بن سعد بن أبي وقاص الزّهري: (كان أبي يعلّمنا المغازي والسرايا، ويعدّها علينا، ويقول: يا بنيّ؛ هذه شرف آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها) روى ذلك كله الخطيب البغدادي في «الجامع» ، وابن عساكر في «تاريخه» ، كما ذكره الشامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قلت: انظر إلى ما كان لأسلافنا الأماجد من المجد الباذخ، والمدنيّة الإسلامية الحقّة، وانظر إلى عنايتهم في وصايتهم لأبنائهم بالحرص على علم المغازي، والمحافظة عليه؛ فإنّ في ذلك أعظم منبّه يحرك في نفوسهم باعث الجد، والنشاط، والجهاد في سبيل الله، فيزدادون في ذلك حبا، وله تعظيما، فينشأون وقد تربّت فيهم ملكة التقديس لدينهم، والغيرة عليه، والذود عنه، والحرص على إعلاء كلمة الله، الكفيل لهم بسعادة الآخرة والأولى؛ وفي ذلك مجد لا يسامى، وعزة لا تضارع، وبذلك يعرفون عن بيّنة حقيقة الإسلام، ومبادئه، وتعاليمه، وفضائله، وما فيه من حضارة تفوق كل حضارة، ويعرف أولئك المفتونون الذين يولّون وجهتهم إلى الغربيين أنّهم مخدوعون بالعناوين الظاهرة، والبروق الخلابة؛ لأنّهم لم يطّلعوا على الحقائق الإسلامية فيتخلقوا بها. وإنّ في النظر إلى ما لأسلافنا الكرام القادة في الحرب والسلم من المقدرة الفائقة، والبطولة النادرة، والتضحية بالمهج الغالية في سبيل العقيدة الحقة، والمبادئ الفاضلة.. ما يملأ القلوب إيمانا بفضلهم، وإعجابا بصنعهم، وإكبارا لجلائل أعمالهم، وحرصا على التأسّي بهم. وفق الله تعالى الأمّة للنظر فيما لسلفها الصالح؛ حتى تفيق من غفلتها، وتنهض من كبوتها، وتتذكر بذلك ما كان لها من عظمة، ومجد، فتعمل لاسترجاعه، وتتبوّأ المكان اللائق بها، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المقدمة الثالثة في أشهر من ألف في المغازي اعلم: أنّ أسلافنا الأماجد- جزاهم الله وأثابهم على صنيعهم- قد ألّفوا في هذا الفن كتبا لا تحصى، فيذكر لنا العلّامة الشمس الشامي في سيرته كغيره أنّ أوّل من ألّف في المغازي أبو عبد الله عروة بن الزّبير بن العوام أحد الفقهاء السبعة، وأئمّة التّابعين بالمدينة، المتوفى بها سنة (93 هـ) . ثمّ تلاه تلميذه أبو محمد موسى بن عقبة بن أبي عياش، المتوفى بالمدينة، سنة (141 هـ) ، ومحمّد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزّهري، المتوفى سنة (124 هـ) . قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: (مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي، وأجمعها) . وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (ليس في المغازي أصح من كتابه، مع صغره، وخلوّه من أكثر ما يذكر في كتب غيره) . وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (عليكم بمغازي موسى بن عقبة؛ فإنّه ثقة) . وأشهرها مغازي أبي بكر محمّد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني، المتوفى سنة (151 هـ) ببغداد، وقد اختلفت كلمة القوم فيه، فمنهم من تكلّم فيه، ومنهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أثنى، والمعتمد: أنّه صدوق يدلّس، وإذا صرّح بالتحديث.. فهو حسن الحديث. قال الإمام الشافعي: (من أراد أن يتبحّر في المغازي.. فهو عيال على ابن إسحاق) . وقد اعتمد عليه في هذا الباب أئمّة لا يحصون، ورواها عنه جمع، ويقع عند بعضهم ما ليس عند بعض. وقد اعتمد أبو محمّد عبد الملك بن هشام المعافري، الحميري البصري، المتوفى بمصر سنة (213 هـ) رحمه الله تعالى، على رواية أبي محمّد زياد بن عبد الله بن الطّفيل العامري البكّائي- بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف- المتوفى سنة (183 هـ) ، وهو صدوق، ثبت في المغازي، وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، فرواها ابن هشام عنه، وهذّبها، ونقّحها، وزاد فيها زيادات كثيرة، واعترض أشياء سلّم له كثير منها، بحيث نسبت السيرة إليه، فقيل: «سيرة ابن هشام» «1» . وممّن ألّف فيها من العلماء المتأخّرين، الحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي- بفتح الكاف-   (1) قال شيخنا في «الرسالة المستطرفة» : (ولأبي القاسم عبد الرّحمن بن عبد الله السهيلي صاحب التصانيف، المتوفى بمراكش سنة (581 هـ) كتاب «الروض الأنف» في شرح غريب ألفاظها، وإعراب غامضها، وكشف مستغلقها، استخرجه من نيف ومئة وعشرين مصنفا، فأجاد فيه، وأفاد) اهـ، وقد طبع بمصر على نفقة سلطان المغرب الأقصى المولى عبد الحفيظ رحمه الله مع «السيرة الهشامية» . يقوم الآن بتحقيقها وإخراجها إخراجا علميا حديثا، الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم البنا، أستاذ اللغة العربية بالدراسات العليا للغة العربية بجامعة أم القرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الحميري، المتوفى شهيدا سنة (634 هـ) ، وسماها: «الاكتفا في المغازي وسيرة الثلاثة الخلفا» ، وشرحها الشيخ أبو عبد الله محمّد بن عبد السّلام البناني، الفاسي، المتوفى سنة (1163 هـ) شرحا نفيسا. ومنهم الحافظ أبو الفتح محمّد بن محمّد بن محمّد بن أحمد اليعمري الأندلسي، الشهير بابن سيد الناس، المتوفى بمصر سنة (734 هـ) فجأة، سماها: «عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» ، واختصر منها: «نور العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون» ، وعليه تعليق للحافظ برهان الدين الحلبي، سمّاه: «نور النّبراس» . ومنهم الحافظ العلّامة أبو عبد الله محمّد بن أبي بكر الدمشقي، الشهير بابن قيّم الجوزية، المتوفى بدمشق سنة (751 هـ) وسمّاها: «زاد المعاد، في هدي خير العباد» حقّق فيها وأجاد. ومنهم الحافظ زين الدين عبد الرّحيم بن الحسين العراقي، المتوفى بمصر سنة (806 هـ) نظم ألفيّة حافلة في البعوث، والمغازي، والسير، والشمائل، وشرحها المناوي شرحين: كبيرا، وصغيرا، وكذلك شرحها العلّامة نور الدين علي بن زين العابدين محمّد بن عبد الرّحمن بن علي، الشهير بالأجهوري، المتوفى بمصر سنة (1066 هـ) في مجلد كبير. ومنهم الشهاب القسطلاني «1» المتوفى بمصر سنة (923 هـ)   (1) ضبطه بعض الفضلاء بضم القاف والطاء المهملة مشدد اللام، وقال: نسبة إلى قسطلة، بضمها وشد اللام أيضا بلدة بالمغرب. اهـ، لكن رأيت في ثبت العلّامة البديري الدمياطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 سماه: «المواهب اللدنية بالمنح المحمّدية» ، وهو سفر جامع، خدمه الناس بالقراءة والشرح والاختصار، وكتب عليه فخر المالكية الشيخ محمّد الزرقاني، المتوفى سنة (1122 هـ) شرحا لا يجود الزمان بمثله، ذكر فيه أن نصف الكتاب، يعني المواهب مأخوذ من «فتح الباري» للحافظ ابن حجر بعزو، وبغير عزو. ومنهم الحافظ عماد الدين يحيى بن أبي بكر بن محمّد العامري، المتوفى سنة 893 هـ باليمن سماها: «بهجة المحافل وبغية الأماثل» لخّص فيها المعجزات والمغازي والبعوث والشمائل، وشرحها العلّامة جمال الدين محمّد بن أبي بكر الأشخر اليمني، المتوفى سنة (991 هـ) . ومنهم العلّامة الحافظ محمّد بن يوسف بن علي شمس الدين الشامي الدمشقي الحنفي، المتوفى بمصر سنة (942 هـ) سمّاها: «سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد» ، وهي أجمع السير، وأوسعها مادة، حتى إنّه يقول في طالعة هذا الكتاب: (اقتضبته من أكثر من ثلاث مئة كتاب، وتحرّيت فيه الصواب، ذكرت فيه قطرات من بحار فضائل سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وأنّ ما في الكتاب من الأبواب نحو ألفي باب) . ويذكر لنا العلّامة المؤرخ عبد الحي بن أحمد بن محمّد بن   - المسمّى «الجواهر الغوالي في الأسانيد العوالي» : أنّ شيخه النور الشبراملسي ضبطه بفتح القاف، وقال: إنّه نقل هذا الضبط من القسطلاني نفسه. والله أعلم. انتهى من «المنهل العذب لكل وارد في بيان فضل عمارة المساجد» للشيخ حسن سبط إبراهيم سقا، قلت: وضبطه الزرقاني في «شرح المواهب» عند ترجمة القطب القسطلاني: أنّه بضم القاف، منسوب إلى قسطلينة من أعمال إفريقية بالمغرب، عن القطب الحلبي، وبعضهم ضبطه بفتح القاف وشد اللام. اهـ منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 العماد، المتوفى بمكة سنة (1089 هـ) في «شذراته» : (أنّه جمعها من ألف كتاب، وأقبل الناس على كتابتها، ومشى فيها على أنموذج لم يسبق إليه، وختم كل باب بإيضاح ما أشكل فيه مع بيان غرائب الألفاظ، وضبط المشكل، والجمع بين الأحاديث التي قد يظن أنّها من المتناقضات، فجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء) «1» . ومنهم العلّامة علي بن إبراهيم الحلبي نور الدين بن برهان الدين الشافعي، المتوفى بمصر سنة (1044) سمّاها: «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» وتعرف ب «السيرة الحلبية» ، لخّص فيها «سيرة اليعمري» ، و «سيرة الشامي» على أنموذج لطيف، واصطلاح له فيها شريف. قال شيخنا أبو الإقبال سيدي محمّد عبد الحي الكتّاني في «التراتيب الإدارية التي كانت على عهد تأسيس المدنية الإسلامية» : (ومن أعجب ما ألّف في الإسلام «الدرّة السنيّة في المعالم السّنّيّة» للقاضي أبي عبد الله محمّد بن عيسى بن محمّد بن أصبغ الأزدي، المعروف بابن المناصف القرطبي، المتوفى سنة (620 هـ) بمراكش، وهو نظم عجيب نحو سبعة آلاف بيت من الرجز، منه: وإنّ أولى ما تحلّى المسلم ... بعد كتاب الله أو يقدّم علم بأيّام رسول الله ... من لدن النّشء إلى التّناهي   (1) طبع منها ثمانية أجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وحفظ ما يحقّ ألّا يجهلا ... من أمره وحاله مفصّلا فلنقتضب من ذاك ما لا يسع ... في الحقّ أن يجهل ذاك الأورع وما يكون شرف المجالس ... جلا العلا للحافظ المدارس تعلو به الرّتبة عن يقين ... في شرف الدّنيا وحكم الدّين) قلت: ومنظومتنا هذه هي فصل الخطاب، والآية في الإعجاب، لا تدع شاذّة ولا فاذّة من عيون المغازي إلّا أتت عليها بأبدع أسلوب وأسلس تعبير، فهي الفريدة في بابها، الممتعة لطلّابها، وها هي ذي بين أيدينا ترفل في أثواب حسنها، مدبّجة بكلام الحفاظ والمهرة، من نقدة أهل هذا الشأن، فليحكم لها أو عليها. ثم اعلم: أنّ أهل السير لا يتقيّدون بالصحيح من الأخبار، بل يذكرون الصحيح والسقيم، والبلاغ والمرسل، والمنقطع دون الموضوع، ومن أجل ذلك قال العلّامة العراقي في «ألفيّته» في المغازي والسير: وليعلم الطالب أنّ السّيرا ... تجمع ما صحّ وما قد أنكرا وقد قال الإمام أحمد بن حنبل كغيره من الأئمّة: (إذا روينا في الحلال والحرام.. شدّدنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها.. تساهلنا) والله أعلم. وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود فنقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 متن منظومة المغازي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 قال الناظم رحمه الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حمدا لمن أرسل خير مرسل ... لخير أمّة بخير الملل وأفضل الصّلاة والسّلام ... على لباب صفوة الأنام وآله أفنان دوحة الشّرف ... وصحبه والتّابعي نعم السّلف ما أرهفت وأرعفت يراعه ... في مهرق ينابع البراعه وجلجل الرّعد وسحّ مزنه ... وهبّ شمأل وماس غصنه وبعد فالعلم أهمّ ما الهمم ... تنافست فيه وخير مغتنم وخيره والعلم تسمو رتبته ... من فضل ما دلّت عليه سيرته فهاك منها نبذة ليست تمل ... ولم تكن بمعظم القصد تخل أرجوزة على عيون الأثر ... جلّ اعتماد نظمها في السّير وشدّ ما اجترأت في ذا الهدف ... إذ لم أكن أهلا لصوغ النّتف فكيف بالعقد لما كان انتثر ... عن كثرة وفي المهارق ابذعر لكن تطفّلت على بركته ... وجاهه بنظم بعض سيرته لعلّها بالنّظم هلهلا على ... من رامها نظما تكون أسهلا ولحضوره بكلّ ذهن ... عن ذكره بمضمر أستغني والله أسأل سداد النّظر ... وعصمة الخاطر من ذا الخطر وأن يكون لي ولا عليّا ... وعند كلّ أحد مرضيّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وأن يكون للثّواب قانصا ... لوجهه عزّ وجلّ خالصا ممّا يلبّس به إبليس ... وللهوى في طيّه تدليس بجاه أفضل الورى محمّد ... صلّى عليه الله طول الأبد أوّل غزوة غزاها المصطفى ... ودّان فالأبواء أو ترادفا ثمّ بواط خرجوا لعير ... أميّة بن خلف السّفسير ثمّ العشيرة إلى عير أبي ... سفيان في ذهابها للأرب فبدر الأولى بإثر ناهب ... سرح المدينة مغذّ هارب كرز بن جابر وبعد استنقذا ... لقاحه ممّن عليه استحوذا فبدر الكبرى لعير صخر ... آئبة من شأمها بالكثر واعتقبوا في ذلك المسير ... كلّ ثلاثة على بعير ولم يكونوا أوعبوا للحرب ... إذ ما غزوا لغير نهب الرّكب وليس عندهم من السّيوف ... غير ثمان للعدا حتوف ولا من الخيل سوى اثنتين ... وقد كفتهم أهبة التّمكين واستنفر النّفير صخر لهم ... وجاء خير مرسل ألبهم فأخبر النّاس بهم ممتحنا ... وقال سعد ما رأى وأحسنا وكان من رويّة المقداد ... أن رضي السّير إلى الغماد وعمر استقلّ جيش الحنفا ... واستكثر الّذي إليه زحفا واستبقوا صخرا لبدر وانتحى ... وأخذوا واردة وزحزحا عنها النّبيّ الضّرب إذ قال هما ... واردة النّفير واستفتاهما وعند ما أمن صخر أرسلا ... إلى النّفير أن يؤوب قفّلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وردّ الاخنس المسوّد على ... حلف بني زهرة وازداد علا وابن هشام قال لا أو نردا ... بدرا فننحر ونرهب العدا فطاوعوه ومضوا وباتوا ... بشرّ ما بات به بغاة عن كثب وأصبحوا بوحل ... ثبّطهم وبات خير مرسل بخير ليلة وأصبح على ... أثبت أرض للخطا وارتحلا فنزلوا أدنى المياه للعدا ... وغوّروا جميعهنّ ما عدا قليبهم وجعلوا الأواني ... في جدول فهي لهم دواني وأقبلت بالخيلا والكبريا ... إلى المصارع الزّحوف الأشقيا لو طاوعوا عتبة أو حكيما ... أو ابن وهب ما رأوا أليما لكونهم إلى القفول أرشدوا ... من بعد ما أشفوا على ما وردوا وقال عمرو وبأنفه شمخ ... ثانية سحر عتبة انتفخ واستنشد ابن الحضرميّ الثّأرا ... فحشّ حربا بينهم وشرّا فقام للوليد نجل عتبة ... حيدرة وحمزة لشيبة نجل ربيعة وعتبة أخوه ... قام له عبيدة إذ رشّحوه وقطعت قدمه واحتملوه ... وهو أسنّ الجيش فيما نقلوه وهو إذا أخذت في نعم النّسب ... عبيدة بن الحارث بن المطّلب وشهد المشهد هذا أخواه ... أعني الحصين والطّفيل مشبهاه وابن غزيّة سواد استنتلا ... من صفّه ورام أن يعتدلا نبيّنا فمسّه في كشحه ... وقال إذ آلم مسّ قدحه أوجعتني نخسا فأعطني القود ... وجدّ في أن كان باشر الجسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وخفق النّبيّ حين المعركه ... وفي عريشه رأى الملائكه على ثنايا جبرئيل النّقع ... ولم يقاتل في سواها الجمع وقيل: لم تقاتل الملائكه ... إذ ريشة منهم لقوم مهلكه لكنّهم لعدد ومدد ... وطبلهم هناك طول الأبد وجاء أنّ جبرئيل يحضر ... من مات مؤمنا وقوم أنكروا نزوله بعد رسول الله ... والحقّ أن ليس له تناهي وراقب الجمعين شخصان لكي ... ينتهبا من مدبري الجمعين شي فرأيا الملك وهو منطلق ... فانشقّ واحد والاخر صعق وابن معاذ مبتني العريش ... وحارس النّبيّ من قريش يكره إبقاء الأسارى ويرى ... إهلاكهم أوّل قتل أجدرا وهكذا عمر كان وهي من ... موافقاته الّتي بعد تعنّ عن قتل آله نهى إذ خرجوا ... وفي خروجهم عليه حرج وعن أبي البختري إذ لم يؤذه ... وصكّ نبذهم سعى في نبذه وجاءه المجذّر بن ذيّاد ... وقال عنك قد نهى خير العباد فقال والزّميل قال المصطفى ... لم ينه عن قتل الزّميل الحنفا فقال والنّخوة تأبى والإبا ... عن تركه جبنا وحكّم الظّبا لا يسلم ابن حرّة زميله ... حتّى يموت أو يرى سبيله وإذ نهى عن قتل عمّه هفا ... أبو حذيفة وقال سخفا وكفّرت هفوته الشّهاده ... يوم اليمامة لها أراده وإذ رآه المصطفى تضجّرا ... من جرّ عتبة أبيه اعتذرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بأنّه كان يرى أنّ أباه ... يحجزه عن ميتة السّوء حجاه وإذ معاذ بن عمرو بن الجموح ... أطنّ ساق ابن هشام الطّموح فطرح ابنه الهزبر عكرمه ... عاتقه وجرّه في الملحمه ألصق خير مرسل فالتصقا ... عاتقه لمّا عليه بصقا فرعون الامّة النّبيّ عرّفا ... بجحشه ركبته إذا اختفى بين الهوالك وكلّم النّبي ... جثثهم موبّخا للخشب وعاين النّاس المصارع الّتي ... أخبرهم بها مقيم الملّة فحقّق الله له ما وعدا ... وأوهن الكفر وأيّد الهدى لهم من الله كتاب سابق ... لذاك ما شهدها منافق يوم له ما بعده في الكفر ... وقد أتى منوّها في الذّكر بأنّه العذاب واللّزام ... وأنّه البطش والانتقام وأنّه الفرقان بين الكفر ... والحقّ والنّصر سجيس الدّهر في الأجر والمغنم قسّم النّبي ... لنفر عن الزّحاف غيّب لطلحة ولسعيد أرسلا ... للرّكب ينظران أين نزلا ولابن عفّان ولابن الصّمّة ... وابن جبير كسرا عن همّة وابن عديّ عاصم العجلاني ... خلّفه خير بني عدنان على العوالي وعلى المدينه ... أبا لبابة الرّبيط الزّينه ثامنهم ردّ من الرّوحاء ... وهو ابن حاطب إلى قباء وابن عمير مصعب مرّ على ... شقيقه مستأسرا للفضلا فحضّهم أن شدّدوا إنّ له ... أمّا مليّة تفكّ كبله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وابن الرّبيع صهر هادي الأمّة ... إذ في فداه زينب أرسلت بعقدها الّذي به أهدتها ... له خديجة وزفّفتها سرّحه بعقدها وعهدا ... إليه أن يردّها له غدا فردّها وبعد ذاك تجرا ... لنفسه وساكني أمّ القرى فانتهب الأصحاب عير القلّب ... فجاء واستجار بابنة النّبي فصرّحت ولم تجمجم البتول ... بأن أجارته وأمضاه الرّسول فردّ ماله عليه أجمع ... تلك الصّهارة بها يستشفع أوصى به من حيث الاكرام ابنته ... لكن نهاها أن تكون بعلته وما ارتضى من بعد إسلام ابنته ... وكفره بقاءها في عصمته لو أنّه يحلّ أو يحرّم ... بمكّة عنها الحليل يحسم وسئل الإيمان كي يحوزا ... مال قريش وبه يفوزا فهاب أن يبدأ بالخيانه ... إيمانه ويدع الأمانه فردّها لأهلها وأسلما ... وآب إذ إلى قريش أسلما فردّها إليه خير مرسل ... بالعقد الاوّل على القول الجلي وأمّه هالة أخت صهرته ... والمصطفى رضي عن صهارته والمسلمون خيّروا بين الفدا ... وقدرهم في قابل يستشهدا وبين قتلهم فمالوا للفدا ... لأنّه على القتال عضدا وأنّه أدّى إلى الشّهادة ... وهي قصارى الفوز والسّعادة وهو بقدر وسعهم والمملق ... من خطّه عشرة يحذّق ومن مشاهير الأسارى عمرو ... نجل أبي سفيان ثمّ الصّهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والعمّ وابنا أخويه وهما ... عقيل نوفل وبعد أسلما وخالد أخو أبي جهل وقد ... أسلم أيضا وسهيل الأسد ومكرز ركز في مركزه ... حتّى أتى فداؤه لعزّه وابن أبيّ وأبو وداعه ... أوّل مفديّ من الرّباعه وخالد بن الأعلم الّذي افتخر ... فكان قبل كلّ هوهة عجر ومن مشاهير الممات حنظله ... منبّه وصنوه وابنان له وهم نبيه حارث والعاصي ... أحد رهط غير ذي خلاص من مكّة لكونه مستضعفا ... في زعمه ويوم بدر زحفا مع قريش وتوفّت ظالمي ... أنفسهم ملائك الملاحم وهم عليّ بن أميّة الرّدي ... والحارث بن زمعة بن الأسود وابنان للفاكهي والوليد ... وأين هم من ابنه المجيد سميّه وأخوي فرعونا ... شقيق او للأمّ ذاقا الهونا سلمة عيّاش المستضعفين ... قنت لاستنقاذهم طه الأمين واستشهدت ستّ من المهاجرين ... عبيدة المذكور في المبارزين ثمّ عمير بن أبي وقّاص ... وابن البكير عاقل ألشّاصي وذو الشّمالين ومهجع عمر ... صفوان بيضاء الّذي بها اشتهر واثنان للأوس ابن عبد المنذر ... مبشّر سعد ابن خيثم الجري وستّة الخزرج هم يزيد ... عوف معوّذ أخوه الصّيد حارثة وابن المعلّى رافع ... ثمّ عمير بن الحمام النّازع لربّه وهو يقول أفما ... بيني وبين جنّة إلّا الحما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فلسليم فلقينقاع ... المتصدّين إلى القراع هم كشفوا إزارها عن مسلمه ... فهاج حرب بينهم والمسلمه لو آمنت من اليهود كلّها ... زهاء عشرة اهتدوا لأجلها عادوا للافساد فعاد الله ... وقينقاع العمّه العزاه أوّل من غدر من يهودا ... وابن أبيّ سأل القرودا نبيّنا وهم أسارى سطوته ... فأطلقوا وطردوا من طيبته ومنهم الشّاهد عبد الله ... نجل سلام العظيم الجاه فغزوة السّويق في إثر أبي ... سفيان أن حرّق نخل يثرب وغال نفسين وكان آلى ... لا يقرب النّساء أو ينالا وكان يلقي جرب السّويق ... مخافة اللّحوق في الطّريق فسمّيت بذاك ثمّ بعدها ... قرقرة الكدر لقوم عندها وبعدها ذو أمر وغطفان ... كلاهما تدعى به وتستبان لغطفان وجموع ثعلبه ... جمعها دعثور صاحب الظّبه وهو الّذي وجد خير مرسل ... يجفّ ثوبين له بمعزل فسلّها وقال من يمنعكا ... فصدّه جبريل عمّا انتهكا وفيه أو في غورث أو النّضير ... إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أنزلت على البشير وبعدها غزوة بحران إلى ... أمّ القرى أو لسليم الجهلا فأحد بربح عير صخر ... تأهّبوا ليتروا من بدر وخرجوا ب (يه) ظعن وهم ... جيم ألوف والخيول لهم راء وما للمسلمين فرس ... وفي زروع قيلة إحتبسوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقيل: فيهم فرس تحت أبي ... بردة النّدب وأخرى للنّبي وقد رأى في نومه خير الأمم ... أن كان في ذباب سيفه ثلم وأنّه أدخل في درع يده ... وبقرا يذبح أيضا وجده فالثّلم ألعمّ وأمّا البقر ... يذبح فهو النّفر المعفّر من صحبه ودرعه الحصينه ... أدخل فيها يده المدينه واستكرهوا خير الورى فأخرجوه ... وبعد ما استلأم فيها استثبطوه فراح نحو أحد وابتكرا ... وخام عنه ابن أبيّ وامترا واستلّ سيف رجل ذبّ فرس ... فقال شم سيفك والحرب افترس وكان لا يعتاف إلّا أنّه ... يعجبه الفأل إذا عنّ له ومرّ في طريقه بالحاثي ... في أوجه القوم وكان راثي أجاز أبناء يه واستصغرا ... من دونهم والجيش ذالا انبرى وقال من يأخذ هذا السّيفا ... بحقّه فناله واستوفى أبو دجانة وخال إذ مشى ... ومشيه من بغضه جلّ حشا واستأصلوا أهل اللّوا فانهزموا ... وشمّرت عن سوقهنّ الحرم مولولات إثرهم ورغبا ... في المغنم الرّماة حين استلبا وخالف الرّماة أمر المصطفى ... بالصّبر والثّبات خلف الحنفا فتركوا ظهورهم لخالد ... فكرّ راجعا بكلّ حارد وحالت الرّيح ودارت الرّحى ... وذاق من خالفه ما اجترحا وصرخ الصّارخ أن مات النّبي ... فارتهبوا لذاك كلّ الرّهب وقال إذ ذلك: «لو كان لنا» ... من دهش قائلهم فافتتنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ونجل مطعم جبير إذ قتل ... حمزة عمّه طعيمة احتفل لقتله بأن عليه ذمّرا ... وحشيّه يومئذ وحرّرا ودقّه في شدقه ابن حرب ... فقال: «ذق عقق» أي ذق حربي أبلى بلاء حسنا قزمان ... على الحفاظ فله الخسران وعكسه الأصيرم المخردل ... ليس له غير القتال عمل وثبتت مع النّبيّ اثنا عشر ... بين مهاجر وبين من نصر منهم أبو دجانة وابن أبي ... وقّاص الّذي افتداه بالأب وطلحة وفيه شلّت يده ... إذ اتّقى النّبل بها يصمده وتحته جلس أن جهضه ... درعاه والجراح فاستنهضه والعمران وعليّ وعفا ... إلهنا عن الّذي منهم هفا وثبتت نسيبة المبايعه ... قبل وعن خير الورى مدافعه وجرحت فيه وشلّت يدها ... وللتّبرّك الورى تقصدها في حفرة وقع خير مرسل ... فناشه طلحة والصّهر علي إذ عتبة هشّ رباعيته ... وشقّ من شقوته شفته وشجّه ابن قمئة وابن شهاب ... صلّى عليه الله ما سحّ سحاب وازدرد الدّمّ أبو الخدريّ ... وانتزع الحلقة في النّبيّ أبو عبيدة فكان أثرما ... بساقط الثّنيّتين أعلما بملء درقة من المهراس ... جاء ليشرب شفيع النّاس حيدرة فعافه ورحضا ... عن وجهه الدّمّ ففاز بالرّضا قتادة ذو العين ردّها النّبي ... بقوسه وقد تشظّظت حبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أوّل من عرفه فبشّرا ... به ابن مالك قريع الشّعرا فعاودوه وتساقطوا عليه ... ونهضوا للشّعب إذ أووا إليه فبايعوا على الممات المجتبى ... صلّى عليه الله ما هبّ الصّبا وبعد ما اطمأنّ في الشّعب علت ... عالية من فوقهم فأنزلت صلّى بهم وقعدوا وقعدا ... ظهرا لما من الجراح أجهدا واستبدلت هند من اللآلي ... قلائدا من آنف الرّجال وطوّقت وحشيّها الفريدا ... وأدبرت تردّد النّشيدا نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمّه وبكر كلا المجدّع وسعد المفتدى ... سأل ربّ العرش منهم أسدا أمّا المجدّع فللشّهاده ... وسعد الفتك به أراده وإذ أبو رهم الغفاريّ نحر ... بريقه في الحين قام مستمر واستشهد اللّذان قد تخلّفا ... لكبر فلحقا وزحفا هما حسيل اليماني أسلمه ... حذيفة إذ أهلكته المسلمه وثابت بن وقش المستشهد ... أخوه وابناه وكلّ وتد وابن الرّبيع سعد اللّذ سألا ... نبيّنا عنه فألفي على شفا الشّهادة فأرسل الرّضا ... إلى النّبيّ بالسّلام والرّضا وذو الوصايا الجمّ للبشير ... وهو مخيريق بني النّضير ومصعب شمّاس والمجدّع ... بحمزة المهاجرون أربع حنظلة الغسيل نجل الفاسق ... زوج جميلة ابنة المنافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أجنب منها فاستخفّه القتال ... عن شقّه أو عن جميع الاغتسال وقال صخر إذ رآه قتله ... شدّادهم حنظلة بحنظله واستشهد الأعرج عمرو بن الجموح ... وعن حياة المصطفى أبا الفتوح سأل صخر وانثنى يغرّد ... موعدكم بدر وقال الموعد وارتقبوا إن يجنبوا فهم قفل ... أو يسرجوا فهم لطيبة نسل وبأبيّ مرّ بعد ابن عمر ... وهو الّذي رماه خالق البشر مسلسلا صديان فاستسقاه ... والسّقي عنه ملك نهاه ومرّ أيضا بأبي جهل لدى ... بدر به أضرّ لاعج الصّدى وبعدها غزوة حمراء الأسد ... كانت لإرهاب صبيحة أحد وأمر النّبيّ أن لا يخرجا ... إلّا الّذي بالأمس كان خرجا ولابن عبد الله جابر سمح ... بالغزو إذ لأخواته جنح بالأمس، إذ قال أبوه يا بني ... ما كنت أؤثرك بالغزو علي وفتكوا بجدّ عبد الملك ... لأمّه سبط أبي العاص الذّكي وهو الممثّل بعمّ أحمد ... وبمعاوية يعرف الرّدي وبالّذي عليه قبل أشفقا ... نبيّنا ثمّ ارتجى أن يطلقا ثانية أن كان ذا بنات ... وهو أبو عزّة ذو الهنات ثمّ النّضير هاجها أن جاءهم ... مستوهبا من دية ما نابهم فأصعدوا أحدهم ليلقيا ... عليه صخرة تريح الأغبيا وأخبر ابن مشكم أن يخبرا ... وزجر الرّهط فلم ينزجرا وجاءه الخبر من ربّ السّما ... وفي حصارها العقار حرّما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 والحشر أنزلت بها ونقضا ... نجل أبيّ عهدهم ورفضا وفيئهم والفيء في الأنفال ... ما لم يكن أخذ عن قتال أمّا الغنيمة ففي زحاف ... والأخذ عنوة لدى الزّحاف لخير مرسل وخصّ فئته ... وفي رضا أنصاره عطيّته كان التّرحّم على الأنصار ... أن آثروا به بني نزار وشاطروهم مالهم ونزلوا ... عن الحلائل لهم وأوّل من سنّه مخيّرا بين اثنتين ... إبن الرّبيع لابن عوف المكين فتركوهنّ لهم تعفّفا ... فعفّ هذاك وذاك أسرفا ثمّ إلى محارب وثعلبه ... ذات الرّقاع ناهزوا المضاربه ولم يكن حرب وغورث جرى ... فيها له الّذي لدعثور جرى مع النّبيّ وعلى المعتمد ... جرت لواحد بلا تعدّد ثمّ لميعاد ابن حرب بدر ... وكعّ عنها نجل حرب صخر فدومة الجندل هاجها زمر ... بدومة يظلمن من بهنّ مر ثمّت لمّا أجليت يهود ... وأوغرت صدورها الحقود وحزّبت عساكرا عناجها ... إلى ابن حرب وقريش تاجها وجعلوا كي يتروا خير الورى ... لغطفان نصف تمر خيبرا خندق خير مرسل بأمر ... سلمان والحروب ذات مكر كم آية في حفره كالشّبع ... من حفنة وسخلة للمجمع وكم بشارة لخير مرسل ... من الفتوح تحت ضرب المعول وكعب بن أسد إذ فتنه ... عن عهده حييّ أعطى رسنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فغدرت قريظة لغدره ... يومئذ إذ هو أسّ نجره وأرسل السّعدين خير مرسل ... وابن رواحة لهم لينجلي ما هم عليه، فإذا هم عضل ... وسرّ خير الخلق ذاك الخذل قالت جنوب للشّمال انطلق ... ننصر خير مرسل في الخندق فقالت الشّمال إنّ الحرّه ... لم تسر باللّيل فذاك عرّه فأرسل الله الصّبا والملكه ... فنصرا نبيّه في المعركه وغطفان رام أن يخوّلوا ... ثلث تمر طيبة ليعدلوا وأنف السّعدان من صلح النّبي ... وحكّما حدّ شفار القضب معتّب نجل قشير قالا ... وعدنا النّبيّ أن ننالا كنوز قيصر وكسرى ونرى ... أحدنا اليوم يخاف المخترى ونوفل من طيشه ونزقه ... أوثب طرفه حفير خندقه فوقعا فيه وأعطى فديته ... إخوانه فاستوهبوه جثّته فقال فيه أكرم البريّة ... خبيث جيفة خبيث ديّة عمرو بن عبد ودّ إذ قام له ... حيدرة بسيفه خردله وفضّ جمعهم نعيم الأشجعي ... إذ نمّ بينهم بكلّ مجمع وعند ما إلى التّشتّت الزّمر ... أجمع أمرهم دعا خير البشر من يأت بالخبر عنهم يكن ... غدا رفيقنا ومنهم يأمن فلم يقم إليه غير ابن اليمان ... من شدّة الذّعر ومن برد الزّمان وقال خير الخلق لن تغزوكم ... قريش بعد اليوم والغزو لكم وشغل النّبيّ زحف الخندق ... عن ظهره وعصره للشّفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ثمّ قريظة إليها جبرئيل ... ولم يضع سلاحه استدعى رعيل وقاده وزلزل الحصونا ... وقذف الرّعب ولا يدرونا واستذمر النّبيّ خيل الله ... وعن صلاة العصر قام النّاهي إلّا بهم ولم يعب من أخّرا ... إلى العشاء إذ يراه ائتمرا وخيّر ابن أسد قريظته ... بين ثلاث وازدروا رويّته أن يؤمنوا فيأمنوا فقد دروا ... في كتبهم ما عنه إذ جاء أبوا أو يحصدوا النّساء والصّبيانا ... فلم يخلّوا خلفهم إنسانا أو يفتكوا في السّبت إذ يأمنهم ... جيش العرمرم ولا يأبنهم وضاقت الأرض بهم لرعبهم ... وجهلوا كيف النّكاية بهم واستنبؤوا أبا لبابة الخبر ... فرقّ للعهد الّذي بهم غبر أن جأرت في وجهه الصّبيان ... واستعطفت رحمته النّسوان ففتنوه وانتحى عن بلد ... عصى به وشاط نحو المسجد فقام فيه برهة مرتبطا ... معذّبا لنفسه مورّطا فتاب من هفوته الله عليه ... وحلّه خير الأنام بيديه وحكّم النّبيّ فيهم سعد الاوس ... إذ غاظهم إطلاقه عن كلّ بؤس لابن أبيّ حلفاء الخزرج ... وكان في التّحكيم حسم الهرج وحملوا سعدا على حمار ... من المدينة إلى المختار وعند ما انتهى إلى النّديّ ... سوّده خير بني لؤيّ على الجميع أو على الأنصار ... لا غيرهم عند بني نزار وراودته قومه أن يحكما ... بغير ما حكم فيهم فاحتمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لدمهم خندق أفضل لؤي ... ومعهم في كلّ كربة حيي وعندما انتهى الحصار استشهدا ... واهتزّ عرش الله حين بردا وخفّ نعشه على عظمته ... إذ الملائكة من حملته ثمّ غزا لحيان جرّاء الرّجيع ... فاحتضنوا بكلّ باذخ منيع بعث الرّجيع ستّة أو عشره ... لحيان حيّ من هذيل غدره والعضل والقارة نجلا الهون ... نجل خزيمة سعوا في الهون وأربعوا بئر معونة الغرر ... إبن الطّفيل عامر فيهم خفر أبا براء وكلا البعثين ... قد أرسلا ليرشدا للدّين «1» فغزوة الغابة وهي ذو قرد ... خرج في إثر لقاحه وجد وناشهم سلمة بن الأكوع ... وهو يقول اليوم يوم الرّضّع وفرض الهادي له سهمين ... لسبقه الخيل على الرّجلين واستنقذوا من ابن حصن عشرا ... وقسم النّبيّ فيهم جزرا وأقبلت إمرأة الغفاري ... قتيل نهب إبل المختار وهي على راحلة من ذي الإبل ... قد نذرت إهلاكها حين تصل ومرّ في طريقه بالمالح ... بيان «2» ذا اللّقب غير صالح فغيّر اسمه وغيّر الإله ... صفته وبعد ذلك اشتراه طلحة بالفيّاض سمّاه النّبي ... إذ قد تصدّق به ليثرب   (1) في بعض نسخ المنظومة زيادة بيتين بعد هذا البيت: وعامر استنجد رعلا ذكوان ... عصيّة فأنجدوا ذا الخسران جزاء نجل بنتهم طعيمه ... وقد أتى ولم تعنه قومه (2) في بعض نسخ المنظومة: بيسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فالطّلحات خمسة سوى العلم ... فطلحة الجود ابن عمّه الخضم وطلحة الخير وطلحة النّدى ... إلى الحسين وابن عوف أسندا وطلحة الدّراهم العتيق ... جدّ أبيه بالعلا حقيق سادسها طلحتها الخزاعي ... أجودهم كلّا بلا نزاع في سنة وهب ألف جاريه ... فأولدت عفاته جواريه ألف غلام باسمه سمّى الإما ... جميعهم لمثلها فهيئما وبعدها انتهبها الأولى انتهوا ... لغاية الجهد وطيبة اجتووا فخرجوا وشربوا ألبانها ... ونبذوا إذ سمنوا أمانها فاقتصّ منهم النّبي أن مثّلوا ... بعبده ومقلتيه سملوا ثمّ المريسيع أو المصطلق ... كلاهما على الغزاة يطلق لم ينفلت منهم أنيس وسبا ... غير رجال عشرة قد نهبا أعمارهم وسبيت جويريه ... ووهب السّبي لها لتدريه وأسلموا بعد وفي من فسّقا ... أرسله الهادي لهم مصدّقا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ انزل وهم ... خزاعة مصطلق جدّ لهم وأفزعت ريح خيار النّات ... فقال لا باس بموت عات فوجدوا كهف المنافقينا ... رفاعة يومئذ دفينا وهو النّفاق في الشّيوخ لا الشّباب ... والخير كلّ الخير في عصر الشّباب ووردت واردة العرمرم ... فافتتن الوارد في المزدحم فاستصرخ الأنصار فارط لهم ... لطمه من ناله معروفهم واستصرخ المهاجرين اللّذ كسر ... عصا النّبي جهجاه عامل عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقال فيها ابن أبيّ منكرا ... وعاه زيد موقنا وما امترى وحلف الفاجر ما قال المقال ... وصدّقته للمكانة رجال فأنزل الله لئن رجعنا ... إلى المدينة ليخرجنّا وعرك النّبيّ أذن الواعي ... زيد بن أرقم ذي الاستماع أن شهد الله على المنافقين ... بالكذب المحض وأولاه اليقين والإفك في قفولهم ونقلا ... أنّ التّيمّم بها قد أنزلا ثمّ الحديبية ساق البدنا ... معتمرا وما بحرب اعتنى ومن سوى المخلّفين استنفرا ... عرمرما وصدّ عن أمّ القرى وما انثنى بالجيش حتّى اقعنسست ... عن مكّة ناقته إذ حبست فاستنزل النّاس ولا ماء لهم ... فاستنبطوا بالسّهم ما أعلّهم وعلّهم أيضا بهذي الغزوة ... ما كان عن صبابة في ركوة وجمعوا له بقايا الزّاد ... فخوّلوا منها سوى المعتاد وكم قليل غير ذاك كثّرا ... وكم قليب بالمعين فجّرا وبايعوه بيعة الرّضوان ... إذ قيل قد عدوا على عثمان وعقروا جمله الثّعلب إذ ... أرسله تحت الخزاعيّ المغذ وكان ممّن بعثوه يسترد ... نبيّنا مكرز عروة الحرد والحارثيّ المتألّه الّذي ... هو لهم بردّ أحمد بذي ولم تزل بينهم المراجعه ... حتّى أتى سهيلهم فاسترجعه لولا نبيّ الرّحمة الموفّق ... للرّشد في آرائه لمزّقوا أسلم بعد عوده بالعظما ... أكثر ممّن كان قبل أسلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وفسّروا بذلك الفتح المبين ... وفيه إبقاء على المستضعفين وبعثوا جمل عمرو بن هشام ... هديا وإنكاء إلى البيت الحرام ونحروا وحلقوا وحملت ... شعورهم للبيت ريح قد غلت وأغلظوا في الصّلح حتّى أبرما ... ومنه ردّ من أتاه مسلما وهم عليهم بعد ردّهم وبال ... إذ أخذوا الطّرق على صهب السّبال وانتدبوا لقوله في النّدب ... سيّدهم هذا محشّ حرب واستعطفوا خير الورى بالرّحم ... في صرفهم إليه عن أرضهم و (سورة الفتح) لدى القفول ... أنزلها الله على الرّسول ثمّ لخيبر ورشّح النّبي ... حيدرة وبالعقاب قد حبي وفاز بالفتح وكان ترّسا ... بباب حصن لا يزاح إذ رسا وغلّ قاتل سليل مسلمه ... لصنوه محمّد وأسلمه وغال مرحبا وقدّ حجرا ... من يابس الصّخر به تمغفرا وعامر بن الأكوع استنشده ... خير الورى وقال إذ أنشده والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا وإذ ترحّم للانشاد عليه ... هلك من رجوع سيفه إليه واستشعر الفاروق أن يستشهدا ... وأخبر الهادي به باد بدا وقتلت تسعون من يهودا ... واستشهدت (يه) ولا مزيدا ومرّ راجعا إلى وادي القرى ... فشاطرت يهوده خير الورى وأهلكوا غلامه ذا الشّمله ... أغلّها فهي عليه شعله ثمّ إلى الرّوم النّبيّ استنفرا ... بمؤتة جيشا عليه أمّرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 زيد بن حارثة ثمّ جعفرا ... فابن رواحة ولأيا انبرا ورفعت للهاشميّ المعركه ... فعاين الّذي أتوا وأدركه ثمّ إلى الفتح الخزاعيّ ذمر ... عشرة آلاف فعزّ وانتصر وهو الّذي تهلّلت لنصره ... سحابة ومن بليغ شعره يا ربّ إنّي ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا لدعوة النّبيّ أخّر الخبر ... عن مكّة فلم يورّ بل جهر وخاب صخر إذ أتى يرأب ما ... أثآه غدر قومه فانفصما وحاطب إبن أبي بلتعة ... أرسل إذ زحوفه شرعت إلى قريش رقعة مع مره ... فأودعتها قرنها تلك المره فأخبر الهادي بها فأرسلا ... من جاءه كرها بها وامتثلا وللنّبيّ عرض ابن عمّته ... ونجل عمّه عزيز فئته وعنهما أعرض جرّا مأثمه ... فاستشفعا له بأمّ سلمه وأقبلت جنود صفوة الأمم ... أمامه حتّى انتهوا إلى الحرم وضربت له هناك قبّه ... أرضى بها الله وأرضى حزبه فاحترم الحرم إذ هو الحرم ... محرّم مؤمّن ممّن هجم وحين حلّ بإزاء الحرم ... أمر أن يوقد كلّ مسلم نارا فأبصر أبو سفيانا ... وكان يرتقبه النّيرانا فارتاع فانسلّ إذن عمّ النّبي ... فالتقيا فجا به عن كثب وزعم ابن قيس ان سيحفدا ... رجالهم خلّته وأنشدا إن يغلبوا اليوم فما لي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وشهد المأزق فيه حطما ... رمز (يب) من قومه فانهزما وجاء فاستغلق بابه البتول ... فاستفهمته أين ما كنت تقول فقال والفزع زعفر دمه: ... إنّك لو شهدت يوم الخندمه إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه ... واستقبلتنا بالسّيوف المسلمه وفاز من لاذ به واسترحمه ... يومئذ إذ هو يوم المرحمه كابن أبي سرح وزير الخلفا ... وناخس البكر ببنت المصطفى وهلكت لنخسه وألقت ... ذا بطنها والبرح منه لاقت بحرقه أمر ثمّ رجعا ... لقتله والنّار عنه دفعا وبعد ما أشفى على الإحراق ... تداركته رحمة الخلّاق فحقن الله بالاسلام دمه ... سبحانه من راحم ما أرحمه أحنى وأرأف من الأمّ بنا ... وهكذا رسوله كان لنا يدخلنا الجنّة إلّا من شرد ... عنه وعن توحيده أبى وصد يقرب بالذّراع أو بالباع ... للمدّني بشبر أو ذراع ومن أتى يمشي أتاه هروله ... فضاعف الأجر له وأجزله يضاعف الأجر لسبع مئة ... ففوق يؤجر بحسن النّيّة من لطفه أنّ صحائف الذّنوب ... وهي عظيمة تروّع القلوب لا تزن التّهليل في بطاقه ... كأنّها الظّفر في الدّقاقه بسبّه من سبّه آنسه ... نبيّنا أن عيّروه نخسه صلّى عليه الله ما أحلمه ... عن سيّىء الحوب وما أكرمه وكأبي سفيان وابن عمّته ... وكابن عمّه وأهل بكّته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 واختلفوا فيها فقيل أمّنت ... والحقّ عنوة وكرها أخذت وأخبر النّبيّ بارىء النّسم ... بقولهم يسكن بعدها الحرم وبالّذي قالوه إذ لم يرهقا ... تداركته رحمة فأشفقا وبالّذي قالوه في المؤذّن ... وبالّذي به فضالة عني وأخذ المفتاح ثمّ ردّه ... عن رغم قومه الّذين عنده ثمّ إلى وادي حنين انحدر ... عن مكّة من الألوف اثنا عشر فوجدوا هوازنا تأهّبوا ... بكلّ مخرم لهم وألّبوا وبينما الجيش إليهم ينحدر ... بغلس شدّوا إليه وهو غر فاستنفروا بهم لذلك الرّكاب ... وأدبرت تخدي بهم غلب الرّقاب واستنزلوا وادّرعوا وهي تمر ... مرّ جهام بالبهاليل نفر فاقتحموا عنها وآبوا للنّبي ... وزحزحوا عنه زحوف العرب فأرسل الله جنود الفرج ... وقبضة التّرب قضت بالفلج وثبتت مع النّبيّ طائفه ... من أهل بيته وممّن ألفه حيدرة والعمران وأبو ... سفيان جعفر ابنه المنتخب وعمّه ربيعة العبّاس ... وفضله أسامة الأكياس وأيمن ابن أمّه والعبدري ... شيبة رام غدر خير مضر فصدّه عمّا نوى فضربه ... نبيّنا في صدره فجذبه ووقف السّبي إلى أن رجعا ... من طائف لعلّ أن يسترجعا أعطى عطايا شهدت بالكرم ... يومئذ له ولم تجمجم وكيف لا ومستمدّ سيبه ... من سيب ربّ ذي عناية به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أعطى عطايا أخجلت دلح الدّيم ... إذ ملأت رحب الفضا من النّعم زهاء ألفي ناقة منها وما ... ملأ بين جبلين غنما لرجل وبله ما لحلقه ... منها ومن رقيقه وورقه منها أفاد العمّ ما ناء به ... فهال منه عمّه عن ثوبه ووكل الأنصار خير العالمين ... لدينهم إذ ألّف المؤلّفين فوجدوا عليه أن منعهم ... فأرسل النّبيّ من جمعهم وقال قولا كالفريد المونق ... عن نظمه ضعف سلك منطقي وأدرك الفلّ بأوطاس السّري ... عمّ أبي موسى الشّجاع الأشعري وغال تسع إخوة مبارزه ... وفرّ عاشر لدى المبارزه وإذ توى دوّخهم حفيده ... وجاء بالفلّ وهم عبيده فلثقيف وهي في حصون ... بطائف أقبل من حنين فسألوه الكفّ عن قطع الكرم ... بالله والرّحم فارتادوا الكرم فهابه والمنجنيق ضربا ... وسئل الدّعا عليهم فأبى ونوفل استشاره في أمره ... فقال هم كثعلب في جحره ثمّ لروم بتبوك استنفرا ... (لام) ألوف عام عسر اعترى ومعهم لحربه ألّب له ... غسّان لخم وجذام عامله وحضّ الاغنيا على الحملان ... ونكصوا دون مدى عثمان على بعير عشرة تعتقب ... وعزّ مطعم وعزّ مشرب يقتسم النّفر تمرة ومن ... فرث الأباعر شراب قد يعن وقعد الباكون والمعذّرون ... وعسكرت فربّت المنافقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقعد الثّلاثة الّذينا ... تاب عليهم ربّنا يقينا كعب بن مالك مرارة الرّبيع ... وابن أميّة هلال الرّفيع وأبوا خيثمة وذرّ ... قد لحقا وجاء أرض الحجر فذبّ عن مياهه وأمرا ... أن لا يمرّ أحد كما يرى فعقّه المخنوق فوق مذهبه ... ومن وفود طيّىء أتته به فأصبح النّاس ولا ماء لهم ... فأرسل الله سحابة تؤم على تخلّف بطيبة علي ... خصّ بسهمين بسهمه العلي وسهم جبريل وكان حضرا ... وبذله به النّبيّ أمرا وقال إذ أضلّ راحلته ... مجرمهم ما قال فابتهته ونزلت يومئذ في مخشن ... وصحبه كُنَّا نَخُوضُ فاعتن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 انارة الدّجى في مغازي خير الورى صلى الله عليه وسلم شرح العلّامة المحدّث الأصوليّ الفقيه القاضي حسن بن محمّد المشّاط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قال الناظم رحمه الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حمدا لمن أرسل خير مرسل ... لخير أمّة بخير الملل [شرح الخطبة والمقدمة] (حمدا) بالنصب: معمول لفعل محذوف؛ أي: أحمد الله حمدا، فالجملة فعليّة، اختارها لدلالتها على التجدّد والحدوث، ومعنى الحمد معروف، والمحمود هو الله تعالى، ويتعدى الحمد باللّام، كما قال: (لمن) أي: لله الذي (أرسل خير مرسل) على الإطلاق بإجماع من يعتد به، وهو سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وقال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. ويتعلق بأرسل قوله: (لخير أمة) قيل: هي أمّته صلى الله عليه وسلم، وقيل: الصحابة خصوصا، وعليهما اختلف العلماء في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية، ويتعلق بمرسل قوله: (بخير الملل) بكسر الميم وفتح اللام، جمع ملة، وهي الحنيفية السّمحة، ملّة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وعلم من كونه صلى الله عليه وسلم خير مرسل: أنّه خير الخلق على الإطلاق، وهذا ممّا لا يمتري فيه إلّا معاند أو كفور؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ آدم فمن سواه إلّا تحت لوائي، وأنا أوّل شافع، وأوّل مشفّع ولا فخر» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه. وما ذكره الزمخشري في «كشّافه» فلتة اعتزالية؛ فقد انعقد الإجماع على خلافه، بل تفضيل الملائكة على الأنبياء عند المعتزلة فيما سواه صلى الله عليه وسلم، فهم مع أهل السنّة في تفضيله مطلقا. قال في «إضاءة الدّجنّة» : وما نحا «الكشاف» في التكوير ... خلاف إجماع ذوي التنوير وحسبنا في فضله صلى الله عليه وسلم على كل مخلوق حديث الشفاعة العظمى في ذلك الموقف الهائل العظيم. والأنبيا تقول نفسي نفسي ... سواه فالفضل له كالشّمس اللهمّ؛ شفّعه فينا، واجعله مقبلا علينا، راضيا عنّا يا كريم. واعلم: أنّ عموم أدلة رسالته صلى الله عليه وسلم كثيرة في القرآن والسنّة، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وأفضل الصّلاة والسّلام ... على لباب صفوة الأنام لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً، وقال تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا حتى إنّه أرسل للملائكة؛ ليعلّمهم أدب العبودية لحضرة الرب، لا ليؤمنوا؛ لأنّهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ثمّ أتبع الناظم ذلك بالصلاة والسلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أداء لبعض ما يجب له؛ إذ هو الواسطة بين الله والخلق، وجميع النعم الواصلة إلينا إنّما هي ببركته، وعلى يديه التي أعظمها الهداية للإسلام؛ وامتثالا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، فقال: (وأفضل الصلاة والسلام على) سيدنا محمّد (لباب) أي خالص (صفوة) أي: صفوة الصفوة من (الأنام) أي: الخلق. روى الطبراني في «الأوسط» عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عزّ وجلّ اختار خلقه، فاختار منهم بني آدم، ثم اختار بني آدم، فاختار منهم العرب، ثمّ اختار العرب، فاختار منهم قريشا، ثمّ اختار قريشا، فاختار منهم بني هاشم، ثمّ اختار بني هاشم فاختارني منهم، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحبّ العرب.. فبحبّي أحبّهم، ومن أبغض العرب.. فببغضي أبغضهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وآله أفنان دوحة الشّرف ... وصحبه والتّابعي نعم السّلف (وآله) : هم أقاربه المؤمنون من بني هاشم عند المالكية، أو بني المطّلب كما هو قول آخر لهم كالشافعية، (أفنان) : جمع فنن، كأسباب وسبب؛ أي: أغصان (دوحة) : هي الشجرة العظيمة (الشرف) شبّه الآل بذلك في العظم، مع أنّهم أعظم من ذلك؛ لأنّه قد يكون المشبّه به دون المشبّه، كما قال أبو تمام- لمّا امتدح بعض الأمراء بقوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس وقيل له: أتشبّه الأمير في الحلم بأجلاف العرب؟! -: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في النّدى والباس «1» فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنّبراس يعني قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الآية. (وصحبه) : هم من آمن بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، واجتمع معه أوان حمل الدّعوة ولو مرة. وهم عدول كلّهم لا تشتبه ... النّووي أجمع من يعتدّ به (والتابعي) : وهو من لقي الصحابي ولو بلا طول،   (1) مقول لقوله: (قال أبو تمام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ما أرهفت وأرعفت يراعه ... في مهرق ينابع البراعه كالصحابي معه صلى الله عليه وسلم، قال العراقي: (وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة والتابعين بقوله: «طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني، ولمن رأى من رأى من رآني وآمن بي، طوبى لهم، وحسن مآب» رواه الطبراني في «الكبير» ، والحاكم في «المستدرك» ) . وقد تحذف نون الجمع اختيارا كما في السبع: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بنصب الصلاة، وفي نسخة بحذف أداة التعريف، وإضافة تابعي إلى لفظة (نعم السلف) على حدّ: نعم السير على بئس العير، كأنّه قال: وتابعي الصحابة الذين هم نعم المتبوع، فالمدح إذن خاص بالصحابة، قاله في «روض النهاة» . (ما) : هي مصدرية (أرهفت) : رققت (وأرعفت) : أسالت (يراعه) : قصب تبرى منه الأقلام، وقد تنازعه الفعلان قبله على المفعولية (في مهرق) بوزن مكرم: الصحيفة، وتنازع الفعلان، قوله: (ينابع البراعه) على الفاعلية، وهو جمع ينبوع، يقال للماء الكثير، قال في «روض النهاة» : (وعبّر به عن العلم) والبراعة: الغلبة في العلم والفهم وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وجلجل الرّعد وسحّ مزنه ... وهبّ شمأل وماس غصنه وبعد فالعلم أهمّ ما الهمم ... تنافست فيه وخير مغتنم (و) ما (جلجل) صوّت (الرعد) هو الملك، أو صوته. روى أبو عيسى في سننه بسنده إلى ابن عباس قال: (أقبلت يهود إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم؛ أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من الملائكة موكّل بالسحاب، معه مخاريق من نار، يسوق بها السحاب حيث شاء الله» قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره، حتى ينتهي إلى حيث أمر» قالوا: صدقت) وهو قطعة من حديث قال فيه الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، والمخاريق: جمع مخراق، وهو في الأصل: منديل يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا، والمراد هنا: آلة تزجر بها الملائكة السحاب. (وسحّ) صبّ (مزنه) ماء مطر الرعد، (و) ما (هبّ) ريح (شمأل) بفتح الشين، وإسكان الميم، وفتح الهمزة، على إحدى لغاته العشر، ولا تكاد تهب ليلا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في غزوة الخندق، (و) ما (ماس) تبختر، ومال (غصنه) أي: الشمأل، أضيف إليه للملابسة، ومراده: أن يصلّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصحبه وأتباعه مدة دوام ما ذكر، يعني على التأبيد؛ لأنّهم يذكرون مثل هذا في معنى التأبيد، لا محض التقييد. (وبعد فالعلم أهم) أي: أعظم (ما) أي: شيء (الهمم تنافست) وافتخرت (فيه) لأنّه بالعلم يكون الإنسان إنسانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وخيره والعلم تسمو رتبته ... من فضل ما دلّت عليه سيرته (وأنت بالروح، لا بالجسم إنسان) وبه يكون الوصول إلى الله تعالى، وقد أمر الله تعالى نبيه عليه الصّلاة والسّلام بالازدياد منه، بقوله عزّ وجلّ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، وكفى بذلك شرفا (و) هو (خير مغتنم) يغتنمه الإنسان؛ لأنّه ينتفع به حتى بعد موته، فيصل إليه ثمرة ما كان نشره منه في حياته، وينتفع به في قبره. ولما كان من عادة المؤلفين أن يفضلوا الفن المؤلف فيه على غيره، ترغيبا للطالبين، وتنشيطا للقارئين.. قال الناظم مستدلا على أفضليته بما دلّ عليه، كما قال العلّامة أحمد بن المقّري في «إضاءة الدّجنة» : وكلّ علم للمزيّة اكتسب ... فالفضل من معلومه له انتسب (وخيره) أي: خير العلم مبتدأ (والعلم تسمو) أي: تعلو، من سما يسمو (رتبته) : وهي جملة معترضة بين المبتدأ وخبره (من) أجل (فضل ما دلّت عليه) ذلك العلم (سيرته) خبر المبتدأ، يعني: أنّ خير العلم هو علم السيرة؛ بفضل مدلوله؛ فإنّه يدل على سيرته صلى الله عليه وسلم، وعلى سيرة أصحابه، وتراجمهم رضي الله تعالى عنهم؛ وذلك يفيد مزيد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه الذي هو إكسير الإيمان، ألا لا إيمان لمن لا محبة له، ومن أعظمها التمكن من الاقتداء بهم، المشروط في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فهاك منها نبذة ليست تملّ ... ولم تكن بمعظم القصد تخلّ أرجوزة على عيون الأثر ... جلّ اعتماد نظمها في السّير السعادة الأبدية. قال صاحب «العشريات» : سعادتنا مشروطة باتّباعه ... وهل يثبت البنيان إلّا على الأسّ ويودّ الواقف على أحوالهم لو كان بمحضر منهم؛ حتى يكون خديما لهم، ينافح عنهم في القتال، وأعظم بذلك فضيلة بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ، فهذا العلم من العلم الموصل إلى الله تعالى، كما نصّ على ذلك الأئمة الأعلام، وقد تقدم في المقدمة شيء من ذلك (فهاك) فخذ (منها) من سيرته (نبذة) جملة يسيرة (ليست تمل) أي: لا توقع القارئ في الملل والسآمة؛ ليسارتها، (ولم تكن بمعظم) بالإضافة إلى قوله: (القصد) ، ومتعلق بقوله: (تخل) أي: ولم تكن تخل بمعظم القصد، وهذه الجملة كالاحتراس ممّا يوهم قوله: (نبذة) أنّها مخلة بالمراد، فأفاد أنّها مع كونها قليلة فهي وافية بالمطلوب، وهذا بمعنى قول غيره: إنّها ليست بالطويل المملّ، ولا بالمختصر المخلّ. ثمّ أبدل من قوله: (نبذة) قوله: (أرجوزة) فهي منصوبة، والهمزة فيها مضمومة، من الرجز بفتحتين: ضرب من الشعر، وزنه مستفعلن ست مرات، والأرجوزة: القصيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وشدّ ما اجترأت في ذا الهدف ... إذ لم أكن أهلا لصوغ النّتف المنظومة من بحر الرجز، تجمع على أراجيز. وقوله: (على «عيون الأثر» ) خبر مقدم لقوله: (جلّ اعتماد نظمها) أي: هذه الأرجوزة غالب اعتماد نظمها على «عيون الأثر (في) المغازي و (السير) » للحافظ أبي الفتح بن سيد الناس اليعمري الإشبيلي، ولد في ذي القعدة، سنة إحدى وسبعين وست مئة بالقاهرة، وسمع الكثير من الجم الغفير، وتفقّه على مذهب الشافعي، وأخذ الحديث عن والده وابن دقيق العيد، ولازمه سنين كثيرة، وتخرج عليه، وقرأ عليه أصول الفقه. قال في «الشذرات الذهبية» : (وولي دار الحديث بجامع الصالح، وصنف «السيرة الكبرى» وسماها: «عيون الأثر» ، واختصره في كراريس، وسماه: «نور العيون» توفي بمصر سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، ودفن بالقرافة عند الإمام العارف عبد الله بن أبي جمرة، رحمهما الله تعالى. (وشدّ) بالبناء للفاعل بمعنى قوي، وفاعله المصدر المنسبك بما المصدرية في قوله: (ما اجترأت) أي: اجترائي (في ذا) في هذا (الهدف) محركة كما في «القاموس» : كل مرتفع من بناء، أو كثيب رمل، أو جبل. قال السيد مرتضى في شرحه: (ومنه سمّي الغرض هدفا، هو المنتضل فيه بالسهام) . وقال في «روض النهاة» : (قال عبد الرّحمن بن أبي بكر لأبيه- بعد أن أسلم- رضي الله عنهما: استهدفت لي يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فكيف بالعقد لما كان انتثر ... عن كثرة وفي المهارق ابذعر بدر، فصرفت عنك- وكان عبد الرّحمن من أرمى قريش- فقال له أبو بكر: أمّا إنّك يا بني، والله لو استهدفت لي.. لقتلتك) اهـ وإنّما قوي تجاسري في هذا النظم الذي هو هدف وغرض للخطأ (إذ لم أكن أهلا) أي: مستوجبا ومستحقا (لصوغ النّتف) أي: النظم القليل، وأصل الصوغ بناء الشيء على تحسين، والنتف: جمع نتفة، كغرفة وغرف، قال في «القاموس» : (النتفة بالضم: ما تنتفه بإصبعك من النبت، وغيره، والجمع نتف كصرد) اهـ وفي «الحاشية الكبرى» للدمنهوري على «الكافي» عن الفراء: (أنّ العرب تسمي البيت الواحد يتيما، والبيتين والثلاثة نتفة) . (فكيف) الحال (بالعقد) بفتح العين؛ أي: النظم (لما كان انتثر) لأنّ العقد هو نظم المنثور، عكس الحل عند علماء البيان (عن كثرة) يتعلق بقوله: (انتثر) (و) الحال أنّ ذلك الكثير المنتثر ابذعرّ وتفرق (في المهارق) بفتح الميم: جمع مهرق، بمعنى الصحيفة، فهو يتعلق بقوله: (ابذعر) بفتح الذال المعجمة، والعين المهملة، قال الشيخ حماد الشنقيطي: (وهذا منه رحمه الله تعالى تواضع، وهو عادة المؤلفين قبله لا سيّما هو سجيته التواضع، واستحقار نفسه، ولولا ذلك.. لشدت إليه الرحال من كل أرض، وهو محطها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لكن تطفّلت على بركته ... وجاهه بنظم بعض سيرته لعلّها بالنّظم هلهلا على ... من رامها نظما تكون أسهلا ولحضوره بكلّ ذهن ... عن ذكره بمضمر أستغني في العلم، لا سيّما في علم النحو والعربية والأدب، بل والكتاب والحديث والفقه) . (لكن تطفّلت) من التطفل، وهو الإتيان بلا دعوة، وأصله: طفيل بن زلال، كشداد، الذي يدعى طفيل الأعراس والعرائس، قال الشيخ مرتضى في «شرح القاموس» : (كان يأتي في الولائم بلا دعوة، وكان يقول: وددت أن الكوفة بركة مصهرجة، فلا يخفى عليّ منها شيء) . قلت: وللخطيب البغدادي مؤلف في التطفيل، ذكر فيه الكثير من أخبارهم ونوادرهم الغريبة. (على) مائدة (بركته) صلى الله عليه وسلم، (وجاهه) الرفيع العظيم المعظم، ويتعلق بتطفلت قوله: (بنظم بعض سيرته) العطرة عليه ألف ألف صلاة وسلام. (لعلّها) أي: السيرة (بالنظم) حال كونه (هلهلا) ؛ أي: رقيقا سلسا (على من رامها) ؛ أي: قصدها من أهل العلم (نظما تكون أسهلا) لأنّ النظم أقرب حفظا، وأدنى استحضارا وأبقى. (ولحضوره) علة لقوله: (أستغني) والواو داخلة عليه، ويتعلق بالحضور قوله: (بكل ذهن) وقوله: (عن ذكره) وقوله: (بمضمر) يتعلقان بقوله: (أستغني) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والله أسأل سداد النّظر ... وعصمة الخاطر من ذا الخطر وإنّما أستغني عن ذكر اسمه الشريف في كلام لم يذكر فيه، بضمير يعود عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه حاضر بكل ذهن، وهو أعظم من الحضور الحسي، فمن ذلك قوله فيما يأتي: عن قتل آله نهى إذ خرجوا ... وفي خروجهم عليه حرج وهذا بيان لاصطلاحه في نظمه. (والله) بالنصب معمول مقدم لقوله: (أسأل) أي: لا أطلب إلّا من الله (سداد) بفتح السين، هو الصواب، أمّا بالكسر: فهو ما يسد به الشيء، وهو غير مراد هنا، وهو مضاف إلى (النظر) من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: لا أطلب النظر والصواب في جميع أموري إلا منه تعالى (و) لا أسأل إلّا منه (عصمة الخاطر) أي: العصمة ممّا يخطر في القلب. قال في شرح القاموس: (الخاطر: ما يخطر في القلب من تدبير أو أمر) . (من ذا) أي: بسبب هذا التأليف (الخطر) أي: الخطير؛ أي: أطلب أن يعصمني من وسوسة الشيطان فيه بالعجب والرياء، ونحو ذلك من أمراض القلب الخفية، نسأل الله تعالى أن يحفظنا من ذلك كله بمنّه وكرمه، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وأن يكون لي ولا عليّا ... وعند كلّ أحد مرضيّا وأن يكون للثّواب قانصا ... لوجهه عزّ وجلّ خالصا ممّا يلبّس به إبليس ... وللهوى في طيّه تدليس بجاه أفضل الورى محمّد ... صلّى عليه الله طول الأبد (و) أسأله تعالى (أن يكون) هذا التأليف نافعا (لي) فأثاب عليه؛ لكونه خالصا لوجه الله تعالى (ولا) يكون شرا (عليّا) فأعاقب عليه (و) أسأله تعالى أيضا: أن يكون (عند كل أحد مرضيا) حتى يقع النفع به. (وأن يكون للثواب) والأجر منه تعالى (قانصا) أي: صائدا، من قنص بمعنى صاد، وبابه ضرب؛ أي: محصلا للثواب (لوجهه عزّ وجلّ) يتعلق بقوله: (خالصا) والإخلاص: هو ترك حب المحمدة على العمل، أو هو سرّ بين العبد وربه، لا يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، أو إفراد المعبود بالعبادة ... أقوال. (ممّا يلبس به) يتعلق بقوله خالصا؛ أي: وأسأل الله تعالى: أن يكون خالصا ممّا يخلط به (إبليس، و) خالصا ممّا (للهوى في طيّه) يتعلق بقوله: (تدليس) أي: وممّا للهوى تدليس، وغش في طيّه؛ أي: باطنه، متوجها إلى الله تعالى في ذلك بحرمته صلى الله عليه وسلم، ومتّبعي هديه وآثاره، كما قال: (بجاه) أي: بحرمة (أفضل الورى) وخيرهم على الإطلاق إجماعا- كما تقدم- سيدنا (محمّد صلى عليه الله) وعلى آله وحزبه (طول الأبد) أي: الدهر، وهذا كقول الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أوّل غزوة غزاها المصطفى ... ودّان فالأبواء أو ترادفا في طالعة اختصار منظومة الإمام العراقي: وأسأل النفع بها كأصلها ... بجاه من قال لنا أنالها [ غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ] (1) غزوة ودّان (أوّل غزوة) من مغازيه صلى الله عليه وسلم البالغة سبعا وعشرين، كما رواه ابن سعد في «طبقاته» والحافظ العراقي في «ألفيّته» وقال المناوي في «شرحها» : (هو الصحيح المجزوم به، وما في «سيرة عبد الغني» من أنّ المشهور ما ذكره ابن إسحاق، من أنّها خمس وعشرون.. تعقبوه بالرد، والغزوات الكبار: بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وتبوك) وفي شأن هذه الغزوات نزل القرآن «1» . (غزاها المصطفى) عليه الصلاة والسلام الغزوة التي يقال لها: (ودّان) بفتح الواو، وتشديد الدال (فالأبواء) وقيل: إنّهما بمعنى، فتكون غزوة واحدة «2» ، كما قال: (أو ترادفا)   (1) ففي بدر نزل كثير من (سورة الأنفال) وفي أحد آخر (آل عمران) من قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ إلى قبيل آخرها، وفي قصة الخندق وقريظة صدر (سورة الأحزاب) وفي بني النضير (سورة الحشر) وفي قصة الحديبية وخيبر (سورة الفتح) وفي تبوك (سورة براءة) . (2) وعليه جرى في «الإمتاع» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أي: اتّحد ودان والأبواء في المعنى، واختلفا في اللفظ، وهما موضعان بينهما ستة أميال، وبالأبواء المعروفة اليوم بالخريبة، قبر أم نبينا صلى الله عليه وسلم، على يسار الذاهب إلى مكة. وحاصل هذه الغزوة: أنّه صلى الله عليه وسلم خرج لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر صفر، وعلى رأس اثني عشر شهرا من الهجرة، وخرج بالمهاجرين ليس معهم أنصاري يريد قريشا، وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب، فبلغوا سيف البحر يعترضون عيرا لقريش قد جاءت من الشام، فيها أبو جهل في ثلاث مئة راكب، ثم كانت فيها الموادعة- أي: المصالحة «1» - بينه وبين بني ضمرة، وسيدهم مخشيّ «2» بن عمرو، على أنّ بني ضمرة لا يغزونه، ولا يكثّرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوّا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم خمس   (1) وكتب بذلك كتابا فيه: (بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا كتاب من محمّد رسول الله النّبي، بأنّهم آمنون على أموالهم، وأنفسهم، وأنّ لهم النصر على من رامهم، إلّا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة، وأنّ النّبي إذا دعاهم لنصر أجابوه عليهم بذلك ذمة الله ورسوله) . (2) بفتح الميم، وسكون الخاء، وكسر الشين المعجمتين، ثمّ ياء مشددة كياء النسب. قال في «البرهان» : (لا أعلم له إسلاما) كذا في «شرح المواهب» وذكر في «الإمتاع» : (أنّه يقال لمخشي: مجدي بن عمرو أيضا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ثمّ بواط خرجوا لعير ... أميّة بن خلف السّفسير عشرة ليلة. تنبيه: جرت عادة أهل السير أن يسمّوا كل عسكر حضره النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضا من الصحابة إلى العدوّ سريّة وبعثا. (2) غزوة بواط (ثم بواط) بفتح الموحدة، وبوزن غراب، وهو: جبل من جبال جهينة، بقرب ينبع، على أربعة برد من المدينة المنورة؛ يعني: أنّ غزوة بواط بعد الأبواء؛ ولذا أتى بثم المفيدة للترتيب (خرجوا) أي: الصحب الكرام، وكانوا مئتين معه صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، وعلى رأس ثلاثة عشر شهرا من هجرته، واستعمل على المدينة السائب بن مظعون «1» ، وحمل اللواء سعد بن معاذ، أو سعد بن أبي وقاص، يريدون عير قريش، فيها أميّة بن خلف، كما قال: (لعير أميّة بن خلف السّفسير) بكسر   (1) كما في «الروض الأنف» و «العيون» ، وفي «الهشامية» و «الإمتاع» : أنّه السائب بن عثمان بن مظعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 السينين، وإسكان الفاء بينهما: هو التاجر، وكانت العير أي: الإبل- ألفين وخمس مئة، ومعها مئة رجل من قريش، ففاتته عليه الصلاة والسلام، ورجع ولم يلق كيدا، وأميّة وابنه عليّ ماتا كافرين يوم بدر كما سيأتي، أمّا صفوان بن أميّة.. فأسلم بعد، وصحبه صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنه. فائدة: روى مسلم في «صحيحه» في حديث جابر الطويل، في غزوة بطن بواط عنه: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: «عسى الله أن يطعمكم» قال: فأتينا سيف البحر، فزخر البحر زخرة، فألقى دابة، فأورينا على شقها النار، فاطّبخنا، واشتوينا، وأكلنا، وشبعنا، قال جابر: فدخلت أنا، وفلان، وفلان- حتى عدّ خمسة- في حجاج عينها، ما يرانا أحد، حتى خرجنا، فأخذنا ضلعا من أضلاعه فقوّسنا، ثمّ دعونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم جمل في الركب، وأعظم كفل «1» في الركب، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه) اهـ   (1) الكفل هنا: الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه؛ لئلّا يسقط. اهـ «نووي على مسلم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ثمّ العشيرة إلى عير أبي ... سفيان في ذهابها للأرب (3) غزوة العشيرة (ثم العشيرة) بالتصغير، والتاء آخره: ماء لبني مدلج، على ستة فراسخ من المدينة، سميت الغزوة به، ويقال لها: العشيراء، بالهمزة آخره، ويقال: بالسين المهملة فيها، وهي التي يذكرها جعفر بن الزّبير «1» شقيق عبيدة- أمهما زينب بنت بشر، من بني قيس بن ثعلبة- في شعره حيث يقول: مررنا على ماء العشيرة والهوى ... على ملل يا لهف نفسي على ملل وقالوا صخيرات الثّمام وقدّموا ... أوائلهم من آخر الليل بالثّقل وملل: اسم موضع، يقال: إنّما سمي بذلك؛ لأنّ الماشي إليه من المدينة لا يبلغه إلّا بعد جهد وملل، وهو على ثمانية وعشرين ميلا من المدينة، وقيل: اثنان وعشرون، حكاهما القاضي عياض في «المشارق» .   (1) قال في «تهذيب التهذيب» : (كان أصغر ولد الزّبير، وأمّه زينب، ذكره في «الإصابة» في القسم الرابع، وقال: ولد بعد موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم بدهر. هذا هو الصواب) اهـ وقال المحب الطبري في «الرياض النضرة» : (عبيدة، وجعفر أمهما زينب بنت بشر، وكان عبيدة يشبه بأبيه، وشهد جعفر مع أخيه في حروبه، واستعمله على المدينة، وقاتل يوم قتل أخوه قتالا شديدا، حتى جمد الدم على سيفه في يديه، وله شعر كثير في كل فن) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وكانت هذه الغزوة في جمادى الأولى من السنة الثانية، على رأس ستة عشر شهرا، متوجها عليه الصّلاة والسّلام (إلى عير أبي سفيان في ذهابها) أي: العير إلى الشام (للأرب) بفتح الهمزة؛ أي: لقضاء حاجتها من التجارة. واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وحمل اللواء- وكان أبيض- حمزة بن عبد المطلب، وخرج صلى الله عليه وسلم في خمسين ومئة أو مئتين، ممّن انتدب من مهاجري قريش، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا يتعقبونها، فوجدوا العير التي ودّوا أن يعترضوها لأبي سفيان قد مضت قبل ذلك بأيام، وهذه العير هي التي خرج إليها لما رجعت من الشام، فكانت وقعة بدر بسببها، فأقام صلى الله عليه وسلم جمادى الأولى، وليالي من جمادى الآخرة، كما في «سيرة ابن إسحاق» وأقرّه ابن كثير، ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثمّ رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا. قال الإمام البخاري في «صحيحه» : (حدّثنا عبد الله بن محمّد، ثنا وهب، ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة، قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال سبع عشرة، قلت: فأيّها كانت أول؟ قال: العشيرة أو العسيرة، فذكرت لقتادة فقال: العشيرة) فهذا الحديث ظاهر في أنّ أول الغزوات العشيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فبدر الأولى بإثر ناهب ... سرح المدينة مغذّ هارب كرز بن جابر وبعد استنقذا ... لقاحه ممّن عليه استحوذا قال ابن كثير: (اللهم إلّا أن يكون المراد غزاة شهدها مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم زيد، فلا ينافي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد) وهذا نقله في «الفتح» عن ابن التّين، وقال: إنّه محتمل، والله أعلم. (4) غزوة بدر الأولى (ف) بعد العشيرة (بدر الأولى) لأنّه صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من العشيرة.. لم يقم بالمدينة إلّا ليالي لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر على سرح المدينة، كما قال: (بإثر) أي: عقب (ناهب سرح المدينة) بإضافة ناهب لسرح، وهو الإبل والمواشي التي تسرح للرعي (مغذ) بالغين المعجمة: مسرع في سيره، يقال: أغذ السير، إذا أسرع، وقوله: (هارب) صفة ثانية لناهب، وهو المسرع خوفا، ويبدل من ناهب قوله: (كرز بن جابر) الفهري، فهو بالجر. وحاصل ذلك: أنّه لما أغار كرز بن جابر على سرح المدينة.. خرج صلى الله عليه وسلم في طلبه في جمادى الآخر.. حتى بلغ واديا يقال له: سفوان، من ناحية بدر، فلم يدرك كرزا، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فبدر الكبرى لعير صخر ... آئبة من شأمها بالكثر اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (وبعد) بالبناء على الضم؛ أي: وبعد نهب كرز سرح المدينة أسلم وهاجر إليه صلى الله عليه وسلم و (استنقذا) بألف الإطلاق؛ أي: استخلص كرز (لقاحه) صلى الله عليه وسلم، هو بوزن كتاب: الإبل، واحدها لقوح كصبور (ممّن) أي: من العرنيّين الذين (عليه استحوذا) أي: استولى على اللقاح، وجاء بهم أسارى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي خبرهم موضحا، وروعي في استحواذ لفظ (من) . واستشهد كرز يوم فتح مكة رضي الله عنه كما ذكره الحافظ ابن عبد البرّ في «الإستيعاب» . ذكر الواقدي: (أنّ هذه السفرات الثلاث- يعني: ودّان، وبواط، والعشيرة- كان صلى الله عليه وسلم يخرج فيها لتلقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام، ذهابا وإيابا، وبسبب ذلك كانت وقعة بدر الكبرى) . (5) غزوة بدر الكبرى (فبدر الكبرى) عقب بدر الأولى، وبدر: بئر سميت باسم رجل من غفار حفرها هناك، وكانت صبيحة يوم الجمعة لسبعة عشر من رمضان، في السنة الثّانية من الهجرة، خرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 واعتقبوا في ذلك المسير ... كلّ ثلاثة على بعير صلى الله عليه وسلم (لعير) أبي سفيان (صخر) بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، والعير: الإبل تحمل الطعام (آئبة) أي: حال كونها راجعة (من شأمها بالكثر) فإنّ عدد العير ألف بعير، وعدد الدنانير خمسون ألفا، وخرج معه صلى الله عليه وسلم، ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا من الأصحاب، أربعة وستون من المهاجرين، وسائر الجيش من الأنصار، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وكان أبيض، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، واستعمل على المدينة أبا لبابة لما ردّه من الروحاء. وقال صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس إلى العير: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها؛ لعلّ الله ينفّلكموها» وبعث صلى الله عليه وسلم سعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله يتجسّسان خبر العير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قلّة الظّهر والسلاح عند المسلمين: (واعتقبوا) أي: ركبوا نوبة: هذا مرة، والآخر مرة، والعقبة: بوزن علبة: النوبة (في ذلك المسير) إلى قتال المشركين، على الكيفية التي أشار لها بقوله: (كلّ ثلاثة على بعير) وكان معهم سبعون بعيرا. قال في «شرح المواهب» : (فكان صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ولم يكونوا أوعبوا للحرب ... إذ ما غزوا لغير نهب الرّكب وسلم، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة- ويقال: مرثد بن أبي مرثد الغنوي- يعتقبون بعيرا. وقد روى الحارث بن أبي أسامة، وابن سعد عن ابن مسعود قال: كنّا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعليّ زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا كانت عقبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. قالا: اركب ونحن نمشي عنك، فيقول: «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما» وعليه: فجملة الذين يعتقبون مئتان وعشرة، فيحتمل أنّ الباقين لم يركبوا، أو أنّ الثلاثة تركب مرة ثمّ يدفعونه- أي: البعير- إلى غيرهم؛ ليركبوه مرة أخرى، وركوب أبي لبابة معهم كان قبل ردّه من الروحاء، وبعده أعقب مرثدا، كما عند ابن إسحاق، أو زيدا كما عند غيره) . (ولم يكونوا) أي: الصحابة (أوعبوا للحرب) أي: لم يخرجوا جميعهم له؛ لعدم علمهم به، ولو علموا ذلك.. لأوعبوا، لكن مجرد الغنيمة، كما قال: (إذ ما غزوا لغير نهب الركب) الذي مع أبي سفيان وهو العير، قال تعالى: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني: أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا أمرهم بالخروج إلى العير وأمر من كان ظهره حاضرا بالنهوض.. أجاب ناس، وثقل آخرون؛ لظنهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد حربا. قال في «الإمتاع» : (فخرج معه المهاجرون، وخرجت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وليس عندهم من السّيوف ... غير ثمان للعدا حتوف الأنصار، ولم يكن غزا بأحد منهم قبل ذلك، فنزل بالبقع على ميل من المدينة، والتقيا على أربع مراحل من المدينة، وهي بيوت السّقيا، يوم الأحد لثنتي عشرة خلت من رمضان، فضرب عسكره هناك، وعرض المقاتلة، فردّ عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن حضير، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، ولم يجزهم. وعرض عمير بن أبي وقاص فاستصغره، فقال: «ارجع» فبكى، فأجازه، فقتل ببدر وهو ابن ستّ عشرة سنة، وأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يستقوا من بئر السّقيا، وشرب من مائها، وصلّى عند بيوت السقيا، ودعا يومئذ لأهل المدينة فقال: «اللهمّ، إنّ إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيك دعاك لأهل مكة، وإنّي محمّد عبدك ونبيك؛ أدعوك لأهل المدينة: أن تبارك لهم في صاعهم، ومدّهم، وثمارهم، اللهمّ؛ وحبّب إلينا المدينة، واجعل ما بها من الوباء بخمّ، اللهمّ؛ إنّي حرّمت ما بين لابتيها كما حرّم إبراهيم خليلك مكة» وهم على ثلاثة أميال بالجحفة بين الحرمين الشريفين) . (وليس عندهم) أي: الصحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين (من السيوف غير ثمان) ولكنها هي المهلكة، كما قال: (للعدا حتوف) بالجر صفة لثمان؛ أي: ثمان، كثيرة الإهلاك للأعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ولا من الخيل سوى اثنتين ... وقد كفتهم أهبة التّمكين واستنفر النّفير صخر لهم ... وجاء خير مرسل ألبهم (ولا من الخيل) عندهم (سوى اثنتين) : إحداهما: للمقداد بن عمرو، ويقال لها: (سبحة) بفتح السين المهملة، وإسكان الموحدة، وبالحاء المهملة، ثمّ تاء التأنيث. والأخرى: لمرثد بن أبي مرثد، ويقال لها: (السّبل) . وأمّا خيل النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. فإنّما كانت بعد ذلك (و) مع هذه القلة ف (قد كفتهم أهبة) بضم الهمزة وإسكان الهاء، وهو مضاف إلى (التمكين) أي: كفاهم الله تعالى التمكين والمنزلة عنده تعالى، عن الإعداد بالعدد والسلاح. استنفار أبي سفيان قريشا لإنقاذ العير: (واستنفر) أي: استفزّ (النفير) بالنصب: معمول ل (استنفر) ؛ أي: الجيش، وفاعله (صخر) أبو سفيان بن حرب (لهم) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ أي: لحربه (وجاء خير مرسل) بالنصب معمول لجاء، وفاعله (ألبهم) بفتح الهمزة وكسرها: تجمّعهم للحرب، يقال: هم عليه ألب واحد، قال سيدنا حسان رضي الله عنه: والناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلّا السّيوف وأطراف القنا وزر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وحاصل ما أشار له الناظم: أنّ أبا سفيان لمّا بلغه من بعض الركبان: أنّه صلى الله عليه وسلم استنفر أصحابه للعير.. خاف خوفا شديدا، فاستنفر النفير- أي: القوم النافرين للحرب- واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا؛ ليأتي مكة، وأمره أن يجدع بعيره، ويحوّل رحله، ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، ويخبر قريشا أنّ محمّدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه، وكانت تلك العير فيها أموال قريش، حتى قيل: إنّه لم يبق قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلّا بعث به في تلك العير، فأسرع ضمضم إلى مكة، حتى إذا كان ببطن الوادي.. وقف على بعيره، وقد جدعه؛ أي: قطع أنفه، أو أذنه، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، وهو يصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش؛ اللّطيمة، اللطيمة أي: أدركوا اللطيمة، وهي العير التي تحمل الطيب والبز- أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، فتجهز الناس سراعا وهم يقولون: أيظن محمّد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟! كلا والله، ليعلمنّ غير ذلك، فلم تملك قريش من أمرها شيئا حتى نفروا على الصعب والذلول، وتجهّزوا في ثلاثة أيام، وأعان قويّهم ضعيفهم. استيثاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أمر الأنصار: ثم فرّع الناظم رحمه الله تعالى على ما ذكره من استنفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فأخبر النّاس بهم ممتحنا ... وقال سعد ما رأى وأحسنا أبي سفيان النفير وإجابة كفار قريش له، قوله: (فأخبر) رسول الله صلى الله عليه وسلم (الناس) أي: أصحابه رضي الله تعالى عنهم (بهم) أي: بقريش ومسيرهم؛ ليمنعوا عيرهم (ممتحنا) مختبرا، فاستشارهم صلى الله عليه وسلم في طلب العير، وحرب النفير، وقال: إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير، وإمّا قريشا، فقال أبو بكر وأحسن، وقال عمر بن الخطاب وأحسن. ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «أيّها الناس؛ أشيروا عليّ» وإنّما يريد الأنصار؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم تخوّف ألّا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلّا ممّن دهمه بالمدينة؛ لأنّهم ليلة بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله؛ إنّا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذن نمنعك ممّا نمنع منه أزرنا، فعند ذلك قام سعد بن معاذ سيد الأوس «1» كما أشار له بقوله: (وقال سعد) في جواب ذلك (ما رأى) أي: القول الذي رآه (وأحسنا) فيه وهو:   (1) أسلم هو وأسيد بن حضير في يوم واحد، على يد مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة، ثمّ جاء سعد إلى قومه، وقال: كيف تعلمون أمري فيكم يا بني عبد الأشهل؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة. قال: فإنّ كلام رجالكم، ونسائكم عليّ حرام.. حتّى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى في دار بني عبد الأشهل، رجل ولا امرأة.. إلّا وهو مسلم، غير الأصيرم. توفي سعد شهيدا بعد أن أقرّ الله عينه في بني قريظة، وسيأتي شيء من مناقبه عند غزوة الخندق وبني قريظة، رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وكان من رويّة المقداد ... أن رضي السّير إلى الغماد (والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله، قال: «أجل» قال: قد آمنّا بك، وصدقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق؛ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته.. لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنّا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك، فسر على بركة الله) . قال الزرقاني: (وعند ابن عائذ من مرسل عروة، وابن أبي شيبة من مرسل علقمة بن أبي وقاص، عن سعد قال: ولعلّك يا رسول الله خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت، وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحبّ إلينا ممّا تركت، وما أمرت به من أمر، فأمرنا تبع لأمرك، لئن سرت حتى تأتي برك الغماد.. لنسيرنّ معك. فسرّ عليه الصّلاة والسّلام بقول سعد رضي الله عنه وأرضاه، ثمّ قال: «سيروا، وأبشروا؛ فإنّ الله قد وعد إحدى الطائفتين، والله؛ لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم» ) . (وكان من رويّة) بكسر الواو وتشديد الياء، من رويت في الأمر: إذا نظرت فيه؛ أي: وكان من فكرة ورأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 (المقداد «1» ) بن عمرو (أن رضي السير إلى الغماد) بتثليث الغين المعجمة: موضع في أقصى معمور الأرض، أو مدينة في الحبشة، فإنّه رضي الله تعالى عنه قال: والله؛ لو سرت بنا إلى برك الغماد.. لسرنا معك، ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه الصّلاة والسلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير. وفي الصحيح: (أنّ ابن مسعود قال: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إليّ ممّا عدل به، أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسرّه، يعني قوله) اهـ   (1) هو من بني بهراء، حليف بني زهرة، وكان تبنّاه الأسود بن عبد يغوث، ويقال له: المقداد بن الأسود، إلى أن نزل: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ولم يقبل المقداد ذلك التبنّي، بل انتسب إلى أبيه وقبيلته، تزوج ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلب، فولدت له فاطمة بنت المقداد، روى عنها، وهو أحد الأربعة الذين أخبر صلى الله عليه وسلم أنّ الله يحبهم، وألزمه محبتهم قال في «عمود النسب» : أربعة أخبر خير مرسل ... بحبه لهم إلهنا العلي وحبهم ألزمه وهم علي ... سلمان مقداد أبو ذرّ العلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وعمر استقلّ جيش الحنفا ... واستكثر الّذي إليه زحفا ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ» فقال سعد ما تقدم. قلت: وعلم من هذا التقرير: أنّ قول المقداد قبل قول سعد رضي الله عنهما، فكان للناظم أن يقدمه، إلا أنّ النظم لم يساعده، والخطب سهل. (وعمر) بن الخطاب رضي الله عنه (استقلّ) أي: رأى في نظره جيش المسلمين قليلا كما قال: (جيش الحنفا) : جمع حنيف، وهو المائل عن جميع الأديان إلى دين الإسلام (واستكثر) الجيش (الذي إليه) يتعلق بقوله: (زحفا) بمعنى: مشى، وإنّما قال ذلك؛ شفقة على المسلمين؛ لما رأى من كثرة المشركين غيظا بهم، فقال- كما رواه ابن عقبة-: (يا رسول الله؛ إنّها لقريش، والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنّك، فتأهّب لذلك أهبته، وأعدّ لذلك عدته) . ولما سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول صاحبيه: سعد والمقداد.. ارتحل من واد يقال له: ذفران «1» حين بلغه خروج قريش يريدونه.   (1) بكسر الفاء: واد قريب من الصفراء. اهـ من «الحلبية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 واستبقوا صخرا لبدر وانتحى ... وأخذوا واردة وزحزحا تعرّف الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر أخبار قريش: (واستبقوا) أي: سبق الصحب الكرام معه عليه الصّلاة والسّلام أبا سفيان (صخر لبدر، و) أما هو.. فإنّه (انتحى) أي: قصد إلى ناحية الساحل خوفا على عيره، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر رضي الله عنه.. حتى وقفا على شيخ من العرب، فسألاه عن قريش، وعن محمّد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتّى تخبراني ممّن أنتما، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتنا.. أخبرناك» فقال الشيخ: أذاك بذاك؟ قال: «نعم» قال الشيخ: بلغني أنّ محمّدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني.. فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الّذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم- وبلغني أنّ قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدق.. فهم اليوم بمكان كذا وكذا- للمكان الذي به قريش- فلمّا فرغ من خبره.. قال: ممّن أنتما؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء «1» » ، ثمّ انصرفا عنه، قال الشيخ: ما «من ماء» أمن العراق؟!   (1) قال في «النور» : (ظهر لي أنّه أراد: من ماء دافق، والشيخ المشار إليه حمله على المنهل، وقال أبو جعفر الغرناطي في «شرح بديعية ابن جابر» : إنّه تورية، وإنّ ماء قبيلة) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 عنها النّبيّ الضّرب إذ قال هما ... واردة النّفير واستفتاهما قصة سقاة قريش: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه (و) لما أمسى.. بعث علي بن أبي طالب، والزّبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر؛ يلتمسون الخبر له عليه الصّلاة والسّلام، ف (أخذوا واردة) لقريش، وهي القوم يردون الماء، فيها أسلم غلام بني الحجاج، وعريض أبو يسار، غلام بني العاص، فأتوا بهما، فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلّي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما، فلمّا أذلقوهما «1» .. قالا: نحن لأبي سفيان، ونحن في العير، فتركوهما، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد سجدتيه، ثمّ سلّم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما! صدقا والله، إنّهما لقريش، وهذا مراد الناظم بقوله: (وزحزحا) أي: أبعد. (عنها) أي: الواردة (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (الضرب إذ قال: هما واردة النفير) أي: جيش أبي جهل (واستفتاهما) النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لهما: «أخبراني عن قريش» قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي   (1) بالغوا في ضربهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وعند ما أمن صخر أرسلا ... إلى النّفير أن يؤوب قفّلا ترى بالعدوة «1» القصوى، قال: «كم هم؟» قالا: كثير، قال: «ما عدّتهم؟» قالا: لا ندري، قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين تسع مئة وألف» ثمّ قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، وأبو جهل، وأميّة بن خلف، والنّضر بن الحارث، حتّى عدّ جماعة من كبرائهم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» . أمن أبي سفيان على العير ونجاتها: (وعند ما أمن) أبو سفيان (صخر) من تعرض المسلمين لعيره (أرسلا) بألف الإطلاق؛ أي: أرسل أبو سفيان (إلى النفير) : وهم قريش الذين نفروا للقتال مع أبي جهل، ب (أن يؤوب) أي: يرجع النفير (قفّلا) بتشديد الفاء: جمع قافل، بمعنى راجع، وقال: إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم، ورجالكم، وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا، وستأتي مقالة أبي جهل في ذلك. وسبب أمن أبي سفيان: أنّه خرج بسبس بن عمرو،   (1) بضم العين المهملة؛ أي: الجانب المرتفع من الوادي. اهـ منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وردّ الاخنس المسوّد على ... حلف بني زهرة وازداد علا وعديّ بن أبي الزغباء.. حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنّا لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر «1» ، وهما تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنّما تأتي العير غدا، أو بعد غد، فأعمل لهم، ثمّ أقضيك الذي لك، قال مجدي: صدقت، ثمّ خلص بينهما، وسمع ذلك عديّ، وبسبس، فجلسا على بعيريهما، ثمّ انطلقا.. حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبراه بما سمعا، وأقبل أبو سفيان حتى تقدّم العير حذرا، حتى ورد الماء، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره، إلّا أنّي رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثمّ استقيا في شنّ لهما، ثمّ انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتّه، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا، فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع. رجوع الأخنس ببني زهرة: (وردّ الاخنس) بن شريق الثقفي (المسوّد) والمفضل في بني زهرة (على حلف) بكسر فسكون؛ أي: مع حلف   (1) الحاضر: القوم النازلون على الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وابن هشام قال لا أو نردا ... بدرا فننحر ونرهب العدا لبني زهرة، قال في «الروض» : ويقال: إنّه ما ساد حليف غيره، وقوله: (بني زهرة) معمول لقوله: (رد) يعني: أنّ الأخنس قال: يا بني زهرة؛ قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنّما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها، وارجعوا؛ فإنّه لا حاجة لكم في محمّد وأصحابه، لا ما يقول هذا، يريد أبا جهل، فرجعوا ولم يشهدها زهري «1» (وازداد) بذلك (علا) في الجاهلية. قال في «روض النهاة» : إلّا أنّه نافق في إسلامه، ونزلت فيه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الآية. وقيل سبب ردّه لهم: أنّه خلا بأبي جهل حين تراءى الجمعان، فقال: أترى محمّدا يكذب؟ فقال: كيف يكذب على الله، وقد كنا نسميه الأمين؟! لأنّه ما كذب قط، ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف السّقاية والرّفادة والمشورة، ثمّ تكون فيهم النبوة، فأي شيء بقي لنا؟ فحينئذ انخنس؛ أي: رجع ببني زهرة، وكان اسمه أبيّا، فسمّي الأخنس بذلك. إصرار أبي جهل على عدم رجوع قريش: (و) الخبيث اللعين أبو جهل (ابن هشام) بتسمية النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتقول له العرب: أبا الحكم (قال)   (1) قال المناوي: (ورجعت بنو عدي، فصادفهم أبو سفيان، فقال: لا في العير، ولا في النفير، قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 فطاوعوه ومضوا وباتوا ... بشرّ ما بات به بغاة عن كثب وأصبحوا بوحل ... ثبّطهم وبات خير مرسل بخير ليلة وأصبح على ... أثبت أرض للخطا وارتحلا لما أرسل إليهم أبو سفيان أن يرجعوا، فأراد أصحابه الرجوع لنجاة العير: (لا) نرجع (أو) أي: إلّا أن (نرد بدرا) وكانت من مواسم العرب، تجتمع لهم به سوق كل عام (فننحر) الجزر ونشرب الخمر، وتعزف عليه القيان، (ونرهب العدا) وتسمع بنا العرب. (فطاوعوه) أي: أبا جهل (ومضوا) لسبيلهم.. حتى أتوا بدرا، ونزلوا بالعدوة القصوى (وباتوا بشر ما) أي: حال (بات به بغاة) جمع باغ، بمعنى ظالم، من السهر والريح والبرد والجزع، وإنما وصفهم بالظلم؛ لأنّهم أهله، ويتعلق بقوله: (عن كثب) أي: قرب. نزول المطر يوم بدر نعمة على المسلمين ونقمة على المشركين: (وأصبحوا بوحل) بفتح الواو والحاء المهملة؛ أي: فيه، وهو الطين الرقيق ترتطم فيه الدّواب، ولا تكاد تخرج منه (ثبّطهم) أي: عوّقهم الوحل عن المسير (وبات خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (بخير ليلة) من الأمن والعافية، ولما احتلم أصحابه ليلتئذ.. أرسل الله عليهم السحاب، فتطهّروا بها، ولبّدت لهم الأرض، وكانت دهسا؛ أي: سهلة لينة، كما قال: (وأصبح على أثبت أرض للخطا) بضم الخاء، وهو جمع خطوة: ما بين القدمين (وارتحلا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فنزلوا أدنى المياه للعدا ... وغوّروا جميعهنّ ما عدا صلى الله عليه وسلم بأصحابه.. حتّى جاء أقرب ماء من بدر، فنزل به. المشورة في منزل الحرب: ثمّ إنّ الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله؛ أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، أو نتأخر عنه، أم هو الرأي، والحرب، والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال: يا رسول الله؛ فإنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فتنزله، ثمّ نغوّر ما وراءه من القلب، ثمّ نبني عليه حوضا، فنملؤه ماء، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي» فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار.. حتى أتى أدنى ماء من القوم، فنزل عليه، ثمّ أمر بالقلب فغوّرت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء، ثمّ قذفوا فيه الآنية، وإلى هذا أشار الناظم رحمه الله تعالى بقوله: (فنزلوا) أي: الصحب الكرام مع الرسول عليه الصّلاة والسّلام (أدنى المياه للعدا، وغوّروا) بالغين المعجمة، وتشديد الواو، وهو الموافق للنظم «1» (جميعهنّ) أي: القلب (ما عدا) أي: إلّا   (1) قوله: (وهو الموافق للنظم) قال السهيلي في «الروض» عند قوله: (فأمر بتلك القلب فعورت) : (هذه كلمة نبيلة، وذلك أن القلب لما كانت عينا.. جعلها كعين الإنسان، ويقال في عين الإنسان: عرتها فعارت، ولا يقال: عورتها، وكذلك قال في القلب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قليبهم وجعلوا الأواني ... في جدول فهي لهم دواني وأقبلت بالخيلا والكبريا ... إلى المصارع الزّحوف الأشقيا (قليبهم) أي: المسلمين، والقليب في الأصل: البئر قبل أن تطوى وتبنى. (وجعلوا الأواني) للشرب (في جدول) على وزن جعفر وخروع: النهر الصغير، قاله في «القاموس» والمراد به هنا: الحوض المذكور (فهي) أي: الأواني (لهم) أي: للمسلمين ممّن يريد الشرب (دواني) أي: قريبة. (وأقبلت بالخيلا) هو التكبر والإعجاب بالنفس، فعطف قوله: (والكبريا) عليه عطف تفسير (إلى المصارع) جمع مصرع، بفتح الميم، وهو موضع هلاكهم الذي ذكره النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين سرّ ونشط بقول سعد والمقداد: «إنّ الله وعدني إحدى الطائفتين- يعني العير أو النفير- والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم» . وقوله: (الزحوف) فاعل (أقبلت) وهو: جمع زحف الجيش، يزحفون؛ أي: يمشون إلى عدوهم، ووصفهم بقوله: (الأشقيا) .   - عورت بسكون الواو، ولكن لما ردّ الفعل لما لم يسم فاعله.. ضمت العين، فجاء على لغة من يقول: قول القول، وبوع المتاع، وهو لغة هذيل) اهـ وقال أبو ذرّ في «شرحه» : (من رواه بالغين المعجمة، فمعناه: نذهبه وندفنه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لو طاوعوا عتبة أو حكيما ... أو ابن وهب ما رأوا أليما لكونهم إلى القفول أرشدوا ... من بعد ما أشفوا على ما وردوا مقال عتبة وحكيم وابن وهب لقريش في الرجوع عن القتال: قال الناظم: (لو طاوعوا عتبة) بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، الذي قال فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد رآه على جمل له أحمر: «إن يكن فيهم خير، ففي صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» (أو حكيما) ابن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، أمّه فاختة بنت رهين، ولدته في جوف الكعبة، وطرحت ثيابها التي ولدته فيها في الحطيم، وذلك شرع الجاهلية، وتسمّى تلك الثياب: اللقى، بوزن الفتى، قال الشاعر: فواحزنا كرّي عليه كأنّه ... لقى بين أيدي الطائفتين صريم نجا يوم بدر، وأسلم يوم الفتح، رضي الله عنه. (أو) عمير (ابن وهب) بن خلف بن حذافة بن جمح، قال في «روض النّهاة» : (ويقال له: شيطان العرب، وقد أسلم رضي الله عنه) (ما رأوا) أي: كفار قريش (أليما) . (لكونهم) أي: لكون المذكورين (إلى القفول) أي: الرجوع عن القتال (أرشدوا) قومهم (من بعد ما) يظهر أنّها مصدرية (أشفوا) قال في «القاموس» و «شرحه» : (أشفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 على الشيء: أشرف، وحصل على شفاه، وهو يستعمل في الشر غالبا) أي: من بعد إشرافهم (على ما) أي: القتال الذي (وردوا) بدرا لأجله. وأشار الناظم في هذه الأبيات إلى ما ذكره ابن سيد الناس في «العيون» ، وابن كثير في «البداية» كلاهما عن ابن إسحاق قال: (حدّثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لمّا اطمأنّ القوم.. بعثوا عمير بن وهب الجمحيّ فقالوا: احزر لنا أصحاب محمّد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثمّ رجع إليهم، فقال: ثلاث مئة رجل، يزيدون قليلا، أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمين، أو مدد، قال: فضرب في بطن الوادي.. حتّى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكن رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة، ولا ملجأ إلّا سيوفهم. وفي «السيرة الشامية» : أما ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي «1» ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم.. حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم عدادهم.. فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.   (1) تلمظ: إذا تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه، وأخرج لسانه فمسح به شفتيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقال عمرو وبأنفه شمخ ... ثانية سحر عتبة انتفخ فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك.. مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، إنّك كبير قريش، وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي «1» ، قال: قد فعلت، أنت عليّ بذلك، إنّما هو حليفي، فعليّ عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية- يعني أبا جهل- ثمّ قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش؛ إنّكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمّدا وأصحابه شيئا، والله؛ لئن أصبتموه.. لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلّوا بين محمّد وبين سائر العرب، فإن أصابوه.. فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك.. ألفاكم، ولم تعرّضوا منه ما تريدون) . وإلى هنا انتهى ما دار من المفاوضة بين الثلاثة وأبي جهل. إصرار أبي جهل على الحرب: وأمّا جواب أبي جهل.. فهو ما أشار إليه الناظم رحمه الله تعالى بقوله: (وقال) أبو جهل (عمرو و) الحال أنّه (بأنفه) ، يتعلق بقوله: (شمخ) أي: تكبر، قولة (ثانية) ، أمّا القولة   (1) أي: الذي قتله واقد بن عبد الله في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، وهو أول قتيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الأولى فقوله- كما تقدم-: لا نرجع.. حتى نرد بدرا إلخ، ومقول القول قوله: (سحر عتبة انتفخ) كما قال: (سحر) قال في «المختار» : بالضم: الرئة، والجمع أسحار، كبرد وأبراد، وكذا السحر بالفتح، وجمعه سحور كفلس وفلوس، وقد يحرك لمكان حرف الحلق، فيقال: سحر وسحر، كنهر ونهر، والثّاني هو اللائق بالنظم، فيحمل عليه (عتبة انتفخ) . قال في «العيون» : (قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها، فقلت: يا أبا الحكم؛ إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا- للّذي قال- فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمّدا وأصحابه، كلّا والله، لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمّد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أنّ محمّدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه «1» قد تخوف عليه، ولما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره.. قال: سيعلم مصفّر استه من انتفخ سحره: أنا أم هو؟ ثمّ بعث أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي الذي قتل أخوه عمرو في سرية ابن جحش، فقال: هذا حليفك يريد أن ترجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينيك، فقم فانشد خفرتك «2» ومقتل أخيك) وقد أشار الناظم لهذا بقوله:   (1) هو أبو حذيفة من مهاجري الحبشة رضي الله عنه. (2) أي: اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم لك وعهدك؛ إذ أنّه كان حليفا لهم وجارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 واستنشد ابن الحضرميّ الثّأرا ... فحشّ حربا بينهم وشرّا (واستنشد) أبو جهل عامر (بن الحضرمي) أخا المقتول، الذي هو عمرو، وقال: هذا حليفك ... إلى آخر ما تقدم (الثأرا) بالهمزة، وتبدل ألفا: الدم، وقيل: الطلب به، كما في «التاج» عن «المحكم» (ف) قام عامر، وكشف استه، وحثا عليه التراب، ثمّ صرخ: واعمراه، فثارت النفوس، و (حش حربا) أي: أوقدها (بينهم وشرّا) . مقتل الأسود بن عبد الأسد: فقام الأسود «1» بن عبد الأسد المخزومي فقال: أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه. فقام إليه سيدنا حمزة رضي الله عنه، فلمّا التقيا.. ضربه حمزة، فأطنّ قدمه إلى نصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره، تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثمّ حبا إلى الحوض.. حتى اقتحم فيه، فتبعه حمزة، فقتله في الحوض.   (1) الأسود هذا: أوّل من يأخذ كتابه بشماله، وأخوه أبو سلمة أول من يأخذ كتابه بيمينه بعد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال شيخ شيخنا عبد القادر بن محمّد سالم في «الواضح المبين» : سيدنا عمر هو أول ... من يأخذ الكتاب فيما نقلوا ثمّ أبو سلمة يتلوه ... وعكسه الأسود أي أخوه سبحان من يفعل ما يريد ... وعنه لا ينقص أو يزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فقام للوليد نجل عتبة ... حيدرة وحمزة لشيبة نجل ربيعة وعتبة أخوه ... قام له عبيدة إذ رشّحوه وذكر الحافظ ابن عبد البر في ترجمة أخيه العلاء بن الحضرمي: (أنّ عامر بن الحضرمي قتل يوم بدر كافرا) . ابتداء الحرب بالمبارزة: ولمّا أوقد أبو جهل الحرب بينهم، وقتل حمزة الأسود.. خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه ثلاثة من الأنصار: عوف ومعاذ «1» ابنا الحارث، وأمّهما عفراء، والثّالث: عبد الله بن رواحة فيما قيل، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم من حاجة، وفي رواية: فقالوا: أكفاء كرام، ولكن أخرجوا إلينا من أكفائنا بني عمنا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي» . (فقام للوليد نجل) أي: ابن (عتبة) بن ربيعة (حيدرة) لقب لسيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، (و) قام (حمزة) بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم (لشيبة نجل ربيعة) بن عبد شمس، (وعتبة أخوه) أي: أخو شيبة (قام له عبيدة) الآتي نسبه (إذ رشحوه) أي: قدموه للمبارزة.   (1) في «الهشامية» و «العيون» : معوذ، بدل معاذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقطعت قدمه واحتملوه ... وهو أسنّ الجيش فيما نقلوه قال ابن إسحاق: فلمّا دنوا منهم.. قالوا: من أنتم؟ فقال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: عليّ، قالوا: نعم، أكفاء كرام فبارز عبيدة، وكان أسن القوم عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد بن عتبة، فأمّا حمزة.. فلم يمهل شيبة أن قتله، وأمّا علي.. فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة، فدففا عليه- بالمهملة والمعجمة: أجهزا عليه- واحتملا صاحبهما، فحازاه إلى أصحابه. استشهاد عبيدة بن الحارث: (وقطعت قدمه) أي: عبيدة، بضربة ضربه بها عتبة في ركبته، وصار مخّ ساقه يسيل (واحتملوه) فمات بالصفراء، ودفن بها، رضي الله تعالى عنه، ونفعنا بمحبته (وهو أسنّ الجيش فيما نقلوه) من الأخبار. ذكر في «الحلبية» : أنّه أسن من النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعشر سنين. وقال في «روض النهاة» : له يوم مات ثلاث وستون سنة، وهو القائل يومئذ رضي الله عنه: فإن تقطعوا رجلي فإنّي مسلم ... أرجّي بها عيشا من الله عاليا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وهو إذا أخذت في نعم النّسب ... عبيدة بن الحارث بن المطّلب وألبسني الرّحمن من فضل منّه ... لباسا من الإسلام غطّى المساويا (وهو) أي: سيدنا عبيدة المذكور (إذا أخذت في) نسبه الشريف، و (نعم النسب) هو، فقل: (عبيدة بن الحارث بن المطلب) بن عبد مناف، أسلم قديما. قال في «الإصابة» : (وكان رأس بني عبد مناف حينئذ، مع أنّ العباس وإخوته كانوا في التعدد أقرب، وكان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم هاجر) . قال الحافظ ابن كثير: (ولما جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أضجعوه إلى جانب موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفرشه رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه الشريفة، فوضع خده على قدمه الشريفة، وقال: يا رسول الله؛ لو رآني أبو طالب.. لعلم أني أحق بقوله: ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثمّ مات رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أنّك شهيد» رواه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى) . وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد: سمعت أبا ذرّ رضي الله عنه يقسم قسما: أنّ هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وشهد المشهد هذا أخواه ... أعني الحصين والطّفيل مشبهاه الآية: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعليّ، وعبيدة بن الحارث، وعتبة، وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة. وروى البخاري أيضا من حديث أبي مجلز عن قيس، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال: «أنا أوّل من يجثو بين يدي الرّحمن عزّ وجلّ للخصومة يوم القيامة» . وقال قيس: وفيهم أنزلت: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ، وقال: هم الّذين تبارزوا يوم بدر: علي، وحمزة، وعبيدة رضي الله عنهم، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. (وشهد المشهد هذا) أي: بدرا (أخواه) أي: أخوا عبيدة، بل شهدا المشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماتا في خلافة عثمان رضي الله عنه، في سنة إحدى وثلاثين (أعني الحصين والطفيل) ابني الحارث. قال في «روض النهاة» : (إنّ الثلاثة أشقاء، أمهم سخيلة) (مشبهاه) أي: عبيدة في قدم الإسلام، والهجرة، وشهود بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وابن غزيّة سواد استنتلا ... من صفّه ورام أن يعتدلا نبيّنا فمسّه في كشحه ... وقال إذ آلم مسّ قدحه أوجعتني نخسا فأعطني القود ... وجدّ في أن كان باشر الجسد قصة سواد بن غزية مع الرسول صلى الله عليه وسلم: (وابن غزيّة) بالتكبير، البلويّ، حليف بني عدي بن النجار، واسمه (سواد) بفتح السين، وتخفيف الواو، قال في «روض النّهاة» : «وكذا كل سواد في العرب، إلّا عمر بن سوّاد، بتشديد الواو، أحد بني عامر بن لؤي، من شيوخ الحديث، وسواد بن مرّ بن إراشة البلويّ حليف الأنصار، فبضم السين وتخفيف الواو والمذكور في النظم شهد بدرا، وما بعدها، و (استنتلا) أي: تقدم (من صفّه، ورام) أي: قصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا كان يعدّل الصفوف (أن يعتدلا) والألف للإطلاق، وفاعله يعود على سواد، وقوله: (نبينا) فاعل رام (فمسّه) أي: مسّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم سوادا (في كشحه) : هو ما بين الخاصرة إلى الضلع، (وقال) سواد (إذ آلم) هـ (مسّ قدحه) - بكسر القاف-: السهم قبل أن يراش وينصل (أوجعتني نخسا) : هو غرز الجنب بعود، ونحوه، وهذا مقول القول (فأعطني القود) أي: القصاص، فأعطاه ذلك، بأن كشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريف، (وجدّ) سواد، واجتهد (في أن كان باشر الجسد) أي: جسده صلى الله عليه وسلم، فاعتنقه، وقبّل بطنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قال ابن إسحاق: (وحدّثني حبّان بن واسع بن حبّان، عن أشياخ من قومه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عدّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدّل به القوم، فكان يقول لهذا تقدم، ويشير للآخر تأخّر) . وذكر في «الشّامية» : (أنّه صلى الله عليه وسلم خطب فيهم يومئذ، فحمد الله وأثنى عليه «1» ، فمرّ بسواد بن غزيّة حليف بني عديّ بن النجار، وهو مستنتل من الصف) . قال ابن هشام: (فطعن في بطنه بالقدح، وقال: «استو يا سواد» فقال: يا رسول الله؛ أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: «استقد» قال: فاعتنقه، فقبّل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟» قال: يا رسول الله؛ حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير) . عريش النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ولمّا عدّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم صفوفه.. رجع إلى عريشه، وليس معه فيه غير أبي بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: «اللهمّ؛   (1) وذكر الإمام المقريزي خطبته عليه الصّلاة والسّلام في أصحابه فقال: (وخطب عليه الصّلاة والسّلام يومئذ فقال بعد الثناء على الله والحمد: «أمّا بعد: فإنّي أحثّكم على ما حثّكم الله عليه، وأنهاكم عمّا نهاكم عنه؛ فإنّ الله عظيم شأنه ... » إلخ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وخفق النّبيّ حين المعركه ... وفي عريشه رأى الملائكه على ثنايا جبرئيل النّقع ... ولم يقاتل في سواها الجمع إن تهلك هذه العصابة اليوم.. لا تعبد» وأبو بكر يقول: يا نبيّ الله؛ بعض مناشدتك ربك، فإنّ الله منجز لك ما وعدك. (و) قد (خفق) بفتحات (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم وهو في العريش خفقة؛ أي: حرّك رأسه وهو ناعس (حين المعركة) بفتح الميم، والراء مفتوحة، أو مضمومة: موضع القتال. الإمداد بالملائكة في بدر: (وفي عريشه) وهو ما يستظل به من خشب وحشيش (رأى) عليه الصلاة والسلام (الملائكة على ثنايا جبرئيل النقع) أي: الغبار، فمن أجل ذلك لما انتبه صلى الله عليه وسلم.. قال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع» . روى البيهقي- كما في «شرح المواهب» - عن عليّ رضي الله عنه قال: (هبّت ريح شديدة لم أر مثلها، ثمّ هبّت ريح شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبريل، والثّانية ميكائيل، والثّالثة إسرافيل، فكان ميكائيل عن يمين النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره وأنا فيها) اهـ. ورواه ابن سعد، وذكر الثلاثة جزما، وقال: (فكانت الأولى: جبريل في ألف من الملائكة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 والثّانية: ميكائيل في ألف عن يمينه، والثّالثة: إسرافيل في ألف عن يساره) قاله القسطلاني. ثمّ خرج صلى الله عليه وسلم من باب العريش، وهو يتلو: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. دعاؤه صلى الله عليه وسلم ربه: وفي «صحيح مسلم» ، و «سنن أبي داوود» و «الترمذي» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حدّثني عمر بن الخطاب قال: لمّا كان يوم بدر.. نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثمّ مدّ يديه فجعل يهتف بربه: «اللهمّ؛ أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ؛ آتني ما وعدتني، اللهمّ؛ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام.. لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادّا يديه، مستقبل القبلة.. حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثمّ التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله؛ كفاك مناشدتك ربك؛ فإنّه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فأمدّه الله بالملائكة) . استفتاح أبي جهل: واستفتح أبو جهل يومئذ فقال: اللهمّ؛ أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 نفسه، وفيه نزلت: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، فرمى بها قريشا، وقال: «شاهت الوجوه» وقال لأصحابه: «شدّوا» فكانت الهزيمة، وكانت تلك الحصباء عظيما شأنها، لم تترك أحدا من المشركين إلّا ملأت عينيه، وجعل المسلمون يقتلونهم، ويأسرونهم، وبادر النفير إلى كل رجل منهم منكبّا على وجهه، يعالج التراب، ينزعه من عينيه، وذلك قوله تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي: عمّ جميعهم، وما في قبضتك إلّا ما يبلغ بعضهم، فالله هو الذي رمى سائرهم. وذكر المقريزي في «إمتاع الأسماع» : إنّ هزيمة القوم كانت عند الزوال، وكان الرجل يومئذ يرى الملك على صورة رجل يعرفه، وهو يثبّت ويقول له: ما هم بشيء، فكر عليهم، وذلك معنى قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. قال سيدنا حسان رضي الله عنه: ميكال معك وجبرئيل كلاهما ... مدد لنصرك من عزيز قادر (ولم يقاتل في سواها) أي: في غير غزوة بدر (الجمع) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقيل: لم تقاتل الملائكه ... إذ ريشة منهم لقوم مهلكه لكنّهم لعدد ومدد ... وطبلهم هناك طول الأبد من الملائكة، أما فيها.. فقاتلت، وبهذا صرح العماد بن كثير في «تفسيره» فقال: (المعروف من قتال الملائكة: أنّه إنّما كان يوم بدر- ثم روى بإسناده إلى ابن عباس- قال: لم تقاتل الملائكة إلّا يوم بدر) . (وقيل لم تقاتل الملائكه) لا في بدر ولا في غيرها، وإنّما كانوا يكثّرون السّواد، ويثبّتون المؤمنين، وإلّا.. فملك واحد يكفي في إهلاك الدنيا، كما قال الناظم: (إذ ريشة منهم لقوم مهلكه) مبيدة. (لكنهم) إنّما حضروا بدرا (لعدد) أي: لتكثير عدد (ومدد) في أعين المشركين، لا يضربون. قال في «شرح المواهب» عقب ذكر هذا القيل، وما معه من الدليل: (وهذه شبهة يدفعها ما يأتي عن السبكي، قلت: وحاصل دفعها عنه: أنّ قتال الملائكة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الاشتراك في بعض الفعل، مع أنّ جبرائيل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؛ لإرادة أن يكون الفعل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب، وسنتها التي أجراها الله تعالى في عباده، والله فاعل الجميع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وفي المسألة قول ثالث، ذكره في «شرح المواهب» وهو: أنّها قاتلت فيها وفي غيرها. سماع الطبل في بدر: (وطبلهم) المسمّى بطبل أهل الإيمان (هناك) ببدر يسمع إلى وقتنا هذا، بل (طول الأبد) وقد شاع ذلك، وشوهد من كثير ممّن يزورون بدرا؛ فقد قال القسطلاني في «المواهب» عن ابن مرزوق: (ومن آيات بدر الباقية مدى الأزمان.. ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجّاج: أنّهم إذا اجتازوا بذلك الموضع.. يسمعون هيئة الطبل، طبل ملوك الوقت، ويرون أنّ ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأوّلته بأنّ الموضع صلب، فتستجيب فيه حوافر الدوابّ، وكان يقال لي: إنّه دهس سهل ليس برمل، ولا تراب غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل، وأخفافها لا تصوّت في الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟!) . قال- أي: ابن مرزوق-: (ثمّ لما منّ الله عليّ بالوصول إلى ذلك الموضع المشرّف.. نزلت عن الراحلة أمشي، وبيدي عود طويل من شجرة السّعدان، المسمى بأم غيلان، وقد نسيت ذلك الخبر الذي كنت أسمع، فما راعني وأنا سائر في الهاجرة إلّا واحد من عبيد الأعراب الجمّالين يقول: أتسمعون الطّبل؟ فأخذتني لمّا سمعت كلامه قشعريرة بيّنة، وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان في الجو بعض ريح، فسمعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 صوت الطبل، وأنا دهش ممّا أصابني من الفرح، أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت، وقلت: لعلّ الريح سكنت في هذا العود الذي في يدي، وأوجدت مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدي، وجلست على الأرض، أو ثبتّ قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا، أو صوتا لا أشك أنّه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرّفة، ثمّ نزلنا ببدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومي أجمع، المرة بعد المرة، وقد أخبرت أنّ ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس) انتهى كلام ابن مرزوق. وقال العلّامة المؤرخ الشهير بالخميس حسين بن محمّد: (وأنا جرّبتها في سنة «936» وقت اجتيازي ببدر قافلا من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، وسمعت صوت الطبل، وتتابع الناس لسماعه، وكانوا زهاء مئة إنسان من الرجال، والنساء في الشقادف، وغيرها سماعا محققا بلا شك، مرارا متعددة، وكان الصوت يجيء تارة من تحتنا ثمّ ينقطع، وتارة من خلفنا ثمّ ينقطع، وتارة عن يميننا، وتارة عن شمالنا، وعلى كل الهيئات كنا نسمع الصوت قائما، وقاعدا، ومتكئا، سماعا محققا بلا شبهة، وكان الوقت صحوا، راكدا لا ريح فيه) اهـ «1»   (1) «تاريخ الخميس» (1/ 431) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وجاء أنّ جبرئيل يحضر ... من مات مؤمنا وقوم أنكروا نزوله بعد رسول الله ... والحقّ أن ليس له تناهي الخلاف في نزول جبريل بعد الرسول عليهما السّلام: (وجاء) في الخبر (أنّ جبرئيل) بالهمزة قبل الياء، عليه السّلام (يحضر من مات) من أمّة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم (مؤمنا) وإذا رآه الشيطان.. يفرّ منه، فلا يقدر أن يغوي من أراد الله تعالى ثباته، ثبّتنا الله على الإيمان بحرمة سيدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام (وقوم) من العلماء (أنكروا نزوله بعد رسول الله) صلى الله عليه وسلم. قال الناظم: (و) القول (الحق أن) هـ؛ أي: أنّ نزول جبريل (ليس له تناهي) حتى يردّ الدجال عن الحرمين. نعم؛ لا ينزل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي بشريعة. قال عبد الباقي في «شرحه» على «مختصر سيدي خليل» : (وما اشتهر على ألسنة الناس أنّه لا ينزل إلى الأرض بعد موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. فلا أصل له، ومن الدليل على بطلانه ما للطبراني في «الكبير» عن ميمونة بنت سعد قالت: قلت: يا رسول الله؛ هل يرقد الجنب؟ قال: «ما أحب أن يرقد.. حتى يتوضّأ؛ فإنّي أخاف أن يتوفّى فلا يحضره جبريل» ) . قال العلّامة الشيخ محمّد الأمير عليه، أو ما معناه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وراقب الجمعين شخصان لكي ... ينتهبا من مدبري الجمعين شي فرأيا الملك وهو منطلق ... فانشقّ واحد والاخر صعق (لا ينزل بتجديد شريعة) . ونقله في «مشارق الأنوار» في فوز أهل الاعتبار، جعلنا الله تعالى منهم بمنّه وكرمه. (وراقب الجمعين) أي: جمع المسلمين، وجمع المشركين (شخصان) من بني غفار (لكي ينتهبا) مع من ينتهب (من مدبري الجمعين شي) معمول ل (ينتهبا) ، وقف به على لغة ربيعة؛ أي: ليأخذا شيئا. (فرأيا الملك) جبريل عليه السّلام (وهو منطلق) على فرس قائلا: أقدم حيزوم (فانشقّ واحد) من الشخصين فمات مكانه، (والآخر صعق) وغشي عليه. قال ابن إسحاق: (حدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّه حدّث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدّثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي.. حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة على من تكون الدّبرة «1» ، فننتهب مع من ينتهب، فبينا نحن في الجبل؛ إذ دنت سحابة.. فسمعنا فيها حمحمة «2» الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم «3» حيزوم، فأمّا ابن عمّي فانكشف   (1) الدبرة- بفتح الدال المهملة وسكون الباء-: هي الهزيمة. (2) حمحمة- بحائين مهملتين مفتوحتين، بينهما ميم ساكنة-: صوت الخيل. (3) أقدم: بهمزة قطع مفتوحة وكسر الدال، من الإقدام كما رجحه ابن الأثير، وحيزوم: اسم فرس جبريل، كما في «الروض الأنف» للسهيلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وابن معاذ مبتني العريش ... وحارس النّبيّ من قريش قناع قلبه فمات مكانه، وأمّا أنا فكدت أهلك ثمّ تماسكت) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أدحر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ وما ذاك إلّا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلّا ما رؤي يوم بدر» قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: «أما إنّه قد رأى جبريل يزع الملائكة» أي: يصفّهم للحرب. وقال عليه الصّلاة والسّلام يومئذ: «هذا جبريل يسوق الريح كأنّه دحية الكلبي، إنّي نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . وقال سيدنا عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه: (رأيت يوم بدر رجلين، عن يمين النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال، ثم يليهما ثالث من خلفه، ثمّ ربعهما رابع أمامه) . قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا، ويوم حنين عمائم حمرا. وقال ابن هشام: (وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: أحد أحد) . سعد بن معاذ وحراسته الرسول صلى الله عليه وسلم في العريش: (و) سعد (ابن معاذ) سيد الأوس، مبتدأ (مبتني العريش) خبره؛ فإنّه قال كما رواه ابن إسحاق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 يكره إبقاء الأسارى ويرى ... إهلاكهم أوّل قتل أجدرا (يا رسول الله؛ ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعدّ عندك ركائبك، ثمّ نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا الله، وأظهرنا على عدوّنا.. كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى.. جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا؟ فقد تخلّف عنك أقوام يا نبي الله وما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنّك تلقى حربا.. ما تخلّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك، فأثنى عليه صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير، ثمّ بنى للرسول صلى الله عليه وسلم عريشا فكان فيه) . والعريش: شبه الخيمة يستظل به، وقال السهيلي: (هو كل ما أظلّك، وعلاك من فوقك، فإن علوته أنت.. فهو عرش لا عريش) . وتعقبه مغلطاي بأن تفرقته بينهما لم يروها عن لغويّ، والذي في «العين» : (أنّهما: ما يستظل به) . رأي سعد بن معاذ وعمر في الأسارى: (و) هو (حارس النّبي) صلى الله عليه وسلم (من) كفار (قريش) على باب العريش، متوشحا السيف في نفر من الأنصار، يحرسونه صلى الله عليه وسلم، مخافة كرّ العدوّ عليه. وجملة قوله: (يكره إبقاء الأسارى) خبر بعد خبر، لقوله: (وابن معاذ) و (الأسارى) بضم الهمزة كالأسرى بفتحها: جمع أسير (ويرى) سعد (إهلاكهم) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وهكذا عمر كان وهي من ... موافقاته الّتي بعد تعنّ المشركين (أوّل قتل) أي: في أوّل قتل ووقعة أوقعها الله تعالى بالكفار (أجدرا) أي: أحق، وهو مفعول ثان ل (يرى) والأول: إهلاكهم، كما علم من التقرير، وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى في وجه سعد الكراهة لما يصنع الناس.. قال: «والله؛ لكأنّك يا سعد تكره ما يصنع القوم» فقال: أجل والله يا رسول الله، كانت أوّل وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال. (وهكذا عمر) بن الخطاب- رضي الله عنه- ابن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب (كان) يرى رأي ابن معاذ في كراهة إبقاء الأسرى؛ فإنّه لمّا أخذ صلى الله عليه وسلم الأسرى قائلا: «ماذا ترون؟» .. قال عمر: يا رسول الله؛ كذّبوك وأخرجوك، اضرب أعناقهم. موافقات عمر رضي الله عنه: (وهي) أي: هذه الكلمة (من موافقاته) أي: كلماته الموافقة للقضاء (التي بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف إليه؛ أي: التي بعد هذه (تعنّ) بكسر العين؛ أي: تعرض، وهي كثيرة، جمعها الحافظ السيوطي «1» .   (1) في نظم سمّاه «قطف الثمر في موافقات عمر» وهو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الاستشارة في أسرى بدر: قال القسطلاني في «المواهب» : (وفي حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار صلى الله عليه وسلم الناس في الأسرى يوم بدر، فقال: «إنّ الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر فقال: يا رسول الله؛ اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه الصّلاة والسّلام، ثمّ عاد صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيّها الناس؛   الحمد لله وصلّى الله ... على نبيّه الذي اجتباه يا سائلي والحادثات تكثر ... عن الذي وافق فيه عمر وما يرى أنزل في الكتاب ... موافقا لرأيه الصواب خذ ما سألت عنه في أبيات ... منظومة تأمن من شتات ففي المقام، وأسارى بدر ... وآيتي تظاهر وستر وذكر جبريل لأهل الغدر ... وآيتين أنزلا في الخمر وآية الصيام في حل الرفث ... وقوله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ يبث وقوله لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى ... يُحَكِّمُوكَ إذ بقتل أفتى وآية فيها لبدر أوبه ... وَلا تُصَلِّ آية في (التوبة) وآية في (النور) هذا بُهْتانٌ ... وآية فيها بها الاستئذان وفي ختام آية في (المؤمنين) ... تبارك الله بحفظ المتّقين وثلّة من في صفات السابقين ... وفي سواه آية (المنافقين) وعددوا في ذاك نسخ الرسم ... لآية قد نزلت في الرجم وقال قولا هو في التوراة قد ... نبهه كعب عليه فسجد وفي الأذان الذكر للرسول ... رأيته في خبر موصول هنا انتهى ما ذكره من موافقات أبي حفص، ثمّ أولاه بموافقات أبي بكر، فانظر ذلك في «الحاوي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 عن قتل آله نهى إذ خرجوا ... وفي خروجهم عليه حرج وعن أبي البختري إذ لم يؤذه ... وصكّ نبذهم سعى في نبذه إنّ الله قد أمكنكم منهم» فقال عمر: يا رسول الله؛ اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه الصّلاة والسّلام، ففعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر الصدّيق فقال: يا رسول الله؛ أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء) . النهي عن قتل بني هاشم وأبي البختري: ثمّ قال الناظم: (عن قتل آله) يتعلق بقوله: (نهى) يعني: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل آله بني هاشم (إذ خرجوا) إلى بدر مع المشركين (وفي خروجهم عليه) صلى الله عليه وسلم (حرج) أي: ضيق، فقد أخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «إنّي قد عرفت أنّ رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم.. فلا يقتله، ومن لقي أبا البختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد.. فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلا يقتله، فإنّما خرج مستكرها» ، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله: (و) نهى (عن) قتل (أبي البختري) بفتح الباء وإعجام الخاء عند النوويّ، وبضم الباء مع إهمال الحاء عند ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 غيره «1» ، وإنّما نهى عليه الصلاة والسلام عن قتله (إذ لم يؤذه) أي: لأنّه لم يؤذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من كان يؤذيه قبل، ولم يبلغه عنه شيء يكرهه، بل كان يذب عنه صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الإكرام لبني هاشم ما داموا في الشّعب «2» ، يبعث إليهم بالأطعمة الكثيرة، ولما لامه أبو جهل.. قال أبو سفيان: دعوه، كريم وصل رحما، وقد سعى في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش في منابذته عليه الصّلاة والسّلام، كما أشار لهذا الناظم بقوله: (وصكّ) : هو الكتاب، فارسي معرّب، وهو مضاف إلى قوله: (نبذهم) أي: كتاب طرحهم؛ أي: مشركي قريش النّبيّ صلى الله عليه وسلم (سعى) أي: أبو البختريّ، وكان المتولي لكتابته بغيض بن عامر العبدريّ، بإملاء من قريش، فشلّت يده، وجملة (سعى) خبر قوله: (وصكّ) (في نبذه) أي: طرح الصك.   (1) واسمه: العاصي بن هشام بن الحارث بن أسد. (2) وذلك: أنّه لمّا فشا الإسلام، وكثر المسلمون، وبلغ المشركين إكرام النجاشي للقادمين عليه من المسلمين.. ائتمر المشركون، وكتبوا بينهم كتابا تعاقدوا فيه ألّا يناكحوا بني هاشم وبني المطّلب، ولا يبايعوهم، ولا يكلّموهم، ولا يجالسوهم حتى يسلموا سيدنا محمّدا صلى الله عليه وسلم إليهم، وعلقوا هذه الصحيفة في سقف الكعبة، وكان ذلك ليلة المحرم في السنة السابعة من البعثة، فصاروا في الشعب مضيقا عليهم نحوا من ثلاث سنين حتى فرج الله عنهم، وأخبر عليه الصّلاة والسّلام بأنّ الصحيفة قد أكلت الأرضة جميع ما فيها إلّا اسم الله تعالى، فكان كما أخبر عليه الصّلاة والسّلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وجاءه المجذّر بن ذيّاد ... وقال عنك قد نهى خير العباد فقال والزّميل قال المصطفى ... لم ينه عن قتل الزّميل الحنفا قتل المجذّر بن ذيّاد لأبي البختري: (وجاءه) أي: أبا البختري (المجذّر) بصيغة اسم المفعول: المضعف (ابن ذيّاد) بفتح الذال وتشديد الياء، قال في «روض النّهاة» : (وهو أشهر من كسر الذال، وتخفيف الياء) . وهو ابن عمرو بن مرة البلويّ الخزرجيّ، شهد بدرا، وقتله الحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري الأوسي يوم أحد، بأبيه سويد، وكان المجذّر قتله في الجاهلية، في حرب الأوس والخزرج، فلمّا اشتبك القتال بين المسلمين والمشركين يوم أحد.. عدا الحارث على المجذّر فقتله غيلة، فأخبر جبريل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولحق الحارث بمكة مرتدا، ثمّ جاء تائبا لما نزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ، وحملها إليه رجل وقرأها عليه، فقال الحارث: والله إنّك لصدوق، وإنّ الله أصدق الصادقين، فأسلم ثمّ قتله النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمجذّر (وقال) أي: المجذّر لأبي البختري (عنك) أي: عن قتلك (قد نهى خير العباد) صلى الله عليه وسلم. (فقال) أبو البختري (والزميل) أي: الرفيق، يعني: تقتله أم قد نهيت عنه، واسمه: جنادة بن مليحة من بني ليث (قال) المجذر (المصطفى) صلى الله عليه وسلم، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فقال والنّخوة تأبى والإبا ... عن تركه جبنا وحكّم الظّبا لا يسلم ابن حرّة زميله ... حتّى يموت أو يرى سبيله مبتدأ، وخبره جملة قوله: (لم ينه عن قتل الزميل) ، وقوله: (الحنفا) : جمع حنيف، وهو المائل عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، مفعول (ينه) أي: لم ينه صلى الله عليه وسلم أصحابه الحنفاء عن قتل الزميل، إنّما نهى عنك. (فقال) أبو البختريّ لسبق شقاوته في الأزل والعياذ بالله، (والنخوة) مثلث النون: التكبر (تأبى والإبا) أي: الامتناع عن الضيم (عن تركه) أي: الزميل (جبنا) أي: خوفا من الموت، (وحكّم الظّبا) بوزن هدى: جمع ظبة كثبة: حدّ السيف، ومقول القول: (لا يسلم ابن حرة زميله ... حتى يموت أو يرى سبيله) فإنّه قاله لما حمل المجذّر بالسيف، ولكن طعنه المجذّر رضي الله عنه، بعد أن قاتله فقتله، وفي ذلك يقول المجذّر: أو بشّرن بمثلها منّي بني ... أنا الذي يقال أصلي من بلي إمّا جهلت، أو نسيت نسبي ... فأثبت النسبة إنّي من بلي الطاعنين برماح اليزني ... والطاعنين الكبش حتى ينحني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وإذ نهى عن قتل عمّه هفا ... أبو حذيفة وقال سخفا بشّر بيتم من أبوه البختري ... أطعن بالصّعدة حتى تنثني وأعبط القرن بعضب مشرفي ... أرزم للموت كإرزام المري فلا يرى مجذّر يفري فري ثمّ أتى المجذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثك بالحق؛ لقد جهدت عليه أن يستأسر، فآتيك به، فأبى إلّا أن يقاتلني، فقاتلته.. فقتلته. مقالة أبي حذيفة وتكفيرها بالشهادة: (وإذ نهى) رسول الله صلى الله عليه وسلم (عن قتل عمه) العباس بن عبد المطلب؛ لأنّه إنّما خرج مستكرها (هفا) أي: زلّ (أبو حذيفة) : قيس بن عتبة بن ربيعة (وقال) قولا (سخفا) يريد مرذولا: وهو أنقتل آباءنا، وإخواننا، وعشيرتنا، ونترك العباس؟! والله لئن لقيته لألحمنّه السيف، فبلغ هذا القول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فقال: «يا أبا حفص «1» - قال عمر: والله إنّه لأول يوم كناني فيه أبا حفص- أيضرب وجه عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟ فقال عمر: يا رسول الله؛ دعني أضرب عنقه؛ فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة، ولا زلت منها خائفا، إلّا أن تكفّرها الشهادة.   (1) الحفص: ولد الأسد، أراد صلى الله عليه وسلم شدة سيدنا عمر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وكفّرت هفوته الشّهاده ... يوم اليمامة لها أراده وإذ رآه المصطفى تضجّرا ... من جرّ عتبة أبيه اعتذرا (وكفّرت هفوته) أي: زلته تلك، وهو مفعول (كفرت) مقدم على فاعله الذي هو (الشهادة يوم اليمامة) : هو يوم مشهور، كان في أيام أبي بكر، بعث فيه جيشا لقتال مسيلمة الكذاب، قتل فيه وحشيّ مسيلمة، واستشهد فيه أبو حذيفة ومولاه سالم، وجد أحدهما قتيلا عند رجل الآخر، رضي الله عنهما. وكان ذلك في ربيع الأوّل من سنة اثنتي عشرة من الهجرة، كذا في تاريخ الخميس. والذي يقتضيه كلام ابن الأثير وابن خلدون في «تاريخهما» : أنّها كانت في أواخر السنة الحادية عشرة؛ لأنّهم ذكروا أنّ مسير خالد إلى العراق في أوّل سنة اثنتي عشرة، وكان بعد فراغه من قتل أهل اليمامة، كذا في «الفتوحات الإسلامية» (لها) أي: للشهادة، يتعلق بقوله: (أراده) أي: اليوم. قال في «روض النهاة» : (ليس معناه: أنّه لم يقصد لها الأيام التي قبله، بل كل وقعة يقصدها للشهادة، لكن لم تقدّر؛ لامتداد أجله إلى ذلك اليوم) . تمني أبي حذيفة موت أبيه على الإسلام: (وإذ رآه) أي: أبا حذيفة (المصطفى) صلى الله عليه وسلم (تضجرا) من التضجر، وهو القلق من الغم (من جرّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 بأنّه كان يرى أنّ أباه ... يحجزه عن ميتة السّوء حجاه وإذ معاذ بن عمرو بن الجموح ... أطنّ ساق ابن هشام الطّموح أي: بسبب جرّ المسلمين إلى القليب (عتبة أبيه) مجرور بالفتحة، وأبيه بدل منه مجرور بالباء (اعتذرا) بألف الإطلاق كسابقه؛ أي: اعتذر أبو حذيفة. (بأنّه كان يرى) أي: يعتقد (أنّ أباه) عتبة (يحجزه) أي: يكفه، ويمنعه (عن ميتة السوء) : وهي الموت على الكفر والعياذ بالله، وفاعل يحجزه قوله: (حجاه) بكسر الحاء؛ أي: عقله؛ يعني: أنّه لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين أن يلقوا في القليب.. أخذ عتبة بن ربيعة، فسحب إلى القليب، فنظر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة.. فإذا هو كئيب متغير، فقال صلى الله عليه وسلم: «لعلّك قد دخلت من شأن أبيك شيء» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فاعتذر أبو حذيفة فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي، ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلمّا رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له.. أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال خيرا. مقتل أبي جهل: (وإذ معاذ بن عمرو بن الجموح) بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة بكسر اللام (أطنّ) قطع (ساق) أبي جهل (بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فطرح ابنه الهزبر عكرمه ... عاتقه وجرّه في الملحمه ألصق خير مرسل فالتصقا ... عاتقه لمّا عليه بصقا هشام الطموح) أي: الجموح الراكب هواه لغيّه؛ وذلك أنّ معاذا قال: رأيت أبا جهل وقد أحاطوا به وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلمّا سمعتها.. عمدت نحوه، وحملت عليه، فضربته ضربة أطنّت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما أشبّهها حين طاحت إلّا بالنواة تطيح من تحت مرضحة «1» النوى حين يضرب بها. (ف) بسبب ذلك ضرب معاذا عكرمة بن أبي جهل على عاتقه كما قال: (طرح ابنه الهزبر) بفتح الزاي، وإسكان الباء هنا، وفيه إسكان الزاي وفتح الباء، وهو الأسد، (عكرمه) وقد أسلم عام الفتح رضي الله عنه، وما أحسن تعبير الناظم في جانب الابن الذي أسلم بعد بالهزبر، وأبيه الذي مات كافرا بالطموح (عاتقه) : هو ما بين المنكب والعنق وهو موضع الرداء، (وجرّه) أي: جر معاذ عاتق نفسه (في الملحمه) الوقعة العظيمة في الفتنة، والمراد هنا ساحة القتال. (ألصق خير مرسل) صلى الله عليه وسلم عاتقه في مكانه (فالتصقا) بألف الإطلاق؛ وفاء له (عاتقه) وقوله: (لما عليه بصقا) بتخفيف الميم على أنّ ما مصدرية؛ أي: لبصوقه عليه، أو بتشديدها، على أنّ لمّا حينية؛ أي: فالتصق حين   (1) بحاء مهملة ومعجمة: آلة يكسر بها نوى التمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بصق عليه؛ أي: أخرج ريقه، ورمى به، قال معاذ: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني؛ أي: شغلني القتال عنها، فلقد قاتلت عامة يومي، وإنّي لأسحبها خلفي، فلمّا آذتني وضعت عليها قدمي، ثمّ تمطيت بها عليها، حتى طرحتها. قال في «المواهب» : (وجاء معاذ بن عمرو يحمل يده ضربه عليها عكرمة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره القاضي عياض عن ابن وهب، فبصق عليه الصّلاة والسّلام عليها، فلصقت) . تنبيه: ما ذكره الناظم تبع فيه أصله اليعمريّ، وعليه جرى القسطلاني كما رأيت، قال الزرقاني: (وانتقده- يعني اليعمري- محشّيه البرهان، بأنّ الذي في «الشفاء» معوذ بن عفراء. قلت: ينبغي اعتماد ما في «الصحيحين» من حديث أبي سليمان التيمي، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ينظر ماذا صنع أبو جهل؟» قال ابن مسعود: أنا يا رسول الله، فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، قال: فأخذ بلحيته، قال: فقلت: أنت أبو جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتلتموه؟! أو قال: قتله قومه، وكذلك ردّه محشيه، بأنّ القاطع لها أبو جهل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فرعون الامّة النّبيّ عرّفا ... بجحشه ركبته إذا اختفى قال الزرقاني: (نعم؛ روى ابن إسحاق، ومن طريقه الحاكم عن ابن عباس قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: سمعتهم يقولون وأبو جهل في مثل الحرجة «1» : أبو جهل لا يخلص إليه، فجعلته من شأني، فصمدت نحوه، فلمّا أمكنني.. حملت عليه، فضربته ضربة أطنّت قدمه بنصف ساقه، قال: فوالله ما شبّهتها حين طاحت إلّا بالنواة تطيح من تحت مرضحة النوى حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فضرب يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامّة يومي وإنّي لأسحبها خلفي، فلمّا آذتني.. وضعت عليها قدمي ثمّ تمطّيت عليها حتى طرحتها، قال ابن إسحاق: ثمّ عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان رضي الله عنه، ولم يذكر في حديثه هذا أنّه أتى بها المصطفى، فتوهم اليعمريّ، وتبعه القسطلاني: أنّ كلام القاضي فيه توهم؛ لأنّها قصة أخرى كما علم) . (فرعون) هذه (الأمّة) وهو أبو جهل، لقّبه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم قال: هذا فرعون هذه الأمّة: عزاه ابن كثير في «البداية» لأبي داود والنّسائي من حديث طويل، وقال اليعمريّ في «العيون» : (روينا عن ابن عائذ: حدّثنا الوليد، قال حدّثني خليد، عن   (1) بفتح الحاء المهملة والراء والجيم وتاء تأنيث: شجر ملتف كالغيضة، قاله في «النهاية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 بين الهوالك وكلّم النّبي ... جثثهم موبّخا للخشب قتادة: أنّه سمعه يحدث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكل أمّة فرعونا، وإنّ فرعون هذه الأمّة أبو جهل، قتله الله شر قتلة، قتله ابنا عفراء، وقتلته الملائكة، وذففه ابن مسعود» يعني: أجهز عليه) . وقوله: (فرعون) مبتدأ وقوله: (النبيّ) مبتدأ ثان، خبره (عرفا) أي: بينه للصّحب الكرام لما أمر أن يلتمس أبو جهل في القتلى (بجحشه) بتقديم الجيم على الحاء؛ أي: بخدش النّبيّ صلى الله عليه وسلم (ركبته) أي: ركبة أبي جهل (إذا اختفى بين الهوالك) . قال في «السيرة الهشامية» : (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحب الكرام، فيما بلغني: «انظروا إن خفي عليكم- يعني أبا جهل- في القتلى، إلى أثر جرح في ركبته؛ فإنّي ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان، وكنت أشفّ منه بيسير، فدفعته، فوقع على ركبتيه، فجحشته في إحداهما جحشا لم يزل أثره به» ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فوجدته بآخر رمق، فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه، قال: وقد كان ضبث» بي مرة بمكة، فآذاني ولكزني، ثمّ قلت له: هل أخزاك الله؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أعمد «2» من رجل قتلتموه؟ أخبرني   (1) ضبث به: قبض عليه بكفه ولزمه. (2) في الصحيح بسنده إلى عبد الله رضي الله عنه: (أنّه أتى أبا جهل وبه رمق يوم بدر، فقال- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 لمن الدبرة اليوم؟ قلت: لله ورسوله) . قال ابن إسحاق: (وزعم رجال من بني مخزوم: أنّ ابن مسعود كان يقول: ثمّ احتززت رأسه، ثمّ جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله؛ هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلله الذي لا إله غيره؟» قال: وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: نعم، والله الذي لا إله غيره، ثمّ ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله تعالى) . طرح قتلى المشركين في القليب ونداؤهم: (و) لما ألقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قتلى المشركين في القليب (كلّم النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (جثثهم) : جمع جثة، وهو الشخص (موبّخا) أي: ملوّما (ل) - لمشركين المشبّهين با (لخشب) تشبيها بليغا في عدم النفع، وهو بضمّتين جمع خشبة، وفي التنزيل في صفة المنافقين: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، وفي الحديث في صفتهم أيضا: «خشب بالليل، صخب بالنهار» أراد أنّهم ينامون الليل لا يصلون، كأنّ جثثهم خشب مطروحة.   - أبو جهل: هل أعمد من رجل قتلتموه؟) قال في «الفتح» : (أعمد- بالمهملة-: أفعل تفضيل من عمد؛ أي: هلك، يقال: عمد البعير يعمد عمدا بالتحريك، إذا ورم سنامه من عض القتب، فهو عميد، ويكنى بذلك عن الهلاك) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وأشار الناظم رحمه الله تعالى إلى ما ذكره الحافظ اليعمريّ في «العيون» قال: (روينا عن ابن عائذ، أخبرني الوليد بن مسلم، أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة «1» ثلاثا، فلمّا كان يوم بدر.. أقام ثلاثا، وألقى بضعة وعشرين رجلا من صناديد قريش في طويّ من أطواء بدر، ثمّ أمر براحلته، فشدّ عليها رحلها، فقلنا: إنّه منطلق لحاجة، حتّى وقف على شفى الرّكي، فجعل يقول: «يا فلان بن فلان؛ ويا فلان بن فلان ... » ) الحديث. قال العبد الضعيف: وتمامه: «هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإنّي وجدت ما وعدني الله حقا» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنّهم لا يستطيعون أن يردّوا شيئا» . قال الحافظ اليعمريّ: (روينا من طريق مالك بن سليمان الهرويّ قال: حدّثنا معمر، عن حميد الطويل، عن أنس، وفي آخره قال قتادة: أحياهم الله حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، توبيخا لهم) .   (1) العرصة بوزن الضربة: كل بقعة بين الدور واسعة، ليس فيها بناء. اهـ «مختار» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 هذا حمل لهذا الخبر على ظاهره، وقد روينا عن عائشة رضي الله عنه: أنّها تأوّلت ذلك، وقالت: إنّما أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّهم الآن ليعلمون أنّ الذي أقول لهم هو الحق، ثمّ قرأت: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى الآية. قال السهيليّ في «الروض» : (وعائشة لم تحضر- يعني بدرا- وغيرها ممّن حضر أحفظ للفظه عليه الصّلاة والسّلام، وقد قالوا له يا رسول الله؛ أتخاطب قوما قد جيّفوا، أو جيفوا؟ فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين.. جاز أن يكونوا سامعين: إمّا بآذان رؤوسهم، إذا قلنا: إنّ الروح يعاد إلى الجسد، أو إلى بعض الجسد عند المسألة، وهو قول الأكثرين من أهل السنة. وإمّا بأذن القلب، أو الروح، على مذهب من يقول بتوجه السؤال إلى الروح، من غير رجوع منه إلى الجسد أو بعضه. وقد روي أنّ عائشة احتجّت بقوله الله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وهذه الآية كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ أي: أنّ الله تعالى هو الذي يهدي، ويوفّق، ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا، وصمّا على جهة التشبيه بالأموات، وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيّه، ولا أحد؛ فإذن لا تعلق بالآية من وجهين: أحدهما: أنّها نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وعاين النّاس المصارع الّتي ... أخبرهم بها مقيم الملّة والآخر: أنّه إنّما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله؛ فإنّه لا يسمعهم إذا شاء إلّا هو، ويفعل ما شاء، وهو على كل شيء قدير) اهـ إخبار الرسول بمصارع المشركين بأسمائهم قبل القتال: (وعاين) أي: أبصر (الناس) أي: الصحب الكرام (المصارع) جمع مصرع، وهو موضع الصرع؛ أي: الطرح. قال في «المصباح» : الصريع من الأغصان: ما تهدّل وسقط إلى الأرض، ومنه قيل للقتيل: صريع، والجمع: صرعى. والمعنى: وأبصر المسلمون مواضع صرع الكفار (التي أخبرهم بها) أي: بالمصارع (مقيم الملة) صلى الله عليه وسلم. قال في «المواهب» : (وفي «الطبراني» عن أنس رضي الله عنه قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدّثنا عن أهل بدر فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر: يقول: «هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى» قال عمر: فو الذي بعثه بالحقّ؛ ما أخطؤوا الحدود التي حدّها صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: «يا فلان بن فلان؛ ويا فلان بن فلان؛ هل وجدتم ما وعدكم الله حقا؟ فإنّي وجدت ما وعدني الله حقا» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فحقّق الله له ما وعدا ... وأوهن الكفر وأيّد الهدى قال العبد الضعيف: وحملت الناس فيما ذكر على الصحب الكرام، على معنى أنّ ما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين في شأن كفار قريش هو حق، وآمن به الصحب، وبمشاهدة ذلك قد ازداد الإيمان عيانا، والبيان بيانا، فهو من باب (عين اليقن) وفيه علم من أعلام النبوّة باهر. نصر الله الموعود للمؤمنين: (فحقق الله له) أي: لنبيّه صلى الله عليه وسلم (ما وعدا) أي: الذي وعده من النصر على أعدائه؛ حيث أذن له في الجهاد بقوله عزّ وجلّ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ «1» ، وقول الله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وقوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ، ومن إظهار دينه على الدين كله بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.   (1) قال في «الفتح» : (عن الزّهري: إنّها أول آية نزلت في القتال، كما أخبرني عروة عن عائشة، أخرجه النسائي، وإسناده صحيح، وأخرجه هو والترمذي، وصححه الحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: لما خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة.. قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن، فنزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية، قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لهم من الله كتاب سابق ... لذاك ما شهدها منافق (وأوهن) أي: أضعف (الكفر) بقتل أئمّته؛ فإنّ غالب قتلى بدر من المشركين: صناديدهم، ورؤساؤهم (وأيد) أي: قوّى (الهدى) : وهو دين الإسلام، بتأييد أهله، فهم عند الله من الأبرار، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حارثة بن سراقة الأنصاري وقد أصيب يوم بدر: «إنّه في جنة الفردوس» . وذكر البخاري بسنده إلى معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقيّ عن أبيه- وكان أبوه من أهل بدر- قال: (جاء جبريل فقال: ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة) وهذا مع قلة المسلمين وكثرة المشركين، مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد والعدّة الكاملة والخيل المسوّمة. قال في «المواهب» : (أعزّ الله تعالى بيوم بدر رسوله، وأظهر وحيه، وتنزيله، وبيّض الله وجه النّبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله) ؛ ولهذا قال الناظم رحمه الله تعالى: المغفرة لأهل بدر: (لهم) أي: للصحابة الذين شهدوا بدرا (من الله كتاب) أي: قدر قدّره الله لهم (سابق) في أزله على سعادتهم.. حتى قال صلى الله عليه وسلم لسيدنا عمر رضي الله عنه- حين كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش، وبعثه مع سارة قينة صيفي بن هاشم يخبرهم: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 غزوهم، فبعث صلى الله عليه وسلم إلى حاطب، فاعتذر، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقد نافق-: «يا عمر «1» ؛ إنّه قد شهد بدرا، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم» . وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «إنّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم» . واعلم: أنّه ليس في ذلك الترخيص لهم في فعل المعاصي، بل المعاصي إذا أتوها.. فهي معاص في حكم الشرع، لا مباحات، ولكن لا يترتب عليها العقاب في الآخرة بل في الدنيا، فقد ثبت في مسند الإمام أحمد من حديث جابر: «لن يدخل النار رجل شهد بدرا، والحديبية» فهم ناجون في حكم الآخرة، ولا دلالة في الحديث على أنّه لا يقام عليهم الحد؛ فقد أقام عليه الصّلاة والسّلام الحدّ على مسطح، وهو بدريّ، وعمر بن الخطاب على قدامة بن مظعون الحد لما شرب الخمر. لطيفة: اقتبس الحديث المذكور بعض الأدباء فقال في محبوب يسمّى بدرا: يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التّجرّي   (1) مقول لقوله: (قال صلى الله عليه وسلم لعمر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقبّحوا لك وصلي ... وزيّنوا لك هجري فليفعلوا ما أرادوا ... فإنّهم أهل بدر (لذاك) أي: لأجل ما ذكر من الكتاب الذي كتبه الله، وقدّره لمن شهد بدرا (ما شهدها) أي: الغزوة رجل (منافق) : وهو من أظهر الإيمان وأسرّ الكفر؛ لئلّا يدخل في صفتهم الخطيرة. قال في «روض النّهاة» : (واعتذر عن ثعلبة بن حاطب، ومعتّب بن قشير، والحارث بن سويد، بأنّهم شهدوا بدرا، وخرج معهم يومئذ رجلان من الأنصار: حبيب «1» بن إساف، وآخر لم يسمّ وهما لم يسلما قبل، فقال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أسلمتما؟» قالا: لا، قال: «فأين تريدان؟» قالا: نقاتل مع قومنا، قال: «إنّا لا نستعين بمشرك، فإمّا أن تسلما، وإمّا أن ترجعا إلى بلدكما» فأسلما، وشهدا بدرا، رضي الله عنهما) . قلت: وفي حديث حارثة- الآتي ذكره في المستشهدين من الأنصار في هذا اليوم- ما ينبّه على عظيم فضل من شهد بدرا؛ فإنّ حارثة هذا كان في النظّارة من بعيد، ولم يكن في   (1) حبيب بن إساف: بكسر الهمزة، وقد تبدل ياء: أوسي، ذكره في «الإصابة» وفي «الشامية» اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يوم له ما بعده في الكفر ... وقد أتى منوّها في الذّكر بأنّه العذاب واللّزام ... وأنّه البطش والانتقام ساحة القتال، ولا في حومة الوغى، أصابه سهم غرب، وهو يشرب من الحوض، ثمّ مع هذا أخبر صلى الله عليه وسلم- لمّا جاءته أمه ولهة من قتله، لا تدري مصيره- بأنّه في جنة الفردوس، ومعلوم أنّه أعلى الجنة، ومنه تفجر أنهارها، وقد أمر صلى الله عليه وسلم أمته إذا سألوا الله تعالى الجنة.. أن يسألوه الفردوس الأعلى، فإذا كان من في النظارة يعدّ له هذا الجزاء العظيم، فما بالك بمن كان في نحر العدوّ، وهم على ثلاثة أضعافهم؟! و (سهم غرب) أي: لا يعرف راميه، يقال: سهم غرب، بفتح الراء وسكونها، وبالإضافة وغير الإضافة، انظر «النهاية» لابن الأثير. يوم بدر أذلّ الله فيه الشرك وأعزّ الإسلام: (يوم) أي: يوم بدر يوم كائن (له ما بعده في الكفر) يقال: أمر له ما بعده؛ أي: تبع، وكذلك يوم بدر، كل ما وقع في إذلال الكفر بعده تبع له (وقد أتى) أي: يوم بدر (منوّها) مرفوعا (في الذكر) المنزل من عنده تعالى. (بأنّه العذاب) قال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى عذاب الدنيا بالقتل، والأسر، والجدب سنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وأنّه الفرقان بين الكفر ... والحقّ والنّصر سجيس الدّهر في الأجر والمغنم قسّم النّبي ... لنفر عن الزّحاف غيّب والأمراض دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. (و) أنّه (اللزام) قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً، وأكثر العلماء على أنّه يوم بدر، وقيل: عذاب الآخرة، (وأنّه البطش والانتقام) قال تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ. (وأنّه الفرقان بين الكفر و) بين (الحقّ) في قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ. قال ابن كثير: (يوم بدر يوم الفرقان) . قال في «شرح المواهب» : (قاله ابن عباس، رواه ابن جرير، وابن المنذر، وصححه الحاكم (و) أنّه (النصر) لقوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وأعظمها يوم بدر، وقوله (سجيس الدهر) - بفتح السين وبعدها جيم مكسورة وياء معجمة- أي: أبد الدهر. الثمانية المتخلّفون عن شهود بدر لعذر: ثمّ أراد الناظم رحمه الله تعالى أن يذكر بعض من تخلّف عن حضور بدر لعذر قام به، ولولاه لما غابوا، فكانوا كمن حضرها؛ ولذلك أسهم لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: (في الأجر) أي: ثواب من شهد بدرا (و) في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لطلحة ولسعيد أرسلا ... للرّكب ينظران أين نزلا (المغنم) أي: الغنيمة، والجار والمجرور متعلق بقوله: (قسّم النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (لنفر) هو في الأصل من ثلاثة لعشرة، والذين ذكرهم في النظم ثمانية (عن الزحاف) بكسر الزاي المعجمة: الدنوّ من القتال، أو القتال نفسه، وهو متعلق بقوله: (غيّب) بضم الغين المعجمة، وتشديد الياء المفتوحة الواقع نعتا للنفر؛ أي: قسّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لنفر غيب عن القتال لعذر كما تقدم؛ فلأجل ذلك أسهم لهم صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بثبوت الأجر لهم، ففي «الحلبية» : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسهم لكلّ، وصار كل من أسهم له يقول: وأجري يا رسول الله؟ فيقول: «وأجرك» . ثمّ أراد أن يذكر أسماء أولئك، مع بيان أعذارهم فقال: (لطلحة) : هو ابن عبيد الله بن عثمان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم القرشي التيمي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد السابقين «1» (ولسعيد) : وهو ابن زيد بن   (1) أسلم على يد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، وأم طلحة اسمها الصعبة بنت الحضرمي، وكانت قبل أبيه تحت أبي سفيان بن حرب، وفيها يقول: وإنّي وصعبة فيما ترى ... بعيدان والود ود قريب وإلّا يكن نسب ثاقب ... فعند الفتاة جمال وطيب فيا لقصيّ ألا فانظروا ... إلى الوبر صار الغزال الربيب روى ابن ماجه في «سننه» عن صاحب الترجمة أنّه قال: دخلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبيده سفرجلة، فقال: «دونكها؛ فإنّها تجم الفؤاد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح- براء مفتوحة، ثمّ زاي وحاء مهملة- ابن عديّ بن كعب «1» ، وهذا كسابقه، بدل من قوله: (لنفر) . ثمّ بيّن سبب ذلك، وهو عذر تخلّفهم عن شهود بدر، بقوله: (أرسلا) والألف للإطلاق، مبينا للفاعل، وهو في قوة العلة لما قبله (للركب) والمراد به: عير أبي سفيان؛ أي: إنّما قسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهما؛ لأنّه أرسلهما لركب أبي سفيان «2» (ينظران أين نزلا) أي: الركب. قال ابن إسحاق: قدم طلحة من الشام بعد أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، فكلّمه، فضرب له بسهمه، فقال: وأجري يا رسول الله؟ قال: «وأجرك» ، وكذا قال ابن إسحاق في سعيد: «إنّه قدم من الشام بعد قدومه صلى الله عليه وسلم من بدر، فكلّمه، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، فقال: وأجري يا رسول الله قال: «وأجرك» . وقال الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» : (عن   - وسيأتي بعض مناقبه في غزوة أحد إن شاء الله تعالى، توفي سنة ست وثلاثين، ودفن بالبصرة. (1) فهو من بني عدي، ومن السابقين إلى الإسلام، توفي في خلافة سيدنا معاوية رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة، ودفن في أرضه بالبقيع. (2) فيه إشارة إلى أنّ فاعل أرسل ضمير يعود على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويصح أن يكون أرسل مبنيا للمفعول، والمراد: أرسلها النّبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولابن عفّان ولابن الصّمّة ... وابن جبير كسرا عن همّة الواقدي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار، ثمّ رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر) . ثمّ عطف على قوله: (لطلحة) قوله: (ولابن عفان) وما بعده؛ أي: قسم النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الأجر والمغنم لسيدنا عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميّة ابن عبد شمس بن عبد مناف «1» ؛ لأنّه تخلّف على رقية ابنته صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة. قال في «الحلبية» : (وقيل: إنّه كان مريضا بالجدريّ)   (1) يكنى أبا عبد الله بابنه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات صغيرا من نقرة الديك في عينيه رضي الله عنه، ابن ست سنين، ثمّ ولد له عمرو فكنّي به، وله تقول زوجه نائلة بنت الفرافصة تبكيه- وقيل: لوليد بن عتبة-: ألا إنّ خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر وما لي لا أبكي، وتبكي قرابتي ... وقد حجبت عنا فضول أبي عمرو وأمه أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس، وأخوه لأمه الوليد بن عتبة، وأم أمهما أم حكيم البيضاء، توأمة عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا في «روض النّهاة» . قال في «الإصابة» : (قتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حش كوكب، كان عثمان اشتراه فوسع به البقيع، وقتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وشهر على الصحيح المشهور) . وترجمته رضي الله عنه واسعة تطلب من المطولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أي: ولا مانع من وجود الأمرين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ لك لأجر رجل وسهمه» . (ول) لحارث (بن الصمّة) بكسر الصاد المهملة مع تشديد الميم، ابن عمرو بن عتيك الأنصاريّ، ثمّ النّجّاري، والد أبي جهيم، آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سيدنا صهيب، واستشهد ببئر معونة ذكره الحافظ في «الإصابة» . (و) لخوّات بتشديد الواو (ابن جبير) بالتصغير ابن النعمان بن أميّة بن امرئ القيس الأوسيّ البكري، أخي عبد الله بن جبير، وخوّات هذا هو صاحب ذات النحيين في الجاهلية، وهي امرأة من بني تيم الله اسمها خولة، يروى: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سأله عنها، فتبسّم، فقال: يا رسول الله؛ قد رزق الله خيرا، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور، قيل: إنّه مرّ في الجاهلية بنسوة فأعجبه حسنهنّ، فسألهنّ أن يفتلن قيدا لبعير له، زعم أنّه شارد، فجلس إليهنّ، فمرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه، فلمّا أسلم.. سأله عن ذلك البعير الشارد وهو يبتسم، فقال خوّات: قيده الإسلام يا رسول الله. قال في «روض النّهاة» : (وفي قصته مع خولة يقول: فشدّت على النّحيين كفّا ضعينة ... فأعجلتها، والفتك من فعلاتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وابن عديّ عاصم العجلاني ... خلّفه خير بني عدنان على العوالي وعلى المدينه ... أبا لبابة الرّبيط الزّينه وفيها المثل: (أشغل من ذات النحيين) توفي سنة أربعين، وهو ابن إحدى وسبعين سنة. وأشار الناظم إلى عذر تخلفهما عن بدر فقال: (كسرا) بالبناء للمفعول؛ أي: أصاب رجليهما كسر (عن همة) صادقة لحضور بدر؛ فلذلك ضرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم سهما لكل واحد منهما. (وابن عدي) واسمه (عاصم) وعدي هو: ابن الجدّ بن العجلان، فهو منسوب لجده، كما قال: (العجلاني) حليف الأنصار «1» ، وجملة (خلّفه خير بني عدنان) صلى الله عليه وسلم خبر عن المبتدأ، الذي هو (ابن عدي) ويتعلق بخلّفه قوله: (على العوالي) وردّه إليها من الروحاء؛ لسبب ذكره موسى بن عقبة وغيره، كما في «الروض الأنف» : (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه شيء عن أهل مسجد الضّرار، وكان قد استخلفه على قباء والعالية، فردّه لينظر في ذلك، وضرب له بسهمه مع أهل بدر) . قلت: هكذا قالوا، ولم يكن إذ ذاك مسجد الضّرار، وإنّما كان سنة تسع عند خروجه صلى الله عليه وسلم لتبوك،   (1) يكنى أبا عمرو، وأبا عبد الله، وعاصم هذا هو المذكور في حديث الذي يقول له عويمر العجلاني- وهو عمير بن الأبيض-: سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة خمس وأربعين وهو ابن عشرين ومئة. اهـ من «الروض الأنف» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فيحتمل أن يكون استخلافه عليه الصّلاة والسّلام على أهل قباء والعالية من المدينة لشيء بلغه عنهم؛ ولذلك عدّ من البدريين وضرب له بسهم وهو المعتمد، كما ذكره الحافظ في «الإصابة» أمّا ذكر مسجد الضرار.. فلا معنى له هنا. (و) خلف (على المدينة) المنوّرة بأنواره عليه الصّلاة والسّلام واليا (أبا لبابة) بشير بن عبد المنذر «1» ، وكان رده من الروحاء على المشهور، وإنّما قلنا: (واليا) لأنّه استعمل على الصّلاة في المدينة ابن أم مكتوم، وقوله: (الربيط) أي: لنفسه بالسارية؛ وذلك: لما طلبه بنو قريظة في حصار النّبيّ صلى الله عليه وسلم إياهم، وسألوه عمّا يكون إذا نزلوا على حكمه، فأشار لهم بيده للذبح، فخرج من عندهم نادما، فربط نفسه بسارية من سواري المسجد.. حتّى تاب الله تعالى عليه، وحلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السارية. وسيأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في غزوة بني قريظة، ووصفه بقوله: (الزينة) أي: لقومه؛ لخصاله الحميدة الجميلة.   (1) هو من سادات بني عمرو بن عوف، وهو صاحب الحديث: «اللهمّ؛ اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» وهو: الثقب الذي يسيل منه ماء المطر، وكان حض على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في طلب الاستسقاء، فرأى أبو لبابة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال في «الإصابة» : (ذكره موسى بن عقبة في البدريين، وقالوا: كان أحد النقباء ليلة العقبة، وكانت راية بني عمرو يوم الفتح معه، مات في خلافة علي، وقال خليفة: مات بعد قتل عثمان، ويقال: عاش إلى ما بعد الخمسين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ثامنهم ردّ من الرّوحاء ... وهو ابن حاطب إلى قباء (ثامنهم) أي: من تخلف عن بدر لعذر، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم (ردّ من الرّوحاء) إلى قباء، فقوله: (وهو ابن حاطب) جملة معترضة أتى بها لبيان تعيين الثامن، وهو الحارث بن حاطب بن عمرو الأوسي، أخو ثعلبة. قال في «الإستيعاب» : (ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن حاطب، حين توجّه إلى بدر من الروحاء في شيء أمره به في بني عمرو بن عوف، وضرب له بسهمه، وأجره، فكان كمن شهدها) . وقوله: (إلى قباء) يتعلق بقوله: (ردّ) وقباء وحراء فيهما ما أشار له بعضهم: حرا وقبا أنّثهما ذكّرنهما ... ومدّ أو اقصر واصرفن وامنع الصّرفا وقباء: قرية بني عمرو بن عوف، ومسجدها الذي مدحه الله ومدح أهله بقوله عزّ وجلّ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أسسه صلى الله عليه وسلم لبني عمرو أول يوم قدم المدينة، كان هو أوّل من وضع حجرا في قبلته، فجاء أبو بكر بحجر، ثمّ وضعه، ثمّ جاء عمر بآخر، فوضعه إلى حجر أبي بكر، فأخذ الناس في البنيان. تنبيه: زاد الحافظ ابن كثير في «البداية» على ما ذكره الناظم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وابن عمير مصعب مرّ على ... شقيقه مستأسرا للفضلا ممّن تخلف عن بدر، وضرب له النّبي صلى الله عليه وسلم بسهم وأجر: أبا الصبّاح بن ثابت قال: (خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب ساقه نصيل حجر «1» ، فرجع وضرب له بسهمه وأجره) . وسعدا أبا مالك، قال في «البداية» عن الواقديّ: (تجهز سعد ليخرج فمات، وقيل: إنّه مات بالرّوحاء، فضرب له بسهمه وأجره) . ثمّ أراد الناظم أن يذكر بعض من أصيب بالأسر من كفار قريش فقال: بعض الأسرى من قريش: أسر أبي عزيز بن عمير: (وابن عمير) بالتصغير (مصعب) «2» ، وعمير: هو ابن   (1) النصيل: حجر طويل مدملك، قدر شبر أو ذراع، جمعه نصل اهـ «نهاية» (2) يكنى أبا عبد الله، أحد السابقين إلى الإسلام، قال أبو عمر: (أسلم قديما والنّبيّ صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فعلمه عثمان بن طلحة، فأعلم أهله فأوثقوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثمّ هاجر إلى مكة، فهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، ولم يشهدها من بني عبد الدار إلّا هو وسويبط بن حرملة، ثمّ شهد أحدا ومعه اللواء، فاستشهدوا بها) . قال في «الروض الأنف» (1/ 269) : (كان قبل الإسلام من أنعم قريش عيشا وأعطرهم، وكانت أمه شديدة الكلف به، وكان يبيت وقعب الحيس عند رأسه، يستيقظ فيأكل، فلمّا أسلم.. أصابه من الشدة ما غيّر لونه، وأذهب لحمه، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وعليه فروة رقعها فيبكي؛ لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فحضّهم أن شدّدوا إنّ له ... أمّا مليّة تفكّ كبله عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ (مرّ على) أخيه (شقيقه) أبي عزيز، واسمه زرارة، فيما قاله ابن الأثير في «أسد الغابة» وكان لهما أخ آخر لأبويهما، وهو أبو الرّوم بن عمير، وغلط من جعله ممّن قتل يوم أحد كافرا؛ ذاك أبو عزة، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى (مستأسرا) : بفتح السين الثّانية؛ أي: مرّ عليه حال كونه أسيرا (للفضلا) من الصحابة، ولم يؤسر من بني عبد الدار إلّا هو، قاله في «روض النّهاة» . (فحضهم) أي: فحثّ مصعب الفضلاء ب (أن شدّدوا) عليه في الوثاق (إنّ له أمّا ملية) بتشديد الياء المفتوحة؛ أي:   - وهاجر، ألّا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشيا عليها، وكان بنوها يحشون فاها بشجار- وهو عود- فيصبون فيه الحساء لئلّا تموت، ولما سأل الأنصار النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرسل معهم من يرشدهم للدين، ولا يكون منهم خوف التنافس.. بعثه معهم هو وابن أم مكتوم، فنزلا على سعد بن زرارة رضي الله عنهم، وأسلم على يده جل الأنصار) . وقال في «الإستيعاب» : (يقال: إنّ مصعبا أوّل من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة، قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، ثمّ أتانا بعده عمرو بن أم مكتوم، ثمّ أتانا بعده عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وبلال، ثمّ أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا رضي الله عنهم، ثمّ هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم علينا مع أبي بكر رضي الله عنه، قتله يوم أحد شهيدا ابن قمئة الليثي، وهو يومئذ ابن أربعين سنة وأزيد شيئا رضي الله عنه وعنا به، ويقال: إنّ فيه نزلت: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 موسرة (تفك كبله) أي: تطلقه من قيده؛ بأن تعطي فداءه. وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإكرام الأسرى: قال ابن إسحاق: (وحدّث نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى.. فرّقهم بين أصحابه، وقال: «استوصوا بهم خيرا» ، قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسرى، فقال أبو عزيز: مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شدّ يدك به؛ فإنّ أمّه ذات متاع؛ لعلّها تفديه منك، قال أبو عزيز: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم.. خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلّا نفحني بها، فأستحي، فأردّها على أحدهم، فيردّها عليّ ما يمسها) . قال ابن هشام: (وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، ولما قال أخوه مصعب لأبي اليسر- وهو الذي أسره- ما قال.. قال له أبو عزيز: يا أخي؛ هذه وصاتك بي؟! فقال له مصعب: إنّه أخي دونك، فسألت أمّه عن أغلى ما فدي به قرشيّ، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم، ففدته بها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وابن الرّبيع صهر هادي الأمّة ... إذ في فداه زينب أرسلت فائدة: ذكر أبو عمر: (أنّ أبا عزيز هذا أسلم، وصحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وله منه سماع، وردّ على من قال: قتل يوم أحد كافرا، بأنّ ابن إسحاق عدّ من قتل من الكفار من بني عبد الدار أحد عشر رجلا، ليس فيهم أبو عزيز، وإنّما فيهم أبو يزيد بن عمير. نأسر أبي العاصي بن الرّبيع ثمّ فكّه: (و) أبو العاصي (ابن الرّبيع) بن عبد العزّى بن عبد شمس بن عبد مناف «1» ، وهو مبتدأ، وخبره: (سرّحه) الآتي (صهر) أي: زوج بنت (هادي الأمّة) صلى الله عليه   (1) أمه هالة بنت خويلد، واختلف في اسمه، فقيل: لقيط، وقيل: هشيم، لم يتفق أن أسلم إلّا بعد الهجرة، قال ابن إسحاق كما في «الإصابة» : (كان في رجال مكة المعدودين مالا، وأمانة وتجارة) . ثبت في «الصحيحين» من حديث المسور بن مخرمة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خطب، فذكر أبا العاصي بن الرّبيع، فأثنى عليه في مصاهرته خيرا، وقال: «حدّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي» . قال في «روض النّهاة» : (ولدت له زينب عليا، دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة يوم الفتح وهو رديفه، وتوفي وقد ناهز الحلم، وأمامة بنت أبي العاص تزوجها علي وقتل عنها، ثمّ دخل عليها المغيرة بن نوفل بوصية علي رضي الله عنه، ولا يولد لها، وانقرض أبو العاصي إلا من بنته مريم، ولم يبق له من الولد إلّا هؤلاء الثلاثة؛ قال الحافظ عن إبراهيم بن المنذر مات أبو العاص في خلافة أبي بكر، في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة من الهجرة رضي الله عنه) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بعقدها الّذي به أهدتها ... له خديجة وزفّفتها سرّحه بعقدها وعهدا ... إليه أن يردّها له غدا وسلم، وهي زينب، والصهر يطلق أيضا على زوج الأخت، كما في «القاموس» واشتقاقه من صهر الشيء بالشيء يصهره: إذا ألصقه به، ومنه- كما في «روض النّهاة» - ما في حديث بناء النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسجد قباء: (كان صلى الله عليه وسلم يأتي بالحجر قد صهره إلى بطنه، فيأتي الرجل يريد أن يقلبه فلا يستطيع) . (إذ) ظرفية (في فداه) يتعلق بأرسلت، وقوله: (زينب) مبتدأ، خبره: (أرسلت بعقدها) هي القلادة (الذي به) أي: بالعقد (أهدتها) أي: أهدت زينب (له) أي: لابن الرّبيع (خديجة) بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى، وهو فاعل أهدتها (وزفّفتها) عطف تفسير. (سرّحه) أي: أطلقه صلى الله عليه وسلم من الأسر (بعقدها) أي: مع عقدها ذلك، وبعث العقد لصاحبته (وعهدا إليه) أي: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد على أبي العاص بن الرّبيع إذا وصل هو مكة (أن يردها له) بالمدينة المنوّرة (غدا) . وحاصل معنى ما أشار إليه في هذه الأبيات: أنّ أبا العاصي بن الرّبيع صهر هادي الخلق إلى الملة الحنيفية صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب بإشارة خالته خديجة، وكانت تعدّه بمنزلة ولدها، وكان صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فردّها وبعد ذاك تجرا ... لنفسه وساكني أمّ القرى لا يخالفها قبل أن ينزل عليه الوحي، فزوّجه، فلمّا أكرم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بنبوّته.. آمنت به خديجة وبناته، وثبت أبو العاصي على شركه.. حتّى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا سارت قريش إلى بدر.. سار معهم أبو العاصي، فأصيب في الأسرى، فكان في المدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم.. بعثت زينب في فدائه بمال، وبعثت فيه بقلادة لها، كانت أمها خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، قالت: فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. رقّ لها رقّة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها عقدها.. فافعلوا» قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه، وردّوا عليها الذي لها، وكان صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه العهد أن يخلي سبيل زينب، ويردّها إليه. (فردّها) إليه، قال ابن إسحاق: (وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، وقال: «كونا ببطن يأجج؛ حتى تمر بكما زينب، فتصحباها حتى تأتياني بها» فخرجا إلى مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر، فلمّا قدم أبو العاصي مكة.. أمرها باللحوق بأبيها، فخرج بها حموها أخو زوجها كنانة بن الرّبيع.. حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فانتهب الأصحاب عير القلّب ... فجاء واستجار بابنة النّبي فصرّحت ولم تجمجم البتول ... بأن أجارته وأمضاه الرّسول (وبعد ذاك) أي: المذكور من إطلاقه من الأسر، ورد زينب إليه صلى الله عليه وسلم (تجرا) : بفتح الجيم، من باب نصر؛ أي: خرج تاجرا إلى الشام، وذلك قبيل الفتح، كما قاله ابن إسحاق، وكان رجلا مأمونا، فخرج بمال له، وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه كما قال: (لنفسه وساكني أمّ القرى) أي: مكة، ولما رجع من تجارته وأقبل قافلا.. لقيته سريّة «1» لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (فانتهب) أي: غنم (الأصحاب عير) الرجل (القلّب) : بفتح اللام المشدّدة بعد القاف المضمومة؛ أي: المحتال البصير بتقليب الأمور، والمراد به أبو العاصي. استجارته بزينب بنت الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإجارتها له: (فجاء) أبو العاصي في الليل حتى دخل على زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم (واستجار) أي: طلب الجوار (بابنة النّبيّ) صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، (فصرحت ولم تجمجم) أي: لم تتكلم بكلام خفيّ، بل   (1) هي سرية زيد بن حارثة إلى العيص، سببها: أنّه بلغه صلى الله عليه وسلم قفول عير قريش من الشام، فبعث زيدا في مئة وسبعين راكبا، معترضا لها، فأخذوها وما فيها وأخذوا يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسروا رجالا فيهم أبو العاصي، قال في «تبصرة المحتاج» : ثمّ ابن حارثة العير التي ... أخذ فيها صهر هادي الملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فردّ ماله عليه أجمع ... تلك الصّهارة بها يستشفع صرحت- بالحاء المهملة- (البتول) المراد بها زينب رضي الله عنها؛ لأنّها منقطعة عن الدنيا إلى الله عزّ وجلّ، وقوله: (بأن أجارته) يتعلق بصرحت؛ أي: صرحت، ونادت في الناس حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح: أيّها الناس؛ إنّي قد أجرت أبا العاص بن الرّبيع (وأمضاه) أي: ما أجارت فيه (الرسول) الأعظم صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: (لما سلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة.. أقبل على الناس فقال: «أيّها الناس؛ هل سمعتم ما سمعت؟» قالوا: نعم، قال: «أما والذي نفس محمّد بيده؛ ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنّه يجير على المسلمين أدناهم» ) . (فردّ) بالبناء للمفعول (ماله عليه) أي: رد النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي العاص ماله (أجمع تلك الصهارة) التي بينه وبين أبي العاصي بزينب (بها يستشفع) . قال ابن إسحاق: (وحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاصي فقال: «إنّ هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه المال الذي له.. فإنّا نحب ذلك، وإن أبيتم.. فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، فأنتم أحقّ به» قالوا: يا رسول الله؛ بل نرده عليه، حتّى إنّ الرجل ليأتي بالدلو، ويأتي الرجل بالشّنة والإداوة، حتّى إنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 أوصى به من حيث الاكرام ابنته ... لكن نهاها أن تكون بعلته أحدهم ليأتي بالشّظاظ «1» .. حتى ردوا عليه ماله بأسره، لا يفقد منه شيئا) . لطيفة: لما كان أبو العاصي تاجرا بالشام قال في زينب: ذكرت زينب بالأجزاع من إضما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما بنت الأمين جزاه الله صالحة ... وكلّ بعل سيثني بالذي علما حال أبي العاص مع زينب قبل إسلامه: ثمّ أراد الناظم أن يبين حال أبي العاصي إذ ذاك مع ابنته صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصى) رسول الله صلى الله عليه وسلم (به من حيث الاكرام) لمثواه (ابنته) زينب؛ لأنّهم أهل الإكرام، ولما سبق بينهما من الزوجية الموجبة لمراعاة الفضل والاحترام، وقد قال تعالى في التي لم يدخل بها الزوج: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. (لكن نهاها) أي: زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أن تكون) زينب (بعلته) أي: زوجة لأبي العاصي بن الرّبيع.   (1) بكسر الشين المشددة: العود الذي يدخل في العروة. اهـ «المختار» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وما ارتضى من بعد إسلام ابنته ... وكفره بقاءها في عصمته لو أنّه يحلّ أو يحرّم ... بمكّة عنها الحليل يحسم (و) هو صلى الله عليه وسلم (ما ارتضى من بعد إسلام ابنته) زينب (وكفره) أي: أبي العاصي (بقاءها) بالنصب معمول ل (ارتضى) ، وقوله: (في عصمته) متعلق ببقائها؛ أي: وما ارتضى بقاء زينب؛ لأنّها لا تحل له لأنّها مسلمة نشأت في بيت النبوة، قال تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وما وقع في «تفسير القرطبي» في (سورة الممتحنة) ممّا يخالف ما ذكر.. غير صحيح أو هو مدسوس عليه، وكان الواجب على صاحب التعليق التنبيه عليه. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك.. فلم لم يفرق بينهما صلى الله عليه وسلم يوم كان بمكة؟ قلنا: أجاب عنه الناظم بقوله: (لو أنّه) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم (يحل أو يحرّم بمكة) يعني: لو أنّه يطاع بمكة فيما يأمر به من الحلال، وينهى عنه من الحرام (عنها) أي: عن زينب، متعلق بيحسم (الحليل) مفعول مقدم لقوله: (يحسم) بكسر السين؛ أي: عنها الحليل أبا العاصي، لكن لمّا منّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإطلاق من الأسر بلا فداء.. عهد إليه أن يخلّي سبيل ابنته إليه، وقد فعل. قال ابن إسحاق: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلّ بمكّة ولا يحرّم، مغلوبا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وسئل الإيمان كي يحوزا ... مال قريش وبه يفوزا فهاب أن يبدأ بالخيانه ... إيمانه ويدع الأمانه فردّها لأهلها وأسلما ... وآب إذ إلى قريش أسلما أبي العاصي، وكان لا يقدر على أن يفرّق بينهما) . قال في «البداية» : (قلت: إنّما حرّم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة) . أمانة أبي العاصي وشرفه وإسلامه: (وسئل) أبو العاصي (الإيمان) بالله ورسوله (كي يحوزا مال قريش) الذي معه وقوله: (وبه) يتعلق بقوله: (يفوزا) بالنصب، معطوف على يحوزا؛ أي: كي يفوز بالمال. (فهاب) أبو العاص (أن يبدأ بالخيانة) هي ضد الأمانة (إيمانه ويدع) أي: يترك (الأمانة) ولو من مشرك. قال ابن هشام: (وحدّثني أبو عبيدة: أنّ أبا العاصي بن الرّبيع لما قدم من الشام، ومعه أموال المشركين.. قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال؛ فإنّها أموال المشركين؟ فقال أبو العاصي، بئس ما أبدأ به إسلامي، أن أخون أمانتي) . (فردها) أي: الأمانة، وهي الأموال (لأهلها) قريش، قال: (يا معشر قريش؛ هل بقي لأحد منكم مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيّا كريما، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلّا تخوّف أن تظنوا أنّي إنّما أردت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فردّها إليه خير مرسل ... بالعقد الاوّل على القول الجلي أن آكل أموالكم، فلمّا أدّاها الله إليكم وفرغت منها.. أسلمت) . فقوله: (وأسلما) أي: دخل في الإسلام قبل الفتح سنة ثمان، كما قال ابن كثير (وآب) أي: رجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم معلنا إسلامه (إذ إلى قريش) يتعلق بقوله: (أسلما) بمعنى: أعطى أمانتهم؛ أي: ورجع إلى المدينة لما أعطى قريشا أموالهم. رد زوجه زينب إليه: (ف) لمّا ردّ أبو العاصي إلى قريش أموالهم، وقد مسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم (ردّها) أي: زوجه زينب (إليه) أي: أبي العاصي (خير مرسل) عليه الصّلاة والسّلام من الإله العلي (بالعقد) الصحيح (الأول) لم يجدد نكاحا لها (على القول الجلي) أي: الظاهر الذي رواه ابن إسحاق عن داوود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس «1» : (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ زينب على أبي العاصي على النكاح الأول، ولم يحدث شيئا بعد ست سنين) . قال السّهيلي: (ويعارض هذا ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «2» : «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّها عليه   (1) رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجه، من حديث محمّد بن إسحاق «بداية» (332) . (2) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وأمّه هالة أخت صهرته ... والمصطفى رضي عن صهارته بنكاح جديد» وهذا الحديث هو الذي عليه العمل، وإن كان حديث داوود بن الحصين أصح إسنادا عند أهل الحديث، ولكن لم يقل به أحد من الفقهاء فيما علمت؛ لأنّ الإسلام كان فرّق بينهما، قال تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ومن جمع بين الحديثين قال في حديث ابن عباس: معنى: ردها عليه على النكاح الأوّل؛ أي: على مثل النكاح الأول في الصّداق والحباء، لم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره) اهـ ثمّ أراد أن يبين نسبة أبي العاصي لأمّنا خديجة رضي الله عنها فقال: (وأمه) أي: أم أبي العاص المذكور (هالة) بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ (أخت صهرته) أمنا خديجة من أبيها وأمها واسم أمّ خديجة رضي الله عنها فاطمة بنت زائدة بن الأصم. قال ابن منده: (روت عائشة عنها حرفا في حديث) كذا اختصر. قال الحافظ: (وكأنّه أشار إلى ما أخرجه البخاري في «الصحيح» من طريق علي بن مسهر، عن هشام بن عروة،   عن جده، قال الإمام أحمد: (هذا حديث ضعيف واه، لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، إنّما سمعه من محمّد بن عبد الله العرزمي لا يساوي حديثه شيئا، والحديث الصحيح الذي روي: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقرها على النكاح الأول» ) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 والمسلمون خيّروا بين الفدا ... وقدرهم في قابل يستشهدا عن أبيه، عن عائشة قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، وقال: «اللهمّ هالة «1» » ففزعت. فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش..) الحديث. وأصل الحديث في «الصحيحين» من غير ذكر هالة. (والمصطفى) عليه الصلاة والسّلام (رضي عن صهارته) فقال: «حدّثني فصدقني، ووعدني فوفى لي» وذلك حين خطب عليّ بنت أبي جهل، وفي هذه الخطبة قال صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع بنت نبي الله وبنت عدوّ الله مكانا واحدا» . قال في «الفتح» : (أخذ منه عدم جواز التزوج على بنت النبيّ، بخلاف التسرّي؛ لأنّ عليّا رضي الله عنه وطئ جارية من الخمس في بعض سراياه) . فداء أسرى بدر: ثمّ أراد الناظم أن يشرح الكلام على الفداء فقال: (والمسلمون) والمراد بهم: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البدريون (خيّروا) بالبناء للمفعول (بين) أخذ (الفدا) من الأسرى (و) لكن (قدرهم) عددهم، وهو سبعون (في قابل) عام مقبل (يستشهدا) بالألف المنقلبة عن   (1) بالرفع؛ أي: هذه هالة، أو بالنصب؛ أي: اجعلها هالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وبين قتلهم فمالوا للفدا ... لأنّه على القتال عضدا وأنّه أدّى إلى الشّهادة ... وهي قصارى الفوز والسّعادة نون التوكيد (وبين قتلهم) أي: الأسرى، والمخيّر لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأمر جبريل عليه السّلام، كما روى الترمذي والنّسائي وابن حبّان والحاكم بإسناد صحيح عن عليّ رضي الله عنه قال: (جاء جبريل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خيّر أصحابك في الأسرى، إن شاؤوا القتل، وإن شاؤوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلا مثلهم قالوا: الفداء، ويقتل منا) . ورواه ابن سعد من مرسل عبيدة فقالوا: (بل نفاديهم، فنتقوى به عليهم، ويدخل قابلا منا الجنة سبعون) . (فمالوا للفدا) أي: لقبول الفداء منهم (لأنّه) أي: الفداء عضد (على القتال) فهو متعلق بقوله: (عضدا) المبني للفاعل بمعنى: أعان. (وأنّه) أي: الفداء (أدى) أي: أوصل (إلى) الظفر ب (الشهادة) في سبيل الله تعالى (وهي) أي: الشهادة (قصارى) بضم القاف؛ أي: غاية (الفوز والسعادة) . ولما اختاروا الفداء استشهد منهم في العام القابل وهو عام أحد، سبعون رجلا. ثمّ أراد أن يبين مقدار ما كان به الفداء من المال فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وهو بقدر وسعهم والمملق ... من خطّه عشرة يحذّق ومن مشاهير الأسارى عمرو ... نجل أبي سفيان ثمّ الصّهر (وهو) أي: الفداء (بقدر وسعهم) أي: طاقة الأسرى، أربعة آلاف درهم، كأبي وداعة، وأبي عزيز، إلى ثلاثة، إلى ألفين، إلى ألف (والمملق) بميمين على صيغة اسم الفاعل، من أملق بمعنى: افتقر؛ أي: والفقير، وقد عرف الخطّ (من خطه) يتعلق بقوله: (يحذق) وقوله: (عشرة) بالنصب معمول لقوله: (يحذق) بالبناء للفاعل؛ والمعنى: أن من لم يكن عنده مال يفادي به نفسه، علّم عشرة من غلمان أهل المدينة الخطّ، فإذا حذقوا، وتعلّموا.. كان ذلك فداءه؛ لأنّ أهل مكة كانوا يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فممّن تعلم الكتابة يومئذ سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه في جماعة من غلمان الأنصار. واعلم: أنّ جملة من أخذ أسيرا من المشركين ببدر سبعون رجلا، كما أنّ من هلك منهم سبعون، كما في «صحيح البخاري» من حديث البراء بن عازب. واقتصر الناظم على ذكر المشهورين من الأسرى فقال: من مشاهير أسرى قريش: عمرو بن أبي سفيان: (ومن مشاهير الأسارى) : (عمرو نجل) أي: ابن (أبي سفيان) صخر بن حرب. قال ابن إسحاق: (وكانت أمه بنت عقبة بن أبي معيط) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قال ابن هشام: (بل كانت أمه أخت أبي معيط، وكان الذي أسره عليّا بن أبي طالب) . قال ابن إسحاق: (وحدّثني عبد الله بن أبي بكر قال: فقيل لأبي سفيان: افد عمرا ابنك، قال: أيجتمع عليّ دمي ومالي؟ قتلوا حنظلة، وأفدي عمرا، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. قال: فبينما هو كذلك محبوس بالمدينة إذ خرج سعد بن النعمان بن أكّال أخو بني عمرو بن عوف، ثمّ أحد بني معاوية معتمرا، وكان مسلما في غنم له بالنّقيع «1» ، فخرج من هنا لك معتمرا، ولم يظن أنّه يحبس بمكّة إذا جاء معتمرا، وقد كان عهد قريش أنّ قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجّا أو معتمرا إلّا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة، فحبسه بابنه عمرو، وقال في ذلك: أرهط بن أكّال أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا فإنّ بني عمرو لئام أذلّة ... لئن لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا قال فأجابه حسّان بن ثابت يقول: لو كان سعد يوم مكّة مطلقا ... لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا   (1) موضع قرب المدينة، وأمّا البقيع بالباء.. فهو موضع داخل المدينة وفيه مقبرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 والعمّ وابنا أخويه وهما ... عقيل نوفل وبعد أسلما بعضب حسام أو بصفراء نبعة ... تحنّ إذا ما أنبضت تحفز النبلا قال: ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكّوا به صاحبهم، فأعطاههم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلّى سبيل سعد) . قال في «روض النّهاة» : (وليس لعمرو بن أبي سفيان عقب، ولم ير له ذكر بعد هذا بإسلام ولا بغيره) . وقوله: (ثم الصّهر) أي: للنّبي صلى الله عليه وسلم بنكاحه أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فهو معطوف على قوله نجل. العباس بن عبد المطّلب: (و) من مشاهير الأسارى (العمّ) للنبيّ صلى الله عليه وسلم سيدنا العباس بن عبد المطّلب، أسره أبو اليسر، بفتح التحتية والسين المهملة، وبالراء، كما ضبطه الحافظ في «الفتح» ، واسمه كعب بن عمرو الأنصاريّ السّلمي بفتحتين. قال في «المواهب» : (روى الطبراني والبزار من حديث أبي اليسر: وقيل: للعباس بن عبد المطّلب وكان جسيما، كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت.. لجعلته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 كفك؟ فقال: ما هو إلّا أن لقيته، فظهر في عيني كالخندمة، وهي بالخاء المعجمة: جبل من جبال مكة) . قال في «روض النّهاة» : (واختلف في وقت إسلامه، فقيل: بدر؛ وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «افد نفسك» فقال: ليس لي مال أفدي به نفسي، فقال: «الذهب الذي تركته عند أم الفضل، وقلت لها: كيت وكيت» فقال: أشهد أنّك رسول الله، والله ما حضرنا إلّا الله) . هلاك أبي لهب بالعدسة: وفي خبر أبي رافع مع أبي لهب دليل على تقدم إسلامه على بدر، وهو ما رواه ابن إسحاق عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر، فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف منهم رجل، إلّا بعث مكانه رجلا. فلمّا جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش.. كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزّا، قال: وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إنّي لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر.. إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ، حتى جلس على طنب الحجرة «1» فكان ظهره إلى ظهري. فبينما هو جالس؛ إذ قال الناس: هذا أبو سفيان واسمه: المغيرة بن الحارث بن عبد المطّلب- قد قدم، قال: فقال له أبو لهب: هلمّ إلي، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال يا ابن أخي: أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلّا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس. لقينا رجال بيض، على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق «2» شيئا، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثمّ قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة. قال: وثاورته «3» ، فاحتملني وضرب بي الأرض، ثمّ برك عليّ يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته، فضربته به ضربة،   (1) أي: طرفها. (2) تليق: تبقي. (3) وثبت إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فلعت «1» في رأسه شجّة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولّيا ذليلا، فوالله ما عاش إلّا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة «2» فقتلته) اهـ وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته؛ لأنّ قريشا تتشاءم بالعدسة، كما تتشاءم بالطاعون، فلمّا خاف بنوه السّبة- أي: العار-.. حفروا له، ودفنوا جنازته بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتّى واروه. ويروى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنّها كانت لا تمرّ على مكان أبي لهب هذا، إلّا نشرت ثوبها حتى تجوز. توفي العباس بالمدينة سنة (32) وجزع عليه ابنه سيدنا عبد الله رضي الله عنهما، حتى دخل عليه أعرابي فأنشده: اصبر نكن بك صابرين فإنّما ... صبر الرعية بعد صبر الراس خير من العباس صبرك بعده ... والله خير منك للعباس فكان أجمل عزاء. عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث: (و) من مشاهير الأسرى (ابنا أخويه) أي: العباس   (1) شقت. (2) العدسة: بثرة تخرج في البدن فتقتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 (وهما عقيل) بفتح العين «1» وترك التنوين للوزن، وهو ابن أبي طالب، أخو علي، وجعفر، وكان الأسنّ «2» ، يكنى عقيل: أبا يزيد، قال له صلى الله عليه وسلم: «يا أبا يزيد؛ إنّي أحبك حبّين: حبّا لقرابتك مني، وحبّا لما أعرف من حب عمي إياك» . قال الحافظ في «الإصابة» : (وفي «تاريخ البخاري» الأصغر بسند صحيح: أنّه مات في أول خلافة يزيد قبل الحرّة) . (نوفل) أي: ونوفل بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، يكنى: أبا الحارث (وبعد) أي: بعد بدر (أسلما) أي: عقيل، ونوفل. أمّا عقيل.. فإنّه أسلم عام الفتح، كما قاله في «الإصابة» وضعّف القول بأنّه أسلم بعد الحديبية، وهاجر في أوّل سنة ثمان. وأمّا نوفل: فذكر في «الإستيعاب» : (أنّه أسلم وهاجر يوم الخندق) وقيل: أسلم يوم فدى نفسه. واختلفوا أيضا في فدائه، فقيل: فداه العباس، وقيل: فدى نفسه؛ وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال   (1) كل ما جاء على هذا اللفظ في العرب فبضم العين.. إلّا هذا، وعقيل بن علفة المري، كذا في «روض النّهاة» اهـ (2) كان أسن من جعفر بعشر سنين، وجعفر أسن من علي بعشر سنين، وطالب أسن من عقيل بعشر سنين، وأمهم كلهم: فاطمة بنت أسد رضي الله عنهم. اهـ من «الروض» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وخالد أخو أبي جهل وقد ... أسلم أيضا وسهيل الأسد له «افد نفسك» قال: ما لي شيء أفتدي به، قال: «افد نفسك برماحك التي بجدّة» فقال: والله؛ ما علم أحد أنّ لي بجدة رماحا غيري بعد الله، أشهد أنّك رسول الله، ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح. ذكره الحافظ أبو عمر في «الإستيعاب» عن ابن سعد، وهذا ممّا يقوّي القول بأنّه أسر وفدى نفسه. توفّي بالمدينة في داره بها سنة خمس عشرة، في خلافة عمر، وصلّى عليه عمر بعد أن مشى معه إلى البقيع، ووقف على قبره حتى دفن رضي الله عنه. خالد بن هشام المخزومي، وسهيل بن عمرو العامري: (و) من مشاهير الأسرى ببدر (خالد أخو أبي جهل) إذ ذاك، وقد قطع الإسلام تلك الأخوّة، فإنّه أسلم كما قال: (وقد أسلم أيضا) مثل سابقيه، وهو ابن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، قال الحافظ ابن عبد البرّ: (ذكره بعضهم في المؤلّفة قلوبهم) ، ثم قال: (وفيه نظر) . (وسهيل) - بالتصغير- ابن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي العامريّ، خطيب قريش (الأسد) أي: كالأسد في الشجاعة، فهو تشبيه بليغ، حذف منه الأداة، ووجه الشبه، أو هو الأسدّ، بتشديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الدال؛ أي: قولا «1» ، والذي أسر سهيلا مالك بن الدّخشم، أخو بني سالم بن عوف، فقال في ذلك: أسرت سهيلا فلا أبتغي ... أسيرا به من جميع الأمم وخندف تعلم أنّ الفتى ... فتاها سهيل إذا يظّلم ضربت بذي الشفر حتى انثنى ... وأكرهت نفسي على ذي العلم   (1) قال الحافظ: هو الذي تولى أمر الصلح بالحديبية، وكلامه ومراجعته للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك في «الصحيحين» وغيرهما. روى حميد بن أبي حسين قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة، ودخل البيت، ثمّ خرج فوضع يده على عضادتي الباب، فقال: «ماذا تقولون؟» فقال سهيل: نقول خيرا، ونظن خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت. فقال: «أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ قال في «روض النّهاة» : (خرج سهيل بجماعة أهله إلى الشام فجاهدوا.. حتى ماتوا كلهم هنا لك، فلم يبق من ولده إلّا فاختة بنت عتبة بن سهيل، قدم بها على عمر، وكانت تسمى الشريدة، فزوجها من عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، وكان أيضا يسمّى الشريد، كان أبوه خرج هو وسهيل حين قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» قالا: لئن فاتتنا الهجرة وأوّل الإسلام فلا يفوتنا الجهاد، والشهادة، فخرج كل بأهله، فلم يرجع ممّن خرج معهما إلّا عبد الرّحمن الشريد، وفاختة الشريدة، فسمّاهما الناس بالشريدين، قال عمر رضي الله عنه: زوجوا الشريد من الشريدة، لعلّ الله ينشر منهما أمة، وأقطعهما خطة، فأوسعها لهما، فقيل له: أكثرت، فقال: أردت لكي ينشر الله منهما أمة، فأنشر الله منهما رجالا ونساء) ومعنى (الشريد) : الذي لم يبق من أهله غيره. قال في «الإصابة» : (توفي سهيل بالطاعون سنة ثمان عشرة، فيما قاله ابن خيثمة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ومكرز ركز في مركزه ... حتّى أتى فداؤه لعزّه قال ابن إسحاق: (وكان سهيل رجلا أعلم «1» من شفته السفلى) . (و) لما أسر سهيل.. قدم (مكرز) - بكسر الميم «2» وفتح الراء- ابن حفص بن الأخيف- في فداء سهيل، فلمّا قاولهم فيه مكرز، وانتهى إلى رضاهم.. قالوا: هات الذي لنا، قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه، فخلوا سبيل سهيل، و (ركز) مكرز (في مركزه) بفتح الميم وإسكان الراء؛ أي: وضع مكرز نفسه في موضع سهيل في القيد (حتى أتى فداؤه) أي: فداء سهيل، وإنّما فعل ذلك مكرز بسهيل (لعزه) أي: سهيل عندهم. قال في «روض النّهاة» : (ومكرز هذا هو العامري الذي بعثه أهل مكة يوم الحديبية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا رآه.. قال: «أتاكم رجل فاجر، فلم يغن شيئا» فبعثوا سهيلا، فلمّا رآه صلى الله عليه وسلم.. قال: «سهّل الله لكم من أمركم» ، ولم نجد لمكرز إسلاما، ولا ذكرا في الصحابة، إلّا أنّ صاحب «نور النّبراس» ذكر: أنّ ابن حبّان ذكر له صحبة) . قلت: وكذلك ذكر الحافظ ابن حجر في «الإصابة» عن   (1) الأعلم: المشقوق الشفة العليا أو أحد جانبيها. (2) يقال: بكسر الميم وفتحها، ولكن لا يروى في السيرة إلّا بالكسر. اهـ من «الروض» (ص 80) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وابن أبيّ وأبو وداعه ... أوّل مفديّ من الرّباعة ابن حبان: (أنّه ذكره في الصحابة) والله تعالى أعلم. عبد الله بن أبيّ بن خلف، وأبو وداعة السهمي: (و) من الأسرى عبد الله (ابن أبيّ) بن خلف بن حذافة القرشيّ الجمحيّ، أسلم عام الفتح، وقتل يوم الجمل، رضي الله عنه. (و) منهم الحارث (أبو وداعة) ابن ضبيرة السّهمي، ولما أسر.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ له بمكة ابنا كيّسا، تاجرا، ذا مال، وكأنّكم به قد جاء في طلب فداء أبيه» . ولمّا قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم، لا يأرب» عليكم محمّد وأصحابه، قال المطّلب بن أبي وداعة- وهو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى-: صدقتم لا تعجلوا، وانسلّ من الليل، وقدم المدينة، وأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، فانطلق به، فكان أول أسير فدي، كما قال: (أوّل مفدي) وهو خبر مبتدأ مقدر، كما علم من التقرير، ويصح أن يكون خبر قوله: (وأبو وداعه) ، (من الرّباعه) بكسر الراء؛ أي: من أسارى بدر. قال السّهيلي (أسلم هو وابنه المطّلب بن أبي وداعة يوم فتح مكّة) .   (1) من أرب الدهر: اشتد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وخالد بن الأعلم الّذي افتخر ... فكان قبل كلّ هوهة عجر ومن مشاهير الممات حنظله ... منبّه وصنوه وابنان له خالد بن الأعلم الخزاعي: (و) منهم: (خالد بن الأعلم) الخزاعيّ، ويقال: العقيليّ، كما قال ابن هشام (الذي افتخر) يوم بدر بقوله: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدمنا تقطر الدّما (فكان) خالد (قبل كل هوهة) بضم الهاء الأولى وفتح الثّانية بمعنى: جبان، يتعلق بقوله: (عجر) أي: ثنى عنقه، وفرّ سريعا قبل كل جبان، قتل يوم أحد كافرا، كما في «روض النّهاة» وغيره. مشاهير من القتلى من مشركي قريش: ثمّ لما فرغ من مشاهير الأسرى ببدر، وهم تسعة حسبما ذكر.. شرع في ذكر مشاهير القتلى من المشركين، فقال: (ومن مشاهير الممات) بضم الميم من أمات يميت؛ أي: القتلى، والألف واللام للجنس، لا للاستغراق؛ لأنّه لم يستوعب مشاهيرهم (حنظلة) ابن أبي سفيان، قتله زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما ذكره ابن هشام واليعمري، وكذا (منبّه) بصيغة اسم الفاعل المضاعف وهو: ابن الحجاج بن عامر بن حذيفة، من بني سهم بن عمرو، قتله أبو اليسر أخو بني سلمة (و) كذا (صنوه) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وهم نبيه حارث والعاصي ... أحد رهط غير ذي خلاص من مكّة لكونه مستضعفا ... في زعمه ويوم بدر زحفا مع قريش وتوفّت ظالمي ... أنفسهم ملائك الملاحم شقيق منبّه (وابنان له) أي: لمنبّه، ثمّ بيّن أسماء الثلاثة على طريق اللف والنشر المرتب فقال: (وهم) أي: صنوه وأبناء (نبيه) بالتصغير، ابن الحجاج، وأمه وأم منبه: أروى بنت عميلة، الذي قتله سيدنا حمزة بن عبد المطّلب وسعد بن أبي وقّاص، اشتركا فيه، فيما قاله ابن هشام. قال في «روض النّهاة» : (كان منبه ونبيه من المطعمين في الطريق إلى بدر) و (حارث) بن منبه بن الحجاج، قتله صهيب بن سنان. المستضعفون بمكة في زعمهم الكاذب: (والعاصي) بن منبه بن الحجاج، قتله علي بن أبي طالب، فيما قاله ابن هشام (أحد) بالرفع خبر مبتدأ مقدّر؛ أي: والعاصي المذكور أحد (رهط) بالتنوين: هو ما دون العشرة من الرجال، وما فيهم امرأة، كما في «القاموس» (غير ذي خلاص) أي: نجاة (من) أهل (مكة) بالتنوين للوزن (لكونه) أي: ذلك الأحد (مستضعفا في زعمه، و) الحال أنّه (يوم بدر زحفا، مع قريش) لقتال النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وتوفّت ظالمي أنفسهم ملائك الملاحم) جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وهم عليّ بن أميّة الرّدي ... والحارث بن زمعة بن الأسود ملحمة؛ أي: الحرب، يشير إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً. قال الحافظ السيوطي: (نزلت في جماعة أسلموا، ولم يهاجروا، فقتلوا يوم بدر مع الكفار) اهـ مقتل علي بن أميّة، وأميّة بن خلف: ثمّ أراد إتمام عدّ المستضعفين في زعمهم، وهم أربعة سوى العاصي، فقال: (وهم عليّ بن أميّة) بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح (الردي) أي: الهالك بالموت على الكفر، والعياذ بالله تعالى؛ فإنّه قتل يوم بدر مع أبيه كافرين. قال ابن إسحاق: (حدّثني يحيى بن عباد وعبد الله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبد الرّحمن بن عوف قال: كان أميّة بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت عبد الرّحمن، فكان يلقاني ونحن بمكة، فيقول: يا عبد عمرو؛ أرغبت عن اسم سمّاكه أبواك؟ فأقول: نعم، فيقول: فإنّي لا أعرف الرّحمن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أمّا أنت.. فلا تجيبني باسمك الأوّل، وأمّا أنا.. فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: وكان إذا دعاني: يا عبد عمرو.. لم أجبه، قال: فقلت له: يا أبا عليّ؛ اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: فقلت: نعم، قال: فكنت إذا مررت به.. قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه عليّ، وهو آخذ بيده، قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها، فلمّا رآني.. قال: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيّ؟ فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك. قال: قلت: نعم، ها الله ذا، قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده وبيد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط! أما لكم حاجة في اللبن؟ ثمّ خرجت أمشي بهما) . قال ابن إسحاق: (حدّثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه عن عبد الرّحمن بن عوف قال: قال لي أميّة بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذا بأيديهما: يا عبد الإله؛ من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت: حمزة، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرّحمن: فوالله إنّي لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذّب بلالا بمكة على الإسلام، فلمّا رآه.. قال: رأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الكفر أميّة بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: قلت: أي بلال؛ أبأسيري، قال: لا نجوت إن نجا، قال: ثمّ صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله؛ رأس الكفر أميّة بن خلف، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا بنا، حتى جعلونا في مثل المسكة «1» ، فأنا أذبّ عنه قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أميّة صيحة ما سمعت بمثلها قطّ، قال: قلت: انج بنفسك ولا نجاء به، فو الله ما أغني عنك شيئا، قال: فهبروهما بأسيافهم، حتى فرغوا منهما قال: فكان عبد الرّحمن يقول: يرحم الله بلالا، فجعني بأدراعي وبأسيريّ) . وهكذا رواه البخاريّ في «صحيحه» قريبا من هذا السياق. مقتل الحارث بن زمعة: (والحارث بن زمعة بن الأسود) بن المطّلب بن أسد، وزمعة أبوه، ويكنى: أبا حكيمة، قتل هو وأخوه عقيل بن الأسود يومئذ، والأسود أحد المستهزئين، وأصابه في الدنيا ما أشار له العارف البوصيري بقوله: فدهى الأسود بن مطّلب أيّ ... عمى ميّت به الأحياء   (1) المسكة بالتحريك: السوار؛ أي: جعلونا في حلقة كالسوار وأحدقوا بنا. اهـ «نهاية» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فإنّه دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يعمي الله بصره، ويثكله ولده. فخرج الأسود يستقبل ولده زمعة، فبينا هو قاعد بظل شجرة جعل جبريل يضرب عينيه بورقة من ورقها، أو بشوكة منها، فاستغاث بغلامه فقال: لا أحد يصنع بك شيئا غير نفسك، فهلك من ذلك. نواح الأسود بن المطّلب على بنيه: قال ابن إسحاق: (حدّثني يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزّبير، عن أبيه عبّاد قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثمّ قالوا: لا تفعلوا، فيبلغ محمّدا وأصحابه، فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرب عليكم محمّد وأصحابه في الفداء) . قال ابن إسحاق: (وكان الأسود بن المطّلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أحلّ النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلّي أبكي على أبي حكيمة- يعني زمعة- فإنّ جوفي قد احترق، قال: فلمّا رجع إليه الغلام.. قال: إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته، فذاك حين يقول الأسود: أتبكي أن يضلّ لها بعير ... ويمنعها من النوم السّهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود على بدر سراة بني هصيص ... ومخزوم ورهط أبي الوليد وبكّي إذ بكيت على عقيل ... وبكّي حارثا أسد الأسود وبكّيهم ولا تسمي جميعا ... وما لأبي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا) إسلام عمير بن وهب: قال في «الإمتاع» : (وناحت قريش على قتلاها بمكّة شهرا، وجزّ النساء شعورهنّ، وجعل صفوان بن أميّة لعمير بن وهب إن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحمل بديته، ويقوم بعياله، وحمله على بعير، وجهّزه، فقدم عمير المدينة، ودخل المسجد متقلّدا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدخله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما أقدمك يا عمير؟» قال: قدمت في أسير عندكم تقاربونا فيه، قال: «فما بال السيف؟» قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت من شيء؟ إنّما أنسيته حين نزلت، وهو في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وابنان للفاكهي والوليد ... وأين هم من ابنه المجيد رقبتي، فقال: «أصدق، ما أقدمك يا عمير؟» قال: ما قدمت إلّا في أسيري، قال: «فما شرطت لصفوان في الحجر؟» ففزع عمير، فقال: ماذا شرطت؟! قال له: «تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك، ويعول عيالك، والله حائل بينك وبين ذلك» قال عمير: أشهد أنّك رسول الله، وإنّك صادق، وأسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «علّموا أخاكم القرآن، وأطلقوا له أسيره» فعاد عمير إلى مكّة يدعو الناس إلى الإسلام، فأسلم بشر كثير) . (وابنان) أحدهما (للفاكهي) وهو أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم (و) الآخر ل (الوليد) وهو أبو قيس بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. فهؤلاء الخمسة قتلوا ببدر، ونزل فيهم من القرآن، كما ذكره ابن هشام: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً وذلك: أنّهم كانوا أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة، فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر، فأصيبوا جميعا. قال في «حاشية الجلالين» : (وهل ماتوا عصاة، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 سميّه وأخوي فرعونا ... شقيق او للأمّ ذاقا الهونا كفارا؟ خلاف؛ لأنّ الهجرة كانت ركنا أو شرطا، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وهذا كان قبل الفتح، ثم نسخ بعده، والقاتل لهؤلاء الملائكة؛ لعلمهم بأنّ الله لم يقبل منهم الإسلام؛ لفقد شرطه وهو الهجرة، مع قدرتهم عليها، وليس التخلّف من أجل صيانة المال، والعيال عذرا، والمتبادر من ذلك أنّهم ماتوا كفارا) . المستضعفون بمكّة حقا رضي الله عنهم: (وأين هم) أي: هؤلاء الخمسة المستضعفون بالزعم الكاذب (من ابنه) أي: الوليد (المجيد سميّه) أي: الموافق له في الاسم، وهو الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، المستضعف حقا، أخو خالد بن الوليد، حضر بدرا مع المشركين فأسر، فافتداه أخواه هشام وخالد، ولمّا أسلم.. حبسه أخواله، فكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، كما ثبت في الصحيح، ثمّ أفلت من أسرهم، ولحق بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية. قال الحافظ: ذكر الزّبير بن بكار عن محمّد بن الضحّاك، عن أبيه: لما هاجر الوليد بن الوليد.. قالت أمّه: قد هاجر الوليد ربع الساقه ... فاشتر منها جملا وناقه واسم بنفس نحوهم توّاقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 سلمة عيّاش المستضعفين ... قنت لاستنقاذهم طه الأمين وفي شعرها إشعار بأنّها أسلمت. (وأخوي) بالتّثنية مجرورا بالعطف على (ابن) أي: وأين أولئك الذين توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم من ابن الوليد ومن أخوي (فرعون) أبي جهل شقيقه، وهو سلمة بن هشام، ولأمه وهو: عياش بن أبي ربيعة؟ وهذا مراده بقوله: (شقيق أو للأم ذاقا) أي: الأخوان (الهونا) بضم الهاء: الهوان من مشركي مكّة. وقوله: (سلمة) و (عياش) يعود على قوله: (شقيق أو للأم) ، على سبيل اللف والنشر المرتب، ثم وصف الثلاثة الوليد وسلمة وعياشا بقوله: (المستضعفين) أي: حقا فلأجل ذلك (قنت لاستنقاذهم) أي: خلوصهم من أيدي المشركين (طه) عليه الصّلاة والسّلام (الأمين) فكان يقول: «اللهمّ؛ أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة. وفي «صحيح البخاري» بسنده إلى أبي هريرة: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي العشاء إذ قال: «سمع الله لمن حمده» ثمّ قال قبل أن يسجد: «اللهمّ؛ أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهمّ؛ أنج سلمة بن هشام، اللهمّ؛ أنج الوليد بن الوليد، اللهمّ؛ أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهمّ؛ اشدد وطأتك على مضر، اللهمّ؛ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أمّا الوليد.. فإنّه أفلت من أسرهم، ولحق بالنّبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، ويقال: إنّه مشى على رجليه لما هرب وطلبوه، فلم يدركوه، ويقال: إنّه مات ببئر أبي عتبة على ميل من المدينة المنورة قبل أن يدخل المدينة، ذكر هذا في «الإصابة» . وأمّا سلمة.. فقال ابن عبد البرّ: (ذكر الواقديّ: أنّه لما لحق بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة- وذلك بعد الخندق- قالت له أمّه ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن بشير: لا همّ ربّ الكعبة المحرّمه ... أظهر على كلّ عدوّ سلمه له يدان في الأمور المبهمه ... كفّ بها يعطي، وكفّ منعمه فلم يزل سلمة مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. إلى أن توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مع المسلمين إلى الشام حين بعث أبو بكر رضي الله عنه الجيوش لقتال الروم، فقتل سلمة شهيدا بمرج الصّفّر، في المحرم، سنة أربع عشرة، وذلك في أوّل خلافة عمر رضي الله عنه) . وأمّا عيّاش بن أبي ربيعة.. فقال في «روض النّهاة» : (لمّا أفلت الوليد منهم.. دخل مكّة ليلا، فلم يزل يتجسّس الأخبار عن صاحبيه عياش وسلمة بن هشام.. حتى لقي امرأة تحمل طعاما، فقال: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 واستشهدت ستّ من المهاجرين ... عبيدة المذكور في المبارزين هذين المعذّبين- تعني عياشا وسلمة- فتبعها حتى عرف مكانهما، فأخرجهما من الحبس، فكسر القيد) . وذكر الحافظ أبو عمر عن ابن سعد: أنّ عيّاشا قتل يوم اليرموك. تنبيه: الأصح- كما يستفاد من «الإستيعاب» وغيره-: أنّ أم سلمة بن هشام، ضباعة بنت عامر بن قرط بن قيس، من بني عامر بن صعصعة القائلة: اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدا منه فلا أحلّه .. لا أمّ أبي جهل أسماء بنت مخرمة. فعليه: لا يكون سلمة شقيقا لفرعون الأمة أبي جهل، ويتأيد بما في بعض نسخ النظم الصحيحة، من قوله: (للأب أو للأم ذاقا الهونا) . شهداء بدر من المهاجرين والأنصار: ثمّ لما كان جملة من استشهد يوم بدر أربعة عشر رجلا.. أراد أن يبيّن عدد المهاجرين منهم، وعدد الأنصار رضي الله عنهم أجمعين فقال: (واستشهدت ستّ من المهاجرين) الأول: (عبيدة) بن الحارث بن المطّلب (المذكور في) عدد الثلاث (المبارزين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ثمّ عمير بن أبي وقّاص ... وابن البكير عاقل ألشّاصي وذو الشّمالين ومهجع عمر ... صفوان بيضاء الّذي بها اشتهر لثلاثة من قريش أبناء عمهم، ضربه عتبة بن ربيعة، فقطع رجله، فمات بالصفراء. (ثمّ) الثّاني: (عمير) بالتصغير (بن أبي وقاص) بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، ذكر الواقديّ كما في «الروض» : (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد ردّه في ذلك اليوم؛ لأنّه استصغره، فبكى عمير، فلمّا رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكاءه.. أذن له في الخروج معه، فقتل وهو ابن ستّ عشرة سنة، قتله العاص بن سعيد) . (و) الثّالث: (ابن البكير) بوزن الزّبير، واسمه: (عاقل) والبكير: هو ابن عبد ياليل الليثي، حليف بني عديّ بن كعب، وكان عاقل من السابقين الأوّلين. قال الحافظ: (شهد بدرا هو وإخوته إياس، وخالد، وعامر، واستشهد عاقل ببدر) قاله موسى بن عقبة، وابن إسحاق، وغيرهما. وقوله: (الشاصي) أي: الميت، يقال: شصى الميت شصيّا: ارتفعت يداه ورجلاه. (و) الرابع: (ذو الشمالين) عمير بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، حليف بني زهرة، وهو غير ذي اليدين الخرباق بن عبد عمرو السّلمي، صاحب حديث: (أقصرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 واثنان للأوس ابن عبد المنذر ... مبشّر سعد ابن خيثم الجري الصلاة؟) ؛ لأنّ ذا الشمالين استشهد ببدر، وحديث السهو حضره أبو هريرة، وإسلامه تأخر عن بدر بست سنين. (و) الخامس: (مهجع) بوزن منبر مولى عمر بن الخطاب؛ فلذا أضافه إلى قوله: (عمر) . قال ابن إسحاق: (وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين، رضي الله عنه) . وقال السهيلي: (أول قتيل من المسلمين حارثة بن سراقة) . والسادس: (صفوان بيضاء) بحذف حرف العطف (الذي بها) أي: بيضاء أمّه؛ أي: بالنسبة إليها، يتعلق بقوله: (اشتهر) فقيل: صفوان بن بيضاء؛ يعني: إنّما نسب لأمّه لذلك، لا لكونه لا يعرف له أب، وإلّا.. فأبوه كما في «الإستيعاب» - وهب بن ربيعة، وأخواه سهل وسهيل ابنا وهب، المعروفون ببني البيضاء، أمّا سهيل.. فهاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة، وشهد بدرا مع صفوان، وأمّا سهل.. فتأخّر إسلامه عن بدر، واسم أمهم البيضاء دعد. (واثنان) ممّن شهد بدرا منسوبان (للأوس) : الأوّل: (ابن عبد المنذر) واسمه: (مبشر) من بني عمرو بن عوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وستّة الخزرج هم يزيد ... عوف معوّذ أخوه الصّيد والثاني: (سعد بن خيثم) «1» بوزن جعفر، من بني عمرو بن عوف أيضا، وحذفت التاء من خيثم للضرورة (الجري) الشجاع، تتميم حذفت منه الهمزة للوزن. (وستة الخزرج هم يزيد) بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الحارث بن الخزرج، قتله طعيمة بن عدي، والثّاني منهم: (عوف) . والثّالث: (معوذ) بفتح الواو المشددة (أخوه) لأنّهما ابنا الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار، وأخوه معاذ أيضا، قال أبو عمر: (وسمى بعضهم عوفا عوذا بالذال، وعوف أكثر) كذا قال، وذكر في «الإصابة» عن ابن إسحاق: (حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: لمّا التقى الناس يوم بدر، قال عوف بن عفراء: يا رسول الله؛ ما يضحك الربّ من عبده؟ قال: «أن يراه قد غمس يده في العدوّ حاسرا» فنزع عوف درعه، وتقدم فقاتل، حتى قتل شهيدا، رضي الله عنه) . وقوله: (الصّيد) جمع أصيد: وهو اسم من أسماء السبع، شبههم به لشجاعتهم.   (1) قال الحافظ: (يكنى أبا خيثمة، وكان أحد النقباء بالعقبة، ذكره ابن إسحاق وغيره) وقال ابن إسحاق في «المغازي» : (نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وكان إذا خرج من منزله.. جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وكان يقال له: بيت العزاب، واختلف في قاتله، فقيل: طعيمة، وقيل: غيره) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 حارثة وابن المعلّى رافع ... ثمّ عمير بن الحمام النّازع والرابع: (حارثة) بن سراقة بن الحارث بن عديّ بن مالك بن عامر بن غنم بن عديّ بن النجار. قال في «الإستيعاب» : (رماه حبان بن العرقة بسهم، وهو يشرب من الحوض، وكان خرج نظارا، فأصاب حنجرته فمات وجاءت أمه الرّبيع- بالتصغير- بنت النضر، عمة أنس بن مالك فقالت: يا رسول الله؛ قد علمت موضع حارثة مني، فإن يكن في الجنة.. أصبر، وأحتسب، وإن يكن غير ذلك.. فسترى ما أصنع، فقال: «أو جنّة واحدة هي؟! إنّما هي جنات، وإنّ ابنك فيها لفي الفردوس» ) . قال الناظم في «عمود النسب» : حارثة البرّ «1» رأى جبريلا ... مع النبيّ ووعى ترتيلا   (1) قوله: (البر) كذلك سماه صلى الله عليه وسلم، فروى النسائي من طريق الزّهري عن عروة عن عائشة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: «من هذا؟» فقيل: حارثة بن النّعمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك البر» وكان برا بأمّه. وقال في «الإصابة» : (روى الإمام أحمد، والطبراني من طريق الزّهري، أخبرني عبد الله بن عامر عن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل جالس في المقاعد، فسلمت عليه، فلمّا رجعت.. قال: «هل رأيت الذي كان معي» قلت: نعم، قال: «فإنّه جبريل وقد ردّ عليك السّلام» إسناده صحيح) . وذكره موسى بن عقبة، وابن سعد فيمن شهد بدرا، فقيل: إنّه توفي في خلافة معاوية كما ذكره في «الإستيعاب» عن خليفة، ولم يذكره الناظم هنا؛ وإنّما ذكرته للتنبيه على أنّه بصري، وأنّه غير ابن سراقة، ولكون الناظم في «عمود النسب» ربط بينهما. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 في جنة الخلد له النبيّ ... وهكذا سميّه الأبيّ حارثة القتيل بعد مهجع ... وأمّه عليه ذات جزع (و) الخامس: (ابن المعلّى) بن لوذان بن حارثة بن عديّ بن زيد بن ثعلبة بن زيد مناة بن حبيب بن عبد بن حارثة بن مالك بن عضب بن جشم بن الخزرج، واسمه: (رافع) قتله عكرمة. (ثمّ) السادس: (عمير) بالتصغير (بن الحمام) بوزن غراب، كما في «الإصابة» وبوزن سحاب كما في «روض النهاة» والميم مخففة على كل، وهو ابن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاريّ، السلمي، قتله خالد بن الأعلم. قال ابن إسحاق: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا، محتسبا، مقبلا غير مدبر.. إلّا أدخله الله الجنة» فقال عمير أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهنّ: بخ بخ، فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلّا أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمر من يده، وأخذ سيفه، فقاتل حتى قتل وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلّا التّقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لربّه وهو يقول أفما ... بيني وبين جنّة إلّا الحما وإلى هذا أشار بقوله: (النازع) أي: المشتاق (لربه) عزّ وجلّ (وهو يقول: أفما بيني وبين جنة إلّا الحما) بكسر الحاء؛ أي: الموت. تنبيه: في حديث «الصحيحين» : أنّ هذه القصة كانت أيضا يوم أحد، لكن لم يسمّ فيها عمير ولا غيره، فالله أعلم، كذا في «الروض» للسهيلي، قال في «الفتح» : (الذي يظهر أنّهما قصتان وقعتا لرجلين) والله أعلم. تكملة: علم ممّا تقدم: أنّ عدد الشهداء البدريّين أربعة عشر، واقتصر الناظم عليهم، ولم يذكر أسماء من حضر بدرا، غير من استشهد فيها، وقد استوفى ذلك كلّه اليعمريّ في «العيون» ومن قبله ابن إسحاق، وسرد أسماء من شهدها من المهاجرين، ثمّ من الأنصار ثمّ قال: فجميع من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار من شهدها، ومن ضرب له بسهمه وأجره ثلاث مئة رجل وأربعة عشر رجلا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون، ومن الأوس أحد وستون، ومن الخزرج مئة وسبعون رجلا، وقد سردهم الحافظ ابن كثير في «البداية» مبتدأ بسيدهم وسيد ولد آدم سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم مرتبا على حروف المعجم فانظره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 التبشير بنصر الله للمؤمنين وهزيمة المشركين: ولما فرغ المسلمون من بدر.. قدم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما إلى المدينة مبشّرين بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصره، وهزيمة المشركين، فتلقى الناس بالروحاء «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم مهنّئين له بالفتح والنصر، فدخلها منصورا، مؤيّدا، مظفرا، أعلى الله كلمته، ومكّن له، وذلك من ثنيّة الوداع يوم الأربعاء، الثّاني والعشرين من رمضان، وتلقاه الولائد بالدفوف ينشدن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع وتهيّأ لسيدنا عمير بن عدي الأنصاري الخطمي أن يفي بنذره فقد ذكر المقريزي في «إمتاع الأسماع» : (إنّ عصماء بنت مروان كانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحرض على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فنذر عمير بن عدي: لئن ردّ الله رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة.. ليقتلنّها، فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) الروحاء: هي المعروفة اليوم ببئر الراحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 من بدر إلى المدينة جاءها عمير ليلا حتى دخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام منهم من ترضعه في صدرها، فجسّها بيده، وكان ضرير البصر، ونحّى الصبي عنها ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، وأتى وصلّى الصبح مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا انصرف.. نظر إليه وقال: «أقتلت ابنة مروان؟» قال: نعم يا رسول الله، قال: «نصرت الله ورسوله يا عمير» فقال: هل عليّ شيء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: «لا ينتطح فيها عنزان «1» » فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه: «إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب.. فانظروا إلى عمير بن عدي» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انظروا إلى هذا الأعمى الذي تشرّى «2» في طاعة الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل الأعمى، ولكنه البصير» فلمّا رجع عمير.. وجد بنيها في جماعة يدفنونها، فقالوا: يا عمير؛ أنت قتلتها؟ قال: نعم، فكيدوني جميعا ثمّ لا تنظرون، فوالّذي نفسي بيده؛ لو قلتم بأجمعكم ما قالت.. لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة) .   (1) أي: لا يعارض فيها معارض. (2) أي: باع نفسه في طاعة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فلسليم فلقينقاع ... المتصدّين إلى القراع (6) غزوة بني سليم (ف) بعد أن انتهى صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام من بدر بسبع ليال، كما جزم به ابن إسحاق.. خرج (لسليم) بضم المهملة، وفتح اللام، في مئتي رجل؛ لما بلغه صلى الله عليه وسلم: أنّ جمعا من بني سليم وغطفان، بماء يقال له: (الكدر) بضم الكاف وسكون المهملة، فأقام عليه- عليه الصّلاة والسّلام- ثلاثا، فلم يلق كيدا، وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وحمل اللّواء علي بن أبي طالب. تنبيه: جعل الناظم غزوة بني سليم غير غزوة قرقرة الكدر؛ لما سيأتي فهما غزوتان، تبعا لأصله «العيون» وجعلهما صاحب «المواهب» غزوة واحدة، وتبعه تلميذه الشامي. (7) غزوة بني قينقاع (ف) - بعدها خرج صلى الله عليه وسلم يوم السبت في نصف شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة (ل) قتال بني (قينقاع) بفتح القافين وسكون التحتية وتثليث النون، والضم أشهر: بطن من يهود المدينة، وهم رهط سيدنا عبد الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 هم كشفوا إزارها عن مسلمه ... فهاج حرب بينهم والمسلمه سلام رضي الله عنه، قال السمهودي في «الوفاء» : (منازلهم عند جسر بطحان ممّا يلي العالية، ولهم شجاعة) ولذا وصفهم بقوله: (المتصدّين) أي: المتعرضين (إلى القراع) بكسر القاف؛ أي: المقارعة والمضاربة. قال في «القاموس» : (قرع رأسه بالعصا: ضربه) . سبب هذه الغزوة: وسبب ذلك: نقضهم العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى ابن هشام: (أنّ امرأة من العرب قدمت بجلب لها من إبل، وغنم، وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ يهوديّ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلمّا قامت.. انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشرّ بينهم وبين بني قينقاع) . وهذا هو مراد الناظم بقوله: (هم) أي: يهود بني قينقاع (كشفوا إزارها) أي: المسلمة، فالضمير يعود على المجرور في قوله: (عن) امرأة (مسلمة) المتعلّق مع جاره بقوله: (كشفوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 (فهاج حرب بينهم) أي: اليهود (و) بين (المسلمة) أي: المسلمين، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «ما على هذا أقررناهم» . براءة عبادة بن الصامت من حلفهم: وتبرّأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وكان أحد بني عمرو بن عوف لهم من حلفه، مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيّ، فخلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله؛ أتولّى الله ورسوله، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار، وتشبّث به عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وقام دونهم، وفيه نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ إلى فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. فجمعهم صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: «يا معشر يهود؛ احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة- أي: ببدر- وأسلموا؛ فإنّكم قد عرفتم أنّي نبيّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله تعالى إليكم» قالوا: يا محمّد؛ إنّك ترى أنا مثل قومك، ولا يغرّنّك أنّك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنّا والله لو حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فتحصنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولواءه بيد عمه حمزة رضي الله عنه، واستخلف على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، وكانوا أربع مئة حاسر، وثلاث مئة دارع «1» ، حتى نزلوا على حكمه. قال ابن إسحاق: (فقام عبد الله بن أبيّ ابن سلول حين أمكن الله رسوله منهم، فقال: يا محمّد؛ أحسن في مواليّ وكانوا حلفاء الخزرج- فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمّد؛ أحسن في مواليّ فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسلني» وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأوا لوجهه ظلالا «2» ، قال: «ويحك! أرسلني» قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ أربع مئة حاسر وثلاث مئة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إنّي والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك» ) .   (1) الحاسر: الذي لا درع له، والدارع: الذي له درع. (2) هكذا في نسخة الشيخ مصححا عليه، وفي غيرها: ظللا جمع ظلة، وقد تجمع فعلة على فعال، كبرمة وبرام، فمعنى الروايتين واحد، والظلة: ما حجب عنك ضوء الشمس وصحو السماء، وكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرقا بسّاما، فإذا غضب.. تلون ألوانا، فكانت حائلة دون الإشراق والضياء المنتشر عند تبسّمه صلى الله عليه وسلم. اهـ قاله السهيلي في «الروض الأنف» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لو آمنت من اليهود كلّها ... زهاء عشرة اهتدوا لأجلها إصرار اليهود على الكفر، وعداوة المسلمين: (لو آمنت) برسول الله، وبما جاء به من عند الله (من اليهود كلّها) بالمدينة (زهاء) بضم الزاي؛ أي: قدر (عشرة) بسكون الشّين للوزن؛ أي: من رؤسائهم، أو من أحبارهم، كما قاله الإمام النووي في «شرحه صحيح مسلم» ، وإلّا.. فإنّه آمن من اليهود أكثر من هذا العدد على عهده عليه الصّلاة والسّلام (اهتدوا) أي: اهتدى كل اليهود إلى الدخول في دين الله (لأجلها) أي: العشرة المذكورين. يشير الناظم بهذا إلى ما رواه الشيخان- واللفظ للبخاري- عن أبي هريرة مرفوعا: «لو آمن بي عشرة من اليهود.. لآمن بي اليهود» . قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» نقلا عمّا أخرجه ابن سعد في «شرف المصطفى» : (قال كعب: هم الذين سمّاهم الله في سورة المائدة، فعلى هذا فالمراد عشرة مختصة، وإلّا.. فقد آمن به أكثر من عشرة، ثمّ قال: والّذي يظهر أنّهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود، ومن عداهم كان تبعا لهم، فلم يسلم منهم إلّا القليل، كعبد الله بن سلام رضي الله عنه. وكان من المشهورين بالرياسة في اليهود عند قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة من بني النضير: أبو ياسر بن أخطب، وأخوه حييّ بن أخطب، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبي الحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ومن بني قينقاع: عبد الله بن حنيف، وفنحاص، ورفاعة بن زيد. ومن بني قريظة: الزّبير بن باطا، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، فهؤلاء لم يثبت إسلام أحد منهم، وكان كل واحد منهم رئيسا في اليهود، ولو أسلم.. لاتّبعه جماعة منهم، فيحتمل أن يكونوا المراد. وقد روى أبو نعيم في «الدلائل» من وجه آخر الحديث بلفظ: «لو آمن بي الزّبير بن باطا، وذووه من رؤساء يهود.. لأسلموا كلهم» اهـ منه ثمّ قال: وأخرج يحيى بن سلام في «تفسيره» من وجه آخر عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة هذا الحديث فقال: (قال كعب: إنّما الحديث اثنا عشر؛ لقول الله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً، فسكت أبو هريرة، قال ابن سيرين: أبو هريرة عندنا أولى من كعب، قال يحيى بن سلام: وكعب أيضا صدوق؛ لأنّ المعنى عشرة بعد الاثنين، وهما عبد الله بن سلام، ومخيريق كذا قاله) اهـ فساد طبيعة اليهود، وإفسادهم، ووعيد الله لهم: والحاصل: أنّ رسول الله عليه الصّلاة والسّلام أفادنا بذلك اليأس من إيمان اليهود كلهم، وأنّه لم يبلغ من آمن منهم؛ أي: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 عادوا للافساد فعاد الله ... وقينقاع العمّه العزاه رؤسائهم مبلغ العشرة، وقد عرف من عادة اليهود في معاملتهم المكر، ونقض العهد، والإصرار على العناد والباطل، وتحريف ما أنزل الله على أنبيائهم ورسلهم، وتكذيب الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وقتلهم بغير حق، والإفساد في الأرض، كما قال الناظم: (عادوا للافساد) بمقتضى اتصافهم بهذه الصفات الذميمة فأصرّوا على الكفر، وإظهار آثاره؛ فلذلك: عاملهم الله تعالى بالمثل، بمقتضى العدل، كما قال الناظم: (فعاد الله) مشيرا إلى قوله تعالى في (سورة الإسراء) : وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً. قال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير في تفسير هذه الآيات: (يخبر تعالى: أنّه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب؛ أي: تقدم إليهم، وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم، أنّهم سيفسدون في الأرض مرتين، ويعلون علوّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 كبيرا؛ أي: يتجبّرون ويطغون ويفجرون على الناس. وقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي: أولى الإفسادتين بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: سلّطنا عليكم جندا من خلقنا اولي بأس شديد؛ أي: قوة وعدّة، وسلطة شديدة، فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي: تملّكوا بلادكم، وسلكوا خلال بيوتكم؛ أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين، لا يخافون أحدا، وكان وعدا مفعولا. واختلفوا في هؤلاء المسلّطين عليهم: فقيل: جالوت وجنوده، سلّط عليهم أولا، ثمّ اديلوا عليه بعد ذلك، وقتل داود جالوت؛ ولهذا قال: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وقيل: سنحاريب وجنوده، وقيل: بختنصّر ملك بابل، ثم قال: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي: فعليها، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي: الكرّة الآخرة؛ أي: إذا أفسدتم الكرّة الثّانية، وجاء أعداؤكم لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي يهينوكم، ويقهروكم، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي: بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي: في التي جاسوا فيها خلال الديار وَلِيُتَبِّرُوا أي: يدمّروا ويخرّبوا ما عَلَوْا أي ما ظهروا عليه تَتْبِيراً* عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فيصرفهم عنكم وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا أي: متى عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإدالة عليكم في الدنيا، مع ما ندّخره لكم في الآخرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أوّل من غدر من يهودا ... وابن أبيّ سأل القرودا من العذاب والنكال؛ ولهذا قال: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي: مستقرّا، محصرا، وسجنا لا محيد لهم عنه. قال قتادة: قد عاد بنو إسرائيل، فسلّط الله عليهم هذا الحيّ، محمّدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يأخذون منهم الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) اهـ بنو قينقاع أول من غدر من اليهود: (وقينقاع) من يهود المدينة (العمّه) بضم العين وتشديد الميم المفتوحة، جمع عمه: بكسر الميم المخففة وعامه، وهو المتحيّر في أودية الضلال، لا يعرف له جهة (العزاه) جمع عزه بالكسر وككتف: اللئيم، صفة ثانية لقينقاع الواقع مبتدأ، وخبره قوله: (أوّل من غدر من يهودا) وذلك بعد كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كتبه بينه وبينهم، يؤمنهم فيه على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وقوله عليه الصّلاة والسّلام لهم وهم مجتمعون بسوق بني قينقاع كما تقدم: «يا معشر يهود؛ احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النّقمة، وأسلموا، فإنّكم قد عرفتم أنّي نبيّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» وإجابتهم بما تقدم ذكره عنهم قبّحهم الله. قال الحافظ اليعمري في «عيون الأثر» عن ابن إسحاق: (فحدّثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلّا فيهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 نبيّنا وهم أسارى سطوته ... فأطلقوا وطردوا من طيبته قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا أي: أصحاب بدر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ. قال: وحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنّهم كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى نزلوا على حكمه) اهـ إلحاح رئيس المنافقين في إطلاق بني قينقاع: (و) عبد الله (ابن أبيّ) ابن سلول- هذه أمه، وأبوه أبيّ، ولذلك يكتب (ابن سلول) بالألف وإن كان بين علمين؛ لأنّ سلول لم يكن أبا لأبيّ، كما قرّر ذلك في محله- (سأل القرودا) أي: سأل عبد الله المذكور لأجل القرود إخوانه بني قينقاع، سمّاهم قرودا جمع قرد؛ لأنّه أخسّ الحيوانات وأقبحها؛ أو لأنّ طائفة من بني إسرائيل إخوانهم مسخوا قردة، قال تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ. (نبيّنا) صلى الله عليه وسلم مفعول سأل (وهم) أي: والحال أنّ أولئك اليهود (أسارى) بضم الهمزة، جمع أسير (سطوته) وقهره؛ أي: سأله أن يطلقهم له من الأسر، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 عرف من عاداته صلى الله عليه وسلم: أنّه لا يسأل شيئا إلّا أعطاه (فأطلقوا وطردوا من طيبته) إلى أذرعات، وقال عليه الصّلاة والسّلام: «خلّوهم له، لعنهم الله ولعنه معهم» وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا من المدينة، وتولى ذلك عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، فما كان أقل بقاءهم بها. فائدة: طيبة: اسم من أسماء المدينة المنوّرة، سميت بذلك لكمال المناسبة بين الاسم والمسمّى، وقد أخبر عليه الصّلاة والسّلام بأنّه ينصع طيبها وتنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، والمشاهدة لمن نوّر الله بصيرته أكبر شاهد على ذلك، ولقد صدق والله القائل حيث يقول: بطيبة عرّج إنّ بين قبابها ... حبيبا لأدواء القلوب طبيب إذا لم تطب في طيبة عند طيب ... به طيبة طابت فأين تطيب؟ عزاه أبو سالم العياشي في «رحلته» إلى الشيخ إبراهيم بن الشيخ خير الدين، من علماء المدينة المنوّرة الذين أخذ عنهم، قال العياشي: وقد تطفلت عليه في ذلك فقلت: بطيبة طاب الطيّبون لطيبها ... بأطيب طيب طيّب لمطيّب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وفي بعض الأخبار عن كعب الأحبار قال: (إنّا نجد في التوراة: يقول الله للمدينة: «يا طيبة، يا طابة، يا مسكينة؛ لا تقبلي الكنوز، ارفعي أجاجيرك على أجاجير القرى» ) «1» . وكانت تسمى قبل ذلك بيثرب، اسم رجل من العماليق أول ما نزلها؛ ولما في هذا الاسم من التثريب نهى الشارع عن هذه التسمية؛ إذ لا يليق بها ذلك. وأمّا قوله تعالى في (سورة الأحزاب) : وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ.. فذلك حكاية عن طائفة من المنافقين قالت: يا أهل يثرب؛ لا مقام لكم، فنبه بما حكى عنهم، أنّهم قد رغبوا عن اسم سمّاها الله به، وأبوا إلّا ما كانوا عليه في جاهليتهم، والله تعالى سمّاها المدينة، فقال غير حاك عن أحد: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الآية. وقد ذكر العلّامة البركة العارف بالله عزّ وجلّ، الشيخ محمّد بن عبد رب النبيّ الأنصاري القشاشيّ كثيرا من أسماء المدينة، في مؤلّفه المسمى «الدرّة الثمينة فيما لزائر المدينة» فانظره.   (1) جمع إجار، بكسر الهمزة فتشديد الجيم بلغة أهل الشام والحجاز: هو سطح ليس حواليه ما يرد الساقط عنه، وفي الحديث: «من بات على إجار.. فقد برئت منه الذمة» وفي حديث محمّد بن مسلمة: (فإذا جارية من الأنصار على إجار لهم) اهـ «نهاية» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ومنهم الشّاهد عبد الله ... نجل سلام العظيم الجاه إسلام عبد الله بن سلام: (ومنهم) من يهود بني قينقاع (الشاهد) المعنيّ في الآية الآتية (عبد الله نجل) أي: (سلام) بتخفيف اللام، ابن الحارث الإسرائيلي، ثمّ الأنصاريّ الخزرجيّ (العظيم الجاه) والقدر. قال الإمام النوويّ في «التهذيب» : (وهو من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه في الجاهلية حصينا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله، أسلم أول قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك: أنّه لمّا بلغه مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة.. أتاه يسأله عن أشياء، فقال: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه، أو إلى أمّه؟ قال: «أخبرني بها جبريل آنفا» قال ابن سلام: ذلك عدوّ اليهود من الملائكة، قال: «أمّا أول أشراط الساعة: فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأمّا أول طعام يأكله أهل الجنة: فزائد كبد الحوت، وأمّا الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة.. نزع الولد «1» ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل.. نزعت الولد» قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله، قال: يا رسول الله؛ إنّ اليهود قوم   (1) بالنصب على المفعولية؛ أي: جذبه إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بهت «1» ، فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيّ رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا؛ خيرنا، وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم، فقالوا: مثل ذلك. فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّدا رسول الله. قالوا: شرّنا وابن شرّنا، وتنقّصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله) هكذا رواه الإمام البخاريّ في «صحيحه» في (باب هجرته عليه الصّلاة والسّلام وأصحابه إلى المدينة) . ووصفه الناظم بعظم الجاه والمنزلة؛ لأنّه كان كذلك في قومه، وبعد إسلامه عند المسلمين أيضا، ونزل في فضله قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، وقوله تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ. قال في «التهذيب» : (روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاريّ بآخر، روى عنه ابناه محمّد، ويوسف، وروى عنه   (1) بضم الباء الموحدة والهاء، ويجوز إسكانها على القاعدة المعروفة، جمع: بهيت، كقليب وقلب، وقضيب وقضب: وهو الذي يبهت السامع بما يفتري عليه من الكذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فغزوة السّويق في إثر أبي ... سفيان أن حرّق نخل يثرب أيضا أبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن مغفّل المزني، وكذا جماعات من التابعين، وشهد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح بيت المقدس والجابية. روينا في صحيحي «البخاريّ» و «مسلم» عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحيّ يمشي على الأرض: «إنّه من أهل الجنة» إلّا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ الآية. وتوفي سنة (43) بالمدينة المنوّرة، ومناقبه كثيرة مشهورة) . (8) غزوة السويق السويق: هو قمح أو شعير يقلى، ثم يطحن، فيتزود به ملتوتا بماء أو سمن أو عسل، سميت الغزوة بذلك لما سيأتي، وكانت في ذي الحجة، يوم الأحد لخمس خلون منها، على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة، فهي بعد غزوة بني قينقاع؛ فلذلك قال: (فغزوة السويق) . خرج صلى الله عليه وسلم في مئتين من المهاجرين والأنصار (في إثر) بكسر الهمزة (أبي سفيان) ومعه مئتان من قريش، واستخلف على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وغال نفسين وكان آلى ... لا يقرب النّساء أو ينالا (أن) بفتح الهمزة؛ أي: لأجل أنّه (حرق) بالتخفيف للراء، وبالتشديد مبالغة، وضميره يعود على أبي سفيان (نخل يثرب، وغال) أي: قتل (نفسين) على حين غفلة، أحدهما: معبد بن عمرو من الأنصار، كما حكاه الشاميّ عن «الإمتاع» ، ولما فعل ذلك أبو سفيان.. رأى أن قد انحلت يمينه (وكان آلى) من الإيلاء؛ أي: حلف أنّه (لا يقرب النساء) كناية عن عدم وطئهنّ (أو) أي: حتى (ينالا) غرضه من الأخذ بثأر المشركين الذين قتلوا ببدر، والألف للإطلاق. وهذا الذي في النظم لازم قول أبي سفيان، كما في «ابن إسحاق» قال: (لما رجع أبو سفيان إلى مكّة، ورجع فلّ «1» قريش من بدر.. نذر ألّا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمّدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مئتي راكب من قريش، ليبرّ يمينه، فسلك النجديّة حتى نزل بصدر قناة «2» ، إلى جبل يقال له: نيب «3» من المدينة على بريد أو نحوه، ثمّ   (1) بفاء مفتوحة، فلام مشددة: القوم المنهزمون. (2) بفتح القاف وخفة النون: واد بالمدينة. (3) قال الزرقاني: (بنون فتحتية فموحدة، قال البرهان: كذا في نسخة- أي: من «العيون» وأصولها- ولم أره، فلعلّه تصحيف ينيب بفتح التحتية، بوزن يغيب: جبل بالمدينة، ذكره في «القاموس» أوتيت بفوقيتين أولاهما مفتوحة بينهما تحتية ساكنة أو مشددة، كميت وميت: جبل قرب المدينة، ذكره في «الذيل» و «القاموس» ) اهـ ملخصا والذي يظهر: أنّ ذا الأخير هو المراد بقوله: (على بريد ونحوه من المدينة) لأنّ الرسم لا يخالفه، ينيب الذي بزنة يغيب. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وكان يلقي جرب السّويق ... مخافة اللّحوق في الطّريق خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حييّ بن أخطب، فضرب عليه بابه فخافه، ولم يفتح له الباب، فانصرف عنه إلى سلّام بن مشكم، وكان سيّد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه، فأذن له، فقراه وسقاه، وبطن له من خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالا من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منهم يقال لها: العريض «1» ، فحرقوا في أصوار «2» من نخل بها ووجدوا بها رجلا من الأنصار، وحليفا له في حرث لهما، فقتلوهما، ثمّ انصرفوا راجعين، ونذر «3» بهم الناس؛ أي: علموا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم) . (وكان) أبو سفيان حين انصرف راجعا لمكّة (يلقي) أي: يطرح بالأرض (جرب السويق) بضمّتين: جمع جراب ككتاب وكتب: الوعاء، وكان ذلك عامة أزوادهم؛ وإنّما فعل ذلك (مخافة) أي: لأجل خوف (اللحوق) أي: أن يلحقه (في الطريق) من نصر بالرعب صلى الله عليه وسلم، فأخذها المسلمون.   (1) بزنة حسين مصغرا: واد بالمدينة. (2) جمع صور: نخل مجتمع. (3) بفتح النون وكسر الذال المعجمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فسمّيت بذاك ثمّ بعدها ... قرقرة الكدر لقوم عندها (فسمّيت) الغزوة من أجل هذا (بذاك) أي: بغزوة السّويق، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصلّى صلاة الأضحى بالمصلّى، وضحّى، وهو أول عيد ضحّى فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانت غيبته خمسة أيام، وقال المسلمون حين رجعوا: يا رسول الله؛ أتطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال: «نعم» . (9) غزوة ذي قرقرة بفتح القافين، وحكي ضمها، قال الدميريّ، كما في «شرح المواهب» : والمعروف فتحهما، قال ابن سعد: ويقال: قرارة الكدر. وفي «الصّحاح» : قراقر، بضم القاف: اسم ماء، ومنه: غزاة قراقر، ففيها ثلاثة أوجه. كانت في نصف المحرم، على رأس ثلاثة وعشرين شهرا من مهاجره، كما ذكره في «العيون» عن ابن سعد؛ فهي بعد غزوة السّويق؛ فلذا قال الناظم: (ثمّ بعدها قرقرة الكدر) وبهذا ترجمها اليعمريّ في «العيون» والسهيليّ. والقرقرة: أرض ملساء، والكدر: طير في ألوانها كدرة، عرف بها ذلك الموضع الذي هو قرقرة؛ لاستقرار هذه الطيور به، ويقال: قرقرة الكدر: ماء لبني سليم، وغطفان، وهم المراد بالقوم في قوله: (لقوم عندها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قال في «العيون» : (ولمّا بلغه صلى الله عليه وسلم أنّ بهذا الموضع جمعا من بني سليم، وغطفان.. استخلف على المدينة سيدنا عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه، وسار إليهم، وحمل لواءه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فلم يجد في المحالّ «1» أحدا، وأرسل نفرا من أصحابه في أعلى الوادي، واستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن الوادي، فوجد رعاء «2» ، منهم غلام يقال له: يسار، فسأله عن الناس فقال: لا علم لي بهم، إنّما أورد الخمس «3» ، وهذا يوم ربعي، والناس قد ارتفعوا في المياه؛ ونحن عزاب في الغنم. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ظفر بالنّعم، فانحدر به إلى المدينة، واقتسموا غنائمهم بصرار «4» ، على ثلاثة أميال من المدينة. وكانت النعم خمسمئة بعير، فأخرج خمسه، وقسم أربعة أخماسه على المسلمين، فأصاب كلّ رجل منهم بعيران، وكانوا مئتي رجل، وصار يسار في سهم   (1) بفتح الميم وتشديد اللام جمع محلة: منزل القوم. (2) بالكسر: جمع راع. (3) بكسر المعجمة من إظماء الإبل؛ أي: ترعى ثلاثة أيام، وترد اليوم الرابع. (4) قال الزرقاني: (بكسر المهملة، وراء مهملة مخففة، فألف فراء ثانية، كما قيده الدارقطني وغيره، ووقع للحمودي والمستملي: بضاد معجمة، وهو وهم كما في «المطالع» : موضع قريب من المدينة، وقيل: بئر قديمة، على ثلاثة أميال منها، من طريق العراق) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقه؛ وذلك أنّه رآه يصلّي، وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة) . قال السّهيلي: (وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر مسيره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، فقال لعمران بن سوادة، حين قال له: إن رعيتك تشكو منك عنف السّياق، وقهر الرعية، فذقّن على الدّرة «1» وجعل يمسح سيورها، ثمّ قال: قد كنت زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرقرة الكدر، فكنت أرتع فأشبع «2» ، وأسقي فأروي، وأكثر النّجر «3» ، وأقلّ الضرب، وأردّ العنود «4» ، وأزجر العروض، وأضم اللّفوت «5» ، وأشهر بالعصا، وأضرب باليد، ولولا ذلك.. لأغدرت فتركت «6» ) يذكر حسن سياسته فيما ولي من ذلك.   (1) ذقن بالقاف والنون، قال في «شرح القاموس» : (ذقن على يده أو على عصاه: وضع ذقنه عليها واتّكأ، وفي حديث: فوضع الدرة، ثمّ ذقن عليها، وفي رواية: فذقن بسوطه يستمع، والدرة بالكسر: التي يضرب بها، عربية معروفة، والجمع درر: نقول: حرمتني درك فاحمني دررك) اهـ (2) أترك الماشية ترعى حيث شاءت. (3) هو أن تضم في كفك برجمة الإصبع الوسطى ثمّ تضرب بها رأس أحد، قاله في «القاموس» اهـ (4) العنود: الخارج عن الطريق، والعروض: المستصعب من الناس والدواب. اهـ «سهيلي» (5) اللفوت بوزن صبور: العسر الخلق، كما في «القاموس» . (6) لأغدرت: لضيعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وبعدها ذو أمر وغطفان ... كلاهما تدعى به وتستبان لغطفان وجموع ثعلبه ... جمعها دعثور صاحب الظّبه (10) غزوة ذي أمر وغطفان بفتح الهمزة والميم، وشدّ الراء: موضع من ديار غطفان، قاله ابن الأثير، وغطفان، بفتح المعجمة، والطاء المهملة: قبيلة من مضر، قال الزّرقاني: (أضيفت لها الغزوة؛ لأنّ بني ثعلبة الذين قصدهم من غطفان) . قال في «المواهب» : (وسمّاها الحاكم: غزوة أنمار، وهي بناحية نجد، وكانت لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأوّل، على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة) فهي بعد غزوة قرقرة الكدر. فلذا قال: (وبعدها ذو أمر) بتخفيف الراء للوزن (وغطفان كلاهما) أي: الاسمين (تدعى) بالبناء للمفعول؛ أي: تسمى (به) هذه الغزوة (وتستبان) أي: تعرف. (لغطفان) يتعلق بقوله بعد: (جمعها) ، وقوله: (وجموع ثعلبة) بن سعد بن خصفة أخي غطفان بن سعد، مبتدأ خبره جملة: (جمعها دعثور) بضم الدال وسكون العين المهملتين، وهو ابن الحارث الغطفاني المحاربيّ (صاحب الظّبة) بوزن ثبة: حدّ السيف، ويشير بهذا إلى سببها. سبب هذه الغزوة: وهو: أنّ دعثورا جمع الجموع من بني ثعلبة، يريدون أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وهو الّذي وجد خير مرسل ... يجفّ ثوبين له بمعزل يصيبوا من أطراف بلاده صلى الله عليه وسلم، فلمّا علم ذلك.. ندب صلى الله عليه وسلم المسلمين، فخرج في أربع مئة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه فلمّا سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم.. هربوا في رؤوس الجبال، فأصابوا رجلا منهم من بني ثعلبة اسمه: جبّار «1» ، وبالجيم وشدّ الموحدة، فأدخله الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره من خبر القوم، وقال: لن يلاقوك، ولما سمعوا بمسيرك إليهم.. هربوا في رؤوس الجبال، وأنا سائر معك، فدعاه إلى الإسلام، فأسلم، وضمّه إلى بلال ليعلّمه الشرائع. إسلام دعثور بن الحارث: (وهو) أي: دعثور (الذي وجد خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (يجف) بكسر الجيم؛ أي: ييبّس على شجرة (ثوبين له بمعزل) أي: بموضع بعيد عن أصحابه لمطر أصابهم، واضطجع صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وذهب كل من المسلمين في شأنه، وقد كان المشركون بمرأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لدعثور- وكان فيهم شجاعا-: قد انفرد محمّد، فعليك به، فأقبل ومعه الظّبة.   (1) هذا هو الصواب، خلافا لمن قال: اسمه حبان، كما ذكره في «شرح المواهب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فسلّها وقال من يمنعكا ... فصدّه جبريل عمّا انتهكا وفيه أو في غورث أو النّضير ... إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أنزلت على البشير (فسلّها وقال من يمنعكا) مني اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الله» (فصدّه) أي: منعه (جبريل عمّا) أي: الحرمة التي (انتهكا) أي: أراد أن ينتهكها، بأن دفع في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه صلى الله عليه وسلم فقال: «من يمنعك مني؟» قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله. قال في شرح «المواهب» : (وزاد ابن فتحون في الذيل: فأعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه، ثمّ أقبل بوجهه فقال: أما والله لأنت خير مني، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أحق بذلك منك» ثمّ أتى قومه، فقالوا له: مالك ويلك! فقال: نظرت إلى رجل طويل أبيض، قد دفع في صدري، فوقعت لظهري، فعرفت أنّه ملك، وشهدت أنّ محمّدا رسول الله، لا أكثر عليه جمعا، فدعاهم إلى الإسلام) . (وفيه) أي: في دعثور، على ما ذكره الواقديّ وابن سعد وطائفة (أو في غورث أو) في (النّضير) قاله قتادة ومجاهد، ف (أو) لتنويع الخلاف آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ أي: بالقتل، والإهلاك فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (أنزلت على البشير) صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وبعدها غزوة بحران إلى ... أمّ القرى أو لسليم الجهلا وقيل كما في «شرح المواهب» : (أنزلت والمصطفى صلى الله عليه وسلم بعسفان لما أراد المشركون الفتك بالمسلمين، وهم في الصلاة، فأنزل الله صلاة الخوف قال القشيريّ: وقد تنزل الآية في قصة، ثمّ تنزل في أخرى، لادّكار ما سبق) . ثمّ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق حربا. (11) غزوة بحران بضم الموحّدة، وسكون المهملة، فراء، فألف، فنون، على المشهور، وهو موضع بناحية الفرع، بضمتين «1» ، من المدينة، وفيها عينان يقال لهما: الرّبض والنجف، تسقيان عشرين ألف نخلة، كانت لحمزة بن عبد الله بن الزّبير، وكانت هذه الغزوة في السنة الثّالثة، لستّ خلون من جمادى الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا من الهجرة، كما قال ابن سعد. وقال الناظم: (وبعدها) أي: ذي أمرّ (غزوة بحران) بالتنوين؛ لأنّه مصروف، فخرج صلى الله عليه وسلم في ثلاث مئة من أصحابه الكرام بعد أن استعمل على المدينة ابن   (1) وأمّا بفتحتين: فموضع بين الكوفة والبصرة، هذا الصواب الذي نبّه عليه السهيلي وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أم مكتوم (إلى أمّ القرى) يريد قريشا عند ابن إسحاق (أو لسليم) يريدها عند غيره، وتسمى: غزوة بني سليم أيضا، بضم السين، وفتح اللام، قال في «شرح المواهب» : (لأنّ الذين اجتمعوا، وبلغ خبرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم منهم) ف (أو) في كلام الناظم لتنويع الخلاف. ولمّا سار صلى الله عليه وسلم إليهم.. وجدهم تفرّقوا في مياههم، فرجع ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عشر ليال، ووصفهم بقوله: (الجهلا) لعدم إسلامهم إذ ذاك، ثم وفّقوا للإسلام بعد، حتى كانوا من أكثر العرب إسلاما، وحتى غزت مكة ألف أو تسع مئة منهم، مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله في «روض النّهاة» . (12) غزوة أحد بضم الهمزة والحاء، وبالدال المهملة، مصروف، وأحد: جبل مشهور بالمدينة، سمّي بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخر هناك، قال فيه صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه الشيخان: «أحد جبل يحبّنا ونحبّه» وهذه المحبة حقيقية؛ فقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل، فقال لما اضطرب: «اسكن أحد؛ فإنّما عليك نبيّ، وصدّيق، وشهيدان» فوضع الله الحب فيه، كما وضع التسبيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فأحد بربح عير صخر ... تأهّبوا ليتروا من بدر في الجبال مع داوود، وكما وضع الخشية في الحجارة التي قال فيها: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وكما حنّ الجذع لمفارقته صلى الله عليه وسلم، حتى سمع الناس حنينه، فلا ينكر وصف الجماد بحب الأنبياء، وقد سلّم عليه الشجر والحجر، وسبّحت الحصاة في يده الشريفة، وكلّمه الذراع، إلى غير ذلك. وكانت عند هذا الجبل هذه الوقعة سنة ثلاث من الهجرة في شوال، يوم السبت، لإحدى عشرة ليلة خلت منه على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة؛ فلذلك قال: (فأحد) أي: بعد بحران غزوة أحد. (بربح) بكسر الراء، يتعلق بقوله: (تأهّبوا) وهو مضاف إلى (عير) بكسر العين، والمراد: التجارة التي تحملها العير، وأضيف ذلك إلى أبي سفيان (صخر) بن حرب؛ لأنّه المقدّم فيهم إذ ذاك (تأهبوا) أي: أعدّوا ذلك الربح (ليتروا) أي: ليأخذوا بثأرهم (من بدر) . سبب هذه الغزوة: وحاصل ما أشار إليه الناظم من سبب هذه الغزوة: ما ذكره ابن إسحاق بزيادة توضيح: أنّ قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكّة وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره.. لم يكن شغلها الشاغل إلّا الأخذ بالثأر من المسلمين: فأبو سفيان ينذر أن لا يمس طيبا، ولا يمس رأسه ماء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 جنابة حتى يغزو محمّدا، وينال من المسلمين ما يشفي غليله، ويجهد أن يرسل البعوث والرسل تسير في بطحاء مكّة ونواحيها؛ للتحريض على مؤازرته ونصرته. وعبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، في جماعة ممّن قتل آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر يحثّون إخوانهم على ذلك ويقولون: يا معشر قريش؛ إنّ محمّدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ويعنون عير أبي سفيان، أو من كانت له في تلك العير تجارة «1» - لعلّنا ندرك منه ثأرنا، فأجابوا لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسون ألف دينار «2» . وأمضت سنة كاملة تعدّ خيلها ورجلها، وقضّها وقضيضها، وجدّها وحديدها، ومن يتبعها من بني كنانة وتهامة، وفيهم أنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ. فاجتمعت قريش، ومن حالفها لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة الثّالثة، وكان سيدنا العباس بمكّة على علم تام من هذه الحركات لقريش، فكتب كتابا يخبر   (1) وكانت موقوفة بدار الندوة. (2) فسلموا إلى أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم لكل دينار دينارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وخرجوا ب (يه) ظعن وهم ... جيم ألوف والخيول لهم راء وما للمسلمين فرس ... وفي زروع قيلة إحتبسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها، فقدم عليه وهو بقباء، فقرأه عليه أبيّ بن كعب، واستكتم أبيّا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الرّبيع، فأخبره بكتاب العباس، فقال: «والله؛ إنّي لأرجو أن يكون خيرا، فاستكتمه» . العدد والكراع في الجيشين: (وخرجوا) أي: المشركون (ب «يه» ) أي: بهذا العدد المشار إليه، بالياء والهاء» ، وذلك خمسة عشر من النساء، وهو المعنيّ بقوله: (ظعن) : جمع ظعينة، يقال للهودج، وللمرأة ما دامت فيه، وإنما خرجوا بهنّ التماس الحفيظة «2» ، وأن لا يفرّوا (و) أمّا (هم) أي: الرجال من قريش ف (جيم ألوف) أي: ثلاثة آلاف عددهم، كما جزم به ابن إسحاق، وتبعه اليعمري، فيهم مئتا دارع، (والخيول) : جمع خيل لجماعة الأفراس، ولا واحد له من لفظه، (لهم) أي: لقريش (راء) أي: مئتان (و) الحال أنّه (ما) أي: ليس (للمسلمين فرس) واحد، وقد جزم موسى بن عقبة   (1) بحساب الجمل، فالياء بعشرة، والهاء بخمسة، وكذا الجيم بثلاثة، والراء بمئتين. (2) بفتح الحاء المهملة وكسر الفاء، قال السهيلي: (أي: الغضب للحرم) انظر في «سيرة ابن إسحاق» أسماءهنّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وقيل: فيهم فرس تحت أبي ... بردة النّدب وأخرى للنّبي وقد رأى في نومه خير الأمم ... أن كان في ذباب سيفه ثلم بذلك، كما في «الفتح» وأمّا عدد من خرج معه صلى الله عليه وسلم فألف رجل، كما عند ابن إسحاق (وفي زروع) يتعلق بقوله: (احتبسوا) وهو مضاف إلى (قيلة) وهي أم الأوس والخزرج. قال الناظم في «عمود النسب» : أوس وخزرج هم الأنصار ... وقيلة أمّهم واختاروا (إحتبسوا وقيل فيهم) أي: المسلمين (فرس تحت أبي بردة) هانئ بن نيار (النّدب) أي: الظريف النجيب (و) فرس (أخرى للنّبيّ) صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في «الفتح» : (وقع في «الهدي» : أنّه كان معهم خمسون فرسا، وهو غلط بيّن، وقد جزم موسى بن عقبة بأنّه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل، ووقع عند الواقديّ: كان معهم فرس له عليه الصّلاة والسّلام، وفرس لأبي بردة) . رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأويلها: (وقد رأى) قبل هذه الوقعة ليلة الجمعة، كما عند عقبة وابن عائذ (في نومه) رؤيا (خير الأمم) صلى الله عليه وسلم، ورؤياه حق لا يتسلط عليها شيطان، وهي: (أن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وأنّه أدخل في درع يده ... وبقرا يذبح أيضا وجده فالثّلم ألعمّ وأمّا البقر ... يذبح فهو النّفر المعفّر من صحبه ودرعه الحصينه ... أدخل فيها يده المدينه بفتح الهمزة مخففة من الثقيلة؛ أي: أنّه (كان في ذباب) بضم الذال المعجمة: طرف (سيفه) أو حده (ثلم) : كسر، وهو من باب ضرب، وفرح. قال في «روض النّهاة» : (وهذا السيف هو ذو الفقار بالفتح، سيف العاص بن منبّه، الذي سلب منه يوم بدر، وكان هو والصّمصامة سيف عمرو بن معد يكرب من حديدة وجدت في أساس الكعبة، ثمّ أعطاه صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه) . (و) رأى في منامه هذا أيضا: (أنّه أدخل في درع) حصينة (يده) الشريفة (وبقرا يذبح أيضا وجده) صلى الله عليه وسلم في منامه هذا. إذا سمعت ما تلوته عليك من الرؤيا، وأردت تعبيرها حقا (فالثّلم) الذي رآه في السيف: (العم) فكان سيدنا حمزة بن عبد المطّلب استشهد فيها (وأمّا البقر يذبح فهو النّفر) من أصحابه صلى الله عليه وسلم يقتلون، ووصفهم بقوله: (المعفّر) وهو المضروب بالعفر، وهو ظاهر التراب (من صحبه) بيان للنفر، وهو عدة رجال، من ثلاثة إلى عشرة، ففيه مسامحة (ودرعه الحصينة) أي: المحكمة التي (أدخل فيها يده) هي (المدينة) المنوّرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال في «شرح المواهب» : (ووجه التأويل: أنهم كانوا أشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، وجعلوا فيها الآطام والحصون، فهي حصن) . وهذا المذكور في النظم من المرفوع، قال ابن هشام: (وحدّثني بعض أهل العلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت بقرا لي تذبح، قال: فأمّا البقر.. فهي ناس من أصحابي يقتلون، وأمّا الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي.. فهو رجل من أهل بيتي يقتل) . استشارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في الخروج أو البقاء بالمدينة: قال ابن إسحاق: (قال: - أي: الرسول صلى الله عليه وسلم-: فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبد الله بن أبيّ ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى ألّا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، فقال رجل من المسلمين ممّن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيره ممّن كان فاته بدر: يا رسول الله؛ اخرج بنا إلى أعدائنا؛ لا يرون أنّا جبنّا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبيّ: يا رسول الله؛ أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه، فدعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 واستكرهوا خير الورى فأخرجوه ... وبعد ما استلأم فيها استثبطوه يا رسول الله، فإن أقاموا.. أقاموا بشرّ محبس، وإن دخلوا.. قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا. فلما يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم.. حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ورأى الخروج، فعمّماه، وألبساه، وصفّ الناس ما بين حجرته إلى منبره، ينتظرون خروجه عليه الصّلاة والسّلام، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة) . عزم الرسول صلّى الله عليه وسلّم على القتال: وخرج عليهم عازما على القتال، لابسا لأمته، وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، فلمّا خرج عليهم صلى الله عليه وسلم.. قالوا: يا رسول الله؛ استكرهناك، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت.. فاقعد، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» . واللأمة بالهمزة وقد تترك تخفيفا، وجمعه لأم، كتمرة وتمر: هي الدرع، أو السلاح، أو أداة الحرب. وإلى هذه الإشارة بقوله: (واستكرهوا) أي: أكرهوا، فالسين زائدة للتأكيد (خير الورى) صلى الله عليه وسلم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الخروج إلى العدوّ بقولهم المتقدم: اخرج بنا إلى عدونا، والناس بين راغب في الشهادة، آسف على فوات بدر (فأخرجوه) صلى الله عليه وسلم من بيته وقد لبس اللأمة (وبعد ما استلأم) أي: لبس لأمته، أي: أداة الحرب (فيها) أي: المدينة (استثبطوه) أي: طلبوا لبثه بالمدينة على رأيه الأوّل صلى الله عليه وسلم، وقالوا ما تقدم ذكره. قال في «شرح المواهب» : (فإن قيل: لم عدل صلى الله عليه وسلم عن رأيه الذي لا أسدّ منه، وقد وافقه عليه أكابر المهاجرين والأنصار، وابن أبيّ- وإن كان منافقا لكنه من الكبار المجرّبين للأمور؛ لذا أحضره صلى الله عليه وسلم واستشاره- إلى رأي «1» هؤلاء الأحداث؟ قلت: لأنّه صلى الله عليه وسلم مأمور بالجهاد، خصوصا وقد فجأهم العدوّ، فلمّا رأى تصميم أولئك على الخروج لا سيّما وقد وافقهم بعض الأكابر من المهاجرين: كحمزة، والأنصار: كابن عبادة.. ترجح عنده موافقة رأيهم، وإن كرهه ابتداء؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وهذا ما ظهر لي ولم أره لأحد) اهـ قال العبد الضعيف كان الله له: ويمكن أن يقال في الجواب: إنّ المسألة لم يكن فيها وحي من الله تعالى يتبع، بل كان الأمر فيه إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم، قد أعلمه الله   (1) يتعلق بقوله: (عدل) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فراح نحو أحد وابتكرا ... وخام عنه ابن أبيّ وامترا تعالى بمقتضى تلك الرؤيا، من استشهاد بعض أصحابه، وما يصيبهم من التمحيص في ذلك اليوم، وكان ذلك مرتبا على الخروج إلى العدوّ. وهذا ما ظهر، والعلم عند الله تعالى. (فراح) أي: ذهب صلى الله عليه وسلم بعد الزوال وصلاة الجمعة، ولبس لأمته (نحو) أي: جهة جبل (أحد، وابتكرا) أي: سار بكرة، ومعه صلى الله عليه وسلم ألف من أصحابه، وعقد ثلاثة ألوية: لواء للأوس، بيد أسيد بن الحضير، ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر، ولواء المهاجرين، بيد مصعب بن عمير. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه على الصلاة بالناس. ثمّ ركب فرسه، وتقلد القوس، والمسلمون عليهم السلاح، وخرج السعدان يعدوان أمامه، والناس عن يمينه، وعن شماله، حتى انتهى إلى رأس الثّنيّة، حتى إذا كان بالشيخين «1» .. التفت فنظر إلى كتيبة خشناء لها زجل فقال: «ما هذه؟» فقالوا: هؤلاء حلفاء ابن أبيّ من يهود، فقال: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» .   (1) اسم موضع بطريق أحد، فإنّ شيخا وشيخة كانا يجلسان عليه يتناجيان هناك، وهو مشهور عند أهل المدينة بهذا الاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قال في «الإمتاع» : (ولبس عليه الصّلاة والسّلام من الشيخين درعا واحدة حتى انتهى إلى أحد فلبس درعا أخرى، ومغفرا، وبيضة فوق المغفر، ولمّا نهض عليه الصّلاة والسّلام من الشيخين.. زحف المشركون على تعبئة، وقد ترأس فيهم أبو سفيان لقتل أكابرهم ببدر، ووافى عليه الصّلاة والسّلام أحدا وقد حانت الصلاة وهو يرى المشركين فأذّن بلال وأقام، فصلّى عليه الصّلاة والسّلام بأصحابه الصبح صفوفا) . انخزال المنافقين: وانخزل ابن أبيّ عن المسلمين بثلث الناس كما قال الناظم: (وخام) أي: نكص، ورجع (عنه) صلى الله عليه وسلم عبد الله (ابن أبيّ) ابن سلول في ثلاث مئة من قومه المنافقين (وامترا) أي: شكّ، وقال: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟! فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه- وكان خزرجيا كابن أبيّ- فقال: يا قوم؛ أذكركم الله ألّا تخذلوا قومكم ونبيّكم بعد ما حصر من عدوّهم، فقالوا: لو نعلم أنّكم تقاتلون.. لما أسلمناكم، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال، فلمّا أبوا.. قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه. فلمّا انخزل ابن أبيّ بمن معه.. سقط في أيدي طائفتين من المسلمين، وهمّا أن يقتتلا، وهما بنو حارثة من الخزرج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 واستلّ سيف رجل ذبّ فرس ... فقال شم سيفك والحرب افترس وبنو سلمة من الأوس، وفي الصحيح عن جابر: نزلت هذه الآية فينا: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بني سلمة، وبني حارثة، وما أحبّ أنّها لم تنزل، والله يقول: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما. قال الحافظ: أي: أنّ الآية، وإن كان في ظاهرها غضّ منهم.. لكن في آخرها غاية الشرف لهم، فبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مئة وجعل أحدا خلف ظهره، واستقبل المدينة المنوّرة. تفاؤله صلى الله عليه وسلم: (واستلّ سيف رجل) بالنصب مفعول ل (استل) ، مقدم على فاعله الذي هو (ذبّ) أي: دفع (فرس) بذنبه؛ يعني: أنّه من عادة الفرس أن يذب بذنبه ما يؤذيه، وكان رجل من الصحابة حاملا سيفه في غمده، فدفع الفرس بذنبه السيف، فأخرجه من غمده (فقال) عند ذلك صلى الله عليه وسلم للرجل: (شم سيفك) أمر من شام يشيم: إذا سلّه أو أغمده، والمراد هنا الثّاني (والحرب) أي: القتال، بالنصب معمول مقدم لقوله: (افترس) بمعنى: تفرّس «1» ، وفاعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم.   (1) قال صاحب «الروض» : (وافترس: افتعل من الفراسة؛ أي: تفرس صلى الله عليه وسلم الحرب، ويؤيده: أنّه رتب عليه قوله: «وكان لا يعتاف» ) اهـ قلت: وهو إنّما يصح لو وجد افترس بمعنى الفراسة، وقد قال في «القاموس» : (الفراسة: اسم من التفرس) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكان لا يعتاف إلّا أنّه ... يعجبه الفأل إذا عنّ له قال ابن إسحاق: (ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. حتى سلك في حرّة بني حارثة، فذبّ فرس بذنبه، فأصاب كلّاب «1» سيف فاستلّه، فقال صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف «2» - لصاحب السيف: «شم سيفك؛ فإنّي أرى السيوف اليوم ستسل» ) وفي هذا دليل ظاهر للقول بأنّ معهم فرسا، ولم يكن هذا منه عليه الصّلاة والسّلام تطيّرا، كيف وقد نهى عن الطّيرة؟! فلذلك قال الناظم: (وكان) صلى الله عليه وسلم (لا يعتاف) من العيف؛ أي: لا يتشاءم، يقال: عفت الطير، واعتفتها عيافة، واعتيافا، قاله السّهيليّ. (إلّا أنّه يعجبه الفأل) الحسن (إذا عنّ) أي: عرض (له) . ذكر السهيليّ في «الروض الأنف» : (أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ في غزوة بدر بجبلين، فسأل عن اسميهما؟ فقيل له: أحدهما اسمه مسلح، والآخر اسمه مخرىء «3» فعدل عن طريقهما، وقال: ليس هذا من باب الطّيرة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من باب كراهة الاسم   (1) كلاب السيف: الحديدة العقفاء، وهو التي تلي الغمد. (2) جملة معترضة بين القول ومقوله. (3) ضبطه في «الشامية» بصيغة اسم الفاعل في الاسمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 القبيح، فقد كان عليه الصّلاة والسّلام يكتب إلى أمرائه: إذا أبردتم لي بريدا فاجعلوه حسن الوجه، حسن الاسم، ذكره البزّار من طريق بريدة) . قلت: وذكر الحافظ ابن عبد البرّ في «الإستيعاب» بسنده إلى عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتطيّر، ولكن يتفاءل، فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم، فتلقّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟» قال: أنا بريدة، فالتفت إلى أبي بكر، فقال: «يا أبا بكر؛ برد أمرنا وصلح» قال: ثمّ قال لي: «ممّن أنت؟» قلت: من أسلم، قال لأبي بكر: «سلمنا» . ثمّ قال لي: «من بني من؟» قلت: من بني سهم، قال: «خرج سهمك» . وقال الإمام مالك في «الموطأ» : عن يحيى بن سعيد، قال صلى الله عليه وسلم في لقحة: «من يحلب هذه؟» فقام رجل فقال: أنا، فقال له: «ما اسمك؟» قال: مرّة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس» ، ثمّ قال: «من يحلب هذه؟» فقام رجل فقال: أنا، فقال له: «ما اسمك؟» قال: حرب، قال: «اجلس» ثمّ قال: «من يحلب هذه؟» فقام آخر، فقال: «ما اسمك؟» قال: يعيش، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احلب» . قال الشمس الشامي- لما ذكر نحو ذلك عن ابن سعد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ومرّ في طريقه بالحاثي ... في أوجه القوم وكان راثي الطبقات-: وفي رواية ابن وهب: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله؛ كنت نهيتنا عن التطيّر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تطيرت، ولكني آثرت الاسم الحسن» أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ما كان من المنافق مربع بن قيظي حين سلك النبي صلّى الله عليه وسلّم حائطه: (ومرّ) صلى الله عليه وسلم (في طريقه) إلى أحد (بالحاثي) أي: الرامي التراب (في أوجه القوم) المسلمين؛ وذلك: أنّه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- أي: من طريق قريب- لا يمر بنا عليهم؟» فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرّة بني حارثة، وبين أموالهم، حتّى سلك في حائط لمربع بن قيظيّ، وكان رجلا منافقا أعمى البصر؛ فلمّا سمع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.. قام يحثي في وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإنّي لا أحلّ لك أن تدخل حائطي. قال ابن إسحاق: وقد ذكر لي: أنّه أخذ حفنة من تراب في يده، ثمّ قال: والله لو أنّي أعلم أنّي لا أصيب بها غيرك يا محمّد.. لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر» وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس في رأسه فشجّه، (وكان) بهذه الفعلة الشنيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أجاز أبناءيه واستصغرا ... من دونهم والجيش ذالا انبرى (راثي) أي: أحمق ووقف به على لغة ربيعة. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشّعب من أحد، في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، واستقبل المدينة وجعل جبل عينين- وهو جبل الرماة- على يساره. إجازته صلى الله عليه وسلم أبناء خمس عشرة وردّه من دونهم: (أجاز) صلى الله عليه وسلم في الخروج لميدان القتال في أحد (أبناءيه) أي: أبناء خمس عشرة سنة؛ لما عرضوا عليه (واستصغرا) بألف الإطلاق (من دونهم) في السن، وردّهم؛ لأنّه لم يرهم بلغوا، منهم: أسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس «1» ، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وسعد بن حبتة «2» ، وزيد بن جارية، ورافع بن خديج.   (1) عرابة هذا هو الذي يقول فيه الشماخ الأسدي: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين وهو بفتح العين المهملة، صحابي جليل. (2) بفتح المهملة وسكون الموحدة وفتح الفوقية: هي أمه، واسم أبيه بجير مصغرا. ذكر الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» عن جابر بن عبد الله: (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى سعد بن حبتة يوم الخندق يقاتل قتالا شديدا وهو حديث السن، فدعاه وقال له: «من أنت يا فتى؟» قال: سعد بن حبتة، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أسعد الله جدك، اقترب مني» فاقترب منه، فمسح على رأسه، قال: ولا يختلفون أنّ- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقال من يأخذ هذا السّيفا ... بحقّه فناله واستوفى ثمّ أجاز رافعا لما قيل له: إنّه رام، فقال سمرة بن جندب الفزاري لزوج أمه- مري بن سنان- أجاز رافعا وردّني وأنا أصرعه، فأعلمه صلى الله عليه وسلم، فقال: تصارعا، فصرع سمرة رافعا، فأجازه (والجيش) أي: جيش المسلمين المخلصين (ذالا) أي: سبع مئة (انبرى) أي: اعترض. أمّا المشركون.. فثلاثة آلاف رجل كما تقدم، وتلك صورة من إيمان الصحابة الصادق، وبطولتهم الحقّة حيث نافسوا بأنفسهم، وأرواحهم، وتسابقوا إلى ميدان القتال، وهم في هذه السن الصغيرة رضوان الله عليهم وجعلنا من محبيهم وحزبهم، آمين. إعطاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم السيف لأبي دجانة: (وقال) صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد أخذ سيفا: (من يأخذ هذا السيفا بحقّه) «1» فقام إليه رجال، من أبطال المسلمين كل واحد يريد أن يأخذه منهم غمير والزّبير، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة، فقال: وما حقه   أبا يوسف القاضي هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن حبتة الأنصاري) . قال في «الحلبية» : (وقد دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم له بالبركة، ما مات حتى كان أبا لعشرين، وعمّا لأربعين، وخالا لأربعين) اهـ (1) ذكر أبو الربيع في «الإكتفاء» - كما في «شرح المواهب» -: (أنّه كان مكتوبا في إحدى صفحتيه: في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة ... والمرء بالجبن لا ينجو من القدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أبو دجانة وخال إذ مشى ... ومشيه من بغضه جلّ حشا يا رسول الله، قال: «أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني» فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله (فناله واستوفى أبو دجانة) سماك ابن خرشة الأنصاريّ الساعديّ، المتفق على شهوده بدرا؛ فإنّه كان رجلا شجاعا «1» (وخال) أي: تكبّر (إذ مشى) في ميدان القتال، (ومشيه من بغضه) أي: الله عزّ و (جلّ حشا) هذا الموطن؛ فإنّ الله لا يبغض هذه المشية فيه؛ لدلالتها على احتقار العدوّ، وعدم الاكتراث به، وحشا: لغة في حاشا. قال الزّبير بن العوام: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة وقلت: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه، وسألته إياه قبله، فأعطاه أبا دجانة وتركني، فقلت: والله لأنظرنّ ما يصنع أبو دجانة، فاتبعته، فأخذ عصابة له حمراء، قال في «المواهب» : مكتوب في أحد طرفيها: نصر من الله وفتح قريب، وفي طرفها الآخر: الجبانة في الحرب عار، ومن فرّ لم ينج من النار، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت، فخرج وهو يقول:   (1) قال في «الإستيعاب» : (كان أبو دجانة بهمة من البهم الأبطال، استشهد يوم اليمامة، وهو ممّن اشترك في قتل مسيلمة يومئذ مع عبد الله بن زيد بن عاصم ووحشي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي دجانة وعتبة بن غزوان) اهـ وسيأتي له ذكر في هذه الغزوة أيضا، فارتقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيّول «1» ... أضرب بسيف الله والرسول قال ابن إسحاق: (فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلّا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلّا ذفّف «2» عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة، فاتّقاه بدرقته، فعضت بسيفه «3» ، فضربه أبو دجانة فقتله، ثمّ رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند، ثمّ عدل السيف عنها؛ يعني: إكراما لسيف رسول الله أن يضرب به امرأة) . قال الزّبير فقلت: الله ورسوله أعلم. وبدأت نار الحرب تشتعل وأوّل من أشبّها أبو عامر الفاسق «4» . قال في «الإمتاع» : (طلع في خمسين من قومه مع عبدان   (1) الكيول- بفتح الكاف، وتشديد المثنّاة التحتية المضمومة-: مؤخر الصفوف. (2) بالذال المعجمة والمهملة، وشد الفاء الأولى مفتوحات: أسرع قتله. (3) عض به عضا: مسكه ولامسه. (4) هو عبد بن عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان، أحد بني ضبيعة، وكان يسمى في الجاهلية: الراهب، فسمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم: الفاسق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 واستأصلوا أهل اللّوا فانهزموا ... وشمّرت عن سوقهنّ الحرم قريش فنادى يا للأوس أنا أبو عامر، فقالوا له لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق: فقال لقد أصاب قومي بعدي شر، فتراموا بالحجارة ساعة حتى ولّى) اهـ استئصال أهل اللواء من المشركين: ودعا أهل اللواء إلى المبارزة، فاستأصلهم المسلمون كما قال الناظم: (واستأصلوا أهل اللّوا فانهزموا) أي: أتى المسلمون على جميع أهل اللواء قتلا، وهم آل أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار، واللواء: أحد الخمسة التي أتحف بها قصيّ ابنه الكبير عبد الدار لمّا لم تبلغ همّته همّتهم، قال الناظم في «عمود النسب» : حجابة سقاية رفاده ... لواء النّدوة بالقلاده أتحف عبد الدار إذ رآه ... دون مدى إخوته مداه تحريض أبي سفيان قريشا على الحرب: قال في «روض النّهاة» : (لمّا ورد المشركون أحدا.. قام أبو سفيان، فحرّض الناس، فقال: يا بني عبد الدار؛ إنّكم قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم وإنّما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت.. زالوا، فإمّا أن تكفونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 لواءنا، وإمّا أن تخلوا بيننا وبينه.. فنكفيكموه، فهمّوا به وتوعّدوه، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟! ستعلم غدا إذا التقينا ما نصنع! وذلك ما أراده أبو سفيان) . تحريض هند والنسوة قريشا على الحرب: فلمّا التقى الناس.. قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، فقالت هند: ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأديار ضربا بكلّ بتّار وقالت: إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النّمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق فاقتتل الناس، وحميت الحرب، والرماة يرشقون «1» خيل المشركين، كما أمرهم صلى الله عليه وسلم، يردونها هوارب، فصاح طلحة بن أبي طلحة صاحب اللواء: من يبارز؟ فقام إليه عليّ فقتله، وهو كبش الكتيبة- أي: رئيسها-   (1) أي: يرمونها بالنبل، وهو من (باب نصر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مولولات إثرهم ورغبا ... في المغنم الرّماة حين استلبا ثمّ حمل اللواء أخوه عثمان «1» ، فحمل عليه حمزة، فقطع جناحه، حتى انتهى إلى مؤتزره، وبدا سحره، ثمّ حمله أبو سعد أخوهما، فقتله سعد بن أبي وقاص، ثم حمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فقتله عاصم بن ثابت. ثمّ حمله الحارث أخوه، فقتله عاصم أيضا. ثمّ حمله كلاب أخوهما، فقتله الزّبير، ثمّ حمله الجلاس أخوهم، فقتله طلحة بن عبيد الله، ثمّ حمله أرطاة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف، فقتله عليّ، ثمّ حمله شريح بن قارظ، فلا يدرى من قتله. ثمّ حمله غلام اسمه صؤاب، فقيل: قتله عليّ، وقيل: سعد بن أبي وقّاص، وقيل: قزمان العبسيّ، وهو أثبت الأقاويل «2» . فهؤلاء عشرة. (وشمّرت) أي: رفعت (عن سوقهنّ) جمع ساق: ما بين الكعب إلى الرّكبة (الحرم) بضم ففتح: جمع حرمة، وهي ما يحمى ويقاتل عليه، والمراد به هنا: نساء قريش: هند وصواحباتها الخارجات؛ لئلّا يفرّ الناس. (مولولات) أي: فعلن ذلك حال كونهنّ داعيات بالويل، وهو حلول الشر للجد في الهروب (إثرهم) أي: خلف رجالهنّ الفارين. ولما كانت تلك الهزيمة عليهم، بقتل   (1) أي: وهو يقول: إنّ على أهل اللواء حقا ... إن يخضبوا الصعدة أو تندقا (2) هكذا في «شرح المواهب» وبه جزم ابن إسحاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 حاملي لوائهم.. بقي اللواء ملقى في الأرض لا يلتفت إليه. ثمّ أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية «1» ، ورفعته لهم، فاستداروا به، واجتمعوا عنده، وفي ذلك يعيّرهم سيدنا حسان رضي الله عنه بقوله: ولي البأس منكم إذ رحلتم ... أسرة من بني قصيّ صميم عمرة تحمل اللواء وطارت ... في رعاع «2» من القنا مخزوم لم تطق حمله العواتق منكم ... إنّما يحمل اللواء النجوم اشتغال الرماة بالغنائم عن الحرب: ثمّ تبعهم المسلمون حتى أزالوهم، ووقفوا ينتهبون العسكر، ويأخذون ما فيه من الغنائم، واشتغلوا عن الحرب (ورغبا في المغنم) بفتح الميم الأولى؛ أي: في أخذ الغنمية (الرماة) جمع رام بالنبل وهم الخمسون الذين أمرهم الرسول عليه الصّلاة والسّلام أن يثبتوا في مركزهم على جبل عينين، وأميرهم عبد الله بن جبير (حين استلبا) بالبناء للمفعول؛ أي: أخذ اللواء من أيدي المشركين، وبقي ملقى بالأرض، حتّى أخذته عمرة الحارثية.   (1) قال في «شرح المواهب» عن البرهان: (لا أعلم لها إسلاما، والظاهر: هلاكها على دينها) اهـ (2) الرعاع: الأحداث الطغام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وخالف الرّماة أمر المصطفى ... بالصّبر والثّبات خلف الحنفا فتركوا ظهورهم لخالد ... فكرّ راجعا بكلّ حارد (وخالف الرماة) أي: أكثرهم (أمر المصطفى) صلى الله عليه وسلم (بالصبر) في موطن الحرب، (والثبات خلف الحنفا) المجاهدين، وقال عليه الصّلاة والسّلام: «إن رأيتمونا تخطّفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتّى أرسل إليكم» لكن رئيس الرماة عبد الله بن جبير في أقل من عشرة من أصحابه لم يخالف، بل ذكّرهم أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر والثبات فقالوا: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وقد انهزم المشركون، فما بقاؤنا هنا؟ فانطلقوا يتبعون العسكر، وينتهبون معهم، وأخلوا الجبل، حتى كان من شؤم المخالفة له صلى الله عليه وسلم في أمره ما أشار له الناظم بقوله: حملة خالد على من بقي من الرّماة: (فتركوا) أي: المسلمون (ظهورهم لخالد) بن الوليد، وقد أسلم رضي الله عنه بعد الحديبية مرجع النبي صلى الله عليه وسلم منها (فكرّ) بتشديد الراء، يتعدّى بعلى، بمعنى عطف، وبعن: بمعنى رجع، فقوله: (راجعا) حال مؤكدة على الثّاني، والمعنى: أنّه لما نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل من الرّماة، وقلة أهله.. كرّ بالخيل (بكل) رجل (حارد) أي: غضبان، فحملوا على من بقي من الرماة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وحالت الرّيح ودارت الرّحى ... وذاق من خالفه ما اجترحا فقتلوهم، وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير، وانتقضت صفوف المسلمين. شؤم مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: (وحالت الريح) قلت: يصح قراءته بالجيم المعجمة، من الإجالة بمعنى الإدارة، والمراد بالريح: القوة؛ أي: ودارت القوة للعدوّ على المسلمين بشؤم المخالفة، ويصح قراءته بالحاء المهملة؛ أي: حالت الريح، وتغيرت إلى دبور، بعد أن كانت صبا، والله أعلم (ودارت الرحى) أي: رحى الحرب. قال في «روض النّهاة» : (إن أراد بها حومة الحرب.. فحسّية، وإن أراد الرحى المعروفة.. فاستعارة عن انقلابها إلى الهزيمة، إكراما وتمحيصا للمسلمين، أكرم الله تعالى من أكرم منهم بالشهادة) . روى الإمام أحمد والحاكم عن ابن عباس: أنّهم لما رجعوا.. اختلطوا بالمشركين، والتبس العسكران، فلم يتميزوا؛ أي: حتى صاروا يقاتلون من غير شعارهم الذي هو: (أمت أمت) فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض (وذاق من خالفه) صلى الله عليه وسلم عاقبة (ما اجترحا) أي: اكتسب من المخالفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وصرخ الصّارخ أن مات النّبي ... فارتهبوا لذاك كلّ الرّهب وقال إذ ذلك: «لو كان لنا» ... من دهش قائلهم فافتتنا (وصرخ) أي: صاح (الصارخ) إبليس اللعين وقد تصور في صورة جعال بن سراقة (أن مات النّبي) صلى الله عليه وسلم؛ ليرهب بذلك المؤمنين (فارتهبوا لذاك) الخبر المشؤوم (كل الرّهب) الخوف، وقيل: إنّ الصارخ هو عبد الله بن قميئة بوزن سفينة، لما قتل مصعب بن عمير، فظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه كان يشبهه إذا لبس اللأمة، فصاح: أن قتلت محمّدا. قال موسى بن عقبة: ولما فقد عليه الصّلاة والسّلام قال رجل منهم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فارجعوا إلى قومكم؛ ليؤمّنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنّهم داخلوا البيوت. وقال آخرون: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، أفلا تقاتلون على دينكم، وعلى ما كان عليه نبيّكم، حتى تلقوا الله عزّ وجلّ شهداء؟ منهم أنس «1» بن مالك، شهد له بهذه المقالة عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ. (وقال إذ ذلك) أي: وقت صرخ الصارخ: أن مات النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (لو كان لنا) من الأمر شيء ما قتلنا   (1) قال اليعمري في «عيون الأثر» : (كذا وقع في هذا الخبر أنس بن مالك، وإنّما هو أنس بن النضر، عم أنس بن مالك بن النضر) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ونجل مطعم جبير إذ قتل ... حمزة عمّه طعيمة احتفل لقتله بأن عليه ذمّرا ... وحشيّه يومئذ وحرّرا ههنا، قولا صادرا (من دهش) وتحيّر، وفاعل قال: (قائلهم) معتّب بن قشير، وكان يرمى بالنفاق، وقيل: كان منافقا (فافتتنا) أي: وقع في الفتنة بتلك المقالة، وقيل: لم يكن منافقا؛ لأنّه شهد بدرا، ولم يشهدها منافق. استشهاد سيدنا حمزة: (ونجل مطعم) بن عدي بن نوفل بن عبد مناف (جبير) بدل من نجل (إذ قتل حمزة) بن عبد المطلب، فاعل قتل، والمفعول (عمّه طعيمة) بن عديّ؛ يعني: أنّ حمزة عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لما قتل ببدر طعيمة عم جبير.. (احتفل) أي: تهيّأ نجل مطعم (لقتله) أي: حمزة، وذلك (بأن عليه) يتعلق بقوله: (ذمّرا) بألف الإطلاق؛ أي: بأن حضّ عليه (وحشيّه) غلامه المدعو وحشيا بن حرب الحبشيّ؛ فلذلك أضافه إلى ضميره (يومئذ) أي: يوم أحد (وحرّرا) أي: جعله حرّا إن هو قتله. روى الإمام البخاريّ في «صحيحه» بسنده إلى جعفر بن عمرو بن أميّة الضمريّ قال: (خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار، فلمّا قدمنا حمص.. قال عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشيّ نسأله عن قتل حمزة؟ قلت: نعم، وكان وحشيّ يسكن حمص، فسألنا عنه، فقيل لنا: هو ذاك في ظل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قصره، كأنّه حميت «1» ، قال: فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير، فسلّمنا، فردّ السلام، قال: وعبيد الله معتجر «2» بعمامته، ما يرى وحشيّ إلّا عينيه ورجليه، فقال عبيد الله: يا وحشيّ؛ أتعرفني؟ قال: فنظر إليه، ثمّ قال: لا والله، إلّا أنّي أعلم: أن عديّ بن الخيار تزوج امرأة يقال لها: أمّ قتال بنت أبي العيص، فولدت له غلاما بمكة، فكنت أسترضع له، فحملت ذلك الغلام مع أمّه، فلكأنّي إذ نظرت إلى قدميك.. نظرت إليه «3» قال: فكشف عبيد الله عن وجهه، ثمّ قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم. إنّ حمزة قتل طعيمة بن عديّ بن الخيار ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمّي.. فأنت حرّ، قال: فلمّا أن خرج الناس عام عينين- وعينين: جبل بحيال «4» أحد، بينه وبينه واد- خرجت مع الناس إلى القتال، فلمّا اصطفوا للقتال.. خرج سباع- يعني ابن عبد العزّى الخزاعيّ ثم الغبشانيّ- فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فقال: يا سباع؛ يا ابن أم أنمار، مقطعة   (1) بوزن رغيف: زق كبير للسمن، يشبه به الرجل السمين. (2) بجيم معجمة مكسورة، بأن يلف العمامة على الرأس من غير أن يديرها على حنكه. (3) قال الشهاب القسطلاني: (إنّه شبه قدميه بقدم الغلام الذي حمله، فكأنّه هو هو، وكان بين الرؤيتين نحو من خمسين عاما) اهـ (4) بكسر الحاء المهملة؛ أي: من ناحيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 البظور «1» ، أتحادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: ثمّ شدّ عليه، فكان كأمس الذاهب. قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلمّا دنا مني.. رميته بحربتي، فأضعها في ثنّته- يعني عانته- حتى خرجت من بين وركيه؛ قال: فكان ذلك آخر العهد به، فلمّا رجع الناس.. رجعت معهم، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام. ثمّ خرجت إلى الطائف، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا، فقيل لي: إنّه لا يهيج الرّسل، قال: فخرجت معهم، حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا رآني.. قال: «أنت وحشيّ؟» قلت: نعم، قال: «أنت قتلت حمزة؟» قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك، قال عليه الصّلاة والسّلام: «فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عني؟» قال: فخرجت. فلمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذّاب، قلت: لأخرجنّ إلى مسيلمة، لعلّي أقتله، فأكافىء به حمزة، قال: فخرجت مع الناس، فكان من أمره ما كان، فإذا رجل في ثلمة جدار، كأنّه جمل أورق «2» ، ثائر الرأس، قال: فرميته بحربتي، فأضعها بين ثدييه، حتى خرجت من   (1) جمع بظر، وهو اللحمة التي تقطع من فرج المرأة، الكائنة بين أسكتيها عند ختانها، وكانت أمه ختانة، تختن النساء بمكة، فعيره بذلك. (2) أي: لونه مثل الرماد، وكان ذلك من غبار الحرب. اهـ «فتح» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ودقّه في شدقه ابن حرب ... فقال «ذق عقق» أي ذق حربي أبلى بلاء حسنا قزمان ... على الحفاظ فله الخسران بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل «1» من الأنصار، فضربه بالسيف على هامته) اهـ قال ابن هشام: (فبلغني: أنّ وحشيّا لم يزل يحدّ في الخمر، حتى خلع من الديوان، فكان عمر بن الخطاب يقول: قد قلت: إنّ الله لم يكن ليدع قاتل حمزة) . استنكار فعلة أبي سفيان بحمزة بعد استشهاده: (و) بعد ما قتل وحشيّ سيدنا حمزة رضي الله عنه (دقّه في شدقه) أي: جانب فمه بزجّ رمحه أبو سفيان صخر (بن حرب فقال: ذق عقق) بوزن عمر، وهو فاعل العقوق، ضد البر؛ أي: ذق يا عاق جزاء فعلك؛ فلذا قال: (أي: ذق حربي) . قال ابن إسحاق: (إنّ سيد الأحابيش الحليس بن زبّان مرّ بأبي سفيان وهو يضرب بزج لرمح في شدق سيدنا حمزة، ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بني كنانة؛ هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما، فقال: ويحك! اكتمها عني، فإنّها كانت زلّة. مقتل قزمان العبسي منافقا كما أخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك: (أبلى) بالبناء للفاعل؛ أي: اختبر نفسه في الحرب (بلاء) أي: اختبارا (حسنا قزمان) بضم القاف ابن الحارث   (1) هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، على الأشهر الذي جزم به الواقدي وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وعكسه الأصيرم المخردل ... ليس له غير القتال عمل العبسي، حليف الأنصار، فقد قتل في ذلك اليوم سبعة أو ثمانية من المشركين، ووصف البلاء بالحسن باعتبار ما يؤول إليه من الظفر والغنيمة أو الشهادة، لكن لم يتم ذلك لقزمان؛ لأنّه إنّما كان يقاتل (على الحفاظ) بكسر الحاء المهملة؛ أي: الحمية، والذب عن المحارم؛ فلذلك قال الناظم: (فله الخسران) فهو من أهل النار، كما أخبر بذلك عليه الصّلاة والسّلام. وجاء في قزمان هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» ولما قتل ذلك العدد.. هنّىء به فقال: كلا، إن قاتلت إلّا عن أحساب قومي، فلمّا آذته الجراحات.. عمد إلى نفسه فقتلها، فجاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان شقّ عليه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ قزمان من أهل النار» مع ما يرى من فعله، فقال: أشهد أنّك رسول الله، قال: «وما ذاك؟» قال: الذي قلت لنا: «إنّه من أهل النار» قتل نفسه. استشهاد أصيرم بني عبد الأشهل: (وعكسه) أي: عكس قزمان عمرو بن ثابت بن وقش بن عبد الأشهل (الأصيرم) بالتصغير، المقاتل في سبيل الله لا حمية، فإنّه لما خرج إلى أحد.. وقع الإسلام في قلبه، فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ أسلم أم أقاتل؟ فقال: «أسلم وقاتل» فأسلم، وأخذ سلاحه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقاتل حتى أثبتته الجراحات، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة.. إذا هم به، فقالوا: والله إنّ هذا للأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنّه لمنكر لهذا الحديث. فسألوه: ما جاء بك يا عمرو هنا؟ أحدبا على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، وأسلمت، ثمّ أخذت سيفي، فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثمّ لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّه من أهل الجنة» . (المخردل) بالخاء المعجمة والدال المهملة؛ أي: المقطع لحمه في الله (ليس له غير القتال) في سبيل الله (عمل) من أعمال الإيمان، فدخل الجنة بمجرد الإيمان، ومن ثمّ كان أبو هريرة يقول: حدّثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلّ قطّ، فإذا لم يعرفه الناس قال: أصيرم بني عبد الأشهل. ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم والثابتون معه: ولمّا انكشف المسلمون بسبب مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم.. ثبت صلى الله عليه وسلم بإجماع، فروى البيهقي عن المقداد: (فو الّذي بعثه بالحق؛ ما زالت قدمه شبرا واحدا، وإنّه لفي وجه العدوّ، تفيء إليه طائفة من أصحابه مرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وثبتت مع النّبيّ اثنا عشر ... بين مهاجر وبين من نصر منهم أبو دجانة وابن أبي ... وقّاص الّذي افتداه بالأب وتفترق مرة، فربّما رأيته قائما يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر، حتى انحازوا عنه) . (وثبتت مع النّبي اثنا عشر) رجلا، ولا ثبوت الجبال الرواسي (بين مهاجر وبين من نصر) من الكماة الأشاوس لحديث البراء في «البخاريّ» : (لم يبق مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا) . (منهم أبو دجانة) سماك بن خرشة المتقدم؛ فإنّه ترّس بنفسه دونه صلى الله عليه وسلم، يقع النّبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النّبل. (و) سعد (بن أبي وقّاص) بن أهيب بن عبد مناف «1» (الذي افتداه)   (1) يكنى أبا إسحاق، دعا له صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهمّ؛ استجب لسعد إذا دعاك» رواه الترمذي وابن حبان والحاكم، فكان دعاؤه أسرع الدعاء إجابة، وممّا شوهد في إجابة دعائه: ما رواه الإمام البخاري بسنده إلى جابر بن سمرة قال: (شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنّه لا يحسن يصلي، فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق؛ إنّ هؤلاء يزعمون أنّك لا تحسن تصلي، قال أبو إسحاق: أمّا أنا والله.. فإنّي كنت أصلّي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، أصلّي صلاة العشاء فأركد- أي: أطول- القيام في الأوليين، وأخفف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة، فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا إلّا سأل عنه، ويثنون عليه معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقال رجل منهم، يقال له: أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا.. فإنّ سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله؛ لأدعونّ بثلاث: اللهمّ؛ إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة.. فأطل- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وطلحة وفيه شلّت يده ... إذ اتّقى النّبل بها يصمده رسول الله صلى الله عليه وسلم (بالأب) ففي «صحيح البخاريّ» بسنده إلى عبد الله بن شدّاد قال: سمعت عليّا يقول: ما سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلّا لسعد بن مالك، فإنّي سمعته يقول يوم أحد: «يا سعد؛ ارم، فداك أبي وأمي» . (و) منهم (طلحة) بن عبيد الله الجواد بنفسه، الفياض بماله، من قضى نحبه، وأرضى ربه، ففي الصحيح بسنده إلى قيس قال: رأيت يد طلحة شلّاء، وقى بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد؛ فقد قاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالا شديدا حين أحدق به المشركون من كل ناحية، وصار يذبّ بالسيف من بين يديه ومن ورائه، وعن يمينه، وعن شماله، يدور حوله، ويترّس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن هو إلّا جنة بنفسه عن رسول الله حتى انكشفوا (وفيه) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم (شلّت يده) بالبناء للفاعل والمفعول: أصابها الشلل، وهو فساد اليد (إذ اتّقى) أي: لأنّ طلحة كان اتقى (النبل) والسهام (بها) أي: بيده   عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن. قال: أي: عبد الملك بن عمير أحد الرواة-: وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنّه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهنّ) اهـ ورواه أيضا مسلم، وأبو داوود، والنسائي. مات سعد بالعقيق من المدينة المنوّرة، ودفن بالبقيع سنة بضع وخمسين من الهجرة. رضي الله تعالى عنه. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وتحته جلس أن جهضه ... درعاه والجراح فاستنهضه حال كون النبل (يصمده) بضم الميم؛ أي: يقصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. (وتحته) صلى الله عليه وسلم (جلس) أي: طلحة، فرفعه حتى استوى على الصخرة (أن جهضه درعاه) أي: غلبه عن الصعود درعاه، وكان ظاهر عليه الصّلاة والسّلام بين درعين (و) غلبته (الجراح) التي أصابته ذلك اليوم عن الصعود (فاستنهضه) أي: أراد منه بذلك الفعل: أن ينهض عليه الصّلاة والسّلام، ويقوى على الصعود. وفي طلحة يقول سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: حمى نبيّ الهدى والخيل تتبعه ... حتى إذا ما التقوا حامى على الدّين صبرا على الطعن إذ ولّت جماعتهم ... والناس ما بين مهزوم ومفتون يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ... لك الجنان وكم زوّجت من عين يشير بقوله: (يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت) إلى قوله صلى الله عليه وسلم لطلحة في ذلك اليوم: «أوجب طلحة» أي: أحدث أمرا يستوجب به الجنة، قالوا: وكان لطلحة يومئذ المقام المحمود. وفي هذا اليوم سمّاه طلحة الخير؛ رضي الله تعالى عنه، قال في «الهمزية» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والعمران وعليّ وعفا ... إلهنا عن الّذي منهم هفا وثبتت نسيبة المبايعه ... قبل وعن خير الورى مدافعه طلحة الخير المرتضيه رفيقا ... واحدا يوم فرّت الرّفقاء فقد كان رضي الله عنه أعظم الناس غناء ودفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (و) ثبت معه صلى الله عليه وسلم (العمران) : أبو بكر وعمر (وعليّ) بن أبي طالب (وعفا إلهنا) بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (عن الذي منهم هفا) أي: زلّ، يقال: هفا الرجل: زل، وهي الهفوة، للزلة والسقطة، ومنه لكل عالم هفوة، والإنسان كثير الهفوات، والزلّة في قول المؤمنين الذين جالوا يومئذ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وأولى بالعفو من لم يقل، وهذا بناء على ما قيل: إنّ الآية نزلت في جميع المؤمنين الذين جالوا، وقيل: نزلت في الذين جالوا دون الذين قالوا تلك المقالة، كعثمان بن عفان، وسعد بن عثمان، وعقبة بن عثمان من بني زريق، وعليه فهفا: بمعنى أسرع. قال في «القاموس» : هفا يهفو هفوا وهفوة: أسرع وخفّ. (وثبتت) مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم (نسيبة) بالتكبير، كما ضبطه غير واحد، وهي أم عمارة بنت كعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 المازنية «1» (المبايعة) رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجها زيد بن عاصم (قبل) أي: قبل أحد، وذلك بالعقبة الثانية، ولم يشهدها من النساء إلّا هي وأختها، كما قاله في «الإصابة» . (وعن خير الورى مدافعه) بالسيف ضربا، والقوس رميا، دفاع الكماة الأبطال رضي الله عنها، فإنّها قالت: خرجت أوّل النهار، حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال، وأذبّ عنه صلى الله عليه وسلم بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت- أي: وصلت- الجراح إليّ، أصابني ابن قمئة أقمأه الله، لما ولّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أقبل يقول: دلّوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، قالت: فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممّن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته على ذلك ثلاث ضربات، ولكن عدوّ الله كان عليه درعان. قالت أم سعد بنت سعد بن الرّبيع: فرأيت على عاتقها   (1) من بني مازن بن النجار الأنصارية، قال أبو عمر: (شهدت العقبة وأحدا مع زوجها زيد بن عاصم وولديها حبيب، وعبد الله، وشهدت بيعة الرضوان، وجرحت يوم اليمامة اثنتي عشرة جراحة، وقطعت يدها، وحبيب هو الذي أرسله النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب بكتاب، فقال له: أتشهد أنّ محمّدا رسول الله؟ فيقول: نعم، فقال: أتشهد أنّي رسول الله؟ فيقول: أنا أصم، قال له ذلك مرارا، فقطعه- لعنه الله- عضوا عضوا) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وجرحت فيه وشلّت يدها ... وللتّبرّك الورى تقصدها في حفرة وقع خير مرسل ... فناشه طلحة والصّهر علي جرحا أجوف له غور، وكان معها يقاتل ابناها، عبد الله وحبيب ابنا زيد بن عاصم، قال عليه الصّلاة والسّلام لابنها عبد الله: «بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان، ومقام ربيبك- يعني غزية بن عمرو زوج أمه- خير من مقام فلان وفلان، ومقامك خير من مقام فلان وفلان رحمكم الله أهل بيت» . قالت أم عمارة: ادع الله أن نرافقك في الجنة، قال: «اللهمّ؛ اجعلهم رفقائي في الجنة» . قالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا أو جرحت. (وجرحت فيه) أي: في دفاعها ذلك المحمود اثني عشر جرحا، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف (وشلّت) أي: يبست (يدها) وعاشت بعد ذلك دهرا يقصدها الناس تبرّكا، كما قال (وللتبرّك الورى تقصدها) من مسافة بعيدة، فتمسح يدها الشّلاء على العليل، وتدعو له، فيشفيه الله تعالى. ما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد: (في حفرة) من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون (وقع خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (فناشه) أي: تناوله (طلحة) بن عبيد الله التيميّ السابق (والصّهر علي) بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 إذ عتبة هشّ رباعيته ... وشقّ من شقوته شفته عليّ بيده، واحتضنه طلحة حتى استوى قائما. (إذ عتبة) أي: وقع صلى الله عليه وسلم في حفرة حين عتبة بن أبي وقاص (هشّ) أي: ضرب فكسر (رباعيته) بفتح الراء وتخفيف الياء، السن التي بين الثنيّة والناب؛ لأنّه رماه بأربعة أحجار، فكسر حجر منها رباعيته اليمنى السفلى، كما في رواية ابن هشام. قال في «شرح المواهب» : (والمراد: أنّها كسرت فذهب منها فلقة، ولم تقع من أصلها، قاله في «الفتح» ) . (وشق) عتبة (من شقوته) مثلث الشين؛ أي: من شقائه (شفته) صلى الله عليه وسلم السفلى. روى ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: ما حرصت على قتل رجل قطّ حرصي على قتل أخي عتبة لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه رسوله» . واعلم: أنّه ليس في شيء من الآثار ما يدل على إسلامه، بل فيها ما يصرح بموته على الكفر، قاله في «شرح المواهب» . قال السهيلي في «الروض» : (لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحلم إلّا وهو أبخر، أي منتن الفم، أو أهتم، أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وشجّه ابن قمئة وابن شهاب ... صلّى عليه الله ما سحّ سحاب مكسور الثنايا من أصلها، يعرف ذلك في عقبه) اهـ قلت: وهذا من شؤم الآباء على الأبناء، نسأل الله السلامة والعافية بمنّه وكرمه. (وشجه) عليه الصّلاة والسّلام عبد الله (بن قمئة) ويقال: ابن قميئة، في وجنته، فدخلت فيها حلقتان من المغفر، وقال حين ذاك: خذها وأنا ابن قمئة، فقال صلى الله عليه وسلم: «أقمأك الله» أي: أذلّك وصغّرك «1» . (و) عبد الله (ابن شهاب) الزّهريّ، وقد أسلم بعد ذلك رضي الله عنه، وهو جدّ الإمام محمّد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب الزّهري، شيخ الإمام مالك، قيل له: أكان جدك عبد الله شهد بدرا؟ فقال: نعم، ولكن في الجانب الآخر، وأخو عبد الله هذا عبد الله الأكبر من مهاجرة الحبشة، ومات بمكة قبل الهجرة رضي الله عنه. قال في «الهمزية» معربا أنّ هذه الشجة زادته حسنا وجمالا على حسنه وجماله: مظهر شجّة الجبين على البر ... ء كما أظهر الهلال البراء   (1) قد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم فيه؛ فإنّه بعد الوقعة خرج إلى غنمه، فوافاها على أعلى الجبل، فأخذ يعترضها، فشدّ عليه كبشها، فنطحه نطحة أردته من شاهق الجبل، فتقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وازدرد الدّمّ أبو الخدريّ ... وانتزع الحلقة في النّبيّ ستر الحسن منه بالحسن فاعجب ... لجمال له الجمال وقاء فهو كالزّهر لاح من سجف ... الأكمام والعود شقّ عنه اللّحاء وقال سيدنا حسان رضي الله عنه، في وصف جبينه الشريف وأحسن: متى يبد في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدّجى المتوقد فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظاما لحقّ أو نكالا لملحد (صلّى عليه الله) وسلّم (ما سحّ) صبّ (سحاب) بالمطر، واتصلت عيون بنظر، والمقصود: الدعاء المستمر. (وازدرد) أي: ابتلع (الدم) من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: دم جراحاته مالك بن سنان رضي الله عنه، وهو (أبو) أبي سعيد (الخدريّ) وحين امتصه قال عليه الصّلاة والسّلام: «من مسّ دمي دمه لم تصبه النار» . وفيه من الفقه أنّ دم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف غيره من الدماء في التحريم، وأنّ دمه طاهر، حيث لم يغسل منه فمه، ولم يأمره بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أبو عبيدة فكان أثر ما ... بساقط الثّنيّتين أعلما بملء درقة من المهراس ... جاء ليشرب شفيع النّاس (وانتزع الحلقة) من المغفر (في) جرح (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم الذي جرحه ابن قمئة، وهما حلقتان، وفاعل انتزع هو قوله: (أبو عبيدة) عامر بن الجراح انتزع إحداهما، فسقطت ثنيته، ثمّ انتزع الأخرى، فسقطت ثنيته الأخرى (فكان) أبو عبيدة (أثرما) بفتح الهمزة وهو ساقط الثنيتين أو إحداهما، والرّباعيات، وهو هنا ساقط الثنيتين، فلذلك قال: (بساقط الثنيتين) والباء سببية. وقوله: (أعلما) خبر بعد خبر لكان. والأعلم كأحمر: الرجل المشقوق الشفة العليا، ومؤنثه علماء، ويقابله الأفلح، وهو: مشقوق الشفة السفلى، قال العلّامة الزمخشري في أبيات: ومذ أفلح الجهّال أيقنت أنّني ... أنا الميم والأيام أفلح أعلم (بملء درقة) بالتحريك وقد تسكن الراء كما هنا: الجحفة «1» (من المهراس) بيان لقوله: (بملء) المتعلق بقوله: (جاء) والمهراس، بكسر الميم: صخرة منقورة تمسك الماء فيتوضّأ منه، شبه بالمهراس الذي هو الهاون، قال السّهيليّ: (وهم المبرّد، فجعل المهراس اسما علما   (1) هي الترس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 حيدرة فعافه ورحضا ... عن وجهه الدّمّ ففاز بالرّضا للمهراس الذي بأحد خاصة، وإنّما هو اسم لكل حجر نقر، فأمسك الماء) . يعني: أنّه لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشّعب.. جاء بالماء الذي ملأ به الدرقة (ليشرب شفيع الناس) صلى الله عليه وسلم منه (حيدرة) لقب لسيدنا علي رضي الله عنه، وهو فاعل لجاء، فلمّا جاء به.. وجد له ريحا (فعافه) أي: كرهه ولم يشرب منه (ورحضا) بالحاء المهملة المفتوحة: أي غسل (عن وجهه) الشريف (الدم) وصبّ على رأسه (ففاز) سيدنا علي رضي الله عنه (بالرضا) من الله تعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. قال في «شرح المواهب» : (وهذا وقع قبل انصراف الكفار من عليّ وحده، ثمّ لمّا انصرفوا- كما في رواية الطبراني- أتت السيدة فاطمة رضي الله عنها فجعلت تغسل، وعلي يسكب، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: «اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه نبيه» رواه البخاريّ) . قال في «روض النّهاة» : (إنّ عليّا وفاطمة رضي الله عنهما كانا يغسلان الدم، ويزداد سيلانا، فعمدت السيدة فاطمة رضي الله عنها إلى حصير فأحرقته، ووضعته في الجرح، فرقأ الدم، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سيفه، وقال: «اغسلي يا بنيّة هذا، فقد والله صدقني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 اليوم «1» » ثمّ ناولها عليّ سيفه، وقال: وهذا فاغسليه، فقد صدقني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كنت أحسنت القتال، فقد أحسنه معك عاصم بن ثابت، وأبو دجانة، والحارث بن الصّمة، وسهيل بن حنيف» وقال رضي الله عنه: أفاطم هاء السّيف غير ذميم ... فلست برعديد ولا بلئيم وهبّت يومئذ ريح سمعوا فيها قائلا يقول: لا سيف إلّا ذو الفقا ... ر ولا فتى إلّا عليّ ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني النجار، ثمّ من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فلمّا نعوا إليها.. قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أمّ فلان، هو بحمد الله كما تحبّين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته.. قالت: كلّ مصيبة بعدك جلل؛ أي: حقيرة. قلت: ومن هذا تعرف مقدار ما يحمل الأصحاب الكرام من محبة صادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا فرق بين   (1) هذا يدل على أنّه صلى الله عليه وسلم ضرب بسيفه في هذه الغزوة حتى أصابه الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 صغير وكبير، ورجل وامرأة. وإليك حادثة أخرى من هذا الطراز تزداد بها حبا، ويقينا، وإيمانا وعقيدة في شأن هؤلاء السادة الأبطال العظام الذين يفخر بهم الإسلام. يقول العلّامة المقريزي في «الإمتاع» : (خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج إلى أحد وهو يقول: اللهمّ؛ لا تردّني إلى أهلي، فقتل شهيدا، واستشهد ابنه خلاد وعبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي، فحملتهم هند بنت عمرو بن حرام زوجة عمرو بن الجموح على بعير لها تريد بهم المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها وقد خرجت عائشة في نسوة تستروح الخبر، ولم يضرب الحجاب يومئذ. فقالت لها: عندك الخبر، فما وراءك، أمّا رسول الله.. فصالح، وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا، قالت عائشة: من هؤلاء؟ قالت: أخي وابن خلاد وزوجي عمرو بن الجموح، قالت: فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم قالت: حل- تزجر بعيرها- فبرك. فقالت عائشة: لما عليه، قالت: ما ذاك به، لربما حمل ما يحمل البعيران، ولكني أراه لغير ذلك، وزجرته فقام، فوجّهته راجعة إلى أحد، فأسرع. فرجعت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فقال: «إنّ الجمل مأمور، هل قال عمرو شيئا؟» قالت: إنّ عمرا لما وجه إلى أحد.. قال: اللهمّ؛ لا تردّني إلى أهلي خزيان، وارزقني الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلذلك الجمل لا يمضي، إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله.. لأبرّه، منهم: عمرو بن الجموح، يا هند؛ ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة، ينظرون أين يدفن» ، ثمّ مكث عليه الصّلاة والسّلام حتى قبرهم، ثمّ قال: «يا هند؛ قد ترافقوا في الجنة عمرو بن الجموح وابنك خلاد وأخوك عبد الله» قالت: يا رسول الله؛ ادع الله أن يجعلني معهم) اهـ وهذه الحوادث مشهورة في كتب السير الصحيحة، وفيها برهان واضح على كمال إيمان هؤلاء الأصحاب الكرام، ومنهم تلك المرأة التي أصيبت بزوجها عميد أسرتها، وابنها فلذة كبدها، وأخيها في يوم واحد، مبتهجة قائلة: كل مصيبة دونك يا رسول الله جلل. نعم؛ صدقت، وصدقوا؛ لأنّهم أخبروا بأمر واقعي تكنه صدورهم وتعرب عنه ألسنتهم، وهذا العمل الخالد المبرور منهم قلّ من جل، ممّا يعبر عن محبتهم الصادقة وإيمانهم الكامل، وحسبهم شرفا ثناء الله عليهم في الكتاب القديم قبل بروزهم إلى هذا الوجود، فجدير بنا أن نتّخذ لهم من سويداء قلوبنا محلا نجعلهم فيه، ونتّخذ لنا من أمثال هذه الحوادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 قتادة ذو العين ردّها النّبي ... بقوسه وقد تشظّظت حبي درسا نقتدي بهم فيه؛ حتى ننال سعادة الدارين بشرف هذا الحب الخالص، وجدير بأبنائنا وشبابنا أن يتخذوا من سيرة الرسول العطرة وأصحابه الكرام ما يجعلونه سميرهم في هذه الحياة. بلاء قتادة والمعجزة في حادثة عينه: (قتادة) أي: ممّن ثبت قتادة بن النعمان بن زيد الأوسيّ «1» (ذو العين) التي أصيبت يوم أحد، فوقعت على وجنته، فأتى بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: «إن شئت صبرت، ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت الله لك، فلم تفقد منها شيئا» فقال: يا رسول الله؛ إنّ الجنة لجزاء جميل، وعطاء جليل، ولكني رجل مبتلى بحب النساء، وأخاف أن يقلن أعور، فلا يردنني، ولكن تردّها وتسأل الله لي الجنة، فقال: «أفعل يا قتادة» ، ف (ردها النّبي) صلى الله عليه وسلم، بأن أخذها بيده الشريفة، وردها إلى موضعها، وقال: «اللهمّ اكسه جمالا» . وروى الطبرانيّ وأبو نعيم عن قتادة: (كنت أتّقي السهام بوجهي دون وجهه صلى الله عليه وسلم، فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي، فأخذتها بيدي، وسعيت إلى رسول الله   (1) شهد جميع المشاهد معه صلى الله عليه وسلم، سمعه عليه الصّلاة والسّلام يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها فقال: «وجبت» وتوفي سنة ثلاث وعشرين عن خمس وستين، وصلّى عليه عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 صلى الله عليه وسلم، فلمّا رآها في كفّي.. دمعت عيناه، فقال: «اللهمّ؛ ق قتادة كما وقى وجه نبيّك، فاجعلها أحسن عينيه، وأحدّهما نظرا» فكانت كذلك) . قال البرهان في «النور» : (روى الأصمعيّ عن أبي معشر قال: قدم على عمر بن عبد العزيز رجل من ولد قتادة، فقال ممّن الرجل؟ فقال: أنا ابن الذي سالت على الخدّ عينه ... فردّت بكف المصطفى أحسن الرّدّ فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خدّ فقال عمر: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وفي رواية: فقال عمر: بمثل هذا فليتوسل المتوسلون. ووصله وأحسن جائزته) . وقال البوصيريّ يصف راحته الكريمة عليه الصّلاة والسّلام: وأعادت على قتادة عينا ... فهي حتى مماته النجلاء وقد تضمنت هذه معجزة له عليه الصّلاة والسلام، ومزية لسيدنا قتادة، وأشار لمزية له أخرى بقوله: (بقوسه) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 أوّل من عرفه فبشّرا ... به ابن مالك قريع الشّعرا بقوس النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يتعلق بقوله: (حبي) . (وقد) أي: والحال أنّها قد (تشظّظت) بالبناء للفاعل؛ أي: تفرقت (حبي) أي: أعطي قتادة بلا جزاء. قال ابن إسحاق: «وحدّثني عاصم بن عمرو بن قتادة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها «1» ، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده» . فائدة: قال في «الحلبية» : (هذا القوس هو الذي أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع لما أجلاهم عن المدينة، ويسمى: الكتوم؛ لأنّه لا يسمع له صوت إذا رمي به) . أوّل من بشر المسلمين بحياته صلى الله عليه وسلم: (أوّل من عرفه) صلى الله عليه وسلم بعد التحدث بقتله، وخفائه عن أعينهم، (فبشّرا به) مناديا بأعلى صوته: يا معشر المسلمين؛ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. هو كعب (ابن مالك) الخزرجيّ السّلمي، العقبيّ «2» (قريع) أي:   (1) هو ما انعطف من القوس. (2) قال البغوي: كنّاه صلى الله عليه وسلم أبا عبد الله، ولم يكن لمالك ولد غير كعب، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم في غزوة تبوك، قال ابن سيرين: قال كعب بيتين كانا سبب- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 فعاودوه وتساقطوا عليه ... ونهضوا للشّعب إذ أووا إليه سيد (الشعرا) المجموعين في قول الحافظ السيوطي: وشعراء المصطفى ذوو الشان ... ابن رواحة وكعب حسّان والمراد: الشعراء المشهورون، وإلّا.. فكم له صلى الله عليه وسلم من شاعر يمدحه وينافح عنه من أصحابه. روى الطبرانيّ برجال ثقات عن كعب: (لما كان يوم أحد، وصرنا إلى الشّعب.. كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هذا رسول الله، فأشار إليّ بيده: أن اسكت، ثمّ ألبسني لأمته، ولبس لأمتي، فقد ضربت حتى جرحت عشرين جراحة، أو قال: بضعا وعشرين، كل من يضربني يحسبني رسول الله صلى الله عليه وسلم) . عودتهم للرسول صلى الله عليه وسلم: (ف) لمّا سمع الصحب الكرام ذلك (عاودوه) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسرعين (وتساقطوا) أي: تتابعوا   إسلام دوس، وهما: قضينا من تهامة كل وتر ... وخيبر ثمّ أغمدنا السيوفا تخبرنا، ولو نطقت لقالت ... قواضبهنّ دوسا، أو ثقيفا فلمّا بلغ ذلك دوسا.. قالوا: خذوا لأنفسكم؛ لا ينزل بكم ما نزل بثقيف. قال ابن حبان: مات أيام قتل علي بن أبي طالب، وقال البغوي: بلغني أنّه مات بالشام في خلافة معاوية. اهـ ملخصا من «الإصابة» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فبايعوا على الممات المجتبى ... صلّى عليه الله ما هبّ الصّبا وبعد ما اطمأنّ في الشّعب علت ... عالية من فوقهم فأنزلت في وقوعهم (عليه) لكثرتهم، فلم يكن التتابع توانيا منهم (ونهضوا) معه صلى الله عليه وسلم (للشّعب) لينظر حال الناس، هو بكسر الشين: الطريق في الجبل (إذ أووا) أي: التجأوا (إليه) صلى الله عليه وسلم. (فبايعوا على الممات المجتبى) أي: المختار (صلّى عليه الله) وسلّم (ما هبّ) ريح (الصّبا) وهي ريح النصر. قال اليعمريّ في «العيون» : (لما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم.. نهضوا به، ونهض معهم نحو الشّعب، معه أبو بكر، وعمر، وعليّ، وطلحة، والزّبير، والحارث بن الصّمة، ورهط من المسلمين، وقال موسى بن عقبة: بايعوه على الموت) . (وبعد ما اطمأنّ) رسول الله صلى الله عليه وسلم (في الشّعب) معه أولئك النفر (علت عالية) جماعة من مشركي قريش الجبل (من فوقهم) فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ إنّه لا ينبغي لهم أن يعلونا» (فأنزلت) الجماعة العالية من الجبل لما قاتلهم عمر بن الخطاب، ورهط من المهاجرين. قال اليعمريّ: (ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وقد كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 صلّى بهم وقعدوا وقعدا ... ظهرا لما من الجراح أجهدا بدّن «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر بين درعين، فلمّا ذهب لينهض.. لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به حتى استوى عليها) . قال ابن إسحاق: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدّثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزّبير، عن أبيه عن عبد الله، عن الزّبير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: «أوجب طلحة» «2» حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع) . قال ابن هشام: (وبلغني عن عكرمة عن ابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الدرجة المبنيّة في الشّعب) . (صلّى) رسول الله صلى الله عليه وسلم (بهم) أي: بالصحابة (وقعدوا) متابعة، أو من الجراح التي أصابتهم (وقعدا) عليه الصّلاة والسّلام (ظهرا) معمول لقوله: (صلّى) ، (لما) أي: للجراح التي أجهدته، وشقت عليه، فقوله: (من الجراح) بيان لما (أجهدا) . قال ابن هشام: (وصلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ قاعدا، من الجراح التي أصابته، وصلّى المسلمون خلفه قعودا) .   (1) قال البرهان: (بدّن- بفتح الدال المهملة المشددة- أي: أسن أو ثقل من السن) اهـ «شرح المواهب» (2) قال اليعمري: (يعني: أحدث شيئا يستوجب به الجنة) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 واستبدلت هند من اللآلي ... قلائدا من آنف الرّجال وطوّقت وحشيّها الفريدا ... وأدبرت تردّد النّشيدا تمثيل هند بنت عتبة بالشهداء: (واستبدلت هند) بنت عتبة بن ربيعة المتقدم في بدر «1» (من اللآلي) جمع لؤلؤة: الدر (قلائدا) : جمع قلادة، وهي ما يجعل في العنق؛ يعني: أنّها جعلت (من آنف الرجال) قلائد بدلا من اللآلي، وآنف على أفعل: جمع أنف. قال ابن إسحاق: (ووقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن: أي يقطعن الآذان، والأنوف حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدما «2» وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا كما قال: (وطوقت وحشيّها الفريدا) ، وهو الدر إذا نظم وفصّل بغيره، أي: ألبسته الفريد، وجعلته طوقا في عنقه، وأضيف إليها، إمّا لأنّه لبني عبد مناف، وهي من رؤسائهم يومئذ بمكّة، أو لرضاها عنه يومئذ حتّى جعلته كالابن، أو لغير ذلك.   (1) أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة، وشهدت معه اليرموك، روى الأزرق وغيره: أنّها لما أسلمت جعلت تضرب صنمها في بيتها بالقدوم فلذة فلذة، وتقول: كفاني غرورا. روى عنها ابنها معاوية وعائشة، وماتت سنة أربع عشرة. (2) بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة: الخلاخيل، واحدها: خدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمّه وبكر (وأدبرت تردّد النشيدا) بأعلى صوتها، وتقول: (نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر «1» ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمّه وبكر «2» ) وبعده: شفيت نفسي وقضيت نذري ... شفيت وحشيّ غليل صدري «3» فشكر وحشيّ عليّ عمري ... حتى ترمّ أعظمي في قبري «4» قال في «روض النّهاة» : (ليس بكرها حنظلة بن أبي سفيان، ولا قيس بن الفاكه، كما يزعم بعض الجهلة؛ لأنّ حنظلة أمه صفية بنت أبي العاص عمة عثمان، وأمّا قيس بن الفاكه.. فأمه أم عثمان بنت عم أبيه الفاكه، وهند أول ما ولدت من الرجال: أبان بن حفص بن المغيرة، لكن   (1) بضم السين والعين، وفيها التسكين أيضا، وهو المناسب هنا؛ أي: والحرب ذات التهاب. (2) بكسر الباء، تريد حنظلة بن أبي سفيان الذي هو كأول أولادها. (3) الغليل- بالغين المعجمة-: العطش، وأيضا: حرارة الجوف. (4) ترم- بفوقية مفتوحة فراء مكسورة- أي: تبلى أعظمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 لم نقف على أنّه قتل يوم بدر، ولا على نفيه عنه) اهـ وأجابتها هند بنت أثاثة بن عبّاد بن المطلب المطلبية، أخت مسطح بقولها: خزيت «1» في بدر وبعد بدر ... يا بنت وقاع عظيم الكفر صبّحك الله غداة الفجر ... ملهاشميين «2» الطوال الزّهر بكل قطّاع «3» حسام يفري ... حمزة ليثي وعليّ صقري إذ رام شيب وأبوك غدري ... فخضبا منه ضواحي النحر «4» ونذرك السّوء فشرّ نذر قال في «شرح المواهب» : (قال الحافظ أبو الرّبيع في «الإكتفاء» : هذا قول هند والكفر يحنقها، والوتر يقلقها،   (1) خزيت- بخاء معجمة فزاي- والخزي: الذلة والإهانة، والوقاع- بتشديد القاف: الكثير الوقوع في الدنايا. (2) بميم مكسورة، فلام ساكنة: أصله (من الهاشميين) ، فحذفت النون لالتقاء الساكنين، والزهر- بضم الزاي المشددة- أي: البيض. (3) الحسام- بضم الحاء المهملة-: السيف القاطع، ويفري- بالتحتية المفتوحة- أي: يقطع. (4) رام بمعنى: طلب، وفاعله (شيب) مرخم من شيبة في غير النداء، وهو جائز، وخضب بالضاد المعجمة المشددة- وضواحي النحر: ما ظهر منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 كلا المجدّع وسعد المفتدى ... سأل ربّ العرش منهم أسدا والحزن يحرقها، والشيطان ينطقها، ثمّ إنّ الله هداها إلى الإسلام، وعبادة الله، وترك الأصنام، أخذ بحجزتها عن سوء النار، ودلّها على دار السلام، فصلحت حالها، وتبدّلت أقوالها، حتّى قالت له صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله؛ ما كان على أهل الأرض أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم أهل خباء أحبّ إليّ أن يعزّوا من أهل خبائك، فالحمد لله الذي هدانا برسوله أجمعين) . استشهاد عبد الله بن جحش كما سأل ربه: (كلا المجدّع) بصيغة اسم المفعول في الأصل: المقطوع الأذن، أو الأنف، أو هما، أو اليد، أو الشفة، والمراد به هنا: سيدنا عبد الله بن جحش «1» ؛ فإنّه قطع في هذا   (1) ابن رياب- براء وتحتانية وآخره موحدة- ابن يعمر الأسدي، حليف بني عبد شمس أحد السابقين، قال ابن إسحاق: هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا. روى البغوي من طريق إبراهيم بن سعد عن مسلم بن محمّد الأنصاري، عن رجل من قومه قال: (آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت) ومن طريق زياد بن علاقة عن سعد بن أبي وقاص، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية قال: «لأبعثنّ عليكم رجلا أصبركم على الجوع والعطش» فبعث علينا عبد الله بن جحش، فكان أوّل أمير في الإسلام. قال الزّبير: كان يقال له المجدع في الله، وكان سيفه قد انقطع يوم أحد، فأعطاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرجونا، فصار في يده سيفا، فكان يسمّى ذا العرجون قال: وقد بقي هذا السيف حتى بيع من بغا التركي بمئتي دينار. اهـ ملخصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 اليوم أنفه وأذناه في سبيل الله تعالى (وسعد) بالجر معطوف على (المجدّع) الواقع مضافا إليه، وهو سيدنا سعد بن أبي وقاص (المفتدى) أي: الذي افتداه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأبويه، ولم يفد بهما غيره، قيل: والزّبير يوم الخندق. وفاعل قوله: (سأل) عائد على كلا الواقع مبتدأ، خبره جملة سأل (ربّ العرش) عزّ وجلّ (منهم أسدا) أي: رجلا شجاعا يقاتل كل منهما في سبيله تعالى. وذلك ما حدّث به سعد: أنّه لقي يوم أحد أوّل النهار عبد الله بن جحش، فخلا به، وقال له عبد الله: يا سعد؛ هلمّ فلندع الله، وليذكر كل منا حاجته في دعائه، وليؤمّن الآخر، قال سعد: فدعوت الله أنّي ألقى فارسا شديدا بأسه، شديدا حرده «1» فأقتله، وآخذ سلبه، فقال: اللهمّ؛ آمين، ثمّ استقبل عبد الله القبلة، ورفع يديه إلى السّماء، وقال: اللهمّ؛ لقّني فارسا شديدا بأسه، شديدا حرده، يقتلني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدا تقول لي: يا عبد الله؛ فيم جدع أنفك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت، قل يا سعد: آمين، قال: فقلت: آمين، ثمّ مررت به آخر النهار قتيلا مجدوع الأنف والأذنين، وإنّ أنفه وأذنيه معلّقتان في خيط، ولقيت أنا فلانا من المشركين، فقتلته، وأخذت سلبه.   (1) بفتح الحاء والراء؛ أي: شديدا غضبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أمّا المجدّع فللشّهاده ... وسعد الفتك به أراده وإذ أبو رهم الغفاريّ نحر ... بريقه في الحين قام مستمر وإلى ذلك أشار بقوله: (أمّا المجدع فللشهادة) كان سؤاله، فظفر بها (و) أمّا (سعد) فأراد (الفتك به) فهو مفعول لفعل مقدر يفسره قوله: (أراده) . والفتك: هو ارتكاب ما همّ من الأمر، وانتهاز الفرصة بالقتل، وهو المراد هنا، وهذا ليس من تمنّي الموت المنهي عنه، وإنّما يكون المنهي عنه لضرّ نزل به، وقاتل عبد الله كما في «الإصابة» أبو الحكم ابن الأخنس بن شريق لعنه الله تعالى وقد قتل يومئذ والحمد لله، وكانت سنّ سيدنا عبد الله بن جحش يومئذ بضعا وأربعين سنة، ودفن مع خاله سيدنا حمزة بن عبد المطلب في قبر واحد رضي الله عنهما. (وإذ أبو رهم) بضم الراء مع إسكان الهاء، وهو سيدنا كلثوم بن الحصين (الغفاري نحر) بالبناء للمفعول؛ أي: أصابه سهم في نحره. (بريقه) صلى الله عليه وسلم، وهو يتعلق بقوله: قام (في الحين) أي: في وقته (قام مستمر) أي: قام مستمرا بالبرء في حين بصق عليه صلى الله عليه وسلم، وأبو رهم هذا هو الذي استخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة لمّا توجه إلى فتح مكّة، هو ممّن بايع تحت الشجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 واستشهد اللّذان قد تخلّفا ... لكبر فلحقا وزحفا هما حسيل اليماني أسلمه ... حذيفة إذ أهلكته المسلمه استشهاد حسيل بن جابر اليماني: (واستشهد) بالبناء للفاعل؛ أي: طلب الشهادة (اللذان قد تخلّفا) أي: قعدا عن الخروج ابتداء مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم (لكبر) بكسر الكاف وفتح الباء (فلحقا) أي: بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم (وزحفا) أي: قاتلا، والزحف الدنو من القتال. و (هما) سيدنا (حسيل) بالتصغير، ابن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة (اليماني) سمي بذلك لأنّه أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسمي به لمحالفته اليمانية، وهم الأنصار (أسلمه) أي: أعطاه ابنه (حذيفة) «1» للمسلمين؛ يعني: ردّ ديّته ولم يقبلها   (1) يكنى: حذيفة أبا عبيد الله، كما ذكره السهيلي، حليف بني عبد الأشهل. قال في «روض النهاة» : (شهد أحدا وما بعدها، وكان من كبار الصحابة، بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينظر إلى قريش، وكان يعرف بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر يسأله عن المنافقين، وكان يتحرّاه في شهود الجنائز، وخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة، فاختار النصرة، شهد نهاوند، وأخذ الراية بعد قتل نعمان بن مقرن، ففتح الله على يديه، وسئل: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر، ولا تدري أيّهما تركب. وقال: لا تقوم الساعة حتى تسود كل قبيلة منافقوها. مات رضي الله عنه سنة بضع وثلاثين، وقتل ابناه صفوان وسعيد مع علي رضي الله عنه بوصية أبيهما) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وثابت بن وقش المستشهد ... أخوه وابناه وكلّ وتد من المسلمين (إذ أهلكته المسلمة) خطأ، اختلفت عليه أسيافهم، يظنونه من المشركين، وكان الذي قتله خطأ سيدنا عتبة بن مسعود «1» رضي الله عنه. تنبيه: وقع في «شرح مسلم» للأبّي عن القرطبي: أنّ صاحب هذه القصة عبد الله بن عمرو بن حرام، وأنّه قتله المسلمون خطأ، وهو وهم؛ فلذا اقتضى التنبيه عليه، والله أعلم. استشهاد ثابت بن وقش، وأخيه رفاعة، وابنيه الأصيرم، وسلمة: (وثابت بن وقش) بالرفع، معطوف على حسيل، قال ابن إسحاق: (حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، قال: لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد.. رفع حسيل بن جابر اليماني أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن وقش في الآطام، مع النساء والصبيان،   (1) هو أخو سيدنا عبد الله بن مسعود، وجد عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه، ذكره عبد بن حميد في «التفسير» . وعتبة أوّل من سمّى المصحف مصحفا فيما روى ابن وهب في «الجامع» نقله السهيلي. وقال في «روض النّهاة» : (أسلم عتبة قبل أخيه عبد الله، واستشهد يوم اليمامة، ونحو ابني مسعود هذين ابنا الخطاب عمر وزيد، قال عمر رحم الله: أخي سبقني إلى الحسنيين: الإسلام والشهادة، وكان عمر رضي الله عنه حريصا على الشهادة، رمى في هذا اليوم بدرعه لأخيه زيد، فقال له زيد: يا أخي؛ أريد من الشهادة ما تريد، فتركاها جميعا) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان: لا أبا لك! ما ننتظر؟! فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلّا ظمء حمار «1» ، إنّما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا، ثمّ نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلّ الله يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذا أسيافهما، ثمّ خرجا، حتى دخلا في الناس، ولم يعلم بهما. فأمّا ثابت بن وقش.. فقتله المشركون، وأمّا حسيل بن جابر.. فاختلفت عليه أسياف المسلمين، فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي والله! فقالوا: والله إن عرفناه! وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم والله أرحم الراحمين. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه، فتصدّق حذيفة بديته على المسلمين. فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا. وقوله: (المستشهد) بالرفع: صفة لثابت (أخوه) رفاعة بن وقش، فإنّه استشهد يوم أحد (وابناه) أي: ثابت، وهما: عمرو بن ثابت بن وقش الملقب بالأصيرم، المتقدم خبره، وسلمة بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بحبهم، (وكلّ) من المذكورين (وتد) بفتحتين، شبههم بالجبال، التي هي أوتاد الأرض، تشبيها بليغا، لشرفهم في قومهم، وفضلهم في الإسلام.   (1) مقدار ما يكون بين شربتي الحمار، وهو أقصر مسافة، وهو كناية عن قرب الأجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وابن الرّبيع سعد اللّذ سألا ... نبيّنا عنه فألفي على شفا الشّهادة فأرسل الرّضا ... إلى النّبيّ بالسّلام والرّضا استشهاد سعد بن الرّبيع: (و) استشهد (ابن الرّبيع) بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الأغرّ بن ثعلبة بن كعب بن الحارث، واسمه (سعد، اللذ سألا نبيّنا) صلى الله عليه وسلم (عنه) يوم أحد بعد إسفارهم عن المعركة، فقال: «من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الرّبيع، أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» فقال رجل: أنا يا رسول الله، قيل: هو أبيّ بن كعب، وقيل: محمّد بن مسلمة، فنادى في الأموات فلم يجبه، إلى أن قال: يا سعد؛ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثني أنظر له ما صنعت؟ أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال: فأجابني بصوت ضعيف: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنّي السّلام، وقل له إنّ سعد بن الرّبيع يقول لك: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيّا عن أمّته، وأبلغ قومك عنّي السلام، وقل لهم: إنّ سعد بن الرّبيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى نبيّكم وفيكم عين تطرف، ثمّ قال: فلم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبره، وهذا ما أشار له بقوله: (فألفي) أي: فوجد (على شفا) أي: على طرف (الشهادة) وشفا كل شيء: حرفه، وطرفه، يقال للرجل عند موته: ما بقي منه إلّا شفا (فأرسل الرضا) أي: المرضيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وذو الوصايا الجمّ للبشير ... وهو مخيريق بني النّضير عند الله، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيدنا سعد، وهو فاعل (أرسل) . (إلى النّبيّ بالسلام والرّضا) عنه، ودفن هو وابن عمه خارجة بن زيد في قبر واحد، رضي الله عنهما، وعنّا بهما، وجمعنا بهما في دار كرامته، من غير سابقة عذاب، بمنّه وكرمه، آمين. استشهاد مخيريق من بني النّضير: (و) استشهد (ذو الوصايا الجم) بضم الجيم جمع جمّ بفتحها؛ أي: الوصايا الكثيرة (للبشير) صلى الله عليه وسلم (وهو مخيريق) رضي الله عنه، ونفعنا به، وهو من (بني النضير) كان حبرا، كثير المال، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتّى إذا كان يوم أحد يوم السبت.. قال: والله يا معشر يهود؛ إنّكم لتعلمون أنّ نصر محمّد عليكم لحقّ، قالوا: إنّ اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثمّ أخذ سلاحه، فخرج حتّى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت فمالي لمحمّد يصنع فيه ما أراه الله، فلمّا اقتتل الناس.. قاتل حتّى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مخيريق خير يهود» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ومصعب شمّاس والمجدّع ... بحمزة المهاجرون أربع فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامة صدقاته صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم حين انصرف منها جعلها أوقافا، وهي أوّل حبس حبس في الإسلام، وكانت سبع حوائط، أسماؤها في «الإصابة» في ترجمته، وهذا أحد الأدلة الكثيرة على مشروعية الوقف في الإسلام، خلافا لبعض علماء العصر ممّن يريد حلّ الأوقاف الإسلامية اتباعا للهوى، هدانا الله وإياهم إلى الصراط المستقيم. قال في «روض النّهاة» : (ولم تزد الكتب في نسب مخيريق على كونه من بني النّضير) . استشهاد مصعب بن عمير وشماس المخزومي: (ومصعب) بن عمير المتقدم، و (شمّاس) هو ابن عثمان الشريد المخزومي «1» (والمجدّع) عبد الله بن جحش   (1) قال في «الإستيعاب» : (اسمه عثمان، وشماس لقب غلب عليه، أمه صفية بنت ربيعة بن عبد شمس، كان من مهاجرة الحبشة، ثم شهد بدرا، كان يوم قتل في أحد ابن أربع وثلاثين سنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما وجدت لشماس شبها إلّا الجنة» يعني: ممّا يقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرمي ببصره يمينا ولا شمالا.. إلّا رأى شماسا في ذلك الوجه يذب بسيفه، حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترس بنفسه دونه حتى قتل، فحمل إلى المدينة وبه رمق، فأدخل على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم سلمة: ابن عمي يدخل على غيري؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احملوه إلى أم سلمة» فحمل إليها فمات عندها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 المتقدم أيضا، (بحمزة) أي: مع حمزة بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف «1» ، ووصفهم بقوله: (المهاجرون) وأخبر عن الأسماء المذكورة بقوله (أربع) ، أي ممّن استشهد في وقعة أحد من المهاجرين وبقية السبعين من الأنصار.   - يرد إلى أحد، فيدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها، بعد أن مكث يوما وليلة، إلّا أنّه لم يأكل ولم يشرب) . قلت: قال في «روض النّهاة» : (قالت أخته ترثيه وقيل: زوجته- وأراه لو كانت له ثمّ زوجة.. لما تنازعه غيرها من النساء: يا عين جودي بدمع غير إبساس ... على كريم من الفتيان لباس صعب البديهة ميمون نقيبته ... حمال ألوية ركاب أفراس أقول لمّا أتى الناعي به جزعا ... أودى الجواد وأودى المطعم الكاسي وقلت لما خلت منه مجالسه ... لا يبعد الله منا قرب شماس» (1) عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في «الإستيعاب» : (يكنّى أبا عمارة، وأبا يعلى؛ بابنيه، أسلم في السنة السابعة من المبعث) . ذكر البكائي عن ابن أسحاق قال: (كان حمزة أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، كان يوم قتل ابن تسع وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «حمزة سيد الشهداء» وروي: «خير الشهداء، ولولا أن تجد صفية.. لتركت دفنه حتى يحشر في بطون الطير والسباع» وكان قد مثل به وبأصحابه يومئذ، ولما رأى النّبي صلى الله عليه وسلم ما صنع بحمزة من المثلة.. قال: «لئن ظفرت بقريش.. لأمثلنّ بثلاثين منهم» فأنزل الله عزّ وجلّ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ* وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) . هذا: وترجمته وكراماته رضي الله عنه تضيق عنها الصحف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 حنظلة الغسيل نجل الفاسق ... زوج جميلة ابنة المنافق أجنب منها فاستخفّه القتال ... عن شقّه أو عن جميع الاغتسال استشهاد حنظلة غسيل الملائكة: وممّن استشهد بأحد أيضا: (حنظلة) الملقب ب (الغسيل) لما سيأتي (نجل) أي: ابن أبي عامر (الفاسق) بتلقيب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان قبل يسمّى الراهب (زوج جميلة ابنة) عبد الله بن أبيّ، (المنافق أجنب منها) أي: أمنى من زوجته جميلة، لما ابتنى بها تلك الليلة، فأراد الاغتسال (فاستخفه القتال عن) غسل (شقه) على أنّه اغتسل، وبقي شقّه (أو عن جميع الاغتسال) على أنّه لم يغسل شيئا، فأو لتنويع الخلاف. قال في «روض النّهاة» : (وكانت زوجه جميلة رأت تلك الليلة في النوم كأنّ بابا من السماء قد فتح له، فدخله وأغلق دونه، فعلمت أنّه ميّت، فدعت رجالا من قومها حين أصبحت، فأشهدتهم على الدخول بها، خشية أن يكون في ذلك نزاع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ صاحبكم لتغسله الملائكة» وفي رواية: «رأيت الملائكة تغسله في صحاف الفضة، بماء المزن، بين السماء والأرض» فسئلت، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، والتمس في القتلى، فوجدوه ورأسه يقطر ماء، وليس بقربه ماء، تصديقا لقوله عليه الصّلاة والسّلام. وفي هذا القول متعلّق لمن قال من الفقهاء: إنّ الشهيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وقال صخر إذ رآه قتله ... شدّادهم حنظلة بحنظله واستشهد الأعرج عمرو بن الجموح ... وعن حياة المصطفى أبا الفتوح يغسل إذا كان جنبا، ومنهم من قال: لا يغسل كسائر الشهداء؛ لأنّ التكليف سقط عنهم بالموت. وحملت جميلة تلك الليلة بعبد الله بن حنظلة، إمام أهل المدينة لما خلعوا اليزيد، فكانت عليهم وقعة الحرّة) . (وقال) أبو سفيان (صخر) بن حرب (إذ رآه) أي: رأى حنظلة المقتول: قد (قتله) أي: حنظلة، وفاعل (قتله) (شدّادهم) أي: قريش، وهو شداد بن أبي نعيم بن الأسود بن شعوب الليثي، حليف العباس بن عبد المطلب، وكان حنظلة بن أبي سفيان قتله المسلمون ببدر: (حنظلة بحنظلة) بالرفع؛ أي: حنظلة هذا، مقتول بحنظلة بن أبي سفيان. أو بالنصب؛ أي: قتلنا حنظلة بحنظلة. والذي قتل حنظلة بن أبي سفيان زيد بن حارثة في يوم بدر، هذا هو الصواب، خلافا لمن قال: إنّ القاتل له هو حنظلة الغسيل: لأنّ الغسيل لم يشهد بدرا. استشهاد عمرو بن الجموح: (واستشهد) بالبناء للمفعول على الأكثر؛ أي: طلب الشهادة فنالها (الأعرج) هو كما في «القاموس» : من أصابه شيء في رجله، يقال: عرج كجلس، أو يثلث إذا كان غير خلقة، وإذا كان خلقة فهو كفرح، ومشية العرجان محركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 والمراد هنا سيدنا (عمرو بن الجموح) بفتح الجيم، وتخفيف الميم، ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاريّ، وإنّما ذكره الناظم بصفة العرج؛ لأنّها صفة مانعة له عن الخروج، ويعذر عن الجهاد من اتّصف بها، ولكن حمله على الخروج قوة إيمانه وعظيم إيقانه رضي الله عنه ونفعنا به. وكان شديد العرج، ولما عرف بنوه منه ذلك.. أرادوا حبسه، فشكاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أمّا أنت فقد عذرك الله» ثمّ قال لبنيه: «ما عليكم ألّا تمنعوه؛ لعلّ الله يرزقه الشهادة» فأخذ سلاحه، وأقبل على القبلة وقال: اللهمّ؛ ارزقني الشهادة، ولا تردّني إلى أهلي خائبا، فلمّا انكشف المسلمون.. حمل هو وابنه خلّاد فقتلا رضي الله عنهما، وجمعنا بهما في دار كرامته، بمنّه وكرمه. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ منكم من لو أقسم على الله.. لأبرّه، منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته» . ولمّا استشهد.. حمله أهله على بعيره، فاستصعب عليهم، فكلّما وجهوه إلى جهة.. سارع إليها، إلّا جهة المدينة، فكلّما وجهوه إليها.. امتنع، فذكروا قوله: اللهمّ؛ لا تردني، فدفنوه في مصرعه مع ابن عمه عبد الله في قبر واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 روى الإمام مالك في «موطئه» : (أنّ عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين السّلميّين كان قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما ممّا يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وهما ممّن استشهد يوم أحد، فحفر عنهما، ليغير من مكانهما فوجدا لم يتغيرا، كأنّهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه، ثمّ أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة) . لطيفة: قال في «شرح الموطأ» : (روى البخاريّ في «الأدب المفرد» وأبو الشيخ، وأبو نعيم عن جابر، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: الجد بن قيس، على أنا نبخله، فقال بيده هكذا، ومدّ يده: «وأيّ داء أدوى من البخل؟! بل سيدكم الأبيض الجعد عمرو بن الجموح» . قلت: قال شيخنا الشريف سيدي أحمد المأمون البلغيثي رحمه الله تعالى في «شرح الابتهاج» : وقال رسول الله والحقّ قوله ... لمن قال منا من تعدّون سيّدا فقلنا له الجدّ بن قيس على التي ... نبخّله فيها، ولو كان سيّدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 سأل صخر وانثنى يغرّد ... موعدكم بدر وقال الموعد فسوّد عمرو بن الجموح لجوده ... وحقّ لعمرو بالندى أن يسوّدا فتى ما تخطى خطة لدنيّة ... ولا مدّ في يوم إلى سوءة يدا إذا جاءه الرّكبان أنفق ماله ... وقال خذوه إنّه عائد غدا فلو كنت يا جدّ بن قيس على التي ... على مثلها عمرو لكنت المسوّدا سؤال أبي سفيان عمر بن الخطاب عن حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتوعّده: (وعن حياة المصطفى) يتعلق بقوله: (سأل) ومفعول (سأل) (أبا الفتوح) والمراد: به سيدنا عمر بن الخطاب، قال ذلك فيه لكثرة فتوحاته. يعني: (سأل) أبو سفيان (صخر) عمر بن الخطاب عن حياته صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله يا عمر؛ هل قتلنا محمّدا؟! وكان قال ابن قمئة: إنّي قتلت محمّدا، قال عمر: اللهمّ لا، وإنّه الآن يسمع كلامك، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ، ثمّ نادى أبو سفيان: إنّه كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت به، ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت. ولما انصرف.. نادى: إنّ موعدكم بدر العام القابل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وارتقبوا إن يجنبوا فهم قفل ... أو يسرجوا فهم لطيبة نسل «نعم، هو بيننا وبينكم موعد» . وإلى هذا أشار بقوله: (وانثنى) أي: وانعطف أبو سفيان (يغرّد) أي: يرفع صوته طربا قائلا: (موعدكم) للقتال في العام القابل (بدر وقال) من الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: «هو بيننا وبينكم (الموعد) » فكان ذلك الموعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فألا حسنا، وفيه الخير. وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على غزوة بدر هذه، والله أعلم. تعرف مقصد جيش المشركين: (وارتقبوا) أي: أشرف المسلمون للنظر في جيش العدوّ هل يريد مكة أو الرجوع إلى المدينة المنوّرة؟! ف (إن) بكسر الهمزة (يجنبوا) بفتح الياء المثنّاة؛ أي: يقودوا الخيل (فهم) أي: الكفار (قفل) بالتحريك: اسم جمع لقافل؛ أي: راجعون عن طيبة إلى مكة. (أو) إن (يسرجوا) الخيل؛ أي: يجعلوا السروج عليها (فهم لطيبة نسل) بضمتين؛ أي: مسرعون؛ وذلك بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بن ابي طالب، أو لسعد بن أبي وقّاص؛ فإنّه قال له: «اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون؟ - أي: ما يريدون؟ - فإن كانوا جنبوا الخيل- أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وبأبيّ مرّ بعد ابن عمر ... وهو الّذي رماه خالق البشر جعلوها منقادة بجانبهم- وامتطوا الإبل- أي: ركبوا مطاها، وظهورها- فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل.. فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها.. لأسيرنّ إليهم، ثمّ لأناجزنّهم فيها» قال علي، أو سعد: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؟ فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، وتوجهوا إلى مكّة، بعد ما تشاوروا في نهب المدينة، فأشار عليهم صفوان أن لا تفعلوا، فإنّكم لا تدرون ما يغشاهم. ثمّ فرغ الناس لقتلاهم فهناك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من رجل ينظر لنا ما فعل سعد بن الرّبيع ... » الحديث، وقد تقدم. مقتل أبيّ بن خلف لعنه الله: (وبأبيّ) يتعلق بقوله: (مرّ) أي: مر بأبيّ بن خلف الجمحيّ (بعد) أي: بعد وقعة أحد، سيدنا عبد الله (بن عمر) رضي الله عنه (وهو) أي؛ أبيّ (الذي رماه) حقيقة (خالق البشر) جلّت قدرته، وكان في الرّمية حتفه، قال تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى، وفي ذلك نزلت، وقيل: في القبضة التي رمى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بها المشركين يوم بدر. وكان من حديث أبيّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا لقيه بمكّة يقول: يا محمّد؛ إنّ عندي العوذ- يعني فرسا- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه، فيقول له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «بل، أنا أقتلك إن شاء الله» فلمّا انحاز المسلمون عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان يقيه مصعب بن عمير فقتله ابن قمئة.. جاء أبيّ وهو يقول: أين محمّد؟ لا نجوت إن نجا، فاعترضه رجال من المسلمين، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يخلّوا طريقه. قال الزّبير: وكان معي حربة، فأخذها مني «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشّعراء- وهي ذباب صغير له لدغ- عن ظهر البعير إذا انتفض، فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبيّ بين سابغة الدرع والبيضة؛ فطعنه فيها، فوقع عن فرسه صريعا، ولم يخرج من طعنته دم، فأدركه المشركون وارتثّوه «2» وله خوار، وهو يقول: قتلني والله محمّد، قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك من بأس، فقال: إنّه قد كان قال لي بمكّة: أنا أقتلك، والله لو بصق علي.. لقتلني، فقفلوا به نحو مكّة وهو يقول: والذي نفسي بيده، لو أنّ الذي بي بأهل المجاز.. لماتوا أجمعون، ومات عدوّ الله بسرف- ككتف- موضع قريب من التنعيم، وظهر بهذا أنّ قوله: (وهو الذي رماه خالق البشر) جملة معترضة بين قوله: (مرّ بعد ابن   (1) ويقال: أخذها من الحارث بن الصمّة. (2) أي: حملوه من المعركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 مسلسلا صديان فاستسقاه ... والسّقي عنه ملك نهاه ومرّ أيضا بأبي جهل لدى ... بدر به أضرّ لاعج الصّدى عمر) وبين الحال، وهو قوله: (مسلسلا) أي: مجعولا فيه السلسلة من الحديد، وحال كونه (صديان) أي: عطشان (فاستسقاه) أي: طلب منه السقي، (والسقي عنه) متعلق بقوله: (نهاه) الواقع خبرا لقوله: (ملك) بفتح اللام، من الملائكة لم يعيّن (نهاه) فقال لابن عمر: لا تسقه؛ فإنّه كافر. (ومرّ) سيدنا عبد الله بن عمر (أيضا بأبي جهل لدى) أي: عند (بدر به) يتعلق بقوله: (أضر لاعج) هو مضاف إلى (الصّدى) بفتح الصاد؛ أي: العطش، من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الصدى اللاعج؛ أي: المحرق، قال في «القاموس» : لعج الجلد: أحرقه، والبدن ألمه. أشار رحمه الله في هذه الأبيات إلى ما ذكره الثعالبيّ عند قوله تعالى: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً بسنده إلى عبد الله بن عمر، والزرقاني في «شرح الموطأ» عند حديث: (الواحد شيطان) . قال الثعالبيّ: قال أبو عمر في كتاب «التمهيد» مسندا إلى سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: خرجت مرة فمررت بقبر من قبور الجاهلية، فإذا رجل قد خرج من القبر يتأجّج نارا، في عنقه سلسلة، ومعي إداوة من ماء، فلمّا رآني.. قال: يا عبد الله؛ اسقني، قال: فقلت: عرفني فدعاني باسمي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أو كلمة تقولها العرب: يا عبد الله- إذ خرج على إثره رجل من القبر، فقال: يا عبد الله؛ لا تسقه؛ فإنّه كافر، ثمّ أخذ السلسلة، فاجتذبه فأدخله القبر. قال: ثمّ أضافني الليل إلى بيت عجوز إلى جانبها قبر، فسمعت من القبر صوتا يقول: بول وما بول، شنّ وما شن؟ فقلت للعجوز: ما هذا؟ قالت: كان زوجا لي، وكان إذا بال لم يتّق البول، وكنت أقول له: ويحك! إنّ الجمل إذا بال.. تفاجّ، وكان يأبى، فهو ينادي من يوم ما مات: بول وما بول؟ قلت: فما الشن؟ قالت: جاء رجل عطشان، فقال: اسقني، فقال: دونك الشنّ، فإذا ليس فيه شيء، فخرّ الرجل ميتا، وهو ينادي منذ مات: شنّ وما شن. فلمّا قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أخبرته، فنهى أن يسافر الرجل وحده. قال أبو عمر: هذا الحديث في إسناده مجهولون، ولم نورده للاحتجاج به، ولكن للاعتبار، وما لم يكن حكم، فقد تسامح الناس في روايته عن الضعفاء. وذكر الثعالبيّ أيضا عن الوائليّ نحوه، وزاد: أنّ الرجل الأول هو أبو جهل، قال الثعالبي: (وذكرنا الحكاية الأولى عن الوائلي في (سورة اقرأ) بغير هذا السند، وأنّ الرجل الأول هو أبو جهل) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 العبرة فيما أصاب المسلمين بأحد: إذا علمت ما شرحناه لك في قصة أحد.. فليكن على بالك أنّ في القصة وما اشتملت عليه ممّا أصيب به المسلمون يوم أحد، فوائد وحكما ربانية، ودلائل نبوية: منها: تعريفهم سوء عاقبة المخالفة، وشؤم ارتكاب النهي، لمّا ترك الرّماة موضعهم الذي أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم أن لا يفارقوه. ومنها: أنّهم لو انتصروا دائما.. دخل في المسلمين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائما.. لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين؛ ليتميز الصادق من الكاذب، فلمّا وقع ذلك.. ظهر أهل النفاق، فعرف المسلمون: أنّ لهم عدوّا في ديارهم، فتحرّزوا منهم، وكانت العاقبة على كل حال للمؤمنين. ومنها: أنّ في تأخير النصر في بعض المواطن هضما للنفوس، فلمّا ابتلي المؤمنون.. صبروا، وجزع المنافقون. ومنها: أنّ الله هيّأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته، لا تبلغها أعمالهم، فقيّض لهم أسباب الابتلاء والمحن؛ ليصلوا إليها. ومنها: أنّ الشهادة من أعلى مراتب الأولياء، فساقها الله تعالى إليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وبعدها غزوة حمراء الأسد ... كانت لإرهاب صبيحة أحد ومنها: أنّه تعالى أراد إهلاك أعدائه، فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك، من كفرهم، وبغيهم، وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحّص بذلك ذنوب المؤمنين، ومحق بذلك الكافرين، إلى غير ذلك من الفوائد التي يعلمها الله تبارك وتعالى. (13) غزوة حمراء الأسد (وبعدها) أي: بعد غزوة أحد (غزوة حمراء الأسد) قال المناوي: تأنيث أحمر مضافة إلى الأسد: موضع على ثمانية أميال من المدينة، عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة. سبب هذه الغزوة: وأشار الناظم إلى سببها بقوله: (كانت لإرهاب) أي: تخويف للعدو؛ ليبلغهم: أنّه خرج في طلبهم؛ ليظنوا بالمسلمين قوة، وأنّ الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم (صبيحة أحد) فكانت يوم الأحد لست عشر ليلة مضت من شوال، على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة. قلت: وهذا الذي ذكره تبع فيه ابن إسحاق، وقال موسى بن عقبة وغيره، كما في «السيرة الشامية» وغيرها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وأمر النّبيّ أن لا يخرجا ... إلّا الّذي بالأمس كان خرجا سببها: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه: أنّ أبا سفيان وأكثر من معه يريدون أن يرجعوا؛ ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على الخروج في طلب العدوّ، ويؤيد هذا ما رواه النسائي والطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لمّا رجع المشركون من أحد قالوا: لا محمّدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم، ارجعوا، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين، فانتدبوا، فخرج بهم.. حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وخرج صلى الله عليه وسلم وهو مجروح، وفي وجهه أثر الحلقتين، ورباعيته مكسورة، وشفته السفلى مشقوقة، وركبتاه مجروحتان من وقعة الحفيرة، وأمر أن لا يخرج إلّا من خرج معه يوم أحد) . كما قال الناظم: (وأمر النبيّ أن لا يخرجا ... إلّا الذي بالأمس كان خرجا) وفي «البداية» : (أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينطلقنّ معي إلّا من شهد القتال» والذين شهدوه في أحد سبع مئة، قتل منهم سبعون، وخرج الباقون إلى حمراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ولابن عبد الله جابر سمح ... بالغزو إذ لأخواته جنح بالأمس، إذ قال أبوه يا بنيّ ... ما كنت أؤثرك بالغزو عليّ الأسد، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، حين ذكر أنّ أباه أمره بالمقام في المدينة على أخواته التسع) وإليه أشار بقوله: (ولابن عبد الله جابر سمح) رسول الله صلى الله عليه وسلم (بالغزو إذ لأخواته) يتعلق بقوله: (جنح) أي: مال لهنّ (بالأمس) في غزوة أحد، (إذ قال أبوه) عبد الله بن عمرو بن حرام: (يا بنيّ ما كنت أوثرك) أي: أقدمك (بالغزو عليّ) . قال في «الإمتاع» : (ولمّا صلّى الصبح يوم الأحد صبيحة أحد ومعه عليه الصّلاة والسّلام وجوه الأوس والخزرج، وقد باتوا في المسجد على بابه.. أمر بلالا فنادى: إنّ رسول الله يأمركم بطلب عدوّكم، ولا يخرج معنا إلّا من شهد القتال بالأمس، فخرج سعد بن معاذ إلى داره يأمر قومه بالمسير وكلهم جريح، فقال: إنّ رسول الله يأمركم أن تطلبوا عدوّكم، فقال أسيد بن حضير وبه سبع جراحات يريد أن يداويها: سمعا وطاعة لله ولرسوله، وأخذ سلاحه، ولم يعرّج على دواء، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء سعد بن عبادة قومه، وجاء أبو قتادة إلى طائفته، فبادروا جميعا وخرج من بني سلمة أربعون جريحا، بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا، وبخراش بن الصّمة عشرة جراحات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 حتى وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لمّا رآهم: «اللهمّ؛ ارحم بني سلمة» . وخرج عبد الله ورافع ابنا سهل الأنصاريّان يزحفان لجراحهما الكثيرة فضعف رافع فحمله عبد الله على ظهره عقبة، ومشى عقبة، فدعا لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل، وبغال، وإبل، وليس ذلك بخير لكم» وكانت عامة زادهم التمر) . قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فأقام بها الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثمّ رجع إلى المدينة، وكان استعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قاله ابن هشام. تخذيل معبد الخزاعي قريشا عن الرجوع للحرب: قال ابن إسحاق: (وقد مرّ به- كما حدّثني عبد الله بن أبي بكر- معبد «1» بن أبي معبد الخزاعيّ، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة «2» نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، صفقهم معه، لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد «3» يومئذ مشرك، فقال- أي: معبد-: يا محمّد؛ أما والله لقد   (1) فاعل مر. (2) بفتح العين المهملة: موضع السر والأمانة. (3) قال في «الشامية» : (وجزم أبو عمر، وابن الجوزي في «التلقيح» بإسلام معبد) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 عزّ علينا ما أصابك في نفسك، وفي أصحابك، ولوددنا أنّ الله عافاك فيهم. ثمّ خرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتّى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرّوحاء، وقد أجمعوا الرّجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا- أي-: أصبنا حدّ أصحابه، وقادتهم، وأشرافهم، ثمّ نرجع قبل أن نستأصلهم، لنكرّنّ على بقيتهم، فلنفرغنّ منهم، فلمّا رأى أبو سفيان معبدا.. قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم، في جمع لم أر مثله قطّ، يتحرّقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قطّ، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله لقد أجمعنا الكرّة عليهم؛ لنستأصل شأفتهم. قال: فإنّي أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني ما رأيت، على أن قلت فيه أبياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت: كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل «1»   (1) الجرد: قصيرة شعر الجلد، والأبابيل: جماعة في تفرقة، وتردي الخيل: إذا ضربت الأرض بحوافرها في سيرها، والتنابلة: القصار، واحدها تنبال، والميل: الذي يميل على السرج ولا يستوي عليه، والمعازيل، واحده معزال: القوم ليس معهم سلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت غدوا أظنّ الأرض ماثلة ... لمّا سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل «1» إنّي نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله وليس يوصف ما أنذرت بالقيل قال: فثنى ذلك أبا سفيان، ومن معه، ومرّ به ركب من عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: المدينة، قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمّدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمّل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه.. فأخبروه أنّا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه؛ لنستأصل بقيتهم فمرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، وأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسبنا الله ونعم الوكيل» .   (1) من الغطمة: وهو صوت غليان القدر، وفي نسخة (بالخيل) ، والوحش: أرذال الناس وسقاطهم، والقنابل: الطائفة من الناس ومن الخيل، الواحد: قنبل وقنبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وفتكوا بجدّ عبد الملك ... لأمّه سبط أبي العاص الذّكي وهو الممثّل بعمّ أحمد ... وبمعاوية يعرف الرّدي مقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص لتجسسه لقريش: ثمّ أشار إلى حادثة وقعت حين قفولهم للمدينة، فقال: (وفتكوا) أي: انتهز الصحابة في رجوعهم من حمراء الأسد فرصة، ففتكوا فيها (بجدّ عبد الملك) بن مروان (لأمه) عائشة بنت معاوية المفتول (سبط أبي العاص) بكسر المهملة، هو ولد الولد، ومعاوية هو ابن المغيرة بن أبي العاص (الذكي) بالذال؛ أي: سريع الفطنة، صفة لأبي العاصي. (وهو) أي: جد عبد الملك المذكور (الممثّل) أي: المنكّل يوم أحد (بعم أحمد) صلى الله عليه وسلم؛ يعني سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه (وبمعاوية) يتعلق بقوله: (يعرف) مبنيا للمجهول؛ أي: يعرف (الرّدي) أي: الهالك بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس. وحاصل قصته: أنّه لما رجع المشركون من أحد.. ذهب معاوية على وجهه، ثمّ أتى عثمان فدقّه، فقالت أم كلثوم بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها: من أنت؟ قال: ابن عم عثمان، فقالت: ليس هو ههنا، قال: أرسلي إليه فله عندي ثمن بعير كنت اشتريته منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وبالّذي عليه قبل أشفقا ... نبيّنا ثمّ ارتجى أن يطلقا فجاء عثمان رضي الله عنه، فلمّا نظر إليه.. قال: أهلكتني، وأهلكت نفسك، فقال: يا بن عمّ؛ لم يكن أحد أمسّ بي منك رحما، فأجرني، فأدخله عثمان رضي الله عنه منزله، وجعله في ناحية. ثمّ خرج عثمان رضي الله عنه؛ ليأخذ له أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنّ معاوية بالمدينة، فاطلبوه» فدخلوا منزل عثمان رضي الله عنه، فأشارت إليهم أمّ كلثوم بأنّه في ذلك المكان، بعد أن علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، فأخرجوه، وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله، فقال عثمان: يا رسول الله؛ والذي بعثك بالحق، ما جئت إلّا لآخذ له أمانا، فهبه لي، فوهبه له، وأجّله ثلاثا، وأقسم أنّه إن وجده بعدها.. قتله، وخرج صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، فأقام معاوية ثلاثا؛ ليستعلم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليأتي بها قريشا، فلمّا كان باليوم الرابع.. عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فخرج معاوية هاربا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّكم ستجدونه بموضع كذا وكذا، فاقتلوه» فأدركه زيد بن حارثة، وعمّار بن ياسر، فقتلاه. مقتل أبي عزة الجمحي الهجّاء للرسول صلّى الله عليه وسلّم: (وبالذي) معطوف على قوله: (بجد عبد الملك) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ثانية أن كان ذا بنات ... وهو أبو عزّة ذو الهنات وفتكوا أيضا بأبي عزة الذي (عليه) يتعلق بقوله: (أشفق) (قبل) أي: قبل هذا اليوم (أشفقا نبيّنا) نبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم، وذلك: أنّه عليه الصّلاة والسّلام ظفر به يوم بدر، وأسره، فقال: يا رسول الله؛ إنّي فقير ذو عيال وحاجة كما تعلم، فامنن عليّ.. منّ الله عليك، فرحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلقه من غير فداء، وكان شاعرا يشتغل بسبب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويستفزّ الناس للقتال، وكان عاهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم بدر أن لا يعود إلى شيء من ذلك، فلمّا منّ عليه.. رجع إلى مكة، ونقض العهد، واشتغل بما كان مشتغلا به قبل من السبّ، والهجاء، فلمّا كان يوم أحد.. خرج مع المشركين وهو على ذلك الحال، فلمّا نزل المشركون بحمراء الأسد.. نزل معهم، ثمّ ساروا، وتركوه نائما، فأدركه المسلمون، وأسروه، وكان الذي أسره عاصم بن ثابت رضي الله عنه، فلمّا ظفر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. قال: يا رسول الله؛ أقلني، وامنن عليّ، ودعني لبناتي، وأعاهدك أن لا أعود، هذا ما أشار له بقوله: (ثمّ ارتجى) أي: أمّل (أن يطلقا) مرة (ثانية) لأجل (أن كان ذا بنات وهو) أي: صاحب تلك الفعلة القبيحة، والحالة الشنيعة (أبو عزّة) عمرو بن عبد الله بن وهب الجمحيّ (ذو الهنات) جمع هنة، بفتح الهاء فيهما: الأخبار المكروهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ولمّا قال ذلك أبو عزة.. قال صلى الله عليه وسلم: «والله لا تمسح عارضيك بمكّة، تقول: خدعت محمّدا مرتين وفي رواية: «تمسح لحيتك، تجلس بالحجر تقول: خدعت محمّدا» وفي لفظ: «سحرت محمّدا مرتين» - إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين» ، اضرب عنقه يا زبير» وفي رواية: «يا عاصم» فضربت عنقه، وأنزل الله فيه: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ. قيل: ولمّا قتل.. حمل رأسه على رمح إلى المدينة، هو أول رأس حمل في الإسلام؛ أي: على رمح؛ فلا ينافي أنّ أول رأس حمل في الإسلام إلى المدينة رأس كعب بن الأشرف: وهذا المثل لم يسمع من غيره صلى الله عليه وسلم. (14) غزوة بني النّضير بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة: قبيلة من اليهود، ينسبون إلى سيدنا هارون أخي سيدنا موسى، عليهما وعلى نبينا الصّلاة والسّلام، سكنوا مع العرب، ودخلوا فيهم،   (1) ذكره ابن هشام بلاغا عن سعيد بن المسيب، وقال في «الشامية» : (رواه البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا، وعزاه الحافظ السيوطي للإمام أحمد، والشيخين وأبي داوود، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه لكن بلفظ: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ثمّ النّضير هاجها أن جاءهم ... مستوهبا من دية ما نابهم واختلف أهل السّير في السنة التي كانت فيها هذه الغزوة فذهب الزّهريّ وجماعة، وصدّر به الإمام البخاريّ تعليقا جزما: أنّها كانت بعد غزوة بدر، وقبل أحد، وقال في (الهدي) : (الصحيح الذي عليه أهل السير: أنّها بعد غزوة أحد، وللنّبيّ صلى الله عليه وسلم مع اليهود أربع غزوات: أوّلها: غزوة قينقاع بعد بدر، والثّانية: غزوة بني النّضير بعد أحد، والثّالثة: غزوة بني قريظة، بعد الخندق، والرابعة: خيبر، بعد الحديبية، وذهب ابن إسحاق إلى أنّها كانت بعد أحد وبئر معونة، ورجّح المحققون من الحفّاظ قوله، قالوا: وكانت في ربيع الأوّل من السنة الرابعة، على رأس خمسة أشهر من غزوة أحد، وإيّاهم تبع النّاظم فقال: سبب هذه الغزوة: (ثم النّضير هاجها) أي: أثار الغزوة المفهومة من المقام، وفاعل هاج: المصدر المنسبك من قوله: (أن جاءهم) بفتح الهمزة؛ أي: مجيئه صلى الله عليه وسلم إياهم حال كونه (مستوهبا) أي: طالبا هبة (من دية) وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف، فيسهل الدفع منهم، وهو بيان لقوله: (ما نابهم) أي: نزل بهم، والمراد: دية العامريّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضّمري، مرجعه من بعث بئر معونة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم عقد لهما جوارا، ولم يعلم به عمرو، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 فأصعدوا أحدهم ليلقيا ... عليه صخرة تريح الأغبيا «قتلت قتيلين لأدينّهما» وعمرو يرى أنّه أصاب ثأرا بهما، ببعض أصحابه الذين قتلوا ببئر معونة. فخرج عليه الصّلاة والسّلام يوم السبت، فصلّى في مسجد قباء ومعه رهط من المسلمين، ثمّ جاء بني النضير فجلس يكلمهم في ذلك، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، ممّا استعنت بنا عليه، وقد آن لك أن تزورنا، وأن تأتينا، اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك، ونقوم فنتشاور، ونصلح أمرنا فيما جئتنا به، ثمّ كان ما أشار إليه الناظم بقوله: (فأصعدوا أحدهم) وهو عمرو بن جحاش، فإنّه قال: أنا لذلك، لما اختاروه لعمل السوء (ليلقيا عليه صخرة تريح) اليهود (الأغبيا) ء: جمع غبيّ، وهو الذي لا يفطن ومنه: وغبيّ من ساءه المنّ والسّلوى ... وأرضاه الفوم والقثّاء وذلك بعد أن خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنّكم لن تجدوه على مثل هذا الحال منفردا ليس معه أحد من أصحابه إلّا نحو العشرة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدا إلى جنب جدار، وفي رواية: قالوا- لما رأوا قلّة أصحابه-: نقتله ونأخذ أصحابه أسارى إلى مكة، فنبيعهم من قريش، فقال سلّام بن مشكم لليهود: لا تفعلوا، فوالله ليخبرنّ بما هممتم به، وإنّه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، كما أشار لذلك بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وأخبر ابن مشكم أن يخبرا ... وزجر الرّهط فلم ينزجرا وجاءه الخبر من ربّ السّما ... وفي حصارها العقار حرّما (و) لما أجمع اليهود غدرا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم (أخبر) بالبناء للمعلوم؛ أي: أخبرهم سلّام (ابن مشكم) بوزن منبر (أن يخبرا) بالبناء للمفعول؛ أي: بأنّه صلى الله عليه وسلم يخبر من طريق الوحي بما تقدم، وفي رواية: قال لهم: يا قوم؛ أطيعوني في هذه المرة، وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرنّ بأنا قد غدرنا به، وإنّ هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه (وزجر الرّهط) بسكون الهاء، وتفتح كثيرا؛ أي: قومه وقبيلته (فلم ينزجرا) أي: الرهط بالألف المنقلبة عن النون الخفيفة. (وجاءه الخبر) أي: خبر القوم، وما أسرّوه بينهم (من رب السما) ء. قال ابن إسحاق: (وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من رب السماء، مع جبريل عليه السّلام، بما أراد القوم، فقام عليه الصّلاة والسّلام مظهرا أنّه يقضي حاجته، خوفا أن يفطنوا له؛ فيؤذوا أصحابه؛ ولذلك ترك أصحابه في مجالسهم، ورجع مسرعا إلى المدينة، ثمّ إنّ أصحابه صلى الله عليه وسلم استبطأوه، فقاموا في طلبه، فقال لهم حيي: لقد عجل أبو القاسم، كنا نريد أن نقضي حاجته ونقريه، وندمت اليهود على ما صنعوا، قال موسى بن عقبة: ونزل في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وقيل: نزلت في غير ذلك) . وقال ابن إسحاق: فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالتهيّؤ لحربهم والسير إليهم. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم- يعني إماما «1» للصلاة- ثمّ سار بالناس، حتى نزل بهم، فحاصرهم ستّ ليال، قال ابن إسحاق: فتحصّنوا منه في الحصون؛ فقطع النخل، وحرّقها، وخرب أماكنهم، فنادوه يا محمّد؛ قد كنت تنهى عن الفساد، وتعبيه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ قال السهيلي: «قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل الله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ، واللّينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرنيّ، ففي هذه الآية: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحرّق من نخلهم إلّا ما ليس بقوت للناس، وكانوا يقتاتون العجوة. نزول تحريم الخمر تحريما باتّا وسورة الحشر: (وفي حصارها) أي: بني النّضير (العقار) بضم العين: الخمر، سمّيت بذلك لأنّها عقرت العقل (حرّما) أي: نزل تحريمها بقوله تعالى في (سورة المائدة) : يا أَيُّهَا   (1) قال في «شرح المواهب» : (ولم يستعمل على أمرها أحدا لقربها؛ لأنّ بينها وبين المدينة ميلين) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 والحشر أنزلت بها ونقضا ... نجل أبيّ عهدهم ورفضا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية. وما ذكره الناظم.. يقتضي أنّها حرّمت سنة أربع. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنّ أنسا كما في الصحيح، كان الساقي يوم حرّمت، وأنّه لما سمع المنادي بتحريمها.. بادر فأراقها، فلو كانت سنة أربع.. لكان أنس يصغر عن ذلك، وقال قبل هذا: وقد بينت في تفسير (المائدة) الزمن الذي نزلت فيه الآية المذكورة، وأنّه كان في عام الفتح قبل الفتح، ثمّ رأيت الدّمياطيّ في «سيرته» جزم بأنّ تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست. واعلم: أنّ أول آية نزلت في شأن الخمر قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، ثمّ نزل قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، ثمّ نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ، ثمّ نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: انتهينا، فحرمت إلى يوم القيامة تحريما باتا. (والحشر) أي: (سورة الحشر) ، (أنزلت) بأسرها كما في «سيرة ابن هشام» (بها) أي: في غزوة بني النضير، وفي المنافقين الذين بعثوا إليهم، وهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول، ووديعة بن مالك، وغيرهما من منافقي بني عمرو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 عوف من الخزرج، بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا، وتمنّعوا، فإنّا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، فقذف الله في قلوبهم الرّعب بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وروى عبد بن حميد: أنّ غزوة بني النّضير كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف. إخراج بني النّضير من ديارهم: وروى ابن سعد، كما في المواهب وغيرها: أنّهم حين همّوا بغدره صلى الله عليه وسلم، وأعلمه الله بذلك، ونهض سريعا إلى المدينة، بعث إليهم محمّد بن مسلمة: «أن اخرجوا من بلدي، فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجّلتكم عشرا، فمن رئي منكم بعد ذلك ضربت عنقه» فمكثوا على ذلك أيّاما يتجهزون، وتكاروا من أناس من أشجع إبلا، فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصونكم؛ فإنّ معي ألفين من قومي من العرب، يدخلون حصونكم، وتمدّكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حييّ فيما قاله ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدالك. فأظهر صلى الله عليه وسلم التكبير، وكبر المسلمون بتكبيره، وسار عليه الصّلاة والسّلام إليهم في أصحابه، فصلّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وفيئهم والفيء في الأنفال ... ما لم يكن أخذ عن قتال العصر بفناء بني النّضير، وعليّ رضي الله عنه يحمل رايته، فلمّا رأوه صلى الله عليه وسلم.. قاموا على حصونهم، ومعهم النّبل والحجارة، واعتزلهم ابن أبيّ، ولم يعنهم، كما قال الناظم: (ونقضا) أي: أبطل (نجل أبيّ) عبد الله (عهدهم) أي: عهده إياهم بالمدد والنصرة (ورفضا) وكذلك حلفاؤهم من غطفان، فقال ابن مشكم وكنانة لحييّ: أين الذين زعمت؟ قال: ما أصنع؟ هي ملحمة كتبت علينا، فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم، وقطع نخلهم، وقال لهم عليه الصّلاة والسّلام: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم، وما حملت الإبل، إلا الحلقة «1» » . فنزلت يهود على ذلك، فكانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وولي إخراجهم محمّد بن مسلمة، وحملوا النساء، والصبيان، وتحملوا أمتعتهم على ست مئة بعير، فلحقوا بخيبر وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال، والحلقة فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاث مئة وأربعين سيفا وحزن عليهم المنافقون حزنا شديدا. فيئهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد خصّ به المهاجرين برضا الأنصار: (وفيئهم) أي: بني النضير، وهو مبتدأ خبره: (لخير   (1) بإسكان اللام: هي السلاح كله، وقيل: الدرع والمراد هنا الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أمّا الغنيمة ففي زحاف ... والأخذ عنوة لدى الزّحاف لخير مرسل وخصّ فئته ... وفي رضا أنصاره عطيّته مرسل) وما بينهما معترض؛ لبيان معنى الفيء والغنيمة المشار إليه بقوله: (والفيء في الأنفال) جمع نفل، كسبب وأسباب؛ أي: الغنيمة (ما) أي: الغنم الذي (لم يكن أخذ عن قتال) بل أوجف عليه المسلمون بلا خيل، ولا ركاب، قال تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. (أمّا الغنيمة) المقابلة للفيء (ف) هي: ما أخذت (في) حال (زحاف) للجيش، وهو بكسر الزاي (والأخذ) أي: مع الأخذ (عنوة) بفتح العين؛ أي: قهرا باستعانة السيف (لدى الزّحاف) أي القتال. وكذلك كانت أموال بني النّضير فيئا، وهي (لخير مرسل) صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في الآية. قال الشهاب القسطلاني في «المواهب» : (ولم يسهم منها؛ أي: من أموال بني النّضير لأحد؛ لأنّ المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنّما قذف في قلوبهم الرّعب، وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم) . (وخصّ) النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالعطاء من الفيء المذكور (فئته) أي: طائفته المهاجرين، فقسمها بينهم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كان التّرحّم على الأنصار ... أن آثروا به بني نزار ليرفع بذلك مؤونتهم عن الأنصار؛ إذ كانوا قاسموهم في الأموال، والديار، غير أنّه أعطى سهل بن حنيف، وأبا دجانة لحاجتهما، وأعطى أيضا سعد بن معاذ سيف كنانة بن أبي الرّبيع بن أبي الحقيق وهو سيف له ذكر عندهم (وفي رضا) أي: بسبب رضا (أنصاره) صلى الله عليه وسلم، وهو فاعل للمصدر، ومفعوله قوله: (عطيّته) للمهاجرين ما أفاء الله عليه من أموال بني النّضير؛ أي: بسبب ذلك (كان الترحم) منه عليه الصّلاة والسّلام (على الأنصار) إذ قال: «اللهمّ؛ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار» (أن آثروا) أي: قدّم الأنصار على أنفسهم (به) أي: بالفيء المذكور (بني نزار) أي: المهاجرين. قال اليعمريّ في «عيون الأثر» : (لما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النّضير.. دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: «ادع لي قومك» فقال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كلها» فدعا له الأوس والخزرج، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وإيثارهم على أنفسهم، ثمّ قال: «إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله تعالى عليّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وشاطروهم مالهم ونزلوا ... عن الحلائل لهم وأوّل منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم» . فتكلّم سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، فقالا: يا رسول الله؛ بل تقسم بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار» فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله عليه، وأعطى المهاجرين، ولم يعط أحدا من الأنصار شيئا إلّا رجلين كانا محتاجين سهل بن حنيف وأبا دجانة، وأعطى سعد بن معاذ سيف كنانة بن أبي الحقيق. وقال سيد المهاجرين أبو بكر رضي الله عنه: جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلّا كما قال الغنويّ: جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الذي لا قوه منّا لملّت ثم ذكر الناظم بعض تفضلات الأنصار في إيثارهم. فضل الأنصار بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم: (وشاطروهم) أي: قاسموهم (ما لهم و) حتّى إنّهم (نزلوا) أي: الأنصار (عن الحلائل) أي: الزوجات (لهم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 من سنّه مخيّرا بين اثنتين ... إبن الرّبيع لابن عوف المكين فتركوهنّ لهم تعفّفا ... فعفّ هذاك وذاك أسرفا يتعلق ب (نزلوا) . فمن كان عنده زوجتان.. كان يخيّر المهاجريّ في واحدة، فينزل له عنها، حتى إذا انقضت عدتها يتزوجها. (وأوّل من سنّه) أي: النزول عن الحلائل حال كونه (مخيرا بين اثنتين) سيدنا سعد (ابن الرّبيع ل) سيدنا عبد الرّحمن (بن عوف المكين) المنزلة عند الله تعالى، بالهجرة له، لما آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينهما. ففي «صحيح البخاريّ» : (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرّحمن بن عوف وسعد بن الرّبيع، فقال سعد لعبد الرّحمن: إنّي أكثر الأنصار مالا، هلمّ أقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك، فسمّها أطلقها لك، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقك؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلّا ومعه فضل من أقط، وسمن، ثمّ تابع الغدوّ، ثمّ جاء يوم وبه أثر صفرة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «مهيم» قال: تزوّجت، قال: «كم سقت إليها؟» قال: نواة من ذهب، أو وزن نواة. (فتركوهنّ لهم) أي: الحلائل لأزواجهنّ (تعففا) مصدر تعفف إذا تنزه. قال السيد محمّد مرتضى في «شرح القاموس» : (التعفف: الصبر، والنزاهة في الشيء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 (فعف) أي: كف «1» (هذاك) أي: المهاجريّ بعد نزوله عن الحليلة؛ لأنّه لا يجمل. قال في «القاموس» : (عف الرجل عفا، فهو عف وعفيف: كف عمّا لا يجمل) وهو المراد هنا، وعما لا يحل وهو غير مراد (وذاك) أي: الأنصاريّ (أسرفا) بالسين المهملة، وألف الإطلاق؛ أي: جاوز في الإيثار، حتى قصد أن ينزل عن إحدى حليلتيه للمهاجريّ، فإنّ الإسراف ضد القصد. وهذه الأخلاق من الأنصار- شكر الله سعيهم، ورزقنا حبهم- مظهر عظيم من مظاهر إيمانهم وحبهم لله ورسوله، ولكل من لجأ إليهم فارّا بدينه من بلاد الكفر وحزب الضلال، فرضي الله عن هؤلاء الصحب الكرام الذين تبوءوا الدار والإيمان يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، ورزقنا حبهم، وجمعنا بهم في مستقر حرمته، بمنّه وكرمه، إنّه على ذلك قدير، آمين. ***   (1) يحتمل أن تكون العبارة هكذا: (فعفها ذاك) على أنّ الهاء ضمير الحليلة، لا حرف تنبيه، وذاك: هو المهاجري، ولكن لم أر ذلك في نسخة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 (15) غزوة ذات الرقاع قال الزّرقانيّ: (بكسر الراء بعدها قاف، فألف، فعين مهملة: جمع رقعة بضمها، وهي غزوة محارب «1» ، وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار، وغزوة صلاة الخوف، وغزوة الأعاجيب، وقول البخاريّ: (وهي غزوة محارب بن خصفة بن ثعلبة بن غطفان) وهم؛ لاقتضائه أنّ ثعلبة جد لمحارب، وليس كذلك، كما عند ابن إسحاق وغيره، فصوابه: وبني ثعلبة بواو العطف؛ فإنّ غطفان هو ابن سعد بن قيس عيلان، ومحارب بن خصفة بن قيس عيلان، فمحارب وغطفان أبناء عم، فكيف يكون الأعلى منسوبا إلى الأدنى؟! وفي قوله: (ثعلبة بن غطفان) نظر أيضا، والأولى ما عند ابن إسحاق: (وبني ثعلبة من غطفان) ، بميم ونون، قاله الحافظ، ونبّه على ذلك أبو علي الجيّاني في أوهام الصحيح) . قال اليعمريّ: (سمّيت بذلك لأنّهم رقّعوا فيها راياتهم؛ ويقال: ذات الرقاع، شجرة بذلك الموقع، وقيل: لأنّ أقدامهم نقبت، فكانوا يلفون عليها الخرق) اهـ قلت: وهذا هو الأصحّ، لما رواه البخاريّ ومسلم عن   (1) قال في «الفتح» : (جمهورهم على أنّ غزوة ذات الرقاع هي: غزوة محارب، وجزم به ابن إسحاق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أبي موسى، قال: خرجنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرّقاع؛ لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق. الاختلاف في وقت وقوع هذه الغزوة: واختلف متى كانت على أقوال: فعند ابن إسحاق بعد بني النضير، سنة أربع في ربيع الآخر، وبعض جمادى. وعند ابن سعد، وابن حبان في المحرم سنة خمس. ومال البخاري: إلى أنّها كانت بعد خيبر؛ لأنّ أبا موسى شهدها، وهو إنّما جاء من الحبشة بعد خيبر، سنة سبع، فلزم أنّها كانت بعد خيبر. قال الحافظ: (وعجبت من ابن سيّد الناس كيف قال: جعل البخاريّ حديث أبي موسى هذا حجّة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر، قال- يعني اليعمريّ-: وليس في حديث أبي موسى ما يدلّ على شيء من ذلك) قال الحافظ: (هذا النفي مردود، والدلالة من ذلك واضحة) . قلت: وذلك: لأنّ أبا موسى كان قدومه من الحبشة بعد فتح خيبر، وفي الصحيح قال أبو موسى: فوافينا النّبي صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر، لكن الناظم رحمه الله تعالى جرى على أنّها بعد بني النضير كأصله، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ثمّ إلى محارب وثعلبه ... ذات الرّقاع ناهزوا المضاربه ولم يكن حرب وغورث جرى ... فيها له الّذي لدعثور جرى (ثمّ) أي: بعد غزوة بني النضير، توجه صلى الله عليه وسلم (إلى) غزو (محارب) بضم الميم ابن خصفة، بفتح المعجمة والصاد (و) بني (ثعلبة) وهم بأرض نجد، و (ذات الرقاع) فإنّ الغزوة تسمى بهذه الثلاثة، كما تقدم، ثمّ استأنف الكلام بجملة وقعت جوابا عن كيفية الغزوة، فقال: (ناهزوا) أي: قاربوا (المضاربة) والمقاتلة، (ولم يكن حرب) . وذلك: أنّه لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنّهم جمعوا الجموع.. خرج- كما قاله اليعمري عن ابن سعد- ليلة السبت، لعشر خلون من المحرم، في أربع مئة من أصحابه، ويقال: سبع مئة، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقيل: أبا ذرّ رضي الله عنه، قال في «شرح المواهب» : (وسار صلى الله عليه وسلم إلى أن وصل وادي الشّقرة، فأقام فيها يوما، وبعث السّرايا، فرجعوا إليه من الليل، وخبروه: أنّهم لم يروا أحدا، فسار حتّى نزل نخلا، بالخاء المعجمة: موضع من نجد، من أرض غطفان) . قال ابن إسحاق: (فلقي جمعا منهم، فتقارب الناس، ودنا بعضهم من بعض، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 مع النّبيّ وعلى المعتمد ... جرت لواحد بلا تعدّد قال الزرقانيّ: (وكان في صلاة العصر، كما رواه البيهقي عن جابر، ثمّ انصرف الناس، وكان ذلك أول ما صلاها) . قال في «روض النّهاة» : (وممّا تخالف به غيرها من الحكم أنّه لا سهو فيها) اهـ وكانت غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، وبعث جعال بن سراقة بشيرا بسلامته وسلامة المسلمين. غورث وما همّ به من قتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (وغورث) بن الحارث من بني محارب (جرى فيها) أي: في هذه الغزوة (له الذي) جرى (لدعثور) فهو يتعلق بقوله: (جرى) والدال فيه مضمومة، وفي البيت الإيطاء، ويتعلق به أيضا قوله: (مع النّبيّ) صلى الله عليه وسلم، روى ابن إسحاق، وذكره اليعمري عنه: (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أنّ رجلا من بني محارب يقال له: غورث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمّدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، قال: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمّد؛ أنظر إلى سيفك هذا؟ قال: «نعم» فأخذه فاستله، ثمّ جعل يهزه ويهم، فيكبته الله تعالى. ثمّ قال: يا محمّد؛ أما تخافني؟ قال: «لا، وما أخاف منك؟» قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟ قال: «لا، بل يمنعني الله منك» قال: ثمّ عمد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فردّه عليه، فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. وقد رواه من حديث جابر أيضا أبو عوانة وفيه: (فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك مني؟» قال: كن خير آخذ، قال: «تشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّي رسول الله؟» قال الأعرابي: أعاهدك أنّي لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس) . ثمّ قال الناظم تبعا لأصله. (وعلى المعتمد جرت) هذه القصة (لواحد) اختلف الرواة في اسمه، فقال بعضهم: اسمه دعثور، وبعضهم: غورث، وقوله: (بلا تعدّد) تأكيد، فإنّ اليعمريّ قال في «العيون» : (والظاهر: أنّ الخبرين واحد) وقال غيره من المحققين كابن كثير: الصواب: أنّهما قصتان في غزوتين: قصة لرجل اسمه دعثور بغزوة ذي أمرّ وغطفان، وفيها التصريح بأنّه أسلم، ورجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير. وقصّة بذات الرقاع لرجل اسمه غورث، وليس في قصته تصريح بإسلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وفي هذه القصة فرط شجاعته صلى الله عليه وسلم، وقوة يقينه، وقوة صبره على الأذى، وقوة حلمه على الجهال، عليه الصّلاة والسّلام من ذي الجلال. قصة جابر وجمله مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم: فائدة: في انصرافه صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة أبطأ جمل جابر بن عبد الله، فنخسه صلى الله عليه وسلم، فانطلق متقدما بين يدي الركاب، ثمّ قال: «أتبيعنيه؟» فابتاعه منه وقال: «لك ظهره إلى المدينة» فلمّا وصل.. أعطى الثمن، وزاد، ووهب له الجمل، والحديث أصله في البخاريّ، قال الزرقانيّ: (في عشرين موضعا، لكن لم يقع فيه: أنّه في ذات الرقاع) . قال ابن إسحاق: (وحدّثني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلمّا قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا جابر؟» قال: قلت: يا رسول الله؛ أبطأ بي جملي هذا، قال: «أنخه» قال: فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ثمّ قال: «أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي عصا من شجرة» قال: ففعلت، قال: فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخسه بها نخسات، ثمّ قال: «اركب» فركبت، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة «1» ، قال: وتحدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «أتبيعني جملك هذا يا جابر؟» قال: قلت: يا رسول الله؛ بل أهبه لك، قال: «لا، ولكن بعنيه» قال: قلت: فسمنيه يا رسول الله، قال: «قد أخذته بدرهم» قال: قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله، قال: «فبدرهمين» قال: قلت: لا، قال: «فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمنه حتى بلغ الأوقية» قال: فقلت: أفقد رضيت يا رسول الله؟ قال: «نعم» قلت: فهو لك. قال: «قد أخذته» . قال: ثمّ قال: «يا جابر؛ هل تزوجت بعد؟» قال: قلت: نعم يا رسول الله، قال: «أثيّبا أم بكرا؟» قال: قلت: لا، بل ثيّبا، قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟» قال: قلت: يا رسول الله؛ إنّ أبي أصيب يوم أحد، فترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهنّ،   (1) المواهقة: أن تسير مثل سير صاحبك، قال في «النهاية» : (وفي حديث جابر: «فانطلق الجمل يواهق ناقته مواهقة» أي: يباريها في السير، ويماشيها، ومواهقة الإبل: مد أعناقها في السير) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وتقوم عليهنّ، قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنّا لو قد جئنا صرارا «1» .. أمرنا بجزور، فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسمعت بنا، فنفضت نمارقها» قال: قلت: والله يا رسول الله ما لنا من نمارق، قال: «إنّها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا» . قال: فلمّا جئنا صرارا.. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت، وأقمنا عيها ذلك اليوم، فلمّا أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. دخل ودخلنا، قال: فحدثت المرأة الحديث! وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك سمعا، وطاعة، قال: فلمّا أصبحت.. أخذت برأس الجمل فأقبلت به.. حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثمّ جلست في المسجد قريبا منه، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل فقال: «ما هذا؟» قالوا: يا رسول الله؛ هذا جمل جاء به جابر، قال: «فأين جابر؟» قال: فدعيت له، قال: فقال: «يا ابن أخي؛ خذ برأس جملك، فهو لك» ودعا بلالا، فقال له: «اذهب بجابر، فأعطه أوقية» قال: فذهبت معه فأعطاني أوقية، وزادني شيئا يسيرا، قال: فوالله؛ ما زال ينمى عندي «2» ، ويرى مكانه من بيتنا، حتى   (1) موضع على ثلاثة أميال من المدينة. (2) من نمى المال زاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أصيب أمس فيما أصيب لنا، يعني يوم الحرة. قال السهيلي: (ومن لطيف العلم في حديث جابر بعد أن يعلم قطعا: أنّه عليه الصّلاة والسّلام لم يفعل شيئا عبثا، بل لحكمة مؤيدة بالعصمة، اشتراء الجمل منه، ثمّ أعطاه الثمن، وزاده، ثمّ ردّ الجمل عليه، وكان يمكن أن يعطيه ذلك بلا مساومة، ولا اشتراء، ولا شرط توصيل، فالحكمة فيه بديعة جدا، فلتنظر بعين الاعتبار) . وذلك: أنّه سأله: «هل تزوجت؟» ثمّ قال: «هلا بكرا» فذكر مقتل أبيه وما خلف من البنات، وقد كان عليه الصّلاة والسّلام أخبر جابرا بأنّ الله قد أحيا أباه، وردّ عليه روحه، وقال: ما تشتهي فأزيدك، فأكد صلى الله عليه وسلم هذا الخبر بمثل ما يشبهه: فاشترى منه الجمل وهو مطيته كما اشترى الله من أبيه ومن الشهداء أنفسهم بثمن هو الجنة، ونفس الإنسان مطيته. ثمّ زادهم زيادة فقال لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ. ثمّ رد عليهم أنفسهم التي اشترى منهم فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً. فأشار صلى الله عليه وسلم باشتراء الجمل من جابر، وإعطائه الثمن وزيادته، ثمّ رد الجمل المشترى عليه، أشار بذلك كله إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن فعل الله تعالى بأبيه، فتشاكل الفعل مع الخبر، كما تراه، وحاشا لأفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ثمّ لميعاد ابن حرب بدر ... وكعّ عنها نجل حرب صخر صلى الله عليه وسلم أن تخلو من حكمة، بل هي كلها ناظرة إلى القرآن، ومنتزعة منه صلى الله عليه وسلم) اهـ (16) غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى لعدم وقوع حرب فيها، وتسمى بدر الموعد، للمواعدة عليها مع أبي سفيان يوم أحد. (ثمّ) بعد غزوة ذات الرقاع (ل) أجل (ميعاد) أبي سفيان (ابن حرب بدر) وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من ذات الرقاع.. أقام بالمدينة ثلاثة أشهر، ثمّ خرج إلى بدر الموعد في شعبان سنة أربع؛ إذ قال أبو سفيان يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر من العام القابل، فقال عليه الصّلاة والسّلام لرجل من أصحابه هو عمر: «قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد إن شاء الله» فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وخمس مئة من أصحابه، وعشرة أفراس. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول. نكوص أبي سفيان: (وكعّ) بتشديد العين ماض معناه: نكص، ورجع على عقبيه (عنها) أي: عن هذه الغزوة (نجل حرب) أبو سفيان (صخر) وكان قد خرج من مكّة في ألفين، ومعهم خمسون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فرسا، ونزل على مجنّة من ناحية مرّ الظّهران، ثمّ بدا له الرجوع، وقال: يا معشر قريش؛ إنّه لا يصلحكم إلّا عام خصب غيداق، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإنّ عامكم هذا عام جدب، وإنّي راجع فارجعوا، فرجع الناس، فسمّاهم أهل مكّة جيش السّويق، يقولون: إنّما خرجتم تشربون السويق. وفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوعده: أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فوفى بوعده، وأقام ثمانية أيام ببدر ينتظر أبا سفيان، وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين، ونزل فيهم: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قال الجلال السّيوطي: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ أي: نعيم بن مسعود الأشجعي «1» ، إِنَّ النَّاسَ: أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الجموع ليستأصلوكم فَاخْشَوْهُمْ، ولا تأتوهم فَزادَهُمْ ذلك القول إِيماناً وتصديقا بالله، ويقينا.   (1) وذلك: أنّ نعيما قدم مكة فأخبر أبا سفيان بتهيّؤ المسلمين لحربهم، فأعلمه أبو سفيان: أنّه كاره الخروج، وجعل له عشرين فريضة على أن يخذل المسلمين عن المسير، فقدم نعيم المدينة وأرجف بكثرة جموع أبي سفيان، فلم يؤثر ذلك في المسلمين، فإنّهم قالوا: يا رسول الله؛ إنّ الله مظهر دينه، ومعز نبيه، وقد وعدنا القوم، ولا نحب أن نتخلف، فسر لموعدهم فمدحهم الله تعالى بوحي منزل على نبيه صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ: كافينا أمرهم، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ: المفوض إليه الأمر هو، وخرجوا فوافوا سوق بدر، وألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان وأصحابه، فلم يأتوا، وكان معهم تجارات، فباعوا، وربحوا. قال تعالى: فَانْقَلَبُوا: رجعوا من بدر بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ: بسلامة وربح، لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ: من قتل أو جرح، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ بطاعته، وطاعة رسوله في الخروج، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على أهل طاعته، إِنَّما ذلِكُمُ أي: القائل: إنّ الناس.. إلخ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ كم أَوْلِياءَهُ الكفار فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ في ترك أمري إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا) اهـ وفي الآية: أنّ الله تعالى أعطاهم من الجزاء النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتّباع الرضا، فرضّاهم عنه، ورضي عنهم، وذلك: لمّا فوّضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه. (17) غزوة دومة الجندل قال اليعمريّ: (بضم الدال وفتحها؛ أي: من دومة، وهي مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها عن المدينة خمس عشرة، أو ست عشرة ليلة، سميت بدومى بن إسماعيل؛ لأنّه نزلها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فدومة الجندل هاجها زمر ... بدومة يظلمن من بهنّ مرّ قال في «روض النّهاة» : (وكان فيها التحكيم بين سيدنا علي وسيدنا معاوية رضي الله عنهما) . وقال ياقوت في «معجمه» : (وذهب أكثر الرواة إلى أنّ التحكيم كان بأذرح بضم الراء مع فتح أوله) . قال في «القاموس» و «شرحه» : (موضع، وقيل: بلد بجنب جرباء الشام وقد جاء ذكره في حديث الحوض وبينهما مسيرة ثلاثة أميال على الصحيح) . (ف) بعد غزوة بدر هذه (دومة الجندل) أي: غزوتها، وكانت سنة خمس، كما صرح به ابن هشام في ربيع الأوّل، على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة. سبب هذه الغزوة: وبيّن الناظم سببها بقوله: (هاجها) أي: أثار هذه الغزوة (زمر) بوزن زفر: جمع زمرة؛ أي: جماعة كائنة (بدومة يظلمن من) أي: الذي مرّ بهنّ، فقوله: (بهنّ) يتعلق بقوله: (مر) فعل ماض من المرور. وذلك: أنّه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّ جماعة بدومة يظلمون من مرّ بهم، وأنّهم يريدون أن يدنوا من المدينة فيظلموا أهلها، فخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأوّل في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل، ويكمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 النهار، واستعمل على المدينة سباع ابن عرفطة الغفاريّ، قال محمّد بن عمر الواقديّ، كما في «البداية والنهاية» ، بإسناده عن شيوخه، عن جماعة من السّلف، قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدانوا إلى أداني الشام، وقيل له: إنّ ذلك ممّا يفزع قيصر، وذكر له أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا، وأنّهم يظلمون من مرّ بهم، وكان بها سوق عظيم، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فخرج في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل، ويكمن النهار، ومعه دليل من بني عذرة، يقال له: مذكور، هاد، خرّيت. فلمّا دنا من دومة الجندل.. أخبره دليله بسوائم بني تميم، فسار حتى هجم على ماشيتهم، ورعائهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة الجندل، فتفرقوا، فنزل صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجد فيها أحدا، فأقام بها أياما، وبعث السرايا، ثمّ رجعوا، وأخذ محمّد بن مسلمة رجلا منهم، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أصحابه، فقال: هربوا أمس، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سالما لعشر ليال بقين من ربيع الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ثمّت لمّا أجليت يهود ... وأوغرت صدورها الحقود (18) غزوة الخندق سميت بذلك للخندق الذي حفر حول المدينة في شاميّها، من طرف الحرّة الشرقية، إلى طرف الحرّة الغربية، وتسمى: (غزوة الأحزاب) لتحزّب طوائف من الكفار على حرب المسلمين، وهم: قريش، وغطفان، واليهود، ومن تبعهم. وكانت سنة أربع على ما قاله موسى بن عقبة، وجنح له الإمام البخاريّ، واستدلّ له بحديث ابن عمر في «صحيحه» أو في شوال، سنة خمسة على ما قاله ابن إسحاق، قال في «شرح المواهب» : قال ابن القيّم: وهو الأصحّ، والذهبي: هو المقطوع به، والحافظ: هو المعتمد. وذكر الناظم سببها فقال: (ثمّت) لغة في ثم (لمّا أجليت يهود) «1» من المدينة أي: أخرجهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة، وألحقهم بخيبر، والشام، وأخذ أموالهم، وقتل منهم من قتل، وغاظهم ذلك، كما قال: (وأوغرت) أي: أوقدت (صدورها) أي: في صدور اليهود (الحقود) جمع حقد بكسر الحاء: هو الضغن، وهو إمساك العداوة في القلب.   (1) جواب لمّا.. قوله فيما يأتي: (خندق خير مرسل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وحزّبت عساكرا عناجها ... إلى ابن حرب وقريش تاجها تحريض اليهود لقريش وغطفان على حرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (وحزّبت) بالتشديد؛ أي: جمعت اليهود (عساكرا) جمع عسكر: هو الجمع، فخرج من خيبر سلّام بن مشكم، وابن أبي الحقيق النّضري، وحييّ بن أخطب النّضريّ، وكنانة بن الرّبيع، زوج أمنا صفية قبل، وهوذة بن قيس الوائليّ، وأبو عمار الوائليّ، في نفر من بني النّضير، ونفر من بني وائل، حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود؛ إنّكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمّد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً الآيات. فلمّا قالوا ذلك لقريش.. سرّهم، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك، واتّعدوا له. ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود، حتى جاؤوا غطفان، فدعوهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وجعلوا كي يتروا خير الورى ... لغطفان نصف تمر خيبرا خروج الأحزاب من المشركين للحرب: فخرجت قريش في أربعة آلاف، ولواؤهم بيد عثمان بن أبي طلحة قبل إسلامه، وخيلهم ثلاث مئة فرس، وإبلهم ألف وخمس مئة بعير، وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان في ألف، وقائدهم عيينة بن حصن الفزاري، وقد أسلم بعد، وخرجت أشجع في أربع مئة، يقودهم مسعود بن رخيلة، وأسلم بعد ذلك، وسليم في سبع مئة، يقودهم سفيان بن عبد شمس، وبنو أسد، يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، وأسلم واستشهد بنهاوند، وخرجت بنو مرّة في أربع مئة، يقودهم الحارث بن عوف، وأسلم بعد ذلك، والجميع عشرة آلاف. وكانوا ثلاثة عساكر، يقود الكل أبو سفيان، كما قال الناظم. (عناجها) بكسر العين- مبتدأ-: وهو ملاك الشيء؛ أي: ملاك العساكر (إلى) أبي سفيان (بن حرب) وهو خبر المبتدأ، (وقريش تاجها) أي: العساكر؛ أي: قريش في مقدمتها. (وجعلوا) أي: اليهود (كي يتروا خير الورى) أي: لأجل ذلك، وهو مأخوذ من وتر الرجل: أفزعه، وأدركه بمكروه، كما في «القاموس» ويتعلق قوله: (لغطفان) بقوله: (جعلوا) ومفعوله (نصف تمر خيبرا) وهي مدينة لليهود سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في غزوتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 خندق خير مرسل بأمر ... سلمان والحروب ذات مكر حفر الخندق: فلمّا كان ما ذكر، وبلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خروجهم، وندب الناس، وأخبرهم خبر عدوّهم (خندق) أي: حفر الحفرة حول المدينة (خير مرسل) صلى الله عليه وسلم، وعمل فيه بيده، تنشيطا للناس، وكان صلى الله عليه وسلم يضرب مرة بالمعول، ومرة بالمسحاة يغرف بها التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل. قال في «روض النّهاة» : وكمل في ستة أيام، وقيل: في خمسة عشر، وقيل: في عشرين يوما، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف على الصحيح المشهور، وغلط من قال: إنّهم سبع مئة، وكان معهم ستة وثلاثون فرسا، وكان الخندق (بأمر) أي: بإشارة (سلمان) الفارسي رضي الله عنه؛ فإنّه قال: يا رسول الله؛ إنّا كنا إذا حوصرنا خندقنا علينا، فكانت هذه مكيدة لم تعرفها العرب (والحروب ذات مكر) أي: احتيال وخديعة. قلت: ولو أنّ الناظم قال: خندق خير مرسل وقد أشار ... سلمان بالخندق نعم المستشار .. لكان أليق بالأدب في حق الجناب النبوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 كم آية في حفره كالشّبع ... من حفنة وسخلة للمجمع ارتجاز المسلمين في حفر الخندق: قال ابن إسحاق: (وعمل المسلمون فيه حتّى أحكموه، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين، يقال له: جعيل، سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا، فقالوا فيما يقولون: سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا وكانوا إذا قالوا: عمرا، قال معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمرا» وإذا قالوا: ظهرا، قال لهم: «ظهرا» ) . معجزات باهرة وأعلام للنبوّة ظاهرة: واعلم: أنّه قد كانت في حفر الخندق آيات، فيها أعظم عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك على مرأى من المسلمين، أشار إلى بعضها بقوله: (كم آية) من الآيات على تحقيق نبوّته صلى الله عليه وسلم، وعظيم عناية ربّه به ظهرت (في حفره) صلى الله عليه وسلم للخندق، وذلك (كالشّبع) لأهل الخندق (من حفنة) تمر، وهي ملء الكفّ، جاءت بها ابنة بشير بن سعد لأبيها وخالها عبد الله بن رواحة، ليتغدّيا به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بنية؛ ما هذا الذي معك؟» قالت: قلت: يا رسول الله؛ هذا تمر بعثتني به أمي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغديان به فقال: «هاتيه» قالت: فصببته في كفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأهما، ثمّ أمر بثوب فبسط له، دحا بالتمر عليه، فتبدّد فوق الثوب، ثمّ قال لإنسان عنده: «اصرخ في أهل الخندق: أن هلمّوا إلى الغداء» فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه وإنّه ليسقط من أطراف الثوب. (و) كالشّبع لهم من (سخلة) : هي ولد الغنم من الضأن والمعز ساعة وضعه، ذكرا كان، أو أنثى السخلة (للمجمع) بفتح الميمين: موضع اجتماع القوم، وكانت السّخلة لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه. وكان من حديثها ما رواه الإمام البخاريّ بسنده إلى جابر قال: (لما حفر الخندق.. رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، فذبحتها، فطحنت، ففرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها. ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه، فجئته، فساررته، فقلت: يا رسول الله؛ ذبحت بهيمة لنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وكم بشارة لخير مرسل ... من الفتوح تحت ضرب المعول وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أهل الخندق؛ إنّ جابرا قد صنع سؤرا، فحيّهلا بكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينكم حتى أجيء» . فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك! فقلت: قد فعلت الذي قلت. فأخرجت لنا عجينا، فبسق فيه وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا، فبسق وبارك، ثمّ قال: ادعي خبّازة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك، ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإن عجيننا كما هو) . ويرحم الله الإمام العارف، إذ يشير إلى هذه الآية مع آية تكثير الماء بقوله: فتغذّى بالصاع ألف جياع ... وتروّى بالصّاع ألف ظماء (وكم بشارة) أي: كثير منها، فكم للتكثير كالسابقة (لخير مرسل) صلى الله عليه وسلم، وقوله: (من الفتوح) بيان للبشارة، والمراد: فتوح البلدان، كائنة تلك البشارة المخبر عنها (تحت ضرب المعول) بوزن منبر: وهي الحديدة ينقر بها الجبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وأشار بهذا إلى ما رواه الإمام أحمد والنّسائي من حديث البراء، قال: (لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق.. عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول؛ يعني: من سلمان، فقال: «باسم الله» ثمّ ضربه، فنشر ثلثها، وقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إنّي لأبصر قصورها الحمر الساعة» ثمّ ضرب الثّانية، فقطع ثلثا آخر، فقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إنّي لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن» ثمّ ضرب الثّالثة، وقال: «باسم الله» فقطع بقيّة الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة «1» » . قال ابن إسحاق: (وحدّثني من لا أتهم عن أبي هريرة: أنّه كان يقول: حين فتحت هذه الأمصار في زمن عمر، وزمن عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلّا وقد أعطى الله محمّدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك) .   (1) قال في «شرح المواهب» : (هذا الحديث الحسن لا يعارض رواية ابن إسحاق بلفظ حديث عن سلمان، فذكره وفيه: «أمّا الأولى.. فإنّ الله فتح بها علي اليمن» ، «والثّانية: الشام والمغرب» ، «والثّالثة: المشرق وفارس» ؛ لأنّه منقطع فلا يعارض المسند المرفوع الحسن، ومن ثمّ لم يلتفت الحافظ لرواية ابن إسحاق، وإن تبعه عليها اليعمري وغيره، بل اقتصر على هذا الحديث وأيده بتعدد طرقه) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ومن الآيات التي لم يذكرها الناظم، وذكرها أصله: حديث كدية «1» جابر، فإنّه حدّث: أنّه اشتدّ عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول وضرب، فعاد كثيبا أهيل «2» وروي في هذا الخبر: (أنّه عليه الصّلاة والسّلام دعا بماء فتفل فيه، ثمّ دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثمّ نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها: فو الّذي بعثه بالحق: لانهالت حتى عادت كالكثيب، وما ترد فأسا ولا مسحاة) . اجتماع الجيشين حول الخندق: ولمّا فرغ صلى الله عليه وسلم من الخندق.. أقبلت قريش حتى نزلوا بمجتمع الأسيال، وغطفان بذنب نقمى «3» ، إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين حتى جعلوا ظهورهم إلى جبل سلع، فضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء والذراريّ أن يجعلوا في الآطام «4» .   (1) هي بضم الكاف: الأرض الغليظة. (2) يعني: صار رملا يسيل ولا يتماسك، وأهيل: بفتح الهمزة والتحتية، بينهما هاء ساكنة، وآخره لام، وفي رواية بالميم بدل اللام والمعنى واحد. (3) بفتح النون والقاف والميم مقصورا: موضع من أعراض المدينة، نقله في «شرح المواهب» عن البرهان. (4) الأبنية العالية المرتفعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وكعب بن أسد إذ فتنه ... عن عهده حييّ أعطى رسنه وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة، وكان عبّاد بن بشر على حرس النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنصار، يحرسونه كل ليلة، وقيل: إنّ الذي حرسه يوم الخندق الزّبير بن العوّام رضي الله عنه. وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو يوما أبو سفيان في أصحابه، ويوما خالد بن الوليد، ويوما عمرو بن العاص، ويوما هبيرة بن أبي وهب، ويوما عكرمة بن أبي جهل، ويوما ضرار بن الخطاب. قال في «روض النّهاة» : (وأسلم هؤلاء إلّا هبيرة، فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويفترقون مرة، ويجتمعون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدّمون رماتهم فيرمون) . نقض كعب عهده للرسول صلّى الله عليه وسلّم: (وكعب بن أسد) القرظي صاحب عقد بني قريظة (إذ فتنه) أي: أوقعه في الفتنة وأضلّه (عن عهده) الذي كان عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاقده من ترك قتالهم له مع أحد، والكف عنه، وفاعل فتنه قوله: (حييّ) بترك التنوين للوزن، وخبر المبتدأ الذي هو كعب، جملة قوله: (أعطى) أي: كعب المذكور لحيي (رسنه) أي: أعطاه قياده، وهو بفتح الراء والسين: ما يقاد به من زمام ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 فغدرت قريظة لغدره ... يومئذ إذ هو أسّ نجره وحاصل ما أشار له الناظم كما ذكره ابن إسحاق وغيره: (أنّه خرج عدوّ الله حييّ بن أخطب النّضريّ حتى أتى كعب بن أسد القرظي، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأغلق دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال: ويحك يا حييّ إنّك امرؤ مشؤوم، وإنّي قد عاهدت محمّدا، فلست بناقض ما بيني وبينه؛ فإنّي لم أر منه إلّا وفاء، وصدقا. فقال: ويحك! افتح لي، ولم يزل به حتى فتح له، فقال: ويلك يا كعب! جئتك بعز الدهر جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان، وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمّدا، ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، وبجهام «1» قد أهريق ماؤه يرعد ويبرق، وليس فيه شيء، ويحك يا حييّ! دعني وما أنا عليه؛ فإنّي لم أر من محمّد إلّا صدقا ووفاء، ولم يزل به يفتله في الذّروة والغارب «2» .. حتّى نقض عهده، وبرىء ممّا كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فغدرت قريظة) العهد، ونقضته مع كعب (ل) أجل (غدره يومئذ إذ هو) أي: كعب (أسّ) بتثليث الهمزة، أصل البناء، وهو مضاف إلى (نجره) بفتح النون وسكون الجيم:   (1) بجيم مفتوحة، فهاء مخففة: السحاب الذي لا ماء فيه، وأهريق: بضم الهمزة وسكون الهاء وكسر الراء: صب، اهـ «شامية» . (2) مثل: أصله البعير يستصعب عليك، فتأخذ القراد من ذروته وغارب سنامه، فيجد لذة، فيأنس بعد ذلك، فضرب مثلا في المراوضة، قاله في «الروض الأنف» اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وهو الأصل. تحرّي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن نقض كعب للعهد: ولمّا انتهى هذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين.. بعث جماعة من أصحابه فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقا.. فألحنوا لي لحنا «1» حتى أعرفه، ولا تفتّوا «2» في أعضاد الناس،   (1) اللحن: العدول بالكلام عن الوجه المعروف إلى وجه لا يعرفه إلّا صاحبه، كما أنّ اللحن الذي هو الخطأ عدول عن الصواب الذي هو معروف، وقال الجاحظ في قول مالك بن أسماء: منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا أراد اللحن الذي هو الخطأ، قد يستملح ويستطاب من الجارية الحديثة السن، وخطئ الجاحظ في هذا التأويل، وأخبر بما قاله الحجاج بن يوسف لامرأته هند بنت أسماء بن خارجة حين لحنت فأنكر عليها اللحن، فاحتجّت بقول أخيها مالك بن أسماء: (وخير الحديث ما كان لحنا) فقال لها الحجاج: لم يرد أخوك هذا، إنّما أراد الذي هو التورية والإلغاز، فسكتت، فلمّا حدث الجاحظ بهذا الحديث قال: لو كان بلغني هذا قبل أن أؤلف كتاب البيان.. ما قلت في ذلك ما قلت، فقيل: أفلا تغيره، فقال: وكيف وقد سارت به البغال الشهب، وأنجد في البلاد وغار، اهـ حكاه السهيلي. قال في «العيون» : (وتأويل الجاحظ أولى؛ لما فيه من مقابلة الصواب بالخطأ، ولعل الشاعر لو أراد المعنى الآخر.. لقال: «منطق ظاهر» ليقابل بذلك ما تقتضيه التورية واللغز من الخفاء. فكما قال الجاحظ في تأويل: «وتلحن أحيانا» ) اهـ قلت: وما قاله في «العيون» ظاهر. (2) بضم الفاء وشد الفوقية، قال في «الروض» : (أي: تكسروا من قوتهم وتوهنوهم، ضرب العضد مثلا، وقال: في أعضاد، ولم يقل: في أعضاء؛ لأنّه كناية عن الرعب الداخل في القلب، ولم يرد كسرا حقيقيا، ولا العضو الذي هو العضو، إنّما هو عبارة عمّا يدخل في القلب من الوهن، وهو من أفصح الكلام) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وأرسل السّعدين خير مرسل ... وابن رواحة لهم لينجلي ما هم عليه، فإذا هم عضل ... وسرّ خير الخلق ذاك الخذل وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا بذلك للناس، وإلى هذا الإشارة بقوله: (وأرسل السّعدين) سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ. وفاعل أرسل (خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (و) أرسل عبد الله (ابن رواحة) معهم، وكذا خوّات بن جبير، ويتعلق بأرسل الجار والمجرور في قوله: (لهم) أي: لبني قريظة، فقال صلى الله عليه وسلم لهم ما ذكر، وإنّما أرسل لهم (لينجلي) أي: ليتضح (ما) أي: الأمر، والموقف الذي (هم) أي: بنو قريظة (عليه) من العهد، أو نقضه. فخرجوا حتى أتوا بني قريظة، فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمّد، ولا عقد، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، فقال له سعد بن عبادة: (دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة) . ثمّ أقبل السّعدان ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه، ثمّ قالوا: عضل والقارة؛ أي: هم غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع. وإلى هذا الإشارة بقوله: (فإذا هم عضل) بفتح المهملة ثمّ المعجمة: هي قبيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 من بني الهون بن خزيمة، غدروا بأصحاب الرجيع. وعلم من التقرير: أنّ ما بعد الفاء مرتب على مقدر. (وسرّ) بالبناء للفاعل، ومفعوله (خير الخلق) صلى الله عليه وسلم (ذاك الخذل) من بني قريظة؛ لأنّه علم صلى الله عليه وسلم: أن قد قرب الفرج، فقال عند ذلك: «الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين» . شدة خوف المسلمين، وظهور نفاق المنافقين: قال في «العيون» : (وعظم عند ذلك البلاء، واشتدّ الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. تنبيه: ما ذكره الناظم تبعا لأصحاب المغازي لا ينافي ما رواه الشيخان عن عبد الله بن الزّبير، قال: (كنت يوم الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان، فنظرت فإذا الزّبير على فرسه، يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلمّا رجعت.. قلت: يا أبت؛ رأيتك تختلف، قال: رأيتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قالت جنوب للشّمال انطلق ... ننصر خير مرسل في الخندق فقالت الشّمال إنّ الحرّه ... لم تسر باللّيل فذاك عرّه يا بني؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟» فانطلقت، فلمّا رجعت.. جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه في الفداء، فقال: فداك أبي وأمي) ؛ لما قاله في «شرح المواهب» : (من أنّه أرسل الجميع دفعة، أو بعد إرسال الزّبير؛ لاحتمال أن يرجعوا إلى العهد بعد نقضه، حياء من حلفائهم؛ لأنّهم كانوا حلفاء الأوس، وقد أرسل إليهم سيدهم، فغلبت عليهم الشّقوة) . وليس لك أن تقول: أو لاحتمال أنّ الزّبير علم من غيرهم نقض العهد، فاكتفى به؛ لأنّه ظن سوء بمثل الزّبير، تأباه مروءته وشجاعته. إرسال ريح النصر والملائكة للمؤمنين: (قالت جنوب) بفتح الجيم؛ أي: ريح الجنوب، ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريّا (للشمال) بفتح الشين، ومهبها ناحية القطب (انطلق) بكسر القاف للرويّ (ننصر خير مرسل) صلى الله عليه وسلم (في الخندق) . (فقالت الشمال) مجيبة لها بلسان المقال، أو بلسان الحال: (إن الحرة لم تسر بالليل، فذاك) أي: سيرها بالليل (عرّة) بضم العين؛ أي: قبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فأرسل الله الصّبا والملكه ... فنصرا نبيّه في المعركه وغطفان رام أن يخوّلوا ... ثلث تمر طيبة ليعدلوا (فأرسل الله الصّبا) بفتح الصاد المهملة، وخفة الموحدة، وهي الشرقية، ويقال لها: القبول؛ لأنّها تقابل الشمال: وهي الريح العقيم، التي لا خير فيها، قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها (والملكة) : جمع ملك، بفتح اللام فيهما (فنصرا نبيه) صلى الله عليه وسلم (في المعركة) بفتح الميم والراء، موضع الحرب كالمعترك. وأشار بهذا إلى ما رواه ابن مردويه، والبزّار وغيرهما برجال الصحيح عن ابن عباس قال: لما كانت ليلة الأحزاب.. قالت الصّبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنّ الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها فجعلها عقيما، وأرسل الصّبا فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» . وروى الشيخان، والنسائي عنه مرفوعا: «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور» بفتح الدال: الريح الغربية. ومن لطيف المناسبة: كون القبول نصرت أهل القبول، والدبور أهلكت أهل الإدبار. مشروع الصلح بين المسلمين وغطفان، وعدم تمامه: (وغطفان رام) أي: أراد صلى الله عليه وسلم، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وأنف السّعدان من صلح النّبي ... وحكّما حدّ شفار القضب بعث إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف المرّي، وهما قائدا غطفان (أن يخوّلوا) بالبناء للمفعول، أي: يعطوا (ثلث تمر طيبة ليعدلوا) أي: ليميلوا ويرجعوا بمن معهم عنه، وعن أصحابه، فجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة، ولا عزيمة الصلح، فلمّا أراد صلى الله عليه وسلم أن يفعل.. بعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس؛ وسعد بن عبادة سيد الخزرج يستشيرهما في الأمر. (وأنف) عند ذلك؛ أي: استنكف (السّعدان من صلح النبيّ) صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله؛ أأمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به، لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلّا أنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم «1» من كل جانب؛ فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» . فقال له سعد بن معاذ سيد الأوس: يا رسول الله؛ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلّا قرى، أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.   (1) يقال كلب الدهر على أهله إذا ألحّ واشتدّ، وكذا العدو. انظر «النهاية» ، مادة (كلب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 معتّب نجل قشير قالا ... وعدنا النّبيّ أن ننالا (وحكّما حدّ شفار) بكسر أوله، جمع شفرة بالفتح؛ أي: حدّ السيوف (القضب) أي: القواطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «فأنت وذاك» فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثمّ قال: ليجهدوا علينا. اقتحام بعض المشركين الخندق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوّهم محاصرهم، ولم يكن بينهم قتال، إلّا أنّ فوارس من قريش منهم: عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب تلبّسوا للقتال، ثمّ خرجوا على خيلهم، حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيّأوا يا بني كنانة للحرب؛ فستعلمون من الفرسان اليوم، ثمّ اقبلوا تعنق «1» بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلمّا رأوه.. قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمموا مكانا من الخندق ضيقا، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السّبخة بين الخندق وسلع. فلتة معتب بن قشير: و (معتّب نجل قشير) بالتصغير، الأوسيّ، قال الحافظ: (ذكروه فيمن شهد العقبة، وقيل: إنّه كان منافقا، وقيل: إنّه تاب، وقد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا) ،   (1) أي: تسرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 كنوز قيصر وكسرى ونرى ... أحدنا اليوم يخاف المخترى والألف في قوله: (قالا) للإطلاق؛ يعني: لما غدرت بنو قريظة، واشتدّ البلاء والخوف على المسلمين، وأتاهم عدوّهم غطفان من فوقهم من قبل المشرق، وقريش من أسفل منهم من قبل المغرب، وظنّ المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين.. قال معتّب: (وعدنا النّبيّ أن ننالا) بألف الإطلاق أيضا، ومفعوله: (كنوز قيصر) وهو علم لكل من ملك الروم، وأصله من القصر، وهو البقر بالعجمية؛ لأنّه بقر عنه بطن أمّه، وكان يفخر بذلك، يقول: لم تلدني النساء (وكسرى) : هو لقب لكل من ملك الفرس، ومعناه: واسع الملك (ونرى) الواو للحال؛ أي: يقول معتب: وعدنا النبيّ أن نأخذ أموال قيصر وكسرى، والحال أنّنا نرى ونبصر (أحدنا اليوم يخاف المخترى) بضم الميم، مكان الغائط؛ أي: لا يأمن أن يذهب إلى الغائط. قال في «شرح المواهب» : (أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً في معتّب بن قشير الأنصاريّ: هو صاحب هذه المقالة، وقيل: عبد الله بن أبيّ وأصحابه) . قال ابن هشام: (وأخبرني من أثق به من أهل العلم: أنّ معتّبا لم يكن من المنافقين، واحتجّ بأنّه كان من أهل بدر) وفي بعض النسخ بدل البيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ونوفل من طيشه ونزقه ... أوثب طرفه حفير خندقه فوقعا فيه وأعطى فديته ... إخوانه فاستوهبوه جثّته وابن قشير معتب قال أما ... وعدنا محمّد أن نغنما والخطب سهل، والمعنى واحد. مقتل نوفل المخزومي حين اقتحم الخندق: (ونوفل) هو ابن عبد الله بن المغيرة المخزوميّ (من طيشه) : خفته (ونزقه) عطف تفسير (أوثب طرفه) بكسر الطاء، الكريم من الخيل؛ أي: حمله على أن يثب (حفير) أي: على المحفور من (خندقه) صلى الله عليه وسلم يريد قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم (فوقعا) أي: نوفل وفرسه (فيه) أي: في الخندق، فاندقت عنقه، وقتله الله، وعظم ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا نعطيكم الديّة، على أن تدفعوه إلينا فندفنه، وإليه الإشارة بقوله: (وأعطى) بالبناء للفاعل (فديته) بالنصب مفعول مقدم على فاعل أعطى الذي هو (إخوانه) والفدية: ما يعطى لإنقاذ الشيء. قال ابن هشام: (بلغني عن الزّهري: أنّهم أعطوا في جسدة عشرة آلاف درهم) . (فاستوهبوه) أي: طلبوا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أن يهب لهم (جثّته) أي شخصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فقال فيه أكرم البريّة ... خبيث جيفة خبيث ديّة عمرو بن عبد ودّ اذ قام له ... حيدرة بسيفه خردله (فقال فيه أكرم البريّة) عليه من ربه أزكى صلاة عطرية ردا عليهم، وجوابا لقولهم: هو (خبيث جيفة) لموته كافرا محاربا لله ولرسوله (خبيث ديّة) بالتشديد للياء للوزن؛ لعدم حلّها؛ إذ لا دية في مثل هذه الصورة، زاد في المواهب: «فلعنه الله، ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب لنا في ديته» . مقتل عمرو بن عبد ودّ بسيف علي: (عمرو بن عبد ودّ) العامريّ (إذ قام له) مبارزا (حيدرة) لقب لسيدنا عليّ بن أبي طالب القائل: أنا الذي سمّتني أمّي حيدره ... أكيلكم بالسيف كيل السّندره «1» (بسيفه) يتعلق بقوله: (خردله) أي: قطع أعضاءه. قال اليعمريّ في «العيون» : (كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر، حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلمّا كان يوم الخندق.. خرج معلما، ليرى مكانه، فلمّا وقف هو وخيله.. قال: من يبارز؟ فبرز له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر ابن سعد في هذا الخبر: أنّ عمرا كان ابن   (1) أي: أقتلكم قتلا واسعا ذريعا، والسندرة: مكيال واسع، قيل: يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 تسعين سنة، فقال عليّ: أنا أبارزه، فأعطاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم سيفه وعمّمه، وقال: «اللهمّ؛ أعنه عليه» ) . وعن ابن إسحاق من غير رواية البكّائي: (أنّ عمرا لما نادى يطلب من يبارزه.. قام عليّ رضي الله عنه وهو مقنّع في الحديد، فقال: أنا له يا نبيّ الله، فقال له: «اجلس إنّه عمرو» ثمّ كرر عمرو النداء، وجعل يؤنّبهم ويقول: أين جنّتكم التي تزعمون أنّه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تبرزون لي رجلا؟ فقام عليّ فقال: أنا يا رسول الله، فقال له: «اجلس، إنّه عمرو» ثمّ نادى الثّالثة، وقال: ولقد بححت من الندا ... ء لجمعكم هل من مبارز ووقفت إذ جبن المشجّع ... وقفة الرجل المناجز وكذاك أنّي لم أزل ... متسرّعا قبل الهزاهز إنّ الشجاعة في الفتى ... والجود من خير الغرائز فقال عليّ رضي الله عنه: أنا له يا رسول الله، فقال: «إنّه عمرو» فقال: وإن كان عمرا، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى إليه علي وهو يقول: لا تعجلنّ فقد أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ذو نية وبصيرة ... والصدق ينجي كلّ فائز إنّي لأرجو أن أقيم ... عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء يبقى ... ذكرها عند الهزاهز فقال عمرو: من أنت؟ فقال: أنا عليّ، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: غيرك يا ابن أخي، من أعمامك من هو أسنّ منك، فإنّي أكره أن أهريق دمك، فقال علي: لكنّي والله ما أكره أن أهريق دمك، فغضب ونزل، وسل سيفه كأنّه شعلة نار، ثمّ أقبل نحو عليّ مغضبا، ويقال: إنّه كان على فرسه، فقال له علي: كيف أقاتلك وأنت على فرسك؟ ولكن انزل معي، فنزل عن فرسه، ثمّ أقبل نحوه، فاستقبله عليّ بدرقته، فضربه عمرو فيها، فقدّها، وأثبت فيها السيف. وأصاب رأسه، فشجّه، فضربه علي على حبل العاتق، فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرف أنّ عليّا قد قتله) . قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ويوم بني قريظة: (حم لا ينصرون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وفضّ جمعهم نعيم الأشجعي ... إذ نمّ بينهم بكلّ مجمع تخذيل نعيم بن مسعود للأحزاب عن المسلمين: (وفضّ) بتشديد الضاد المعجمة (جمعهم) أي: فرّق جمع العرب وبني قريظة، وهو مفعول ل (فض) مقدم على فاعله، الذي هو (نعيم) بالتصغير، ابن مسعود بن عامر (الأشجعيّ إذ نمّ) أي: لأنّه سعى بالنميمة المطلوبة في مثل هذا الموطن (بينهم بكل مجمع) من مجامع الكفار: بني قريظة، وقريش، وغطفان؛ فإنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله؛ إنّي أسلمت، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإنّ الحرب خدعة «1» » فخرج حتّى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة؛ قد عرفتم ودّي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إنّ قريشا وغطفان ليسوا كما أنتم: البلد بلدكم، وبه أموالكم وأبناؤكم، ونساؤكم، لا تقدرون أن تحوّلوا منه إلى غيره، وإنّهم جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه، وقد ظاهر تموهم   (1) قال الحافظ: (بفتح المعجمة، وبضمها مع سكون الدال المهملة فيهما، وبضم أوله، وفتح ثانيه، صيغة مبالغة، كهمزة ولمزة، قال النووي: اتفقوا على أنّ الأولى أفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا: أنّها لغة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذرّ الهروي والقزاز) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة.. أصابوها، وإن كان غير ذلك.. لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتّى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا، حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم أتى قريشا فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودّي لكم، وفراقي محمّدا، وإنه قد بلغني أمر، رأيت حقا عليّ أن أبلّغكموه، نصحا لكم، فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال: إنّ معشر يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمّد: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ لك من أشراف قريش وغطفان رجالا فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم، حتّى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم، قال نعيم: فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا. ثمّ أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي، وأحبّ الناس إليّ، ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وكانت ليلة السبت من شوال، سنة خمس، وكان من صنع الله لرسوله: أنّ أبا سفيان ورؤوس غطفان أرسلوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين فقالوا: إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخفّ والحافر، فأعدّوا للقتال حتى نناجز محمّدا، ونفرغ ممّا بيننا وبينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وعند ما إلى التّشتّت الزّمر ... أجمع أمرهم دعا خير البشر فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم يوم السبت، لا نعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بمقاتلين معكم.. حتّى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتّى نناجز محمّدا، فإنّا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال.. أن ترجعوا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا به. فقالت قريش وغطفان: والله إنّ الذي حدّثكم به نعيم لحق، فأرسلوا إليهم: إنّا والله لا نقاتل معكم.. حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، وخذل الله بينهم، ويئس كل منهم من الآخر، واختلف أمرهم، وكان عليه الصّلاة والسّلام دعا على الأحزاب فقال: «اللهمّ؛ منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهمّ؛ اهزمهم» وكان دعاؤه عليهم يوم الإثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء فعرف السرور في وجهه الشريف: وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... لمعت كلمع البارق المتهلل فلمّا كان ليلة السبت.. بعث الله الريح على الأحزاب، حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رجله، ولا يقر لهم قدر ولا بناء. بعث حذيفة لاستكشاف أمر المشركين: (وعند ما) هي مصدرية، وقوله: (إلى التشتت) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 من يأت بالخبر عنهم يكن ... غدا رفيقنا ومنهم يأمن فلم يقم إليه غير ابن اليمان ... من شدّة الذّعر ومن برد الزّمان التفرق، يتعلق بأجمع، وقوله: (الزّمر) جمع زمرة: الجماعة، مبتدأ، خبره جملة (أجمع) أي: اتفق (أمرهم) وفي نسخة (أزمع) أي: وعند إجماع الزمر من الأحزاب أمرهم إلى التفرّق، وخافت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح، واشتدّ البرد تلك الليلة (دعا) الله عزّ وجلّ (خير البشر) صلى الله عليه وسلم ما أصغت أذن لخبر، وجليت عين لنظر، قائلا: « (من يأت بالخبر عنهم) أي: عن الأحزاب (يكن) جزاؤه (غدا) يوم القيامة (رفيقنا) في الجنة» (ومنهم) أي: من القوم (يأمن) من مكروه يصيبه. (فلم يقم إليه) صلى الله عليه وسلم أحد من الصحابة (غير) حذيفة (ابن اليمان) ففي رواية البيهقي: قال صلى الله عليه وسلم: «من يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيقي» فلم يقم أحد، فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، وفي رواية ابن إسحاق: فدعاني، فلم يكن بدّ من القيام، وإنّما لم يقم أحد من الصحابة (من) أجل (شدة الذّعر) بضم المشددة أي: الخوف (ومن برد الزمان) أي: من شدته. قال ابن إسحاق: (حدّثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله؛ أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال: والله لو أدركناه.. ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويّا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثمّ يرجع؟» يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة، «أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فلمّا لم يقم أحد.. دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال: «يا حذيفة؛ اذهب فادخل في القوم، فانظر ما يصنعون، ولا تحدثنّ شيئا حتى تأتينا» . قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح، وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا، ولا نارا، ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش؛ لينظر امرؤ من جليسه، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان) . نداء أبي سفيان بالرحيل وانهزام المشركين: ثمّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش؛ إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الكراع «1» والخفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا؛ فإنّي مرتحل، ثمّ قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلّا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ: «أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني» لقتلته بسهم. تبشير حذيفة بانهزام المشركين: قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلّي في مرط لبعض نسائه مرجّل، قال ابن هشام: (المراجل: ضرب من وشي اليمن) فلمّا رآني.. أدخلني إلى رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثمّ ركع وسجد وإنّي لفيه، فلمّا سلم.. أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم. تنبيه: هذه القصة التي ذهب لكشفها سيدنا حذيفة بن اليمان غير قصة سيدنا الزّبير؛ فإنّها كانت لكشف خبر بني قريظة: هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ فروى البخاريّ وغيره عن جابر: أنّه عليه الصّلاة   (1) بضم الكاف وتخفيف الراء: اسم لجمع الخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وقال خير الخلق لن تغزوكم ... قريش بعد اليوم والغزو لكم وشغل النّبيّ زحف الخندق ... عن ظهره وعصره للشّفق والسّلام قال يوم الأحزاب: «من يأتيني بخبر القوم؟» يعني بني قريظة، فقال الزّبير: أنا، ثمّ قال: «من يأتيني بخبر القوم؟» فقال الزّبير: أنا، ثمّ قال: «من يأتيني بخبر القوم؟» فقال الزّبير: أنا، ثمّ قال: «إنّ لكل نبيّ حواريّا وإنّ حواريّ الزّبير» . (وقال خير الخلق) صلى الله عليه وسلم حين أجلى الله الأحزاب: « (لن تغزوكم قريش بعد اليوم) - يوم الخندق- (و) لكن (الغزو لكم) عليهم: تأتونهم في دورهم» ولفظه كما ذكره البخاريّ في جامعه، بسنده إلى سليمان بن صرد: «قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير «1» إليهم» . قال اليعمريّ وغيره: وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة خمس. تأخير الصلاة عن وقتها يوم الخندق: (وشغل النبيّ) صلى الله عليه وسلم، وهو مفعول مقدم على فاعله الذي هو (زحف) الزحف: الجيش يزحف، وهو مضاف إلى (الخندق) أي: شغل النبيّ صلى الله عليه وسلم   (1) قد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فكان علما من أعلام نبوته، ففي السنة المقبلة اعتمر فصدته قريش، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، فكان فتح مكة لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وأصحابه جيش العدوّ الذي يريد أن يقتحم الخندق (عن) صلاة (ظهره وعصره ل) مغيب (الشفق) كما رواه الإمام مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب: أنّه قال: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر يوم الخندق.. حتى غابت الشمس. وكما رواه الإمام أحمد، والنسائي عن أبي سعيد: أنّهم شغلوه صلى الله عليه وسلم عن الظهر، والعصر، والمغرب، وصلّوا بعد هويّ من الليل، وقيل: شغله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقط، وهو مقتضى رواية الشيخين عن جابر وعليّ، وقيل: شغله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء، وهو مقتضى رواية النسائي والترمذيّ. وقال الترمذيّ «1» : ليس بإسناده بأس، إلّا أنّ أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله. قال في «المواهب» إثر تلك الروايات: (فمال ابن العربي إلى الترجيح، فقال: الصحيح: أنّ التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة، وهي العصر، وقال النوويّ: طريق الجمع: أنّ وقعة الخندق بقيت أياما، فكان هذا أي شغلهم عن العصر، أو عنها وعن الظهر في بعض الأيام. وهذا؛ أي: تأخير أربع صلوات في بعضها) .   (1) حيث رواه في الباب عن عبد الله بن مسعود برواية أبي عبيدة عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وعلم من كلام الناظم: أنّ سبب تأخير الصلاة في ذلك اليوم هو شغلهم، فلم يتمكّنوا من فعلها، قال في «شرح المواهب» : وهو أقرب لا سيّما ولأحمد والنسائي عن أبي سعيد: أنّ ذلك كان قبل أن ينزل الله تعالى في صلاة الخوف فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً وقيل: النسيان، واستبعد وقوعه من الجميع، أمّا اليوم.. فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب القتال، بل تصلّى صلاة الخوف على حسب الحال. تتميم: ذكر ابن إسحاق وغيره: (أنّه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير، سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهل الأوسيون، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، وكعب بن زيد، الخزرجيّون. قال العبد الضعيف كان الله له: سيدنا سعد بن معاذ استشهد بعد رجوعه من غزوة بني قريظة، حيث انفجر الجرح الذي كان أصابه يوم الخندق برمية ابن العرقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فالمراد: أنّه استشهد بسبب تلك الرّمية يوم الخندق. وهلك من المشركين: منبّه بن عبيد، ونوفل بن عبد الله المخزوميّ، وعمرو بن عبدودّ العامري. ومن هديه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، إذا رجع من غزوة أو حج أو عمرة.. أن يبدأ فيكبّر ثلاث مرات، ثمّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ثمّ قريظة إليها جبرئيل ... ولم يضع سلاحه استدعى رعيل يقول: «لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . والله سبحانه وتعالى أعلم (19) غزوة بني قريظة بضم القاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المعجمة. قال الزرقاني في «شرح المواهب» : (قال السمعاني: اسم رجل نزل أولاده قلعة حصينة بقرب المدينة، فنسبت إليهم، وقريظة والنّضير أخوان من أولاد هارون. وذكر عبد الملك بن يوسف: أنّ بني قريظة كانوا يزعمون أنّهم من ذرية شعيب نبيّ الله- قال الحافظ: وهو محتمل- وأنّ شعيبا كان من بني جذام، القبيلة المشهورة، وهو بعيد جدا) اهـ قلت: وبنو قريظة كانوا يسكنون العوالي من المدينة، ففيها منازلهم. أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم على لسان جبريل عليه السّلام بقتال بني قريظة: (ثمّ قريظة) أي: غزوتها بعد الخندق، بل كانت عقبها بلا مهلة؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة في اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الذي انصرف فيه من الخندق- وهو عند ابن سعد يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة «1» - خرج لغزوهم باستدعاء جبريل لهم كما قال: (إليها) أي: استدعى إلى بني قريظة (جبرئيل) بالهمز بعدها ياء على إحدى لغاته، فقوله: (إليها) يتعلق ب (استدعى) الواقع خبرا عن قوله: (جبريل) ، والجملة خبر عن قوله: (ثمّ قريظة) ، وقد وقع بينهما الجملة الحالية معترضة وهي قوله: (ولم يضع) أي: والحال أنّه لم يضع جبريل عليه السّلام (سلاحه استدعى) أي: جبرئيل، ومعموله (رعيل) وقف به على لغة ربيعة، والرعيل: الجماعة القليلة، نحو العشرين أو الخمسة والعشرين من الخيل. روى الإمام البخاري في (باب الجهاد) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنّه لمّا رجع صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل.. أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال: «فإلى أين؟» قال: ههنا، وأشار إلى بني قريظة) اهـ، فخرج النّبي صلى الله عليه وسلم إليهم. وروى البخاري أيضا من حديث أنس رضي الله عنه قال: (لكأنّي أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة) .   (1) وفي «الإمتاع» : (لسبع خلون من ذي الحجة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقاده وزلزل الحصونا ... وقذف الرّعب ولا يدرونا واستذمر النّبيّ خيل الله ... وعن صلاة العصر قام النّاهي (وقاده) أي: قاد جبريل الرعيل إلى بني قريظة (وزلزل) حرّك (الحصونا) لبني قريظة (وقذف الرّعب) والفزع في قلوبهم (و) هم على حين غفلة (لا يدرونا) ذلك. (واستذمر) أي: استحثّ وحضّ (النبيّ) صلى الله عليه وسلم. في «القاموس» و «شرحه» : (الذّمر بالفتح: الملامة والحض [معا] ، والتهدد والغضب والتشجيع، وفي حديث عليّ: «ألا وإنّ الشيطان قد ذمر حزبه» أي: حضّهم وشجّعهم) . ومعمول (استذمر) قوله: (خيل الله) أي: أصحابها قائلا: «يا خيل الله اركبي» «1» لمن بعثه أن ينادي بها، قال الشاميّ: (المنادي هو بلال) . وخرج صلى الله عليه وسلم وقد لبس الدرع والمغفر والبيضة، وتقلد القوس، وركب فرسه، ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم.   (1) قال بعضهم: هو على المجاز والتوسّع، وقال في «شرح المواهب» عن شيخه: (الأظهر: أنّه نزل الخيل منزلة المقاتلين، حتى كأنّها هي التي يوجد منها الفعل، فخاطبها بطلب الركوب منها، والمراد أصحابها، فلمّا عبر بالخيل.. راعى لفظها، فأسند الفعل إليها؛ أي: فقال اركبي) اهـ، وقيل غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 إلّا بهم ولم يعب من أخّرا ... إلى العشاء إذ يراه ائتمرا (وعن صلاة العصر) يتعلق بقوله: (قام) ، والواو في الحقيقة داخلة على الفعل، يعني: وقام (الناهي) عن صلاة العصر أن تصلى (إلّا بهم) أي: ببني قريظة، ويشير بهذا إلى قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن ابن عمر: «لا يصلّينّ أحد العصر إلّا في بني قريظة» . (ولم يعب من أخّرا) أي: لم ينسب من أخّر العصر (إلى العشاء) إلى العيب، ولم يعنّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم إنّما أخروها لفهمهم النّهي عن فعلها قبل بني قريظة وإن خرج الوقت، كما هو ظاهر اللفظ؛ (إذ يراه) أي: يرى أنّ من أخرها عن وقتها قد (ائتمرا) أي: فعل ما أمر به، قال ابن عمر في الحديث السابق: (فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلّي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يعنّف واحدا منهم) . قال في «شرح المواهب» : (في رواية ابن إسحاق: فصلوا العصر بها- أي: ببني قريظة- بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله في كتابه، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال السهيلي وغيره: «في هذا الحديث من الفقه: أنّه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية» ، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه؛ أي: ممّن كان له أهلية، وفيه كل مجتهد في الفروع مصيب) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وخيّر ابن أسد قريظته ... بين ثلاث وازدروا روّيته قلت: وهو المشار إليه في قول حسان زمانه رضي الله عنه «1» : كلهم في أحكامه ذو اجتهاد ... وصواب وكلهم أكفاء نعم؛ المصيب في القطعيات والمعتقدات واحد لا غير، وقد تكفل علم الأصول بتفصيل ذلك، وذكر أدلة كل، فليراجع في كتبه. تخيير كعب بن أسد لقومه بين خلال ثلاث، ورفضهم لها: وقد حاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة كما قاله ابن إسحاق (و) لما اشتد عليهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرّعب.. (خيّر) كعب (بن أسد) رئيس بني قريظة (قريظته) بالنصب معمول لخيّر، مضاف لضمير كعب؛ لأنّه رئيسهم، وأشار إلى المخيّر فيه بقوله: (بين ثلاث) من الخلال. (وازدروا) أي: احتقر بنو قريظة (رويّته) بكسر الواو وشد الياء المفتوحة؛ أي: رأيه؛ فإنّه لما قال لهم: (يا معشر يهود؛ قد نزل بكم ما ترون، وإنّي أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم.. قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله؛ لقد تبيّن أنّه نبيّ مرسل،   (1) المراد به: شرف الدين البوصيري رحمه الله في «همزيته» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 أن يؤمنوا فيأمنوا فقد دروا ... في كتبهم ما عنه إذ جاء أبوا وأنّه للّذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا، قال: فإذا أبيتم عليّ هذه.. فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا مصلتين «1» السيوف، لم نترك وراءنا ثقلا «2» ، حتى يحكم الله بيننا وبين محمّد، فإن نهلك.. نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر.. فلعمري؛ لنجدنّ النساء والأبناء. فقالوا: أيّ عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟! فقال: فإن أبيتم عليّ هذه، فإنّ الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمّد وأصحابه غرّة. قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلّا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما) ذكر ذلك ابن إسحاق. وأشار الناظم إلى الخلّة الأولى بقوله: (أن يؤمنوا) برسول الله صلى الله عليه وسلم (فيأمنوا) على دمائهم من القتل، وعلى أموالهم وأبنائهم ونسائهم من الأسر والسّلب (فقد دروا) وعلموا (في كتبهم) كالتوراة (ما) أي: الأمر الذي (عنه) يتعلق بقوله: (أبوا) ، وقوله: (إذ جاء) ظرف لقوله: (أبوا) قدّم عليه؛ أي: فقد علم بنو قريظة   (1) جمع مصلت- بكسر اللام وبالصاد المهملة الساكنة- أي: مجردين السيوف من أغمادها. (2) بفتح المثلّثة والقاف، ويجوز كسر الثاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أو يحصدوا النّساء والصّبيانا ... فلم يخلّوا خلفهم إنسانا أو يفتكوا في السّبت إذ يأمنهم ... جيش العرمرم ولا يأبنهم نعته صلى الله عليه وسلم الذي أبوا عنه لما جاءهم، وقد ذكر الله عزّ وجلّ أنّ اليهود كانت تستنصر الله على الكافرين من مشركي العرب، وتقول إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدوّ: اللهم؛ انصرنا عليهم بالنّبيّ المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة، فكانوا ينصرون، فقال تعالى في كتابه العزيز المبين: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. وقال البغويّ في «تفسيره» : (كانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم) اهـ فكان ما أخبر الله، ونعاه عليهم؛ من كفرهم حسدا، ونزول اللعنة عليهم بذلك. وأشار للخلة الثانية بقوله: (أو يحصدوا) بضم عين الفعل وبكسرها، من الحصد بمعنى القطع؛ أي: أو يقتلوا (النّساء والصبيانا) ثمّ يخرجوا إلى محمّد وأصحابه مشاة مقاتلين (فلم يخلّوا) أي: يتركوا (خلفهم إنسانا) من أولئك يخشون عليه، وتقدم جواب هذه الخلة كسابقتها ولاحقتها. وأشار إلى الثالثة بقوله: (أو يفتكوا) بالضم والكسر للعين، من الفتك، وهو: القتل على غرة؛ أي: أو ينتهزوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وضاقت الأرض بهم لرعبهم ... وجهلوا كيف النّكاية بهم واستنبؤوا أبا لبابة الخبر ... فرقّ للعهد الّذي بهم غبر الفرصة (في) القتال يوم (السبت إذ يأمنهم) بفتح الميم، من الأمن، وهو: الاطمئنان وسكون القلب، وفاعل (يأمن) قوله: (جيش العرمرم) أي: يسكن إليهم في يوم السبت الجيش الكثير من المسلمين، ويعتقدون أنّه لا يحدث فيه شيء؛ لما علموا من تعظيمنا له (ولا يأبنهم) يتهمهم بالخروج في السبت، وهو بتقديم الباء المفتوحة على النون. وذكر هذه الأبيات في هذا الوضع هو الموافق لما ذكره ابن إسحاق، وفي بعض النسخ تقديم قوله: (أو يفتكوا ... ) البيت، على قوله: (أو يحصدوا ... ) البيت. (و) لما خيّرهم كعب بين الخلال الثلاث، ولم يأخذوا بواحدة منها.. (ضاقت الأرض بهم لرعبهم) وفزعهم، وقد أيقنوا بالهلاك (وجهلوا كيف النكاية) من المسلمين (بهم) أي: ببني قريظة، والنكاية- بكسر النون-: ما يفعل بالعدوّ من قتل وجرح ونحوهما. طلبهم أبا لبابة وقصته معهم، وتوبته رضي الله عنه: (واستنبؤوا أبا لبابة) مبشر بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف من الأوس «1» رضي الله عنه، وتقدمت   (1) وقيل: اسمه رفاعه، وقيل: بشير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أن جأرت في وجهه الصّبيان ... واستعطفت رحمته النّسوان ففتنوه وانتحى عن بلد ... عصى به وشاط نحو المسجد فقام فيه برهة مرتبطا ... معذّبا لنفسه مورّطا ترجمته (الخبر) وكانت قريظة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا، فأرسله إليهم، فلمّا رأوه.. قام إليه الرجال، وأسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه (فرقّ) لهم ورحمهم (للعهد الذي بهم غبر) أي: مضى، وكانوا حلفاء الأوس. (أن جأرت) صاحت (في وجهه الصبيان) بكسر الصاد، وتضم (واستعطفت رحمته) طلبت العطف منه والرحمة (النّسوان) ولما سألوه وقالوا: يا أبا لبابة؛ أترى أن ننزل على حكم محمّد» ؟ قال: نعم- وأشار بيده إلى حلقه: أنّه الذّبح- قال أبو لبابة: فو الله؛ ما زالت قدماي من مكانهما.. حتى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (ففتنوه) أي: فبسبب ما ذكر أوقعوا أبا لبابة في الفتنة، فندم واسترجع (وانتحى) أي: ذهب إلى ناحية بعيدة (عن بلد عصى به) ربه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وشاط) جرى (نحو المسجد) النبويّ. (فقام فيه برهة) زمنا طويلا (مرتبطا) «2» إلى عمود من   (1) أي: كما قال صلى الله عليه وسلم لشاس بن قيس الذي بعثوه إليه بأن ينزلوا على ما نزل بنو النضير، فأبى صلى الله عليه وسلم إلّا أن ينزلوا على حكمه. (2) وقيل: إن ارتباطه هذا كان بسبب تخلفه عن غزوة تبوك. راجع «العيون» وكتب التفسير في (سورة التوبة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى أموت، أو يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وأعاهد الله ألّا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا. وكان ارتباطه ست ليال على ما قاله ابن هشام، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فتربطه بالجذع (معذّبا لنفسه مورّطا) أي: موقعا لها في الورطة والهلكة. وقال ابن عبد البر: (روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله ابن أبي بكر: أنّ أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه وكاد يذهب بصره، فكانت ابنته تحلّه إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجته، فإذا فرغ.. أعادته) . قلت: ولا مانع أن تأتيه امرأته مرة فتحله مدة ست ليال، وابنته مرة أخرى كذلك في باقي البضعة عشرة ليلة. قال ابن هشام: (وأنزل الله في أبي لبابة- فيما قال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ. ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره- وكان قد استبطأه- قال: «أمّا إنّه لو جاءني.. لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل ما فعل.. فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فتاب من هفوته الله عليه ... وحلّه خير الأنام بيديه قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم، في حرّ شديد عدّة ليال، لا آكل فيهنّ شيئا ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا؛ أو يتوب الله عليّ. (فتاب من هفوته) أي: زلته (الله) عزّ وجلّ (عليه) أي: على أبي لبابة، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو في بيت أم سلمة قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السّحر وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله؛ ممّ تضحك! أضحك الله سنّك، قال: «تيب على أبي لبابة» قلت: أفلا أبشّره يا رسول الله؟ قال: «بلى، إن شئت» فقامت على باب حجرتها- وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب- فقالت: يا أبا لبابة؛ أبشر، فقد تاب الله عليك، فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله؛ حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلمّا مرّ عليه خارجا إلى صلاة الصبح.. أطلقه كما قال: (وحلّه خير الأنام بيديه) . قال الزّرقاني عن السّهيلي: (فإن قيل: إنّ الآية ليست نصّا في توبة الله عليه أكثر من قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ؟ فالجواب: أن «عسى» منه سبحانه واجبة، وخبر صدق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وحكّم النّبيّ فيهم سعد الاوس ... إذ غاظهم إطلاقه عن كلّ بؤس فإن قيل: القرآن نزل بلسان العرب، و «عسى» ليست في كلامهم بخبر، ولا تقتضي وجوبا. قلنا: «عسى» تعطي الترجّي مع المقاربة، ولذا قال: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ومعناه الترجّي مع الخبر بالقرب، كأنّه قال: قرب أن يبعثك، فالترجي مصروف إلى العبد، والخبر عن القرب مصروف إلى الله، وخبره حق، ووعده حتم، فما تضمنه من الخبر فهو الواجب دون الترجّي، الذي هو محال على الله تعالى) اهـ باختصار. قال العبد الفقير كان الله له: وفي قصة سيدنا أبي لبابة هذه ما يرشد إلى قويّ إيمانه، وعظيم إخلاصه، ممّا لا يبالي أن يضحي بنفسه في سبيل الله تعالى ورضاء رسوله، فيعذبها ذلك العذاب، وينظر إليها بتلك النظرة. وتأمل قوله: (لا أبرح من مكاني هذا حتى أموت أو يتوب الله عليّ) تعلم أنّ نفسه عليه رخيصة في جانب الله عزّ وجلّ، وأنّه من الذين أضافوا إلى جهاد الكافرين جهاد أنفسهم. فرضي الله عن الصحابة وأرضاهم، وبلغنا بهم لحوقهم، آمين. تحكيم سعد بن معاذ في قريظة: (و) لما يئس بنو قريظة بعد اشتداد حصارهم.. أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ف (حكّم النّبيّ فيهم سعد الاوس) بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام للوزن، وهو: أبو عمرو سعد بن معاذ سيد الأوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لابن أبيّ حلفاء الخزرج ... وكان في التّحكيم حسم الهرج وفي «صحيح البخاري» : فردّ الحكم إلى سعد. قال في «الفتح» : (كأنّهم أذعنوا النزول على حكم المصطفى، فلمّا سأله الأنصار فيهم.. ردّ الحكم إلى سعد) وهذا هو مراد الناظم بقوله: (إذ غاظهم) أي: الأوس، وفاعل غاظ (إطلاقه) أي: إطلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم، يعني: وإنّما ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحكم إلى سعد؛ لأنّ قومه الأوس كان غاظهم أن يطلق النّبيّ صلى الله عليه وسلم (عن كل بؤس) هو ضد النعيم (لابن أبيّ) عبد الله وهو يتعلق بالإطلاق العامل النصب في قوله: (حلفاء الخزرج) وهم بنو قينقاع. قال ابن إسحاق: (لمّا أصبح بنو قريظة.. نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم؛ إنّهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت- وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فوهبهم له- فلمّا كلّمته الأوس.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكّم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فذلك إلى سعد بن معاذ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها: رفيدة- بالتصغير- الأسلمية في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة؛ حتى أعوده من قريب، فلمّا حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة.. أتاه قومه، فحملوه على حمار قد وطّؤوه له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو؛ أحسن في مواليك؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم. فلمّا أكثروا عليه.. قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد؛ عن كلمته التي سمع منه. فلمّا انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فأمّا المهاجرون من قريش.. فيقولون: إنّما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأمّا الأنصار.. فيقولون: قد عمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أي: أنصارا ومهاجرين- فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وحملوا سعدا على حمار ... من المدينة إلى المختار وعند ما انتهى إلى النّديّ ... سوّده خير بني لؤيّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ههنا؟ - في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذّراريّ والنساء. (وكان في التحكيم) أي: تحكيم سعد فيهم (حسم) أي: قطع (الهرج) : الخصام والفتنة. قال ابن إسحاق عقب ما ذكر: (فحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرّحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ) جمع رقيع، وهو السماء؛ لأنّها رقعت بالنجوم. وقد أشار الناظم إلى ما ذكره ابن إسحاق من القصة بقوله: (وحملوا سعدا على حمار) لأعرابي عليه قطيفة (من) المسجد النبويّ ب (المدينة إلى المختار) عليه الصّلاة والسّلام. (وعند ما انتهى) أي: بلغ (إلى النديّ) بتشديد الياء، بوزن النّبيّ، وهو: مجلس القوم (سوّده) أي: جعل سعدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 على الجميع أو على الأنصار ... لا غيرهم عند بني نزار وراودته قومه أن يحكما ... بغير ما حكم فيهم فاحتمى سيدا (خير بني لؤيّ) صلى الله عليه وسلم بقوله: «قوموا إلى سيدكم» قال في «شرح المواهب» : (وفي حديث عائشة عند أحمد: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر: السيد هو الله. قال رجال من بني عبد الأشهل: قمنا له على أرجلنا صفّين، يحييه كل رجل منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ويتعلق ب (سوّده) قوله: (على الجميع) من المهاجرين والأنصار، (أو على الأنصار لا غيرهم) من المهاجرين. وهذا القول (عند بني نزار) أي: المهاجرين: لأنّهم من ولد نزار بن معدّ بن عدنان. قال في «روض النهاة» : (سمي نزارا من النّزر؛ أي: القليل؛ لأنّ أباه معدّا حين ولد ونظر إليه.. رأى النور بين عينيه، وهو نور النبوة الذي كان ينتقل في الأصلاب الطاهرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففرح فرحا شديدا، ونحر وأطعم، وقال: إنّ هذا كله نزر في حق هذا المولود) . (وراودته قومه) الأوس (أن يحكما) بألف الإطلاق؛ أي: أن يحكم سعد في بني قريظة (بغير ما حكم فيهم) أي: ما أراد أن يحكم فيهم من القتل والقسم والسبي (فاحتمى) وامتنع، وتقدم قولهم له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 لدمهم خندق أفضل لؤي ... ومعهم في كلّ كربة حيي مقتل بني قريظة وحيي بن أخطب: ثمّ بيّن كيف كان قتل بني قريظة فقال: (لدمهم خندق) وشق في الأرض شقّا في سوق المدينة «1» (أفضل لؤيّ) صلى الله عليه وسلم، وجلس مع أصحابه، وأخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا «2» ، فضرب أعناقهم عليّ والزّبير. وذكر ابن إسحاق: (أنّهم كانوا ست مئة، أو سبع مئة، والمكثر لهم يقول: كانوا ما بين الثمان مئة والتسع مئة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب؛ ما تراه يصنع بنا؟ قال أفي كل موطن لا تعقلون؟! ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنّه من ذهب به منكم لا يرجع؟! هو والله القتل. فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) . (ومعهم في كل كربة) هي: غم يأخذ بالنفس والقتل، وأصله: تضييق القيد على المقيد، واجتمعت كلها فيهم، ثمّ الخلود في النار- والعياذ بالله تعالى- أي: وكان معهم في كل ذلك (حييّ) بن أخطب عدوّ الله وعدوّ رسوله، ووالد أمنا صفية رضي الله تعالى عنها.   (1) هو معروف اليوم بسوق البرسيم بالمناخة. (2) أفواجا وفرقا منقطعا بعضها عن بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 قال في «روض النهاة» : (كانت صفية تحدث تقول: كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.. غدوا عليه، ثمّ جاؤوا من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك؟ قال: عداوته ما بقيت، قالت: ورأيت ليلة في نومي أنّ القمر سقط في حجري، فقصصتها على أبي، فلطمني لطمة هذا أثرها في وجهي- وكان بها ندب في وجهها- وقال: تزعمين أنّك تتزوجين ملك العرب، وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، خلفه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم) . قال ابن إسحاق: (وأتي بحييّ بن أخطب عدوّ الله وعليه حلة له فقّاحية- قال ابن هشام: فقاحية: ضرب من الوشي- قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة؛ لئلّا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك، ولكنه من يخذل الله يخذل، ثمّ أقبل على الناس فقال: أيّها الناس؛ إنّه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثمّ جلس فضربت عنقه) . قال ابن إسحاق: (وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير عن عروة بن الزّبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنّها قالت: لم يقتل من نسائهم إلّا امرأة واحدة، قالت: والله إنّها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 لعندي تحدّث معي، وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق.. إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله، قالت قلت لها: ويلك، ما لك؟! قالت: أقتل، قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، قالت: فانطلق بها، فضربت عنقها، فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: فو الله؛ ما أنسى عجبا منها طيب نفسها، وكثرة ضحكها وقد عرفت أنّها تقتل) قال ابن هشام: (وهي التي طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته) . مقتل الزّبير بن باطيا القرظي: قال ابن إسحاق: (وقد كان ثابت بن قيس بن الشماس فيما ذكر لي ابن شهاب الزّهريّ- أتى الزّبير ابن باطيا القرظي «1» ، وكان يكنى أبا عبد الرّحمن، وكان الزّبير قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية، ذكر لي بعض ولد الزّبير: أنّه كان منّ عليه يوم بعاث، أخذه فجزّ ناصيته، ثم خلّى سبيله، فجاءه ثابت وهو شيخ كبير، فقال: يا أبا عبد الرّحمن؛ هل تعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إنّي أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إنّ الكريم يجزي الكريم.   (1) بفتح الزاي وكسر الباء، جد الزّبير بن عبد الرّحمن المذكور في «الموطأ» في (كتاب النكاح) . واختلف في الزّبير بن عبد الرّحمن، فقيل في الضبط: كاسم جده، وقيل: بالتصغير. اهـ من «الروض الأنف» بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ثمّ أتى ثابت بن قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنّه قد كانت للزّبير عليّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك» فأتاه فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك، فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ قال: فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هب لي امرأته وولده، قال: «هم لك» قال: فأتاه فقال: قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك، فهم لك، قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه، وسلّم، فقال: يا رسول الله ماله، قال: «هو لك» فأتاه ثابت فقال: قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك، فهو لك، قال: أي ثابت؛ ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟ قال: قتل، قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل، قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا فررنا، عزّال «1» بن سموأل؟ قال: قتل، قال: فما فعل المجلسان «2» ؟ - يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن   (1) بالعين المهملة وتشديد الزاي. (2) بكسر اللام محل الجلوس وبفتحها المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وعند ما انتهى الحصار استشهدا ... واهتزّ عرش الله حين بردا قريظة- قال: ذهبوا قتلوا، قال: فإنّي أسألك يا ثابت بيدي عندك إلّا ألحقتني بالقوم، فو الله؛ ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله قبلة «1» دلو ناضح حتى ألقى الأحبة، فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلمّا بلغ أبا بكر الصديق قوله: ألقى الأحبة.. قال: يلقاهم في نار جهنم خالدا مخلدا) . استشهاد سعد واهتزاز عرش الرّحمن لموته: (وعند ما انتهى الحصار) أي: عند انتهاء الحصار على بني قريظة وإتمام أمرهم بما قرّت به عين سعد بن معاذ؛ من إجابة الله تعالى له؛ فإنّه قال لمّا أصيب في أكحله من حبان بن العرقة بغزوة الخندق: (اللهمّ؛ إن كنت أبقيت الحرب بيننا وبينهم.. فاجعلها شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة) وكان جرحه يسيل دما، فلم تقطر منه قطرة حتى تمّ أمر بني قريظة.. فمرّت عنز وهو مضطجع، فأصابت الجرح بظلفها، فانبعث الدم وما رقأ حتى مات و (استشهدا، واهتزّ) له (عرش الله حين بردا) أي: مات رضي الله عنه، وأتى جبريل عليه السّلام متعمّما بعمامة من إستبرق، قال: يا محمد؛ من هذا العبد الصالح الذي فتحت له أبواب السماء، واهتزّ له العرش؟ فقام صلى الله عليه وسلم سريعا   (1) بالقاف والباء الموحدة؛ أي: مقدار ما يتناول المستسقي للدلو، وفي رواية (فتلة) بالفاء والتاء المثنّاة فوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وخفّ نعشه على عظمته ... إذ الملائكة من حملته يجرّ ثوبه إلى سعد فوجده قد مات. رضي الله عنه وأرضاه. (و) لمّا حملوه على نعشه- وهو السرير الذي يجعل عليه الميت- (خفّ نعشه على عظمته) أي: من عظمة سعد؛ لأنّه كان مع عظمته المعنوية عظيم الجسم (إذ الملائكة من) جملة (حملته) بفتحات، جمع حامل، وأخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأن له حملة غيركم» . وقال عليه الصّلاة والسّلام: «لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا، ما وطئوا الأرض إلّا يومهم هذا» . وبعث صاحب دومة الجندل ببغلة وجبة من سندس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل أصحابه يعجبون من حسن الجبّة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذه» اهـ قال الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» : (وحديث اهتزاز العرش ثابت من وجوه كثيرة متواترة، رواه جماعة من الصحابة) . قال رجل من الأنصار: وما اهتزّ عرش الله من أجل هالك ... سمعنا به إلّا لموت أبي عمرو وذكر ابن عبد البر بسنده إلى ابن عباس: (قال سعد: ثلاث أنا فيهنّ رجل- يعني: كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس-: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وسلم حديثا قطّ إلّا علمت أنّه حقّ من الله، ولا كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنت في جنازة قطّ فحدثت نفسي بغيرها، تقول ويقال لها، حتى أنصرف عنها. قال سعيد بن المسيّب- يعني الراوي عن ابن عباس-: (هذه الخصال ما كنت أحسبها إلّا في نبيّ) . قال العلّامة الحلبيّ في «سيرته» : (عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: كنت فيمن حفر لسعد رضي الله عنه قبره، فكان يفوح علينا المسك كلّما حفرنا قبره من ترابه، وجاء: «لو كان أحد ناجيا من ضمّة القبر.. لنجا منها سعد، ضمّ ضمّة، ثمّ فرّج الله عنه» . وخصّ رسول الله والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام من ضمّة القبر. ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: يا رسول الله؛ ما انتفعت بشيء مذ سمعتك تذكر ضغطة القبر وضمته، وصوت منكر ونكير، فقال: «يا عائشة؛ إنّ ضغطة القبر على المؤمن كضمّ الشفيقة يديها على رأس ابنها يشكو إليها الصّداع، وصوت منكر ونكير عليه كالكحل في العين، ولكن يا عائشة؛ ويل للشاكّين الكافرين، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا يقبض على الصّخر» ) اهـ وفي رواية: «ضغط البيض على الصخر» . وترجمة سيدنا سعد بن معاذ طويلة جدا؛ إذ إنّ حياته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ثمّ غزا لحيان جرّاء الرّجيع ... فاحتضنوا بكلّ باذخ منيع - على قصرها- كلها حياة خالدة وجهاد صادق، وقد تقدم شيء منها في غزوة بدر، فرضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في مستقر رحمته ورضاه، آمين. وفي قصة بني قريظة وخبر سيدنا سعد من الفوائد: جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمنّي الموت كما قاله في «الفتح» . وفيها: تحكيم الأفضل من هو مفضول. وفيها: جواز الاجتهاد في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي مسألة خلافية عند أهل الأصول، والمختار: الجواز، سواء كان بحضور النّبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا. (20) غزوة بني لحيان بفتح اللام وكسرها، لغتان. قال الحافظ اليعمريّ: (وكانت لغرة ربيع الأوّل سنة ست من الهجرة، عند ابن سعد) . وذكر ابن إسحاق: (أنّها في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من بني قريظة) أي: في السنة الخامسة. قلت: وعلى كل من القولين: فهي بعد بني قريظة؛ فلذا ذكرها الناظم عقبها كالأصل، فقال: (ثمّ غزا) رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قريظة بني (لحيان) نسبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 إلى لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر (جرّاء) أي: من أجل (الرجيع) «1» هو في الأصل: ماء لهذيل، بين مكة وعسفان، كان فتك المشركين بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا منه، فنسبت الوقعة إليه، فقيل: وقعة الرجيع، وسمى البخاري في «جامعه» هذا الموضع بالهدأة «2» . قلت: ويسمى اليوم بهذا الشأم، ويعرف بهذا الاسم، وله طريق من مرّ الظهران- وادي فاطمة- بينه وبينها نحو ساعة بالسيارة، وبهذا الموضع مزارع كثيرة وهواء طلق، ونخيل وعيون وآبار عذبة جدا، جئته يوما من الصباح إلى المساء، فصليت في جامعه، وبه مدرسة ابتدائية، ويقال: إنّ عدد من يسكنها اليوم يقرب من الألف. اهـ سبب هذه الغزوة: ويشير الناظم إلى سبب غزوة بني لحيان، وهو: تأثره عليه الصّلاة والسّلام وغضبه على بني لحيان؛ لغدرهم بأصحابه المستشهدين بالرجيع، المشار إليهم بقول العلّامة غالي بن المختار فال بن أحمد تلمود البساتي رحمه الله تعالى   (1) كان بعث الرجيع في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، كما في «العيون» فهو في السنة الرّابعة. (2) بفتح الهاء، قال الحافظ: وسكون الدال بعدها همزة مفتوحة لأكثر الرواة، وللكشميهني بفتح الدال وتسهيل الهمزة، وعند ابن إسحاق: بالهدّة بتشديد الدال بغير ألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 في «تبصرة المحتاج إلى بعوث صاحب المعراج» «1» : فمرثدا بعد إلى الرّجيع ... ففتكت لحيان بالجميع وأخذوا ابن طارق وزيدا ... وابن عديّ بالأمان كيدا ومرثد وعاصم وخالد ... لم يقبلوا عهدهم وجالدوا وعاصم أنشد إذ يقاتل ... ما علّتي وأنا جلد بازل والقوس فيها وتر عنابل ... تزلّ عن صفحتها المعابل الموت حقّ والحياة باطل ... وكلّ ما حمّ الإله نازل بالمرء والمرء إليه آئل ... إن لم أقاتلكم فإنّي جاهل بعث الرجيع: وحاصل بعث الرجيع كما في «عيون الأثر» :   (1) هي منظومة جامعة لخلاصة بعوث النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسراياه، تجيء في نحو ثلاث مئة وثلاثين بيتا، جعلها ذيلا لمنظومتنا هذه إذ يقول: نظما على صفو البعوث محتو ... مذيلا به مغازي البدوي وهي مخطوطة في مكتبة الشارح رحمه الله تعالى، وقد طبعت بتحقيق فضيلة العلامة السيد الدكتور محمد بن علوي الحسني المكي المالكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أنّه صلى الله عليه وسلم بعث جماعة من أصحابه عيونا يتجسسون أخبار قريش، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أميرا، فخرجوا- رضي الله عنهم- يسيرون الليل، ويكمنون النهار، حتى إذا كانوا بالرجيع.. لقيهم سفيان بن خالد الهذلي وقومه- وهم بنو لحيان- في مئة رام، فلمّا أحسّوا بهم.. لجؤوا إلى جبل هناك، فأحاطوا بهم وقالوا لهم: انزلوا ولكم العهد ألّا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم رضي الله عنه: أمّا أنا.. فلا أنزل في ذمة كافر، اللهمّ أخبر عنّا رسولك، فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصما. ونزل إليهم على العهد: خبيب وزيد بن الدّثنة وعبد الله بن طارق، فأطلقوا أوتار قسيّهم، فربطوا بها خبيبا وزيدا، وامتنع عبد الله، وقال: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم؛ إنّ لي بهؤلاء أسوة- يريد القتلى- فقتلوه. أمّا خبيب وزيد: فدخلوا بهما مكّة وباعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة، فحبسوهما، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم.. خرجوا بهما إلى الحل للقتل. استشهاد خبيب بن عدي: فأمّا خبيب رضي الله عنه: فإنّه لما وصلوا به إلى التنعيم المشهور اليوم بمسجد عائشة ليصلبوه.. قال لهم: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين- كما في الصحيح- ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أنّ ما بي جزع من الموت.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 لزدت، ودعا وقال لما رفعوه على الخشبة وأوثقوه: اللهمّ؛ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا. ثمّ قتلوه رضي الله عنه. قال العلّامة الزرقاني في «شرح المواهب» : (وفي مرسل بريدة بن سفيان: فلمّا رفع خبيب على الخشبة.. استقبل الدعاء، فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير رجل لبد بالأرض خوفا من دعائه. وروي أنّه قال حين بلغه أنّ القوم اجتمعوا لصلبه: لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلّهم مبدي العداوة جاهد ... عليّ لأنّي في وثاق بمضيع وقد جمّعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنّع إلى الله أشكو غربتي ثمّ كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبّرني على ما يراد بي ... فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وقد خيّروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وما بي حذار الموت إنّي لميّت ... ولكن حذاري جحم نار ملفع ووالله ما أخشى إذا متّ مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي ولست بمبد للعدوّ تخشعا ... ولا جزعا إنّي إلى الله مرجعي ثمّ قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحرث فقتله. وعن عروة: أنّه لما وضع فيه السلاح.. نادوه وناشدوه: أتحب أنّ محمّدا مكانك؟ قال: لا والله؛ ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، ويقال: إنّ ذلك لزيد بن الدثنة، وأنّ أبا سفيان قال له ذلك، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمّد محمّدا. أقول: ولا منافاة فمن الممكن أن يقع ذلك لكل من الصحابيين وغايتهم واحدة وهو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد عن عمرو بن أميّة الضمري قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدي عينا إلى قريش، فجئت خشبة خبيب بن عدي لأنزله منها، فصعدت على خشبته ليلا، فقطعت عنه وألقيته، فسمعت وجبة خلفي، فالتفت فلم أر خبيبا، وكأنّما ابتلعته الأرض، فلم أر له أثرا حتى الساعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وفي رواية: (أنّه وجد رطبا على الخشبة لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك) . استشهاد زيد بن الدثنة: وأمّا زيد بن الدثنة رضي الله عنه: فابتاعه صفوان بن أميّة فقتله بأبيه، وعند ابن سعد: أنّ الذي قتله نسطاس مولى صفوان. قال في «شرح المواهب» : (ولمّا بعث به صفوان مع مولاه نسطاس إلى التنعيم ليقتله، واجتمع هو وخبيب في الطريق.. تواصوا بالصبر والثبات على ما يلحقهما من المكاره) . أحكام وعبر في قصة بعث الرجيع: وفي حديث هؤلاء الصحب الكرام من الفوائد: أنّ للأسير أن يمتنع من قبول الأمان، ولا يمكّن من نفسه ولو قتل، وإن أراد الرخصة.. فله أن يستأمن. ومنها: إثبات كرامات الأولياء، والدعاء على المشركين، والصلاة عند القتل، وإنشاء الشعر وإنشاده عند القتل. ومنها: ما يدل على قوة يقين خبيب وأصحابه في دين الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ومنها: ما يدل على عظيم محبتهم لهذا النّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، وتفديتهم له بالروح، وقوة إخلاصهم وثباتهم. ومنها: أنّه تعالى قد يبتلي عبده المسلم بما شاء كما سبق في علمه؛ ليثيبه، ولو شاء ربّك ما فعلوه. ومنها: استجابة دعاء المسلم، وإكرامه حيا وميتا. ومن الفوائد غير ذلك ممّا يظهر للمتأمل؛ من الحب لله ولرسوله، ولأصحابه الكرام الذين تتنزل الرحمات عند ذكرهم، وفي قصصهم عظة وعبرة، وازدياد لمحبتنا لهم؛ إذ نالوا مقام المحبوبية لله ولرسوله. فنسأل الله تعالى أن يرزقنا حبهم، والاجتماع بهم في مستقر رحمته تبارك وتعالى، مع النبّيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. هذا ولما أراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الخروج إلى بني لحيان لذلك.. أظهر أنّه يريد الشام؛ ليصيب من القوم غرّة، وعسكر في مئتي رجل، ومعهم عشرون فرسا، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثمّ أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران- واد بين أمج وعسفان- وبين بطن غران وعسفان خمسة أميال، قال ابن إسحاق: (وهي منازل بني لحيان حيث كان مصاب أصحابه) فترحّم ودعا لهم بالمغفرة، فسمعت بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 بعث الرّجيع ستّة أو عشره ... لحيان حيّ من هذيل غدره فلم يقدر منهم على أحد، وهذا معنى قول الناظم: (فاحتضنوا) أي: اعتنقوا (بكل باذخ) جبل عال (منيع) لا يرام. فأقام عليه الصّلاة والسّلام يوما أو يومين يبعث السرايا في كل ناحية، ثمّ خرج حتى أتى عسفان، فبعث أبا بكر في عشرة فوارس؛ لتسمع بهم قريش فيفزعهم، فأتوا كراع الغميم «1» ولم يلقوا كيدا، وانصرف صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، وهو يقول: «آئبون تائبون عابدون، لربنا حامدون» وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة. عدة بعث الرجيع: ثمّ أشار الناظم إلى الخلاف في عدد بعث الرجيع بقوله: (بعث الرجيع) أي: عداده من الصحابة (ستة) على قول، وسماهم ابن إسحاق فقال: (وهم: عاصم، ومرثد، وخبيب، وزيد بن الدّثنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البكير) (أو عشرة) على ما جزم به ابن سعد، وهو الأصح الذي ذكره الإمام البخاري في «صحيحه» . ف (أو) في النظم لتنويع الخلاف، ويمكن الجمع بأنّ الأربعة الآخرين كانوا أتباعا، فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم.   (1) بضم الكاف وتخفيف الراء وعين مهملة مضاف إلى الغميم- بفتح الغين المعجمة وكسر الميم: واد أمام عسفان، والكراع: ما سال من أنف الجبل أو الحرة، وطرف كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 والعضل والقارة نجلا الهون ... نجل خزيمة سعوا في الهون وأربعوا بئر معونة الغرر ... إبن الطّفيل عامر فيهم خفر فتك عضل والقارة بالبعث: ثمّ كشف الحقيقة عن بني لحيان وسوء طويّتهم بقوله: (لحيان حيّ من هذيل) بن مدركة (غدرة) أي: موصوفون بالغدر والخيانة. (و) أمّا (العضل) بفتح العين والضاد في الأصل وسكنت الضاد هنا للوزن (والقارة) بتخفيف الراء.. فهما (نجلا) أي: ابنا (الهون) بضم الهاء وسكون الواو (نجل خزيمة) بن مدركة بن إلياس بن مضر (سعوا في الهون) بضم الهاء؛ أي: الخزي العظيم؛ لفتكهم بعاصم وأصحابه. وكأنّ مراد الناظم: بيان أنّ قصة عضل والقارة كانت مع بعث الرجيع، لا في سريّة بئر معونة، وقد فرق بينهما إمام الفن ابن إسحاق في «سيرته» فذكر بعث الرجيع في أواخر سنة ثلاث، وبئر معونة في أوائل سنة أربع، بل سيأتي للناظم أنّهما بعثان. نعم؛ رووا عن الواقديّ: أنّ خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاءا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة، فلعلّ من أدرجها معها نظر للقرب. بعث بئر معونة: (وأربعوا) مبتدأ، وهو ملحق بالجمع المذكّر، وحذفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 أبا براء وكلا البعثين ... قد أرسلا ليرشدا للدّين نونه؛ للإضافة إلى (بئر معونة) بفتح الميم وضم المهملة: موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان، نسب إليه البعث، وكان في صفر على رأس أربعة أشهر من غزوة أحد «1» عند ابن إسحاق (الغرر) جمع غرّة في الأصل: بياض في جبهة الفرس، وهو نعت قوله: (أربعو) أي: الموصوفون بالشرف (إبن الطّفيل) مبتدأ ثان، وقوله: (عامر فيهم) عطف بيان، وجملة: (خفر) خبر للثاني، وهو والخبر خبر للأول، ومفعول خفر قوله: (أبا براء) أي: نقض عهد عمّه أبي براء. جوار أبي براء للبعث، ونقض ابن أخيه له: وذلك أنّ أبا براء- واسمه عامر بن مالك العامريّ، المعروف بملاعب الأسنة- قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد، بل قال: يا محمّد؛ إنّي أرى أمرك هذا حسنا شريفا وقومي خلفي، فلو أنّك بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك.. لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّي أخشى أهل نجد عليهم» وهم: بنو عامر، وبنو سليم، قال أبو براء: أنا لهم جار فابعثهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن   (1) وقد كانت أحد في شوال سنة ثلاث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 عمرو أخا بني ساعدة المعنق للموت في أربعين رجلا من القراء أو سبعين كما في «الصحيحين» - من خيار المسلمين، فساروا حتى إذا نزلوا بئر معونة.. بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّ الله عامر بن الطفيل العامريّ ابن أخي أبي براء، فلمّا أتاه.. لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله. استشهاد البعث: ثمّ استصرخ عليهم بني عامر، فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عصيّة، ورعلا، وذكوان، فأجابوه إلى ذلك؛ طلبا لثأر طعمة بن عدي- وكانوا أخواله- فخرجت هذه القبائل حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم.. أخذوا سيوفهم، فقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلّا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار.. فإنّهم تركوه وبه رمق، فارتثّ من بين القتلى- حمل من المعركة جريحا رثيثا؛ أي: وبه بقية حياة- فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رضي الله عنه. حزن الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الشهداء، ودعاؤه على القتلة: فلمّا بلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خبرهم.. قال: «هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارها متخوّفا» ، فبلغ ذلك أبا براء، فمات أسفا على ما صنع ابن أخيه عامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وفي الصحيح: (أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه ذلك.. قنت شهرا يدعو في صلاة الصبح على أحياء من أحياء العرب: على رعل، وذكوان، وعصيّة، وبني لحيان) اهـ وذكر الإمام القسطلانيّ عن العيني عن كتاب «شرف المصطفى» : (لما أصيب أهل بئر معونة.. جاءت الحمى إليه فقال لها: «اذهبي إلى رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله» فأتتهم، فقتلت منهم سبع مئة رجل، بكل رجل من المسلمين عشرة) اهـ دفين الملائكة: وممّن قتل من المسلمين يومئذ: عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، فلم يوجد جسده رضي الله تعالى عنه، دفنته الملائكة. مهمة البعثين: وقوله: (وكلا البعثين) أي: بعث الرجيع، وبعث بئر معونة (قد أرسلا) من طرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم (ليرشدا للدّين) ولم يرسلا لقتال «1» ، فمن ثمّ قال أنس- كما   (1) في الصحيح عن أبي هريرة: (أن بعث الرجيع كان عينا يتحسسون للرسول صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عن عروة: (بعثهم عيونا إلى مكة؛ ليأتوه بخبر قريش) وهو ما تقدم في الشرح، وفي حديث عاصم بن عمر ما يفيد أنّ البعث للتفقه في الدين وتعليمهم الشرائع، وهو ما اعتمده الناظم. ويجمع بأنّه لمّا أراد صلى الله عليه وسلم بعثهم عيونا.. وافق مجيء النفر معه- عضل والقارة- بناء على طلب بني لحيان يطلبون بعثا معهم للتفقيه، فبعثهم في الأمرين جميعا، فتأمل. اهـ من «شرح المواهب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 رواه ابن سعد بسند صحيح-: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أهل بئر معونة) لا سيّما وقد جرت عادة العرب قديما بأنّ الرسل لا تقتل. وتعرف هذه السّرية بسرية المنذر بن عمرو الساعدي، وببئر معونة، وبسرية القرّاء. الفرق بين البعث والسرية: تنبيه: قال العلّامة ابن المختار في «تبصرة المحتاج» : (قد بحثت أشد البحث عن الفرق بين البعث والسّرية، فلم أحصل في الفرق بينهما على طائل؛ لأنّ كلّا منهما معناه: هو الذي لم يخرج فيه النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بنفسه الشريفة، فهما مترادفان، اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ البعث ما أرسل للدعوة للدين، كأهل الرجيع، وأهل بئر معونة، والسرية: ما أرسل للقتال، فتسميتها إذا بالبعث من تسمية الكل باسم الجزء، والغزوة: ما خرج فيها عليه الصّلاة والسّلام بذاته الشريفة، إلّا مؤتة.. فإنّهم يعدونها في المغازي؛ إمّا لعظمها، أو لارتفاع معركتها له عليه الصّلاة والسّلام حتى شاهدها، فكأنّه حضرها بنفسه الشريفة) . قال في «روض النّهاة» : (كان الناظم رحمه الله تعالى سئل نظم بعث الرجيع، فلمّا نظمه.. نظم بعث بئر معونة، ثمّ نظم الغزوات) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 فغزوة الغابة وهي ذو قرد ... خرج في إثر لقاحه وجد قلت: يؤخذ من شرح الحافظ ابن حجر للسّرية التي قبل نجد، أنّ السريّة: القطعة من الجيش، تخرج منه وتعود إليه، وما افترق في السرية يسمى بعثا، وهذا فيما لم يخرج فيه النّبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم لك. (21) غزوة الغابة (غزوة ذي قرد) بغين معجمة: موضع على بريد من المدينة في طريق الشام، وبها ضيعة لسيدنا الزّبير رضي الله عنه، قال في «شرح المواهب» : (بيعت في تركة الزّبير بألف ألف وست مئة ألف، أضيفت إليها الغزوة؛ لأنّ اللّقاح التي سيأتي أنّ المشركين أغاروا عليها كانت بها) . (ف) بعد غزوة لحيان (غزوة الغابة، وهي) أي: اسمها أيضا (ذو قرد) بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، وهو ماء على نحو بريد من المدينة ممّا يلي بلاد غطفان، وسميت بذلك؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصل إليها وصلّى بها. وكانت قبل خيبر بثلاثة أيام، كما هو عند الإمام البخاريّ، وخيبر بعد الحديبية بنحو عشرين يوما، وفي «صحيح مسلم» نحوه، قال الحافظ ابن حجر: (ما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وناشهم سلمة بن الأكوع ... وهو يقول اليوم يوم الرّضّع الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح ممّا ذكره أصحاب السّير، يعني: من أنّها سنة ستّ في ربيع الأوّل، أو في جمادى الأولى، أو في شعبان قبل الحديبية) «1» . سبب هذه الغزوة: ثمّ أشار للغزوة مع بيان سببها فقال: (خرج) صلى الله عليه وسلم (في إثر) بكسر الهمزة؛ أي: أثر- بفتحها- كما في «المختار» (لقاحه) بوزن كتاب، جمع لقحة: القريبة العهد بالنّتاج والولادة. وكانت عشرين لقحة ترعى بالغابة، وكان أبو ذرّ فيها، وابنه وامرأته، فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاريّ في أربعين فارسا من غطفان، فاستاقوها، وقتلوا ذرّا ابن أبي ذرّ، وكان راعي اللقاح، وأسروا المرأة. فخرج عليه الصّلاة والسّلام لذلك (وجد) معطوف على قوله: (خرج) أي: خرج، وأسرع في السير في خمس مئة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلّف سعد بن عبادة في ثلاث مئة يحرسون المدينة. بسالة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في استنقاذ اللقاح: (وناشهم) أي: تناول المغيرين (سلمة) بن وهب (بن الأكوع) وقيل: سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع:   (1) وكانت هلال ذي القعدة سنة ست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 سنان بن عبد الله بن قشير بن خزيمة الأسلميّ، يكنى أبا إياس، بايع تحت الشجرة، قيل: إنّه الذي كلّمه الذئب، كان شجاعا، فاضلا، راميا يسبق الفرس، روى عنه ابنه إياس، ومولاه يزيد بن أبي عبيد، وقال إياس: ما كذب أبي قطّ، مات بالمدينة سنة أربع وسبعين، استلب يومئذ وحده قبل أن تلحق به الخيل من العدوّ ثلاثين بردة، وثلاثين درقة، وقتل منهم بالنبل كثيرا، فكلّما هربوا.. أدركهم، وكلّما راموه.. فاتهم (وهو يقول: اليوم يوم الرضّع) جمع راضع؛ أي: اللئيم، أي: اليوم يوم حين اللئام- بفتح حاء حين- أي: يوم هلاكهم، والراضع: هو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه، فصار سجيته التي لا تفارقه، أو الذي يرضع ما بين أسنانه حرصا على الشبع؛ ليستكثر من التجشع، يعني: أنّ سلمة كان إذا رماهم.. يقول: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضّع روى البخاري ومسلم عن سلمة: (خرجت قبل أن يؤذّن بالأولى «1» ، وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، قال: فلقيني غلام لعبد الرّحمن بن عوف، فقال: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: من أخذها؟ فقال: غطفان وفزارة. قال: فصرخت ثلاث   (1) يعني: صلاة الصبح، وفي «مسلم» : (أنّه تبعهم من الغلس إلى غروب الشمس) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 صرخات: يا صباحاه! قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي- أي: لم ألتفت يمينا ولا شمالا- وكان شديد العدو- حتى أدركتهم وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا، وأقول: أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرّضّع فأرتجز، حتى استنقذت اللّقاح منهم، واستلبت منهم ثلاثين بردة. قال: وجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم والناس، فقلت: يا نبيّ الله؛ إنّي قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة، فقال: «يا ابن الأكوع؛ ملكت فأسجح» «1» قال: ثمّ رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، حتى دخلنا المدينة) اهـ وقال في «شرح المواهب» عن مسلم وابن سعد: (قال يعني سلمة-: (فأقبلت أرميهم بنبلي وأرتجز، فألحق رجلا منهم، فأمكنه سهما في رجله، فيخلص السهم إلى كعبه، فما زلت أرميهم وأعقرهم، فإذا رجع إليّ فارس منهم.. أتيت شجرة فجلست في أصلها ثمّ رميته، فعقرت به، فإذا تضايق الجبل فدخلوا في مضايقه.. علوت الجبل فرميتهم بالحجارة،   (1) أسجح- بهمزة قطع فسين ساكنة ثم جيم وبعدها حاء- بمعنى: سهل، والسجاحة: السهولة، والمعنى: قدرت فاعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وفرض الهادي له سهمين ... لسبقه الخيل على الرّجلين واستنقذوا من ابن حصن عشرا ... وقسم النّبيّ فيهم جزرا فما زلت كذلك حتى ما خلق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعير.. إلّا خلّفته وراء ظهري، ثمّ أتبعهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا؛ يتخففون منها. فأتوا مضيقا، فأتاهم عيينة ممدّا لهم، فجلسوا يتغدّون، وجلست على رأس قرن، فقال: من هذا؟ قالوا: لقينا من هذا البرح- الشدة والأذى- ما فارقنا السّحر حتى الآن، وأخذ كل شيء في أيدينا، وجعله وراء ظهره، فقال عيينة: لولا أنّه يرى وراءه طلبا.. لترككم، ليقم إليه أربعة منكم، فصعدوا في الجبل، فقلت لهم: أتعرفونني؟ فقالوا: ومن أنت؟! قلت: ابن الأكوع، والذي أكرم وجه محمّد؛ لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني، فقال رجل منهم: أظن، فرجعوا، فما برحت مكاني، حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم) اهـ (وفرض الهادي) صلى الله عليه وسلم (له) أي: لسلمة بن الأكوع (سهمين) سهم الراجل والفارس (لسبقه الخيل على الرجلين) قال سلمة: (فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الراجل والفارس جميعا) . أمر عيينة بن حصن: (واستنقذوا) أي: استخلص أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم (من) عيينة (ابن حصن) المعروف بالأحمق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 المطاع في قومه، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «إنّ شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره» . وقال فيه: «أداريه؛ إنّي أخشى أن يفسد علي خلقا كثيرا» . وقال فيه: «إنّا لنبشّ في وجوه قوم، وإنّ قلوبنا لتلعنهم» . ودخل يوما المسجد، فكشف ثيابه، وبال فيه، فصاح المسلمون، فقال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه» أي: لا تقطعوا عليه بوله، فأمر بماء فصبّ على البول. ودخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فلمّا قال له: «أين الإذن؟» قال: ما استأذنت على أحد قبلك من مضر، وقال: ما هذه الحميراء التي معك يا محمد؟ قال: «هي عائشة بنت أبي بكر» فقال: طلّقها، وأنا أنزل لك عن أجمل منها، أم البنين بنت حذيفة، في أشياء كثيرة تذكر من جفائه. (عشرا) من اللّقاح، وكانت عشرين؛ أي: ونجا العدوّ بعشر، كذا قاله الناظم تبعا لأصله، وقال الواقدي وابن سعد، وذكره في «المواهب» عنهما، وهو مخالف لقول سلمة في «الصحيحين» : (إنّه استنقذ جميع اللّقاح) قال الشاميّ: (وهو المعتمد لصحة سنده) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وأقبلت إمرأة الغفاري ... قتيل نهب إبل المختار (وقسم النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (فيهم) أي: في أصحابه (جزرا) جمع جزور، لكل مئة جزور ينحرونه، وكانوا خمس مئة. فوائد هذه القصة: قال الحافظ: وفي القصة من الفوائد: جواز العدو الشديد في الغزو، والإنذار بالصياح العالي، وتعريف الشجاع بنفسه ليرعب خصمه، واستحباب الثناء على الشجاع ومن فيه فضيلة، لا سيّما عند الصنع الجميل؛ ليستزيد منه، ومحلّه حيث يؤمن الافتتان. وفيه جواز المسابقة على الأقدام، ولا خلاف في جوازها بغير عوض، أمّا بالعوض.. فالصحيح: لا يصح. وفيه عظيم عناية الله تعالى بهذا الحبيب العظيم حيث أوجد الله له من أصحابه من يغني عن الخيل في بعض المواطن ويسبقها. وفيه ما كان عليه أصحابه البسلة الأمجاد؛ في القيام بالتضحية بالنفس والنفيس خير قيام، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء. قصة امرأة أبي ذر ونذرها: (و) لما وصل النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة (أقبلت إمرأة) بقطع الهمزة المكسورة للوزن، واسمها ليلى كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وهي على راحلة من ذي الإبل ... قد نذرت إهلاكها حين تصل «أبي داوود» وهي زوج أبي ذرّ (الغفاريّ) رضي الله عنه (قتيل) بمعنى: مقتول (نهب) مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: مقتول القوم الناهبين (إبل) أي: لإبل (المختار) صلى الله عليه وسلم. وفي كلامه نظر؛ فإنّه إذا كان الغفاريّ أبا ذر.. فكيف يصفه بأنّه مقتول للذين أغاروا على اللّقاح، فإنّ المعروف عند أهل السير: أنّ المقتول هو ابن أبي ذرّ، واسمه ذرّ، ولم يقل أحد: إنّ المقتول أبو ذرّ؟ (وهي على راحلة) أي: والحال أنّ تلك المرأة جاءت راكبة على راحلة (من ذي) أي: من هذه (الإبل) التي أخذها العدو، وهي البيضاء، وخبر المبتدأ جملة قوله: (قد نذرت إهلاكها حين تصل) إلى المدينة سالمة من العدوّ. روى مسلم وأبو داوود عن عمران بن الحصين رضي الله عنه: أنّهم أوثقوا المرأة، وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فإذا دنت من البعير رغا، فتتركه حتى انتهت إلى العضباء فلم ترغ، فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت، وعلموا بها، فطلبوها فأعجزتهم. اهـ وقال ابن إسحاق: (وأقبلت امرأة الغفاريّ على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر، فلمّا فرغت.. قالت: يا رسول الله؛ إنّي قد نذرت لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أن أنحرها إن نجّاني الله عليها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: «بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها، إنّه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنّما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله» ) . قال العبد الضعيف كان الله له: أخرج أبو داوود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» انظر «نصب الراية» للزيلعي، واحتجّ به بعض العلماء على أن لا طلاق إلّا بعد النكاح ولو عيّن المطلقة. ثناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أبي قتادة: وقال صلى الله عليه وسلم حين فرغوا من أمرهم: «خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالنا اليوم سلمة بن الأكوع» . وممّا صنعه بهم أبو قتادة الحارث بن ربعي: أن قتل مسعدة بن حكمة الفزاري رئيس المشركين يومئذ، أو حبيب بن عيينة بن حصن، وسجّاه ببرده، فاسترجع الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيله، وضع عليه برده؛ لتعرفوه فتخلّوا عن قتيله وسلبه» فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ما صنعه عكاشة بن محصن: وأدرك عكاشة بن محصن أو بارا وابنه عمرو بن أو بار وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح، فقتلهما جميعا. وممّا فعله بهم سلمة بن الأكوع أن قال: يا نبي الله؛ قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة. وفي «مسلم» : أتاني عامر بماء ولبن، فتوضأت وشربت، ثم أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كل شيء استنقذته منهم، ونحر له بلال ناقته، وشوى له من كبدها وسنامها، فقلت: يا رسول الله؛ خلّني أنتخب من القوم مئة رجل فأتبعهم فلا يبقى منهم مخبر، فضحك حتى بدت نواجذه، وقال: «أتراك كنت فاعلا؟» قلت: نعم، والذي أكرمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملكت فأسجح» أي: قدرت عليهم فارفق، ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّهم الآن ليقرون في غطفان» يعني: أنّهم وصلوا إلى غطفان وهم يضيفونهم، فلا فائدة في البعث في الأثر؛ لأنّهم لحقوا بأصحابهم. وفي إخباره عليه الصّلاة والسّلام بذلك معجزة؛ فإنّه جاء بعد ذلك رجل من غطفان، فقال: مرّوا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزورا، فلمّا أخذوا يكشطون جلدها.. رأوا غبرة، فتركوها وقالوا: أتاكم القوم، وخرجوا هرابا. قال في «المواهب» : (وصلّى رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ومرّ في طريقه بالمالح ... بيان ذا اللّقب غير صالح فغيّر اسمه وغيّر الإله ... صفته وبعد ذلك اشتراه طلحة بالفيّاض سمّاه النّبي ... إذ قد تصدّق به ليثرب وسلم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام به يوما وليلة يتجسس الخبر، ورجع وقد غاب خمس ليال) . معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم: (ومرّ) صلى الله عليه وسلم (في طريقه) في هذه الغزوة بالبئر التي تسمى (بالمالح بيان) فقال الصحب الكرام: بيان وهو مالح (ذا اللقب) يعني بيان (غير صالح، فغيّر) النّبيّ صلى الله عليه وسلم (اسمه) فقال: نعمان، وهو طيب، (وغير الإله) تبارك وتعالى (صفته) المالحة إلى صفته العذبة، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور، ونظير هذه المعجزة ما ذكره في «الشفاء» : (أنّه عليه الصّلاة والسّلام بزق في بئر كانت في دار أنس، فلم يكن ماء في المدينة أعذب منها) ورواه أبو نعيم، ولله در القائل: ولو تفلت في البحر والبحر مالح ... لأصبح ماء البحر في ريقه عذبا شراء طلحة الفياض للبئر وتصدقه بها: (وبعد ذلك اشتراه) أي: البئر، وفاعل اشترى (طلحة) ابن عبيد الله التّيمي الصحابي الجليل، أحد العشرة المتقدم ذكره، وترجمته في الكلام على غزوة بدر وأحد، وتصدق بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 فالطّلحات خمسة سوى العلم ... فطلحة الجود ابن عمّه الخضم على أهل المدينة (بالفيّاض) بتشديد الياء؛ أي: الوهّاب الجواد، يتعلق بقوله: (سمّاه) أي: طلحة (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصّلاة والسّلام: «أنت الفيّاض» فصار له لقبا، كما صار نعمان للبئر لقبا (إذ قد تصدق به ليثرب) أي: لأهل المدينة، وهذا سبب التسمية به، وتسمية المدينة بيثرب تسمية جاهلية، سميت باسم رجل نزلها، ولما جاء الله تعالى بالإسلام سميت طابة، وطيبة، والطّيّبة؛ لطيبها به صلى الله عليه وسلم، فتغير اسمها وصفتها. الطلحات الخمسة الأجواد: ثمّ استطرد الناظم رحمه الله تعالى باسم الفيّاض، إلى ذكر من كان من الأجواد في الإسلام يسمى طلحة فقال: فالطّلحات خمسة سوى العلم ... فطلحة الجود ابن عمّه الخضم (فالطلحات) بفتح اللام جمع طلحة بسكونها (خمسة سوى العلم) العلم في الأصل: السيد للقوم، والمراد به: سيدنا طلحة بن عبيد الله المتقدم، فهم معه ستة، هو أولها. طلحة الجود: (ف) ثانيها: (طلحة الجود) أي: الملقب بذلك، وهو ابن عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمر بن كعب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وطلحة الخير وطلحة النّدى ... إلى الحسين وابن عوف أسندا سعد بن تيم، وجده عبيد الله بن معمر من الأجواد أيضا، ذكر ابن العماد في «الشذرات» : أنّه اشترى جارية تسمى الكاملة بعشرين ألف دينار، وكانت لفتى قد أدّبها أحسن الأدب، فأملق، فباعها وهو مغرم بها، فأنشدت أبياتا منها: عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلّا أن يشاء ابن معمر فرقّ لها عبيد الله، وردها عليه وثمنها، قتل عن أربعين سنة برستاق إصطخر. قال الحافظ: (أخرج ابن أبي عاصم والبغويّ من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن معمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أوتي أهل بيت الرفق إلّا نفعهم، ولا منعوه إلّا ضرّهم» قال البغوي: «لا أعلمه روى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم غيره، ولا رواه عن هشام إلّا حماد» . وطلحة الجود: هو (ابن عمه) أي: ابن عم طلحة بن عبيد الله (الخضم) بوزن خدبّ مكسور الأول، مفتوح الثّاني: الكثير العطاء. طلحة الخير، وطلحة الندى: (و) ثالثها: (طلحة الخير) بن الحسين السّبط بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وطلحة الدّراهم العتيق ... جدّ أبيه بالعلا حقيق (و) رابعها: (طلحة الندى) بالقصر: الجود؛ أي: الملقّب بذلك، وهو ابن عبد الله بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة ابن أخي سيدنا عبد الرّحمن بن عوف، كان من سراة قريش، ولي قضاء المدينة. قال الحافظ في «التهذيب» : (قال ابن أبي خيثمة: كان هو وخارجة بن زيد بن ثابت في زمانهما يستفتيان، وينتهي الناس إلى قولهما، ويقسمان المواريث، ويكتبان الوثائق، توفي بالمدينة سنة سبع وتسعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وأبوه عبد الله بن عوف صحابي، أسلم يوم الفتح ولم يهاجر) . فقوله: (إلى الحسين وابن عوف أسندا) أي: أسند طلحة الخير إلى الحسين، وطلحة الندى إلى ابن عوف، على طريق اللّفّ والنشر المرتب. طلحة الدراهم: (و) خامسها: (طلحة الدراهم) ابن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، أمه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله. وقال في «التهذيب» : له صحبة، حكى الزّبير: أنّ عروة بن الزّبير أودعه وغيره مالا لما سافر إلى الشام، فلمّا رجع.. جحده بعضهم، وردّ ماله طلحة، فقال فيه: فما استخبأت في رجل خبيئا ... كدين الصّدق لو ينسب عتيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 سادسها طلحتها الخزاعي ... أجودهم كلّا بلا نزاع ذوو الأحساب أكرم ما تراه ... وأصبر عند نائبة الحقوق وقوله: (العتيق) مبتدأ، والمراد به أبو بكر؛ لأنّه عتيق الله من النار (جد أبيه) أي: عبد الله، خبر المبتدأ. وقوله: (بالعلا) يتعلق بقوله: (حقيق) يعني: أنّ العتيق وهو أبو بكر جد أبي طلحة، وهو حقيق بالعلا، ولا كلام. وليس يصحّ في الأذهان شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل مآثر طلحة الخزاعي: و (سادسها) أي: الطلحات، قال في «روض النّهاة» : والضمير يعود إلى الطلحات مبتدأ، وقوله: (طلحتها) أي: طلحة الطلحات، خبر المبتدأ، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف بن سعد بن بياضة البصريّ (الخزاعي) يقال: لأبيه صحبة (أجودهم) أي: هو أجود الطلحات، سمي طلحة بن عبد الله بذلك؛ لأنّه كان أجودهم (كلّا بلا نزاع) أي: لا ينازعونه في الجود، وهذا بمعنى قول بعضهم فيه: إنّه فاق في الجود خمسة أجواد، اسم كل واحد منهم طلحة. قال الشيخ حماد في «روض النّهاة» : (وهذا كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 في سنة وهب ألف جاريه ... فأولدت عفاته جواريه ألف غلام باسمه سمّى الإما ... جميعهم لمثلها فهيئما صاحب «الغرر» «1» ، وكان الشيخ رحمه الله تعالى يشفق على نفسه من تفضيله في الجود على ابن السبط، ويعتذر عنه بأنّه إنّما نظم ما في الكتاب. قال الحافظ ابن حجر: (سمع عثمان بن عفان وكان مع عائشة يوم الجمل) اهـ وفي سنة (63) بعث مسلم بن زياد طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعيّ واليا على سجستان، فأقام بها طلحة إلى أن مات. ومن مآثر جوده: ما ذكره في «الغرر» وعقده الناظم بقوله: (في سنة وهب) لزواره وقاصديه (ألف جارية) أي: أمة (فأولدت عفاته) بضم العين جمع عاف، وهو: الزائر الطالب للمعروف. (جواريه) بالنصب معمول لقوله: (أولدت) على نزع الخافض؛ أي: أولدت من جواريه. (ألف غلام باسمه) أي: بطلحة (سمّى الإما) بالقصر للوزن، جمع أمة (جميعهم) بالرفع تأكيد للإماء (لمثلها   (1) يعني «غرر الخصائص الواضحة، وعرر النقائض الفاضحة» للأديب المتفنن أبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن يحيى الكتبي، المعروف بالوطواط، المولود سنة (632) والمتوفّى سنة (718) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فهيئما) بالهمز: أي عجبا لمثل هذه العطية من الكثرة والبركة. وزاد في «الغرر» عن الحسن قال: (باع طلحة بن عبد الله الخزاعيّ أرضا بسبع مئة ألف درهم، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرقا؛ مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرقه) . وقال الزّبيدي عن «المستقصى» : قال سحبان وائل البليغ المشهور في طلحة الطلحات «1» : يا طلح أكرم من مشى ... حسبا وأعطاهم لتالد منك العطاء فأعطني ... وعليّ مدحك في المشاهد فحكّمه، فقال: فرسك الورد، وقصرك بزرنج، وغلامك الخباز، وعشرة آلاف درهم. فقال طلحة: أف لك! لم تسألني على قدري، وإنّما سألتني على قدرك وقدر قبيلتك باهلة، والله؛ لو سألتني كل فرس وقصر وغلام لي.. لأعطيتك، ثمّ أمر له بما سأل، وقال: والله؛ ما رأيت مسألة محكّم ألأم منها.   (1) قوله: (سحبان وائل) لعلّه سقط لفظة (ابن) قبل (وائل) لأنّه هو الذي في عصر الإسلام، وهو البليغ الذي كان في زمن معاوية رضي الله عنه، وأمّا سحبان وائل بالإضافة.. فهو جاهلي كما نقله شيخنا في «شرح الإبتهاج» عن ابن التلمساني في «حاشية الشفاء» فلذا اقتضى التنبيه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وبعدها انتهبها الأولى انتهوا ... لغاية الجهد وطيبة اجتووا وفيه يقول ابن قيس الرّقيّات: رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات قال الخفاجي في «الطراز» في طلحة الطلحات: (ليس المراد: أنّه واحد من هؤلاء المسمّين بهذا الاسم كما يتبادر منه، وإنّما المراد: أنّه أجود الأجواد؛ لأنّ طلحة لشهرة مسماه بالجود كحاتم، فيذكر ويراد به الجواد، فالطلحات بمعنى الأجواد: الناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمخذول ومحقور وهم بنو أمّ من ظنوا به نشبا ... فذاك بالعين ملحوظ ومستور) قصة العرنيين وسرية سعيد بن زيد إليهم سنة ست: ثمّ أتبع غزوة الغابة بالكلام على قصة العرنيّين- للمناسبة الظاهرة بينهما، وتبعا لليعمري، إلّا أنّه ذكر السّرية من أصلها، وهي تعرف بسرية سعيد «1» بن زيد إليهم، وهي في شوال سنة ست عند ابن سعد- فقال: (وبعدها) أي: بعد غزوة الغابة (انتهبها) أي: اللقاح المذكورة في غزوة الغابة؛   (1) كذا عند ابن عقبة بالياء، وعند غيره: أنّه سعد بن زيد الأشهلي الأنصاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 فخرجوا وشربوا ألبانها ... ونبذوا إذ سمنوا أمانها أي: أخذها نهبة القوم (الأولى انتهوا) أي: وصلوا (لغاية الجهد) والمشقة. (وطيبة) بالنصب معمول لقوله: (اجتووا) أي: وكرهوا طيبة؛ أي: المقام بها، ولم يوافقهم هواؤها، وهم من عرينة «1» ، وعرينة: حيّ من بجيلة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بالإسلام، وكانوا مجهودين مضرورين، وقد كادوا يهلكون، وقالوا: يا رسول الله؛ إنّا كنا أهل ضرع؛ أي: ماشية وإبل، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا مع الذود، فيشربوا من ألبانها وأبوالها. وفي لبن اللقاح: جلاء، وتليين، وإدرار، وتفتيح للسدد؛ فإنّ الاستسقاء وعظم البطن إنّما ينشأ عن السدد وآفة في الكبد، ومن أعظم ما ينفع الكبد لبن اللقاح، لا سيّما إن استعمل بحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل على حرارته التي يخرج بها. ذكر هذه الفائدة ابن برهان في «سيرته» . (فخرجوا وشربوا ألبانها) وصحّوا، وسمنوا، ورجعت إليهم ألوانهم، حتى إذا كانوا ناحية الحرة بناحية قباء.. كفروا   (1) وهم ثمانية كما في «الإمتاع» وفي «المواهب» : (هم من عكل- بضم فسكون قبيلة من تيم الرباب- وعرينة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فاقتصّ منهم النّبي أن مثّلوا ... بعبده ومقلتيه سملوا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسارا، واستاقوا الذّود كما قال: (ونبذوا) أي: طرحوا وألقوا (إذ سمنوا) بشرب اللّبن (أمانها) أي: اللقاح، والمراد أهلها، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم سرية أمر عليها سعيد بن زيد. وفي «صحيح مسلم» عن أنس: (أنّ السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار، وبعث معهم قائفا يقص آثارهم) . وقال ابن سعد كما في «عيون الأثر» : (وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فبعث في آثارهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم كرز «1» بن جابر الفهري، فأدركوهم وأحاطوا بهم، فأسروهم وربطوهم، وأردفوهم على الخيل، حتى قدموا بهم المدينة قال: كانت اللّقاح خمس عشرة غزارا، فردوها إلى المدينة، ففقد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها لقحة، فسأل عنها، فقيل: نحروها) . الاقتصاص من العرنيين: (فاقتص منهم النّبيّ) صلى الله عليه وسلم بأن سمر «2» أعينهم، وقطع أيديهم، وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرّة.   (1) كرز هذا هو الذي أغار على سرح المدينة قبل أن يسلم، فهداه الله للإسلام، كما ذكر أوّل الكتاب، واستشهد يوم فتح مكة. (2) بتخفيف الميم، وروي بشدها، قال الحافظ المنذري: (الأوّل أشهر وأوجه) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 حتى ماتوا على حالهم. وفي لفظ عند البخاري: (وسمروا أعينهم- أي: كحلوها بالمسامير المحمية- ثمّ نبذوا في الشمس حتى ماتوا) . وإنّما فعل صلى الله عليه وسلم بهم ذلك (أن) أي: لأنّهم (مثّلوا بعبده) صلى الله عليه وسلم، ولفظ الأصل: (مولاه) ، لكن وقع بلفظ العبد عند ابن إسحاق، قال: (أصابه في غزوة بني ثعلبة) . وفي «المواهب» : (روى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم مولى يقال له: يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة، فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحرة، فكان بها، قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاؤوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم، وغدوا على يسار فذبحوه، وجعلوا الشوك في عينيه وهو حيّ، فبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهري، فلحقهم، فجاء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم) قال ابن كثير: حديث غريب جدا. وقال الزرقانيّ: (وقد رواه الطّبراني بإسناد صالح كما في «الفتح» فلو عزاه له.. لكان أولى. (ومقلتيه) معمول لقوله: (سملوا) بفتح الميم من باب دخل؛ أي: سملوا، وفقؤوا مقلتيه، قال أنس: (إنّما سمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم؛ لأنّهم سملوا أعين الراعي) رواه مسلم، فيكون ما فعل بهم قصاصا، كما قال الناظم: (فاقتص) لا مثلة؛ فإنّها ما كانت ابتداء بغير جزاء. فإن قيل: قد تركهم يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا عطشا.. قلنا: عطّشهم؛ لأنّهم عطشوا أهل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من لقاحهم، وقد دعا صلى الله عليه وسلم بالعطش على من عطّش آل بيته، كما رواه النسائي «1» . وقد أشار إلى هذه السّرية الشيخ غالي بن المختار في «تبصرة المحتاج» بأبسط ممّا هنا، وسماها بسرية كرز بن جابر الفهريّ بقوله: فنجل جابر المنيف ذو العلا ... كرز بإثر نفر عدوا على لقاح خير مرسل وقتلوا ... غلامه ومقلتيه سملوا وإذ بهم أتي النّبيّ قطعا ... أيديهم ونعم ما قد صنعا وقطع الأرجل ثم سملا ... أعينهم وردّهم ممتثلا   (1) وقيل: عطّشهم؛ لكفرهم بنعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم الشفاء بها من الجوع والوخم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 بجانب الحرّة يستسقونا ... لما أصابهم فلا يسقونا فوائد هذه القصة وأحكامها: وفي هذه القصة من الفوائد: قدوم الوفد على الإمام ونظره في مصالحهم. ومشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وطهارة أبوالها، وهو حجة للإمامين مالك وأحمد ومن وافقهما على طهارة بول ما يؤكل لحمه نصا في الإبل، وقياسا في غيرها؛ وذلك أنّه أمرهم بالتداوي، وقد قال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّ الله لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرم عليها» رواه أبو داوود وغيره. ومن قال بنجاسة الأبوال كلها حملوا الحديث على التداوي، فلا يفيد الإباحة حالة الاختيار، وإلّا فلا حرمة كالميتة، وقد يقال: إنّ ما ذكر لم يتعين طريقا للدواء، وفي حديث ابن عباس مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ في أبوال الإبل شفاء للذّربة بطونهم» ما هو صريح بأنّها حالة اختيار، وهو يمنع حمل الحديث على ما ذكر، والذرب: فساد المعدة. ومنها: أنّ كل جسد يطب بما اعتاد، وأنّ المدينة تنفي عنها الخبث؛ مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المدينة كالكير، تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 - وقتل الجماعة بالواحد، سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا: إنّ قتلهم كان قصاصا. والمماثلة في القصاص، وأنّه ليس من المثلة المنهي عنها. ومنها: العمل بقول القائف، وهو: الذي يعرف الآثار، وللعرب المعرفة التامة في ذلك. وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون من بعده رضي الله عنهم بالقيافة، وجعلها دليلا من أدلة ثبوت النسب، والله أعلم. (22) غزوة المريسيع (غزوة بني المصطلق) وهو بضم الميم وفتح الراء: ماء لبني خزاعة، بينه وبين الفرع مسيرة يوم. قال في «القاموس» : (خزاعة حيّ من الأزد) اهـ، سمّوا بذلك لأنّهم تخزّعوا؛ أي: تخلّفوا عن قومهم وأقاموا بمكة. ويقال لها أيضا: غزوة بني المصطلق- بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء، وكسر اللام- وهو لقب لجذيمة بن سعد بن عمرو الخزاعي، لقب به لحسن صوته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ثمّ المريسيع أو المصطلق ... كلاهما على الغزاة يطلق وهو أول من غنّى من خزاعة نقله الزرقاني عن القسطلاني، وقال أيضا: (روى الطبرانيّ من حديث سفيان بن وبرة قال: كنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع: غزوة بني المصطلق) وأشار الناظم إلى ترادفهما بقوله: (ثمّ المريسيع أو المصطلق) فأو للتخيير في التسمية (كلاهما) أي: الاسمين (على الغزاة) بفتح الغين المعجمة؛ أي: الغزوة (يطلق) وتسمّى به. تاريخ هذه الغزوة: وظاهر النظم كما يفيده الترتيب بثم: أنّ هذه الغزوة كانت سنة ست؛ فإنّه جعلها بعد الغابة، والغابة كانت في السنة السادسة كما تقدم، وهو قول ابن إسحاق، وأنّها في شعبان، وإليه ذهب المقريزي في «الإمتاع» . ولكن عند ابن سعد: أنّها كانت في شعبان سنة خمس، وهو الذي قال فيه أصحاب السّير: إنّه أشبه بالصواب؛ لأنّ فيها جرى حديث الإفك، قال في «الإمتاع» : (ولا يشك أحد من علماء الآثار أنّ حديث الإفك في غزوة بني المصطلق هذه) اهـ، وسيأتي هنا، وقد ثبت فيه: أنّ سعد بن معاذ تنازع مع سعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كانت سنة ست مع كون الإفك كان فيها.. لكان ما وقع من الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا؛ لأنّه مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 سبب هذه الغزوة: وسبب هذه الغزوة: أنّه بلغه عليه الصّلاة والسّلام، أنّ رئيس بني المصطلق- وهو الحارث بن أبي ضرار- سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابوه وتهيّئوا للمسير معه إليه، وكانوا ينزلون ناحية الفرع، فبعث عليه الصّلاة والسّلام بريدة بن الحصيب الأسلميّ يعلم حالهم الذي هم عليه، فاستأذنه أن يقول، فأذن له، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلّمه، فوجدهم قد جمعوا الجموع، قالوا: من الرجل؟ قال: منكم، قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني، فنكون يدا واحدة حتى نستأصله، قال الحارث: فنحن على ذلك، فعجل علينا، فقال بريدة: أركب الآن وآتيكم بجمع كثير من قومي، فسرّوا بذلك منه. انتصار الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهزيمة العدو: ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرهم، فندب صلى الله عليه وسلم الناس، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا في بشر كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قطّ مثلها، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وقادوا الخيل: عشرة للمهاجرين، وعشرين للأنصار، وخرجت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 لم ينفلت منهم أنيس وسبا ... غير رجال عشرة قد نهبا الحارث ومن معه مسيره عليه الصّلاة والسّلام، فسيء بذلك الخبر هو ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرّق عنهم من كان معهم من العرب الذين جمعهم الحارث من غير قومه، ووصل عليه الصّلاة والسّلام إلى المريسيع، وصفّ أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فتراموا بالنّبل ساعة، وكان شعار المسلمين (يا منصور؛ أمت أمت) ثمّ أمر عليه الصّلاة والسّلام أصحابه، فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، كما قال الناظم. (لم ينفلت منهم) أي: لم يخلص من بني المصطلق (أنيس) بالتكبير؛ أي: أحد، قال في «المختار» : (الأنيس: المؤانس، وكل ما يؤنس به، وما بالدار أنيس: أحد) . (وسبا) أي: ملك عليه الصّلاة والسّلام (غير رجال عشرة) وهم النساء والصبيان. قال في «شرح المواهب» : (قال البرهان: لم يذكر عدتهم، وقال بعض شيوخي: كانت الأسرى أكثر من سبع مئة، فطلبتهم منه جويرية ليلة دخوله بها فوهبهم لها، ولم يقتل من المسلمين إلّا رجل واحد، هو هشام بن صبابة «1» ،   (1) بصاد مهملة مضمومة فموحدة مخففة، أصابه أنصاري يقال له: أوس، من رهط عبادة بن الصامت، قتله خطأ وهو يرى أنّه من المشركين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أعمارهم وسبيت جويريه ... ووهب السّبي لها لتدريه وساق من الإبل ألفي بعير، ومن الشاة خمسة آلاف شاة» ) كما قاله الزرقانيّ عن ابن سعد. وأمّا العشرة من الرجال.. ف (قد نهبا) ، بألف الإطلاق مبنيا للفاعل (أعمارهم) أي: قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: قتلهم أصحابه الكرام. (وسبيت) بالبناء للمفعول؛ أي: أخذت في السبي أمّنا (جويرية) بنت رئيس بني المصطلق: الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة، وجذيمة هو المصطلق من خزاعة، كما في «الروض الأنف» وكانت قبل أن تسبى عند مسافع بن صفوان الخزاعي المقتول كافرا يوم المريسيع كما جزم به ابن أبي خيثمة والواقدي، ونقله عنهما الزرقاني في «شرحه للمواهب» وكان اسمها برّة، فسمّاها صلى الله عليه وسلم جويرية؛ كره أن يقال: خرج من عند برّة. وكانت وقعت في سهم ثابت بن قيس، ثمّ جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعين به في كتابتها، قالت عائشة رضي الله عنها: وكانت امرأة حلوة ملّاحة «1» ، فوالله؛ ما هو إلّا أن رأيتها على باب حجرتي.. فكرهتها، وفي قول عائشة ذلك بيان ما كان عليه أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الغيرة عليه، والعلم بمواقع الجمال منه «2» ، فلمّا طلبت   (1) بفتح الميم وتشديد اللام؛ أي: بارعة الجمال، وهذا البناء للمبالغة في الملاحة. (2) من ذلك: أنّه عليه الصّلاة والسّلام خطب امرأة فأرسل عائشة لتنظر إليها، فلمّا رجعت- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 منه أن يعينها على كتابتها.. قال لها عليه الصّلاة والسّلام: «هل لك في خير من ذلك؟ أن أقضي عنك كتابتك وأعتقك، ثم أتزوجك» فرضيت، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتقها فتزوجها. بركتها على قومها: (ووهب) صلى الله عليه وسلم (السبي لها) أي: لجويرية، لما طلبته منه ليلة دخوله بها (لتدريه «1» ) أي: لتعلم جويرية بإجابة طلبها مكانتها عنده صلى الله عليه وسلم. قال الزرقاني: (ولا يشكل بما رواه ابن إسحاق وغيره من حديث عائشة، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أنّه صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجها مئة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها؛ لأنّ طلبها إيّاهم منه، وكونه وهبهم لها.. لا يمنع كون المسلمين حين سمعوا أنّه تزوجها أطلقوا الأسرى، فكان ذلك زيادة إكرام من الله لنبيه؛ حتى   - إليه.. قالت: ما رأيت طائلا؟ قال: «بلى، لقد رأيت خالا في خدها اقشعرّت منه كل شعرة في جسدك» اهـ (1) والهاء في (تدريه) هاء السكت، وإنّما قلت ذلك مخالفا لصاحب «روض النهاة» في أنّ الصيغة خطاب لمذكر؛ حرصا على عدم حمل كلام الناظم على الحشو؛ فإنّه يقل في نظمه كما ترى، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 لا يسأل أحدا منهم في ذلك بشيء، أو مجانا؛ أي: بلا بدل) اهـ وأشار سيدي غالي في «نظم الأمهات» إلى قصة جويرية هذه، وإلى اجتماعها في النسب مع سيد البشر صلى الله عليه وسلم ما اتصلت عين بنظر، وإلى أنّ والدها الحارث صحابي بقوله: ومن بني مصطلق جويريه ... أبرك عرس أمّنا الخزاعيه نال بها عشيرها إذ أسروا ... ما لم ينله بالنساء معشر إذ أعتقوا وهم زهاء مئة ... بيت من استرقاق أهل الملّة وهي بنت حارث نجل أبي ... ضرار القائد صاحب النبي يجمعها مع النّبيّ الهادي ... جدهما إلياس ذو الأيادي وتوفيت أمنا جويرية رضي الله عنها سنة خمسين من الهجرة، وقيل: سنة ست وخمسين، كما حكاه في «الإصابة» عن الواقديّ، قال: (وصلّى عليها مروان) . وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة ثمانية وعشرين يوما، وقدم المدينة لهلال رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وأسلموا بعد وفي من فسّقا ... أرسله الهادي لهم مصدّقا إسلام الحارث وبني المصطلق: (وأسلموا) أي: بنو المصطلق (بعد) أي: بعد أن أسروا، وأعتقوا؛ لمصاهرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وأسلم الحارث بن أبي ضرار، وسبب إسلامه: ما ذكره الحافظ عن ابن إسحاق في «المغازي» : (أنّ الحارث جاء إلى المدينة ومعه فداء ابنته بعد أن أسرت، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان بالعقيق.. نظر إلى الإبل، فرغب في بعيرين منها، فغيّبهما في شعب من شعابه، ثمّ جاء فقال: يا محمّد؛ هذا فداء ابنتي، فقال: «فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟» فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما اطلع على ذلك إلّا الله، قال: فأسلم، وأسلم معه ابنان له وناس من قومه رضي الله عنهم، فدفع الإبل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت وحسن إسلامها) . قصة الوليد بن عقبة ونزول الآية فيها: (وفي من فسّقا) بالبناء للمفعول، وألفه للإطلاق، وهو بتضعيف العين؛ أي: فسقه الله تعالى، و (من) الموصولة واقعة على الوليد بن عقبة بن أبي معيط، والجار والمجرور يتعلق بقوله بعد: (أنزل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ أنزل وهم ... خزاعة مصطلق جدّ لهم (أرسله الهادي) صلى الله عليه وسلم، حال من نائب فاعل فسّق (لهم) أي: لبني المصطلق (مصدقا) بكسر الدال المشددة؛ أي: آخذا الصدقة. وقوله: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) مبتدأ على إرادة اللفظ أو الآية، خبره جملة (أنزل) ، نظيره: «لا حول ولا قوة إلّا بالله كنز من كنوز الجنة» يعني: أنّ في الوليد المذكور الذي فسّقه الله تعالى في الآية حال كونه مرسلا من قبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق ليأخذ الصدقة.. أنزلت وهي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. قال اليعمري في «العيون» : (ثمّ بعد ذلك بأزيد من عامين، بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدّقا، فخرجوا للقائه، فتوهّم أنّهم خرجوا لمقاتلته، ففرّ راجعا، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظنّه، فهمّ عليه الصّلاة والسّلام بقتالهم، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية والتي بعدها) . وقال ابن إسحاق: (حدّثني يزيد بن رومان: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فلمّا سمعوا به.. ركبوا إليه، فلمّا سمع بهم.. هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنّ القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم، حتى همّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغزوهم. فبيناهم على ذلك.. قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله؛ سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنّه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنّا خرجنا إليه لنقتله، ووالله؛ ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. قال الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» : (ولا خلاف بين أهل العلم بالتأويل للقرآن فيما علمت أنّ قول الله عزّ وجلّ: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ نزلت في الوليد بن عقبة وذكر البعث ... ) إلخ. (وهم) تفسير للضمير المجرور في قوله: (أرسله الهادي لهم) (خزاعة) يعني: أنّ بني المصطلق من خزاعة؛ فإنّ بني المصطلق هم بنو جذيمة، و (مصطلق جدّ لهم) . قال في «المواهب» : (والمصطلق: لقب، واسمه: جذيمة بن سعد بن عمر، بطن من بني خزاعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وأفزعت ريح خيار النّات ... فقال لا باس بموت عات فوجدوا كهف المنافقينا ... رفاعة يومئذ دفينا موت رفاعة بن زيد كهف المنافقين: ثمّ أشار الناظم إلى حادثة وقعت في اليوم الثّاني من يوم الواردة الآتي ذكرها فقال: (وأفزعت) أي: خوّفت (ريح) شديدة، ومفعول (أفزعت) قوله: (خيار النّات) لغة في الناس، وخيارهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخافوها، فإنّما هبّت لموت عظيم من عظماء الكفار» وهو معنى قوله: (لا باس) أي: عليكم (بموت عات) بالإضافة: متجاوز للحد متكبر. (ف) لمّا قدموا المدينة.. (وجدوا كهف المنافقينا) أي: ملجأهم، وأبدل من الكهف قوله: (رفاعة) وهو ابن زيد بن التابوت، أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء اليهود، وكهفا للمنافقين (يومئذ دفينا) أي: وجدوه يوم قدومهم المدينة مدفونا، ولو أخّر هذه الحادثة عن حادثة الواردة.. لكان أولى، كما صنعه صاحب الأصل الحافظ اليعمري في «سيرته» وكذا غيره. معظم المنافقين كان من الشيوخ: قال في «روض النّهاة» : (ومن كان معه- أي: رفاعة- على النفاق من أحبار يهود من بني قينقاع؛ سعد بن حنيف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وهو النّفاق في الشّيوخ لا الشّباب ... والخير كلّ الخير في عصر الشّباب ونعمان بن أوفى بن عمرو، وأخوه عثمان، وزيد بن اللصيت، ولم ينافق شباب من اليهود ومن الأنصار إلّا قيس بن عمر بن سهيل بن النجار) وذلك قوله رحمه الله تعالى: (وهو) أي: الشأن، أو ضمير مبتدأ يفسره ما بعده؛ أي: (النفاق) خبره قوله: (في الشيوخ) جمع شيخ، وهو: من طعن في السن (لا) في (الشباب) جمع شاب (والخير كل الخير) أي: جميعه (في عصر) أي: في مدة (الشباب) يعني: في مدة حداثة السن، فلا إيطاء، وإنّما كان الخير كله في عصر شباب الإنسان وفتوته؛ لأنّه الوقت الذي إذا قابل الخير فيه وهو على استعداد القابلية دخل قلبه، فتمكن فيه، كما قال بعضهم: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا فمن أجل ذلك أتى الناظم بالقضية المسوّرة ب (كل) واعتبر ما قاله في هذه الغزوة من عمل ابن أبيّ، وهو ممّن بلغ سن الشيخوخة وقد باء بالنفاق، ونزل إلى الدركات، ومن عمل ابنه الشاب المؤمن المخلص وقد تبوأ بحبوحة الإيمان، وجلس على عرشه، حتى كان حربا على من تألب على بيضة الإسلام يريد أن يصدعها ولو كان والده، كما سيأتي خبره معه. وكذلك زيد بن أرقم، وهو رضي الله عنه من قوم ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ووردت واردة العرمرم ... فافتتن الوارد في المزدحم المنافق، لكن يباينه في الإخلاص والأدب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وكثير من الشباب من أولئك الصحب الكرام على هذا الخير، بل كلهم من هذا الطراز المبارك. وإنّما قلت: على استعداد القابلية؛ لأنّه إذا كان على فساد في الاستعداد، فلا شيء فيه من الخير، كما هو مشاهد في أفراد من الشباب، ذهبوا بشبابهم النضير مذهب اللهو والغرور والهوى، ولا وازع ولا زاجر، ولا يسعنا إلّا أن نتوجه إلى الله تعالى بأن يهديهم، ويدخلهم في حظيرة المتمسّكين بالهدي النبوي؛ حتى يكونوا عدة قويمة قوية على الملحدين أعداء الدين؛ فإنّ ذلك على الله يسير. نعرة جاهلية لجهجاه الغفاري وسنان الجهني: (و) لمّا خرج عليه الصّلاة والسّلام لبني المصطلق، ولقيهم على ماء المريسيع، وأسفرت الغزاة عن نصر المسلمين.. (وردت واردة العرمرم) بفتح العين المهملة والراءين، بينهما ميم ساكنة؛ أي: الجيش، والواردة: القوم يردون الماء (ف) بينا هم على ذلك (افتتن) واقتتل (الوارد) أي: الواردون (في المزدحم) أي: موضع الزحام على الماء، وذلك أنّ أجيرا لعمر بن الخطاب من بني غفار يقال له: جهجاه بن مسعود جاء يقود فرسه، فازدحم مع سنان بن وبرة الجهنيّ فاقتتلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فاستصرخ الأنصار فارط لهم ... لطمه من ناله معروفهم واستصرخ المهاجرين اللّذ كسر ... عصا النّبي جهجاه عامل عمر (فاستصرخ) واستغاث (الأنصار) مفعول لاستصرخ، مقدم على فاعله الذي هو (فارط) أي: مقدّم (لهم) أي: للأنصار، وهو الجهني، فقال: يا معشر الأنصار، وذلك أنّه (لطمه) أي: ضربه بكفه مبسوطة (من) أي: الذي (ناله) وأصابه (معروفهم) هو ضد المنكر، وضميره للأنصار، وهذه الجملة من كلام عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين كقوله وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم: (أوقد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله؛ ما أعدّنا وجلابيب «1» قريش هذه إلّا كما قال الأول: سمّن كلبك.. يأكلك) . (واستصرخ المهاجرين اللّذ) أي: الذي (كسر عصا النّبيّ) صلى الله عليه وسلم بركبته، وكانت في يد سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه يخطب بها؛ إذ كان أحد المعينين على قتله، وأبدل من الموصول قوله: (جهجاه) بن مسعود بن سعد بن حرام (عامل عمر) وأجيره فقال مستغيثا: يا للمهاجرين، فلمّا سمعها النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. قال: «دعوها؛ فإنّها منتنة» قال السهيلي في «الروض» : (يعني: أنّها كلمة خبيثة؛ لأنّها من دعوى الجاهلية، وجعل الله المؤمنين إخوة وحزبا واحدا؛ فإنّما ينبغي أن تكون الدعوى: يا للمسلمين.   (1) الجلابيب: الغرباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وقال فيها ابن أبيّ منكرا ... وعاه زيد موقنا وما امترى فمن دعا في الإسلام بدعوى الجاهلية.. فيتوجه للفقهاء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يجلد من استجاب لها بالسلاح خمسين سوطا، اقتداء بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في جلده النابغة الجعدي خمسين سوطا حين سمع: يا لعامر، فأقبل يشتد بعصبة له. والقول الثّاني: أنّ فيها الجلد دون العشرة؛ لنهيه عليه الصّلاة والسّلام أن يجلد أحد فوق العشرة إلّا في حد. والقول الثّالث: اجتهاد الإمام في ذلك على حسب ما يراه من الذريعة وإغلاق باب الشر: إمّا بالوعيد، وإمّا بالسّجن، وإمّا بالجلد. فإن قيل: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعاقب الرجلين حين دعوا بها.. قلنا: قد قال: «دعوها؛ فإنّها منتنة» فقد أكّد النهي، فمن عاد إليها بعد هذا النهي، وبعد وصف النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها بالإنتان.. وجب أن يؤدب حتى يشم نتنها كما فعل أبو موسى بالجعدي، فلا معنى لنتنها إلّا سوء العاقبة فيها والعقوبة عليها) . قول منكر لرأس المنافقين، وما نزل فيه من القرآن: (وقال فيها) أي: في الواردة عبد الله (بن أبي) رئيس المنافقين قولا (منكرا) وهو قوله- وقد غضب من مقالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وحلف الفاجر ما قال المقال ... وصدّقته للمكانة رجال المهاجريّ-: (أوقد فعلوها؟ قد نافرونا، وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلّا كما قال الأول: سمّن كلبك.. يأكلك، أما والله؛ لئن رجعنا إلى المدينة.. ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ) ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: (هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله؛ لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم..، لتحولوا إلى غير داركم) . إعلام زيد بن أرقم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمقال رأس المنافقين: فعند ذلك (وعاه) أي: حفظه (زيد) هو ابن أرقم الخزرجي، حال كونه (موقنا وما امترى) أي: وما شك، تأكيد في المعنى لما قبله، فمشى زيد بذلك المقال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من عدوّه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطّاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذّن بالرحيل» وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس. حلف رأس المنافقين بالله كذبا: (و) قد مشى عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أنّ زيدا قد بلّغه ما سمع منه، ف (حلف الفاجر) بالله العظيم (ما قال المقال) ولا تكلّم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 (وصدّقته للمكانة) والمنزلة- فإنّه كان في قومه شريفا- (رجال) من الأنصار، فقالوا: يا رسول الله؛ عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. قال ابن إسحاق: (فلمّا استقلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار.. لقيه أسيد بن الحضير، فحياه بتحية النبوة، وسلم عليه، ثم قال: يا نبيّ الله؛ والله؛ لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبيّ» قال: وما قال؟ قال: «زعم أنّه إن رجع إلى المدينة.. أخرج الأعزّ منها الأذلّ» قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثمّ قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله؛ لقد جاءنا الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه؛ فإنّه ليرى أنّك استلبته ملكا. ثمّ مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض، فوقعوا نياما، وإنّما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ، أخزاه الله وأذلّه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فأنزل الله لئن رجعنا ... إلى المدينة ليخرجنّا وعرك النّبيّ أذن الواعي ... زيد بن أرقم ذي الاستماع أن شهد الله على المنافقين ... بالكذب المحض وأولاه اليقين تصديق القرآن زيد بن أرقم: (فأنزل الله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّا) بألف الإطلاق للوزن، يعني: فأنزل الله تعالى (سورة المنافقين) فيها تصديق لزيد بن أرقم: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: «هذا الذي أوفى الله بأذنه» وأشار له الناظم بقوله: (وعرك) : دلك (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم (أذن الواعي) أي: الحافظ، وأبدل منه قوله: (زيد بن أرقم ذي) أي: صاحب (الاستماع) للخبر المذكور من رئيس المنافقين (أن) أي: لأجل (أن شهد الله) تعالى (على المنافقين بالكذب المحض) أي: الخالص في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (وأولاه) أي: وأعطى الله تعالى زيد بن أرقم (اليقين) والتحقيق في نقل خبر ابن أبيّ. قال البرهان الحلبي في «إنسان العيون» : (عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذه البرحاء، ويعرق جبينه الشريف، وتثقل به راحلته، فقلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورجوت أن ينزل الله تصديقي، فلمّا سرّي عن رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 صلى الله عليه وسلم.. أخذ بأذني وأنا على راحلتي يرفعها إلى السماء، حتى ارتفعت عن مقعدي وهو يقول: «وعت أذنك يا غلام، وصدّق الله حديثك، وكذّب المنافقين» وفي رواية: «هذا الذي أوفى الله بأذنه» ونزل: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ فكان يقال لزيد بن أرقم رضي الله عنه: (ذو الأذن الواعية) . وسيدنا زيد المذكور أنصاري، خزرجي، قيل: أول مشاهده هذه الغزوة، وشهد ما بعدها، وشهد صفينا كسجّين- مع سيدنا علي رضي الله عنه، وتوفي بالكوفة سنة ثمان وستين. وذكر الإمام النووي في «تهذيبه» : أنّه استصغر يوم أحد، وكان يتيما في حجر ابن رواحة رضي الله عنه، وسار معه في غزوة مؤتة. طلب عبد الله ابن رئيس المنافقين تولي قتل أبيه بنفسه: ولما بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الذي كان من أمر أبيه.. أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بدّ فاعلا.. فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، فو الله؛ لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني، وإنّي أخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس.. فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» . وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث.. كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنّفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله؛ لو قتلته يوم قلت لي اقتله.. لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أعظم بركة من أمري. قال السهيلي: (وفي هذا العلم العظيم، والبرهان المنير من أعلام النبوة؛ فإنّ العرب كانت أشد خلق الله حميّة وتعصبا، فبلغ الإيمان منهم، ونور اليقين من قلوبهم إلى أن يرغب الرجل منهم في قتل أبيه وولده؛ تقربا إلى الله وتزلفا إلى رسوله، مع أنّ رسول الله عليه الصّلاة والسّلام أبعد الناس نسبا منهم، وما تأخّر إسلام قومه وبني عمه وسبق إلى الإيمان به الأباعد.. إلّا لحكمة عظيمة؛ إذ لو بادر أهله وأقربوه إلى الإيمان به.. لقيل: قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له، فلمّا بادر إليه الأباعد، وقاتلوا على حبه من كان منهم أو من غيرهم.. علم أنّ ذلك عن بصيرة صادقة، ويقين قد تغلغل في قلوبهم، ورهبة من الله أزالت صفة قد كانت سدكت في نفوسهم من أخلاق الجاهلية، لا يستطيع إزالتها إلّا الذي فطر الفطرة الأولى، وهو القادر على ما يشاء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وأمّا عبد الله بن عبد الله: فكان من كتّاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه حباب، وبه كان يكنى أبوه، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، رضي الله عنه. وروى الدّارقطني مسندا: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على جماعة فيهم عبد الله بن أبيّ، فسلّم عليهم، ثمّ ولى، فقال عبد الله: لقد عتا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد الله، فاستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يأتيه برأس أبيه، فقال: «لا، ولكن برّ أباك» . وسيدنا عبد الله هذا كان ممّن شهد بدرا وأحدا والمشاهد، ذكره الحافظ في «الإصابة» وأنّه استشهد باليمامة في قتال أهل الردّة سنة اثنتي عشرة. وفي قصته هذه ما يدل على عظيم إيمانه، وقوة محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قيل: نزل فيه وفي أمثاله من الصحابة الأجلّاء قول الله عزّ وجلّ: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ الآية. وفيها تمجيد وتعديل من الله تعالى لأولئك الصحب، وثناء من قبله تعالى عليهم، وأنّ محبتهم له ولرسوله بلغت بهم ذلك المدى وتلك التضحية، وأنّه كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأنّه أثبته وأيّدهم، وقواهم بروح منه هو النور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 والإفك في قفولهم ونقلا ... أنّ التّيمّم بها قد أنزلا والإيمان، والهدى، ووعدهم الوعد الجميل بما لهم في الآخرة من الفضل الجزيل، جمعنا الله بهم في مستقرّ رحمته بكرمه ومنّه، آمين. حديث الإفك وتبرئة الله للسيدة عائشة الصديقة: (والإفك) بكسر الهمزة، وسكون الفاء في اللغة المشهورة، وبفتحهما معا، هو الكذب، ومراده أنّ قصة الإفك على أمنا الصديقة، المبرأة من رب البرية، كان (في قفولهم) بضم القاف أي: رجوعهم من هذه الغزوة. وحديث الإفك اتفق عليه الشيخان، قال العلّامة الفقيه عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري في «البهجة» : (وألفاظهم فيه متقاربة، وقد كفاناها أبو عبد الله الحميدي في «الجمع بين الصحيحين» له، فرواه عنهما من حديث الزّهري عن عروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة بن وقاص اللّيثي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، من حديث عائشة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله ممّا قالوا. قال الزّهري: وكلهم حدّثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى له من بعض، وأثبت له اقتصاصا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدّثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدق بعضا، قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 قالت عائشة: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا.. أقرع بين أزواجه، فأيّتهنّ خرج سهمها.. خرج بها معه. قالت: فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت معه بعد أن أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين.. آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت من شأني.. أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار «1» قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه. قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أنّي فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن- ومنهم من قال: لم يهبّلن- ولم يغشّهن اللحم، إنّما يأكلن العلقة «2» من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رفعوه- ومنهم من قال: خفة الهودج- فاحتملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه أحد، - ومنهم من قال: فجئت   (1) الجزع: الخرز، وظفار مدينة باليمن قرب صنعاء. (2) ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب- فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنّهم سيفقدوني فيرجعون إليّ. فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ، ثمّ الذّكواني، قد عرّس من وراء الجيش، فادّلج «1» ، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني- وكان يراني قبل الحجاب- فاستيقظت باسترجاعه «2» حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، والله ما يكلمني بكلمة، ولا أكلمه، وما سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرّسين- وفي رواية صالح بن كيسان وغيره: موغرين في نحر الظهيرة- قالت: فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر، ويريبني في وجعي أنّي لا أرى من النّبيّ صلى الله عليه وسلم اللّطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنّما يدخل فيسلم، ثمّ يقول: «كيف تيكم» ثمّ ينصرف، فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى نقهت. فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع، وهو متبرّزنا، وكنا   (1) ادّلج- بتشديد الدال-: سار من آخر الليل، وأدلج- بالتخفيف-: سار من أوله. (2) قوله: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 لا نخرج إلّا ليلا، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرّز قبل الغائط، وكنا نتأذّى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فأقبلت أنا وأم مسطح- وهي ابنة أبي رهم بن المطّلب بن عبد مناف، وأمّها بنت صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطّلب- حين فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبّين رجلا شهد بدرا، فقالت: يا هنتاه، ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا على مرضي. فلمّا رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم، وقال: «كيف تيكم؟» فقلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت أبويّ، فقلت لأمي: يا أمّتاه؛ ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنية؛ هوّني على نفسك الشأن، فو الله؛ لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر.. إلّا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله! ولقد تحدّث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع «1» ، ولا أكتحل بنوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب   (1) أي: لا ينقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي؛ يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأمّا أسامة.. فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالّذي يعلم في نفسه من الودّ لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم بهم والله إلّا خيرا، وأمّا عليّ بن أبي طالب.. فقال: يا رسول الله؛ لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أي بريرة؛ هل رأيت منها شيئا يريبك؟» فقالت له بريرة: لا والذي بعثك بالحق نبيا، إن رأيت منها أمرا أغمصه «1» عليها أكثر من أنّها جارية حديثة السّن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «من يعذرني من رجل «2» بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله؛ ما علمت في أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلّا معي» . قالت: فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل، فقال:   (1) أي: أعيبه. (2) أي: من يقوم بعذري إذا كافأته على سوء صنيعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 يا رسول الله؛ أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس.. ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج.. أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكانت أم حسّان بنت عمه من فخذه، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية- ومنهم من قال: اجتهلته الحمية- فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتبادر الحيّان: الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفّضهم حتى سكنوا وسكتوا. قالت: وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثمّ بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي وقد بكيت ليلتين ويوما، حتى أظن أنّ البكاء فالق كبدي. قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّم ثمّ جلس، قالت: ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة: فإنّه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثمّ تاب إلى الله.. تاب الله عليه. قالت: فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحسّ قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال: قال: والله؛ ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمّي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أمّي: والله؛ ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وأنا جارية حديثة السنّ، لا أقرأ كثيرا من القرآن، فقلت: إنّي والله لقد علمت أنّكم سمعتم ما تحدّث الناس به، حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت: إنّي بريئة- والله يعلم إنّي لبريئة- لا تصدّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم أنّي منه بريئة- لتصدّقني، فو الله؛ ما أجد لي ولكم مثلا إلّا أبا يوسف إذ قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ. قالت: ثمّ تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله أعلم أنّي بريئة، وأنّ الله مبرّئي ببراءتي، ولكن ما كنت أظن أنّ الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى- ومنهم من قال: فلأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم الله بالقرآن في أمري- ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرّئني الله بها، فو الله؛ ما رام «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنّه ليتحدّر منه مثل الجمان «2» من العرق في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه، فسرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة؛ احمدي الله- ومنهم من قال: أبشري يا عائشة، أمّا الله فقد برّأك- فقالت لي أمّي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلّا الله، هو الذي أنزل براءتي. فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ   (1) رام يريم: فارق، والمصدر الريم. (2) الجمان- بضم الجيم- مفرده جمانة، وهي تعمل من الفضة كالدرة. اهـ «مختار» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فلمّا أنزل الله هذا في براءتي.. قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لقرابته منه وفقره-: والله؛ لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر: بلى والله، إنّي لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وقال: والله؛ إنّي لا أنزعها منه أبدا «1» . قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: «يا زينب؛ ما علمت؟ ما رأيت؟» قالت: يا رسول الله؛ أحمي سمعي، والله؛   (1) بل في «معجم الطبراني الكبير» و «النسائي» : (أنّه أضعف له في النفقة التي كان يعطيه إيّاها قبل القذف) ذكره في «الحلبية» اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ما علمت عليها إلّا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقت أختها حمنة تجاوب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط) اهـ عظم فوائد هذا الحديث: وفي هذا الحديث العظيم فوائد كثيرة: فيه- وهو المقصود الأعظم-: تبرئة منصب السيدة عائشة رضي الله عنها ممّا رماها به أهل الإفك، قال الإمام النوويّ: (وهي براءة قطعية بنص القرآن، فلو تشكّك فيها إنسان والعياذ بالله.. صار كافرا بإجماع المسلمين، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (لم تزن امرأة نبيّ قطّ) ففيه منقبة ظاهرة لعائشة، وفضيلة لأبيها وأمها. وفيه: فضيلة لسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وزينب بنت جحش، وصفوان بن المعطّل، وأم مسطح بن أثاثة. وفيه: جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة، عن كل واحد منهم قطعة مبهمة، إذا كان كل منهم بصفة العدالة. وفيه: ثبوت القرعة. قال العلّامة الحلبي في «سيرته» : (قال السّهيلي: وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 نزول براءة عائشة رضي الله عنها بعد قدومهم المدينة- أي: من الغزوة المذكورة- لسبع وثلاثين ليلة في قول بعض المفسرين، فمن نسب إليها رضي الله عنها اقتراف الفاحشة كغلاة الرافضة.. كان كافرا؛ لأنّ في ذلك تكذيبا للنصوص القرآنية، ومكذبها كافر) . دعاء الفرج: وفي «روح المعاني» للعلّامة الآلوسي: (أنّه جاء في خبر غريب ذكره ابن النجار في «تاريخ بغداد» بسنده إلى أنس رضي الله عنه: كنت جالسا عند عائشة لأقرّ عينها بالبراءة وهي تبكي وتقول: هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني الهرة، وما عرض عليّ طعام ولا شراب، فكنت أرقد وأنا جائعة ظامئة، فرأيت في منامي فتى، فقال: ما لك؟ قلت: حزينة ممّا ذكر الناس، فقال: ادعي بهذه يفرج الله عنك، قلت: وما هي؟ قال: قولي: يا سابغ النّعم، ويا دافع النّقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظّلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا أوّل بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية؛ اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. قالت: فقلت ذلك، فانتبهت وأنا ريانة شبعانة وقد أنزل الله فرجي. قلت: وهو حريّ أن يسمّى دعاء الفرج. قال بعضهم: برّأ الله تعالى أربعة بأربعة: برّأ يوسف عليه السّلام بشاهد من أهل زليخا، وبرّأ موسى عليه السّلام من قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 اليهود فيه إنّ له أدرة بالحجر الذي فرّ بثوبه، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها، وبرّأ عائشة بهذه الآيات. لطيفة ذكرها الصلاح الصّفدي قال: رأيت بخط ابن خلّكان أنّ مسلما ناظر نصرانيا، فقال له النصرانيّ في خلال كلامه، محتقنا في خطابه بقبيح آثامه: يا مسلم؛ كيف كان وجه زوجة نبيكم معتذرة بضياع عقدها؟ فقال له المسلم: يا نصراني؛ كان وجهها كوجه بنت عمران لمّا أتت بعيسى تحمله من غير زوج، فمهما اعتقدت في دينك من براءة مريم.. اعتقدنا مثله في ديننا من براءة زوج نبينا صلى الله عليه وسلم، فانقطع النصرانيّ ولم يحر جوابا) اهـ، وهو جواب مفحم مسكت، فلله دره من مؤمن محب صادق، أنطقه الله بالصواب على هذا الأسلوب الذي دحر به ذلك النصرانيّ الأثيم، والسيدتان كل منهما مطهّرتان بريئتان مبرّأتان، رضي الله عنهما وأرضاهما، آمين. مفاخر عائشة وفضائلها: واعلم: أنّ للسيدة عائشة رضي الله عنها مفاخر لا يشاركها فيها أحد من الأزواج الطاهرات، وكانت هي تفتخر بها، وحقّ لها ذلك. فمنها: أنّها خلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقا كريما؛ لقوله تعالى فيها: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 ومنها: أنّ جبريل عليه السّلام أتى بصورتها في سرقة حرير أي: قطعة من جيد الحرير- وقال: هذه زوجتك، ويروى: أنّه أتى بصورتها في راحته. ومنها: أنّه قال عليه الصّلاة والسّلام في مرض موته: ليهوّن عليّ أنّي رأيت بياض كف عائشة في الجنة، وهو مروي عن الإمام أحمد، نقله عنه ابن كثير في «البداية» . ومنها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها. ومنها: أنّه قبض صلى الله عليه وسلم في حجرها، وفي يومها، ودفن في بيتها. ومنها: أنّه كان ينزل الوحي عليه، وهي معه في اللّحاف، ونزلت براءتها من السماء، وأنّها ابنة الصّديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي «القرطبي» : (قال بعض أهل التحقيق: إنّ يوسف عليه السّلام لمّا رمي بالفاحشة.. برّأه الله على لسان صبيّ في المهد «1» ، وإنّ مريم لمّا رميت بالفحشاء.. برّأها الله على لسان ولدها عيسى عليهما السّلام، وإنّ عائشة لمّا رميت بالفحشاء.. برّأها الله بالقول، فما رضي لها براءة صبيّ   (1) هو الذي أشارت له آية: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إلخ، قال الحافظ السيوطي: ابن عمها، روي أنّه كان في المهد، قال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إلى آخر الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ولا نبيّ، حتى برّأها الله بكلامه من القذف والبهتان) . نزول آية التيمم: (ونقلا «1» أنّ التيمم) أي: آيته (بها) أي: في هذه الغزوة (قد أنزلا) في (المائدة) وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية. وقيل: هي الآية التي في (النساء) لأنّ آية (المائدة) تسمّى آية الوضوء، وآية (النساء) لا ذكر للوضوء فيها، فيتّجه تسميتها بآية التيمّم. قال الحافظ: (وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري: أنّها آية «المائدة» بلا تردّد؛ وذلك لما فقدت السيدة عائشة رضي الله عنها عقدها أيضا، فاحتبسوا على طلبه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبه، أحدهما أسيد بن حضير أحد النقباء، فحضرت صلاة الصبح، وكانوا على غير ماء، فجاء الناس إلى أبي بكر، وشكوا إليه ما نزل بهم، فجاء إليها ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه الشريف على فخذها قد نام، فقال لها: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجعل يطعن بيده في خاصرتها، ويقول: يا بنية؛ في كل سفرة تكونين عناء وبلاء، وليس مع الناس ماء، قالت:   (1) الألف للإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 فلا يمنعي من التحرك إلّا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فأنزل الله آية التيمّم. قال أسيد بن حضير- وهو أحد النقباء-: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت أمّنا عائشة رضي الله عنها: فبعثنا البعير الذي كنت أركب عليه، فوجدنا العقد تحته» . قال ابن برهان الحلبيّ في «سيرته» - وقد ذكر نحو ما ذكره الناظم من مشروعية التيمم في هذه الغزوة-: (وهذا القيل نقله إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن عدّة من أهل المغازي؛ أي: وعليه يكون سقط عقدها في تلك الغزوة مرتين؛ لاختلاف القضيتين باختلاف سياقهما. والصحيح: أنّ ذلك في غزوة أخرى؛ أي: متأخرة عن هذه الغزوة) اهـ النهي عن العزل عن النساء: وفي هذه الغزوة نهى عليه الصّلاة والسّلام عن العزل، وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أصبنا سبيا، فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «وإنّكم لتفعلون؟ - قالها ثلاثا- ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلّا وهي كائنة» . وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدّت علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ثمّ الحديبية ساق البدنا ... معتمرا وما بحرب اعتنى العزوبة، وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل، فقلنا: نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟! فسألنا عن ذلك، فقال: «ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلّا وهي كائنة» . تنبيه: إذا قلنا بجواز العزل بشرطه.. فلا ينافي أنّ التسبب لإسقاط النطفة بعد وصولها إلى الرحم غير جائز مطلقا؛ لوضوح الفرق بينهما؛ فإنّ المني حال نزوله محض جماد لم يتهيّأ للحياة بخلافه بعد استقراره في الرحم وأخذه في مبادي التخلق، أمّا استعمال ما يقطع الحبل من أصله.. فحرام؛ لمصادمته الشريعة الغرّاء التي تقول: «تناكحوا تناسلوا ... » إلخ، فليعلم. (23) غزوة الحديبية (ثمّ) بعد غزوة المريسيع وإقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان، وشوّالا (الحديبية) - بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، وسكون التحتية، وكسر الموحدة، وتخفيف الياء الثانية، وقد تشدّد: بئر بقرب مكة، على تسعة أميال منها، سمّي المكان باسمها- خرج صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، كما عند ابن سعد، سنة ست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 بلا خلاف كما قال في «البداية» و (ساق البدنا) بإسكان الدال وبضمها على اللغتين المشار إليهما في قول بعضهم: وكلّ فعل بسكون العين ... كاليسر والعسر ونحو الأذن فضمّ عينه يرى اتباعا ... لفائه عن أسد قد شاعا وفعل كعنق وطنب ... تسكينه إلى تميم انسب وهو جمع بدنة: ما يهدى إلى البيت الحرام من إبل وبقر.. وكانت سبعين بدنة فيها جمل أبي جهل الذي غنمه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر كما سيأتي. سبب الخروج للحديبية: وسبب خروجه: أنّه رأى صلى الله عليه وسلم في منامه، أنّه دخل البيت هو وأصحابه آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، فخرج من المدينة المنوّرة يسوق البدن (معتمرا) وزائرا للبيت الحرام ومعظما له، لا يريد قتالا، كما قال: (وما بحرب اعتنى) أي: وما قصد بذلك الخروج حربا. وحين خروجه صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة المنوّرة نميلة بن عبد الله الليثي، وعلى الصّلاة ابن أم مكتوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 ومن سوى المخلّفين استنفرا ... عرمرما وصدّ عن أمّ القرى استنفاره العرب للخروج معه إلى مكة: (ومن سوى) بكسر السين وبضمها مضاف إلى قوله (المخلّفين) وهم: جهينة ومزينة، ومن كان حول المدينة من الأعراب، تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغبوا بأنفسهم عن نفسه، وهو متعلق بقوله: (استنفرا) أي: إنّه صلى الله عليه وسلم استنفر من غير المخلفين جيشا (عرمرما) أي: كثيرا عدده أربع عشرة مئة، أو خمس عشرة مئة. قال ابن إسحاق: (واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب، أو يصدّوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنّه إنّما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له) وخرجت معه أم سلمة من نسائه. أمّا المخلّفون.. فإنّهم لمّا تثاقلوا في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قالوا: أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه، فنقاتلهم؟ واعتلّوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنّه ليس لهم من يقوم بذلك، فأنزل الله تعالى تكذيبهم في اعتذارهم بقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 خبر بسر بن سفيان الخزاعي عن قريش وصدّهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن مكة: ولمّا خرج وقد أحرم بالعمرة من ذي الحليفة- كما في الصحيح من رواية الزّهري- سار، حتى إذا كان بعسفان.. لقيه بسر بن سفيان الخزاعي- وكان بعثه عينا- فقال: يا رسول الله؛ هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل «1» قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم أبدا عنوة، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدّموها إلى كراع الغميم «2» . وقال ابن سعد: (قدّموا مئتي فارس عليها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟! فإن هم أصابوني.. كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم.. دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا.. قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟! فوالله؛ لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» ) «3» .   (1) جمع عائذ، وهي: الناقة حديثة النتاج، والمطافيل: الأمّهات التي معها أطفالها، يريد أنّهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليتزوّدوا ألبانها، ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمّدا وأصحابه في زعمهم. اهـ سهيلي (2) موضع بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال وعسفان من مكة على مرحلتين. (3) السالفة: صفحة العنق وهو كناية عن الموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وما انثنى بالجيش حتّى اقعنسست ... عن مكّة ناقته إذ حبست وهذا الذي أشار له الناظم بقوله: (وصدّ عن أم القرى) أي: منعته لذلك كفار قريش عن دخول مكة المشرفة. ولما كان قوله: (وصدّ ... ) إلخ يشعر بأنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا صدّ رجع في الحال إلى المدينة.. دفع هذا بقوله: (وما انثنى) أي: ما انعطف عليه الصّلاة والسّلام راجعا (بالجيش) الذي خرج معه، بل ظلّ سائرا، وقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» (حتى اقعنسست) رجعت (عن) دخول (مكة ناقته) العضباء، ويقال لها: الجدعاء، والقصواء «1» (إذ حبست) بالبناء للمجهول: أي: لأنّ الله تعالى حبسها عن ذلك.   (1) من القصو وهو: قطع طرف الأذن، ولم تكن ناقته عليه الصّلاة والسّلام بذلك، وإنّما هي ألقاب على المشهور، قال في «روض النهاة» : (وهي التي أخذها من أبي بكر رضي الله عنه بمكة، فهاجر عليها، وكان أبى عن أخذها إلّا بالثمن، وهي إذا ذاك رباعية، وكانت صهباء، قيل: إنّها من جمال بني قشير، فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم المدينة.. أراد كل من قبائل الأنصار النزول عليه، ويقول: «دعوها؛ فإنّها مأمورة، حتى بلغت موضع إرادته تعالى، فبركت قريبا من مكانها الأول، وألقت جرانها بالأرض، وأرزمت، فنزل عنها صلى الله عليه وسلم، ثمّ لم تزل عنده، ولا يحمله حين ينزل الوحي عليه غيرها وربما بركت من ثقل الوحي- إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم، فامتنعت من الأكل والشرب حزنا عليه إلى أن ماتت. وذكر القاضي في «الشفاء» : (أنّها كانت تكلمه، وأنّ العشب يأتيها يبادرها في المرعى، وتجتنبها الوحوش فيه، وتناديها: إنّك لمحمّد) وأشار إلى ذلك في «قرة الأبصار» بقوله: ثمّ حمار اسمه يعفور ... والناقة القصوا فقط مأثور وهي التي امتطى بلا امتراء ... نبينا في الهجرة الغراء - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 تجنّب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقاء قريش: قال ابن إسحاق عند قوله عليه الصّلاة والسّلام: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم؟» : (فحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله، قال: فسلك بهم طريقا وعرا أجرل- كثير الحجارة- بين شعاب «1» ، فلمّا خرجوا منه وقد شقّ ذلك على المسلمين، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك، فقال: «والله؛ إنّها للحطّة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها» ) . قال ابن شهاب: (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين، بين ظهري الحمض»   وكان لا يحمله إن نزلا ... عليه وحي غيرها ونقلا أنّ اسمها الجدعاء والعضباء ... فقد ترادفت لها الأسماء قال شارحها الشيخ أحمد المأمون اليعقوبي: (وفي «ذخائر العقبى» : «تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته العضباء، ويحشر أبناء فاطمة على ناقته العضباء، وأحشر أنا على البراق، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة» أخرجه الحافظ السلمي، ولا معنى لقول الناظم: «فقط» لأنّه يوهم أن ليس له من الإبل إلّا القصواء، مع أنّه ذكر بعد أنّ له عشرين لقحة) اهـ (1) قلت: لعلّ الطريق الوعر الأجرل الذي سلكه نبينا عليه الصّلاة والسّلام بهم، هو الطريق المشهور بالغائر الذي كانت تسلكه القافلة بالزوار على الجمال، وقد سلكناه بفضل الله تعالى عام زيارتنا لسيد الوجود في الذهاب والإياب سنة (1329 هـ) لا أحرمنا الله من زيارته مرات وكرات، أمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 فاستنزل النّاس ولا ماء لهم ... فاستنبطوا بالسّهم ما أعلّهم بفتح الحاء المهملة، وإسكان الميم، وبالضاد المعجمة: اسم موضع، في طريق تخرجه على ثنية المرار- بكسر الميم، وتخفيف الراء: طريق في الجبل، يشرف على الحديبية- مهبط الحديبية من أسفل مكة، قال: فسلك الجيش ذلك الطريق: فلمّا رأت قريش قترة الجيش- غباره- قد خالفوا عن طريقهم.. رجعوا راكضين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا سلك في ثنيّة المرار.. بركت ناقته، فقال الناس: خلأت الناقة- أي: حرنت وبركت بلا علة- فقال صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت، وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة- خصلة- يسألونني فيها صلة الرحم.. إلّا أعطيتهم إياها» ) . ثمّ قال للناس: «انزلوا» قالوا له: يا رسول الله؛ ما بالوادي ماء ننزل عليه، فأخرج سهما من كنانته- جعبته التي فيها النبل- فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش بالرّواء- فار بالريّ، كما في رواية- حتى ضرب الناس بعطن- مبرك الإبل حول الماء- وهذا ما أشار له الناظم بقوله: (فاستنزل الناس ولا ماء لهم) أي: فطلب من أصحابه النزول، وأمرهم به في مكان، والحال أنّه لا ماء لهم به غير الماء القليل المعبّر عنه بالثّمد الذي نزحوه فلم يبقوا منه شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 (ف) لذلك (استنبطوا) أي: استخرجوا (بالسهم) الذي انتزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنانته وأعطاه لناجية بن جندب الأسلميّ، وهو الذي سلك بهم الطريق، وسماه صلى الله عليه وسلم: ناجية، لما نجا من قريش، وكان قبل يسمى ذكوان، وهو أيضا سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما) أي: الماء الكثير الذي (أعلّهم) أي: سقاهم به، والعلل: الشربة الثانية بعد الشربة الأولى، خلاف النّهل؛ فإنّه الشربة الأولى. روى الإمام البخاريّ في «صحيحه» من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم الطويل، يصدّق كل منهما حديث صاحبه: (أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال- أي: لكفار قريش الذين يريدون صدّه عن البيت-: «لا يسألوني خطّة يعظمون فيها حرمات الله.. إلا أعطيتهم إيّاها» ثمّ زجرها- أي: راحلته التي بركت- فوثبت، فعدل عنهم، حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء «1» يتبرّضه الناس تبرّضا «2» ، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله؛ ما زال يجيش بالرّي حتى صدروا عنه) اهـ   (1) حفرة فيها ماء قليل. (2) يأخذونه قليلا قليلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 ما في هذه القصة من الحكم والفوائد: وفي هذه القصة معجزة ظاهرة، وآية باهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء. وفيها: بركة سلاحه صلى الله عليه وسلم، وما ينسب إليه. قال في «شرح المواهب» : (وجواز التشبيه «1» من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة؛ لأنّ أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقا، أمّا من أهل الباطل.. فواضح، وأمّا من أهل الحق.. فللمعنى المتقدم، وهو أنّ الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدّتهم قريش.. لوقع بينهم القتال المفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدّر دخول الفيل، لكن سبق في علم الله أنّه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون. وفيها: ضرب المثل، واعتبار من بقي بمن مضى. واستدلّ بعضهم بهذه القصة لمن قال من الصوفية: علامة الإذن التيسير وعكسه. قال ابن بطّال وغيره: (وفيه جواز الاستتار عن طلائع   (1) أي: بقصة الفيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وعلّهم أيضا بهذي الغزوة ... ما كان عن صبابة في ركوة المشركين، ومفاجأتهم بالجيش؛ طلبا لغرّتهم، والسفر وحده للحاجة، والتنكب عن الطريق السهل إلى الوعر للمصلحة، والحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويردّ على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممّن لا يعرف صورة حاله؛ لأنّ خلاء القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحا، ولم يعاتبهم صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم، والتصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح إذا سبق عنه ما يدل على الرضا بذلك؛ لأنّهم زجروها بغير إذن ولم يعاتبهم) اهـ من «الفتح» ثمّ أراد الناظم رحمه الله تعالى أن يذكر ما جرى في هذه الغزوة من المعجزات من هذا النوع، ومعجزاته صلى الله عليه وسلم تزيد على رمل عالج، فقال تغمّده الله برحمته، وأجزل عليه من رضوانه ومثوبته. معجزة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بفوران الماء من بين أصابعه: (وعلّهم) أي: سقاهم النّبيّ صلوات الله وسلامه عليه كثيرا (أيضا بهذه الغزوة ما) أي: الماء الكثير الذي (كان عن صبابة) بضم الصاد: بقية الماء (في ركوة) بتثليث الراء المهملة، وهي: إناء صغير للماء من جلد كالإبريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وجمعوا له بقايا الزّاد ... فخوّلوا منها سوى المعتاد وأشار بهذا البيت إلى ما في الصحيح من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه قال: (عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضّأ منها، فأقبل الناس نحوه، وقالوا ليس عندنا إلّا ما في ركوتك، فوضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده في الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضّأنا، فقلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف.. لكفانا، كنا خمس عشرة مئة) . قلت: وهذه المعجزة كما لا يخفى أعظم من معجزة سيدنا موسى عليه الصّلاة والسّلام إذ نبع له الماء من الحجر؛ لأنّه معتاد، قال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ الآية، وأمّا خروجه من لحم ودم.. فلم يعهد قال الشاعر: إن كان موسى سقى الأسباط من حجر ... فإن في الكفّ معنى ليس في الحجر معجزة أخرى بتكثير الطعام القليل: (وجمعوا) أي: الصحب الكرام وسادة الأنام (له) أي: لرسول الملك العلام (بقايا الزاد فخوّلوا) بصيغة الماضي المجهول؛ أي: أعطوا (منها) أي: من هذه الآية (سوى المعتاد) ، وذلك أنّه لما رجع عليه الصّلاة والسّلام من الحديبية، قال بعض الصحابة: يا رسول الله؛ قد أجهدنا وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الناس ظهر، فانحره لنأكل من لحومه، وندّهن من شحومه، ونحتذي من جلوده، فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله؛ فإنّ الناس لم يكن فيهم ظهر أمثل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابسطوا نطاعكم وأعباءكم» ففعلوا، ثمّ قال: «من كان عنده بقية من زاد أو طعام.. فلينشره» ودعا لهم، فقال: «قربوا أوعيتكم» فأخذ ما شاء الله، ثمّ قال: «فهل من وضوء؟» فجاء رجل بإداوة فيها نطفة من ماء، فأفرغها في قدح، فتوضّؤوا كلهم. هكذا ذكر هذه القصة في «روض النّهاة» ووقع مثلها في غزوة تبوك. وذكر ابن كثير في «تاريخه» في موضع تكثير الطعام في السفر عن الحافظ أبي بكر البزّار بسنده إلى خنيس الغفاريّ: أنّه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تهامة، حتى إذا كنا بعسفان.. جاءه أصحابه فقالوا: يا رسول الله؛ جهدنا الجوع، فأذن لنا في الظّهر أن نأكله، قال: «نعم» فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فجاء رسول الله، فقال: يا نبي الله: ما صنعت؟ أمرت الناس أن ينحروا الظهر، فعلام يركبون؟ قال: «فما ترى يا بن الخطاب؟» قال: أرى أن تأمرهم أن يأتوا بفضل أزوادهم، فتجمعه في ثوب، ثمّ تدعو لهم، فأمرهم، فجمعوا فضل أزوادهم في ثوب، ثمّ دعا لهم، ثمّ قال: «ائتوا بأوعيتكم» فملأ كل إنسان وعاءه، ثم أذّن بالرحيل، فلما جاوز.. مطروا، فنزل ونزلوا معه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وكم قليل غير ذاك كثّرا ... وكم قليب بالمعين فجّرا وبايعوه بيعة الرّضوان ... إذ قيل قد عدوا على عثمان وشربوا من ماء السماء، فجاء ثلاثة نفر، فجلس اثنان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب الآخر معرضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم عن النّفر الثلاثة؟ أمّا واحد: فاستحى من الله، فاستحى الله منه، وأمّا الآخر: فأقبل تائبا، فتاب الله عليه، وأمّا الآخر: فأعرض، فأعرض الله عنه» . قلت: فالذي يظهر أنّ المراد بهذه الغزوة هي الحديبية؛ لأنّها التي مطروا فيها، وقوله: (حتى إذا كنا بعسفان) مشعر برجوعهم من الحديبية، فيوافق ما ذكره صاحب «الروض» والله أعلم. (وكم) : هي للتكثير، فمدخولها مجرور (قليل غير ذاك) أي: كثير من الماء القليل سوى ما تقدم لك (كثّرا) ببركته صلى الله عليه وسلم، وبوضع يده الشريفة فيه (وكم قليب) وهو: البئر (بالمعين) بفتح الميم؛ أي: بالماء الكثير الجاري، قال الله تعالى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (فجّرا) أي: أسيل، حتى قال الإمام النوويّ: (إنّ تكثير الماء ببركته صلى الله عليه وسلم أحاديثه بلغت مبلغ التواتر) . بيعة الرضوان تحت الشجرة وسببها: (وبايعوه) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم (بيعة الرّضوان) التي ذكرها الله عزّ وجلّ في قوله: لَقَدْ رَضِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وأعرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن فضلها بقوله: «لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية» رواه مسلم عن جابر، وقوله صلى الله عليه وسلم كما في «البخاري» عن جابر- رضي الله عنه- خطابا لأهل بيعة الرضوان: «أنتم خير أهل الأرض» . وعند أحمد بإسناد حسن: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: لما كان بالحديبية.. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا توقدوا نارا بليل» فلمّا كان بعد ذلك.. قال: «أوقدوا واصطنعوا؛ فإنّه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم» . وبايع سلمة بن الأكوع يومئذ ثلاث مرات: في أول الناس، وفي وسطهم، وفي آخرهم، وأشار الناظم إلى سبب هذه المبايعة بقوله: (إذ قيل: قد عدوا) بفتح الدال، من عدا عليه يعدو بمعنى: تعدى وظلم (على عثمان) بن عفان رضي الله عنه لما بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم رسولا إلى قريش بمكة ليبلغهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّه ما جاء إلّا زائرا للبيت معتمرا معظما لحرماته، وكان عليه الصّلاة والسّلام قبل ذلك أراد أن يبعث عمر إليهم، فقال عمر: يا رسول الله؛ إنّي أخاف قريشا على نفسي، وما أحد بمكة من بني عدي بن كعب يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 ولكن أدلّك على رجل أعزّ بها مني، عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثه إليهم بتلك الرسالة، وخرج، حتى إذا قارب مكة.. لقيه أبان بن سعيد بن العاصي بن أميّة الأموي، فحمله بين يديه وأجاره، وهو الذي يقول: أقبل وأدبر ولا تخف أحدا ... بنو سعيد أعزّة الحرم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلّغهم رسالته صلى الله عليه وسلم، وقرأ عليهم كتابه صلى الله عليه وسلم واحدا واحدا، فما أجابوا، وعزموا على ألّا يدخلها هذا العام، وقالوا لعثمان لما فرغ من تبليغ الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت.. فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتبست قريش عثمان عندها أياما ثلاثة، فبلغه صلى الله عليه وسلم والمسلمين أنّ عثمان قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا الناس إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة- التي كان عليه السّلام يستظلّ بها- على الموت، وقال جابر: على أن لا يفرّوا «1» ، ولم يتخلف عن   (1) هو في «صحيح مسلم» وفيه أيضا من رواية سلمة: أنّهم بايعوه على الموت، قال النووي في «شرح مسلم» : (وفي رواية مجاشع بن مسعود: البيعة على الهجرة، والبيعة على الإسلام) وفي حديث ابن عمر وعبادة: (بايعناه على السمع والطاعة، وأن لا ننازع الأمر- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 هذه المبايعة المباركة أحد ممّن حضر إلّا الجدّ بن قيس، وكان جابر بن عبد الله يقول: «والله؛ لكأنّي أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها- لصق بها- يستتر بها عن الناس» . قال ابن هشام: (وحدّثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى) قال في «البداية والنهاية» : (وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الإسناد ضعيف، لكنه ثابت في «الصحيحين» ) . قلت: وهذه المبايعة منه عليه الصّلاة والسّلام لعثمان رضي الله عنه كانت جزاء وفاقا لما امتنع أن يطوف بالبيت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أدبا وإجلالا، أشار إلى ذلك شرف الدين أبو عبد الله في «أم القرى» «1» رضي الله عنه بقوله: وابن عفّان ذي الأيادي التي طا ... ل إلى المصطفى بها الإسداء   أهله) وفي رواية عن عمر في «صحيح مسلم» : (البيعة على الصبر) قال العلماء: هذه الرواية تجمع المعاني كلها، وتبين مقصود كل الروايات، فالبيعة على أن لا نفر معناه: الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت؛ أي: نصبر وإن آل بنا ذلك إلى الموت، لا أنّ الموت مقصود في نفسه، وكذا البيعة على الجهاد؛ أي: والصبر فيه، والله أعلم. (1) يعني البوصيري في «همزيته» المسماة بأم القرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وعقروا جمله الثّعلب إذ ... أرسله تحت الخزاعيّ المغذ حفر البئر، جهز الجيش، أهدى ال ... هدي لما أن صدّه الأعداء وأبى أن يطوف بالبيت إذ لم ... يدن منه إلى النبيّ فناء فجزته عنها ببيعة رضوا ... ن يد من نبيه بيضاء أدب عنده تضاعفت الأع ... مال بالترك حبّذا الأدباء وأوّل من بايع بيعة الرضوان: سنان بن أبي سنان الأسديّ، لا أبو سنان بن محصن الذي هو أخو عكاشة بن محصن رضي الله عنه؛ وذلك لأنّ أبا سنان رضي الله عنه مات في حصار بني قريظة قبل اليوم كما ذكره في «الحلبية» و «روض النّهاة» . ولمّا سمع المشركون بهذه البيعة المباركة.. خافوا وألقى الله في قلوبهم الرّعب، وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين، قال الشامي: (هم عشرة كانوا دخلوا مكة) . بعث خراش الخزاعي إلى قريش: (وعقروا) أي: عقر كفار قريش (جمله) عليه الصّلاة والسّلام، والذي تولى عقره عكرمة بن أبي جهل، كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وكان ممّن بعثوه يسترد ... نبيّنا مكرز عروة الحرد «شرح المواهب» وقد أسلم بعد رضي الله عنه، ونسب الناظم ذلك إليهم؛ لرضاهم به (الثعلب) أي: المسمى بذلك (إذ أرسله) أي: الجمل (تحت) خراش بن أميّة (الخزاعي المغذ) بالميم المضمومة والغين المعجمة المكسورة؛ أي: المسرع في سيره إلى قريش؛ ليعلمهم بأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما قدم معتمرا، وكانوا أرادوا قتل خراش فمنعتهم الأحابيش، فخلّوا سبيله، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما لقي. قال ابن إسحاق: (وحدّثني بعض أهل العلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أميّة الخزاعيّ، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه أنّه إنّما جاء معتمرا، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلّوا سبيله، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) . بعث قريش سفراءهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ثمّ أراد الناظم أن يسمي بعض السفراء الذين بعثتهم قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليردوه عن دخول البيت الحرام، فقال: (وكان ممّن بعثوه) أي: كفار قريش (يسترد نبينا) أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 يطلب ردّ نبينا عن دخول مكة، وفاعل يسترد قوله: (مكرز) بكسر الميم، وهو ابن حفص من بني عامر بن لؤيّ. قال في «الإصابة» : (لم أر من ذكره في الصحابة إلّا ابن حبّان بلفظ يقال: له صحبة) وقد تقدم في غزوة بدر. قال ابن إسحاق: (فلمّا رآه- يعني مكرزا- رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «هذا رجل غادر» فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّمه.. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا ممّا قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم) اهـ وكان بديل بن ورقاء الخزاعي «1» قد أتاه في رجال من خزاعة فكلّموه، وسألوه ما الذي جاء به، فأخبرهم عليه الصّلاة والسّلام: «أنّه لم يأت يريد حربا، وإنّما جاء زائرا للبيت ومعظّما لحرمته» . واعلم: أنّ مقتضى ما في «سيرة ابن إسحاق» أنّ بعث قريش لمكرز بعد بعث بديل، كما أنّهم بعثوا بعد مكرز الحليس الحارثيّ، ثمّ عروة بن مسعود، خلافا لما يوهمه كلام الناظم هنا. نعم؛ صحّ: أنّ سهيلا جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل انصراف مكرز من عنده، ويجمع بين هذا وبين ما يأتي من رواية ابن إسحاق، بأنّ مكرزا رجع إلى قريش، فأخبرهم   (1) وقد أسلم يوم الفتح بمر الظهران، وشهد حنينا والطائف وتبوك، وقيل: أسلم قبل الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 بقوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ جاء مع سهيل في الصلح هو وحويطب، كما رواه الواقديّ وابن عائذ، فكأنّ مكرزا سبق سهيلا في المجيء، فكلّم المصطفى، فجاء سهيل. وأمّا (ثمّ) في رواية ابن إسحاق، في قوله: (ثمّ بعثوا الحليس، ثمّ بعثوا عروة) فإنّما هي للترتيب الذّكري، فلا تعارض رواية الصحيح، وإلّا.. فما في الصحيح أصحّ، ذكر هذا الجمع العلّامة الزّرقاني. فقوله (عروة) معطوف بحذف العاطف، وهو ابن مسعود بن معتّب الثّقفيّ «1» (الحرد) : العزيز المنيع، وهو بوزن نمر.   (1) قال الحافظ: (هو عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، عم والد المغيرة بن شعبة، وأمه سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، أخت آمنة، وكان أحد الأكابر من قومه، له اليد البيضاء في تقرير الصلح، وهو مستوفى في «البخاري» وترجمه ابن عبد البر بأنّه شهد الحديبية، وهو كذلك، لكن في العرف: إذا أطلق على الصحابي أنّه شهد غزوة كذا.. يتبادر أنّ المراد أنّه شهدها مسلما، فلا يقال: شهد معاوية بدرا؛ لأنّه لو أطلق ذلك.. ظن من لا خبرة له- لكونه عرف أنّه صحابي- أنّه شهدها مع المسلمين، وعند مسلم من حديث جابر مرفوعا: «عرض علي الأنبياء ... » فذكر الحديث، قال: «ورأيت عيسى، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود» . وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب وأبو الأسود عن عروة، وكذلك ذكره ابن إسحاق، يزيد بعضهم على بعضهم: (أنّ أبا بكر لمّا صدر من الحج سنة تسع قدم عروة بن مسعود الثقفي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن إسحاق: أنّه اتبع أثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا انصرف من الطائف، فأسلم، واستأذنه أن يرجع إلى قومه، فقال: «إنّي أخاف أن يقتلوك» قال: لو وجدوني نائما.. ما أيقظوني، فأذن له فرجع، فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم، فعصوه، وأسمعوه من الأذى، فلمّا كان من السحر.. قام على- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 والحارثيّ المتألّه الّذي ... هو لهم بردّ أحمد بذي كلام الحليس بن علقمة: (و) كذا ممّن بعثوه (الحارثي) وهو: الحليس بالتصغير- ابن علقمة، سيد الأحابيش ورأسهم، منسوب إلى الحارث بن عبد مناة؛ لأنّه أحد بنيه (المتألّه) أي: المعظّم لأمر الله؛ كالحجّ والعمرة ونحو ذلك ممّا بقي من دين سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصّلاة والسّلام، ووصفه أيضا بقوله: (الذي هو) أي: الحارثيّ (لهم) أي: كفار قريش (بردّ) أي: بسبب ردهم (أحمد) صلى الله عليه وسلم (بذي) بفتح الباء: خبر عن (هو) أي: طويل اللسان بالكلام على قريش؛ فإنّه قال لهم- في كلام سيأتي-: والذي نفس الحليس بيده؛ لتخلّنّ بين محمّد وما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.   غرفة له فأذن، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فلمّا بلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثل عروة مثل صاحب ياسين؛ دعا قومه إلى الله فقتلوه» وقيل لعروة: ما نرى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس فيّ إلّا ما في الشهداء الذين قتلوا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. وروى أبو نعيم من طريق داوود بن عاصم عن عروة بن مسعود، وهو جده: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضع عنده الماء، فإذا بايع النساء.. يمس أيديهنّ فيه) وهذا منقطع، وفي الإسناد إلى داوود ضعف أيضا. وروى ابن منده من طريق إبراهيم بن محمّد بن عاصم عن أبيه، عن حذيفة، عن عروة بن مسعود الثقفي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقّنوا موتاكم: لا إله إلّا الله؛ فإنّها تهدم الخطايا» إسناده ضعيف أيضا، أورده العقيلي في ترجمة إبراهيم بن محمّد بن عاصم، ولكن لم أر فيه الثقفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 ولا بأس أن ننقل هنا لفظ ابن هشام في «تلخيصه للسيرة النبوية» لابن إسحاق؛ إذ به يتّضح تماما كلام الناظم. كلام بديل بن ورقاء الخزاعي: قال ابن هشام: (قال الزهريّ في حديثه: فلمّا اطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه ما الذي جاء به، فأخبرهم: أنّه لم يأت يريد حربا، وإنّما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، ثمّ قال لهم نحوا ممّا قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا: يا معشر قريش؛ إنّكم تعجلون على محمّد؛ إنّ محمّدا لم يأت لقتال، وإنّما جاء زائرا لهذا البيت، فاتّهموهم وجبّهوهم وقالوا: وإن كان جاء زائرا لا يريد قتالا، فو الله؛ لا يدخلها علينا عنوة، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب أبدا. قال الزّهري: وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مسلمها ومشركها، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة قال: كلام مكرز بن حفص: ثمّ بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف، أخا بني عامر بن لؤيّ، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 مقبلا.. قال: «هذا رجل غادر «1» » فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّمه.. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا ممّا قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش، فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. عودة إلى كلام الحليس بن علقمة: ثمّ بعثوا إليه الحليس بن علقمة، أو ابن زبّان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحرث بن عبد مناة بن كنانة، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: «هذا من قوم يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه» فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله.. رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس؛ فإنّما أنت أعرابيّ لا علم لك. قال ابن إسحاق: فحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش؛ والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصدّ عن بيت الله من جاء معظّما له؟! والذي نفس الحليس بيده؛ لتخلّنّ بين محمّد وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل   (1) وصفه بالغدر؛ لما ذكره الواقدي: (أنّه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية، فخرج في خمسين رجلا، فأخذهم محمّد بن مسلمة وهو على الحرس، وانفلت مكرز، فكأنّه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 واحد، قال: فقالوا لي: مه، كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. كلام عروة بن مسعود الثقفي: قال الزّهري في حديثه: ثمّ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش؛ إنّي قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمّد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنّكم والد وأنّي ولد- وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف- وقد سمعت بالّذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثمّ جئتكم حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتّهم، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس بين يديه، ثمّ قال: يا محمّد؛ أجمعت أوشاب الناس، ثمّ جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنّها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وايم الله؛ لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا، قال: وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟! قال: من هذا يا محمّد؟ قال: «هذا ابن أبي قحافة» قال: أما والله؛ لولا يد كانت لك عندي.. لكافأتك بها، ولكن هذه بها، قال: ثمّ جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلّمه، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألّا تصل إليك، قال: فيقول عروة: ويحك ما أفظّك وما أغلظك! قال: فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عروة: من هذا يا محمّد؟ قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال: أي غدر، وهل غسلت سوأتك إلّا بالأمس؟ قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا أنّ المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف، فتهايج الحيّان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين، والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح بذلك الأمر. قال ابن إسحاق: قال الزّهري: فكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ممّا كلّم به أصحابه، وأخبره أنّه لم يأت يريد حربا. عود عروة بن مسعود إلى قريش: فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضّأ إلّا ابتدروا وضوئه، ولا يبصق بصاقا إلّا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش؛ إنّي قد جئت كسرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 ولم تزل بينهم المراجعه ... حتّى أتى سهيلهم فاسترجعه في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشيّ في ملكه، وإنّي والله؛ ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا، فروا رأيكم) . بعث قريش سهيلا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للصلح: (ولم تزل بينهم) أي: كفار قريش (المراجعة) أي: مراجعة الرسل في شأن رد المسلمين عن البيت، وصدهم (حتى أتى) إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم (سهيلهم) أي: سهيل بن عمرو، أخو بني عامر بن لؤي رسولا من قبل قريش، وكان من ساداتهم، وأسلم يوم الفتح بعد، وحسن إسلامه رضي الله عنه، وتقدمت ترجمته في غزوة بدر (فاسترجعه) أي: فطلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن البيت هذا العام؛ لأنّ قريشا لمّا بعثت سهيلا قالت له: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله؛ لا تحدّث العرب عنا أنّه دخلها علينا عنوة أبدا. قال الشهاب في «المواهب» : (قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة بن عبد الله أنّه لمّا جاء سهيل.. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد سهل لكم من أمركم» وهذا من الفأل الحسن الذي كان عليه الصّلاة والسّلام يعجبه) . قال الناظم في منظومة الأنساب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وكان لا يعتاف إلّا أنّه ... يعجبه الفأل إذا عنّ له يعني: كان صلى الله عليه وسلم لا يتطيّر ولا يتشاءم، إلّا أنّه يعجبه الفأل الحسن إذا عرض له. وحاصل القول هنا: أنّه لمّا انتهى سهيل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. جرى بينهما القول، وأطال سهيل الكلام، حتى أسفر المقال عن الصلح، على أن يوضع الحرب بينهم عشر سنين، كما في رواية ابن إسحاق، وهو المعتمد، وأن يؤامر بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا، ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يكتب كتاب الصلح. كتاب الصلح: فأمر عليه الصّلاة والسّلام عليا أن يكتب: (بسم الله الرّحمن الرّحيم) فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: (باسمك اللهمّ) فقال صلى الله عليه وسلم: «اكتب: باسمك اللهمّ» فكتبها، ثمّ قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو» فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله.. لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 عمرو «1» ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنّه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردوه عليه، وأنّ بيننا عيبة مكفوفة «2» ، وأنّه لا إسلال «3» ولا إغلال، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم.. دخل فيه..» «4» وأنّك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنّه إذا كان عام قابل.. خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.   (1) في رواية البخاري ومسلم من حديث البراء: فقال صلى الله عليه وسلم لعلّي: «امحه» فقال: ما أنا بالذي أمحاه، وهي لغة في امحه- بضم الحاء- قلت: وهذا أصل لمن يرى أنّ سلوك الأدب مقدم على امتثال الأمر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أرني مكانها» فأراه مكانها، وكتب: محمّد بن عبد الله، وفي رواية البخاري في باب عمرة القضاء من حديث البراء: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب- وليس يحسن أن يكتب- فكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله. وإسناد الكتابة إليه صلى الله عليه وسلم على سبيل المجاز، أو هو السبب الآمر، وخالف الباجي في ذلك، وردّ عليه الأئمّة الأعلام. انظر «عيون الأثر» في هذا المقام. (2) قال السهيلي: (أي: صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة، وضرب العيبة مثلا، قال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كرشي وعيبتي» فضرب العيبة مثلا لموضع السر وما يعتد به من ودّهم) اهـ (3) الإسلال: السرقة والخسّة ونحوها، وهي السلة، قالوا في المثل: الخلة تدعو إلى السلة. والإغلال: الخيانة، يقال: فلان مغل الإصبع؛ أي: خائن اليد. اهـ «روض» . (4) عند ذلك بادرت خزاعة فقالت: نحن في عقد محمّد وعهده، وبادرت بنو بكر فقالت: نحن في عقد قريش وعهدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 لولا نبيّ الرّحمة الموفّق ... للرّشد في آرائه لمزّقوا حكمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في إمضاء هذه الشروط: هذه شروط الصلح الذي وقع الاتفاق عليه بين الفريقين ذكره ابن إسحاق في «سيرته» وفيه من الفوائد الظاهرة، والثمرات الباهرة، التي عادت على المسلمين، وظهرت للنبي، وخفيت على غيره.. ما سيتلى عليك قريبا إن شاء الله تعالى: منها: حفظ المستضعفين في مكة من المسلمين، وحقن دمائهم؛ لاختلاطهم بالكفار كما أشار إلى هذا الناظم بقوله: (لولا نبيّ الرحمة) صلى الله عليه وسلم (الموفّق) من ربه عزّ وجلّ (للرّشد) والإقامة على طريق الاستقامة والهدى (في آرائه) السديدة، التي لا يحوم الخطأ حولها؛ من قبوله عليه الصّلاة والسّلام الصلح من قريش (لمزقوا) أي: لمزقهم المسلمون، ومزقوا من كان بمكة من المؤمنين المستضعفين المحبوسين بها، قال الله تعالى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. يذكر الله تعالى: أنّه لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين الكافرين غير عالمين بهم، فيصيبكم بذلك معرّة ومكروه.. لما كفّ أيديكم عنهم، لكن كفّها ليدخل بذلك الكفّ المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة من يشاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 أسلم بعد عوده بالعظما ... أكثر ممّن كان قبل أسلما ومن فوائده أيضا: إسلام كثير من كفار قريش باختلاطهم بالمسلمين، ومجيئهم إلى المدينة معقل الإيمان والإسلام، وحسن سيرته، وأعلام نبوته الباهرة، إلى غير ذلك، ممّا جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا، فصلّى الله على هذا الرسول العظيم الذي منحه الربّ الكريم من الرحمة ما جعله ينظر إلى وجوه المصالح والحكم لأمته، وجزاه الله خير ما جازى نبيا عن أمّته. وعلم المؤمنون بعد ذلك أن صدّهم عن البيت ورجوعهم كان في الظاهر هضما، وفي الباطن عزّا لهم وقوة، فأذلّ الله المشركين من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وإلى هذه الفائدة أشار الناظم رحمه الله بقوله: (أسلم) وانقاد لأمره ودينه صلى الله عليه وسلم (بعد عوده) أي: بعد رجوعه «1» من الحديبية واجتماعه   (1) فالعود: الرجوع، ومنه: العود أحمد، ومنه: العود محمود؛ أي: الابتداء بالمعروف والإعادة إليه أكسب للحمد، قاله أعرابي اسمه خراش، خطب بنت عم له اسمها الرباب، فرده أبوها، فأضرب عنها زمانا، ثمّ أقبل حتى انتهى إلى حلتهم- أي: منزلهم- متغنيا بأبيات منها: ألا ليت شعري يا رباب متى أرى ... لنا منك نجحا أو شفاء فأشتفي فسمعت ما قال وحفظته، وبعثت إليه: أن قد عرفت حاجتك، فاغد خاطبا، ثم قالت لأمها: هل أنكح إلّا من أهوى، وألتحف إلّا من أرضى؟ قالت نعم. قالت: فأنكحيني خراشا، فقالت على قلة ماله؟! قالت: إذا جمع المال السيء الفعال.. فقبحا للمال، فأصبح فسلّم عليهم، وقال: العود أحمد، والمرأة ترشد، والورد يحمد. فأرسلها مثلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وفسّروا بذلك الفتح المبين ... وفيه إبقاء على المستضعفين (ب) أصحابه الأبطال (العظما) بالمدينة المنوّرة، وفاعل (أسلم) قوله: (أكثر ممّن كان قبل) أي: قبل الصلح (أسلما) بألف الإطلاق. وممّن أسلم في هذه الهدنة: عمرو بن العاصي، وخالد بن الوليد، وعبد الرّحمن بن أبي بكر، وطلحة بن عثمان، وغيرهم من قريش، وبه فسّر قوله تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ. (وفسّروا بذلك) أي: بإسلام الكثير في الهدنة (الفتح المبين) المشار إليه بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً في الصحيح عن البراء بن عازب: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرّضوان) . قال الشهاب القسطلّانيّ في «المواهب» : (روى سعيد بن منصور، بإسناد صحيح إلى الشعبي، في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: صلح الحديبية) . وممّن فسّر الفتح هنا بالحديبية: ابن عباس، وأنس، والبراء بن عازب، قال ابن عبّاس وأنس والبراء: (الفتح هنا: فتح الحديبية، ووقوع الصلح) . قال الحافظ: (فإنّ الفتح في اللغة: فتح المغلق، والصلح كان مغلقا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه: صدّ المسلمين عن البيت، فكانت الصورة الظاهرة ضيما للمسلمين، والباطنة عزّا لهم؛ فإنّ الناس للأمن الذي وقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وبعثوا جمل عمرو بن هشام ... هديا وإنكاء إلى البيت الحرام فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلّا خفية، فظهر من كان يخفي إسلامه، فذلّ المشركون من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة) . وقال ابن إسحاق: (وقال الزّهري: ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنّما كان القتال حيث التقى الناس، فلمّا كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة.. فلم يكلّم أحد يعقل في الإسلام شيئا إلّا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر) . والدليل على قول الزّهري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مئة في قول جابر بن عبد الله، ثمّ خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف. ومن فوائد هذا الصلح: ما أشار له بقوله: (وفيه) أي: العود من غير قتال (إبقاء) للحياة (على) المؤمنين (المستضعفين) بمكة، قال ابن عباس رضي الله عنه: (أنا وأمّي من المستضعفين) . (وبعثوا) أي: المسلمون (جمل) أبي جهل (عمرو بن هشام) واسمه: العصيفير، برته من فضة، وهي بضم الباء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 ونحروا وحلقوا وحملت ... شعورهم للبيت ريح قد غلت وفتح الراء المخففة: حلقة تجعل في أنف البعير، وهذا الجمل سلب من أبي جهل يوم قتل ببدر، ولم يزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو عليه، ويضرب في لقاحه، إلى أن أهداه في هذا اليوم إلى البيت الحرام؛ إغاظة لكفار قريش، كما قال الناظم (هديا وإنكاء) من أنكى بمعنى: أغاظ، ويتعلق ببعثوا قوله: (إلى البيت الحرام) وذلك أنّهم إذا رأوه.. تذكروا سيدهم أبا جهل وقتله يوم بدر، ورأوا جمل سيدهم يتصرف فيه قاتله كيف شاء. قال ابن إسحاق: (قال عبد الله بن أبي نجيح: حدّثني مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل، في رأسه برة من فضة، يغيظ بذلك المشركين) . التحلل من إحرام العمرة: (ونحروا وحلقوا) أي: بعد فراغهم من الصلح وكتابة الكتاب.. أمرهم عليه الصّلاة والسّلام أن ينحروا ويحلقوا. قال في «شرح المواهب» : (ففي «البخاريّ» في الشروط: فلمّا فرغ من الكتاب.. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا، ثمّ احلقوا رؤوسكم» فو الله؛ ما قام رجل منهم حتى قال ذلك مرات، فلمّا لم يقم أحد.. دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، وفي رواية ابن إسحاق: فقال لها: «ألا ترين إلى الناس؟! إنّي أمرتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 بالأمر فلا يفعلونه» فقالت: يا رسول الله؛ لا تلمهم؛ فإنّهم قد دخلهم أمر عظيم، ممّا أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح) . وفي رواية أبي المليح: (فاشتدّ ذلك عليه، فدخل على أمّ سلمة، فقال: «هلك المسلمون؛ أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا» قال: فجلا الله عنهم يومئذ بأم سلمة رضي الله عنها، فقالت: يا نبيّ الله؛ أتحب ذلك؟ اخرج، ثمّ لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج، فلم يكلم منهم أحدا حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلمّا رأوا ذلك.. قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا. قال ابن إسحاق: (بلغني أنّ الذي حلقه يومئذ خراش بن أميّة بن الفضل الخزاعي) وكانت البدن سبعين، وحلق رجال يومئذ، وقصّر آخرون، فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلّقين» قالوا: والمقصّرين، قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصّرين، قال: «والمقصّرين» قالوا: لم ظاهرت الترحّم للمحلّقين دون المقصّرين؟ قال: «لم يشكّوا» رواه ابن إسحاق أيضا عن ابن عباس. قيل: كان توقف الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأمر؛ لاحتمال أنّه للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح، أو تخصيصه بالإذن لهم في دخول مكة العام لإتمام نسكهم، وساغ ذلك لهم؛ لأنّه زمان وقوع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 ويحتمل أنّ صورة الحال أبهتتهم، فاستغرقوا في الفكر؛ لما لحقهم من الذل عند نفوسهم مع ظهور قوتهم، واعتقادهم القدرة على قضاء نسكهم بالغلبة، أو لأنّ الأمر المطلق لا يقتضي الفور. ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم، أو فهموا أنّه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل؛ أخذا بالرخصة في حقهم، وأنّه هو يستمر على الإحرام؛ أخذا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أم سلمة بالتحلل؛ لينفي هذا الاحتمال، وعرف صوابه ففعله، فلمّا رأوه.. بادروا إلى فعل ما أمرهم به؛ إذ لم يبق غاية ينتظرونها، ونظيره ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمره لهم بالفطر في رمضان فأبوا، حتى شرب فشربوا. اهـ قال السهيلي: (ولم يكن المقصّر يومئذ من أصحابه إلّا رجلين: عثمان بن عفّان، وأبا قتادة الأنصاريّ، كذلك جاء في مسند حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه) . فوائد قصة التحلل من إحرام الحديبية: قلت: وفي هذه القصة فوائد: منها: جواز تحليل المحرم الذي هو متلبّس بحرمات الإحرام غيره بالحلق أو التقصير؛ فإنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا محرمين بالعمرة، وحلّل بعضهم لبعض بذلك. ومنها: فضل الحلق على التقصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ومنها: فضل المشاورة؛ لمشاورته عليه الصّلاة والسّلام لأم سلمة، وكان عليه الصّلاة والسّلام كثير المشاورة، لقوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ومعلوم: أنّ ذلك فيما لم ينزل فيه وحي، وأنّ المشاورة تطييب لقلوبهم. ومنها: مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة، ووفور عقلها، وأنّها كانت رضي الله عنها سببا في زوال غضبه عليه الصّلاة والسّلام- من أصحابه الذين لم يبادروا امتثال أمره لما ذكر، حتى قال إمام الحرمين: (لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلّا أم سلمة) واستدرك عليه بعضهم ببنت سيدنا شعيب عليه الصّلاة والسّلام في أمر موسى؛ أي: حيث قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ إلّا أن يحمل قول إمام الحرمين على هذه الأمّة المحمّدية، والعلم عند الله تعالى. تنبيه: النهي عن مشاورة النساء، إنّما هو في أمر الولاية خاصة، قاله السهيلي عن أبي جعفر النحاس. البشارة بقبول عمرة الصحابة: ثمّ أراد الناظم أن يذكر كرامة وقعت للصحابة تدل على قبول الله عمرتهم فقال: (وحملت شعورهم للبيت) الحرام (ريح) عاصف؛ إشعارا بتمام عمرتهم وبقبولها، وجبرا لخواطرهم (قد غلت) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 أي: جاوزت الحدّ، والمراد: شدة هبوبها «1» . عُمَره صلى الله عليه وسلم: ومن أجل هذا عدت هذه العمرة من عمره عليه الصّلاة والسّلام البالغة أربعا. أوّلها: هذه. والثّانية: عمرة القضية في السنة التي بعدها، وهي السنة السّابعة، ويقال لها أيضا: عمرة القصاص؛ لأنّ فيها نزلت آية الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. والثّالثة: عمرة الجعرّانة عام حنين، منصرفه منها سنة ثمان. والرّابعة: عمرته عليه الصّلاة والسّلام التي قرنها بحجّة عام الوداع، وفي الصحيح: كان صلى الله عليه وسلم يقول في إحرامه حينئذ: «لبّيك اللهمّ حجّا وعمرة» وإلى ذلك أشار سيدي عبد العزيز الفاسيّ في نظمه «قرّة الأبصار» بقوله: وحجّ حجّتين ثم الفرضا ... واعتمر الأربع قالوا أيضا   (1) روى ابن سعد من مرسل يعقوب الأنصاري قال: (لمّا صدّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحلقوا بالحديبية، ونحروا.. بعث الله ريحا عاصفا احتملت شعورهم، فألقتها في الحرم؛ أي: جبرا لهم في صدهم عن البيت) زاد أبو عمر: (فاستبشروا بقبول عمرتهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وأغلظوا في الصّلح حتّى أبرما ... ومنه ردّ من أتاه مسلما وقال مالك: ثلاثا اعتمر ... وحجّ مفردا فحقّق الخبر وكلّهنّ كنّ في ذي القعدة ... على الّذي صحّحه من عدّه شروط الصلح ظاهرها ضيم وباطنها عزّ للمسلمين: ثمّ أراد الناظم أن يذكر بعض ما تضمّنه كتاب الصّلح من الشروط القاسية، التي ظاهرها ضيم على الإسلام والمسلمين، وباطنها العزّ والحكمة البالغة والسّداد، علم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمضاه، فقال: (وأغلظوا) أي: شدّد كفّار قريش (في) شأن (الصّلح) بينهم وبين المسلمين (حين أبرما) أي: أحكم الصلح، والألف لإطلاق القافية. (ومنه) أي: الإغلاظ (ردّ من أتاه) أي: رد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي يأتي من ناحية قريش (مسلما) إلى قريش، ومن جاء قريشا ممّن تبعه عليه الصّلاة والسّلام لم يردّوه إليه، ولم يذكر الناظم هذه الجملة الثانية؛ لأنّه لا إغلاظ فيها؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصنع شيئا إذ ذاك بمن ارتدّ عن دينه، ورغب عنه إلى غيره. فمن جاءنا يا مرحبا بمجيئه ... ومن فاتنا يكفيه أنّا نفوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 على أنّه لم يثبت فيما أعلم أنّ أحدا من المسلمين خرج إلى قريش مرتدّا بعد أن خالطت بشاشة إيمانه قلبه، وأمّا من جاء مسلما.. فهو في رحب وسعة، وسيجعل الله له فرجا ومخرجا، كما يأتي قريبا. أمر أبي جندل بن سهيل «1» : ففي «صحيح الإمام البخاري» : (فبينما هم كذلك وفي رواية ابن إسحاق: فإنّ الصحيفة لتكتب- إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف- يمشي مشيا بطيئا- في قيوده وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال أبوه سهيل: هذا يا محمّد أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لم نقض الكتاب بعد» قال: فو الله؛ إذن لا أصالحك على شيء أبدا، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» قال: ما أنا بمجيز ذلك، قال: «بلى، فافعل» قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين؛ أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟! ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذّب في الله عذابا شديدا) . زاد ابن إسحاق: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل؛ اصبر واحتسب؛ فإنّا لا نغدر، وإنّ الله جاعل   (1) اسم أبي جندل: العاصي بن سهيل بن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 لك فرجا ومخرجا» فوثب عمر يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر؛ فإنّما هم المشركون، وإنّما دم أحدهم كدم الكلب ويدني منه قائم السيف- يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف، فيضرب به أباه، قال: فضنّ الرجل بأبيه، ونفذت القضية) اهـ قلت: وذلك لما في علم الله تعالى أنّه يسلم بعد ذلك أبوه سهيل، ويحسن إسلامه؛ حتى يتبوّأ المقام المحمود يوم وفاته عليه الصّلاة والسّلام، ويخطب فيهم بمكة خطبة كخطبة أبي بكر بالمدينة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. قال في «الإمتاع» : (عن أبي بكر رضي الله عنه: لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند النحر يقرب إلى رسول الله بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب «بسم الله الرّحمن الرّحيم» وإباءه أن يكتب أنّ «محمّدا رسول الله» فحمدت الله الذي هداه للإسلام) فصلوات الله وبركاته على نبيّ الرّحمة الذي هدانا الله به، وأنقذنا به من الهلكة. موقف عمر وأبي بكر من شروط الصلح: ولغلظ ذلك الشرط قام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: قلت: ألست نبيّ الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 حقّا؟ قال: «بلى» قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى» زاد البخاري في (الجزية) و (التفسير) : (أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى» قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ قال: «إنّي رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» قلت: أو ليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام» قلت: لا، قال: «فإنّك آتيه، ومطوّف به» قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر؛ أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ قال أبو بكر: أيّها الرجل؛ إنّه رسول الله، ليس يعصي ربّه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنّه على الحق، قلت: أو ليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنّا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه، ومطوّف به. قلت: وفي هذه القصة ما يدل على فضل أبي بكر ومزيد علمه ومعرفته بأحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وموافقته له في جواب عمر حرفا بحرف، مع أنّه لم يسمع مقالته عليه الصّلاة والسّلام لعمر. ولعلم عمر بمكانة أبي بكر، وفضله العلميّ، وأنّه أكمل الصحب.. لم يسأل أحدا غيره بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 قال الشهاب في «المواهب» : (قال العلماء: لم يكن سؤال عمر- رضي الله عنه- وكلامه شكّا في الدين، حاشاه! بل طلبا لكشف ما خفي عليه من المصلحة، وحرصا على إذلال الكفار وظهور الإسلام، كما عرف من خلقه وقوته في نصر الدين وإذلال المبطلين، وأمّا جواب أبي بكر بمثل جواب النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته في كل ذلك على غيره) . وقال الزرقاني: (ألا ترى أنّه صرّح في الحديث: أنّ المسلمين استنكروا الصلح المذكور، وكانوا على رأي عمر، فلم يوافقهم أبو بكر، بل كان قلبه على قلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم سواء؟) اهـ أمر أبي بصير الثقفي: وممّن خرج مسلما من قريش في هذا العهد إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة: أبو بصير- بالتكبير- واسمه: عتبة بن أسيد الثقفي، فأرسلوا في طلبه رجلين: خنيس بن جابر من بني عامر، ومولى يقال له: كوثر، فقالوا: العهد الذي جعلته لنا، فدفعه إلى الرجلين. زاد ابن إسحاق: (فقال: أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟! قال: «اصبر واحتسب؛ فإنّ الله جاعل لك فرجا ومخرجا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 زاد أبو المليح- كما في «شرح المواهب» -: (فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل، ومعك السيف) اهـ فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله؛ إنّي لأرى سيفك هذا جيدا، فاستلّه الآخر، فقال: أجل والله؛ إنّه لجيد، لقد جربت، ثمّ جربت، وفي رواية: لأضربنّ به في الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه أبو بصير حتى برد، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد رأى هذا ذعرا» فلمّا انتهى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. قال: قتل والله صاحبكم صاحبي، وإنّي لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله؛ قد أوفى الله ذمّتك، قد رددتني إليهم، ثمّ أنجاني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب» وهي رواية الصحيح، وفي رواية ابن إسحاق: «محشّ حرب «1» لو كان معه رجال» . ثمّ خرج أبو بصير حتى نزل العيص، من ناحية ذي المروة على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: «ويل أمّه مسعر حرب، لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبي بصير، فاجتمع   (1) موقد حرب ومسعرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 وهم عليهم بعد ردّهم وبال ... إذ أخذوا الطّرق على صهب السّبال إليه منهم قريب من سبعين رجلا، وكانوا قد ضيّقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بأرحامها إلّا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة. وإلى ما جرى في هذه القصة أشار الناظم بقوله: (وهم) أي: المستضعفون من المسلمين، وضمير الجمع يعود على (من) في قوله: «ومنه ردّ من أتاه مسلما» ؛ نظرا للمعنى. (عليهم) أي: على كفار قريش، الذين أغلظوا في الصلح بذلك الشرط القاسي. وقوله: (بعد ردّهم) أي: رد المستضعفين من المدينة، حال؛ لأنّه نعت لنكرة تقدم عليها وهي قوله: (وبال) الواقع خبرا للمبتدأ؛ أي: هم وبال، أي: سبب للوبال والشدة، والفشل بعد ردهم؛ لأنّهم قطعوا مادّتهم وميرتهم من طريق الشام كما قال الناظم: (إذ أخذوا الطرق على صهب السّبال) هو شعر يخالط بياضه حمرة، والسبال: طرف ما على الشارب من الشعر، والمراد هنا الأعداء؛ أي: أخذ المستضعفون الطريق على أعدائهم كفار مكة. قال في «تاج العروس» للسيد مرتضى: (ومن المجاز: الأعداء صهب السبال، وسود الأكباد وإن لم يكونوا كذلك، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وانتدبوا لقوله في النّدب ... سيّدهم هذا محشّ حرب جاؤوا يجرّون الحديد جرّا ... صهب السبال يبتغون شرّا وإنّما يريدون: أنّ عداوتهم لنا كعداوة الروم، والروم صهب السبال والشعر، وإلّا.. فهم عرب، وألوانهم: الأدمة، والسمرة، والسواد، وقال ابن قيس الرّقيات: فظلال السّيوف شيّبن رأسي ... واعتناقي في القوم صهب السّبال ويقال: أصله للروم؛ لأنّ الصهوبة فيهم، وهم أعداء لنا، كذا في «لسان العرب» ونقله الجوهريّ عن عبد الملك بن قريب الأصمعيّ) . (وانتدبوا) أي: انتدب المستضعفون من المسلمين؛ أي: أجابوا وسارعوا (لقوله) عليه الصّلاة والسّلام (في النّدب) الظريف النجيب «1» (سيّدهم) بالجر: بدل من الندب، والمراد به أبو بصير، كما تقدم (هذا محشّ) بكسر الميم (حرب) أي: موقدها، لو كان معه رجال، فهذا القول منه عليه الصّلاة والسّلام في أبي بصير، هو الذي حملهم على انضمامهم إليه بذلك الموضع، على طريق تجارتهم بالشام،   (1) قال في «القاموس وشرحه» : (ندبه إلى الأمر كنصر: دعاه وحثّه، والندب: أن يندب قوما إلى حرب أو أمر أو معونة؛ أي: يدعوهم إليه، فينتدبون له؛ أي: يجيبون ويسارعون، وقال أيضا: الندب: الرجل الخفيف في الحاجة، والسريع الظريف العجيب» ) مادة (ندب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 واستعطفوا خير الورى بالرّحم ... في صرفهم إليه عن أرضهم لا يظفرون بأحد من كفار قريش إلّا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلّا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بالرّحم أن يؤويهم إليه بالمدينة، ففعل صلى الله عليه وسلم، وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله: (واستعطفوا خير الورى) صلى الله عليه وسلم؛ أي: طلب كفار قريش منه العطف (بالرّحم في صرفهم إليه) بالمدينة المنوّرة (عن أرضهم) أي: أرض قريش التي يمرون عليها في تجارتهم إلى الشام. قال السّهيليّ: (أمّا لحوق أبي بصير بسيف البحر- بكسر السين؛ أي: ساحله، وتقدم تعيين المكان، وهو العيص- ففي رواية معمر عن الزّهري: أنّه كان يصلّي بأصحابه هنالك، حتى لحق بهم أبو جندل بن سهيل، فقدموه؛ لأنّه قرشيّ، فلم يزل أصحابه يكثرون حتى بلغوا ثلاث مئة، وكان أبو بصير كثيرا ما يقول هناك: الحمد لله العليّ الأكبر ... من ينصر الله فسوف ينصر فلمّا جاءهم الفرج من الله تعالى، وكلمت قريش النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤويهم إليه لما ضيقوا عليهم.. ورد كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بصير في الموت يجود بنفسه، فأعطي الكتاب، فجعل يقرؤه ويسرّ به، حتى قبض والكتاب على صدره، فبني عليه هناك مسجد، يرحمه الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وممّا قاله أبو جندل أيام وجوده مع أبي بصير بسيف البحر: أبلغ قريشا عن أبي جندل ... أنّا بذي المروة فالسّاحل في معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذّابل يأبون أن تبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحقّ لا يغلب بالباطل فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل وبعد موت أبي بصير قدم أبو جندل مع ناس من أصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع باقيهم إلى أهليهم. ما نزل في النساء المهاجرات: بقي الكلام على النساء المسلمات المهاجرات، فإن قلنا: إنّهنّ يدخلن في هذا الصلح؛ لقوله كما في رواية البخاريّ: (ولا يأتيك منّا أحد) - والصيغة تعمّ الرجال والنساء- فتقول: نسخ ذلك فيهنّ، أو خصّص ذلك العموم بهنّ؛ فقد صح: أنّه جاءت نسوة منهنّ: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 فدخلت على أم سلمة بالمدينة، فأعلمتها أنّها جاءت مهاجرة، وتخوّفت أن يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا دخل رسول الله على أم سلمة.. أعلمته، فرحب بأم كلثوم وسهّل، فجاء في طلبها أخواها: الوليد وعمارة ابنا عقبة، فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يردها للعهد، فقالت: يا رسول الله؛ أتردني على المشركين؟ ويحلّون مني ما حرّم الله، ويفتنوني عن ديني؟ فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فلم يردّها، وتزوجها زيد بن حارثة، فقتل عنها، ثم خلف عليها الزّبير، فولدت له زينب، ثمّ خلف عليها عبد الرّحمن بن عوف، فولدت له: محمّدا، وإبراهيم، وإسماعيل، وحميدا، وكلهم روى الحديث. وفي «البخاري» : (ولا نعلم امرأة من المسلمين ارتدّت إلى الكفار) . نزول سورة الفتح: واعلم: أنّ مدة إقامتهم بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل أكثر من ذلك، ثمّ قفل بهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 و (سورة الفتح) لدى القفول ... أنزلها الله على الرّسول المدينة، وفي نفوس أصحابه بعض شيء من عدم الفتح الذي كانوا لا يشكّون فيه، ولولا إيمانهم» الصحيح، وثقتهم بهذا النبيّ الأمين.. لما رجعوا، فأنزل الله تعالى (سورة الفتح) كما قال الناظم: (وسورة الفتح) وهي: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ إلى آخرها (لدى القفول) أي: عند الرجوع إلى المدينة، بجبل على بريد من مكة، يقال له: ضجنان «2» ، بوزن سكران (أنزلها الله) بتمامها (على   (1) حتى قال عمر رضي الله عنه- كما في «طبقات ابن سعد» -: (لقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على صلح، وأعطاهم شيئا، لو أنّ نبي الله أمّر عليّ أميرا فصنع الذي صنع نبي الله.. والله؛ ما سمعت له ولا أطعت، وكان الذي جعل لهم: أنّ من لحق من الكفار بالمسلمين.. يردونه، ومن لحق بالكفار.. لم يردوه) اهـ (2) عند هذا الجبل واد كان عمر بن الخطاب يرعى فيه إبلا لوالده، روي عنه أنّه قال في انصرافه من حجته التي لم يحج بعدها: (الحمد لله، ولا إله إلّا الله، يعطي من يشاء ما يشاء، لقد كنت بهذا الوادي- يعني ضجنان- أرعى إبلا للخطاب، وكان فظّا غليظا يتعبني إذا قصرت، وقد أصبحت وأمسيت، وليس بيني وبين الله أحد أخشاه) ثمّ تمثل فقال: لا شيء ممّا نرى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والجن والإنس فيما بينها ترد أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنا لك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا وكان عمر رضي الله عنه يستعذب الشعر الفحل، ويستشهد به، وقد أوصى بالاعتداد به، فقال: (رووا أولادكم الشعر.. تتهذب طباعهم، وترق ألسنتهم) وفيه تشجيع للأدب البريء، وكان له نظر في الشعراء، قال يوما لبعض جلسائه: (من أشعر الناس؟) فأجاب- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الرسول) صلى الله عليه وسلم؛ إعلاما بأنّ عهد الحديبية هو الفتح المبين، وتسلية لهم، وتذكيرا لهم بنعمه عزّ وجلّ. ولمّا نزلت جمع عليه الصّلاة والسّلام الناس، وقرأ عليهم: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآية.. فقال رجل: يا رسول الله؛ أو فتح هو؟ قال: «إي والذي نفسي بيده؛ إنّه لفتح» . قال في «شرح المواهب» : (روى موسى بن عقبة في حديثه عن الزّهري، وأخرجه البيهقيّ عن عروة قال: أقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم راجعا، فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح؛ لقد صددنا عن البيت، وصدّ هدينا، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه، فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال: «بئس الكلام! بل هو أعظم الفتح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ولقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظهركم الله عليهم، وردّكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا؟» فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو أعظم   - كل بما عنده، فقال: (أشعرهم من يقول: من ومن) يعني زهير بن أبي سلمى. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 الفتوح، والله يا نبيّ الله؛ ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا. قال في «الإمتاع» : (فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم عام القضية، وحلق رأسه.. قال: «هذا الذي وعدتكم» فلمّا كان يوم الفتح.. أخذ المفتاح، وقال «ادعوا إليّ عمر بن الخطاب» فقال: «هذا الذي قلت لكم» فلمّا كان في حجة الوداع.. وقف بعرفة فقال: «أي عمر؛ هذا الذي قلت لكم» قال: أي رسول الله: ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية» . وهنا انتهى كلام الناظم على الحديبية وعقد الصلح. عمرة القضاء: ولنذيّل كلامه بالكلام على عمرة القضاء؛ توفية للمقام، ولأنّ من جملة ما اشتمل عليه عقد الصلح أن يرجعوا هذا العام، ويأتوا العام القابل، فكان للنفس تشوّف إلى خبر العام القابل: هل أتوا مكة؟ وكم كانت إقامتهم بها؟ إلى غير ذلك ممّا سيتلى عليك، فأقول: في السنة السّابعة على الصحيح، في شهر ذي القعدة، خرج عليه الصّلاة والسّلام من المدينة محرما بالعمرة، حسبما وقع عليه الاتفاق بينه وبين كفار قريش، وتسمّى هذه العمرة بعمرة القصاص؛ لنزول قوله تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 فيها، بل هي أولى بذلك، كما قال السهيليّ، وبعمرة القضية، من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها، على أن يرجع عنهم عامهم هذا، ثمّ يأتي في العام القابل، ولا يدخل مكة إلّا في جلبان السلاح، وألّا يقيم أكثر من ثلاثة أيام، لا من القضاء مقابل الأداء؛ لأنّها كانت عمرة صحيحة، وعدّت من جملة عمره صلى الله عليه وسلم. وهذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ الآية. وخلاصة الكلام عليها أخذا من كلام ابن إسحاق وغيره: أنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا رجع من خيبر إلى المدينة.. أقام بها فيما بين الربيعين وشوال يبعث سراياه، حتى إذا كان في ذي القعدة.. خرج وخرج معه المسلمون، ممّن كان صدّ معه في عمرته تلك، واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الدّؤليّ، وساق ستين بدنة وقلّدها، وجعل عليها ناجية بن جندب، وحمل عليه الصّلاة والسّلام السلاح والدروع والرماح، وقاد مئة فرس، وجعل عليها محمّد بن مسلمة رضي الله عنه، وعلى السلاح بشير بن سعد، ولم يكن قصده عليه الصّلاة والسّلام أن يدخلها بالسلاح، ولكن يكون بالقرب إن هاجهم هيج من القوم، وجعل السلاح في بطن يأجج بالقرب من الحرم، وجعل عليه نحو المئتين من أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 ولمّا سمع به أهل مكة.. خرج أكابرهم عنها، وتحدثت قريش بينها أنّ محمّدا في عسرة وجهد وشدة، فلمّا دخل صلى الله عليه وسلم المسجد.. رمل واضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى، وهذا أول رمل واضطباع في الإسلام، ثمّ قال: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة» ثمّ استلم الركن، ثمّ أخذ يهرول، ويهرول أصحابه معه ثلاثة أطواف، ومشى سائرها. قال ابن عباس: كان الناس يظنون أنّها ليست عليهم، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما صنعها لهذا الحيّ من قريش؛ للّذي بلغه عنهم، حتى حجّ حجّة الوداع فلزمها، فمضت السّنّة بها، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلّا الإبقاء عليهم، وحين رأت قريش هذا الموقف الرائع الرهيب من الرسول الأعظم وأصحابه.. قالت قريش: هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمّى قد وهنتهم! لهؤلاء أجلد من كذا، وكذا، إنّهم لينفرون نفر الظبي؛ أي: الغزال. قال ابن كثير: (روى البيهقي من غير وجه عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزّهري عن أنس قال: لمّا دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة في عمرة القضاء.. مشى عبد الله بن رواحة بين يديه وهو آخذ بغرزه، وهو يقول: خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... قد نزّل الرّحمن في تنزيله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 بأنّ خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله وفي رواية بهذا الإسناد بعينه: خلّوا بني الكفّار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله يا ربّ إنّي مؤمن بقيله هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت مثل فلق الصّبح، وذكر أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مه يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلّ عنه يا عمر؛ فلهو أسرع فيهم من نضح النّبل» . ولمّا تمّت الثلاثة الأيام التي هي غاية الصلح.. جاء حويطب بن عبد العزّى ومعه سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلبان منه الخروج هو وأصحابه، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلّا ما خرجت من أرضنا؛ فقد مضت الثلاث، فخرج عليه الصّلاة والسّلام وفاء بالعقد والعهد. قال في «الإمتاع» : (وأمر عليه الصّلاة والسّلام أبا رافع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ثمّ لخيبر ورشّح النّبي ... حيدرة وبالعقاب قد حبي بالرحيل، وقال: «لا يمسين بها أحد من المسلمين» وركب حتى نزل بسرف، وخلف أبا رافع؛ ليحمل إليه ميمونة حين يمسي، فخرج بها مساء فبنى عليه الصّلاة والسّلام على ميمونة بسرف، ولم ينزل بمكة، وإنّما ضربت له قبة من أدم بالأبطح، وكان هناك حتى سار منها، وبعث بمئتي رجل ممّن طافوا بالبيت إلى بطن يأجج، فأقاموا عند السلاح حتى أتى الآخرون، فقضوا نسكهم، وقدم المدينة عليه الصّلاة والسّلام في ذي الحجة من السنة السابعة) . (24) غزوة خيبر (ثمّ) بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية.. أقام بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم، كما قاله ابن إسحاق، وخرج في بقية منه متوجها (لخيبر) ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة إلّا شهر وأيام. وخيبر بوزن جعفر ذكر أبو عبيد البكري في «معجمه» : (أنّها سميت باسم رجل من العماليق، وهو خيبر بن قانية بن مهلائيل، وهو أول من نزلها) اهـ واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي فيما قال ابن هشام؛ وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، إلى ناحية الشام، على نحو أربعة أيام بالسّير المعتدل من المدينة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 الإبل، وبالسيارة أربع ساعات؛ لعدم تعبيد الطريق، أمّا اليوم فقد عبّد، فكان المسير فيه نحو ساعة بالسيارة. وكان الله تعالى وعده خيبر وهو بالحديبية، قال ابن كثير: (قال شعبة عن الحكم، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، في قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال: خيبر) . قال ابن برهان الحلبي في «سيرته» : (واستنفر صلى الله عليه وسلم من حوله ممّن شهد الحديبية يغزون معه، وجاء المخلفون عنه في الحديبية؛ ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: «لا تخرجوا معي إلّا راغبين في الجهاد، فأمّا الغنيمة.. فلا» ثمّ أمر مناديا ينادي بذلك، فنادى به) اهـ وخرجت معه أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكانت معه في الحديبية كما تقدم. منازل الرسول صلّى الله عليه وسلّم في طريقه إلى خيبر: قال ابن إسحاق: (وحين خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر.. سلك على عصر «1» ، وبنى له فيها مسجدا، ثمّ على الصّهباء، ثمّ أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له: الرجيع «2» ، فنزل بين أهل خيبر وبين غطفان؛   (1) بكسر الصاد: جبل بين المدينة ووادي الفرع، وعنده مسجد صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ «قاموس» وشرحه «التاج» مادة (عصر) . (2) هو بقرب خيبر، غير الرجيع الذي لهذيل بناحية مكة، حيث غدرت فيه عضل والقارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ليحول بينهم وبين أن يمدّوا أهل خيبر، وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. انخذال غطفان عن اليهود: فبلغني: أنّ غطفان لما سمعوا بذلك.. جمعوا له، ثمّ خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة.. سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسّا ظنوا أنّ القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا في أموالهم، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر) . قال الإمام البخاريّ: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: أنّ سويد بن النعمان أخبره أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء- وهي أدنى من خيبر- صلى العصر، ثمّ دعا بالأزواد، فلم يؤت إلّا بالسّويق، فأمر به فثرّي، وأكل فأكلنا، ثمّ قام إلى المغرب، فمضمض، ثمّ صلّى ولم يتوضّأ) . دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على خيبر: قال ابن إسحاق: (وحدّثني من لا أتهمه، عن عطاء بن أبي مروان الأسلميّ، عن أبيه معتّب بن عمرو: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أشرف على خيبر.. قال لأصحابه وأنا فيهم: «قفوا» ثمّ قال: «اللهمّ ربّ السماوات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أضللن، وربّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الرياح وما أذرين؛ فإنّا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا باسم الله» قال: وكان يقولها عليه الصّلاة والسّلام لكل قرية دخلها) . وقال الإمام البخاري: (حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا مالك عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا، وكان إذا أتى قوما بليل.. لم يغربهم حتى يصبح، فلمّا أصبح.. خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلمّا رأوه.. قالوا: محمّد والله، محمّد والخميس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم.. فساء صباح المنذرين» ) . إعطاء الراية لعلي بن أبي طالب: (ورشّح) أي: قدّم (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم لأخذ الراية لفتح خيبر (حيدرة) يعني: عليّا حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لأعطينّ الراية رجلا يحبّه الله ورسوله» (وبالعقاب) بضم العين؛ أي: بالراية المسمّاة بالعقاب، قال الشهاب في «المواهب» : (وهي راية النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي سوداء من برد لعائشة رضي الله عنها) (قد حبي) قد خصّ ومنح. وأشار الناظم إلى ما رواه البخاري عن سلمة قال: (كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد تخلّف عن النّبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟! فلحق به، فلمّا بتنا الليلة التي فتحت خيبر في صبيحتها.. قال: «لأعطينّ الراية غدا- أو ليأخذنّ الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله يفتح له» وفي رواية ابن إسحاق: «ليس بفرار» وفي حديث بريدة: «لا يرجع حتى يفتح الله له» فلمّا أصبح الناس.. غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقالوا: يا رسول الله؛ هو يشتكي عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتي به، فبصق صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع) . وروى البخاري أيضا عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطينّ هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله» قال سهل: فبات الناس يدوكون- أي: يخوضون- ليلتهم أيّهم يعطاها. فلمّا أصبح الناس.. غدوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كلّهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال عليّ: يا رسول الله؛ أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 فقال صلى الله عليه وسلم: «انفذ على رسلك- بكسر الراء؛ أي: على هينتك- حتى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه، فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلا واحدا.. خير من أن يكون لك حمر النّعم» ) «1» . وزاد مسلم في «صحيحه» من حديث إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الأكوع: (وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرّب إذا الحروب أقبلت تلهّب فقال عليّ: أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أو فيهم بالصّاع كيل السّندره قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثمّ كان الفتح على   (1) فيه: أنّ تأليف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله، فينبغي سلوك الطرق الحكيمة إلى الهداية المنشودة، وهذه الخلة من محاسن الدين الحنيف، رزقنا الله التمسك بأهدابه وآدابه، آمين. كما أنّ الوصية الحقة لجديرة أن تقطع ألسنة الأفّاكين الزاعمين أنّ الإسلام إنّما قام على السيف والقوة، ولم ينتشر بالسلام والرحمة، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وفاز بالفتح وكان ترّسا ... بباب حصن لا يزاح إذ رسا يديه) كما قال الناظم: (وفاز بالفتح) وظفر بالنصر. تترّس عليّ بباب الحصن: (وكان) عليّ رضي الله عنه (ترّسا بباب حصن) هو القموص- بفتح القاف، وضم الميم- أي: اتخذ باب الحصن ترسا ووقاية من العدو، وعند القتال (لا يزاح) أي: لا ينحّى، ولا يذهب به (إذ رسا) وثبت في الأرض؛ لعظم الباب. ويشير الناظم بهذا إلى ما رواه ابن إسحاق: (حدّثني عبد الله بن حسن، عن بعض أهله، عن أبي رافع قال: خرجنا مع عليّ حين بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم برايته، فلمّا دنا من الحصن.. خرج إليه أهله، فقاتلهم، فضربه رجل من يهود، فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ بابا كان عند الحصن، فترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنا في نفر سبعة معي، أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فلم نقلبه) اهـ قال الشهاب في «المواهب» : (وفي رواية البيهقي: أنّ عليّا لمّا انتهى إلى الحصن.. اجتذب أحد أبوابه، فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا، فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه) اهـ قلت: والأحاديث في هذا الباب وإن كانت ضعيفة- كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 نقله الشهاب عن شيخه السخاويّ- إلّا أنّها تقبل في باب المناقب والفضائل، كما هو معلوم ومقرر في محله. وفي هذه القصة لطيفة، وهي: أنّ من طلب شيئا أو تعرض لطلبه.. يحرمه غالبا، وأنّ من لم يطلب شيئا ولم يتعرض لطلبه.. ربما وصل إليه. والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه ... يوما ويمنعه من حيث يطعمه فائدتان الراية واللواء الأولى: قال الحافظ في «الفتح» : (صرح جماعة من اللغويين بترادف الراية واللواء، وهو العلم الذي يحمل في الحرب) لكن روى أحمد والتّرمذيّ عن ابن عباس، والطّبراني عن بريدة، وابن عديّ عن أبي هريرة، قالوا: (كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض. زاد أبو هريرة: مكتوب فيها لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله) وهو ظاهر في التغاير، وبه جزم ابن العربيّ فقال: (اللواء خلاف الراية، فاللواء: ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية: ما يعقد فيه ويترك حتى تصفعه الرياح، فلعلّ التفرقة بينهما عرفية، وقد ذكره ابن إسحاق- وكذا أبو الأسود- عن عروة: أنّ أوّل ما وجدت الرايات يوم خيبر، وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلّا الألوية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وفي المصباح: (لواء الجيش: علمه، وهو دون الراية) . حصون خيبر: الثانية: الحصون التي فتحها الله لرسوله بخيبر هي: حصن ناعم: وهو أول حصونهم فتحا، كما قاله ابن إسحاق. والقموص: بفتح القاف وضم الميم، هو الذي فتحه عليّ. قال في شرح المواهب: (وهو أعظم حصون الكتيبة) وفيه سبيت صفية رضي الله عنها، وكانت تحت كنانة بن الرّبيع بن أبي الحقيق. وحصن الصعب بن معاذ: قال ابن إسحاق: (حدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّه حدّثه بعض أسلم: أنّ بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله يا رسول الله؛ لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال: «اللهمّ؛ إنّك قد عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء، وأكثرها طعاما وودكا» فغدا الناس، ففتح الله عزّ وجلّ عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وحصن قلعة الزّبير: الذي صار في سهمه بعد. قال في «شرح المواهب» : (وكان اسمه حصن قلّة؛ لكونه كان على رأس جبل) . وحصن الوطيح: بالتكبير، سمي بالوطيح بن مازن: رجل من ثمود، نقله في «شرح المواهب» عن البكري. والسّلالم: بضم السين المهملة، قال ابن إسحاق فيه والذي قبله: (وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا) . واعلم: أنّ الوطيح والسّلالم من حصون خيبر، اختصّ بهما من بقي من أهل خيبر، حتى صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقرّهم لعمارة الأرض، ولهم نصف ما تثمر، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نقركم ما شئنا» ثمّ أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه. فائدة: أمنا صفية المذكورة آلت زوجا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قيل: إنّ امرأة من اليهود جاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا محمّد؛ إن صفية لا تصلح إلّا لك؛ فإنّها سيدتنا، وبنت سيدنا، فاشتراها، قيل: بسبعة أرؤس، فكانت تقول: ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لقد رأيته ركب بي من خيبر على ناقته ليلا فجعلت أنعس، فيضرب رأسي مؤخرة الرحل فيمسني بيده، ويقول: «يا هذه؛ مهلا يا بنت حيي» حتى إذا جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وغلّ قاتل سليل مسلمه ... لصنوه محمّد وأسلمه الصهباء.. قال: «أما إنّي أعتذر إليك يا صفية ممّا صنعت بقومك؛ إنّهم قالوا لي كذا» . قتل قاتل محمود بن مسلمة الأنصاري: (وغلّ) عليّ بن أبي طالب، بمعنى: أوثق (قاتل) محمود، بإلقاء رحى من حصن ناعم (سليل) أي: ابن (مسلمة) بن خالد بن عديّ، ودفعه لأخيه، كما قال (لصنوه) أي: شقيق محمود، وأبدل من (صنوه) قوله: (محمّد) فالجار والمجرور يتعلق بقوله: (وأسلمه) بصيغة الماضي المعلوم، بمعنى: أعطاه لشقيقه محمّد. قال في «العيون» بسنده إلى ابن عمر: (جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ اليهود قتلوا أخي، فقال: «لأدفعنّ الراية إلى رجل يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، فيفتح الله عزّ وجلّ عليه، فيمكنه الله من قاتل أخيك» فبعث إلى عليّ رضي الله عنه، فعقد له اللواء، فقال: يا رسول الله؛ إنّي أرمد كما ترى، قال: وكان يومئذ أرمد، فتفل «1» في عينيه، قال عليّ رضي الله عنه: فما رمدت بعد يومئذ!   (1) أشار إلى التفل صاحب «الهمزية» وأجاد بقوله: وعلي لما تفلت بعيني ... هـ وكلتاهما معا رمداء فغدا ناظرا بعيني عقاب ... في غزاة لها العقاب لواء والعقاب الأول اسم طائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وغال مرحبا وقدّ حجرا ... من يابس الصّخر به تمغفرا قال العوّام- يعني ابن حوشب أحد رواة الحديث-: فحدّثني جبلة بن سحيم- أو حبيب بن أبي ثابت- عن ابن عمر، قال فمضى بذلك الوجه، فما تتامّ آخرنا حتى فتح الله على أولياء الله، فأخذ عليّ رضي الله عنه قاتل الأنصاري، فدفعه إلى أخيه، فقتله الرجل الأنصاريّ، وهو محمّد بن مسلمة. مقتل مرحب اليهودي: (وغال) أي: قتل علي بن أبي طالب (مرحبا) بوزن منبر كما ضبطه شارح «القاموس» وهو بطل يهود خيبر، وكان قد خرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، كما قال الناظم: (وقدّ) بتشديد الدال؛ أي: وكان قد قطع مرحب (حجرا من يابس الصخر) أي: من الصخر اليابس والحجر الصلب (به) أي: بذلك الحجر، وهو متعلق بقوله: (تمغفرا) بألف الأطلاق أي: تمغفر به؛ أي: جعله مغفرا- بكسر الميم-: وهو ما يجعله المتسلح تحت قلنسوته «1» . تنبيه: إنّما أعدت الضمير في (غال) إلى (عليّ) ؛ لأنّه ظاهر النظم، وهو الموافق لما في «صحيح مسلم» من رواية   (1) وأشار لذلك بعضهم وأجاد بقوله: وشادن أبصرته مقبلا ... فقلت من وجدي به مرحبا قدّ فؤادي في الهوى قدّة ... قدّ عليّ في الوغى مرحبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وعامر بن الأكوع استنشده ... خير الورى وقال إذ أنشده إياس بن سلمة عن أبيه وفيه: (أنّ عليا ضرب رأس مرحب فقتله، فكان الفتح على يديه) وإن كان مخالفا لما قاله ابن إسحاق، من أنّ قاتل مرحب هو محمّد بن مسلمة، ورواه موسى بن عقبة عن الزّهريّ والواقديّ، عن جابر. وقيل: إنّ الذي قتله علي، هو الحارث أخو مرحب، فاشتبه على بعض الرواة، فإن كان كذلك.. فالأمر ظاهر، وإلّا.. فما في «الصحيح» مقدم على ما سواه. قال العلّامة الشاميّ: (ما في «مسلم» مقدم عليه من وجهين: أحدهما: أنّه أصح إسنادا، الثاني: أنّ جابرا لم يشهد خيبر، كما قاله ابن إسحاق والواقديّ وغيرهما، وقد شهدها مسلمة، وبريدة، وأبو رافع، فهم أعلم ممّن لم يشهدها) اهـ فائدة: قال ابن هشام: (كان شعار المسلمين يوم خيبر: يا منصور؛ أمت أمت) . استنشاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم عامر بن الأكوع: (و) لما خرج (عامر بن الأكوع) وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع على الصحيح إلى خيبر مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم (استنشده) أي: طلب منه أن ينشده (خير الورى) صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه كان حدّاء، والإبل تستحث بالحداء، وقال: «انزل فحدثنا من هناتك» بضم الهاء، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا وإذ ترحّم للانشاد عليه ... هلك من رجوع سيفه إليه رواية: «من هنيهاتك» وفي لفظ: «من هنيّاتك» بقلب الهاء الثانية ياء؛ أي: من أراجيزك وأشعارك (وقال) عامر ممتثلا (إذ أنشده) : (والله «1» لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا) وبعده كما في «العيون» : إنّا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله» وفي رواية: «غفر لك ربك» وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصّه في مثل هذا الموطن إلّا استشهد، ولذا قال عمر رضي الله عنه كما في الصحيح: (وجبت يا نبيّ الله، لو أمتعتنا به) . استشهاد عامر بن الأكوع: وقد أشار الناظم إلى هذا بقوله: (وإذ ترحّم) عليه بقوله ذلك (للإنشاد) لذلك الرجز،   (1) في «صحيح مسلم» بلفظ: «اللهمّ» قال الإمام النووي: (كذا الرواية، قالوا: وصوابه: لاهم، أو تالله، أو والله، كما في الحديث الآخر: «فو الله لولا الله» ) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 واستشعر الفاروق أن يستشهدا ... وأخبر الهادي به باد بدا فقوله: (عليه) ، متعلق ب (ترحّم) (هلك) أي: مات، نظيره قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ الآية من (سورة غافر) (من رجوع سيفه) أي: عامر (إليه) وهو يقاتل، فأصاب ركبته. (واستشعر) أي: فطن سيدنا عمر (الفاروق) بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، من قوله صلى الله عليه وسلم ذلك (أن يستشهدا) بالبناء للمفعول؛ أي: في هذه الغزوة (وأخبر) بالبناء للمفعول (الهادي) صلى الله عليه وسلم (به) أي: بموت عامر برجوع سيفه عليه (باد) بالتنوين (بدا) بصيغة الماضي، بمعنى: أول كل شيء، وهذه الكلمة فيها لغات كثيرة، وذكرها في «القاموس» في مادة (بدأ) وضبطها السيد الزّبيدي في «شرحه» ضبطا يرجع إليه؛ فإنّ النسخ من «القاموس» في هذا الموضع في اختلاف شديد، ومصادمة بعضها مع بعض، فليكن الناظر على حذر منها. قال الإمام البخاريّ في «الصحيح» من حديث طويل، من رواية يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع وفيه: (فلمّا تصافّ القوم.. كان سيف عامر قصيرا، فتناول به ساق يهوديّ ليضربه، فرجع ذباب سيفه أي: طرفه الأعلى- فأصاب عين ركبة عامر فمات منه، قال: فلمّا قفلوا- أي: رجعوا من خيبر- قال سلمة: رآني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، فلمّا رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم شاحبا- أي: متغير اللون- قال: «مالك؟» قلت له: فداك أبي وأمي، زعموا أنّ عامرا حبط عمله، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كذب من قاله، وإنّ له لأجرين- وجمع بين إصبعيه- إنّه لجاهد مجاهد، قلّ عربي مشى بها مثله» ) اهـ، والضمير في قوله «بها» للأرض أو المدينة، أو الحرب، أو الخصلة. وقال ابن إسحاق: (حدّثني محمّد بن إبراهيم التّيمي، عن أبي الهيثم بن نصر الأسلمي، أنّ أباه حدّثه: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع، وهو عم سلمة بن عمرو بن الأكوع، وكان اسم الأكوع سنانا: «انزل يا ابن الأكوع، فخذ لنا من هناتك» قال: فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لولا الله ما اهتدينا ... إلى آخر الأبيات، فقال صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله» فقال عمر بن الخطاب: وجبت والله يا رسول الله، لو أمتعتنا به، فقتل يوم خيبر شهيدا، وكان قتله فيما بلغني: أنّ سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه- أي: جرحه- كلما شديدا، فمات منه، فكان المسلمون قد شكّوا فيه، وقالوا: إنّما قتله سلاحه، حتى سأل ابن أخيه سلمة بن عمرو بن الأكوع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأخبره بقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وقتلت تسعون من يهودا ... واستشهدت (يه) ولا مزيدا الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه لشهيد» وصلّى عليه، فصلّى عليه المسلمون. قال في «روض النّهاة» : (لأنّه تأخّر موته عن المعركة) . (وقتلت) في غزوة خيبر (تسعون) بفوقية قبل السين (من يهودا) لعنهم الله تعالى، وزاد في «العيون» كابن سعد عليها ثلاثة فقال في «الطبقات» : (وقتل منهم ثلاثة وتسعون رجلا من يهود: الحارث أبو زينب، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، وكنانة بن أبي الحقيق، وأخوه، وإنّما ذكرنا هؤلاء وسميناهم لشرفهم؛ أي: في قومهم) . شهداء الصحابة خمسة عشر في خيبر: (واستشهدت) من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم (يه) أي: خمسة عشر (ولا مزيدا) عليها. قال ابن سعد في «الطبقات» : (واستشهد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر: ربيعة بن أكثم، وثقف بن عمرو بن سميط، ورفاعة بن مسروح، وعبد الله بن الهبيب حليف لبني أسد بن عبد العزّى- ومحمود بن مسلمة، وأبو ضياح بن ثابت بن النعمان من أهل بدر، والحارث بن حاطب من أهل بدر، وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس بن القائد، وأنيف بن حبيب، ومسعود بن سعد بن قيس، وبشر بن البراء بن معرور- مات من الشاة المسمومة- وفضيل بن النعمان، وعامر بن الأكوع- أصاب نفسه، فدفن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 هو ومحمود بن مسلمة في غار واحد بالرجيع بخيبر- وعمارة بن عقبة بن عباد بن مليل، ويسار العبد الأسود، ورجل من أشجع، فجميعهم خمسة عشر رجلا) . قلت: بالعدّ يظهر أنّهم يزيدون على ذلك، والعلم عند الله تعالى. استشهاد يسار الراعي: قال ابن إسحاق: (وكان من حديث الأسود الراعي «1» فيما بلغني عنه: أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه غنم له، كان فيها أجيرا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله؛ اعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليه، فأسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه، فلمّا أسلم.. قال: يا رسول الله؛ إنّي كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: «اضرب في وجوهها، فإنّها سترجع إلى ربها» أو كما قال، فقام الأسود، فأخذ حفنة من الحصى، فرمى بها في وجوهها وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدا،   (1) هو الذي سمّاه ابن سعد بيسار العبد الأسود، وقد سمّاه أبو نعيم كذلك يسارا، وسمّاه غيره أسلم. قال الحافظ في «الإصابة» : (قال الرشاطي في «الأنساب» : أسلم الحبشي أسلم يوم خيبر، وقاتل فقتل وما صلّى صلاة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ معه الآن زوجتيه من الحور العين» ) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ومرّ راجعا إلى وادي القرى ... فشاطرت يهوده خير الورى فخرجت مجتمعة كأنّ سائقا يسوقها، حتى دخلت الحصن على ربها، ثمّ تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلّى لله صلاة قطّ، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع خلفه، وسجّي بشملة كانت عليه، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، ثمّ أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله؛ لم أعرضت عنه؟ قال: «إنّ معه الآن زوجتيه من الحور العين، تنفضان التراب عن وجهه» وتقولان: ترّب الله وجه من ترّبك، وقتل من قتلك» ) . (25) غزوة وادي القرى ثمّ ذيّل الناظم غزوة خيبر بالكلام على وادي القرى- بضم القاف، وفتح الراء مقصورا- إذ هي في طريقه إلى المدينة المنوّرة، فقال: (ومرّ) رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر سنة سبع في جمادى الآخرة (راجعا إلى وادي القرى) وهو اسم لقرية من قرى اليهود، بين المدينة وخيبر، وهي الآن من أعمال المدينة، وتسمّى بالعلى، فدعا أهلها إلى الإسلام، فامتنعوا من ذلك، وقاتلوا، ففتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة، وغنّمه الله أموال أهلها، وأصاب المسلمون منهم أثاثا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وأهلكوا غلامه ذا الشّمله ... أغلّها فهي عليه شعله ومتاعا، فخمّس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ترك الأرض والنخل في أيدي يهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر كما قال الناظم: (فشاطرت) أي: قاسمت بالنصف (يهوده) أي: الوادي (خير الورى) صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: (واستعمل صلى الله عليه وسلم عمرو بن سعيد بن العاصي على وادي القرى، وقبض وهو عليها) . (وأهلكوا) أي: اليهود في هذه القضية بوادي القرى (غلامه) أي: عبده المسمى: مدعما- بكسر الميم وسكون الدال وفتح المهملتين- بسهم غرب أصابه (ذا) أي: صاحب (الشّملة) بفتح الشين، هي كساء يشتمل به (أغلّها) أي: أصابها من الغنائم، ولم تصبها المقاسم (ف) لذلك (هي عليه شعلة) من نار، والشعلة: ما تشتعل فيه النار من حطب ونحوه. قال في «العيون» بسنده إلى أبي هريرة: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر، فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع والأموال، قال: فوجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى، وقد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبد أسود «1» يقال له: مدعم، يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه سهم عائر فقتله،   (1) أهداه له رفاعة بن يزيد أحد بني الضبيب، كما في «مسلم» والضبيب بالتصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّا والذي نفسي بيده؛ إنّ الشّملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم.. لتشتعل عليه نارا» فلمّا سمعوا بذلك.. جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شراك من نار» أو «شراكان من نار» ) . قال في «الإمتاع» : (فلمّا انتهى إلى وادي القرى.. استقبله اليهود بالرمي، فقتل مدعم بسهم، فعبأ عليه الصّلاة والسّلام أصحابه، وصفّهم للقتال، ثمّ دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرزوا فقتل منهم أحد عشر رجلا، وبات عليهم، وغدا لقتالهم، فأعطوا بأيديهم، فأخذها عنوة، وغنم ما فيها، فقسمه وعامل يهود على النخل، وانصرف عليه الصّلاة والسّلام من وادي القرى وقد أقام أربعة أيام يريد المدينة، فلمّا قرب منها.. نزل وعرّس، فنام ومن معه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، ثمّ صلّى بهم، فلمّا سلّم قال: «كانت أنفسنا بيد الله، فلو شاء.. قبضها، فلمّا ردها إلينا.. صلينا» . ولمّا نظر عليه الصّلاة والسّلام إلى أحد قال: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إنّي حرمت ما بين لابتي المدينة» ولما قدم المدينة.. اتخذ المنبر، وله درجتان والمستراح، وخطب عليه، فحنّ الجذع الذي كان يستند إليه إذا خطب) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 ثمّ إلى الرّوم النّبيّ استنفرا ... بمؤتة جيشا عليه أمّرا (26) غزوة مؤتة مؤتة: بالهمزة والميم المضمومة، قال السهيليّ في «الروض الأنف» : (وهي مهموزة الواو، وهي قرية من أرض البلقاء من الشام، وأمّا الموتة بلا همز.. فضرب من الجنون، وفي الحديث: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ من همزه، ونفخه، ونفثه» وفسّره راوي الحديث فقال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة) اهـ وعدّها من الغزوات مع عدم حضوره صلى الله عليه وسلم فيها؛ تبعا لابن سيد الناس اليعمري في «العيون» ولمن قبله. قال ابن إسحاق في «سيرته» : (ذكر غزوة مؤتة من أرض الشام) وترجم الإمام البخاري في «جامعه الصحيح» بقوله: (غزوة مؤتة) وإلّا.. فهي من جملة السّرايا. وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما ذكره ابن إسحاق، قال الحافظ: (وأهل المغازي لا يختلفون في ذلك، إلّا ما ذكر خليفة في «تاريخه» : أنّها كانت سنة سبع، ووقع في «جامع الترمذيّ» : أنّها كانت قبل عمرة القضاء، قال البرهان: وهو غلط بلا شك) . (ثم إلى) قتال (الروم) جيل قيصر، وهم بنو روم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 زيد بن حارثة ثمّ جعفرا ... فابن رواحة ولأيا انبرا عيص بن سيدنا إسحاق، ويقال لهم: بنو الأصفر بن روم؛ أو لأنّ جيلا آخر غلبهم، فوطئ نساءهم فجئن بأولاد صفر، قاله في «روض النّهاة» (النّبي) صلى الله عليه وسلم (استنفرا) أي: طلب جيشا أن ينفر (بمؤتة) بالتنوين لضرورة الشعر، قال في «الأساس» كما نقله عنه في «شرح القاموس» : (استنفر الإمام الرعية: كلّفهم أن ينفروا خفافا وثقالا) (جيشا) عدده ثلاثة آلاف، والكفار مئتا ألف. سبب هذه الغزوة: وسبب هذا الاستنفار: ما ذكره الحافظ اليعمريّ في «العيون» وجزم به: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزديّ- أحد بني لهب- بكتابه إلى الشام، إلى ملك الروم، وقيل: إلى ملك بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسّانيّ، فأوثقه رباطا، ثم قدّم فضرب عنقه صبرا، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فاشتدّ ذلك عليه حين بلغه الخبر عنه فبعث هذا الجيش) . وأمّر عليه واحدا، ثمّ واحدا، من ثلاثة على الترتيب، كما قال: (عليه أمّرا زيد بن حارثة، ثمّ جعفرا) إن أصيب زيد (فابن رواحة) عبد الله، إن أصيب جعفر بن أبي طالب، ومن هنا سمّي هذا الجيش بجيش الأمراء. روى أحمد والنّسائي- وصححه ابن حبان- من حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 أبي قتادة: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء: وقال: «عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد.. فجعفر ... » الحديث، وفيه: فوثب جعفر وقال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، ما كنت أرهب أن تستعمل عليّ زيدا، قال: «امض؛ فإنّك لا تدري أيّ ذلك خير» ) . قال الشهاب في «المواهب» : (وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وهو مؤتة، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا، وإلّا.. استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم) . قال الزرقاني: (فأسرع الناس بالخروج، وعسكروا بالجرف، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيّعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودّعهم) . وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للجيش: روى الواقديّ عن زيد بن أرقم رفعه، قال: «أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلّوا، ولا تقتلوا وليدا، ولا امرأة، ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرا، ولا تهدموا بناء» «1» .   (1) فيه من الفوائد التي تتجلى بها مدنيّة الإسلام بأجلى مظاهرها: وصية الإمام أمراء الجيش بتقوى الله تعالى. والرفق بأتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم، وما يجب عليهم، وما يحل وما يحرم، وتحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 بكاء عبد الله بن رواحة خوفا من النار: وذكر ابن إسحاق من مرسل عروة: أنّه لمّا حضر خروجهم.. ودّع الناس أمراء رسول لله صلى الله عليه وسلم، وسلّموا عليهم، فلمّا ودّع عبد الله بن رواحة مع من ودّع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم.. بكى، فقالوا: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حبّ الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عزّ وجلّ يذكر فيها النار وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا «1» فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود. قيل: إنّ عبد الله بن رواحة بعد ذلك قال: إن كانت زوجتي.. فهي طالق، وإن كان عبدي.. فهو حر لوجه الله، وإن كان مالي.. فهو صدقة للمسلمين، فأخذ سلاحه وسار،   - لم يقاتلوا، وهذا كله مجمع عليه كما حكاه الإمام النووي في «شرحه» على «صحيح مسلم» . (1) تكلم العلماء على هذه الآية، وذكروا فيها أقوالا ذكرها العلّامة أبو القاسم السهيلي في «الروض» فقال: (منها: أنّ الخطاب متوجه إلى الكفار على الخصوص، واحتجّ قائلو هذه المقالة بقراءة ابن عباس: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وقالت طائفة: الورود هنا: الإشراف عليها ومعاينتها، وحكوا عن العرب: وردت الماء فلم أشرب، وقالت طائفة: هو المرور على الصراط؛ لأنّه على متن جهنم- أعاذنا الله منها والمسلمين- وقالت طائفة: هو أن يأخذ العبد بحظ منها، وقد يكون ذلك في الدنيا بالحمى؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم قال: «الحمى كير من جهنم، وهو حظ كل مؤمن من النار» ) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وقال لهم المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردّكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة: لكنّني أسأل الرّحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ «1» تقذف الزّبدا أو طعنة بيدي حرّان مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتّى يقال إذا مرّوا على جدثي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا قال ابن إسحاق: (ثمّ إنّ القوم تهيّؤوا للخروج، فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودّعه) . ثمّ قال فيما ذكره ابن هشام: أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر فثبّت الله ما آتاك من حسن ... في المرسلين، ونصرا كالذي نصروا إنّي تفرّست فيك الخير نافلة ... فراسة خالفت فيك الذي نظروا   (1) ذات فرغ- بفتح الفاء، وسكون الراء المهملة، وبعدها غين معجمة- أي: واسعة تسيل دمها. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 تشجيع ابن رواحة الجيش على لقاء هرقل: ثمّ مضوا حتى نزلوا معان «1» من أرض الشام، فبلغ الناس أنّ هرقل قد نزل مآب- بفتح الهمزة ومدها، آخره موحدة- من أرض البلقاء في مئة ألف من الروم، وانضمّ إليهم من لخم، وجذام، والقين، وبهراء، وبليّ مئة ألف. فلمّا بلغ ذلك المسلمين.. أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدوّنا؛ فإمّا أن يمدّنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره، فنمضي له، فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم؛ والله إنّ التي تكرهون للّتي خرجتم لها تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة، ولا كثرة، ولا نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنّما هي إحدى الحسنيين: إمّا ظهور، وإمّا شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء.. لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها: المشارف، ثمّ دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبّى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذريّ، وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاريّ.   (1) بفتح الميم، وذكره البكري بضم الميم وقال: (هو اسم جبل) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 استشهاد زيد وجعفر وابن رواحة: ثمّ التقى الفريقان، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، وقتل طعنا بالرماح، ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال.. نزل عن فرس له شقراء عقرها «1» ، فقاتل حتى قتل، فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام، فقاتل حتى قتل وهو يقول: يا حبّذا الجنة واقترابها ... طيّبة وباردا شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليّ إذ لاقيتها ضرابها قال ابن هشام: (وحدّثني من أثق به من أهل العلم: أنّ جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه.. فقطعت، فأخذه بشماله.. فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه   (1) أي: ضرب قوائمها بالسيف. قال السهيلي: (ولم يعب ذلك عليه أحد، فدلّ على جواز ذلك إذا خيف أن يأخذها العدو، فيقاتل عليها المسلمين، فلم يدخل هذا في باب النهي عن تعذيب البهائم وقتلها عبثا، غير أنّ أبا داوود لمّا خرج هذا الحديث.. قال: ليس هذا بالقوي، وقد جاء فيه نهي كثير عن أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم. اهـ فكأنّه يريد أنّ الحديث ليس بصحيح، لكنه حسن كما جزم به الحافظ، وتبعه الشهاب القسطلاني، ونقله عن الحافظ العلّامة الزرقاني) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين «1» في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إنّ رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه بنصفين. فلمّا قتل جعفر.. أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، وتقدم به وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثمّ قال: أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... لتنزلنّ أو لتكرهنّه   (1) وممّا ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين: أنّهما ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحي طائر وريشه؛ لأنّ الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين: صفة ملكية، وقوة روحانية، أعطيها جعفر، وقد عبّر القرآن عن العضد بالجناح توسّعا في قوله تعالى لموسى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ وقال العلماء في أجنحة الملائكة: إنّها صفات ملكية، لا تفهم إلّا بالمعاينة؛ فقد ثبت أنّ لجبريل ست مئة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيّتها.. فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى ما قاله السهيلي في «روضه» ملخصا، ولم يسلمه الحافظ في الفتح؛ فإنّه قال: (ما جزم به في مقام المنع، والذي حكاه عن العلماء ليس صريحا في الدلالة على مدّعاه، ولا مانع من الحمل على الظاهر والحقيقة، إلّا من جهة ما ذكره من قياس الغائب على الشاهد، وهو ضعيف؛ لعدم الجامع، وما استدلّ به من كون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره؛ لأنّ الصورة باقية كما هي، وإعطاء الجناحين له إكراما، وقد روى البيهقي في «الدلائل النبوية» من مرسل عاصم بن عمرو بن قتادة: أنّ جناحي جعفر من ياقوت، فهو صريح في ثبوتهما له حقيقة، وأنّه ليس من أجنحة الطير التي هي من ريش، وجاء في جناحي جبريل أنّهما من لؤلؤ، أخرجه ابن منده في ترجمة ورقة) من كتاب «المعرفة» له. وقد نقل هذا في «شرح المواهب» العلّامة الزرقاني، ثمّ قال عن بعض العلماء: (إنّ هذا التأويل لا يليق مثله بالإمام السهيلي، بل هو أشبه بكلام الفلاسفة والحشوية، ولا ينكر الحقيقة إلّا من ينكر وجود الملائكة؛ وقد قال تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 إن أجلب الناس وشدّوا الرّنّه ... ما لي أراك تكرهين الجنّه قد طالما قد كنت مطمئنّه ... هل أنت إلّا نطفة في شنّه وقال أيضا: يا نفس إن لم تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت يريد ب (فعلهما) : فعل زيد وجعفر، فلمّا نزل.. أتاه ابن عمه بعرق من لحم، فقال: شدّ بهذا صلبك؛ فإنّك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثمّ انتهس منه نهسة، ثمّ سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا؟ ثمّ ألقاه من يده، ثمّ أخذ سيفه، فتقدم فقاتل حتى قتل. تأمر خالد بن الوليد: ثمّ أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال: يا معشر المسلمين؛ اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 الوليد، فلمّا أخذ الراية.. دافع القوم وخاشاهم «1» حتى انصرف الناس. وروى الطّبراني من حديث أبي اليسر الأنصاريّ، كما نقله عنه في «الفتح» قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لمّا أصيب عبد الله بن رواحة، فدفعها إلى خالد بن الوليد، وقال: أنت أعلم بالقتال مني. وقول الناظم: (ولأيا انبرا) أي: مشى عبد الله بن رواحة بعد لأي- بفتح اللام وسكون الهمزة- أي: بطء، وذلك أنّه رضي الله عنه تلكأ في المسير، وبكى، ثمّ قال: والله؛ ما بي حب الدنيا ... إلى آخر ما تقدم. ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ الجيش المذكور انبرى، وسار في هذه الغزوة بعد جهد ومشقة؛ لقلّة المسلمين، وكثرة الكافرين، وبعد السفر والشقة وإن كانت العاقبة للمسلمين. واللأي: كالسعي، قال زهير بن أبي سلمى: وقفت بها من بعد عشرين حجّة ... فلأيا عرفت الدّار بعد توهّم   (1) ذكر السهيلي في «الروض» عند ذكر ابن إسحاق مخاشاة خالد بن الوليد بالناس يوم مؤتة: أنّ المخاشاة المحاجزة، وهي مفاعلة من الخشية؛ لأنّه خشي على المسلمين لقلة عددهم، ومن رواه (حاشى) بالحاء المهملة.. فهو من الحشي، وهي: الناحية، وعن ابن قتيبة في «المعارف» : (أنّه سئل عن قولهم: حاشى بهم.. فقال: معناه انحاز بهم) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ورفعت للهاشميّ المعركه ... فعاين الّذي أتوا وأدركه إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما وقع قبل وصول الخبر: وكشفت الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى معترك القوم عيانا، كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله: (ورفعت للهاشميّ) صلى الله عليه وسلم (المعركة) بفتح الراء وتضم؛ أي: موضع قتال القوم (فعاين الذي أتوا) من نزال الأمراء الثلاثة، وكيف استشهدوا، وغير ذلك ممّا سبق لك، وأخبر به أصحابه بالمدينة قبل وصول الخبر بأيام وقال: «إنّ الله زوى لي الأرض حتى رأيت معترك القوم» . وقوله: (وأدركه) أي: تحققه، أتى به بعد قوله: (وعاين) زيادة في الفائدة، وذلك أنّ الإنسان قد يرى شيئا، ويعاينه، ولم يتحققه، فكان هذا أقرب إلى التأسيس منه إلى التأكيد، خلافا لما ذكره في «روض النّهاة» من أنّه لمحض التأكيد؛ إذ التأسيس هو الأليق أن يحمل الكلام عليه مهما أمكن، ويساعد هذا الحمل ما علّل هو به ممّا ذكرته هنا. قال الشهاب في «المواهب» : (وذكر موسى بن عقبة في «المغازي» : أنّ يعلى بن أميّة قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت.. فأخبرني، وإن شئت.. أخبرتك» قال: أخبرني، فأخبره خبرهم، فقال: والذي بعثك بالحق؛ ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره) وتمامه كما عند الزرقاني: (وإنّ أمرهم لكما ذكرت، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 وروى الإمام البخاري في «جامعه» عن أنس رضي الله عنه: (أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس، قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثمّ أخذها جعفر فأصيب، ثمّ أخذها ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم» وفي رواية: «ثمّ أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء، وهو أمير نفسه، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ إنّه سيف من سيوفك، فأنت تنصره» فمن يومئذ سمّي سيف الله. انتصار جيش المسلمين: وفي قوله صلى الله عليه وسلم هذا: دليل على أنّ أهل مؤتة رجعوا منصورين، قال الشهاب عن الحاكم: (قاتلهم خالد بن الوليد، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصاب غنيمة؛ أي: فكانت الهزيمة على المشركين) . ومن أجل ذلك لمّا قال في «المواهب» : (إنّه قتل من قتل من المسلمين) أي: وهم اثنا عشر.. قال الزرقاني: (وفي هذا عناية من الله بالإسلام وأهله، ومزيد إعزاز ونصر لهم؛ إذ جيش عدّته ثلاثة آلاف، يلقى أكثر من مئتي ألف، فلا يقتل منهم إلّا اثنا عشر، مع أنّهم اقتتلوا مع المشركين سبعة أيام) . ولمّا دنا الجيش من المدينة قافلا.. لقيهم الصبيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 يشتدون، ورسوله الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبد الله، فحمله بين يديه، وجعل الناس يحثون التراب على الجيش، ويقولون: يا فرّار، فررتم في سبيل الله؟! فيقول رسول الله: «ليسوا بالفرار، ولكنّهم الكرّار إن شاء الله تعالى» . التعريف بالأمراء الثلاثة: وحيث حدابنا المقام إلى هؤلاء الأمراء الثلاثة.. فلا بأس أن نلمّ بشيء من التعريف بهم؛ تيمّنا بذكراهم وإن كانوا في غنية عن التعريف؛ لشرفهم العظيم بالانتساب الحقيقي إلى الجناب النبويّ، رضوان الله تعالى عليهم، لكنّا في شديد الحاجة إلى معرفة حياتهم في ذلك العصر النبويّ؛ لنقتفي آثارهم، ونتيمّن بمآثرهم، ونعطر النواحي بأريج شذاهم، فأقول، وبهم على العدا أصول: زيد بن حارثة: أمّا سيدنا زيد: فهو ابن حارثة بن شراحيل- بفتح الشين- ابن كعب الكلبيّ نسبا، القرشيّ بالولاء، حبّ رسول الله، وأبو حبّه، وأمّه سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طيء، يقال: إنّها زارت قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على أبيات بني معن، فاحتملوا زيدا وهو غلام يفعة، فأتوا به في سوق عكاظ، فعرضوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربع مئة درهم، وهو ابن ثمان سنين، كما قاله في «تهذيب الأسماء» فلمّا تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهبته له، وكان أبوه حارثة حين فقده قال: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيّ فيرجى أم أتى دونه الأجل من أبيات استوفاها الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» ثمّ إنّه حجّ ناس من كلب، فرأوا زيدا، فعرفهم وعرفوه، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات: أحنّ إلى قومي وإن كنت نائيا ... فإنّي قعيد البيت عند المشاعر فكفّوا من الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر فإنّي بحمد الله في خير أسرة ... كرام معدّ، كابرا، بعد كابر فانطلقوا فأعلموا أباه، ووصفوا له موضعه، فخرج حارثة وكعب أخوه بفدائه، فقدما مكة، فسألا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه؛ أنتم أهل حرم الله: تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عبدك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، قال: «وما ذاك؟» قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 زيد بن حارثة، فقال: «أو غير ذلك؟ ادعوه فخيّروه، فإن اختاركم.. فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني.. فو الله؛ ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء» قالوا: زدتنا على النّصف، فدعاه، فقال: «هل تعرف هؤلاء؟» قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي، قال: «فأنا من قد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما» فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك! أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟! فقال: نعم؛ إنّي قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.. أخرجه إلى الحجر فقال: «اشهدوا أنّ زيدا ابني، يرثني وأرثه» فلمّا رأى ذلك أبوه وعمه.. طابت أنفسهما وانصرفا، فدعي زيد بن محمّد، حتى جاء الله بالإسلام وأنزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية. ولمّا تبنّاه.. زوّجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أميمة بنت عبد المطلب، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلّا زيد بن محمّد حتى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أخرجه البخاريّ. قال الحافظ في «الإصابة» : (ويقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه زيدا؛ لمحبة قريش في هذا الاسم، وهو اسم قصيّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 قلت: وقد تقدم في شعر أبيه ما يدل على أنّه يسمى زيدا من قبل، فلعلّ المراد- إن ثبت ما ذكر- أنّه عليه الصّلاة والسّلام أثبت هذا الاسم وقرره ولم يغيّره، كما كان يغير بعض أسماء من أسلم، والله أعلم. ثمّ قال في «الإصابة» : (قال عبد الرزاق عن معمر، عن الزّهريّ قال: ما نعلم أنّ أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة) . قلت: وقال غيره: أول من أسلم علي بن أبي طالب، أو خديجة بنت خويلد، أو أبو بكر الصدّيق، أو بلال، وقد أشار إلى هذا الاختلاف والجمع بين الأقوال بما يصير به الخلاف لفظيا.. الحافظ السيوطيّ في «نظم الدرر» بقوله: واختلفوا أوّلهم إسلاما ... وقد رأوا جمعهم انتظاما أول من أسلم في الرجال ... صدّيقهم وزيد في الموالي وفي النسا خديجة، وذي الصّغر ... عليّ، والرق بلال استقر مناقب زيد: ومن المناقب التي حفظت لزيد: أنّه ذكر في القرآن باسمه العلم، وليس ذلك لغيره، وما قيل: إنّ السّجلّ في قوله تعالى: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ هو اسم كاتب.. فضعيف أو غلط كما قاله النووي في «التهذيب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 قال في «روض النهاة» عن السهيلي: (ولمّا نزلت الآية يعني قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فامتثلها زيد، وقال: أنا ابن حارثة. جبر الله وحشته، وشرّفه بأن سمّاه باسمه في القرآن، فقال تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حتى صار وحيا يتلى في المحاريب، فنوّه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له، وعوض من أبوّة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم له، ألا ترى قول أبيّ بن كعب حين قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا» يعني (سورة لم يكن) فبكى أبيّ، قال: وذكرت هنا لك؟! وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أنّ الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلّدا لا يبيد؟ يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة كذلك في الجنان، ثمّ زاده في الآية غاية الإحسان إذ قال: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني: بالإيمان، فدلّ على أنّه عند الله من أهل الجنان، وهذه فضيلة أخرى، هي غاية منتهى أمنية الإنسان) . قال في «الإصابة» : (شهد زيد بن حارثة بدرا وما بعدها. وعن البراء بن عازب أنّ زيدا قال: يا رسول الله؛ آخيت بيني وبين حمزة، أخرجه أبو يعلى. وعن محمّد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: «يا زيد؛ أنت مولاي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 ومني، وإليّ، وأحب الناس إليّ» أخرجه ابن سعد بإسناد حسن. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وايم الله؛ إن كان لخليقا للإمارة- يعني زيد بن حارثة- وإن كان لمن أحب الناس إليّ» أخرجه البخاري. وعن ابن عمر أيضا: افترض عمر لأسامة أكثر ممّا فرض لي، فسألته، فقال: إنّه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وإنّ أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك. قال الحافظ: صحيح) . قلت: وهذا من سيدنا عمر تواضع وإظهار لفضيلة أسامة وأبيه، والمؤمن يهضم نفسه. وذكر الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب في أسماء الأصحاب» بسنده إلى الليث بن سعد قال: (بلغني أنّ زيد بن حارثة اكترى من رجل بغلا من الطائف، واشترط عليه المكري أن ينزله حيث شاء، قال: فمال به إلى خربة، فقال له: انزل، فنزل، فإذا في الخربة قتلى كثيرون، قال: فلمّا أراد أن يقتله.. قال له: دعني أصلّي ركعتين، قال: صلّ؛ فقد صلّى قبلك هؤلاء، فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، قال: فلمّا صلّيت.. أتاني ليقتلني، قال فقلت: يا أرحم الراحمين؛ قال: فسمع صوتا: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلب صاحبه فلم يجد شيئا، فرجع إليّ، فناديت يا أرحم الرّاحمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 - فعل ذلك ثلاثا- فإذا أنا بفارس على فرس في يده حربة حديد، في رأسها شعلة من نار، فطعنه بها، فأنفذها من ظهره، فوقع ميتا. ثمّ قال لي: لمّا دعوت المرة الأولى: يا أرحم الرّاحمين.. كنت في السماء السابعة، فلمّا دعوت المرة الثانية: يا أرحم الرّاحمين.. كنت في سماء الدنيا، فلمّا دعوت في المرة الثّالثة.. أتيتك) اهـ وأشار الناظم في «عمود النسب» إلى هذه القصة بقوله: والحب زيد اكترى من رجل ... مطية ونزلا بمنزل ليس به غير عظام قتلا ... رجالها الرجل ذا وحملا عليه فاستغاث زيد بالرحيم ... وعنه فرج بإهلاك الرجيم وذكر الحافظ السيوطي وغيره: أنّه لا يعرف أربعة توالدوا صحابة لسوى أبي قحافة، وزيد بن حارثة، وأشار له في «نظم الدرر» بقوله: وأربع توالدوا صحابه ... حارثة المولى أبو قحافه فإنّه ولد لأسامة بن زيد ولد اسمه محمّد، على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وحارثة تقدم أنّه شاهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو قحافة والد سيدنا أبي بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 صحابي، وأسماء بنت أبي بكر صحابية، وولدها عبد الله بن الزّبير أيضا صحابي جليل، مصّ دم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حجامته. قال في «روض النهاة» : (ولد لأسامة بن زيد محمّد بن أسامة على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعثر يوما فدمي وجهه، فمصّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دمه، ودخل يعقوب بن محمد بن أسامة المسجد يوما يجرّ ثيابه، وعبد الله بن عمر جالس في المسجد، فغضب وقال: من هذا؟ فقيل: يعقوب بن محمّد بن أسامة، فطأطأ رأسه، ونقر بين يديه الأرض، ثمّ قال: لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لأحبّه) ذكر الإمام النوويّ في «التهذيب» : (أنّه روي لزيد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم حديثان) . وبمناسبة ذكر سيدنا زيد، لا بأس بإتمام مواليه صلى الله عليه وسلم؛ تتميما للفائدة: مواليه صلى الله عليه وسلم: فأقول بالعطف على زيد: وابنه أسامة، وثوبان بن بجدد بضم الموحدة والدال، وإسكان الجيم، بضبط أبي زكريا النووي في «تهذيبه» وأنسة بفتح الهمزة والنون، وفضالة اليماني، وشقران، بضم الشين، ورباح بالموحدة، ويسار الراعي، وولود، وطهمان، ومأبور القبطيّ الذي أهداه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 المقوقس، وعبيد أبو صفية، وواقد، وأبو عبيد، وأبو واقد، ورافع، وهشام، وحنين، وأحمر ويكنى أبا عسيب- وسليم ويكنى بأبي كبشة شهد بدرا، وكركر بكسر الكافين، وقيل: بفتحهما، كان على ثقل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وزيد بن بولا، وأسلم- ويكنى أبا رافع- وسفينة، وأنجشة، ومدعم بكسر الميم، وإسكان الدال، وفتح العين المهملتين، وأبو أمامة، وأبو هند، وأبو ضمرة، فجملتهم تسعة وعشرون، أشار لهم العلّامة الشيخ عبد العزيز الفاسي في منظومته «قرة الأبصار» بقوله: بيان ما له من الموالي ... والخدم الأحرار باحتفال زيد، أسامة، ابنه ثوبان ... انسة، فضالة، شقران ثمّ رباح، ويسار، وارد ... طهمان، مأبور، عبيد، واقد وأبواهما، ورافع، هشام ... حنين، أحمر، سليم ذو اهتمام كركرة النّوبيّ، زيد، اسلم ... سفينة، أنجشة، ومدعم أبو أمامة، أبو هند، أبو ... ضمرة، والإماء حين تحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 جعفر بن أبي طالب: أمّا سيدنا جعفر: فهو ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو عبد الله، وابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشقيق عليّ، أسنّ منه بعشر سنين، وعقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وطالب أسنّ من عقيل بعشر سنين. وأمهم فاطمة بنت أسد: أول هاشمية تزوجها هاشميّ، وأسلمت، وهاجرت إلى المدينة، وتوفّيت بها، وصلّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في قبرها، وكان يكرمها، وفاطمة هذه إحدى الفواطم التي قال صلى الله عليه وسلم لعليّ في ثوب حرير: «قسّمه بين الفواطم الثلاث» والثانية: فاطمة بنته صلى الله عليه وسلم، والثالثة: فاطمة بنت حمزة. ولفاطمة بنت أسد بنتان؛ أم هانئ، وجمانة. وجعفر: أحد السابقين الأوّلين إلى الإسلام، ثبت فيما رواه الشيخان: أنّه صلى الله عليه وسلم قال له: «أشبهت خلقي وخلقي» . وهو أحد الخمسة المشبهين للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، المجموعين في قول بعضهم: بخمسة شبّه المختار من مضر ... يا حسن ما خوّلوا من شبهه الحسن! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 بجعفر وابن عمّ المصطفى قثم ... وسائب وأبي سفيان والحسن آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين صاحب الترجمة ومعاذ بن جبل، كما ذكره الحافظ في «الإصابة» وكان يكنيه أبا المساكين؛ لأنّه كان يحبهم ويحبونه، ويجلس إليهم، ويتحدث معهم في لين جانب ومكارم يفيضها عليهم، ففي الصحيح عن أبي هريرة: (كان جعفر خير الناس للمساكين) . وقال في «الإصابة» : (قال خالد الحذّاء عن عكرمة: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ما احتذى النّعال، ولا ركب المطايا، ولا وطىء التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أفضل من جعفر بن أبي طالب، رواه الترمذيّ والنسائي، وإسناده صحيح. وروى البغويّ من طريق المقبريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويخدمهم ويخدمونه، ويحدّثهم ويحدثونه، فكان صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين) . هاجر إلى الحبشة، وأسلم النجاشيّ ومن تبعه على يديه، وأقام عنده ومعه زوجته أسماء بنت عميس، فولدت له هناك عبد الله بن جعفر، وهو أوّل مولود ولد في الإسلام بأرض الحبشة. ثمّ قدم من الحبشة هو ومن صحبه من المهاجرين، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 دخل في الإسلام هناك، وجاؤوا في سفينتين في البحر، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لهم منها، ولم يسهم لمن لم يحضرها غير أهل السفينتين، ثمّ سكن المدينة إلى أن خرج إلى مؤتة. وفي «صحيح البخاريّ» عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كان خير الناس للمساكين جعفر رضي الله عنه، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكّة التي ليس فيها شيء؛ ليشقّها فنلعق ما فيها) . وعنه أيضا: قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة» رواه الترمذيّ. وله من الأولاد من زوجه أسماء بالحبشة: عبد الله، وعون، ومحمّد. قال الإمام النووي: (والعقب لعبد الله دون أخويه، ويوم ولد له عبد الله.. ولد فيه للنجاشيّ ولد، فسأل جعفرا: ماذا سميت ابنك يا جعفر؟ لنسمي به ابننا، فسمّاه عبد الله، وأرضعته أسماء بلبن ابنها عبد الله، فكانا يتواصلان لتلك الأخوّة، وكان قد أسلم النجاشيّ على يد جعفر) . ولمّا قدم جعفر على النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر.. قال عليه الصّلاة والسّلام: «لا أدري بأيّهما أنا أشد فرحا: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟» . ووجد يوم استشهد بجسده تسعون جراحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 ويروي سعيد بن المسيّب مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثّل لي جعفر، وزيد، وعبد الله في خيمة من درّ فوق أسرّة، فرأيت زيدا وعبد الله، وفي أعناقهما حدود، ورأيت جعفرا مستقيما، فقيل لي: إنّهما حين غشيهما الموت.. أعرضا بوجوههما، ومضى جعفر فلم يعرض» وأمر صلى الله عليه وسلم أن يصنع لأهل جعفر طعام؛ فإنّهم شغلوا بأمر صاحبهم. قال السّهيلي: (وهذا أصل في طعام التعزية) . قلت: يعني: يصنعه الناس لأهل الميت في غير كلفة ولا مباهاة، إنّما يحتسبون بذلك الأجر من الله؛ فإنّه قد نزل بأهل الميت ما قد شغلهم، أمّا فتح دار الميت بعمل الطعام، والدعوة للطعام.. فإنّها بدعة سيئة جدا، سادت في كثير، حتى ظنّ أنّها من السنن الشّرعية، أو الواجبات الدينية، وحتى ترى بعض الفقراء الذين يصابون بفقيدهم، ولا يستطيعون أن يقوموا بهذا العمل يبيعون شيئا من مخلفات الميت، وقد يوافق أنّ الميت ترك أطفالا قصّرا، بل كثيرا ما يستدينون المال الذي له بال، وينفقونه في الطعام للزائرين والزائرات في ذلك اليوم، وقد روى ابن ماجه والإمام أحمد بإسناد حسن عن جرير بن عبد الله البجليّ قال: (كنا نعد ذلك- أي: تهيئة أهل الميت الطعام- من النياحة) اهـ وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن النّياحة، فينبغي أن يفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 الناس هذا الأمر، وهذه البدعة حتى يقتلعوها من جذورها؛ فإنّه لا أضر على الناس من أمثال هذه العادات السيئة، نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا إلى اتباع سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم في أقواله الرشيدة، وأفعاله السديدة. هذا: والطعام الذي صنع لآل جعفر ذلك اليوم هو- كما روي عن ابنه عبد الله بن جعفر- شعير طحنته سلمى- مولاة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم- ثمّ آدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا، فأكلوا منه، قال عبد الله: وحبسني النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته مع أخويّ ثلاثة أيام» . ولسيدنا عليّ رضي الله عنه مفتخرا- وما أجدره بذلك-: محمّد النّبيّ أخي وصهري ... وحمزة سيّد الشّهداء عمّي وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمّي وبنت محمّد سكني وعرسي ... منوطا لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها ... فأيّكم له فخر كفخري سبقتكم إلى الإسلام طرّا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمي ولسيدنا جعفر يوم توفي ثلاث وثلاثون، أو إحدى وأربعون سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 عبد الله بن رواحة: وأمّا سيدنا عبد الله بن رواحة: فهو أبو محمّد الأنصاري الحارثي شهد العقبة، وكان ليلتئذ نقيب بني الحارث من الخزرج، فهو أحد النقباء الاثني عشر، المجموعين في قول الناظم في «عمود النسب» : وهم من الأوس أسيد فاعلمه ... رفاعة وسعد بن خيثمه وتسع خزرج بنو بدور ... زرارة رواحة معرور وابن عبادة وسعد بن الربيع ... ورافع بن مالك الشهم الرفيع عبد الإله نجل عمرو بن حرام ... ومنذر ونجل صامت الهمام شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا الفتح؛ فقد علم أنّه توفي قبله. وهو خال النعمان بن بشير؛ لأنّ أم النعمان عمرة بنت رواحة. وكان أحد شعراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، الذين ينافحون عنه وعن الإسلام المجموعين في قول الحافظ السيوطي: وشعراء المصطفى ذوو الشان ... ابن رواحة وكعب حسّان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وهم متفاوتون: كان حسّان رضي الله عنه يطعن في أنساب المشركين، وكان كعب بن مالك يذكّرهم بوقع السيوف، وعبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا ينفع، فكان شعر صاحب الترجمة يومئذ أهون على كفار قريش، وكان قول كعب وحسّان أشدّ القول عليهم، فلمّا أسلموا وفقهوا.. كان أشد القول عليهم وأنكاه فيهم قول ابن رواحة. قال الزّبير بن العوام رضي الله عنه: ما رأيت أحدا أجرأ ولا أسرع شعرا من ابن رواحة. وعن أبي الدرداء قال: أعوذ بالله أن يأتي يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة كان إذا لقيني.. يقول: يا عويمر؛ اجلس فلنؤمن ساعة، فنجلس فنذكر الله ما شاء الله، ثمّ يقول: يا عويمر هذا الإيمان. اهـ وهو الذي شجّع المسلمين في مؤتة على لقاء الكفار، بل شجع نفسه كما سبق. وفي «الصحيحين» عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حرّ شديد، حتى إنّ أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن رواحة. قال ابن سعد: (كان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جاء ببشارة وقعة بدر إلى المدينة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 قال الحافظ: (وفي فوائد أبي طاهر الذّهليّ، من طريق ابن أبي ذئب عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله ابن رواحة؛ إنّه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة» ) اهـ وكان إذا لقي أحدا.. قال له: اجلس بنا نؤمن ساعة. وأخرج البيهقي بسند صحيح: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، فدخل عبد الله بن رواحة، فسمعه يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجا من المسجد، فلمّا فرغ.. قال له: «زادك الله حرصا على طواعية الله، وطواعية رسوله» وكفى بهذه منقبة لابن رواحة، ممّا يدل في وضوح على خضوعه لأوامره وإشاراته صلى الله عليه وسلم؛ ابتغاء مرضاته، فهو لمن سواه القدوة والغاية المثلى. قال الحافظ: (وفي «الزهد» لابن المبارك بسند صحيح عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، قال: تزوج رجل امرأة عبد الله بن رواحة، فسألها عن صنيعه، فقالت: كان إذا أراد أن يخرج من بيته.. صلّى ركعتين، وإذا دخل بيته.. صلّى ركعتين، لا يدع ذلك، وكان عبد الله أول خارج إلى الغزو، وآخر قافل) . وقال ابن إسحاق: (حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: كان زيد بن أرقم يتيما في حجر عبد الله بن رواحة، فخرج معه إلى سريّة مؤتة، فسمعه في الليل يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 إذا أدنيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك فانعمي وخلاك ذمّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المؤمنون وخلّفوني ... بأرض الشام مشهود الثّواء فبكى زيد بن أرقم، فخفقه «1» بالدّرة، فقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل) فذكر القصة في صفة قتله في غزوة مؤتة ... بعد أن قتل جعفر، وقبله زيد بن حارثة. وقال ابن سعد: (أنبأنا يزيد بن هارون، أنبأنا حماد عن هشام، عن أبيه: لما نزلت وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أنّي منهم، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية) . وقال ابن سعد: (حدّثنا عبيد الله بن موسى، حدّثنا عمر بن أبي زائدة عن مدرك بن عمارة، قال: قال عبد الله بن رواحة: مررت في مسجد الرسول ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وعنده أناس من الصحابة في ناحية منه، فلمّا رأوني.. قالوا: يا عبد الله بن رواحة؛ فجئت، فقال:   (1) من باب: نصر وضرب، والخفق: هو الضرب بالدرة- بكسر الدال المشددة- كما يؤخذ من «القاموس» (مادة درر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 «اجلس ههنا» فجلست بين يديه، فقال: «كيف تقول الشعر؟» قلت: أنظر في ذلك، ثمّ أقول، قال: «فعليك بالمشركين» ولم أكن هيّأت شيئا، فنظرت، ثمّ أنشدته: إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر أنت النبيّ ومن يحرم شفاعته ... يوم الحساب لقد أزرى به القدر فثبّت الله ما أتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا قال: فأقبل بوجهه مبتسما، وقال: «وإياك فثبّتك الله» قال هشام بن عروة: فثبته الله عزّ وجلّ أحسن الثبات، فقتل شهيدا، وفتحت له الجنة فدخلها. قال المرزباني في «معجم الشعراء» : (كان عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، وكان يناقض قيس بن الخطيم في حروبهم، ومن أحسن ما مدح به النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوله: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر وقصته مع زوجته حين وقع على أمته مشهورة، وذلك أنّه مشى ليلة إلى أمة له فنالها، وفطنت له امرأته فلامته، فجحدها وكانت قد رأت جماعه لها- فقالت له: إن كنت صادقا.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 فاقرأ القرآن؛ فالجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت بأنّ وعد الله حقّ ... وأنّ النار مثوى الكافرينا وأنّ العرش فوق الماء حقّ ... وفوق العرش ربّ العالمينا وتحمله ملائكة غلاظ ... ملائكة الإله مسوّمينا فقالت امرأته: صدق الله، وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن ولا تقرؤه) . قال الحافظ ابن عبد البر في «الإستيعاب» : (ورويناها من وجوه صحاح) وذكر أصل هذه القصة أيضا الإمام أبو زكريا النّوويّ في «شرح المهذّب» احتجاجا على حرمة القراءة على الجنب، على ضعف في إسنادها وانقطاع. وذكرها خاتمة المحققين بمصر القاهرة: العلامة الأمير، وزاد في آخرها: (فأتى ابن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدّثه، فضحك ولم يعيّره، وقال: أخرج ذلك ابن عساكر عن عبد العزيز بن أخي الماجشون بلاغا عن ابن رواحة. قال: وأخرج أيضا عن عكرمة مولى ابن عباس: أنّ عبد الله بن رواحة كان مضطجعا إلى جنب امرأته، فخرج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 الحجرة، فواقع جارية له، فاستيقظت المرأة ولم تره، فخرجت فإذا هو على بطن الجارية، فرجعت فأخذت الشّفرة، وجاءت، فقال: مهيم؛ مهيم، فقالت مهيم؟ أما إنّي لو وجدتك حيث كنت.. لوجأتك بها، قال: وأين كنت؟ قالت: على بطن الجارية، قال: ما كنت، قالت: بلى، قال: فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، قالت اقرأه، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أنّ ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع فقالت: أما إذ قرأت القرآن.. فإنّي أتهم ظنّي وأصدقك، قال ابن رواحة: فغدوت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فضحك حتى بدت نواجذه، حتى ردّ يده على فيه، وقال: «إنّ خياركم خيركم لنسائه، لقد وجدتها ذات فقه في الدين» ) . وهذا الحديث مشهور بين علماء الحديث، وقوله: (مهيم) كلمة استفهام؛ أي: ما حالك وشأنك؟ أو ما وراءك؟ أو أحدث لك شيء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 فإن قلت: كيف يصح لابن رواحة أن يقرأ الأبيات جوابا لقول امرأته: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن؟ وكيف يقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؟ قلت: أجاب العلّامة الأمير في رسالة له صغيرة الحجم، جمة العلم، جعلها ردا على من يقول بكفر اللاحن في القرآن: بأنّ ابن رواحة رضي الله عنه لم يقل: هذا قرآن، وإنّما عدل إلى شيء آخر غير ما أمرت به زوجته، وليس امتثال أمرها واجبا عليه، ولا توهّمها هي في نفسها أنّ هذا قرآن بملحق به إثما، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «هذا لعمري من معاريض الكلام» يعني والله أعلم-: أنّه مال إلى عرض وجانب آخر، غير ما يريده المخاطب، والله أعلم بحقيقة الحال. قال سيدنا حسّان- رضي الله عنه- يبكي جعفرا وصاحبيه: تأوّبني ليل بيثرب أعسر ... وهمّ إذا ما نوّم الناس مسهر لذكرى حبيب هيّجت ثمّ عبرة ... سفوحا وأسباب البكاء التذكر بلاء وفقدان الحبيب بليّة ... وكم من كريم يبتلى ثمّ يصبر رأيت خيار المؤمنين تواردوا ... شعوب وقد خلّفت فيمن يؤخّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 فلا يبعدنّ الله قتلى تتابعوا ... بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر وزيد وعبد الله حين تتابعوا ... جميعا وأسباب المنيّة تخطر غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم ... إلى الموت ميمون النّقيبة أزهر أغرّ كلون البدر من آل هاشم ... أبيّ إذا سيم الظّلامة مجسر فطاعن حتى مات غير موسّد ... بمعترك فيه القنا يتكسّر فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان وملتفّ الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمّد ... وفاء وأمرا حازما حين يأمر فما زال في الإسلام في آل هاشم ... دعائم عزّ لا ترام ومفخر هم جبل الإسلام والناس حوله ... رضام إلى طود يروق ويقهر بهم تكشف الّلأواء في كل مأزق ... عماس إذا ما ضاق بالقوم مصدر هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهّر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 بهاليل منهم جعفر وابن أمّه ... عليّ ومنهم أحمد المتخيّر وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر قلت: ومناقب هؤلاء الأمراء الأفذاذ- رضوان الله عليهم- مشهورة، وهي فوق ما ذكرنا. ولنختم الكلام على ترجمتهم بحديث فيه فضيلة عظيمة لهم، ذكره الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير عن الإمام الحافظ أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرّازي نضّر الله وجهه، في كتابه «دلائل النبوة» وهو كتاب جليل. قال: (حدّثنا صفوان بن صالح الدمشقيّ، حدّثنا الوليد، حدّثنا ابن جابر. وحدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدّثنا الوليد وعمرو، - يعني ابن عبد الواحد- قالا: حدّثنا ابن جابر، سمعت سليم بن عامر الخبائريّ يقول: أخبرني أبو أمامة الباهلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينا أنا نائم، إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلا وعرا، فقالا: اصعد، فقلت: لا أطيقه، فقالا: إنّا سنسهله لك، قال: فصعدت، حتى إذا كنت في سواء الجبل.. إذا أنّا بأصوات شديدة، فقلت: ما هؤلاء الأصوات؟ فقالا: عواء أهل النّار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 ثمّ انطلقا بي، فإذا بقوم معلّقين بعراقيبهم مشققة، تسيل أشداقهم دما، فقلت: ما هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلّة صومهم. فقال: خابت اليهود والنصارى، قال سليم: سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم من رأيه؟! ثمّ انطلقا بي، فإذا قوم أشدّ شيء انتفاخا، وأنتن شيء ريحا، كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء قتلى الكفار، ثمّ انطلقا بي فإذا بقوم أشدّ انتفاخا وأنتن شيء ريحا، كأنّ ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الزّانون والزواني. ثمّ انطلقا بي فإذا بنساء ينهشن ثديّهنّ الحيات، فقلت: ما بال هؤلاء؟ قالا: هؤلاء اللاتي يمنعن أولادهنّ ألبانهن «1» . ثم انطلقا بي، فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين، قلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء ذراريّ المؤمنين، ثم أشرفا بي شرفا، فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟ قالا: هذا جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، ثمّ أشرفا بي شرفا آخر، فإذا أنا بنفر   (1) فليعتبر نساء هذا العصر اللاتي يمنعن أطفالهنّ ألبان ثديهنّ، ويعمدن إلى القوارير المصطنعة لذلك، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم. اللهمّ؛ اهد عبادك للخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 ثلاثة، فقلت: من هؤلاء؟ قالا: هذا إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وهم ينتظرونك» ) . (27) غزوة الفتح الأعظم فتح مكة زادها الله شرفا، وأهلها إنافة وكرما وتسمى فتح الفتوح؛ لأنّ العرب كانت تنتظر بإسلامها إسلام قريش، وتقول: هم أهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فإن غلبوا.. فلا طاقة لأحد بمحمّد، فلمّا فتح الله مكة.. دخلوا في دين الله أفواجا، بعد أن كانوا يدخلون فيه فرادى، ولم يقم بعده للشرك قائمة. ولذلك قال العلّامة ابن القيّم في «زاد المعاد في هدي خير العباد» : (إنّه الفتح الأعظم، الذي أعزّ الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته، الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزّه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا) اهـ تاريخ هذه الغزوة وسببها: وكان تاريخ هذه الغزوة في السنة الثّامنة من الهجرة، في شهر رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 ثمّ إلى الفتح الخزاعيّ ذمر ... عشرة آلاف فعزّ وانتصر وسببها: ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أرباب السير، من نقض قريش للعهد الذي وقع بالحديبية. وخلاصة ذلك: أنّه كان بين بني بكر- وقد دخلت في عقد قريش- وبين خزاعة- وقد دخلت في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم- عداوة وحروب في الجاهلية، فلمّا ظهر الإسلام.. تشاغلوا عن ذلك حتى كانت هدنة الحديبية، فخرج نوفل بن معاوية الدّيلي، من بني بكر في بني الدّيل، حتى بيّت خزاعة- أي: جاءهم ليلا على ماء لهم، يقال له: الوتير، بناحية عرنة- فأصاب منهم رجلا، ولمّا علمت بهم خزاعة.. اقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم، ولم يتركوا القتال، وأمدّت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعض من قريش معهم ليلا في خفية. قدوم عمرو بن سالم الخزاعي على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ولمّا انتهى القتال خرج عمرو بن سالم الخزاعيّ في أربعين راكبا من خزاعة.. فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم، ويستنصرونه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي» وإلى هذا أشار الناظم بقوله: (ثمّ إلى الفتح) لأم القرى عمرو بن سالم (الخزاعي ذمر) بوزن نصر؛ أي: حضّ وحثّ (عشرة آلاف) من المسلمين (فعزّ) أي: غلب الخزاعيّ (وانتصر) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وهو الّذي تهلّلت لنصره ... سحابة ومن بليغ شعره يا ربّ إنّي ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا فإنّه صلى الله عليه وسلم أجابه بقوله: «نصرت يا عمرو بن سالم» . وخرج بذلك العدد لقتال قريش لمّا علم أنّهم نقضوا العهد الذي كان أبرم يوم الحديبية بقتال حلفائه خزاعة، وتقدم أنّ خزاعة كانت عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام (وهو) أي: الخزاعيّ (الذي تهلّلت) : تلألأت (لنصره سحابة) وهي: قطعة من الغيم، وقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب» يعني خزاعة، وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم وأصحابه: «ارجعوا وتفرّقوا في الأودية» فرجعوا وتفرّقوا؛ فذهبت فرقة إلى الساحل، وفرقة لزمت الطريق، وقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إخفاء أمر مجيئهم. (ومن بليغ شعره) أي: ومن شعر الخزاعيّ البليغ الذي يذكر فيه الحلف القديم، ونقض بني بكر للعهد، وتعدّيهم عليهم، وحثّ المسلمين على قتالهم وغير ذلك.. قوله وقد دخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ربّ إنّي ناشد) طالب (محمّدا) صلى الله عليه وسلم (حلف أبينا وأبيه) يريد عبد المطلب (الأتلدا) أي: الحلف القديم الذي بيننا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وذلك: أنّ خزاعة كانت حلفاء عبد المطلب بن هاشم، ناصروه على عمه نوفل بن عبد مناف؛ فإنّ المطلب لمّا مات.. وثب نوفل على أفنية كانت لعبد المطّلب، واغتصبه إياها، فاستنهض لردّها همم قومه، واستدرّ عطفهم، فلم ينهض معه أحد منهم، وأبوا أن يدخلوا بين عبد المطّلب وبين عمه نوفل، فكتب إلى أخواله بني النجار، فجاء منهم سبعون راكبا، فقالوا لنوفل: وربّ البنيّة؛ لتردّنّ على ابن أختنا ما أخذت، وإلّا.. ملأنا منك السيف، فردّه، ثمّ حالف خزاعة بعد أن حالف نوفل بني أخيه عبد شمس، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم بهذا الحلف؛ فإنّهم وقفوه على كتاب عبد المطّلب، وهو مذكور بنصه في «السيرة الحلبية» للعلّامة ابن برهان الحلبي، ولأجل ذلك ذكّره الخزاعيّ بقوله: (حلف أبينا وأبيه الأتلدا) وهذا البيت ضمنه الناظم من أبيات للخزاعيّ، وهي: قد كنتم ولدا وكنّا والدا «1» ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا «2»   (1) ولدا الأول يضبط بضم الواو في الولد، وبفتح الواو بعدها ألف في قوله: (وكنا والدا) قال السهيلي: (يريد أنّ بني عبد مناف أمهم من خزاعة، وكذلك قصي أمه فاطمة بنت سعد الخزاعية) والولد بمعنى الولد. (2) قوله: (ثمت أسلمنا) هو من السلم؛ لأنّهم لم يكونوا آمنوا بعد، غير أنّ قوله: (ركعا وسجدا) يدل على أنّه كان فيهم من صلّى لله، فقتل. من «الروضة» . وأراد بقوله: (ولم ننزع يدا) أي: لم نخرج يدا عن طاعتك، ولم ينتقض ما بيننا من الحلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 فانصر هداك الله نصرا أيّدا «1» ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... أبيض مثل السّيف يسمو صعدا إن سيم «2» خسفا وجهه تربّدا ... في فيلق «3» كالبحر يجري مزبدا إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا وجعلوا لي في كداء «4» رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا «5» وهم أذلّ وأقلّ عددا ... هم بيّتونا بالوتير هجّدا وقتلونا ركّعا وسجّدا   (1) وفي رواية: (نصرا أعتدا) بضم الهمزة، وسكون المهملة، وكسر الفوقية؛ أي: أحضر، وهو من الشيء العتيد، وهو المهيّأ الحاضر، وضبط بهمز الوصل مع فتح الفوقية؛ أي: نصرا تاما متعديا إلينا. (2) أي: إن قصد بذلّ له أو لأحد من أهل عهده.. تربد وجهه وتغير؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم لا يرضى الضيم والنقص. اهـ (3) الفيلق بتقديم الياء على اللام كالجحفل: الجيش العظيم، وجمعه فيالق. (4) بفتح الكاف والمد: اسم لأعلى مكة بالحجون. (5) قال العلّامة الأشخر في «شرح البهجة» : (أشار بقوله: «لست أدعو» أي: أعبد أحدا.. إلى قول نوفل بن معاوية الديلي حيث قال له بنو بكر: يا نوفل؛ إنّا دخلنا الحرم؛ أي: وقتلنا خزاعة فيه، إلهك إلهك؛ أي: خف منه، فقال: إنّه لا إله له اليوم، أصيبوا آثاركم فيه) ذكره البغوي. وقوله: (هجّدا) جمع هاجد، بمعنى نائم. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 لدعوة النّبيّ أخّر الخبر ... عن مكّة فلم يورّ بل جهر (لدعوة) أي: لأجل دعاء (النّبيّ) صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: «اللهمّ؛ خذ العيون والأخبار عن قريش؛ حتى نبغتها في بلادها» وفي رواية: «خذ على أسماعهم وأبصارهم، فلا يرونا إلّا بغتة، ولا يسمعون بنا إلّا فجأة» (أخّر الخبر) بالبناء للمفعول: أي: أخّر الله تعالى خبر خروجه صلى الله عليه وسلم (عن) أهل (مكة) وهذا يقتضي أنّه صدر منه صلى الله عليه وسلم الخبر بقصد الغزو، إلّا أنّ هذا الخبر لم يصل إلى العدوّ، ولذا قال الناظم: (فلم يورّ) من التّورية: إذا أظهر شيئا وأراد غيره، بل لمّا أعلم أصحابه بالمسير إلى مكة.. أمرهم بالتجهيز والجدّ في الأمر، وكان من هديه عليه السّلام في غزوه: أنّه كان إذا أراد غزوا.. ورّى فيه، إلّا هذه وتبوك؛ لحكمة علمها صلى الله عليه وسلم، وساس الناس بها، فكان القدوة الحسنة، والمثل الأعلى لمن بعده (بل جهر) صلى الله عليه وسلم بذلك وأمر أهله أن يجهّزوه، ودخل أبو بكر على ابنته وهي تغربل حنطة، وتصنع في جهاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنيّة؛ أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه؟ قالت: نعم، فتجهّز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري؛ أي: أنّها لا تعلم وجهة قصده للغزو، وهذا كان في أول الأمر، ثمّ بعد ذلك أعلم الناس، وأعلن بالوجه الذي يريده، وهو قريش بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 بعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم ضمرة إلى قريش إعذارا لها: ولمّا قدم ركب خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه خبرهم.. قال عليه الصّلاة والسّلام: «فمن تهمتكم وظنتكم؟» قالوا: بني بكر، قال: «أكلها؟» قالوا: لا، ولكن بنو نفاثة، ورأسهم نوفل، قال: «هذا بطن من بني بكر- يعني بني نفاثة- وأنا باعث إلى أهل مكة، فسائلهم عن هذا الأمر، ومخيّرهم في خصال ثلاث» فبعث إليهم ضمرة، يخيرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرؤوا من حلف بني نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم ضمرة فأخبرهم، فقال قرطة بن عمرو: لا ندي، ولا نبرأ، لكنّا ننبذ إليه على سواء، فرجع بذلك، فندمت قريش على ما ردّوا، وبعثت أبا سفيان. قلت: روى هذا ابن عائذ عن ابن عمر، ونقله في «شرح المواهب» وقد استحسنت ذكر هذا الخبر هنا، عقب قدوم وفد خزاعة؛ لبيان أنّه عليه الصّلاة والسّلام لم يفاجئ قريشا على غرة حتى تثبت في الأمر، وسأل الركب عمّن كانوا يتّهمون، ولمّا علم من خبر الوفد أنّ تهمتهم كانت على بني نفاثة.. قال عليه الصّلاة والسّلام: «هذا بطن من بني بكر» يريد- والله أعلم- أنّ من الممكن أن تكون هذه الشّرذمة، أو هذا البطن من بني بكر، عصت على عصبتها الكبيرة وشذّت عنها، وأنّ قريشا بمكة لم تدخل في هذا الأمر، ولم ترض به، فهي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 وخاب صخر إذ أتى يرأب ما ... أثاه غدر قومه فانفصما العهد مقيمة، فلذلك بعث عليه الصّلاة والسّلام ضمرة إلى قريش يسألهم عن هذا الأمر؛ ليزداد الموقف وضوحا، ولما لم يبق مجال للشكّ في أنّ القوم قد قاموا بما يوجب نقض العهد الذي أبرم أمس.. خيّرهم بين أمور ثلاثة، فكان عليه الصّلاة والسّلام قد أنذر وأعذر، وقام بالعهد المبرم. بعث قريش أبا سفيان إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ولمّا ردّت قريش ضمرة لذلك: على أن لا يدوا، ولا يبرؤوا، ولكنهم ينبذون على سواء.. ندمت على ذلك، فبعثت أبا سفيان إلى المدينة يسأله صلى الله عليه وسلم أن يجدّد العهد ويزيد في المدّة، فلم يردّ عليه شيئا، ورجع لمكة، ولم يأت بنجح، كما قال الناظم: (وخاب) أبو سفيان (صخر) بن حرب ولم يظفر بمطلوبه، وكان هو سيد قريش، والمقدّم فيها بعد أبي جهل (إذ أتى) وقدم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة (يرأب) أي: يصلح (ما) أي: الأمر الذي (أثآه) يقال: رأب الثأي: أصلح الفساد، وأثأى في القوم: أي: جرح فيهم، وأثأى الشيء أي: أفسده (غدر) بفتح الغين المعجمة؛ أي: ترك وفاء (قومه) قريش بإعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء المسلمين، ودخول بعض من قريش في ميدان القتال خفية ليلا، وظهور ذلك ظهور نار القرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 ولمّا دخل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها.. ذهب ليجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم، فطوته عنه، فقال: ما أدري: أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قال: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحبّ أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم. قال: والله؛ لقد أصابك يا بنيّة بعدي شرّ، فقالت: بل هداني الله للإسلام، فأنت يا أبت سيّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر؟ فقام من عندها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فكلمه أن يجدّد العهد ويزيد في المدّة، فلم يرد عليه شيئا. قال في «شرح المواهب» : (وعند الواقديّ: فقال: يا محمّد؛ إنّي كنت غائبا في صلح الحديبية، فأجدد العهد، وزدنا في المدة، فقال صلى الله عليه وسلم: «فلذلك جئت؟» قال: نعم، فقال: «هل كان من حدث؟» فقال: معاذ الله! نحن على عهدنا وصلحنا، لا نغيّر ولا نبدّل، فقال صلى الله عليه وسلم: «فنحن على ذلك» فأعاد أبو سفيان القول، فلم يرد عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر، فكلّمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، فأتى عمر، فقال: أأنا أشفع لكم؟ والله؛ لو لم أجد إلّا الذّرّ لجاهدتكم به، ثمّ دخل على عليّ وعنده فاطمة، وحسن غلام يدب بين يديها، فقال: يا عليّ؛ إنّك أمسّ القوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 بي رحما، وإنّي جئت في حاجة، فلا أرجع كما جئت خائبا، فاشفع لي، فقال علي: ويحك يا أبا سفيان! والله؛ لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا بنت محمّد؛ هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله؛ ما بلغ بنيّ أن يجير بين الناس، وما كان يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال لعليّ: يا أبا حسن؛ إنّي أرى الأمور وقد اشتدّت عليّ فانصحني، قال: والله؛ ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثمّ الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيّها الناس؛ قد أجرت بين الناس، ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ثمّ ركب بعيره وانطلق ولم يأت بظفر، كما قال: (فانفصما «1» ) أي: انقطع وانكسر أبو سفيان. ما كان من هند لزوجها أبي سفيان: ولمّا قدم مكة لذلك، وقد طالت غيبته حتى رمته قريش بأشد التهمة، وقالوا: صبأ واتبع محمّدا سرّا.. دخل على امرأته هند بنت عتبة ليلا فقالت له: لقد غبت حتى اتهمك قومك، فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح.. فأنت   (1) الألف للإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 الرجل، ثمّ جلس منها مجلس الرجل من امرأته فقالت: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر، وقال: لم أجد إلّا ما قال لي عليّ، فضربت برجلها في صدره، وقالت: قبّحت من رسول قوم! فما جئت بخير. قال في «شرح المواهب» : (فلمّا أصبح.. حلق رأسه عند إساف ونائلة، وذبح لهما، ومسح بالدم رؤوسهما، وقال: لا أفارق عبادتكما حتى أموت؛ إبراء لقريش ممّا اتهموه به، فقالوا له: ما وراءك؟ هل جئت بكتاب من محمّد، أو زيادة في مدة ما نأمن به أن يغزونا؟ فقال: والله؛ لقد أبى عليّ، ثمّ جئت أبا بكر، فلم أجد فيه خيرا، ثمّ جئت ابن الخطّاب فوجدته أدنى العدّو، - وفي لفظ: أعدى العدو- وكلّمت عليه أصحابه، فما قدرت على شيء منهم إلّا أنّهم يرمونني بكلمة واحدة، وما رأيت قوما يوما أطوع لملك عليهم منهم له، إلّا أنّ عليا لمّا ضاقت بي الأمور.. قال: أنت سيد بني كنانة، فأجر بين الناس، فناديت بالجوار، قالوا: هل أجاز ذلك محمّد؟ قال: لا، قالوا: رضيت بغير رضا، وجئتنا بما لا يغني عنّا ولا عنك شيئا ولعمر الله؛ إن زاد عليّ على أن بجائز، وإنّ إخفارك عليهم لهين، والله؛ إن زاد عليّ على أن تلعب بك تلعبا، فقال: والله؛ ما وجدت غير ذلك، وتركتهم فيما بينهم يتشاورون) . كتاب حاطب بن أبي بلتعة لقريش: ولمّا أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 وحاطب إبن أبي بلتعة ... أرسل إذ زحوفه شرعت مكة.. كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، كما أشار له الناظم بقوله: (وحاطب) «1» بالتنوين لضرورة النظم (إبن) عمرو بن عمير اللخميّ (أبي بلتعة) بموحدة مفتوحة، ولام ساكنة، ففوقية، فعين مهملة مفتوحتين (أرسل إذ زحوفه) أي:   (1) يكنى بأبي محمّد، أو بأبي عبد الله، قال النووي: (قيل: كان لعبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد، فكاتبه، فأدّى كتابته، شهد بدرا، والحديبية، وشهد الله له بالإيمان في القرآن، وأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب الإسكندرية سنة ست من الهجرة، فقال له المقوقس: أخبرني عن صاحبك، أليس هو نبيا؟ قال: بلى، قال: فما له لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلدته؟ قال له حاطب: فعيسى ابن مريم رسول الله حين أراد قومه صلبه لم يدع عليهم حتى رفعه الله! قال له: أحسنت، أنت حكيم، جئت من عند حكيم، وبعث معه هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها مارية أم إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وسيرين أم عبد الرّحمن بن حسان، وأخرى أعطاها لأبي جهم بن حذيفة، وأرسل مع حاطب من يوصله مأمنه. روى مسلم في «صحيحه» : أنّ عبدا لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا، فقال: يا رسول الله؛ ليدخلنّ حاطبا النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت، لا يدخلها: فإنّه شهد بدرا» وكان حاطب حسن الجسم، خفيف اللحية، ذكره ابن سعد، توفي سنة ثلاثين بالمدينة، وصلّى عليه عثمان رضي الله عنه، وعمره خمس وستون سنة. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 إلى قريش رقعة مع مره ... فأودعتها قرنها تلك المره فأخبر الهادي بها فأرسلا ... من جاءه كرها بها وامتثلا جيشه صلى الله عليه وسلم (شرعت) بتاء التأنيث المكسورة للرويّ، وقوله: (إلى) كبار (قريش) وهم: سهيل، وصفوان، وعكرمة، وقد أسلموا بعد، رضي الله عنهم، وهو يتعلق ب (أرسل) أي: أرسل حاطب إلى قريش بمكة إذ ذاك (رقعة) بالضم، واحدة الرّقاع: التي تكتب (مع) بفتح الميم والعين في مع (مرة) بتثليث الميم وفتح الراء المخففة: لغة في امرأة، استأجرها بدينار أو عشرة دنانير، واسمها سارة بنت صيفيّ بن أبي صيفيّ بن هاشم، كانت مغنيّة أهل مكة، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله، فقال صلى الله عليه وسلم: «أجئت مهاجرة؟» قالت: لا، قال: «فما جئت له؟» قالت: أنتم الأهل ولا مواسي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان في غنائك ما يغنيك؟» قالت: إنّ قريشا منذ قتل منهم من قتل ببدر تركوا الغناء، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة وثيابا، ولمّا ناولها حاطب الرقعة.. قال لها: أخفيها ما استطعت، ولا تمرّي على الطريق؛ فإن عليه حرسا، فأخذت الرقعة (فأودعتها قرنها) بفتح القاف وسكون الراء: ذؤابتها (تلك المرة) . وأطلع الله على ذلك نبيه عليه الصّلاة والسّلام، وجاءه الخبر من السماء، كما قال الناظم: (فأخبر الهادي بها) أي: بالمرأة وخبرها لمّا جاء الوحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 بذلك (فأرسلا) بألف الإطلاق، كالألف في قوله بعد: (وامتثلا) ، (من جاءه كرها) أي: من المرأة، ويتعلق بقوله: (جاءه) قوله: (بها) والذي جاءه بها عليّ، والزّبير، والمقداد، كما أخرجه الشيخان من طريق عبيد الله بن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، والزّبير، والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ «1» على بريد من المدينة؛ فإنّ بها ظعينة «2» معها كتاب، فخذوه منها» (وامتثلا) أمره صلى الله عليه وسلم. قال عليّ- في تمام الحديث المذكور-: فذهبنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، قلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، فأخرجته من عقاصها «3» ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكّة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا حاطب؟» قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله: إنّي كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من   (1) بخائين معجمتين، على الصواب الذي ذكره النووي عن كافة العلماء. (2) بفتح الظاء المعجمة، وكسر العين المهملة، هي: المرأة في الهودج. (3) الشعر المضفور، أو الخيط الذي تعقص به أطراف الذوائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أما إنّه قد صدقكم» فقال عمر: دعني «1» يا رسول الله فلأضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنّه شهد بدرا، وما يدريك لعلّ الله عزّ وجلّ اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم؟!» قال عمرو- يعني ابن دينار، أحد رواة الحديث-: ونزلت فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. قال السّهيلي في «الروض» : (زاد البخاريّ في بعض روايات الحديث فقال: «فاغرورقت عينا عمر رضي الله عنه،   (1) إنّما قال ذلك عمر، مع تصديقه صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عنده من القوة في الدين، والبغض لمن ينسب لنفاق، وظن أنّ من خالف أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم استحقّ القتل، لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه اسم منافق؛ لكونه أبطن خلاف ما أظهر، ولم يرد عمر أنّه أظهر الإسلام، وأبطن الكفر. وعذر حاطب: هو ما ذكره من خوفه على أهله بمكة، بأنّه فعل ذلك متأوّلا أن لا ضرر فيه. اهـ من «الفتح» بزيادة توضيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وقال: الله ورسوله أعلم» يعني: حين سمعه يقول في أهل بدر ما قال. وفي «مسند الحارث» : أنّ حاطبا قال: يا رسول الله؛ كنت عريرا في قريش، وكانت امي بين ظهرانيهم، فأردت أن يحفظوني فيها، أو نحو هذا. ثمّ فسّر العزيز، وقال: هو الغريب. وقد قيل: كان في الكتاب الذي كتبه حاطب: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله؛ لو سار إليكم وحده.. لنصره الله عليكم؛ فإنّه منجز له ما وعده. وفي «تفسير ابن سلّام» : أنّه كان في الكتاب الذي كتبه حاطب: أنّ النّبيّ محمّدا قد نفر: إمّا إليكم، وإمّا إلى غيركم، فعليكم الحذر) . فائدة: ذكر في «روض النّهاة» : (أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا أرسل القوم إلى المرأة.. زوّدهم ماء، فلمّا حلوا السّقاء ليشربوا.. وجدوه لبنا أطيب ما يكون، ووجدوا على فم السقاء زبدا أطيب ما يكون) . وقال في «قرّة الأبصار» في ضمن ذكر معجزاته صلى الله عليه وسلم التي ذكرها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وللنّبيّ عرض ابن عمّته ... ونجل عمّه عزيز فئته والماء قد زودت قوما رفدا ... فعاد أيضا لبنا وزبدا ولكنه لم يعين القوم. قصة عبد الله بن أبي أمية وإعراض الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه: ثمّ أراد الناظم أن يذكر بعض من خرج من مكة، ووافى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق متوجّها إلى مكة، فأعرض عليه الصّلاة والسّلام عنه في أول الأمر؛ تأديبا له، فقال: (وللنّبيّ عرض) أي: ظهر له بين السّقيا والعرج، عبد الله بن أبي أميّة القرشيّ المخزوميّ «1» (ابن عمّته) صلى الله عليه وسلم، عاتكة بنت عبد المطلب.   (1) هو صهر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخو أم سلمة لأبيها؛ لأنّها بنت أبي أميّة، ووالدتها عاتكة بنت جندل الطعان، وكان لأميّة بن المغيرة زوجتان، كل منها تسمى عاتكة، شهد الفتح وحنينا، واستشهد بالطائف، واسم أبي أميّة: حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي، المخزومي، ويقال له: زاد الراكب؛ لأنّه إذا سافر معه أحد.. كان زاده عليه، وكان عبد الله هذا وأبو سفيان بن الحارث شديدي الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة بمكة، وبعد الهجرة، ولكن احتضنتهما السعادة، جعلنا الله ممّن سبقت له العناية، وكتبت له السعادة: ربّ شخص تقوده الأقدار ... للمعالي وما لذاك اختيار غافلا والسعادة احتضنته ... وهو منها مستوحش نفار قال ابن عبد البر: (إنّه رمي يوم الطائف بسهم فقتله، ومات يومئذ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 قصة أبي سفيان بن الحارث وإعراض الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه: (و) عرض أيضا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب «1» (نجل) أي: ابن (عمّه)   (1) اسمه كنيته، أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّضاعة، أرضعتهما حليمة السعدية وتقدم أنّ أبا سفيان هذا كان من الذين يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم إسلامه أدخل على الرسول الأعظم الفرح الكبير، حتى شهد له بالجنة، وكان يقول: «أرجو أن يكون خلفا من حمزة» شهد من المشاهد حنينا، وله فيها الذكر الحسن؛ فقد ثبت فيها مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبلى بلاء حسنا، أخرج مسلم من طريق كثير بن العباس بن عبد المطلب عن ابنه قصة حنين قال: (فطفق النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفار، وأنا آخذ بلجامها أكفها، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، فقال: «يا عباس؛ ناد أصحاب الشجرة» ) اهـ ويقال: إنّه لم يرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إجلالا له، وحياء منه، وكان شاعرا مطبوعا حلو الشعر، أنشد في إسلامه واعتذاره: لعمرك إنّي يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمّد لكا لمظلم الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلّني ... على الله من طردت كل مطرد أصد وأنأى جاهدا عن محمّد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمّد ذكر ابن إسحاق: أنّ أبا سفيان بكى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورثاه بقوله: أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول فأسعدني البكاء وذاك ممّا ... أصيب المسلمون به قليل - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وعنهما أعرض جرّا مأثمه ... فاستشفعا له بأمّ سلمه الحارث، أخي عبد الله، والد النّبيّ صلى الله عليه وسلم (عزيز) بالجر صفة للعم (فئته) أي: طائفته قريش، ويجمع على: فئون، كما في «المختار» . ولما عرضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان الإسلام.. أعرض عنهما؛ لأنّهما كانا من أكبر القائمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشدّ الناس أذى له. شفاعة أم سلمة فيهما: وإلى هذا يشير بقوله: (وعنهما أعرض) وصدّ؛ لأنّهما (جرّا) على أنفسهما (مأثمة) أي: إثما بذلك الأذى والهجو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والهاء للسكت؛ إذ وبال ذلك راجع إليهما، (فاستشفعا) أي: طلبا الشفاعة (له)   روى الحاكم عن عروة مرفوعا: «أبو سفيان بن الحارث. سيد فتيان أهل الجنة، قال: أي: عروة «حلقه الحلاق بمنى، وفي رأسه ثؤلول فقطعه، فمات، قال فيرون أنّه مات شهيدا» . وعن عمر بن شبة في «أخبار المدينة» عن عبد العزيز بن عمران قال: (بلغني أنّ عقيل بن أبي طالب رأى أبا سفيان يجول بين المقابر، فقال: يابن عمي؛ ما لي أراك هنا؟ قال: أطلب موضع قبري، فأدخله داره وأمره بأن يحفر في قاعها قبرا، ففعل، فقعد عليه أبو سفيان ساعة ثمّ انصرف، فلم يلبث إلّا يومين حتى مات، فدفن فيه، يقال: إنّه مات سنة خمس عشرة، فصلّى عليه عمر) اهـ من «الإصابة» . وذكر النووي في «شرح مسلم» أنّه قال عند موته: لا تبكوا عليّ؛ فإنّي لم أشطف- أي: أتلطخ- بخطيئة منذ أسلمت. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 أي: عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليقبلهما (بأم سلمة) أم المؤمنين رضي الله عنها، فكلمته أم سلمة، فقالت: يا رسول الله؛ ابن عمك، وابن عمتك وصهرك، قال: «لا حاجة لي بهما؛ أمّا ابن عمي.. فهتك عرضي، وأمّا ابن عمّتي وصهري.. فهو الذي قال لي بمكة ما قال» يعني قوله: والله؛ لا آمنت بك حتى تتّخذ سلّما إلى السماء، فتعرج فيه وأنا أنظر، ثمّ تأتي بصكّ وأربعة من الملائكة، يشهدون أنّ الله أرسلك، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. وقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه لأبي سفيان فيما حكاه أبو عمر: (ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ فإنّه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ) . خروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة بجيشه: هذا: ولمّا رجع أبو سفيان إلى مكة ولم ينل مطلوبه، وقبل عليه الصّلاة والسّلام عذر حاطب في كتابه لأهل مكة.. خرج قاصدا مكة لعشر مضين من رمضان بعد العصر سنة ثمان، وهو صائم والناس معه صيام، ولمّا بلغ الكديد- ماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 وأقبلت جنود صفوة الأمم ... أمامه حتّى انتهوا إلى الحرم بين قديد وعسفان- أفطر؛ وذلك بعد أن استخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين بن عتبة الغفاريّ، على الصحيح الذي رواه ابن إسحاق وغيره. وأشار الناظم إلى مسيره إلى مكة تتقدمه جنود الله وعسكر الإسلام، حتى وصل إلى بيت الله الحرام بقوله: (وأقبلت جنود) جمع جند، هو: العسكر والأعوان (صفوة) مثلث الأول، ككلّ ما كان على هذا الوزن واويّ اللام. والمراد بصفوة (الأمم) : رسول الله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وصفه بالصفوة وليست من أسمائه المشهورة؛ لأنّ الله تعالى اصطفى العرب من الناس، واصطفى قريشا من العرب، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، فمن ثمّ كان الصفوة، والصفوة: خلاصة الشيء، فهو خلاصة الشرف، بل والكمالات كلها (أمامه) صلى الله عليه وسلم. قال في «الإمتاع» : (وكان المهاجرون سبع مئة، ومعهم ثلاث مئة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف، ومعهم خمس مئة فرس، ومزينة ألفا، ومعها مئة فرس، ومئة درع، وأسلم أربع مئة، ومعها ثلاثون فرسا، وجهينة ثمان مئة، ومعها خمسون فرسا، وبنو كعب بن عمرو خمس مئة، وخرج يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 وضربت له هناك قبّه ... أرضى بها الله وأرضى حزبه وأخذوا في السير (حتى انتهوا إلى الحرم) أي: مكة شرفها الله تعالى؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم حرّمها بقوله: «مكة حرام، لا تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار» . (وضربت له هناك) أي: بالحجون من أرض الحرم بمكة (قبة) يستظل «1» بها (أرضى بها الله، وأرضى حزبه) جنده أو قومه الذين هم على رأيه، أو طائفته. قال في «روض النّهاة» : (وكل ذلك محتمل هنا؛ إذ يصح أن يكون أراد قريشا؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم أرضاهم ذلك اليوم بأفعاله الكريمة وأقواله الحميدة. كقوله: «اليوم يوم المرحمة» وقوله: «ما تروني فاعلا بكم؟» قالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا، فأنتم الطّلقاء» ولأنّه صلى الله عليه وسلم لم يسبّ أحدا، ولم يغنم ناطقا ولا صامتا وهو فيما هو فيه من المقدرة، وجهد أصحابه في المعيشة، وقد ردّ المفتاح على أهله قبل من بني عبد الدار. ويصح أن يكون المراد بالحزب الأنصار، وهم قومه الذين   (1) لأنّه عليه الصّلاة والسّلام دخل مكة على الصحيح من أعلاها، ودخل خالد من أسفلها كما سيأتي، قال في «شرح المواهب» : (ولم يزل بالحجون، لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون، وكان أبو رافع ضرب له به قبة من أدم، ومعه أم سلمة وميمونة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 فاحترم الحرم إذ هو الحرم ... محرّم مؤمّن ممّن هجم على رأيه، وأرضاهم أيضا ذلك اليوم بقوله صلى الله عليه وسلم: «المحيا محياكم، والممات مماتكم» وأن يكون المراد به المهاجرين والأنصار؛ لأنّهم جنده. وأرضى المهاجرين أيضا بعفوه عن قريش، وقد شفّع عثمان، وعبد الرّحمن بن عوف منهم، هذا كله على أنّ الضمير في (حزبه) يعود على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحتمل عوده على لفظ الجلالة قال تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ وقد ظهر لقريش اليوم استمرار الغلب عليهم منذ يوم بدر، فأذعنوا وأسلموا. (فاحترم الحرم) أي: مكة، فلم يسفك بها دما (إذ هو) أي: مكة، وذكّر الضمير؛ مراعاة للخبر الذي هو (الحرم) وقوله: (محرّم) خبر بعد خبر، كقوله: (مؤمّن ممّن هجم) «1» وأغار عليه. والآيات في القرآن على تأمينه كثيرة، قال تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.   (1) هجم من باب دخل، يقال: هجم على الشيخ: دخل بغير إذن. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 وقال عليه الصّلاة والسّلام في اليوم الثّاني من يوم الفتح، بعد أن حمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله: «أيّها الناس؛ إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخّص فيها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقولوا له: إنّ الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها الآن كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» . تاريخ أنصاب الحرم: قال العلّامة أبو الوليد محمّد بن عبد الله الأزرقيّ، بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنه: (أوّل من نصب أنصاب الحرم إبراهيم عليه السّلام، يريه ذلك جبريل عليه السّلام، فلمّا كان يوم فتح مكة.. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعيّ، فجدد ما رثّ منها) . وذكر أيضا أبو الوليد بالسند إلى عبيد الله بن عتبة: (أنّ إبراهيم عليه السّلام نصب أنصاب الحرم، يريه جبريل عليه السّلام، ثمّ لم تحرّك حتى كان قصيّ فجدّدها، ثمّ لم تحرك حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عام الفتح تميم بن أسد الخزاعي فجدّدها، ثمّ لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبعث أربعة من قريش، كانوا يتبدّون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وحين حلّ بإزاء الحرم ... أمر أن يوقد كلّ مسلم نارا فأبصر أبو سفيانا ... وكان يرتقبه النّيرانا في بواديها، فجدّدوا أنصاب الحرم، منهم مخرمة بن نوفل، وأبو هود سعيد بن يربوع المخزوميّ، وحويطب بن عبد العزّى، وأزهر بن عبد عوف الزهريّ) . إرهاب قريش بإيقاد عشرة آلاف نار: ثمّ أراد الناظم أن يذكر ما أمرهم به النّبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم حينما قارب مكة؛ ممّا جعل قريشا في رعب منهم، فقال: (وحين حلّ) ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم (بإزاء) أي: بمقابل (الحرم) بموضع يسمى مرّ الظّهران: بفتح الميم، وتشديد الراء، هو المعروف اليوم بوادي فاطمة مسيرة ليلة من مكة على الجمال، وساعة بالسيارة (أمر أن يوقد كل مسلم نارا) لتراها قريش، فترعب من كثرتها، فأوقدوا عشرة آلاف نار (فأبصر أبو سفيانا) بالألف الزائدة لإطلاق القافية قوله: (وكان يرتقبه) أي: النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: يخاف أن يخرج في أصحابه لقتاله، جملة معترضة بين أبصر، ومفعوله الذي هو (النيرانا) أي: فأبصر أبو سفيان هذه النيران الكثيرة حتى قال: ما هذه النيران؟ لكأنّها نيران عرفة، وكانت قد جرت عادتهم بإيقاد النيران الكثيرة ليلة عرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 فارتاع فانسلّ إذن عمّ النّبي ... فالتقيا فجا به عن كثب فزع أبي سفيان من جيش المسلمين: وقد كان أبو سفيان يرتقب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغزوه مع قومه (فارتاع) أي: أصاب أبا سفيان الروع والخوف. قال الشهاب: (ولم يبلغ قريشا مسيره، وهم مغتمّون خائفون من غزوه، فبعثوا أبا سفيان، فقالوا: إن لقيت محمّدا.. فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء- وقد أسلموا كلّهم رضي الله عنهم- حتى أتوا مرّ الظهران، فلمّا رأوا العسكر.. أفزعهم) . قصة إسلام أبي سفيان وما كان من العباس معه: وفي «صحيح الإمام البخاري» : فإذا هم بنيران كأنّها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ والله لكأنّها نيران عرفة، فقال له بديل: نيران بني عمرو (أي: خزاعة) فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقل من ذلك، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركوهم، فأخذوهم، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان؛ أي: انقاد إذ ذاك، وخضع لرسول الله عليه الصّلاة والسّلام (فانسلّ) بتشديد اللام؛ أي: فخرج (إذن) أي: حين رأى تلك النيران، وذلك الجيش العرموم العباس (عمّ النّبيّ) صلى الله عليه وسلم، فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذته الرقّة والشفقة لأهل مكة، حتى جاء الأراك لعلّه يجد بعض الحطّابة، أو ذا الحاجة، يخبر أهل مكة بمكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، قال العباس: فو الله؛ إنّي لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا، قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: أبا حنظلة؟ فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: مالك فداك أبي وأمّي، قال: قلت: والله: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فقال: واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبي وأمّي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك.. ليضربنّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأستأمنه لك، فركب خلفي ورجع صاحباه، وهذا هو المشار إليه بقول الناظم: (فالتقيا) أي: العباس وأبو سفيان (فجا) بالقصر: لغة في (جاء) بالمد؛ أي: فجاء العباس (به) أي: بأبي سفيان وقد أردفه على عجز الدابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (عن كثب) بفتح الكاف والمثلثة؛ أي: عن قرب، وكان كلّما مرّ به العباس على نار من نيران المسلمين.. قالوا: من هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 قال العباس: حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إليّ، فلمّا رأى أبا سفيان على عجز الدابة.. قال: أبو سفيان عدوّ الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثمّ خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله؛ هذا أبو سفيان، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله؛ إنّي قد أجرته، ثمّ جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه، فقلت: والله، لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلمّا أكثر عمر في شأنه.. قلت: مهلا يا عمر، فو الله؛ لو كان من رجال بني عديّ بن كعب.. ما قلت مثل هذا، قال: مهلا يا عباس، فو الله؛ لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلّا أنّي قد عرفت أنّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت.. فأتني به» فذهبت به، فلمّا أصبح.. غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟» قال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك! لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 «ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك! أمّا والله هذه؛ فإنّ في النفس حتى الآن منها شيئا، فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحقّ، فأسلم. قال العباس: قلت يا رسول الله؛ إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا «1» ، قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه.. فهو آمن، ومن دخل المسجد.. فهو آمن» . ثمّ أمر العبّاس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الجبل، عند خطم الجبل؛ حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرّت القبائل على راياتها، كلّما مرّت قبيلة.. قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، قال: ما لي ولسليم، ثمّ تمر به القبيلة فيقول: يا عباس؛ من هؤلاء؟ فأقول مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة.. إلّا سألني عنها، فإذا أخبرته بهم.. قال: ما لي ولبني فلان، حتى مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلّا الحدق من الحديد،   (1) قصد العباس بذلك تثبيت إسلام أبي سفيان؛ لئّلا يدخل عليه شيطان، بأنّه كان متبوعا فأصبح تابعا، ليس له من الأمر شيء، ولذا قال العباس: إنّه رجل يحب الفخر. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 وإنّما قيل لها: الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها، قال: سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! وفي «صحيح البخاريّ» : أنّ كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة ومعه الراية، قال: ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة هي أقل الكتائب «1» - أي: عددا- وأكثرها إجلالا، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع الزّبير، فقال أبو سفيان: والله يا أبا الفضل؛ لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنّها النبوة، قال: فنعم إذن، قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش؛ هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، فقامت إليه زوجه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت «2» الدّسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم! لا تغرنّكم هذه من أنفسكم؛ فإنّه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، قالوا: قاتلك الله،   (1) قال الحافظ اليعمري في «العيون» : (كذا وقع عند جميع الرواة- يعني بلفظ «أقل» - ورواه الحميدي في «كتابه» : «هي أجل الكتائب» وهو الأظهر) . (2) الحميت: الزق، أو وعاء السمن، والأحمس الذي لا خير فيه عنده. اهـ من «روض النهاة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه داره.. فهو آمن، ومن دخل المسجد.. فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. وذكر الطبريّ: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجّه حكيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلى مكة، وقال: من دخل دار حكيم.. فهو آمن، وهي بأسفل مكة، ومن دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، وهي بأعلى مكة، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة. قال ابن إسحاق: (فحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا انتهى إلى ذي طوى.. وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وإنّ رسول الله ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إنّ عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل) اهـ والعثنون: اللحية. وقال في «روض النّهاة» : (إنّ أبا سفيان قال لمّا احتمله العباس إلى قبته، فأصبح عنده، رأى الناس قد ثاروا إلى ظهورهم «1» .. فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل؛ ما للناس؟ أمروا فيّ بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة، فأمره العباس فتوضّأ، ثمّ انطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا دخل به عليه الصّلاة والسّلام في الصّلاة وكبّر،   (1) أي: إلى دوابهم؛ لأنّها كالظهر لهم. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 وزعم ابن قيس ان سيحفدا ... رجالهم خلّته وأنشدا فكبّر الناس بتكبيره، وركع فركعوا، ورفع فرفعوا.. قال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم طاعة قوم، جمعهم من ههنا وههنا، ولا فارس ولا الروم ذوات القرون بأطوع منهم له! ولمّا عرض عليه الإسلام.. قال: كيف أصنع بالعزّى؟ فسمعه عمر من وراء القبة، فقال له: تخرأ عليها! فقال أبو سفيان: ويحك يا عمر! إنّك رجل فاحش، دعني وابن عمي فإياه أكلم. ولمّا قالت هند المقالة السابقة، وقد أخذ الإسلام من قلبه كل مأخذ.. قال لها: والله؛ لتسلمنّ أو لأضربنّ عنقك، فأسلمت قبل انقضاء عدّتها، وبايعت، وأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحهما) . استعداد حماس بن قيس لقتال الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثمّ انهزامه: (وزعم) حماس (بن قيس) بن خالد، بكسر أوله، وتخفيف ثانيه، وآخره مهملة، على ما ضبطه الحافظ في «الإصابة» وذكره في القسم الأول من حرف الحاء وقال: (إنّه الأصح من تسمية ابن عبد البر له خناس بن قيس) . والزعم يطلق على القول الحق، ومنه حديث: «زعم جبريل» وعلى القول الكذب، ومنه قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ويطلق أيضا على القول غير الموثوق به ومنه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 إن يغلبوا اليوم فما لي علّه ... هذا سلاح كامل وألّه نبّئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خير أهل اليمن وحديث الترمذيّ: «بئس مطية الكذب زعموا» فجعله ابن عطية من الثاني، قاله الأبيّ في «شرحه على مسلم» ولعلّ الثاني، أو الثّالث هو المراد هنا؛ أي: كذب في (أن سيحفدا) أي: يخدم (رجالهم) أي: رجال المسلمين (خلّته) بضم الخاء؛ أي: زوجته، أي يأسرهم؛ فيكونوا خولا وخدما لزوجته، ولم تسمّ؛ وذلك أنّه كان يشحذ سلاحه ويصلحه قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له امرأته: لماذا تعدّ سلاحك؟ فيقول: لمحمّد وأصحابه، فتقول: لا أرى محمّدا وأصحابه يقوم لهم شيء، فيقول: أرجو أن أخدمك منهم. (وأنشدا) عند ذلك: (إن يغلبوا) بالبناء للفاعل؛ أي: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (اليوم فما لي) أي: فليس لي (علّة) ولا سبب؛ لأنّ (هذا سلاح كامل وألّه) بفتح الهمزة، وبعدها لام مشددة: جمع ألّ بالفتح أيضا، بمعنى: السلاح العريض، يقول في زعمه: إنّه لم يكن هناك سبب لغلبهم لنا؛ فإنّ لدينا من أسباب النصر ما يكفينا من أداة القتال، وما درى أنّ الله ناصر نبيه والمسلمين لا محالة، مهما كان العدوّ، ومهما كانت المعدّات الحربية، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وشهد المأزق فيه حطما ... رمز (يب) من قومه فانهزما وجاء فاستغلق بابه البتول ... فاستفهمته أين ما كنت تقول ثمّ شهد الخندمة مع صفوان بن أميّة، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فلمّا لقيهم المسلمون من أصحاب خالد.. ناوشوهم شيئا من القتال، فقتل كرز بن جابر الفهري، وحبيش بن خالد الخزاعي- وكانا في خيل خالد فشذا عنه وسلكا طريقا غير طريقه فقتلا- وأصيب من المشركين نحو اثني عشر، ثمّ انهزموا، فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته، ثمّ قال لامرأته: أغلقي عليّ بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فأنشد الأبيات، وإلى هذا أشار بقوله: (وشهد) حماس (المأزق) بوزن مجلس، أصله: المضيق، واستعاره الناظم لموضع القتال، قال في «الصحاح» : (المأزق: المضيق، ومنه سمي موضع الحرب مأزقا) «1» (فيه) أي: في موضع القتال (حطما) بالبناء للمفعول؛ أي: كسر (رمز «يب» ) أي: اثنا عشر (من قومه) المشركين، يرمز إليهم، ويشار بالياء والباء من حروف الجمّل (فانهزما) بألف الإطلاق مع قومه. (وجاء) ابن قيس مبادرا من ساحة القتال إلى داره (فاستغلق) أي: طلب أن تغلق عليه (بابه) بالنصب، معمول لاستغلق (البتول) أي: زوجه البتول، وهو وصف   (1) مادة أزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 فقال والفزع زعفر دمه: ... إنّك لو شهدت يوم الخندمه إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه ... واستقبلتنا بالسّيوف المسلمه مدح، قال في «روض النّهاة» : (ولعلّ هذه المرة أسلمت؛ لوصفه إيّاها به) . (فاستفهمته أين ما كنت تقول) من وعدك أنّك تهزم جماعة محمّد، وتجعل لي منهم خدما وخولا. (فقال) في جواب ذلك (والفزع) أي: والحال أنّ الخوف (زعفر دمه) أي: جعله كلون الزعفران، وإنّما يعتري الإنسان ذلك من أجل شدة الذعر والخوف، والجملة معترضة بين القول ومقوله الذي هو: (إنّك) مخاطبا لامرأته، وهو بكسر الهمزة (لو شهدت يوم الخندمه) اسم جبل بمكة، وقع عنده القتال مع خالد بن الوليد (إذ فرّ صفوان) نجل أميّة (وفرّ عكرمه) بن أبي جهل، ومكانهما في الشجاعة والبسالة بالمقام المعروف، وقد أسلما بعد رضي الله عنهما، وبعد البيت: وأبو يزيد قائم كالمؤتمه ... (واستقبلتنا بالسيوف المسلمه) يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضربا فلا تسمع إلّا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي باللوم أدنى كلمه وأبو يزيد: هو سهيل بن عمرو، وتقدم أنّه أسلم رضي الله عنه، والمؤتمة: المرأة ذات أيتام، والمسلمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 وفاز من لاذ به واسترحمه ... يومئذ إذ هو يوم المرحمه المسلمون، والغمغمة: الأصوات التي لا تفهم من اختلاطها، والنهيت مكبرا: صوت الصدر، والهمهمة: الكلام الخفيّ. *** ثمّ أراد الناظم أن يذكر بعض مظاهر شفقة نبينا نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، بقبول من استجار به في ذلك اليوم مع القدرة عليه، وعظيم ما صدر منه من جناية فقال: (وفاز من لاذ) أي: لجأ (به، واسترحمه) أي: طلب رحمته وعطفه (يومئذ) أي: يوم الفتح لمكة (إذ هو) أي: ذلك اليوم (يوم المرحمة) «1» لقريش، أعزّها الله فيه. واعلم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قد عهد إلى أمرائه حين أمرهم بدخول مكة، أن لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم إلّا نفرا سمّاهم؛ فإنّهم يقتلون ولو وجدوا تحت أستار   (1) هذا اليوم سمّاه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ الكتائب لمّا كانت تمر يوم الفتح بأبي سفيان.. فأقبلت كتيبة لم ير مثلها، فقال: من هذه؟ قال العباس: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة بيده الراية، فقال سعد لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة أي: يوم الحرب، أو يوم القتال- اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا، فقال أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت بقتل قومك؟ قال: «لا» فذكر له قول سعد، فقال: «يا أبا سفيان؛ اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز فيه الله تعالى قريشا» وأرسل إلى سعد، فأخذ الراية من يده، فدفعها إلى ابنه قيس، ورأى صلى الله عليه وسلم أنّ اللواء لم يخرج عنه؛ إذ صار لابنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 كابن أبي سرح وزير الخلفا ... وناخس البكر ببنت المصطفى الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لكن لمّا لاذ بحضرة الرسول، بشفاعة أخيه عثمان من الرضاعة.. فاز بالرضا والقبول. قصة ابن أبي سرح رضي الله عنه: وإليها يشير الناظم بقوله: (كابن أبي سرح) بفتح السين وسكون الراء، وبالحاء المهملات، وهو عبد الله بن سعد القرشي العامريّ؛ فإنّه كان ممّن أهدر النّبيّ صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح؛ لأنّه كان أسلم بمكة، وكان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بها، ثمّ ارتد ولحق بالكفار. قال في «شرح المواهب» : (روى أبو داوود والحاكم عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن سعد يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأزلّه الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله، فاستجار بعثمان، فأجاره، وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أنّها أنزلت فيه، كان يكتب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فيملي عليه «عزيز حكيم» فيكتب «غفور رحيم» ثمّ يقرأ عليه، فيقول هو: نعم، سواء، فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وروى الحاكم عن سعد بن أبي وقّاص: أنّه اختبأ عند عثمان، فجاء به حتى أوقفه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 وهو يبايع الناس، فقال: يا رسول الله؛ بايع عبد الله، فبايعه بعد ثلاث، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن مبايعته فيقتله؟» فقال رجل: هلّا أو مأت إليّ؟ فقال: «إنّ النّبيّ لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين» ) اهـ ثمّ أدركته العناية الأزلية، وأتته السعادة الأبدية، فأسلم وحسن إسلامه، وعرف فضله وجهاده في سبيل الله تعالى، وكان وزيرا لسيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا عثمان بن عفان، كما يشير الناظم بقوله: (وزير) أي: معين (الخلفا) ء الراشدين؛ فإنّه ولّاه سيدنا عمر، وكان على ميمنة عمرو بن العاصي حين افتتح مصر، ثمّ ولّاه عثمان، وافتتح إفريقيا عام سبع وعشرين. قال في «شرح المواهب» : (وكان من أعظم الفتوح، بلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، واعتزل الفتنة حتى توفي سنة سبع وخمسين؛ أي: بعسقلان) . وروى البغويّ بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب، قال: (لمّا كان عند الصبح.. قال ابن أبي سرح: اللهمّ؛ اجعل آخر عملي الصبح، فتوضّأ، ثمّ صلّى، فسلّم عن يمينه، ثمّ ذهب يسلم عن يساره، فقبض الله روحه، رضي الله عنه) . قال السّهيلي في «الروض» : وهو القائل في حصار عثمان رضي الله عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 وهلكت لنخسه وألقت ... ذا بطنها والبرح منه لاقت أرى الأمر لا يزداد إلّا تفاقما ... وأنصارنا بالمكّتين قليل وأسلمنا أهل المدينة والهدى ... إلى أهل مصر، والذليل ذليل قصة هبّار بن الأسود رضي الله عنه: وممّن أهدر دمه، ثمّ لاذ بالنبي المعظّم وفاز: هبّار بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ القرشيّ الأسديّ، وهو المراد بقوله: (وناخس) بالجر، عطف على (ابن أبي سرح) أي: طاعن (البكر) بفتح الباء: هو الفتيّ من الإبل أي: طاعن الجمل (ببنت المصطفى) صلى الله عليه وسلم وهي زينب؛ فإنّه عرض لها حين هاجرت، وردها زوجها أبو العاصي للنّبيّ صلى الله عليه وسلم على العهد الذي عهد إليه، فنخس بها الجمل حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينها، وأهراقت الدماء، ولم تزل مريضة حتى ماتت سنة ثمان، كما قال: (وهلكت لنخسه وألقت) بكسر تاء التّأنيث؛ للرويّ (ذا بطنها) أي: جنينها (والبرح منه) بالنصب معمول لقوله: (لاقت) أي: ولاقت زينب من هبّار وأفعاله القبيحة البرح والشدة، والشر ممّا لا يليق بشرفها؛ فلذا أهدر عليه الصّلاة والسّلام دمه، وأمر بقتله، بعد أن أمر بحرقه، ثمّ رجع إلى قتله فقط، لكن تداركته العناية الرّبّانية، فأسلم وحسن إسلامه، وفي هذا يقول الناظم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 بحرقه أمر ثمّ رجعا ... لقتله والنّار عنه دفعا وبعد ما أشفى على الإحراق ... تداركته رحمة الخلّاق (بحرقه) يتعلّق بقوله: (أمر) أي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرق هبّار، فقال: «إن وجدتم هبارا.. فأحرقوه بالنار» ثم قال: «اقتلوه؛ فإنّه لا يعذّب بالنار إلّا ربّ النار» . (ثمّ رجعا) بألف الإطلاق، والضمير للنّبيّ صلى الله عليه وسلم (لقتله) أي: عن قتل هبار؛ أي رجع عن حرقه إلى قتله- ولو عبر بعن.. لكان أولى (والنار) بالنصب معمول ل (دفع) (عنه) يتعلق بقوله: (دفعا) أي: دفع عنه التعذيب لما ذكر. (وبعد ما) هي مصدرية داخلة على الفعل الذي هو: (أشفى) أي: أشرف (على الإحراق تداركته) أي: هبّارا (رحمة الخلّاق) فحبّب إليه الإسلام، فأسلم بعد الفتح، وحسن إسلامه، وصحب النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال في «شرح المواهب» : (أخرج الواقديّ عن جبير بن مطعم قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الجعرّانة، فطلع هبّار، فقالوا: يا رسول الله؛ هبّار بن الأسود، قال: «قد رأيته» فأراد رجل القيام إليه، فأشار إليه: أن اجلس، فوقف هبّار، فقال: السلام عليك يا نبيّ الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله، وقد هربت منك في البلاد، وأردت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 فحقن الله بالاسلام دمه ... سبحانه من راحم ما أرحمه اللّحاق بالأعاجم، ثمّ ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمّن جهل عليك، وكنّا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة، فاصفح عن جهلي، وعمّا كان يبلغك عني؛ فإنّي مقرّ بسوء فعلي، معترف بذنبي فقال صلى الله عليه وسلم: «قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجبّ ما قبله» ) . (ف) من أجل ذلك (حقن) أي: منع (الله) تعالى رسوله (بالاسلام دمه) أن يسفك (سبحانه) تنزّه الله عن كل ما لا يليق به (من راحم ما أرحمه) ! قلت: ويشير بهذا إلى الحديث الصحيح، الذي رواه البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» واللفظ لمسلم، بسنده إلى عمر بن الخطاب، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السّبي تبتغي، إذ وجدت صبيا في السّبي فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» . وروى مسلم بسنده إلى سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 أحنى وأرأف من الأمّ بنا ... وهكذا رسوله كان لنا والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة.. أكملها بهذه الرحمة» . نسأل الله تعالى أن يشملنا برحمته الواسعة- فإنّا فقراء- منّا وفضلا، إنّ لله رحمة، وأحق الناس بالرحمة الضعفاء. وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على سعة رحمة الله تعالى، وإذا كانت رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار، التي منها الإسلام والقرآن والصّلاة والرّحمة في قلبه، وغير ذلك ممّا أنعم الله به.. فكيف الظن بمئة رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء؟! (أحنى) من الحنوّ؛ أي: أعطف (وأرأف) من الرأفة، وهي أشد الرحمة، فعطفها من عطف الخاص على العام؛ أي: أكثر رحمة (من الأمّ) المشفقة (بنا وهكذا) أي: مثل هذا (رسوله) صلى الله عليه وسلم (كان لنا) قال الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ. ومن طالع أحواله وسيره ومعاملته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه والوافدين إليه من جهلة الأعراب والبوادي يقضي العجب من شفقة نبيّ الرحمة ورأفته، فجزاه الله عنا خير الجزاء، وفرّحنا به في عرصات القيامة ويوم الجزاء بمنّه وكرمه، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 مثل من رأفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحسن معاملته: فمن ذلك ما هو مشهور عند أهل السير: أنّ أعرابيا جاء يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثمّ قال: «أحسنت إليك؟» قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم: أن كفّوا، ثمّ قام، ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابي شيئا وزاده شيئا، ثمّ قال: «أحسنت إليك؟» قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّك قلت ما قلت وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء؛ فإن أحببت.. فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ؛ حتى يذهب ما في صدورهم عليك» قال: نعم، فلمّا كان الغد أو العشيّ.. جاء فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنّه رضي، أكذلك؟» قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل هذا، مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتّبعها الناس، فلم يزيدوها إلّا نفورا، فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي؛ فإنّي أرفق بها منكم. وأعلم، فتوجّه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردّها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها واستوى عليها، وإنّي لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه.. دخل النار» . قال أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبيّ: (ومن شفقته على أمّته صلى الله عليه وسلم: تخفيفه وتسهيله عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 وكراهته أشياء؛ مخافة أن تفرض عليهم؛ كقوله عليه الصّلاة والسّلام: «لولا أن أشقّ على أمّتي.. لأمرتهم بالسّواك مع كل وضوء» وخبر صلاة الليل، ونهيهم عن الوصال، وكراهة دخول الكعبة؛ لئلّا يعنت أمّته، وأنّه كان يسمع بكاء الصبيّ فيتجوز في صلاته) . ومن شفقته صلى الله عليه وسلم: أن دعا ربه وعاهده، فقال: «أيّما رجل سببته أو لعنته.. فاجعل ذلك له زكاة، ورحمة، وصلاة، وطهورا، وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة» . ولمّا كذبه قومه.. أتاه جبريل عليه السّلام، فقال له: إنّ الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أمر ملك الجبال؛ لتأمر بما شئت فيهم، فناداه ملك الجبال، وسلّم عليه، وقال: مرني بما شئت؛ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا» . وإن شئت المزيد..، فعليك ب «الشفاء» للقاضي عياض و «المواهب» و «شرحها» وغير ذلك من الدواوين التي تبحث عن أحواله صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمته، ومع ذلك فما ذكر إنّما هو قلّ من كثر، وغيض من فيض. نسأل الله تعالى أن يعمّنا برحمته وشفقته، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 يدخلنا الجنّة إلّا من شرد ... عنه وعن توحيده أبى وصد يقرب بالذّراع أو بالباع ... للمدّني بشبر أو ذراع ومن أتى يمشي أتاه هروله ... فضاعف الأجر له وأجز له جزاء المطيعين لله الجنة: (يدخلنا) الله تبارك وتعالى معشر الموحّدين (الجنّة) بفضله المحض (إلّا من شرد) أي: فرّ ونفر (عنه وعن توحيده) يتعلق بقوله: (أبى) أي: امتنع عن توحيده (وصدّ) أي: أعرض. ثمّ ذكر الناظم من تنزلات مولانا عزّ وجلّ لعباده المؤمنين، ما يحثّهم على المبادرة لطاعاته، والمسارعة إلى مرضاته، فقال: قرب العبد من ربه وقرب الرب من عبده: (يقرب بالذراع) لمن تقرّب إليه شبرا (أو بالباع) لمن تقرّب إليه ذراعا، والباع: قدر مدّ اليدين، ولذا قال: (للمدّني) بضم الميم وتشديد الدال المفتوحة اسم فاعل، مأخوذ من: ادّنى مشدد الدال، قال السيد محمّد مرتضى في «تاج العروس» : (وادّنى ادّناء: افتعل، من الدنوّ؛ أي: قرب) (بشبر أو ذراع) وفيه لف ونشر مرتب. (ومن أتى يمشي) من المتقرّبين إليه (أتاه هرولة) بفتح الهاء: ما بين العدو والمشي، ولفظ الحديث بسند مسلم إلى أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 «قال الله عزّ وجلّ: إذا تقرب عبدي مني شبرا.. تقرّبت منه ذراعا، وإذا تقرّب مني ذراعا.. تقرّبت منه باعا- أو بوعا- وإذا أتاني يمشي.. أتيته هرولة» ذكره في موضوع (من أحبّ لقاء الله.. أحب الله لقاءه) . وذكر في (كتاب الذكر والدعاء) بسنده إلى أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عزّ وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه.. ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ.. ذكرته في ملأهم خير منهم، وإن تقرّب مني شبرا.. تقربت منه ذراعا، وإن تقرّب مني ذراعا.. تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي.. أتيته هرولة» وهذا الحديث كسابقه من أحاديث الصفات، يجب الإيمان به، ويصرف عن إرادة ظاهره؛ لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. قال الإمام أبو زكريا النوويّ في «شرح مسلم» : (ومعناه: من تقرب إليّ بطاعتي.. تقربت إليه بالرحمة، والتوفيق، والإعانة، وإن زاد.. زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي.. أتيته هرولة؛ أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد: أنّ جزاءه يكون تضعيفه له على حسب تقربه) ولذا قال الناظم: (فضاعف الأجر له وأجز له) أي: أكثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 يضاعف الأجر لسبع مئة ... ففوق يؤجر بحسن النّيّة ثمّ بيّن أنّ المضاعفة تكون على حسب حال العاملين، وحسن نياتهم وإخلاصهم بقوله: (يضاعف الأجر لسبع مئة ففوق) بالبناء على الضم؛ أي: ففوق السبع مئة ضعف (يؤجر) العامل (بحسن النية) قال الله عزّ وجلّ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ربه تبارك وتعالى: «إنّ الله كتب الحسنات والسيئات» ثمّ بيّن ذلك بقوله: «فمن همّ بحسنة فلم يعملها.. كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها.. كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها.. كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها.. كتبها الله عنده سيئة واحدة» رواه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» . وهذا الحديث عظيم شريف، بيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم به مقدار تفضّل الله عزّ وجلّ على خلقه، قال الإمام أبو زكريا النووي: (فانظر يا أخي- وفقنا الله وإيّاك- إلى عظيم لطف الله تعالى، وتأمل هذه الألفاظ، وقوله: «عنده» إشارة إلى الاعتناء بها، وقوله: «كاملة» للتأكيد وشدة الاعتناء بها، وقال في السيئة التي همّ بها ثمّ تركها: «كتبها الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 من لطفه أنّ صحائف الذّنوب ... وهي عظيمة تروّع القلوب لا تزن التّهليل في بطاقه ... كأنّها الظّفر في الدّقاقه عنده حسنة كاملة» فأكّدها بكاملة، وإن عملها.. كتبها سيئة واحدة، فأكّد تقليلها ب «واحدة» ولم يؤكدها ب «كاملة» فلله الحمد والمنّة، سبحانه لا نحصي ثناء عليه، وبالله التوفيق) . حديث البطاقة: (من لطفه) أي: رفق الله تعالى بعباده وبرّه بهم (أنّ صحائف الذنوب وهي عظيمة تروّع) بضم المثنّاة وتشديد الواو المكسورة؛ أي: تخوف (القلوب) وتفزعها لعظمها، وكل ذنب إذا قوبل بجلال الله وعظمته.. فهو عظيم، وهذه الجملة معترضة، وقعت بين اسم إن وخبرها الذي هو: (لا تزن التهليل) أي: كلمة «لا إله إلّا الله» الثابتة (في بطاقة) بكسر الباء؛ أي: رقعة صغيرة، قال في «النهاية» : (سميت بذلك؛ لأنّها تشد بطاقة في الثوب) فتكون الباء حينئذ زائدة (كأنّها) أي: البطاقة (الظفر) بالضم، وبضمّتين، والكسر شاذ، يكون للإنسان وغيره، قاله أبو البقاء في «كلياته» وذكر الناظم وجه الشبه بين البطاقة والظفر بقوله: (في الدقاقه) بضم الدال؛ أي: الدقة. ويشير بهذا إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجلّ يستخلص رجلا من أمّتي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مدّ البصر، يقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا ربّ، قال: أفلك عذر؟ قال: فبهت الرجل، فيقول: لا يا ربّ، فيقول: بلى إنّ لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب؛ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنّك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفّة، والبطاقة في كفّة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، قال: ولا يثقل شيء مع اسم الله» رواه الترمذيّ وابن ماجه من حديث الليث بن سعد، وقال الترمذي: حسن. السجلات: جمع سجل، وهو الصك والكتاب، وطاش من الطيش، وهو الخفة؛ أي: خفت السجلات. *** وبعد ما فرغ الناظم من هذه الأبيات الاستطرادية؛ لمناسبة تدارك الله تعالى هبارا بالعناية، وبسط يد رسوله صلى الله عليه وسلم بالعفو.. أراد أن يذكر ما ناله هبار من سوء المعاملة بالمدينة؛ لما فعله مع البضعة الطاهرة الزّكية، وكيف ردّهم رسول الله ونبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم عنه رأفة به فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 بسبّه من سبّه آنسه ... نبيّنا أن عيّروه نخسه صلّى عليه الله ما أحلمه ... عن سيّىء الحوب وما أكرمه عطف الرسول صلّى الله عليه وسلّم على هبار بن الأسود: (بسبّه) أي: هبار، وهو مضاف إلى فاعله، ومتعلق بقوله (آنسه) يعني: آنسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في أن يسب هبّار (من سبّه) وعيّره بنخس جمل السيدة زينب ونحو ذلك، قالوا: وكان هبار سبابا في الجاهلية (آنسه) وهو ضد أوحشه؛ أي: أدخل عليه الأنس بذلك، (نبينا) ب (أن عيّروه) عابوه بذلك (نخسه) أي: طعنه الجمل بزينب رضي الله عنها. والحاصل: أنّه لما أسلم هبار، وأمّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم.. قدم المدينة، فجعلوا يسبّونه؛ لنخسه بزينب بنته صلى الله عليه وسلم يوم خروجها من مكة إلى المدينة، فشكى ذلك لحضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فقال له: «سبّ من سبّك، فكفّوا عنه» قال في «شرح المواهب» : (رواه ابن شاهين من مرسل الزّهريّ) . (صلّى عليه الله ما أحلمه) أي: أكثر حلمه، وصفحه (عن سيئ الحوب) أي: الإثم الصادر قديما من هبار، ومن غيره (وما أكرمه) فقد عفا وصفح عن أعدائه مع المقدرة منه في حال السلم والحرب، بما لم يعرف من غيره، كما يعلم ذلك من درس أحواله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 وكأبي سفيان وابن عمّته ... وكابن عمّه وأهل بكّته وحسبك قوله عليه الصّلاة والسّلام يوم فتح مكة في عشرة آلاف من أصحابه الصناديد الأسود، وقد خضعت تلك الرقاب التي كانت تؤذيه وتحاربه، ونكست من رؤوسها: «ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟» قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» إلى غير ذلك ممّا تجده في هذه الورقات، وغيرها من الأسفار والمجلدات. رضاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن أبي سفيان بعد إسلامه وإكرامه إياه: (وكأبي سفيان) صخر بن حرب، وهو معطوف على قوله سابقا: (كابن أبي سرح) أي: وفاز من لجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن أبي سرح، وكأبي سفيان؛ فإنّه ممّن لاذ به مع العباس عمه، وفاز بالإسلام، وكان تولى بعد بدر رياسة قريش وحرب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولمّا أسلم.. كان يمازح النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويقول: تركتك وتركتك العرب ولم تنتطح فيّ عنزان، فجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: «أنت تقول هذا يا أبا حنظلة» . وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من المسجد على أبي سفيان، فلمّا رآه.. قال في نفسه: ليت شعري بم غلبني؟ فضرب صلى الله عليه وسلم بين كتفيه فقال: بالله غلبتك يا أبا حنظلة، فقال أشهد أنّك رسول الله. وفقئت عيناه: الأولى يوم الطائف، والثانية يوم اليرموك، تحت لواء ابنه يزيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 وعن سعيد بن المسيب قال: خفتت الأصوات يوم اليرموك إلّا صوتا ينادي: يا نصر الله اقترب، فنظرت، فإذا صوت أبي سفيان تحت لواء ابنه يزيد. وتوفي في خلافة عثمان، وتوفيت هند زوجه في خلافة أبي بكر، رضوان الله عليهم أجمعين، وتقدم الكلام على كثير من حياة أبي سفيان وقصة إسلامه. عطف الرسول صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن أبي أميّة وأبي سفيان بن الحارث وأهل مكة: (و) ك (ابن عمته) وهو عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة، أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وك) أبي سفيان (ابن عمه) الحارث بن عبد المطلب؛ فإنّهما ممّن لاذ بالنّبي صلى الله عليه وسلم، ففازا بالقبول، وسبق الكلام عليهما آنفا. (و) ك (أهل بكّته) بفتح الباء وتشديد الكاف، من أسماء مكة؛ لأنّها تبك؛ أي: تدق أعناق الجبابرة؛ فإنّهم فازوا به لما لجأوا إليه، وقال لهم: «يا معشر قريش؛ ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟» قالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال صلى الله عليه وسلم: «فإنّي أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الرّاحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 واختلفوا فيها فقيل أمّنت ... والحقّ عنوة وكرها أخذت هل فتح مكة كان عنوة أو صلحا؟ ثمّ شرع يذكر الخلاف بين العلماء في مكة، هل كان فتحها عنوة أو صلحا؟ فقال: (واختلفوا فيها) أي: في مكة (فقيل: أمنت) بالبناء للمجهول؛ أي: فتحت أمنا على أهلها وصلحا، وإليه ذهب الإمام الشافعيّ؛ لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن، ومن أغلق عليه داره.. فهو آمن» حيث أضيفت الدور إلى أهلها، ولأنّها لم تقسم، ولأنّ الغانمين لم يملكوا دورها، وإلّا.. لجاز إخراج أهل الدور منها، وينبني على هذا القول: أنّ لأهلها بيع دورهم، وإكرائها (والحق عنوة) أي: فتحت بالاستعانة بالسلاح (وكرها أخذت) بالكره من قريش بالخيل والركاب، وإنّما كان هذا هو الحق.. لأنّه قول الجمهور، ولقوة الدليل. قال في «المواهب» و «شرحها» : (وحجتهم ما وقع التصريح به في الأحاديث الصحيحة من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وتصريحه عليه الصّلاة والسّلام بأنّها أحلّت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسّي به في ذلك؛ لأنّه من خصائصه، فهذه أربع حجج قوية، كل منها بانفراده كاف في الحجّية) اهـ وعلى هذا القول: لا يجوز لأهل مكة بيع دورهم وكراؤها، بل هي مناخ لمن سبق، كما روي ذلك عن أمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 عائشة رضي الله عنها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بنزع أبواب دور مكة إذا قدم الحاج، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بمكة أن ينهى أهلها عن كراء دورها إذا جاء الحاج؛ فإنّ ذلك لا يحلّ لهم، وقال الإمام مالك رحمه الله: إن كان الناس ليضربون فساطيطهم بدور مكة، لا ينهاهم أحد. قال السّهيليّ بعد هذا: (وهذا كله منتزع من أصلين: أحدهما: قوله تبارك وتعالى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قال ابن عمر وابن عباس: الحرم كله مسجد. والأصل الثّاني: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخلها عنوة، غير أنّه منّ على أهلها بأنفسهم وأموالهم، ولا يقاس عليها غيرها من البلاد، كما ظنّ بعض الفقهاء؛ فإنّها مخالفة لغيرها من وجهين: أحدهما: ما خصّ الله به نبيه؛ فإنّه قال: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. والثّاني: ما خصّ الله به مكة؛ فإنّه جاء: «لا تحل غنائمها، ولا تلتقط لقطتها، وهي حرم الله تعالى وأمنه» فكيف تكون أرضها أرض خراج؟ فليس لأحد افتتح بلدا أن يسلك به سبيل مكة، فأرضها إذن ودورها لأهلها، ولكن أوجب الله عليهم التوسعة على الحجيج إذا قدموها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 ولا يأخذوا منهم كراء في مساكنها، فهذا حكمها، فلا عليك بعد هذا؛ فتحت عنوة أو صلحا، وإن كانت ظواهر الأحاديث أنّها فتحت عنوة) اهـ مناظرة الإمام الشافعي مع ابن راهويه في مكة: ويحسن هنا أن نذكر مناظرة الإمام الشافعي مع ابن راهويه في هذا الموضوع، وقد ذكرها الإمام النووي في «مجموعه» في (كتاب البيوع) مع مذاهب العلماء في ذلك، وذكر حجج كل فريق؛ قال: (روى الإمام البيهقيّ بإسناده عن إبراهيم بن محمّد الكوفي قال: رأيت الشافعي بمكّة يفتي الناس، ورأيت إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل حاضرين فقال أحمد لإسحاق: تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله، فقال إسحاق: لم تر عيناي مثله؟ فقال: نعم، فجاء به فوقفه على الشافعيّ ... فذكر القصة إلى أن قال: ثمّ تقدم إسحاق إلى مجلس الشافعيّ، فسأله عن كراء بيوت مكة، فقال الشافعيّ: هو عندنا جائز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل من دار؟» فقال إسحاق: حدّثنا يزيد بن هارون عن هشام، عن الحسن: أنّه لم يكن يرى ذلك، وعطاء وطاووس لم يكونا يريان ذلك، فقال الشافعيّ لبعض من عرفه: من هذا؟ قال: هذا إسحاق بن راهويه الحنظليّ الخراسانيّ، فقال له الشافعيّ: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنّك فقيههم؟ قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 وأخبر النّبيّ بارىء النّسم ... بقولهم يسكن بعدها الحرم إسحاق: هكذا يزعمون، قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بفرك أذنيه، أنا أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال طاووس والحسن وعطاء، وهؤلاء لا يرون ذلك، وهل لأحد مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجة ... وذكر كلاما طويلا. ثمّ قال الإمام الشافعيّ: قال الله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أفتنسب الديار إلى مالكين أو غير مالكين؟ فقال إسحاق: إلى مالكين، قال الشافعيّ: قول الله أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن» وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دار الحجامين ... وذكر الإمام الشافعيّ له جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له إسحاق: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قال الشافعي: قال الله تعالى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ والمراد المسجد خاصة، وهو الذي حول الكعبة، ولو كان كما يزعم.. لكان لا يجوز لأحد أن ينشد في دور مكة وفجاجها ضالّة، ولا ينحر فيها البدن، ولا يلقي فيها الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة، فسكت إسحاق ولم يتكلم، فسكت عنه الشافعي) اهـ إخبار الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما قاله الأنصار بعد الفتح: (وأخبر النّبيّ) صلى الله عليه وسلم، وهو مفعول مقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 وبالّذي قالوه إذ لم يرهقا ... تداركته رحمة فأشفقا ل (أخبر) على فاعله الذي هو (بارئ) أي: خالق (النسم) والبارئ من أسمائه تعالى البالغة مئة إلّا واحدا، من أحصاها.. دخل الجنة، والنسم، بتشديد النون المفتوحة، جمع نسمة: الإنسان. والمعنى: أنّه بينما تتحدث الأنصار بعضها مع بعض في شأن سكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلده التي فتحها اليوم، وقومه الذين تربّى بينهم، ونشأ فيهم، إذ جاءه الوحي بما تحدثوا به، والمخبر به هو (بقولهم) فهو يتعلق بقوله: (أخبر) والضمير المضاف إليه عائد للأنصار المعلومين من المقام (يسكن بعدها) أي: بعد هذه الغزوة (الحرم) أي: مكة؛ لأنّها مسقط رأسه. (و) أخبره بارىء النسم أيضا (بالذي) أي: بالقول الذي (قالوه) أي: الأنصار؛ ضنا برسوله صلى الله عليه وسلم (إذ لم يرهقا) أي: لم يدخل الإرهاق والكلفة على قومه، ومقول قولهم: (تداركته) أي: الرسول الأعظم (رحمة) في عشيرته، ورغبة في قريته (فأشفقا) عليهم، وأطلقهم من الأسر، وقال لهم: «أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الرّاحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء» . وهذا مأخوذ ممّا رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من طوافه.. أتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 وبالّذي قالوه في المؤذّن ... وبالّذي به فضالة عني الصفا، فعلا منه حتى يرى البيت، فرفع يديه، وجعل يحمد الله ويذكره، ويدعو بما شاء الله أن يدعو، والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أمّا الرجل.. فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء الوحي.. لم يخف علينا، فليس أحد من الناس يرفع طرفه إليه، فلمّا قضى الوحي.. قال: «يا معشر الأنصار» قالوا: لبّيك يا رسول الله، قال: «قلتم: أمّا الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته؟» قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: «فما اسمي إذا؟ كلّا، إنّي عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم» فأقبلوا إليه يبكون، يقولون: والله يا رسول الله، ما قلنا الذي قلنا إلّا الضّن «1» بالله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «فإنّ الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم» . إخبار الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما تحدثت به قريش عند أذان بلال: (و) أخبر بارىء النسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ب) الكلام (الذي قالوه) أي: قريش (في) سيدنا بلال بن   (1) قوله: (إلّا الضن) بكسر الضاد المعجمة، وشد النون؛ أي: البخل والشح به أن يشركنا فيه أحد غيرنا، قال في «شرح المواهب» لمّا نقل هذا الضبط عن الشامي: (ولعلّه الرواية، وإلّا.. ففتحها لغة أيضا، وكان ذلك وقع لطائفتين، فبادر بإخبار إحداهما لجزمها، وتلطّف في سؤال الأخرى لكونها لم تجزم، بل قالت: أترى ... إلخ، و «يعذرانكم» بكسر الذال المعجمة: يقبلان عذركم) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 رباح «1» (المؤذن) بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على   (1) واسم أمه حمامة، مولاة لبني جمح، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عبدا لأميّة بن خلف، فأسلم مع أبي بكر، وزيد بن حارثة، وعلي، والسيدة خديجة. وأشار الحافظ السيوطي إلى الخلاف في أول من أسلم منهم مع الجمع بين الأقوال بقوله: واختلفوا أوّلهم إسلاما ... وقد رأوا جمعهم انتظاما أول من أسلم في الرجال ... صديقهم وزيد في الموالي وفي النسا خديجة وذي الصغر ... علي، والرق بلال اشتهر وكان أميّة لعنه الله يعذّب بلالا، حتى كان يضجعه في الرمضاء ببطحاء مكة، ويطرح عليه الحجارة، ويقول له: لا تزال كذلك، أو تكفر بمحمّد وإلهه، وبلال يقول: أحد أحد، وقد نهى ورقة بن نوفل عن تعذيبه، ولمّا رأى أبو بكر ذلك عظم عليه الأمر، فكلم أميّة أن يعطيه نسطاسا عبدا لأبي بكر كثير الخراج، إلّا أنّه متمرد إذ ذاك ويأخذ بدله بلالا، ففعل، فأعتق أبو بكر بلالا لوجه الله تعالى، لا لنعمة عنده تجزى، إلّا ابتغاء وجه ربه الأعلى، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا. قال بعضهم: أبو بكر حباه الله مالا ... فمذ دعى أجاب نعم بلا: لا فكم واسى النبي بكل خير ... وأعتق من ذخائره بلالا فلو أنّ البحر يبغضه اعتقادا ... لما أبقى الإله به بلالا وكان من قضاء الله وقدره أنّ نسطاسا أسر يوم بدر، ثمّ أسلم بعد أحد رضي الله عنه، وأنّ بلالا قتل أميّة هذا الذي كان يعذبه، وولده عليا، ولذا هنّأه أبو بكر بقوله: هنيئا زادك الرّحمن فخرا ... لقد أدركت ثأرك يا بلال وكان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حضرا وسفرا، وهو أول من أذن في الإسلام، واستمرّ حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 ظهر الكعبة للظهر؛ ليغيظ المشركين، وقريش فوق رؤوس الجبال، وقد فرّ جماعة من وجوههم وتغيّبوا، وأبو سفيان، وعتاب بن أسيد- بفتح الهمزة- وأخوه خالد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، وقد أسلموا بعد رضي الله عنهم، فقال عتاب وخالد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يسمع هذا فيغيظه، وقال الحارث: أما والله؛ لو أعلم أنّه محق.. لاتّبعته، إن يكن الله يكره هذا.. فسيغيره، وقال أبو سفيان:   ذهب إلى الشام مجاهدا، قال النووي في «التهذيب» : (فأقام بها إلى أن توفي، وقيل: أذن لأبي بكر مرة، وأذن لعمر مرة، حين قدم عمر الشام، فلم يرباك أكثر من ذلك اليوم، وأذن في قدمة قدمها إلى المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلب ذلك الصحابة، فأذن ولم يتم الأذان) . ثبت في «الصحيحين» : أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإنّي سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة؟» قال: ما عملت عملا أرجى عندي من أنّي لم أتطهّر طهورا في ساعة ليل أو نهار.. إلّا صلّيت بذلك الطهور ما كتب أن أصلي، ولمسلم بلفظ: «حشف نعليك» . وفي «الترمذي» : «يا بلال؛ بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط.. إلّا سمعت خشخشتك أمامي! ... » إلخ. قال في «عمود النسب» : ممّن عليه منّ بالشراء ... والعتق فارتثّ من السواء بلال السابق جيل الحبشة ... ومن له وسط الجنان خشخشة أذن للنّبيّ والعتيق ... ومرة أذن للفاروق فذكر النّبي فانهلت له ... دموعهم لذاك ما استعمله ومناقبه كثيرة، وفضائله شهيرة، توفي على الصحيح بالشام سنة عشرين، ولمّا حضره الموت.. جعل أهله يبكون ويقولون: واكرباه، فيقول بلال: واطرباه، غدا ألقى الأحبّه محمّدا وحزبه. رضي الله عنه، ولقانا به وأحبابنا، بمنّه وكرمه، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 لا أقول شيئا، لو تكلمت.. لأخبرت عني هذه الحصى، وقال بعض بني سعيد بن العاصي: لقد أكرم الله سعيدا أن قبضه الله قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة، وقال الحكم بن أبي العاصي: هذا والله هو الحدث العظيم، أن يصبح عبد بني جمح على بنية بني طلحة. هذا الذي قالوه في شأن سيدنا بلال، وهو ما أراده الناظم، ورواه أبو يعلى عن ابن عباس، والبيهقي عن ابن إسحاق، وعروة وابن أبي شيبة عن أبي سلمة، كما في «شرح المواهب» وبعده: (فأتى جبريل فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم، فخرج عليهم، وقال: «قد علمت الذي قلتم» وأخبرهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنّك رسول الله، وما اطّلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك) . إخبار الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما قاله فضالة بن عمير: (و) أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أيضا (بالذي) همّ (به فضالة) بفتح الفاء، ابن عمير بن الملوح الليثي، فقوله: (به) يتعلق بقوله: (عني) كرضي، ويصح بناؤه للمجهول، والذي قصده فضالة هو قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلمّا دنا منه.. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة؟» قال: نعم يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدّث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 وسلم، ثمّ قال: «استغفر الله» ثمّ وضع يده المباركة الميمونة على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله؛ ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحبّ إليّ منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلمّ إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول: قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليّ الله والإسلام لو ما رأيت محمّدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسّر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بيّنا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام تحطيم الأصنام حول الكعبة: ويشير «1» بقوله: (يوم تكسر الأصنام) إلى أنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا وصل إلى البيت الحرام.. وجد حوله ثلاث مئة وستين صنما، ملزقة بالرصاص والنحاس، فكان كلّما مرّ بصنم.. أشار إليه بقضيبه وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً فيقع الصنم مكسرا لوجهه. قال الشهاب في «المواهب» : (وفي تفسير العلّامة أبي   (1) أي: فضالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 وأخذ المفتاح ثمّ ردّه ... عن رغم قومه الّذين عنده عبد الله بن محمّد النقيب المقدسيّ: إنّ الله تعالى لمّا أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بأنّه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتحه مكة، وإعلاء كلمة دينه، أمره إذا دخل مكة.. أن يقول: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ فصار صلى الله عليه وسلم يطعن الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه «1» ويقول: «جاء الحق، وزهق الباطل» فيخر ساقطا، مع أنّها كلها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاث مئة وستين صنما، بعدد أيام السنة) . خلود سدانة الكعبة في بني طلحة: (وأخذ) النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عثمان بن طلحة على الأصح- يوم الفتح (المفتاح) للكعبة، وكان عند أمه محفوظا، وقد أبت أن تسلّمه إيّاه، فقال عثمان: والله لتعطينّه، أو ليخرجنّ هذا السيف من صلبي، فأعطته إياه، فجاء به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه، ففتح الباب، (ثمّ ردّه) أي: ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم المفتاح إلى عثمان بن طلحة، وقال: «خذوها- أي: سدانة الكعبة- خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» . ولمّا خرج صلى الله عليه وسلم من البيت.. سأله العباس   (1) المحجن بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم: عصا محنية الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 أن يعطيه المفتاح، ويجمع له بين السقاية «1» والسدانة فأبى، وإليه أشار بقوله: (عن رغم) بالراء مثلثة؛ أي: عن كره (قومه) وهم: العباس، وعلي، وبنو هاشم (الذين) كانوا (عنده) صلى الله عليه وسلم لمّا فتح البيت وخرج منه. قال في «عيون الأثر» : (روينا عن سعيد بن المسيّب: أنّ العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح، في رجال من بني هاشم، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان) . وقال الشهاب في «المواهب» : (عن ابن سعد في «طبقاته» عن عثمان بن طلحة، قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عني، ثمّ قال: «يا عثمان؛ لعلّك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت» فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلّت، قال: «بل عمرت وعزّت يومئذ» ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعا ظننت أنّ الأمر سيصير إلى ما قال. قال: فلمّا كان يوم الفتح.. قال: «يا عثمان؛ ائتني بالمفتاح» فأتيته به، فأخذه مني ثمّ دفعه إليّ، وقال:   (1) السقاية: هي أحواض من جلد، يوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، وربما يطرح فيها التمر والزبيب، فعل ذلك عبد المطلب لما حفر زمزم، وقام بها بعده العباس. والسدانة بفتح السين المشددة: هي خدمة البيت الحرام. اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 «خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم، يا عثمان: إنّ الله استأمنكم على بيته، فكلوا ممّا يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف» «1» قال: فلمّا وليت.. ناداني، فرجعت إليه فقال: «ألم يكن الذي قلت لك؟ فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: «لعلّك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت» قلت: بلى، أشهد أنّك رسول الله) . ومن شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه يهجو المشركين، ويمدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم والأصحاب الكرام، ويذكرهم بفتح مكة، قوله رضي الله عنه: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفّيها الروامس والسّماء   (1) هذا إن صحّ.. احتمل معناه: ما يأخذونه من بيت المال على خدمته والقيام بمصالحه، ولا يحل لهم إلّا قدر ما يستحقونه، وما يقصدون به من البر والصلة على وجه التبرر.. فلهم أخذه، وذلك أكل بالمعروف، فلا يذهب إلى الوهم جواز أخذ الأجرة على دخول الكعبة؛ فإنّه لا خلاف في تحريمه، كما حكاه في «شرح المواهب» عن المحب الطبري، وأقرّه، وقال: إنّ ذلك من أشنع البدع. قال الشمس الحطاب المالكي: والمحرم إنّما هو نزع المفتاح منهم، لا منعهم من انتهاك حرمة البيت وما فيه قلّة أدب، فهذا واجب لا خلاف فيه، لا كما يعتقد الجهلة أن لا ولاية لأحد عليهم، وأنّهم يفعلون في البيت ما شاؤوا، فهذا لا يقوله أحد المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء فدع هذا، ولكن من لطيف ... يؤرّقني إذا ذهب العشاء لشعثاء الّتي قد تيّمته ... فليس لقلبه منها شفاء كأنّ سبيئة من بيت راس ... يكون مزاجها عسل وماء على أنيابها أو طعم غضّ ... من التفّاح هصّره الجناء إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الراح الفداء نولّيها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النّقع موعدها كداء يبارين الأعنّة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظّماء تظلّ جيادنا متمطّرات ... تلطّمهنّ بالخمر النّساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 فإمّا تعرضوا عنّا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلّا فاصبروا لجلاد يوم ... يعزّ الله فيه من يشاء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحقّ إن نفع البلاء شهدت به فقوموا صدّقوه ... فقلتم لا نقوم ولا نشاء وقال الله قد سيّرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللّقاء لنا في كلّ يوم من معدّ ... سباب، أو قتال، أو هجاء فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء ألا أبلغ أبا سفيان عنّي ... مغلغلة فقد برح الخفاء بأنّ سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدّار سادتها الإماء هجوت محمّدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء هجوت مباركا برّا حنيفا ... أمين الله شيمته الوفاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمّد منكم وقاء فإمّا تثقفنّ بنو لؤيّ ... جذيمة إنّ قتلهم شفاء أولئك معشر نصروا علينا ... ففي أظفارنا منهم دماء قال بعض من علّق على هذه القصيدة، عن مصعب الزّبيريّ: كان حسان قد ابتدأ هذه القصيدة في الجاهلية، ثمّ أكملها في الإسلام من عند قوله: (عدمنا خيلنا إن لم تروها) . قلت: ويؤيده ما جاء أنّه مرّ بفتية يشربون الخمر في الإسلام فنهاهم، فقالوا: والله؛ لقد أردنا تركها، فيزينها لنا قولك: (ونشربها فتتركنا ملوكا) فقال: والله؛ لقد قلتها في الجاهلية، وما شربت منذ أسلمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 (28) غزوة حنين في شوال سنة ثمان حنين: واد قرب ذي المجاز، وهو سوق كان للعرب على فرسخ من عرفة «1» ، سميت الغزوة به. ويقال لها: غزوة أوطاس، سميت بالموضع الذي كانت فيه الموقعة، ويقال لها أيضا: غزوة هوازن، بفتح الهاء وكسر الزاي: قبيلة كبيرة من العرب، فيها عدة بطون، ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة، سميت بذلك؛ لأنّهم الذين أتوا لقتاله صلى الله عليه وسلم. سبب هذه الغزوة: قال الشهاب في «المواهب» : (وسببها: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها.. مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف بن سعد النصري، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة سنة ثمان، يوم السبت، لستّ   (1) قال الواقدي: ذو المجاز خلف عرفة، ومجنة بمر الظهران، وعكاظ بين نخلة والطائف، وهو أعظم هذه الأسواق، يقيمون بها شوالا، ثمّ ينتقلون إلى سوق مجنة عشرين يوما من ذي القعدة، ثمّ ينتقلون إلى سوق ذي المجاز أيام الحج. اهـ ملخصا من «معجم ياقوت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 ثمّ إلى وادي حنين انحدر ... عن مكّة من الألوف اثنا عشر فوجدوا هوازنا تأهّبوا ... بكلّ مخرم لهم وألّبوا خلون من شوال، في اثني عشر ألفا من المسلمين، وأشار الناظم إلى هذا بقوله: (ثم) بعد أن فرغ من مكة وفتحها، وأخرج الأصنام منها، وطهّر ساحتها.. انحدر عن مكة (إلى وادي حنين) بالتصغير (انحدر) أي: هبط (عن مكة) بالتنوين للضرورة، واستعمل عليها عتاب بن أسيد بالتكبير أميرا، وكان معه (من الألوف اثنا عشر) : عشرة آلاف من أهل المدينة، منهم من الأنصار أربعة آلاف، ومن جهينة ألف، ومن مزينة ألف، ومن أسلم ألف، ومن غفار ألف، ومن أشجع ألف، ومن المهاجرين وغيرهم ألف، وألفان ممّن أسلم من أهل مكة (فوجدوا هوازنا) وعددهم يربو على عشرين ألفا (تأهّبوا) أي: استعدوا (بكل مخرم) يتعلق بقوله: (ألبوا) آخر البيت، وهو بفتح الميم، وبعدها خاء معجمة ساكنة وراء مكسورة؛ أي: طريق (لهم) قال في «اللسان» : (مخارم الطرق: جمع مخرم- بكسر الراء- وهو الطريق في الجبل أو الرمل) . (وألبوا) بفتح الهمزة وشد اللام المفتوحة؛ أي: جمعوا وهيّؤوا لقتال النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكل ما لديهم من قوة وعتاد، ورئيسهم مالك بن عوف النصريّ، وهو الذي جمعهم للقتال، وعمره ثلاثون سنة، وقد أسلم بعد، وحسن إسلامه رضي الله عنه، وضمّ إلى الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 معارضة دريد بن الصمّة لمالك بن عوف النصري: فلمّا نزل بأوطاس.. اجتمع إليه الناس، وفيهم دريد بن الصّمة شيخ كبير مجرّب، زاد عمره على المئة، وعمي بصره، فلمّا نزل.. قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم مجال الخيل، لا حزن «1» ضرس، ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم، ونساءهم، وأبناءهم، قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك، ودعي له فقال: يا مالك؛ إنّك قد أصبحت رئيس قومك، وإنّ هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أموالهم، وأبناءهم، ونساءهم، قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله؛ ليقاتل عنهم، قال: فانقضّ به دريد «2» ، ثمّ قال: راعي ضأن والله، ما له وللحرب، وصفّق بإحدى يديه على الأخرى تعجّبا، وقال: هل يرد المنهزم شيء؟ إنّها إن كانت لك.. لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك.. فضحت في أهلك ومالك.   (1) الحزن: ما غلظ من الأرض، والضرس: ما صلب من الأرض، والسهل: ضد الحزن، والدهس: اللين كثير التراب. (2) يريه أنّه نقر بلسانه في فيه، كما يزجر الشاة أو الحمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 ثمّ قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قال: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحدّ والجدّ «1» ، ولو كان يوم علاء ورفعة.. لم تغب عنه كعب ولا كلاب، ولوددتم أنّكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضرّان، يا مالك؛ إنّك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثمّ الق الصّبّاء «2» على متون الخيل، فإن كانت لك.. لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك.. ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك، قال: لا والله؛ لا أفعل ذلك؛ إنّك قد كبرت وكبر عقلك، والله؛ لتطيعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئنّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد بن الصمّة فيها ذكر أو رأي، قالوا: أطعناك، فقال دريد بن الصمّة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني: يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع أقود وطفاء الزّمع ... كأنّها شاة صدع   (1) الحد والجد: الأول بفتح الحاء المهملة، والثّاني بالمعجمة المكسورة: ضد الهزل، وبفتحهما: الحظ. (2) جمع صابئ، يريد: جماعة المسلمين؛ لأنّهم صبئوا عن دينهم الجاهلي إلى الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 ثمّ قال مالك للناس: إذا رأيتموهم ... فاكسروا جفون سيوفكم، ثمّ شدّوا شدّة رجل واحد. الملائكة وعيون مالك بن عوف: ثمّ إنّ مالك بن عوف بعث عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرّقت أوصالهم رعبا وخوفا، فقال: ويلكم، ما شأنكم؟ فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو الله؛ ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فو الله؛ ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلّا أهل السماء، وإن أطعتنا.. رجعت بقومك؛ فإنّ الناس إن رأوا مثل الذي رأينا.. أصابهم مثل الذي أصابنا، فقال: أفّ لكم، بل أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده خوفا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلّوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج ثمّ رجع إليه قد أصابه كنحو ما أصاب من قبله، قال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا على خيل بلق ما يطاق النظر إليهم، فو الله؛ ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يرد ذلك مالكا عن وجهه. تعرّف الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبار القوم: ووجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلميّ، وأمره أن يدخل معهم، ويقيم حتى يعلم خبرهم ويأتيه به، فانطلق فدخل عسكرهم، فطاف بهم وجاء بخبرهم، وممّا سمعه من مالك أنّه يقول لأصحابه: إنّ محمّدا لم يقاتل قوما قط قبل هذه المرة، وإنّما كان يلقى قوما أغمارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 لا علم لهم بالحرب، فيظهر عليهم، فإذا كان السّحر.. فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم، ثمّ صفوا، ثمّ تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم، فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون، واحملوا حملة رجل واحد، واعلموا أنّ الغلبة لمن حمل أولا. فأقبل عبد الله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال لعمر: «ألا تسمع ما يقول؟» فقال: كذب، قال ابن أبي حدرد: لئن كذّبتني يا عمر، فربّما كذبت بالحق.. فقد كذبت من هو خير مني، فقال عمر: يا رسول الله؛ ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «قد كنت ضالا فهداك الله يا عمر» . استعارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أدرعا وسلاحا من صفوان بن أميّة: ولمّا أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن.. ذكر له أنّ عند صفوان بن أميّة أدرعا وسلاحا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك، فقال: «يا أبا أميّة؛ أعرنا سلاحك نلق فيه عدونا» فقال صفوان: أغصبا يا محمّد؟ فقال: «بل عارية مضمونة حتى نردها إليك» قال: ليس بهذا بأس، فأعطى له مئة درع بما فيها من السلاح، فسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها، فحملها إلى أوطاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 وبينما الجيش إليهم ينحدر ... بغلس شدّوا إليه وهو غر ثمّ سار صلى الله عليه وسلم وقد ركب بغلته دلدل، ولبس درعين والمغفر والبيضة «1» ، واستقبل الصفوف، فطاف عليهم ينحدرون من الوادي، فحضّهم على القتال، وبشّرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن الوليد في بني سليم وأهل مكة، وجعل ميمنة وميسرة، وقلبا كان صلى الله عليه وسلم فيه. (وبينما الجيش) أي: جيش المسلمين (إليهم) أي: إلى هوازن (ينحدر) أي: يهبط من واد من الأودية (بغلس) بفتح المعجمة واللام مفتوحة؛ أي: في وقت الغلس، وهو ظلمة آخر الليل (شدوا) أي: حملت هوازن (إليه) أي: إلى جيش المسلمين، حملة رجل واحد (وهو) أي: والحال أنّ جيش المسلمين (غر) بكسر الغين المعجمة؛ أي: غافل. التحام القتال وثبات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه: وحاصل المعنى: ما رواه ابن إسحاق بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (لمّا استقبلنا وادي حنين.. انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف ذي خطوط، له مضايق وشعوب، وإنّما نتحدر فيه انحدارا، قال: وكان في عماية   (1) الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، فسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم قد تدرع بدرعين، ولبس المغفر والبيضة في هذا اليوم، ولمّا دخل مكة.. كانت البيضة على رأسه وقد لبس المغفر، وفي أحد لبس اللأمة، وقد قال الله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ وقال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيّؤوا وأعدّوا، فو الله؛ ما راعنا ونحن منحطون إلّا الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثمّ قال: «أيّها الناس؛ هلمّوا إليّ، أنا محمّد بن عبد الله» قال: «فلأيّ شيء حملت الإبل بعضها على بعض» فانطلق الناس، إلّا أنّه قد بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته: علي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، والفضل بن عباس، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ) . واعلم: أنّ هذا يبين سبب انكشاف المسلمين، وأن انكشافهم كان بمجرد التلاقي، وهو ما وقع عند ابن سعد، وهو مخالف لما رواه البخاري من حديث البراء، وهو: (أنّ هوازن كانوا رماة، ولمّا حمل المسلمون عليهم.. كشفوهم، فأكبّوا على المغانم، فاستقبلوهم بالسهام) وهذا صريح في أنّهم لم يفروا بمجرد التلاقي، بل قاتلوا المشركين حتى كشفوهم، واشتغلوا بالغنيمة، قال في «شرح المواهب» إثر هذا: (وذكر الحافظ السببين، ولم يجمع بينهما) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 فاستنفروا بهم لذلك الرّكاب ... وأدبرت تخدي بهم غلب الرّقاب واستنزلوا وادّرعوا وهي تمر ... مرّ جهام بالبهاليل نفر قلت: وسكت عنه الزرقاني، وسكوته يدل على أنّه لم يظهر له وجه الجمع، وقد نصّوا على أنّه عند عدم إمكان الجمع يصار إلى الترجيح، ومعلوم أنّ ما في الصحيح مقدم على ما في غيره، والله أعلم. ثمّ فرّع الناظم على ما تضمّنه هذا البيت، فقال: (فاستنفروا) أي: هوازن؛ أي: فعلوا ما أوجب النفور للإبل (بهم) أي: بالمسلمين (لذلك) أي: لأجل شدهم عليهم والمسلمون غافلون، ومفعول (استنفروا) قوله: (الركاب) أي: فعلوا بالمسلمين ما أوجب نفور الإبل بهم (وأدبرت) غلب الرقاب (تخدي) أي: تسرع (بهم) أي: بالمسلمين وهم عليها (غلب) بضم الغين المعجمة، وسكون اللام، وإضافته إلى (الرقاب) أي: الإبل الغلاظ، وهو فاعل تنازع فيه (أدبر) و (تخدي) . (واستنزلوا) أي: وطلب المسلمون النزال، أي: دعوا نزال نزال (وادّرعوا) أي: لبسوا دروعهم، وأخذوا أسلحتهم، وأصله: اتدرعوا (وهي) أي: غلب الرقاب (تمر) أي: حال كونها تسير (مرّ) أي: سيرا كسير (جهام) بفتح الجيم؛ أي: السحاب الذي أهرقت ماؤها (بالبهاليل) جمع بهلول؛ أي: بالسادة الكرام، وقوله: (نفر) بضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 فاقتحموا عنها وآبوا للنّبي ... وزحزحوا عنه زحوف العرب النون والفاء، خبر قوله: (وهي) أي: فعلوا ما ذكر وهي باقية على نفورها، كما علم من التقرير. رجوع المسلمين إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد التفرق ثمّ انتصارهم: (فاقتحموا) «1» أي: رمي المسلمون بأنفسهم (عنها) أي: عن الإبل لما أبصروا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام (وآبوا) أي: رجعوا (للنّبي) صلى الله عليه وسلم، ومعه الذين ثبتوا (وزحزحوا) أي: دفعوا (عنه) أي: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (زحوف) جمع زحف؛ أي: جيش (العرب) أي: هوازن. ويشير الناظم إلى ما رواه ابن إسحاق قال: (حدّثني الزّهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: إنّي لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة «2» بغلته البيضاء، قد شجرتها بها، قال: وكنت امرأ جسيما شديد الصوت، قال: ورسول الله صلى الله عليه   (1) قال في «الصحاح» : (قحم في الأمر قحوما: رمى بنفسه فيه من غير روية) . (مادة قحم) . (2) حكمة: بفتحات، قال في «الصحاح» : حكمة اللجام: ما أحاط بالحنك، تقول منه: حكمت الدابة حكما، وأحكمتها أيضا، وكانت العرب تتخذها من القد والأبق؛ لأنّ قصدهم الشجاعة لا الزينة، وقال زهير: القائد الخيل منكوبا دوابرها ... قد أحكمت حكمات القد والأبقا والقد بالكسر: سير قدّ من جلد غير مدبوغ. والأبق بالتحريك: القنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 وسلم يقول حين رأى ما رأى من الناس: «أين أيّها الناس؟» فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: «يا عباس؛ اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» قال: فأجابوا لبّيك، لبّيك، قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مئة..، استقبلوا الناس، فاقتتلوا. وكانت الدعوة أول ما كانت: يا للأنصار، ثمّ خلصت أخيرا: يا للخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون فقال: «الآن حمي الوطيس» «1» ) اهـ   (1) أي: اشتد الحرب، وهذا من الأمثال التي قالها صلى الله عليه وسلم ولم يسبق إليها. قال الحافظ مغلطاي: (وأمثاله صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها كثيرة، كقوله عليه السّلام: «حمي الوطيس» ، و «لا ينتطح فيها عنزان» و «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» ، و «كل الصيد في جوف الفرا» و «الحرب خدعة» و «لا تجني على المرء إلّا يده» و «الشديد من غلب نفسه» و «ليس الخبر كالمعاينة» و «المجالس بالأمانة» و «اليد العليا خير من اليد السفلى» و «البلاء موكل بالمنطق» و «الناس كأسنان المشط» و «ترك الشر صدقة» و «أي داء أدوأ من البخل» و «الأعمال بالنيات» ، و «الحياء خير كله» و «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» و «سيد القوم خادمهم» و «فضل العلم خير من فضل العبادة» و «الخيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 وما زال القوم يجتلدون حتى أسفرت الهزيمة على هوازن، ورجعت راجعة الناس حتى وجدوا الأسارى مكبولين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قصة أم سليم بنت ملحان: قال ابن إسحاق: (وحدّثني عبد الله بن أبي بكر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التفت فرأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبي طلحة، وهي حازمة وسطها ببرد لها، وإنّها لحامل بعبد الله بن أبي طلحة، ومعها جمل أبي طلحة وقد خشيت أن يعزّها الجمل «1» ، فأدنت رأسه منها، فأدخلت يدها في خزامته «2» مع الخطام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم سليم» قالت: نعم، بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك؛ فإنّهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو يكفي الله يا أم سليم؟» قال: ومعها خنجر، فقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك   في نواصيها الخير» و «عدة المؤمن دين» وفي رواية: «كأخذ باليد» و «أعجل الأشياء عقوبة البغي» و «إنّ من الشعر لحكمة» و «الصحة والفراغ نعمتان» و «نية المؤمن خير من عمله» و «من غشنا.. فليس منا» و «المستشار مؤتمن» و «الندم توبة» و «حبك الشيء يعمي ويصم» و «الدال على الخير كفاعله» إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم) . (1) أي: يغلبها. (2) الخزامة: حلقة من شعر تجعل في أنف البعير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 فأرسل الله جنود الفرج ... وقبضة التّرب قضت بالفلج يا أم سليم؟ قالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين.. بعجته به، قال: يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء) . مدد الملائكة للمسلمين: ثمّ أشار الناظم إلى نصر الله رسوله والمؤمنين في هذا اليوم، بإرسال جند الملائكة، وبما أظهره على يد حضرة الرسول من المعجزة الكبيرة، فقال: (فأرسل الله) مددا: الملائكة الكرام (جنود الفرج) سموا بذلك؛ لأنّهم السبب في كشف ما نزل بالمؤمنين من الهزيمة أول الأمر. قال ابن إسحاق: (وحدّثني أبي إسحاق بن يسار عن جبير بن مطعم، قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، لم أشك أنّها الملائكة، ثمّ لم يكن إلّا هزيمة القوم) . قال الإمام السهيلي: (وقول جبير: لقد رأيت مثل البجاد، يعني: الكساء من النمل مبثوثا، يعني: رآه ينزل من السماء، قال: لم أشك أنّها الملائكة. وقد قدم ابن إسحاق قول الآخر: رأيت رجالا بيضا على خيل بلق، وكانت الملائكة، فأراهم الله لذلك الهوازني على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 صور الخيل والرجال ترهيبا للعدو، وأراهم جبير على صورة النمل المبثوث إشعارا بكثرة عددها؛ إذ النمل لا يستطاع عدها، مع أنّ النمل يضرب بها المثل في القوة فيقال: أقوى من النملة؛ لأنّها تحمل ما هو أكبر من جرمها بأضعاف، وقد قال رجل لبعض الملوك: جعل الله قوتك قوة النملة، فأنكر عليه، فقال: ليس في الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلّا النملة، وهذا المثل ذكره الأصبهاني في كتاب «الأمثال» مقرونا بهذا الخبر، وقد أهلك بالنمل أمة من الأمم وهم جرهم) . قال في «المواهب» عن الدمياطي في «سيرته» : (إنّ سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر، أرخوها بين أكتافهم) . رمي الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجوه المشركين بالحصباء: (وقبضة الترب) بضم القاف، على أنّ المراد ما حوته الكف من الحصباء، وعلى أنّ المراد المصدر بفتح القاف (قضت) وحكمت (بالفلج) بفتح الفاء واللام؛ أي: بالظفر والنصر للمؤمنين، وبالهزيمة للمشركين، وذلك أنّه لما نظر إلى القوم وهم يجتلدون وقال: «الآن حمي الوطيس» ، وزاد في رواية: «أنا النّبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» .. أخذ حصيات من الأرض وكان على بغلته البيضاء، فرمى بها أوجه الكفار، ثم قال: «انهزموا ورب محمّد» قال العباس فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 قال في «شرح المواهب» : (روى أبو القاسم البغوي والبيهقي وغيرهما عن شيبة قال صلى الله عليه وسلم: «يا عباس؛ ناولني من الحصباء» ، فأقعد الله البغلة، فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض، فتناول من البطحاء، فحثا به في وجوههم، وقال: «شاهت الوجوه، حم لا ينصرون» . وفي رواية لمسلم: (ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثمّ استقبل به وجوههم فقال: «شاهت الوجوه» فما خلق الله منهم إنسانا.. إلّا ملأت عينه ترابا تلك القبضة، فولوا منهزمين) . وروى البخاري في «التاريخ» والبيهقي عن عمرو بن سفيان قال: (قبض صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الحصى، فرمى بها وجوهنا، فما خيل إلينا إلّا أنّ كل حجر وشجر وفارس يطلبنا) . معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم: قلت: وفي هذا من المعجزات وجوه: منها: تسخير البغلة له صلى الله عليه وسلم، ووقوفها تحت إرادته، حتى إذا قصد الأرض ليأخذ منها الحصيات.. انخفضت له، وفي ضمن هذا ما هو معلوم من كمال شجاعته عليه الصّلاة والسّلام؛ إذ البغلة ليست من مركوب الحرب، ولا تصلح للكر والفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 ومنها: نداؤه بمسمع من عدوه بقوله: «أنا النّبيّ لا كذب ... » إلخ؛ لأنّ العدو إنما أدار رحى الحرب عليه ومن أجله، وهو المقصود عندهم بالقتال، ثمّ هو يريهم مكانه ولا يبالي؛ اعتمادا على مولاه الذي عوده النصر على عدوه في غير موضع. ومنها: ذلك الأثر الكبير الذي فعلته الحصباء لمّا انتشرت في وجه العدوّ على قلة الحصباء. ومنها: إخباره عليه الصّلاة والسّلام بهزيمة القوم، وقد وقعت. وأشار العارف «1» إلى ما فعلت تلك الحصيات بقوله: رمى بالحصى فأقصد جيشا ... ما الحصى عنده وما الإلقاء قال في «الإمتاع» : (وكان الرعب الذي قذف الله في قلوب المشركين يومئذ كوقع الحصاة في الطست له طنين، فيجدون في أجوافهم مثل ذلك، ولمّا رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الكف من الحصى.. لم يبق أحد من المشركين إلّا وهو يشكو القذى في عينيه، ويجدون في صدورهم خفقانا كوقع الحصى في الطساس ما يهدأ ذلك، ورأوا رجالا بيضا على خيل بلق عليهم عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم، وهم بين السماء والأرض كتائب كتائب، فما كانوا يستطيعون أن يتأمّلوهم من الرعب) .   (1) يعني البوصيري رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنّ من قتل قتيلا فله سلبه: وفي هذا اليوم قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا له عليه بينة.. فله سلبه» فعن ابن إسحاق قال: (حدّثني عبد الله بن أبي بكر، أنّه حدث عن أبي قتادة الأنصاري، قال: وحدّثني من لا أتهم من أصحابنا، عن نافع مولى بني غفار أبي محمّد، عن أبي قتادة قالا: قال أبو قتادة: رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان: مسلما ومشركا، قال: وإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم، قال: فأتيته فضربت يده فقطعتها، واعتنقني بيده الأخرى، فوالله؛ ما أرسلني حتى وجدت ريح الدم ويروى: ريح الموت- وكاد يقتلني، فلولا أنّ الدم نزفه.. لقتلني، فسقط فضربته فقتلته، وأجهضني عن القتال، ومرّ به رجل من أهل مكة فسلبه، فلمّا وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا.. فله سلبه» قلت: يا رسول الله؛ والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب، فأجهضني عنه القتال، فما أدري من استلبه، فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه عني من سلبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا والله لا يرضيه منه، تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلبه؟! اردد عليه سلب قتيله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق، اردد عليه سلبه» فقال أبو قتادة: فأخذته منه، فبعته، فاشتريت بثمنه مخرفا، فإنّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 لأوّل مال اعتقدته) اهـ، أي: جعلته عقدة، وفي الصحيح: (فكان أول مال تأثّلته في الإسلام) . هزيمة المشركين: قال في «روض النّهاة» : (ولمّا انهزمت هوازن.. استحر القتل من ثقيف في بني مالك قتل منهم سبعون رجلا، واستمرّ أيضا في بني نصر بن معاوية، ثمّ في بني رباب قبيلة مالك بن عوف، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهمّ اجبر مصيبتهم» ولعل ذلك بعد أن أسلموا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يدعو للمشركين، بل يدعو عليهم. وقتل دريد بن الصمّة كافرا، ويروى: أنّ الذي قتله من الأنصار، وأنّه قال: ضربته بسيفي فلم يغن شيئا، فناولني سيفه، فقال: اضربني بهذا، وارفع عن العظام، واحفظ الدماغ؛ فإنّي كنت كذلك أضرب الرجال، قال: ورأيت بين رجليه كركبة البعير من طول ركوب الخيل، وأنّ الذي قتله ربيعة بن رفيع السلميّ، وأنّ دريدا قال له لما علمه الضرب: وإذا أتيت أمك.. فقل لها: أنا قتلت دريد بن الصمّة، فربّ يوم والله منعت فيه نساءك، فلمّا رجع ربيعة إلى أمه وأخبرها.. قالت: لقد أعتق أمّهات لك ثلاثا، وقيل: إنّ الذي قتله الزّبير بن العوام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 وثبتت مع النّبيّ طائفه ... من أهل بيته وممّن ألفه حيدرة والعمران وأبو ... سفيان جعفر ابنه المنتخب وعمّه ربيعة العبّاس ... وفضله أسامة الأكياس ذكر بعض من ثبت مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم هوازن: ثمّ أراد الناظم أن يذكر من وقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم هوازن فقال: (وثبت مع النّبيّ) صلى الله عليه وسلم في يوم هوازن (طائفة) ، في الأصل القطعة من الشيء، قال في الصحاح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة: الواحد فما فوقه. والمراد هنا جماعة (من أهل بيته) الكرام، قال في «روض النّهاة» : (وعنى بهم هنا: بني عبد المطلب ومواليهم) (وممّن ألفه) بكسر اللام من مهاجري قريش، ثمّ أخذ في تعيينهم، لا على سبيل اللف والنشر المرتب فقال: (حيدرة) وهو: لقب لسيدنا علي رضي الله عنه كما تقدم (والعمران) : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، (وأبو سفيان) بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام عليه وترجم آنفا، و (جعفر ابنه) أي ابن أبي سفيان بن الحارث (المنتخب) المختار، صفة مدح. (وعمه) أي: عم جعفر بن أبي سفيان، وهو (ربيعة) بن الحارث، أخو أبي سفيان المذكور، و (العباس) بن عبد المطّلب عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 وأيمن ابن أمّه والعبدري ... شيبة رام غدر خير مضر وهو الذي نادى بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عالي الصوت: (يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السّمرة) كما تقدم. (وفضله) أي: فضل بن العباس، أضيف إليه؛ لأنّه أكبر أولاده، وبه كان العباس يكنى، وهو من أبهى قريش، ومن ثمّ قيل: من أراد البهاء والسخاء والفقه.. فليأت دار العباس، فالبهاء للفضل، والسخاء لعبيد الله، والفقه لعبد الله. و (أسامة) بن زيد، الحب بن الحب (الأكياس) جمع كيّس بتشديد الياء المكسورة، صفة مدح لأولئك السادة، بمعنى الظرفاء العقلاء، ومن أجل ذلك ثبتوا، فكان ثباتهم وثبوتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرا من مظاهر كياستهم. (وأيمن ابن أمه) أي: ابن أم أسامة؛ لأنّ أيمن بن عبيد وأسامة، أمهما بركة الحبشية مولاته عليه الصّلاة والسّلام، وقتل يومئذ كما قاله ابن إسحاق، يعني: بعد أن ثبت. قصة شيبة بن عثمان العبدري وإسلامه بعد قصده الغدر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم: (و) ممّن ثبت: (العبدري) «1» المنسوب إلى بني عبد الدار واسمه (شيبة) بن عثمان بن أبي طلحة بن   (1) هذا يسمى عندهم بالنحت كالعبشمي لبني عبد شمس، وعبقسي لعبد قيس وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 فصدّه عمّا نوى فضربه ... نبيّنا في صدره فجذبه عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدار؛ فإنّه (رام) أي: طلب وقصد، و (بابه: قال) (غدر) هو ترك الوفاء؛ أي: أن يغدر بالنّبيّ (خير مضر) صلى الله عليه وسلم. (فصده) أي: منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم (عمّا) أي: عن الغدر الذي (نوى) أي: قصده بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، والفتك به، حين خرج إلى هوازن، حتى يكون بزعمه قد أخذ بثأر قريش جميعها، فأعلم الله النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك (فضربه نبينا) أي: وضع يده الميمونة، ومسحها على شيبة (في صدره) أي: صدر شيبة (فجذبه) أي: جذب شيبة إليه، وأعاذه بالله من الشيطان، فما هي إلّا لحظة وقد هدى الله شيبة إلى الإسلام بتلك اليد المباركة، حتى كان في صفوف الثابتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحمون الإسلام. قال شيبة محدثا عن إسلامه: (ما رأيت أعجب ممّا كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات، قال: لمّا كان يوم الفتح.. دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمّد غرّة، فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول لم يبق من العرب والعجم أحد إلّا اتّبع محمّدا.. ما اتّبعته أبدا، وكنت مرصدا لما خرجت له، لا يزداد الأمر في نفسي إلّا قوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 فلمّا اختلطت الناس.. اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، وأصلتّ السيف فدنوت أريد منه ما أريد، ورفعت سيفي حتى كدت أسوره، فرفع لي شواظ من النار كالبرق يكاد يمسحني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه، والتفتّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديني: «يا شيب؛ ادن مني» فدنوت منه، فمسح صدري، ثمّ قال: «اللهمّ؛ أعذه من الشيطان» قال: فو الله؛ لهو كان ساعتئذ أحبّ إليّ من سمعي، ومن بصري ونفسي، وأذهب الله ما كان بي. ثمّ قال: «يا شيب؛ ادن مني فقاتل» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، والله أعلم أنّي أحب أن أقيه بنفسي كل شيء، ولو لقيت أبي تلك الساعة حيا.. لأوقعت به السيف، فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون، فكروا كرة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوى عليها فخرج في إثرهم، حتى تفرّقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره، فدخل خباءه، فدخلت عليه، ما دخل عليه غيري؛ حبا لرؤية وجهه، وسرورا به، فقال: «يا شيب؛ الذي أراد الله بك خير ممّا أردت بنفسك» ثمّ حدّثني بكل ما أضمرته في نفسي ممّا لم أكن أذكره لأحد قط، فقلت: فإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله، ثمّ قلت: استغفر لي، قال: «غفر الله لك» ودفع إليه وإلى ابن عمه عثمان مفاتيح الكعبة وقال: «خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة، لا ينزعها منكم إلّا ظالم» ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 واعلم: أنّ هذه الأبيات الخمسة هي المثبتة في نسختي التي قرأتها وصححتها على شيخي، المرحوم الشيخ محمّد بن عبد الله زيدان، وعليها شرحت، وفي نسخة الشيخ حمّاد الذي شرح عليها مخالفة في اللفظ، أمّا المآل.. فواحد، غير أنّ في النسخة الأولى زيادة في سبب إسلام شيبة لم تكن في النسخة الثانية، كما هو ظاهر، ولفظ النسخة الثانية: وثبتت مع النّبيّ طائفه ... من أهل بيته وممّن ألفه عمر ذي الخلال شيبة، أبي ... سفيان وابنه وعمّه الأبي حيدرة أسامة أيمنه ... ثمّ أبو الفضل وفضل وابنه وقوله: (عمر) وما بعده بالجر بدل من المجرور في قوله: (من أهل بيته وممّن ألفه) وقوله: (وعمه) أي: عم جعفر بن أبي سفيان، وهو ربيعة بن الحارث أخو أبي سفيان بن الحارث، و (الأبيّ) معناه: الممتنع من الضيم. القول في فرار من فرّ من الصحابة في هذه الغزوة: واعلم: أنّ فرار الباقين من الصحابة في هذه الغزوة ليس فيه عار؛ لأنّه إنّما كان في بادئ الأمر ولم يستمر، أو أنّه كان صوريا؛ فإنّه فرار عن عود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 قال الطبري- كما في «المواهب» -: (الانهزام المنهي عنه، ما وقع على غير نية العود، وأمّا الاستطراد للكرّة.. فهو كالمتحيز إلى فئة) . وقال ابن سيد الناس في «العيون» : (فرارهم قد أعقبه رجوعهم إليه بسرعة، وقتالهم معه حتى كان الفتح، ففي ذلك نزل قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ كما قال الله تعالى فيمن تولّى يوم أحد: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وإن اختلف الحال في الوقعتين) . وفي «الروض» للسّهيليّ: (لم يجمع العلماء على أنّه من الكبائر إلّا في يوم بدر، وهو ظاهر قوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية، ثمّ أنزل التخفيف في الفارين يوم أحد، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) . وفي «تفسير ابن سلام» : (كان الفرار يوم بدر من الكبائر، وكذا يكون في ملحمة الروم الكبرى، وعند الدجال) . والحاصل: أنّ هذه المعركة أسفرت عن نصر كبير للمسلمين، وفتح مبين، فقد رجع الجيش بعد التفرق إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بطلب العدوّ، فانتهى بعضهم إلى الطائف، كمالك بن عوف في جماعة من أشراف قومه. قال في «شرح المواهب» : (إنّهم لمّا انهزموا.. وقف مالك على ثنية في شبان أصحابه فقال: قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم، ويتتام آخركم، فبصر بهم الزّبير، فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك إلى الطائف، ويقال: تحصن في قصر بليّة على أميال من الطائف، فغزاهم صلى الله عليه وسلم بنفسه كما يأتي، وهدم القصر) . قال في «المواهب» : (واستشهد من المسلمين أربعة، ومنهم أيمن، وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا) ا هـ الغنائم والسبي: ونال المسلمون من الغنائم الشيء الكثير، فمن الإبل أربعة وعشرون ألفا، ومن الغنم أكثر من أربعين ألفا، ومن الفضة أربعة آلاف أوقية، وسبوا نساءهم وأبناءهم، وأمر عليه الصّلاة والسّلام بجمع ذلك في الجعرانة إلى أن يرجعوا من الطائف. قال في «الإمتاع» : (وانتهى عليه الصّلاة والسّلام إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس خلون من ذي القعدة، والسبي والغنائم بها محبوسة) وإليه الإشارة بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 ووقف السّبي إلى أن رجعا ... من طائف لعلّ أن يسترجعا (ووقف) أي: حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم (السبي) الذي سباه من هوازن، وكانوا ستة آلاف آدمي، سوى الغنم، والنعم، والأموال، فلم يقسمه، وإطلاق السبي على الجميع على التغليب. قال ابن التلمساني: (ولا يكون السبي إلّا في النساء) نقله عن الخفاجي في «شرح الشفاء» وأمر بالجميع أن يجمع بالجعرانة (إلى أن رجعا) بألف الإطلاق للقافية (من طائف) أي: من غزوة الطائف، وإنّما فعل ذلك (لعلّ) أي: رجاء (أن يسترجعا) بالبناء للمجهول؛ أي: يسترجع السبي أهله، فيرده لهم، ولكنه عليه الصّلاة والسّلام لمّا ترجى ذلك، وانتظر أهل السبي بضعة عشر يوما.. لم يفعلوا حتى قسمه في مستحقيه، ووقعت المقاسم مواقعها. قدوم وفد هوازن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وردّه السبي إليهم: وبعد ذلك قدم وفد هوازن، وهم أربعة عشر رجلا مسلمين، ورأسهم زهير بن صرد الخشمي، وأبو برقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فقالوا: يا رسول الله؛ إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك. وقال زهير: يا رسول الله؛ إنّما في الحظائر عماتك وخالاتك، وحواضنك اللّاتي كنّ يكفلنك؛ أي: لأنّ مرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة كانت من هوازن، وقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 أيضا: ولو ملحنا- أي: أرضعنا- للحارث بن أبي شمر أي: ملك الشام- أو للنعمان بن المنذر ملك العراق، ثمّ نزل منا بمثل ما نزلت به.. رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين، وأنشده أبياتا يستعطفه صلى الله عليه وسلم بها، وهي: أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنّك المرء نرجوه وننتظر أمنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزّق شملها في دهرها غير يا خير طفل ومولود ومنتخب ... في العالمين إذا ما حصّل البشر إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين تختبر أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من مخضها الدّرر إذ كنت طفلا صغيرا كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر لا تجعلنّا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنّا معشر زهر يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشّرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 إنّا لنشكر آلاء وإن كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر إنّا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذي البرية إذ تعفو وتنتصر فاعف عفا الله عمّا أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ أحسن الحديث أصدقه، أبناؤكم ونساءكم أحبّ إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، اردد علينا نساءنا وأبناءنا؛ فهم أحبّ إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنا صلّيت الظهر بالناس.. فقوموا فقولوا: إنّا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا» . فلمّا صلّى الظهر.. قاموا فتكلّموا بما أمروا به، فقال صلى الله عليه وسلم بعد أن أثنى على الله بما هو أهله: «أمّا بعد: فإنّ إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإنّي رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحبّ أن يطيب بذلك.. فليفعل، ومن أحبّ منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا.. فليفعل» . وقال صلى الله عليه وسلم: «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب.. فهو لكم» فقال المهاجرون والأنصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 رضوان الله تعالى عليهم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأقرع بن حابس: أمّا أنا وبنو تميم.. فلا، وقال عيينة بن حصن: أمّا أنا وبنو فزارة.. فلا، وقال العباس بن مرداس: أمّا أنا وبنو سليم.. فلا، فقالت بنو سليم: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس بن مرداس: وهّنتموني- أي: أضعفتموني حيث جعلتموني منفردا- ثمّ ردّ جميع السبي لأهله، إلّا عجوزا صارت إلى عيينة بن حصن، وقال حين أخذها: أرى عجوزا، إني لأحسب أنّ لها في الحي نسبا، وعسى أن يعظم فداؤها، ثمّ ردها بعد ذلك بعشر من الإبل، أخذ ذلك من ولدها بعد أن ساومه فيها مئة من الإبل، وقال له ولدها: والله؛ ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوهها ببارد، ولا صاحبها بواجد- أي: بحزين لفراقها- ولا درها بناكد- أي: ليس لبنها بغزير- فقال عيينة: خذها، لا بارك الله لك فيها. قال ابن برهان في «الحلبية» : (وذلك ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم على من أبى أن يرد من السبي شيئا أن يبخس؛ فإنّ ولدها دفع له فيها مئة من الإبل فأبى، ثمّ غاب عنه، ثمّ مرّ عليه معرضا عنه، فقال: خذها بالمئة، فقال: لا أدفع إلّا خمسين، فأبى، فغاب عنه، ثمّ مرّ عليه معرضا عنه، فقال: خذها بخمسين، فقال: لا أدفع إلّا خمسة وعشرين، فأبى، فغاب عنه، ثمّ مرّ عليه معرضا عنه فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 خذها بالخمسة والعشرين، فقال: لا آخذها إلّا بعشرة- وفي رواية: إلّا بستة- ولمّا أخذها ولدها.. قال لعيينة: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كسى السبي قبطية قبطية، فقال: لا والله؛ ما ذاك لها عندي، فما فارقها حتى أخذ لها ثوبا منه، والقبطية: بضم القاف ثوب أبيض من ثياب مصر) . قصة الشيماء بنت الحارث: وقدمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم الشيماء بنت الحارث السعدية أخته من الرضاع، وذكرت له أنّها أخته من الرضاع، بعلامة كان عليه الصّلاة والسّلام يعرفها، وهي عضة عضها في ظهرها وهي متوركته، فبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، وخيّرها بين أن تكون عنده محببة مكرمة، وبين أن ترجع إلى قومها ممتعة، قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، ففعل. قال في «العيون» : (فزعمت بنو سعد: أنّه أعطاها غلاما له اسمه مكحول، وجارية، فزوجت إحداهما الآخر، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية، أسلمت وأسلم أبوها الحارث رضي الله عنهما) . وإلى عفوه صلى الله عليه وسلم عن هوازن، وما لقيت أخته من الرضاع من الكرامة، والبر بها حسبما يليق بخلقه الشريف، أشار العارف «1» رضي الله عنه بقوله:   (1) يعني البوصيري رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 أعطى عطايا شهدت بالكرم ... يومئذ له ولم تجمجم منّ فضلا على هوازن إذ كا ... ن له قبل ذاك فيهم رباء وأتى السّبي فيه أخت رضاع ... وضع الكفر قدرها والسّباء فحباها برّا توهّمت النّا ... س به أنّما السّباء هداء بسط المصطفى لها من رداء ... أيّ فضل حواه ذاك الرداء فغدت فيه، وهي سيدة النّس ... وة والسيدات فيه إماء سخاؤه صلى الله عليه وسلم في عطاياه: ثمّ أشار الناظم إلى مظهر آخر من مظاهر جوده عليه الصّلاة والسّلام في ذلك اليوم؛ بقسم الأموال العظيمة، وإعطاء المؤلفة قلوبهم أول الناس؛ ليرسخ الإيمان في قلوبهم فقال: (أعطى عطايا) جساما (شهدت بالكرم يومئذ) أي: يوم حنين (له) أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بقوله: (شهدت) والمراد بالكرم هنا: النبوة؛ فإنّه لمّا أعطى صفوان ما أعطى.. قال: أشهد أنّه نبي؛ فإنّه لا تطيب بهذا إلّا نفس نبي (ولم تجمجم) معطوف على قوله: (شهدت) مأخوذ من التجمجم، وهو أن لا يظهر المتكلم كلامه؛ أي: شهدت بالكرم تلك العطايا شهادة فصيحة ولم تكتمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 قال الحافظ ابن سيد الناس في «العيون» : (فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية، ومئة من الإبل، قال: ابني يزيد؟ قال: أعطوه أربعين أوقية، ومئة من الإبل، قال: ابني معاوية؟ قال: أعطوه أربعين أوقية، ومئة من الإبل، قال أبو سفيان- كما في «الإمتاع» -: إنّك لكريم، فداك أبي وأمي، والله؛ لقد حاربتك.. فنعم المحارب كنت، ثمّ سالمتك.. فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيرا- وأعطى حكيم بن حزام مئة من الإبل، ثمّ سأله مئة أخرى فأعطاه. وأعطى النّضر بن الحارث بن كلدة مئة من الإبل، وأعطى أسيد بن جارية الثقفي مئة من الإبل، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي خمسين بعيرا، وأعطى مخرمة بن نوفل خمسين بعيرا. وأعطى الحارث بن هشام مئة من الإبل، وأعطى سعيد بن يربوع خمسين من الإبل، وأعطى صفوان بن أمية مئة من الإبل، وأعطى قيس بن عدي مئة من الإبل. وأعطى عثمان بن وهب خمسين من الإبل. وأعطى سهيل بن عمرو مئة من الإبل، وأعطى حويطب بن عبد العزّى مئة من الإبل، وأعطى هشام بن عمرو العامري خمسين من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس التميمي مئة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن مئة من الإبل، وأعطى مالك بن عوف مئة من الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 وكيف لا ومستمدّ سيبه ... من سيب ربّ ذي عناية به وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل، فقال في ذلك شعرا، فأعطاه مئة من الإبل، ويقال: خمسين. وأعطى ذلك كله من الخمس، وهو أثبت الأقاويل عندنا، ثمّ أمر زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم، ثمّ فضها على الناس، فكانت سهمانهم لكل رجل أربعا من الإبل أو أربعين شاة، فإن كان فارسا.. أخذ اثنتي عشرة من الإبل، أو عشرين ومئة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد.. لم يسهم له. (وكيف لا) يعطي هذا العطاء الجم وأشباهه (ومستمد) أي: والحال أنّ مأخذ (سيبه) بفتح الأوّل؛ أي: عطائه (من سيب) أي: من عطاء (رب ذي عناية به) صلى الله عليه وسلم! وإذن فلا غرابة في ذلك؛ فقد أعطاه الله الدنيا والآخرة، وهو يعطي ما شاء لمن شاء، قال الله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنّ عناية الله تعالى بسيدنا ونبينا صلى الله عليه وسلم فوق عنايته بغيره من الأنبياء والمرسلين؛ فإنه تعالى لم يقل مثل ذلك لغيره من النبيين. أقول: ولو لم يكن من كرمه وجوده عليه ألف صلاة، وألف سلام إلّا وقوفه في ذلك اليوم العظيم، الذي يكون كل واحد مهتما فيه بنفسه، والأنبياء تقول: نفسي نفسي، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 عليه الصّلاة والسّلام يقول: «أمّتي أمّتي» حتى يخر ساجدا لله تعالى، ويلهمه الله ما يلهمه من الثناء الحسن، فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفّع، فعند ذلك يشفع للأمة، لا بل لجميع الخلق في ذلك اليوم لإراحتهم من ذلك الموقف الهائل العظيم.. لكفى. وفي بعض نسخ «الشفاء» : (قد قال أبو علي الدقاق، من شيوخ المتصوفة المشاهير وعلمائهم النحارير، وتكلّم في الفتوة، وهي غاية الكرم والإيثار، على رأيهم واصطلاحهم في ألفاظهم: إنّ هذا الخلق لا يكون بكماله إلّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كل أحد في القيامة يقول: نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: «أمّتي أمّتي» فلو لم يكن من كرمه إلّا هذا.. لكفى، وكفى) . وأظن أنّه لا ينازع في هذا أحد، فنسأل الله تعالى بمنّه وكرمه وجوده، وبنبيّ الرّحمة صلى الله عليه وسلم: أن يجعلنا ووالدينا ومشايخنا وأحبابنا ممّن كتبت له العناية والسعادة، وأن يدخلنا في شفاعته الخاصة والعامّة يوم القيامة، آمين. قال الشيخ حماد في «روض النّهاة» : (أنشد الناظم رحمه الله تعالى قوله: «وكيف لا ومستمد سيبه» البيت، الفقيه محمّد بن المختار بن الفغ موسى، فقال: أنا ضامن لك الجنة بهذا البيت ولو لم يكن لك غيره من عمل، ثمّ أوصاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 أعطى عطايا أخجلت دلح الدّيم ... إذ ملأت رحب الفضا من النّعم زهاء ألفي ناقة منها وما ... ملأبين جبلين غنما لرجل وبله ما لحلقه ... منها ومن رقيقه وو رقه رحمه الله تعالى إن أنا متّ.. فاكتبه في رقعة وادفنها معي، ولم أحضر مصيبتنا به) اهـ عطاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤلّفة قلوبهم: ولمّا كان المقام مقام إطناب.. أخذ الناظم في تفصيل بعض ما أجمله، فقال: (أعطى عطايا أخجلت) وأدهشت لعظمها (دلح) بضم فسكون، جمع دلوح، قال في «الصحاح» : (وسحابة دلوح: كثيرة الماء، وسحائب دلح مثل قدوم وقدم) وهي مضافة إلى قوله: (الدّيم) بكسر الدال وفتح المثنّاة التحتية؛ أي: السحاب الغزيرة بالماء جمع ديمة؛ فإنّ تلك العطايا لعظمها وسماحة نفس معطيها، أوجبت محبته عليه الصّلاة والسّلام، والدخول في حظيرة الإسلام، فأيّ مناسبة في جوده المدرار وجود الديم الغزار (إذ ملأت) عطاياه (رحب الفضا) بالقصر للضرورة، وهو ما اتّسع من الأرض، وهو من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: ملأت الفضاء الرحب (من النعم) الإبل والبقر والغنم. (زهاء) بضم الزاي؛ أي: مقدار (ألفي ناقة منها) أي: من النعم أعطاها للمؤلّفة قلوبهم كما تقدم، (وما) أي: وزهاء الذي (ملأ بين جبلين غنما لرجل) هو صفوان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 أميّة؛ فإنّه أعطاه ذلك، وأعطاه مئة ناقة، وكان هرب يوم الفتح، وأمّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث إليه مع وهب بن عمير بردائه- أو ببرده- أمانا له، فانصرف صفوان مع وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف، وناداه في جماعة الناس: يا محمّد؛ إنّ هذا وهب يزعم أنّك أمنتني على أن أسير شهرين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انزل أبا وهب» فقال: لا، حتى تبيّن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انزل، فلك مسيرة أربعة أشهر» ولمّا أعطاه ما أعطاه وأكثر.. قال: أشهد بالله؛ ما طابت بهذا إلّا نفس نبي، فكان سبب إسلامه. روى مسلم في «صحيحه» عن أنس رضي الله عنه: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلّا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلّا الدنيا، فما يلبث إلّا يسيرا حتى يكون الإسلام أحبّ إليه من الدنيا وما عليها. (وبله) بفتح الباء، اسم فعل أمر بمعنى: دع (ما) أي: الذي أعطاه عليه الصّلاة والسّلام (لحلقه) بكسر الحاء وفتح اللام: جمع حلقة؛ أي: لقومه وجماعته من بني هاشم وبني المطّلب (منها) أي: من الغنم (ومن رقيقه وو رقه) أي: فضته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 منها أفاد العمّ ما ناء به ... فهال منه عمّه عن ثوبه والحاصل: أنّ حديث جوده متواتر، وخبر كرمه مستفيض مشهور، وعن البحر حدّث ولا حرج. عطاؤه صلى الله عليه وسلم لعمّه العباس: (منها) أي: من العطايا التي أعطاها لجماعته من بني هاشم (أفاد) أعطى وأكسب (العم) وهو العباس رضي الله عنه (ما) أي: الشيء الكثير من المال الكثير الّذي (ناء به) أي: ثقل بالعباس أن يحمله على عظيم قوته، قال في «المختار» : (ناء بالحمل: نهض به مثقلا، وناء به الحمل: أثقله) وطلب العباس من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعينه على حمله فلم يفعل (فهال) أي: صب (منه) أي: من المال في الأرض (عمه عن ثوبه) ليستطيع حمله؛ إذ لم يجد بدّا من ذلك. وهذا الذي ذكره الناظم هنا فيه نظر؛ فإنّ المشهور: أنّ هذه القضية كانت بالمدينة، حين ورد مال البحرين على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عامله بها، وهو العلاء بن الحضرميّ، وكان أكثر مال أتى فنثر في المسجد، فأتاه العباس رضي الله عنه فقال: أعطني؛ فإنّي فاديت نفسي وعقيلا، فقال له صلى الله عليه وسلم: «خذ» فحثا في ثوبه، ثمّ ذهب ليقلّه- أي: ليحمله- فلم يستطع، فقال: مر من يرفعه عليّ، فقال: «لا» فقال: ارفعه أنت عليّ، فقال: «لا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 ووكل الأنصار خير العالمين ... لدينهم إذ ألّف المؤلّفين فوجدوا عليه أن منعهم ... فأرسل النّبيّ من جمعهم وقال قولا كالفريد المونق ... عن نظمه ضعف سلك منطقي فنثر منه، ثمّ ذهب يقله فلم يقدر، فقال له كالأول، فنثر منه، ثمّ احتمله على كاهله وانطلق، فأتبعه صلى الله عليه وسلم بصره تعجّبا منه! ولم يقم عليه الصّلاة والسّلام حتى فرقه، فلم يبق منه درهم. موقف الأنصار ورضاهم بما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد خطبته فيهم: (ووكل) بصيغة الماضي المعلوم؛ أي: سلم (الأنصار خير العالمين) صلى الله عليه وسلم (لدينهم) أي: لقوته ولرسوخه في قلوبهم (إذ ألّف المؤلفين) من قريش وقبائل العرب بالعطايا، ولم يعط الأنصار شيئا. (فوجدوا عليه) ل (أن منعهم) من ذلك، وقالوا: يغفر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟! فحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقالتهم (فأرسل النبيّ من جمعهم) وهو سعد بن عبادة. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله (وقال قولا) في نفاسته (كالفريد) هو الدر إذا نظم وفصل بغيره (المونق) الحسن المعجب (عن نظمه) في هذه الأرجوزة، وهو متعلق بقوله: (ضعف سلك) بكسر أوله، في الأصل: الخيط يجعل فيه اللؤلؤ، وهو مضاف إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 قوله: (منطقي) وفيه استعارة حيث جعل لمنطقه سلكا يدخل فيه ما ينظمه من مسائل الفن، التي هي كالدرر. وأشار بهذا إلى ما ذكره ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: (لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء.. وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله؛ إنّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم؛ لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله؛ ما أنا إلّا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلمّا اجتمعوا.. أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال: «يا معشر الأنصار؛ ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله؟ وعالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثمّ قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؛ لله ولرسوله المنّ والفضل، قال صلى الله عليه وسلم: «أمّا والله؛ لو شئتم.. لقلتم ولصدقتم: أتيتنا..- كذا وكذا- أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا، تألّفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الّذي نفس محمّد بيده؛ لولا الهجرة.. لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا.. لسلكت شعب الأنصار، اللهمّ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثمّ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقوا) . وفي الصحيح: (أنّهم لمّا سئلوا: «ما حديث بلغني عنكم؟» قال فقهاء الأنصار: أمّا رؤساؤنا.. فلم يقولوا شيئا، وأمّا ناس منا حديثة أسنانهم.. فقالوا: يغفر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا.. إلخ، ولذلك قال الحافظ في فوائد هذه المقالة، بين هذا الأب الرحيم وأبنائه البررة: منها: حسن أدب الأنصار في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء، وبيان أنّ الذي نقل عنهم إنّما كان عن شبانهم، لا عن شيوخهم وكهولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 وفيه: مناقب عظيمة لهم؛ لما اشتمل عليه من ثناء الرسول البالغ عليهم، وأنّ الكبير ينبه الصغير على ما يغفل عنه، ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق. وفيه: المعاتبة، واستعطاف المعاتب، وإعتابه عن عتبه. وفي الصحيح زيادة: (أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال لهم في خاتمة كلامه معهم: «ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّي على الحوض» ) اهـ ففيه علم من أعلام النبوة؛ إذ كان ما قال عليه الصّلاة والسّلام. وقد صحّ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (بينا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفله من حنين.. علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة، فعلقت رداءه- أو كلمة تشبهها- قال: فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما.. لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا» ) انظر «صحيح البخاري» . بعث أبي عامر الأشعري إلى أوطاس: ولمّا دارت الهزيمة على هوازن، وفرغ عليه الصّلاة والسّلام من حنين.. بعث في طلب الفارين من هوازن إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 وأدرك الفلّ بأوطاس السّري ... عمّ أبي موسى الشّجاع الأشعري وغال تسع إخوة مبارزه ... وفرّ عاشر لدى المبارزه أوطاس «1» أبا عامر الأشعري، وانتهى إليهم فإذا هم مجتمعون، فقتل منهم أبو عامر تسعة إخوة مبارزة وهرب العاشر، ورمي أبو عامر بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو موسى، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وهزمهم الله، وإلى هذه الإشارة يقول الناظم رحمه الله تعالى: (وأدرك الفلّ) بفتح الفاء؛ أي: الجماعة المنهزمين؛ أي: بعضهم، قال في «القاموس» و «شرحه» : (قوم فلّ: منهزمون، يستوي فيه الواحد والجمع) (بأوطاس) يتعلق بأدرك (السريّ) : الشريف، وهو فاعل أدرك (عم أبي موسى) على الأشهر الذي قاله في «الفتح» واسمه: عبيد بن سليم بتصغيرهما، ويكنى بأبي عامر (الشجاع الأشعري) صفتان للعم، وذلك أنّهم لمّا انهزموا أتوا الطائف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجّه بعضهم نحو نخلة.. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر في آثار من توجه قبل أوطاس، وناوشوه القتال. (وغال) أي: قتل (تسع إخوة) حال كون القتال   (1) ذكر ابن إسحاق: (أنّ هوازن لما انهزموا.. سارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نخلة، وطائفة إلى أوطاس، فأرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عسكرا مقدمهم أبو عامر الأشعري إلى من مضى إلى أوطاس، - كما يدل عليه الحديث الصحيح في «البخاري» - ثمّ توجه هو وعساكره إلى الطائف) اهـ فوادي أوطاس، غير وادي حنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 وإذ توى دوّخهم حفيده ... وجاء بالفلّ وهم عبيده (مبارزة) واحدا بعد واحد (وفر عاشر لدى) أي: عند (المبارزة) . (وإذ توى) مات أبو عامر، قيل: رمي بسهم فقتل، قال ابن سعد: قتل أبو عامر تسعة مبارزة، ثمّ برز العاشر معلما بعمامة صفراء، فضرب أبا عامر فقتله (دوّخهم) أذلهم (حفيده) ابن أخيه، وهو أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه (وجاء بالفلّ) أي: المهزومين (وهم) أي: الفلّ (عبيده) . دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأبي عامر: قال في «المواهب» : (لمّا قتل أبو عامر.. خلفه أبو موسى الأشعريّ، فقاتلهم حتى فتح الله عليه، وقتل قاتل أبي عامر، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ اغفر لأبي عامر، واجعله من أعلى أمّتي في الجنة» ) . وفي «البخاري» : (قال- يعني أبا عامر لأبي موسى لمّا رمي بالسهم-: يابن أخي؛ أقرئ النّبيّ صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له استغفر لي، ثمّ مات، فرجعت، فدخلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيته وهو على سرير مرمّل وعليه فراش، قد أثر رمال السرير في ظهره وجنبه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وأنّه قال: قل له استغفر لي، فدعا بماء فتوضّأ، ثمّ رفع يديه، وقال: «اللهمّ؛ اغفر لعبيد أبي عامر» ورأيت بياض إبطيه، ثمّ قال: «اللهمّ؛ اجعله يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 القيامة في الجنة فوق كثير من خلقك من الناس» فقلت: ولي فاستغفر، قال: «اللهمّ، اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» قال أبو بردة- يعني ابن أبي موسى راوي الحديث-: إحداهما- أي الدعوتين- لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى) اهـ والمرمل- براء مهملة، ثمّ ميم مثقلة- أي: معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي تضفر بها الأسرة. ويستفاد من هذا الحديث: استحباب الطهارة لإرادة الدعاء، ورفع اليدين في الدعاء. اهـ (29) غزوة الطائف الطائف: هي بلد كبير على ثلاث مراحل بسير الإبل من مكة، وعلى خمس ساعات بسير السيارات الحديثة، على طريق وعر غير معبّد، واليوم مهّد الطريق إليه من عرفة إلى جبل الكر الذي حطم لتعبيد الطريق إلى جبل الهدى، ومنه النزول إلى وادي محرم، ولو تمّ هذا العمل «1» .. تكون المسافة إلى الطائف نحو ساعة أو أقل.   (1) قد تمّ العمل بطريق الهدا منذ عام (1385 هـ) تقريبا، وتقطع المسافة في نحو الساعة بالسير المعتدل بالسيارة الصغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 وهي مدينة بناحية المشرق، طيبة الهواء، كثيرة الفواكه، ترتفع عن سطح البحر بمقدار ألف قدم، قيل: سميت بالطائف؛ لأنّها كانت بالشام، فنقلها الله إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام، أو لأنّ رجلا من الصّدف أصاب دما بحضرموت، ففرّ إلى وجّ «1» ، وحالف مسعود بن معتّب، وكان له مال عظيم؛ فقال: هل لكم أن أبني لكم طوفا عليكم يكون لكم ردءا من العرب؟ فقالوا: نعم، فبناه، وهو الحائط المطيف به، أو لأنّه طاف على الماء في الطوفان، أو لأنّ جبريل طاف بها على البيت، ذكر هذه الأقوال صاحب «القاموس» . وقال السهيليّ: (ذكر بعض المفسّرين وجها آخر في تسميتها بالطائف، فقال في الجنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في «سورة ن» حيث يقول: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ قال: كان الطائف جبريل عليه السّلام، اقتلعها من موضعها، فأصبحت كالصّريم، وهو الليل، أصبح موضعها كذلك، ثمّ سار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثمّ أنزلها حيث الطائف اليوم، فسميت باسم الطائف الذي طاف عليها وطاف بها، وكانت تلك الجنة بصوران على فراسخ من صنعاء، ومن ثمّ كان الماء والشجر بالطائف دون ما حولها من الأرضين، وكانت قصة أصحاب الجنة بعد عيسى ابن مريم   (1) بفتح الواو وتشديد الجيم: اسم لموضع بالطائف، وقيل: اسم للوادي كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 فلثقيف وهي في حصون ... بطائف أقبل من حنين صلّى الله عليه وعلى نبينا وسلّم بيسير، ذكر هذا الخبر النقاش وغيره) اهـ قلت: فهذه وجوه خمسة في التسمية، ولم أر من اعتمد واحدا منها وردّ الآخر، أو اعتمد غيرها. تحصن ثقيف بحصنهم في الطائف: وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان، على ما قاله جمهور أهل المغازي. واعلم: أنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا فرغ من حنين منصورا مظفرا، وبعث بغنائمها إلى وادي الجعرانة كما تقدم.. توجه لثقيف كما قال الناظم: (فلثقيف) أي: فبعد حنين أقبل عليه الصّلاة والسّلام لثقيف، فالجار والمجرور يتعلق ب (أقبل) وقوله: (وهي) أي: ثقيف متحصنة (في حصون بطائف) جملة معترضة بين قوله فلثقيف وقوله: (أقبل من) وادي (حنين) . قال في «العيون» عن ابن سعد: (قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائف، وقدّم خالد بن الوليد على مقدمته، وقد كانت ثقيف رمّوا حصنهم، وأغلقوه عليهم، وتهيّؤوا للقتال، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قريبا من حصن الطائف- قال الزرقانيّ: ولا مثل له في حصون العرب- وعسكر هناك، فرموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 فسألوه الكفّ عن قطع الكرم ... بالله والرّحم فارتادوا الكرم المسلمين بالنّبل رميا شديدا كأنّه رجل جراد «1» ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم «2» ، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله، فحاصرهم ثمانية عشر يوما، وأمر بقطع أعنابهم ونخلهم، فقطع المسلمون قطعا ذريعا- أي: سريعا- ثمّ سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقالوا: لم تقطع أموالنا؟ إمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإمّا أن تدعها لله وللرحم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّي أدعها لله وللرحم» «3» ) ، وإليه الإشارة بقوله: (فسألوه الكف) أي: المنع (عن قطع الكرم) أي: العنب، والراء في الأصل ساكنة، وحركت بالفتح للضرورة (بالله والرحم) يتعلق ب (سألوه)   (1) بكسر الراء وسكون الجيم، يعني: أنّ السهام لكثرتها صارت كجماعة الجراد المنتشر. (2) قال في «شرح المواهب» : (وهو الذي بناه عمرو بن أميّة بن وهب مسجدا لما أسلمت ثقيف، وكان فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع عليها الشمس يوما من الدهر إلّا سمع لها نقيض- أي: صوت- أكثر من عشر مرات، وكانوا يرون أنّ ذلك نبيح) اهـ (3) لأنّ أمه عليه الصّلاة والسّلام آمنة، أمها برة بنت عبد العزّى بن قصي، وأم برة هذه أم حبيب بنت أسعد، وأمها برة بنت عوف، وأمّها قلابة بنت الحارث، وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف، كما قاله ابن قتيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 فهابه والمنجنيق ضربا ... وسئل الدّعا عليهم فأبى (فارتادوا) أي: فطلبوا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم (الكرم) الذي هو ضد اللؤم، يقال: ارتاد الكلأ: طلبه، فلا إيطاء. فإن قيل: قد سمى الناظم العنب كرما، وقد نهى عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسموا العنب الكرم» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه؟ قلت: النهي محمول على التنزيه، وعلة النهي: كونه يتخذ منه الخمر، ولأنّ فيها تقريرا لما كانوا يتوهمونه من تكريم شاربها. (فهابه) أي: هاب الله تعالى لما سألوه به، وقال: «أدعها لله وللرحم» وكفّ عزّ وجلّ. ضرب المسلمين حصونهم بالمنجنيق: (والمنجنيق) بفتح الميم وتكسر: آلة ترمى بها الحجارة قال في شرح المواهب: (مؤنث عند الأكثر، ويذكر، معرب، والميم أصلية عند سيبويه والنون زائدة، ولذا أسقطت في الجمع، قال كراع: كل كلمة فيها جيم وقاف أو جيم وكاف مثل كيلجة.. فهي أعجمية، ذكره في «الروض» ) اهـ وهو بالنصب على حذف الخافض؛ أي: وبالمنجنيق (ضربا) عليه الصّلاة والسّلام ثقيفا، وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 سرية ذي الكفين «1» ، فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتل من المسلمين اثنا عشر رجلا. إباء الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدعاء على ثقيف: (و) لمّا أحرقتهم نبال ثقيف (سئل) أي: سأل الصحابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم (الدعا عليهم) فقالوا: يا رسول الله؛ ادع على ثقيف، (فأبى) عليه الصّلاة والسّلام؛ لعظيم حلمه، وكريم أخلاقه، ولنظره السامي أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمنون بالله عزّ وجلّ، ورجاء أن يهديهم الله للدخول في حظيرة الإسلام، ومن ثمّ لمّا سئل ذلك.. أبى، وقال عليه الصّلاة والسّلام: «اللهمّ؛ اهد ثقيفا، وائت بهم مسلمين» . ومن ألقى نظرة إلى سوء ما عاملت به ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّهم آذوه أشد الأذى يوم أتاهم للدعوة إلى دين الله، وإلى ما يقوله عليه الصّلاة والسّلام في شأنهم في هذا اليوم يرى سموّ أخلاقه، وكرم نفسه الشريفة؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله؛ هل مرّ عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: «ما لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت   (1) تثنية كف، وهو صنم من خشب كان لعمرو بن حممة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلّا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال: يا محمّد؛ ذلك لك إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين.. فعلت، - فقال صلى الله عليه وسلم- بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» وقد حقق الله ما رجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداية ثقيف، وقدوم وفدهم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مسلمين طائعين. وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وإلى هذا المعنى أشار سيدي عبد العزيز الفاسي في «قرّة الأبصار» وأجاد بقوله: وكان قادرا على التدمير ... لو شاء لكن جاد بالتأخير حتى هدى الله به من شاء ... منهم ومن أصلابهم أبناء ثم أعزّ دينه ونصره ... وأيّد الحق به وأظهره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 ونوفل استشاره في أمره ... فقال هم كثعلب في جحره ولم يؤذن له عليه الصّلاة والسّلام في فتح الطائف ذلك العام. (ونوفل) هو ابن معاوية الدّؤلي، وعدّ من المؤلّفة قلوبهم (استشاره) رسول الله صلى الله عليه وسلم (في أمره) أي: الطائف: أيرجع عن أهله أم لا؟ (فقال) يا رسول الله، صلّى الله عليك وسلم (هم كثعلب في جحره) بتقديم الجيم على الحاء؛ أي: ثقبه، إن أقمت عليه.. أخذته، وإن تركته.. لم يضرك. تحرير الرسول صلّى الله عليه وسلّم من خرج إليه مسلما من عبيدهم: ثمّ أمر عليه الصّلاة والسّلام مناديا ينادي: «أيّما عبد خرج إلينا.. فهو حر» فخرج منهم بضعة عشر عبدا نزلوا ببكرة، منهم نفيع بن الحارث المكنى بأبي بكرة، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله، وأمرهم أن يقرؤوهم القرآن، ويعلّموهم السنن، فشقّ ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة، ثمّ لمّا أسلمت ثقيف.. كلّم أشرافهم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوهم إلى الرق، فقال: «أولئك عتقاء الله» . ولمّا قدم وفدهم، وأسلموا.. ولى عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاصي، وله المقام المحمود يوم قبض النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه قام خطيبا وقال: (يا معشر ثقيف؛ لا تكونوا آخر العرب إسلاما، وأوّلهم ارتدادا) فلم يرتد منهم أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالرحيل إذ لم يؤذن له في الفتح هذا العام: وأمر عليه الصّلاة والسّلام عمر بن الخطاب، فأذن في الناس بالرحيل، فضجّ الناس من ذلك، فقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟! فقال عليه الصّلاة والسّلام: «فاغدوا على القتال» فغدوا، فأصاب المسلمين جراحات، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّا قافلون إن شاء الله تعالى» فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. قال النووي: (قصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم، والرفق بهم، وبالرحيل عن الطائف؛ لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنّه صلى الله عليه وسلم علم أو رجا أنّه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلمّا حرص الصحابة على المقام والجهاد.. أقام، وجدّ في القتال، فلمّا أصابتهم الجراح.. رجع إلى ما كان قصده أوّلا من الرفق بهم، ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقّة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم تعجّبا من تغير رأيهم، ولمّا أرادوا أن يرتحلوا.. قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قولوا: لا إله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» فلمّا ارتحلوا.. قال: «قولوا: «آئبون، تائبون، عابدون، لربّنا حامدون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 عمرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة: وهنا انتهى الكلام على غزوة الطائف، وبعدها رجع عليه الصّلاة والسّلام إلى الجعرانة؛ لقسم الأموال والسبايا. قال في «الإمتاع» : (وأقام عليه الصّلاة والسّلام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، وخرج ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة، وأحرم- أي: بالعمرة- ولمّا كملها.. عاد إلى الجعرانة من ليلته، فكان كبائت بها، ثمّ خرج يوم الخميس على سرف إلى مرّ الظهران، واستعمل على مكة عتاب ابن أسيد، وقال له: «أتدري على من استعملتك؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «استعملتك على أهل الله» ثمّ وصل إلى المدينة المنوّرة مظفرا منصورا يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة، والمدينة في تلهّف وتشوّق، واستطلاع لأنواره المحمّدية، عليه أفضل الصّلاة وأزكى التحية) . وفي السنة التاسعة خرج لغزو الروم بتبوك. (30) غزوة تبوك تبوك: بفتح الفوقية، وضم الباء الموحدة، اسم لا ينصرف؛ للعلمية والتأنيث المعنوي: لموضع بينه وبين المدينة المنوّرة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة على الإبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 ثمّ لروم بتبوك استنفرا ... (لام) ألوف عام عسر اعترى المثقلة، وبالسيارة نحو أربع أيام؛ لأنّ الطريق غير معبّد اليوم، وتسمى غزوة العسرة، وقد عبد بعد ذلك، فلله الحمد والمنّة، فالمسافة إنّما هي ساعات قلائل. وكانت يوم الخميس في غرة رجب سنة تسع من الهجرة، قال في «المواهب» : (بلا خلاف، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، غزاها في حرّ شديد، وجدب كثير؛ لذلك لم يورّ عنها كعادته في سائر الغزوات، قال كعب بن مالك، كما في الصحيح: لم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة؛ غزاها في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، وغزا عدوّا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهّبوا أهبة غزوتهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد) . ولذلك يشير الناظم مبينا وجهته عليه الصّلاة والسّلام التي صرّح بها للمسلمين، مستنفرا ثلاثين ألفا من الأصحاب الكرام فقال: (ثم) بعد فراغه عليه الصّلاة والسّلام من الطائف بنحو ستة أشهر (لروم) أي: لقتال بعض من الروم كائنين (بتبوك) لأنّهم لم يكونوا كلهم بها؛ فلذلك لم يقل للروم، ويتعلق الجار بقوله: (استنفرا) أي: طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفر للروم هذا العدد المشار إليه بقوله: (لام ألوف) أي: ثلاثين ألفا ممّن أسلم من العرب والمهاجرين والأنصار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 ومعهم لحربه ألّب له ... غسّان لخم وجذام عامله والخيل عشرة آلاف فرس، قال في «شرح المواهب» : (وهذا أقل ما قيل في الجيش) (عام عسر) أي: شدة وضيق (اعترى) أي: طرأ على المسلمين في الماء، وفي الظّهر، وفي النفقة، وحين طابت الثمار، والمسلمون يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم؛ فلذلك سميت: (غزوة العسرة) . سبب هذه الغزوة: وسببها- كما قاله ابن سعد في «طبقاته» : (أنّه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأنّ هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلب معهم لخم، وجذام، وعاملة، وغسان، وغيرهم من متنصرة العرب، وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يقصده؛ ليتأهّبوا له) . وأشار الناظم إلى من انضمّ من القبائل هناك إلى صفوف الروم بقوله: (ومعهم) أي: ومع الروم (لحربه) صلى الله عليه وسلم (ألب) بفتح الهمزة وتشديد اللام المفتوحة؛ أي: جمع (له) أي: لحربه وقتاله، فهو بدل من قوله: (لحربه) (غسان) بفتح الغين المعجمة، وتشديد السين، و (لخم) بسكون الخاء المعجمة (وجذام) و (عاملة) والأربعة قبائل من ولد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 وحضّ الاغنيا على الحملان ... ونكصوا دون مدى عثمان حث الرسول صلّى الله عليه وسلّم الأغنياء على الإنفاق في سبيل الله: (و) لمّا جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، والسير إلى تبوك، وأمر الناس بالجهاز (حض) أي: حثّ أصحابه (الأغنيا على) النفقة، و (الحملان) بضم الحاء وسكون الميم؛ أي: على حملان الفقراء، بأن يعطوهم الشيء الذي يركبون عليه، ويحملوهم في سبيل الله تعالى، فأجابوا. قال في «شرح المواهب» عن الواقديّ: (وجاؤوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، أربعة آلاف درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله، فسأله: «هل أبقيت لهم شيئا؟» قال: نعم، نصف مالي، وحمل العباس، وطلحة، وسعد بن عبادة، وجاء عبد الرّحمن بن عوف بمئتي أوقية إليه صلى الله عليه وسلم، وتصدّق عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر) اهـ تجهيز عثمان ثلث الجيش: (و) مع ذلك (نكصوا) وتأخروا (دون مدى) أي: غاية سيدنا (عثمان) بالكسر للضرورة؛ فإنّه جهز ثلث الجيش، حتى كان يقال: ما بقيت لهم حاجة، حتى كفاهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 شنق «1» أسقيتهم. قال ابن إسحاق: (أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها) . قال ابن هشام: (حدّثني من أثق به: أنّ عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ؛ ارض عن عثمان؛ فإنّي عنه راض» ) اهـ وروى عبد الرّحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفّان رضي الله عنه بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة، فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» قالها مرارا. رواه الترمذيّ. قال سيدي أبو عبد الله محمّد بن سعيد في «أم القرى» : وابن عفان ذي الأيادي التي طا ... ل إلى المصطفى بها الإسداء حفر البئر جهز الجيش أهدى ال ... هدي لما أن صده الأعداء   (1) شنق القربة يشنقها شنقا: إذا وكأها ثمّ ربط طرف وكائها بيديها. اهـ «قاموس» (2) أي: غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك؛ فقد تصدق بمئتي بعير بأقتابها وأحلاسها ومئتي أوقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 على بعير عشرة تعتقب ... وعزّ مطعم وعزّ مشرب يقتسم النّفر تمرة ومن ... فرث الأباعر شراب قد يعن عسرة المجاهدين: (على بعير) واحد يتعلق بقوله: (تعتقب) أي (عشرة) من الرجال (تعتقب) على بعير؛ أي: يركب واحد ساعة، وينزل فيركب الآخر، وهو يشمل الجمل والناقة، كالإنسان للرجل والمرأة (وعزّ) أي: قل (مطعم، وعز مشرب) وكان زادهم التمر والشعير. (يقتسم النفر) بفتح النون المشددة والفاء: الرجال من الثلاثة إلى العشرة (تمرة) واحدة (ومن فرث) بوزن فلس، مضاف إلى (الأباعر) وهو في الأصل السّرجين في الكرش، والمراد ما في الكرش من الماء (شراب قد يعن) لهم؛ أي: يعرض، ومن هنا سميت بغزوة العسرة. وحثّ عليه الصّلاة والسّلام المياسير على إعانة المعاسير، ويشير بهذا إلى ما رواه الحاكم في «مستدركه» بسند صحيح على شرط الشيخين: (أنّ ابن عباس قال لعمر بن الخطاب: حدّثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا رقابنا ستنقطع، حتى إنّ الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ثمّ يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصدّيق: يا رسول الله؛ إنّ الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 قال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى خالت السماء فأظلت، ثم سكبت فملؤوا ما معهم، ثمّ ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر) اهـ وهذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم في استجابة الدعاء، وفيه منقبة ظاهرة لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه؛ حيث أشار على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، واستشاره صلى الله عليه وسلم. قال في «شرح بهجة المحافل» عن البغويّ: (كان زادهم التمر المسوس «1» ، والشعير المتغير، وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلّا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع أحدهم.. أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثمّ يعطيها صاحبه فيمصّها فيشرب عليها جرعة ماء كذلك، حتى تأتي على آخرهم، فلا يبقى من التمرة إلّا النواة) . البكاؤون للتخلف عن الجهاد: ثمّ إنّ رجالا من خيار المسلمين لمّا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنفر المسلمين للغزو.. جاؤوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم ذو حاجة، ولا يحب التخلف عن مشهد خرج له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «لا أجد   (1) أي: الذي أصابه السوس؛ لأنّه من التمر الذي كاد أن يمر عليه الحول، أمّا الجديد.. فإنّ الثمار على رؤوس النخل الزهو والرطب ولمّا يك تمر بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 وقعد الباكون والمعذّرون ... وعسكرت فربّت المنافقون ما أحملكم عليه» فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع؛ حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون، وإلى هذا أشار الناظم بقوله: (وقعد) عن الخروج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك (الباكون) لعدم قدرتهم على الخروج، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وعبد الرّحمن بن كعب الأوسي المازنيّ، والعرباض بن سارية السلمي، وهرمي بن عبد الله الواقفي، وعمرو بن عنمة الأنصاري، وعبد الله بن مغفّل المزني، وعبد الله بن عمرو المزنيّ، وعمرو بن الحمام بن الجموح، أخو عمير المستشهد ببدر من بني سلمة، ومعقل بن يسار المزنيّ، وحرميّ بن مازن، والنعمان بن مقرّن، وسويد بن مقرّن، ومعقل بن مقرن، وعقيل بن مقرن، وسنان بن مقرن، وعبد الرّحمن بن مقرن، وعبد الله بن مقرن «1» .   (1) هؤلاء السبعة بنو مقرن ممّن هاجر إلى المدينة وصحب، وأمرهم الأمراء، وفتحوا الفتوحات، ولا نعرف سبعة إخوة هاجروا إلى المدينة غيرهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ للنفاق بيوتا، وللإيمان بيوتا، وإن بيت بني مقرن من بيوت الإيمان. ونظم بعضهم هؤلاء السبعة بقوله: قد فاز بالهجرة للمدينة ... الإخوة السبعة من مزينه عقيل معقل سنان وسويد ... نعيم والفارس نعمان الشهيد سابعهم عبد الإله وهموا ... بنو مقرن الكرام إليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 وهم الّذين قال الله تعالى فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ومن هنا سموا بالباكين والبكّائين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مرجعه من تبوك: «إنّ بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا.. إلّا وهم معكم» قالوا: يا رسول الله؛ وهم بالمدينة؟ قال: «نعم، حبسهم العذر» . ذكر في «الإمتاع» : (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة من تبوك في رمضان.. قال: «الحمد لله على ما رزقنا في سفرنا هذا من أجر وحسبة، ومن بعدنا شركاؤنا فيه» فقالت عائشة رضي الله عنها: أصابكم العسر والشدة في السفر، ومن بعدكم شركاؤكم فيه؟! فقال: «إنّ بالمدينة لأقواما ما سرنا ... » الحديث، ثمّ قال: «أو ليس الله يقول في كتابه: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فنحن غزاتهم، وهم قعدتنا، والذي نفسي بيده؛ لدعاؤهم أنفذ في عدونا من سلاحنا» وفي قول عائشة رضي الله عنها دعابة وإدلال واضح يدل على ذكائها وفطنتها) . موقف المعذّرين والمنافقين: (و) قعد (المعذّرون) بشد الذال المكسورة، جمع معذر: من عذّر في الأمر، إذا قصر فيه موهما أنّ له عذرا ولا عذر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 وهم كما قال ابن سعد: (اثنان وثمانون رجلا، استأذنوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الغزو، وتعلّلوا بالجهد وكثرة العيال، فأذن لهم في التخلّف، ولكن لم يقبل عذرهم لكذبهم، وفيهم نزل قوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ثمّ نزل فيهم: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر؛ جراءة على الله ورسوله، وقد عناهم الله تعالى بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قال العلّامة السّهيلي: (وأهل التفسير يقولون: إنّ آخر «براءة» نزل قبل أولها، وإنّ أول ما نزل منها: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) . (وعسكرت) أي: اجتمعت المنافقون، (فربت) بتشديد الباء؛ أي: أقامت (المنافقون) مع رئيسهم عبد الله بن أبيّ وحلفائه من اليهود على ثنية الوداع، وكان عليه الصّلاة والسّلام ضرب عسكره أيضا على ثنية الوداع. قال ابن إسحاق: (وضرب عبد الله بن أبيّ معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب «1» ، وكان فيما يزعمون ليس بأقل   (1) جبل بالمدينة أمام باب الشامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 وقعد الثّلاثة الّذينا ... تاب عليهم ربّنا يقينا العسكرين- أي عددا- فلمّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.. تخلّف عنه عبد الله بن أبيّ فيمن تخلّف من المنافقين) . قال ابن هشام: (واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى عياله علي بن أبي طالب) كما في «الصحيحين» ورجحه جهابذة الحفاظ، ومنهم ابن عبد البر، وناهيك به كما سيأتي. فتحصل: أنّ الذين قعدوا عن الخروج للغزو ما بين مؤمن رسخ الإيمان في قرارة قلبه، باك لعدم الحملان، ومنافق متثاقل ملتمس للأعذار، ومنافق لم يأت أصلا وكذب الله ورسوله، ومنافق أظهر الخروج ثمّ نكص على عقبيه، فدخل المدينة، وهناك فريق ثالث من المسلمين ليس إيمانهم بأقل من الرعيل الأول، ولكن أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلّفوا عنه ولا شكّ ولا نفاق لديهم، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة. الثّلاثة المؤمنون المتخلفون: وإليهم الإشارة بقول الناظم: (وقعد الثلاثة الذين تاب عليهم ربنا) توبة (يقينا) نزل بها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى عطفا على قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أي: عن التوبة، لا عن الغزو؛ لما سيأتي، وهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 كعب بن مالك مرارة الرّبيع ... وابن أميّة هلال الرّفيع (كعب بن مالك) الأنصاري السّلمي و (مرارة) بن (الرّبيع) بضم الميم بعدها راء مخففة، الأنصاري العمري، بسكون الميم نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وسبب تخلفه: أنّه كان له حائط زها، فقال في نفسه: قد غزوت قبلها، فلو أقمت عامي هذا، فلمّا تذكر ذنبه.. قال: اللهمّ؛ إنّي أشهدك أنّي قد تصدّقت به في سبيلك (وابن أميّة) وهو (هلال الرفيع) الدرجة، وكلهم كذلك، وهلال ينسب إلى بني واقف، فهو واقفي، وقد جمعهم مع آبائهم القائل: أسما الذين خلفوا عن الرسول ... في (مكة) نظمها بعض الفحول مرارة، كعب، هلال، واسما ... آبائهم في (عكة) خذ بالقبول قال في «شرح المواهب» : (ذكر في مرسل الحسن: أنّ سبب تخلفه أنّه كان له أهل تفرّقوا، ثمّ اجتمعوا، فقال: لو أقمت هذا العام عندهم، فلمّا تذكّر.. قال: اللهمّ؛ لك عليّ ألّا أرجع إلى أهل ولا مال) . وحديث هؤلاء السادة في تخلّفهم ومعاملتهم الحق تعالى بالصدق، والرجوع إليه في «صحيح الإمام أبي عبد الله البخاريّ» وهو ما رواه من طريق عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: (أنّ عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلّف عن قصة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلّا في غزوة تبوك، غير أنّي كنت تخلّفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلّف عنها، إنّما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أنّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. كان من خبري: أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلّا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفازا «1» ، وعدوا كثيرا، فجلّى «2» للمسلمين أمرهم؛ ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلّا ظنّ أنّه سيخفي أمره ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ.   (1) بفتح الميم؛ أي: فلاة لا ماء فيها. (2) فجلى- بتشديد اللام وتخفيفها- أي: أوضح وكشف لهم الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتدّ بالناس الجدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثمّ ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثمّ غدوت، ثمّ رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم.. أحزنني أنّي لا أرى إلّا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممّن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلمة، وهو عبد الله بن أنيس السّلمي: يا رسول الله؛ حبسه برداه ونظره في عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله؛ ما علمنا عليه إلّا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن مالك: فلمّا بلغني أنّه توجه قافلا.. حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 فلمّا قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما.. زاح عني الباطل، وعرفت أنّي لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من السفر.. بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للناس: فلمّا فعل ذلك.. جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه- صلوات الله وسلامه عليه- ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته، فلمّا سلّمت عليه.. تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى، إنّي والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا.. لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني.. ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه.. إنّي لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هذا.. فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت. وثار رجال من بني سلمة فأتبعوني، فقالوا لي: والله؛ ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألّا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اعتذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 المتخلفون؛ فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العمري، وهلال بن أميّة الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيّها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيّروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمّا صاحباي.. فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا.. فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، وكنت أخرج فأشهد الصّلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلّمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصّلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السّلام عليّ أم لا؟ ثمّ أصلّي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي.. أقبل إليّ، وإذ التفت نحوه.. أعرض عني. حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس.. مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي، وأحبّ الناس إليّ- فسلّمت عليه، فوالله؛ ما ردّ عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله: هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار، قال: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطيّ من أنباط أهل الشام، ممّن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّني على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسّان، فإذا فيه: أمّا بعد: فإنّه قد بلغني أنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت: لمّا قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين.. إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك. فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أميّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله؛ إنّ هلال بن أميّة شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنّه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أميّة أن تخدمه، فقلت: والله؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلمّا صلّيت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت.. سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك؛ أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا، حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على ذروة الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس. فلمّا جاءني الذي سمعت صوته يبشرني.. نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنّئونني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنّأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك» قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال «لا، بل من عند الله» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ.. استنار وجهه كأنّه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلمّا جلست بين يديه.. قلت: يا رسول الله: إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك.. فهو خير لك، قلت: فإنّي أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله؛ إنّ الله إنّما نجّاني بالصدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت، فوالله؛ ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. أحسن ممّا أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإنّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام.. أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 كذبوا، فإنّ الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال كعب: وكنا تخلّفنا أيّها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنّما هو تخليفه إيّانا، وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له) . قال العلّامة أبو القاسم السهيليّ في «الروض» : (وإنّما اشتدّ غضبه صلى الله عليه وسلم على من تخلف، ونزل فيهم من الوعيد ما نزل، حتى تاب الله على الثلاثة منهم، وإن كان الجهاد من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان.. لكونه «1» في حق الأنصار خاصة كان فرض عين، وعليه بايعوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ألا تراهم يقولون يوم الخندق وهم يرتجزون: نحن الذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا ومن تخلّف منهم يوم بدر إنّما تخلّف؛ لأنّهم خرجوا لأخذ عير، ولم يظنوا أن سيكون قتال، فكذلك كان تخلفهم   (1) في الأصل و «الروض» : (لكنه) ، ولعل الصواب ما أثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 وأبوا خيثمة وذرّ ... قد لحقا وجاء أرض الحجر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة كبيرة؛ لأنّه كالنكث لبيعتهم، كذلك قال ابن بطّال رحمه الله في هذه المسألة، ولا أعرف لها وجها غير الذي قال) . وذكر الحافظ وجها غير هذا في تغليظ الأمر على هؤلاء، وهو أنّهم تركوا الواجب بلا عذر؛ لأنّ الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير، ولحق اللوم بكل فرد فرد [أن لو تخلف] ، ونقله في «شرح المواهب» عنه، قائلا: فهذا وجه ثان غير الذي ذكر؛ أي: عن ابن بطّال. قلت: ولمّا كان هؤلاء شاركوا المنافقين في صورة التخلّف عن الغزو بلا عذر وهم برآء من النفاق.. كانت توبتهم على الحال الذي ذكر في الحديث؛ ليميز الله الخبيث من الطيّب، ويظهر قوة إيمان هؤلاء الأصحاب السادة الغرّ الميامين، رضي الله عنهم أجمعين، وجمعنا بهم في مستقر رحمته ودار كرامته بمنّه وفضله، آمين. قصة إبطاء أبي خيثمة وأبي ذرّ في الخروج: وأشار الناظم إلى إبطاء أبي خيثمة وأبي ذرّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المسير، ولحوقهما له بعد فقال: (وأبوا خيثمة) بالتنوين للضرورة (وذر) قد أبطأا عن السير، ولكنهما (قد لحقا) بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 أمّا أبو خيثمة- واسمه سعد من بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج-: فذكر خبره ابن إسحاق، وهو: (أنّه رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين في حائطه، قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيّأت له فيه طعاما، فلمّا دخل.. قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضّح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيّأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنّصف! ثمّ قال: والله؛ لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيّئا لي زادا، ففعلتا، ثمّ قدّم ناضحه فارتحله، ثمّ خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وكان قد أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك.. قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إنّ لي ذنبا فلا عليك أن تخلّف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك.. قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة «1» فقالوا: يا رسول الله؛   (1) لفظه لفظ الأمر، ومعناه الدعاء كما تقول: أسلم سلّمك الله. اهـ من «الروض» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 هو والله أبو خيثمة، فلمّا أناخ.. أقبل فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة، ثمّ أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير) . قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة في ذلك شعرا: ولمّا رأيت الناس في الدين نافقوا ... أتيت التي كانت أعفّ وأكرما وبايعت باليمنى يدي لمحمّد ... فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما تركت خصيبا في العريش وصرمة ... صفايا كراما بسرها قد تحمّما وكنت إذا شكّ المنافق أسمحت ... إلى الدّين نفسي شطره حيث يمّما وأمّا أبو ذرّ- واسمه جندب بن جنادة على ما صححه السهيلي-: فسبب إبطائه أنّ بعيره كان أعجف فقال: أعلفه أياما، ثمّ ألحقه عليه الصّلاة والسّلام، فعلفه أياما، ثمّ خرج فلم ير به حركة، فحمل متاعه على ظهره وسار، وبينما يمشي أبو ذرّ.. إذ نظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله؛ إنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر» فلمّا تأمّله القوم.. قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 يا رسول الله، هو والله أبو ذرّ، فقال: «رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» . تنبيه: قال في «شرح المواهب» : (هكذا الرواية عن ابن مسعود، عند ابن إسحاق وأتباعه، فما يقع في نسخ «يعيش» بدل «يبعث» تحريف من النساخ) . فلمّا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره خبره، قال: «لقد غفر الله لك يا أبا ذرّ بكل خطوة ذنبا إلى أن لقيتني» ووضع متاعه عن ظهره، ثمّ استسقى، فأتي بإناء من ماء فشربه. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذرّ ... » إلخ: معجزة إثر معجزة؛ فقد وقع ما أخبر به عليه الصّلاة والسّلام، وذلك أنّ أبا ذرّ أشار له الخليفة الثّالث سيدنا عثمان رضي الله عنه: أن لو اعتزلت الناس «1» ؛ لأنّه كان يريد أن   (1) هذا هو الصحيح، وسواه ممّا ينسبه بعضهم إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه من أنّه نفى أبا ذرّ ونحو ذلك من الكلمات التي لا تليق بالأدب.. فليس لها نصيب من الصحة، ولا مصدر موثوق به لدى الأئمّة. قال الإمام أبو بكر بن العربي في «العواصم والقواصم» : (معنى قول عثمان لأبي ذرّ: «لو اعتزلت..» : أنّك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس؛ فإنّ للخلطة شروطا، وللعزلة مثلها، ومن كان على طريقة أبي ذرّ.. فحاله يقتضي إمّا أن ينفرد بنفسه، أو يخالط، ويسلم لكل أحد ماله، ممّا ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 يحمّلهم ما لا يستطيع حمله عموم الناس، فخرج إلى الربذة، ولم يكن معه إلّا امرأته وغلامه، فأوصاهما إذا هو مات: أن غسّلاني وكفّناني، ثمّ ضعاني على قارعة الطريق، فأوّل ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، فلمّا مات.. فعلا ذلك به. وأقبل ابن مسعود في رهط من أهل العراق عمّارا، فلم يرعهم إلّا والجنازة على ظهر الطريق، قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، فاستهلّ عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك» ثمّ نزل هو وأصحابه فدفنوه، ثمّ حدثهم ابن مسعود بالحديث. توفي [أبو ذر] سنة (32) على ما قاله ابن إسحاق. مرور الرسول صلّى الله عليه وسلّم بديار ثمود ونهيه عن شرب مائها: ولمّا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك ديار ثمود.. نزل بها، وقال: «لا تشربوا من مائها شيئا، ولا يخرجنّ أحد منكم الليلة إلّا ومعه صاحب له، ففعل الناس إلّا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما   فاضلا، وترك حلته فضلا، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذرّ أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها.. لهلكوا، فسبحان مرتّب المنازل!) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 فذبّ عن مياهه وأمرا ... أن لا يمرّ أحد كما يرى لحاجته، والآخر في طلب بعيره، فصرع الأوّل، واحتملت الريح الثّاني، فطرحته بجبلي طيئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أخبر بذلك: «ألم أنهكم؟» ودعا للّذي صرع فشفي، وأهدت طيئ الآخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، وإلى هذا أشار الناظم بقوله: (وجاء) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل (أرض الحجر) بكسر الحاء وسكون الجيم، وهي منازل ثمود قوم سيدنا صالح عليه وعلى نبينا الصّلاة والسّلام. (فذبّ) بالذال المعجمة- أي: دفع- ومنع الأصحاب (عن) شرب (مياهه) فقال: «لا تشربوا من مائها شيئا» لئلّا يورثهم شربه قسوة في قلوبهم، أو ضررا في أبدانهم، قال القسطلانيّ في «شرح البخاري» : (زاد ابن إسحاق: «ولا تتوضّؤوا منه للصّلاة، وما كان من عجين عجنتموه.. فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا» ) . نهى الرسول أصحابه عن الانفراد في السير بأرض ثمود، (وأمر) عليه الصّلاة والسّلام (أن لا يمر أحد) من الأصحاب (كما يرى) وحده، بل إن أراد.. فمع صاحب له، قال في «شرح المواهب» : (لحكمة علمها صلى الله عليه وسلم، لعلّها أنّ الجن لا تقدم على اثنين وقد روى الإمام مالك في «الموطأ» مرفوعا: «إنّ الشيطان يهم بالواحد» قال الباجي: يحتمل أن يريد أنّه يهم باغتياله والتسلط عليه، وأنّه يهم بغيه، وصرفه عن الحق، وإغرائه بالباطل) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 فعقّه المخنوق فوق مذهبه ... ومن وفود طيّىء أتته به وأخرج أصحاب السنن بإسناد حسن- وصححه ابن خزيمة والحاكم- مرفوعا: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» . قصة الرجلين اللذين خالفا النهي: (ف) فعل الناس ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل إذعان وامتثال، غير باحثين عن حكمة ذلك، وإن كانت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله كلها عن أسرار وحكم، و (عقّه) هو ضد بره؛ أي: خالفه (المخنوق) أي: المصروع (فوق) أي: على (مذهبه) بفتح الميم والهاء، وهو الموضع الذي يتغوّط فيه، وقد شفاه الله تعالى ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب عنه الصّرع (و) عقه (من) أي: الرجل الذي (وفود طيّئ) لما وفدوا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة (أتته به) أي: بالرجل الذي خرج في طلب بعيره، فطرحته الريح بجبلي طيئ. قال الحلبي في «إنسان العيون» : (لمّا ارتحل عليه الصّلاة والسّلام إلى تبوك.. لا زال سائرا حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، وأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنّها تهب عليهم الليلة ريح شديدة؛ أي: وقال: «من كان له بعير.. فليشدّ عقاله» ) ونهى الناس في تلك الليلة عن أن يخرج واحد منهم وحده، فخرج شخص وحده لحاجته فخنق، وخرج آخر وحده في طلب بعير له، فاحتملته الريح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 حتى ألقته بجبلي طيئ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلّا ومعه صاحبه» ثمّ دعا للّذي خنق فشفي، وأمّا الذي ألقته الريح بجبلي طيّئ فأرسلته طيئ له صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. تنبيهان الأوّل: علم من التقرير أنّه صلى الله عليه وسلم نزل ديار ثمود، وعليه ترجم الإمام البخاريّ في «جامعه» فقال: (نزول النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحجر) وأخرج في أحاديث الأنبياء حديث ابن عمر: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحجر في غزوة تبوك.. أمرهم ألّا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها ... ) الحديث. وأخرج الشيخان عن ابن عمر: (أنّ الناس نزلوا معه صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر، فاستقوا من بئرها ... ) الحديث. قلت: فهذا تصريح من ابن عمر بالنزول، ولذلك حملت كلام الناظم عليه، وأمّا ما رواه البخاري عقب الترجمة عن ابن عمر: (لمّا مر صلى الله عليه وسلم بالحجر.. قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم مثل ما أصابهم، إلّا أن تكونوا باكين» ثمّ قنّع رأسه، وأسرع السير حتى جاوز الوادي) .. فليس فيه التصريح بعدم النزول فيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 فأصبح النّاس ولا ماء لهم ... فأرسل الله سحابة تؤم فليحمل المرور على كونه بعد النزول، وقوله ذلك لهم. الثّاني: ما ذكره الناظم من حديث الرجلين، وأنّ ذلك كان بالحجر هو ما رواه ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وهو لا ينافي حديث أبي حميد في «الصحيحين» : (انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشدّ عقاله» فهبّت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتّى ألقته بجبلي طيئ) لأنّه يحتمل أنّهما قصتان: إحداهما بالحجر، وهي التي ذكرها اليعمريّ تبعا لابن إسحاق، والثانية بتبوك، وهي التي في «الصحيحين» . ويؤيّد التعدد أنّ في الأولى رجلين، وفي الثانية رجلا، وتحتمل الاتحاد، وأنّ قصة الذي خرج لحاجته كانت بالحجر، والذي ألقته الريح كانت بتبوك، فجمع بينهما في الذكر في مرسل ابن إسحاق، والله أعلم بحقيقة الحال. آية وقعت بالحجر استجابة لدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ثمّ أشار الناظم إلى آية وقعت وهم في الحجر أحوج ما يكونون إليها، ازداد بها المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم، وزاد بها المنافقون نفاقا فقال: (ف) بينما القوم بالحجر إذ (أصبح الناس و) الحال أنّه (لا ماء لهم) ، فشكوا حالهم تلك للنّبيّ صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 وسلم، فدعا (فأرسل الله) بفضله (سحابة) غزيرة بالماء (تؤم) أي: تقصدهم، حتى شربوا وحملوا ما أرادوا. قال ابن إسحاق مفرّعا على مرورهم بالحجر: (فلمّا أصبح الناس ولا ماء معهم.. شكوا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فدعا، فأرسل الله سحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، وحملوا حاجتهم من الماء) . وقال أيضا: حدّثني عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد، عن رجال من بني عبد الأشهل قال: (كان رجل معروف نفاقه يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثما سار، فلمّا كان من أمر الحجر ما كان، ودعا صلى الله عليه وسلم فأرسل الله السحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس.. أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة) اهـ وقال في «شرح المواهب» : (روى الإمام أحمد، وابنا خزيمة وحبّان، والحاكم، عن عمر قال: خرجنا إلى تبوك في يوم قيظ شديد، فنزلنا منزلا، وأصابنا فيه عطش، حتى ظننا أنّ رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل، فلا يرجع حتى يظن أنّ رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله؛ إنّ الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا، قال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه نحو السماء، فلم يرجعهما حتى قالت السماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 فأظلت، ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثمّ ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر) . قال العبد الضعيف: فهذا يؤيد ظاهر النظم، أنّ هذه الآية كانت بالحجر، وأمّا ما رواه ابن أبي حاتم. عن أبي حرزة قال: (نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، ونزلوا الحجر، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائها شيئا، ثمّ ارتحل ونزل منزلا آخر وليس معهم ماء، فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم، فقام فصلّى ركعتين، ثمّ دعا، فأرسل الله سحابة فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال أنصاريّ لآخر من قومه يتّهم بالنفاق: ويحك! قد ترى ما دعا صلى الله عليه وسلم حتى أمطر الله علينا السماء، فقال: إنّما مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فأنزل الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) .. فيمكن الجمع بأن قول الناظم: (فأصبح الناس) أي: بعد أن ساروا ونزلوا منزلا بعد الحجر، وكذا قول ابن إسحاق يحمل عليه، وأنّه لمّا طلب منه أبو بكر الدعاء.. صلّى ثمّ مدّ يديه ودعا، والله أعلم. هذا وقد ورد من الأحاديث والأخبار الثابتة في استسقاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ربّه لأمته، ومسارعته تعالى له في استجابة ما طلب لمّا دهمتهم الخطوب والنوائب، ونزل بهم ما لا يطيقون من الفزع والشكوى الشيء الكثير، فمن ذلك ما رواه الإمام البيهقي في «دلائل النبوة» عن أنس رضي الله عنه: أنّ أعرابيا جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 يا رسول الله؛ أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط، ثمّ أنشد: أتيناك والعذراء يدمي لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل وألقى بكفّيه الفتيّ استكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلي ولا شيء ممّا يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل وليس لنا إلّا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلّا إلى الرسل فقام يجر رداءه حتى صعد المنبر فرفع يديه فقال: «اللهمّ؛ اسقنا غيثا مغيثا، مريعا، غدقا، طبقا، نافعا، غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها» قال: فما ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يديه حتى ألقت السماء بأرواقها، وجاء الناس يضجون: الغرق الغرق، فقال صلى الله عليه وسلم: «حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة، وضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثمّ قال: ( «لله در أبي طالب، لو كان حيا.. لقرّت عيناه، من ينشدنا قوله؟» ) فقال علي رضي الله عنه: كأنّك تريد قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 على تخلّف بطيبة علي ... خصّ بسهمين بسهمه العلي يطوف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل قال عليه الصّلاة والسّلام: «أجل» . استخلاف علي على المدينة: واعلم: أنّه عليه الصّلاة والسّلام استخلف علي بن أبي طالب على المدينة وعلى أهله، فكان كمن حضرها؛ فلذلك ضرب له النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسهم، وأعطى جبريل سهمه له، وإلى هذا يشير الناظم بقوله: (على تخلّف بطيبة علي) على الناس وعلى عياله، كما رجّحه الزرقاني في «شرح المواهب» ونقل ذلك عن الحافظ العراقي، وقال: رواه عبد الرزاق في «مصنفه» بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا خرج إلى تبوك.. استخلف على المدينة علي بن أبي طالب) . وروى الحاكم في «الإكليل» من مرسل عطاء أنّه قال: «يا علي؛ اخلفني في أهلي، واضرب، وخذ، وعظ» ثمّ دعا نساءه فقال: «اسمعن لعلي وأطعن» . وأخرج ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص قال: (خلف صلى الله عليه وسلم عليا على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلّا استثقالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 له، وتخفّفا منه، فأخذ عليّ سلاحه، ثمّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال: يا نبيّ الله؛ زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني؛ لأنّك استثقلتني وتخففت مني، فقال: «كذبوا، ولكن خلفتك لما تركت ورائي، فارجع في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» فرجع إلى المدينة، ومضى صلى الله عليه وسلم على سفره) . وفي «الصحيحين» من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، واستخلف عليا فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» ) قال في «شرح المواهب» : (زاد أحمد: فقال عليّ: رضيت ثمّ رضيت ثمّ رضيت) فقوله: (استخلف عليا) ظاهر في أنّه على المدينة، وتأيّد هذا الظاهر بورود هذه اللفظة في نفس حديث سعد في «مصنّف عبد الرزاق» والروايات يفسّر بعضها بعضا، لا سيّما والمخرج متحد، ومن ثمّ جزم الحافظ العراقي بعزوه لهما استخلافه على المدينة، ورجّحه الحافظ ابن عبد البر، وتبعه الحافظ ابن دحية، وقطع به القسطلانيّ في «شرح البخاري» لأنّ ما في أرفع الصحيح لا معدل عنه. وقول الناظم: (على تخلف) يتعلق بقوله: (خصّ) مبنيا للمفعول؛ أي: خصه النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 وسهم جبريل وكان حضرا ... وبذله به النّبيّ أمرا تخلفه، دون غيره ممّن تخلف (بسهمين بسهمه العلي) لأنّه تخلف بأمره صلى الله عليه وسلم على المدينة. (وسهم جبريل) عليه السّلام (وكان) جبريل (حضرا) غزوة تبوك (وبذله) بالرفع على أنّه مبتدأ، وقوله: (به النّبي) بالنصب مفعول ل (أمر) مقدم عليه؛ أي: إعطاء السهم؛ أي: سهم جبريل (أمر) جبريل النّبيّ به لعليّ، فحاز عليّ رضي الله عنه السهمين: سهم على تخلفه وقيامه عنه بالمدينة على من بقي- رضي الله تعالى عنه- وسهم من جبريل. وظهر بهذا أنّ الأجر على قدر الاتباع وامتثال- الأمر، كما نصّ عليه العلّامة الشيخ أحمد زروق في «قواعده» فقال: (الأجر على قدر الاتباع، لا على قدر المشقة؛ لفضل الإيمان، والمعرفة والذكر والتلاوة، على ما هو أشد منها بكثير من الحركات الجسمانية) . قلت: وهذا يدل على أنّه حصل من المسلمين قتال مع الكفار، حتى غنموهم وقسمت السهام، وهو مناف لما سيأتي، فترقّب. جهالة الشيعة وافتراؤهم: تنبيه: لا دلالة للشيعة في التمسك بذلك الخبر، على أنّ علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 أبي طالب أحقّ بالخلافة من غيره من الصحابة؛ لأنّه عليه الصّلاة والسّلام بيّن وجه الاتصال بينه وبين عليّ في قوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» بقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» أي: فالاتصال من ناحية الخلافة، لا من ناحية النبوّة. ونحن معشر أهل السنة والجماعة نقول: إنّ هذه الخلافة خاصة في حياته عليه الصّلاة والسّلام، كما يستفاد من هذا الحديث؛ فإنّ هارون المشبّه به، إنّما كان خليفة في حياة موسى، ويزيد هذا تأييدا: أنّ هارون المشبّه به توفي «قبل موسى عليه الصّلاة والسّلام، قيل: بأربعين سنة، كما حكاه في «شرح المواهب» عن المصنف، أو بسنة كما هو أحد قولي البيضاويّ. وليعلم: أنّ مذهب الشيعة مبني على أوهام وعقائد لا تتفق مع العقائد السليمة الصحيحة، شأن كل بدعيّ، وأنشد بعض الشيعة بما يدل على خبث بواطنهم في الصحابة الكرام المعدلين من قبل الحق تعالى قبل بروزهم إلى عالم الوجود وحقّ لهم ذلك، فإنّ الوجود لم يشاهد مثلهم في جماعات الكمالات والخير، حتى قال بعضهم: لو لم يكن لهذا النّبيّ الكريم من الآيات على صدقه إلّا أصحابه.. لكفى، رضي الله عنهم، وجمعنا بهم في دار كرامته ومستقر رحمته آمين- فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 وقال إذ أضلّ راحلته ... مجرمهم ما قال فابتهته نحن أناس قد غدا شأننا ... حبّ عليّ بن أبي طالب يلومنا الجاهل في حبه ... فلعنة الله على الكاذب وكشف عن ذلك بعض «1» أهل السنّة، ورد عليه بقوله: ما عيبكم هذا ولكنه ... بغض الذي لقّب بالصاحب وقولكم فيه وفي بنته ... فلعنة الله على الكاذب مقالة المنافق زيد بن اللّصيت: (و) لمّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر، فكان ببعض الطريق (قال إذ أضلّ) فقد (راحلته) وهي القصواء، كما قاله الواقديّ، وهو بالنصب مفعول (أضل) ، وفاعل (قال) قوله: (مجرمهم) أي: مجرم المجتمعين أو المسلمين، وهو زيد بن اللّصيت- مصغرا- كما في «الإصابة» وكان من المنافقين، ويقال: ابن لصيب بالباء، كما قال ابن هشام (ما) أي: القول الشنيع الذي (قال) وهو: أليس يزعم محمّد أنّه نبي، ويخبركم عن خبر السماء   (1) نسب البيتين في الجواب العلّامة ابن العماد في «الشذرات» للمولى أبي السعود محمّد بن محمّد بن مصطفى العمادي المولود سنة (898) والمتوفي سنة (982) بالقسطنطينية بجوار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 وهو لا يدري أين ناقته (فابتهته) رسول الله؛ أي: أوقعه في الحيرة، لا يدري معها ماذا يجيب؛ فإنّه عليه الصّلاة والسّلام قال: «إنّ رجلا يقول كذا وكذا- وذكر مقالته- وإنّي والله لا أعلم إلّا ما علّمني الله، وقد دلّني الله عليها، وهي في الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها» فانطلقوا فجاؤوا بها. وذكر ابن إسحاق ذلك بتوضيح فقال: (وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يقال له: عمارة بن حزم عقبيّ، بدريّ، وكان في رحله زيد بن اللّصيت المنافق، فرجع إلى رحله فقال: والله؛ لعجب من شيء حدّثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل، أخبره الله عنه بكذا وكذا، للّذي قال زيد بن اللصيت! فقال رجل ممّن كان في رحل عمارة- ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم-: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: إليّ عباد الله؛ إن في رحلي لداهية وما أشعر، اخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني، قال ابن إسحاق: فزعم بعض الناس أنّ زيدا تاب بعد ذلك، وقال بعض الناس: لم يزل متّهما بشر حتى هلك) اهـ. وذكره الحافظ في «الإصابة» في القسم الأول، وحكى الاختلاف في توبته، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 قلت: تضمّنت هذه القضية آيتين من آيات النبوّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الأولى: إخباره عليه الصّلاة والسّلام عن مقالة ذلك المنافق قبل أن تصل إليه. والثّانية: إخباره عليه الصّلاة والسّلام بأنّها في المكان الفلانيّ معرفا لهم أنّ شجرة حبستها بزمامها، كأنّه عليه الصّلاة والسّلام يشاهد ذلك، فيخبر عنه رأي عين، وقد وجدوها كما أخبر، ولا غرابة في ذلك، فكم له من آيات تلو آيات لا يأتي على عدّها الحصر! وفيها من الفوائد: وقوفه عليه الصّلاة والسّلام أمام من أرسله وقوف الخاضع المستمطر لمزيد العلم بقوله عليه الصّلاة والسّلام: «وإنّي والله لا أعلم إلّا ما علّمني ربي» أي: وقد علمه ربه تبارك وتعالى، وهو الذي أدّبه وخلّقه بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً. وفيها: زيادة ترقيه صلى الله عليه وسلم في المعارف والعلوم؛ فإنّه تعالى يفيض عليه كل وقت ما لا يعلمه إلّا هو وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. وفيها: قيام أصحابه بما عرف من صدقهم له، ونصحهم إياه، يعرف ذلك من إخراج عمارة زيدا من رحله لمّا علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 ونزلت يومئذ في مخشن ... وصحبه كُنَّا نَخُوضُ فاعتن نفاقه؛ فإنّ (من صافى عدوك فقد عاداك) : إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام يعني بالصديق: الذي صداقته مموّهة في الظاهر كصداقة المنافقين: أمّا من صداقته حقيقية قد نزلت في الأحشاء، ورسبت في الأعماق، وظهرت آثارها على اللسان.. فمحال أن يصدر منه شيء من ذلك. وفيها من الفوائد: ترقّي الصحابة رضي الله عنهم كل يوم في الإيمان والعلوم والمعارف، بما يشاهدونه من نبيّ الرحمة، وسيد الرسل صلى الله عليه وسلم. قصة وديعة بن ثابت ومخشن بن حمير: (ونزلت يومئذ) أي: يوم تبوك والنّبيّ صلى الله عليه وسلم منطلق إليها (في مخشن) ، بفتح الميم وسكون الخاء بعدها شين معجمة، وهو ابن حميّر مصغرا بالتثقيل من أشجع (وصحبه) من المنافقين منهم وديعة بن ثابت (كُنَّا نَخُوضُ) الآية وهي قوله تعالى إخبارا عنهم لما سئلوا عن قولهم الباطل والكذب: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 قال ابن إسحاق: (وقد كان رهط من المنافقين- منهم وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة، يقال له: مخشن بن حمير- يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله؛ لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال؛ إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير: والله؛ لوددت أنّي أقاضى على أن يضرب كل منا مئة جلدة، وإنّا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله لعيه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر: «أدرك القوم؛ فإنّهم قد احترقوا، فسلهم عمّا قالوا، فإن أنكروا.. فقل: بلى، قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله؛ إنّما كنّا نخوض ونلعب، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله؛ قعد بي اسمي واسم أبي. وكان الذي عفي عنه في هذه الآية: مخشن بن حمير، فتسمّى عبد الرّحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 وقوله صلى الله عليه وسلم لعمار: «أدرك القوم؛ فإنّهم قد احترقوا» أي: هلكوا بتلك المقالة؛ شفقة منه عليهم، وقول مخشن: (قعد بي ... ) إلخ، قال ذلك لمّا تاب، وقال كما رواه ابن جرير الطبريّ في «تفسيره» : (اللهمّ؛ إنّي أسمع آية أنا أعنى بها، تقشعرّ منها الجلود، وتجل منها القلوب، اللهمّ؛ فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلّا وجد، غيره) . قلت: ويستفاد من الآية: إطلاق الطائفة على الواحد، كما يشير إليه كلام ابن إسحاق السابق، وذكر الطبريّ ذلك في «تفسيره» كما أنّه يؤخذ من الآية: أنّ الاستهزاء بالدين كيف كان.. كفر بالله؛ لأنّ المعول عليه في الإيمان تعظيم أوامر الله عزّ وجلّ وشرائعه، ولا ينفع بعد ذلك القول بأنّ هذا وقع خوضا في الحديث ولعبا؛ فإنّه عين كلام المنافقين. ما كان بعد الوصول إلى تبوك: وكان على الناظم أن يذكر ماذا كان لما وصلوا إلى تبوك. وحاصل ما ذكره أرباب السير: أنّه عليه الصّلاة والسّلام لمّا وصل إلى تبوك.. أتاه يحنّة، بضم التحية وفتح المهملة وتشديد النون، ابن رؤبة، بضم الراء، صاحب أيلة، وأهل جربى، بجيم مفتوحة وألف مقصورة، وأذرخ، بهمزة مفتوحة وراء مضمومة، فصالحهم على الجزية، وكتب ليحنة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 «بسم الله الرّحمن الرّحيم: هذه أمنة من الله ومحمّد النّبيّ رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة: سفنهم، وسيارتهم في البر والبحر؛ لهم ذمة الله، وذمة محمّد النّبيّ، ومن كان معهم من أهل الشام واليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا.. فإنّه لا يحول ماله دون نفسه، وإنّه طيب لمن أخذه من الناس، وأنّه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه، من بر أو بحر» . وأقام عليه الصّلاة والسّلام بتبوك بضع عشرة ليلة، أو عشرين ليلة، وقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في مجاوزتها، ولم يكن إذ ذاك وحي، فقال عمر: يا رسول الله؛ إنّ للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعنا هذه السنة، حتى نرى أو يحدث الله أمرا. اهـ قال في «الحلبية» : (وهذا صريح في أنّ تبوك لم يقع فيها مقاتلة، ولا حصل فيها غنيمة، خلافا للزمخشري) . ثمّ أخذ راجعا إلى المدينة، ولمّا كان ببعض الطريق.. مات الصحابيّ الجليل الشهير بذي البجادين المزنيّ ليلا، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حفرته، وهو يقول لأبي بكر وعمر: «أدنيا إليّ أخاكما» فدلّياه إليه، فلمّا هيّأه لشقه قال: «اللهمّ؛ إنّي قد أمسيت راضيا عنه، فارض عنه» قال ابن مسعود رضي الله عنه حينئذ: يا ليتني كنت صاحب الحفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 رضي الله عنه وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان قدومه عليه الصّلاة والسّلام المدينة قافلا في شهر رمضان، وبدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، كما هي عادته الشريفة، وسنّته الحسنة المنيفة (فاعتن) أي: لتكن لك عناية بهذه المنظومة المشتملة على مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تقوي إيمانك أيّها المؤمن، وتزيدك في محبة الرسول الأعظم، وتوصلك إلى القرب من جنابه الشريف وحضرته القدسية، رزقنا الله تعالى وأحبابنا ذلك، وسلك بنا أحسن المسالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 خاتمة نسأل الله حسن الختام في خلاصة للكشف عن بعض ما وقع من عام ولادته صلى الله عليه وسلم من الحوادث إلى عام وفاته صلى الله عليه وسلم طلعت شمس الهداية على العالم، وشعّ شعاعها، بل أشرق على الكون نورها، بولادة سيد الوجود، الذي هدى الله به من اتّبع رضوانه سبل السلام، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وذلك عام الفيل، في فجر يوم الإثنين من شهر ربيع الأوّل، لسبع خلون منه، في بطاح مكة المشرّفة بشعب بني هاشم، مسرورا، مختونا، نظيفا، رافعا رأسه الشريف إلى السماء، شاخصا بصره إليها، وفي ذلك الرفع إلى كل سؤدد إيماء، وقد تلقّته قابلته الشفّاء أم عبد الرّحمن بن عوف، وشفتنا بقولها الشفاء، عليه ألف صلاة وألف سلام. وفي السنة الرّابعة من مولده صلى الله عليه وسلم: شقّ صدره الشريف، عند ظئره حليمة السّعدية رضي الله عنها. وفيها: ولد أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه. وفي السنة السادسة: ماتت أمه آمنة بنت وهب، ودفنت بالأبواء، وتوفي أبوه عبد الله وهو حمل بالمدينة المنوّرة، ونشأ عليه الصّلاة والسّلام يتيما على أحسن الأخلاق وأكملها، ولعلّ السر في ذلك أن تظهر عناية الله به، ولئلّا يكون عليه حق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 لسوى خالقه، وليتجلّى فيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» . وفيها: ولد عثمان رضي الله عنه. وفي السنة السّابعة: استقلّ بكفالته جده عبد المطلب سيد قريش. وفي السنة الثّامنة: كانت وفاة جده عبد المطلب، وكفله عمه أبو طالب. وفي السنة التّاسعة: سافر به عمه أبو طالب إلى بصرى بضم الباء- من أرض الشام. وفي السنة العاشرة: كانت حرب الفجار الأولى، بكسر الفاء. وفي السنة الحادية عشرة: شق صدره الشريف للمرة الثانية. وفي الثّانية عشرة: كانت حرب الفجار الثانية، وسافر به صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب إلى بصرى عند الأكثر. وفي الثّالثة عشرة: ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفي الرّابعة عشرة: كانت حرب الفجار الثّالثة. وفي السّابعة عشرة: كان سفر عميه: الزّبير والعبّاس ابني عبد المطلب لليمن للتجارة، وصحبهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي السنة الخامسة والعشرين: سافر صلى الله عليه وسلم مع ميسرة غلام أمّنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 وتزوج صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد حين خطبته لنفسها، لمّا آنست نجابته وأمانته ورجحان عقله. وفي سنة ثلاثين: ولد علي بن أبي طالب في الكعبة، رضي الله عنه. وفي سنة أربع وثلاثين: ولد معاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما. وفي سنة خمس وثلاثين: هدمت قريش الكعبة وبنتها، وحكموه صلى الله عليه وسلم فيمن يضع الحجر الأسود محله، فحكم فيهم بالرضا والعدل. وفي سنة سبع وثلاثين: كانت الإرهاصات، وهي مقدمة النبوّة، فكان يرى الضوء والنور، ويسمع الأصوات، وكانت تظله الغمامة من الشمس، ونبئ وعمره أربعون سنة، بنزول: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. وفي السنة الثّالثة من النبوّة: توفّي ورقة بن نوفل. وفي السنة الرّابعة من النبوة: كان إظهار الدعوة إلى الله تعالى بعد أن كانت سرّا. وفي السنة الخامسة من النبوّة: ولدت عائشة رضي الله عنها، وكانت الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة. وفيها: ماتت سميّة أم عمّار بن ياسر، رضي الله عنهم، وهي أوّل شهيدة في الإسلام. وفي السّادسة من النبوة: أسلم حمزة بن عبد المطلب، ثمّ عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بثلاثة أيام بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 وفي السنة السّابعة: تقاسمت قريش على معاداة بني هاشم وبني المطلب، ومقاطعتهم في خيف بني كنانة بالمحصّب، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها بجوف الكعبة ولم يحصلوا على طائل؛ حيث نقضت بعد. وفي التّاسعة من النبوة: كان انشقاق القمر له صلى الله عليه وسلم، وهي معجزة سماوية، لم تكن لغيره من إخوانه المرسلين. وفي السنة العاشرة: مات أبو طالب وخديجة رضي الله عنها، وكان صلى الله عليه وسلم يسمي هذا العام عام الحزن لذلك. وفيها: تزوج صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة رضي الله عنها، ودخل عليها بمكة، وعقد على عائشة رضي الله عنها، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بها إلّا في المدينة. وفي السنة الحادية عشرة من النبوّة: كان ابتداء إسلام الأنصار رضي الله عنهم. وفي السنة الثّانية عشرة من النبوّة: كان الإسراء والمعراج، وفرض الصلوات الخمس، وبيعة العقبة الأولى. وفي السنة الثّالثة عشرة من النبوّة: العقبة الثّانية. وفي السنة الرّابعة عشرة من النبوّة، وهي السنة الأولى من الهجرة: هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وفي صحبته أبو بكر الصدّيق، وكان الدليل عبد الله بن أريقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 وفيها: بناء مسجد قباء، وبناء المسجد الأنور ومساكنه صلى الله عليه وسلم، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واستخدام أم أنس ولدها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره عشر سنين. وفيها: جعلت صلاة الحضر أربع ركعات، وكانت ركعتين، بعد مقدمه المدينة بشهر. وفيها: صلّى الجمعة ببني سالم في طريقه من قباء إلى المدينة، وهي أول جمعة جمعت، وأول خطبة خطبها في الإسلام. وفيها: بدأ الأذان. وفيها: أسلم عبد الله بن سلام. وفيها: مات النقيبان: أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور «1» . وفيها: بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين من المهاجرين يعترضون عير قريش، وبعث ابن عمه عبيدة بن الحارث رضي الله عنه على مئتين من المهاجرين ليس فيهم أنصاريّ، وهو أول بعث في الإسلام. وفي السنة الثّانية من الهجرة: حولت القبلة إلى البيت الحرام، وذلك في النصف من شعبان. وفيها فرض صوم رمضان.   (1) ودفنا بالبقيع وهما من الأنصار، أمّا أول من دفن به من المهاجرين: فهو عثمان بن مظعون، فتنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 وفيها: فرض زكاة الفطر، وزكاة المال، ومشروعية العيد. وفي سابع عشر يوم الجمعة من رمضان: كانت غزوة بدر الكبرى. وفيها: تزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها، وسنها خمس عشرة سنة، وغزوة بواط والعشيرة، وسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة، وغزوة قرقرة الكدر، وسرية سالم بن عمير رضي الله عنه، وغزوة بني قينقاع، وغزوة السويق. وفيها: موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وهو أوّل من مات من المهاجرين بالمدينة المنوّرة، وكان ذلك بعد رجوعه من بدر، وهو أول من دفن ببقيع الغرقد، وقبله النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ميت بين عينيه، وعيناه تذرفان، ودفن إلى جنبه ولده إبراهيم، وقال: «الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون» . وفيها: وفاة رقية بنته عليه الصّلاة والسّلام ورضي الله عنها. وفي شوال منها: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها. وفيها: ولد عبد الله بن الزّبير، والنعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ الأول: أول مولود للمهاجرين، والثّاني: أول مولود للأنصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 وفي السنة الثّالثة من الهجرة: ولد الحسن بن علي رضي الله عنهما. وفي رمضان منها: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحفصة، ودخل بزينب بنت خزيمة العامرية الملقبة بأم المساكين، وعاشت عنده ثلاثة أشهر ثم توفيت. وفيها: تزوج عثمان بن عفان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها: تحريم الخمر. وفي شوال منها: غزوة أحد. وفيها: استشهد سيدنا حمزة عم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ورضيع النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو وأبو سلمة بن عبد الأسد، من ثويبة مولاة أبي لهب، وغزوة حمراء الأسد. وفي ذي القعدة منها: بدر الصغرى. وفي السنة الرّابعة من الهجرة: بعث بئر معونة، وقصة الرجيع. وفي ربيع الأوّل منها: غزوة بني النضير، نزلوا صلحا، وارتحلوا إلى خيبر، ووفاة زينب بنت خزيمة، وولادة الحسين بن علي رضي الله عنهما. وفيها في شوال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة، هند بنت أبي أميّة رضي الله عنها. وفي السنة الخامسة من الهجرة: غزوة دومة الجندل، وغزوة ذات الرقاع على قول، وغزوة الخندق والأحزاب على الصحيح، ثمّ غزوة بني قريظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 وفيها: توفي سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه، واهتزّ لموته عرش الرّحمن، ووفد بلال بن الحارث المزني فكان أول وافد مسلم إلى المدينة المنوّرة. وفيها: غزوة المريسيع والمصطلق، وقصة الإفك، ونزول القرآن ببراءة عائشة رضي الله عنها، ونزول آية التيمم، وتزويجه بزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث، ونزول آية الحجاب، وفك سلمان من الرق رضي الله عنه. وفي السنة السّادسة من الهجرة: غزوة الحديبية، وبيعة الرضوان، وغزوة بني لحيان، وغزوة الغابة، وسرية عكاشة، ومحمّد بن مسلمة، وبعث أبي عبيدة، وسرية زيد بن حارثة إلى بني سليم، وسريته إلى العيص، وإلى وادي القرى، وسرية عبد الرّحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وسرية علي إلى بني سعد بن بكر، وابن عتيك إلى ابن أبي رافع، وسرية عمرو بن أميّة الضمري وسلمة بن أسلم لقتال أبي سفيان بمكة. وفيها: قحط الناس، فاستسقى لهم الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقوا في رمضان. وفيها: فرض الحج على الصحيح، كما ذكره السيد السمهودي في «وفاء الوفاء» . وفي السنة السّابعة: غزوة خيبر. وفيها: تزوج صلى الله عليه وسلم صفية، وميمونة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهنّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 وفيها: قدم مهاجرة الحبشة رضي الله عنهم. وفيها: أسلم أبو هريرة رضي الله عنه. وفيها: عمرة القضاء. وفيها: غزوة وادي القرى. وفيها: اتّخذ المنبر، وخطب عليه الصّلاة والسّلام. وفي السنة الثّامنة من الهجرة: في أوّلها إسلام عمرو بن العاصي وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم، وغزوة مؤتة، وبها استشهد الأمراء الثلاثة: زيد بن حارثة، الذي نوّه القرآن بذكره وقدره، وجعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو وابنه أسامة كفئا للقرشيات الهاشميات، ثانيهم: جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الملقب بالطيار، ثالثهم: عبد الله بن رواحة الخزرجي أحد النقباء ليلة العقبة رضي الله عنهم. وفي رمضان منها: فتح مكة المشرّفة، وغزوة حنين، ثمّ حصار الطائف. وفيها: حج عتّاب بن أسيد بالناس. وفيها: غزوة ذات السلاسل. وفيها: ولد إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها: توفيت ابنته زينب، وهي أكبر أولاده صلى الله عليه وسلم. وفيها: إسلام العباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث، وعبد الله بن أميّة المخزوميّ، وإسلام أبي قحافة والد الصديق الأكبر، رضي الله عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 وفي السنة التّاسعة من الهجرة: غزوة تبوك، وحجّ أبو بكر بالناس. وفيها: مات النجاشي بالحبشة في رجب منها، وتوفيت أم كلثوم بنته عليه الصّلاة والسّلام. وفيها: مات رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ. وفيها: قتل عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه، قتله قومه أن دعاهم إلى الإسلام، وكان معدودا من دهاة العرب. وفيها: توفي سهيل بن بيضاء الفهريّ وصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. وفيها: قتل ملك الفرس، وولوا بوران، وقال فيهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» . وفيها: قدوم الوفود على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمي لذلك: عام الوفود. وفي السنة العاشرة من الهجرة: حجة الوداع، ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة سواها. وفيها: توفي إبراهيم ابنه عليه الصّلاة والسّلام من مارية القبطية عن سنة ونصف. وفيها: قدوم عدي بن حاتم رضي الله عنه، وبعث علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه إلى اليمن، وإسلام سيد بني بجيلة جرير بن عبد الله البجليّ، وبعثه إلى تخريب ذي الخلصة، وبعثه أيضا إلى ذي الكلاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 وفيها: بعث أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى أهل نجران. وفيها: ظهور الأسود العنسي المدّعي النبوّة، وكان بين ظهوره وقتله نحو من أربعة أشهر كما ذكره ابن العماد في «شذراته» . وفي السنة الحادية عشرة: قدوم وفد النّخع، وسرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبنى، وقصة الأسود العنسيّ، ومسيلمة الكذاب، وسجاح، وما وقع في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم، وفيها: موته، وغسله، وتكفينه والصّلاة عليه، ودفنه في بيت عائشة رضي الله عنها. قال العلّامة جمال الدين الأشخر في «بهجته» : (قال الإمام السهيلي: وكان موته صلى الله عليه وسلم خطبا كالحا، ورزءا لأهل الإسلام فادحا، كادت تنهد له الجبال، وترجف الأرض، وتكسف النيران؛ لانقطاع خبر السماء، وفقد ما لا عوض منه، مع ما آذن به موته من إقبال الفتن السّحم، والحوادث الدّهم، والكرب المدلهمة، والهزاهز المعضلة، فلولا ما أنزل الله تعالى من السكينة على المؤمنين، وأسرج في قلوبهم نور اليقين، وشرح له صدورهم في فهم كتابه المبين.. لا نقصمت الظهور، وضاقت عن الكرب الصدور، ولعاقهم الجزع عن تدبير الأمور؛ فقد كان الشيطان أطلع إليهم رأسه، ومدّ إلى إغوائهم مطامعه، فأوقد نار الشنآن، ونصب راية الخلاف، ولكن أبى الله تعالى إلّا أن يتم نوره، ويعلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 كلمته، وينجز موعوده، فأطفأ نار الردة، وحسم مادة الخلاف والفتنة على يد أبي بكر؛ ولذلك قال أبو هريرة: لولا أبو بكر.. لهلكت أمّة محمّد عليه السّلام بعد نبيها. وقالت عائشة: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال لهاضها: ارتدت العرب. واشرأبّ النفاق. روي عن ابن أبي ذؤيب الهذلي [عن أبيه أبي ذؤيب الشاعر] قال: (بلغنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فاستشعرت حزنا، وبت بأطول ليلة، لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظلت أقاسي طولها، حتى إذا كان قرب السحر.. أغفيت، فهتف بي هاتف، وهو يقول: خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام قبض النّبي محمّد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام وذكر خبرا طويلا قال فيه: وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت لهم: مه؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت المسجد، فوجدته خاليا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت بابه مرتجا- أي: مغلقا- وقيل: هو مسجى قد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل: في سقيفة بني ساعدة، فجئت إلى السقيفة، ثمّ قال: فتكلمت الأنصار فأطالوا الخطاب، وأكثروا الصواب، وتكلّم أبو بكر، فلله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 دره، لا يطيل الكلام، ويعلم موقع فصل الخطاب، والله؛ لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع.. إلّا انقاد له ومال إليه، ثمّ تكلم عمر بعده دون كلامه، ومدّ يده، فبايعه وبايعوه. ورجع أبو بكر، ورجعت معه، قال أبو ذؤيب: فشهدت الصّلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدت دفنه) . قال العلّامة العماد إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى: (والذي نصّ عليه غير واحد من الأئمّة سلفا وخلفا أنّه توفي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء قبل وقت الضحى) . ونقله عنه العلّامة الحلبي في «سيرته» ثمّ قال: (والصحيح: أنّه صلى الله عليه وسلم مكث بقية يوم الإثنين، وليلة الثلاثاء، ويوم الثلاثاء، وبعض ليلة الأربعاء، والسبب في تأخيره: اشتغالهم ببيعة أبي بكر رضي الله عنه حتى تمّت. ودفن عليه الصّلاة والسّلام في بيت عائشة رضي الله عنها، وقام الإجماع على أنّ هذا الموضع الذي ضمّ أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض حتى الكعبة المشرفة، بل أفضل بقاع السماء حتى العرش. وعن أنس رضي الله عنه: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. وقال غيره: وأظلمت الدنيا حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرط لأمّتي، لن يصابوا بمثلي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 وفي «مسلم» مرفوعا إليه صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله سبحانه وتعالى إذا أراد بأمّة خيرا.. قبض نبيها قبلها، فجعله فرطا وسلفا بين يديها» ) اهـ فيا له من خطب جل عن الخطوب، ومصاب عام دمع العيون؛ كيف يصوب طارق هجم هجوم الليل، وحادث هدّ كل القول والحيل؟ أنشد بعضهم: ألا يا ضريحا ضمّ نفسا زكية ... عليك سلام الله في القرب والبعد عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما ناح قمري على البان والرند وما سجعت ورق، وغنّت حمامة ... وما اشتاق ذو وجد إلى ساكني نجد وما لي سوى حبّي لكم آل أحمد ... أمرّغ في شوق على بابكم خدّي اللهمّ؛ صلّ وسلّم وبارك على سيدنا، ونبينا، وشفعينا، وقرّة عيوننا أبي القاسم، وأبي البتول محمّد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرّيته كما صليت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنّك حميد مجيد، وعلينا معهم. *** هذا وقد وقف بي جواد مداد الطروس عن الجري في ميدان شرح هذه المنظومة البديعة في بابها، راجيا من الله تعالى أن يتقبل مني كل ما كتبته من هذا الشرح والتعليق، كما تقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 أصله، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ووسيلة للقرب لسيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، أحظى به يوم النعيم المقيم، وأن يرزقني كمال متابعته، والتحلّي بالعمل بشريعته، وأن ينفع بهذا الشرح المؤمنين، ويحفز بي وبهم إلى التخلّق بأخلاقه العظيمة، ويختم لي ولوالدي، ولمن قرأ هذا الشرح، أو كتبه، أو سعى في شيء منه، ولجميع الأحباب، بخاتمة السعادة التي ختم بها لأوليائه، ويصلح لنا الذرية، وأن يجمعنا في أعلى الجنان من غير سابقة عذاب، آمين آمين يا الله يا حليم، يا عليم، يا علي، يا عظيم، يا كريم، يا معطي السائلين، ومجيز الوافدين. وكان الفراغ من هذا الشرح- الذي هو القسم الثّاني، جعله الله سببا لغفران الزلّات والصفح- ليلة الأحد الموافق 25 من شهر رجب المحرم سنة ستين بعد الثلاث مئة والألف، من هجرة من له كمال العز والشرف، صلى الله عليه وسلم، وكرّم وشرّف. *** وانتهيت بحمد الله وعونه من كتابة العناوين الجانبية، ودراسة كتاب «إنارة الدجى في مغازي خير الورى» صلى الله عليه وسلم من تأليف شيخي الشيخ حسن بن محمّد المشّاط بكوالالمبور، ماليزيا مساء الجمعة 5 جمادى الأولى سنة (1413) الموافق 30 أكتوبر سنة (1992) فلله الحمد والمنّة وصلّى الله على خير الوجود سيدنا محمّد بن عبد الله وعلى آله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 وصحبه، وجزى الله شارح المنظومة شيخي الشيخ حسن مشّاط خير الجزاء، وتم تصحيحه من قبل الأخوين الدكتور السيد قاسم بن محمد الأهدل، والدكتور صبغة الله غلام نبي قطب الدين تلميذي فضيلة الشيخ حسن محمد المشاط رحمه الله فجزاهما الله خير الجزاء. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 محتوى الكتاب العنوان الصفحة القسم الأول ترجمة الشارح 9 الدراسة 14 شروح المنظومة 14 مصادر الشرح 15 صلة الشارح رحمه الله بمنظومة المغازي وتحقيقه نصوصها 16 منهج الشارح رحمه الله تعالى 18 منهج الشارح في التعبير عن رأيه 20 خصائص الشرح 20 القسم الثّاني: الكتاب تعريف بصاحب النظم 37 ترجمة الناظم 37 نظم عمود النسب 37 تاريخ وفاة الناظم 38 تصدير 39 أهمية علم المغازي 40 مصادر الشرح 40 المقدمة الأولى في مشروعية الجهاد 42 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 العنوان صفحة تدرّج مشروعية الجهاد 42 بداية مشروعية الجهاد 42 فرض القتال لمن بدأهم به 43 فرض قتال المشركين كافة 43 أقسام الكفار وتحديد علاقاتهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة 43 تعامله صلّى الله عليه وسلّم مع الطوائف المختلفة 44 أقسام أهل العهد 45 المقدمة الثانية في المغازي وفضل علمها وتعلمه 47 المراد من المغازي 47 الآثار في فضل فن المغازي 47 أهمية تعلم فن المغازي للأجيال المسلمة 48 المقدمة الثالثة في أشهر من ألف في المغازي 49 المؤلفون الأوائل في علم المغازي 49 منهج أهل السير في الأخذ بالأخبار 54 منظومة المغازي 57 الإجماع على أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم خير الخلق على الإطلاق 84 تحرير مقالة المعتزلة في أفضليته صلّى الله عليه وسلّم المطلقة 84 عموم أدلة رسالته صلّى الله عليه وسلّم في القرآن والسنة 84 الصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هي أداء لبعض ما يجب له في أعناق الأمّة 85 آل الرسول صلّى الله عليه وسلّم 86 تعريف الصحابي 86 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 العنوان صفحة تعريف التابعي 86 أهمية العلم وأفضليته 88 تعريف الرجز ووزنه 90 ترجمة ابن سيد الناس اليعمري 91 من مصطلحات الناظم ذكر الضمير استغناء عن الاسم الشريف للنبي صلّى الله عليه وسلّم 93 الأقوال في تعريف الإخلاص 95 (1) غزوة ودان عدد غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم 96 الغزوات الكبار 96 موقع الغزوة 97 حاصل غزوة ودان، تاريخها، حامل لوائها 97 مصطلح أهل السير فيما يسمونه غزوة، وسرية، وبعثا 98 (2) غزوة بواط موقع الغزوة 98 عدد أفرادها 98 تاريخها 98 حامل لوائها 98 (3) غزوة العشيرة موقع الغزوة 100 تاريخها 101 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 العنوان صفحة حامل لوائها 101 عدد أفرادها 101 الجمع بين الأقوال المختلفة في أول غزوة غزاها صلّى الله عليه وسلّم 101 (4) غزوة بدر الأولى حاصل غزوة بدر الأولى 102 تاريخها 102 حامل لوائها 102 (5) غزوة بدر الكبرى بدر: بئر سميت باسم رجل من غفار 103 تاريخها 103 سبب خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه الغزوة 104 عدد أفرادها 104 حامل لوائها 104 قلة الظهر والسلاح عند المسلمين 104 تعاقب كل ثلاثة من الصحابة على بعير 104 زميلا النبي صلّى الله عليه وسلّم في التعاقب 105 أول خروج الأنصار مع النبي صلّى الله عليه وسلّم 106 رد صغار الصحابة عن الخروج للغزو 106 استشهاد عمير بن أبي وقاص 106 دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبركة لأهل المدينة 106 عدد السيوف لدى الصحب الكرام 106 عدد الخيول 107 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 العنوان صفحة استشارة النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في طلب العير وحرب النفير 109 موقف الأنصار من خلال استجابة سعد بن معاذ رضي الله عنه لنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم 109 موقف المقداد بن عمرو واستجابته لنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم 110 استدراك على الناظم 112 تحذير عمر بن الخطاب من قوة قريش 112 تعرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر أخبار قريش 113 قصة سقاة قريش 114 تقدير عدد كفار قريش ومن خرج من أشرافهم 115 أمن أبي سفيان على العير ونجاتها 115 سبب أمن أبي سفيان 115 تتبع أبي سفيان أخبار المسلمين والتعرف على تحركهم 116 انحراف العير إلى الساحل 116 رجوع الأخنس ببني زهرة 116 إصرار أبي جهل على عدم رجوع قريش 117 نزول المطر يوم بدر نعمة على المسلمين ونقمة على المشركين 118 المشورة في منزل الحرب 119 مقال عتبة، وحكيم، وابن وهب لقريش في الرجوع عن القتال 121 بعث قريش عمير بن وهب الجمحي متحسسا أخبار المسلمين 122 مفاوضات زعماء قريش على التراجع عن القتال 123 إصرار أبي جهل على الحرب 123 محاولة حكيم بن حزام أبا جهل في الرجوع عن القتال 124 استنشاد أبي جهل ابن الحضرمي بالمطالبة بالثأر من المسلمين 125 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 العنوان صفحة مقتل الأسود بن عبد الأسد 125 ابتداء الحرب بالمبارزة 126 استشهاد عبيدة بن الحارث 127 عبيدة بن الحارث 128 الأخوان الحصين والطفيل ابنا الحارث 129 قصة سواد بن غزية مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم 130 قصة تقبيل سواد بن غزية بطن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 130 عريش النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 131 توجه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم متضرعا إلى الله عزّ وجلّ 131 الإمداد بالملائكة في بدر 132 دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم ربه 133 استفتاح أبي جهل 133 آثار حفنة التراب التي رماها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وجه كفار قريش 134 قتال الملائكة لمساعدة المسلمين 135 الخلاف في قتال الملائكة 135 سماع الطبل في بدر 136 تحقيق العلامة بن مرزوق لسماعه 136 تحقيق المؤرخ الخميس حسين بن محمد 137 الخلاف في نزول جبريل بعد الرسول عليهما السلام 138 التحقيق في نزول جبريل بعد وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 138 قصة الرجلين اللذين شاهدا جبريل عليه السلام 139 سعد بن معاذ وحراسته الرسول صلّى الله عليه وسلّم في العريش 140 رأي سعد بن معاذ وعمر في الأسارى 141 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 العنوان صفحة استشارة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في أسرى بدر 142 موافقات عمر رضي الله عنه 142 الاستشارة في أسرى بدر 143 النهي عن قتل بني هاشم وأبي البختري 144 قتل المجذر بن ذياد لأبي البختري 146 مقالة أبي حذيفة وتكفيرها بالشهادة 148 استشهاد أبي حذيفة رضي الله عنه ومولاه سالم يوم اليمامة 149 تمني أبي حذيفة موت أبيه على الإسلام 149 مقتل أبي جهل 150 إصابة معاذ بن عمرو الجموح في عاتقه 151 من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم 151 التوفيق بين الروايات 152 تسمية أبي جهل فرعون هذه الأمة 153 طرح قتلى المشركين في القليب ونداؤهم 155 الاختلاف في إحياء قتلى بدر من المشركين وسماعهم توبيخ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 156 موقف أهل السنة من خبر إحياء قتلى مشركي أهل بدر 157 إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمصارع المشركين بأسمائهم قبل القتال 158 استخلاص العظة من إخبار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن مصارع كفار قريش قبل المعركة 159 نصر الله الموعود للمؤمنين 159 المغفرة لأهل بدر 160 المعنى الذي ينبغي أن يحمل عليه حديث المغفرة لأهل بدر 161 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 العنوان صفحة الحث على سؤال المسلم ربه الفردوس الأعلى 163 يوم بدر أذل الله فيه الشرك، وأعزّ الإسلام 163 الثمانية المتخلفون عن شهود بدر لعذر 164 طلحة بن عبيد الله 165 سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل 165 أسباب التخلف 166 ترجمة عثمان بن عفان رضي الله عنه وسبب تخلفه 167 توفيق بين الروايتين في سبب تخلفه 168 الحارث بن الصمة رضي الله عنه 168 خوات بن جبير رضي الله عنه صاحب ذات النحيين في الجاهلية 168 عاصم بن عدي العجلاني 169 تحقيق سبب تخلفه عن غزوة بدر 169 أبو لبابة بشير بن عبد المنذر 170 الحارث بن حاطب 171 قباء وحراء 171 خصائص قباء 171 من لم يذكرهم الناظم ممن تخلف عن بدر وكان له سهمها وأجرها 172 بعض الأسرى من قريش 172 أسر أبي عزيز بن عمير 172 مصعب بن عمير رضي الله عنه 172 وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإكرام الأسرى 174 إكرام الأنصار أبا عزيز بن عمير 174 صاحب لواء المشركين ببدر 174 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 العنوان صفحة أسر أبي العاصي بن الربيع، ثم فكه 175 استجارته بزينب بنت الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإجارتها له 178 حال أبي العاص مع زينب قبل إسلامه 180 التنبيه على الدس على القرطبي في «تفسيره» فيما يخص أبا العاصي وزوجه زينب رضي الله عنهما 181 السبب في عدم التفريق بين زينب وأبي العاص قبل إسلامه 181 أمانة أبي العاصي، وشرفه، وإسلامه 182 أداء أبي العاص الأموال لأهلها من قريش 182 السبب في إعلان إسلامه بمكة دون المدينة 182 رد زوجه زينب إليه 183 نسبة أبي العاص رضي الله عنه إلى أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها 184 ثناء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أبي العاص 185 فداء أسرى بدر 185 خيار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للصحابة بين قتل الأسارى أو قبول الفداء 185 عدد الأسارى والهالكين من قريش 187 من مشاهير أسرى قريش 187 عمرو بن أبي سفيان 187 العباس بن عبد المطلب 189 هلاك أبي لهب بالعدسة 190 وصف المغيرة ما لاقاه من كفار قريش في ساحة القتال 191 هلاك أبي لهب والكيفية التي دفن بها 192 وفاة العباس رضي الله عنه 192 عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث 192 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 العنوان الصفحة نوفل بن الحارث بن عبد المطلب 193 ذكر جدة 194 وفاة نوفل ن الحارث 194 خالد بن هشام المخزومي، وسهيل بن عمرو العامري 194 سهيل بن عمرو خطيب قريش 194 مكرز العامري ومقامه من فداء سهيل 196 تحقيق الشارح إسلام مكرز العامري 196 عبد الله بن أبي بن خلف، وأبو وداعة السهمي 197 الحارث أول الأسارى فداء 197 خالد بن الأعلم الخزاعي 198 مشاهير من القتلى من مشركي قريش 198 حنظلة بن أبي سفيان 198 منبه بن الحجاج 198 نبيه بن الحجاج 199 حارث بن منبه 199 المستضعفون بمكة في زعمهم الكاذب 199 العاصي بن منبه بن الحجاج 199 مقتل علي بن أمية، وأمية بن خلف 200 علي بن أمية 200 حديث عبد الرحمن بن عوف عن علاقته بأمية بن خلف 200 مصرع أمية بن خلف وابنه 201 مقتل الحارث بن زمعة 202 الأسود بن المطّلب 202 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 العنوان الصفحة هلاك زمعة بن الأسود 203 نواح الأسود بن المطّلب على بنيه 203 نياحة قريش على قتلاها 203 إسلام عمير بن وهب 204 الجعل الذي خصه صفوان بن أمية لقتل النّبي صلّى الله عليه وسلّم 204 كشف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الأمر الذي قدم من أجله عمير إلى المدينة 205 ابنا الفاكهي 205 حكم الذين ادعوا أنّهم مستضعفون وقتلوا ببدر 205 المستضعفون بمكة حقا رضي الله عنهم 206 وصف الوليد، وسلمة، وعياش 207 دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنجاتهم من الكفار 207 سلمة بن هشام رضي الله عنه 208 عياش بن أبي ربيعة 208 تحقيق الشارح أنّ سلمة ليس أخا شقيقا لأبي جهل 209 شهداء بدر من المهاجرين والأنصار 209 عبيدة بن الحارث بن المطّلب 209 عمير بن أبي وقاص 210 عاقل بن عبد ياليل الليثي 210 ذو الشمالين عمير بن عبد عمرو 210 مهجع مولى عمر بن الخطاب أول قتيل من المسلمين 211 صفوان بن بيضاء 211 مبشر بن عبد المنذر 211 يزيد بن الحارث 212 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 العنوان الصفحة عوف وأخوه معوذ ابنا رفاعة 212 حارثة بن سراقة 213 رافع بن المعلى 214 عمير بن الحمام 214 التبشير بنصر الله للمؤمنين وهزيمة المشركين 216 دخول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة منتصرا مظفرا 216 وفاء عمير بن عدي الأنصاري بنذره في قتل عصماء بنت مروان 216 ثناء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عمير لانتصاره لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم 217 (6) غزوة بني سليم تاريخها 218 عدد المسلمين 218 حامل اللواء 218 (7) غزوة بني قينقاع تاريخها 218 سبب هذه الغزوة 219 براءة عبادة بن الصامت من حلف بني قينقاع 220 تحذير النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اليهود من نقمة الله عزّ وجل 220 حامل اللواء والمستخلف على المدينة المنورة 221 إصرار اليهود على الكفر، وعداوة المسلمين 222 بيان المقصود من الحديث الشريف: «لو آمن لي عشرة من اليهود ... » 222 المشهورون بالرئاسة من اليهود في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 222 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 العنوان الصفحة فساد طبيعة اليهود، وإفسادهم، ووعيد الله لهم 223 اليأس من إيمان اليهود، وبيان خصائصهم الدنيئة 223 الآيات من سورة الإسراء تتحدث عن اليهود 224 تفسير ابن كثير للآيات في سورة الإسراء عن بني إسرائيل من اليهود 224 بنو قينقاع أول من غدر من اليهود 226 إلحاح رئيس المنافقين في إطلاق بني قينقاع 227 إجلاء يهود بني قينقاع إلى أذرعات 228 سبب تسمية المدينة المنورة (طيبة) 228 المدينة المنورة تنفي الخبث 228 ذكر طيبة في التوراة 229 إسلام عبد الله بن سلام 230 المسائل الثلاث التي دلت عبد الله بن سلام على صدق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 230 إعلان عبد الله بن سلام إسلامه في مواجهة اليهود 231 مرويات عبد الله بن سلام عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 232 شهادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن سلام بالجنة 232 وفاته رضي الله عنه 232 (8) غزوة السويق تاريخها 232 عدد المسلمين 232 خليفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المدينة 232 سببها 233 نذر أبي سفيان أن يغزو النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 233 اجتماع أبي سفيان بزعماء اليهود للتآمر على المسلمين 233 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 العنوان الصفحة أول عيد ضحى فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 235 (9) غزوة ذي قرقرة تاريخها 235 معنى (قرقرة الكدر) 235 الخليفة على المدينة 236 حامل اللواء 236 تتبّعه لأخبار العدو 236 الغنائم التي ظفر بها المسلمون 236 (10) غزوة ذي أمر وغطفان موقعها 238 تاريخها 238 سبب هذه الغزوة 238 الخليفة على المدينة المنورة 239 إسلام جبار وتعليمه شرائع الإسلام 239 إسلام دعثور بن الحارث 239 تآمر بني ثعلبة على اغتيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 239 مواجهة دعثور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشهرا سيفه 240 استسلام دعثور وإعلانه الإسلام 240 دعثور رضي الله عنه يحكي لقومه ما شهده لدى عزمه وتمكنه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 240 الخلاف في سبب نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ 240 عودة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة 241 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 العنوان الصفحة (11) غزوة بحران موقعها 241 تاريخها 241 خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة 241 عودة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة 242 (12) غزوة أحد خصائص جبل أحد 242 تاريخها 243 سبب هذه الغزوة 243 إعداد قريش للحرب 244 إبلاغ العباس رضي الله عنه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عزم قريش لقتاله 244 العدد والكراع في الجيشين 245 أم الأوس (قيلة) 246 رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأويلها 246 رؤيا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حق 246 تعبير رؤياه صلّى الله عليه وسلّم 247 استشارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في الخروج أو البقاء بالمدينة 248 عزم الرسول صلّى الله عليه وسلّم على القتال 249 اجتهاد الشارح رحمه الله تعالى في تعليل عدول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن رأيه إلى رأي الآخرين 250 خروجه صلّى الله عليه وسلّم للقتال 251 عدد المقاتلة 251 خليفته صلّى الله عليه وسلّم على المدينة 251 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 العنوان الصفحة لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك 251 انخزال المنافقين 252 زجر عبد الله بن عمرو بن حرام ابن أبي ابن سلول وجماعته في شد أزر المسلمين 252 تفاؤله صلّى الله عليه وسلّم 253 ما كان من المنافق مربع بن قيظي حين سلك النبي صلّى الله عليه وسلّم حائطه 256 إجازته صلّى الله عليه وسلّم أبناء خمس عشرة ورده من دونهم 257 الصغار الذين ردهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 257 مصارعة سمرة ورافعا رضي الله عنهما 258 إعطاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم السيف لأبي دجانة 258 تكبر أبي دجانة رضي الله عنه احتقارا للعدو 259 الزبير بن العوام يعرب عن مشاعره تجاه أخذ أبي دجانة للسيف 259 أبو دجانة رضي الله عنه يتغنى بالشعر في ساحة القتال 260 وصف الزبير قتال أبي دجانة للمشركين يوم أحد 260 أول من أشب الحرب 260 استئصال أهل اللواء من المشركين 261 تحريض أبي سفيان قريشا على الحرب 261 تحريض هند والنسوة قريشا على الحرب 262 هند تستحث قريشا على القتال شعرا 262 حملة لواء قريش الهالكين 262 اشتغال الرماة بالغنائم عن الحرب 264 حملة خالد على من بقي من الرماة 265 شؤم مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم 266 شعار المسلمين 266 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 العنوان الصفحة إعلان موت الرسول صلّى الله عليه وسلّم كذبا 267 موقف المسلمين بعد الإعلان الكاذب 267 مقالة معتب بن قشير 267 استشهاد سيدنا حمزة 268 رواية وحشي رضي الله عنه قتله لسيد الشهداء 268 استنكار فعلة أبي سفيان بحمزة بعد استشهاده 271 مقتل قزمان العبسي منافقا كما أخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك 271 استشهاد أصيرم بني عبد الأشهل 272 ثبات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والثابتون معه 273 أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه 274 سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه 274 طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه 275 شلل يد طلحة رضي الله عنه 275 شعر أبي بكر رضي الله عنه في طلحة 276 طلحة الخير رضي الله عنه 276 ثبات العمرين وعلي رضي الله عنهما 277 سبب نزول قوله تعالى: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ الآية 277 نسيبة أم عمارة بنت كعب رضي الله عنهما 277 ثناء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نسيبة رضي الله عنها 279 الجروح التي أصابتها رضي الله عنها 279 ما لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد 279 وقوع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حفرة حفرها أبو عامر 279 كسر رباعية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 280 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 العنوان الصفحة شؤم الآباء على الأبناء 280 دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ابن قمئة 281 عبد الله بن شهاب الزهري 281 وصف جبينه الشريف صلّى الله عليه وسلّم 282 أبو عبيدة رضي الله عنه ينزع بفيه الحلقتين من جرح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 283 كسر ثنيتيه 283 الصحابة الذين أحسنوا القتال 285 مقدار محبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم 285 استشهاد عمرو بن الجموح وابنه 286 هند بنت عمرو بن حرام تحمل الشهداء إلى المدينة 286 هند رضي الله عنها تخبر عائشة رضي الله عنها أنباء المعركة 286 «إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبرّه» 287 كمال إيمان الصحابة رضوان الله عليهم 287 الواجب في حب الصحابة رضوان الله عليهم 287 نصح وتوجيه 288 بلاء قتادة، والمعجزة في حادثة عينه 288 أول من بشّر المسلمين بحياته صلّى الله عليه وسلّم 290 كعب بن مالك رضي الله عنه أول من عرف بحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 290 شعراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشهورون 291 عودة- الصحابة- للرسول صلّى الله عليه وسلّم 291 نهوض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعاونة طلحة بن عبيد الله ودعاؤه له 292 صلاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه قعودا 293 تمثيل هند بنت عتبة بالشهداء 294 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 العنوان الصفحة نشيد هند فرحا بقتل سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه وانتقام قريش لقتلى بدر 295 أول من ولدت هند من الرجال 295 هند بنت أثاثة تجيب هندا زوج أبي سفيان على شماتتها بما حصل للمسلمين 296 استشهاد عبد الله بن جحش كما سأل ربه 297 أول أمير في الإسلام عبد الله بن جحش رضي الله عنه 297 الدعاء الذي دعا به كل من سعد ابن أبي وقاص وعبد الله بن جحش رضي الله عنهما قبيل المعركة 298 طلب الموت المنهي عنه 299 قاتل عبد الله بن جحش 299 دفنه مع خاله سيد الشهداء رضي الله عنهما 299 أبو رهم كلثوم بن الحصين وما أصابه 299 استشهاد حسيل بن جابر اليماني 300 أي الفتن أشد؟ 300 استشهاد ثابت بن وقش، وأخيه رفاعة، وابنيه الأصيرم، وسلمة 301 عزم حسيل وثابت بن وقش رضي الله عنهما على مشاركة المسلمين قتالهم 301 أول من سمّى المصحف مصحفا 301 استشهاد سعد بن الربيع 303 سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمّا فعل الله لسعد بن الربيع رضي الله عنه 303 إجابة سعد بن الربيع رضي الله عنه في اللحظات الأخيرة 303 دفن سعد وابن عمه خارجة رضي الله عنهما في قبر واحد 304 استشهاد مخيريق من بني النضير 304 مخيريق الحبر 304 مخيريق يطالب قومه اليهود بالإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم 304 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 العنوان الصفحة هبته أمواله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم 304 أول الأوقاف في الإسلام 305 استشهاد مصعب بن عمير وشماس المخزومي 305 شماس المخزومي رضي الله عنه 305 «ما وجدت لشماس شبها إلّا الجنة» 305 دفنه مع الشهداء بأحد 305 عدد الشهداء من المهاجرين والأنصار 306 حمزة سيد الشهداء 306 استشهاد حنظلة غسيل الملائكة 307 رؤيا جميلة زوج حنظلة رضي الله عنهما 307 قاتل حنظلة الغسيل 308 استشهاد عمرو بن الجموح 308 إصرار عمرو بن الجموح على الخروج للقتال 309 رؤيا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن الجموح في الجنة 309 عمرو بن الجموح رضي الله عنه سيد قومه 310 سؤال عمر بن الخطاب عن حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتوعده 311 تعرف مقصد جيش المشركين 312 مقتل أبيّ بن خلف لعنه الله 313 استشهاد مصعب بن عمير رضي الله عنه 314 بحث أبي بن خلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقتله 314 مصرع أبي بن خلف على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 314 أبو جهل يتأجج نارا في قبره 315 حديث اعتبار وموعظة 316 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 العنوان الصفحة العبرة فيما أصاب المسلمين بأحد 317 شؤم المخالفة وسوءها 317 الحكمة في نصر المسلمين مرة، وهزيمتهم أخرى 317 تأخر النصر يستوجب مراجعة المسلمين نفوسهم 317 ابتلاء المسلمين رفع لدرجاتهم 317 الشهادة أعلى المراتب 317 إيجاد الله عزّ وجل الأسباب لهلاك الكافرين 318 (13) غزوة حمراء الأسد موقعها 318 سبب هذه الغزوة 318 تاريخها 318 خروج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبه آثار المعركة 319 عدد الذين خرجوا معه صلّى الله عليه وسلّم 319 السماح لجابر بن عبد الله بالخروج 320 بدء المسير إلى المعركة 320 نداء بلال رضي الله عنه بالخروج للعدو 320 تلبية الصحابة رضوان الله عليهم نداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برغم ما بهم من إصابات معركة أحد 320 دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإخباره عمّا تكون عليه حالهم مستقبلا 321 مدة الإقامة بحمراء الأسد 321 استخلاف ابن أم مكتوم رضي الله عنه على المدينة 321 تخذيل معبد الخزاعي قريشا عن الرجوع للحرب 321 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 العنوان الصفحة خزاعة موضع سر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمانته 321 أبو سفيان بن حرب بالروحاء يعزم الرجوع لمحاربة المسلمين 322 معبد يثبط كفار قريش ويثني عزمهم عن قتال المسلمين 322 رسالة شفهية من أبي سفيان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم 323 مقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص لتجسسه لقريش 324 حاصل قصة معاوية بن المغيرة بن العاص 324 إعطاؤه الأمان ثلاثة أيام 325 تجسسه وإهدار دمه 325 مقتل أبي عزة الجمحي الهجاء للرسول صلّى الله عليه وسلّم 325 أسره ببدر واستعطافه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إرساله 326 نقضه للعهد وخروجه مع المشركين 326 استعطافه ثانية بعد القبض عليه 326 المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين 327 أول رأس حمل في الإسلام على رمح 327 (14) غزوة بني النضير تاريخها 328 غزوات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لليهود أربع 328 سبب هذه الغزوة 328 مؤامرة اليهود على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 329 نصح سلام بن مشكم لليهود بالرجوع عن مؤامرتهم 330 إعلام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمؤامرتهم عليه 330 استبطاؤه صلّى الله عليه وسلّم 330 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 العنوان الصفحة ندم اليهود على مؤامرتهم 330 استخلاف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم على الصلاة 331 محاصرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لليهود 331 نزول تحريم الخمر تحريما باتا وسورة الحشر 331 أول آية نزلت في شأن الخمر 332 تحريم الخمر تحريما باتا إلى يوم القيامة 332 سبب نزول سورة الحشر 332 قتل كعب بن الأشرف 333 إخراج بني النضير من ديارهم 333 حث عبد الله بن أبي اليهود بعدم الخروج 333 خروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقتال اليهود 333 حامل الراية 334 موقف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من يهود بني النضير بعد شد الحصار عليهم 334 تولّي محمّد بن مسلمة رضي الله عنه إخراج اليهود 334 فيئهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد خصّ به المهاجرين برضا الأنصار 334 تعريف الفيء 334 تعريف الغنيمة 335 سبب إيثار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المهاجرين بالفيء 335 دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للأنصار 336 دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم الأنصار لعرض موقفه من تقسيم الفيء 336 موقف الأنصار النبيل 337 فضل الأنصار بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم 337 أول من سن التنازل عن الزوجات للمهاجرين سعد بن الربيع 338 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 العنوان الصفحة مؤاخاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين عبد الرّحمن بن عوف وسعد بن الربيع 338 الإشادة بموقف الأنصار من المهاجرين رضي الله عنهم 339 (15) غزوة ذات الرقاع استدراك الشارح 340 سبب التسمية 340 الاختلاف في وقت وقوع هذه الغزوة 341 الأسماء الثلاثة لهذه الغزوة 342 خليفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على المدينة 342 مدة غياب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المدينة 343 غورث وما همّ به من قتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم 343 آراء علماء السيرة في تعدد القصة 344 من صفات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السامية الرفيعة 345 قصة جابر وجمله مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم 345 من لطيف العلم في حديث جابر 348 تشاكل الفعل مع الخبر 348 (16) غزوة بدر الأخيرة تاريخها 349 خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة المنورة 349 نكوص أبي سفيان 349 جيش السويق 350 وفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوعده 350 المسلمون ونعيم بن مسعود 350 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 العنوان الصفحة (17) غزوة دومة الجندل موقعها 351 تاريخها 352 سبب هذه الغزوة 352 عودة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة 353 (18) غزوة الخندق تسميتها 354 تاريخها 354 سببها 354 تحريض اليهود لقريش، وغطفان على حرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم 355 مساءلة قريش لليهود وتزوير هؤلاء للحقيقة 355 دعوة اليهود غطفان لحرب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 355 خروج الأحزاب من المشركين للحرب 356 جيوش الكفار من كل قبيل 356 عدد جيش الكفار 356 حفر الخندق 357 استدراك الشارح 357 ارتجاز المسلمين في حفر الخندق 358 تسمية الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعيلا عمرا 358 معجزات باهرة وأعلام للنبوة ظاهرة 358 من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم: تكثير التمر 358 تكثير الطعام 359 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 العنوان الصفحة دعوة جابر رضي الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونفرا من أصحابه للطعام 359 دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الخندق جميعا لحضور مأدبة جابر رضي الله عنه 359 إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن فتوح المدن والأمصار 360 الكدية التي عادت كثيبا 362 اجتماع الجيشين حول الخندق 362 حاملا لواء المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم 363 نقض كعب عهده للرسول صلّى الله عليه وسلّم 363 حاصل ما سبق حيي بن أخطب يقنع كعبا بنقض العهد 364 كعب ينقض عهده 364 تحرّي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن نقض كعب للعهد 365 رسل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم للوقوف على حقيقة بني قريظة 366 غدر بني قريظة ونقضهم للعهد 366 سابقة عضل في نقض العهد 366 استبشار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما أخبره رسله 367 شدة خوف المسلمين، وظهور نفاق المنافقين 367 توفيق الشارح بين الروايات المتعددة 367 إرسال ريح النصر، والملائكة للمؤمنين 368 الصبا والدبور وآثارهما على نتائج المعركة 369 مشروع الصلح بين المسلمين وغطفان، وعدم تمامه 369 استشارة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السعدين في ما ساومه عليه غطفان 370 اقتحام بعض المشركين الخندق 371 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 العنوان الصفحة فلتة معتب بن قشير 371 مقتل نوفل المخزومي حين اقتحم الخندق 373 مقتل عمرو بن عبدود بسيف علي 374 تقلد علي بن أبي طالب سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاؤه له 375 عمرو يتحدّى المسلمين 375 منازلة علي رضي الله عنه عمرو بن عبد ودّ 376 شعار المسلمين يوم الخندق، ويوم بني قريظة 376 تخذيل نعيم بن مسعود للأحزاب عن المسلمين 377 نعيم بن مسعود رضي الله عنه والإشاعات بين صفوف الكفار 377 إيقاع نعيم رضي الله عنه بين قريش وبين حلفائهم اليهود 378 عكرمة رسول قريش وغطفان إلى بني قريظة 378 جواب بني قريظة لقريش 378 دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأحزاب 379 استجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم 379 بعث حذيفة لاستكشاف أمر المشركين 379 بعث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لمعرفة ما فعل الأحزاب 380 نداء أبي سفيان بالرحيل وانهزام المشركين 381 تبشير حذيفة بانهزام المشركين 382 انصراف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم 383 تأخير الصلاة عن وقتها يوم الخندق 383 الصلوات التي تأخر أداؤها 384 الترجيح بين الروايات المتعددة 384 حكم تأخير الصلاة عن وقتها أثناء الحرب في العصر الحاضر 385 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 العنوان الصفحة عدد شهداء المسلمين في هذه الغزوة 385 عدد من هلك من المشركين 385 من هديه صلّى الله عليه وسلّم إذا رجع من غزوة أو غيرها 385 (19) غزوة بني قريظة مساكن بني قريظة 386 أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم على لسان جبريل بقتال بني قريظة 386 سيره صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة 387 أمره صلى الله عليه وسلم صحابته بالصلاة في بني قريظة 389 اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم في فهم أمره صلى الله عليه وسلم 389 المستفاد فقها من تباين اجتهاد الصحابة لأمره صلى الله عليه وسلم 389 تخيير كعب بن أسد لقومه بين خلال ثلاث ورفضهم لها 390 حصار المسلمين لبني قريظة 390 الخلة الأولى 390 الخلة الثانية 391 الخلة الثالثة 391 رعب اليهود بعد رفضهم للخلال الثلاث 393 طلبهم أبا لبابة وقصته معهم، وتوبته رضي الله عنه 393 استشارة اليهود أبا لبابة رضي الله عنه 393 تحقيق اختلاف الرواية 395 الآية التي نزلت في توبة أبي لبابة 395 نزول الوحي بتوبة أبي لبابة، وبشارة أم سلمة له رضي الله عنهما 396 مناقشة دلالة الآية على توبة أبي لبابة 396 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 العنوان الصفحة المعاني المستفادة من قصة أبي لبابة رضي الله عنه 397 تحكيم سعد بن معاذ في قريظة 397 اختيار سعد بن معاذ رضي الله عنه حكما 398 موقف سعد بن معاذ الحازم من بني قريظة 399 أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام لسعد بن معاذ 399 سبب تسمية بني نزار 401 مقتل بني قريظة وحيي بن أخطب 402 عدد من قتل من بني قريظة 402 حديث صفية رضي الله عنها عن حب أبيها لها وإضماره عداوة النبي صلى الله عليه وسلم 403 هيئة حيي بن أخطب وهو مقود إلى القتل 403 حديث عائشة رضي الله عنها عن اليهودية عندها 403 مقتل الزبير بن باطيا القرظي 404 موافقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس على حقن دم الزّبير وأهله وولده وماله 405 سؤال الزّبير بن باطيا عن مصير زعماء بني قريظة 405 رفض الزّبير البقاء حيا بعد زعماء بني قريظة، وقتله بسيف شفيعه 406 استشهاد سعد واهتزاز عرش الرّحمن لموته 406 شهود الملائكة تشييع سعد بن معاذ رضي الله عنه إلى مقره الأخير 407 خصائص سعد بن معاذ كما يتحدث هو عنها رضي الله عنه 407 قبر سعد بن معاذ رضي الله عنه يفوح مسكا 408 ضمة القبر بالنسبة للمؤمن والكافر 408 من الفوائد المستنبطة من قصة بني قريظة وخبر سيدنا سعد رضي الله عنه 409 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 (20) غزوة بني لحيان تاريخها 409 هدا الشام: موقعه، ووصفه حاضرا 410 سبب هذه الغزوة 410 غزوة الرجيع 410 بعث الرجيع 411 امتناع عاصم رضي الله عنه عن النزول على عهد كافر 412 غدر بني لحيان بمن أعطوهم الأمان 412 استشهاد خبيب بن عدي 412 بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن أميّة الضمري عينا على قريش 414 وصف خبيب بن عدي بعد أربعين يوما من قتله 414 استشهاد زيد بن الدثنة 415 أحكام وعبر في قصة بعث الرجيع 415 تورية النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الشام 416 موقع غران 416 عدة بعث الرجيع 417 التوفيق بين الروايتين 417 فتك عضل والقارة بالبعث 418 توفيق بين الروايات 418 بعث بئر معونة 418 موقع بئر معونة 419 جوار أبي براء للبعث، ونقض ابن أخيه له 419 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 العنوان الصفحة عدد أفراد بعث بئر معونة 419 قتل عامر بن الطفيل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم 420 استشهاد البعث 420 خفر عامر بن الطفيل عهد عمه أبي براء 420 الغدر بأفراد البعث وقتلهم عدا كعب بن زيد رضي الله عنه 420 حزن الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الشهداء، ودعاؤه على القتله 420 دفين الملائكة 421 مهمة البعثين 421 الفرق بين البعث والسرية 422 تعريف البعث 422 تعريف السرية 422 تعريف الغزوة 422 تعريف السرية 423 (21) غزوة الغابة (غزوة ذي قرد) موقعها 423 تاريخها 423 سبب هذه الغزوة 424 عدد أفراد الغزوة 424 بسالة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في استنقاذ اللقاح 424 ملاحقة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه غطفان وفزارة 426 إعطاء سلمة رضي الله عنه سهمين 427 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 العنوان الصفحة أمر عيينة بن حصن 427 تعارض الروايات في عدد اللقاح الناجية 428 قصة الوليد بن عقبة ونزول الآية فيها 453 قدوم وفد بني المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 455 موت رفاعة بن زيد كهف المنافقين 456 استدراك الشارح 456 معظم المنافقين كان من الشيوخ 456 نماذج رفيعة من شباب الصحابة رضي الله عنهم 457 زيد بن أرقم 457 قابلية الشباب للخير 458 نعرة جاهلية لجهجاه الغفاري، وسنان الجهني 458 الحكم الشرعي فيمن دعا بدعوى الجاهلية في الإسلام 460 قول منكر لرأس المنافقين، وما نزل فيه من القرآن 460 إعلام زيد بن أرقم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمقال رأس المنافقين 461 حلف رأس المنافقين بالله كذبا 461 تصديق القرآن زيد بن أرقم 463 أول مشاهد زيد بن أرقم رضي الله عنه ووفاته 464 طلب عبد الله ابن رئيس المنافقين تولّي قتل أبيه بنفسه 464 من أمارات النبوة وعلاماتها 465 عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول 466 مدلولات موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول رضي الله عنه من أبيه رئيس المنافقين 466 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 العنوان الصفحة حديث الإفك وتبرئة الله للسيدة عائشة الصديقة 467 الآيات الكريمات في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 474 عظم فوائد هذا الحديث 476 دعاء الفرج 477 براءة أربعة بأربعة 477 مناظرة مسلم نصرانيا 478 مفاخر عائشة وفضائلها 478 نزول آية التيمم 480 الأحكام التي شرعت في هذه الغزوة 480 النهي عن العزل عن النساء 481 حكم التسبب لإسقاط النطفة 482 (23) غزوة الحديبية موقع الحديبية 482 تاريخها 482 سبب الخروج للحديبية 483 استخلاف نميلة بن عبد الله الليثي 483 استنفاره العرب للخروج معه إلى مكة 484 المخلفون 484 عدد أفراد الجيش 484 تكذيب الله المخلفين فيما اعتذروا به 484 خبر بسر بن سفيان الخزاعي عن قريش وصدهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن مكة 485 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 العنوان الصفحة تأهب قريش للمناجزة 485 تجنب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقاء قريش 487 سلوك طريق وعر 487 استغفار المسلمين وتوبتهم 487 تراجع قريش خوفا من المسلمين 488 خبر الناقة وسبب إحجامها 488 من معجزاته صلى الله عليه وسلم فيضان الماء 488 ناجية بن جندب الأسلمي سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم 489 موقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم من كفار قريش 489 ما في هذه القصة من الحكم والفوائد 490 معجزة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بفوران الماء من بين أصابعه 491 مقارنة بين معجزة نبي الله موسى عليه الصّلاة والسّلام ونبينا محمّد صلى الله عليه وسلم 492 معجزة أخرى بتكثير الطعام القليل 492 بيعة الرضوان تحت الشجرة، وسببها 494 وعد من شهد بدرا والحديبية بالجنة 495 مبايعة سلمة بن الأكوع وسببها 495 عثمان بن عفان رضي الله عنه رسول النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قريش 496 عرض كفار قريش على عثمان رضي الله عنه الطواف بالبيت 496 مبايعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه مكافأة له 497 خصال عثمان رضي الله عنه وفضائله 497 سنان بن أبي سنان أول المبايعين 498 بعث خراش الخزاعي إلى قريش 498 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 العنوان الصفحة عقر كفار قريش جمل النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام 498 خراش بن أميّة الخزاعي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش 499 بعث قريش سفراءهم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم 499 أسماء رسل قريش 500 التوفيق بين الروايات 500 كلام الحليس بن علقمة 502 كلام بديل بن ورقاء الخزاعي 503 كلام مكرز بن حفص 503 عودة إلى كلام الحليس بن علقمة 504 سيد الأحابيش الحليس بن علقمة 504 كلام عروة بن مسعود الثقفي 505 رد أبي بكر الصديق رضي الله عنه كلام عروة 505 المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في حراسة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 506 عود عروة بن مسعود إلى قريش 506 من مظاهر تفاني الصحابة في حبه صلى الله عليه وسلم 506 بعث قريش سهيلا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للصلح 507 تفاؤل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بسهيل رسول قريش 507 توصل سهيل إلى الصلح مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم 508 كتاب الصلح 508 علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه كاتب الصلح 508 نص المعاهدة بين النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكفار قريش 508 حكمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في إمضاء هذه الشروط 510 تحقيق المحافظة على المستضعفين بمكة 510 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 العنوان الصفحة إسلام كثير من كفار قريش 511 إسلام العدد من كبار قريش 512 الفتح في (سورة الفتح) : صلح الحديبية 512 النتائج العظيمة لصلح الحديبية 512 العصيفير جمل أبي جهل 513 التحلل من إحرام العمرة 514 مشورة أم سلمة رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم 515 سبب تكرار الدعاء للمحلقين ثم المقصرين 515 الأسباب المحتملة في عدم الاستجابة مباشرة لما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم 515 فوائد قصة التحلل من إحرام الحديبية 516 مشاورة النساء 517 البشارة بقبول عمرة الصحابة 517 عمره صلى الله عليه وسلم 518 شروط الصلح ظاهرها ضيم، وباطنها عز للمسلمين 519 أمر أبي جندل بن سهيل 520 موقف عمر وأبي بكر من شروط الصلح 521 مظاهر فضل أبي بكر على بقية الصحابة رضوان الله عليهم 522 أمر أبي بصير الثقفي 523 خروج أبي بصير إلى ساحل البحر للتضييق على قريش 524 تضرع قريش للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لإنقاذها من أبي بصير وأصحابه 525 لحوق أبي جندل بن سهيل بأبي بصير 527 وفاة أبي بصير رضي الله عنه 527 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 العنوان الصفحة ما نزل في النساء المهاجرات 528 نزول سورة الفتح 529 مدة إقامة المسلمين بالحديبية 529 صلح الحديبية أعظم الفتح 531 تحقيق الله ما وعد به رسوله صلّى الله عليه وسلّم 532 عمرة القضاء 532 خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة 533 أول رمل واضطباع في الإسلام 534 رجز عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم 534 تأويل رؤيا النّبيّ صلى الله عليه وسلم التي رآها 535 وفاء الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش بالعهد 535 بناؤه صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين ميمونة 536 (24) غزوة خيبر نميلة بن عبد الله الليثي رضي الله عنه الخليفة على المدينة 536 وعد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بخيبر 537 استنفاره صلى الله عليه وسلم من حوله 537 منازل الرسول صلّى الله عليه وسلّم في طريقه إلى خيبر 537 نزوله صلى الله عليه وسلم بوادي الرجيع 537 انخذال غطفان عن اليهود 538 تأهب غطفان لمعاونة يهود خيبر 538 نزول النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصهباء 538 دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم على خيبر 538 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 العنوان الصفحة إعطاء الراية لعلي بن أبي طالب 539 الراية العقاب 539 من معجزاته صلى الله عليه وسلم 540 تترس علي بباب الحصن 542 فائدتان 543 الراية واللواء 543 حصون خيبر 544 قتل قاتل محمود بن مسلمة الأنصاري 546 مقتل مرحب اليهودي 547 تعارض الروايات وتقديم ما في الصحيح 547 شعار المسلمين يوم خيبر 548 استنشاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم عامر بن الأكوع 548 الحداء الذي أنشده عامر بن الأكوع رضي الله عنه 549 دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعامر بن الأكوع 549 استشهاد عامر بن الأكوع 549 تنبيه لغوي 550 سبب قتل عامر بن الأكوع 550 عدد قتلى اليهود في خيبر 552 شهداء الصحابة خمسة عشر في خيبر 552 استشهاد يسار الراعي 553 قصة إسلام يسار الراعي رضي الله عنه 553 (25) غزوة وادي القرى موقعها 554 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 العنوان الصفحة اسمها حديثا 554 فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لها، والغنائم التي حصلها منها 554 خبر مدعم غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم 555 مبادرة اليهود بقتال المسلمين 556 (26) غزو مؤتة موقعها 557 تاريخها 557 نسب الروم 557 عدد جيش المسلمين والكفار 558 سبب هذه الغزوة 558 مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم 558 جيش الأمراء 558 أمراء الجيش 559 توديع النّبيّ صلى الله عليه وسلم للجيش 559 وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للجيش 559 بكاء عبد الله بن رواحة خوفا من النار 560 إقدام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه 560 تشجيع ابن رواحة الجيش على لقاء هرقل 562 نزول الجيش بمعان 562 عدد جيش الروم 562 تشاور المسلمين في الكتابة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بواقع عدد جيش الروم 562 استشهاد زيد، وجعفر، وابن رواحة 563 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 العنوان الصفحة عقر جعفر رضي الله عنه فرسه لما ألحمه القتال 563 الأبيات التي أنشدها جعفر رضي الله عنه عندما أحسّ دنوّ أجله 563 الأبيات التي أنشدها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قبل استشهاده 564 تأمر خالد بن الوليد 565 إخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما وقع قبل وصول الخبر 567 قدوم يعلى بن أميّة رضي الله عنه ليعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخبر أهل مؤتة 567 انتصار جيش المسلمين 568 عدد الشهداء من المسلمين 568 قدوم جيش المسلمين إلى المدينة 568 التعريف بالأمراء الثلاثة 569 زيد بن حارثة 569 بيع الطفل زيد بن حارثة في سوق عكاظ وشراء حكيم بن حزام له 569 فقد حارثة لابنه زيد وإنشاده فيه 570 جواب زيد على أبيه شعرا 570 قدوم حارثة إلى مكة وطلبه عودة ابنه زيد إليه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم 570 تخيير زيد بين العودة لأبيه، أو البقاء لدى النّبيّ صلى الله عليه وسلم 571 إيثار زيد البقاء لدى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على أبيه 571 تبنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة 571 تزوجه زينب بنت جحش 571 تحقيق الشارح اسم زيد بن حارثة رضي الله عنه 572 الخلاف في أول الناس إسلاما 572 الجمع بين الأقوال المختلفة 572 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 العنوان الصفحة مناقب زيد 572 ذكره في القرآن باسمه العلم 572 مؤاخاته مع حمزة رضي الله عنهما 573 درجة محبته لدى النّبيّ صلى الله عليه وسلم 574 أربعة توالدوا صحابة 575 أبو قحافة والد سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما 575 يعقوب بن محمّد بن أسامة 576 مواليه صلى الله عليه وسلم 576 جعفر بن أبي طالب 578 فاطمة بنت أسد رضي الله عنها 578 الفواطم الثلاث 578 الخمسة المشبهين للنّبي صلى الله عليه وسلم 578 (أبو المساكين) كنية جعفر بن أبي طالب 579 أول مولود في الإسلام بأرض الحبشة 579 قدوم جعفر من الحبشة وإسهام الرسول صلى الله عليه وسلم 579 أولاده 580 إسلام النجاشي على يد جعفر رضي الله عنه 580 مناسبتان سرّ بهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آن واحد 580 تمثل الشهداء الثلاثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الموت 581 البدع الضارة والعادات الاجتماعية السيئة في بيت الوفاة 581 فخر علي كرّم الله وجهه بقرابته النّبيّ صلى الله عليه وسلم 582 عمر جعفر رضي الله عنه يوم وفاته 582 عبد الله بن رواحة 582 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 العنوان الصفحة النقباء العشرة 583 حضوره المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 583 شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم 583 زوجة عبد الله بن رواحة تحكي فضائله رضي الله عنهما 585 نعي عبد الله بن رواحة نفسه 585 بكاء زيد بن أرقم 586 استثناء الشعراء المؤمنين من الغاوين 586 سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة عن كيفية قوله الشعر 587 دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة 587 مكانته في الجاهلية والإسلام 587 قصته مع زوجته رضي الله عنهما 587 اعتراض على فقه القصة 590 جواب الاعتراض 590 رثاء حسان لجعفر وصاحبيه رضي الله عنهم جميعا 590 (27) غزوة الفتح الأعظم «فتح مكة زادها الله شرفا، وأهلها إنافة وكرما» فتح الفتوح 594 وصف ابن القيم رحمه الله لهذه الغزوة 594 تاريخ هذه الغزوة وسببها 594 قدوم عمرو بن سالم الخزاعي على الرسول صلّى الله عليه وسلّم 595 خزاعة حلفاء عبد المطلب بن هاشم في الجاهلية 597 إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمسير إلى مكة المكرمة 599 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 العنوان الصفحة بعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم ضمرة إلى قريش إعذارا لها 600 تحقق النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الواقعة بين بني بكر وبين خزاعة 600 رسالة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قريش وتخييرها بين خصال ثلاث 600 سبب استحسان الشارح ذكر ما سبق عقب قدوم وفد خزاعة المدينة 600 بعث قريش أبا سفيان إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم 601 ندم قريش على عدم قبولهم عرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم 601 عودة أبي سفيان إلى مكة بدون نتيجة 601 خبر أبي سفيان مع ابنته أم المؤمنين أم حبيبة 602 حديث أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 602 استشفاع أبي سفيان بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما 602 استشفاع أبي سفيان بعلي وأهل بيته رضي الله عنهم 602 موقف الزهراء فاطمة رضي الله عنها 603 استنصاح أبي سفيان علي بن أبي طالب فيما أهمه 603 ما كان من هند لزوجها أبي سفيان 603 استبطاء قريش قدوم أبي سفيان واتهامه بدخول الإسلام 603 إشهار أبي سفيان التزامه بعبادة الأصنام 604 مناقشة قريش لأبي سفيان فيما بلغه من رحلته 604 كتاب حاطب بن أبي بلتعة لقريش 604 حديث حاطب رضي الله عنه مع المقوقس 605 استئجار حاطب امرأة لإرسال الخطاب إلى قريش 606 إطلاع الله جلّ وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم على كتاب حاطب رضي الله عنه 606 مضمون خطاب حاطب بن أبي بلتعة لقريش 607 الأسباب التي دفعت حاطبا لمكاتبة قريش 607 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 العنوان الصفحة الآية التي نزلت في حادث حاطب رضي الله عنه 608 نص خطاب حاطب لكفار قريش 609 من معجزاته صلى الله عليه وسلم لما أرسل القوم إلى حاملة خطاب حاطب 609 قصة عبد الله بن أبي أميّة وإعراض الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه 610 توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة 610 حذيفة بن المغيرة زاد الركب 610 قصة أبي سفيان بن الحارث وإعراض الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه 611 أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم 611 إسلام أبي سفيان بن الحارث أخي النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاع 611 رثاؤه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم 611 شفاعة أم سلمة فيهما 612 وفاته 612 حكمة أم سلمة رضي الله عنها 613 خروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة بجيشه 613 تاريخ خروجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة 613 كلثوم بن الحصين المستخلف على المدينة 614 عدد المسلمين 614 تاريخ أنصاب الحرم 617 أول من نصب أنصاب الحرم 617 إرهاب قريش بإيقاد عشرة آلاف نار 618 وادي فاطمة وبعده عن مكة المكرمة 618 فزع أبي سفيان من جيش المسلمين 619 خروج أبي سفيان وعدد من وجهاء قريش لطلب الأمان من النّبيّ صلى الله عليه وسلم 619 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 العنوان الصفحة قصة إسلام أبي سفيان وما كان من العباس معه 619 اقتياد أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 619 رغبة العباس رضي الله عنه في خروج أهل مكة لطلب الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم 619 مقابلة العباس لأبي سفيان وحديثه معه 620 إرداف العباس لأبي سفيان على بغلته 620 مرور العباس بنار عمر بن الخطاب ومقالته لدى رؤية أبي سفيان 621 اشتداد الحوار بين عمر والعباس رضي الله عنهما في شأن أبي سفيان 621 الحديث الذي دار بين النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان 621 حجز أبي سفيان ليرى جيش المسلمين فرقة فرقة 622 تحذير أبي سفيان قريشا من جيش المسلمين 623 تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما منّ الله عليه من الفتح 624 تدخل عمر رضي الله عنه في الحديث بين النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبين أبي سفيان 625 إسلام هند زوج أبي سفيان 625 استعداد حماس بن قيس لقتال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم انهزامه 625 (الزعم) يطلق على معان 625 اختفاء حماس في منزله 627 مظاهر شفقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم 629 أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمراء الجيش أن لا يقاتلوا إلّا من قاتلهم 629 قصة ابن أبي سرح رضي الله عنه 630 اختباؤه عند عثمان رضي الله عنه 630 إسلامه رضي الله عنه 631 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 العنوان الصفحة الوظائف التي تولّاها في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهم 631 اعتزاله الفتنة 631 وفاته رضي الله عنه 631 قصة هبار بن الأسود رضي الله عنه 632 إيذاؤه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم 632 إسقاط زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاتها 632 إسلام هبار رضي الله عنه 632 دخول هبار على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإشهاره الإسلام 633 طلبه الصفح 634 اعترافه بذنبه 634 رحمة الله سبحانه بعباده 634 شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمّته 635 مثل من رأفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وحسن معاملته 636 جزاء المطيعين لله الجنة 638 قرب العبد من ربه وقرب الرب من عبده 638 الإيمان بأحاديث الصفات كما وردت 639 حديث البطاقة 641 عطف الرسول صلّى الله عليه وسلّم على هبار بن الأسود 643 تعبير هبار لإيذائه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم 643 رضاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن أبي سفيان بعد إسلامه، وإكرامه إياه 644 ممازحة أبي سفيان رضي الله عنه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم 644 من معجزاته صلى الله عليه وسلم 644 يا نصر الله اقترب 645 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 العنوان الصفحة عطف الرسول صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن أبي أميّة وأبي سفيان ابن الحارث وأهل مكة 645 هل فتح مكة كان عنوة أو صلحا؟ 646 مذهب الشافعي في فتح مكة 646 مذهب الجمهور 646 ما ينبني على قول الجمهور 646 أصل الخلاف بين الشافعي والجمهور 647 اختصاص مكة ببعض الأحكام عن سائر البلاد 647 مناظرة الإمام الشافعي مع ابن راهويه في مكة 648 سؤال إسحاق للإمام الشافعي عن كراء بيوت مكة المكرمة 648 إخبار الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما قاله الأنصار بعد الفتح 649 إخبار الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما تحدثت به قريش عند أذان بلال 651 سيرة بلال بن رباح رضي الله عنه 652 ما قاله القرشيون في شأن سيدنا بلال رضي الله عنه 653 إخبار الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بما قاله فضالة بن عمير 654 تحطيم الأصنام حول الكعبة 655 خلود سدانة الكعبة في بني طلحة 656 الحديث الذي جرى بين النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعثمان بن طلحة قبل إسلامه على باب الكعبة 657 قصيدة حسان يهجو المشركين ويمدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم والأصحاب رضوان الله عليهم 658 حكم أخذ الأجرة على دخول الكعبة 658 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 العنوان الصفحة (28) غزوة حنين في شوال سنة ثمان موقع حنين 662 أسماء أخرى لهذه الغزوة 662 سبب هذه الغزوة 662 عتاب بن أسيد أمير مكة 663 عدد جيش المسلمين 663 عدد جيش هوازن 663 مالك بن عوف قائد جيش هوازن 663 معارضة دريد بن الصّمّة لمالك بن عوف النصري 664 الملائكة وعيون مالك بن عوف 666 وصف جواسيس مالك لما رأوه 666 تعرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبار القوم 666 تحسس عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه أخبار العدو 666 استعارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أدرعا وسلاحا من صفوان بن أميّة 667 توجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ساحة المعركة 667 التحام القتال وثبات الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعض أصحابه 668 ترجيح الشارح بين الروايات المتعارضة 670 رجوع المسلمين إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد التفرق ثم انتصارهم 671 نداء الرسول صلى الله عليه وسلم جموع المسلمين واستجابتهم له 672 أمثال النّبيّ صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها 672 قصة أم سليم بنت ملحان 673 مدد الملائكة للمسلمين 674 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 العنوان الصفحة رمي الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجوه المشركين بالحصباء 675 معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم 676 تسخير البغلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم 676 نداؤه بمسمع من عدوه 677 أثر الحصباء في صفوف المشركين 677 حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن من قتل قتيلا فله سلبه 678 حديث أبي قتادة الأنصاري عمّا جرى له في المعركة 678 حكم الصديق رضي الله عنه دفع سلب المقتول لقاتله 678 هزيمة المشركين 679 المحادثة بين دريد بن الصمة وقاتله من الأنصار 679 ذكر بعض من ثبت مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوم هوازن 680 علي بن أبي طالب والعمران وأبو سفيان بن الحارث 680 البهاء والسخاء والفقه في دار العباس 681 أسامة بن زيد ممن ثبت 681 أيمن بن عبيد ممن ثبت 681 قصة شيبة بن عثمان العبدري، وإسلامه بعد قصده الغدر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم 681 مسح النّبيّ صلى الله عليه وسلم على صدر شيبة 682 حديث شيبة رضي الله عنه عن إسلامه 682 عزمه على اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم 682 نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيبة ودعاؤه له 683 صموده دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 683 كشف النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما أضمره شيبة لاغتياله 683 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 العنوان الصفحة دفع النّبيّ صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة لشيبة 683 القول في فرار من فر من الصحابة في هذه الغزوة 684 النصر الكبير للمسلمين 685 إبطال محاولة مالك بن عوف التجميع لقومه لإعادة الكرة على المسلمين 686 عدد شهداء المسلمين وقتلى المشركين 686 الغنائم والسبي 686 جمع الغنائم بالجعرانة 686 وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة 686 توقع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعاد السبي إلى أهله 687 قدوم وفد هوازن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ورده السبي إليهم 687 استعطاف وفد هوازن للنّبيّ صلى الله عليه وسلم شعرا 688 رد النّبيّ صلى الله عليه وسلم السبي لهوازن 689 تنازل المهاجرين والأنصار عمّا لهم من السبي 689 تمسّك بعض القبائل بحقها في السبي 690 مفاوضة عيينة في العجوز التي كانت من نصيبه 690 قصة الشيماء بنت الحارث 691 إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم أخته وتخييرها 691 سخاؤه صلى الله عليه وسلم في عطاياه 692 عطاؤه السخي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان وأبنائه رضوان الله عليهم 693 أسماء من أجزل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعطاء 693 عطاياه صلى الله عليه وسلم من الخمس الخاص به 694 مظاهر كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم 694 عطاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤلّفة قلوبهم 696 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 العنوان الصفحة عطاؤه صفوان بن أميّة رضي الله عنه 696 إسلام صفوان بن اميّة رضي الله عنه 697 ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلّا أعطاه 697 عطاؤه صلى الله عليه وسلم لعمه العباس 698 استدراك على الناظم 698 موقف الأنصار ورضاهم بما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد خطبته فيهم 699 بعث أبي عامر الأشعري إلى أوطاس 702 مبارزة أبي عامر واستشهاده 703 دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأبي عامر 704 أبو موسى الأشعري رضي الله عنه خلف أبي عامر 704 دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعبيد أبي عامر 704 ما يستفاد من الحديث 705 (29) غزوة الطائف التعريف بالطائف 705 المسافة من مكة إلى الطائف قديما وحديثا 705 موقف الشارح من وجوه التسمية 707 تحصن ثقيف بحصنهم في الطائف 707 تاريخ الغزوة 707 حصن الطائف 707 حصار ثقيف 708 اعتراض على تسمية العنب كرما والجواب عليه 709 ضرب المسلمين حصونهم بالمنجنيق 709 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 العنوان الصفحة أوّل منجنيق رمي به في الإسلام 709 إباء الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدعاء على ثقيف 710 سمو أخلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم 710 أشد ما مرّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الأحداث 710 دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم لثقيف رغم إيذائهم 711 مشاورة النّبيّ صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية في فتح الطائف في نفس العام 712 تحرير الرسول صلّى الله عليه وسلّم من خرج إليه مسلما من عبيدهم 712 الموقف المحمود لعثمان بن العاص رضي الله عنه 712 أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالرحيل إذ لم يؤذن له في الفتح هذا العام 713 مظاهر رفق النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه 713 عمرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة 714 عتاب بن أسيد أمير مكة 714 أهل مكة أهل الله عزّ وجلّ 714 (30) غزوة تبوك موقعها 714 تاريخها 715 سبب هذه الغزوة 716 حث الرسول صلّى الله عليه وسلّم الأغنياء على الإنفاق في سبيل الله 717 تجهيز عثمان ثلث الجيش 717 عسرة المجاهدين 719 حث النّبيّ صلى الله عليه وسلم المياسير على إعانة المعاسير 719 دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يغاث المسلمون 720 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 العنوان الصفحة مقدار ما بلغ بالمسلمين من الشدة 720 البكّاؤون للتخلف عن الجهاد 720 أسماء الصحابة الذين لم تكن لهم قدرة على الخروج لنقص المؤونة 721 بيوت الإيمان وبيوت النفاق 721 الآية الكريمة تصف صدق حالهم 722 موقف المعذرين والمنافقين 722 الآيات في وصف المتخلفين بغير عذر 723 استخلاف علي رضي الله عنه على المدينة 724 تصنيف الذين قعدوا عن الخروج للغزو 724 الثلاثة المؤمنون المتخلفون 724 حديث كعب بن مالك رضي الله عنه عن تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك 725 تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهته 726 أصناف المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 727 سؤال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك 727 حيرة كعب بن مالك رضي الله عنه في تبرير تخلفه 727 عدد المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 728 كعب بن مالك رضي الله عنه وحديثه الصادق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 728 عتاب رجال من بني سلمة لكعب على موقفه الصريح 728 وصف حال الصحابة الثلاثة رضوان الله عليهم الذين نهي المسلمون عن كلامهم 729 محاولات كعب رضي الله عنه أن يجد التفاتة من النّبيّ صلى الله عليه وسلم 729 معاناة كعب رضي الله عنه من مقاطعة الصحابة 730 عرض من ملك غسان لكعب بن مالك رضي الله عنه اللجوء إليه 730 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 العنوان الصفحة حرق كعب بن مالك رضي الله عنه خطاب ملك غسان 730 أمر الذين خلفوا رضي الله عنهم اعتزال زوجاتهم 730 استئذان امرأة هلال بن أميّة رضي الله عنهما في خدمته 730 إحجام كعب رضي الله عنه عن استئذانه في خدمة زوجه له رضي الله عنهما 731 ذروة الضيق الذي أصيب به الثلاثة رضوان الله عليهم 731 النداء المبشر بالفرج 731 انطلاق كعب رضي الله عنه سريعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 731 تهنئة النّبيّ صلى الله عليه وسلم كعبا رضي الله عنه بقبول توبته 732 مظاهر سرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم 732 الآيات التي نزلت في توبة الصحابة الثلاثة رضوان الله عليهم 732 نتائج الصدق في تجربة كعب بن مالك رضي الله عنه 732 السبب في اشتداد غضب النّبيّ صلى الله عليه وسلم على المتخلفين برغم أنّ الجهاد فرض كفاية 733 السبب في اختلاف التعامل للمنافقين عنه مع المتخلفين 734 قصة إبطاء أبي خيثمة وأبي ذر في الخروج 734 توافق أبي خيثمة مع عمير بن وهب رضي الله عنهما في الطريق إلى تبوك 735 قدوم أبي خيثمة وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم 735 أبو خيثمة رضي الله عنه يذكر سبب إبطائه شعرا 736 سبب إبطاء أبي ذر جندب رضي الله عنه 736 قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله بحقه 736 ما تضمنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه من معجزات 737 خروج أبي ذر رضي الله عنه إلى الربذة ووفاته بها 738 مرور الرسول صلّى الله عليه وسلّم بديار ثمود ونهيه عن شرب مائها 738 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 العنوان الصفحة خبر الصحابيين اللذين خرجا منفردين وما أصابهما 738 الحكمة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن انفراد الصحابة في الخروج في ديار ثمود 739 قصة الرجلين اللذين خالفا النهي 740 وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح عليه الصّلاة والسّلام 740 تنبيهان توفيق الشارح رحمه الله بين بعض الروايات 741 آية وقعت بالحجر استجابة لدعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم 742 استسقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه لأمّته 744 استسقاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم واستجابة المولى عزّ وجلّ لدعائه 745 ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي طالب وما قاله فيه 745 استخلاف علي على المدينة 746 تخصيص النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه بسهمين 748 الأجر على قدر الاتباع 748 جهالة الشيعة وافتراؤهم 748 موقف أهل السنة والجماعة من استخلاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليا كرّم الله وجهه 749 حقيقة مذهب الشيعة 749 حقيقة الخلاف في حب الصحابة بين الشيعة وأهل السنة والجماعة 750 مقالة المنافق زيد بن اللصيت 750 ضياع القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث زيد بن اللصيت 750 إخبار النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن موقع ناقته القصواء وما هي عليه 751 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 العنوان الصفحة المعجزات النبوية في قصة زيد بن اللصيت 752 الفوائد الجمة من تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الحديث الذي جرى على لسان زيد بن اللصيت 752 قصة وديعة بن ثابت ومخشن بن حمير 753 تثبيط المنافقين للمسلمين عن مواجهة الروم 754 تفسير ما ورد في الحديث 755 إطلاق الطائفة على الواحد 755 حكم الاستهزاء بالدين 755 ما كان بعد الوصول إلى تبوك 755 عهد الأمان من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليحنة بن رؤبة صاحب أيلة 756 مدة إقامة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتبوك 756 وفاة ذي البجادين المزني رضي الله عنه 756 عودة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجيشه إلى المدينة 757 خاتمة نسال الله حسن الختام في خلاصة للكشف عن بعض ما وقع من عام ولادته صلى الله عليه وسلم من الحوادث إلى عام وفاته صلى الله عليه وسلم تاريخ ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم 758 قابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم 758 شق صدره صلى الله عليه وسلم 758 وفاة أمّه آمنة، ونشأته صلى الله عليه وسلم 758 تحكيم قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود 760 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 العنوان الصفحة إرهاصات النبوّة 760 نبوته صلى الله عليه وسلم 760 الهجرة إلى الحبشة وأول شهيدة في الإسلام 760 خبر الصحيفة التي كتبت فيها مقاطعة بني هاشم وبني المطلب 761 عام الحزن 761 السنة الأولى من الهجرة وجملة أحداثها 761 أول جمعة في الإسلام 762 تحويل القبلة إلى البيت الحرام 762 أول من مات من المهاجرين بالمدينة ودفن بالبقيع 763 أوائل المولودين للمهاجرين والأنصار 763 أول وافد مسلم إلى المدينة المنورة 765 فرض شعيرة الحج 765 استشهاد الأمراء الثلاثة 766 ولادة إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم 766 عام الوفود 767 الخطب العظيم الذي أصاب المسلمين 768 لولا أبو بكر رضي الله عنه لهلكت الأمة 769 أبو ذؤيب الهذلي رضي الله عنه وحاله عند سماعه موت النّبيّ صلى الله عليه وسلم 769 وصف أبي ذؤيب المدينة بعد ما حلّ بها الحدث العظيم 769 وصف المقالات التي دارت في سقيفة بني ساعدة 769 تحديد وقت وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويوم دفنه 770 شعور الصحابة وإحساساتهم بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم 770 محتوى الكتاب 775 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832