الكتاب: الأخبار الطوال المؤلف: أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (المتوفى: 282هـ) تحقيق: عبد المنعم عامر مراجعة: الدكتور جمال الدين الشيال الناشر: دار إحياء الكتب العربي - عيسى البابي الحلبي وشركاه / القاهرة الطبعة: الأولى، 1960 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الأخبار الطوال الدِّينَوري، أبو حنيفة الكتاب: الأخبار الطوال المؤلف: أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (المتوفى: 282هـ) تحقيق: عبد المنعم عامر مراجعة: الدكتور جمال الدين الشيال الناشر: دار إحياء الكتب العربي - عيسى البابي الحلبي وشركاه / القاهرة الطبعة: الأولى، 1960 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] اولاد آدم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فوضت امرى الى الله قال ابو حنيفه احمد بن داود الدينورى رحمه الله، وجدت فيما كتب اهل العلم بالاخبار الاولى، ان آدم عليه السلام كان مسكنه الحرم، وان ولده كثروا في زمان مهليل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم، وكان سيد ولد آدم في دهره، والقائم بامره، وكذلك كان آباؤه الى آدم عليهم السلام اجمعين، ووقع بينهم التنازع في الأوطان، ففرقهم مهليل في مهب الرياح الأربع، وخص ولد شيث بافضل الارض، فأسكنهم العراق. ادريس ونوح وكان أول نبى بعد شيث ادريس، واسمه اخنوخ بن يرد بن مهليل، وسمى ادريس، لكثرة دراسته، ثم بعث الله نوحا ع الى اهل عصره، وكان مسكنه بأرض العراق، وهو نوح بن لمك بن متوشلح، فكذبوه، فاغرقهم الله، ونجى نوحا ومن كان معه في السفينة، وكان جنوح السفينة واستقرارها على راس الجودي، جبل بقردى وبازبدى [1] . من ارض الجزيرة، فلما مات نوح استخلف ابنه ساما، فكان أول من وطد السلطان، واقام منار الملك بعد سام جم بن ويرنجهان بن ايران، وهو ارفخشذ بن سام بن نوح، واعقم الله جميع من نجى مع نوح في السفينة الا بنيه الثلاثة، ساما وحاما ويافثا. وكان لنوح ابن رابع اسمه يام، وهو الغريق، ولم يكن له عقب، واما الثلاثة فكلهم اعقب.   [1] كورتان متقابلتان أولاهما شرقى نهر دجلة والاخرى غربيه، وفي نسخه نقرداى وبازبدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وكان سام هو المتولى لامر نوح من بعده، وكان يشتو بأرض جوخى ويصيف بالموصل، وكان طريقه في مبدئه ومنصرفه على شط دجلة من الجانب الشرقى، فسمى لذلك سام راه، [1] . وهو الذى تسميه العجم ايران. وقد كان تبوأ ارض العراق، واختصها لنفسه، فسمى ايران شهر، وقام بالأمر بعده ابنه شالخ، فلما حضرته الوفاة اسند الأمر الى ابن أخيه جم بن ويرنجهان بن ارفخشذ فثبت اساس الملك، ووطد أركانه وبنى معالمه، واتخذ يوم النيروز عيد [2] . اختلاف الالسن قالوا: وفي زمان جم تبلبلت الالسن ببابل. وذلك ان ولد نوح كثروا بها، فشحنت بهم، وكان كلام الجميع السريانية، وهي لغة نوح، فأصبحوا ذات يوم، وقد تبلبلت السنتهم، وتغيرت الفاظهم، وماج بعضهم في بعض، فتكلمت كل فرقه منهم باللسان الذى عليه اعقابهم الى اليوم، فخرجوا من ارض بابل، وتفرقت كل فرقه جهة، وكان أول من خرج منهم ولد يافث بن نوح، وكانوا سبعه اخوه: الترك، والخزر، وصقلاب، وتاريس، ومنسك، وكمارى، والصين. فأخذوا ما بين المشرق والشمال، ثم سار بعدهم ولد حام بن نوح، وكانوا أيضا سبعه اخوه: السند والهند والزنج والقبط وحبش ونوبه وكنعان، فأخذوا ما بين الجنوب والدبور [3] .، واقام ولد سام بن نوح مع ابن عمهم جم الملك بأرض بابل على تغير الفاظهم.   [1] اى طريق سام، وكلمه راه فارسيه معناها طريق [2] كلمه فارسيه مركبه من: نو، بمعنى جديد، وروز بمعنى يوم، ويوم النوروز عند الفرس هو أول يوم من ايام السنه الشمسيه حيث يفرح الناس به سته ايام، وقد كتب الحكيم عمر الخيام النيسابورى رساله عن النيروز بالفارسيه، عنوانها نوروزنامه وطبعت سنه 1330 هـ بطهران [3] المراد المغرب، فالدبور بفتح الدال ريح تهب من نحو المغرب تقابل ريح الصبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الساميون وكان لسام بن نوح خمسه بنين: ارم وكان اكبرهم سنا، وارفخشذ، وعالم، واليفر، والاسور، فخص ولد ارم باللسان العربي عند تبلبل الالسن، وكانوا أيضا سبعه اخوه: عاد، وثمود، وصحار، وطسم، وجديس، وجاسم، ووبار. فارتحل عاد مع من تبعه حتى حل بأرض اليمن. ونزل ثمود بن ارم ما بين الحجاز الى الشام. ونزل طسم بن ارم عمان والبحرين، ونزل جديس بن ارم اليمامه، ونزل صحار ما بين الطائف الى جبلي طيّئ، ونزل جاسم ما بين الحرم الى سفوان [1] .، ونزل وبار بن ارم ما وراء الرمل بالبلاد التي تعرف بوبار، وهؤلاء العرب الاولى انقرضوا عن آخرهم. قالوا: ولما خرج هؤلاء تحركت قلوب سائر ولد نوح للخروج من بابل، فخرج خراسان بن عالم بن سام، فاتخذ خراسان خطه، وفارس بن الاسور بن سام، والروم بن اليفر بن سام، وارمين بن نورج بن سام، وهو صاحب أرمينية، وكرمان بن تارح بن سام، وهيطل بن عالم بن سام، وولده من وراء نهر بلخ [2] .، وتسمى بلاد الهياطلة، ونزل كل رجل منهم مع ولده في الارض التي سميت به، ونسبت اليه، فلم يبق مع الملك جم بأرض بابل الا ولد ارفخشذ بن سام. قالوا: ولما كثرت عاد باليمن تجبروا وعتوا، وعليهم شديد بن عمليق بن عاد بن ارم بن سام بن نوح، فوجه الى ولد سام ابن أخيه الضحاك بن علوان بن عمليق ابن عاد، وهو الذى تسميه العجم بيوراسف، فصار الى ارض بابل، وهرب منه جم الملك، فطلبه الضحاك حتى ظفر به، فأخذه، واشره بميشار [3] .،   [1] سفوان واد من ناحيه بدر [2] نهر في شمالى افغانستان تقع عليه مدينه بلخ عاصمه دوله آل سبكتكين وقد دمرت مدينه بلخ على يد جنكيزخان، وكانت محاطه بسور وفيها قلعه وجوامع ومدارس [3] المئشار بالهمز هو المنشار بالنون، واشرت الخشبة أشرا إذا شققتها مثل نشرتها نشرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 فاستولى على ملكه. وكان الذى وجه الى ولد حام بن نوح ابن عمه الوليد بن الريان بن عاد بن ارم، وكان ملكهم يومئذ مصر بن القبط بن حام الذى تبوأ ارض مصر، فسار اليه الوليد بن الريان حتى قتله، واستولى على ملكه. ومن ولد الوليد بن الريان الريان بن الوليد عزيز مصر، صاحب يوسف ع، ومن ولدهما الوليد بن مصعب فرعون موسى ع، وكان جالوت الجبار الذى قتله داود النبي من ولد الوليد بن الريان. وكان الذى وجه شديد بن عمليق الى ولد يافث بن نوح ابن أخيه غانم بن علوان أخو الضحاك بن علوان، وكان ملك ولد يافث بن نوح يومئذ فراسياب بن توذل ابن الترك بن يافث بن نوح، فغلب على ملكه أيضا، واستولى على ارضه، ومن ولد غانم بن علوان فيما يقال فؤر ملك الهند الذى قتله الاسكندر مبارزه، ويقال ان رستم الشديد من ولد غانم. الضحاك قالوا: وان الضحاك الذى تسميه العجم بيوراسف عند ما كان من غلبته جم الملك وقتله اياه واطمئنانه في الملك وفراغه أخذ يجمع اليه السحره من آفاق مملكته، ويتعلم السحر حتى صار فيه اماما، وبنى مدينه بابل [1] .، وجعلها اربعه فراسخ في اربعه، وشحنها بجنود من الجبابرة وسماها خوب، وسام اولاد ارفخشذ الخسف، ونبتت في منكبيه سلعتان كهيئة الحيتين، تؤذيانه حتى يطعمهما ادمغه الناس فتسكنان. قالوا: فكان يؤتى كل يوم باربعه رجال جسام فيذبحون   [1] بابل عاصمه الكلدانيين القدماء، ومكانها يبعد عن بغداد بمقدار 93 ك. م الى الجنوب على شاطئ نهر الفرات، وقد بناها نمروذ وشيد بها معبدا كبيرا لعبده الشمس وقد زادت شهرتها في التاريخ القديم بعد خراب نينوى وعظم عمرانها حتى ان حدائقها المعلقة اعتبرت من عجائب الدنيا السبع، وقد استعملت انقاض بابل في تعمير بغداد في عهد ابى جعفر المنصور، وتقوم الان بعثات اوربيه بالتنقيب عن آثارها بجوار قريه حله فعثرت على بعض الآثار وعلى كتيبات من عهد بخت نصر والملوك القدماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وتؤخذ أدمغتهم فيغذى بها تانك الحيتان. وكان له وزير من قومه، فولى وزارته رجلا من ولد ارفخشذ يسمى ارمياييل، فكان إذا اتى بالرجال ليذبحوا استحيا منهم اثنين، وجعل مكانهما كبشين من الغنم، وامر الرجلين ان يذهبا حيث لا يوجد اثرهما، فكانوا يصيرون الى الجبال، فيكونون فيها، ولا يقربون القرى والأمصار، فيقال انهم اصل الأكراد. [1] . بعثه هود وملك بعد شديد بن عمليق اخوه شداد بن عمليق بن عاد بن ارم، فعتا، وتجبر، فبعث الله اليه هودا ع رسولا، وكان من صميم قومه واشرافهم، وهو هود بن خالد بن الخلود بن العيص بن عمليق بن عاد، فلم يحفل به، فاهلكه، ومن كفر معه من عاد، كما قد قصه الله تبارك وتعالى في كتابه، وهو اصدق الحديث [2] . قال: ونشا في ذلك الدهر عابر بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، فولد له فالغ بن عابر، ثم ولد له بعد ذلك قحطان بن عابر، قال: وانما سمى قحطان لقحطه القحوط، وطرده بالسخاء والجود، ثم ولد له لام بن عابر، فكان اعبد اهل عصره، وكانت اسفار آدم وشيث ونوح وقعت اليه، فدرسها، وعلمها. ثم ان الضحاك البيوراسف طلبه ليفتنه عن دينه، فهرب منه باهله وولده من مدينه بابل حتى حل بمفازه من ارض الروم، فقبره بها، ويقال: ان مكان قبره معروف حتى الان.   [1] جمع كرد، وهم قوم يسكنون الحدود الغربيه لايران وما يجاورها، ويتكلمون لغة شبيهه باللغة الفارسيه [2] الآيات من 21- 26 من سوره الاحقاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 نمروذ بن كنعان ولما اهلك الله عادا مع شداد ضعف ركن الضحاك، ووهى امره، واجترأ عليه ولد ارفخشذ بن سام، وكان الوباء وقع في جنده، ومن كان معه من الجبابرة، فخرج يريد أخاه غانم بن علوان الذى ملكه شديد على ولد يافث، ويستعين به على امره، فاستغنم ولد ارفخشذ بن سام خروجه، فأرسلوا الى نمروذ بن كنعان بن جم الملك، وكان مستترا هو وأبوه في طول ملك الضحاك، بجبل دنباوند [1] .، فأتاهم، فملكوه عليهم، فصمد وصمد من كان بأرض بابل من اهل بيت الضحاك، فقتلهم اجمعين، واستولى على ملك الضحاك، وبلغ ذلك الضحاك فاقبل نحوه، فظفر به نمروذ وضربه على هامته بجرز [2] . حديد، فأثخنه، ثم شده وثاقا، واقبل به الى غار في جبل دنباوند، فادخله فيه وسد عليه، واستدف [3] . الملك لنمروذ واستوسق، وهو الذى يسميه العجم فريدون. قالوا: ولما توفى هود ع اجتمع ولد ارم بن سام من اقطار الارض، فملكوا مرثد بن شداد، وذلك في أول ملك نمروذ بن كنعان، فغزاهم نمروذ في آخر ملكه، وقد وهى امرهم، فقدر عليهم. وقالوا: فالغ وقحطان اخوان، وهما ابنا عابر، ففالغ جد ابراهيم ع، واما قحطان فابو اليمن، ويروى ان ابن المقفع كان يقول: يزعم جهال العجم ومن لا علم له ان جم الملك هو سليمان بن داود، وهذا غلط، فبين سليمان وبين جم اكثر من ثلاثة آلاف [4] . سنه، ويقال: ان نمروذ بن كنعان فرعون ابراهيم من ولد جم. وكان ابن عم آزر بن تارح ابى ابراهيم، وهو ابراهيم بن آزر بن تارح بن ناخور بن ارغوا بن شالخ بن ارفخشذ   [1] جبل في نواحي الري [2] عمود من الحديد وجمع جرز اجراز وجرزه وفي بعض النسخ الاوربيه جرد حديد والصواب ما ذكرناه [3] استتب واستقام [4] ثلاثة آلاف. في الأصل ثلثه آلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الذى سمته العجم، ايران، ومن ولد ارفخشذ جميع العرب، ومنهم أيضا ملوك العجم واشرافهم من اهل العراق وغيرهم. قحطان قالوا: ولما انقرضت عاد من ارض اليمن وبادوا، وذلك في عصر نمروذ بن كنعان، أقطعها نمروذ ابن عمه قحطان بن عابر، فسار إليها في ولده، حتى نزلها، وبها بقايا قليله ممن آمن بهود ع من عاد، فجاورهم قحطان بها، فلم يكن الا قليل حتى انقرضوا وبادوا، وصفت الارض لقحطان. ويقال: ان السائر إليها يعرب بن قحطان بعد وفاه ابيه، فسار إليها في اخوته وأولادهم، فقطنها، فكانت أم يعرب دون اخوته من عاد، فتكلم بلسان أمه. وذكر عن ابن الكيس النمرى [1] . انه قال: ان قحطان تزوج امراه من العماليق، فولدت يعرب، وجرهم، والمعتمر، والمتلمس، وعاصما، ومنيعا، والقطامي، وعاصيا، وحمير، فتكلموا جميعا بلسان أمهم بالعربية، وكان قحطان في عصر نمروذ. وذكر عن ابن الشريه [2] . انه قال: كان الذى خرج إليها يعرب بن قحطان في ولده، وكان اكبرهم سنا، واعظمهم قدرا. ثمود قالوا: وان ثمودا قفت ما كانت عليه عاد من الكفر بالله، والعتو عليه، فأرسل الله اليهم صالحا رسولا، فكان من اشرفهم منصبا، واكرمهم حسبا، فدعاهم الى توحيد الله، فلم يقبلوا منه، ولم يرعووا، فاهلكهم الله عز وجل، كما نص في كتابه، وهو اصدق الحديث [3] . ويقال: انه كان بين مهلك عاد ومهلك ثمود خمسمائة عام، وكان ذلك في عصر ابراهيم ع.   [1] وكان من اعلم الناس بالنسب الاشتقاق لابن دريد، وابن الكيس النسابه هو مالك بن عبيد بن شراحيل بن الكيس جمهره الأنساب [2] كذا في الأصل، وهو عبيد بن شريه الجرهمى، من صنعاء، وقد استقدمه معاويه بن ابى سفيان، ليدون له التاريخ في كتاب، فكتب له كتاب الملوك واخبار الماضى [3] الآيات: من 45 الى 53 من سوره النمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ابراهيم وفي آخر ملك نمروذ، وتسميه العجم فريدون تجبر نمروذ، وعتا، ولهج بعلم النجوم، واجتلب المنجمين من آفاق الارض، وحباهم بالأموال، واختار سبعه نفر من اهل بيته، فسماهم الكوهبارين [1] . فولاهم أموره، ووكل كل رجل منهم بعمل افرده به. وكان آزر ابو ابراهيم احد السبعه الذين اختارهم. وقد كان دان له الشرق والغرب، فكان من امر مولد ابراهيم ما قد جاءت به الآثار، وكان أول من آمن بابراهيم امراته ساره، وكانت من اجمل اهل عصرها. ولوط كان ابن اخته، فأقام ابراهيم مع ابيه ما شاء الله، ثم خرج مهاجرا له، وخرجت معه ساره، وكان ابو لوط من اهل مدينه سدوم [2] . وكانت أمه بنت آزر، وانما كان قدم الى بابل زائرا لجده آزر، فآمن بابراهيم، فأقام معه ببابل مؤازرا له على امره، فلما خرج ابراهيم ع مهاجرا خرج معه لوط، فلحق بابيه واهل بيته بمدينه سدوم، وهي فيما بين ارض الأردن وتخوم ارض العرب، وسار ابراهيم حتى اتى ارض مصر. هجره جرهم والمعتمر قالوا: وان ولد قحطان كثروا بأرض اليمن، فوقع بينهم التباغى والتحاسد، فاجتمع ولد يعرب بن قحطان على جرهم بن قحطان وولد المعتمر بن قحطان، فنفوهم عن اليمن وارضه، فسارت جرهم نحو الحرم، وسار بنو المعتمر نحو الحجاز، ورئيس جرهم مصاص بن عمر بن عبد الله بن جرهم بن قحطان، وأرادوا نزول الحرم،   [1] في بعض النسخ الاوربيه القوهيارتين. والصحيح ما ذكر، والمعنى المختارون [2] سدوم مدينه قديمه في فلسطين احرقت بنار سماويه لارتكاب أهلها الفحشاء وعدم طاعتهم نبيهم لوطا، ويقال انها سميت باسم قاضيها الذى كان يضرب به المثل في الجور والظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فمنعهم العماليق من ذلك، فاقتتلوا، فغلبتهم جرهم على الحرم، ونفوهم منه، ونزلت جرهم الحرم. فلما قطنوه بلغ ذلك بنى المعتمر بن قحطان، فاقبلوا من ارض الحجاز حتى أتوا الحرم، وسألوا جرهم السكنى معهم، فابت عليهم جرهم، ورئيس بنى المعتمر السميدع بن عمرو بن قنطور بن المعتمر بن قحطان، فتداعى الفريقان للحرب، فبحر بهم هذه سميت قعيقعان والمطابخ واجياد وفاضح، لان به فضحت بنو المعتمر، وقتل السميدع، وكان الظفر لجرهم. نمروذ واولاده قالوا: وكان لنمروذ ثلاثة بنين: ايرج، وسلم، وطوس، ففوض الى ايرج ملكه، وجعل سلما على ولد حام، وطوسا على ولد يافث، فحسد ايرج اخواه، إذ خصه أبوه بالأمر دونهما، وهو اصغر سنا منهما، فاغتالاه، فقتلاه، فصير الملك الى ابن ابنه منوشهر بن ايرج، وصرفه عن ابنيه: سلم، وطوس، ثم مات. فملك منوشهر بن ايرج، وفي عصر منوشهر كثرت قحطان باليمن، فملكوا عليهم سبا بن يشجب، واسم سبا عبد شمس. اولاد اسماعيل قالوا: وفي ذلك العصر توفى اسماعيل بن ابراهيم ع، وخلف ثلاثة بنين، قيذر بن اسماعيل، ونابت بن اسماعيل، وهو كان القيم بأمر مكة والحرم بعد ابراهيم، ومدين بن اسماعيل، وهو الذى صار الى ارض مدين، فنزلها، ومن ولده شعيب النبي ع، وقومه الذين ارسل اليهم. غلبه جرهم على الحرم قالوا: ولما توفى نابت بن اسماعيل غلبت جرهم على البيت والحرم، فخرج قيذر بن اسماعيل باهله وماله يتبع مواقع القطر فيما بين كاظمه، وغمر ذي كنده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والشعثمين، وما والى تلك الارضين حتى كثر ولده، وانتشروا في جميع ارض تهامه، والحجاز، ونجد. بنو قحطان فملك سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان ارض اليمن طول ملك منوشهر مائه وعشرين سنه، ثم مات، وملك بعده ابنه حمير بن سبا، وجعل ابنه كهلان وزير حمير. [ملك منوشهر] نهاية ملك منوشهر قالوا: ولما اتى لملك منوشهر مائه سنه وعشرون سنه سار اليه فراسياب بن فايش بن نوذسف بن الترك بن يافث بن نوح. وذلك حين ملك حمير ارض اليمن. وكان مسيره من ناحيه المشرق في جموع من ولد يافث بن نوح، حتى انتهى الى ارض بابل، وخرج اليه منوشهر الملك في جنوده، ففضت جموع منوشهر، وقفا فراسياب اثر منوشهر حتى لحقه، فقتله، واستولى على ملكه، وجلس على سريره. وسام ولد ارفخشذ الخسف، وهدم ما كان بأرض بابل من الحصون، وعور [1] . ما كان فيها من العيون، وطم [2] . ما كان فيها من الانهار، وقحط الناس في ملكه قحطا شديدا، وكان اهل ايران شهر في ملكه في اعظم بلاء. زاب بن بودكان فلما تم لملك فراسياب تسع سنين ظهر زاب بن بودكان بن منوشهر بن ايرج بن نمروذ بأرض فارس، فخلع فراسياب، ودعا لنفسه، فمال اليه جميع ولد سام بن نوح للجهد الذى نالهم في ملك فراسياب، فسار الى فراسياب حتى نفاه عن   [1] اتلف عيون الماء [2] طم: جف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 مملكته، وعمد الى المدن والحصون التي هدمها فراسياب، فاعاد بناءها، وحفر الانهار والقنى التي كان طمها، واصلح كل ما كان فراسياب افسده، وكرى بالعراق أنهارا عظيمه سماها الزوابي، اشتق اسمها من اسمه، وهي الزابي الأعلى، والزابي الأوسط، والزابي الأسفل، وابتنى المدينة العتيقة، وسماها طيسفون، [1] . ثم سار في اثر فراسياب، وقد اقام بخراسان في جموعه، وعساكره، فزحف اليه فراسياب فاقتتلوا، واقبل ارسناس الذى كان منوشهر امره بتعليم الناس الرمى بالنشاب، وقد وتر قوسه وفوق [2] . فيها نشابه، فاقبل حتى دنا من فراسياب، فلما تمكن رماه رميه خالطت فؤاده، وخر ميتا، وانصرف ولد يافث حين قتل ملكهم حتى لحقوا بأرضهم، وكان زاب قد اصابته جراحات كثيره، فمات منها بعد مهلك فراسياب بشهر. وفي ذلك العام مات حمير بن سبا. قالوا: كان ملك الوليد بن مصعب فرعون موسى ع [3] . على جميع ارض ولد حام، وهي المملكة التي تعرف بملك مصر بن حام. وقالوا: ولما توفى يوسف بن يعقوب واخوته بأرض مصر بقي اعقابهم بها، وكثروا فيها، وكانوا في زمان موسى ع ستمائه الف رجل، وكان ملك اليمن في زمن موسى الملطاط بن عمرو بن حمير بن سبا. كيقباذ بن زاب وكان ملك ارض بابل كيقباذ بن زاب، وكان الملطاط يلقب بالرائش، لأنه راش قومه واغناهم، وكانت ملوك الارض كلها قد دانوا لكيقباذ، واتقوه بالاتاوه، [4] .،   [1] يذكرها الجغرافيون العرب باسم طيسفون او طيسفونج او طوسفون، والاوربيون باسم، وكانت مدينه بها قصر لكسرى وتبعد من بغداد مقدار ثلاثة فراسخ [2] فوق النشابة: وضعها في وتر القوس [3] عليه السلام: عم، والمعروف بعد الكشوف الفرعونيه ان فرعون موسى هو منفتاح بن رعمسيس الثانى، احد ملوك الأسرة التاسعه عشره [4] الاتاوه: كل ما أخذ بالإكراه من رشوه او خراج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وكان له ثلاثة بنين: قابوس، وهو الذى ملك من بعده، وكيابنه، وهو جد لهراسف الذى ملك بعد سليمان بن داود ع، وقيوس، وهو جد الاشغانيين الذين كانوا ملوك الجبل في زمان الطوائف. وفي عصره خرج موسى بن عمران من مصر هاربا من فرعون حتى اتى ارض مدين [1] .، ونزل على شعيب، فاجره نفسه ثماني حجج، كما ذكر الله جل ثناؤه في الكتاب الناطق [2] ، ثم خرج من عند شعيب لما قضى الأجل، وسار باهله، فكان من امره واكرام الله اياه بتكليمه ورسالته ما قد قصه علينا في كتابه، وانصرف الى شعيب، ورد اهله اليه، ومضى حتى بلغ رساله ربه، وفي هذا العصر بعث شعيب الى قومه، فكان منهم ما حكاه الله في كتابه [3] . أبرهة قالوا: ثم ملك ارض اليمن أبرهة بن الملطاط، وهو أبرهة ذو المنار، سمى بذلك، لأنه امر بعمل المنار والايقاد عليها بالليل، ليهتدى بها جنوده، وتوفى موسى بن عمران ع، وتولى امر إسرائيل من بعده يوشع بن نون، فخرج ببني إسرائيل من ارض مصر الى ارض الشام، فأسكنهم بفلسطين. قالوا: وان أبرهة تجهز وسار في بشر كثير يؤم ارض المغرب، واستخلف على ملكه ابنه افريقيس، فاوغل في ارض السودان، فأعطوه الطاعة، فجاز ارضهم، وسار حتى انتهى الى أمه من الناس، اعينهم وأفواههم في صدورهم، ويقال انهم أمه من ولد نوح ع، غضب الله عليهم، فبدل خلقهم، فأعطوه الطاعة، وانصرف راجعا، فمر بامه من الناس، يقال لهم النسناس، للرجل والمرأة منهم نصف راس، ونصف وجه، وعين واحده، ونصف بدن، ويد واحده،   [1] قريه النبي شعيب [2] الآيات 23، 24، 25، 26، 27 من سوره القصص [3] الآيات من رقم 176 الى 190 من سوره الشعراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ورجل واحده، يقفزون قفزا في اسرع من حضر [1] . الفرس الجواد، وهم يهيمون في الغياض التي على شاطئ البحر، خلف رمل عالج [2] .، يعنى رمل بلاد اليمن، فسال عنهم، فاخبر انهم أمه من ولد وبار بن ارم بن سام بن نوح. كيكاوس بن كيقباذ قالوا: وكان ملك العجم في عصر أبرهة بن الملطاط كيكاوس بن كيقباذ، وكان متشددا على الأقوياء [3] .، رحيما بالضعفاء، وكان منصورا محمودا الى ان خطرت منه خطره ضلال، فيما كان هم به من الصعود الى السماء، فهو صاحب التابوت والنسور، وكان قد وجد على ابنه سياوش، ولم يكن له ولد غيره، فاراد قتله، فهرب منه، فلحق بملك الترك، فحل منه محلا لطيفا لما بلاه واختبره، وراى عقله وآدابه وبأسه ونجدته، ففوض اليه امره، فلما راى ذلك اهل بيت الملك حسدوه، وخافوا ان يبزهم الأمر، فدسوا اليه الغوائل [4] . عند الملك حتى اقدم عليه، فقتله، وقد كان زوجه ابنته، وحملت منه، فاراد ان يبقر بطنها عن جنينها، فناشده برايان الوزير فيها، وفي ولدها الا يقتلها من غير جرم، فقال له: دونك، فخذها إليك، فإذا ولدت فاقتل ولدها. فكانت عنده حتى ولدت غلاما، وهو كيخسرو والذى ملك بعده، فاخرجه من المصر، واسترضع له في سكان الجبال من الأكراد، فنشأ عندهم، وقال للملك: انها ولدت جاريه وقد قتلتها فصدقه. ملك كيخسرو وان اهل فارس شنئوا كيكاوس لما اظهر من الجبروت والعتو والجرأة على الله،   [1] الحضر بضم الحاء وسكون الضاد ارتفاع الفرس في عدوه [2] عالج: موضع بالبادية به رمل [3] الأقوياء في الأصل: الأقرباء [4] الغوائل جمع غائله وهي الداهيه والمصيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وتأمروا على خلعه، وفشا ذلك حتى بلغ أم الغلام، وقد اتى له سبع عشره سنه، فدست رسولا الى اهل فارس، تعلمهم مقتل سياوش، وامر الغلام، فاختاروا رجلا من افاضلهم، يسمى زو، فوجهوه الى ابريان الوزير في الاقبال بالغلام، فقدم عليه، واعلمه ما اجمعت عليه اهل فارس، فسلم اليه الغلام، وحمله على فرس ابيه سياوش الذى قدم عليه من العراق، فسار به زو، يكمن النهار، ويسير الليل، حتى ورد يم جيحون [1] .، وهو نهر بلخ مما يلى خوارزم، فعبره سباحه على فرسه، واقبل به، حتى اورده دار الملك، فخلعوا كيكاوس، وملكوا الغلام، وسموه كيخسرو، ومنحوه الطاعة، فامر بجده فحبس، فلم يزل محبوسا حتى هلك. افريقيس واليمن قالوا: وكان ملك كيخسرو وملك افريقيس بن أبرهة في عصر واحد، وان افريقيس تجهز يريد المغرب، حتى اوغل في ارض طنجه والاندلس، فراى بلادا واسعه، فابتنى هناك مدينه، وسماها إفريقية اشتق اسمها من اسمه، ونقل إليها سكانا، وهي المدينة التي ينزلها اليوم سلطان ذلك البلد وعظماؤها، ثم انصرف الى وطنه، وفي ذلك العصر نشا معد بن عدنان، وفيه انقرض ولد ارم من جميع ارض العرب الا بقايا من طسم وجديس، غبروا بعمان والبحرين واليمامه. ملك ابن افريقيس وهلاك طسم وجديس ولما مات افريقيس بن أبرهة ملك ابنه ذو جيشان بن افريقيس، فتجهز لغزو كيخسرو ملك فارس، وجمع جنوده، وسار حتى نزل بنجران [2] .، وكان بعمان   [1] جيحون: نهر من اكبر انهار آسيا ينبع من جبال بامير ويجرى نحو الغرب حتى يصب في بحيره اورال، وفيضانه بين شهرى مايو واكتوبر، وهو الان حد فاصل بين افغانستان وجمهوريات آسيا السوفياتيه، ويطلق المؤرخون العرب على البلاد الواقعه شمال جيحون بلاد ما وراء النهر [2] نجران: موضع بالبحرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 والبحرين واليمامه بشر كثير من ولد طسم، وجديس، ابنى ارم بن سام، وكانوا من العرب العاربة، وكان ملكهم رجلا من طسم، يسمى عمليقا، وكان جائرا ظلوما، وبلغ من عتوه ان امر الا تزف امراه من جديس الى زوجها الا بدؤوه بها، فمكثوا بذلك دهرا طويلا. وان رجلا من جديس تزوج عفيره بنت غفار اخت الأسود بن غفار عظيم جديس وسيدها، فلما أرادوا اهداءها ادخلت على الملك، فافترعها، ثم خلى سبيلها، فخرجت الى قومها في دمائها رافعه ثوبها عن عورتها، وهي تقول: ايصلح ما يؤتى الى فتياتكم ... وأنتم رجال ثوره عدد النمل فلو اننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر على الذل فبعدا لبعل ليس فيه حميه ... ويختال يمشى مشيه الرجل الفحل فحميت من ذلك جديس، فاغتالوا عمليقا، فقتلوه على غره، وامامهم الأسود بن غفار يرتجز، ويقول: يا ليله ما ليله ... جاءت تمشى بدم جميس [1] يا طسم ما لاقيت من جديس ... احدى لياليك فهيس هيس [2] . فابادوا طسما، فلم يفلت منهم الا رجل يقال له، رياح بن مره، فانه مضى على وجهه حتى اتى ذا جيشان، وهو معسكر في جنوده بنجران، فمثل بين يديه، ثم قال: انك لم تسمع بيوم ولا ترى ... كيوم اباد الحى طسما به المكر أتيناهم في ازرنا ونعالنا ... علينا الملاء الحمر والحلل الخضر فصرنا لحوما بالعراء وطعمة ... تنازعها ذيب الوشيمه والنمر [3] .   [1] الدم الجميس: هو الدم المتجمد [2] هيس هيس: كلمتان تقالان للحض عند امكان الأمر والإغراء به [3] الوشيمه: الشر والعداوة والضراوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فدونك قوما ليس لله فيهم ... ولا لهم منه حجاب ولا ستر فقال الملك: كم بيننا وبينهم؟، قال: ثلاث. فقال من حضره: كذب، ايها الملك، بينك وبين القوم عشرون ليله، فامر جنوده بالمسير نحو اليمامه، ففي مسيرهم، وقصه الزرقاء [1] . يقول الأعشى بعد ذلك بدهر طويل: قالت ارى رجلا في كفه كتف ... او يخصف النعل، لهفي ايه صنعا فكذبوها بما قالت، فصبحهم ... ذو آل جيشان، يزجى الموت والشرعا فاستنزلوا اهل جو من مساكنهم ... وهدموا مشرف البنيان، فاتضعا فام جديسا، واستاصلهم، ثم رحل نحو العراق يريد كيخسرو، وزحف اليه كيخسرو، فالتقوا، فقتل ذو جيشان، وانفضت جموعه. ملك الفند ذي الاذعار فملكت اليمن ابنه الفند ذا الاذعار، وانما لقب ذا الاذعار لرعب الناس منه، فلم تكن له همه الا الطلب بثار ابيه. هجره ربيعه الى اليمامه والبحرين قال: وبقيت اليمامه والبحرين بعد قتل جديس ليس بها احد الى ان كثرت ربيعه، وانتشرت، وتفرقت في البلاد، فسارت عتره [2] اسد بن ربيعه، تتبع مواقع الغيث، وتقدمها عبد العزى بن عمرو العنزي حتى هجم على اليمامه، فراى بلادا واسعه، ونخلا وقصورا، وإذا هو بشيخ قاعد تحت نخله سحوق [3] ، يرتجز، ويقول: تقاصرى، اجن جناك قاعدا ... انى ارى حملك ينمى [4] صاعدا   [1] امراه من قبيله جديس كانت تبصر الشيء من مسيره ثلاثة ايام، وقد حذرت قومها من هجوم حمير فلم يصدقوها حتى صبحهم حسان فاجتاحهم وأخذ الزرقاء فشق عينيها [2] العترة بالكسر: نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون. [3] النخله الطويله الجرداء التي بعد ثمرها على المجتنى. [4] ينمى: يرتفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فقال له عبد العزى: من أنت ايها الشيخ؟ قال: انا من هزان، الضراغمه الاقران، غزانا ذو جيشان، الملك القرم [1] اليمان، فاعمل فيها المران [2] .، فلم يبق بهذا المكان غيرى، وانى لفان. فقال عبد العزى: ومن هزان؟ قال: هزان بن طسم أخو النهى والحزم، وابن الشجاع القرم. فأقام عبد العزى أياما، ثم تبرم بمكانه، فمضى سائرا حتى سقط الى البحرين، فراى بلادا اوسع من اليمامه، وبها من وقع إليها من ولد كهلان، حين هربوا من سيل العرم [3] .، فأقام معهم، وسارت بنو حنيفه على ذلك السمت، يتبعون مواقع الغيث، وتقدمهم عبيد بن يربوع، وكان سيد هم، فنزل قريبا منها، فمضى غلام له ذات يوم حتى هجم على اليمامه، فراى نخلا وريفا، وإذا هو بشيء من تمر قد تناثر تحت النخل، فأخذه، واتى به عبيدا، فأكل منه، فقال: وابيك ان هذا الطعام طيب. فارتفع حتى اتى اليمامه، فدفع فرسه، فخط على ثلاثين دارا وثلاثين حديقة، فسمى ذلك المكان حجرا، فهو اليوم قصبه اليمامه، وموضع ولاتها، وسوقها، وتسامعت بنو حنيفه بما أصاب عبيد بن يربوع، فاقبلوا حتى أتوا اليمامه، فقطنوها، فعقبهم بها الى اليوم. قال: وكان داود النبي ع في عصر ذي الاذعار، وكان ملك العجم كيخسرو بن سياوش. داود الملك وكان سلطان بنى إسرائيل قد وهى، فكان من حولهم من الأمم يغزونهم، فيقتلون، ويأسرون، فاتوا نبيهم شعيبا، فقالوا: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً، نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [4] فملك عليهم طالوت، وكان من سبط يوسف صلى الله عليه وسلم [5]   [1] السيد، والرئيس، فهو يشبه المقرم من الإبل في عظم شانه. [2] الرماح الصلبه اللدنة [3] العرم: السيل الذى لا يطاق، وكان قوم سبا في نعمه وجنان كثيره، فلم يشكروا نعمه الله، فبعث الله عليهم جرذا نقبت سدالهم، فيه أبواب، فانبثق الماء، فغرقت جنانهم [4] الآية رقم 246 من سوره البقره. [5] كذا في الأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وكان الملك في بيت يهوذا، وقد كان بقي في ذلك العصر من ولد عاد جالوت الجبار، فسار غازيا لبنى إسرائيل في جنوده، فجمع طالوت بنى إسرائيل، وخرج لمحاربته، فمروا بالنهر الذى نهاهم طالوت عن شربه، وشربوا منه الا ثلاثمائه رجل وسبعه عشر رجلا، عدد اهل بدر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان داود النبي حينئذ حدث السن، فلما تواقف الفريقان وضع داود ع حجرا في قذافه، ثم فتلها، ورماه، فصك بين عيني جالوت، فكانت نفسه فيه، وانهزم جنوده، وغنم بنو إسرائيل أموالهم، فاجتمع بنو إسرائيل عند ذلك على تمليك داود صلى الله عليه وسلم، وخلع طالوت برضى منه، وداود من سبط يهوذا بن يعقوب. قالوا: وكان ملك الروم في ذلك العصر دقينوس صاحب الفتيه اصحاب الكهف. وذكر عن عبد الله بن الصامت، قال: وجهني ابو بكر الصديق رضى الله عنه [1] سنه استخلف الى ملك الروم، لادعوه الى الاسلام او آذنه بحرب، قال، فسرت حتى اتيت القسطنطينية، فاذن لنا عظيم الروم، فدخلنا عليه، فجلسنا، ولم نسلم، ثم سالنا عن أشياء من امر الاسلام، ثم صرفنا يومنا ذلك، ثم دعا بنا يوما آخر، ودعا خادما له، فكلمه بشيء، فانطلق، فأتاه بعتيده [2] ، فيها بيوت كثيره، وعلى كل بيت باب صغير، ففتح بابا، فاستخرج خرقه سوداء، فيها صوره بيضاء، كهيئة رجل اجمل ما يكون من الناس وجها، مثل داره القمر ليله البدر، فقال: اتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا أبونا آدم ع، ثم رده. وفتح بابا آخر، فاستخرج خرقه سوداء، فيها صوره بيضاء، كهيئة شيخ جميل الوجه، في وجهه تقطيب، كهيئة المحزون المهموم، فقال: اتدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج خرقه سوداء، فيها صوره بيضاء [3] على صوره نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى جميع الأنبياء،   [1] رضى الله عنه: رضه. [2] نموذج مهيا. [3] خرم فى الأصل، مقداره ورقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فلما نظرنا اليه بكينا، فقال: ما لكم؟ فقلنا: هذه صوره نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ابدينكم، انها صورة نبيكم؟ قلنا: نعم، هي صوره نبينا، كانا نراه حيا، فطواها، وردها، وقال: اما انها آخر البيوت الا انى احببت ان اعلم ما عندكم، ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه خرقه سوداء، فيها صوره بيضاء، اجمل ما يكون من الرجال، واشبههم بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: وهذا ابراهيم، ثم فتح بيتا آخر، فاستخرج صوره رجل آدم [1] ، كهيئة المحزون المفكر، ثم قال: هذا موسى بن عمران، ثم فتح بيتا آخر، فاستخرج صوره رجل، له ضفيرتان، كان وجهه داره القمر، ثم قال: وهذا داود، ثم فتح بيتا آخر، فاستخرج صوره رجل جميل على فرس، له جناحان، ثم قال: وهذا سليمان [2] ، وهذه الريح تحمله، ثم فتح بيتا آخر، فاستخرج صوره شاب جميل الوجه، في يده عكازه، وعليه مدرعه [3] صوف، ثم قال: وهذا عيسى، روح الله، وكلمته، ثم قال: ان هذه الصورة وقعت الى الاسكندر، فتوارثها الملوك من بعده حتى افضت الى. قالوا: وان ذا الاذعار خرج في جنوده، يطلب بثار ابيه ذي جيشان الذى صار الى ارض فارس، فحارب كيخسرو، فقتل في المعركة، فمات ذو الاذعار في طريقه قبل ان يدرك ما اراد. ملك بلقيس فملكت اليمن عليهم الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن مالك بن الرائش، وكان الهدهاد يلقب بذى شرخ، فامر بجسم ذي الاذعار، فحمل، ورجع بقومه الى ارض اليمن، فامر به، فدفن بصنعاء [4] في مقبره الملوك. قالوا: وان الهدهاد   [1] اسمر، والأدمة، في الناس، السمره، وفي الظباء، لون مشرب بياضا، وفي الإبل، لون مشرب سوادا. [2] سليمان: سليمن. [3] جبه مشقوقه من المقدم، تلبس، ولا تكون الا من الصوف. [4] العاصمه الحاليه لمملكه اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 تزوج ابنه ملك الجن بأرض اليمن، فولدت له بلقيس، وهذا حديث منتشر، قد حملته الرواه. قالوا: فلما اتى لها ثلاثون سنه حضر الهدهاد الموت، فجمع وجوه حمير، فقال: يا قوم، انى قد عجمت الناس، واختبرت اهل الرأي والعقل، فلم أر مثل بلقيس، وانى قد وليتها امركم، لتقيم لكم الملك الى ان يبلغ ابن أخي ياسر ينعم بن عمرو، فرضوا بذلك، فملكت بلقيس. ملك سليمان وفي أول ملكها توفى داود، ع، وورث سليمان ملكه، وذلك كله في عصر كيخسرو بن سياوش، فلما ملك سليمان سار من ارض الشام الى ارض العراق باهله وخزائنه، فلحق بخراسان، فنزل مدينه بلخ [1] ، وكان هو الذى بناها قبل ذلك، واقبل سليمان حتى نزل العراق، فبلغ كيخسرو نزول سليمان بأرض العراق، وما اعطى من عظيم السلطان، فدخله فزع، واسف خامره، فنهكه، فلم يلبث الا قليلا حتى مات. وان سليمان سار من العراق الى مرو [2] ، ثم سار منها الى بلخ، ثم سار من بلخ الى بلاد الترك، فوغل فيها، وجاوزها الى بلاد الصين، ثم عطف متيامنا عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى اتى القندهار [3] ، ثم سار منها الى كسكر [4] ، ثم عاد الى الشام، فوافى تدمر، وكانت موطنه. قالوا: ووجد في صخر بكسكر: غدونا طلوع الشمس من ارض فارس ... فها نحن قد قلنا ببلده كسكر   [1] مدينه مشهوره بخراسان، من اجل المدن بها، وأكثرها غله، وقد افتتحها الأحنف بن قيس في ايام عثمان بن عفان، وينسب إليها خلق كثير، منهم الحسن بن شجاع، المحدث المشهور [2] مدينه بفارس. [3] القندهار: بلد على بعد 300 ك. م. من كابل عاصمه افغانستان، ولها أهمية تجاريه كبيره لوقوعها بين الهند وايران. [4] كسكر: كوره بين البصره والكوفه، عاصمتها واسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ونحن ولا حول سوى حول ربنا ... نروح الى الأوطان من ارض تدمر [1] وكان داود ع ابتدأ بناء مسجد بيت المقدس، فتوفى قبل استتمامه، فاستتمه سليمان، واتم بناء مدينه إيليا [2] ، وقد كان أبوه ابتدأها قبله، فبنى مسجدها بناء لم ير الناس مثله، وكان يضيء في ظلمه الليل الحندس اضاءه السراج الزاهر، لكثرة ما كان جعل فيه من الجواهر والذهب، وجعل اليوم الذى فرغ فيه منه عيدا في كل سنه، فلم يكن في الارض عيد ابهى ولا اعظم خطرا منه، ولا احسن منظرا، فلم يزل المسجد على ما بناه سليمان حتى غزا بخت نصر بيت المقدس، فأخربها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضه والجوهر، فنقله الى العراق. قالوا: وكان سليمان مطعاما للطعام، فكان يذبح في مطابخه كل غداه سته آلاف ثور، وعشرون الف شاه. قالوا: ولما فرغ سليمان من بناء مسجد إيليا [3] تجهز سائرا الى تهامه [4] ، يريد بيت الله الحرام، فطاف به، وكساه، وذبح عنده، واقام سبعا، ثم سار الى صنعاء، وتفقد الطير، فلم ير الهدهد، فكان من حديثه وحديث صاحبه سبا وهي بلقيس ما قد قصه الله تبارك وتعالى في كتابه [5] ، الى ان تزوجها، وبنى بأرض اليمن ثلاثة حصون، لم ير الناس مثلها، وهي سلحين، وبينون، وغمدان، وانصرف سليمان الى الشام، فكان يزورها في كل شهر، فيقيم عندها ثلاثا. وانه غزا بلاد المغرب: الاندلس، وطنجه، وفرنجه، وإفريقية، ونواحيها من ارض   [1] تدمر: مدينه بأرض الشام. [2] اسم قديم لمدينه القدس. [3] إلى هنا ينتهى الخرم في الأصل. [4] تهامه: ارض بالجزيرة العربية ما بين ذات عرق الى مرحلتين من مكة، وذات عرق أول تهامه الى البحر وجده، وتذكر بعض الكتب العربية، انها مكة. [5] سوره النمل، الآيات من رقم 20 الى رقم 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بنى كنعان بن حام بن نوح، وعليهم ملك جبار عات، عظيم الملك، فدعاه الى الايمان بالله، وخلع الأنداد، فتمرد عليه، فقتله، وأصاب ابنه له من اجمل الناس، فتسراها، ووقعت منه موقعا لطيفا. وقفل الى الشام، فامر بمقصوره، فبنيت لها، وأفردها فيها مع ظئورتها [1] وخدمها، وكان سليمان لا يدخل عليها الا وجدها باكيه حزينه، فكدر ذلك عليه حبه لها، وعجبه بها، وهي المرأة التي نال سليمان في امرها ما ناله من سلب ملكه، وزوال سلطانه وبهائه، حين اتخذت تلك المرأة تمثال أبيها في داره، وعبدته سرا من سليمان، الا ان اتخاذها التمثال كان عن علم من سليمان، واذن لها، اراد بذلك ان تسكن إذا نظرت اليه، فتتسلى. ويقال: ان سليمان بنى في أقاصي بلاد المغرب مدينه من نحاس في مفاوز الاندلس، وأودعها خزائن من خزائنه، وان عبد الملك بن مروان كتب الى عامله على بلاد المغرب، موسى بن نصير وكان من أبناء العجم، غير ان ولاءه كان لقيس يأمره بالمسير الى هذه المدينة ليعلم له علم خبرها، ويكتب اليه، وان موسى بن نصير سار إليها، وانصرف راجعا حتى سار الى القيروان، وكتب بالخبر الى عبد الملك، يصف له المدينة، وما لقى في سفره إليها، وما رآه عند مصيره نحوها. ارخبعم بن سليمان قالوا: ولما توفى سليمان قام بالأمر بعده ارخبعم بن سليمان، فتفرقت بنو إسرائيل، ووهى امره، فمكث بذلك الى ان سار بخت نصر وهو بوخت نرسى عند العجم الى بيت المقدس، فهدمه. انقسام امبراطوريه سليمان قالوا: وقام باليمن بعد بلقيس ياسر ينعم بن عمر بن شرحبيل بن عمرو، وكان   [1] الظئرمهموز، الأنثى العاطفه على غير ولدها، المرضعة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ابن أخي الهدهاد، وانما سمى ياسر ينعم لانعامه على قومه. قالوا: وان ياسر ينعم تجهز غازيا لارض المغرب، حتى بلغ وادي الرمل، ولم يبلغه ملك قبله، فاراد ان يعبره، فلم يجد مجازا، لأنه رمل فيما زعموا، يجرى كما يجرى الماء، فعسكر على حافته، ونصب عليه صنما، وكتب على جبهته ليس ورائي مذهب، فانصرف، وانصرف الى بلاده. هدم مدينه إيليا قالوا: وان فارس لما مات سليمان بن داود اجتمع عظماؤها واشرافها ليختاروا رجلا من ولد كيقباذ الملك، فيملكوه عليهم، فوقعت خيرتهم على لهراسف بن كيميس بن كيابنه بن كيقباذ الملك، فملكوه عليهم، وان لهراسف عقد لابن عمه، بخت نصر بن كانجار بن كيابنه بن كيقباذ في اثنى عشر الف رجل من خيله، وامره ان ياتى الشام فيحارب ارخبعم بن سليمان، فان كان الظفر له قتل من قدر عليه من عظماء إسرائيل، وهدم مدينه إيليا، فسار بخت نصر حتى اتى الشام، فشن فيها الغارات، وعاث، فانهزم ملوك الشام منه، وهرب ارخبعم من بيت المقدس، فنزل فلسطين، فتوفى بها. واقبل بخت نصر حتى ورد مدينه بيت المقدس، فدخلها لا يمتنع منه احد، فوضع في بنى إسرائيل السيف، وسبى أبناء الملوك والعظماء، وهدم مدينه إيليا، فلم يدع فيها بيتا قائما، ونقض المسجد، وحمل ما كان فيه من الذهب والفضه والجوهر، وحمل كرسي سليمان، وقفل راجعا الى العراق، وكان في السبى دانيال النبي ع، فسار حتى قدم على لهراسف الملك، وهو نازل بالسوس [1] ، فمات دانيال عنده بالسوس. ملك العجم واليمن قالوا: ولما حضر لهراسف الموت اسند الملك الى ابنه بشتاسف، وفي ذلك   [1] مدينه قديمه بأرض فارس، تقع باياله خوزستان، وقد اتخذها ملوك الفرس مشتى لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 العصر مات ياسر ينعم صاحب اليمن، وقام بالأمر بعده شمر بن افريقيس بن أبرهة بن الرائش، وهو الذى يزعمون انه اتى الصين وهدم مدينه سمرقند [1] ، فيزعمون ان وزير صاحب الصين مكر به، وذلك انه امر الملك ان يجدعه ويخلى سبيله، فسار الأجدع الى شمر، فاخبره انه نصح لصاحبه، يعنى ملك الصين، وامره بالنجوع [2] لشمر، واعطائه الطاعة والاتاوه، فغضب عليه، وجدعه، وانه سار الى شمر ليدله على عوره صاحب الصين جزاء بما فعل به، فاغتر شمر بذلك، وساله عن الرأي، فقال: ان بينك وبينه مفازة، تقطع في ثلاثة ايام، ومأتاه منها قريب، فاحمل الماء لثلاثة ايام، وسر حتى افاجئه بك من كثب، فتستبيح بلده، وتأخذه سلما، واهله، وماله. ففعل، فسلك به مفازة لا ترام، فلما ساروا ثلاثة، ونفد الماء، ولم يروا علما، ولا انتهوا الى ماء، قالوا له: اين ما زعمت؟، فاعلمه انه مكر به، ووقى اهل بيته بنفسه، لأنه قد علم انه سيقتله، وقال قد اهلكتك، فاصنع ما أنت صانع، فما لك ولمن تبعك في الحياه [3] مطمع. فوضع شمر درعه [4] تحت راسه، وترس [5] حديد كان معه فوق راسه، يستكن به من الشمس. قالوا: وقد كان المنجمون قالوا له، انك تموت بين جبلي حديد، فمات بين درعه وترسه عطشا، فلم يبق من جنوده احد الا هلك، وقد سمعنا نحن بهذا الحديث في غير قصه شمر.   [1] بلد في ارض كسكر فيما وراء نهر جيحون، وهي من البلاد المشهوره في التاريخ القديم، ويقال انها سميت باسم الذى بناها، شمر ابو كرب، ثم عربها العرب في كلامهم الى سمرقند. [2] النجوع: الإتيان، ونجع فلانا إذا أتاه طالبا معروفه. [3] الحياه: الحيوه. [4] الدرع: قميص من حديد يتدرع به في الحرب. [5] الترس من السلاح: ما يتوقى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 زرادشت ودعوته قالوا: وكان زراذشت صاحب المجوس اتى بشتاسف الملك، فقال: انى رسول الله إليك، وأتاه بالكتاب الذى في أيدي المجوس، فآمن له بشتاسف، ودان بدين المجوسية، وحمل عليه اهل مملكته، فأجابوه طوعا وكرها. وكان رستم [1] الشديد عامله على سجستان [2] وخراسان، وكان جبارا مديد القامة، شديد القوه، عظيم الجسم، وكان ينتمى الى كيقباذ الملك، ولما بلغه دخول بشتاسف في المجوسية، وتركه دين آبائه غضب من ذلك غضبا شديدا، وقال: ترك دين آبائنا الذى توارثوه آخرا عن أول، وصبا الى دين محدث. ثم جمع اهل سجستان، فزين لهم خلع بشتاسف، وأظهروا عصيانه، فدعا بشتاسف ابنه اسفندياذ وكان أشد اهل عصره، فقال له: يا بنى، ان الملك مفض إليك وشيكا، ولا تصلح امورك كلها الا بقتل رستم، وقد عرفت شدته وقوته، وأنت نظيره في الشده والقوه، فانتخب من الجنود ما احببت، ثم سر اليه. فانتخب اسفندياذ من جنود ابيه اثنى عشر الف رجل من ابطال العجم، وسار نحو رستم، وزحف اليه رستم، فالتقيا ما بين بلاد سجستان وخراسان، فدعاه اسفندياذ الى اعفاء الجيشين من القتال، وان يبرز كل واحد منهما لصاحبه، فأيهما قتل صاحبه استولى على اصحابه، فرضى رستم بذلك، وعاهده عليه،   [1] رستم: بطل فارسي مشهور، افرد لبطولته في الشهنامه فصول تعتبر من اروع فصول الكتاب. [2] سجستان: ولايه واسعه، مدينتها ذربح، وبينها وبين هراة ثمانون فرسخا الى الجنوب، وأرضها رمله، والرياح فيها لا تسكن، وهي واقعة الان بين ايران وافغانستان وعاصمتها نصرتاباد، وفيها نشا رستم بطل ايران الاسطورى، وإليها ينسب ابو حاتم السجستانى اللغوى المعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وحالفه، فوقف العسكران، وخرج كل واحد منهما الى صاحبه، فاقتتلا بين الصفين، فيقول العجم في ذلك قولا كثيرا، الا ان رستم هو الذى قتل اسفندياذ، وانصرف جنوده الى ابيه بشتاسف، فاخبروه بمصاب ابنه اسفندياذ، فخامره حزن انهكه، فمرض من ذلك، فمات، واسند الملك الى ابن ابنه بهمن بن اسفندياذ. قالوا: ولما رجع رستم الى مستقره من ارض سجستان لم يلبث ان هلك. ملك اليمن قالوا: وان اهل اليمن لما بلغهم مهلك شمر وجنوده بأرض الصين اجتمعوا، فملكوا عليهم أبا مالك بن شمر، وهو الذى ذكره الأعشى في قوله: وخان النعيم أبا مالك ... واى امرئ صالح لم يخن وهو الذى يزعمون انه هلك في طرف الظلمه [1] التي في ناحيه الشمال، فدفن على طرفها. قالوا: وذلك، انه بلغه مسير ذي القرنين إليها، وانه اخرج منها جوهرا كثيرا، فتجهز يريد الدخول فيها، فقطع إليها ارض الروم، وجاوزها حتى انتهى الى طرف الظلمه، وتهيأ لاقتحامها، فمات قبل ان يدخلها، فدفن في طرفها، فانصرف من كان معه الى ارض اليمن. ملك العجم، وخلاص بنى إسرائيل قالوا: وملك بهمن بن اسفندياذ، فامر ببقايا ذلك السبى الذى سباهم بخت نصر من بنى إسرائيل، ان يردوا الى أوطانهم من ارض الشام، وقد كان تزوج قبل ان يفضى الملك اليه ابراخت بنت سامال بن ارخبعم بن سليمان بن داود، وملك روبيل أخا امراته ارض الشام، وامره ان يخرج معه من بقي من ذلك السبى، وان يعيد بناء إيليا، ويسكنهم فيه، كما لم يزالوا، ويرد كرسي سليمان،   [1] الارض التي في شمال البحر الأسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فينصبه مكانه، فخرج روبيل بذلك السبى، حتى ورد بهم إيليا، واعاد بناءها، وبنى المسجد. وسار بهمن الى سجستان، وقتل من قدر عليه من ولد رستم واهل بيته، واخرب قريته. قالوا: وقد كان بهمن دخل في دين بنى إسرائيل، فرفضه أخيرا، ورجع الى المجوسية، وتزوج ابنته خمانى وكانت اجمل اهل عصرها، فادركه الموت وهي حامل منه، فامر بالتاج فوضع على بطنها، واوعز الى عظماء اهل المملكة ان ينقادوا لأمرها حتى تضع ما في بطنها، فان كان غلاما أقروا الملك في يدها الى ان يشب ويدرك، ويبلغ ثلاثين سنه، فيسلم له الملك. قالوا: وكان ساسان بن بهمن يومئذ رجلا ذا رواء وعقل وادب وفضل، وهو ابو ملوك الفرس من الاكاسره، ولذلك يقال لهم الساسانيه، فلم يشك الناس ان الملك يفضى اليه بعد ابيه، فلما جعل أبوه الملك لابنته خمانى انف من ذلك أنفا شديدا، فانطلق، فاقتنى غنما، وصار مع الأكراد في الجبل، يقوم عليها بنفسه، وفارق الحاضره غيظا من تقصير ابيه. قالوا: فمن ثم يعير ولد ساسان الى اليوم برعي الغنم، فيقال ساسان الكردى، وساسان الراعى. خمانى زوج بهمن فملكت خمانى، فلما تم حملها وضعت غلاما، وهو دارا بن بهمن ، ثم انها تجهزت غازية لارض الروم، فسارت حتى اوغلت في بلاد الروم، وخرج إليها ملك الروم في جنوده، فالتقوا، واقتتلوا، فكان الظفر لخمانى، فقتلت، واسرت، وغنمت، فقفلت وقد حملت معها بناءين من بنائى الروم، فبنوا لها بأرض فارس ثلاثة ايوانات [1] : أحدها وسط مدينه اصطخر [2] ، والثانى على المدرجة   [1] جمع ايوان، وهو البناء ذو الصفة العظيمه. [2] عاصمه إيالة فارس، وفيها نشا بعض علماء المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 التي يسلك فيها من اصطخر الى خراسان، والثالث على طريق دارابجرد على فرسخين من اصطخر. دارا بن بهمن فلما اتى لابنها دارا ثلاثون سنه جمعت عظماء المملكة، ودعت بابنها دارا، فأقعدته على سرير الملك، وتوجته بالتاج، وولته الأمر. ملك تبع بن ابى مالك قالوا: ولما هلك ابو مالك بطرف الظلمه اجتمع اشراف اهل اليمن، فملكوا امرهم ابنه تبع الاقران وانما سمى لنجدته تبع الاقران، وقد قيل: بل هو تبع الاقرن. كل ذلك يقال. فلما ملك تجهز يريد بلاد الصين طالبا بثار ابيه وجده، فسار إليها، فمر بسمرقند، وهي خراب، فامر ببنائها، فاعيد، ثم ركب المفازة حتى انتهى الى بلاد التبت [1] ، فراى مكانا واسعا ظاهر المياه مكتلئا، فابتنى هناك مدينه، فاسكن فيها ثلاثين الف رجل من اصحابه، فهم التبعيون، وزيهم الى اليوم زي العرب، وهيئتهم هيئة العرب، ثم سار الى ارض الصين، فقتل، واخرب مدينه الملك، فهى خراب الى اليوم، ثم قفل راجعا الى اليمن، وامتد ملكه، الى ان ملك الاسكندر، فخرج الملك عنه، فصار في المقاول. قالوا، وفي ذلك العصر نشا النضر بن كنانه. دارا والروم قالوا: وان دارا بن بهمن لما ملك تجهز غازيا الى ارض الروم، فسار حتى اوغل في ارضهم، فخرج اليه الفيلفوس ملك الروم في جنوده، فالتقوا،   [1] التبت: سطح مرتفع في آسيا الوسطى تقع بين خطى عرض 27 درجه، 37 درجه شمالا، وبين خطى طول 76 درجه 96 درجه شرقا، وعاصمتها لهاسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فاقتتلوا، فكان الظفر لدارا، فصالحه الفيلفوس على اتاوه يؤديها اليه كل عام، وهي مائه الف بيضه ذهب، في كل بيضه اربعون مثقالا [1] ، وتزوج ابنته، ثم انصرف الى فارس. ملك داريوش فلما تم لدارا اثنتا عشره سنه في الملك حضرته الوفاة، فاسند الملك الى ابنه دارا بن دارا، وهو الذى يعرف بداريوش، مقارع الاسكندر، فلما افضى الملك الى دارا بن دارا تجبر، واستكبر، وطغى. وكانت نسخه كتبه الى عماله: من دارا بن دارا المضيء لأهل مملكته كالشمس الى فلان. وكان عظيم السلطان، كثير الجنود، لم يبق في عصره ملك من ملوك الارض الا بخع له بالطاعة، واتقاه بالاتاوه. نشاه الاسكندر ونشا الاسكندر، وقد اختلف العلماء في نسبه، فاما اهل فارس فيزعمون انه لم يكن ابن الفيلفوس، ولكن كان ابن ابنته، وان أباه دارا بن بهمن. قالوا: وذلك ان دارا بن بهمن لما غزا ارض الروم صالح الفيلفوس ملك الروم على الاتاوه، فخطب اليه دارا ابنته، وحملها بعد تزويجها اياه الى وطنه، فلما اراد مباشرتها وجد منها ذفرا [2] ، فعافها، وردها الى قيمه نسائه، وامرها ان تحتال لذلك الذفر، فعالجتها القيمه بحشيشه، تسمى السندر، فذهب عنها بعض تلك الرائحة، ودعا بها دارا، فوجد منها رائحه السندر، فقال: آل سندر. اى ما أشد رائحه السندر، وآل، كلمه في لغة فارس يراد بها الشده، وواقعها، فعلقت منه، ونبا قلبه عنها لتلك الذفره التي كانت بها، فردها الى أبيها   [1] المثقال: درهم وثلاثة اسباع الدرهم. [2] الذفر: الريح النتنه الكريهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الفيلفوس، فولدت الاسكندر، فاشتقت له اسما من اسم تلك العشبه التي عولجت بها، على ما سمعت دارا قاله ليله واقعها، فنشأ الاسكندر غلاما لبيبا أديبا ذهنا، فولاه جده الفيلفوس جميع امره لما راى من حزمه وضبطه ما راى. ولما حضر الفيلفوس الوفاة اسند الملك اليه، واوعز الى عظماء المملكة بالسمع والطاعة له. غلبه الاسكندر فلما ملك الاسكندر لم تكن له همه الا ملك ابيه دارا بن بهمن، فسار الى أخيه دارا بن دارا، فحاربه على الملك. واما علماء الروم فيأبون هذا، ويزعمون انه ابن الفيلفوس لصلبه، وانه لما مات الفيلفوس وافضى الملك الى الاسكندر امتنع على دارا بن دارا بتلك الضريبه التي كان يؤديها أبوه اليه. فكتب اليه دارا بن دارا يأمره بحمل تلك الاتاوه، ويعلمه ما كان بين ابيه وبينه من الموادعة عليها، فكتب اليه الاسكندر ان الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض ماتت. فغضب دارا من ذلك، وآلى ليغزون ارض الروم بنفسه حتى يخربها، فلم يحفل الاسكندر بذلك، ولم يعبأ به، وكان الاسكندر جبارا معجبا، وقد كان عتا في بدء امره عتوا شديدا، واستكبر. وكان بأرض الروم رجل من بقايا الصالحين في ذلك العصر، حكيم فيلسوف، يسمى ارسطاطاليس، يوحد الله، ويؤمن به، ولا يشرك به شيئا، فلما بلغه عتو الاسكندر وفظاظته وسوء سيرته اقبل من أقاصي ارض الروم حتى انتهى الى مدينه الاسكندر، فدخل عليه، وعنده بطارقته [1] ، ورؤساء اهل مملكته، فمثل قائما بين يديه غير هائب له، فقال له: ايها الجبار العاتي، الا تخاف ربك الذى خلقك، فسواك وانعم عليك، ولا تعتبر بالجبابره الذين كانوا قبلك، كيف اهلكهم الله حين قل شكر هم، واشتد عتوهم ... ؟!. في موعظه طويله.   [1] البطارقه: جمع بطريق، وهو الحاذق بالحرب وأمورها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فلما سمع الاسكندر ذلك غضب عضبا شديدا، وهم به، ثم امر بحبسه ليجعله عظه لأهل مملكته. ثم ان الاسكندر راجع نفسه، وتدبر كلامه لما اراد الله به من الخير، فوقع منه في نفسه ما غير قلبه، فبعث اليه على خلاء، فاصغى اليه، واستمع لموعظته وامثاله وعبره، وعلم ان ما قال هو الحق، وان ما خلا الله من معبود باطل، فارعوى واستجاب للحق، وصح يقينه، فقال لذلك العابد: فانى اسالك ان تلزمنى، لاقتبس من علمك، واستضيء بنور معرفتك. فقال له: ان كنت تريد ذلك فاحسم اتباعك من الغشم والظلم وارتكاب المحارم. فتقدم الاسكندر بذلك، واوعد فيه، وجمع اهل مملكته ورؤساء جنوده، فقال لهم: اعلموا انا انما كنا نعبد الى هذا اليوم أصناما، لم تكن تنفعنا ولا تضرنا. وانى آمركم، فلا تردوا على امرى، وارضى لكم ما ارضاه لنفسي، من عباده الله وحده لا شريك له، وخلع ما كنا نعبده من دونه، فقالوا باجمعهم: قد قبلنا قولك، وعلمنا ان ما قلت الحق، وآمنا بإلهك وإلهنا. فلما صحت له نيات خاصته، واستقامت له طريقتهم، وطابقوه على الحق امر ان يعلن للعامه، انا قد امرنا بالأصنام التي كنتم تعبدونها ان تكسر، فان ظننتم انها تنفعكم او تضركم فلتدفع عن أنفسها ما يحل بها، واعلموا انه ليس لأحد عندي هواده في مخالفه امرى، وعباده غير الهى، وهو الإله الذى خلقنا جميعا. ثم امر بتفريق الكتب بذلك في شرق الارض، وغربها، ليعامل الناس على قدر القبول والآباء، فمضت رسله بكتبه بذلك الى ملوك الارض. فلما انتهى كتابه الى دارا بن دارا غضب من ذلك غضبا شديدا، وكتب اليه: من دارا بن دارا المضيء لأهل مملكته كالشمس الى الاسكندر بن الفيلفوس، انه قد كان بيننا وبين الفيلفوس عهد ومهادنة على ضريبه، لم يزل يؤديها إلينا ايام حياته، فإذا أتاك كتابي هذا فلا اعلمن ما بطات بها، فاذيقك وبال امرك، ثم لا اقبل عذرك، والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 دارا والاسكندر فلما ورد كتابه على الاسكندر جمع اليه جنوده، وخرج متوجها نحو ارض العراق، وبلغ ذلك دارا بن دارا، فاحرز خزائنه وحرمه واولاده في حصن همذان، وكان من بنائه، ثم لقى الاسكندر جادا مستنفرا، فواقعه وقائع كثيره، لم يجد الاسكندر مطمعا فيه، ولا في شيء منها، ثم انه دس الى رجلين من اهل همذان، كانا من بطانته وخاصه حرسه، وارغبهما، فرغبا، وغدرا بدارا: اتياه من ورائه حين صاف الاسكندر في بعض ايامه، ففتكا به، وانفضت جموع دارا، واقبل الاسكندر حتى وقف على دارا صريعا، فنزل، فجعل راسه في حجره، وبه رمق، فجزع عليه، وقال: يا أخي، ان سلمت من مصرعك خليت بينك وبين ملكك، فاعهد الى بما احببت، أف لك به. فقال دارا: اعتبر بي [1] ، كيف كنت أمس، وكيف انا اليوم، الست الذى كان يهابنى الملوك، ويذعنون لي بالطاعة، ويتقوننى بالاتاوه؟ وها انا ذا اليوم صريع فريد بعد الجنود الكثيره والسلطان العظيم. فقال الاسكندر: ان المقادير لا تهاب ملكا لثروته، ولا تحقر فقيرا لفاقته، وانما الدنيا ظل يزول وشيكا، وينصرم سريعا. قال دارا: قد علمت ان كل شيء بقضاء الله وقدره، وان كل شيء سواه فان، وانا موصيك لمن خلفت من اهلى وولدى، وسائلك ان تتزوج روشنك ابنتى، فقد كانت قره عيني وثمره قلبي. فقال الاسكندر: انا فاعل ذلك، فأخبرني من فعل هذا بك، لانتقم منه. فلم يحر في ذلك جوابا دارا، واعتقل لسانه بعد ذلك، ثم قضى، فامر الاسكندر بقاتليه، فصلبا على قبر دارا، فقالا: ايها الملك، الم تزعم انك ترفعنا على جنودك؟! قال: قد فعلت.   [1] اعتبر بي: اعتبرنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثم امر بهما، فرجما حتى ماتا. ثم كتب الى أم دارا وامراته بالتعزية، وهما بمدينه همذان، وكتب الى أمه وهي بالإسكندرية ان تسير الى ارض بابل، فتجهز روشنك بنت دارا باحسن جهاز، وتوجهها اليه الى ارض فارس، ففعلت. فتوح الاسكندر ثم شخص الاسكندر نحو فؤر ملك الهند، فالتقيا على تخوم [1] ارض الهند، وان الاسكندر دعا فؤرا الى البراز، والا يقتل الجمعان، بعضهم بعضا بينهما، فاهتبلها [2] منه فؤر، وكان رجلا مديدا عظيما ايدا قويا، فراى الاسكندر قليلا قضيفا [3] ، وبرز اليه، فأجلى النقع عن فؤر قتيلا، واستسلم له جنوده، فقبل سلمهم. وسار حتى دخل ارض السودان، فراى ناسا كالغربان، عراه، حفاه، يهيمون في الغياض، ويأكلون من الثمار، فان استنوا [4] واجدبوا اكل بعضهم بعضا، فجاوزهم حتى انتهى الى البحر، فقطع الى ساحل عدن من ارض اليمن، فخرج اليه تبع الاقرن ملك اليمن، فاذعن له بالطاعة، واقر بالاتاوه، وادخله مدينه صنعاء، فانزله، والطف له [5] من الطاف اليمن، فأقام شهرا. الاسكندر في مكة ثم سار الى تهامه، وسكان مكة يومئذ خزاعة، قد غلبوا عليها، فدخل عليه النضر بن كنانه، فقال له الاسكندر: ما بال هذا الحى من خزاعة نزولا بهذا   [1] التخوم: الفصل بين الارضين من الحدود والمعالم. [2] الاهتبال: الاغتنام. [3] القضف: النحافة. [4] أصابتهم سنتهم بالجفاف وقله الغلة. [5] الطف له، والطفه، احسن اليه وبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الحرم؟، ثم اخرج خزاعة عن مكة، واخلصه للنضر، ولبنى ابيه، وحج الاسكندر بيت الله الحرام، وفرق في ولد معد بن عدنان، القاطنين بالحرم، صلات وجوائز. ثم قطع البحر من جده يؤم بلاد المغرب. الاسكندر في بلاد المغرب وروى عن ابن عباس: ان نوحا ع قسم الارض بين ولده الثلاثة، فخص ساما بوسط الارض التي تسقيه الانهار الخمسة: الفرات، ودجلة، وسيحان، وجيحان، [1] ، وقيسون، وهو نهر بلخ، وجعل لحام ما وراء النيل الى منفح الدبور، وجعل ليافث ما وراء قيسون الى منفح الصبا. وقالوا: الارض اربعه وعشرون الف فرسخ، فبلاد الاتراك من ذلك ثلاثة آلاف فرسخ، وارض الخزر [2] ثلاثة آلاف فرسخ، وارض الصين ألفا فرسخ، وارض الهند والسند والحبشه وسائر السودان سته آلاف فرسخ، وارض الروم ثلاثة آلاف فرسخ، وارض الصقالبه ثلاثة آلاف فرسخ، وارض كنعان، وهي مصر، وما وراءها مثل إفريقية، وطنجه، وفرنجه، والاندلس ثلاثة آلاف فرسخ، وجزيرة العرب وما والاها الف فرسخ. قالوا: وبلغ الاسكندر امر قنداقه ملكه المغرب، وسعه بلادها، وخصب أرضها وعظم ملكها، وان مدينتها اربعه فراسخ، وان طول الحجر الواحد من سور مدينتها ستون ذراعا. واخبر عن حال قنداقه وعقلها وحزمها، فكتب إليها: من الاسكندر بن الفيلفوس الملك المسلط على ملوك الارض الى قنداقه ملكه سمره، اما بعد، فقد بلغك ما أفاء الله على به من البلاد، وأعطاني من العد   [1] سيحان وجيحان: نهران بأرض الاناضول قرب طرسوس. [2] الارض المحيطة ببحر قزوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 والنصره، فان سمعت، واطعت، وآمنت بالله، وخلعت الأنداد التي تعبد من دون الله، وحملت الى وظيفه الخراج، قبلت منك وكففت عنك، وتنكبت أرضك، وان أبيت ذلك سرت إليك، ولا قوه الا بالله. فكتبت اليه: ان الذى حملك على ما كتبت به فرط بغيك، وعجبك بنفسك، فإذا شئت ان تسير فسر، تذق غير ما ذقت من غيرى، والسلام. فلما رجع جواب كتابه ارسل إليها بملك مصر، وكان في طاعته، ليدعوها الى الطاعة، وينذرها وبال المعصية، فسار إليها في مائه رجل من خاصته، فلم يجد عندها ما يحب، فرجع الى الاسكندر، فاعلمه، فتجهز الاسكندر إليها، ومضى في جنوده، حتى انتهى الى مدينه القيروان [1] وهي من مصر على شهر فافتتحها بالمجانيق [2] ، ثم سار الى القنداقه، فكانت له ولها قصص وأنباء، فعاهدها على الموادعة والمسالمه، والا يطور بسلطانها وشيء مما في مملكتها. ثم سار من هناك قاصدا الظلمه التي في الشمال، حتى دخلها، فسار فيها ما شاء الله، ثم انكفأ راجعا حتى إذا صار في تخوم ارض الروم ابتنى هناك مدينتين، يقال لإحداهما، قافونية، وللأخرى سوريه. الاسكندر وبلاد الشرق الأقصى ثم هم بالاجتياز الى ارض المشرق، فقال له وزراؤه: كيف يمكنك الاجتياز الى مطلع الشمس من هذه الجهة، ودون ذلك البحر الأخضر، ولا تعمل فيه السفن، لان ماءه شبيه بالقيح، ولا يصبر على نتن ريحه احد؟ فقال: لا بد من المسير، ولو لم اسر الا وحدي. قالوا: نحن معك حيث سرت. فسار حتى قطع ارض الروم، يؤم مشرق الشمس، ثم جاوزهم   [1] مدينه بتونس بناها عقبه بن نافع سنه 55 هـ. واتخذت عاصمه لبلاد المغرب، وبها جوامع كثيره. [2] جمع منجنيق، لفظه معربه من الفارسيه، وهو آله للحرب، ترمى بها الحجاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الى ارض الصقالبه، فأذعنوا له بالطاعة، فجازهم الى ارض الخزر، فأذعنوا له، فجازهم الى ارض الترك، فأذعنوا له، فسار في ارضهم حتى بلغ المفازة التي بينهم وبين بلاد الصين، فركبها، وسار، حتى إذا قرب من ارض الصين اجلس وزيرا له يقال له فيناوس في مجلسه، وامره ان يتسمى باسمه، وتسمى هو فيناوس، وقصد الملك حتى وصل اليه، فلما دخل عليه قال له: من أنت؟ قال: انا رسول الاسكندر، المسلط على ملوك الارض، قال: واين خلفته؟، قال: على تخوم أرضك، قال: وبماذا ارسلك؟، قال: أرسلني لانطلق بك اليه، فان اجبت اقرك في أرضك، واحسن حباءك [1] ، وان أبيت قتلك، واخرب أرضك، فان كنت جاهلا بما اقول، فسل عن دارا بن دارا ملك ايران شهر، هل كان في الارض ملك اعظم ملكا منه، واكثر جنودا، واقوى سلطانا، وكيف سار اليه، واغتصبه نفسه، وسلبه ملكه، وسل عن فؤر ملك الهند الى ما آل امره. قال ملك الصين: يا فيناوس، انه قد بلغنى امر هذا الرجل، وما اعطى من النصر والظفر، وكنت على توجيه وفد اليه، اساله الموادعة، واصالحه على الهدنة، فابلغه، انى له على السمع والطاعة، وأداء الاتاوه في كل عام، فليست به حاجه الى دخول ارضى. ثم بعث اليه بتاجه، وبهدايا من تحف ارضه، من السمور [2] والقاقم، والخز، والحرير الصيني، والسيوف الهندية، والسروج الصينية، والمسك، والعنبر، وصحاف الذهب والفضه، والدروع، والسواعد، والبيض [3] ، فقبض ذلك الاسكندر.   [1] الحباء: العطاء. [2] السمور: حيوان يشبه الثعلب يتخذ من فروه بعض اللباس. [3] البيض جمع بيضه، نوع من السلاح، وابتاض الرجل: لبس البيضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 يأجوج وماجوج وسار راجعا الى عسكره، وتنكب ارض الصين، وسار الى الامه التي قص الله جل ثناؤه قصتها ف قالُوا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فكان من قصته وبنائه الردم ما قد اخبر الله به في كتابه [1] ، فسألهم عن اجناس تلك الأمم، فقالوا: نحن نسمى لك من بالقرب منا منهم، فاما ما سوى ذلك، فلا نعرفه، هم يأجوج وماجوج، وتاويل وتاريس، ومنسك وكمارى. فلما فرغ من بناء السد بينهم وبين تلك الأمم رحل عنهم، فوقع الى أمه من الناس، حمر الألوان، صهب الشعور، رجالهم معتزلون عن نسائهم، لا يجتمعون الا ثلاثة ايام في كل عام، فمن اراد منهم التزويج، فإنما يتزوج في تلك الثلاثة الأيام، وإذا ولدت المرأة ذكرا، وفطمته دفعته الى ابيه في تلك الثلاثة الأيام، وان كانت أنثى حبستها عندها، فارتحل عنهم، وسار حتى صار الى فرغانه [2] فراى قوما لهم اجسام وجمال، فأعطوه الطاعة، فسار من فرغانه الى سمرقند، فنزلها واقام شهرا، ثم رحل، فسلك على بخارى [3] ، حتى انتهى الى النهر العظيم، فعبره في السفن الى مدينه آمويه، وهي آمل خراسان، ثم سلك المفازة حتى خرج الى ارض قد غلب عليها الماء، فصارت آجاما ومروجا، فامر بتلك المياه، فسدت عنها حتى جفت الارض، فابتنى هناك مدينه، واسكنها قطانا، وجعل لها رساتيق، وقرى، وحصونا، وسماها مر خانوس، وهي مدينه مرو [4] ، وتسمى   [1] سوره الكهف، الآية رقم 94. [2] إيالة كبيره في تركستان، وصلت فيها العلوم والمعارف الى اقصى حد من الرقى، ابان العهد الإسلامي بها، وظهر منها علماء وأدباء كثيرون، وقد احتلها الروس سنه 1876 م. [3] مدينه من اعظم المدن في آسيا الوسطى، وهي مركز هام للتجارة بين الصين والهند والافغان وروسيا، ولها نشاط كبير في العلم والصناعة والأسلحة، وقد فتحها العرب في عهد معاويه سنه 55 هـ. [4] اشهر مدن خراسان، بينها وبين نيسابور سبعون فرسخا، ومعنى لفظ مرو الحجاره البيض التي يقتدح بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أيضا ميلانوس، ثم اجتاز بنيسابور، وطوس حتى وافى الري [1] ، ولم تكن ايامئذ، وانما بنيت بعد ذلك في ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، ثم اجتاز من هناك على الجبل، وحلوان [2] ، حتى وافى العراق، فنزل المدينة العتيقة التي تسمى طيسفون [3] ، فأقام حولا، ثم سار يريد الشام حتى اتى بيت المقدس. ملوك الطوائف فلما اطمان بها، قال لمؤدبه ارسطاطاليس: انى قد وترت اهل الارض جميعا لقتلى ملوكهم، واحتوائى على بلدانهم وأخذي أموالهم، وقد خفت ان يتضافروا على اهل ارضى من بعدي، فيقتلونهم ويبيدونهم لحنقهم على، وقد رايت ان ارسل الى كل نبيه وشريف، ومن كان من اهل الرياسة في كل ارض، والى أبناء الملوك فاقتلهم. فقال له مؤدبه: ليس ذاك راى اهل الورع والدين، مع انك ان قتلت أبناء الملوك واهل النباهة والرياسة كان الناس عليك، وعلى اهل أرضك أشد حنقا من بعدك، ولكن لو بعثت الى أبناء الملوك واهل النباهة فتجمعهم إليك، فتتوجهم بالتيجان، وتملك كل رجل منهم كوره [4] واحده، وبلدا واحدا، فإنك تشغلهم بذلك، بتنافسهم في الملك، وحرص كل واحد على أخذ ما في   [1] الري: مدينه من اشهر مدن ايران، واقدمها، وهي واقعه في اقصى شمال عراق العجم، وقد كانت عاصمه السلجوقيين، وفتحها عروه بن زيد الخيل ايام الخليفة عمر بن الخطاب سنه 20 بأمر والى الكوفه عمار بن ياسر، وقد نشا فيها علماء كثيرون. [2] حلوان من المدن المشهوره بالعراق، وتقع على بعد 160 ك. م. شمال شرقى بغداد، وقد كانت حلوان معمورة ايام الاكاسره، وفتحها هاشم بن عتبة بن ابى وقاص في عهد عمر بن الخطاب، وهي مسقط راس بعض العلماء. [3] ذكر الجغرافيون انها كانت تقع على بعد ثلاثة فراسخ من بغداد، وقد كان بها قصر لكسرى، ويذكرها الاوربيون باسم اكتسيفون. [4] الكورة: الصقع والمدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 يدي صاحبه، عن اهلاك بلادك، فتلقى بأسهم بينهم، وتجعل شغلهم بانفسهم، فقبل الاسكندر ذلك منه، وفعله، وهم الذين يقال لهم ملوك الطوائف. نهاية الاسكندر ثم هلك الاسكندر ببيت المقدس، وقد ملك ثلاثين سنه، جال الارض منها أربعا وعشرين سنه، واقام بالإسكندرية في مبتدإ امره ثلاث سنين، وبالشام عند انصرافه ثلاث سنين، فجعل في تابوت من ذهب، وحمل الى الاسكندرية. وبنى الاسكندر [1] اثنتى عشره مدينه، الإسكندرية بأرض مصر، ومدينه نجران بأرض العرب، ومدينه مرو بأرض خراسان، ومدينه جى بأرض أصبهان، ومدينه على شاطئ البحر تدعى صيدودا، ومدينه بأرض الهند تدعى جروين، ومدينه بأرض الصين تدعى قرنيه، وسائر ذلك بأرض الروم. قالوا: ولما توفى الاسكندر حمى كل رجل من أولئك الذين ملكهم حيزه [2] ، ودفعوا الحرب، فلم يكن يغلب احدهم صاحبه الا بالحكمه والآداب، يتراسلون بالمسائل، فان أصاب المسئول حمل اليه السائل، وان بغى احد منهم على الآخر، وانتقصه شيئا من حيزه أنكروا جميعا ذلك عليه، فان تمادى اجمعوا على حربه، فسموا بذلك ملوك الطوائف. ملوك اليمن وزعموا ان الملوك الأربعة [3] ، الذين لعنهم النبي ص، ولعن أختهم ابضعه، لما هموا بنقل الحجر الأسود الى صنعاء ليقطعوا حج العرب عن البيت الحرام الى صنعاء، وتوجهوا لذلك الى مكة، فاجتمعت كنانه الى فهر بن مالك ابن النضر، فلقيهم، فقاتلهم، فقتل ابن لفهر، يسمى الحارثة، لم يعقب،   [1] بياض في الأصل. [2] نواحي بلاده. [3] ملوك كنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، واسر الرابع، فلم يزل مأسورا عند فهر بن مالك حتى مات. واما ابضعه، فهى التي يقال لها العنقفير، ملكت بعد إخوتها باخبث سيره، كانت تتخير الرجال على عينها، فمن أعجبها دعته الى نفسها، فوقع بها، لا يقدر احد ان ينكر عليها، وانها ابصرت فتى من قيس، فأعجبها، فدعته الى نفسها، فوقع بها، فالقحها غلامين في بطن، فسمت أحدهما سهلا، والآخر عوفا، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء قيس: وذي تومه في اذنه وضفيرة ... وسيم جميل لا يخيل مخايله إذا ما رأته قيلة حميرية ... تجر له حبل الشموس تهازله قالوا: وكان ذو الشنائر ملك عنس ويحاير [1] ، وكان عظيم الملك، كثير الجنود، وكان ملكه على عمان، والبحرين، واليمامه، وسواحل البحر. ملك اردوان بن اشه قالوا: ولم يكن في ملوك الطوائف الذين كانوا بأرض العجم ملك اعظم ملكا، ولا اكثر جنودا من اردوان بن اشه بن اشغان ملك الجبل، كان اليه الماهان وهمذان، وماسبذان، ومهرجانقذق، وحلوان [2] ، وسائر الملوك انما كان يكون الى الرجل منهم كوره واحده وبلد واحد. وكان الملك منهم إذا مات قام بالملك بعده ابنه او حميمه، وكان جميع ملوك الطوائف يقرون لاردوان ملك الجبل بفضله، لاختصاص الاسكندر اياه دونهم بفضل الملك، وكان مسكنه بمدينه نهاوند [3] العتيقة. قالوا: وفي ذلك العصر بعث المسيح عيسى بن مريم ع.   [1] قبيلتان يمنيتان. [2] مدن بأرض فارس، وبالعراق العجمي. [3] بلد من بلاد الجبل، جنوبى همذان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 اسعد بن عمرو قالوا: وان اسعد بن عمرو بن ربيعه بن مالك بن صبح بن عبد الله بن زيد بن ياسر ينعم الملك الذى ملك بعد سليمان بن داود، ص [1] ، لما نشا وبلغ، انف من ابتزاز قبائل ولد كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب الملك حمير، وكان الملك لهم، وفي عصرهم، فجمع اليه حمير، وذلك بعد ان ملكت المقاول بأرض اليمن، فكانوا سبعه ملوك، توارثوا الملك مائتين وخمسين سنه، فسار الى ملك همذان، فحاربه، فظفر به، ثم سار الى ملك عنس ويحاير، ففعل به مثل ذلك، واتى ملك كنده، واعطى الظفر حتى اجتمع له ملك جميع ارض اليمن. فلما اجتمع لاسعد الملك وجه ابن عمه القيطون بن سعد الى تهامه والحجاز، وجعله ملكا عليها، فنزل يثرب، فاعتدى وتجبر، حتى امر ان لا تهدى امراه الى زوجها حتى يبدءوه بها، وسلك في ذلك مسلك عمليق، ملك طسم وجديس، الى ان زوجت اخت لمالك بن العجلان من الرضاعه، فلما أرادوا ان يذهبوا بها الى القيطون اندس معها مالك بن العجلان متنكرا، فلما خلاله البيت عدا عليه بسيفه، فقتله، وعدوا على اصحابه، فقتلوا اجمعين، وبلغ ذلك اسعد الملك، فسار اليهم، فنزل بالمدينة على نهر يسمى، بئر الملك، فكان من قصته ما هو مشهور، قد كتبناه في غير هذا الموضع. بعثه عيسى الرسول قالوا: ولما ابتعث الله عيسى بن مريم، فاقبلت اليهود لتقتله، فرفعه الله اليه، أتوا يحيى بن زكرياء، فقتلوه، فسلط الله عليهم ملكا من ملوك الطوائف من ولد بخت نصر الاول [2] ، فقتل بنى إسرائيل، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ.   [1] كذا في الأصل. [2] بخت نصر هو ملك الكلدانيين، وقد ملك عرش بابل من 747- 733 ق. م، ويبدأ به تقويم بطلميوس، ويذكر البيرونى ان الصيغه الفارسيه لاسم بخت نصر هي بخت نرس، ومعناها كثره البكاء والأنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أردشير بن بابك قالوا: فلما تم لملوك الطوائف مائتا سنه، وست وستون سنه ظهر أردشير ابن بابكان، وهو أردشير بن بابك بن ساسان الاصغر بن فافك بن مهريس ابن ساسان الاكبر بن بهمن الملك بن اسفندياذ بن بشتاسف، فظهر بمدينه اصطخر، فدب في رد ملك فارس في نصابه، واتسقت له الأمور، فلم يزل يغلب ملكا، ويقتل ملكا، ويحتوى على ما تحت يده، حتى انتهى الى فرخان ملك الجبل، وكان آخر ملك من ولد اردوان، فكتب اليه أردشير، بالدخول في طاعته، فلما أتاه كتابه امتلا غيظا، وقال لرسله: لقد ارتقى ابن ساسان الراعى مرتقى وعرا، ولم يحفل به، وكتب اليه: ان الميعاد بيني وبينك صحراء الهرمزدجان في سلخ مهر ماه [1] ، فسبق أردشير الى المكان، فوافاه فرخان في سلخ مهر ماه، فاقتتلوا، فقتله أردشير، وسار من فوره حتى ورد مدينه نهاوند، فنزل قصر الفرخان، فأقام شهرا، ثم سار الى الري، ثم الى خراسان، لا ياتى حيزا الا أذعن له ملكه بالطاعة، ثم سار الى سجستان، ثم الى كرمان [2] ، ثم سار الى فارس [3] ، فنزل مدينه اصطخر، فأقام حولا، ثم سار نحو العراق، فتلقاه من كان بها من ملوك الطوائف بالاهواز، فقاتلهم، فقتلهم،   [1] شهر من شهور السنه الشمسيه الجلالية، ووقته من 21 سبتمتر الى 21 اكتوبر. [2] كرمان: ولايه مشهوره وناحيه كبيره معمورة ذات بلاد وقرى ومدن واسعه بين فارس وسجستان وخراسان. [3] فارس: إيالة من إيالات ايران، وهي أكثرها عماره، يحدها من الجنوب الغربي بحر فارس ومن الغرب ومن الشمال عراق العجم ومن الشرق والجنوب الشرقى إيالة كرمان، وقد كانت فارس مركزا للدولة الايرانيه القديمه، ثم اصبحت عاصمه لدولة الكيانية منذ عهد كيخسرو، وبعد فتوح الاسكندر فقدت فارس مركزها كعاصمه، ولكنها عادت ثانيه الى مركزها الاول بعد تأسيس الدولة الساسانيه، إذ اختار أردشير مؤسس الدولة الساسانيه مدينه اصطخر، وهي عاصمه فارس، عاصمه له ولدولته. وقد فتح المسلمون فارس ايام عمر بن الخطاب، واستمرت فتوحاتهم بها الى عهد عثمان بن عفان، ولما أصيبت مدينه اصطخر بالخراب، صارت عاصمه فارس مدينه شيروز الى ان انتقلت العاصمة الى مدينه طهران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ثم سار حتى عسكر بموضع المدائن اليوم، فاختطها، وبناها، فلما استوثق له الملك دعا بابنه أخ الفرخان، التي أخذها من قصر الفرخان بنهاوند،، وكانت ذات جمال ولب، وقد كان افضى إليها، وسالها من نسبها، فاخبرته، فقال لها: قد اسات حين أعلمتني، لانى اعطيت الله عهدا، ان أظهرني الله بالفرخان الا ادع من اهل بيته أحدا، ثم دعا ابرسام وزيره، فقال: انطلق بهذه الجاريه فاقتلها. فاخذ ابر سام بيد الجاريه، فأخرجها لينفذ فيها امره، فلما خرجت قالت لابرسام: انى حامل لاشهر، فلما قالت له ذلك انطلق بها الى منزله، وامر بالإحسان إليها، وقال لاردشير: قد قتلتها. وزعموا انه جب نفسه [1] ، وأخذ مذاكيره، فجعلها في حق [2] وختم عليه، واتى به أردشير، وساله ان يأمر بعض ثقاته باحرازه، فانه سيحتاج اليه يوما، فامر أردشير بالحق، فاحرز. ثم ان الجاريه ولدت غلاما كاجمل ما يكون من الغلمان، وهو سابور بن أردشير الذى ملك بعده، وان أردشير اقام بالعراق حولا، ثم سار الى الموصل، فقتل ملكها، ثم انصرف، وجعل يسير، فسار الى عمان والبحرين واليمامه، فخرج اليه سنطرق ملك البحرين، فحاربه، فقتله أردشير، وامر بمدينته، فاخربت. قالوا: وان ابرسام دخل على أردشير يوما، وهو مستخل وحده، مفكر مهموم، فقال: ايها الملك، عمرك الله، ما لي أراك مهموما حزينا، وقد أعطاك الله امنيتك، ورد الله إليك ملك آبائك، فأنت اليوم شاهان شاه. قال أردشير: ذاك الذى أحزنني، انى قد استحوذت على الارض، ودان لي جميع الملوك، وليس لي ولد، يرث ملكي الذى انصبت فيه نفسي. فلما سمع   [1] استأصل خصيتيه. [2] الحق والحقه بالضم: وعاء من خشب، والجمع حقق واحقاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ذلك ابرسام قال في نفسه: هذا وقت اظهار امر تلك المرأة الاشغانيه، وقد كان اتى على ابنها خمس سنين، فقال: ايها الملك، انى كنت استودعتك يوم أمرتني بقتل المرأة الاشغانيه حقا مختوما، وقد احتجت اليه، فمر باخراجه، فامر به أردشير، فاخرج اليه، ففتحه، وأراه أردشير، فإذا فيه مذاكيره، قد يبست في جوف الحق. فقال له أردشير: ما هذا؟ فاخبره الخبر، واعلمه حال الغلام، ففرح أردشير بذلك، ثم قال لابرسام: ائتنى بالغلام، واجعله ما بين مائه غلام من اقرانه، ففعل ابرسام ذلك. فلما ادخلهم عليه تأملهم غلاما غلاما، حتى إذا بلغ الى سابور راى تشابه ما بينه وبينه، فتحرك له قلبه، فامسك نفسه، ولم يكلمه، وامر بان يعطى الغلمان جميعا صوالجه [1] ، ويطرح لهم كره في الرحبه ليلعبوا بين يديه مقابل الإيوان، وقال لابرسام: احتل ان تقع الكره عندي في الإيوان، ففعل. ووقعت الكره على بساطه، فوقف جميع أولئك الغلمان على باب الإيوان، ولم يجترئ واحد منهم ان يدخل، فيتناول الكره من بين يديه الا الغلام، فانه اقتحم من بينهم على ابيه، فتناول الكره من بين يديه. فلما راى ذلك أردشير مد يده، فتناول الغلام، وضمه اليه، وقبله، وامر به وبامه ان ترد اليه، وهو سابور الذى ملك بعده، واكرم ابرسام، واقطعه القطائع الكثيره، وامر بان تصور صوره ابرسام على الدراهم والبسط حتى انقضى ملكهم. قالوا: وفي ملك أردشير بعث الله عيسى ع، ويزعمون انه بعث بأحد حوارييه الى أردشير، وانه جاء الى مدينه طيسفون، فنزل على ابرسام   [1] جمع صولجان: وهو العصا معقوفه الراس مثل المضرب تقذف به الكره، وكان ملوك الفرس يتخذونه من الذهب شعارا لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 فكان إذا امسى استسرج له سراج، فيصلى طول ليله، ويتلو الانجيل، فسأله ابرسام عن قصته ودينه، فاخبره انه رسول المسيح عيسى بن مريم، فأفضى ابرسام الخبر الى أردشير، فدعا به، فنظر الى سمته وهدوئه، وأراه الشيخ آيات من آيات المسيح، فلم يبعد عند أردشير، ولا هاجه بسوء. ملك الموصل وجرجيس قالوا: وفي زمان ملوك الطوائف كانت قصه جرجيس، واتيانه ملك الموصل، وكان جبارا متمردا، يعبد الأصنام، ويحمل الناس على عبادتها، وكان جرجيس من اهل الجزيرة، وكان من امره وامر ذلك الملك ما قد أتت به الاخبار. وكان أردشير هو الذى اكمل آيين [1] الملوك ورتب المراتب، واحكم السير، وتفقد صغير الأمر وكبيره، حتى وضع كل شيء من ذلك على موضعه، وعهد عهده المعروف الى الملوك، فكانوا يمتثلونه، ويلزمونه، ويتبركون بحفظه والعمل به، ويجعلونه درسهم ونصب اعينهم، وبنى من المدن ست مدائن، منها بأرض فارس مدينه أردشير خره، ومدينه رام أردشير ومدينه هرمزدان أردشير، وهي قصده الاهواز، ومدينه استاذ أردشير، وهي كرخ ميسان، ومدينه فوران أردشير، وهي التي بالبحرين، ومدينه بالموصل، تسمى خرزاد أردشير. ملكيكرب ملك اليمن قالوا: وملك بعد اسعد ملك اليمن، الذى كسا البيت ونحر عنده وطاف به وعظمه ابن عمه ملكيكرب بن عمرو بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو ذي الاذعار، فملك عشرين سنه لا يبرح بيته، ولا يغزو كما كانت الملوك قبله تفعله تحرجا من الدماء.   [1] آيين الملوك: دستورهم ونظامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ملك التبابعه ثم ملك بعده ابنه تبع بن ملكيكرب، وهو تبع الأخير، وكانت التبابعه ثلاثة، اولهم: شمر ابو كرب الذى غزا الصين، واخرب مدينه سمرقند، والثانى تبع اسعد الذى ذبح للبيت الحرام الذبائح، وعلق عليه باب ذهب، والثالث تبع بن ملكيكرب، ولم يسم غير هؤلاء الثلاثة من ملوك اليمن تبعا، وكان تبع هذا الأخير في عصر سابور بن أردشير، وفي عصر هرمز بن سابور، وكان تبع بن ملكيكرب كبير الشان عظيم السلطان، وهو الذى غزا بلاد الهند، فقتل ملكها، وهو من اولاد فؤر الملك الذى قتله الاسكندر، ثم انصرف الى اليمن، ومات في ملك بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير. ثم ملك من بعد تبع ابنه حسان بن تبع بن ملكيكرب، وهو الذى غزا ارض فارس فيما يزعمون، وهو الذى ضجرت الحميرية لكثرة غزوه بها، وقله مقامه بأرض اليمن، فزينوا لأخيه عمرو بن تبع قتله ليملكوه عليهم، فطابقوه جميعا على ذلك الا ذارعين فانه ابى ذلك، ولم يدخل فيه مع القوم، فعدا عمرو على أخيه، فقتله، وملك من بعده، وانصرف بقومه الى اليمن، فسلط الله عليهم السهر. سابور فلما ملك سابور بن أردشير غزا ارض الروم، فافتتح مدينه قالوقيه، ومدينه قبدوقيه، واثخن في الروم، ثم انصرف الى العراق، وسار الى ارض الاهواز ليرتاد مكانا يبنى فيه مدينه، يسكنها السبى الذى قدم بهم من ارض الروم، فبنى مدينه جنديسابور، واسمها بالخوزيه نيلاط، وأهلها يسمونها نيلاب، فكان سابور قد اسر اليريانوس خليفه صاحب الروم، فأمره ببناء قنطره على نهر تستر على ان يخليه، فوجه اليه ملك الروم ناسا من ارض الروم والأموال، فبناها، فلما فرغ منها اعتقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 مانى وفي زمان سابور ظهر مانى الزنديق [1] ، واغوى الناس، ومات سابور قبل ان يظفر به، وملك سابور احدى وثلاثين سنه. هرمز وافضى الملك بعده الى ابنه هرمز بن سابور، فاخذ مانى، فامر به، فسلخ جلده، وحشاه بالتبن، وعلقه على باب مدينه جنديسابور، فهو الى اليوم يدعى باب مانى، وتتبع اصحابه ومن استجاب له، فقتلهم جميعا، فملك ثلاثين سنه. اولاد هرمز واسند الملك الى ابنه بهرام بن هرمز، فملك سبع عشره سنه، ثم ملك ابنه بهرام بن بهرام، ثم ملك ابنه نرسى بن بهرام بن بهرام، فملك سبع سنين، ومات. فملك ابنه هرمزدان بن نرسى، فملك سبع سنين، ومات، ولم يكن له ولد يرثه الملك، غير ان امراته كانت حاملا لاشهر، فامر بالتاج، فوضع على بطنها، وتقدم الى عظماء اهل فارس الا يملكوا عليهم أحدا حتى ينظروا ما يولد له، فان كان ذكرا سموه سابور، وأقروه على الملك، ووكلوا به من يحضنه، ويقوم بأمر الملك الى إدراكه، وان كان أنثى اختاروا رجلا لأنفسهم من اهل بيته، فملكوه عليهم، فولدت المرأة ذكرا، وسموه سابور، وهو المنبوز [2] بذى الاكتاف.   [1] ولد حوالى سنه 240 م، وادعى انه النبي الموعود الذى جاء اسمه في ياراقليت، ودعا الناس الى مذهب جديد بين المسيحيه والزردشت، وقد قتل بأمر الملك بهرام سنه 274 م، ويطلق عليه بعض المؤرخين اسم مانى النقاش، وقد زعم مانى ان العالم مصنوع من اصلين: أحدهما نور، والآخر ظلمه، وهما أزليان. [2] النبز بالتحريك: اللقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 سابور ذو الاكتاف فشاع لما مات هرمزدان في اطراف الارضين انه ليس لارض فارس ملك، وانهم يلوذون بصبى في مهد، فطمعوا في مملكه فارس، فورد جمع عظيم من الاعراب من ناحيه البحرين وكاظمه [1] الى ابرشهر وسواحل أردشير خره، فشنوا بها الغارة، واتى بعض ملوك غسان على الجزيرة في جموع عظيمه حتى اغار على السواد، فمكثت مملكه فارس حينا لا يمتنعون من عدو لوهى امر الملك. فلما ترعرع الغلام كان أول ما ظهر من حزمه انه استيقظ ليله وهو نائم في قصره بمدينه طيسفون بضوضاء الناس لازدحامهم على جسر دجلة مقبلين ومدبرين، فقال: ما هذه الضوضاء؟، فاخبر، فقال: ليعقد لهم جسر آخر، يكون أحدهما لمن يقبل، والآخر لمن يدبر، ففعلوا، وتباشروا بما ظهر من فطنته مع طفوليته. فلما أتت له خمس عشره سنه تجرد لضبط الملك، ونفى العدو عنه، فتأهب، وسار الى ابرشهر، فطرد من كان صار إليها من الاعراب، وقتلهم اخبث قتله. وكذلك فعل بالجزيرة، فصار الى الضيزن الغساني، فحاصره في مدينته التي على شاطئ الفرات مما يلى الرقة [2] ، فزعموا ان ابنه الضيزن، واسمها مليكه، وزعموا ان أمها عمه سابور دختنوس ابنه نرسى، وان الضيزن كان سباها لما اغار على مدينه طيسفون، فاشرفت مليكه على عسكر سابور، وهو محاصر لأبيها، فرات سابور، فعشقته، فراسلته، على ان تدله على عوره أبيها، على ان يتزوجها، فوعدها سابور ذلك، ففعلت.   [1] موضع على البحر بينه وبين البصره مرحلتان. [2] اسم بلد، ومعناه كل ارض الى جنب واد ينبسط فيها الماء ايام المد، ثم ينحسر عنها فتعد للنبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فاسكرت بالحص [1] حرس احد الأبواب حتى ناموا، وامرت بفتح الباب، فدخل سابور وجنوده، فاخذ الضيزن، فقتله، وخلع اكتاف اصحابه، وخلاهم، وكذا كان يفعل بمن اسر من الأعداء، فبذلك سمى ذا الاكتاف. ووفى لابنته بما وعدها، ثم قتلها بعد: ربطها بين فرسين، واجراهما، فقطعاها، وقال لها: أنت إذا لم تصلحى لأبيك لا تصلحين لي. وامر سابور فبنيت له مدينه الأنبار [2] ، وسماها فيروز سابور، وكورها كوره، وبنى بالسوس [3] مدينه، وهي التي الى جانب الحصن، الذى يسمى سادانيال الذى كان فيه جسد دانيال ع. الروم وسابور قالوا: وكان ملك الروم في ذلك العصر مانوس وكان يدين فيما ذكروا قبل ان يملك دين النصرانية، فلما ملك اظهر مله الروم الاولى، وأحياها، وامر بتحريق الانجيل، وهدم البيع، وقتل الأساقفة، فلما قتل سابور الضيزن الغساني غضب لذلك، فجمع من كان بالشام من غسان، واقبل فيهم، ومعه جيوش الروم، حتى ورد العراق. ووجه سابور عيونا ليأتوه بخبرهم، فانصرف اليه عيونه، وقد اختلفوا عليه، فخرج ليلا في ثلاثين فرسا، ليشرف على عسكر الروم، وقدم امامه عشره منهم، فاخذتهم الروم، فاتوا بهم اليوبيانوس خليفه الملك وابن عمه، فسألهم عن امرهم، وتوعدهم القتل، فقام اليه رجل منهم مسرا عن اصحابه، فقال له: ان سابور منك بالقرب، فضم الى خيلا حتى آتيك به أسيرا.   [1] يقال إنه الزعفران. [2] مدينه قرب بلخ، وهي قصبه ناحيه جوزجان. [3] مدينه في ايران، وقد فتحها العرب سنه 638 م، وظلت مزدهره على ايامهم، ثم خربت في القرون الوسطى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وكانت بين اليوبيانوس وسابور موده وخله، فأرسل الى سابور ينذره، فانصرف راجعا، وسار الملك الرومي الى باب مدينه طيسفون، وخرج اليه سابور في جنوده، فهزمه الرومي حتى بلغوا قنطره جازر، واحتوى الرومي على مدينه طيسفون، ولم يقدروا على القصر لحصانته، ومن فيه من الحماه عنه، وثاب الناس الى سابور، فزحف الى جمع الروم، فنحاهم عن المدينة، وعسكر ببابها، وراسل ملك الروم، فبينما هم في ذلك إذ اتى ملك الروم سهم عائر، وهو في مضربه، وحوله بطارقته، فأصاب مقتله، فسقط في أيدي الروم لمكانهم الذى هم به، واشراف عدوهم عليهم، فطلبوا الى اليوبيانوس ان يتملك عليهم، فأبى، وقال: لست اتملك على قوم مخالفين لي في ديني، لانى على دين النصرانية، وأنتم على دين الروم الاول، فقال له البطارقه والعظماء: فانا نحن جميعا على مثل ما أنتم عليه، غير انا كنا نكاتم بذلك خوفا من الملك، فتملك عليهم اليوبيانوس، ولبس التاج. وبلغ سابور امرهم، فأرسل اليهم: اصبحتم اليوم في قبضتي وقدرتي، ولأقتلنكم بمكانكم هذا جوعا وهزلا، فاجمع اليوبيانوس على اتيان سابور، لما كان بينهم من المودة، فأبى عليه البطارقه والرؤساء، فخالفهم، وأتاه، فعرف له سابور يده عنده في إنذاره اياه تلك الليلة وجعل له اليوبيانوس نصيبين [1] ، وحيزها عوضا مما افسدت الروم من مملكته، وكتب له بذلك. وبلغ اهل نصيبين ذلك، فانتقلوا عنها ضنا بالنصرانية، وكراهية لتمليك الفرس عليهم، فنقل سابور إليها اثنى عشر الف اهل بيت من اصطخر، فأسكنهم فيها، فعقبهم بها الى اليوم، وانصرفت الروم الى أرضها، فلما تم لسابور اثنتان وسبعون سنه حضره الموت، فجعل الأمر من بعده لابنه سابور بن سابور. فلما تم لملكه خمس سنين خرج يوما متصيدا، فنزل بمكان، وضربت   [1] انظر الخريطة، وهي مدينه فيما بين النهرين، وقد اشتهرت قديما بمدرستها السريانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قبته، فجلس فيها، فاقبل قوم من الفتاك ليلا، فقطعوا اطناب [1] القبه، فسقطت عليه، فمات. بهرام بن سابور فملك بعده ابنه بهرام بن سابور، وكان على كرمان [2] ، فلما قتل أبوه قدم، فقام بالملك، فلما تم لملكه ثلاث عشره سنه خرج يوما متصيدا، فرمى بنشابه [3] ، فاصابته، فلما احس بالموت اوصى الى ابن أخيه يزدجرد بن سابور ابن سابور، وكان اصغر سنا منه. يزدجرد بن سابور فقام بالملك بعده، وهو يزدجرد الذى يلقب بالاثيم، وكان غلقا سيئ الخلق، لا يكافئ على حسن بلاء، وكان منانا، لا يتجاوز عن زله وان صغرت، ويعاقب على الصغيره كما يعاقب على الكبيره، وما كان احد يقدر على كلامه لفظاظته وغلظته، الا ان وزراءه كانوا أخيارا مترفقين متعاونين. فولد له بهرام الذى يقال له بهرام جور، فدفعه الى المنذر ابى النعمان ليحضنه، فسار المنذر ببهرام الى الحيرة [4] وكانت داره واختار له المنذر المراضع، واحسن حضانته، فلما بلغ التأديب بعث اليه أبوه بمؤدبين من الفرس، واحضره المنذر مؤدبين من العرب، فاحكم الادبين، وكمل فيهما، ونشا نشا محمودا، وبرع في الأدب والفروسية، وخرج عاقلا لبيبا جميلا بهيا،   [1] اطناب جمع طنب بضمتين، وهو حبل طويل يشد به السرادق والقباب. [2] إقليم بين فارس وسجستان. [3] النشاب هو النبل. [4] الحيرة: مدينه كبيره بعراق العرب على الضفة اليمنى لنهر الفرات، يقال ان الذى بناها هو بخت نصر، وجددت في عهد الاسكندر، وقد ظلت الحيرة عاصمه لدولة عربية قبل الفتح الإسلامي، وفي عهد الامام على بن ابى طالب بنى بجوارها مدينه الكوفه واتخذت مقرا للخلافة الإسلامية، وبقيت الحيرة خرابا الى ان عثر فيها على قبر على المرتضى، فعادت إليها حياتها قريه صغيره، وتعرف الحيرة اليوم باسمى نجف، ومشهد، وتقع على بعد 77 ك. م جنوب شرقى كربلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ومكنه المنذر من اللهو والقيان، فكان يركب النجائب، وتركب وراءه الصناجات [1] يلهينه ويطربنه، وتجرد لطرد الوحش على تلك الحال، فضرب به المثل، فتوه ورخاء بال. مقتل عمرو بن تبع قالوا: ولما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع واشراف قومه تضعضع امر الحميرية، فوثب رجل منهم لم يكن من اهل بيت الملك يقال له صهبان ابن ذي خرب على عمرو بن تبع، فقتله، واستولى على الملك. صهبان والعدنانيون بتهامه قال: وهو الذى سار الى تهامه لمحاربه ولد معد بن عدنان، وكان سبب ذلك ان معدا لما انتشرت تباغت وتظالمت، فبعثوا الى صهبان يسالونه ان يملك عليهم رجلا يأخذ لضعيفهم من قويهم، مخافه التعدى في الحروب، فوجه اليهم الحارث بن عمرو الكندى، واختاره لهم، لان معدا أخواله، أمه امراه من بنى عامر بن صعصعة، فسار الحارث اليهم باهله وولده، فلما استقر فيهم ولى ابنه حجر بن عمرو، وهو ابو إمرئ القيس الشاعر، على اسد وكنانه، وولى ابنه شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معدى كرب، وهو جد الاشعث بن قيس، على ربيعه. فمكثوا كذلك الى ان مات الحارث بن عمرو، فاقر صهبان كل واحد منهم في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم ان بنى اسد وثبوا على ملكهم حجر ابن عمرو، فقتلوه، فلما بلغ ذلك صهبان وجه الى مضر عمرو بن نابل اللخمى والى ربيعه لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى اوفى بن عنق الحيه، وامره ان يقتل بنى اسد ابرح القتل، فلما بلغ ذلك أسدا وكنانه   [1] جمع صناجه: وهن المغنيات ضاربات الدفوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 استعدوا، فلما بلغه ذلك انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم، فاخرجوا ملكهم عمرو بن نابل عنهم، فلحق بصهبان، وبقي معدى كرب جد الاشعث، ملكا على ربيعه، فلما بلغ صهبان ما فعلت مضر بعماله آلى ليغزون مضر بنفسه. وبلغ ذلك مضر، فاجتمع اشرافها، فتشاوروا في امرهم، فعلموا ان لا طاقه لهم بالملك الا بمطابقه ربيعه إياهم، فاوفدوا وفودهم الى ربيعه، منهم عوف بن منقذ التميمى، وسويد بن عمرو الأسدي جد عبيد بن الأبرص، والأحوص بن جعفر العامري، وعدس بن زيد الحنظلى، فساروا حتى قدموا على ربيعه، وسيد هم يومئذ كليب بن ربيعه التغلبى، وهو كليب وائل، فاجابتهم ربيعه الى نصرهم، وولوا الأمر كليبا، فدخل على ملكهم لبيد بن النعمان، فقتله، ثم اجتمعوا، وساروا فلقيهم الملك بالسلان، فاقتتلوا، ففلت جموع اليمن، وفي ذلك يقول الفرزدق لجرير: لولا فوارس تغلب ابنه وائل ... نزل العدو عليك كل مكان وانصرف الملك الى ارضه مفلولا، فمكث حولا، ثم تجهز لمعاوده الحرب، وسار، فاجتمعت معد، وعليها كليب فتوافوا بخزازى [1] ، فوجه كليب السفاح بن عمرو امامه، وامره إذا التقى بالقوم، ان يوقدوا نارا، علامه جعلها بينه وبينه، فسار السفاح ليلا حتى وافى معسكر الملك بخزازى، فاوقد النار، فاقبل كليب في الجموع نحو النار، فوافاهم صباحا، فاقتتلوا، فقتل الملك صهبان، وانفضت جموعه، وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم: ونحن غداه اوقد في خزازى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا فلما قتل صهبان زاد حمير قتله اتضاعا ووهنا.   [1] جبل، كانوا يوقدون عليه غداه الغارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ملك ربيعه بن نصر اللخمى اليمن فجمع ربيعه بن نصر اللخمى جد النعمان بن المنذر قومه ومن أطاعه من ولد كهلان بن سبا، فاغتصب حمير الملك، فاجتمعت له ارض اليمن، فملكها زمانا، وهو ربيعه بن نصر بن الحارث بن عمرو بن لخم بن عدى بن مره بن زيد ابن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان. فلما استجمع لربيعه بن نصر امر اليمن راى في منامه رؤيا هالته، ووجل منها، فبعث الى شق وسطيح الكاهنين، فأخبرهما بما راى، فأخبراه في تأويلها بما يكون من غلبه السودان على ارض اليمن، وبغلبه فارس بعدهم، ثم بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع ذلك اوجس في نفسه خيفة، فأحب ان يخرج ولده وخاصه اهله من ارض اليمن مسير عمرو اللخمى الى الحيرة فوجه ابنه عمرا الى يزدجرد بن سابور، ويقال بل كان ذلك في عصر سابور ذي الاكتاف، فانزله الحيرة، فيومئذ بنيت الحيرة، فضم عمرو اليه اخوته واهل بيته، فمن هناك وقع آل لخم الى الحيرة، واتصلوا بالاكاسره، فجعلوا لهم على العرب سلطانا. جذيمة والحيرة فلما مات خلفه من بعده ابنه جذيمة بن عمرو، فزوج جذيمة اخته من ابن عمه عدى بن ربيعه بن نصر، فولدت له عمرو بن عدى الذى استطار به الجن، وله حديث، فلم يزل جذيمة ملكا بالخورنق [1] زمانا حتى دعته نفسه الى تزويج مارية ابنه الزباء الغسانية، وكانت ملكه الجزيرة، ملكت بعد عمها الضيزن   [1] الخورنق بلد في بلخ، واما الخورنق قصر النعمان الاكبر فهو معرب اللفظ الفارسي خورنكاه اى موضع الاكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الذى قتله سابور، وكان له ولها حديث مشهور [1] ، فقتلت جذيمة، ثم قتلها قصير مولاه. عمرو بن عدى فلما هلك خلفه ابن اخته وابن ابن عمه عمرو بن عدى وهو جد النعمان بن المنذر ابن عمرو بن عدى بن ربيعه، قالوا: وكان ذلك في عصر يزدجرد بن سابور ابن بهرام جور. قالوا: وفي ذلك العصر توفى عبد مناف بن قصى، وخلفه في سؤدده ابنه هاشم ابن عبد مناف. قالوا: وهلك يزدجرد الأثيم، وقد ملك احدى وعشرين سنه ونصفا، وبهرام جور ابنه غائب بالحيرة عند المنذر بالخورنق، فتعاهدت عظماء فارس الا يملكوا أحدا من ولد يزدجرد لما نالهم من سوء سيرته، منهم بسطام اصبهبذ السواد، الذى تدعى مرتبته [2] هزرافت، ويزدجشنس فاذوسفان الزوابي، وفيرك الذى تدعى مرتبته مهران، وجودرز كاتب الجند، وجشنساذربيش كاتب الخراج، وفناخسرو صاحب صدقات المملكة، وغير هؤلاء من اهل الشرف والبيت، فاجتمعوا، واختاروا رجلا من عتره [3] أردشير بن بابكان، يقال له خسرو، فملكوه عليهم، وبلغ ذلك بهرام جور، وهو عند المنذر، فامر منذر بهرام بالخروج، والطلب بتراث ابيه، ووجه معه ابنه النعمان، فسار بهرام حتى قدم مدينه طيسفون، فنزل قريبا منها في الابنيه   [1] ملخص الحديث ان الزباء كانت قد دعت جذيمة الى ان يفد إليها ويتزوج بها، ويضم ملكها الى ملكه، فاستشار قومه فشجعوه على المسير إليها الا قصير بن سعد اللخمى، فقد نصحه بان لا يذهب لان جذيمة كان قد وتر الزباء بقتل أبيها، وادرك قصير ان هذه الدعوة تخفى وراءها سرا، ولكن جذيمة عزم على المسير مخالفا راى قصير، ولما ذهب إليها قتلته، فقال قصير، لا يطاع لقصير امر، وقد صار قوله مثلا يضربه من لا يطاع امره. [2] في الأصل مدينه. [3] عتره الرجل بكسر العين وسكون التاء: رهطه وعشيرته الأدنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 والفساطيط والقباب، فلم يزل النعمان يسفر بينه وبين عظماء فارس واشرافهم الى ان أنابوا وتابوا الى بهرام. ملك بهرام جور وبسط بهرام من آمالهم، وشرط لهم المعدلة وحسن السير، فخلوا بينه وبين الملك، وسمعوا وأطاعوا، وحبا [1] بهرام المنذر والنعمان، وأكرمهما، وكافاه بيده عنده في تربيته ومعاضدته، ففوض اليه جميع ارض العرب، وصرفه الى مستقره من الحيرة. ولما استتب لبهرام الملك آثر اللهو على ما سواه، حتى عتب عليه رعيته، وطمع فيه من كان حوله من الملوك، فكان أول من شخص صاحب الترك، فانه نهض في جموعه من الاتراك حتى اوغل في خراسان، فشن فيها الغارات، وانتهى النبا الى بهرام، فترك ما كان فيه من الاستهتار باللهو، وقصد عدوه، فأظهر انه يريد اذربيجان ليتصيد هناك، ويلهو في مسيره إليها، فانتخب من ابطال رجاله سبعه آلاف رجل، فحملهم على الإبل، وجنبوا الخيل، واستخلف على ملكه أخاه نرسى، ثم سار نحو اذربيجان، وامر كل رجل من اصحابه الذين انتخبهم ان يكون معه باز وكلب، فلم يشك الناس ان مسيره ذلك هزيمه من عدوه، واسلام لملكه، فاجتمع العظماء والاشراف، فتامروا بينهم، فاتفق رأيهم على توجيه وفد منهم الى خاقان [2] صاحب الترك باموال، يبعثون بها اليه ليصدوه عن استباحه البلاد. وبلغ خاقان ان بهرام مضى هاربا، وان اهل المملكة مجمعون على الخضوع له، فاغتر، وامن هو وجنوده، واقام بمكانه ينتظر الوفود والأموال.   [1] اعطاه بلا جزاء ولا من. [2] خاقان: اسم لكل ملك من ملوك الترك، وخقنوه على انفسهم: راسوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قالوا: وان بهرام امر بذبح سبعه آلاف ثور وحمل جلودها، وساق معه سبعه آلاف مهر حولي، وجعل يسير الليل ويكمن النهار، وأخذ على طبرستان، ثم تبطن ضفة البحر حتى خرج الى جرجان، ثم صار الى نسا ثم الى مرو. وكان خاقان معسكرا بها بكشميهن [1] حتى إذا صار بهرام من مرو على منقله [2] ، وخاقان لا يعلم شيئا من علمه امر بتلك الجلود، فنفخت، والقى فيها الحصى، وجففت، ثم علقها في اعناق تلك المهارة، حتى دنا من عسكر خاقان، وكانوا نزولا على طرف المفازة، على سته فراسخ من مدينه مرو، فخلوا عن تلك المهارة ليلا، وطردوها من ورائها، فارتفع لتلك الجلود، والحجاره التي فيها، وعدو المهارة بها، وضربها إياها بأيديها أصوات هائله أشد من هده الجبال والصواعق. وسمعت الترك تلك الأصوات، فلما سمعوها راعتهم، ولا يدرون ما هي، وجعلت تزداد منهم قربا، فاجلوا عن معسكرهم، وخرجوا هربا، وبهرام في الطلب، فتقطرت [3] دابه خاقان بخاقان، وادركه بهرام، فقتله بيده، وغنم عسكره، وكل ما كان فيه من الأموال، وأخذ خاتون امراه خاقان. ومضى بهرام على آثار الترك ليلته ويومه كله، يقتل وياسر، حتى انتهى الى آمويه، ثم عبر نهر بلخ، يتبع آثارهم، حتى إذا صار الى القرب فاذعن له الترك، وسألوه ان يعلم حدا بينه وبينهم، لا يجاوزونه، فحد لهم مكانا واغلا في ارضهم، وامر بمناره، فبنيت هناك، وجعلها حدا، ثم انصرف الى دار الملك، ووضع عن الناس خراج تلك السنه، وقسم في اهل الضعف والمسكنه شطر ما غنم، وقسم الشطر الآخر بين جنده الذين كانوا معه، فعم السرور اهل مملكته، فلهوا جذلا وابتهاجا، فبلغ اجر اللعاب [4] في اليوم عشرين درهما، وصار اكليل الريحان بدرهم.   [1] قريه بمرو [2] المنقلة مرحلة السفر زنه ومعنى. [3] تقطرت الدابة عثرت براكبها فألقته على قطره. [4] فرس اللعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فلما اتى له في الملك ثلاث وعشرون سنه خرج متصيدا، فوقعت له عانه [1] من الوحش، فدفع فرسه في طلبها، فذهبت به فرسه في جرف مفض الى غمر من الماء، فارتطم فيه، فغرق. وبلغ ذلك أمه، فجاءت الى ذلك المكان، وامرت بطلبه في ذلك الهور [2] فاستخرجوا تلالا من الحصى والرمل، فلم يدركوه، ويقال ان ذلك المكان بموضع من الماء يسمى داى مرج، سمى بامه، لان الام بلسان الفرس تسمى داى، وهو مرج معروف، وهذا الحديث مشهور في الموضع، هو كما وصفوا في الحديث هناك، كواء تنفتح في الارض الى ماء لا يدرك له غور، وذلك بقرب آجام وماء راكد. يزدجرد بن بهرام فلما هلك بهرام ملكوا ابنه يزدجرد بن بهرام، فسار بسيره ابيه سبع عشره سنه، وحضره الموت وله ابنان: فيروز و هرمز د، وكان فيروز اكبر سنا. النزاع بين الأخوين فاستاثر هرمزد بالملك دون أخيه فيروز، فهرب فيروز منه حتى لحق ببلاد الهياطلة [3] وهي تخارستان والصغانيان [4] وكابلستان [5] والأرضون التي خلف   [1] العانه: القطيع من حمر الوحش. [2] الهور هو البحيره تفيض بها مياه الغياض والاجام فتتسع. [3] جنس من الترك او الهند، وكانت لهم شوكه وبلاء، والهيطل: الجماعه القليله يغزى بها. [4] الصغانيان: إيالة كبيره وراء نهر جيحون، وكانت مسقط راس علماء كثيرين: منهم رضى الدين ابو الفضائل حسن بن محمد الصغانى من ائمه اللغة، ووصفها الجغرافيون العرب بأنها معمورة، وتحوى سته عشر الف قريه، وتكثر بها الحيوانات والأشجار والمراعى والطيور الكثيره، وتوجد الان في تركستان الروسيه. [5] كابلستان: إيالة واسعه في شمال شرقى افغانستان، وكانت عاصمتها مدينه كابل الواقعه في حوض نهر كابل، وتقع زابلستان في جنوب غربيها، ويرى بعض الجغرافيين انهما إيالة واحده، ولكن الشاهنامه تذكرهما على اختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 النهر الأعظم بما يلى ارض بلخ، فدخل على ملك تلك الارض، فاخبره بظلم أخيه اياه، واحتوائه على الملك دونه، وهو اصغر سنا منه، وساله ان يمده بجيش حتى يسترجع الملك. فقال: لن اجيبك الى ما تسال حتى تحلف انك اكبر سنا منه، فحلف فيروز، فامده بثلاثين الف رجل، على ان يجعل له حدا لترمذ [1] ، فسار فيروز بالجيش، واتبعه جل اهل المملكة، ورأوا انه أحق بالملك من هرمزد لفظاظه هرمزد وشرارته، فحاربه حتى استرجع الملك، وأقال أخاه عثرته، ولم يؤاخذه بما كان منه. فيروز بن يزدجرد قالوا: وكان فيروز ملكا محدودا، وكل جل قوله وفعله فيما لا يجدي عليه نفعه، وان الناس قحطوا في سلطانه سبع سنين متواليات، فغارت الانهار، وغاضت المياه والعيون، وقحلت الارض، وجف الشجر، وموتت البهائم والطير، وهلكت الانعام، وقل ماء دجلة والفرات وسائر الانهار. فرفع فيروز الخراج عن الرعية، وكتب الى عماله ان يسوسوا الناس سياسه، وتوعدهم انه ان هلك احد في ارض واحد منهم جوعا يقيد العامل والوالي به، فساس الناس في تلك الازمنه سياسه لم يعطب فيها احد من الناس جوعا، ونادى في الناس بالخروج الى فضاء من الارض، فخرج جميع الناس من الرجال والنساء والصبيان، فاستسقى الله، فأغاثهم، فأرسل السماء، وعادت الارض الى حسن الحال، وجرت الانهار، وجاشت العيون، ورجع الناس الى احسن عاده الله عندهم في الرفاغه والرفاهة والخصب. وبنى فيروز مدينه الري، وسماها رام فيروز، وابتنى باذربيجان مدينه   [1] بلد معروف بخراسان على الضفة الشماليه لنهر جيحون شمالى ايران، وقد فتحها موسى عبد الله بن خازم سنه 690 م، وفيها آثار يرجع تاريخها الى العصر البوذى، وإليها ينسب كثير من العلماء، منهم ابو عبد الله الترمذى المحدث الفقيه الحنفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 اردبيل، وسماها باذفيروز، ثم استعد وتاهب لغزو الترك، واخرج معه الموبذ وسائر وزرائه، وحمل معه ابنته فيروزدخت، وحمل معه خزائن واموالا كثيره، وخلف على ملكه رجلا من عظماء وزرائه، يسمى شوخر، وتدعى مرتبته قارن، وسار حتى جاوز المناره التي كان بهرام بناها حدا بينه وبين الترك، واخربها، ووغل في ارضهم. وملك الاتراك يومئذ اخشوان خاقان، فأرسل ملك الترك الى فيروز يعلمه انه قد تعدى، ويحذره عاقبه الظلم، فلم يحفل فيروز بذلك، فجعل خاقان يظهر كراهة للحرب، ويدافع الى ان هيأ خندقا، عمقه في الارض عشرون ذراعا، وعرضه عشره اذرع، وبعد ما بين طرفيه، ثم غماه باعواد ضعاف، والقى عليه قصبا، واخفاه بالتراب، ثم خرج لمحاربه فيروز، فواقفه ساعه، ثم انهزم عنه. وطلبه فيروز في جنوده، فسلك خاقان مسالك قد فهمها بين ظهري ذلك الخندق، وعطف عليه اخشوان وطراخنته، فقتلوهم بالحجارة، واحتوى اخشوان على معسكر فيروز وكل ما كان فيه من الأموال والحرم، وأخذ الموبذ أسيرا، وأخذ فيروزدخت ابنه فيروز، ولحق الفل بشوخر، فاعلموه بمصاب فيروز وجنوده، فاستنهض شوخر الناس للطلب بثار ملكهم، فخف له جميع الناس من الجنود واهل البلاد، فسار في جموع كثيره حتى وغل في بلاد الترك، وهاب اخشوان ملك الترك الاقدام على شوخر لكثرة جموعه وعدته، فأرسل اليه يسأله الموادعة على ان يرد عليه الموبذ وفيروزدخت وكل اسير في يده، وجميع ما أخذ من اموال فيروز وخزائنه وآلاته، فأجابه شوخر الى ذلك، وقبضه، وانصرف الى بلاده وارضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أبناء فيروز فملك بعد فيروز ابنه بلاس بن فيروز، فملك اربع سنين، ثم مات، فجعل شوخر الملك من بعده لأخيه قباذ بن فيروز. قالوا: وفي ملك قباذ بن فيروز مات ربيعه بن نصر اللخمى، ورجع الملك الى حمير. ذو نواس واليمن فوليهم ذو نواس، واسمه زرعه بن زيد بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن جشم بن وائل بن عبد شمس بن الغوث بن جدار بن قطن ابن عريب بن الرائش بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وانما سمى ذانواس لذؤابه [1] كانت تنوس [2] على راسه. قالوا: وكان لذى نواس بأرض اليمن نار يعبدها هو وقومه، وكان يخرج من تلك النار عنق يمتد فيبلغ مقدار ثلاثة فراسخ، ثم ترجع الى مكانها، ثم ان من كان باليمن من اليهود قالوا لذى نواس: ايها الملك، ان عبادتك هذه النار باطله، وان أنت دنت بديننا اطفاناها باذن الله تعالى، لتعلم انك على غرر من دينك، فأجابهم الى الدخول في دينهم ان هم اطفئوها، فلما خرجت تلك العنق أتوا بالتوراة، ففتحوها، وجعلوا يقرءونها، والنار تتأخر حتى انتهوا الى البيت الذى هي فيه، فما زالوا يتلون التوراة حتى انطفأت، فتهود ذو نواس، ودعا اهل اليمن الى الدخول فيها، فمن ابى قتله. ثم سار الى مدينه نجران [3] ليهود من فيها من النصارى، وكان بها قوم على دين المسيح الذى لم يبدل، فدعاهم الى ترك دينهم والدخول في اليهودية، فأبوا، فامر بملكهم، وكان اسمه عبد الله بن التامر، فضربت هامته بالسيف، ثم ادخل   [1] الذؤابه: شعر في اعلى الناصيه. [2] تتذبذب. [3] نجران بالفتح، ثم السكون، مدينه بينها وبين الكوفه مسيره يومين فيما بينها وبين واسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 في سور المدينة، فضم عليه، وخد للباقين اخاديد [1] ، فاحرقهم فيها، فهم اصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله عز اسمه في القرآن [2] . الحبش واليمن وافلت دوس ذو ثعلبان، فسار الى ملك الروم، فاعلمه ما صنع ذو نواس باهل دينه من قتل الأساقفة، واحراق الانجيل، وهدمه البيع، فكتب الى النجاشى ملك الحبشه، فبعث بارياط في جنود عظيمه، وركب البحر حتى خرج على ساحل عدن، وسار اليه ذو نواس، فحاربه، فقتل ذو نواس، ودخل ارياط صنعاء، واسمها دمار، وانما صنعاء كلمه حبشية، اى وثيق حصين، فبذلك سميت صنعاء. فلما اطمان ارياط وقتل اليهود وضبط اليمن، درت عليه الأموال، فجعل يؤثر بها من يحب، فغضب حاشيه الحبشه من ذلك، فاتوا أبا يكسوم أبرهة، وكان احد قادتهم، فشكوا اليه الذى يصنع ارياط، وبايعوه. وانصرفت الحبشه فرقتين، إحداهما مع ارياط، والاخرى مع أبرهة، واصطفوا للحرب، فدعاه أبرهة للبراز، فبرز اليه، فدفع ارياط عليه حربته، فوقعت في وجه أبرهة، فشرمته، ولذلك سمى الاشرم، وضرب أبرهة ارياط بالسيف على مفرق راسه، فقتله، وانحازت الحبشه اليه، فملكهم، واقره النجاشى على سلطان اليمن، فمكث على ذلك اربعين عاما. وبنى بصنعاء بيعه لم ير الناس مثلها، وآذن في جميع ارض اليمن ان تحجها، فاستفظعت العرب ذلك، فدخل رجل من اهل تهامه ليلا، فاحدث فيها، فلما اصبح القوم نظروا الى السواه السوآء في الكنيسه، فقال أبرهة: من تظنونه فعل هذا؟ قالوا: لم يفعله الا بعض من غضب للبيت الذى بمكة، لما امرت بحج   [1] الاخاديد: هي الحفر المستطيلة في الارض كالخده بالضم، والمفرد اخدود. [2] الآيات: 4، 5، 6، من سوره البروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 هذه البيعه، فغضب أبرهة عند ذلك غضبا شديدا، وتجهز للمسير الى مكة ليهدم الكعبه، فأرسل الى النجاشى، فبعث اليه بفيل كالجبل الراسى، يقال له محمود، فسار الى مكة، فكان من امره ما قد قصه الله في سوره الفيل. الحبشان وهدم الكعبه قالوا: ولما اهلك الله أبرهة خلفه في ملكه بأرض اليمن ابنه يكسوم بن أبرهة، فكان شرا من ابيه واخبث سيره، فلبث على اليمن تسع عشره سنه ثم مات. فملك من بعده اخوه مسروق، وكان شرا من أخيه، واخبث سيره. سيف بن ذي يزن فلما طال ذلك على اهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميرى من ولد ذي نواس حتى اتى قيصر، وهو بأنطاكية [1] ، فشكى اليه ما هم فيه من السودان، وساله ان ينصرهم وينفيهم عن ارضهم، ويكون ملك اليمن له، فقال قيصر: أولئك هم على ديني، وأنتم عبده أوثان، فلم أكن لانصركم عليهم. فلما يئس منه توجه الى كسرى، فقدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فشكى اليه امره، فقال له النعمان: ما كان سبب اخراج جدنا ربيعه بن نصر إيانا عن ارض اليمن، واسكاننا بهذا المكان الا لهذا الشان فاقم، فان لي وفادة في كل عام الى الملك كسرى بن قباذ، وقد حان ذلك، فإذا خرجت أخرجتك معى، واستأذنت لك، وتشفعت لك اليه فيما قصدت له، ففعل واستاذن، وتشفع، فوجه كسرى بجيش ممن كان في السجون، وامر   [1] أنطاكية: مدينه غربي مدينه حلب بالاقليم الشمالي للجمهوريه العربية المتحده، تبعد عنها بحوالى 95 ك. م، وقد كانت مدينه عظيمه بنيت سنه 301 ق. م. وتاثرت على مرور الزمن بالغزوات والحروب، ولا تزال آثارها القديمه باقيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عليهم رجلا منهم، يقال له وهرز بن الكامجار، وكان شيخا كبيرا، قد اناف على المائه، وكان من فرسان العجم، وابطالها، ومن اهل البيوتات والشرف، وكان اخاف السبيل، فحبسه كسرى. فسار وهرز باصحابه الى الأبله [1] ، فركب منها البحر، ومعه سيف بن ذي يزن، حتى خرجوا بساحل عدن، وبلغ الخبر مسروقا، فسار اليهم، فلما التقوا وتواقفوا للحرب اسرع له وهرز بنشابه، فرماه، فلم يخطئ بين عينيه، وخرجت من قفاه، وخر ميتا، وانفض جيشه، ودخل وهرز صنعاء، وضبط اليمن، وكتب الى كسرى بالفتح، فكتب اليه كسرى، يأمره بقتل كل اسود باليمن، وبتمليك سيف عليها، وبالاقبال اليه، ففعل. وان بقايا من السودان قد كان سيف استبقاهم، وضمهم الى نفسه، يجمزون [2] بين يديه إذا ركب، شدوا على سيف يوما، وهم بين يديه في موكبه، فضربوه بحرابهم حتى قتلوه. الفرس واليمن فرد كسرى وهرز الى ارض اليمن، وامره الا يدع بها اسود ولا من ضربت فيه السودان الا قتله، فأقام بها خمسه احوال، فلما ادركه الموت دعا بقوسه ونشابه، ثم قال: أسندوني، ثم تناول قوسه، فرمى، وقال: انظروا حيث وقعت نشابتى، فابنوا لي هناك ناووسا، واجعلوني فيه، فوقعت نشابته من وراء الكنيسه، وسمى ذلك المكان الى اليوم مقبره وهرز، ثم وجه كسرى الى ارض اليمن بادان، فلم يزل ملكا عليها الى ان قام الاسلام. قالوا: وكان قباذ عند ما افضى اليه الملك حدث السن من أبناء خمس عشره سنه، غير انه كان حسن المعرفة، ذكى الفؤاد، رحيب الذراع، بعيد الغور، فولى شوخر امر المملكة، فاستخف الناس بقباذ، وتهاونوا به لاستيلاء شوخر   [1] الأبله: بلده في زاوية الخليج العربي على شاطئ نهر دجلة. [2] يعدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 على الأمر دونه، فاغضى قباذ على ذلك خمس سنين من ملكه، ثم انف من ذلك، فكتب الى سابور الرازى من ولد مهران الاكبر، وكان عامله على بابل وخطرنيه [1] ، ان يقدم عليه فيمن معه من الجنود، فلما قدم افشى اليه ما في نفسه، وامره بقتل شوخر، فغدا سابور على قباذ، فوجد شوخر عنده جالسا، فمشى نحو قباذ مجاوزا لشوخر، فلم يابه له شوخر حتى اوهقه سابور، فوقع الوهق [2] في عنقه، ثم اجتره حتى اخرجه من المجلس، فاثقله حديدا، واستودعه السجن، ثم امر به قباذ، فقتل. الديانه المزدكية فلما مضى لملك قباذ عشر سنين أتاه رجل من اهل اصطخر، يقال له مزدك، فدعاه الى دين المزدكية، فمال قباذ إليها، فغضبت الفرس من ذلك غضبا شديدا، وهموا بقتل قباذ، فاعتذر اليهم، فلم يقبلوا عذره، وخلعوه من الملك، وحبسوه في محبس، ووكلوا به، وملكوا عليهم جاماسف بن فيروز أخا قباذ. وان اخت قباذ اندست لقباذ حتى اخرجته بحيله، فمكث أياما مستخفيا الى ان امن الطلب، ثم خرج في خمس نفر من ثقاته، فيهم زرمهر بن شوخر نحو الهياطلة [3] ، يستنصر ملكها، فاخذ طريق الاهواز، فانتهى الى ارمشير، ثم صار الى قريه في حد الاهواز وأصبهان، فنزلها متنكرا، وكان نزوله عند دهقانها [4] ، فنظر قباذ الى بنت لصاحب منزله، ذات جمال، فوقعت بقلبه، فقال لزرمهر بن شوخر: انى قد هويت هذه الجاريه، ووقعت بقلبي، فانطلق الى أبيها، فاخطبها على، ففعل.   [1] خطرنيه: بلد كانت بأرض بابل [2] الحبل يرمى في انشوطه فتؤخذ به الدابة او الإنسان، والانشوطه كانبوبه: عقده يسهل انحلالها. [3] هياطله اسم لبلاد ما وراء النهر. [4] الدهقان بالكسر والضم زعيم فلاحى العجم ورئيس الإقليم، وهو لفظ معرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فأرسل قباذ الى الجاريه بخاتمه، وجعل ذلك مهرها، فهيئت وادخلت عليه، فخلا بها قباذ، وسر بها سرورا شديدا لما الفاها ذات عقل وجمال وادب وهيئة، فأقام عندها ثلاثا، ثم امرها بحفظ نفسها، وخرج سائرا حتى ورد على صاحب الهياطلة، فشكا اليه صنيع رعيته به، وساله ان يمده بجيش ليسترجع ملكه، فأجابه الى ذلك، وشرط عليه ان يسلم له حيز الصغانيان، ووجه معه ثلاثين الف رجل. فاقبل بهم يريد أخاه، فاخذ على طريقه الذى شخص فيه بديئا حتى نزل القرية التي تزوج فيها بتلك المرأة، فنزل على أبيها، وساله عنها، فاخبره انها ولدت غلاما، فامر بإدخالها عليه مع ابنها، فدخلت ومعها الغلام، فابتهج به، ورآه كاجمل ما يكون من الغلمان، فسماه كسرى، وهو كسرى انوشروان الذى تولى الملك من بعده، فقال لزرمهر: اخرج، فسل لي عن هذا الرجل ابى الجاريه هل له قديم شرف؟، فسال عنه، فاخبر انهم من ولد فريدون الملك، ففرح بذلك قباذ، وامر بالجارية وابنها، فحملا معه. ولما انتهى الى مدينه طيسفون تلاومت العجم فيما بينها، وقالوا: ان قباذ تنصل إلينا من شان مزدك، ورجع عما كنا اتهمناه، فلم نقبل ذلك منه، وظلمناه حقه، وأسأنا اليه، فخرجوا اليه جميعا، وفيهم جاماسف اخوه الذى ملكوه، فاعتذروا اليه، فقبل ذلك منهم، وصفح عن أخيه جاماسف، وعنهم، واقبل فدخل قصر المملكة، ووصل الجيش الذى اقبل بهم، واجازهم، واحسن اليهم، وردهم الى ملكهم، وامر بالجارية، فانزلت في افضل مساكنه. ثم ان قباذ تجهز وسار في جنوده، غازيا بلاد الروم، فافتتح مدينه آمد وميافارقين، وسبى أهلها، وامر فبنيت لهم مدينه فيما بين فارس والاهواز، فأسكنهم فيها، وسماها ايرقباذ، وهي استان الأعلى، وجعل لها اربعه طساسيج: طسوج [1] الأنبار، وكان منها هيت وعانات [2] ، فضمها يزيد بن معاويه حين ملك   [1] الطسوج: هو الناحية. [2] بلدان بأرض العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الى الجزيرة، وطسوج بادوريا، وطسوج مسكن، وكور كوره بهقباذ الأوسط، وبهقباذ الأسفل، وضم إليها ثمانية طساسيج، لكل كوره اربعه طساسيج، وهي الاستانات [1] ، وشق كوره [2] أصبهان كورتين، شق جى، وشق التيمره [3] . وكان لقباذ عده من الأولاد، لم يكن فيهم آثر عنده من كسرى، لاجتماع الشرف فيه، غير انه كان به ظنه، اى سيئ الظن، فلم يكن قباذ يحمده عليها، فقال له ذات يوم: يا بنى قد كملت فيك الخصال التي هي جماع امور الملك، غير ان بك ظنه، وان الظنه في غير موضعها داعيه الأوزار، ومحبطة للأعمال فاعتذر كسرى الى ابيه مما وقع في قلبه من ذلك، واستصلح نفسه عنده. كسرى انوشروان فلما اتى للملك قباذ ثلاث واربعون سنه حضره الموت، ففوض الأمر الى ابنه، وهو انوشروان [4] ، فملك بعد ابيه، وامر بطلب مزدك بن مازيار الذى زين للناس ركوب المحارم، فحرض بذلك السفل على ارتكاب السيئات، وسهل للغصبه الغصب، وللظلمه الظلم، فطلب حتى وجد، فامر بقتله وصلبه، وقتل من كان في ملته. ثم قسم كسرى انوشروان المملكة اربعه ارباع، وولى كل ربع رجلا من ثقاته، فاحد الارباع: خراسان، وسجستان، وكرمان، والثانى: أصبهان، وقم، والجبل، واذربيجان، وأرمينية، والثالث: فارس، والاهواز الى البحرين، والرابع: العراق الى حد مملكه الروم. وبلغ كل رجل من هؤلاء الأربعة غاية الشرف والكرامه.   [1] جمع استان وهو اربع الكور. [2] الكورة: هي المدينة الكبيره او الصقع. [3] جى وتيمره قريتان بأصبهان. .Nouschirwan [4] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ووجه الجيوش الى بلاد الهياطلة، وافتتح تخارستان وزابلستان [1] ، وكابلستان والصغانيان. وان ملك الترك سنجبو خاقان جمع اليه اهل المملكة، واستعد، وسار نحو ارض خراسان حتى غلبا على الشاش [2] ، وفرغانه، وسمرقند، وكش [3] ونسف [4] ، وانتهى الى بخارى. وبلغ ذلك كسرى، فعقد لابنه هرمز، الذى ملك من بعده، على جيش كثيف، ووجهه لمحاربه خاقان التركى، فسار حتى إذا قرب منه خلى ما كان غلب عليه، ولحق ببلاده، فكتب كسرى الى ابنه هرمز بالانصراف. دولتا الفرس والروم في عهد كسرى قالوا: وان خالد بن جبله الغساني غزا النعمان بن المنذر، وهو المنذر الأخير، وكانا منذرين، ونعمانين، فالمنذر الاول هو الذى قام بأمر بهرام جور، والمنذر الثانى الذى كان في زمان كسرى انوشروان ، وكانوا عمال كسرى على تخوم ارض العرب، فقتل من اصحاب المنذر مقتله عظيمه، واستاق ابل المنذر وخيله، فكتب المنذر الى كسرى انوشروان يخبره بما ارتكب منه خالد بن جبله. فكتب كسرى الى قيصر: ان يأمر خالدا باقاده المنذر ومن [5] قتل من اصحابه، ورد ما أخذ من أمواله، فلم يحفل قيصر بكتابه، فتجهز كسرى لمحاربته، فسار حتى اوغل في بلاد الجزيرة، وكانت إذ ذاك في يد الروم، فاحتوى على مدينه   [1] زابلستان: خطه واقعه جنوب افغانستان وشمال بلوجستان، وكانت محاطه بكابلستان وخراسان وسيستان وسند، ومن مدنها غزنه، وهي إقليم جميل كثير المياه، واهله مشهورون بالشجاعة. [2] مدينه بالقرب من فرغانه، وتقع على مجرى نهر سيحون. [3] قريه على ثلاثة فراسخ من جرجان، تقع على جبل، وهي مسقط راس تيمور لنك. [4] نسف: مدينه كبيره بين جيحون وسمرقند، لها اربعه أبواب، وهي على مدرج بخارى وبلخ، والجبال منها على مرحلتين فيما يلى كش، وبينها وبين جيحون مفازة لا جبل فيها، ولها نهر واحد يجرى في وسط المدينة. [5] في الأصل: ما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 دارا [1] ومدينه الرها [2] ومدينه قنسرين [3] ومدينه منبج [4] ومدينه حلب حتى انتهى الى أنطاكية، فأخذها، وكانت اعظم مدينه في الشام والجزيرة، وسبى اهل أنطاكية، وحملهم الى العراق، وامر، فبنيت لهم مدينه الى جانب طيسفون، على بناء مدينه أنطاكية، بازقتها، وشوارعها، ودورها، لا يغادر منها شيئا، وسماها زبر خسرو وهي المدينة التي الى جانب المدائن، تسمى الرومية، ثم سرحوا فيها، فانطلق كل انسان منها الى مثل داره بمدينه أنطاكية، وولى القيام بامرهم رجلا من نصارى الاهواز، يقال له يزدفنا. وان قيصر كتب الى كسرى يسأله الصلح، ورد ما احتوى عليه من هذه المدن، على ان يؤدى اليه ضريبه موظفه عليه في كل عام وكره كسرى البغى، فأجابه الى ما بذل، ووكل بقبضه وتوجيهه اليه في كل عام شروين الدستباى، فأقام مع ملك الروم هناك ومعه خزين مملوكه المشهور الخبر، وكان نجدا فارسا بطلا. ولما قفل كسرى منصرفا من ارض الشام اصابه مرض شديد، فمال الى مدينه حمص، فأقام بها في جنوده الى ان تماثل، فكان قيصر يحمل اليه كفاية عسكره الى ان شخص. قالوا: وكان لكسرى انوشروان ابن يسمى انوش زاذ، كانت أمه نصرانية، ذات جمال، وكان كسرى معجبا بها، وأرادها على ترك النصرانية والدخول   [1] كان موقعها في ارض الجزيرة بين نصيبين وماردين، ويقال انها بنيت بعد غلبه دارا على الاسكندر، وقد فتحها الروم واتخذوها مركزا هاما ضد الايران، ويذكر ابن بطوطه في رحلته انه رآها، وهي تحوى منازل بيضاء وبها قلعه ويوجد بجوار خرابها وآثارها اليوم قريه صغيره. [2] مدينه ذات مياه جاريه كثيره، تقع على بعد 190 ك. م شمال شرقى حلب، 145 ك. م جنوب غرب ديار بكر. [3] مدينه قديمه على بعد 25 ك. م. جنوب غربي الشام، وقد فتحت على يد ابى عبيده الجراح سنه 17 هـ، وخربت ايام سيف الدولة بن حمدان في القرن الرابع. [4] مدينه في الإقليم الشمالي سوريا شمال شرقى حلب، حكمها الشاعر ابو فراس الحمدانى، وفيها اسره الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 في المجوسية، فابت، فورث ذلك منها ابنها انوش زاذ، وخالف أباه في الديانه، فغضب عليه، وامر بحبسه في مدينه جنديسابور. فلما غزا كسرى بلاد الشام بلغ انوش زاذ مرضه ومقامه بحمص، استغوى اهل الحبس، وبث رسله في نصارى جنديسابور، وسائر كور الاهواز، وكسر السجن، وخرج، واجتمع اليه أولئك النصارى، فطرد عمال ابيه من كور الاهواز، واحتوى على الأموال، واشاع بموت ابيه، وتهيأ للمسير نحو العراق. وكتب خليفته بمدينه طيسفون يعلمه خبر ابنه، وما خرج اليه، فكتب اليه كسرى: وجه اليه الجنود، واكمش في حربه، واحتل لأخذه، فان يأت القضاء عليه، فيقتل، فأهون دم، واضيع نفس، واللبيب يعلم ان الدنيا لا يخلص صفوها، ولا يدوم عفوها، ولو كان شيء يسلم من شائبه اذن لكان الغيث الذى يحيى الارض الميته، ولكان النهار الذى ياتى الناس رقودا فيبعهم، وعميا فيضيء لهم، فكم مع ذلك من متأذ بالغيث ومتداع عليه من البنيان، وكم في سيوله وبروقه من هالك، وكم في هواجر النهار من ضرر وفساد، فاستاصل الثؤلول [1] الذى نجم بحدك، ولا يهولنك كثره القوم، فليست لهم شوكه تبقى، وكيف تبقى النصارى وفي دينهم: ان الرجل منهم ان لطم خده الأيسر امكن من الأيمن؟!، فان استسلم انوش زاذ واصحابه فرد من كان منهم في المحابس الى محابسهم، ولا تزدهم على ما كانوا فيه من ضيق ونقص المطعم والملبس، ومن كان منهم من الأساورة [2] فاضرب عنقه، ولا يكن منك عليهم رافه، ومن كان منهم من سفل الناس واوغادهم، فخل سبيلهم، ولا تعرض لهم، وقد فهمت ما ذكرت مما كان منك في نكال القوم الذين أظهروا شتم انوش زاذ، وذكروا أمه، فاعلم ان أولئك ذوو احقاد كامنه وعداوة باطنه، فجعلوا شتم   [1] الثؤلول بالضم: حلمه الثدى، وقد استعير للدلالة على ضالة الشان وصغر الهمه. [2] القاده والرماه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 انوش زاذ ذريعه لشتمنا، ومرقاه الى ذكرنا، وقد وفقت في تأديبك إياهم، فلا ترخص لأحد في مثل مقالتهم، والسلام. ثم ان كسرى عوفى من مرضه، فانصرف في جنوده الى دار ملكه، وقد أخذ ابنه انوش زاذ أسيرا، وانتهى فيه الى ما امر به. الخراج في عهد كسرى قالوا: وكانت ملوك الأعاجم يضعون على غلات الارضين شيئا معروفا من المقاسمات: النصف، والثلث، والربع، والخمس الى العشر، على قدر قرب الضياع من المدن، وعلى حسب الزكاء والريع، فهم قباذ باسقاط ذلك، ووضع الخراج، فمات قبل ان يستتم المساحة، فامر كسرى انوشروان باستتمامها. فلما فرغ منها امر الكتاب ففصلوها، ووضعوا عليها الوضائع، ووظف الجزية على اربع طبقات، وأسقطها عن اهل البيوتات والمرازبه [1] والأساورة [2] والكتاب، ومن كان في خدمه الملك، ولم يلزم أحدا لم يأت له عشرون سنه، او جاز الخمسين. وكتب تلك الوضائع في ثلاث نسخ، نسخه خلدها ديوانه، ونسخه بعث بها الى ديوان الخراج، ونسخه دفعت الى القضاء في الكور، ليمنعوا العمال من اعتداء ما في الدستور الذى عندهم، وامر ان يجبى الخراج في ثلاثة انجم [3] ، وسمى الدار التي يجبى فيها ذلك سراى شمره، وتفسيره دار الثلاثة الانجم، وهي التي تعرف بالشمرج اليوم، وقد قيل في تفسير ذلك غير هذا، اى انما هي دار الحساب، والحساب شمره، وهذا كلام معروف في لغة فارس الى اليوم، يسمون الخراج الشمره بالشين على معنى الحساب، ورفع خراج الرءوس عن الفقراء والزمنى، وكذلك خراج الغلات، ورفعه عما نالته   [1] رؤساء الفرس. [2] قواد الفرس ومجيدو الرمى بالسهام. [3] اوقات مضروبه، والمفرد نجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الآفة على قدر ما أصاب منها، ووكل بكل ذلك قوما ثقاتا، ذوى عدالة، ينفذونه، ويحملون الناس منه على النصفه. ولم يكن في ملوك العجم ملك كان اجمع لفنون الأدب والحكم، ولا اطلب للعلم منه، وكان يقرب اهل الآداب والحكمه، ويعرف لهم فضلهم، وكان اكبر علماء عصره بزرجمهر بن البختكان، وكان من حكماء العجم وعقلائهم، وكان كسرى يفضله على وزرائه وعلماء دهره. وكان كسرى ولى رجلا من الكتاب نبيها معروفا بالعقل والكفاية، يقال له بابك بن النهروان، ديوان الجند، فقال لكسرى: ايها الملك، انك قد قلدتني امرا، من صلاحه ان تحتمل لي بعض الغلظه في الأمور: عرض الجنود في كل اربعه اشهر، وأخذ كل طبقه بكمال آلاتها، ومحاسبه المؤدبين على ما يأخذون على تاديب الرجال بالفروسيه والرمى، والنظر في مبالغتهم في ذلك وتقصيرهم، فان ذلك ذريعه الى اجراء السياسة مجاريها. فقال كسرى: ما المجاب بما قال باحظى من المجيب، لاشتراكهما في فضله، وانفراد المجيب بعد بالراحة، فحقق مقالتك، وامر، فبنيت له في موضع العرض مصطبه [1] ، وبسط له عليها الفرش الفاخره، ثم جلس، ونادى مناديه: لا يبقين احد من المقاتله الا حضر العرض، فاجتمعوا، ولم ير كسرى فيهم، فأمرهم، فانصرفوا. وفعل ذلك في اليوم الثانى، ولم ير كسرى فانصرفوا، فنادى في اليوم الثالث: ايها الناس، لا يتخلفن من المقاتله احد، ولا من اكرم بالتاج والسرير، فانه عرض لا رخصه فيه ولا محاباه. وبلغ كسرى ذلك، فتسلح سلاحه، ثم ركب فاعترض على بابك، وكان   [1] مرتفع يقعد عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الذى يؤخذ به الفارس تجفافا [1] ، ودرعا وجوشنا [2] ، وبيضه، ومغفرا [3] وساعدين، وساقين، ورمحا، وترسا، وجرزا [4] ، يلزمه منطقته، وطبرزينا وعمودا، وجعبة فيها قوسان بوتريهما، وثلاثين نشابه، ووترين ملفوفين، يعلقهما الفارس في مغفره ظهريا، فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام، خلا الوترين اللذين يستظهر بهما، فلم يجز بابك على اسمه، فذكر كسرى الوترين، فعلقهما في مغفره، واعترض على بابك فأجاز على اسمه، وقال: لسيد الكماة اربعه آلاف درهم ودرهم. وكان اكثر من له من الرزق، اربعه آلاف درهم، ففضل كسرى بدرهم، فلما قام بابك من مجلسه دخل على كسرى، فقال: ايها الملك، لا تلمني على ما كان من اغلاظى، فما اردت به الا الدربه للمعدله والإنصاف، وحسم المحاباه. قال كسرى: ما غلظ علينا احد فيما يريد به اقامه أودنا او صلاح ملكنا الا احتملنا له غلظته كاحتمال الرجل شرب الدواء الكريه لما يرجو من منفعته. قالوا: وكانت كسكر كوره صغيره، فزاد كسرى انوشروان فيها من كوره بهرسير وكوره هرمزدخره، وكوره ميسان، فوسعها بذلك، وجعلها طسوجين [5] ، طسوج جنديسابور، وطسوج الزندورد، وكور بجوخى كوره خسروماه، وجعل لها سته طساسيج، طسوج طيسفون، وهي المدائن، وطيسفون قريه على دجلة اسفل من قباب حميد بثلاثة فراسخ، يقال لها بالنبطية طيسفونج، وطسوج جازر، وطسوج كلواذى، وطسوج نهر بوق، وطسوج جلولاء، وطسوج نهر الملك.   [1] التجفاف بالكسر: آله للحرب، يلبسه الفرس والإنسان ليقيه. [2] الصدر يدرع به في الحرب. [3] المغفر كمنبر زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة او حلق يتقنع بها المتسلح. [4] عمود من حديد. [5] الطسوج لفظ فارسي معرب، معناه، الناحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 تاريخ العجم والتاريخ النبوي وولد رسول الله ص في آخر ملك انوشروان، فأقام بمكة الى ان بعث بعد اربعين سنه، منها سبع سنين بقيت من ملك انوشروان، وتسع عشره سنه ملكها هرمز بن كسرى انوشروان، وبعث وقد مضى من ملك كسرى ابرويز ست عشره سنه، فأقام بمكة في نبوته صلى الله عليه وسلم وعلى عترته [1] ثلاث عشره سنه، وهاجر الى المدينة، وقد مضى من ملك ابرويز تسع وعشرون سنه، فأقام بالمدينة عشر سنين، وتوفى ص تسليما بعد موت كسرى ابرويز، فكان عمره ص ثلاثا وستين سنه. وزعموا ان بنات آوى ظهرت بالعراق في آخر ملك انوشروان، وكانت سقطت إليها من بلاد الاتراك، واستفظع الناس ذلك، وتعجبوا منه، وبلغ ذلك كسرى فقال للموبذ [2] : قد كثر تعجبي من هذه السباع التي غزت أرضنا فقال الموبذ: بلغنى ايها الملك فيما يؤثر من اخبار الأولين، ان كل ارض يغلب جورها عدلها تغزوها السباع. فلما سمع ذلك ارتاب بسيره عماله، فوجه ثلاثة عشر رجلا من امنائه الذين لا يكتمونه شيئا الى آفاق مملكته متنكرين، لا يعرفون، فانصرفوا، فاخبروه عن سوء سيره عماله ما غمه، فأرسل الى تسعين رجلا منهم، ذكروا بسوء السيرة، فضرب أعناقهم، فضبط عماله انفسهم، ولزموا عدل السيرة. ملك هرمزد وكان لكسرى انوشروان عده بنين، وكانوا جميعا اولاد سوقه وإماء الا ابنه هرمزد بن كسرى الذى ملك بعده، فان أمه كانت ابنه خاقان الترك، وأم أمه   [1] العترة: نسل الرجل ورهطه، وعشيرته الأدنون ممن مضى وغبر. [2] الموبذ او الموبذان هو الحكيم من الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 خاتون الملكه، فعزم أبوه على تمليكه من بعده، فوضع عليه عيونا، يأتونه باخباره، فكان يأتيه عنه ما يحبه، فكتب له عهدا، واستودعه رئيس نساكهم في دينهم، فلما تم لملكه ثمان واربعون سنه مات. فلما مات انوشروان ملك ابنه هرمزد بن كسرى، فقال يوم ملك: الحلم عماد الملك، والعقل عماد الدين، والرفق ملاك الأمر، والفطنة ملاك الفكره، ايها الناس، ان الله خصنا بالملك، وعمكم بالعبودية، وكرم ملكتنا فاعتقكم بها، وأعزنا، واعزكم بعزنا، وقلدنا الحكومة فيكم، والزمكم الانقياد لأمرنا، وقد اصبحتم فرقتين: إحداهما اهل قوه، والاخرى اهل ضعه، فلا يستاكلن منكم قوى ضعيفا، ولا يغشن ضعيف قويا، ولا تتوقن نفس احد من الغلبه الى ضيم احد من اهل الضعة، فان في ذلك وهنا لملكنا، ولا يرومن اهل من اهل الضعة الأخذ بماخذ الغلبه، فان في ذلك انتثار ما نحب نظامه وزوال ما نحاول قوامه، وفوت ما نحاول دركه، واعلموا ايها الناس، ان من سوسنا العطف على الأقوياء من الغلبه، ورفع مراتبهم، والرحمه على الضعفاء، والذب عنهم، وحسم الأقوياء عن ظلمهم والتعدى عليهم، واعلموا ايها الناس ان حاجتكم إلينا في نفس حاجتنا إليكم، وحاجتنا إليكم هي مسد لحاجتكم إلينا، وان الثقيل مما أنتم منزلوه بنا من أموركم عندنا خفيف، والخفيف مما نحن مجشموكم ثقيل لعجزكم عما نحن مضطلعون به، واضطلاعنا لما أنتم عنه عاجزون، وانما تحمدون حسن ملكتنا إياكم، وفضل سيرتنا فيكم إذا حسمتم انفسكم عما نهيناكم عنه، ولزمتم ما أمرناكم به. ايها الناس، ميلوا بين الأمور المتشابهات، ولا تسموا النسك رياء، ولا الرياء مراقبه، ولا الشراره شجاعة، ولا الظلم حزما، ولا رحمه الله نقمه، ولا مخوف الفوت هوينا، ولا البر بالقربى ملقا، ولا العقوق موجده، ولا الشك براء، ولا الإنصاف ضعفا، ولا الكرم معجزه، ولا التبرم عاده، ولا الأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بالفضل ذلا، ولا الأدب عقلا، ولا العماية غفله، ولا الغدر ضرورة، ولا النزاهة تضييعا، ولا التصنع عفافا، ولا الورع رهبه، ولا الحذر جبنا، ولا الشره اجتهادا، ولا الجناية غنما، ولا القصد تقتيرا، ولا البخل اقتصادا، ولا السرف توسعا، ولا السخاء سرفا، ولا الصلف بعد همه، ولا النبل صلفا، ولا البذخ تجلدا، ولا الحرمان استحقاقا، ولا رفع الأنذال صنيعه، ولا المجون ظرفا، ولا التخلف تثبتا، ولا التثبت بلاده، ولا النميمة وسيله، ولا السعاية دركا، ولا اللين ضعفا، ولا الفحش انتصافا، ولا الهذر [1] بلاغه، ولا البلاغة تفقيعا [2] ، ولا الميل في هوى الاشرار شكرا، ولا المداهنه مواتاه، ولا الإعانة على الظلم حفاظا. ولا الزهو مروءة، ولا اللهو فكاهة، ولا الحيف استقصاء، ولا الاستطالة عزا، ولا حسن الظن تفريطا، ولا ايطاء العشوة نصيحه، ولا الغش كيسا، ولا الرياء تعطفا، ولا التوانى تؤده، ولا الحياء مهابه، ولا السفه صرامه، ولا الدغل [3] استقامه، ولا البغى استعاذه، ولا الحسد شفاء، ولا العجب كمالا، ولا الفتك حميه، ولا الحقد مكرمه، ولا الضيق احتياطا، ولا التعسف انكماشا، ولا النزق تيقظا، ولا الأدب حرفه، ولا المعاتبه مفاسده، ولا بعد القدر سموا، ولا مجاري التقادير اسباب الذنوب، ولا ما لا يكون كائنا، ولا كائنا ما لا يكون. اجتنبوا المرذولات من هذه الأمور المتشابهات، وثابروا على ما تحظون به عندنا، فان وقوفكم عند امرنا منجاه لكم من سخطنا، وتنكبكم معصيتنا سلامه لكم من عقابنا، فاما العدل الذى نحن عليه مقتصرون، وبه نصلح وتصلحون، فأنتم فيه عندنا مستوون، ستعرفون ذلك إذا قمعنا اهل القوه عن اهل الضعف، وتولينا بأنفسنا امر المضطهدين الملهوفين، واخضعنا اهل الضعة لأهل العلا بانزالنا إياهم منازلهم، ورددنا من رام من اهل الضعة مرتبه لا يستوجبها الا المستحقون منهم الحباء والشرف لنجده توجد عنده، او بلاء حسن يظهر منه.   [1] سقط الكلام. [2] التشدق في الكلام. [3] الدخول في الأمور بما يفسدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 واعلموا ايها الناس، انا فارقون بين سوطنا وسيفنا، ومستعملوهما بتثبت وحسن رويه، فمن غمط نعمتنا وخالف امرنا، وحاول ما نهيناه عنه، فانا لا نكاد نصلح رعايانا، ونضبط أمورنا الا بتنكيل من خالف امرنا، وتعدى سيرتنا، وسعى في فساد سلطاننا، ولا يطمعن احد في رخصه منا، ولا يرجون هواده عندنا، فانا غير مداهنين في حق الله الذى قلدنا، فوطنوا انفسكم على احدى خلتين: اما استقامه بما تصلحون، واما مخافه على ما تتلفون، فان الصلاح حجتان معتدان لكم عندنا من تدبير ملكنا، وضبطنا سلطاننا، فلا تستصغروا وعيدنا، وتهددنا، ولا تحسبوا ان فعلنا يقصر عن قولنا، وانما أحببنا ان نعلمكم رأينا في اجتناب الرخص والمحاباه، وحرصنا على الاعتذار قبل الإيقاع، والأخذ بقصد السيرة والعدل في الرعية، واختيار طاعتكم التي بها تكون ألفتكم واستقامتكم، فثقوا بما بدأنا به من وعد، وخافوا ما أظهرنا من وعيد، ونحن نسأل الله ان يعصمكم من استدراج الشيطان وضلاله، وان يسددكم لما يقرب من طاعته، وبلوغ مرضاته، والسلام عليكم. فلما سمع الناس ذلك تباشر به الضعفاء واهل الضعة، وفت ذلك في اعضاد العليه وساءهم، فتنكبوا ما كانوا فيه من الاستطالة على الضعفاء، والقهر لأهل الضعة،. وكان هرمزد ملكا متحريا لحسن السيرة، مثابرا على استصلاح الرعية، رحيما بالضعفاء، شديدا على الأقوياء، وبلغ من عدله وتحريه الحق انه كان يسير في كل عام الى ارض الماهين [1] فيصيف بها، وكان يأمر عند مسيره إليها مناديه، فينادى في عسكره ان يتحاموا الاضرار بالدهاقين [2] ، ويوكل بتعهد ذلك ومعاقبه من تعدى امره فيه رجلا من ثقاته.   [1] الماهان: الدينور ونهاوند، إحداهما ماه الكوفه، والاخرى ماه البصره. [2] الدهاقين جمع دهقان وهو المزارع او الفلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وكان ابنه كسرى الذى ملك من بعده، ويسمى ابرويز، معه في مسيره، فعار [1] ذات يوم مركب من مراكبه، فوقع في زرع على طريقه، فرتع فيه، وافسد، فاخذ صاحب الزرع ذلك المركب، فدفعه الى الموكل بذلك الأمر، فلم يمكنه معاقبه كسرى، فرقى امره الى ابيه، فامر ان يجدع إذنا الفرس، ويحذف ذنبه، ويغرم ابنه مقدار مائه ضعف مما افسد الفرس من ذلك الزرع. فخرج الموكل بذلك من عند الملك لينفذ امر الملك، فوجه كسرى رهطا من المرازبه والاشراف الى الموكل بذلك، ليسالوه التغييب عن ذلك ويدفع الف ضعف مما افسد مركبه، لما في جدع اذن الفرس وتبتير ذنبه من الطيرة، فلم يجبهم الموكل الى ذلك، وامر بالمركب فجدعت أذناه، وبتر ذنبه، وغرم كسرى ما أصاب صاحب الزرع كنحو ما كان يغرم سائر الناس، فلم يكن للملك هرمزد بن كسرى همه ولا نهمه الا استصلاح الضعفاء، وانصافهم من الأقوياء، فاستوى في ملكه القوى والضعيف. وكان هرمزد منصورا مظفرا لا يروم تناول شيء الا ناله، لم يهزم له جيش قط، وكان اكثر دهره غائبا عن المدائن. اما بالسواد متشتيا، واما بالماه متصيفا. فلما كانت سنه احدى عشره من ملكه حدق به الأعداء من كل وجه فاكتنفوه اكتناف الوتر سيتى [2] القوس، اما من ناحيه الشرق فان شاهنشاه الترك اقبل حتى صار الى هراة [3] ، وطرد عمال هرمزد، واما من قبل المغرب فان ملك الروم اقبل حتى شارف نصيبين ليسترد آمد [4] وميافارقين [5]   [1] عار الفرس يعير ذهب كأنه منفلت. [2] سيتا القوس: طرفاه. [3] مدينه في افغانستان سكانها سنيوس وبينهم طائفه من الشيعة، وينسب بناؤها الى الاسكندر، وهي مشهوره بجامعها القديم وفيها تصنع الطنافس. [4] آمد وهي ديار بكر، مدينه على الشاطئ الأيسر لنهر دجلة، فتحها عياض بن غنام النهري. [5] ميافارقين: قاعده بلاد ديار بكر بين الجزيرة وأرمينية، وقد سميت قديما مارتيروپوليس او مدينه الشهداء لما جمع فيها من عظام الفرس المسيحيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ودارا ونصيبين [1] ، واما من قبل أرمينية فان ملك الخزر اقبل حتى اوغل في اذربيجان، فبث الغارات فيها. فلما انتهى ذلك الى هرمزد بدا بقيصر، فرد عليه المدن التي كان أبوه اغتصبه إياها، وساله الصلح والموادعة، فأجابه قيصر الى ذلك، فانصرف، ثم كتب الى عماله بإرمينية واذربيجان، فاجتمعوا وصمدوا صمد صاحب الخزر، حتى نفوه عن ارضه. فلما فرغ من ذلك كله صرف همه الى صاحب الترك، وكان أشد الأعداء عليه، فكتب الى بهرام بن بهرام جشنش، عامله على ثغر آذربيجان وأرمينية، وهو الملقب ببهرام شوبين، يأمره بالقدوم عليه، فما لبث ان قدم، فاذن له، فدخل عليه، فرفع مجلسه، واظهر كرامته، وخلا به، واخبره بالأمر الذى اراده له، من التوجه الى شاهنشاه الترك. فسارع بهرام الى طاعته واتباع امره، فامر هرمزد ان يسلط بهرام على بيوت الأموال والسلاح، وان يسلم اليه ديوان الجند، ليختار من أحب على عينه، فاحضر بهرام الديوان، وجمع اليه المرازبه والاشراف، فانتخب اثنى عشر الف رجل من الفرسان، ليس فيهم الا من اناف الأربعين. وبلغ ذلك الملك، فقال له: لم لم تنتخب الا هذا المقدار، وانما تريد ان تسير بهم الى ثلاثمائه الف رجل؟. فقال بهرام: الم تعلم ايها الملك ان قابوس حين اسر فحبس في حصن ما سفرى انما سار اليه رستم في اثنى عشر ألفا، فاستنقذه من أيدي مائتي الف، وان اسفندياد انما سار الى ارجاسف ليطلب منه الوتر الذى كان له عنده في اثنى عشر ألفا، وان كيخسرو انما ارسل جودرز ليطلب بدم ابيه سياوش في اثنى عشر ألفا، فظهر على ثلاثمائه ألف؟ فأي جيش لا يفل باثنى عشر ألفا لا يفل بشيء ابدا.   [1] نصيبين مدينه فيما بين النهرين، اشتهرت قديما بمدرستها السريانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فلما فصل بهرام بالجنود من المدائن ودعه الملك، وقال له: إياك والبغى، فان البغى مصرعه بصاحبه، وعليك بالوفاء، فان فيه نجاه لمحاوله، وإياك ان تسير الا على تعبئة الحرب، فإذا نزلت فاحرس عسكرك بنفسك، وامنع جنودك من العيث والفساد، وإياك ان تعزم حتى تروى، ولا تروى حتى تستشير اهل النصح والأمانة، ثم انصرف الملك، ومضى بهرام، فاخذ على طريق الاهواز. وبلغ ملك الترك قدوم الجيش لمحاربته، وقد كان الملك هرمزد وجه الى ملك الترك رجلا من مرازبته يسمى هرمزد جرابزين، وكان من ادهى العجم، واشدهم خلابة وكيدا، وامره ان يعلمه انه رسول الملك، ارسله لمصالحته، واعطائه الرضى، فأتاه هرمزد جرابزين، فاستعمل فيها الخديعة، وكفه بها عن الفساد في ارض خراسان، فلما علم هرمزد ان بهرام قد دنا من هراة خرج ليلا، فلحق ببهرام. ولما بلغ ملك الاتراك ورود الجيش قال لصاحب حرسه: انطلق فائتنى بهذا الفارس الخداع، فطلبوه، فوجدوه قد هرب في جوف الليل. وخرج خاقان من مدينه هراة للقاء بهرام، وعلى مقدمته اربعون ألفا. فلما التقوا ارسل الى بهرام: ان انضم الى حتى املكك على ايران شهر، واجعلك اخص الناس بي. فأرسل اليه بهرام كيف تملكني على ايران شهر، وانما ملكها لأهل بيت فينا لا يجوز ان يعدوهم الى غيرهم، ولكن هلم الى الحرب. فغضب ملك الترك من ذلك، وامر، فضرب بوق الحرب، وتزاحف الفريقان، وملك الترك على سرير من ذهب فوق رابيه، يشرف على الفريقين. فلما استمرت الحرب قصد بهرام للتل في مائه فارس من ابطال جنوده، فانفض عنه من حول ملك الترك، فلما راى الملك ذلك دعا بمركبه، واستبان لبهرام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فرماه بنشابه نفذته، فخر صريعا، وانهزم الاتراك، وقد كان شاهنشاه خلف على ملكه ابنه يلتكين فلما أتاه مقتل ابيه استجاش [1] الترك، واقبل في دهم داهم من امم الاتراك، وانضم اليه الفل. وبلغ بهرام الخبر، فأرسل في اقطار خراسان، فاجتمع اليه بشر كثير فسار مستقبلا ليلتكين، فالتقوا على شاطئ النهر الأعظم مما يلى الترمذ، وهاب كل واحد منهما صاحبه، وجرت بينهما السفراء في الصلح. وارسل بهرام اليه انكم معاشر الخاقانيه قتلتم ملكنا فيروز، فاهدرنا دمه، وقبلنا الصلح منكم، فكذلك، فافعلوا بنا. فأجابه يلتكين الى الصلح على حكم هرمزد الملك، وأقاما بمكانهما. فكتب بهرام الى هرمزد بذلك، فكتب اليه هرمزد: ان توجه الى يلتكين مكرما في خاصه طراخنته [2] وعظماء جنوده. فتوجه يلتكين الى العراق، فلما دنا من المدائن خرج هرمزد ملتقيا له، وترجل كل واحد منهما لصاحبه، واظهر هرمزد اكرام يلتكين، وانزله معه في قصره، وأخذ كل واحد منهما عهدا وكيدا على صاحبه بالمسألة ما بقيا، ثم اذن له، فانصرف الى مملكته. ولما وغل في خراسان استقبله بهرام في جنوده، وسار معه الى حد مملكته، وانصرف بهرام حتى اتى مدينه بلخ، فنزلها، ووجه الى الملك هرمزد ما كان غنمه من عسكر شاهنشاه، ووجه اليه بذلك السرير الذهب، فبلغ ما وجه اليه وقر [3] ثلاثمائه بعير. فلما وصلت الغنائم الى هرمزد، وعرضت عليه، وحوله وزراؤه وعظماء   [1] طلب الجيوش منهم. [2] جمع طرخان وهو الرئيس، ويلقب به الأعيان في خراسان. [3] الوقر بالكسر: الحمل الثقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 مرازبته، قال يزدان جشنس رئيس وزرائه: ايها الملك، ما كان اعظم المائدة التي منها هذه اللقمة، فوقعت هذه الكلمه في قلب هرمزد، وارتاب بامانه بهرام، وظن ان الأمر كما قال يزدان جشنس، فانظر كم داهيه دهياء وحروب وبلاء جرت هذه الكلمه. ودخل هرمزد منها الغضب والغيظ على بهرام ما انساه حسن بلائه، فأرسل الى بهرام بجامعه ومنطق امراه ومغزل، وكتب اليه انه قد صح عندي انك لم تبعث الى من تلك الغنائم الا قليلا من كثير، والذنب لي في تشريفى إياك، وقد بعثت إليك بجامعه، فضمها في عنقك، ومنطق امراه، فتنطق بها، ومغزل، فليكن في يدك، فان الغدر والكفران من اخلاق النساء. فلما وصل ذلك الى بهرام كظم غيظه، وعلم انه انما اتى من الوشاة، فوضع الجامعه في عنقه، وصير المنطق في وسطه، وأخذ المغزل في يده، ثم اذن لعظماء اصحابه، فدخلوا عليه، ثم اقراهم كتاب الملك اليه، فلما سمع اصحابه ذلك يئسوا من خير الملك، وعملوا انه لم يشكر لهم حسن بلائهم، فقالوا: نقول كما قال أولو خوارجنا لاردشير: ملك ولا يزدان. ونحن نقول: لا هرمزد ملك، ولا يزدان جشنس وزير. وكانت قصه اولى خوارجهم: ان أردشير بابكان كان صار اليه بعض الحواريين، فاستجاب له، ودخل في دين المسيح ص، وكان في عصره، وشايعه على ذلك وزيره يزدان، فغضب العجم لذلك، وهموا بخلع أردشير حتى اظهر لهم الرجوع عما هم به من ذلك، فأقروه على الملك. فقال اصحاب بهرام لبهرام: ان أنت تابعتنا على خلع هرمزد والخروج عليه، والا خلعناك، وراسنا غيرك، فلما راى اجتماعهم على ذلك أجابهم على اسف وهم وكراهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وخرج هرمزد جرابزين ويزدك الكاتب من معسكر بهرام ليلا حتى قدما المدائن، وأخبرا هرمزد الخبر. ثم ان بهرام سار في جنوده نحو العراق لمحاربه هرمزد الملك حتى ورد مدينه الري فأقام، واتخذ سكه للدراهم بتمثال كسرى ابرويز ابن الملك، وصورته، واسمه، وضرب عليه عشره آلاف درهم، وامر بالدراهم، فحملت سرا حتى القيت بالمدائن، ففشت في أيدي الناس. وبلغ ذلك الملك هرمزد، فلم يشك ان ابنه كسرى يحاول الملك، وانه الذى امر بضرب تلك الدراهم، وذلك الذى اراد بهرام بما فعل، فهم الملك بقتل ابنه كسرى، فهرب كسرى من المدائن ليلا نحو اذربيجان حتى أتاها، واقام بها، ودعا الملك بندويه وبسطاما، وكانا خالي كسرى، فسألهما عن كسرى، فقالا لا علم لنا به، فارتاب بهما، فامر بحبسهما. ثم ان الملك جمع نصحاءه، فاستشار هم، فقالوا: ايها الملك، انك عجلت في امر بهرام، وقد رأينا ان توجه الى بهرام بيزدان جشنس، فليس بهرام بقاتله، إذا أتاه فاعتذر اليه، وباء بذنبه عنده، وتكون قد طيبت نفس بهرام، ورددته الى الطاعة، وحقنت بذلك الدماء، فقبل الملك ذلك. وبعث بيزدان جشنس الوزير، فلما تهيأ للمسير ارسل اليه ابن عم له كان محبوسا في حبس الملك ببعض الجرائم، يسأله ان يستوهبه من الملك، ويخرجه معه، فان عنده غناء ومعونه في الأمور، ففعل يزدان جشنس واخرجه معه. فلما صار بمدينه همذان ارتاب بابن عمه ذلك، وكتب كتابا الى الملك يعلمه: انه قد رده اليه، ليأمر بقتله، او يرده الى محبسه، فانه فاجر فتاك، وقال له: انى قد كتبت الى الملك كتابا في بعض الأمور، فاغذ السير به حتى تدفعه اليه، ولا تطلعن على ذلك أحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فارتاب الرجل بذلك، فلما تغيب عن يزدان جشنس، وفك الكتاب، وقراه فإذا فيه حتفه، فرجع الى يزدان جشنس، وهو مستخل، فضربه حتى قتله، وأخذ راسه، فانطلق به الى بهرام، وهو بالري، فالقاه بين يديه، وقال: هذا راس عدوك يزدان جشنس الذى وشى بك الى الملك، وافسد قلبه عليك، فقال له بهرام: يا فاسق، اقتلت يزدان جشنس في شرفه وفضله، وقد كان خرج نحوى ليعتذر الى مما كان منه، ويصلح بيني وبين الملك؟. ثم امر به، فضربت عنقه. وبلغ من بباب الملك من العظماء والاشراف والمرازبه مقتل يزدان جشنس، وكان عظيما فيهم، فمشى بعضهم الى بعض، وعزموا على خلع الملك، وتمليك ابنه كسرى، وكان الذى زين لهم ذلك، وحملهم عليه بندويه وبسطام خالا كسرى. وكانا محتبسين، فأرسلا الى العظماء، ان أريحوا انفسكم من ابن التركية، يعنيان الملك هرمزد، وقد قتل خيارنا، واباد سراتنا، وذلك انه كان مولعا بالعلية من اجل استطالتهم على اهل الضعف، فقتل منهم خلقا كثيرا، فاتفقوا على يوم يجتمعون فيه لذلك، فاقبلوا جميعا حتى اخرجوا بندويه وبسطاما من الحبس، وجميع من كان فيه. توليه كسرى ابرويز ثم أقبلوا الى الملك هرمزد فنكسوه عن سريره، وأخذوا تاجه ومنطقته وسيفه وقباءه، فأرسلوا بها الى كسرى، وهو باذربيجان. فلما انتهى ذلك اليه سار مقبلا حتى ورد المدائن، ودخل الإيوان، واجتمع اليه العظماء، فقام فيهم خطيبا، فكان مما قال: المقادير ترى المرء ما لا يخطر بباله، والأسباب تأتي على خلاف الهوى، والبغى مصرعه لأهله، والخائب من اورطته رغبته، والحازم من قنع بما قضى له ولم تتق نفسه الى اكثر منه. ايها الناس: ثابروا على ما يقربكم إلينا من طاعتنا ومناصحتنا، وإياكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومخالفه امرنا، والبغى علينا، فانا لكم بمنزله العرى والأركان. فلما تفرق الناس عنه قام يمشى حتى دخل على ابيه، وهو في بيت من بيوت القصر، فقبل يديه ورجليه، وقال: يا أبت، ما احببت هذا الأمر في حياتك، ولا اردته، ولو لم اقبله لصرف منا، وازيل عنا الى غيرنا. فقال له أبوه: صدقت وقد قبلت عذرك، فدونك الأمر، فقم به، وقد عرضت لي إليك حاجه. قال: يا أبت، وما عسى ان يعرض لك الى؟. قال: تنظر الذين تولوا نكسى عن السرير، وأخذوا التاج عن راسى، واستخفوا بي، وهم فلان وفلان، وسماهم، فعجل قتلهم، واطلب لأبيك بثاره منهم. قال كسرى: هذا لا يمكن يومنا هذا حتى يقتل الله عدونا بهرام، ويستدف [1] لنا الأمر، فتنظر عند ذلك كيف ابيرهم [2] وانتقم لك منهم. فرضى أبوه بذلك منه، وخرج كسرى من عنده، فجلس مجلس الملك. وبلغ بهرام ما جرى، وهو بالري، وما كان من الأمر، فغضب لهرمزد غضبا شديدا، وأدركته له حميه ورقه، وذهب عنه الحقد، فسار في جنوده جادا مجدا ليقتل كسرى ومن والاه على امره، ويرد هرمزد الى ملكه. وبلغ كسرى فصوله من الري، وما يهم به، فكتم ذلك عن ابيه، وسار ملتقيا لبهرام في جنوده، وقدم رجلا من ثقاته، وامره ان ياتى عسكر بهرام متنكرا، فينظر سيرته، ويعرف له كنه امره. فسار الرجل، فاستقبل بهرام بهمذان، فأقام في عسكره حتى عرف جميع امره، ثم انصرف الى كسرى، فاخبره: ان بهرام إذا سار كان عن يمينه مردان سينه الرويدشتى، وعن يساره يزدجشنس بن الحلبان، وان أحدا   [1] يستدف يستقيم. [2] ابيرهم اهلكهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 من جنوده لا يطمع نفسه في اغتصاب احد من الرعية مقدار حبه فما فوقها، وانه إذا نزل المنزل دعا بكتاب كليله ودمنه، فلا يزال منكبا عليه طول نهاره. فقال كسرى لخاليه بندويه وبسطام: ما خفت بهرام قط كخوفى منه الساعة، حين اخبرت بإدمانه النظر في كتاب كليله ودمنه، لان كتاب كليله ودمنه يفتح للمرء رايا افضل من رايه، وحزما اكثر من حزمه، لما فيه من الآداب والفطن. وان كسرى وبهرام توقفا بالنهروان، فعسكر كل منهما باصحابه في ناحيه، وخندق على نفسه، ثم ان بهرام عقد جسرا، وعبر الى كسرى، فلما تواقف الجمعان بدر بهرام حتى دنا من صفوف كسرى، ثم صاح باعلى صوته تبا لكم يا معشر العجم، في خلعكم ملككم، ايها الناس: توبوا الى ربكم مما فعلتم، وانحازوا الى بجماعتكم حتى نرد السلطان على ملككم قبل ان ينزل الله نقمته عليكم. فلما سمع اصحاب كسرى ذلك قال بعضهم لبعض قد والله صدق بهرام، وان الأمر لعلى ما قال، فهلموا بنا نتلاف امرنا، ونصلح ما كان منا بإجابة بهرام الى ما راى. وانحازوا جميعا، فانضموا الى بهرام، ولم يبق مع كسرى الا خالاه، بندويه وبسطام، وهرمزد جرابزين، والنخارجان، وسابور بن ابركان، ويزدك كاتب الجند، وباد بن فيروز، وشروين بن كامجار، وكردى بن بهرام جشنس أخو بهرام شوبين لأبيه وأمه، وكان من ثقات كسرى واحبائه. فقال [1] هؤلاء لكسرى: ايها الملك، ما تفعل؟ الا ترى الى جميع الناس قد فارقوك، وانحازوا الى عدوك. فمضى نحو المدائن حتى إذا انتهى الى قنطره جوذرز التفت وراءه، فإذا هو ببهرام وحده، قد ترك الناس خلفه حتى   [1] في الأصل: فقالوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 دنا منه ومن اصحابه، فوقف له كسرى على طرف القنطرة، ووتر قوسه، وكان من رماه الناس، فوضع فيها نشابه، وخاف ان يعمد برميته بهرام، فلا يعمل السهم فيه لجوده درعه، فاراد ان يعمد وجهه، فلم يامن ان يتترس بدرقته [1] او يميل وجهه عن سهمه، فرمى جبهه فرسه، فلم يخطئ وسط جبهته، واستدار الفرس من شده الرميه، ثم سقط. وبقي بهرام راجلا، فأمعن كسرى ركضا حتى دخل المدائن، واتى أباه، ولم يعلمه ان بهرام انما يحاول رد الملك اليه غير انه قال له: ان اصحابى جميعا مالوا اليه ثم قال ما الذى ترى؟ قال ارى لك ان تلحق بقيصر، فانه سينجدك، وينصرك حتى يسترجع لك ملكك. فقبل كسرى يدي ابيه ورجليه، وودعه، وسار نحو البحر في اصحابه، وكانوا تسعه، هو عاشرهم، فقال بعضهم لبعض: ان بهرام يوافى المدائن اليوم او غدا، فيملك هرمزد، فيكون ملكا كما لم يزل، ثم يكتب هرمزد الى قيصر، فيردنا اليه، فيقتلنا جميعا، وليس كسرى بملك ما دام أبوه حيا. فقال بندويه وبسطام خالا كسرى نحن نكفيكم ذلك. فانصرفا على المقبض، ثم اقبلا حتى دخلا قصر المملكة، وولجا على هرمزد البيت الذى كان فيه، وقد شغل الحشم بالبكاء والعويل، لهرب كسرى من عدوه، فألقيا عمامة في عنقه، فخنقاه حتى مات. ثم لحقا بكسرى، ولم يخبراه بذلك، وساروا بالركض الشديد يومهم، مخافه الطلب، ومن الغد حتى شارفوا مدينه هيت [2] ، وانتهوا الى دير رهبان، فنزلوه، فاتوهم بخبز شعير، فبلوه بالماء، واكلوه، وأتوهم بخل، فمزجوه بماء، وشربوا منه، واتكأ كسرى على خاله بسطام، فنام لشدة ما اصابه من التعب، فبيناهم كذلك إذ ناداهم الراهب من صومعته: ايها النفر، قد أتتكم الخيل، وهم بالبعد.   [1] الدرقة معرب دريجه، والدرق بالفتح الصلب من كل شيء، والدرقة كالدرع يتخذها المحارب ليحمى نفسه من النشاب والسهام. [2] بلده على الفرات، فوق الأنبار على جهة البريه، وقد سميت باسم بانيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقد كان بهرام، حين وافى المدائن، فصادف هرمزد الملك قتيلا، ازداد غيظا على كسرى وحنقا، فوجه بهرام بن سياوشان في الف فارس على الخيل العتاق. فلما نظر كسرى واصحابه الى الخيل سقط في ايديهم، وايسوا من انفسهم، فقال بندويه لكسرى: انا أخلصك بحيلتي، غير انى اغرر بنفسي. قال له كسرى: يا خال، انك ان وقيتني بنفسك سلمت او قتلت، فكفاك بذلك ذكرا باقيا وشرفا عاليا، فقد خاطر ارسناس بنفسه في امر منوشهر، واتى فراسياب ملك الاتراك، وهو في وسط جنوده، فرماه بسهم فقتله، واراح زاب الملك منه، فأصاب بثار منوشهر، فقتل، فبعد صيته في الناس، وعظم ذكره، وقد خاطر جوذرز بنفسه بسبب سابور ذي الاكتاف حين قام بتدبير ملكه، وضبط سلطانه، فحسده الناس لذلك، فلما ادرك سابور ملكه على جميع أموره، وفوض اليه سلطانه. قال له بندويه قم، فالق عنك قباءك، ومنطقتك، وحل عنك سيفك، وضع تاجك، واركب في سائر أصحابك، فتبطنوا هذا الوادى، فاغذوا فيه السير، ودعوني والقوم. ففعل كسرى ما امره، وتبطن الوادى، وسار في بقية اصحابه، وعمد بندويه الى قباء كسرى فلبسه، وتنطق بمنطقته، ووضع التاج على راسه. ثم قال للرهبان عليكم بالجبل، فألحقوا به الى ان ينصرف هذا الخيل، والا لم آمن ان يقتلوكم. عن آخركم. فتركوا الصومعة جميعا، وخرجوا عن الدير. وصعد بندويه، فصار على سطح الدير، وقد اغلق عليه الباب، وهو لابس بزه كسرى، فقام على رجليه قائما، حتى علم ان القوم قد راوه جميعا، ثم نزل الى الدير، فخلع بزه كسرى، ولبس بزه نفسه، ثم عاد الى سطح الدير، وقد حدقت به الخيل، فقال يا قوم، من اميركم؟ فاتى بهرام بن سياوشيان وقال انا أميرهم، ما تشاء يا بندويه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قال: ان الملك يقرئك السلام، ويقول، انا انما نزلنا آنفا [1] ، وقد كللنا، وتعبنا، وليس عليك منا فوت، فدعنا على حالنا في هذا الدير الى العشاء، لنخرج إليك، وننطلق معك الى بهرام، فيحكم فينا بما يرى. قال بهرام بن سياوشان ذلك له، وعزازه. ثم نزل بندويه، والقوم محدقون بالدير، فلما امسوا عاد بندويه الى سطح الدير، وقال لبهرام بن سياوشان: ان الملك يقول لك: هذا المساء، وليست لنا اجنحه نطير بها، وقد حدقتم بالدير، فدعنا ليلتنا هذه لنستريح، وامتن علينا بذلك، فإذا أصبحنا خرجنا إليك، ومضينا معك. قال بهرام وذلك له، وحبا وكرامة. ثم امر اصحابه ان يكونوا فرقتين، فرقه تنام، واخرى تحرس نوائب. فلما اصبح بندويه فتح الباب وخرج الى القوم وقال: ان كسرى قد فارقنى لمنذ أمس، هذا الوقت، ولو كنتم على نجائب كالريح ما لحقتموه، وانما كان ما سمعتم منى مكيده وحيله. فلم يصدقوه، ودخلوا الدير، ففتشوه بيتا بيتا، فسقط في يد بهرام بن سياوشان، ولم يدر ما يعتذر به الى بهرام شوبين. فحمل بندويه، وانصرف حتى دخل على بهرام شوبين، واخبره بالحيلة التي احتالها بندويه، فدعا به بهرام، وقال: لم ترض بما كان منك من قتل الملك هرمزد، حتى خلصت الفاسق كسرى، فنجا مني؟ قال بندويه اما قتلى هرمزد فلست اعتذر منه، إذ طغى وبغى، وقتل صناديد العجم، والقى بأسهم بينهم، وفرق كلمتهم، واما حيلتي في تخليص ابن أختي كسرى فلا لوم على في ذلك، إذ كان ولدى. قال بهرام: اما انه ليس يمنعني من تعجيل قتلك الا ما أرجو من ظفري بالفاسق كسرى، فاقتله، واقتلك على اثره، ثم قال لبهرام بن سياوشان احبسه عندك مقيدا الى ان ادعوك به.   [1] اى منذ ساعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ثم ان بهرام جمع اليه وجوه المملكة، فقال: قد علمتم ما ارتكب كسرى من الوزر العظيم بقتل ابيه، وقد مضى هاربا، فهل ترضون ان اقوم بتدبير هذا الملك حتى يدرك شهريار بن هرمزد مدرك الرجال، فاسلمه اليه. فرضى بذلك فريق، وأباه فريق. فممن ابى موسيل الأرمني، وكان من عظماء المرازبه، وقال لبهرام: ايها الاسبهبد [1] ، ليس لك ان تقوم بشيء من ذلك، وكسرى صاحب الملك ووراثه في الأحياء، فقال بهرام: من لم يرض فليرتحل عن المدائن، فانى ان صادفت بعد ثالثه أحدا ممن لم يرض ثاويا بالمدائن ضربت عنقه. فارتحل موسيل الأرمني فيمن كان على رايه، وكانوا زهاء عشرين الف رجل، فساروا الى اذربيجان، فنزلوها ينتظرون قدوم كسرى من الروم، ولم يزل بندويه محتبسا عند بهرام بن سياوشان، فكان بهرام بن سياوشان يحسن اليه في المطعم والمشرب ليتخذ بذلك زلفه عنده، لما ظن ان كسرى سينصرف، ويرجع اليه الملك، وكان إذا جن عليه الليل اخرجه من محبسه، فاجلسه معه على شرابه، فقال بندويه ذات ليله لبهرام: يا بهرام، ان ما أنتم فيه سيضمحل، ويذهب لظلم بهرام شوبين واعتدائه. فقال بهرام: والله لاعرف ما تقول، وانى لاهم بأمر. قال بندويه: وما هو؟ قال: اقتل غدا بهرام شوبين، واريح الناس منه، ليرجع الملك الى نظامه وعنصره قال بندويه: اما إذ كان رأيك، فاطلقنى من قيدي، ورد على دابتى وسلاحي، ففعل. ولما اصبح بهرام بن سياوشان تدرع تحت ثيابه درعا، واشتمل على السيف، فابصرت ذلك امراته، وكانت بنت اخت بهرام شوبين، فاسترابت به، وبعثت الى بهرام تعلمه ذلك. وابتكر بهرام الى الميدان، فكان لا يمر به احد من اصحابه الا ضرب جنبه بالصولجان، فلم يسمع حس [2] الدرع من احد منهم، حتى مر به بهرام   [1] كلمه فارسيه Ispehbed معناها قائد، وفي الأصل اصبهبذ، وهو تحريف، فاصبهبذ مدينه في بلاد الديلم. [2] الحس بالكسر: الحركة والصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ابن سياوشان فضرب جنبه بالصولجان، فلما سمع حس الدرع استل سيفه وضربه حتى قتله. وتنادى الناس: قتل بهرام في الميدان، فظن بندويه ان بهرام شوبين المقتول، فركب دابته، ومضى نحو الميدان، فلما علم ان المقتول صاحبه خرج متنكرا، يسير الليل، ويكمن النهار، حتى اتى اذربيجان، فأقام مع موسيل واصحابه هناك. ولما سار كسرى من الدير سار يوما وليله، وتلقاهم اعرابى، فوقفوا عليه، فسأله كسرى، وكان يحسن بالعربية شيئا، من هو؟ فاخبر انه من طيّئ، وان اسمه اياس بن قبيصة، فقال له: اين الحى؟، فقال: قريب، قال: فهل من قرى، فقد بلغ منا الجوع؟، قال: نعم، فعدلوا معه الى الحى، فنزلوا به، وسرحوا خيلهم ترتع، وأقاموا عنده يومهم، فاحسن قراهم، وزودهم، وخرج بهم حين امسوا يدلهم الطريق، حتى اخرجهم لثلاث بيالس [1] من شاطئ الفرات. ثم انصرف. وسار كسرى حتى انتهى الى اليرموك، فخرج اليه خالد بن جبله الغساني، فقراه، ووجه معه خيلا حتى بلغ قيصر، فدخل عليه، وابثه شانه، وما توجه له، فوجده بحيث امل من نصره، ومعونته. فقال له بطارقته: ايها الملك قد علمت ما لقى من كان قبلك من آبائك من هؤلاء، منذ زمان الاسكندر، وكان آخر ما لقينا منهم اغتصاب جد هذا إيانا مدن الشام التي لم تزل في أيدينا ارثا من آبائنا منذ الف عام، فردها عليك ابو هذا حين اجلبت بخيلك ورجلك، فدع القوم يشتغل بعضهم ببعض، فان حرب العدو بعضهم بعضا فتح عظيم. فقال قيصر لعظيم الأساقفة: ما تقول أنت يا كبيرنا؟. فقال: لا يحل لك خذلانه، إذ كان مبغيا عليه، والرأي ان تنصره، ليكون لك سلما ما بقيت وبقي.   [1] مراحل السفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قال قيصر: وهل يجوز للملوك ان يستجار بهم فلا يجيروا؟. فاخذ على كسرى العهود والمواثيق بالمسالمه، وزوجه ابنته مريم، ثم عقد لابنه ثيادوس في ابطال جنوده، وفيهم عشره رجال من الهزار مردين [1] ، وقواهم بالأموال والعتاد، وامرهم بالمسير معه، وشيعهم ثلاثة ايام. فسار كسرى بالجيش، فاخذ على أرمينية حتى إذا صار باذربيجان انضم اليه خاله بندويه وموسيل الأرمني ومن معه من مرازبته ومرازبه فارس. وبلغ خبره بهرام شوبين، فسار جادا بالجنود حتى وافاه باذربيجان، فعسكر على فرسخ من معسكر كسرى. ثم تزاحفوا، ونصب لكسرى وثيادوس سرير من ذهب فوق رابيه تشرف بهما على مجتلد القوم، ولما تواقفت الخيلان اقبل رجل من الهزار مردين حتى دنا من كسرى، فقال: ارنى هذا الذى غلبك على ملكك. فدخلت كسرى انفه من تعييره اياه بذلك، فكظمها، غير انه أراه بهرام شوبين، فقال: هو صاحب الفرس الأبلق المعتجر [2] بالعمامة الحمراء، الواقف امام اصحابه. فمضى الرومي نحو بهرام شوبين، فناداه: ان هلم الى المبارزه، فخرج اليه بهرام، فاختلفا ضربتين، فلم يصنع سيف الرومي شيئا في بهرام، لجوده درعه، وضربه بهرام على مفرق راسه، وعليه البيضه، فقد البيضه، وافضى السيف الى صدر الرومي، فقده حتى وقع نصفين، عن يمين وشمال. وابصر ذلك كسرى، فاستغرب ضحكا، فغضب ثيادوس، وقال: ترى رجلا من اصحابى يعد بألف رجل قد قتل فتضحك، كأنك مسرور بقتل الروم، فقال كسرى: ان ضحكى لم يكن سرورا منى بقتله، غير انه عيرنى بما قد سمعت، فاحببت ان يعلم ان الذى غلبني على ملكي، وهربت منه إليكم، هذه ضربته.   [1] جماعه من المحاربين المختارين، وكانت عدتهم ألفا. [2] الاعتجار: لف العمامه دون التلحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وان القوم اقتتلوا يومين، فلما كان في اليوم الثالث دعا بهرام كسرى الى المبارزه، فهم كسرى ان يفعل، فمنعه ثيادوس، وابى كسرى، فخرج الى بهرام، فتطاردا ساعه. ثم ان كسرى ولى منهزما، وعارضه بهرام فاقتطعه عن اصحابه، ومضى كسرى نحو جبل، وبهرام في اثره يهتف به، وبيده السيف، وهو يقول: الى اين يا فاسق؟. فجمع كسرى نفسه، فساعدته القوه على تسنم الجبل، فلما نظر بهرام الى كسرى قد علا ذروه الجبل علم انه قد نصر عليه، فانصرف خاسئا، وهبط كسرى من جانب آخر حتى اتى اصحابه، ثم ابتكر [1] الفريقان على مصافهم في اليوم الرابع، فاقتتلوا، فكان الظفر لكسرى. وانصرف بهرام في جنوده منهزما الى معسكره، فقال بندويه لكسرى: ايها الملك، ان الجنود الذين مع بهرام لو قد امنوك على انفسهم انحازوا إليك، فائذن لي ان أعطيهم الامان عنك، فاذن له. فلما امسى بندويه اقبل حتى وقف على رابيه مشرفه على معسكر بهرام، ثم نادى باعلى صوته: ايها الناس، انا بندويه بن سابور، وقد أمرني الملك كسرى ان أعطيكم الامان، فمن انحاز إلينا منكم في هذه الليلة فهو آمن على نفسه واهله وماله. ثم انصرف. فلما اظلم الليل على اصحاب بهرام تحملوا حتى لحقوا بمعسكر كسرى الا مقدار اربعه آلاف رجل، فإنهم أقاموا مع بهرام. ولما اصبح بهرام نظر الى معسكره خاليا قال: الان حسن الفرار. فارتحل في اصحابه الذين أقاموا معه، وفيهم مردان سينه ويزدجشنس، وكانا من فرسان العجم. فوجه كسرى في طلبه سابور بن ابركان في عشره آلاف فارس، فلحقه،   [1] ابتكرو بكر وباكره بمعنى اى أتاه بكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وعطف عليه بهرام في اصحابه، فاقتتلوا، فانهزم سابور، ومضى بهرام على وجهه، فمر في طريقه بقرية، فنزلها، ونزل هو ومردان سينه ويزدجشنس بيت عجوز، فاخرجوا طعاما لهم، فتعشوا وأطعموا فضلته العجوز، ثم اخرجوا شرابا، فقال بهرام للعجوز: اما عندك شيء نشرب فيه؟، قالت: عندي قرعه صغيره، فاتتهم بها، فجبوا راسها، وجعلوا يشربون فيها، ثم اخرجوا نقلا [1] ، وقالوا للعجوز: اما عندك شيء يجعل عليه النقل؟ فاتتهم بمنسف [2] ، فألقوا فيه ذلك النقل، فامر بهرام، فسقيت العجوز، ثم قال لها: ما عندك من الخبر أيتها العجوز؟، قالت: الخبر عندنا ان كسرى اقبل بجيش من الروم، فحارب بهرام، فغلبه، واسترد منه ملكه، قال بهرام: فما قولك في بهرام؟، قالت: جاهل، احمق، يدعى الملك، وليس من اهل بيت المملكة. قال بهرام: فمن اجل ذلك يشرب في القرع، ويتنقل من المنسف. فجرى مثلا في العجم يتمثلون به. وسار بهرام حتى انتهى الى ارض قومس [3] ، وبها قارن الجبلي النهاوندي وكان والى خراسان على حربها وخراجها، وعلى قومس وجرجان، وكان شيخا كبيرا قد اناف على المائه، وكان على تلك الناحية من قبل كسرى انوشروان. ثم اقره هرمزد بن كسرى، فلما افضى الأمر الى بهرام عرف له قدره في العجم، وفضله، فاقره مكانه. فلما انتهى بهرام اليه وجه قارن ابنه في عشره آلاف فارس، فحالوا بين بهرام وبين النفوذ، فأرسل اليه بهرام ما هذا جزائي منك، إذ اقررتك على عملك؟ فأرسل اليه قارن: ان ما على من حق الملك كسرى وحق   [1] النقل بفتح النون وقد تضم وسكون القاف ما يتنقل به على الشراب. [2] المنسف كمنبر ما ينفض به الحب، وهو شيء طويل منصوب الصدر، اعلاه مرتفع. [3] قومس، تعريب كومس وهي كوره كبيره واسعه قرب جبل طبرستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 آبائه اعظم مما على من حقك، وكذلك عليك، لو عرفت، إذ شرفك، فكافاته، ان خلعت طاعته، وسعرت مملكه العجم نارا وحربا، فكان قصاراك ان رجعت خائبا حسيرا، وصرت احدوثه لجميع الأمم. فأرسل اليه بهرام: ان العنز يساوى درهمين مرتين: إذا كان عناقا صغيرا، وإذا هرم وسقطت اسنانه لم يساو أيضا الا درهمين، وكذلك أنت في هرمك ونقصان عقلك. فلما أتت قارن هذه الرسالة، غضب وخرج في ثلاثين الف فارس ورجل من جنوده، وتهيأ الفريقان للحرب. فلما التقوا قتل ابن قارن، فانهزم اصحابه، حتى لحقوا بمدينه قومس. ومضى بهرام على خوارزم، فعبر النهر، ووغل في بلاد الترك من ذلك الوجه يؤم خاقان ليستجير به فيجيره، ويمنع عنه. وبلغ خاقان قدوم بهرام عليه، فامر طراخنته، فاستقبلوه، واقبل حتى دخل على خاقان، فحياه بتحية الملك، وقال: انى اتيتك ايها الملك مستجيرا بك من كسرى واهل مملكته لتمنعنى واصحابى، فقال له خاقان: لك ولأصحابك عندي الحماية والجوار والمواساه. ثم ابتنى له مدينه، وبنى في وسطها قصرا، فانزله واصحابه فيها، ودون لهم، وفرض الاعطيات، فكان بهرام يدخل على خاقان كل يوم، فيجلس منه مجلس اخوته، وخاص اقاربه. وكان لخاقان أخ يسمى بغاوير وكانت له نجده وفروسيه، فرآه بهرام يتذرع في منطقته غير هائب من الملك، ولا موقرا لمجلسه، فقال ذات يوم لخاقان: ايها الملك، انى ارى اخاك بغاوير يتذرع في الكلام، ولا يرعى لمجلسك ما يجب ان يرعى لمجلس الملوك، وعهدنا بالملوك لا يتكلم اخوتهم وأولادهم عندهم الا بما يسألون عنه. فقال خاقان: ان بغاوير قد اعطى نجده في الحروب وفروسيه، فهو يدل بذلك، على انه يتربص بي الدوائر، ويضمر لي الحسد والعداوة. قال له بهرام: افتحب ايها الملك ان اريحك منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قال: بماذا؟. قال: بقتله. قال: نعم، ان امكنك ذلك من وجه لا يكون على فيه مسبه. قال بهرام: سآتي من ذلك ما لا يلزمك فيه عار ولا عيب. فلما أصبحوا من غد اقبل بهرام، فجلس عند خاقان مجلسه الذى كان يجلس فيه، فاقبل بغاوير، فجلس وجعل يتذرع في كلامه. فقال له بهرام: يا أخي، لم لا توفى الملك حقه، وتظهر للناس هيبته واجلاله. فقال له بغاوير: وما أنت وذلك ايها الفارس الطريد الشريد؟! قال له بهرام: كأنك تصول بفروسيه لست فيها باكثر منى. قال له بغاوير: فهل لك الى مبارزتي، فاعرفك نفسك. قال له بهرام: اما انا فلا أحب ذلك، فانى متى غلبتك لم اقتلك لمكانك من الملك. قال بغاوير: لكنى ان غلبتك قتلتك، فاخرج بنا الى الصحراء. قال بهرام: على النصفه إذا قال الملك ذلك، وعلى ان لا قود على ان قتلتك، ولا لائمه من الملك وطراخنته. قال: نعم. فقال خاقان: ما لك ولهذا الرجل المستجير بنا، العائذ بجوارنا؟ قال بغاوير: ادعوه الى النصفه. قال: واى نصفة؟ قال: يقف لي واقف له على مائتي ذراع، فارميه، ويرميني، فأينا قتل صاحبه لم يكن عليه لوم ولا عقل [1] . قال له خاقان: اربع [2] على نفسك، لا أم لك.   [1] ديه. [2] كف وارفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قال: والله ليفعلن او لافتكن به بين يديك. قال: فدونك اذن. فخرج بغاوير وبهرام في نفر من الطراخنه ينظرون، ووقف بغاوير من بهرام على مائتي ذراع، فقال بهرام للطراخنه: لا تلوموني ان انا قتلته، فقد بغى على كما ترون. فقالوا: ليس عليك لوم. فصاح بغاوير ببهرام، اتبدا أنت، أم ابدا انا؟ فناداه بهرام: بل ابدا أنت، فارم، فأنت الباغى الظالم. فوتر بغاوير قوسه، ووضع فيها نشابه، ثم نزع حتى اغرقها، ثم أرسلها، فصكت بهرام اسفل من سرته في وسط منطقته، فنفذت المنطقه والدرع وسائر اللباس حتى انتهت الى صفاق [1] بطنه الظاهر، واثرت فيه. وبادر بهرام فنزعها، ووقف هنيهة لا يضرب بيده الى قوسه من شده ما اصابه من الم الرميه، وظن بغاوير بان قد قتله، فركض نحوه، فصاح بهرام: ان ارجع الى مكانك، فقف لي كما وقفت لك، فانصرف الى مكانه، فوقف، واخرج بهرام قوسه، فوترها [2] ، وكان لا يوترها سواه، ثم وضع فيها نشابه، ونزع حتى اغرقها، ثم أرسلها، فوقعت من بغاوير في مثل الموضع الذى وقعت نشابته من بهرام، في وسط المنطقه والدرع وسائر اللباس، ومرقت من الجانب الآخر، لم يذهب شيء من ريشها ولا عقبها، وسقط بغاوير ميتا. وبلغ ذلك خاقان، فقال: لا يبعد الله غيره، قد نهيته عن البغى، فأبى، ثم تقدم الى طراخنته واهل بيته، فقال: لا اعلمن أحدا منكم نوى لبهرام سوءا ولا مكروها.   [1] جلد. [2] اى جعل لها وترا، والوتر محركه شرعه القوس ومعلقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فلما خلا بهرام بخاقان شكر له ما كان منه، وقال: لقد ارحتنى ممن كان يتمنى موتى، ليستبد بالملك دون ولدى، ثم زاده إكراما ومنزله وبرا، وعظم قدر بهرام بأرض الترك، واتخذ ميدانا على باب قصره، واتخذ الجوارى والقيان [1] والجوارح [2] .، وكان من اكرم الناس على خاقان. وان كسرى عند انهزام بهرام وهربه اكرم ثيادوس، ومن معه، فاحسن جوائزهم وصلاتهم، وسرحهم الى بلادهم، وولى خاله بندويه دواوينه وبيوت أمواله، ونفذ امره في جميع المملكة، وولى خاله بسطام ارض خراسان وقومس وجرجان وطبرستان، ووجه عماله في الافاق، ووضع عن الناس نصف الخراج. ولما بلغ كسرى عظيم قدر بهرام عند خاقان وجسيم منزلته ببلاد الترك خافه ان يستجيش ويعود الى محاربته، فوجه هرمزد جرابزين الى خاقان وافدا في تجديد العهد، ووجه معه بالطاف وطرف، وامره ان يتلطف بخاقان حتى يفسد قلبه على بهرام. فسار هرمزد جرابزين حتى دخل على خاقان، ومعه كتاب كسرى، واوصل اليه هدايا كسرى والطافه، فقبلها خاقان، وامره بالمقام ليقضى حوائجه، فكان هرمزد يدخل على خاقان مع وفود الملوك، فيحييه بتحية الملك. ثم انه دخل ذات يوم، فرآه جالسا، فقال: ايها الملك، انى أراك قد استصفيت بهرام واسنيت منزلته، ولم تفعل به من ذلك شيئا الا وما كان فعل به ملكنا اكثر منه، فكان جزاؤه منه ان خلعه، واراد سفك دمه   [1] القينة: هي الجاريه بيضاء اللون مغنيه كانت او غير مغنيه، وقيل تختص بالمغنيه. [2] جمع جارحه وهي الطير والسباع الكواسب التي تتخذ في الصيد، وتطلق الجارحه على الذكر والأنثى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وخرج على ابنه كسرى حتى نفاه من مملكته، وما احسب قصارى امرك منه الا الغدر ونكث العهد، فاحذره ايها الملك، لا يفسد عليك ملكك. فلما سمع خاقان منه ذلك غضب غضبا شديدا، وقال: لولا انك وافد ورسول لمنعتك من الدخول الى لما استبان لي من خرقك وعيبك بحضرتى أخي وصفى، فلا تعودن لمثل هذا. فقال هرمزد جرابزين: اما إذ كان ايها الملك هذا رأيك فيه، فاسالك ان تكتم على، لا يبلغه ذلك، فيقتلني، فقال: هذا لك. فخرج هرمزد آيسا منه، فاندس الى امراته خاتون ومن النساء السخافة وكفران النعم فدخل عليها ذات يوم، فلم يصادف عندها أحدا يخافه، فقال لها: أيتها الملكه، انكم قد اصطفيتم بهرام، ورفعتموه فوق قدره، وليس بمأمون ان يفسد عليكم ملككم كما افسده على هرمزد ملكنا، ثم قص عليها ما كان منه، وقال: أيتها الملكه، اقد نسيت قتله عمك شاهان شاه واحتواءه على سريره وخزائنه؟ فلم يزل يذكرها هذا، وأشباهه حتى اوقع في قلبها بغض بهرام والخوف منه على زوجها وولدها. قالت: ويحك، وما الذى يمكنني في امره، ومنزلته من الملك منزلته؟. قال: الرأي ان تدسى اليه من يقتله، فتامنى على زوجك وولدك. فأمرت غلاما لها قد عرفته بالفتك والاقدام، فقالت له: انطلق الساعة حتى تدخل على بهرام وتتلطف لتقتله، ولا تأتني الا بعد الفراغ منه. فانطلق الغلام حتى استاذن على بهرام، وفي حجزته خنجر، قد ستره، وكان ذلك اليوم يوم ورهام روز. قالوا: وقد كان المنجمون قالوا في مولده، ان منيته في ورهام روز [1] ،   [1] روز بالفارسيه بمعنى يوم. ويوم ورهام واحد من الأيام المعروفه عند الفرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فكان لا يخرج ذلك اليوم من منزله، ولا يأذن لأحد الا لثقاته وخاصته، فدخل الاذن، فاعلمه ان رسول الملكه يطلب الاذن، فاذن له، فدخل، فحيا بهرام وقال: ان الملكه قد وجهتني إليك برسالة، فأخلني. فقام من عند بهرام، فخرجوا. ودنا التركى منه، كأنه يريد ان يساره، ثم استل الخنجر فبعجه [1] به، وخرج، فركب دابته، ومضى. ودخل اصحاب بهرام عليه، فصادفوه يستدمى، وبيده ثوب ينشف به الدم، فلما راوه بتلك الحال بهتوا، وقالوا: كيف لم تهتف بنا، فنأخذه؟، فقال: انما كان كلبا امر بشيء فنفذ له، وقال لهم: إذا جاء القدر لم يغن الحذر، وقد خلفت عليكم أخي مردان سينه، فأطيعوا امره. وارسل الى خاقان يعلمه امره، فاقبل خاقان نحوه والها [2] فواراه في ناووس [3] ، وهم بقتل خاتون، فحجز عن ذلك لمكان ولده منها. وان اصحاب بهرام تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ما لنا عند هؤلاء خير، وما الرأي الا الخروج عن ارضهم، فإنهم غدره بالعهد، كفره للإحسان، والانتقال الى بلاد الديلم، فإنها اقرب الى بلادنا، وامكن للطلب بثارنا من ملوكنا الذين شردونا، فسألوا خاقان الاذن لهم في الانصراف، فاذن لهم، واحسن اليهم، وقواهم، وبذرقهم [4] الى حدود ارضه. وكان مع بهرام اخته كرديه، وكانت من اجمل نساء العجم، وابرعهن براعه، وأكملهن خلقا، وافرسهن فروسيه، فخرج اصحاب بهرام وكرديه امامهم على دابه بهرام متسلحه بسلاحه، حتى انتهوا الى نهر جيحون مما يلى خوارزم، فعبروا هناك، وانصرف عنهم الطراخنه، وأخذ اصحاب بهرام   [1] بعجة: شق بطنه. [2] غضبان قد ذهب عقله من شده الحزن.، فصادفه قد مات. [3] الناووس: مقابر النصارى. [4] خفرهم والمبذرق الخفير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 على شاطئ النهر، ثم انحطوا الى جرجان، وسلكوا طبرستان، ثم لزموا ساحل البحر حتى انتهوا الى بلاد الديلم، فسألوهم السكنى معهم في بلادهم، فاجابوهم اليه، وكتبوا بينهم كتابا: الا يتأذى احد بأحد، فأقاموا آمنين، واتخذوا المعايش والقرى والمزارع، وايديهم مع أيدي الديلم في كل امر. فلما قتل بهرام راى كسرى ان قد صفا له الملك، فلم يكن له همه الا الطلب بثار ابيه هرمزد، وأحب ان يبدأ بخاليه بندويه وبسطام، ونسى ايادى بندويه عنده، فمكث كسرى يكاشرهما [1] عشر سنين، وانه خرج في ايام الربيع كعادته، يريد الجبل ليصيف فيه، فنزل حلوان [2] وبندويه معه، فامر ان يضرب له قبة على الميدان، لينظر الى المرازبه إذا لعبوا الكره. فجلس على تلك القبه، فراى شيرزاد بن البهبوذان يضرب بالكره ويجيد، فكان كلما ضرب، فأجاد، قال له كسرى زه سوار [3] ، فاحصى الموكل ذلك مائه مره قالها. فكتب له الى بندويه بأربعمائة الف درهم، لكل مره اربعه آلاف درهم، فلما وصل الصك الى بندويه قذفه من يده، وقال: ان بيوت الأموال لا تقوم لهذا التبذير. وبلغ كسرى قوله، فجعل ذلك ذريعه الى الوثوب به، فامر صاحب حرسه ان يأتيه، فيقطع يديه ورجليه، فاقبل صاحب الحرس لينفذ فيه امر كسرى، فاستقبله بندويه يريد الميدان، فامر به، فنكس عن دابته، وقطع يديه ورجليه، وتركه متشحطا في دمه بمكانه.   [1] يظهر لهما الرضى، والكشر بسكون الشين: التبسم، وكشر عن اسنانه ابداها، ويكون في الضحك وغيره. [2] قريه بالعراق. [3] زه كلمه للاستحسان بمعنى مرحبا او بارك الله، وسوار معناها فارس، وهو تعبير فارسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فجعل بندويه يشتم كسرى، ويشتم أباه، ويذكر غدر آل ساسان، ونكثهم، ويقال كل ذلك لكسرى، فقال لمن حوله من وزرائه: يزعم بندويه ان آل ساسان غدره نكثه، وينسى نفسه في غدره بالملك، أبينا، حين دخل عليه مع أخيه بسطام، فألقيا العمامه في عنقه، ثم خنقاه بها ظلما وعدوا، ليتقربا بذلك الى، كأنه ليس لي بوالد. ثم ركب الى الميدان، فمر ببندويه، وهو ملقى على قارعه الطريق، فامر الناس ان يرجموه بالحجارة، فرجموه حتى مات. وقال: هذه، حتى تأتي أختها. يعنى ما اراد من الحاق بسطام بأخيه بندويه، ثم امر كاتب السر ان يكتب الى بسطام ليخلف على عمله ثقه، ويقدم مستخفيا ليناظره في بعض الأمر، ففعل بسطام ذلك، واقبل على البريد، فلما انتهى الى حد قومس استقبله مردان به قهرمان أخيه بندويه، فلما نظر اليه من بعيد رفع صوته بالبكاء والعويل، فقال له بسطام: ما وراءك؟ فاخبره بمقتل أخيه، فلم يجد مذهبا في الارض، فعدل الى من بالديلم من اصحاب بهرام. وبلغ مردان سينه رئيس اصحاب بهرام قدوم بسطام عليه، ففرح بذلك، وخرج متلقيا له في جميع اصحابه، لشرف بسطام في العجم، وفضله، ثم أقبلوا به حتى انزلوه منزلا بهيا، وركب اليه اشراف تلك البلاد، فأقام عندهم آمنا، ثم ان مردان سينه ويزد جشنس والعظماء قالوا لبسطام: ما بال كسرى أحق بالملك منك، وأنت ابن سابور بن خربنداد من صميم ولد بهمن بن اسفندياذ، وانكم لاخوه بنى ساسان وشركاؤهم، فهلم نبايعك ونزوجك كرديه اخت بهرام، ومعنا سرير ذهب قد كان حمله بهرام من المدائن، فاجلس عليه، وادع لنفسك، فان اهل بيتك من ولد دار ابن بهمن سينحلبون إليك، وإذا قويت شوكتك، وكثر جندك، سرت الى الغادر كسرى، فحاربته، وحاولت ملكه، فان نلت ما تريد فذاك الذى نحب وتحب، وان قتلت قتلت وأنت تحاول ملكا، وان ذلك ابعد لصوتك، وانبه لذكرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فلما سمع بسطام ذلك الكلام اصغى اليه، وأجابهم الى ما عرضوا عليه، فزوجوه كرديه، وأجلسوه على سرير الذهب، وعقدوا على راسه التاج، وبايعوه عن آخرهم، ودعوه ملكا، وتابعه اشراف البلاد، وانحلب اليه جيلان والبير والطيلسان [1] ، وقوم كثير من اهل بيته من ناحيه العراق ممن كان يهواه ويهوى أخاه، حتى صار في مائه الف رجل. فخرج الى الدستبى [2] واقام بها، وبث السرايا في ارض الجبل، حتى بلغوا حلوان والصيمرة [3] وماسبذان، وهرب عمال كسرى، وتحصن الدهاقين في الحصون ورءوس الجبال. وبلغ ذلك كسرى، فسقط في يده، وعلم انه لم يأخذ وجه الأمر في قتله بندويه، فاخذ الأمر من قبل الخديعة، فكتب الى بسطام: انه قد بلغنى مصيرك الى الغدره الفسقه، اصحاب الفاسق بهرام، وتزيينهم لك ما لا يليق بك، ثم حملوك على الخروج على المملكة والعيث فيها والفساد من غير ان تعلم ما انوى لك، وما انطوى عليه في بابك، فدع التمادي في الغى واقبل الى آمنا، ولا يوحشنك قتل أخيك بندويه. فأجابه بسطام: ان قد أتاني كتابك بما خبرت به من خديعتك، وسطرت من مكيدتك، فمت بغيظك، وذق وبال امرك، واعلم انك لست بأحق بهذا الأمر منى، بل انا أحق به منك، لانى ابن دارا مقارع الاسكندر، غير انكم يا بنى ساسان غلبتمونا على حقنا وظلمتمونا، وانما كان أبوكم ساسان راعى غنم، ولو علم أبوه بهمن فيه خيرا ما زوى [4] عنه الملك الى اخته خمانى. فلما ورد كتابه على كسرى علم الا طمع فيه، فوجه اليه ثلاثة قواد في ثلاثة عساكر، كل عسكر اثنا عشر الف رجل، فنفذ العسكر الاول، وعليه سابور   [1] اقوام من سكان نواحي الديلم والخزر. [2] كوره كبيره في دنباوند مقسومه بين الري وهمذان. [3] بلد بين ديار الجبل وديار خوزستان. [4] نحاه وازاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ابن ابركان، ثم اردفه بالعسكر الثانى، وعليه النخارجان، ثم اردفهما بالثالث، وعليه هرمزد جرابزين، فلما اتصل ببسطام فصول العساكر نحوه سار حتى اتى همذان، فأقام بها، ووجه الرجاله الى رءوس العقاب [1] ، ليمنعوا الناس من الصعود والنفوذ. قال: فاقامت العساكر دون الجبل بمكان يدعى قلوص، وكتبوا الى كسرى يعلمونه ذلك، فخرج كسرى بنفسه في خمسين الف فارس، حتى وافى جنوده وهم معسكرون بقلوص، فأقام عندهم ريثما اراح، ثم سار على رستاق [2] يسمى شراه [3] ، فنفذ منه الى همذان في طريق لا جبل فيه ولا عقبه، حتى افضى الى بطن همذان، فعسكر هناك، وخندق على نفسه. وسار اليه بسطام في جنوده، فاقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة ايام، لا ينهزم احد من الفريقين عن صاحبه، فلما راى كسرى ذلك، قال لكردى بن بهرام جشنس أخي بهرام شوبين لأبيه وأمه، وكان من انصح المرازبه لكسرى، واشدهم له ودا، وأسرعهم في طاعته نهوضا، فقال: قد ترى ما نحن فيه من شده هذه الحروب، وانى قد رجوت الراحة مما نحن فيه بباب لطيف. قال: وما هو ايها الملك؟ قال: ان أختك كرديه امراه بسطام متشوقه [4] لا محاله الى الرجوع الى أهلها ووطنها، وانا اعرف انها ان آثرت قتل بسطام قدرت لطمانينته إليها، ولما بلغنى من صرامتها وأقدامها، وان هي قتلته فلها على ذمه الله: ان أتزوجها واجعلها سيده نسائي، واجعل الملك من بعدي لولد، ان كان لي منها، وانا كاتب على ذلك بخطى، فأرسل إليها حتى تعرض ذلك عليها، وتنظر ما عندها فيه. قال له كردى: ايها الملك، فاكتب لها بخطك ما تطمئن اليه، وتعرف صدق   [1] جمع عقب وهو المرقى الصعب من الجبال. [2] معرب رستا بضم الراء وسكون السين، وهو السواد والقرى. [3] في الأصل: شرا، [4] في نسخه اخرى متشوفه، والتشوف: التطلع والشوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قولك فيه، لأوجه إليها بالكتاب مع امراتى، فاننى لا أثق بسواها في كتمان السر. فكتب لها كسرى بذلك، وأكد، فاخذ كردى الكتاب، ووجهه مع امراته الى كرديه. وقد كان بسطام خرج بها معه لشدة وجده بها. فلما قرات كرديه كتاب كسرى عرفت وثاقته، فافضت بسرها الى ظئورتها وثقاتها، فزين لها ذلك لتشوقهن الى اوطانهن. ولم ينكر بسطام مجيء المرأة الى كرديه لما عرف من الف النساء وتزاورهن. وان بسطام انصرف ذات عشاء الى مضربه الذى فيه كرديه تعبا قد مسه الكلال لشدة الحرب، فدعا بطعام، فنال منه، ثم دعا بشرابه، فجعلت كرديه تسقيه صرفا حتى غلبه السكر، فنام، فقامت الى سيفه، فوضعت ظبته [2] في ثندوته [3] ، وتحاملت عليه حتى خرج من ظهره، ثم خرجت من ساعتها، فتحملت في حشمها وظئورتها، وقد كان أخوها كردى وقف لها على الطريق في خيل، فلما انتهت اليه انطلق بها، فانزلها في رحله. ولما اصبح اصحاب بسطام ووجدوه قتيلا ارتحلوا هاربين نحو بلاد الديلم، فوجه كسرى سابور بن ابركان في عشره آلاف فارس، وامره ان يقيم بقزوين، فتكون مسلحه هناك، وتمنع من اراد النفوذ من ارض الديلم الى مملكته، ثم تزوج كرديه، وضمها اليه، وانصرف الى المدائن، ونزلت كرديه من قلبه بموضع محبه شديده، وشكر لها ما كان منها، وزاح عن كسرى ما يجد في نفسه من الغضاضة بانتقامه من قتله ابيه، واطمان له ملكه وهدأ واستقر.   [2] الظبة: حد السيف والسنان والخنجر وما اشبه ذلك. [3] لحم الثدى او اصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 حرب ابرويز مع الروم قالوا: ثم ان ابن قيصر ملك الروم قدم على كسرى ابرويز، فاخبره بان بطارقه الروم وعظماءها وثبوا على ابيه قيصر وأخيه ثيادوس بن قيصر، فقتلوهما جميعا، وملكوا عليهم رجلا من قومهم، يسمى كوكسان، وذكره بلاء ابيه وأخيه عنده، فغضب ابرويز له، ووجه معه ثلاثة قواد: احدهم شاهين في اربعه وعشرين الف رجل، فوغل في ارض الروم، وبث فيها الغارات حتى انتهى الى خليج القسطنطينية، فعسكر هناك، والقائد الآخر بوذ [1] فسار نحو ارض مصر، فاغار، وعاث، وافسد حتى انتهى الى الإسكندرية، فافتتحها عنوه، وسار الى البيعه العظمى التي بالإسكندرية، فاخذ اسقفها، فعذبه، حتى دله على الخشبة التي تزعم النصارى ان المسيح صلب عليها، وكانت مدفونة في موضع قد زرع فوقها الرياحين، والقائد الثالث شهريار فسار حتى اتى الشام، فقتل أهلها قتلا ذريعا، حتى أخذها كلها عنوه. فلما راى عظماء الروم ما حل بهم من كسرى اجتمعوا، فقتلوا الرجل الذى كانوا ملكوه، وقالوا ان مثل هذا لا يصلح للملك وملكوا عليهم ابن عم لقيصر المقتول يسمى هرقل، وهو الذى بنى مدينه هرقله [2] ، فكانت هذه الغلبه التي ذكرها الله تعالى في كتابه [3] : وان هرقل الذى ملكته الروم استجاش اهل مملكته، وسار الى القائد الذى كان معسكرا على الخليج، فحاربه حتى اخرجه من ارض الروم، ثم صمد للذي كان بأرض مصر، فطرده عنها، ثم عطف على شهريار، فاخرجه عن الشام، فوافت   [1] في احدى النسخ الاوربيه رمبوزان، ولقد كان استيلاء الفرس على مصر في عهد ملكهم قميز بن كورش سنه 525 ق. م. وقد دخلت جيوش الفرس الى مصر بقيادته. [2] مدينه ببلاد الروم سميت باسم هرقله بنت ملك الروم، وهي بالقرب من صفين من الجانب الغربي. [3] سوره الروم الآيات من 1 الى 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 العساكر كلها الجزيرة، وسار هرقل نحوهم، فواقعهم، فهزمهم حتى بلغ بهم الموصل. وذلك بلغ كسرى، فخرج في جنوده نحو الموصل، وانضم اليه قواده الثلاثة، وسار نحو هرقل، فاقتتلوا، فانهزم الفرس، فلما راى ذلك كسرى غضب على عظماء جنوده ومرازبته [1] ، فامر بهم، فحبسوا ليقتلهم. توليه شيرويه بن ابرويز ولما راى اهل المملكة ذلك تراسلوا، وعزموا على خلع كسرى، وتمليك ابنه شيرويه بن كسرى، فخلعوه وملكوا شيرويه، وحبسوا كسرى في بيت من بيوت القصر، ووكلوا به حيلوس رئيس المستميته، وكان ذلك سنه تسع [2] من هجره النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وان شيرويه امر ان ينقل بابيه من دار المملكة، فيحبس في دار رجل من المرازبه، يسمى هرسفته [3] ، فقنع راسه، وحمل على برذون [4] ، فانطلق به الى تلك الدار، فحبس فيها، ووكل امره حيلوس في خمسمائة من الجند المستميته. ثم ان عظماء اهل المملكة دخلوا على شيرويه، وقالوا: انه لا يصلح ان يكون علينا ملكان اثنان، فاما ان تامر بقتل ابيك وتنفرد بالأمر، او نخلعك ونرد الأمر اليه كما كان. فهدت شيرويه هذه المقاله، فقال: اجلونى يومى هذا. بين الأب والابن ثم امر يزدان جشنس رئيس كتاب الرسائل، فقال له: انطلق عن رسالتنا   [1] المرزبه كمرحله رياسه الفرس، والواحد مرزبان بضم الزاى. [2] الموافقة سنه 630 م. [3] في بعض النسخ الاوربيه: مارسفند. [4] مفرد براذين وهي من الخيل ما كان من غير نتاج العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 لأبينا، وقل له: ان الذى حل بك عقوبة من الله للذي سلف من سوء اعمالك، وأول ذلك ما كان منك الى ابيك هرمزد، ومنها حظرك علينا معاشر اولادك، ومنعك إيانا البراح، وحبسك إيانا في دار كهيئة المجلس بلا رقه ولا رحمه، ومنها كفرانك انعام قيصر عليك وأياديه عندك، فلم تحفظ فيه ابنه واقاربه حين أتوك يسالونك ان ترد عليهم خشبة الصليب التي بعث بها إليك شاهين من الإسكندرية، فرددتهم عنها بلا حاجه منك إليها ولا درك لك في حبسها، ومنها ما امرت به من قتل الثلاثين الالف رجل من مرازبتك وعظماء اساورتك بزعمك انهم أول من انهزم عن الروم، ومنها كثره ما جمعت من الأموال، وكثرتها في خزائنك من جبايتكها عن الخراج باعنف العنف، وانما ينبغى للملوك ان يملاوا خزائنهم مما يغنمون من بلاد اعدائهم بنحور الخيل وصدور الرماح، لا مما يسالونه من رعيتهم، ومنها قتلك النعمان بن المنذر، وصرفك ملك ارضه عن ولده واهل بيته الى غيرهم، يعنى اياس بن قبيصة الطائي، فلم تحفظ فيهم ما كان يحفظه آباؤك، من حضانته بهرام جور جدك، ومعونته بعد ان خرج الملك عنه، حتى رده عليه، فكل هذه ذنوب ارتكبتها، وآثام اقترفتها، لم يكن الله ليرضى منك فاخذك بها. فانطلق يزدان جشنس فابلغ كسرى رساله شيرويه لم يخرم منها حرفا، فقال له كسرى: قد ابلغت، فاد الجواب كما أديت الرسالة: قل لشرويه القصير العمر، القليل الغمر، الناقص العقل، نحن مجيبوك عن جميع ما أرسلت به إلينا من غير اعتذار لتزداد علما بجهلك، اما رضانا بما ارتكب من أبينا فانى ما اطلعت على ما دبر القوم من الوثوب به، وقد علمت لما استوطد لي السلطان انى لم ادع أحدا مالا على خلعه واجلب عليه بارتكاب حقه الا قتلته، وختمت ذلك بخالي بندويه وبسطام مع ما كان من قيامهما بأمري، واما حظرى عليكم معاشر أبنائنا فانى فرغتكم لتعلم الأدب، ومنعتكم من الانتشار فيما لا يعينكم، ولم اقصر في مطاعمكم مع ذلك ومصارفكم وملابسكم وطيبكم ومراكبكم، واما أنت خاصه فان المنجمين قضوا في مولدك بتثريب ملكنا، وفسخ سلطاننا على يدك، فلم نأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بقتلك، ومع ذلك كتاب قرميسيا ملك الهند إلينا يعلمنا ان في انقضاء سنه ثمان وثلاثين من ملكنا يفضى إليك هذا الأمر، فكتمنا ذلك الكتاب عنك، مع علمنا انه لا يفضى إليك الا بهلاكنا، وذلك الكتاب مع قضية مولدك عند شيرين صاحبتنا، فان اردت فدونك، فاقراهما لتزداد حسره وثبورا، واما ما ذكرت من كفرانى نعمه قيصر بمنعي ولده واهل بيته خشبة الصليب، فأيها المائق، ان اكثر من ذلك الخشب ثلاثون الف الف درهم فرقتها في رجال الروم الذين قدموا معى، والف الف درهم هدايا وجهتها الى قيصر، ومثل ذلك وصلت ابنه ثيادوس عند رجوعه الى مملكته، افكنت اجود لهم بخمسين الف الف درهم وابخل بخشبه لا تساوى شيئا؟ انما احتبستها لارتهن بها طاعتهم، ولينقادوا لي في جميع ما أريده منهم لعظيم قدر الخشبة عندهم، واما غضبى لقيصر وطلبى بثاره، فقد قتلت به من الروم ما لم يحص عدده، واما قولك في أولئك المرازبه ورؤساء الأساورة الذين هممت بقتلهم فان أولئك اصطنعتهم ثلاثين سنه، واسنيت اعطياتهم واعظمت حبوتهم [1] فلم احتج اليهم في طول دهري الا ذلك اليوم الذى فشلوا فيه وخاموا [2] ، فسل ايها الأخرق فقهاء هذه الملة عمن قصر في نصره ملكه، وخام عن محاربه عدوه، فسيخبرونك انهم لا يستوجبون العفو ولا الرحمه، فاما ما عنفتنى به من جمع الأموال فان هذا الخراج لم يكن منى بدعه، ولم يزل الملوك يجبونه قبلي ليكون قوه للملك وظهرا للسلطان، فان ملكا من ملوك الهند كتب الى جدي انوشروان: ان مملكتك شبيهه بباغ عامر عليه حائط وثيق، وباب منيع، فإذا انهدم ذلك الحائط او تكسرت الأبواب لم يؤمن ان ترعى فيه الحمير والبقر. وانما عنى بالحائط الجنود، وبأبوابه الأموال. فاحتفظ ايها السخيف العقل بتلك الأموال، فإنها حصن للملك، وقوام للسلطان، وظهير على الأعداء، ومفخره عند الملوك، واما ما زعمت من قتلى النعمان بن المنذر، وازالتى الملك عن آل عمرو بن عدى الى اياس   [1] العطاء. [2] خام عنه يخيم: نكص وجبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ابن قبيصة، فان النعمان واهل بيته واطئوا العرب، واعلموهم توكفهم [1] خروج الملك عنا اليهم، وقد كانت وقعت اليهم في ذلك كتب، فقتلته، ووليت الأمر أعرابيا لا يعقل من ذلك شيئا. انطلق الى شيرويه، فاخبره بذلك كله، فابلغه يزدان جشنس، لم يخرم منه شيئا، فعلت شيرويه كآبه. ولما كان من الغد اجتمع عظماء اهل المملكة، فدخلوا على شيرويه كما فعلوا بالأمس، فخاف على نفسه، فجعل يرسل الرجل بعد الرجل من مرازبته لقتل ابيه، فلا يقدم عليه احد، حتى بعث بشاب منهم يسمى يزدك بن مردان شاه مرزبان بابل وخطرنيه، فلما دخل عليه، قال: من أنت؟ قال: انا ابن مردان شاه مرزبان بابل وخطرنيه، قال له كسرى: أنت لعمري صاحبي، وذلك انى قتلت اباك ظلما، فضربه الغلام حتى قتله، وانصرف الى شيرويه فاخبره، فلطم شيرويه وجهه، ونتف شعره، وحبسه، وانطلق في عظماء اهل المملكة حتى استودعه الناووس، ثم انصرف، وامر، فقتل الغلام الذى قتل أباه. وفي ذلك العام الذى ملك فيه شيرويه توفى [2] رسول الله ص، واستخلف ابو بكر رضى الله عنه. ثم ان شيرويه لما ملك عمد الى اخوته، وكانوا خمسه عشر رجلا، فضرب أعناقهم، مخافه ان يفسدوا عليه ملكه، فسلطت عليه الامراض والاسقام حتى مات، وكان ملكه ثمانية اشهر. بعد موت شيرويه فملكت فارس عليها بعده ابنه شيرزاد بن شيرويه، وكان طفلا، ووكلوا به رجلا يحضنه، ويقوم بتدبير الملك الى ان ادرك.   [1] يتوكف الخبر: ينتظره ويتوقعه. [2] كانت وفاه الرسول محمد ص في 13 من شهر ربيع الاول سنه 11 هـ. الموافق 20 يونيه سنه 632 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ولما بلغ شهريار وهو مقيم في وجه الروم مقتل كسرى اقبل في جنوده حتى ورد المدائن، وقد مات شيرويه وملك ابنه شيرزاد، فاغتصب الأمر، ودخل المدائن، فقتل كل من مالا على قتل كسرى وخلعه، وقتل شيرزاد وحاضنه، وتولى امر الملك، ودعا نفسه ملكا، وذلك في العام الثانى عشر من التاريخ الهجرى. فلما تم لملك شهريار حول انف عظماء اهل المملكة من ان يلى ملكهم من ليس من اهل بيت المملكة، فوثبوا عليه فقتلوه، وملكوا عليهم جوان شير بن كسرى، وكان طفلا، وأمه كرديه اخت بهرام شوبين، فملك حولا، ثم مات. فملكوا عليهم بوران بنت كسرى، وذلك ان شيرويه لم يدع من اخوته أحدا الا قتله، خلا جوان شير فانه كان طفلا، فعند ذلك وهى سلطان فارس وضعف امرهم، وفلت شوكتهم. [ الفتوحات الإسلامية في عهد أبي بكر ] حروب العرب مع العجم قالوا: فلما افضى الملك الى بوران بنت كسرى بن هرمز شاع في اطراف الارضين انه لا ملك لارض فارس، وانما يلوذون بباب امراه، فخرج رجلان من بكر بن وائل، يقال لأحدهما المثنى بن حارثة الشيبانى، والآخر سويد بن قطبه العجلى، فاقبلا حتى نزلا فيمن جمعا بتخوم ارض العجم، فكانا يغيران على الدهاقين، فيأخذان ما قدرا عليه، فإذا طلبا امعنا في البر فلا يتبعهما احد، وكان المثنى يغير من ناحيه الحيرة، وسويد من ناحيه الأبله [1] وذلك في خلافه ابى بكر، فكتب المثنى بن حارثة الى ابى بكر رضى الله عنه يعلمه ضراوته بفارس، ويعرفه وهنهم، ويسأله ان يمده بجيش. فلما انتهى كتابه الى ابى بكر رضى الله عنه كتب ابو بكر الى خالد بن الوليد،   [1] الأبله: بلد معروف قرب البصره من جانبها البحرى في زاوية الخليج، وهي اقدم من البصره، وكان فيها للفرس مسالح وقاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقد كان فرغ من اهل الرده، ان يسير الى الحيرة فيحارب فارس، ويضم اليه المثنى ومن معه، وكره المثنى ورود خالد عليه، وكان ظن ان أبا بكر سيوليه الأمر، فسار خالد والمثنى بأصحابهما، حتى أناخا على الحيرة، وتحصن أهلها في القصور الثلاثة. ثم نزل عمرو بن بقيله، وحديثه مع خالد، وانه وجد معه شيئا من البيش [1] فاستفه [2] على اسم الله ولم يضره ذلك معروف، ثم صالحوه من القصور الثلاثة على مائه الف درهم يؤدونها في كل عام الى المسلمين ثم ورد كتاب ابى بكر على خالد مع عبد الرحمن جميل الجمحى، يأمره بالشخوص الى الشام ليمد أبا عبيده بن الجراح بمن معه من المسلمين، فمضى، وخلف بالحيرة عمرو بن حزم الأنصاري مع المثنى، وسار على الأنبار، وانحط على عين التمر [3] ، وكان بها مسلحه لأهل فارس، فرمى رجل منهم عمرو بن زياد بن حذيفة بن هشام بن المغيره بنشابه، فقتله، ودفن هناك. وحاصر خالد اهل عين التمر حتى استنزلهم بغير أمان، فضرب أعناقهم، وسبى ذراريهم، ومن ذلك السبى ابو محمد بن سيرين وحمران بن ابان مولى عثمان بن عفان، وقتل فيها خالد خفيرا كان بها من العرب يسمى هلال بن عقبه، وصلبه، وكان من النمر بن قاسط، ومر بحى من بنى تغلب والنمر، فاغار عليهم، فقتل وغنم حتى انتهى الى الشام. ولم يزل عمرو بن حزم والمثنى بن حارثة يتطرفان ارض السواد ويغيران فيها حتى توفى ابو بكر [4] رضى الله عنه.   [1] البيش بالكسر، نبات كالزنجبيل فيه سم قتال لكل حيوان. [2] تناوله غير مسحوق. [3] بلده في طرف البادية غربي الفرات. [4] كانت وفاه ابى بكر في 21 جمادى الثانيه سنه 13 الموافق اغسطس سنه 634 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الفتوحات الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب وولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكانت ولايه عمر سنه ثلاث عشره، ثم ان عمر رضى الله عنه عزم على توجيه خيل الى العراق، فدعا أبا عبيد بن مسعود، وهو ابو المختار بن ابى عبيد الثقفى فعقد له على خمسه آلاف رجل، وامره بالمسير الى العراق، وكتب الى المثنى بن حارثة، ان ينضم بمن معه اليه، ووجه مع ابى عبيد سليط بن قيس، من بنى النجار رى، وقال لأبي عبيد: قد بعثت معك رجلا هو افضل منك إسلاما، فاقبل مشورته وقال لسليط: لولا انك رجل عجل في الحرب لوليتك هذا الجيش، والحرب لا يصلح لها الا الرجل المكيث فسار ابو عبيد نحو الحيرة، لا يمر بحى من احياء العرب الا استنفرهم، فتبعه منهم طوائف، حتى انتهى الى قس الناطف [1] فاستقبله المثنى فيمن معه. وبلغ العجم اقبال ابى عبيد، فوجهوا مردان شاه الحاجب في اربعه آلاف فارس، فامر ابو عبيد بالجسر، فعقد ليعبر اليهم. فقال له المثنى: ايها الأمير لا تقطع هذه اللجة، فتجعل نفسك ومن معك غرضا لأهل فارس. فقال له ابو عبيد جبنت يا أخا بكر. وعبر اليهم بمن معه من الناس، وولى أبا محجن الثقفى الخيل، وكان ابن عمه، ووقف هو في القلب، وزحف اليهم الفرس، فاقتتلوا، فكان ابو عبيد أول قتيل، فاخذ الراية اخوه الحكم، فقتل، ثم أخذها قيس بن حبيب أخو ابى محجن، فقتل، وقتل سليط بن قيس الأنصاري في نفر من الانصار كانوا معه، فاخذ المثنى الراية، وانهزم المسلمون. فقال المثنى لعروه بن زيد الخيل الطائي انطلق الى الجسر، فقف عليه، وحل بين العجم وبينه. وجعل المثنى يقاتل من وراء الناس، ويحميهم حتى عبروا، ويوم جسر ابى عبيد معروف، وسار المثنى بالمسلمين حتى بلغ الثعلبية [2] ، فنزل،   [1] موضع قريب من الكوفه على شاطئ الفرات الشرقى. [2] الثعلبية موضع بطريق مكة، وفي الأصل التغلبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وكتب الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع عروه بن زيد الخيل، فبكى عمر، وقال لعروه: ارجع الى أصحابك، فمرهم ان يقيموا بمكانهم الذى هم فيه، فان المدد وارد عليهم سريعا، وكانت هذه الوقعه في شهر رمضان يوم السبت سنه ثلاث عشره من التاريخ. ثم ان عمر بن الخطاب استنفر الناس الى العراق، فخفوا في الخروج، ووجه في القبائل يستجيش، فقدم عليه مخنف بن سليم الأزدي في سبعمائة رجل من قومه، وقدم عليه الحصين بن معبد بن زراره في جمع من بنى تميم زهاء الف رجل، وقدم عليه عدى بن حاتم في جمع من طيّئ، وقدم عليه انس بن هلال في جمع من النمر بن قاسط، فلما كثر عند عمر الناس عقد لجرير بن عبد الله البجلي عليهم، فسار جرير بالناس حتى وافى الثعلبية، فضم اليه المثنى فيمن كان معه، وسار نحو الحيرة، فعسكر بدير هند [1] ، ثم بث الخيل في ارض السواد، تغير. وتحصن منه الدهاقين، واجتمع عظماء فارس الى بوران، فأمرت ان يتخير اثنا عشر الف رجل من ابطال الأساورة [2] ، وولت عليهم مهران بن مهرويه الهمدانى فسار بالجيش حتى وافى الحيرة، وزحف الفريقان، بعضهم لبعض، ولهم زجل [3] كزجل الرعد، وحمل المثنى في أول الناس، وكان في ميمنه جرير، وحملوا معه. وثار العجاج، وحمل جرير بسائر الناس من الميسره والقلب، وصدقتهم العجم القتال، فجال المسلمون جولة، فقبض المثنى على لحيته، وجعل ينتف ما تبعه منها من الأسف، ونادى ايها الناس، الى، الى، انا المثنى فثاب المسلمون، فحمل بالناس ثانيه، والى جانبه مسعود بن حارثة اخوه، وكان من فرسان العرب، فقتل مسعود، فنادى المثنى: يا معشر المسلمين، هكذا مصرع خياركم، ارفعوا راياتكم. وحض عدى بن حاتم اهل الميسره،   [1] مكان بالحيرة، بنته أم عمرو بن هند، وهو على طريق النجف، ويسمى دير هند الكبرى، وبالحيرة أيضا دير هند الصغرى الذى بنته هند بنت النعمان بن المنذر، وهو الان بالكوفه قرب خطه بنى دارم. [2] الأساورة هم الفرسان المقاتله، مفرده اسوار. [3] الجلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وحرض جرير اهل القلب، وذمرهم [1] ، وقال لهم: يا معشر بجيله، لا يكونن احد اسرع الى هذا العدو منكم، فان لكم في هذه البلاد ان فتحها الله عليكم حظوة ليست لأحد من العرب، فقاتلوهم التماس إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ. فتداعى المسلمون، وتحاضوا، وثاب من كان انهزم، ووقف الناس تحت راياتهم، ثم زحفوا، فحمل المسلمون على العجم حمله صدقوا الله فيها، وباشر مهران الحرب بنفسه، وقاتل قتالا شديدا، وكان من ابطال العجم، فقتل مهران، وذكروا ان المثنى قتله، فانهزمت العجم لما رأوا مهران صريعا، واتبعهم المسلمون، وعبد الله بن سليم الأزدي يقدمهم، واتبعه عروه بن زيد الخيل، فصار المسلمون الى الجسر، وقد جازه بعض العجم، وبقي بعض، فصار من بقي منهم في أيدي المسلمين، ومضت العجم، حتى لحقوا بالمدائن، وانصرف المسلمون الى معسكرهم، فقال عروه بن زيد الخيل في ذلك: هاجت لعروه دار الحى أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس همذانا وقد أرانا بها، والشمل مجتمع ... إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا ايام سار المثنى بالجنود لهم ... فقتل القوم من رجل وركبانا سما لاجناد مهران وشيعته ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا ما ان رأينا أميرا بالعراق مضى ... مثل المثنى الذى من آل شيبانا ان المثنى الأمير القرم لا كذب ... في الحرب اشجع من ليث بخفانا [2] قالوا: ولما اهلك الله مهران ومن كان معه من عظماء العجم استمكن المسلمون من الغارة في السواد، وانتقضت مسالح [3] الفرس، وتشتت امرهم، واجترأ المسلمون عليهم، وشنوا الغارات ما بين سورا [4] وكسكر [5] والصراة [6]   [1] ذمرهم حضهم على القتال. [2] القرم من الرجال: السيد المعظم، والخفان: رئال النعام، واحدته خفانه، وهو فرخها. [3] جمع مسلحه بفتح الميم وهي الثغر فيه الجنود. [4] كوره قريبه من الفرات. [5] كوره واسعه، كانت قصبتها بين الكوفه والبصره. [6] الصراة بالفتح: نهران قرب بغداد، أحدهما كبير والآخر صغير، وقد سميا باسم المحله عند منبعهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الى الفلاليج [1] والاستانات، فقال اهل الحيرة للمثنى: ان بالقرب منا قريه فيها سوق عظيم، تقوم في كل شهر مره، فتأتيها تجار فارس والاهواز وسائر البلاد، فان قدرت على الغارة على تلك السوق اصبت اموالا رغيبه يعنون سوق بغداد، وكانت قريه تقوم بها سوق في كل شهر. فاخذ المثنى على البر حتى اتى الأنبار [2] ، فتحصن منه أهلها، فأرسل الى بسفروخ مرزبانها ليسير اليه، فيكلمه بما يريد، وجعل له الامان، فاقبل المرزبان حتى عبر اليه، فخلا به المثنى، وقال: انى اريد ان اغير على سوق بغداد، فأريد ان تبعث معى ادلاء، فيدلونى على الطريق، وتسوى لي الجسر، لاعبر الفرات، ففعل المرزبان ذلك، وقد كان قطع الجسر لئلا تعبر العرب اليه، فعبر المثنى مع اصحابه، وبعث المرزبان معه الأدلاء، فسار حتى وافى السوق ضحوه، فهرب الناس، وتركوا أموالهم، فملئوا ايديهم من الذهب والفضه، وسائر الأمتعة، ثم رجع الى الأنبار، ووافى معسكره. ولما بلغ سويد بن قطبه العجلى امر المثنى بن حارثة، وما نال من الظفر يوم مهران كتب الى عمر بن الخطاب، يعلمه وهن الناحية التي هو بها، ويسأله ان يمده بجيش. فندب عمر بن الخطاب لذلك الوجه عتبة بن غزوان المازنى، وكان حليفا لبنى نوفل بن عبد مناف، وكانت له صحبه من رسول الله ص، وضم اليه الفى رجل من المسلمين، وكتب الى سويد بن قطبه يأمره بالانضمام اليه. فلما سار عتبة شيعه عمر رضى الله عنه، فقال: يا عتبة، ان اخوانك من المسلمين قد غلبوا على الحيرة، وما يليها، وعبرت خيلهم الفرات حتى وطئت بابل، مدينه هاروت وماروت ومنازل الجبارين، وان خيلهم اليوم لتغير حتى تشارف المدائن، وقد بعثتك في هذا الجيش، فاقصد قصد اهل الاهواز، فاشغل اهل تلك الناحية، ان يمدوا اصحابهم بناحيه السواد على إخوانكم الذين هناك، وقاتلهم مما يلى الأبله.   [1] الفلاليج: قرى السواد من ارض فارس واحده فلوجه، وبالقرب من بغداد فلوجتان. [2] مدينه على الفرات غربي بغداد، كانت الفرس تسميها فيروز سابور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فسار عتبة بن غزوان حتى اتى مكان البصره اليوم، ولم تكن هناك يومئذ الا الخريبة، وكانت منازل خربه، وبها مسالح لكسرى تمنع العرب من العبث في تلك الناحية، فنزلها عتبة بن غزوان باصحابه في الاخبيه والقباب، ثم سار حتى نزل موضع البصره، وهي إذ ذاك حجارة سود وحصى، وبذلك سميت البصره، ثم سار حتى اتى الأبله، فافتتحها عنوه، وكتب الى عمر رضى الله عنه: اما بعد، فان الله، وله الحمد، فتح علينا الأبله، وهي مرقى سفن البحر من عمان، والبحرين، وفارس، والهند، والصين، واغنمنا ذهبهم وفضتهم وذراريهم، وانا كاتب إليك ببيان ذلك ان شاء الله. وبعث بالكتاب مع نافع بن الحارث بن كلده الثقفى، فلما قدم على عمر رضى الله عنه تباشر المسلمون بذلك، فلما اراد نافع الانصراف، قال لعمر: يا امير المؤمنين. انى قد افتليت [1] فلاء بالبصرة، واتخذت بها تجاره. فاكتب الى عتبة ابن غزوان ان يحسن جواري. فكتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه الى عتبة: اما بعد، فان نافع بن الحارث ذكر انه قد افتلى فلاء، وأحب ان يتخذ بالبصرة دارا، فاحسن جواره، واعرف له حقه، والسلام. فخط له عتبة بالبصرة خطه، فكان نافع أول من خط خطه بالبصرة، وأول من افتلى بها الافلاء، وارتبط بها رباطا، ثم ان عتبة سار الى المذار [2] ، واظهره الله عليهم، ووقع مرزبانها في يده، فضرب عنقه، وأخذ بزته، وفي منطقته الزمرد والياقوت، وارسل بذلك الى عمر رضى الله عنه، وكتب اليه بالفتح، فتباشر الناس بذلك، وأكبوا على الرسول، يسالونه عن امر البصره، فقال ان المسلمين يهيلون بها الذهب والفضه هيلا، فرغب الناس في الخروج، حتى كثروا بها، وقوى امرهم، فخرج عتبة بهم الى فرات البصره [3] ، فافتتحها، ثم سار الى   [1] اقتنيت قنيه، وافتلى اى اتخذ. [2] المذار بفتح الميم بلده بين واسط والبصره. [3] البلاد قرب البصره التي تسقى من نهر الفرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 دست ميسان [1] فافتحها بعد ان خرج اليه مرزبانها بجنوده، فالتقوا، فقتل المرزبان، وانهزمت العجم، فدخل مدينتها لا يمنعه شيء، فخلف بها رجلا، وسار الى ابرقباذ فافتتحها، ثم انصرف الى مكانه من البصره، وكتب الى عمر رضى الله عنه بما فتح الله عليه من هذه المدن والبلدان، وبعث بالكتاب مع انس بن الشيخ بن النعمان، فاختلفت القبائل إليها حتى كثروا بها. ثم ان عتبة استاذن عمر في القدوم عليه، فاذن له، فاستخلف المغيره بن شعبه، ثم خطب الناس حين اراد الخروج خطبه طويله، قال فيها: اعوذ بالله ان أكون في نفسي عظيما، وفي اعين الناس صغيرا، وانا سائر، ولا حول ولا قوه الا بالله، وستجربون الأمراء بعدي، فتعرفون. وكان الحسن البصرى يقول، إذا تحدث بهذا الحديث: قد جربنا الأمراء بعده، فوجدنا له الفضل عليهم. وان عمر رضى الله عنه اقر المغيره على ثغر البصره، فسار بالناس نحو ميسان، فخرج اليه مرزبانها، فحاربه، فأظهر الله المسلمين، وافتتح البلاد عنوه، وكتب الى عمر بالفتح، ثم كان من امر المغيره والنفر الذين رموه ما كان. وبلغ ذلك عمر رضى الله عنه، فامر أبا موسى الأشعري بالخروج إليها، وان يصرف الخطط لمن هناك من العرب، ويجعل كل قبيله في محله، وان يأمر الناس بالبناء، وان يبنى لهم مسجدا جامعا، وان يشخص اليه المغيره بن شعبه، فقال ابو موسى: يا امير المؤمنين، فوجه معى نفرا من الانصار، فان مثل الانصار في الناس كمثل الملح في الطعام، فوجه معه عشره من الانصار، فيهم انس بن مالك، والبراء بن مالك، فقدم ابو موسى البصره، وبعث اليه بالمغيره بن شعبه، والنفر الذين شهدوا عليه، فسألهم عمر رضى الله عنه، فلم يصرحوا، فجلدهم، وامر المغيره ان يلحق بالبصرة، فيعاون أبا موسى على امره، ونظر ابو موسى الى زياد بن عبيد، وكان عبدا مملوكا لثقيف، فاعجبه عقله وأدبه، فاتخذه كاتبا، واقام معه، وقد كان قبل ذلك مع المغيره بن شعبه.   [1] كوره كبيره بين واسط البصره والاهواز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قالوا: فلما نظرت الفرس الى العرب قد حدقوا بهم، وبثوا الغارات في ارضهم قالوا فيما بينهما: انما أتينا من تملك النساء علينا، فاجتمعوا على يزدجرد بن شهريار بن كسرى ابرويز، فملكوه عليهم، وهو يومئذ غلام ابن ست عشره سنه، وثبتت طائفه على آزرميدخت، فتحارب الفريقان، فكان الظفر ليزدجرد، فخلعت آزرميدخت، وتملك يزدجرد، فجمع اليه اطرافه، واستجاش اقطار ارضه، وولى عليهم رستم بن هرمز، وكان محنكا، قد جربته الدهور، فسار رستم نحو القادسية. موقعه القادسية وبلغ ذلك جرير بن عبد الله والمثنى بن حارثة، فكتبا الى عمر رضى الله عنه، يخبرانه، فندب عمر الناس، فاجتمع له نحو من عشرين الف رجل، فولى امرهم سعد بن ابى وقاص، فسار سعد بالجيوش حتى وافى القادسية، فضم اليه من كان هناك، وتوفى المثنى بن حارثة رحمه الله، فلما انقضت عده امراه المثنى تزوجها سعد بن ابى وقاص، واقبل رستم بجنوده حتى نزل دير الأعور [1] . وان سعدا بعث طليحة بن خويلد الأسدي، وكان من فرسان العرب في جمع ليأتيه بخبر القوم، فلما عاينوا سوادهم، ورأوا كثرتهم قالوا لطليحه: انصرف بنا، فقال: لا، ولكنى ماض حتى ادخل عسكرهم، واعلم علمهم. فاتهموه، وقالوا له: ما نحسبك تريد الا اللحاق بهم، وما كان الله ليهديك بعد قتلك عكاشة بن محصن وثابت بن اقرم، فقال لهم طليحة: ملا الرعب قلوبكم، واقبل طليحة حتى دخل عسكر الفرس ليلا، فلم يزل يجوسه ليلته كلها، حتى إذا كان وجه السحر مر بفارس منهم يعد بألف فارس، وهو نائم، وفرسه مقيد، فنزل، ففك قيده، ثم شد مقوده بثغر [2] فرسه،   [1] مكان بظاهر الكوفه، بناه رجل من اياد، يقال له الأعور. [2] ثغر الدابة بالتحريك السير الذى في مؤخر السرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وخرج من المعسكر، واستيقظ صاحب الفرس، فنادى في اصحابه، وركب في اثره، فلحقوه، وقد أضاء الصبح، فبدر صاحب الفرس اليه، ووقف له طليحة، فأطعنا، فقتله طليحة، ولحقه فارس آخر، فقتله طليحة، ولحقه ثالث، فاسره طليحة، وحمله على دابته، واقبل به نحو عسكر المسلمين، فكبر الناس، ودخل على سعد، واخبره الخبر. واقام رستم بدير الأعور معسكرا اربعه اشهر، وأرادوا [1] مطاوله العرب ليضجروا، وكان المسلمون إذا فنيت ازوادهم واعلافهم جردوا الخيل، فأخذت على البر حتى تهبط على المكان الذى يريدون، ويغيرون، فينصرفون بالطعام والعلف والمواشى. ثم ان عمر رضى الله عنه كتب الى ابى موسى يأمره ان يمد سعدا بالخيل، فوجه اليه ابو موسى المغيره بن شعبه في الف فارس، وكتب الى ابى عبيده بن الجراح، وهو بالشام يحارب الروم ان يمد سعدا بخيل، فامده بقيس بن هبيرة المرادى في الف فارس، وكان في القوم هاشم بن عتبة بن ابى وقاص، وكانت عينه فقئت يوم اليرموك، وفيهم الاشعث بن قيس، والاشتر النخعى، فساروا حتى قدموا على سعد بالقادسية. وان يزدجرد الملك كتب الى رستم يأمره بمناجزه العرب، فزحف رستم بجنوده وعساكره حتى وافى القادسية، فعسكر على ميل من معسكر المسلمين، وجرت الرسل فيما بينه وبين سعد شهرا، ثم ارسل الى سعد: ان ابعث إلي من أصحابك رجلا، له فهم وعقل وعلم، لأكلمه، فبعث اليه بالمغيره بن شعبه، فلما دخل عليه قال له رستم: ان الله قد اعظم لنا السلطان، وأظهرنا على الأمم، واخضع لنا الأقاليم، وذلل لنا اهل الارضين، ولم يكن في الارض أمه اصغر قدرا عندنا منكم، لأنكم اهل قله وذله وارض جدبه، ومعيشة ضنك، فما حملكم على تخطيكم الى   [1] في الأصل: واراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بلادنا؟ فان كان ذلك من قحط نزل بكم، فانا نوسعكم ونفضل عليكم، فارجعوا الى بلادكم. فقال له المغيره: اما ما ذكرت من عظيم سلطانكم، ورفاهه عيشكم، وظهوركم على الأمم، وما أوتيتم من رفيع الشان، فنحن كل ذلك عارفون، وساخبرك عن حالنا: ان الله وله الحمد، أنزلنا بقفار من الارض، مع الماء النزر، والعيش القشف يأكل قوينا ضعيفنا، ونقطع أرحامنا، ونقتل أولادنا خشيه الاملاق، ونعبد الأوثان، فبينا نحن كذلك بعث الله فينا نبيا، من صميمنا واكرم ارومه [1] فينا، وامره ان يدعو الناس الى شهاده ان لا اله الا الله، وان نعمل بكتاب انزله إلينا، فآمنا به، وصدقناه، فأمرنا ان ندعو الناس الى ما امره الله به، فمن أجابنا كان له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن ابى ذلك سالناه الجزية [2] عن يد، فمن ابى جاهدناه، وانا ادعوك الى مثل ذلك، فان أبيت فالسيف. وضرب يده مشيرا بها الى قائم سيفه. فلما سمع ذلك رستم تعاظمه ما استقبله به، واغتاظ منه، فقال: والشمس، لا يرتفع الضحى غدا حتى اقتلكم اجمعين فانصرف المغيره الى سعد، فاخبره بما جرى بينهما، وقال لسعد استعد للحرب، فامر الناس بالتهيؤ والاستعداد، فبات الفريقان يكتبون الكتائب، ويعبون الجنود، وأصبحوا وقد صفوا الصفوف، ووقفوا تحت الرايات، وكانت بسعد عله من خراج [3] في فخذه قد منعه الركوب، فولى امر الناس خالد بن عرفطه، وولى القلب قيس بن هبيرة، وولى الميمنه شرحبيل ابن السمط، وولى الميسره هاشم بن عتبة بن ابى وقاص، وولى الرجاله قيس بن خريم، واقام هو في قصر القادسية، مع الحرم والذرية، ومعه في القصر ابو محجن الثقفى محبوسا في شراب شربه.   [1] الأرومة: الأصل والجمع اروم. [2] الجزية هي عبارة عن المال الذى يعقد الكتابي عليه الذمة. [3] في الأصل: من جراح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ثم ان سعدا تقدم الى عمرو بن معدى كرب، وقيس بن هبيرة، وشرحبيل بن السمط، وقال: انكم شعراء وخطباء وفرسان العرب، فدوروا في القبائل والرايات، وحرضوا الناس على القتال. قال: ثم زحف الفريقان بعضهم الى بعض، وقد صف العجم ثلاثة عشر صفا، بعضها خلف بعض، وصفت العرب ثلاثة صفوف، فرشقتهم العجم بالنشاب حتى فشت فيهم [1] الجراحات، فلما راى قيس بن هبيرة ذلك، قال لخالد ابن عرفطه، وكان امير الأمراء: ايها الأمير، انا قد صرنا لهؤلاء القوم غرضا، فاحمل عليهم بالناس حمله واحده، فتطاعن الناس بالرماح مليا، ثم أفيضوا الى السيوف. وكان زيد بن عبد الله النخعى صاحب الحمله الاولى، فكان أول قتيل، فاخذ الراية اخوه ارطاه، فقتل، ثم حملت بجيله، وعليها جرير بن عبد الله، وحملت الأزد، وثار القتام، واشتد القتال، فانهزمت العجم حتى لحقوا برستم، وترجل رستم، وترجل معه الأساورة والمرازبه وعظماء الفرس، وحملوا، فجال المسلمون جولة. وكلم ابو محجن أم ولد سعد، فقال: اطلقينى من قيدي، ولك على عهد الله ان لم اقتل ان ارجع الى محبسى هذا، وقيدي. ففعلت، وحملته على فرس لسعد ابلق [2] ، فانتهى الى القوم مما يلى الأزد، وبجيله، مما يلى الميمنه، فجعل يحمل، ويكشف العجم، وقد كانوا كثروا على بجيله، فجعل سعد يعجب، ولا يدرى من هو، ويعرف الفرس. وبعث سعد الى جرير بن عبد الله، وكان معه لواء بجيله، والى الاشعث بن قيس، ومعه لواء كنده، والى رؤساء القبائل: ان احملوا على القوم من ناحيه الميمنه على القلب، فحمل الناس عليهم من كل وجه، وانتقضت تعبئة الفرس، وقتل رستم، وولت العجم هاربه، وانصرف الى محبسه ابو محجن، وطلب رستم في المعركة،   [1] في الأصل: بهم. [2] في لونه سواد وبياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فاصيب بين القتلى، وبه مائه جراحه، ما بين طعنه وضربه، ولم يدر من قتله، ويقال: بل ارتطم في نهر القادسية، فغرق، وانتهت هزيمه العجم الى دير كعب، فنزلوا هناك، فاستقبلهم النخارجان، وقد وجهه يزدجرد مددا، فوقف بدير كعب، فكان لا يمر به احد من الفل الا حبسه قبله. ثم عبى القوم، وكتبوا كتائبهم واوقفوهم مواقفهم حتى وافتهم العرب، وتواقف الفريقان، وبرز النخارجان، فنادى، مرد ومرد، اى رجل ورجل، فخرج اليه زهير بن سليم أخو مخنف بن سليم الأزدي، وكان النخارجان سمينا بدينا جسيما، وزهير رجلا مربوعا [1] شديد العضدين والساعدين، فرمى النخارجان نفسه عن دابته عليه، فاعتركا، فصرعه النخارجان، وجلس على صدره، واستل خنجره ليذبحه، فوقعت ابهام النخارجان في فم زهير، فمضغها، واسترخى النخارجان، وانقلب عليه زهير، وأخذ خنجره وادخل يده تحت ثيابه، فبعجه [2] ، وقتله. وكان برذون النخارجان مدربا، فلم يبرح، فركبه زهير وقد سلبه سواريه ودرعه وقباءه ومنطقته، فاتى به سعدا، فاغنمه اياه، وامره سعد ان يتزيى بزيه، ودخل على سعد، فكان زهير بن سليم أول من لبس من العرب السوارين، وحمل قيس بن هبيرة على جيلوس راس المستميته، فقتله، وحمل المسلمون من كل جانب، فانهزمت العجم، وبادر جرير بن عبد الله الى القنطرة، فعطفوا عليه، فاحتملوه برماحهم، فسقط الى الارض، ولحقه اصحابه، وهربت عنه العجم، ولم يصبه شيء، وعار فرسه [3] ، فلم يلحق، فاتى ببرذون من مراكب الفرس في عنقه قلاده زمرد، فركبه، وذهبت العجم على وجوهها حتى لحقت بالمدائن. وكتب سعد الى عمر رضى الله عنه بالفتح. وكان عمر يخرج في كل يوم ماشيا وحده، لا يدع أحدا يخرج معه، فيمشى على طريق العراق ميلين او ثلاثة،   [1] لا هو بالقصير ولا بالطويل. [2] شق بطنه. [3] عار الفرس خرج من يد صاحبه، وذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فلا يطلع عليه راكب من جهة العراق الا ساله عن الخبر، فبينا هو كذلك يوما طلع عليه البشير بالفتح، فلما رآه عمر رضى الله عنه ناداه من بعيد: ما الخبر؟، قال: فتح الله على المسلمين، وانهزمت العجم. وجعل الرسول يخب ناقته، وعمر يعدو معه، ويسأله، ويستخبره، والرسول لا يعرفه، حتى دخل المدينة كذلك، فاستقبل الناس عمر رضى الله عنه، يسلمون عليه بالخلافة وامره المؤمنين، فقال الرسول، وقد تحير: سبحان الله يا امير المؤمنين! الا أعلمتني؟ فقال عمر: لا عليك. ثم أخذ الكتاب، فقراه على الناس. واقام سعد في عسكره بالقادسية الى ان أتاه كتاب عمر، يأمره ان يضع لمن معه من العرب دار هجره، وان يجعل ذلك بمكان لا يكون بين عمر وبينهم بحر، فسار الى الأنبار [1] ليجعلها دار هجره، فكرهها لكثرة الذباب بها، ثم ارتحل الى كويفه ابن عمر [2] ، فلم يعجبه موضعها، فاقبل حتى نزل موضع الكوفه اليوم، فخطها خططا بين من كان معه، وبنى لنفسه القصر والمسجد. وبلغ عمر ان سعدا علق بابا على مدخل القصر، فامر محمد بن مسلمه ان يسير الى الكوفه، فيدعو بنار، فيحرق ذلك الباب، وينصرف من ساعته، واقبل محمد، فسار حتى دخل الكوفه، وفعل ما امر به، وانصرف من ساعته، واخبر سعد، فلم يحر جوابا، وعلم ان ذلك من امر عمر، فقال بشر بن ابى ربيعه: الم خيال من اميمه موهنا ... وقد جعلت احدى النجوم تغور ونحن بصحراء العذيب ودونها ... حجازيه ان المحل شطير فزارت غريبا نازحا، جل ماله ... جواد، ومفتوق الغرار طرير وحلت بباب القادسية ناقتي ... وسعد بن وقاص على امير تذكر، هداك الله، وقع سيوفنا ... بباب قديس والمكر غرير   [1] مدينه قديمه في العراق على نهر الفرات فتحها خالد بن الوليد سنه 634 م، وكانت مقرا للخلافة الى ان تاسست مدينه بغداد. [2] تصغير الكوفه، ومكانها قرب الكوفه المعروفه، وكل رمله يخالطها حصى تسمى كوفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 عشيه ود القوم لو ان بعضهم ... يعار جناحي طائر فيطير إذا برزت منهم إلينا كتيبه ... أتونا بأخرى كالجبال تمور فضاربتهم حتى تفرق جمعهم ... وطاعنت، انى بالطعان بصير وعمرو ابو ثور شهيد، وهاشم ... وقيس، ونعمان الفتى، وجرير وقال عروه بن الورد: لقد علمت عمرو ونبهان اننى ... انا الفارس الحامى إذا القوم أدبروا وانى إذا كروا شددت أمامهم ... كأني أخو قصباء جهم غضنفر صبرت لأهل القادسية معلما ... ومثلي إذا لم يصبر القرن يصبر فطاعنتهم بالرمح حتى تبددوا ... وضاربتهم بالسيف حتى تكركروا بذلك أوصاني ابى، وابو ابى ... بذلك اوصاه، فلست اقصر حمدت الهى إذ هداني لدينه ... فلله اسعى ما حييت واشكر وقال قيس بن هبيرة: جلبت الخيل من صنعاء تردى ... بكل مدجج كالليث حامى الى وادي القرى فديار كلب ... الى اليرموك والبلد الشامي فلما ان زوينا الروم عنها ... عطفناها ضوامر كالجلام فابنا القادسية بعد شهر ... مسومة دوابرها دوامي [1] فناهضنا هناك جموع كسرى ... وأبناء المرازبه العظام فلما ان رايت الخيل جالت ... قصدت لموقف الملك الهمام فاضرب راسه فهوى صريعا ... بسيف لا افل ولا كهام وقد ابلى الإله هناك خيرا ... وفعل الخير عند الله نامى نفلق هامهم بمهندات ... كان فراشها قيض النعام [2]   [1] في الأصل: دوايرها. [2] القيض: قشر البيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قالوا: ولما انهزمت العجم من القادسية وقتل صناديدهم مروا على وجوههم حتى لحقوا بالمدائن، واقبل المسلمون حتى نزلوا على شط دجلة بإزاء المدائن، فعسكروا هناك، وأقاموا فيه ثمانية وعشرين شهرا، حتى أكلوا الرطب مرتين، وضحوا اضحيتين، فلما طال ذلك على اهل السواد صالحه عامه الدهاقين بتلك الناحية. ولما راى يزدجرد ذلك جمع اليه عظماء مرازبته، فقسم عليهم بيوت أمواله وخزائنه، وكتب عليهم بها القبالات [1] ، وقال: ان ذهب ملكنا، فأنتم أحق به، وان رجع رددتموه علينا، ثم تحمل في حرمه وحشمه، وخاصه اهل بيته، حتى اتى حلوان [2] ، فنزلها، وولى خرزاد بن هرمز أخا رستم المقتول بالقادسية الحرب، وخلفه بالمدائن. وبلغ ذلك سعدا، فتأهب، وامر اصحابه ان يقتحموا دجلة، وابتدأ، فقال باسم الله، ودفع فرسه فيها، ودفع الناس، فسلموا عن آخرهم الا رجلا غرق، وكان على فرس شقراء [3] ، فخرجت الفرس تنفض عرفها، وغرق راكبها، وكان من طيّئ، يسمى سليك بن عبد الله، فقال سلمان، وكان حاضرا يومئذ: يا معشر المسلمين، ان الله ذلل لكم البحر، كما ذلل لكم البر، اما والذى نفس سلمان بيده، ليغيرن فيه، وليبدلن. قالوا: ولما نظرت الفرس الى العرب قد اقحموا دوابهم الماء وهم يعبرون، تنادوا ديوان آمدند، ديوان آمدند [4] ، فخرج خرزاد في الخيل حتى وقف على الشريعه، ونادى: يا معشر العرب، البحر بحرنا، فليس لكم ان تقتحموه علينا. وأقبلوا يرمون العرب بالنشاب، واقتحم منهم ناس كثير الماء، فقاتلوا ساعه،   [1] القبالات جمع قباله بفتح القاف وهو ان يتقبل العامل بخراج او جبايه اكثر مما اعطى، وفي حديث ابن عباس: إياكم والقبالات فإنها صغار وفضلها ربا. [2] حلوان مدينه قديمه في العراق العجمي فتحها العرب سنه 640 وأحرقها السلجوقيون سنه 1046. [3] في الأصل اشقر. [4] جمله فارسيه معناها: جاء الشياطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وكاثرتهم العرب، فخرجت الفرس من الشريعه، وخرج المسلمون، وقاتلوهم مليا، وانهزمت العجم حتى دخلت المدائن، فتحصنوا فيها، واناخ المسلمون عليهم مما يلى دجلة، فلما نظر خرزاد الى ذلك خرج من الباب الشرقى ليلا في جنوده نحو جلولاء، واخلى المدائن، فدخلها المسلمون، فأصابوا فيها غنائم كثيره، ووقعوا على كافور [1] كثير، فظنوه ملحا، فجعلوه في خبزهم، فامر عليهم. وقال مخنف بن سليم: لقد سمعت في ذلك اليوم رجلا ينادى: من يأخذ صحفه حمراء بصحفه بيضاء. لصحفه من ذهب لا يعلم ما هي. وكتب سعد الى عمر رضى الله عنه بالفتح، واقبل علج [2] من اهل المدائن الى سعد، فقال: انا ادلكم على طريق، تدركون فيه القوم قبل ان يمعنوا في السير. فقدمه سعد امامه، واتبعته الخيل، فقطع بهم مخائض وصحارى. موقعه جلولاء ثم ان خرزاد لما انتهى الى جلولاء [3] اقام بها، وكتب الى يزدجرد، وهو بحلوان، يسأله المدد، فامده، فخندق على نفسه، ووجهوا بالذراري والاثقال الى خانقين [4] ، ووجه سعد اليهم بخيل، وولى عليها عمرو بن مالك بن نجبه بن نوفل بن وهب بن عبد مناف بن زهره، فسار حتى وافى جلولاء، والعجم مجتمعون قد خندقوا على انفسهم. فنزل المسلمون قريبا من معسكرهم، وجعلت الامداد تقدم على العجم من الجبل، وأصبهان. فلما راى المسلمون ذلك قالوا لاميرهم عمرو بن مالك: ما تنتظر بمناهضه القوم،   [1] الكافور: نبات له نور ابيض. [2] العلج: الرجل من كفار العجم. [3] جلولاء: مدينه في العراق على طريق خراسان، وعندها انتصر العرب على جيش ملك ساسان. [4] خانقين: بلده في العراق على الطريق بين بغداد وخراسان على نهر خلوان تشاى وفيها اعتقل ومات النعمان الخامس ملك الحيرة على عهد كسرى الثانى، وعندها حدثت وقعه بين الفرس والعرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وهم كل يوم في زياده؟. فكتب الى سعد بن وقاص يعلمه ذلك، ويستاذنه في مناجزه القوم، فاذن له سعد، ووجه اليه قيس بن هبيرة مددا في الف رجل، أربعمائة فارس، وستمائه راجل. وبلغ العجم ان العرب قد أتاهم المدد، فتأهبوا للحرب، وخرجوا، ونهض اليهم عمرو بن مالك في المسلمين، وعلى ميمنته حجر بن عدى، وعلى ميسرته زهير ابن جويه، وعلى الخيل عمرو بن معدى كرب، وعلى الرجاله طليحة ابن خويلد، فتزاحف الفريقان، وصبر بعضهم لبعض، فتراموا بالسهام حتى انفدوها، وتطاعنوا بالرماح حتى كسروها، ثم أفضوا الى السيوف وعمد الحديد، فاقتتلوا يومهم ذلك كله الى الليل، ولم يكن للمسلمين فيه صلاه الا إيماء والتكبير، حتى إذا اصفرت الشمس انزل الله على المسلمين نصره، وهزم عدوهم، فقتلوهم الى الليل، واغنمهم الله عسكرهم بما فيه. فقال محقن بن ثعلبه، فدخلت في معسكرهم الى فسطاط، فإذا انا بجاريه على سرير في جوف الفسطاط، كان وجهها دارة القمر، فلما نظرت الى فزعت وبكت، فأخذتها، واتيت الأمير عمرو بن مالك، فاستوهبته إياها، فوهبها لي، فاتخذتها أم ولد. وأصاب خارجه بن الصلت في فسطاط من فساطيطهم ناقه من ذهب موشحه باللؤلؤ والدر الفارد [1] ، والياقوت، عليها تمثال رجل من ذهب، وكانت على كبر الظبية، فدفعها الى المتولى لقبض الغنائم. قال: ومرت الفرس على وجوهها، لا تلوى على شيء حتى انتهت الى يزدجرد، وهو بحلوان، فسقط في يديه، فتحمل بحرمه وحشمه وما كان معه من أمواله وخزائنه حتى نزل قم [2] وقاشان.   [1] منقطع النظير، لا مثل له في جودته. [2] مدينه بين اصفهان وساوه، وتذكر دائما مع قاشان، وبينهما اثنا عشر فرسخا، وكل أهلهما حاليا شيعه اماميه، ويقال ان آبار قم ليس في الارض مثلها عذوبه وبردا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وأصاب المسلمون يوم جلولاء غنيمه لم يغنموا مثلها قط، وسبوا سبيا كثيرا من بنات احرار فارس، فذكروا ان عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يقول: اللهم انى اعوذ بك من اولاد سبايا الجلوليات. فأدرك ابناؤهن قتال صفين، فخلف عمرو بن مالك بجلولاء جرير بن عبد الله البجلي في اربعه آلاف فارس مسلحه بها، ليردوا العجم عن نفوذها الى ما يلى العراق، وسار ببقية المسلمين حتى وافى سعد بن ابى وقاص، وهو مقيم بالمدائن، فارتحل سعد بالناس حتى ورد الكوفه، وكتب الى عمر رضى الله عنه بالفتح، واقام سعدا أميرا على الكوفه وجميع السواد ثلاث سنين ونصفا، ثم عزله عمر، وولى مكانه عمار بن ياسر على الحرب، وعبد الله بن مسعود على القضاء، وعمرو بن حنيف على الخراج. قالوا: ولما انتهت هزيمه العجم الى حلوان، وخرج يزدجرد هاربا حتى نزل قم وقاشان ومعه عظماء اهل بيته واشرافهم، قال له رجل من خاصته واهل بيته، يسمى هرمزان، وكان خال شيرويه بن كسرى ابرويز: ايها الملك ان العرب قد اقتحمت عليك من هذه الناحية، يعنى حلوان، ولهم جمع بناحيه الاهواز، ليس في وجوههم احد يردهم، ولا يمنعهم من العيث والفساد، يعنى خيل ابى موسى الأشعري ومن كان معه. قال يزدجرد: فما الرأي؟ قال الهرمزان: الرأي ان توجهني الى تلك الناحية، فاجمع الى العجم، وأكون ردءا في ذلك الوجه، واجمع لك الأموال من فارس والاهواز، واحملها إليك، لتتقوى بها على حرب اعدائك، فاعجبه ذلك من قوله، وعقد له على الاهواز وفارس، ووجه معه جيشا كثيفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يوم مدينه تستر فاقبل الهرمزان حتى وافى مدينه تستر [1] ، فنزلها، ورم حصنها، وجمع الميرة فيها لحصار، ان رهقه [2] ، وارسل فيما يليه يستنجدهم، فوافاه بشر عظيم، فكتب ابو موسى الى عمر، يخبره الخبر، فكتب عمر رضى الله عنه الى عمار بن ياسر، يأمره ان يوجه النعمان بن مقرن في الف رجل من المسلمين الى ابى موسى، فكتب عمار الى جرير، وكان مقيما بجلولاء، يأمره باللحاق بابى موسى، فخلف جرير بجلولاء عروه ابن قيس البجلي في الفى رجل من العرب، وسار ببقية الناس حتى لحق بابى موسى، فكتب ابو موسى الى عمر يستزيده من المدد، فكتب عمر الى عمار يأمره ان يستخلف عبد الله بن مسعود على الكوفه في نصف الناس، ويسير بالنصف الآخر حتى يلحق بابى موسى، فسار عمار حتى ورد على ابى موسى، وقد وافاه جرير من ناحيه جلولاء. فلما توافت العساكر عند ابى موسى ارتحل بالناس، وسار حتى اناخ على تستر، وتحصن الهرمزان منه في المدينة، ثم تاهب للحرب، وخرج الى ابى موسى، وعبى ابو موسى المسلمين، فجعل على ميمنته البراء بن مالك أخا انس بن مالك، وعلى ميسرته مجزاه بن ثور البكرى، وعلى جميع الناس انس بن مالك، وعلى الرجاله سلمه بن رجاء. وتزاحف الفريقان فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى بين الفريقين، ثم انزل الله نصره، فانهزمت الأعاجم حتى دخلوا مدينه تستر، فتحصنوا بها، وقتل البراء بن مالك ومجزاه بن ثور، وقتل من الأعاجم في المعركة الف رجل، واسر منهم ستمائه اسير، فقدمهم ابو موسى، فضرب أعناقهم.   [1] اعظم مدينه بخوزستان، معرب شوشتر، ومعناه التفضيل في الطيب والنزهه، وهي مركز تجارى هام، وسكانها شيعيون من العرب والايرانيين، وقد سميت بلدهم دار المؤمنين لشدة ورعهم. وإليها ينسب سهل التسترى من علماء الصوفية. [2] غشيه وارهقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 واقام المسلمون على باب مدينه تستر أياما كثيره، وحاصروا العجم بها، فخرج ذات ليله رجل من اشراف اهل المدينة، فاتى أبا موسى مستسرا، فقال تؤمننى على نفسي واهلى وولدى ومالي وضياعي حتى اعمل في أخذك المدينة عنوة؟ قال ابو موسى: ان فعلت فلك ذلك. قال الرجل، وكان اسمه سينه: ابعث معى رجلا من أصحابك. فقال ابو موسى: من رجل يشرى نفسه، ويدخل مع هذا العجمي مدخلا لا آمن عليه فيه الهلاك، ولعل الله ان يسلمه، فان يهلك فالى الجنه، وان يسلم عمت منفعته جميع الناس؟. فقام رجل من بنى شيبان، يقال له الاشرس بن عوف، فقال: انا. فقال ابو موسى امض، كلأك الله. فمضى حتى خاض به دجيل [1] ، ثم اخرجه من سرب [2] حتى انتهى به الى داره، ثم اخرجه من داره، والقى عليه طيلسانا [3] ، وقال: امش ورائي كأنك من خدمي. ففعل، فجعل سينه يمر به في اقطار المدينة طولا وعرضا، حتى انتهى به الى الاحراس الذين يحرسون أبواب المدينة، ثم انطلق حتى مر به على الهرمزان، وهو على باب قصره، ومعه ناس من مرازبته، وشمع امامه، حتى نظر الرجل الى جميع ذلك، ثم انصرف الى داره، واخرجه من ذلك السرب، حتى اتى به أبا موسى، فاخبره الاشرس بجميع ما راى، وقال: وجه معى مائتي رجل حتى اقصد بهم الحرس، فاقتلهم، وافتح لك الباب، ووافنا أنت بجميع الناس. فقال ابو موسى: من يشترى نفسه لله، فيمضى مع الاشرس؟. فانتدب مائتا رجل، فمضوا مع الاشرس وسينه حتى دخلوا من ذلك النقب، وخرجوا في دار سينه، وتأهبوا للحرب، ثم خرجوا والاشرس امامهم، حتى انتهوا الى باب المدينة، واقبل ابو موسى في جميع الناس حتى وافوا الباب من خارج، واقبل   [1] نهر صغير متشعب من دجلة. [2] السرب حفير تحت الارض او القناه الجوفاء التي يدخل منها الماء. [3] معرب من الفارسيه، وهو نوع من الأكسية اسود اللون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الاشرس واصحابه حتى أتوا الاحراس، فوضعوا فيهم السيف، وتداعى الناس، واسندوا ظهورهم الى حائط السور، وابو موسى واصحابه يكبرون لتشتد بذلك ظهورهم، وافضى اصحاب الاشرس الى الباب، فضربوا القفل حتى كسروه، وفتحوا الباب، ودخل ابو موسى والمسلمون، فوضعوا فيهم السيوف، وهرب الهرمزان في عظماء مرازبته حتى دخلوا الحصن الذى في جوف المدينة، وأخذ ابو موسى المدينة بما فيها وحاصروا الهرمزان حتى فنى ما كان اعد في الحصن من الميرة، ثم سال الامان، فقال ابو موسى: أومنك على حكم امير المؤمنين. فرضى بذلك، وخرج فيمن كان معه من اهل بيته ومرازبته الى ابى موسى، فوجه به وبهم ابو موسى الى عمر رضى الله عنه، ووجه معه ثلاثمائه رجل، وامر عليهم انس بن مالك، فساروا حتى انتهوا الى ماء يقال له السمينة [1] ، فاقبل اهل الماء يمنعونهم من النزول خوفا من ان يفنوا ماءهم، فلما علموا ان أنسا صاحب القوم جاؤوهم، فنزلوا، فقال رجل من اصحاب انس لانس: اخبر امير المؤمنين بما صنع هؤلاء بنا، ليخرجوهم من هذا الماء. قال الهرمزان: وان اراد مريد ان يحولهم الى مكان شر منه، هل كان يجده؟. ثم ساروا حتى وافوا المدينة، فاتوا دار عمر، وقد زينوا الهرمزان بقبائه [2] ومنطقته وسيفه وسواريه وتوامتيه [3] ، وكذلك من كان معه، لينظر عمر رضى الله عنه الى زي الملوك والمرازبه وهيئتهم، فكان من خبره ما هو مشهور. وانصرف عمار بن ياسر فيمن كان معه من اصحابه الى أوطانهم بالكوفه، وسار ابو موسى من تستر، حتى أتوا السوس [4] ، فحاصرها، فسأله مرزبانها ان يؤمنه في ثمانين رجلا من اهل بيته وخاصه اصحابه، فأجابه الى ذلك، فخرج اليه، فعد ثمانين رجلا، ولم يعد نفسه فيهم فامر ابو موسى به، فضربت عنقه، واطلق الثمانين الذين عدهم، ثم دخل المدينة، فغنم ما فيها، ثم بعث منجوف بن ثور الى   [1] ماء لبنى الهجيم، تصغير سمنه: أول منزل من النباج لقاصد البصره [2] نوع من الثياب تجمع اطرافه. [3] درتان للاذنين إحداهما توامه للأخرى. [4] بلده بخوزستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 مهرجان قذق [1] ، فافتتحها، ومعه السائب بن الأقرع، فانتهى السائب الى قصر الهرمزان صاحب تستر، وكان موطنه الصيمرة، فدخل القصر، وكان من المدينة على ميل، فنظر في بعض البيوت الى تمثال في الحائط ماد اصبعه مصوبها الى الارض، فقال السائب ما صوبت اصبع هذا التمثال الى هذا المكان الا لامر، احفروا هاهنا فحفروا، فأصابوا سفطا [2] ، كان للهرمزان مملوءا جوهرا، فاحتبس منه السائب فص خاتم، وسرح بالباقي الى ابى موسى، واعلمه انه أخذ منه فصا، فسأله ان يهبه له، ففعل ابو موسى، ووجه بالسفط الى عمر رضى الله عنه، فأرسل عمر الى الهرمزان، وقال: هل تعرف هذا السفط؟ فقال: نعم، افقد منه فصا قال عمر: ان صاحب المقسم استوهبه، فوهبه له ابو موسى، فقال: ان صاحبكم لبصير بالجوهر. ثم ان عمر ولى عثمان بن ابى العاص ارض البحرين، فلما بلغه فتح الاهواز سار بمن كان معه حتى اوغل في ارض فارس، فنزل مكانا يسمى توج [3] فصيره دار هجره، وبنى مسجدا جامعا، فكان يحارب اهل أردشير، حتى غلب على طائفه من ارضهم، وغلب على ناحيه من بلاد سابور، وبلاد اصطخر، وارجان، فمكث بذلك حولا، ثم خلف أخاه الحكم بن ابى العاص على اصحابه ولحق بالمدينة. وان مرزبان فارس جمع جموعا عظيمه، وزحف الى الحكم، فظفر به الحكم، فقتله، وكان اسمه سهرك. وقعه نهاوند ثم كانت وقعه نهاوند [4] سنه احدى وعشرين 641 م، وذلك ان العجم لما قتلوا بجلولاء، وهرب يزدجرد، فصار بقم، ووجه رسله في البلدان يستجيش، فغضب له اهل مملكته، فتحلبت [5] اليه الأعاجم من اقطار البلاد،   [1] كوره حسنه واسعه، ذات مدن وقرى، قرب الصيمرة من نواحي الجبال، عن يمين القاصد من حلوان العراق الى همذان. [2] السفط كالجوالق، يعبى فيه الطيب وما اشبهه من ادوات النساء. [3] مدينه بفارس، شديده الحر، قريبه من كازرون. [4] مدينه عظيمه من اقدم المدن في الجبل، وبها آثار حسنه للفرس، وفي وسطها حصن عجيب البناء، عالى السمك، وبها قبور جماعه من الشهداء. [5] جاؤوا من كل أوب للنصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فأتاه اهل قومس، وطبرستان، وجرجان، ودنباوند، والري، وأصبهان، وهمذان، والماهين، واجتمعت عنده جموع عظيمه، فولى امرهم مردان شاه بن هرمز، ووجههم الى نهاوند. وكتب عمار بن ياسر الى عمر بن الخطاب بذلك، فخرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وبيده الكتاب حتى صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: يا معشر العرب، ان الله ايدكم بالإسلام، والف بينكم بعد الفرقة، واغناكم بعد الفاقة، واظفركم في كل موطن لقيتم فيه عدوكم، فلم تفلوا، ولم تغلبوا، وان الشيطان قد جمع جموعا ليطفئ نور الله، وهذا كتاب عمار ابن ياسر، يذكر ان اهل قومس وطبرستان ودنباوند وجرجان والري وأصبهان وقم وهمذان والماهين وماسبذان قد اجفلوا [1] الى ملكهم، ليسيروا الى إخوانكم بالكوفه والبصره حتى يطردوهم من ارضهم، ويغزوكم في بلادكم، فأشيروا على. فتكلم طلحه بن عبيد الله، فقال: يا امير المؤمنين، ان الأمور قد حنكتك، وان الدهور قد جربتك، وأنت الوالي، فمرنا نطع، واستنهضنا ننهض. ثم تكلم عثمان بن عفان، فقال: يا امير المؤمنين، اكتب الى اهل الشام، فيسيروا من شامهم، والى اهل اليمن، فيسيروا من يمنهم، والى اهل البصره، فيسيروا من بصرتهم، وسر أنت باهل هذا الحرم حتى توافى الكوفه، وقد وافاك المسلمون من اقطار ارضهم وآفاق بلادهم، فإنك إذا فعلت ذلك كنت اكثر منهم جمعا وأعز نفرا. فقال المسلمون من كل ناحيه صدق عثمان، فقال عمر لعلى رضى الله عنهما: ما تقول أنت يا أبا الحسن؟، فقال على رضى الله عنه: انك ان اشخصت اهل الشام من شامهم سارت الروم الى ذراريهم، وان سيرت اهل اليمن من يمنهم خلفت الحبشه على ارضهم، وان شخصت أنت من هذا الحرم انتقضت عليك   [1] أسرعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الارض من أقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العيالات أهم إليك مما قدامك، وان العجم إذا رأوك عيانا قالوا، هذا ملك العرب كلها، فكان أشد لقتالهم، وانا لم نقاتل الناس على عهد نبينا ص ولا بعده بالكثرة، بل اكتب الى اهل الشام ان يقيم منهم بشامهم الثلثان، ويشخص الثلث، وكذلك الى عمان، وكذلك سائر الأمصار والكور. فقال عمر: هو الرأي الذى كنت رايته، ولكنى احببت ان تتابعونى عليه، فكتب بذلك الى الأمصار، ثم قال: لاولين الحرب رجلا يكون غدا لاسنه القوم جزرا [1] . فولى الأمر النعمان بن مقرن المزنى، وكان من خيار اصحاب رسول الله ص، وكان على خراج كسكر، فدعا عمر السائب بن الأقرع، فدفع اليه عهد النعمان بن مقرن، وقال له: ان قتل النعمان فولى الأمر حذيفة بن اليمان، وان قتل حذيفة فولى الأمر جرير بن عبد الله البجلي، وان قتل جرير فالأمير المغيره ابن شعبه، وان قتل المغيره فالأمير الاشعث بن قيس. وكتب الى النعمان بن مقرن ان قبلك رجلين هما فارسا العرب: عمرو بن معدى كرب، وطليحة بن خويلد فشاورهما في الحرب، ولا تولهما شيئا من الأمر، ثم قال للسائب: ان اظفر الله المسلمين فتول امر المغنم ولا ترفع الى باطلا، وان يهلك ذلك الجيش فاذهب، فلا ارينك. فسار السائب حتى ورد الكوفه ودفع الى النعمان عهده، ووافت الامداد، وخلف ابو موسى بالبصرة ثلثى الناس، وسار بالثلث الآخر حتى وافى الكوفه، فتجهز الناس، وساروا الى نهاوند، فنزلوا بمكان يسمى الاسفيذهان [2] من مدينه نهاوند على ثلاثة فراسخ، قرب قريه يقال لها قديسجان، واقبلت الأعاجم يقودها مردان شاه بن هرمزد، حتى عسكروا قريبا من عسكر المسلمين، وخندقوا على انفسهم، واقام الفريقان بمكانهما، فقال النعمان لعمرو وطلحه: ما تريان؟   [1] الجزر: القطع والاستئصال. [2] كذا في الأصل، والصواب اسفيذبان واحده من قرى أصبهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فان هؤلاء القوم قد أقاموا بمكانهم لا يخرجون منه، وامدادهم تترى عليهم كل يوم فقال عمرو: الرأي ان تشيع ان امير المؤمنين توفى، ثم ترتحل بجميع من معك، فان القوم إذا بلغهم ذلك طلبونا فنقف لهم عند ذلك، ففعل النعمان ذلك، وتباشرت الأعاجم، وخرجوا في آثار المسلمين، حتى إذا قاربوهم وقفوا لهم، ثم تزاحفوا، فاقتتلوا، فلم يسمع الا وقع الحديد على الحديد، وكثرت القتلى من الفريقين، وحال بينهما الليل، فانصرف كل فريق الى معسكرهم، وبات المسلمون لهم أنين من الجراح، ثم أصبحوا، وذلك يوم الأربعاء، فتزاحفوا، واقتتلوا يومهم كله، وصبر الفريقان، ثم كان ذلك دأبهم يوم الخميس، وتزاحفوا يوم الجمعه، وتواقفوا، وركب النعمان بن مقرن برذونا اشهب، ولبس ثيابا بيضاء، وسار بين الصفوف، يذمر المسلمين، ويحضهم، وجعل ينتظر الساعة التي كان الرسول ص يقاتل فيها، ويستنزل النصر، وهي زوال النهار، ومهب الرياح، وسار في الرايات يقول لهم: انى هاز لكم الراية ثلاثا، فان هززتها أول مره فليشد كل رجل منكم حزام فرسه، وليستلم شكته، فإذا هززتها الثانيه فصوبوا رماحكم، وهزوا سيوفكم، فإذا هززتها الثالثه، فكبروا، واحملوا، فانى حامل. فلما زالت الشمس بأدنى صلوا ركعتين ركعتين، ووقف، ونظر الناس الى الراية، فلما هزها الثالثه كبروا، وحملوا، فانتقضت صفوف الأعاجم، وكان النعمان أول قتيل، فحمله اخوه سويد بن مقرن الى فسطاطه، فخلع ثيابه، فلبسها، وتقلد سيفه، وركب فرسه، فلم يشك اكثر الناس انه النعمان، وثبتوا، يقاتلون عدوهم، ثم انزل الله نصره، وانهزمت الأعاجم، فذهبت على وجوهها، حتى صاروا الى قريه من نهاوند على فرسخين، تسمى دزيزيد فنزلوها لان حصن نهاوند لم يسعهم، واقبل حذيفة بن اليمان، وقد كان تولى الأمر بعد النعمان، حتى اناخ عليهم، فحاصرهم بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قال: وانهم خرجوا ذات يوم مستعدين للحرب، فقاتلهم المسلمون، فانهزمت الأعاجم، وانقطع عظيم من عظمائهم يسمى دينار فحال المسلمون بينه وبين الدخول الى الحصن، واتبعه رجل من عبس، يسمى سماك بن عبيد فقتل قوما كانوا معه، واستسلم له الفارس، فاستاسره سماك، فقال لسماك: انطلق بي الى اميركم، فانى صاحب هذه الكورة، لاصالحه على هذه الارض، وافتح له باب الحصن، فانطلق به الى حذيفة، فصالحه حذيفة عليها، وكتب له بذلك كتابا. فاقبل دينار حتى وقف على باب حصن نهاوند، ونادى من فيه افتحوا باب الحصن، وانزلوا، فقد آمنكم الأمير، وصالحني على أرضكم. فنزلوا اليه، فبذلك سميت ماه دينار. واقبل رجل من اشراف تلك البلاد الى السائب بن الأقرع، وكان على المغانم، فقال له اتصالحنى على ضياعي، وتؤمننى على أموالي، حتى ادلك على كنز لا يدرى ما قدره، فيكون خالصا لاميركم الأعظم، لأنه شيء لم يؤخذ في الغنيمه. وكان سبب هذا الكنز ان النخارجان الذى كان يوم القادسية اقبل بالمدد، فالفى العجم قد انهزموا، فوقف، فقاتل حتى قتل، وكان من أعاظم الأعاجم، وكان كريما على كسرى ابرويز، وكانت له امراه من اكمل [1] النساء جمالا، وكانت تختلف الى كسرى، فبلغ النخارجان ذلك، فرفضها، فلم يقربها، وبلغ ذلك كسرى، فقال يوما للنخارجان وقد دخل عليه مع العظماء والاشراف: بلغنى ان لك عينا عذبه الماء، وانك لا تشرب منها. فقال النخارجان ايها الملك، بلغنى ان الأسد ينتاب تلك العين، فاجتنبتها مخافه الأسد فاستحلى كسرى جواب النخارجان، وعجب من فطنته، فدخل دار نسائه، وكانت له ثلاثة آلاف امراه لفراشه، فجمعهن وأخذ ما كان عليهن من حلى، فجمعه، ودفعه الى امراه النخارجان،   [1] في الأصل اجمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ودعا بالصاغه، فاتخذوا للنخارجان تاجا من ذهب مكللا بالجوهر الثمين، فتوجه به، فبقى ذلك التاج وتلك الحلى عند ولد بنى المرأة، فلما وقعت الحرب بناحيتهم ساروا به الى قريه لأبيهم، سميت باسمه، يقال لها الخوارجان وفيها بيت نار، فاقتلعوا الكانون [1] . ودفنوا الحلى تحته، وأعادوا الكانون كهيئته. فقال له السائب: ان كنت صادقا فأنت آمن على اولادك وضياعك واهلك وولدك، فانطلق به حتى استخرجه في سفطين: أحدهما التاج، والآخر الحلى. فلما قسم السائب الغنائم بين من حضر القتال، وفرغ حمل السفطين في خرجين على ناقته، وقدم بهما على عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فكان من امرهما الخبر المشهور، اشتراهما عمرو بن الحارث بعطاء المقاتله والذرية جميعا، ثم حملهما الى الحيرة فباع بفضل كثير، واعتقد بذلك اموالا بالعراق، وكان أول قرشي اعتقد بالعراق، فقال عروه بن زيد الخيل يذكر ايامهم: الا طرقت رحلي وقد نام صحبتي ... بايوان سيرين المزخرف خلتي ولو شهدت يومى جلولاء حربنا ... ويوم نهاوند المهول استهلت إذا لرأت ضرب امرى غير خامل ... مجيد بطعن الرمح اروع مصلت ولما دعوا يا عروه بن مهلهل ... ضربت جموع الفرس حتى تولت دفعت عليهم رحلتي وفوارسى ... وجردت سيفي فيهم ثم التي وكم من عدو اشوس متمرد ... عليه بخيلى في الهياج اظلت وكم كربه فرجتها وكريهة ... شددت لها ازرى الى ان تجلت وقد اضحت الدنيا لدى ذميمة ... وسليت عنها النفس حتى تسلت واصبح همى في الجهاد ونيتى ... فلله نفس ادبرت وتولت فلا ثروه الدنيا نريد اكتسابها ... الا انها عن وفرها قد تحلت وماذا ارجى من كنوز جمعتها ... وهذى المنايا شرعا قد اظلت   [1] الكانون: الموقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ولايه عثمان بن عفان وتوفى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يوم الجمعه لاربع ليال بقين من ذي الحجه سنه ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وسته اشهر، واستخلف عثمان ابن عفان، فعزل عمار بن ياسر عن الكوفه، وولى الوليد بن عقبه بن ابى معيط، وكان أخا عثمان لامه، أمهما اروى بنت أم حكيم بن عبد المطلب بن هاشم، وعزل أبا موسى الأشعري عن البصره، وولاها عبد الله بن عامر بن كريز، وكان ابن خال عثمان، وكان حدث السن، واستعمل عمرو بن العاص على حرب مصر، واستعمل عبد الله بن ابى سرح على خراجها، وكان أخاه من الرضاعه، ثم عزل عمرو بن العاص، وجمع الحرب والخراج لعبد الله بن ابى سرح. الفتوحات في عهد عثمان ثم كانت غزوه سابور من ارض فارس، وافتتاحها. وأميرها عثمان بن ابى العاص، ثم كان فتح إفريقية سنه تسع وعشرين، وأميرها عبد الله بن ابى سرح، ثم كان فتح قبرس، وأميرها معاويه بن ابى سفيان. ثم ان اهل اصطخر نزعوا يدا من الطاعة، وقدمها يزدجرد الملك في جمع من الأعاجم، فسار اليهم عثمان بن ابى العاص وعبد الله بن عامر، فكان الظفر للمسلمين، وهرب يزدجرد نحو خراسان، فاتى مرو. فاخذ عامله بها، وكان اسمه ماهويه بالأموال، وقد كان ماهويه صاهر خاقان ملك الاتراك، فلما تشدد عليه ارسل الى خاقان يعلمه ذلك، فاقبل خاقان في جنوده حتى عبر النهر مما يلى آمويه، ثم ركب المفازة حتى اتى مرو، ففتح له ماهويه أبوابها، وهرب يزدجرد على رجليه وحده، فمشى مقدار فرسخين حتى انتهى في السحر الى رحى فيها سراج يتقد، فدخلها، وقال للطحان: آونى عندك الليلة قال الطحان: أعطني اربعه دراهم، فانى اريد ان ادفعها الى صاحب الرحا [1] ، فناوله سيفه   [1] الرحا: الحجر العظيم، وتكتب بالياء والالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ومنطقته، وقال: هذا لك، ففرش له الطحان كساءه، فنام يزدجرد لما ناله من شده التعب، فلما استثقل نوما قام اليه الطحان بمنقار الرحا، فقتله، وأخذ سلبه [1] ، والقاه في النهر. ولما اصبح الناس تداعوا، فاجلبوا على الاتراك من كل وجه، فخرج خاقان منهزما حتى اوغل في المفازة، فطلبوا الملك فلم يجدوه، فخرجوا يقفون اثره حتى انتهوا اليه، فوجدوه قتيلا مطروحا في الماء، وأصابوا بزته عند الطحان. وذلك في السنه السادسه من خلافه عثمان، وهي سنه ثلاثين من التاريخ [2] ، فعند ذلك انقضى ملك فارس، وارخوا عليه تاريخهم الذى يكتبون به اليوم. وهرب ماهويه حتى نزل ابرشهر مخافه ان يقتله اهل مرو، فمات بها. وسار عبد الله بن خازم السلمى الى سرخس [3] ، فافتتحها أيضا، وسار عبد الله ابن عامر الى كرمان وسجستان، فافتتحهما. [ ولاية على بن ابى طالب ع ] بيعه على بن ابى طالب ثم قتل [4] عثمان رضى الله عنه، فلما قتل بقي الناس ثلاثة ايام بلا امام، وكان الذى يصلى بالناس الغافقي، ثم بايع الناس عليا رضى الله عنه، فقال: ايها الناس، بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وانما الخيار قبل ان تقع البيعه، فإذا وقعت فلا خيار، وانما على الامام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وان هذه بيعه عامه، من ردها رغب عن دين الاسلام، وانها لم تكن فلته. ثم ان عليا رضى الله عنه اظهر انه يريد السير الى العراق، وكان على الشام يومئذ معاويه بن ابى سفيان، وليها لعمر بن الخطاب سبعا، ووليها جميع ولايه عثمان   [1] السلب: كل ما على الإنسان من اللباس. [2] سنه ثلاثين من التاريخ الهجرى اى 650 م. [3] مدينه قديمه بين نيسابور ومرو، في وسط الطريق، وهي مدينه معطشة، ليس بها ماء. [4] وكان قتله في 18 ذي الحجه سنه 3135 مايو 655 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 رضى الله عنه اثنتى عشره سنه، فواتاه الناس على السير الا ثلاثة نفر: سعد بن ابى وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمه الأنصاري. وبعث على رضى الله عنه عماله الى الأمصار، فاستعمل عثمان بن حنيف على البصره، وعماره بن حسان على الكوفه، وكانت له هجره، واستعمل عبد الله بن عباس على جميع ارض اليمن، واستعمل قيس بن سعد بن عباده على مصر، واستعمل سهل بن حنيف على الشام. فاما سهل فانه لما انتهى الى تبوك، وهي تخوم ارض الشام استقبله خيل لمعاوية، فردوه، فانصرف الى على، فعلم على رضى الله عنه عند ذلك ان معاويه قد خالف، وان اهل الشام بايعوه. وحضر الموسم، فاستأذن الزبير وطلحه عليا في الحج، فاذن لهما، وقد كانت عائشة أم المؤمنين خرجت قبل ذلك معتمره، وعثمان محصور، وذلك قبل مقتله بعشرين يوما، فلما قضت عمرتها اقامت، فوافاها الزبير وطلحه. وكتب على بن ابى طالب الى معاويه اما بعد، فقد بلغك الذى كان من مصاب عثمان رضى الله عنه، واجتماع الناس على ومبايعتهم لي، فادخل في السلم او ائذن بحرب. وبعث الكتاب مع الحجاج بن غزيه الأنصاري، فلما قدم على معاويه، واوصل كتاب على اليه، فقراه، فقال: انصرف الى صاحبك، فان كتابي مع رسولي على اثرك، فانصرف الحجاج، وامر معاويه بطومارين [1] ، فوصل أحدهما بالآخر، ولفا، ولم يكتب فيهما شيئا الا بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب على العنوان من معاويه بن ابى سفيان الى على بن ابى طالب. ثم بعث به مع رجل من عبس، له لسان وجسارة، فقدم العبسى على على، فناوله الكتاب، ففتحه، فلم ير فيه شيئا، الا بسم الله الرحمن الرحيم، وعند على وجوه الناس.   [1] الطامور والطومار: الصحيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فقام العبسى، فقال: ايها الناس، هل فيكم احد من عبس؟ قالوا: نعم. قال: فاسمعوا منى، وافهموا عنى، انى قد خلفت بالشام خمسين الف شيخ خاضبى لحاهم بدموع اعينهم تحت قميص عثمان، رافعيه على اطراف الرماح، قد عاهدوا الله الا يشيموا [1] سيوفهم حتى يقتلوا قتلته، او تلحق ارواحهم بالله. فقام اليه خالد بن زفر العبسى، فقال: بئس لعمر الله وافد الشام أنت، اتخوف المهاجرين والانصار بجنود اهل الشام وبكائهم على قميص عثمان، فو الله ما هو بقميص يوسف ولا بحزن يعقوب، ولئن بكوا عليه بالشام، فقد خذلوه بالعراق. ثم ان المغيره بن شعبه دخل على على رضى الله عنه، فقال: يا امير المؤمنين، ان لك حق الصحبه، فاقر معاويه على ما هو عليه من امره الشام، وكذلك جميع عمال عثمان، حتى إذا اتتك طاعتهم وبيعتهم استبدلت حينئذ او تركت، فقال على رضى الله: انا ناظر في ذلك. وخرج عنه المغيره ثم عاد اليه من غد، فقال: يا امير المؤمنين، انى اشرت أمس عليك براى، فلما تدبرته عرفت خطاه، والرأي ان تعاجل معاويه وسائر عمال عثمان بالعزل، لتعرف السامع المطيع من العاصي، فتكافئ كلا بجزائه ثم قام، فتلقاه ابن عباس داخلا، فقال لعلى رضى الله عنه: فيم أتاك المغيره؟ فاخبره على بما كان من مشورته بالأمس، وما اشار عليه بعد، فقال ابن عباس: اما أمس فانه نصح لك، واما اليوم فغشك. وبلغ المغيره ذلك، فقال: صدق ابن عباس، نصحت له، فلما رد نصحى بدلت قولي، ولما خاض الناس في ذلك سار المغيره الى مكة، فأقام بها ثلاثة اشهر، ثم انصرف الى المدينة. ثم ان عليا رضى الله عنه نادى في الناس بالتأهب للمسير الى العراق، فدخل عليه سعد بن ابى وقاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمه،   [1] شام السيف شيما: سله او اغمده وهو من الاضداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فقال لهم: قد بلغنى عنكم هناه كرهتها لكم، فقال سعد: قد كان ما بلغك، فأعطني سيفا يعرف المسلم من الكافر حتى اقاتل به معك. وقال عبد الله بن عمر: أنشدك الله ان تحملني على ما لا اعرف. وقال محمد بن مسلمه: ان رسول الله ص أمرني ان اقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون، فإذا قوتل اهل الصلاة ضربت به صخر احد حتى ينكسر، وقد كسرته بالأمس. ثم خرجوا من عنده. ثم ان اسامه بن زيد دخل، فقال: اعفنى من الخروج معك في هذا الوجه، فانى عاهدت الله الا اقاتل من يشهد ان لا اله الا الله. وبلغ ذلك الاشتر، فدخل على على، فقال: يا امير المؤمنين، انا وان لم نكن من المهاجرين والانصار، فانا من «التابعين باحسان،» وان القوم وان كانوا اولى بما سبقونا اليه فليسوا باولى مما شركناهم فيه، وهذه بيعه عامه، الخارج منها طاعن مستعتب، فحض هؤلاء الذين يريدون التخلف عنك باللسان، فان أبوا فادبهم بالحبس فقال على: بل ادعهم ورأيهم الذى هم عليه. ولما هم على رضى الله عنه بالمسير الى العراق، اجتمع اشراف الانصار، فاقبلوا حتى دخلوا على على، فتكلم عقبه بن عامر، وكان بدريا [1] فقال: يا امير المؤمنين ان الذى يفوتك من الصلاة في مسجد رسول الله ص، والسعى بين قبره ومنبره اعظم مما ترجو من العراق، فان كنت انما تسير لحرب الشام، فقد اقام عمر فينا، وكفاه سعد زحف القادسية، وابو موسى زحف الاهواز، وليس من هؤلاء رجل الا ومثله معك، والرجال اشباه، والأيام دول، فقال على ان الأموال والرجال بالعراق، ولأهل الشام وثبه أحب ان أكون قريبا منها. ونادى في الناس بالمسير، فخرج وخرج معه الناس.   [1] ممن شهدوا غزوه بدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وقعه الجمل [1] قالوا: ولما قضى الزبير وطلحه وعائشة حجهم تأمروا في مقتل عثمان، فقال الزبير وطلحه لعائشة: ان اطعتنا طلبنا بدم عثمان. قالت: وممن تطلبون دمه؟، قالا: انهم قوم معروفون، وانهم بطانه على ورؤساء اصحابه، فاخرجى معنا حتى ناتى البصره فيمن تبعنا من اهل الحجاز، وان اهل البصره لو قد رأوك لكانوا جميعا يدا واحده معك. فاجابتهم الى الخروج، فسارت والناس حولها يمينا وشمالا. ولما فصل على من المدينة نحو الكوفه بلغه خبر الزبير وطلحه وعائشة، فقال لأصحابه: ان هؤلاء القوم قد خرجوا يؤمون البصره، لما دبروه بينهم، فسيروا بنا على أثرهم، لعلنا نلحقهم قبل موافاتهم، فإنهم لو قد وافوها لمال معهم جميع أهلها، قالوا: سر بنا يا امير المؤمنين. فسار حتى وافى ذا قار [2] ، فأتاه الخبر بموافاه القوم البصره، ومبايعه اهل البصره لهم الا بنى سعد، فإنهم لم يدخلوا فيما دخل فيه الناس، وقالوا لأهل البصره: لا نكون معكم ولا عليكم، وقعد عنهم أيضا كعب بن سور في اهل بيته، حتى اتته عائشة في منزله، فأجابها، وقال: اكره الا اجيب أمي، وكان كعب على قضاء البصره. ولما انتهى الخبر الى على وجه هاشم بن عتبة بن ابى وقاص ليستنهض اهل الكوفه، ثم اردفه بابنه الحسن وبعمار بن ياسر، فساروا حتى دخلوا الكوفه، وابو موسى يومئذ بالكوفه، وهو جالس في المسجد، والناس محتوشوه [3]   [1] وقعت في منتصف جمادى الآخرة سنه 36 نوفمبر 656 م. [2] مكان قريب من البصره، اشتهر بيوم لبنى شيبان فيه، وكان ابرويز اغزاهم جيشا فظفرت بنو شيبان، وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم. [3] احتوش القوم فلانا واحتوشوا عليه جعلوه وسطهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وهو يقول: يا اهل الكوفه، أطيعوني تكونوا جرثومة [1] من جراثيم العرب، يأوي إليكم المظلوم، ويامن فيكم الخائف، ايها الناس، ان الفتنة إذا اقبلت شبهت، وإذا ادبرت تبينت، وان هذه الفتنة الباقره [2] لا يدرى من اين تأتي، ولا من اين تؤتى، شيموا سيوفكم، وانزعوا اسنه رماحكم، واقطعوا اوتار قسيكم، والزموا قعور البيوت، ايها الناس، ان النائم في الفتنة خير من القائم، والقائم خير من الساعى. فانتهى الحسن بن على وعمار رضى الله عنهما الى المسجد الأعظم وقد اجتمع عالم من الناس على ابى موسى، وهو يقول لهم هذا وأشباهه، فقال له الحسن: اخرج عن مسجدنا، وامض حيث شئت. ثم صعد الحسن المنبر، وعمار صعد معه، فاستنفرا الناس، فقام حجر بن عدى الكندى، وكان من افاضل اهل الكوفه فقال: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، رحمكم الله فأجابه الناس من كل وجه: سمعا وطاعه لأمير المؤمنين، نحن خارجون على اليسر والعسر والشده والرخاء. فلما أصبحوا من الغد خرجوا مستعدين، فاحصاهم الحسن، فكانوا تسعه آلاف وستمائه وخمسين رجلا، فوافوا عليا بذى قار قبل ان يرتحل. فلما هم بالمسير غلس الصبح، ثم امر مناديا، فنادى في الناس بالرحيل، فدنا منه الحسن، فقال: يا أبت اشرت عليك حين قتل عثمان وراح الناس إليك وغدوا، وسالوك ان تقوم بهذا الأمر الا تقبله حتى تأتيك طاعه جميع الناس في الافاق، واشرت عليك حين بلغك خروج الزبير وطلحه بعائشة الى البصره ان ترجع الى المدينة، فتقيم في بيتك، واشرت عليك حين حوصر عثمان ان تخرج من المدينة، فان قتل قتل وأنت غائب، فلم تقبل رأيي في شيء من ذلك.   [1] جرثومة كل شيء اصله ومجتمعه. [2] يعنى انها مفسده للدين ومفرقه بين الناس ومشتته أمورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 [فقال له على: اما انتظاري طاعه جميع الناس من جميع الافاق، فان البيعه لا تكون الا لمن حضر الحرمين من المهاجرين والانصار، فإذا رضوا وسلموا وجب على جميع الناس الرضا والتسليم، واما رجوعى الى بيتى والجلوس فيه، فان رجوعى لو رجعت كان غدرا بالأمة، ولم آمن ان تقع الفرقة، وتتصدع عصا هذه الامه، واما خروجى حين حوصر عثمان فكيف أمكنني ذلك؟! وقد كان الناس أحاطوا بي كما أحاطوا بعثمان، فاكفف يا بنى عما انا اعلم به منك.] ثم سار بالناس، فلما دنا من البصره كتب الكتائب، وعقد الالويه والرايات، وجعلها سبع رايات، عقد لحمير وهمدان رايه، وولى عليهم سعيد بن قيس الهمدانى، وعقد لمذحج والأشعريين رايه، وولى عليهم زياد ابن النضر الحارثى، ثم عقد لطيئ رايه، وولى عليهم عدى بن حاتم، وعقد لقيس وعبس وذبيان رايه، وولى عليهم سعد بن مسعود الثقفى عم المختار بن ابى عبيد، وعقد لكنده وحضرموت وقضاعه ومهره رايه، وولى عليهم حجر ابن عدى الكندى، وعقد للازد وبجيله وخثعم وخزاعة رايه، وولى عليهم مخنف بن سليم الأزدي، وعقد لبكر وتغلب وافناء ربيعه رايه، وولى عليهم محدوج الذهلي، وعقد لسائر قريش والانصار وغيرهم من اهل الحجاز رايه، وولى عليهم عبد الله بن عباس، فشهد هؤلاء الجمل وصفين والنهر، وهم اسباع كذلك، وكان على الرجاله جندب بن زهير الأزدي. ولما بلغ طلحه والزبير ورود على رضى الله عنه بالجيوش، وقد اقبل حتى نزل الخريبة [1] فعباهم طلحه والزبير، وكتباهم كتائب، وعقدا الالويه، فجعلا على الخيل محمد بن طلحه، وعلى الرجاله عبد الله بن الزبير، ودفعا اللواء الأعظم الى عبد الله بن حرام بن خويلد، ودفعا لواء الأزد الى كعب بن سور، وولياه الميمنه، ووليا قريشا وكنانه عبد الرحمن بن عتاب بن اسيد، ووليا امر   [1] محله من محال البصره ينسب إليها كثيرون، وقد كانت مدينه للفرس خربت لتواتر الغارات عليها، ولما مصرت البصره ابتنيت الى جانبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الميسره عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو الذى قالت عائشة فيه: وددت لو قعدت في بيتى ولم اخرج في هذا الوجه لكان ذلك أحب الى من عشره اولاد، لو رزقتهن من رسول الله ص على فضل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعقله وزهده. ووليا على قيس مجاشع بن مسعود، وعلى تيم الرباب عمرو بن يثربى، وعلى قيس والانصار وثقيف عبد الله بن عامر بن كريز، وعلى خزاعة عبد الله بن خلف الخزاعي، وعلى قضاعه عبد الرحمن بن جابر الراسبى، وعلى مذحج الربيع بن زياد الحارثى، وعلى ربيعه عبد الله بن مالك. قالوا: واقام على رضى الله عنه ثلاثة ايام يبعث رسله الى اهل البصره، فيدعوهم الى الرجوع الى الطاعة والدخول في الجماعه، فلم يجد عند القوم اجابه، فزحف نحوهم يوم الخميس لعشر مضين من جمادى الآخرة، وعلى ميمنته الاشتر، وعلى ميسرته عمار بن ياسر، والراية العظمى في يد ابنه محمد بن الحنفيه، ثم سار نحو القوم حتى دنا بصفوفه من صفوفهم، فواقفهم من صلاه الغداة الى صلاه الظهر، يدعوهم ويناشدهم، واهل البصره وقوف تحت رايتهم، وعائشة في هودجها امام القوم. قالوا: وان الزبير لما علم ان عمارا مع على رضى الله عنه ارتاب بما كان فيه، [لقول رسول الله ص: الحق مع عمار، وتقتلك الفئة الباغيه. ] قالوا: ثم ان عليا دنا من صفوف اهل البصره، وارسل الى الزبير يسأله، ليدنو، فيكلمه بما يريد، واقبل الزبير حتى دنا من على رضى الله عنه، فوقفا جميعا بين الصفين حتى اختلفت اعناق فرسيهما، فقال له على: ناشدتك الله يا أبا عبد الله، هل تذكر يوما مررنا انا وأنت برسول الله ص ويدي في يدك، [فقال لك رسول الله ص: اتحبه؟، قلت: نعم، يا رسول الله، فقال لك: اما انك تقاتله، وأنت له ظالم.] ..؟، فقال الزبير: نعم، انا ذاكر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ثم انصرف على الى قومه، وقال لأصحابه: احملوا على القوم، فقد أعذرنا اليهم، فحمل بعضهم على بعض، فاقتتلوا. بالقنا والسيوف. واقبل الزبير حتى دنا من ابنه عبد الله وبيده الراية العظمى، فقال: يا بنى، انا منصرف، قال: وكيف يا أبت؟، قال: ما لي في هذا الأمر من بصيره، وقد اذكرني على امرا، قد كنت غفلت عنه، فانصرف يا بنى معى، فقال عبد الله: والله لا ارجع او يحكم الله بيننا. فتركه الزبير، ومضى نحو البصره ليتحمل منها، ويمضى نحو الحجاز. ويقال: ان طلحه لما علم بانصراف الزبير هم ان ينصرف، فعلم مروان بن الحكم ما يريده، فرماه بسهم، فوقع في ركبته، فنزف حتى مات. واقبل الزبير حتى دخل البصره، وامر غلمانه ان يتحملوا، فيلحقوا به، وخرج من ناحيه الخريبة، فمر بالأحنف بن قيس، وهو جالس بفناء داره، وحوله قومه، وقد كانوا اعتزلوا الحرب، فقال الأحنف: هذا الزبير، ولقد انصرف لامر، فهل فيكم من يأتينا بخبره؟، فقال له عمرو بن جرموز: انا آتيك بخبره. فركب فرسه، وتقلد سيفه، ومضى في اثره، وذلك قبل صلاه الظهر، فلحقه، وقد خرج من دور البصره، فقال له: أبا عبد الله ما الذى تركت عليه القوم؟، قال الزبير: تركتهم، وبعضهم يضرب وجوه بعض بالسيف، قال: فأين تريد؟، قال: انصرف لحال بالي، فما لي في هذا الأمر من بصيره. قال عمرو بن جرموز: وانا أيضا اريد الخريبة، فسر بنا. فسارا حتى دنا وقت الصلاة، فقال الزبير: ان هذا وقت الصلاة، وانا اريد ان أقضيها، قال عمرو: وانا اريد ان أقضيها، قال الزبير: أنت منى في الامان، فهل انا منك كذلك، قال: نعم. فنزلا جميعا، وقام الزبير في الصلاة، فلما سجد حمل عليه عمرو بالسيف، فضربه حتى قتله، وأخذ درعه وسيفه وفرسه، واقبل حتى اتى عليا، وهو واقف، والناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يجتلدون بالسيوف، فالقى السلاح بين يديه، فلما نظر على رضى الله عنه الى السيف، [قال: ان هذا السيف طالما فرج به صاحبه الكرب عن وجه رسول الله ص، ابشر يا قاتل ابن صفيه بالنار،] فقال عمرو: نقتل أعداءكم، وتبشروننا بالنار؟!. قالوا: ثم ان عليا امر ابنه محمد بن الحنفيه، فقال: تقدم برايتك. وكان معه الراية العظمى، فتقدم بها وقد لاث [1] اهل البصره بعبد الله بن الزبير، وقلدوه الأمر، فتقدم محمد بالراية، فاستقبله اهل البصره بالقنا والسيوف، فوقف بالراية، فتناولها منه على رضى الله عنه، وحمل وحمل معه الناس، ثم ناولها ابنه محمدا، واشتد القتال وحميت الحرب، وانكشف الناس عن الجمل، وقتل كعب بن سور، وثبتت الأزد وضبة، فقاتلوا قتالا شديدا. فلما راى على شده صبر اهل البصره جمع اليه حماه اصحابه، فقال: ان هؤلاء القوم قد محكوا [2] ، فاصدقوهم القتال، فخرج الاشتر وعدى بن حاتم وعمرو بن الحمق وعمار بن ياسر في عددهم من اصحابهم، فقال عمرو بن يثربى لقومه، وكانوا في ميمنه اهل البصره ان هؤلاء القوم الذين قد برزوا إليكم من اهل العراق هم قتله عثمان، فعليكم بهم، وتقدم امام قومه بنى ضبة، فقاتل قتالا شديدا، وكثرت النبل في الهودج، حتى صار كالقنفذ، وكان الجمل مجففا [3] ، والهودج مطبق بصفائح الحديد. وصبر الفريقان بعضهم لبعض حتى كثرت القتلى وثار القتام، وطلت الالويه والرايات، وحمل على بنفسه، وقاتل حتى انثنى سيفه، وخرج فارس اهل البصره عمرو بن الأشرف، لا يخرج اليه احد من اصحاب على الا قتله، وهو يرتجز، ويقول:   [1] اجتمعوا به، ولاث به يلوث كلاذ. [2] المحك: التمادي في الغضب. [3] اى عليه تجفاف، وهو ما يوضع على الخيل والإبل من حديد او غيره في الحرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 يا أمنا يا خير أم ... والام تغذو ولدها وترحم الا ترين كم جواد ... وتختلى هامته والمعصم فخرج اليه من اهل الكوفه الحارث بن زهير الأزدي، وكان من فرسان على، فاختلفا ضربتين، فاوهط [1] كل منهما صاحبه، فخرا جميعا صريعين، يفحصان [2] بأرجلهما حتى ماتا. قالوا: وانكشف اهل البصره انكشافه، وانتهى الاشتر الى الجمل، وعبد الله بن الزبير آخذ بخطامه، فرمى الاشتر بنفسه على عبد الله بن الزبير، فصار تحته، فصاح عبد الله بن الزبير: اقتلوني ومالكا، فثاب الى ابن الزبير اصحابه. فلما خاف الاشتر على نفسه قام عن عبد الله بن الزبير، وقاتل حتى خلص الى اصحابه، وقد عار فرسه، فقال لهم: ما أنجاني الا قول ابن الزبير: اقتلوني ومالكا، فلم يدر القوم من مالك، ولو قال اقتلوني والاشتر لقتلوني. وقاتل عدى بن حاتم حتى فقئت احدى عينيه، وقاتل عمرو بن الحمق، وكان من عباد اهل الكوفه، ومعه النساك قتالا شديدا، فضرب بسيفه حتى انثنى، ثم انصرف الى أخيه رياح، فقال له رياح: يا أخي، ما احسن ما نصنع اليوم، ان كانت الغلبه لنا. قالوا: ولما راى على لوث اهل البصره بالجمل، وانهم كلما كشفوا عنه عادوا، فلاثوا به، قال لعمار وسعيد بن قيس وقيس بن سعد بن عباده والاشتر وابن بديل ومحمد بن ابى بكر وأشباههم من حماه اصحابه: ان هؤلاء لا يزالون يقاتلون ما دام هذا الجمل نصب اعينهم، ولو قد عقر فسقط لم تثبت له ثابته، فقصدوا بذوي الجد من اصحابه قصد الجمل حتى كشفوا اهل البصره عنه، وافضى   [1] الايهاط: الإثخان ضربا، او الرمى المهلك. [2] يتمرغان في التراب كما تفحص الدجاجة لتتخذ لها أفحوصة تبيض فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 اليه رجل من مراد الكوفه، يقال له اعين بن ضبيعه، فكشف عرقوبه بالسيف، فسقط وله رغاء، فغرق في القتلى، ومال الهودج بعائشة، فقال على لمحمد بن ابى بكر: تقدم الى أختك، فدنا محمد، فادخل يده في الهودج، فنالت يده ثياب عائشة، فقالت: انا لله، من أنت، ثكلتك أمك، فقال انا اخوك محمد. ونادى على رضى الله عنه في اصحابه: [لا تتبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنتهبوا مالا، ومن القى سلاحه فهو آمن، ومن اغلق بابه فهو آمن. ] قال: فجعلوا يمرون بالذهب والفضه في معسكرهم والمتاع، فلا يعرض له احد الا ما كان من السلاح الذى قاتلوا به، والدواب التي حاربوا عليها، فقال له بعض اصحابه: يا امير المؤمنين، كيف حل لنا قتالهم، ولم يحل لنا سبيهم وأموالهم [فقال على رضى الله عنه: ليس على الموحدين سبى، ولا يغنم من أموالهم الا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا ما لا تعرفون، والزموا ما تؤمرون. ] قال: وامر على محمد بن ابى بكر ان ينزل عائشة فانزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، وكان عبد الله فيمن قتل ذلك اليوم، فنزلت عند امراته صفيه. وقال على رضى الله عنه لمحمد: انظر هل وصل الى أختك شيء؟ قال: أصاب ساعدها خدش سهم، دخل بين صفائح الحديد. ودخل على رضى الله عنه البصره، فاتى مسجدها الأعظم، واجتمع الناس اليه، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي ص، ثم قال: اما بعد، فان الله ذو رحمه واسعه وعقاب اليم، فما ظنكم بي يا اهل البصره جند المرأة واتباع البهيمة؟ رغا، فقاتلتم، وعقر، فانهزمتم، اخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، وماؤكم زعاق [1] ، أرضكم قريبه من الماء، بعيده من السماء،   [1] ماء زعاق، مر غليظ لا يطاق شربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وايم الله ليأتين عليها زمان لا يرى منها الا شرفات مسجدها في البحر، مثل جؤجؤ [1] السفينة، انصرفوا الى منازلكم. ثم نزل، وانصرف الى معسكره، وقال لمحمد بن ابى بكر: سر مع أختك حتى توصلها الى المدينة، وعجل اللحوق بي بالكوفه، فقال: اعفنى من ذلك يا امير المؤمنين، فقال على: لا اعفيك منه، ومالك بد. فسار بها حتى أوردها المدينة. وشخص على عن البصره، واستعمل عليها عبد الله بن عباس، فلما انتهى الى المربد [2] التفت الى البصره، [ثم قال: الحمد لله الذى أخرجني من شر البقاع ترابا، وأسرعها خرابا، وأقربها من الماء، وأبعدها من السماء.] ثم سار، فلما اشرف على الكوفه، [قال: ويحك يا كوفان، ما اطيب هواءك، واغذى تربتك، الخارج منك بذنب، والداخل إليك برحمه، لا تذهب الأيام والليالى، حتى يجيء إليك كل مؤمن، ويبغض المقام بك كل فاجر، وتعمرين، حتى ان الرجل من اهلك ليبكر الى الجمعه فلا يلحقها من بعد المسافه. ] قالوا: وكان مقدمه الكوفه يوم الاثنين لاثنتى عشره ليله خلت من رجب سنه ست وثلاثين، فقيل له: يا امير المؤمنين، اتنزل القصر؟، قال: لا حاجه لي في نزوله، لان عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يبغضه، ولكنى نازل الرحبه، ثم اقبل حتى دخل المسجد الأعظم، فصلى ركعتين، ثم نزل الرحبه، فقال الشنى يحرض عليا على المسير الى الشام: قل لهذا الامام قد خبت الحرب ... وتمت بذلك النعماء وفرغنا من حرب من نكث العهد ... وبالشام حيه صماء تنفث السم، ما لمن نهشته ... فارمها قبل ان تعض شفاء قالوا: وان أول جمعه صلى بالكوفه خطب، فقال: الحمد لله احمده،   [1] الجؤجؤ: الصدر. [2] المربد: فضاء وراء البيوت يرتفق به، وبه سمى مربد البصره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 واستعينه واستهديه، وأومن به واتوكل عليه، واعوذ بالله من الضلالة والردى، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله، انتخبه لرسالته، واختصه لتبليغ امره، اكرم خلقه عليه، واحبهم اليه، فبلغ رساله ربه، ونصح لامته، وادى الذى عليه ص، اوصيكم عباد الله بتقوى الله، فان تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله، واقربه لرضوان الله، وافضله في عواقب الأمور عند الله، وبتقوى الله أمرتم، وللإحسان خلقتم، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فانه حذر بأسا شديدا، واخشوا الله خشيه ليست بتعذير، واعملوا من غير رياء ولا سمعه، فانه من عمل لغير الله وكله الله الى ما عمل، ومن عمل مخلصا له تولاه الله، واعطاه افضل نيته، وأشفقوا من عذاب الله، فانه لم يخلقكم عبثا، ولم يترك شيئا من امركم سدى، قد سمى آثاركم، وعلم اسراركم، واحصى اعمالكم، وكتب آجالكم، فلا تغرنكم الدنيا، فإنها غراره لأهلها، والمغرور من اغتر بها، والى فناء ما هي، وان الآخرة هي دار القرار، نسأل الله منازل الشهداء، ومرافقه الأنبياء، ومعيشة السعداء، فإنما نحن به وله. ثم وجه عماله الى البلدان، فاستعمل على المدائن وجوخى [1] كلها يزيد بن قيس الارحبى، وعلى الجبل وأصبهان محمد بن سليم، وعلى البهقباذات قرط بن كعب، وعلى كسكر وحيزها قدامه بن عجلان الأزدي، وعلى بهرسير واستانها عدى ابن الحارث، وعلى استان العالي حسان بن عبد الله البكرى، وعلى استان الزوابي سعد [2] بن مسعود الثقفى، وعلى سجستان وحيزها ربعي بن كاس، وعلى خراسان كلها خليد بن كاس.   [1] كوره واسعه في سواد بغداد. [2] في الأصل: سعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فاما خليد بن كاس فانه لما دنا من خراسان بلغه ان اهل نيسابور خلعوا يدا من طاعه، وانه قدمت عليهم بنت لكسرى من كابل، فمالوا معها، فقاتلهم خليد، فهزمهم، وأخذ ابنه كسرى بأمان، وبعث بها الى على. فلما ادخلت عليه، قال لها: اتحبين ان ازوجك من ابنى هذا؟ يعنى الحسن، قالت: لا اتزوج أحدا على راسه احد، فان أنت احببت رضيت بك، قال: انى شيخ، وابنى هذا من فضله كذا وكذا، قالت: قد اعطيتك الجمله. فقام رجل من عظماء دهاقين العراق، يسمى نرسى، فقال: يا امير المؤمنين، قد بلغك انى من سنخ [1] المملكة، وانا قرابتها، فزوجنيها فقال: هي املك بنفسها، ثم قال لها: انطلقي حيث شئت، وانكحى من احببت، لا باس عليك. واستعمل على الموصل، ونصيبين، ودارا، وسنجار، وآمد، وميافارقين، وهيت، وعانات، وما غلب عليها من ارض الشام الاشتر، فسار إليها، فلقيه الضحاك بن قيس الفهري، وكان عليها من قبل معاويه بن ابى سفيان، فاقتتلوا بين حران [2] والرقة [3] بموضع يقال له المرج الى وقت المساء. وبلغ ذلك معاويه، فامد الضحاك بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في خيل عظيمه، وبلغ ذلك الاشتر، فانصرف الى الموصل، فأقام بها يقاتل من أتاه من اجناد معاويه، ثم كانت وقعه صفين.   [1] السنخ: الأصل من كل شيء. [2] حران: مدينه قديمه فيما بين النهرين، قاعده بلاد مضر، فتحها العرب على يد عياض بن غنم سنه 639 م، وقد اشتهرت بالفلاسفه والعلماء امثال ثابت بن قره والبتانى. [3] الرقة: قاعده ديار مضر في الجزيرة على الفرات، وعندها قطع على بن ابى طالب نهر الفرات في وقعه صفين سنه 656 م، وفيها آثار قديمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقعه صفين [1] قالوا: وضربت الركبان الى الشام بنعي عثمان، وتحريض معاويه على الطلب بدمه، فبينا معاويه ذات يوم جالس إذ دخل عليه رجل، فقال: السلام عليك يا امير المؤمنين، فقال معاويه: وعليك، من أنت، لله أبوك؟ فقد روعتني بتسليمك على بالخلافة قبل ان انا لها، فقال: انا الحجاج بن خزيمة بن الصمة، قال: ففيم قدمت؟، قال: قدمت قاصدا إليك بنعي عثمان، ثم أنشأ يقول: ان بنى عمك عبد المطلب ... هم قتلوا شيخكم غير الكذب وأنت اولى الناس بالوثب فثب ... وسر مسير المحزئل [2] المتلئب قال: ثم انى كنت فيمن خرج مع يزيد بن اسد لنصر عثمان، فلم نلحقه، فلقيت رجلا، ومعى الحارث بن زفر، فسألناه عن الخبر، فأخبرنا بقتل عثمان، وزعم انه ممن شايع على قتله، فقتلناه، وانى اخبرك، انك تقوى بدون ما يقوى به على، لان معك قوما لا يقولون إذا سكت، ويسكتون إذا نطقت، ولا يسألون إذا امرت، ومع على قوم يقولون إذا قال، ويسألون إذا سكت، فقليلك خير من كثيره، وعلى لا يرضيه الا سخطك، ولا يرضى بالعراق دون الشام، وأنت ترضى بالشام دون العراق، فضاق معاويه بما أتاه به الحجاج بن خزيمة ذرعا، وقال: أتاني امر فيه للناس غمة ... وفيه بكاء للعيون طويل مصاب امير المؤمنين، وهذه ... تكاد لها صم الجبال تزول فلله عينا من راى مثل هالك ... اصيب بلا ذحل وذاك جليل [3]   [1] كان مبدأ محاربات صفين في أول صفر سنه 37 هيوليه سنه 657. [2] المحزئل: المرتفع. [3] الذحل: الثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تداعت عليه بالمدينة عصبة ... فريقان، منهم قاتل وخذول دعاهم، فصموا عنه عند دعائه ... وذاك على ما في النفوس دليل سانعى أبا عمرو بكل مثقف ... وبيض لها في الدارعين صليل تركتك للقوم الذين تظافروا ... عليك، فماذا بعد ذاك اقول فلست مقيما ما حييت ببلدة ... اجر بها ذيلي وأنت قتيل واما التي فيها مودة بيننا ... فليس إليها ما حييت سبيل سالقحها حربا عوانا ملحة ... وانى بها من عامنا لكفيل وكتب على الى جرير بن عبد الله البجلي، وكان عامل عثمان بأرض الجبل مع زحر بن قيس الجعفى، يدعوه الى البيعه له، فبايع وأخذ بيعه من قبله، وسار حتى قدم الكوفه. وكتب الى الاشعث بن قيس بمثل ذلك، وكان مقيما باذربيجان طول ولايه عثمان بن عفان، وكانت ولايته مما عتب الناس فيه على عثمان، لأنه ولاه عند مصاهرته اياه، وتزويج ابنه الاشعث من ابنه، ويقال ان الاشعث هو الذى افتتح عامه اذربيجان، وكان له بها اثر ونصح واجتهاد، وكان كتابه اليه مع زياد بن مرحب، فبايع لعلى، وسار حتى قدم عليه الكوفه. وان عليا ارسل جرير بن عبد الله الى معاويه يدعوه الى الدخول في طاعته، والبيعه له، او الإيذان بالحرب، فقال الاشتر: ابعث غيره فانى لا آمن مراهنته فلم يلتفت الى قول الاشتر. فسار جرير الى معاويه بكتاب على، فقدم على معاويه، فالفاه وعنده وجوه اهل الشام، فناوله كتاب على، وقال: هذا كتاب على إليك، والى اهل الشام يدعوكم الى الدخول في طاعته، فقد اجتمع له الحرمان، والمصران، والحجازان، واليمن، والبحران، وعمان، واليمامه، ومصر، وفارس، والجبل، وخراسان، ولم يبق الا بلادكم هذه، وان سال عليها واد من اوديته غرقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وفتح معاويه الكتاب فقراه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله على امير المؤمنين الى معاويه بن ابى سفيان، اما بعد فقد لزمك ومن قبلك من المسلمين بيعتي، وانا بالمدينة، وأنتم بالشام، لأنه بايعنى الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم. فليس للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الأمر في ذلك للمهاجرين والانصار، فإذا اجتمعوا على رجل مسلم، فسموه اماما، كان ذلك لله رضى، فان خرج من امرهم احد بطعن فيه او رغبه عنه رد الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، و «يصله جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً،» فادخل فيما دخل فيه المهاجرون والانصار، فان أحب الأمور فيك وفيمن قبلك العافيه، فان قبلتها والا فائذن بحرب، وقد اكثرت في قتله عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم الى، احملك وإياهم على ما في كتاب الله وسنه نبيه، فاما تلك التي تريدها، فإنما هي خدعه الصبى عن الرضاع. فجمع معاويه اليه اشراف اهل بيته، فاستشارهم في امره، فقال اخوه عتبة بن ابى سفيان: استعن على امرك بعمرو بن العاص وكان مقيما في ضيعه له من حيز فلسطين، قد اعتزل الفتنة. فكتب اليه معاويه انه قد كان من امر على في طلحه والزبير وعائشة أم المؤمنين ما بلغك، وقد قدم علينا جرير بن عبد الله في أخذنا ببيعه على، فحبست نفسي عليك، فاقبل، اناظرك في ذلك، والسلام. فسار ومعه ابناه عبد الله ومحمد حتى قدم على معاويه، وقد عرف حاجه معاويه اليه، فقال له معاويه: أبا عبد الله، طرقتنا في هذه الأيام ثلاثة امور، ليس فيها ورد ولا صدر، قال: وما هن؟ قال: اما أولهن، فان محمد بن ابى حذيفة كسر السجن وهرب نحو مصر فيمن كان معه من اصحابه، وهو من اعدى الناس لنا، واما الثانيه فان قيصر الروم قد جمع الجنود ليخرج إلينا فيحاربنا على الشام، واما الثالثه فان جريرا قدم رسولا لعلى بن ابى طالب يدعونا الى البيعه له او إيذان بحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال عمرو: اما ابن ابى حذيفة فما يغمك من خروجه من سجنه في اصحابه، فأرسل في طلبه الخيل، فان قدرت عليه قدرت، وان لم تقدر عليه لم يضرك، واما قيصر، فاكتب اليه تعلمه، انك ترد عليه جميع من في يديك من أسارى الروم، وتسأله الموادعة والمصالحه تجده سريعا الى ذلك، راضيا بالعفو منك، واما على بن ابى طالب فان المسلمين لا يساوون بينك وبينه. قال معاويه: انه مالا على قتل عثمان، واظهر الفتنة، وفرق الجماعه. قال عمرو: انه وان كان كذلك، فليست لك مثل سابقته وقرابته، ولكن ما لي ان شايعتك على امرك حتى تنال ما تريد؟. قال: حكمك. قال عمرو: اجعل لي مصر طعمه ما دامت لك ولايه. فتلكا معاويه، وقال: يا عبد الله، لو شئت ان اخدعك خدعتك. قال عمرو: ما مثلي يخدع. قال له معاويه: ادن منى اسارك. فدنا عمرو منه، فقال: هذه خدعه، هل ترى في البيت غيرى وغيرك ثم قال: يا عبد الله، اما تعلم ان مصر مثل العراق؟. قال عمرو: غير انها انما تكون لي إذا كانت لك الدنيا، وانما تكون لك إذا غلبت عليا. فتلكا عليه، وانصرف عمرو الى رحله، فقال عتبة لمعاوية: اما ترضى ان تشترى عمرا بمصر ان صفت لك قليتك [1] لا تغلب على الشام. وقال معاويه: بت عندنا ليلتك هذه، فبات عتبة عنده، فلما أخذ معاويه مضجعه أنشأ عتبة:   [1] القلية: مرقه تتخذ من لحوم الجزور واكبادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ايها المانع سيفا لم يهز ... انما ملت على خز وقز انما أنت خروف ناعم ... بين ضرعين وصوف لم يجز نالك الخير، فخذ من درة ... شخبه الاول، واترك ما عزز واترك الحرص عليها ضنة ... واشبب النار لمقرور يكز ان مصرا لعلى او لنا ... يغلب اليوم عليها من عجز وسمع معاويه ذلك، فلما اصبح بعث الى عمرو، فاعطاه ما سال، وكتبا بينهما في ذلك كتابا، ثم ان معاويه استشار عمرا في امره، وقال ما ترى؟ قال عمرو: انه قد أتاك في هذه البيعه خبر اهل العراق من عند خير الناس، ولست ارى لك ان تدعو اهل الشام الى الخلافه، فان ذلك خطر عظيم حتى تتقدم قبل ذلك بالتوطين للاشراف منهم، واشراب قلوبهم اليقين، بان عليا مالا على قتل عثمان، واعلم ان راس اهل الشام شرحبيل بن السمط الكندى، فأرسل اليه ليأتيك، ثم وطن له الرجال على طريقه كله، يخبرونه بان عليا قتل عثمان، وليكونوا من اهل الرضى عنده، فإنها كلمه جامعه لك اهل الشام، وان تعلق هذه الكلمه بقلبه لم يخرجها شيء ابدا. فدعا يزيد بن اسد، وبسر بن ابى ارطاه، وسفيان بن عمرو، ومخارق بن الحارث، وحمزه بن مالك، وحابس بن سعد، وغير هؤلاء من اهل الرضا عند شرحبيل بن السمط، فوطنهم له على طريقه، ثم كتب اليه يأمره بالقدوم عليه، فكان يلقى الرجل بعد الرجل من هؤلاء في طريقه، فيخبرونه ان عليا مالا على قتل عثمان، ثم اشربوا قلبه ذلك. فلما دنا من دمشق امر معاويه اشراف الشام باستقباله، فاستقبلوه، وأظهروا تعظيمه، فكان كلما خلا برجل منهم القى اليه هذه الكلمه، فاقبل حتى دخل على معاويه مغضبا، فقال: ابى الناس الا ان ابن ابى طالب قتل عثمان، والله لئن بايعته لنخرجنك من الشام، فقال معاويه: ما كنت لاخالف امركم، وانما انا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 واحد منكم. قال: فاردد هذا الرجل الى صاحبه يعنى جريرا فعلم عند ذلك معاويه ان اهل الشام مع شرحبيل، فقال لشرحبيل: ان هذا الذى تهم به لا يصلح الا يرضى العامه، فسر في مدائن الشام، فاعلمهم ما نحن عليه من الطلب بثار خليفتنا وبايعهم على النصره والمعونة. فسار شرحبيل يستقرى مدن الشام، مدينه بعد مدينه، ويقول: ايها الناس، ان عليا قتل عثمان، وانه غضب له قوم فلقيهم، فقتلهم، وغلب على ارضهم، ولم يبق الا هذه البلاد، وهو واضع سيفه على عاتقه، وخائض به غمرات الموت حتى ياتيكم، ولا يجد أحدا اقوى على قتله من معاويه، فانهضوا ايها الناس بثار خليفتكم المظلوم. فأجابه الناس كلهم الا نفرا من اهل حمص نساكا، فإنهم قالوا نلزم بيوتنا ومساجدنا، وأنتم اعلم. فلما ذاق معاويه اهل الشام، وعرف مبايعتهم له قال لجرير الحق بصاحبك، واعلمه انى واهل الشام لا نجيبه الى البيعه، ثم كتب اليه بابيات كعب بن جعيل: ارى الشام تكره ملك العراق ... واهل العراق لهم كارهونا وكل لصاحبه مبغض ... يرى كل ما كان من ذاك دينا وقالوا على امام لنا ... فقلنا رضينا ابن هند رضينا وقالوا نرى ان تدينوا لنا ... فقلنا لهم لا نرى ان ندينا وكل يسر بما عنده ... يرى غث ما في يديه سمينا وما في على لمستعتب ... مقال سوى ضمه المحدثينا وليس براض ولا ساخط ... ولا في النهاة ولا الامرينا ولا هو ساء ولا سره ... ولا بد من بعد ذا ان يكونا فلما قرأ على رضى الله عنه قال للنجاشي أجب، فقال: دعن معاوي ما لن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرونا أتاكم على باهل العراق ... واهل الحجاز فما تصنعونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 يرون الطعان خلال العجاج ... وضرب القوانس في النقع دينا هم هزموا الجمع جمع الزبير ... وطلحه والمعشر الناكثينا فان يكره القوم ملك العراق ... فقدما رضينا الذى تكرهونا فقولوا لكعب أخي وائل ... ومن جعل الغث يوما سمينا جعلتم عليا واشياعه ... نظير ابن هند اما تستحونا ولما رجع جرير الى على كثر قول الناس في التهمه له، واجتمع هو والاشتر عند على، فقال الاشتر: اما والله يا امير المؤمنين، لو أرسلتني فيما أرسلت فيه هذا لما ارخيت من خناق معاويه، ولم ادع له بابا يرجو فتحه الا سددته، ولا عجلته عن الفكره، قال جرير: فما يمنعك من إتيانهم؟!، قال الاشتر: الان وقد افسدتهم، والله ما احسبك أتيتهم الا لتتخذ عندهم موده، والدليل على ذلك كثره ذكرك مساعدتهم وتخويفنا بكثرة جموعهم، ولو أطاعني امير المؤمنين لحبسك واشباهك من اهل الظنه محبسا لا يخرجون منه حتى يستتب هذا الأمر. فغضب جرير مما استقبله به الاشتر، فخرج من الكوفه ليلا في اناس من اهل بيته، فلحق بقرقيسيا، وهي كوره من كور الجزيرة، فأقام بها. وغضب على لخروجه عنه، فركب الى داره، فامر بمجلس له فاحرق، فخرج ابو زرعه بن عمرو ابن عم جرير، فقال: ان كان انسان قد اجرم فان في هذه الدار أناسا كثيرا لم يجرموا إليك جرما، وقد روعتهم، فقال على: استغفر الله. ثم خرج منها الى دار لابن عم جرير، يقال له ثوير بن عامر، وقد كان خرج معه، فشعث فيها شيئا، ثم انصرف. قالوا: ولما فرغ على رضى الله عنه من اصحاب الجمل خافه عبيد الله بن عمر ان يقتله بالهرمزان، فخرج حتى لحق بمعاويه، فقال معاويه لعمرو: قد أحيا الله لنا ذكر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقدوم عبيد الله ابنه علينا. قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فاراده معاويه على ان يقوم في الناس فيلزم عليا دم عثمان، فأبى، فاستخف به معاويه، ثم ادناه بعد وقربه. قالوا: ولما عزم اهل الشام على نصر معاويه، والقيام معه اقبل ابو مسلم الخولاني، وكان من عباد اهل الشام، حتى قدم على معاويه، فدخل عليه في اناس من العباد، فقال له: يا معاويه قد بلغنا انك تهم بمحاربه على بن ابى طالب، فكيف تناوئه [1] وليست لك سابقته؟، فقال لهم معاويه: لست ادعى انى مثله في الفضل، ولكن هل تعلمون ان عثمان قتل مظلوما؟، قالوا: نعم [2] ، قال: فليدفع لنا قتلته حتى نسلم اليه هذا الأمر. قال ابو مسلم: فاكتب اليه هذا الأمر، حتى انطلق انا بكتابك، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من معاويه بن ابى سفيان الى على بن ابى طالب، سلام عليك، فانى احمد إليك الله الذى لا اله الا هو، اما بعد، فان الخليفة عثمان قتل معك في المحله، وأنت تسمع من داره الهيعة [3] ، فلا تدفع عنه بقول ولا بفعل، واقسم بالله لو قمت في امره مقاما صادقا، فنهنهت [4] عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، واخرى أنت بها ظنين، ايواؤك قتلته، فهم عضدك ويدك وأنصارك وبطانتك، وبلغنا انك تبتهل [5] من دمه، فان كنت صادقا فأمكنا من قتلته، نقتلهم به، ونحن اسرع الناس إليك، والا فليس لك ولا لأصحابك عندنا الا السيف، فو الله الذى لا اله غيره لنطلبن قتله عثمان في البر والبحر حتى نقتلهم او تلحق أرواحنا بالله والسلام. فسار ابو مسلم بكتابه حتى ورد الكوفه، فدخل على على، فناوله الكتاب، فلما قراه تكلم ابو مسلم، فقال يا أبا الحسن، انك قد قمت بأمر، ووليته،   [1] في الأصل: تناويه. [2] في الأصل: بلى. [3] الهيعة: صوت الصارخ للفزع. [4] النهنهه: الزجر والكف. [5] اى تتحلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وو الله ما نحب انه لغيرك ان اعطيت الحق من نفسك، ان عثمان رضى الله عنه قتل مظلوما، فادفع إلينا قتلته، وأنت أميرنا، فان خالفك احد من الناس كانت أيدينا لك ناصره، وألسنتنا لك شاهده، وكنت ذا عذر ومحجه، فقال له على: اغد على بالغداة. وامر به، فانزل، واكرم. فلما كان من الغد دخل الى على وهو في المسجد، فإذا هو بزهاء عشره آلاف رجل، قد لبسوا السلاح، وهم ينادون: كلنا قتله عثمان، فقال ابو مسلم لعلى: انى لأرى قوما ما لك معهم امر، واحسب انه بلغهم الذى قدمت له، ففعلوا ذلك خوفا من ان تدفعهم الى. قال على: انى ضربت انف هذا الأمر وعينه، فلم أر يستقيم دفعهم إليك ولا الى غيرك، فاجلس حتى اكتب جواب كتابك. ثم كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله على امير المؤمنين الى معاويه بن ابى سفيان، اما بعد، فان أخا خولان قدم على بكتاب منك، تذكر فيه قطعى رحم عثمان، وتاليبى الناس عليه، وما فعلت ذلك، غير انه رحمه الله عتب الناس عليه، فمن بين قاتل وخاذل، فجلست في بيتى، واعتزلت امره، الا ان تتجنى فتجن ما بدا لك، فاما ما سالت من دفعى إليك قتلته، فانى لا ارى ذلك، لعلمي انك انما تطلب ذلك ذريعه الى ما تامل، ومرقاه الى ما ترجو، وما الطلب بدمه تريد، ولعمري لئن لم تنزع عن غيك وشقاقك لينزل بك ما ينزل بالشاق العاصي الباغى، والسلام. وكتب الى عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله على امير المؤمنين الى عمرو بن العاص، اما بعد، [فان الدنيا مشغله عن غيرها، صاحبها منهوم فيها، لا يصيب منها شيئا الا ازداد عليها حرصا، ولم يستغن بما نال عما لا يبلغ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع،] [والسعيد من اتعظ بغيره،] فلا تحبط عملك بمجاراه معاويه في باطله، فانه سفه الحق واختار الباطل والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فكتب اليه عمرو بن العاص: من عمرو بن العاص الى على بن ابى طالب، اما بعد، فان الذى فيه صلاحنا والفه ذات بيننا ان تجيب الى ما ندعوك اليه، من شورى تحملنا وإياك على الحق، ويعذرنا الناس لها بالصدق والسلام. قالوا: ولما اجمع على على المسير الى اهل الشام، وحضرت الجمعه صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي ص، ثم قال: ايها الناس، سيروا الى أعداء السنن والقرآن، سيروا الى قتله المهاجرين والانصار، سيروا الى الجفاة الطغام الذين كان اسلامهم خوفا وكرها، سيروا الى المؤلفه قلوبهم ليكفوا عن المسلمين بأسهم. فقام اليه رجل من فزاره، يسمى اربد، فقال: اتريد ان تسير بنا الى إخواننا من اهل الشام فنقتلهم كما سرت بنا الى إخواننا من اهل البصره فقتلناهم؟ كلا، ها الله، إذا لا نفعل ذلك. فقام الاشتر، فقال: ايها الناس، من لهذا؟ فهرب الفزارى وسعى شؤبوب [1] من الناس في اثره، فلحقوه بالكناسة [2] فضربوه بنعالهم حتى سقط، ثم وطئوه بارجلهم حتى مات، فاخبر بذلك على رضى الله عنه فقال: قتيل عميه، لا يدرى من قتله فدفع ديته الى اهله من بيت المال، وقال بعض شعراء بنى تميم: اعوذ بربي ان منيتي ... كما مات في سوق البراذين اربد تعاوره همدان خصف نعالهم ... إذا رفعت عنه يد وقعت يد وقام الاشتر، فقال: يا امير المؤمنين، لا يؤيسنك من نصرتنا ما سمعت من هذا الخائن، ان جميع من ترى من الناس شيعتك، لا يرغبون بانفسهم عنك،   [1] الشؤبوب: الدفعه من المطر، والمراد جماعه. [2] اسم موضع بالكوفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ولا يحبون البقاء بعدك، فسر بنا الى اعدائك، فو الله ما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من احبه، ولا يعيش بالأمل الا المغرور. فأجابه جل الناس الى المسير، الا اصحاب عبد الله بن مسعود، وعبيده السلماني، والربيع بن خثيم في نحو من أربعمائة رجل من القراء، فقالوا: يا امير المؤمنين، قد شككنا في هذا القتال، مع معرفتنا فضلك، ولا غنى بك ولا بالمسلمين عمن يقاتل المشركين، فولنا بعض هذه الثغور لنقاتل عن اهله. فولاهم ثغر قزوين والري، وولى عليهم الربيع بن خثيم، وعقد له لواء، وكان أول لواء عقد في الكوفه. قالوا: وبلغ عليا ان حجر بن عدى وعمرو بن الحمق يظهران شتم معاويه، ولعن اهل الشام، فأرسل إليهما ان كفا عما يبلغني عنكما. فاتياه، فقالا: يا امير المؤمنين، السنا على الحق، وهم على الباطل؟، قال: بلى، ورب الكعبه المسدنه، قالوا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟، قال: [كرهت لكم ان تكونوا شتامين لعانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوى عن الغى من لجج به. ] قالوا: ولما عزم على رضى الله عنه على الشخوص امر مناديا، فنادى بالخروج الى المعسكر بالنخيلة [1] ، فخرج الناس مستعدين، واستخلف على على الكوفه أبا مسعود الأنصاري، وهو من السبعين الذين بايعوا رسول الله ص ليله العقبه. وخرج على رضى الله عنه الى النخيله، وامامه عمار بن ياسر، فأقام بالنخيلة معسكرا، وكتب الى عماله بالقدوم عليه. ولما انتهى كتابه الى ابن عباس ندب الناس، وخطبهم، وكان أول من تكلم الأحنف بن قيس، ثم قام خالد بن العمر السدوسي، ثم قام عمرو بن مرحوم   [1] موضع بالبادية قرب الكوفه على سمت الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 العبدى، وكلهم أجاب، فخلف على البصره أبا الأسود الديلى، وسار بالناس حتى قدم على على بالنخيلة. فلما اجتمع الى على قواصيه، وانضمت اليه اطرافه تهيأ للمسير من النخيله، ودعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ، فعقد لكل واحد منهما على سته آلاف فارس، وقال: ليسر كل واحد منكما منفردا عن صاحبه، فان جمعتكما حرب، فأنت يا زياد الأمير، واعلما ان مقدمه القوم عيونهم، وعيون المقدمه طلائعهم، فاياكما ان تسأما عن توجيه الطلائع، ولا تسيرا بالكتائب والقبائل من لدن مسير كما الى نزولكما الا بتعبيه وحذر، وإذا نزلتم بعدو او نزل بكم، فليكن معسكركم في اشرف المواضع ليكون ذلك لكم حصنا حصينا، وإذا غشيكم الليل فحفوا عسكركم بالرماح والترسه، وليليهم الرماه، وما اقمتم فكذلك فكونوا، لئلا يصاب منكم غره، واحرسا عسكركما بأنفسكما، ولا تذوقا نوما الا غرارا ومضمضة، وليكن عندي خبركما، فانى ولا شيء الا ما شاء الله حثيث السير في اثركما، ولا تقاتلا حتى تبدا او يأتيكما امرى ان شاء الله. فلما كان اليوم الثالث من مخرجهما قام في اصحابه خطيبا، فقال: يا ايها الناس، نحن سائرون غدا في آثار مقدمتنا، فإياكم والتخلف، فقد خلفت مالك بن حبيب اليربوعى، وجعلته على الساقه، وامرته الا يدع أحدا الا الحقه بنا فلما اصبح نادى في الناس بالرحيل، وسار، فلما انتهى الى رسوم مدينه بابل، قال لمن كان يسايره من اصحابه: ان هذه مدينه قد خسف بها مرارا، فحركوا خيلكم، وارخوا أعنتها، حتى تجوزوا موضع المدينة، لعلنا ندرك العصر خارجا منها. فحرك، وحركوا دوابهم، فخرج من حد المدينة وقد حضرت الصلاة، فنزل، فصلى بالناس، ثم ركب، وسار حتى انتهى الى دير كعب فجاوزه، واتى ساباط المدائن، فنزل فيه بالناس، وقد هيئت له فيه الأنزال. فلما اصبح ركب وركب الناس معه، وانهم لثمانون الف رجل، او يزيدون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 سوى الاتباع والخدم، ثم سار حتى اتى مدينه الأنبار، فلما وافى المدائن عقد لمعقل بن قيس في ثلاثة آلاف رجل، وامره ان يسير على الموصل ونصيبين حتى يوافيه بالرقة [1] ، فسار حتى وافى حديثه الموصل، وهي إذ ذاك المصر، وانما بنى الموصل بعد ذلك مروان بن محمد. فلما انتهى معقل إليها إذا هو بكبشين يتناطحان، ومع معقل رجل من خثعم يزجر، فجعل الخثعمى يقول: ايه، ايه، فاقبل رجلان، فاخذ كل منهما كبشا، فقاده وانطلق به. فقال الخثعمى لمعقل لا تغلبون ولا تغلبون فقال معقل: يكون خيرا، ان شاء الله. ثم مضى حتى وافى عليا وقد نزل البليخ [2] فأقام ثلاثا، ثم امر بجسر، فعقد، وعبر الناس، ولما قطع على رضى الله عنه الفرات امر زياد بن النضر وشريح بن هانئ ان يسيرا امامه، فسارا حتى انتهيا الى مكان يدعى سور الروم لقيهما ابو الأعور السلمى في خيل عظيمه من اهل الشام، فأرسلا الى على يعلمانه ذلك. فامر على الاشتر ان يسير إليهما، وجعله أميرا عليهما، فسار حتى وافى القوم، فاقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض حتى جن عليهم الليل، وانسل ابو الأعور في جوف الليل حتى اتى معاويه. واقبل معاويه بالخيل نحو صفين، وعلى مقدمته سفيان بن عمرو، وعلى ساقته بسر [3] بن ابى ارطاه العامري، فاقبل سفيان بن عمرو، ومعه ابو الأعور، حتى وافيا صفين، وهي قريه خراب من بناء الروم، منها الى الفرات غلوه [4] ، وعلى شط الفرات مما يليها غيضه [5] ملتفه، فيها نزور طولها نحو من فرسخين، وليس في ذينك الفرسخين طريق الى الفرات الا طريق واحد مفروش بالحجارة،   [1] مدينه مشهوره على الفرات من الجانب الشرقى. [2] نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون. [3] في الأصل: بشر. [4] الغلوة: قدر رميه بسهم وقد تستعمل في سباق الخيل. [5] الغيضة بالفتح: الأجمة، ومجتمع الشجر في مغيض ماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وسائر ذلك خلاف وغرب ملتف لا يسلك، وجميع الغيضة نزور ووحل الا ذلك الطريق الذى يأخذ من القرية الى الفرات. فاقبل سفيان بن عمرو وابو الأعور حتى سبقا الى موضع القرية، فنزلا هناك مع ذلك الطريق، ووافاهما معاويه بجميع الفيلق، حتى نزل معهما، وعسكر مع القرية، وامر معاويه أبا الأعور ان يقف في عشره آلاف من اهل الشام على طريق الشريعه، فيمنع من اراد السلوك الى الماء من اهل العراق. واقبل على رضى الله عنه حتى وافى المكان، فصادف اهل الشام قد احتووا على القرية والطريق، فامر الناس، فنزلوا بالقرب من عسكر معاويه، وانطلق السقاءون والغلمان الى طريق الماء، فحال ابو الأعور بينهم وبينه. واخبر على رضى الله عنه بذلك، فقال لصعصعة بن صوحان ايت معاويه، فقل له، انا سرنا إليكم لنعذر قبل القتال، فان قبلتم كانت العافيه أحب إلينا، وأراك قد حلت بيننا وبين الماء، فان كان اعجب إليك ان ندع ما جئنا له، ونذر الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا. فقال الوليد: امنعهم الماء كما منعوه امير المؤمنين عثمان، اقتلهم عطشا، قتلهم الله. فقال معاويه لعمرو بن العاص: ما ترى؟. قال: ارى ان تخلى عن الماء، فان القوم لن يعطشوا وأنت ريان. فقال عبد الله بن ابى سرح، وكان أخا عثمان لامه: امنعهم الماء الى الليل، لعلهم ان ينصرفوا الى طرف الغيضة، فيكون انصرافهم هزيمه. فقال صعصعة لمعاوية: ما الذى ترى؟. قال معاويه: ارجع، فسيأتيكم رأيي. فانصرف صعصعة الى على، فاخبره بذلك. وظل اهل العراق يومهم ذلك وليلتهم بلا ماء الا من كان ينصرف من الغلمان الى طرف الغيضة، فيمشى مقدار فرسخين، فيستقى، فغم عليا رضى الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 امر الناس غما شديدا، وضاق بما أصابهم من العطش ذرعا، فأتاه الاشعث بن قيس فقال: يا امير المؤمنين، ايمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ ولنى الزحف اليه، فو الله لا ارجع او اموت، ومر الاشتر فلينضم الى في خيله، فقال له على: ايت في ذلك ما رايت. فلما اصبح زاحف أبا الأعور، فاقتتلوا، وصدقهم الاشتر والاشعث حتى نفيا أبا الأعور واصحابه عن الشريعه، وصارت في أيديهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ما ظنك بالقوم اليوم ان منعوك الماء كما منعتهم أمس؟، فقال معاويه: دع ما مضى، ما ظنك بعلى؟، قال: ظني انه لا يستحل منك ما استحللت منه، لأنه أتاك في غير امر الماء. ثم توادع الناس، وكف بعضهم عن بعض، وامر على الا يمنع اهل الشام من الماء، فكانوا يسقون جميعا، ويختلط بعضهم ببعض، ويدخل بعضهم في معسكر بعض، فلا يعرض احد من الفريقين لصاحبه الا بخير، ورجوا ان يقع الصلح. واقبل عبيد الله بن عمر بن الخطاب حتى استاذن على على، فاذن له، فدخل عليه، فقال له على: اقتلت الهرمزان ظلما، وقد كان اسلم على يدي عمى العباس، وفرض له ابوك في الفين، وترجو ان تسلم مني؟. فقال له عبيد الله: الحمد لله الذى جعلك تطلبنى بدم الهرمزان، وانا اطلبك بدم امير المؤمنين عثمان. فقال له على: ستجمعنا وإياك الحرب، فتعلم. قال: فلم يزالوا يتراسلون شهرى ربيع [1] وجمادى الاولى، ويفزعون فيما بين ذلك، يزحف بعضهم الى بعض، فيحجز بينهم القراء والصالحون، فيفترقون من غير   [1] ربيع الثانى من سنه 37 هـ اغسطس 657 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 حرب حتى فزعوا في هذه الثلاثة الأشهر خمسا وثمانين فزعه، كل ذلك يحجز بينهم القراء. فلما انقضت جمادى الاولى بات على رضى الله عنه يعبى اصحابه، ويكتب كتائبه، وبعث الى معاويه يؤذنه بحرب، فعبى معاويه أيضا اصحابه، وكتب كتائبه. فلما أصبحوا تزاحفوا وتواقفوا تحت راياتهم في صفوفهم، ثم تحاجزوا، فلم تكن حرب، وكانوا يكرهون ان يلتقوا بجميع الفيلقين مخافه الاستئصال، غير انه يخرج الجماعه من هؤلاء الى الجماعه من أولئك، فيقتتلون بين العسكرين، فكانوا كذلك حتى اهل هلال رجب، فامسك الفريقان. قالوا: واقبل ابو الدرداء وابو امامه الباهلى حتى دخلا على معاويه، فقالا: علام تقاتل عليا، وهو أحق بهذا الأمر منك؟. قال: اقاتله على دم عثمان. قالا: او هو قتله؟. قال: آوى قتلته، فسلوه ان يسلم إلينا قتلته، وانا أول من يبايعه من اهل الشام. فاقبلا الى على رضى الله عنه، فأخبراه بذلك. فاعتزل من عسكر على زهاء عشرين الف رجل، فصاحوا: نحن جميعا قتلنا عثمان. فخرج ابو الدرداء وابو امامه فلحقا ببعض السواحل، ولم يشهدا شيئا من تلك الحروب. وان معاويه بعث الى شرحبيل بن السمط، وحبيب بن مسلمه، ومعن بن يزيد ابن الاخنس، وقال: انطلقوا اليه، وسلوه ان يسلم إلينا قتله عثمان، ويتخلى مما هو فيه حتى نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من رضوا وأحبوا. فاقبلوا حتى دخلوا على على رضى الله عنه، فبدا حبيب بن مسلمه، فتكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بما حمله معاويه، فقال له على: وما أنت وذاك، لا أم لك، فلست هناك؟! فقام حبيب مغضبا، فقال: والله لتريني بحيث تكره، فقال شرحبيل: افلا تسلم إلينا قتله عثمان؟، قال على: انى لا استطيع ذلك، وهم زهاء عشرين الف رجل، فقاما عنه، فخرجا، قالوا: فمكث الناس كذلك الى ان انسلخ المحرم [1] . وفي ذلك يقول حابس بن سعد الطائي، وكان صاحب لواء طيّئ مع معاويه: فما بين المنايا غير سبع ... بقين من المحرم او ثمان الم يعجبك انا قد هجمنا ... وإياهم على الموت العيان اينهانا كتاب الله عنهم ... ولا ينهاهم آي القرآن فلما انسلخ المحرم بعث على مناديا، فنادى في عسكر معاويه عند غروب الشمس: انا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحرم، وقد تصرمت، وانا ننبذ إليكم على سواء، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. فبات الفريقان يكتبون الكتائب، وقد أوقدوا النيران في العسكرين، فلما أصبحوا تزاحفوا، وقد استعمل على على الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجاله عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، ودفع الراية العظمى الى هاشم بن عتبة المرقال، وجعل على الميمنه الاشعث بن قيس وعلى الميسره عبد الله بن عباس، وعلى رجال الميمنه سليمان بن صرد، وعلى رجاله الميسره الحارث بن مره العبدى، وجعل في القلب مضر، وفي الميمنه ربيعه، وفي الميسره اهل اليمن، وضم قريشا وأسدا وكنانه الى عبد الله بن عباس، وضم كنده الى الاشعث، وضم بكر البصره الى الحضين [2] ابن المنذر، وضم تميم البصره الى الأحنف بن قيس، وولى امر خزاعة عمرو بن الحمق، وولى بكر الكوفه نعيم بن هبيرة، وولى سعد رباب البصره خارجه   [1] من سنه 38 هـ. [2] في الأصل: الحصين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ابن قدامه، وولى بجيله رفاعة بن شداد، وولى ذهل الكوفه رويما الشيبانى، وولى حنظله البصره اعين بن ضبيعه، وجعل على قضاعه كلها عدى بن حاتم، وجعل على لهازم الكوفه عبد الله بن بديل، وعلى تميم الكوفه عمير بن عطارد، وعلى الأزد جندب بن زهير، وعلى ذهل البصره خالد بن المعمر، وعلى حنظله الكوفه شبث ابن ربعي، وعلى همدان سعد بن قيس، وعلى لهازم البصره خزيمة بن خازم، وعلى سعد رباب الكوفه أبا صرمه، واسمه الطفيل، وعلى مذحج الاشتر، وعلى عبد قيس الكوفه عبد الله بن الطفيل، وعلى عبد قيس البصره عمرو بن حنظله، وعلى قيس البصره شدادا الهلالي، وعلى اللفيف من القواصى القاسم بن حنظله الجهنى. واستعمل معاويه على الخيل عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى الرجاله مسلم ابن عقبه، لعنه الله، وعلى الميمنه عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى الميسره حبيب ابن مسلمه، ودفع اللواء الأعظم الى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، واستعمل على اهل دمشق الضحاك بن قيس، وعلى اهل حمص ذا الكلاع، وعلى اهل قنسرين زفر بن الحارث، وعلى اهل الأردن سفيان بن عمرو، وعلى اهل فلسطين مسلمه ابن خالد، وعلى رجاله دمشق بسر بن ابى ارطاه، وعلى رجاله حمص حوشبا ذا ظليم، وعلى رجاله قنسرين طريف بن حابس، وعلى رجاله الأردن عبد الرحمن القينى، وعلى رجاله فلسطين الحارث بن خالد الأزدي، وعلى قيس دمشق همام ابن قبيصة، وعلى قيس حمص هلال بن ابى هبيرة، وعلى رجاله الميمنه حابس ابن ربيعه، وعلى قضاعه دمشق حسان بن بجدل، وعلى قضاعه حمص عباد ابن يزيد، وعلى كنده دمشق عبد الله بن جون السكسكى، وعلى كنده حمص يزيد بن هبيرة، وعلى النمر بن قاسط يزيد بن اسد العجلى، وعلى حمير هانئ بن عمير، وعلى قضاعه الأردن مخارق بن الحارث، وعلى لخم فلسطين نابل ابن قيس، وعلى همدان الأردن حمزه بن مالك، وعلى غسان الأردن زيد بن الحارث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وعلى اهل القواصى القعقاع بن أبرهة، وعلى الخيل كلها عمرو بن العاص، وعلى الرجاله كلها الضحاك بن قيس. واصطف كل فريق منهم سبعه صفوف، صفين في الميمنه وصفين في الميسره، وثلاثة صفوف في القلب، فكان الفريقان اربعه عشر صفا، فوقفوا تحت راياتهم، لا ينطق احد منهم بكلمة، فخرج رجل من اهل العراق يسمى جحل بن اثال، وكان من فرسان العرب، فوقف بين صفوف اهل العراق واهل الشام، ثم نادى هل من مبارز؟ وهو متقنع بالحديد، فخرج اليه أبوه اثال، وكان من معدودى فرسان اهل الشام متقنعا بالحديد، ولم يعلم واحد منهما من صاحبه، فتطاردا، والناس قد شخصت أبصارهم، ينظرون، فطعن كل واحد منهما صاحبه، فلم يصنعا شيئا، لكمال لامتيهما [1] ، فحمل الأب على الابن، فاحتضنه حتى اشاله [2] عن سرجه، فسقط وسقط الأب عليه، فانكشفت وجوههما، فعرف كل واحد منهما صاحبه، فانصرفا الى عسكريهما، ثم تفرق الناس يومئذ، ولم يكن بينهما غير هذا. فلما أصبحوا عادوا الى مواقفهم، كما كانوا بالأمس، فخرج عتبة بن ابى سفيان حتى وقف على فرسه بين الصفين، فدعا جعدة بن هبيرة بن ابى وهب القرشي، ليخرج اليه، فاقبل جعدة حتى دنا من عتبة، فتجاريا ما هم فيه، وتقاولا حتى اغضب جعدة عتبة، فتناوله عتبة بلسانه، فانصرفا مغضبين، وعبى كل منهما لصاحبه كتيبه، فاقتتلوا بين الصفين، واعين الناس اليهم، وباشر جعدة القتال، فانهزم عتبة، وانصرف الفريقان لم يكن بينهم يومئذ الا ذاك، فقال النجاشى يذكر ما كان بينهما: ان شتم الكريم يا عتب خطب ... فاعلمنه من الخطوب عظيم أمه أم هانئ، وأبوه ... من لؤي بن غالب لصميم انه للهبيره بن ابى وهب ... ، اقرت بفضله مخزوم   [1] اللامة: الدرع. [2] رفعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقال أيضا: ما زلت تنظر في عطفيك أبهة ... لا يرفع الطرف منك التيه والصلف لما رايتهم صبحا حسبتهم ... اسد العرين حمى اشبالها الغرف [1] ناديت خيلك إذ عض السيوف بها ... عوجى الى، فما عاجوا وما وقفوا هلا عطفت الى قتلى مصرعة ... منها السكون ومنها الأزد والصدف قد كنت في منظر عن ذا ومستمع ... يا عتب لولا سفاه الرأي والترف قالوا وخرج الاشعث في يوم من الأيام في خيل من ابطال اهل العراق، فخرج اليه حبيب بن مسلمه في مثل ذلك من اهل الشام، فاقتتلوا بين الصفين مليا حتى مضى جل النهار، ثم انصرفوا وقد انتصف بعضهم من بعض. وخرج يوما آخر المرقال هاشم بن عتبة بن ابى وقاص في خيل، فخرج اليه ابو الأعور السلمى في مثل ذلك، فاقتتلوا بين الصفين جل النهار. فلم يفر احد عن احد. وخرج يوما آخر عمار بن ياسر في خيل من اهل العراق، فخرج اليه عمرو بن العاص في ذلك، ومعه شقه سوداء على قناه، فقال الناس: هذا لواء عقده رسول الله ص، فقال على رضى الله عنه: انا مخبركم بقصة هذا اللواء: هذا لواء عقده رسول الله ص، وقال: من يأخذه بحقه؟، فقال عمرو: وما حقه يا رسول الله؟ فقال: لا تفر به من كافر، ولا تقاتل به مسلما. فقد فر به من الكافرين في حياه رسول الله ص، وقد قاتل به المسلمين اليوم. فاقتتل عمرو وعمار ذلك اليوم كله، لم يول واحد منهما صاحبه الدبر. وخرج في يوم آخر محمد بن الحنفيه، فخرج اليه عبيد الله بن عمر في مثل عدده من اهل الشام، فقال عبيد الله لابن الحنفيه: ابرز لي فقال محمد:   [1] الغرف: الشجر الكثيف الملتف، اى شجر كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 نزال قال: وذاك. فنزلا جميعا عن فرسيهما، ونظر على إليهما، فحرك فرسه حتى دنا من محمد، ثم نزل، وقال لمحمد: امسك على فرسي ففعل. ومشى الى عبيد الله، فولى عنه عبيد الله، وقال: ما لي في مبارزتك من حاجه، انما اردت ابنك فقال محمد: يا أبت [1] ، لو تركتني ابارزه لرجوت ان اقتله قال: لو بارزته لرجوت ذلك، وما كنت آمنا ان يقتلك. واقتتلت خيلاهما الى انصاف النهار، ثم انصرفت، وكل غير غالب. وخرج في يوم آخر عبد الله بن عباس في خيل من اهل العراق، فخرج اليه الوليد بن عتبة في مثلها من اهل الشام، فقال الوليد: يا ابن عباس، قطعتم أرحامكم، وقتلتم امامكم، ولم تدركوا ما املتم، فقال له ابن عباس: دع عنك الأساطير، وابرز الى، فأبى الوليد، وقاتل ابن عباس يومئذ بنفسه قتالا شديد، ثم انصرفا منتصفين. وخرج في يوم آخر عمرو بن العاص في خيل من اهل الشام، فخرج اليه سعد بن قيس الهمدانى في مثل ذلك من اهل العراق، وعمرو يرتجز: لا تامنن بعدها أبا حسن ... طاحنه تدقكم دق الطحن انا نمر الحرب امرار الرسن [2] فبدر ممن كان مع عمرو فتى من اهل الشام، يسمى حجر الشر، فدعا للبراز، فبرز اليه حجر بن عدى، فأطعنا، فطعنه حجر الشر طعنه اذراه عن فرسه، وحماه اصحابه، فانصرفا وقد جرحه السنان، فخرج اليه الحكم بن ازهر، وكان من اشراف الكوفه، فاختلفا ضربتين، فضربه حجر الشر فقتله، ثم نادى هل من مبارز؟، فبرز اليه ابن عم للحكم يسمى رفاعة بن طليق، فضربه حجر الشر فقتله، فقال على: الحمد لله الذى قتل هذا مقتل عبد الله بن بديل. وخرج في يوم آخر عبد الله بن بديل الخزاعي، وكان من افاضل اصحاب على   [1] في الأصل يا ابه. [2] الرسن: محركه الحبل وما كان من زمام على انف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 في خيل من اهل العراق، فخرج اليه ابو الأعور السلمى في مثل ذلك من اهل الشام فاقتتلوا هويا [1] من النهار، فترك عبد الله اصحابه يعتركون في مجالهم، وضرب فرسه حتى احماه، ثم ارسله على اهل الشام، فشق جموعهم، لا يدنو منه احد الا ضربه بالسيف حتى انتهى الى الرابية التي كان معاويه عليها، فقام اصحاب معاويه دونه، فقال معاويه: ويحكم، ان الحديد لم يؤذن له في هذا، فعليكم بالحجارة فرث بالصخر حتى مات، فاقبل معاويه حتى وقف عليه، فقال: هذا كبش القوم هذا كما قال الشاعر: أخو الحرب ان عضت به الحرب عضها ... وان شمرت عن ساقها الحرب شمرا كليث عرين بات يحمى عرينه ... رمته المنايا قصدها فتقطرا قالوا: وكان فارس معاويه الذى يبتهى به حريث مولاه، وكان يلبس بزه معاويه، ويستلئم سلاحه، ويركب فرسه، ويحمل متشبها بمعاويه، فإذا حمل قال الناس: هذا معاويه وقد كان معاويه نهاه عن على، وقال اجتنبه، وضع رمحك حيث شئت. فخلا به عمرو، وقال: ما يمنعك من مبارزه على، وأنت له كفء؟، قال: نهاني مولاى عنه، قال: وانى والله لأرجو ان بارزته ان تقتله، فتذهب بشرف ذلك. فلم يزل يزين له ذلك حتى وقع في قلب حريث. فلما أصبحوا خرج حريث حتى قام بين الصفين، وقال: يا أبا الحسن، ابرز الى، انا حريث، فخرج اليه على، فضربه، فقتله. وبعث على يوما من تلك الأيام الى معاويه: لم نقتل الناس بيني وبينك؟ ابرز الى، فأينا قتل صاحبه تولى الأمر. فقال معاويه لعمرو: ما ترى؟ قال: قد انصفك الرجل، فابرز اليه، فقال معاويه: اتخدعني عن نفسي، ولم ابرز اليه، ودوني عك والأشعرون. ثم قال:   [1] هوى بالضم وكغنى ساعه من النهار او من الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ما للملوك وللبراز وإنما ... حظ المبارز خطفه من باز ووجد من ذلك على عمرو، فهجره أياما، فقال عمرو لمعاوية: انا خارج الى على غدا. فلما أصبحوا بدر عمرو حتى وقف بين الصفين، وهو يرتجز: شدا على شكتى لا تنكشف ... يوم لهمدان ويوم للصدف ولتميم مثله او تنحرف ... والربعيون لهم يوم عصف إذا مشيت مشيه العود النطف ... اطعنهم بكل خطى ثقف [1] ثم نادى: يا أبا الحسن، اخرج الى، انا عمرو بن العاص. فخرج اليه على، فتطاعنا، فلم يصنعا شيئا، فانتضى على سيفه، فحمل عليه، فلما اراد ان يجلله رمى بنفسه عن فرسه، ورفع احدى رجليه، فبدت عورته، فصرف على وجهه، وتركه. وانصرف عمرو الى معاويه، فقال له معاويه: احمد الله وسوداء استك يا عمرو. قالوا: وخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب يوما من تلك الأيام، وكان من فرسان العرب وابطالها في خيل من اهل الشام، وخرج الاشتر في مثلها، فاشتدت بينهما الحرب، فالتقى عبيد الله والاشتر، فحمل عبيد الله على الاشتر، وبدره الاشتر يطعنه، فاخطاه، واسرع الاشتر في اصحاب عبيد الله، فانصرف الفريقان، وللأشتر الفضل. وخرج يوما آخر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان من معدودى رجال معاويه، فخرج اليه عدى بن حاتم في مثلها، فاقتتلوا يومهم كله، ثم انصرفوا، وكل غير غالب.   [1] الخطى الثقف: الرمح المعتدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وخرج يوما ذو الكلاع في اربعه آلاف فارس من اهل الشام قد تبايعوا على الموت، فحملوا على ربيعه، وكانوا في ميسره على، وعليهم عبد الله بن عباس، فتصدعت جموع ربيعه، فناداهم خالد بن المعمر: يا معشر ربيعه اسخطتم الله فثابوا اليه، فاشتد القتال حتى كثرت القتلى، ونادى عبيد الله بن عمر: انا الطيب ابن الطيب، فسمعه عمار، فناداه: بل أنت الخبيث ابن الطيب. ثم حمل عبيد الله، وهو يرتجز: انا عبيد الله ينمينى عمر ... خير قريش من مضى ومن غبر غير رسول الله والشيخ الأغر ... أبطأ عن نصر ابن عفان مضر والربعيون، فلا اسقوا المطر فضرب شمر بن الريان العجلى، فقتله، وكان من فرسان ربيعه. مقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب فلما أصبحوا خرج عبيد الله فيمن كان معه بالأمس، وخرجت اليهم ربيعه، فاقتتلوا بين الصفين، وعبيد الله امامهم يضرب بسيفه، فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي، فطعنه في لبته [1] ، فقتله، وقد اختلفوا في قتله، فقالت [2] همدان: قتله هانئ بن الخطاب، وقالت حضرموت: قتله مالك بن عمرو الحضرمى، وقالت ربيعه: حريث بن جابر الحنفي، وهو المجمع عليه، فقال كعب بن جعيل يرثيه: الا انما تبكى العيون لفارس ... بصفين اجلت خيله وهو واقف فاضحى عبيد الله بالقاع مسلما ... تمج دما منه والعروق النوازف ينوء وتعلوه سبائب من دم ... كما لاح في جيب القميص الكفائف [3] وقد ضربت حول ابن عم نبينا ... من الموت شهباء المناكب شارف [4]   [1] المنحر وموضع القلادة من الصدر. [2] في الأصل: فقال. [3] السبائب جمع سبيبه وهي الشقه الرقيقه من الثياب، والكفائف طرر القميص التي لا اهداب لها. [4] يعنى ان الكتيبة قد صارت مناكبها شهباء لما يعلوها من الحديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تموج ترى الرايات حمرا كأنها ... إذا صوبت للطعن طير عواكف جزى الله قتلانا بصفين خير ما ... جزى عبادا غادرتها المواقف مقتل ذي الكلاع قالوا: وخرج ذو الكلاع في يوم من تلك الأيام في كتيبه من اهل الشام من عك ولخم، فخرج اليه عبد الله بن عباس في ربيعه، فالتقوا، ونادى رجل من مذحج العراق يا آل مذحج، خذموا [1] فاعترضت مذحج عكا يضربون سوقهم بالسيوف، فيبركون. فنادى ذو الكلاع.. يا آل عك، بروكا كبروك الإبل. وحمل رجل من بكر بن وائل يسمى خندفا على ذي الكلاع، فضربه بالسيف على عاتقه، فقد الدرع، وفرى عاتقه، فخر ميتا، فلما قتل ذو الكلاع تمحكت عك، وصبروا لعض السيوف، فلم يزالوا كذلك حتى امسوا. وكان اهل العراق واهل الشام ايام صفين إذا انصرفوا من الحرب يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر، فلا يعرض احد لصاحبه، وكانوا يطلبون قتلاهم، فيخرجونهم من المعركة، ويدفنونهم. قالوا: وان عليا رضى الله عنه اشاع انه يخرج الى اهل الشام بجميع الناس، فيقاتلهم حتى يحكم الله بينه وبينهم، ففزع الناس لذلك فزعا شديدا، وقالوا: انما كنا الى اليوم تخرج الكتيبة الى مثلها، فيقتتلون بين الجمعين، فان التقينا بجميع الفيلقين فهو فناء العرب. وقام على في الناس خطيبا، فقال: الا انكم ملاقو القوم غدا بجميع الناس، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والعفو، والقوهم بالجد.   [1] في الأصل: خدموا والصواب: خذموا اى أسرعوا في السير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فقال كعب بن جعيل: اصبحت الامه في امر عجب ... والملك مجموع غدا لمن غلب اقول قولا صادقا غير الكذب ... ان غدا تهلك اعلام العرب واجتمع اهل الشام الى معاويه، فعرضهم، فنادى مناديه: اين الجند المقدم؟ فخرج اهل حمص تحت راياتهم، وعليهم ابو الأعور السلمى، ثم نادى: اين اهل الأردن؟، فخرجوا تحت راياتهم، وعليهم زفر بن الحارث الكلابى، ثم نادى: اين جند الأمير؟ فجاء اهل دمشق تحت راياتهم، وعليهم الضحاك ابن قيس، فأطافوا بمعاويه، فعقد لعمرو بن العاص على جميع الناس، وساروا حتى وقفوا بإزاء اهل العراق. وقعد معاويه على منبر ينظر منه فوق رابيه الى الفريقين إذا اقتتلوا، واقبلت عك الشام، وقد عصبوا انفسهم بالعمائم، وطرحوا بين ايديهم حجرا، وقالوا: لا نولي الدبر او يولى معنا هذا الحجر، فصفهم عمرو خمسه صفوف، ووقف امامهم يرتجز: يا ايها الجيش الصليب الأيمان ... قوموا قياما، فاستعينوا الرحمن [1] انى أتاني خبر فأبكان ... ان عليا قتل ابن عفان ردوا علينا شيخنا كما كان وأنشأ رجل من اهل الشام يقول: تبكى الكتيبة يوم جر حديدها ... يوم الوغى جزعا على عثمانا يسلون حق الله لا يعدونه ... وسألتم لعلى السلطانا فاتوا ببينه بما تسلونه ... هذا البيان، فاحضروا البرهانا ولما اصبح على رضى الله عنه غلس [2] . بصلاة الفجر، ثم امر اصحابه، فخرجوا   [1] في الأصل: الرحمان. [2] صلى الفجر في أول وقته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 تحت راياتهم، ثم جعل يدور على رايات اهل الشام، فيقول: من هؤلاء؟ فيسمون له، حتى إذا عرفهم، وعرف مراكزهم، قال لازد الكوفه: اكفوني ازد الشام، وقال لخثعم: اكفوني خثعم، فامر كل قبيله من اهل العراق ان تكفيه أختها من اهل الشام، ثم امرهم ان يحملوا من كل ناحيه حمله رجل واحد، فحملوا، وحمل على رضى الله عنه على الجمع الذى كان فيه معاويه في اهل الحجاز من قريش والانصار وغيرهم، وكانوا زهاء اثنى عشر الف فارس، وعلى امامهم، وكبروا وكبر الناس تكبيره ارتجت لها الارض، فانتقضت صفوف اهل الشام، واختلفت راياتهم، وانتهوا الى معاويه، وهو جالس على منبره، معه عمرو بن العاص، ينظران الى الناس، فدعا بفرس ليركبه. ثم ان اهل الشام تداعوا بعد جولتهم، وثابوا، ورجعوا على اهل العراق، وصبر القوم بعضهم لبعض الى ان حجز بينهم الليل، فقتل في ذلك اليوم اناس كثير من اعلام العرب واشرافهم، فلما أصبحوا دخل الناس بعضهم في بعض، يستخرجون قتلاهم، فيدفنونهم يومهم ذلك كله. ثم ان عليا قام في عشيه ذلك اليوم في اصحابه، فقال: ايها الناس، اغدوا على مصافكم، وازحفوا الى عدوكم، وغضوا الابصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، واثبتوا، واذكروا الله كثيرا، وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وقام معاويه في اهل الشام، فقال: ايها الناس، اصبروا وصابروا، ولا تتخاذلوا ولا تتواكلوا، فإنكم على حق، ولكم حجه، وانما تقاتلون من سفك الدم الحرام، فليس له في السماء عاذر. وقام عمرو، فقال: ايها الناس، قدموا المستلئمة وأخروا الحسر [1] ، وأعيرونا جماجمكم اليوم، فقد بلغ الحق مقطعه، وانما هو ظالم او مظلوم.   [1] الحاسر خلاف الدارع، ويقال للرجاله في الحرب الحسر لأنه لا درع عليهم ولا بيض على رءوسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فبات الفريقان طول تلك الليلة يتعبون للحرب، ثم غدوا على مصافهم، وحمل الفريقان بعضهم على بعض، وحمل حبيب بن مسلمه، وكان على ميسره معاويه، على ميمنه على رضى الله عنه، فانكشفوا وجالوا جولة، ونظر على الى ذلك، فقال لسهل بن حنيف: انهض فيمن معك من اهل الحجاز حتى تعين اهل الميمنه، فمضى سهل فيمن كان معه من اهل الحجاز نحو الميمنه، فاستقبلهم جموع اهل الشام، فكشفوه ومن معه حتى انتهوا الى على، وهو في القلب، فجال القلب وفيه على جولة، فلم يبق مع على الا اهل الحفاظ والنجده، فحث على فرسه نحو ميسرته، وهم وقوف يقاتلون من بازائهم من اهل الشام، وكانوا ربيعه. قال زيد بن وهب: فانى لانظر الى على، وهو يمر نحو ربيعه، ومعه بنوه: الحسن والحسين ومحمد، وان النبل ليمر بين أذنيه وعاتقه، وبنوه يقونه بانفسهم، فلما دنا على من الميسره، وفيها الاشتر، وقد وقفوا في وجوه اهل الشام يجالدونهم، فناداه على، وقال: ايت هؤلاء المنهزمين، فقل: اين فراركم من الموت الذى لم تعجزوه الى الحياه التي لا تبقى لكم. فدفع الاشتر فرسه، فعارض المنهزمين، فناداهم: ايها الناس، الى الى، انا مالك بن الحارث فلم يلتفتوا اليه، فظن انه بالاستعراف، فقال: ايها الناس انا الاشتر فثابوا اليه، فزحف بهم نحو ميسره اهل الشام. فقاتل بهم قتالا شديدا حتى انكشف اهل الشام، وعادوا الى مواقفهم الاولى. ورتب الاشتر ميمنه على رضى الله عنه والقلب مراتبهما قبل الجولة، فلما عادوا الى مواقفهم جعل على يسير في الصفوف ويؤنبهم على ما كان من جولتهم، وذلك ما بين صلاه العصر والمغرب. قال: ثم ان اهل الشام حملوا على تميم، وكانوا في الميمنه، فكشفوهم، فناداهم زحر 1 في الأصل: زجر. بن نهشل: يا بنى تميم، الى أين؟ قالوا: الا ترى الى ما قد غشينا؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فقال: ويحكم، افرارا واعتذارا؟! ان لم تقاتلوا على الدين، فقاتلوا على الاحساب، احملوا معى. فحمل وحملوا، فقاتل حتى قتل، وهو امامهم، وحمل الناس جميعا بعضهم على بعض، واقتتلوا حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف، ثم تكادموا [1] . بالأفواه، وتحاثوا بالتراب، ثم تنادوا من كل جانب: يا معشر العرب، من للنساء والأولاد، الله الله في الحرمات. وان عليا رضى الله عنه لينغمس في القوم، فيضرب بسيفه حتى ينثني، ثم يخرج متخضبا بالدم حتى يسوى له سيفه، ثم يرجع، فينغمس فيهم، وربيعه لا تترك جهدا في القتال معه والصبر، وغابت الشمس، وقربوا من معاويه، فقال لعمرو: ما ترى؟ قال: ان تخلى سرادقك. فنزل معاويه عن المنبر الذى كان يكون عليه، واخلى السرادق، واقبلت ربيعه، وامامها على رضى الله عنه حتى غشوا السرادق، فقطعوه، ثم انصرفوا، وبات على تلك الليلة في ربيعه. مقتل هاشم بن عتبة بن ابى وقاص المرقال فلما اصبح على غادى [2] اهل الشام القتال، ودفع رايته العظمى الى هاشم بن عتبة، فقاتل بها نهاره كله، فلما كان العشى انكشف اصحابه انكشافه، وثبت هاشم في اهل الحفاظ منهم والنجده، فحمل عليهم الحارث بن المنذر التنوخي، فطعنه طعنه جائفة [3] ، فلم ينته عن القتال، ووافاه رسول على يأمره ان يقدم رايته، فقال للرسول: انظر الى ما بي فنظر الى بطنه، فرآه منشقا، فرجع الى على، فاخبره، ولم يلبث هاشم ان سقط، وجال اصحابه عنه، وتركوه بين القتلى، فلم يلبث ان مات. وحال الليل بين الناس وبين القتال.   [1] عض بعضهم بعضا [2] باكرهم. [3] قاتله، وجافه اى صرعه، لغة في جعفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فلما اصبح على غلس [1] بالصلاة، وزحف بجموعه نحو القوم على التعبئة الاولى، ودفع الراية الى ابنه عبد الله بن هاشم بن عتبة، وتزاحف الفريقان فاقتتلوا. فروى عن القعقاع الظفري انه قال: لقد سمعت في ذلك اليوم من أصوات السيوف ما الرعد القاصف دونه وعلى رضى الله عنه واقف ينظر الى ذلك، ويقول: لا حول ولا قوه الا بالله، والله المستعان، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. ثم حمل على بنفسه على اهل الشام حتى غاب فيهم، فانصرف مخضبا بالدماء، فلم يزالوا كذلك يومهم كله والليل حتى مضى ثلثه، وجرح على خمس جراحات، ثلاث في راسه واثنتان في وجهه، ثم تفرقوا وغدوا على مصافهم، وعمرو بن العاص يقدم اهل الشام، فحمل عبد الله بن جعفر ذو الجناحين في قريش والانصار في وجه عمرو فاقتتلوا، وحمل غلامان اخوان من الانصار على جموع اهل الشام حتى انتهيا الى سرادق معاويه، فقتلا على باب السرادق، ودارت رحى الحرب الى ان ذهب ثلث الليل، ثم تحاجزوا، ولما اصبح الناس اختلط بعضهم ببعض، يستخرجون قتلاهم، فيدفنونهم. وكتب معاويه الى على: اما بعد، فانى انما اقاتلك على دم عثمان، ولم أر المداهنه في امره واسلام حقه، فان ادرك بثارى فيه فذاك، والا فالموت على الحق اجمل من الحياه على الضيم، وانما مثلي ومثل عثمان، كما قال المخارق: فمهما تسل عن نصرتي السيد لا تجد ... لدى الحرب بيت السيد عندي مذمما فكتب اليه على: اما بعد، فانى عارض عليك ما عرض مخارق على بنى فالج، حيث قال:   [1] الغلس: ظلمه آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، والمراد انه صلى الصبح في أول وقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يا راكبا اما عرضت فبلغا ... بنى فالج حيث استقر قرارها هلموا إلينا لا تكونوا كأنكم ... بلاقع ارض طار عنها غبارها سليم بن منصور اناس أعزة ... وارضهم ارض كثير وبارها [1] فكتب اليه معاويه: انا لم نزل للحرب قاده، وانما مثلي ومثلك ما قال أوس بن حجر: إذا الحرب حلت ساحه الحى أظهرت ... عيوب رجال يعجبونك في الأمن وللحرب اقوام يحامون دونها ... وكم قد ترى من ذي رواء ولا يغنى ثم غدوا على الحرب، ورايه اهل الشام العظمى مع عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد، وكان يحمل بها فلا يلقاه شيء الا هده، وكان من فرسان العرب، وكانت من اهل العراق جولة شديده، فنادى الناس الاشتر، وقالوا: اما ترى اللواء اين قد بلغ؟، فتناول الاشتر لواء اهل العراق، فتقدم به، وهو يرتجز: انى انا الاشتر الشتر ... انى انا الأفعى العراقي الذكر [2] فقاتل اهل الشام حتى رد اللواء، وردهم على اعقابهم، ففي ذلك يقول النجاشى: رايت اللواء كظل العقاب ... يقحمه الشامي الاخزر [3] دعونا له الكبش كبش العراق ... وقد خالط العسكر العسكر فرد اللواء على عقبه ... وفاز بحظوتها الاشتر مقتل حوشب ذي ظليم قالوا: وأخذ الراية جندب بن زهير، فخرج اليه حوشب ذو ظليم، وكان من عظماء اهل الشام، وفرسانهم، فاخذ الراية وجعل يمضى بها قدما، وينكا   [1] اى شجرها. [2] الشتر بالتحريك انقلاب جفن العين من اعلى واسفل، او استرخاء اسفله، والاشتر لقب اشتهر به ابراهيم بن مالك بن الحارث. [3] العقاب طائر عظيم، والخزر بالتحريك انكسار بصر العين خلقه، او ضيقها وصغرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 في اهل العراق، فخرج اليه سليمان بن صرد، وكان من فرسان على، فاقتتلوا، فقتل حوشب، وجال اهل العراق جولة انتقضت صفوفهم، وانحاز اهل الحفاظ منهم مع على رضى الله عنه الى ناحيه اخرى يقاتلون، واقبل عدى بن حاتم يطلب عليا في موضعه الذى خلفه فيه، فلم يجده، فسال عنه، فدل عليه، فاقبل اليه، فقال: يا امير المؤمنين، اما إذ كنت حيا فالأمر امم [1] ، واعلم انى ما مشيت إليك الا على أشلاء القتلى، وما ابقى هذا اليوم لنا ولا لهم عميدا. وكان اكثر من صبر في تلك الساعة مع على وقاتل ربيعه، فقال على رضى الله عنه: يا معشر ربيعه، أنتم درعي وسيفي ثم ركب الفرس [2] الذى كان لرسول الله ص يسمى الريح وجنب بين يديه بغله رسول الله ص الشهباء، وتعمم بعمامته ص السوداء، ثم امر مناديه، فنادى: ايها الناس، من يشرى نفسه لله؟ فانتدب له الناس، وانضموا اليه، فاقبل بهم على اهل الشام حتى أزال راياتهم، وجالوا جولة قبيحه حتى دعا معاويه بفرسه ليركبها، ثم نادى مناديه في اهل الشام: الى اين ايها الناس؟ أثيبوا، فان الحرب سجال فثاب اليه الناس، وكروا على اهل العراق. وقال معاويه لعمرو: قدم عك والاشعرين، فإنهم كانوا أول من انهزم في هذه الجولة. فأتاهم عمرو، فبلغهم قول معاويه، فقال رئيسهم مسروق العكي: انتظروني حتى آتى معاويه فأتاه، فقال: افرض لقومى في الفين الفين، ومن هلك منهم، فابن عمه مكانه، قال: ذلك لك، فانصرف الى قومه، فاعلمهم ذلك، فتقدموا، فاضطربوا هم وهمدان بالسيوف اضطرابا شديدا، فاقسمت عك لا ترجع حتى ترجع همدان، واقسمت همدان على مثل ذلك. فقال عمرو لمعاوية: لقيت اسد أسدا، لم أر كاليوم قط. فقال معاويه: لو ان معك حيا آخر كعك، ومع على كهمدان لكان الفناء.   [1] اى يسير وهين. [2] الفرس للذكر والأنثى من الخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وكتب معاويه الى على: بسم الله الرحمن الرحيم، من معاويه بن ابى سفيان الى على بن ابى طالب، اما بعد، فانى احسبك ان لو علمت وعلمنا، ان الحرب تبلغ بك وبنا ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فانا وان كنا قد غلبنا على عقولنا، فقد بقي لنا منها ما ينبغى ان نندم على ما مضى ونصلح ما بقي، فإنك لا ترجو من البقاء الا ما أرجو، ولا اخاف من القتل الا ما تخاف، وقد والله رقت الأجناد، وتفانى الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل الا ما يستذل به العزيز، ولا يسترق به الحر، والسلام. فكتب اليه على رضى الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، اما بعد، فقد أتاني كتابك، تذكر انك لو علمت وعلمنا ان الحرب تبلغ بك وبنا ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فاعلم انك وإيانا منها الى غاية لم نبلغها بعد، واما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست امضى على الشك منى على اليقين، وليس اهل الشام باحرص على الدنيا من اهل العراق على الآخرة، واما قولك انا بنو عبد مناف، وليس لبعضنا على بعض فضل، فليس كذلك، لان اميه ليس كهاشم، ولا حربا كعبد المطلب، ولا أبا سفيان كابى طالب، ولا المهاجر كالطليق، وفي أيدينا فضل النبوه التي بها قتلنا العزيز، ودان لنا بها الذليل. ثم ان عليا رضى الله عنه غلس بالصلاة صلاه الفجر، وزحف بجموعه نحو اهل الشام، فوقف الفريقان تحت راياتهم، وخرج الاشتر على فرس كميت ذنوب [1] . مقنعا بالحديد، وبيده الرمح، فحمل على اهل الشام، فاتبعه الناس، وكسر فيهم ثلاثة ارماح، واضطرب الناس بالسيوف وعمد الحديد، وبرز رجل من اهل الشام مقنعا بالحديد، ونادى: يا أبا الحسن، ادن منى، اكلمك فدنا منه على   [1] طويل الذنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 حتى اختلفت اعناق فرسيهما بين الصفين، فقال: ان لك قدما في الاسلام ليس لأحد، وهجره مع رسول الله ص، وجهادا، فهل لك ان تحقن هذه الدماء، وتؤخر هذه الحرب برجوعك الى عراقك، ونرجع الى شامنا الى ان تنظر وننظر في امرنا؟. [فقال على: يا هذا، انى قد ضربت انف هذا الأمر وعينيه، فلم اجده يسعني الا القتال او الكفر بما انزل الله على محمد، ان الله لا يرضى من اوليائه ان يعصى في الارض، وهم سكوت، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال اهون من معالجة الأغلال في جهنم. ] قال: فانصرف الشامي، وهو يسترجع، ثم اقتتلوا حتى تكسرت الرماح، وتقطعت السيوف، واظلمت الارض من القتام، [1] ، وأصابهم البهر، [2] وبقي بعضهم ينظر الى بعض بهيرا. فتحاجزوا بالليل، وهو ليله الهرير. ثم أصبحوا غداه هذه الليلة، واختلط بعضهم ببعض يستخرجون قتلاهم ويدفنونهم. ثم ان عليا قام من صبيحة ليله الهرير في الناس خطيبا، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: ايها الناس، انه قد بلغ بكم وبعدوكم الأمر الى ما ترون، ولم يبق من القوم الا آخر نفس، فتأهبوا رحمكم الله لمناجزه عدوكم غدا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وبينهم، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. وبلغ ذلك معاويه، فقال لعمرو: ما ترى، فإنما هو يومنا هذا وليلتنا هذه؟، فقال عمرو: انى قد اعددت بحيلتي امرا اخرته الى هذا اليوم، فان قبلوه اختلفوا، وان ردوه تفرقوا، قال معاويه: وما هو؟ قال عمرو: تدعوهم الى كتاب الله حكما بينك وبينهم، فإنك بالغ به حاجتك. فعلم معاويه ان الأمر كما قال. قالوا: وان الاشعث بن قيس قال لقومه، وقد اجتمعوا اليه: قد رايتم ما كان في اليوم الماضى من الحرب المبيره [3] . وانا والله ان التقينا غدا، انه لبوار العرب وضيعه الحرمات.   [1] الغبار. [2] البهر: انقطاع النفس او تتابعه من الإعياء، وهو مبهور وبهير. [3] المسرفه في اهلاك الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قالوا: فانطلقت العيون الى معاويه بكلام الاشعث، فقال: صدق الاشعث، لئن التقينا غدا ليميلن الروم على ذراري اهل الشام، وليميلن دهاقين فارس على ذراري اهل العراق، وما يبصر هذا الأمر الا ذوو الأحلام، اربطوا المصاحف على اطراف القنا. [1] قالوا: فربطت المصاحف، فأول ما ربط مصحف دمشق الأعظم، ربط على خمسه ارماح، يحملها خمسه رجال، ثم ربطوا سائر المصاحف، جميع ما كان معهم، وأقبلوا في الغلس، ونظر اهل العراق الى اهل الشام قد أقبلوا، وامامهم شبيه بالرايات، فلم يدروا ما هو، حتى أضاء الصبح، فنظروا، فإذا هي المصاحف. ثم قام الفضل بن ادهم امام القلب، وشريح الجذامى امام الميمنه، وورقاء ابن المعمر امام الميسره، فنادوا: يا معشر العرب، الله. الله في نسائكم وأولادكم من فارس والروم غدا، فقد فنيتم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم. فقال على رضى الله عنه: ما الكتاب تريدون، ولكن المكر تحاولون. ثم اقبل ابو الأعور السلمى على برذون اشهب، وعلى راسه مصحف، وهو ينادى: يا اهل العراق، هذا كتاب الله حكما فيما بيننا وبينكم. فلما سمع اهل العراق ذلك قام كردوس بن هانئ البكرى، فقال: يا اهل العراق، لا يهدئكم ما ترون من رفع هذه المصاحف، فإنها مكيده. ثم تكلم سفيان بن ثور النكرى، [2] ، فقال: ايها الناس، انا قد كنا بدأنا بدعاء اهل الشام الى كتاب الله، فردوا علينا، فاستحللنا قتالهم، فان رددناه عليهم حل لهم قتالنا، «ولسنا نخاف ان يحيف الله علينا ولا رسوله» . ثم قام خالد بن المعمر، فقال لعلى: يا امير المؤمنين، ما البقاء الا فيما دعا القوم اليه ان رايته، وان لم تره فرأيك افضل. ثم تكلم الحضين بن المنذر، فقال: ايها الناس، ان لنا داعيا قد حمدنا ورده وصدره، وهو المأمون على ما فعل، فان قال: لا، قلنا: لا، وان قال: نعم، قلنا: نعم.   [1] جمع قناه وهي الرمح. [2] في الأصل: البكرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فتكلم على، وقال: عباد الله، انا احرى من أجاب الى كتاب الله، وكذلك أنتم، غير ان القوم ليس يريدون بذلك الا المكر، وقد عضتهم الحرب، والله، لقد رفعوها وما رأيهم العمل بها، وليس يسعني مع ذلك ان ادعى الى كتاب الله فأبى، وكيف وانما قاتلناهم ليدينوا بحكمه. فقال الاشعث: يا امير المؤمنين نحن لك اليوم على ما كنا عليه لك أمس، غير ان الرأي ما رايت من اجابه القوم الى كتاب الله حكما. فاما عدى بن حاتم وعمرو بن الحمق فلم يهويا ذلك، ولم يشيروا على على به. ولما أجاب على رضى الله عنه، قالوا له: فابعث الى الاشتر ليمسك عن الحرب ويأتيك. وكان يقاتل في ناحيه الميمنه، فقال على ليزيد بن هانئ: انطلق الى الاشتر، فمره ان يدع ما هو فيه، ويقبل، فأتاه، فابلغه، فقال: ارجع الى امير المؤمنين، فقل له ان الحرب قد اشتجرت بيني وبين اهل الناحية، فليس يجوز ان انصرف. فانصرف يزيد الى على، فاخبره بذلك، وعلت الأصوات من ناحيه الاشتر، وثار النقع، [1] فقال القوم لعلى، والله ما نحسبك امرته الا بالقتال. فقال: كيف امرته بذلك، ولم اساره سرا؟! ثم قال ليزيد: عد الى الاشتر، فقل له. اقبل، فان الفتنة قد وقعت. فأتاه، فاخبره بذلك. فقال الاشتر: الرفع هذه المصاحف؟، قال: نعم. قال: اما والله لقد ظننت بها حين رفعت، انها ستوقع اختلافا وفرقه. فاقبل الاشتر حتى انتهى اليهم، فقال: يا اهل الوهن والذل، احين علوتم القوم تنكلون لرفع هذه المصاحف؟ أمهلوني فواقا، [2] قالوا: لا ندخل معك في خطيئتك، قال: ويحكم، كيف بكم وقد قتل خياركم وبقي اراذلكم، فمتى كنتم محقين؟ احين كنتم تقاتلون أم الان حين أمسكتم؟ فما حال قتلاكم الذين   [1] الغبار الساطع. [2] الفواق بضم الفاء وبفتحها ما بين الحلبتين من الوقت، فالناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثم تحلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 لا ننكرون فضلهم، افي الجنه أم في النار؟. قالوا: قاتلناهم في الله، وندع قتالهم في الله. فقال: يا اصحاب الجباه السود، كنا نظن ان صلاتكم عباده وشوق الى الجنه، فنراكم قد فررتم الى الدنيا، فقبحا لكم. فسبوه، وسبهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وضرب هو وجوه دوابهم بسوطه. وكان مسعر بن فدكي وابن الكواء وطبقتهم من القراء الذين صاروا بعد خوارج كانوا من أشد الناس في الإجابة الى حكم المصحف. وان معاويه قام في اهل الشام، فقال: ايها الناس، ان الحرب قد طالت بيننا وبين هؤلاء القوم، وان كل واحد منا يظن انه على الحق وصاحبه على الباطل، وانا قد دعوناهم الى كتاب الله والحكم به، فان قبلوه، والا كنا قد أعذرنا اليهم. ثم كتب الى على: ان أول من يحاسب على هذا القتال انا وأنت، وانا ادعوك الى حقن هذه الدماء والفة الدين واطراح الضغائن، وان يحكم بيني وبينك حكمان، أحدهما من قبلي والآخر من قبلك، ما يجدانه مكتوبا مبينا في القرآن يحكمان به، فارض بحكم القرآن ان كنت من اهله. فكتب اليه على: دعوت الى حكم القرآن، وانى لأعلم انك ليس حكمه تحاول، وقد أجبنا القرآن الى حكمه لا إياك، ومن لم يرض بحكم القرآن فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً. وكتب الى عمرو بن العاص: [اما بعد، فان الدنيا مشغله عن غيرها، ولم يصب صاحبها منها شيئا الا انفتح له بذلك حرص يزيده فيها رغبه، ولن يستغنى صاحبها بما نال منها عما لم ينله،] ومن وراء ذلك فراق ما جمع، فلا تحبط عملك بمجاراه معاويه على باطله، وان لم تنته لم تضر بذلك الا نفسك، والسلام. فأجابه عمرو: اما بعد، فان الذى فيه صلاحنا والفه ما بيننا الإنابة الى الحق، وقد جعلنا القرآن حكما بيننا وبينك لنرضى بحكمه، ويعذرنا الناس عند المناجزة، والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فكتب اليه على: اما بعد، فان الذى اعجبك مما نازعتك نفسك اليه من طلب الدنيا منقلب عنك، فلا تطمئن إليها، فإنها غراره، ولو اعتبرت بما مضى انتفعت بما بقي، والسلام. فكتب اليه عمرو: اما بعد، فقد انصف من جعل القرآن حكما، فاصبر يا أبا الحسن، فانا غير منيليك الا ما انا لك القرآن، والسلام. فاجتمع قراء اهل العراق وقراء اهل الشام، فقعدوا بين الصفين، ومعهم المصحف يتدارسونه، فاجتمعوا على ان يحكموا حكمين، وانصرفوا. فقال اهل الشام: قد رضينا بعمرو. وقال الاشعث ومن كان معه من قراء اهل العراق: قد رضينا نحن بابى موسى. فقال لهم على: لست أثق براى ابى موسى، ولا بحزمه، ولكن اجعل ذلك لعبد الله بن عباس. قالوا: والله ما نفرق بينك وبين ابن عباس، وكأنك تريد ان تكون أنت الحاكم، بل اجعله رجلا هو منك ومن معاويه سواء، ليس الى احد منكما بأدنى منه الى الآخر. قال على رضى الله عنه: فلم ترضون لأهل الشام بابن العاص، وليس كذلك؟. قالوا: أولئك اعلم، انما علينا أنفسنا. قال: فانى اجعل ذلك الى الاشتر. قال الاشعث: وهل سعر هذه الحرب الا الاشتر، وهل نحن الا في حكم الاشتر؟. قال على: وما حكمه؟. قال: يضرب بعض وجوه بعض حتى يكون ما يريد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 قال: فقد ابيتم الا ان تجعلوا أبا موسى. قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما احببتم. قالوا: فأرسلوا رسولا الى ابى موسى، وقد كان اعتزل الحرب، واقام بعرض [1] . من اعراض الشام، فدخل عليه مولى له، فقال: قد اصطلح الناس، قال: الحمد لله رب العالمين. قال: وقد جعلوك حكما. قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. فاقبل ابو موسى حتى دخل عسكر على، فولوه الأمر، ورضوا به، فقبله. فقال الأحنف بن قيس لعلى: انك قد منيت بحجر الارض، وداهيه العرب، وقد عجمت أبا موسى، فوجدته كليل الشفرة، قريب العقر، وانه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل يدنو من صاحبه حتى يكون في كفه، ويبعد منه حتى يكون مكان النجم، فان شئت ان تجعلني حكما فافعل، والا فثانيا او ثالثا، فان قلت: انى لست من اصحاب رسول الله ص، فابعث رجلا من صحابته، واجعلنى وزيرا له ومشيرا. فقال على: ان القوم قد أبوا ان يرضوا بغير ابى موسى، «والله بالِغُ أَمْرِهِ» . قالوا: فقال ايمن بن خريم الأسدي من اهل الشام، وكان معتزلا للقوم: لو كان للقوم راى يهتدون به ... بعد القضاء رموكم بابن عباس لكن رموكم بشيخ من ذوى يمن ... لم يدر ما ضرب اخماس لأسداس [2]   [1] العرض: الجانب من كل شيء [2] تقول العرب لمن خاتل، ضرب أخماسا لأسداس، وهو مثل، اصله ان شيخا كان في ابله ومعه اولاده رجالا يرعونها، قد طالت غربتهم عن أهلهم، فقال لهم ذات يوم: ارعوا ابلكم بربعا، فرعوا ربعا نحو طريق أهلهم، فقالوا له: لو رعيناها خمسا، فزادوا يوما قبل أهلهم، فقالوا: لو رعيناها سدسا، ففطن الشيخ لما يريدون، فقال: ما أنتم الا ضرب اخماس لأسداس، ما همتكم رعيها، انما همتكم أهلكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قالوا: وقد كان معاويه جعل لايمن بن خريم ناحيه من فلسطين على ان يبايعه، فأبى، وقال: لست بقاتل رجلا يصلى ... على سلطان آخر من قريش له سلطانه وعلى إثمي ... معاذ الله من سفه وطيش ااقتل مسلما في غير حق ... فليس بنافعى ما عشت عيشي وثيقة التحكيم قالوا: فاجتمع اهل العراق واهل الشام وأتوا بكاتب، وقالوا: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه امير المؤمنين. فقال معاويه بئس الرجل انا ان اقررت بانه امير المؤمنين ثم اقاتله. قال عمرو بل اكتب اسمه واسم ابيه. فقال الأحنف بن قيس: يا امير المؤمنين، لا تمح اسم امره المؤمنين، فانى اخاف ان محوتها لم ترجع إليك ابدا، ولا تجبهم الى ذلك. [فقال على: الله اكبر، سنه بسنه، اما والله لقد جرى على يدي نظير هذا يعنى القضية يوم الحديبية، [1] وامتناع قريش ان يكتب محمد رسول الله، فقال النبي ص للكاتب، اكتب محمد بن عبد الله،] فكتبوا. هذا ما تقاضى عليه على بن ابى طالب ومعاويه بن ابى سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنه نبيه ص، قضية على على اهل العراق شاهدهم وغائبهم، وقضية معاويه على اهل الشام شاهدهم وغائبهم، انا تراضينا ان نقف عند حكم القرآن فيما يحكم من فاتحته الى خاتمته، نحيى ما أحيا، ونميت ما أمات، على ذلك تقاضيا وبه تراضيا، وان عليا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرا وحاكما، ورضى معاويه وشيعته بعمرو بن العاص ناظرا وحاكما، على ان عليا ومعاويه أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه، وذمته وذمة   [1] قريه قريبه من مكة، سميت ببئر فيها، وقد ورد ذكرها في الحديث كثيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 رسوله ان يتخذا القرآن اماما، ولا يعدوا به الى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورا، وما لم يجدا في الكتاب رداه الى سنه رسول الله الجامعه، لا يتعمدان لها خلافا، ولا يبغيان فيها بشبهه. وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على على ومعاويه عهد الله وميثاقه بالرضى بما حكما به مما في كتاب الله وسنه نبيه، وليس لهما ان ينقضا ذلك، ولا يخالفاه الى غيره، وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما واشعارهما وابشارهما واهاليهما وأولادهما ما لم يعدوا الحق، رضى به راض او سخطه ساخط، وان الامه انصارهما على ما قضيا به من الحق مما هو في كتاب الله، فان توفى احد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته واصحابه ان يختاروا مكانه رجلا من اهل المعدلة والصلاح على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق، وان مات احد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدد في هذه القضية فلشيعته ان يولوا مكانه رجلا يرضون عدله، وقد وقعت القضية بين الفريقين والمفاوضه، ورفع السلاح، وقد وجبت القضية على ما سمينا في هذا الكتاب من موقع الشرط على الأميرين والحكمين والفريقين، والله اقرب شهيد، وَكَفى * به شَهِيداً، * فان خالفا وتعديا فالأمة بريئة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمه، والناس آمنون على انفسهم وأهاليهم وأولادهم الى انقضاء الأجل، والسلاح موضوعه والسبل آمنة، والغائب من الفريقين مثل الشاهد في الأمر، وللحكمين ان ينزلا منزلا متوسطا عدلا بين اهل العراق واهل الشام، ولا يحضرهما فيه الا من احبا عن تراض منهما، والأجل الى انقضاء شهر رمضان، فان راى الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها، وان رايا تأخيرها الى آخر الأجل اخراها، فان هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنه نبيه الى انقضاء الأجل، فالفريقان على امرهم الاول في الحرب، وعلى الامه عهد الله وميثاقه في هذا الأمر، وهم جميعا يد واحده على من اراد في هذا الأمر إلحادا او ظلما او خلافا. شهد على ما في هذا الكتاب الحسن والحسين ابنا على بن ابى طالب، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن جعفر بن ابى طالب، والاشعث بن قيس، والاشتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ابن الحارث، وسعيد بن قيس، والحصين والطفيل ابنا الحارث بن عبد المطلب، وابو سعيد بن ربيعة الأنصاري، وعبد الله بن خباب بن الأرت، وسهل بن حنيف، وابو بشر بن عمر الأنصاري، وعوف بن الحارث بن عبد المطلب، ويزيد بن عبد الله الأسلمي، وعقبه بن عامر الجهنى، ورافع بن خديج الأنصاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، والنعمان بن العجلان الأنصاري، وحجر بن عدى الكندى، ويزيد بن حجيه النكرى، ومالك بن كعب الهمدانى، وربيعه بن شرحبيل، والحارث بن مالك، وحجر بن يزيد، وعلبة بن حجيه. ومن اهل الشام: حبيب بن مسلمه الفهري، وابو الأعور السلمى، وبسر ابن ارطاه القرشي، ومعاويه بن خديج الكندى، والمخارق بن الحارث، ومسلم ابن عمرو السكسكى، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وحمزه بن مالك، وسبيع ابن يزيد الحضرمى، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمه بن يزيد الكلبى، وخالد بن الحصين السكسكى، وعلقمه بن يزيد الحضرمى، ويزيد بن ابجر العبسى، ومسروق بن جبله العكي، وبسر بن يزيد الحميرى، وعبد الله بن عامر القرشي، وعتبة بن ابى سفيان، ومحمد بن ابى سفيان، ومحمد بن عمرو بن العاص، وعمار بن الأحوص الكلبى، ومسعده بن عمرو العتبى، والصباح بن جلهمة الحميرى، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع، وثمامة بن حوشب، وعلقمه بن حكم. وكتب يوم الأربعاء لثلاث عشره ليله بقيت من صفر سنه سبع وثلاثين. الخلاف بعد التحكيم وان الاشعث أخذ الكتاب فقراه على الفريقين، يمر به على كل، رايه رايه، وقبيله قبيله، فيقرؤه عليهم، فمر برايات عنزه، وكان مع على منهم اربعه آلاف رجل، فلما قراه عليهم قال اخوان منهم، اسمهما جعد ومعدان: «لا حكم إِلَّا لِلَّهِ*» ثم شدا على اهل الشام، فقاتلا حتى قتلا، وهما أول من حكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ثم مر على رايات مراد، فقراه عليهم، فقال صالح بن شقيق، وكان من افاضلهم لا حكم الا لله، وان كره المشركون، ثم مر به على رايات بنى راسب، فتنادوا لا يحكم الرجال في دين الله، ثم مر به على رايات بنى تميم، فقالوا مثل ذلك، فقال عروه بن اديه: اتحكمون في دين الله الرجال، فأين قتلانا يا اشعث؟ ثم حمل بسيفه على الاشعث، فاخطاه، وأصاب السيف عجز دابته، فانصرف الاشعث الى قومه، فمشى اليه سادات تميم، فاعتذروا اليه، فقبل وصفح. واقبل سليمان بن صرد الى على مضروبا في وجهه بالسيف، فقال: يا امير المؤمنين، اما لو وجدت أعوانا ما كتبت هذه الصحيفة. وقام محرز بن خنيس بن ضليع الى على، فقال: يا امير المؤمنين، اما الى الرجوع عن هذا الكتاب سبيل، فو الله انى لخائف ان يورثك ذلا؟. قال على: ابعد ان كتبناه ننقضه؟ هذا لا يجوز. ثم ان عليا ومعاويه اتفقا على ان يكون مجتمع الحكمين بدومه الجندل، وهو المنصف بين العراق والشام. ووجه على مع ابى موسى شريح بن هانئ في اربعه آلاف من خاصته، وصير عبد الله بن عباس على صلاتهم، وبعث معاويه مع عمرو بن العاص أبا الأعور السلمى في مثل ذلك من اهل الشام. فساروا من صفين حتى وافوا دومه الجندل، وانصرف على باصحابه حتى وافى الكوفه، وانصرف معاويه باصحابه حتى وافى دمشق، ينتظر ان ما يكون من امر الحكمين. وكان على إذا كتب الى ابن عباس في امر اجتمع اليه اصحابه، فقالوا: ما كتب إليك امير المؤمنين؟ فيكتمهم، فيقولون: لم كتمتنا؟ وانما كتب إليك في كذا وكذا، فلا يزالون يزكنون [1] حتى يقفوا على ما كتب.   [1] زكن الخبر زكنا بالتحريك علمه، وقيل الزكن: التفرس والظن الذى هو كاليقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وتأتي كتب معاويه الى عمرو بن العاص، فلا يأتيه احد من اصحابه، يسأله عن شيء من امره. قالوا: وكتب معاويه الى عبد الله بن عمر بن الخطاب، والى عبد الله بن الزبير، والى ابى الجهم بن حذيفة، والى عبد الرحمن بن عبد يغوث: اما بعد، فان الحرب قد وضعت أوزارها، وصار هذان الرجلان الى دومه الجندل، فاقدموا عليهما ان كنتم قد اعتزلتم الحرب، فلم تدخلوا فيما دخل فيه الناس، لتشهدوا ما يكون منهما، والسلام. فلما أتاهم كتابه ساروا جميعا الى دومه الجندل، فأقاموا ينتظرون ما يكون من الرجلين، وحضر معهم سعد بن ابى وقاص، وسار المغيره بن شعبه، وكان مقيما بالطائف لم يشهد شيئا من تلك الحروب حتى اتى دومه الجندل، فأقام ينتظر ما يكون منهما، فلما طال مقامه سار من هناك حتى اتى معاويه بدمشق، فقال له معاويه: اشر على بما ترى، فقال له المغيره: لو اشرت عليك لقاتلت معك، ولكنى قد اتيتك بخبر الرجلين. قال: وما خبرهما؟. قال: انى خلوت بابى موسى لأبلو ما عنده، فقلت: ما تقول فيمن اعتزل عن هذا الأمر، وجلس في بيته كراهية للدماء؟، فقال: أولئك خيار الناس، خفت ظهورهم من دماء إخوانهم، وبطونهم من أموالهم. قال: فخرجت من عنده، واتيت عمرو بن العاص، فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول فيمن اعتزل هذه الحروب؟، فقال: أولئك شرار الناس، لم يعرفوا حقا، ولم ينكروا باطلا. وانا احسب أبا موسى خالعا صاحبه، وجاعلها لرجل لم يشهد، واحسب هواه في عبد الله بن عمر بن الخطاب. واما عمرو بن العاص فهو صاحبك الذى عرفته، واحسب سيطلبها لنفسه او لابنه عبد الله، ولا أراه يظن انك أحق بهذا الأمر منه. فاقلق ذلك معاويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 مداوله الحكمين قالوا: ثم ان عمرو بن العاص جعل يظهر تبجيل ابى موسى واجلاله، وتقديمه في الكلام وتوقيره، ويقول: صحبت رسول الله ص قبلي، وأنت اكبر سنا منى. ثم اجتمعا ليتناظرا في الحكومة، فقال ابو موسى: يا عمرو، هل لك فيما فيه صلاح الامه ورضى الله؟. قال: وما هو؟. قال: نولي عبد الله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحروب. قال له عمرو: اين أنت من معاويه؟. قال ابو موسى: ما معاويه موضعا لها، ولا يستحقها بشيء من الأمور. قال عمرو: الست تعلم ان عثمان قتل مظلوما؟. قال: بلى. قال: فان معاويه ولى عثمان، وبيته بعد في قريش ما قد علمت، فان قال الناس: لم ولى الأمر وليست له سابقه؟ فان لك في ذلك عذرا، تقول: انى وجدته ولى عثمان، والله تعالى يقول: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً وهو مع هذا أخو أم حبيبه زوج النبي ص، وهو احد اصحابه. قال ابو موسى: اتق الله يا عمرو، اما ما ذكرت من شرف معاويه، فلو كان يستوجب بالشرف الخلافه، لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصباح، فانه من أبناء ملوك اليمن التبابعه الذين ملكوا شرق الارض وغربها، ثم اى شرف لمعاوية مع على بن ابى طالب؟، واما قولك ان معاويه ولى عثمان، فاولى منه ابنه عمرو بن عثمان، ولكن ان طاوعتنى أحيينا سنه عمر بن الخطاب وذكره بتوليتنا ابنه عبد الله الحبر [1]   [1] الرجل العالم الصالح، وجمعه احبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قال عمرو: فما يمنعك من ابنى عبد الله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته؟. فقال ابو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، ولكن هلم نجعلها للطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر. قال عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان، يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر. قال ابو موسى: ويحك يا عمرو، ان المسلمين قد اسندوا إلينا امرا بعد ان تقارعوا بالسيوف وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنه. قال: فما ترى؟. قال: ارى ان نخلع هذين الرجلين، عليا ومعاويه، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من أحبوا. قال عمرو: فقد رضيت بذلك، وهو الرأي الذى فيه صلاح الناس. قال: فافترقا على ذلك، واقبل ابن عباس الى ابى موسى، فخلا به، وقال: ويحك يا أبا موسى، احسب والله عمرا قد اختدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم بعده، فان عمرا رجل غدار، ولست آمن ان يكون قد أعطاك الرضى فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في الناس خالفك، قال ابو موسى: قد اتفقنا على امر لا يكون لأحدنا على صاحبه فيه خلاف ان شاء الله اعلان الحكم فلما أصبحوا من غد خرجوا الى الناس، وهم مجتمعون في المسجد الجامع، فقال ابو موسى لعمرو: اصعد المنبر، فتكلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فقال عمرو: ما كنت اتقدمك وأنت افضل منى فضلا، واقدم هجره وسنا. فبدا ابو موسى، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: ايها الناس، انا قد نظرنا فيما يجمع الله به الفه هذه الامه ويصلح امرها، فلم نر شيئا هو ابلغ في ذلك من خلع هذين الرجلين، على ومعاويه، وتصييرها شورى ليختار الناس لأنفسهم من راوه لها أهلا، وانى قد خلعت عليا ومعاويه، فاستقبلوا امركم، وولوا عليكم من احببتم ثم نزل. وصعد عمرو، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: ان هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، الا وانى قد خلعت صاحبه كما خلعه، واثبت صاحبي معاويه، فانه ولى امير المؤمنين عثمان، والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه. فقال له ابو موسى: مالك، لا وفقك الله، غدرت وفجرت، وانما مثلك مثل الكلب، ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث. فقال له عمرو: ومثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. وحمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه [1] بالسوط، وحجز الناس بينهما، وكان شريح يقول: ما ندمت على شيء قط كندامتى الا أكون ضربته مكان السوط بالسيف، اتى الدهر في ذلك بما اتى. وانسل ابو موسى، فركب راحلته، وهرب، حتى لحق بمكة، فكان ابن عباس يقول: لحى الله أبا موسى، لقد نبهته فما انتبه، وحذرته بما صار اليه فما انحاش [2] . وكان ابو موسى يقول: لقد حذرني ابن عباس غدر عمرو، فاطمأننت اليه، ولم أظن انه يؤثر شيئا على نصيحه المسلمين. 2201   [1] علاه به. [2] ما ينحاش لشيء اى ما يكترث له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 مبايعه معاويه ثم انصرف عمرو واهل الشام الى معاويه، فسلموا عليه بالخلافة. واقبل ابن عباس وشريح بن هانئ ومن كان معهما من اهل العراق الى على، فاخبروه الخبر، فقام سعيد بن قيس الهمدانى، فقال: والله لو اجتمعنا على الهدى ما زادنا على ما نحن عليه بصيره. ثم تكلم عامه الناس بنحو من هذا. فتنه الخوارج قالوا: ولما بلغ اهل العراق ما كان من امر الحكمين لقيت الخوارج بعضها بعضا، واتعدوا ان يجتمعوا عند عبد الله بن وهب الراسبى، فاجتمع عنده عظماؤهم وعبادهم، فكان أول من تكلم منهم عبد الله بن وهب، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: معاشر إخواني، ان متاع الدنيا قليل، وان فراقها وشيك، فاخرجوا بنا منكرين لهذه الحكومة، فانه لا حكم الا لله، وإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. ثم تكلم حمزه بن سيار، فقال: الرأي ما رايتم، ومنهج الحق فيما قلتم، فولوا امركم رجلا منكم، فانه لا بد لكم من قائد وسائس ورايه تحفون بها، وترجعون إليها. فعرضوا الأمر على يزيد بن الحصين، وكان من عبادهم، فأبى ان يقبلها، ثم عرضوها على ابن ابى اوفى العبسى، فأبى ان يقبلها، ثم عرضوها على عبد الله ابن وهب الراسبى، فقال: هاتوها، فو الله ما اقبلها رغبه في الدنيا، ولا فرارا من الموت، ولكن اقبلها لما أرجو فيها من عظيم الاجر. ثم مد يده، فقاموا اليه، فبايعوه، فقام فيهم خطيبا، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي ص، ثم قال: اما بعد، فان الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقول بالحق والجهاد في سبيله إِنَّ الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، وقال الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، واشهد على ان اهل دعوتنا من اهل ديننا ان قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب وجاروا في الحكم، وان جهادهم لحق، فاقسم بمن تعنو له الوجوه وتخشع له الابصار، لو لم أجد على قتالهم مساعدا لقاتلتهم وحدي حتى القى ربى شهيدا. فلما سمع ذلك عبد الله بن السخبر، وكان من اصحاب البرانس [1] استعبر باكيا، ثم قال: لحى الله امرأ لا يكون تشريح ما بين عظمه ولحمه وعصبه ايسر عنده من سخط الله عليه في لحظه يسعى بها على مقته، فكيف وانما تريدون بذلك وجه الله، يا اخوتى، تقربوا الى الله ببغض من عصاه، واخرجوا اليهم، فاضربوا وجوههم بالسيوف حتى يطاع الله يثبكم ثواب المطيعين العاملين بمرضاته، القائمين بحقوقه، فان تظفروا فالغنيمة والفتح، وان تغلبوا فأي شيء افضل من المصير الى رضوان الله وجنته ثم افترقوا يومهم ذلك. فلما كان من الغد اقبل عبد الله بن وهب الراسبى في نفر من اصحابه حتى دخل على شريح بن ابى اوفى العبسى، وكان من عظمائهم، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: اما بعد، فان هذين الحكمين قد حكما بغير ما انزل الله، وقد كفر إخواننا حين رضوا بهما، وحكموا الرجال في دينهم، ونحن على الشخوص من بين اظهرهم، وقد أصبحنا والحمد لله ونحن على الحق من بين هذا الخلق. فقال شريح: انذر أصحابك. واعلمهم خروجك، ثم اخرج بنا على بركة الله حتى ناتى المدائن، فننزلها، ونرسل الى إخواننا الذين بالبصرة، فيقدموا علينا، فتكون ايديهم مع أيدينا.   [1] البرنس كل ثوب راسه منه ملتزق به، ذراعه كان او ممطرا او جبه، وقال الجوهرى، الرنس: قلنسوة كبيره، وكان النساك يلبسونها في صدر الاسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فقال يزيد بن حصين الطائي: انكم ان خرجتم بجماعتكم طلبتم، ولكن اخرجوا فرادى مستخفين، فاما المدائن فان بها من يمنع منها، ولكن توعدوا ان توافوا جسر النهروان، فتقيموا هناك، وتكتبوا الى إخوانكم من اهل البصره ان يوافوكم بها. قالوا: هذا الرأي. فاتفقوا على ذلك، وانذروا جميعا اصحابهم، فاستعدوا للخروج فرادى، وكتبوا الى من كان منهم بالبصرة: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن وهب، ويزيد بن الحصين، وحرقوص بن زهير، وشريح ابن ابى اوفى الى من بلغه كتابنا بالبصرة من المؤمنين المسلمين، سلام عليكم، فانا نحمد الله إليكم الذى لا اله الا هو، الذى جعل أحب عباده اليه اعملهم بكتابه، واقومهم بالحق في طاعته، واشدهم اجتهادا في مرضاته، وان اهل دعوتنا حكموا الرجال في امر الله، فحكموا بغير ما في كتاب الله ولا في سنه نبى الله، فكفروا لذلك، وصدوا عن سواء السبيل، وقد نابذناهم على سواء، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ، اما بعد، فقد اجتمعنا بجسر النهروان، فسيروا إلينا رحمكم الله لتاخذوا نصيبكم من الاجر والثواب، وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وكتابنا هذا إليكم مع رجل من إخوانكم ذي امانه ودين، فسلوه عما احببتم، واكتبوا إلينا بما رايتم، والسلام. ثم وجهوا كتابهم مع عبد الله بن سعد العبسى، فسار حتى البصره، واوصل الكتاب الى اصحابه، فاجتمعوا فقرؤوه، ثم كتبوا اليهم بوشك موافاتهم. ثم ان القوم خرجوا من الكوفه عباديد، الرجل والرجلين والثلاثة، وخرج يزيد بن الحصين على بغله يقود فرسا، وهو يتلو هذه الآية [1] : فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ، قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ، قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. وسار حتى انتهى الى السيب [2] ، فاجتمع   [1] سوره القصص الآية العشرون. [2] السيب: مجرى الماء ويطلق لفظ السيبه الان على ناحيه في العراق على الضفة اليسرى من شط العرب قباله مدينه عبادان الايرانيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 اليه جمع كثير من اصحابه، وفيهم زيد بن عدى بن حاتم، فخرج عدى في طلب ابنه حتى انتهى الى المدائن، فلم يلحقه، فاتى سعد بن مسعود الثقفى، وكان سعد عامل على على المدائن، فاخذ حذره، وتحاماه القوم. وخرج عبد الله بن وهب الراسبى في جوف الليل، والتام اليه جميع اصحابه، فصاروا جمعا كبيرا منهم، فأخذوا على الأنبار، وتبطنوا شط الفرات حتى عبروا من قبل دير العاقول فاستقبله عدى بن حاتم، وهو منصرف الى الكوفه، فاردا عبد الله اخذه، فمنعه منه عمرو بن مالك النبهاني وبشير بن يزيد البولانى، وكانا من رؤساء الخوارج، فاستخلف سعد بن مسعود على المدائن ابن أخيه، المختار ابن ابى عبيد، وخرج في طلب عبد الله بن وهب واصحابه، فلقيهم بكرخ بغداد مع مغيب الشمس، وسعد في خمسمائة فارس، والخوارج ثلاثون رجلا، فتناوشوا ساعه، فقال اصحاب سعد لسعد: ايها الأمير، ما تريد الى قتال هؤلاء، ولم يأتك فيهم أمر؟ خل سبيلهم، واكتب الى امير المؤمنين تعلمه امرهم، فمضى وتركهم. وسار عبد الله بن وهب، فمر ببغداد، وأخذ دهاقينها بالمعابر، وذلك قبل ان تبنى بغداد، فأتاه الدهقان بها، فعبر الى ارض جوخى ثم مضى من هناك حتى انضم الى اصحابه، وهم بنهروان [1] ، ووافاهم من كان على رأيهم من اهل البصره، وكانوا خمسمائة رجل. قتال الخوارج [2] وكان على البصره يومئذ عبد الله بن العباس، فلما بلغه خروجهم وجه في طلبهم أبا الأسود الديلى في الف فارس، فلحقهم بجسر تستر، وحال بينهم الليل، ففاتوه   [1] بلد في العراق واقعه بين بغداد وواسط، وقد حدثت فيها الوقعه بين على بن ابى طالب والخوارج سنه 658 م. [2] كان في سنه 39 هـ 659. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وكانوا في جميع مسيرهم لا يلقون أحدا الا قالوا له: ما تقول في الحكمين؟ فان تبرا منهما تركوه، وان ابى قتلوه. ثم أقبلوا حتى انتهوا الى دجلة، فعبروها من ناحيه صريفين [1] حتى وافوا نهروان، فكتب اليهم على رضى الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله على امير المؤمنين الى عبد الله بن وهب الراسبى ويزيد بن الحصين ومن قبلهما، سلام عليكم، فان الرجلين اللذين ارتضيناهما للحكومة خالفا كتاب الله، واتبعا هواهما بغير هدى من الله، فلما لم يعملا بالسنه ولم يحكما بالقرآن تبرأنا من حكمهما، ونحن على امرنا الاول، فاقبلوا الى رحمكم الله، فانا سائرون الى عدونا وعدوكم، لنعود لمحاربتهم حتى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وبينهم، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. فلما وصل اليهم كتابه، كتبوا اليه: اما بعد، فإنك لم تغضب لربك، ولكن غضبت لنفسك، فان شهدت على نفسك انك كفرت فيما كان من تحكيمك الحكمين، واستانفت التوبة والايمان نظرنا فيما سالتنا من الرجوع إليك، وان تكن الاخرى، فاننا ننابذك على سواء، أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. فلما قرأ على كتابهم، يئس منهم، وراى ان يدعهم على حالهم، ويسير الى الشام، ليعاود معاويه الحرب، فسار بالناس حتى عسكر بالنخيلة، وقال لأصحابه: تأهبوا للمسير الى اهل الشام، فانى كاتب الى جميع إخوانكم ليقدموا عليكم، فإذا وافوا شخصنا ان شاء الله. ثم كتب كتابه الى جميع عماله ان يخلفوا خلفاءهم على اعمالهم، ويقدموا عليه، وكتب الى عبد الله بن عباس، وكان على البصره: اما بعد، فانا قد عسكرنا بالنخيلة، وقد أزمعنا على المسير الى عدونا، الى اهل الشام، فاشخص الى فيمن قبلك حين يأتيك كتابي والسلام. فقدم عليه عبد الله بن عباس في فرسان البصره، وكانوا زهاء سبعه آلاف رجل   [1] قريه من قرى الكوفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فلما تهيأ للمسير أتاه عن الخوارج اخبار فظيعه، من قتلهم عبد الله بن خباب وامراته. وذلك انهم لقوهما، فقالوا لهما: ارضيتما بالحكمين؟ قالا: نعم. فقتلوهما، وقتلوا أم سنان الصيداويه، واعتراضهم الناس يقتلونهم. فلما بلغه ذلك بعث اليهم الحارث بن مره الفقعسي ليأتيه بخبرهم، فاخذوه، فقتلوه. فلما بلغ الناس ذلك اجتمعوا الى على، فقالوا: يا امير المؤمنين، اتدع هؤلاء على ضلالتهم وتسير، فيفسدوا في الارض، ويعترضوا الناس بالسيف؟ سر اليهم بالناس، وادعهم الى الرجوع الى الطاعة والجماعه، فان تابوا وقبلوا فان الله يحب التوابين، وان أبوا فاذنهم بالحرب، فإذا ارحت الامه منهم سرت الى الشام. فنادى في الناس بالرحيل، وسار حتى ورد عليهم نهروان، فعسكر على فرسخ منهم، وارسل اليهم قيس بن سعد بن عباده، وأبا أيوب الأنصاري، فاتياهم، فقالا: عباد الله، انكم قد ارتكبتم امرا عظيما باستعراضكم الناس تقتلونهم، وشهادتكم علينا «بالشرك، والشرك ظلم عَظِيمٌ» . فأجابهما عبد الله بن السخبر، فقال: إليكما عنا، فان الحق قد أضاء لنا كالصبح، ولسنا بمتابعيكم ولا راجعين إليكم، او تأتوا بمثل عمر بن الخطاب. فقال قيس بن سعد ما نعرفه فينا الا على بن ابى طالب فهل تعرفونه فيكم؟. قالا: لا. قال: فأنشدكم الله في انفسكم ان تهلكوها، فانى ارى الفتنة قد دخلت قلوبكم. ثم تكلم ابو أيوب بنحو هذا، فقالوا: يا أبا أيوب، انا ان بايعناكم اليوم حكمتم غدا آخر. قال: فانا ننشدكم الله ان تعجلوا فتنه العام مخافه ما ناتى به في قابل. قالوا: إليكما عنا، فقد نابذناكم على سواء. فانصرفا الى على، فأخبراه حتى وقف عليهم بحيث يسمعون كلامه، فنادى: [أيتها العصابة التي أخرجتها اللجاجه، وصدها عن الحق الهوى، فأصبحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 في لبس وخطا، انى نذير لكم ان تتمادوا في ضلالتكم فتلفوا مصرعين من غير بينه من ربكم ولا برهان، الم تعلموا انى شرطت على الحكمين ان يحكما بما في كتاب الله؟ وأخبرتكم ان طلب القوم الحكومة مكيده، فلما ابيتم الا الحكومة شرطت عليهم ان يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن، فخالفا الكتاب والسنه، وعملا بالهوى، فنبذنا امرهما، ونحن على امرنا الاول، فأين يتاه بكم، ومن اين اتيتم؟] . فقالوا: انا كفرنا حين رضينا بالحكمين، وقد تبنا الى الله من ذلك، فان تبت كما تبنا فنحن معك، والا فائذن بحرب، فانا منابذوك على سواء. فقال لهم على: اشهد على نفسي بالكفر..؟! لقد ضللت اذن وما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ. ثم قال: ليخرج الى رجل منكم ترضون به حتى اقول ويقول، فان وجبت على الحجه اقررت لكم وتبت الى الله، وان وجبت عليكم فاتقوا الذى مردكم اليه. فقالوا لعبد الله بن الكواء، وكان من كبرائهم: اخرج اليه حتى تحاجه، فخرج اليه. فقال على: هل رضيتم؟. قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، «فكفى بك شَهِيداً» *. فقال على رضى الله عنه: يا ابن الكواء، ما الذى نقمتم على بعد رضاكم بولايتي وجهادكم معى وطاعتكم لي؟ فهلا برئتم منى يوم الجمل؟. قال ابن الكواء: لم يكن هناك تحكيم. فقال على: يا ابن الكواء، انا اهدى أم رسول الله ص؟. قال ابن الكواء: بل رسول الله ص. قال: فما سمعت قول الله عز وجل:: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ. كان الله يشك انهم هم الكاذبون؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قال: ان ذلك احتجاج عليهم، وأنت شككت في نفسك حين رضيت بالحكمين، فنحن احرى ان نشك فيك. قال: وان الله تعالى يقول: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ الله، هُوَ أَهْدى مِنْهُما، أَتَّبِعْهُ. قال ابن الكواء: ذلك أيضا احتجاج منه عليهم. فلم يزل على ع يحاج ابن الكواء بهذا وشبهه، فقال ابن الكواء: أنت صادق في جميع ما تقول، غير انك كفرت حين حكمت الحكمين. قال على: ويحك يا ابن الكواء، انى انما حكمت أبا موسى وحده وحكم معاويه عمرا. قال ابن الكواء: فان أبا موسى كان كافرا. فقال على: ويحك، متى كفر، احين بعثته أم حين حكم؟. قال: لا، بل حين حكم. قال: افلا ترى انى انما بعثته مسلما، فكفر في قولك بعد ان بعثته؟ ارايت لو ان رسول الله ص بعث رجلا من المسلمين الى اناس من الكافرين، ليدعوهم الى الله، فدعاهم الى غيره، هل كان على رسول الله ص من ذلك شيء؟. قال: لا. قال: ويحك، فما كان على ان ضل ابو موسى؟ افيحل لكم بضلاله ابى موسى ان تضعوا سيوفكم على عواتقكم فتعترضوا بها الناس؟. فلما سمع عظماء الخوارج ذلك قالوا لابن الكواء: انصرف ودع مخاطبه الرجل. فانصرف الى اصحابه، وابى القوم الا التمادي في الغى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وامر على بالنداء في الناس ان يأخذوا اهبه الحرب، ثم عبى جنوده، فولى الميمنه حجر بن عدى، وولى الميسره شبث بن ربعي، وولى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وولى الرجاله أبا قتادة. واستعد الخوارج فجعلوا على ميمنتهم يزيد بن حصين، وعلى ميسرتهم شريح ابن ابى اوفى العبسى وكان من نساكهم وعلى الرجاله حرقوص بن زهير، وعلى الخيل كلها عبد الله بن وهب. ورفع على رايه، وضم إليها الفى رجل، ونادى: من التجأ الى هذه الراية فهو آمن. ثم تواقف الفريقان، فقال فروه بن نوفل الاشجعى وكان من رؤساء الخوارج لأصحابه: يا قوم، والله ما ندري، علام نقاتل عليا، وليست لنا في قتله حجه ولا بيان، يا قوم، انصرفوا بنا حتى تنفذ لنا البصيره في قتاله او اتباعه. فترك اصحابه في مواقفهم، ومضى في خمسمائة رجل حتى اتى الى البندنيجين [1] ، وخرجت طائفه اخرى حتى لحقوا بالكوفه، واستامن الى الراية منهم الف رجل، فلم يبق مع عبد الله بن وهب الا اقل من اربعه آلاف رجل. فقال على لأصحابه: لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم، فتنادت الخوارج: لا حكم الا لله، «وان كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» . * ثم شدوا على اصحاب على شده رجل واحد، فلم تثبت خيل على لشدتهم، وافترقت الخوارج فرقتين، فرقه أخذت نحو الميمنه، وفرقه اخرى نحو الميسره. وعطف عليهم اصحاب على، وحمل قيس بن معاويه البرجمى من اصحاب على على شريح بن ابى اوفى، فضربه بالسيف على ساقه، فأبانها، فجعل يقاتل برجل واحده وهو يقول: الفحل يحمى شوله معقولا [2] ، فحمل عليه قيس ابن سعد فقتله، وقتلت الخوارج كلها ربضه [3] واحده.   [1] بلده مشهوره في طرف النهروان من ناحيه الجبل، وهي من اعمال بغداد. [2] عقل الفحل: ثنى وظيفه مع ذراعه وشدهما في وسط ذراعه والشول: جمع شائل وهو الناقه اللاقح التي تشول بذنبها آيه لقاحها. [3] مقتل كل قوم قتلوا في بقعه واحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 قال: وامر على بمن كان منهم ذا رمق ان يدفعوا الى عشائرهم، وامر بأخذ ما كان في معسكرهم من سلاح ودواب، فقسمه في اصحابه، وامر بما سوى ذلك، فدفع الى وراثهم. فلما اراد على الانصراف من النهروان قام في اصحابه، فقال: ايها الناس، ان الله قد نصركم على المارقين، فتوجهوا من فوركم هذا الى القاسطين يعنى اهل الشام، فقام اليه رجال من اصحابه، فيهم الاشعث بن قيس، فقالوا: يا امير المؤمنين، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت اسنه رماحنا، فارجع بنا الى مصرنا، لنستعد باحسن عدتنا. فرحل بالناس حتى نزل النخيله، فعسكر بها، فأقاموا أياما، فجعلوا يتسللون الى الكوفه، فلم يبق معه في المعسكر الا زهاء الف رجل من الوجوه. فلما راى ذلك دخل الكوفه، فأقام بها، وسار فروه بن نوفل بمن كان معه الى حلوان، فجعل يجبى خراجها ويقسمه في اصحابه. نهاية على بن ابى طالب قالوا ولما راى على رضى الله عنه تثاقل اصحابه اهل الكوفه عن المسير معه الى قتال اهل الشام، وانتهى اليه ورود خيل معاويه الأنبار، وقتلهم مسلحه على بها والغارة عليها، كتب كتابا، ودفعه الى رجل، وامره ان يقرأه على الناس يوم الجمعه إذا فرغوا من الصلاة، وكانت نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله على امير المؤمنين الى شيعته من اهل الكوفه، سلام عليكم، اما بعد، [فان الجهاد باب من أبواب الجنه، من تركه البسه الله الذلة وشمله بالصغار، وسيم الخسف وسيل [1] الضيم،] وانى قد دعوتكم الى جهاد هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرا وجهارا، وقلت لكم، [اغزوهم قبل ان يغزوكم، فما غزى قوم في عقر دارهم الا ذلوا واجترأ عليهم عدوهم،] هذا أخو بنى عامر قد ورد الأنبار، وقتل   [1] كذا في الأصل، وفي روايات اخرى ومنع النصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ابن حسان البكرى، وأزال مسالحكم عن مواضعها، وقتل منكم رجالا صالحين، وقد بلغنى انهم كانوا يدخلون بيت المرأة المسلمه والاخرى المعاهده [1] فينزع حجلها [2] من رجلها، وقلائدها من عنقها، وقد انصرفوا موفورين، ما كلم رجل منهم كلما، فلو ان أحدا مات من هذا أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان جديرا، يا عجبا من امر يميت القلوب، ويجتلب الهم ويسعر الأحزان من اجتماع القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، فبعدا لكم وسحقا، قد صرتم غرضا، ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله فترضون، إذا قلت لكم سيروا في الشتاء قلتم كيف نغزو في هذا القر والصر [3] وان قلت لكم سيروا في الصيف قلتم حتى ينصرم عنا حماره القيظ، وكل هذا فرار من الموت، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف افر، والذى نفسي بيده، ما من ذلك تهربون، ولكن من السيف تحيدون، يا اشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال، اما والله لوددت ان الله أخرجني من بين أظهركم وقبضنى الى رحمته من بينكم، ووددت ان لم أركم ولم اعرفكم، فقد والله ملأتم صدري غيظا، وجرعتموني الأمرين أنفاسا، وافسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: ان ابن ابى طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب. لله ابوهم، هل كان فيهم رجل أشد لها مراسا واطول مقاساه مني؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها انا ذا اليوم قد جنفت الستين. لا، ولكن [لا راى لمن لا يطاع. ] فقام اليه الناس من كل ناحيه، فقالوا: سر بنا، فو الله لا يتخلف عنك الا ظنين. فامر الحارث الهمدانى بالنداء في الناس ان يصبحوا غدا في الرحبه [4] ، ولا يأتينا الا صادق النيه. فلما اصبح صلى الغداة، واقبل الى الرحبه، فلم ير فيها الا نحو من ثلاثمائه   [1] هي التي لها عهد من اهل الذمة.، [2] الحجل بالكسر الخلخال. [3] القرو الصر شده البرد. [4] الرحبه: مدينه موقعها على الفرات الأوسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 رجل، فقال: لو كانوا ألوفا لكان لي فيهم راى. فمكث بعد ذلك يومين، باد حزنه، شديد كآبته. فقام اليه حجر بن عدى، وسعيد بن قيس الهمدانى، فقالا: اجبر الناس على المسير، وناد فيهم، فمن تخلف، فمر بمعاقبته. فامر مناديا، فنادى في الناس: لا يتخلفن احد، وامر معقل بن قيس ان يسير في الرساتيق [4] فلا يدع أحدا من جنوده فيها الا حشره. فلم ينصرف معقل بن قيس الا بعد ما قتل على رضي الله عنه. مقتل على بن ابى طالب قالوا: واجتمع في العام [2] قتل فيه على رضي الله عنه بالموسم عبد الرحمن ابن ملجم المرادى، والنزال بن عامر، وعبد الله بن مالك الصيداوى، وذلك بعد وقعه النهر باشهر، فتذكروا ما فيه الناس من تلك الحروب، فقال بعضهم لبعض: ما الراحة الا في قتل هؤلاء النفر الثلاثة: على بن ابى طالب، ومعاويه ابن ابى سفيان، وعمرو بن العاص. فقال ابن ملجم: على قتل على. وقال النزال: وعلى قتل معاويه. وقال عبد الله: وعلى قتل عمرو. فاتعدوا لليلة واحده، يقتلونهم فيها. واقبل عبد الرحمن حتى قدم الكوفه، فخطب الى قطام ابنتها الرباب، وكانت قطام ترى راى الخوارج، وقد كان على قتل أباها وأخاها وعمها يوم النهر، فقالت لابن ملجم: لا ازوجك الا على ثلاثة آلاف درهم، وعبد، وقينة، وقتل على ابن ابى طالب. فأعطاها ذلك وأملكها.   [4] كلمه فارسيه معربه جمع رستاق وهو السواد من الارض. [2] سنه 40 هـ 660 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وكان ابن ملجم يجلس في مجلس تيم الرباب من صلاه الغداة الى ارتفاع النهار، والقوم يفيضون في الكلام، وهو ساكت، لا يتكلم بكلمة، للذي اجمع عليه من قتل على. فخرج ذات يوم الى السوق متقلدا سيفه، فمرت به جنازة يشيعها اشراف العرب، ومعها القسيسون يقرءون الانجيل، فقال: ويحكم، ما هذا؟ فقالوا: هذا ابجر بن جابر العجلى مات نصرانيا، وابنه حجار بن ابجر سيد بكر ابن وائل، فاتبعها اشراف الناس لسؤدد ابنه، واتبعها النصارى لدينه. فقال: والله لولا انى ابقى نفسي لامر هو اعظم عند الله من هذا لاستعرضتهم بسيفي فلما كانت تلك الليلة تقلد سيفه، وقد كان سمه، وقعد مغلسا ينتظر ان يمر به على رضى الله عنه مقبلا الى المسجد لصلاة الغداة. فبينا هو في ذلك إذ اقبل على، وهو ينادى: الصلاة ايها الناس فقام اليه ابن ملجم، فضربه بالسيف على راسه، وأصاب طرف السيف الحائط، فثلم فيه، ودهش ابن ملجم، فانكب لوجهه، وبدر السيف من يده، فاجتمع الناس، فاخذوه، فقال الشاعر في ذلك: ولم أر مهرا ساقه ذو سماحه ... كمهر قطام من فصيح واعجم ثلاثة آلاف وعبدا وقينة ... وضرب على بالحسام المصمم فلا مهر اغلى من على وان غلا ... ولا فتك الا دون فتك ابن ملجم وحمل على رضى الله عنه الى منزله، وادخل عليه ابن ملجم. فقالت له أم كلثوم ابنه على: يا عدو الله، اقتلت امير المؤمنين؟. قال: لم اقتل امير المؤمنين، ولكنى قتلت اباك. قالت: اما والله انى لأرجو الا يكون عليه باس. قال: فعلا م تبكين إذن؟ اما والله لقد سممت السيف شهرا، فان اخلفنى ابعده الله. فلم يمس على رضى الله عنه يومه ذلك حتى مات رحمه الله ورضى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 القصاص فدعا عبد الله بن جعفر بابن ملجم، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه، فجعل يقول: انك يا ابن جعفر لتكحل عيني بملمول مض [1] . ثم امر بلسانه ان يخرج ليقطع، فجزع من ذلك. فقال له ابن جعفر: قطعنا يديك ورجليك، وسملنا عينيك، فلم تجزع، فكيف تجزع من قطع لسانك؟. قال: انى ما جزعت من ذلك خوفا من الموت، ولكنى جزعت ان أكون حيا في الدنيا ساعه لا اذكر الله فيها، ثم قطع لسانه، فمات. محاوله قتل معاويه واقبل النزال بن عامر في تلك الليلة حتى قام خلف معاويه وهو يصلى بالناس الغداة، ومعه خنجر، فوجاه [3] به في اليته، وكان معاويه عظيم الأليتين، فاخذ، فقال لمعاوية: أهل قتلتك يا عدو الله؟. فقال معاويه: كلا، يا ابن أخي. فامر به معاويه، فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، فمات. ودعا بطبيب فأمره ان يقطع ما حول الوجاه من اللحم، خوفا من ان يكون الخنجر مسموما. فمن يومئذ اتخذت المقاصير في الجوامع، فكان لا يدخلها الا ثقاته واحراسه، واتخذ أيضا من يومئذ حراس الليل، وكان إذا سجد بالناس جعل على راسه عشره من ثقات احراسه، يقومون من خلفه بالسيوف والعمد. محاوله قتل عمرو بن العاص واما عبد الله بن مالك الصيداوى فانه اتى مصر، فلما كان في تلك الليلة قام   [1] اى بمكحال حار محرق. [3] ضربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 حيال المحراب، ومعه مشمل [1] قد اشتمل عليه بثيابه، فأصاب عمرا في تلك الليلة مغس [2] في بطنه، فأمر رجلا من بني عامر بن لؤي أن يخرج فيصلي بالناس. فتقدم مغلسا، فلم يشك عبد الله انه عمرو، فلما سجد ضربه بالسيف من ورائه فقتله، فقيل له: انك لم تقتل الأمير، قال: فما ذنبي، والله ما اردت غيره. فامر به عمرو فقتل. مبايعه الحسن بن على قال: ودفن على رضى الله عنه، وصلى عليه الحسن، وكبر خمسا، فلا يعلم احد اين دفن. قالوا: ولما توفى على رضى الله عنه خرج الحسن الى المسجد الأعظم، فاجتمع الناس اليه، فبايعوه، ثم خطب الناس، فقال: افعلتموها؟ قتلتم امير المؤمنين، اما والله لقد قتل في الليلة التي نزل فيها القرآن، ورفع فيها الكتاب، وجف القلم، وفي الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران، وعرج فيها بعيسى. زحف جيوش معاويه قالوا: ولما بلغ معاويه قتل على تجهز، وقدم امامه عبد الله بن عامر بن كريز، فاخذ على عين التمر [3] ، ونزل الأنبار يريد المدائن، وبلغ ذلك الحسن بن على، وهو بالكوفه، فسار نحو المدائن لمحاربه عبد الله بن عامر بن كريز، فلما انتهى الى ساباط راى من اصحابه فشلا وتواكلا عن الحرب، فنزل ساباط، وقام فيهم خطيبا، ثم قال: ايها الناس، انى قد اصبحت غير محتمل على مسلم ضغينه،   [1] المشمل: السيف القصير، يشتمل عليه الرجل فيغطيه بثوبه. [2] المغس: لغة في المغص، وهو وجع وتقطيع يأخذ في البطن. [3] ناحيه في العراق من اعمال قضاء كربلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وانى ناظر لكم كنظرى لنفسي، وارى رايا فلا تردوا على رأيي، ان الذى تكرهون من الجماعه افضل مما تحبون من الفرقة، وارى اكثركم قد نكل عن الحرب، وفشل عن القتال، ولست ارى ان احملكم على ما تكرهون. فلما سمع اصحابه ذلك نظر بعضهم الى بعض، فقال من كان معه ممن يرى راى الخوارج: كفر الحسن كما كفر أبوه من قبله، فشد عليه نفر منهم، فانتزعوا مصلاه من تحته، وانتهبوا ثيابه حتى انتزعوا مطرفه [1] عن عاتقه، فدعا بفرسه، فركبها، ونادى: اين ربيعه وهمدان؟ فتبادروا اليه، ودفعوا عنه القوم. ثم ارتحل يريد المدائن، فكمن له رجل ممن يرى راى الخوارج، يسمى الجراح بن قبيصة من بنى اسد بمظلم ساباط، فلما حاذاه الحسن قام اليه بمغول [2] فطعنه في فخذه. وحمل على الأسدي عبد الله بن خطل وعبد الله بن ظبيان، فقتلاه. ومضى الحسن رضى الله عنه مثخنا حتى دخل المدائن، ونزل القصر الأبيض، وعولج حتى برا، واستعد للقاء ابن عامر. واقبل معاويه حتى وافى الأنبار، وبها قيس بن سعد بن عباده من قبل الحسن فحاصره معاويه، وخرج الحسن فواقف عبد الله بن عامر، فنادى عبد الله بن عامر: يا اهل العراق، انى لم أر القتال، وانما انا مقدمه معاويه، وقد وافى الأنبار في جموع اهل الشام فاقرؤوا أبا محمد يعنى الحسن منى السلام، وقولوا له: أنشدك الله في نفسك وانفس هذه الجماعه التي معك. فلما سمع ذلك الناس انخذلوا وكرهوا القتال، وترك الحسن الحرب، وانصرف الى المدائن، وحاصره عبد الله بن عامر بها.   [1] المطرف واحد المطارف وهي ارديه من خز مربعه لها اعلام. [2] المغول: سوط في جوفه سيف دقيق يشده الفاتك على وسطه ليغتال به الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 [ خلافة بني أمية ] مبايعه معاويه بالخلافة ولما راى الحسن من اصحابه الفشل ارسل الى عبد الله بن عامر بشرائط اشترطها على معاويه على ان يسلم له الخلافه، وكانت الشرائط: الا يأخذ أحدا من اهل العراق بإحنة، وان يؤمن الأسود والأحمر، ويحتمل ما يكون من هفواتهم، ويجعل له خراج الاهواز مسلما في كل عام، ويحمل الى أخيه الحسين بن على في كل عام الفى الف، ويفضل بنى هاشم في العطاء والصلات على بنى عبد شمس. فكتب عبد الله بن عامر بذلك الى معاويه، فكتب معاويه جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه له العهود المركبه والايمان المغلظة، واشهد على ذلك جميع رؤساء الشام، ووجه به الى عبد الله بن عامر، فاوصله الى الحسن رضى الله عنه، فرضى به، وكتب الى قيس بن سعد بالصلح، ويأمره بتسليم الأمر الى معاويه، والانصراف الى المدائن. فلما وصل الكتاب بذلك الى قيس بن سعد قام في الناس، فقال: ايها الناس، اختاروا احد الأمرين، القتال بلا امام، او الدخول في طاعه معاويه. فاختاروا الدخول في طاعته معاويه. فسار حتى وافى المدائن، وسار الحسن بالناس من المدائن حتى وافى الكوفه، ووافاه معاويه بها، فالتقيا، فوكد عليه الحسن رضى الله عنه تلك الشروط والايمان. ثم سار الحسن باهل بيته حتى وافى مدينه الرسول ص. وأخذ معاويه اهل الكوفه بالبيعه، فبايعوا، واستعمل عليهم المغيره بن شعبه، وسار منصرفا في جموعه الى الشام، فمكث المغيره بن شعبه على الكوفه من قبل معاويه تسع سنين حتى مات بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 زياد بن ابيه وكان زياد بن ابيه انما يعرف بزياد بن عبيد، وكان عبيد مملوكا لرجل من ثقيف، فتزوج سميه، وكانت أمه للحارث بن كلده، فأعتقها، فولدت له زيادا، فصار حرا، ونشا غلاما لقنا ذهنا، عاقلا أديبا، فاخرجه المغيره بن شعبه معه الى البصره حين وليها من قبل عمر بن الخطاب، فاستكتبه المغيره. فلما ولى على بن ابى طالب ولى زيادا ارض فارس، فلما توجه الى صفين كتب معاويه الى زياد يتوعده، فقام زياد في الناس، فقال: ان ابن آكله الأكباد وراس النفاق كتب الى يتوعدنى، وبيني وبينه ابن عم رسول الله ص وسلم في تسعين الف مدجج من شيعته، اما والله لئن رامنى ليجدني ضرابا بالسيف. فلما قتل على، واستدف الأمر لمعاوية تحصن زياد بقلعه مدينه اصطخر، وكتب معاويه له أمانا على ان يأتيه، فان رضى ما يعطيه، والا رده الى متحصنه بتلك القلعة. فسار الى معاويه، وترقت به الأمور الى ان ادعاه معاويه، وزعم للناس انه ابن ابى سفيان، وشهد له ابو مريم السلولي وكان في الجاهلية خمارا بالطائف ان أبا سفيان وقع على سميه بعد ما كان الحارث أعتقها، وشهد رجل من بنى المصطلق، اسمه يزيد، انه سمع أبا سفيان يقول: ان زيادا من نطفة أقرها في رحم أمه سميه، فتم ادعاؤه اياه. وكان في ذلك ما كان. وامر معاويه زيادا ان يسير الى الكوفه الى ان يرد عليه امره، فسار زياد حتى قدم الكوفه، وعليها المغيره بن شعبه، فنزل دار سلمان بن ربيعه الباهلى، ووافاه كتاب معاويه بولاية البصره، فسار إليها. فلما وافاها قصد المسجد الجامع، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: انه قد كانت بيني وبين قوم احقاد، وقد جعلتها تحت قدمي، ولست أؤاخذ أحدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 بعداوة، ولا اهتك له قناعا حتى يبدى لي صفحته، فإذا ابداها لم انظره، فمن كان منكم محسنا فليزدد احسانا، ومن كان منكم مسيئا فليقلع عن اساءته، وأعينونا رحمكم الله بالسمع والطاعة. ثم نزل. فلبث على البصره حولين حتى مات المغيره، فكتب اليه معاويه بولاية الكوفه مع البصره، فسار إليها. قالوا: وكان أول من لقى الحسن بن على رضى الله عنه، فندمه على ما صنع، ودعاه الى رد الحرب حجر بن عدى، فقال له يا بن رسول الله، لوددت انى مت قبل ما رايت، أخرجتنا من العدل الى الجور، فتركنا الحق الذى كنا عليه، ودخلنا في الباطل الذى كنا نهرب منه، وأعطينا الدنية من أنفسنا، وقبلنا الخسيسة التي لم تلق بنا. فاشتد على الحسن رضى الله عنه كلام حجر، فقال له [انى رايت هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب ان احملهم على ما يكرهون، فصالحت بقيا على شيعتنا خاصه من القتل، فرايت دفع هذه الحروب الى يوم ما، «فان الله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» . ] قال: فخرج من عنده، ودخل على الحسين رضى الله عنه مع عبيده بن عمرو، فقالا: أبا عبد الله، شريتم الذل بالعز، وقبلتم القليل، وتركتم الكثير، أطعنا اليوم، واعصنا الدهر، دع الحسن وما راى من هذا الصلح، واجمع إليك شيعتك من اهل الكوفه وغيرها، وولنى وصاحبي هذه المقدمه، فلا يشعر ابن هند الا ونحن نقارعه بالسيوف. [فقال الحسين: انا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل الى نقض بيعتنا. ] وروى عن على بن محمد بن بشير الهمدانى، قال: خرجت انا وسفيان ابن ليلى حتى قدمنا على الحسن المدينة، فدخلنا عليه، وعنده المسيب بن نجبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وعبد الله بن الوداك التميمى، وسراج بن مالك الخثعمى، فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، قال: وعليك السلام، اجلس، [لست مذل المؤمنين، ولكنى معزهم، ما اردت بمصالحتى معاويه الا ان ادفع عنكم القتل عند ما رايت من تباطؤ اصحابى عن الحرب، ونكولهم عن القتال، وو الله لئن سرنا اليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر اليه. ] قال: ثم خرجنا من عنده، ودخلنا على الحسين، فأخبرناه بما رد علينا، فقال: صدق ابو محمد، فليكن كل رجل منكم حلسا [1] من احلاس بيته، ما دام هذا الإنسان حيا. موت الحسن بن على ثم ان الحسن رضى الله عنه اشتكى بالمدينة، فثقل، وكان اخوه محمد بن الحنفيه في ضيعه له، فأرسل اليه، فوافى، فدخل عليه، فجلس عن يساره، والحسين عن يمينه، ففتح الحسن عينه، فرآهما، فقال للحسين: يا أخي، اوصيك بمحمد أخيك خيرا، فانه جلده ما بين العينين ثم قال: يا محمد، وانا اوصيك بالحسين، كانفه ووازره. ثم قال ادفنوني مع جدي ص، فان منعتم فالبقيع [2] ثم توفى، فمنع مروان ان يدفن مع النبي ص، فدفن في البقيع. وبلغ اهل الكوفه وفاه الحسن، فاجتمع عظماؤهم فكتبوا الى الحسين رضى الله عنه يعزونه. وكتب اليه جعدة بن هبيرة بن ابى وهب، وكان امحضهم [3] حبا وموده: اما بعد، فان من قبلنا من شيعتك متطلعه انفسهم إليك، لا يعدلون بك أحدا، وقد كانوا عرفوا راى الحسن أخيك في دفع الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك، والغلظه على اعدائك، والشده في امر الله، فان كنت تحب ان تطلب هذا الأمر فاقدم علينا، فقد وطنا أنفسنا على الموت معك   [1] الرجل الحلوس هو الحريص الملازم، ويقال فلان حلس من احلاس البيت للذي لا يبرح البيت. [2] موضع فيه اروم شجر من ضروب شتى، وهو مقبره بالمدينة. [3] في نسخه محضهم، وامحضه الود ومحضه له اخلصه وصدقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فكتب اليهم: اما أخي فأرجو ان يكون الله قد وفقه، وسدده فيما ياتى، واما انا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنه ما دام معاويه حيا، فلن يحدث الله به حدثا وانا حي، كتبت إليكم برأيي والسلام. وانتهى خبر وفاه الحسن الى معاويه كتب به اليه عامله على المدينة مروان فأرسل الى ابن عباس، وكان عنده بالشام قدم عليه وافدا فدخل عليه، فعزاه، واظهر الشماتة بموته، فقال له ابن عباس: لا تشمتن بموته، فو الله لا تلبث بعده الا قليلا. بين معاويه وعمرو بن العاص قالوا: وكتب معاويه الى عمرو بن العاص، وهو على مصر، قد قبضها بالشرط الذى اشترطه على معاويه: اما بعد، فان سؤال اهل الحجاز، وزوار اهل العراق قد كثروا على، وليس عندي فضل من اعطيات الجنود، فاعنى بخراج مصر هذه السنه. فكتب اليه عمرو: معاوي ان تدركك نفس شحيحه ... فما ورثتنى مصر أمي ولا ابى وما نلتها عفوا ولكن شرطتها ... وقد دارت الحرب العوان على قطب ولولا دفاعى الأشعري وصحبه ... لالفيتها ترغو كراغيه السقب [1] فلما رجع الجواب الى معاويه تذمم، فلم يعاوده في شيء من امرها.   [1] السقب: ولد الناقه الذكر ساعه تضعه أمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قالوا: وقد كان معاويه خلف على الكوفه حين شخص منها المغيره بن شعبه، فصعد المنبر يوم الجمعه ليخطب فحصبه حجر بن عدى، وكان من شيعه على، في نفر من اصحابه، فنزل مسرعا من المنبر، ودخل قصر الإمارة، وبعث الى حجر بخمسه آلاف درهم ترضاه بها. فقيل للمغيرة: لم فعلت هذا، وفيه عليك وهن وغضاضه؟ فقال: قد قتلته بها. فلما مات المغيره وجمع معاويه لزياد الكوفه الى البصره، كان يقيم بالبصرة سته اشهر، وبالكوفه مثل ذلك، فخرج في بعض خرجاته الى البصره، وخلف على الكوفه عمرو بن حريث العدوى، فصعد عمرو بن حريث ذات جمعه المنبر ليخطب، وقعد له حجر بن عدى واصحابه فحصبوه [1] ، فنزل من المنبر، فدخل القصر، واغلق بابه. وكتب الى زياد يخبره بما صنع حجر واصحابه، فركب زياد البريد حتى وافى الكوفه، ودخل المسجد، واخرج له سريره من القصر، فجلس عليه، فكان أول من دخل عليه من اشراف الكوفه محمد بن الاشعث بن قيس، فسلم عليه بالإمرة. فقال زياد: لا سلم الله عليك، انطلق فاتنى بابن عمك الساعة. قال محمد بن الاشعث: ما لي ولحجر، انك لتعلم التباعد بيننا. فقال له جرير بن عبد الله: انا آتيك بحجر ايها الأمير، على ان تجعل له الامان، والا تعرض له حتى يلقى معاويه، فيرى فيه رايه. قال: قد فعلت. فاقبل به الى زياد، فامر بحبسه، وامر بطلب اصحابه الذين كانوا معه، فاتى بهم، فوجههم جميعا الى معاويه مع مائه رجل من الجند، فأنشأت أم [2] حجر تقول: ترفع ايها القمر المنير ... ترفع هل ترى حجرا يسير الا يا حجر حجر بنى عدى ... تلقتك البشارة والسرور وان تهلك فكل عميد قوم ... من الدنيا الى هلك يصير   [1] رموه بالحصباء، الحجاره والحصى. [2] وقيل: ابنته هي التي قالت الأبيات فى نسخه اخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وبعث زياد بثلاثة نفر من الشهود، ليشهدوا عنده بما فعل حجر واصحابه، منهم ابو برده بن ابى موسى، وشريح بن هاني الحارثى، وابو هنيده [1] القينى. فاتوا معاويه، وشهدوا عليهم بحصبهم عمرو بن حريث، فامر معاويه بهم، فقتلوا، فدخل مالك بن هبيرة على معاويه فقال: يا امير المؤمنين، اسات في قتلك هؤلاء النفر، ولم يكونوا أحدثوا ما استوجبوا به القتل. فقال معاويه: قد كنت هممت بالعفو عنهم الا ان كتاب زياد ورد على يعلمني انهم رؤساء الفتنة، وانى متى قتلتهم اجتثثت الفتنة من أصلها. ولما قتل حجر بن عدى واصحابه استفظع اهل الكوفه ذلك استفظاعا شديدا، وكان حجر من عظماء اصحاب على، وقد كان على اراد ان يوليه رياسه كنده، ويعزل الاشعث بن قيس، وكلاهما من ولد الحارث بن عمروا آكل المرار [2] ، فأبى حجر بن عدى ان يتولى الأمر والاشعث حي. فخرج نفر من اشراف اهل الكوفه الى الحسين بن على، فاخبروه الخبر، فاسترجع وشق عليه، فأقام أولئك النفر يختلفون الى الحسين بن على، وعلى المدينة يومئذ مروان بن الحكم، فترقى الخبر اليه، فكتب الى معاويه يعلمه ان رجالا من اهل العراق قدموا على الحسين بن على رضى الله عنهما، وهم مقيمون عنده يختلفون اليه، فاكتب الى بالذي ترى. فكتب اليه معاويه: لا تعرض للحسين في شيء، فقد بايعنا، وليس بناقض بيعتنا ولا مخفر ذمتنا. وكتب الى الحسين: اما بعد، فقد انتهت الى امور عنك لست بها حريا،   [1] في نسخه: هبيده. [2] المرار: شجر مر، وآكل المرار كان في نفر من اصحابه في سفر، فأصابهم الجوع، فاما هو فأكل من المرار حتى شبع ونجا، واما اصحابه فلم يطيقوا ذلك حتى هلك اكثرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لان من اعطى صفقه يمينه جدير بالوفاء، فاعلم رحمك الله انى متى أنكرك تستنكرنى، ومتى تكدني اكدك، فلا يستفزنك السفهاء الذين يحبون الفتنة والسلام. فكتب اليه الحسين رضى الله عنه: ما اريد حربك، ولا الخلاف عليك. قالوا: ولم ير الحسن ولا الحسين طول حياه معاويه منه سوءا في أنفسهما ولا مكروها، ولا قطع عنهما شيئا مما كان شرط لهما، ولا تغير لهما عن بر. قالوا: ومكث زياد على المصرين اربع سنين، فحضرته الوفاة عند ما مضى من خلافه معاويه ثلاث عشره سنه، وذلك سنه ثلاث وخمسين. فكتب الى معاويه: اما بعد، فانى كتبت إليك وانا في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وقد وليت الكوفه عبد الله بن خالد بن اسيد، ووليت البصره سمره بن جندب الفزارى، والسلام. فقيل له: لم تولى ابنك عبيد الله احد المصرين؟ وليس بدون واحد من هذين. فقال: ان يك فيه خير فسيسبق الى ذلك عمه معاويه، ثم مات، وصلى عليه ابنه عبيد الله بن زياد، ودفن في مقابر قريش. فتولى عبد الله بن خالد بن اسيد الكوفه ثمانية اشهر، وكتب معاويه الى عبيد الله بن زياد بولاية البصره، وعزل عبد الله بن خالد عن الكوفه، واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري. موت معاويه قالوا: ولما دخلت سنه ستين مرض معاويه مرضه الذى مات فيه، فأرسل الى ابنه يزيد، وكان غائبا عن مدينه دمشق، فلما أبطأ عليه دعا الضحاك بن قيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الفهري، وكان على شرطه، ومسلم بن عقبه، وكان على حرسه، فقال لهما: أبلغا يزيد وصيتي، واعلماه انى آمره في اهل الحجاز ان يكرم من قدم عليه منهم، ويتعهد من غاب عنه من اشرافهم، فإنهم اصله، وانى آمره في اهل العراق ان يرفق بهم ويداريهم ويتجاوز عن زلاتهم، وانى آمره في اهل الشام ان يجعلهم عينيه وبطانته، والا يطيل حبسهم في غير شامهم، لئلا يجروا [1] على اخلاق غيرهم. واعلماه انى لست اخاف عليه الا اربعه رجال: الحسين بن على، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن ابى بكر، وعبد الله بن الزبير. فاما الحسين ابن على فاحسب اهل العراق غير تاركيه حتى يخرجوه، فان فعل، فظفرت به، فاصفح عنه، واما عبد الله بن عمر فانه رجل قد وقذته العباده، وليس بطالب للخلافة الا ان تأتيه عفوا، واما عبد الرحمن بن ابى بكر فانه ليس له في نفسه من النباهة والذكر عند الناس ما يمكنه طلبها، ويحاول التماسها الا ان تأتيه عفوا، واما الذى يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، فان امكنته فرصه وثب فذاك عبد الله بن الزبير، فان فعل وظفرت به، فقطعه اربا اربا الا ان يلتمس منك صلحا، فان فعل فاقبل منه، واحقن دماء قومك بجهدك، وكف عاديتهم بنوالك، وتغمدهم بحلمك. ثم قدم عليه يزيد، فاعاد عليه هذه الوصية، ثم قضى. فاقبل الضحاك بن قيس حتى اتى المسجد الأعظم، فصعد المنبر، ومعه اكفان معاويه، فقال: ايها الناس، ان معاويه بن ابى سفيان كان عبدا من عباد الله، ملكه على عباده، فعاش بقدر ومات باجل، وهذه أكفانه كما ترون، نحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين ربه، فمن أحب منكم ان يشهد جنازته فليحضر بعد صلاه الظهر. ثم نزل. وتفرق الناس حتى إذا صلوا الظهر اجتمعوا وأصلحوا جهازه، وحملوه حتى واروه.   [1] في الأصل: يجسروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 مبايعه يزيد وانصرف يزيد فدخل الجامع، ودعا الناس الى البيعه، فبايعوه، ثم انصرف الى منزله. ومات معاويه وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن ابى سفيان، وعلى مكة يحيى بن حكيم بن صفوان بن اميه، وعلى الكوفه النعمان بن بشير الأنصاري، وعلى البصره عبيد الله بن زياد. فلم تكن ليزيد همه الا بيعه هؤلاء الأربعة نفر، فكتب الى الوليد بن عتبة يأمره ان يأخذهم بالبيعه أخذا شديدا لا رخصه فيه، فلما ورد ذلك على الوليد قطع به وخاف الفتنة، فبعث الى مروان، وكان الذى بينهما متباعدا، فأتاه، فاقراه الوليد الكتاب واستشاره. فقال له مروان: اما عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن ابى بكر فلا تخافن ناحيتهما، فليسا بطالبين شيئا من هذا الأمر، ولكن عليك بالحسين بن على وعبد الله بن الزبير، فابعث إليهما الساعة، فان بايعا والا فاضرب أعناقهما قبل ان يعلن الخبر، فيثب كل واحد منهما ناحيه، ويظهر الخلاف. فقال الوليد لعبد الله بن عمرو بن عثمان، وكان حاضرا وهو حينئذ غلام حين راهق: انطلق يا بنى الى الحسين بن على وعبد الله بن الزبير، فادعهما. فانطلق الغلام حتى اتى المسجد، فإذا هو بهما جالسين، فقال: أجيبا الأمير. فقالا للغلام: انطلق، فانا صائران اليه على اثرك. فانطلق الغلام. فقال ابن الزبير للحسين رضى الله عنه: فيم تراه بعث إلينا في هذه الساعة؟. فقال الحسين: احسب معاويه قد مات، فبعث إلينا للبيعه. قال ابن الزبير: ما أظن غيره. وانصرفا الى منازلهما. فاما الحسين فجمع نفرا من مواليه وغلمانه، ثم مشى نحو دار الإمارة، وامر فتيانه ان يجلسوا بالباب، فان سمعوا صوته اقتحموا الدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ودخل الحسين على الوليد، وعنده مروان، فجلس الى جانب الوليد، فاقراه الوليد الكتاب، فقال الحسين: ان مثلي لا يعطى بيعته سرا، وانا طوع يديك، فإذا جمعت الناس لذلك حضرت، وكنت واحدا منهم. وكان الوليد رجلا يحب العافيه، فقال للحسين: فانصرف اذن حتى تأتينا مع الناس، فانصرف. فقال مروان للوليد: عصيتني، وو الله لا يمكنك من مثله ابدا. قال الوليد: ويحك، اتشير على بقتل الحسين بن فاطمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهما السلام؟ والله ان الذى يحاسب بدم الحسين يوم القيامه لخفيف الميزان عند الله. وتحرز ابن الزبير في منزله، وراوغ الوليد حتى إذا جن عليه الليل سار نحو مكة، وتنكب الطريق الأعظم فاخذ على طريق الفرع. ولما اصبح الوليد بلغه خبره، فوجه في اثره حبيب بن كدين في ثلاثين فارسا، فلم يقعوا له على اثر، وشغلوا يومهم ذلك كله بطلب ابن الزبير. فلما امسوا، واظلم الليل مضى الحسين رضى الله عنه أيضا نحو مكة، ومعه أختاه: أم كلثوم، وزينب وولد أخيه، واخوته ابو بكر، وجعفر، والعباس، وعامه من كان بالمدينة من اهل بيته الا أخاه محمد بن الحنفيه، فانه اقام. واما عبد الله بن عباس فقد كان خرج قبل ذلك بايام الى مكة. وجعل الحسين رضى الله عنه يطوى المنازل، فاستقبله عبد الله بن مطيع، وهو منصرف من مكة يريد المدينة، فقال له: اين تريد؟. قال الحسين: اما الان فمكه. قال خار [1] الله لك، غير انى أحب ان أشير عليك براى. قال الحسين وما هو؟. قال: إذا اتيت مكة فاردت الخروج منها الى بلد من البلدان، فإياك والكوفه، فإنها بلده مشئومه، بها قتل ابوك، وبها خذل اخوك، واغتيل بطعنه كادت   [1] جعل لك الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 تأتي على نفسه، بل الزم الحرم، فان اهل الحجاز لا يعدلون بك أحدا، ثم ادع إليك شيعتك من كل ارض، فسيأتونك جميعا. قال له الحسين: يقضى الله ما أحب. ثم اطلق عنانه، ومضى حتى وافى مكة، فنزل شعب على، واختلف الناس اليه، فكانوا يجتمعون عنده حلقا حلقا، وتركوا عبد الله بن الزبير، وكانوا قبل ذلك يتحفلون اليه، فساء ذلك ابن الزبير، وعلم ان الناس لا يحفلون به والحسين مقيم بالبلد، فكان يختلف الى الحسين رضى الله عنه صباحا ومساء. ثم ان يزيد عزل يحيى بن حكيم بن صفوان بن اميه. [ مقتل الحسين عليه السلام ] اهل الكوفه والحسين قالوا: ولما بلغ اهل الكوفه وفاه معاويه وخروج الحسين بن على الى مكة اجتمع جماعه من الشيعة في منزل سليمان بن صرد، واتفقوا على ان يكتبوا الى الحسين يسالونه القدوم عليهم، ليسلموا الأمر اليه، ويطردوا النعمان بن بشير، فكتبوا اليه بذلك، ثم وجهوا بالكتاب مع عبيد الله بن سبيع الهمدانى وعبد الله بن وداك السلمى، فوافوا الحسين رضى الله عنه بمكة لعشر خلون من شهر رمضان، فأوصلوا الكتاب اليه. ثم لم يمس الحسين يومه ذلك حتى ورد عليه بشر بن مسهر الصيداوى، وعبد الرحمن بن عبيد الارحبى، ومعهما خمسون كتابا من اشراف اهل الكوفه ورؤسائها كل كتاب منها من الرجلين والثلاثة والأربعة بمثل ذلك. فلما اصبح وافاه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الخثعمى، ومعهما أيضا نحو من خمسين كتابا. فلما امسى أيضا ذلك اليوم ورد عليه سعيد بن عبد الله الثقفى ومعه كتاب واحد من شبث بن ربعي، وحجار بن ابجر، ويزيد بن الحارث، وعروه بن قيس، وعمرو ابن الحجاج، ومحمد بن عمير بن عطارد وكان [1] هؤلاء الرؤساء من اهل الكوفه فتتابعت عليه في ايام رسل اهل الكوفه ومن الكتب ما ملا منه خرجين [2]   [1] في الأصل: وكانوا. [2] الخرج بالضم وعاء ذو شقين، يوضع على ظهر الدابة، ويتخذه المسافر ليضع فيه احماله، والجمع اخراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فكتب الحسين اليهم جميعا كتابا واحدا، ودفعه الى هانئ بن هانئ، وسعيد ابن عبد الله، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على الى من بلغه كتابي هذا، من اوليائه وشيعته بالكوفه، سلام عليكم، اما بعد، فقد أتتني كتبكم، وفهمت ما ذكرتم من محبتكم لقدومى عليكم، وانى باعث إليكم بأخي وابن عمى وثقتي من اهلى مسلم بن عقيل ليعلم لي كنه امركم، ويكتب الى بما يتبين له من اجتماعكم، فان كان امركم على ما أتتني به كتبكم، وأخبرتني به رسلكم اسرعت القدوم عليكم ان شاء الله، والسلام. وقد كان مسلم بن عقيل خرج معه من المدينة الى مكة، فقال له الحسين ع: يا ابن عم، قد رايت ان تسير الى الكوفه، فتنظر ما اجتمع عليه راى أهلها، فان كانوا على ما أتتني به كتبهم، فعجل على بكتابك لاسرع القدوم عليك، وان تكن الاخرى، فعجل الانصراف. فخرج مسلم على طريق المدينة ليلم باهله، ثم استاجر دليلين من قيس، وسار، فضلا ذات ليله، فأصبحا، وقد تاها، واشتد عليهما العطش والحر، فانقطعا، فلم يستطيعا المشى، فقالا لمسلم: عليك بهذا السمت، فالزمه لعلك ان تنجو. فتركهما مسلم ومن معه من خدمه بحشاشة الأنفس حتى أفضوا الى طريق فلزموه، حتى وردوا الماء، فأقام مسلم بذلك الماء. وكتب الى الحسين مع رسول استاجره من اهل ذلك الماء، يخبره خبره، وخبر الدليلين، وما ناله من الجهد، ويعلمه انه قد تطير من الوجه الذى توجه له، ويسأله ان يعفيه ويوجه غيره، ويخبره انه مقيم بمنزله ذلك من بطن الحربث [1] . فسار الرسول حتى وافى مكة، واوصل الكتاب الى الحسين، فقراه وكتب في جوابه: اما بعد، فقد ظننت ان الجبن قد قصر بك عما وجهتك به، فامض لما امرتك فانى غير معفيك، والسلام.   [1] البطن: الموضع الغامض من الوادى، والبطون كثيره، والحربث نبت اسود وزهرته بيضاء، وهو من اطيب المراعى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 مسلم في الكوفه فسار مسلم حتى وافى الكوفه، ونزل في الدار التي تعرف بدار المختار بن ابى عبيده، ثم عرفت اليوم بدار المسيب. فكانت الشيعة تختلف اليه، فيقرأ عليهم كتاب الحسين، ففشا امره بالكوفه حتى بلغ ذلك النعمان بن بشير أميرها، فقال: لا اقاتل الا من قاتلني، ولا اثب الا على من وثب على، ولا آخذ بالقرفه [1] والظنه، فمن ابدى صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم أكن الا وحدي. وكان يحب العافيه ويغتنم السلامة. فكتب مسلم بن سعيد الحضرمى وعماره بن عقبه وكانا عيني يزيد بن معاويه الى يزيد يعلمانه قدوم مسلم بن عقيل الكوفه داعيا للحسين بن على، وانه قد افسد قلوب أهلها عليه، فان يكن لك في سلطانك حاجه فبادر اليه من يقوم بأمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فان النعمان رجل ضعيف او متضاعف، والسلام. فلما ورد الكتاب على يزيد امر بعهد، فكتب لعبيد الله بن زياد على الكوفه، وامره ان يبادر الى الكوفه، فيطلب مسلم بن عقيل طلب الحرزه حتى يظفر به، فيقتله، او ينفيه عنهما، ودفع الكتاب الى مسلم بن عمرو الباهلى ابى قتيبة بن مسلم، وامره باغذاذ السير. فسار مسلم حتى وافى البصره، واوصل الكتاب الى عبيد الله بن زياد. وقد كان الحسين بن على رضى الله عنه كتب كتابا الى شيعته من اهل البصره مع مولى له يسمى سلمان نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على الى مالك بن مسمع، والأحنف ابن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، سلام عليكم، اما بعد، فانى ادعوكم الى احياء معالم الحق وأماته البدع، فان تجيبوا تهتدوا سبل الرشاد، والسلام. فلما أتاهم هذا الكتاب كتموه جميعا الا المنذر بن الجارود، فانه أفشاه، لتزويجه ابنته هندا من عبيد الله بن زياد، فاقبل حتى دخل عليه، فاخبره   [1] التهمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بالكتاب، وحكى له ما فيه، فامر عبيد الله بن زياد بطلب الرسول، فطلبوه، فاتوه به، فضربت عنقه. ثم اقبل حتى دخل المسجد الأعظم، فاجتمع له الناس، فقام، فقال: انصف القاره [1] من راماها، يا اهل البصره ان امير المؤمنين قد ولانى مع البصره الكوفه، وانا سائر إليها، وقد خلفت عليكم أخي عثمان بن زياد، فإياكم والخلاف والارجاف، فو الله الذى لا اله غيره، لئن بلغنى عن رجل منكم خالف او ارجف لاقتلنه ووليه، ولاخذن الأدنى بالأقصى، والبريء بالسقيم حتى تستقيموا، وقد اعذر من انذر. ثم نزل، وسار. وخرج معه من اشراف اهل البصره شريك بن الأعور والمنذر بن الجارود، فسار حتى وافى الكوفه، فدخلها، وهو متلثم. وقد كان الناس بالكوفه يتوقعون الحسين بن على ع، وقدومه، فكان لا يمر ابن زياد بجماعه الا ظنوا انه الحسين فيقومون له، ويدعون ويقولون: مرحبا بابن رسول الله، قدمت خير مقدم. فنظر ابن زياد من تباشيرهم بالحسين الى ما ساءه، واقبل حتى دخل المسجد الأعظم، ونودى في الناس، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: يا اهل الكوفه، ان امير المؤمنين قد ولانى مصركم، وقسم فيئكم فيكم، وأمرني بانصاف مظلومكم، والاحسان الى سامعكم ومطيعكم، والشده على   [1] القاره: قوم رماه من العرب، وفي المثل: قد انصف القاره من راماها، وقد زعموا ان رجلين التقيا، أحدهما قارى والآخر اسدى، فقال القاري: ان شئت صارعتك، وان شئت سابقتك، وان شئت راميتك، فقال اخترت المراماة، فقال القاري: قد أنصفتني وانشد: قد انصف القاره من راماها ... انا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على اخراها ثم انتزع له سهما فشك فؤاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 عاصيكم ومريبكم، وانا منته في ذلك الى امره، وانا لمطيعكم كالوالد الشفيق، ولمخالفكم كالسم النقيع، فلا يبقين احد منكم الا على نفسه. ثم نزل، فاتى القصر، فنزله، وارتحل النعمان بن بشير نحو وطنه بالشام. وبلغ مسلم بن عقيل قدوم عبيد الله بن زياد وانصراف النعمان، وما كان من خطبه ابن زياد ووعيده، فخاف على نفسه. فخرج من الدار التي كان فيها بعد عتمه حتى اتى دار هانئ بن عروه المذحجى، وكان من اشراف اهل الكوفه، فدخل داره الخارجه، فأرسل اليه وكان في دار نسائه، يسأله الخروج اليه، فخرج اليه. وقام مسلم، فسلم عليه، وقال: انى اتيتك لتجيرني وتضيفنى. فقال له هانئ: لقد كلفتني شططا بهذا الأمر، ولولا دخولك منزلي لأحببت ان تنصرف عنى، غير انه قد لزمنى ذمام لذلك. فادخله دار نسائه، وافرد له ناحيه منها. وجعلت الشيعة تختلف اليه في دار هانئ. وكان هانئ بن عروه مواصلا لشريك بن الأعور البصرى الذى قام مع ابن زياد، وكان ذا شرف بالبصرة وخطر، فانطلق هانئ اليه حتى اتى به منزله، وانزله مع مسلم بن عقيل في الحجرة التي كان فيها. وكان شريك من كبار الشيعة بالبصرة، فكان يحث هانئا على القيام بأمر مسلم، وجعل مسلم يبايع من أتاه من اهل الكوفه، ويأخذ عليهم العهود والمواثيق المؤكدة بالوفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ومرض شريك بن الأعور في منزل هانئ بن عروه مرضا شديدا، وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل اليه يعلمه انه يأتيه عائدا. فقال شريك لمسلم بن عقيل: انما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغيه، وقد امكنك الله منه، هو صائر الى ليعودنى، فقم، فادخل الخزانه حتى إذا اطمان عندي، فاخرج اليه، فقاتله، ثم صر الى قصر الإمارة، فاجلس فيه، فانه لا ينازعك فيه احد من الناس، وان رزقني الله العافيه صرت الى البصره، فكفيتك امرها، أبايع لك أهلها. فقال هانئ بن عروه: ما أحب ان يقتل في دارى ابن زياد. فقال له شريك: ولم؟ فو الله ان قتله لقربان الى الله. ثم قال شريك لمسلم: لا تقصر في ذلك. فبينما هم على ذلك إذ قيل لهم: الأمير بالباب. فدخل مسلم بن عقيل الخزانه، ودخل عبيد الله بن زياد على شريك، فسلم عليه، وقال: ما الذى تجد وتشكو؟. فلما طال سؤاله اياه استبطأ شريك خروج مسلم، وجعل يقول، ويسمع مسلما: ما تنظرون بسلمى عند فرصتها ... فقد وفى ودها، واستوسق الصرم [1] وجعل يردد ذلك. فقال ابن زياد لهانئ: ايهجر؟ يعنى يهذى. قال هانئ: نعم، اصلح الله الأمير، لم يزل هكذا منذ اصبح. ثم قام عبيد الله وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانه، فقال شريك: ما الذى منعك منه الا الجبن والفشل؟.   [1] استوسق الأمر إذا امكن، والصرم: الطائفه المجتمعه من القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قال مسلم: منعني منه خلتان: إحداهما كراهية هانئ لقتله في منزله، والاخرى قول رسول الله ص [ان الايمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن. ] فقال شريك: اما والله لو قتلته لاستقام لك امرك، واستوسق لك [سلطانك. ] ولم يعش شريك بعد ذلك الا أياما، حتى توفى، وشيع ابن زياد جنازته، وتقدم فصلى عليه. ولم يزل مسلم بن عقيل يأخذ البيعه من اهل الكوفه حتى بايعه منهم ثمانية عشر الف رجل في ستر ورفق. وخفى على عبيد الله بن زياد موضع مسلم بن عقيل، فقال لمولى له من اهل الشام يسمى معقلا، وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس، وقال: خذ هذا المال، وانطلق، فالتمس مسلم بن عقيل، وتات له بغاية التاتى. فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، وجعل لا يدرى كيف يتأتى الأمر. ثم انه نظر الى رجل يكثر الصلاة الى ساريه من سوارى المسجد، فقال في نفسه: ان هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة، واحسب هذا منهم. فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته قام، فدنا منه، وجلس، فقال: جعلت فداك، انى رجل من اهل الشام، مولى لذى الكلاع، وقد انعم الله على بحب اهل بيت رسول الله ص، وحب من احبهم، ومعى هذه الثلاثة الآلاف [1] درهم، أحب إيصالها الى رجل منهم، بلغنى انه قدم هذا المصر داعيه للحسين بن على ع، فهل تدلني عليه لاوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره، ويضعه حيث أحب من شيعته. قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيرى ممن هو في المسجد؟.   [1] في الأصل: آلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قال: لانى رايت عليك سيما الخير، فرجوت ان تكون ممن يتولى اهل بيت رسول الله ص. قال له الرجل: ويحك، قد وقعت على بعينك، انا رجل من اخوانك، واسمى مسلم بن عوسجة، وقد سررت بك، وساءني ما كان من حسى قبلك، فانى رجل من شيعه اهل هذا البيت، خوفا من هذا الطاغيه ابن زياد، فأعطني ذمه الله وعهده ان تكتم هذا عن جميع الناس. فاعطاه من ذلك ما اراد. فقال له مسلم بن عوسجة: انصرف يومك هذا، فان كان غد فائتنى في منزلي حتى انطلق معك الى صاحبنا يعنى مسلم بن عقيل فاوصلك اليه. فمضى الشامي، فبات ليلته، فلما اصبح غدا الى مسلم بن عوسجة في منزله، فانطلق به حتى ادخله الى مسلم بن عقيل، فاخبره بامره، ودفع اليه الشامي ذلك المال، وبايعه. فكان الشامي يغدو الى مسلم بن عقيل، فلا يحجب عنه، فيكون نهاره كله عند، فيتعرف جميع اخبارهم، فإذا امسى واظلم عليه الليل دخل على عبيد الله ابن زياد، فاخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وفعلوا في ذلك، واعلمه نزول مسلم في دار هانئ بن عروه. ثم ان محمد بن الاشعث وأسماء بن خارجه دخلا على ابن زياد مسلمين، فقال لهما: ما فعل هانئ بن عروه؟. فقالا: ايها الأمير، انه عليل منذ ايام. فقال ابن زياد: وكيف؟ وقد بلغنى انه يجلس على باب داره عامه نهاره، فما يمنعه من إتياننا، وما يجب عليه من حق التسليم؟. قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك اياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فخرجا من عنده، واقبلا حتى دخلا على هانئ بن عروه، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: اقسمنا عليك الا قمت معنا اليه الساعة لتسل سخيمه [1] قلبه. فدعا ببغلته، فركبها، ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبثت نفسه. فقال لهما: ان قلبي قد اوجس من هذا الرجل خيفة. قالا: ولم تحدث نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟. فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلا: اريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد قال هانئ: وما ذاك ايها الأمير؟. قال ابن زياد: وما يكون اعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل، وادخالك اياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟. فقال هانئ: ما فعلت، وما اعرف من هذا شيئا. فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلا. فدخل عليهم. فقال ابن زياد لهانئ بن عروه: اتعرف هذا؟. فلما رآه علم انه انما كان عينا عليهم. فقال هانئ: اصدقك والله ايها الأمير، انى والله ما دعوت مسلم بن عقيل، وما شعرت به. ثم قص عليه قصته على وجهها. ثم قال: فاما الان فانا مخرجه من دارى لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهدا وثيقا ان ارجع إليك.   [1] السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قال ابن زياد: لا والله، لا تفارقنى حتى تأتيني به. فقال هانئ: او يجمل بي ان اسلم ضيفي وجارى للقتل؟ والله لا افعل ذلك ابدا. فاعترضه ابن زياد بالخيزرانه، فضرب وجهه، وهشم انفه، وكسر حاجبه، وامر به، فادخل بيتا. وبلغ مذحجا ان ابن زياد قد قتل هانئا، فاجتمعوا بباب القصر، وصاحوا. فقال ابن زياد لشريح القاضى وكان عنده: ادخل الى صاحبهم، فانظر اليه، ثم اخرج اليهم، فاعلمهم انه حي. ففعل. فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجاج: اما إذ كان صاحبكم حيا فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا. فانصرفوا. فلما علم ابن زياد انهم قد انصرفوا امر بهانىء، فاتى به السوق، فضربت عنقه هناك. ولما بلغ مسلم بن عقيل قتل هانئ بن عروه نادى فيمن كان بايعه، فاجتمعوا، فعقد لعبد الرحمن بن كريز الكندى على كنده وربيعه، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج واسد، وعقد لأبي ثمامة الصيداوى على تميم وهمدان، وعقد للعباس بن جعدة بن هبيرة على قريش والانصار، فتقدموا جميعا حتى أحاطوا بالقصر، واتبعهم هو في بقية الناس. وتحصن عبيد الله بن زياد في القصر مع من حضر مجلسه في ذلك اليوم من اشراف اهل الكوفه والأعوان والشرط، وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر [1] والنشاب، ويمنعونهم من الدنو من القصر، فلم يزالوا بذلك حتى امسوا.   [1] رماح كانت تركب فيها القرون المحدده مكان الأسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقال عبيد الله بن زياد لمن كان عنده من اشراف اهل الكوفه: ليشرف كل رجل منكم في ناحيه من السور، فخوفوا القوم. فأشرف كثير بن شهاب، ومحمد بن الاشعث، والقعقاع بن شور، وشبث ابن ربعي، وحجار بن ابجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: يا اهل الكوفه، اتقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقوا عصا هذه الامه، ولا توردوا على انفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم، وجربتم شوكتهم. فلما سمع اصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور. وكان الرجل من اهل الكوفه ياتى ابنه، وأخاه، وابن عمه فيقول: انصرف، فان الناس يكفونك. وتجيء المرأة الى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلق به حتى يرجع. فصلى مسلم العشاء في المسجد، وما معه الا زهاء ثلاثين رجلا. فلما راى ذلك مضى منصرفا ماشيا، ومشوا معه، فاخذ نحو كنده، فلما مضى قليلا التفت فلم ير منهم أحدا، ولم يصب إنسانا يدله على الطريق، فمضى هائما على وجهه في ظلمه الليل حتى دخل على كنده. فإذا امراه قائمه على باب دارها تنتظر ابنها وكانت ممن خف مع مسلم فاوته وادخلته بيتها، وجاء ابنها، فقال: من هذا في الدار؟ فاعلمته، وامرته بالكتمان. ثم ان ابن زياد لما فقد الأصوات ظن ان القوم دخلوا المسجد، فقال: انظروا، هل ترون في المسجد أحدا؟ وكان المسجد مع القصر. فنظروا فلم يروا أحدا، وجعلوا يشعلون اطناب القصب [1] ، ثم يقذفون بها في رحبه المسجد ليضيء لهم، فتبينوا، فلم يروا أحدا. فقال ابن زياد: ان القوم قد خذلوا، وأسلموا مسلما. وانصرفوا.   [1] اطناب القصب: عروقه التي تتشعب من أرومته. وفي الأصل اطنان، والصواب ما ذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فخرج فيمن كان معه، وجلس في المسجد، ووضعت الشموع والقناديل، وامر مناديا فنادى بالكوفه الا برئت الذمة من رجل من العرفاء والشرط والحرس لم يحضر المسجد. فاجتمع الناس، ثم قال: يا حصين بن نمير وكان على الشرطه ثكلتك أمك ان ضاع باب سكه من سكك الكوفه، فإذا اصبحت فاستقر الدور، دارا، دارا، حتى تقع عليه. وصلى ابن زياد العشاء في المسجد، ثم دخل القصر. فلما اصبح جلس للناس، فدخلوا عليه، ودخل في اوائلهم محمد بن الاشعث، فأقعده معه على سريره. واقبل ابن تلك المرأة التي مسلم في بيتها الى عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث وهو حينئذ غلام حين راهق فاخبره بمكان مسلم عنده. فاقبل عبد الرحمن الى ابيه محمد بن الاشعث، وهو جالس مع ابن زياد، فاسر اليه الخبر. فقال ابن زياد: ما سار به ابنك؟ قال: أخبرني ان مسلم بن عقيل في بعض دورنا. فقال: انطلق، فاتنى به الساعة. وقال لعبيد بن حريث: ابعث مائه رجل من قريش وكره ان يبعث اليه غير قريش خوفا من العصبية ان تقع. فاقبلوا حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل، ففتحوها، فقاتلهم، فرمى، فكسر فوه، وأخذ، فاتى ببغله فركبها، وصاروا به الى ابن زياد. قتل مسلم بن عقيل فلما ادخل عليه، وقد اكتنفه الجلاوزة قالوا له: سلم على الأمير. قال: ان كان الأمير يريد قتلى، فما انتفع بسلام عليه، وان كان لم يرد فسيكثر عليه سلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قال ابن زياد: كأنك ترجو البقاء. فقال له مسلم: فان كنت مزمعا على قتلى، فدعني أوص الى بعض من هاهنا من قومى. قال له: أوص بما شئت. فنظر الى عمر بن سعد بن ابى وقاص، فقال له: اخل معى في طرف هذا البيت حتى اوصى إليك، فليس في القوم اقرب الى ولا اولى بي منك. فتنحى معه ناحيه، فقال له: اتقبل وصيتي؟ قال: نعم. قال مسلم: ان على هاهنا دينا، مقدار الف درهم، فاقض عنى، وإذا انا قتلت فاستوهب من ابن زياد جثتي لئلا يمثل بها، وابعث الى الحسين بن على رسولا قاصدا من قبلك، يعلمه حالي، وما صرت اليه من غدر هؤلاء الذين يزعمون انهم شيعته، واخبره بما كان من نكثهم بعد ان بايعنى منهم ثمانية عشر الف رجل، لينصرف الى حرم الله، فيقيم به، ولا يغتر باهل الكوفه. وقد كان مسلم كتب الى الحسين ان يقدم ولا يلبث. فقال له عمر بن سعد: لك على ذلك كله، وانا به زعيم. فانصرف الى ابن زياد، فاخبره بكل ما اوصى به اليه مسلم. فقال له ابن زياد: قد اسات في افشائك ما اسره إليك، وقد قيل انه لا يخونك الا الامين، وربما ائتمنك الخائن. وامر ابن زياد بمسلم فرقى به الى ظهر القصر، فأشرف به على الناس، وهم على باب القصر مما يلى الرحبه، حتى إذا راوه ضربت عنقه هناك، فسقط راسه الى الرحبه، ثم اتبع الراس بالجسد. وكان الذى تولى ضرب عنقه احمر بن بكير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن الزبير الأسدي: فان كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... على هانئ في السوق وابن عقيل الى بطل قد هشم السيف انفه ... وآخر، يهوى من طمار، قتيل [1] أصابهما ريب الزمان، فأصبحا ... احاديث من يسعى بكل سبيل ترى جسدا قد غير الموت لونه ... ونضح دم قد سال كل مسيل ثم بعث عبيد الله برءوسهما الى يزيد، وكتب اليه بالنبأ فيهما. فكتب اليه يزيد: لم نعد الظن بك، وقد فعلت فعل الحازم الجليد، وقد سالت رسوليك عن الأمر، ففرشاه لي، وهما كما ذكرت في النصح، وفضل الرأي، فاستوص بهما. وقد بلغنى ان الحسين بن على قد فصل من مكة متوجها الى ما قبلك، فأدرك العيون عليه، وضع الارصاد على الطرق، وقم افضل القيام، غير الا تقاتل الا من قاتلك، واكتب الى بالخبر في كل يوم. وكان انفذ الرأسين اليه مع هانئ بن ابى حيه الهمدانى، والزبير بن الاروج التميمى. وكان قتل مسلم بن عقيل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من ذي الحجه سنه ستين [2] ، وهي السنه التي مات فيها معاويه.   [1] الطمار: المكان العالي. [2] سبتمبر 679. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 خروج الحسين الى الكوفه وخرج الحسين بن على ع من مكة في ذلك اليوم. ثم ان ابن زياد وجه بالحصين بن نمير وكان على شرطه في اربعه آلاف فارس من اهل الكوفه، وامره ان يقيم بالقادسية [1] الى القطقطانة [2] ، فيمنع من اراد النفوذ من ناحيه الكوفه الى الحجاز الا من كان حاجا او معتمرا ومن لا يتهم بممالاه الحسين. قالوا: ولما ورد كتاب مسلم بن عقيل على الحسين ع: ان الرائد [3] لا يكذب اهله، وقد بايعنى من اهل الكوفه ثمانية عشر الف رجل، فاقدم، فان جميع الناس معك، ولا راى لهم في آل ابى سفيان. فلما عزم على الخروج، وأخذ في الجهاز بلغ ذلك عبد الله بن عباس، فاقبل حتى دخل على الحسين، رضى الله عنه، فقال: يا ابن عم، قد بلغنى انك تريد المسير الى العراق. قال الحسين: انا على ذلك. قال عبد الله: اعيذك بالله يا بن عم من ذلك. قال الحسين: قد عزمت، ولا بد من المسير. قال له عبد الله: اتسير الى قوم طردوا أميرهم عنهم، وضبطوا بلادهم؟ فان كانوا فعلوا ذلك فسر اليهم، وان كانوا انما يدعونك اليهم، وأميرهم عليهم، وعماله يجبونهم، فإنهم انما يدعونك الى الحرب، ولا آمنهم ان يخذلوك كما خذلوا اباك واخاك. قال الحسين: يا بن عم، سانظر فيما قلت.   [1] قرية بين الكوفه وعذيب في قضاء الديوانيه. [2] موضع بقرب الكوفه. [3] الرائد هو الذى يتقد القوم يبصر لهم الكلا ومساقط الغيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وبلغ عبد الله بن الزبير ما يهم به الحسين، فاقبل حتى دخل عليه، فقال له: لو اقمت بهذا الحرم، وبثثت رسلك في البلدان، وكتبت الى شيعتك بالعراق ان يقدموا عليك، فإذا قوى امرك نفيت عمال يزيد عن هذا البلد، وعلى لك المكانفه والمؤازره، وان عملت بمشورتى طلبت هذا الأمر بهذا الحرم، فانه مجمع اهل الافاق، ومورد اهل الاقطار لم يعدمك باذن الله ادراك ما تريد، ورجوت ان تناله. قالوا: ولما كان في اليوم الثالث عاد عبد الله بن عباس الى الحسين، فقال له: يا بن عم لا تقرب اهل الكوفه، فإنهم قوم غدره، وأقم بهذه البلده، فإنك سيد أهلها، فان أبيت فسر الى ارض اليمن، فان بها حصونا وشعابا، وهي ارض طويله عريضه، ولأبيك فيها شيعه، فتكون عن الناس في عزله، وتبث دعاتك في الافاق، فانى أرجو ان فعلت ذلك أتاك الذى تحب في عافيه. قال الحسين ع: يا بن عم، والله انى لأعلم انك ناصح مشفق، غير انى قد عزمت على الخروج. قال ابن عباس: فان كنت لا محاله سائرا، فلا تخرج النساء والصبيان، فانى لا آمن ان تقتل كما قتل ابن عفان، وصبيته ينظرون اليه. قال الحسين: عم، ما ارى الا الخروج بالأهل والولد. فخرج ابن عباس من عند الحسين فمر بابن الزبير، وهو جالس، فقال له: قرت عينك يا بن الزبير بخروج الحسين. ثم تمثل: خلالك الجو، فبيضى واصفري ... ونقرى، ما شئت ان تنقرى قالوا: ولما خرج الحسين من مكة اعترضه صاحب شرطه أميرها، عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعه من الجند، فقال: ان الأمير يأمرك بالانصراف، فانصرف، والا منعتك. فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط. وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف ان يتفاقم الأمر، فأرسل الى صاحب شرطه، يأمره بالانصراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 قالوا ولما فصل الحسين بن على من مكة سائرا، وقد وصل الى التنعيم [1] لحق عيرا مقبلة من اليمن، عليهما ورس [2] . وحناء، ينطلق به الى يزيد بن معاويه، فأخذها وما عليها. وقال لأصحاب الإبل: من أحب منكم ان يسير معنا الى العراق اوفيناه كراه، واحسنا صحبته، ومن أحب ان يفارقنا من هاهنا اعطيناه من الكرى [3] بقدر ما قطع من الارض. ففارقه قوم، ومضى معه آخرون. ثم سار حتى إذا انتهى الى الصفاح [4] لقيه هناك الفرزدق الشاعر مقبلا من العراق، يريد مكة، فسلم على الحسين. فقال له الحسين: كيف خلفت الناس بالعراق؟ قال: خلفتهم، وقلوبهم معك، وسيوفهم عليك. ثم ودعه. ومضى الحسين ع حتى إذا صار ببطن الرمة [5] كتب الى اهل الكوفه. بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على الى اخوانه من المؤمنين بالكوفه، سلام عليكم، اما بعد، فان كتاب مسلم بن عقيل ورد على باجتماعكم لي، وتشوفكم الى قدومى، وما أنتم عليه منطوون من نصرنا، والطلب بحقنا، فاحسن الله لنا ولكم الصنيع، واثابكم على ذلك بافضل الذخر، وكتابي إليكم من بطن الرمة، وانا قادم عليكم، وحثيث السير إليكم، والسلام.   [1] مكان بين مكة والمدينة بالقرب من مكة. [2] الورس: نبت اصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه [3] الاجر [4] موضع بين حنين وأنصاب الحرم يسره الداخل الى مكة، وصفاح نعمان جبال بين مكة والطائف. [5] قاع عظيم بنجد تصب فيه جماعه اوديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ثم بعث بالكتاب مع قيس بن مسهر، فسار حتى وافى القادسية [1] . فأخذه حصين بن نمير، وبعث به الى ابن زياد، فلما ادخل عليه اغلظ لعبيد الله، فامر به ان يطرح من اعلى سور القصر الى الرحبه، فطرح، فمات. وسار الحسين ع من بطن الرمة [2] ، فلقيه عبد الله بن مطيع، وهو منصرف من العراق، فسلم على الحسين، وقال له: بابى أنت وأمي يا بن رسول الله، ما اخرجك من حرم الله وحرم جدك؟ فقال: ان اهل الكوفه كتبوا الى يسألونني ان اقدم عليهم لما رجوا من احياء معالم الحق، وأماته البدع. قال له ابن مطيع: أنشدك الله ان لا تأتي الكوفه، فو الله لئن أتيتها لتقتلن. فقال الحسين ع: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا. ثم ودعه ومضى. ثم سار حتى انتهى الى زرود [3] ، فنظر الى فسطاط [4] مضروب، فسال عنه، فقيل له: هو لزهير بن القين. وكان حاجا اقبل من مكة يريد الكوفه. فأرسل اليه الحسين، ان القنى اكلمك. فأبى ان يلقاه. وكانت مع زهير زوجته، فقالت له: سبحان الله، يبعث إليك ابن رسول الله ص فلا تجيبه. فقام يمشى الى الحسين ع، فلم يلبث ان انصرف، وقد اشرق وجهه،   [1] القادسية، قريه قرب الكوفه من جهة البريه، بينها وبين العذيب اربعه اميال، وعندها كانت الوقعه الكبرى بين المسلمين والفرس، وقد فتحت بلادهم على المسلمين. [2] بطن الرمة: منزل لأهل البصره إذا أرادوا المدينة، بها يجتمع اهل البصره والكوفه. [3] موضع بطريق مكة بعد الرمل. [4] الفسطاط: بيت من الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فامر بفسطاطه فقلع، وضرب الى لزق فسطاط الحسين. ثم قال لامراته: أنت طالق، فتقدمى مع أخيك حتى تصلى الى منزلك، فانى قد وطنت نفسي على الموت مع الحسين ع. ثم قال لمن كان معه من اصحابه: من أحب منكم الشهاده فليقم، ومن كرهها فليتقدم. فلم يقم معه منهم احد، وخرجوا مع المرأة وأخيها حتى لحقوا بالكوفه. قالوا: ولما رحل الحسين من زرود تلقاه رجل من بنى اسد، فسأله عن الخبر. فقال: لم اخرج من الكوفه حتى قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروه، ورايت الصبيان يجرون بأرجلهما. فقال: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، عند الله نحتسب أنفسنا. فقال له: أنشدك الله يا بن رسول الله في نفسك، وانفس اهل بيتك، هؤلاء الذين نراهم معك، انصرف الى موضعك، ودع المسير الى الكوفه، فو الله ما لك بها ناصر. فقال بنو عقيل وكانوا معه: ما لنا في العيش بعد أخينا مسلم حاجه، ولسنا براجعين حتى نموت. فقال الحسين: فما خير في العيش بعد هؤلاء، وسار. فلما وافى زبالة [1] وافاه بها رسول محمد بن الاشعث، وعمر بن سعد بما كان ساله مسلم ان يكتب به اليه من امره، وخذلان اهل الكوفه اياه، بعد ان بايعوه، وقد كان مسلم سال محمد بن الاشعث ذلك.   [1] موضع بطريق مكة، وبها بركتان، قال الشماخ: وراحت رواحا من زرود فنازعت ... زبالة جلبابا من الليل اخضرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فلما قرأ الكتاب استيقن بصحة الخبر، وأفظعه قتل مسلم بن عقيل، وهانئ ابن عروه. ثم اخبره الرسول بقتل قيس بن مسهر رسوله الذى وجهه من بطن الرمة. وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق، فلما سمعوا خبر مسلم، وقد كانوا ظنوا انه يقدم على انصار وعضد تفرقوا عنه، ولم يبق معه الا خاصته. فسار حتى انتهى الى بطن العقيق [1] ، فلقيه رجل من بنى عكرمه، فسلم عليه، واخبره بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية الى العذيب [2] رصدا له. ثم قال له: انصرف بنفسي أنت، فو الله ما تسير الا الى الأسنة والسيوف، ولا تتكلن على الذين كتبوا لك، فان أولئك أول الناس مبادره الى حربك. فقال له الحسين: قد ناصحت وبالغت، فجزيت خيرا. ثم سلم عليه، ومضى حتى نزل بشراه [3] بات بها، ثم ارتحل وسار. فلما انتصف النهار، واشتدت الحر، وكان ذلك في القيظ، تراءت لهم الخيل. فقال الحسين لزهير بن القين: اما هاهنا مكان يلجأ اليه، او شرف، نجعله خلف ظهورنا، ونستقبل القوم من وجه واحد؟. قال له زهير: بلى، هذا جبل ذي جشم، يسره عنك، فمل بنا اليه، فان سبقت اليه فهو كما تحب. فسار حتى سبق اليه، وجعل ذلك الجبل وراء ظهره.   [1] موضع بالقرب من ذات عرق قبلها بمرحله، وذات عرق منزل معروف من منازل الحاج، ويحرم اهل العراق بالحج منه. [2] ماء لبنى تميم على مرحلة من الكوفه، سمى بذلك لأنه طرف ارض العرب. [3] مرتفع من الارض بالقرب من عسفان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 واقبلت الخيل، وكانوا الف فارس مع الحر بن يزيد التميمى، ثم اليربوعى، حتى إذا دنوا امر الحسين ع فتيانه ان يستقبلوهم بالماء، فشربوا، وتغمرت خيلهم، ثم جلسوا جميعا في ظل خيولهم، وأعنتها في ايديهم حتى إذا حضرت الظهر قال الحسين ع للحر: اتصلى معنا، أم تصلى باصحابك واصلى باصحابى؟ قال الحر: بل نصلى جميعا بصلاتك. فتقدم الحسين ع، فصلى بهم جميعا. فلما انفتل من صلاته حول وجهه الى القوم، ثم قال: ايها الناس، معذره الى الله، ثم إليكم، انى لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت على رسلكم، فان أعطيتموني ما اطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم دخلنا معكم مصركم، وان تكن الاخرى انصرفت من حيث جئت. فاسكت القوم، فلم يردوا عليه، حتى إذا جاء وقت العصر نادى مؤذن الحسين، ثم اقام، وتقدم الحسين ع، فصلى بالفريقين، ثم انفتل اليهم، فاعاد مثل القول الاول. فقال الحر بن يزيد: والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر. فقال الحسين ع: ايتنى بالخرجين [1] اللذين فيهما كتبهم. فاتى بخرجين مملوءين كتبا، فنثرت بين يدي الحر واصحابه، فقال له الحر: يا هذا، لسنا ممن كتب إليك شيئا من هذه الكتب، وقد امرنا الا نفارقك إذا لقيناك او نقدم بك الكوفه على الأمير عبيد الله بن زياد. فقال الحسين ع: الموت دون ذلك.   [1] وعاء معروف ذو جانبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ثم امر باثقاله، فحملت، وامر اصحابه، فركبوا، ثم ولى وجهه منصرفا نحو الحجاز، فحال القوم بينه وبين ذلك. فقال الحسين للحر: ما الذي تريد؟ قال: اريد والله ان انطلق بك الى الأمير عبيد الله بن زياد. قال الحسين: اذن والله انابذك الحرب. فلما كثر الجدال بينهما قال الحر: انى لم اومر بقتالك، وانما امرت الا افارقك، وقد رايت رايا فيه السلامة من حربك، وهو ان تجعل بيني وبينك طريقا، لا تدخلك الكوفه، ولا تردك الى الحجاز، تكون نصفا بيني وبينك حتى يأتينا راى الأمير. قال الحسين: فخذ هاهنا، فاخذ متياسرا من طريق العذيب [1] ، ومن ذلك المكان الى العذيب ثمانية وثلاثون ميلا. فسارا جميعا حتى انتهوا الى عذيب الحمامات، فنزلوا جميعا، وكل فريق منهما على غلوه [2] من الآخر. ثم ارتحل الحسين من موضعه ذلك متيامنا عن طريق الكوفه حتى انتهى الى قصر بنى مقاتل، فنزلوا جميعا هناك، فنظر الحسين الى فسطاط مضروب، فسال عنه، فاخبر انه لعبيد الله بن الحر الجعفى، وكان من اشراف اهل الكوفه، وفرسانهم. فأرسل الحسين اليه بعض مواليه يأمره بالمصير اليه، فأتاه الرسول، فقال: هذا الحسين بن على يسألك ان تصير اليه. فقال عبيد الله: والله ما خرجت من الكوفه الا لكثرة من رايته خرج لمحاربته   [1] العذيب: تصغير العذب، ماء على يمين القادسية، بينه وبين القادسية اربعه اميال، منه الى مفازة القرون في طريق مكة. [2] الغلوة قدر رميه بسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وخذلان شيعته، فعلمت انه مقتول ولا اقدر على نصره، فلست أحب ان يراني ولا أراه. فانتعل الحسين حتى مشى، ودخل عليه قبته، ودعاه الى نصرته. فقال عبيد الله: والله انى لأعلم ان من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى ان اغنى عنك، ولم اخلف لك بالكوفه ناصرا، فأنشدك الله ان تحملني على هذه الخطه، فان نفسي لم تسمح بعد بالموت، ولكن فرسي هذه الملحقه، والله ما طلبت عليها شيئا قط الا لحقته، ولا طلبنى وانا عليها احد قط الا سبقته، فخذها، فهى لك. قال الحسين: اما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجه لنا الى فرسك. نهاية الحسين وسار الحسين ع من قصر بنى مقاتل، ومعه الحر بن يزيد، كلما اراد ان يميل نحو البادية منعه، حتى انتهى الى المكان الذى يسمى كربلاء [1] فمال قليلا متيامنا حتى انتهى الى نينوى [2] ، فإذا هو براكب على نجيب، مقبل من القوم، فوقفوا جميعا ينتظرونه. فلما انتهى اليهم سلم على الحر، ولم يسلم على الحسين. ثم ناول الحر كتابا من عبيد الله بن زياد، فقراه، فإذا فيه: اما بعد، فجعجع [3] بالحسين بن على واصحابه بالمكان الذى يوافيك كتابي، ولا تحله الا بالعراء على غير خمر [1] ولا ماء، وقد امرت حامل كتابي هذا ان يخبرني بما كان منك في ذلك، والسلام.   [1] موضع في طرف البريه بالقرب من الكوفه. [2] قريه قديمه لا تزال آثارها باقيه قباله مدينه الموصل، ويروى بعض المؤرخين انها قريه النبي يونس ع. [3] جعجع القوم اى أناخوا بالجعجاع وهو ما غلظ من الارض. [1] اى شجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فقرا الحر الكتاب ثم ناوله الحسين، وقال: لا بد من إنقاذ امر الأمير عبيد الله بن زياد، فانزل بهذا المكان، ولا تجعل للأمير على عله. فقال الحسين ع تقدم بنا قليلا الى هذه القرية التي هي منا على غلوه، وهي الغاضرية [1] او هذه الاخرى التي تسمى السقبه فنزل في إحداهما. قال الحر ان الأمير كتب الى ان احلك على غير ماء، ولا بد من الانتهاء الى امره. فقال زهير بن القين للحسين: بابى وأمي يا ابن رسول الله، والله لو لم يأتنا غير هؤلاء لكان لنا فيهم كفاية، فكيف بمن سياتينا من غيرهم؟ فهلم بنا نناجز هؤلاء، فان قتال هؤلاء ايسر علينا من قتال من يأتينا من غيرهم. قال الحسين ع: فانى اكره ان ابداهم بقتال حتى يبدءوا. فقال له زهير: فهاهنا قريه بالقرب منا على شط الفرات، وهي في عاقول [2] حصينة، الفرات يحدق بها الا من وجه واحد. قال الحسين: وما اسم تلك القرية؟ قال: العقر [3] قال الحسين: نعوذ بالله من العقر. فقال الحسين للحر: سر بنا قليلا، ثم ننزل. فسار معه حتى أتوا كربلاء، فوقف الحر واصحابه امام الحسين ومنعوهم من المسير، وقال: انزل بهذا المكان، فالفرات منك قريب. قال الحسين: وما اسم هذا المكان؟   [1] الغاضرية: قريه من نواحي الكوفه، قريبه من كربلاء. [2] عاقول الوادى ما اعوج منه، والارض العاقول التي لا يهتدى إليها. [3] مكان قرب كربلاء من نواحي الكوفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قالوا له: كربلاء. قال: ذات كرب وبلاء، ولقد مر ابى بهذا المكان عند مسيره الى صفين، وانا معه، فوقف، فسال عنه، فاخبر باسمه، فقال: [هاهنا محط ركابهم، وهاهنا مهراق دمائهم،] فسئل عن ذلك، فقال: ثقل لال بيت محمد، ينزلون هاهنا. ثم امر الحسين باثقاله، فحطت بذلك المكان يوم الأربعاء غره المحرم من سنه احدى وستين [1] ، وقتل بعد ذلك بعشره ايام، وكان قتله يوم عاشوراء. فلما كان اليوم الثانى من نزوله كربلاء وافاه عمر بن سعد في اربعه آلاف فارس. وكانت قصه خروج عمر بن سعد، ان عبيد الله بن زياد ولاه الري وثغر دستبى [2] والديلم، وكتب له عهدا عليها، فعسكر للمسير إليها، فحدث امر الحسين، فأمره ابن زياد ان يسير الى محاربه الحسين، فإذا فرغ منه سار الى ولايته. فتلكا عمر بن سعد على ابن زياد، وكره محاربه الحسين. فقال له ابن زياد: فاردد علينا عهدنا. قال: فاسير اذن. فسار في اصحابه أولئك الذين ندبوا معه الى الري ودستبى، حتى وافى الحسين، وانضم اليه الحر بن يزيد فيمن معه. ثم قال عمر بن سعد لقره بن سفيان الحنظلى انطلق الى الحسين، فسله ما اقدمك. فأتاه، فابلغه. فقال الحسين: ابلغه عنى ان اهل هذا المصر كتبوا الى يذكرون ان لا امام لهم، ويسألونني القدوم عليهم، فوثقت بهم، فغدروا بي، بعد ان بايعنى منهم ثمانية عشر الف رجل، فلما دنوت، فعلمت غرور ما كتبوا به الى اردت الانصراف الى حيث   [1] اكتوبر 685 [2] كورة كبيرة، كانت مشتركه بين الري وهمذان، فقسمت كورتين، وتشتمل على قريب تسعين قريه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 منه اقبلت، فمنعني الحر بن يزيد، وسار حتى جعجع بي في هذا المكان، ولي بك قرابة قريبه، ورحم ماسه، فاطلقنى حتى انصرف. فرجع قره الى عمر بن سعد بجواب الحسين بن على. فقال عمر: الحمد لله، والله انى لأرجو ان اعفى من محاربه الحسين. ثم كتب الى ابن زياد يخبره بذلك. فلما وصل كتابه الى ابن زياد كتب اليه في جوابه: قد فهمت كتابك، فاعرض على الحسين البيعه ليزيد، فإذا بايع في جميع من معه، فأعلمني ذلك ليأتيك رأيي. فلما انتهى كتابه الى عمر بن سعد قال: ما احسب ابن زياد يريد العافيه. فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد الى الحسين، فقال الحسين للرسول: لا اجيب ابن زياد الى ذلك ابدا، فهل هو الا الموت، فمرحبا به. فكتب عمر بن سعد الى ابن زياد بذلك، فغضب، فخرج بجميع اصحابه الى النخيله [1] ثم وجه الحصين بن نمير، وحجار بن ابجر، وشبث بن ربعي، وشمر ابن ذي الجوشن، ليعاونوا عمر بن سعد على امره. فاما شمر فنفذ لما وجهه له، واما شبث فاعتل بمرض. فقال له ابن زياد: اتتمارض؟ ان كنت في طاعتنا فاخرج الى قتال عدونا. فلما سمع شبث ذلك خرج، ووجه أيضا الحارث بن يزيد بن رويم. قالوا: وكان ابن زياد إذا وجه الرجل الى قتال الحسين في الجمع الكثير، يصلون الى كربلاء، ولم يبق منهم الا القليل، كانوا يكرهون قتال الحسين، فيرتدعون، ويتخلفون. فبعث ابن زياد سويد بن عبد الرحمن المنقرى في خيل الى الكوفه، وامره ان يطوف بها، فمن وجده قد تخلف أتاه به.   [1] موضع قرب الكوفه على سمت الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فبنيا هو يطوف في احياء الكوفه إذ وجد رجلا من اهل الشام قد كان قدم الكوفه في طلب ميراث له، فأرسل به الى ابن زياد، فامر به، فضربت عنقه. فلما راى الناس ذلك خرجوا. قالوا: وورد كتاب ابن زياد على عمر بن سعد، ان امنع الحسين واصحابه الماء، فلا يذوقوا منه حسوة [1] كما فعلوا بالتقى عثمان بن عفان. فلما ورد على عمر بن سعد ذلك امر عمرو بن الحجاج ان يسير في خمسمائة راكب، فينيخ على الشريعه، ويحولوا بين الحسين واصحابه، وبين الماء، وذلك قبل مقتله بثلاثة ايام، فمكث اصحاب الحسين عطاشى. قالوا: ولما اشتد بالحسين واصحابه العطش امر أخاه العباس بن على وكانت أمه من بنى عامر بن صعصعة ان يمضى في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، مع كل رجل قربه حتى يأتوا الماء، فيحاربوا من حال بينهم وبينه. فمضى العباس نحو الماء وامامهم نافع بن هلال حتى دنوا من الشريعه، فمنعهم عمرو بن الحجاج، فجالدهم العباس على الشريعه بمن معه حتى ازالوهم عنها، واقتحم رجاله الحسين الماء، فملئوا قربهم، ووقف العباس في اصحابه يذبون عنهم حتى أوصلوا الماء الى عسكر الحسين. ثم ان ابن زياد كتب الى عمر بن سعد: اما بعد، فانى لم ابعثك الى الحسين لتطاوله الأيام، ولا لتمنيه السلامة والبقاء، ولا لتكون شفيعه الى، فاعرض عليه، وعلى اصحابه النزول على حكمى، فان أجابوك فابعث به وباصحابه الى، وان أبوا فازحف اليه، فانه عاق شاق، فان لم تفعل فاعتزل جندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فانا قد امرناك بأمرنا. فنادى عمر بن سعد في اصحابه ان انهدوا الى القوم.   [1] الحسوة بالضم الجرعة بقدر ما يحس مره واحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فنهض اليهم عشيه الخميس وليله الجمعه لتسع ليال خلون من المحرم، فسألهم الحسين تاخير الحرب الى غد، فأجابوه. قالوا: وامر الحسين اصحابه ان يضموا مضاربهم بعضهم من بعض، ويكونوا امام البيوت، وان يحفروا من وراء البيوت أخدودا، وان يضرموا فيه حطبا وقصبا كثيرا، لئلا يؤتوا من ادبار البيوت، فيدخلوها. قالوا: ولما صلى عمر بن سعد الغداة نهد باصحابه، وعلى ميمنته عمرو بن الحجاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن واسم شمر شرحبيل بن عمرو بن معاويه، من آل الوحيد، من بنى عامر بن صعصعة وعلى الخيل عروه بن قيس، وعلى الرجاله شبث ابن ربعي، والراية بيد زيد مولى عمر بن سعد. وعبى الحسين ع أيضا اصحابه، وكانوا اثنين وثلاثين فارسا واربعين راجلا، فجعل زهير بن القين على ميمنته، وحبيب بن مظهر على ميسرته، ودفع الراية الى أخيه العباس بن على، ثم وقف، ووقفوا معه امام البيوت. وانحاز الحر بن يزيد الذى كان جعجع بالحسين الى الحسين، فقال له: قد كان منى الذى كان، وقد اتيتك مواسيا لك بنفسي، افترى ذلك لي توبه مما كان منى؟. قال الحسين: نعم، انها لك توبه، فابشر، فأنت الحر في الدنيا، وأنت الحر في الآخرة، ان شاء الله. قالوا: ونادى عمر بن سعد مولاه زيدا ان قدم الراية، فتقدم بها، وشبت الحرب. فلم يزل اصحاب الحسين يقاتلون ويقتلون، حتى لم يبق معه غير اهل بيته. فكان أول من تقدم منهم، فقاتل على بن الحسين، وهو على الاكبر، فلم يزل يقاتل حتى قتل، طعنه مره بن منقذ العبدى، فصرعه، وأخذته السيوف فقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، رماه عمرو بن صبح الصيداوى، فصرعه. ثم قتل عدى بن عبد الله بن جعفر الطيار، قتله عمرو بن نهشل التميمى. ثم قتل عبد الرحمن بن عقيل بن ابى طالب، رماه عبد الله بن عروه الخثعمى بسهم، فقتله. ثم قتل محمد بن عقيل بن ابى طالب، رماه لقيط بن ناشر الجهنى بسهم، فقتله. ثم قتل القاسم بن الحسن بن على بن ابى طالب، ضربه عمرو بن سعد بن مقبل الأسدي. ثم قتل ابو بكر بن الحسن بن على، رماه عبد الله بن عقبه الغنوي بسهم، فقتله. قالوا: ولما راى ذلك العباس بن على قال لإخوته عبد الله، وجعفر، وعثمان، بنى على، عليه وعليهم السلام، وأمهم جميعا أم البنين العامريه من آل الوحيد: تقدموا، بنفسي أنتم، فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه. فتقدموا جميعا. فصاروا امام الحسين ع، يقونه بوجوههم ونحورهم. فحمل هانئ بن ثويب الحضرمى على عبد الله بن على، فقتله. ثم حمل على أخيه جعفر بن على، فقتله أيضا. ورمى يزيد الأصبحي عثمان بن على بسهم، فقتله، ثم خرج اليه، فاحتز راسه، فاتى عمر بن سعد، فقال له: أثبني. فقال عمر: عليك باميرك يعنى عبيد الله بن زياد فسله ان يثيبك. وبقي العباس بن على قائما امام الحسين يقاتل دونه، ويميل معه حيث مال، حتى قتل، رحمه الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وبقي الحسين وحده، فحمل عليه مالك بن بشر الكندى، فضربه بالسيف على راسه، وعليه برنس خز، فقطعه، وافضى السيف الى راسه، فجرحه. فالقى الحسين البرنس، ودعا بقلنسوه، فلبسها، ثم اعتم بعمامة، وجلس، فدعا بصبى له صغير، فاجلسه في حجره، فرماه رجل من بنى اسد، وهو في حجر الحسين بمشقص [1] ، فقتله. وبقي الحسين ع مليا جالسا، ولو شاءوا ان يقتلوه قتلوه، غير ان كل قبيله كانت تتكل على غيرها، وتكره الاقدام على قتله. وعطش الحسين، فدعا بقدح من ماء. فلما وضعه في فيه رماه الحصين بن نمير بسهم، فدخل فمه، وحال بينه وبين شرب الماء، فوضع القدح من يده. ولما راى القوم قد أحجموا عنه قام يتمشى على المسناه [2] نحو الفرات، فحالوا بينه وبين الماء، فانصرف الى موضعه الذى كان فيه. فانتزع له رجل من القوم بسهم، فاثبته في عاتقه، فنزع ع السهم. وضربه زرعه بن شريك التميمى بالسيف، واتقاه الحسين بيده، فاسرع السيف في يده. وحمل عليه سنان بن أوس النخعى، فطعنه، فسقط. ونزل اليه حولي بن يزيد الأصبحي ليحز راسه، فارعدت يداه. فنزل اخوه شبل بن يزيد، فاحتز راسه، فدفعه الى أخيه حولي. ثم مال الناس على ذلك الورس الذى كان اخذه من العير، والى ما في المضارب، فانتهبوه.   [1] المشقص نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض. [2] ضفيره تبنى للسيل لترد الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ولم ينج من اصحاب الحسين ع وولده وولد أخيه الا ابناه، على الاصغر، وكان قد راهق، والا عمر، وقد كان بلغ اربع سنين. ولم يسلم من اصحابه الا رجلان، أحدهما المرقع بن ثمامة الأسدي، بعث به عمر بن سعد الى ابن زياد فسيره الى الربذة [1] ، فلم يزل بها حتى هلك يزيد، وهرب عبيد الله الى الشام، فانصرف المرقع الى الكوفه، والآخر مولى لرباب، أم سكينه، اخذوه بعد قتل الحسين، فأرادوا ضرب عنقه، فقال لهم: انى عبد مملوك. فخلوا سبيله. وبعث عمر بن سعد برأس الحسين من ساعته الى عبيد الله بن زياد مع خولى ابن يزيد الأصبحي. واقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين يومين، ثم آذن في الناس بالرحيل، وحملت الرءوس على اطراف الرماح، وكانت اثنين وسبعين راسا، جاءت هوازن منها باثنين وعشرين راسا، وجاءت تميم بسبعه عشر راسا مع الحصين بن نمير، وجاءت كنده بثلاثة عشر راسا مع قيس بن الاشعث، وجاءت بنو اسد بسته رءوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمس رءوس مع عيهمه بن زهير، وجاءت ثقيف باثنى عشر راسا مع الوليد بن عمرو. وامر عمر بن سعد بحمل نساء الحسين وأخواته وبناته وجواريه وحشمه في المحامل المستوره على الإبل. وكانت بين وفاه رسول الله ص وبين قتل الحسين خمسون عاما. قالوا: ولما ادخل راس الحسين ع على ابن زياد فوضع بين يديه جعل ابن زياد ينكت بالخيزرانه ثنايا [2] الحسين، وعنده زيد بن ارقم، صاحب رسول الله ص، فقال له:   [1] من قرى المدينة على ثلاثة اميال منها. وهي قريبه من ذات عرق. [2] ثنايا الإنسان في فمه الأربع التي في مقدم فيه، ثنتان من فوق وثنتان من اسفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 مه، ارفع قضيبك عن هذه الثنايا، فلقد رايت رسول الله ص يلثمها. ثم خنقته العبرة، فبكى. فقال له ابن زياد: مم تبكي؟ ابكى الله عينيك، والله لولا انك شيخ قد خرفت لضربت عنقك. قالوا: وكانت الرءوس قد تقدم بها شمر بن ذي الجوشن امام عمر بن سعد. قالوا: واجتمع اهل الغاضرية فدفنوا اجساد القوم. وروى عن حميد بن مسلم قال: كان عمر بن سعد لي صديقا، فأتيته عند منصرفه من قتال الحسين، فسألته عن حاله، فقال: لا تسال عن حالي، فانه ما رجع غائب الى منزله بشر مما رجعت به، قطعت القرابة القريبه، وارتكبت الأمر العظيم. قالوا: ثم ان ابن زياد جهز على بن الحسين ومن كان معه من الحرم، ووجه بهم الى يزيد بن معاويه مع زحر بن قيس ومحقن بن ثعلبه، وشمر بن ذي الجوشن. فساروا حتى قدموا الشام، ودخلوا على يزيد بن معاويه بمدينه دمشق، وادخل معهم راس الحسين، فرمى بين يديه. ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن، فقال: يا امير المؤمنين، ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلا من اهل بيته، وستين رجلا من شيعته، فصرنا اليهم، فسألناهم النزول على حكم أميرنا عبيد الله بن زياد، او القتال، فغدونا عليهم عند شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل جانب، فلما أخذت السيوف منهم ماخذها جعلوا يلوذون الى غير وزر [1] ، لوذان الحمام من الصقور، فما كان الا مقدار جزر [2] جزوز، او نوم قائل [3] حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك   [1] ملجأ. [2] ذبح ناقه. [3] القيلوله: النوم في الظهيره والقائله نصف النهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 اجسادهم مجرده، وثيابهم مرمله، وخدودهم معفره، تسفى عليهم الرياح، زوارهم العقبان [1] ، ووفودهم الرخم [2] . فلما سمع ذلك يزيد دمعت عينه وقال: ويحكم، قد كنت ارضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجان، اما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه، رحم الله أبا عبد الله. ثم تمثل: نفلق هاما من رجال أعزة ... علينا، وهم كانوا اعق واظلما ثم امر بالذرية فادخلوا دار نسائه. وكان يزيد إذا حضر غذاؤه دعا على بن الحسين وأخاه عمر فيأكلان معه، فقال ذات يوم لعمر بن الحسين: هل تصارع ابنى هذا؟ يعنى خالدا، وكان من اقرانه. فقال عمر: بل أعطني سيفا، وأعطه سيفا حتى اقاتله، فتنظر أينا اصبر. فضمه يزيد اليه، وقال: شنشنة اعرفها من اخزم [3] ، هل تلد الحيه الا حيه. قال: ثم امر بتجهيزهم باحسن جهاز، وقال لعلى بن الحسين: انطلق مع نسائك حتى تبلغهن وطنهن. ووجه معه رجلا في ثلاثين فارسا، يسير امامهم، وينزل حجره عنهم، حتى انتهى بهم الى المدينة.   [1] العقبان: عتاق الطير وسباعه التي لا تصيد الخشاش. [2] نوع من الطير موصوف بالغدر. [3] الشنشنة: الطبيعة والسجية، واخزم كان ولدا عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وادموه، فقال انما هو شنشنة اعرفها من اخزم، فصار مثلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قالوا: وان عبيد الله بن الحر ندم على تركه اجابه الحسين حين دعاه بقصر بنى مقاتل الى نصرته، وقال: فيا لك حسره ما دمت حيا ... تردد بين حلقى والتراقى حسين حين يطلب بذل نصري ... على اهل العداوة والشقاق فما انسى غداه يقول حزنا ... اتتركني وتزمع لانطلاق؟ فلو فلق التلهف قلب حي ... لهم القلب منى بانفلاق ثم مضى نحو ارض الجبل مغاضبا لابن زياد، واتبعه اناس من صعاليك الكوفه. عبد الله بن الزبير قالوا: وان ابن الزبير لما سار الى مكة وخرج الحسين عنها سائرا الى الكوفه كان يقول: انى في الطاعة، غير انى لا ابايع أحدا، وانا مستجير بالبيت الحرام. فبعث اليه يزيد بن معاويه رجلا في عشره نفر من حرسه، وقال: انطلق، فانظر ما عنده، فان كان في الطاعة فخذه بالبيعه، وان ابى فضع في عنقه جامعه [1] وائتنى به. فلما قدم الحرسى عليه، واخبره بما أتاه فيه تمثل ابن الزبير: ما ان الين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر وقال للحرسى: انصرف الى صاحبك، فاعلمه اننى لا اجيبه الى شيء مما يسألني. قال الحرسى: الست في الطاعة؟ قال: بلى، غير انى لا امكنك من نفسي، ولا اكاد. فانصرف الحرسى الى يزيد، فاخبره بذلك.   [1] الجامعه: الغل لأنها تجمع اليدين الى العنق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فوجه يزيد بعشره نفر من اشراف اهل الشام، فيهم النعمان بن بشير، وعبد الله بن عضاه الأشعري وكان له صلاح، ومسلم بن عقبه لعنه الله فقال لهم: انطلقوا، فاعيدوه الى الطاعة والجماعه واعلموه، ان أحب الأمور الى ما فيه السلامة. فساروا حتى وافوا مكة، ودخلوا على ابن الزبير في المسجد، فدعوه الى الطاعة وسألوه البيعه. فقال ابن الزبير لابن عضاه: اتستحل قتالى في هذا الحرم؟ قال: نعم، ان أنت لم تجب الى طاعه امير المؤمنين. قال ابن الزبير: وتستحل قتل هذه الحمامة؟ واشار الى حمامه من حمام المسجد. فاخذ ابن عضاه قوسه، وفوق فيها سهما، فبواه [1] نحو الحمامه، ثم قال: يا حمامه، اتعصين امير المؤمنين؟ والتفت الى ابن الزبير، وقال: اما لو انها قالت نعم لقتلتها. وان ابن الزبير خلا بنعمان بن بشير، فقال: أنشدك الله، انا افضل عندك أم يزيد؟ فقال: بل أنت. فقال: فوالدى خير أم والده؟ قال: بل والدك. قال: فامى خير أم أمه؟ قال: بل أمك. قال: فخالتى خير أم خالته؟ قال: بل خالتك.   [1] سدده نحو الحمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 قال: فعمتى خير أم عمته؟ قال: بل عمتك، ابوك الزبير، وأمك أسماء ابنه ابى بكر، وخالتك عائشة، وعمتك خديجه بنت خويلد. قال: افتشير على بمبايعه يزيد؟ قال النعمان: اما إذا استشرتنى فلا ارى لك ذلك، ولست بعائد إليك بعد هذا ابدا. ثم ان القوم انصرفوا الى الشام، فاعلموا يزيد ان ابن الزبير لم يجب الى شيء. قال مسلم بن عقبه المري ليزيد: يا امير المؤمنين، ان ابن الزبير خلا بالنعمان ابن بشير، فكلمه بشيء، لم ندر ما هو، وقد انصرف إليك بغير رايه الذى خرج من عندك. ولما انصرف القوم من عند ابن الزبير جمع ابن الزبير اليه وجوه اهل تهامه والحجاز، فدعاهم الى بيعته، فبايعوه جميعا، وامتنع عليه عبد الله بن عباس، ومحمد بن الحنفيه. وان ابن الزبير امر بطرد عمال يزيد من مكة والمدينة، وارتحل مروان من المدينة بولده واهل بيته حتى لحق بالشام. ولما انتهى الى يزيد بن معاويه مبايعه اهل تهامه والحجاز لعبد الله بن الزبير ندب له الحصين بن نمير السكوني، وحبيش بن دلجه القينى، وروح بن زنباع الجذامى، وضم الى كل واحد منهما جيشا، واستعمل عليهم جميعا مسلم بن عقبه المري، وجعله امير الأمراء، وشيعتهم حتى بلغ ماء، يقال له وبره، وهي اقرب مياه الشام الى الحجاز. فلما ودعهم قال يا مسلم: لا تردن اهل الشام عن شيء يريدونه بعدوهم، واجعل طريقك الى المدينة، فان حاربوك فحاربهم، فان ظفرت بهم، فانهبها ثلاثة ايام. ثم أنشأ يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ابلغ أبا بكر إذا الخيل انبرى ... وسارت الخيل الى وادي القرى [1] . اجمع سكران من الخمر ترى وذلك ان ابن الزبير كان يسمى يزيد السكران. ولما بلغ اهل المدينة وصول الجيش تأهبوا للحرب، فولت قريش عليها عبد الله ابن مطيع العدوى، وولت الانصار عليها عبد الله بن حنظله الراهب وهو غسيل الملائكة ثم خرجوا الى الحره، فعسكروا بها. ففي ذلك يقول شاعرهم: ان في الخندق المكلل بالمجد ... لضربا يفور بالسنوات لست منا، وليس خالك منا ... يا مضيع الصلاة للشهوات ووافاهم الجيش، فقاتلوهم حتى كثرت القتلى. واقبلت طائفه من اهل الشام، فدخلوا المدينة من قبل بنى حارثة، وهم الذين قالوا إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [2] ، فلم يشعر القوم، وهم يقاتلون من يليهم، الا واهل الشام يضربونهم من ادبارهم، فقتل عبد الله بن حنظله امير الانصار، وقتل عمرو بن حزم الأنصاري قاضى المدينة، واستباح اهل الشام المدينة ثلاثة ايام بلياليها. فلما كان اليوم الرابع جلس مسلم بن عقبه، فدعاهم الى البيعه، فكان أول من أتاه يزيد بن عبد الله بن ربيعه بن الأسود، وجدته أم سلمه زوج النبي ص. فقال له مسلم: بايعنى. قال: ابايعك على كتاب الله وسنه نبيه ص. فقال مسلم بل بايع على انكم فيء لأمير المؤمنين، يفعل في أموالكم وذراريكم ما يشاء. فأبى ان يبايع على ذلك، فامر به، فضربت عنقه.   [1] وادي مكة [2] سوره الأحزاب الآية رقم 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ثم تقدم محمد بن ابى الجهم بن حذيفة العدوى، فقال له مسلم: أنت الذى وفدت على امير المؤمنين، فاكرمك وحباك، فرجعت الى المدينة تشهد عليه بشرب الخمر، والله لا تشهد بشهاده زور ابدا، اضربوا عنقه. فضربت عنقه. ثم تقدم معقل بن سنان الاشجعى، وكان حليفا لبنى هاشم، فقال له مسلم: اتذكر يوما مررت بي بطبريه [1] ، فقلت لك، من اين اقبلت؟ فقلت، سرنا شهرا، وانضينا ظهرا، ورجعنا صفرا، وسناتى المدينة فنخلع الفاسق يزيد بن معاويه، ونبايع رجلا من اولاد المهاجرين؟ فاعلم انى كنت آليت ذلك اليوم الا اقدر عليك في موطن يمكنني فيه قتلك الا قتلتك، وقد أمكنني الله منك يا احمق، ما اشجع والخلافه؟! فتعزل وتولى، اضربوا عنقه. ثم تقدم عمرو بن عثمان، فقال له: أنت الخبيث ابن الطيب، الذى إذا ظهر اهل الشام قلت انا ابن عثمان بن عفان، وإذا ظهر اهل الحجاز قلت انا واحد منكم، وأنت في ذلك تبغى امير المؤمنين الغوائل، انتفوه. فنتفت لحيته، حتى ما تركت فيها شعره. فقام اليه عبد الملك بن مروان، فاستوهبه، فوهبه له. ثم أتاه على بن الحسين بن على بن ابى طالب، فاجلسه معه على ثيابه وفراشه، وقال: ان امير المؤمنين قد أوصاني بك. فقال على: انى كنت لما فعل اهل المدينة كارها. قال: اجل. ثم حمله على بغله، وصرفه الى منزله.   [1] بلد مطل على البحيره المعروفه بها، في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحده، وهي مستطيله، تنتهي الى جبل صغير، عنده آخر العمارة، وفيها عيون ملحه حاره، قد بنيت عليها حمامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وبعث الى على بن عبد الله بن عباس ليؤتى به للبيعه، فاخرج من منزله، فاقبلوا به. فلقيه الحصين بن نمير، فانتزعه من يد الجلاوزة [1] . وكان الحصين من اخوال على بن عبد الله. فقال مسلم: انى انما بعثت اليه للبيعه، فائتنى به. فأرسل اليه الحصين، فجاء حتى بايع. وأرسلت بنت الاشعث بن قيس، وكانت امراه الحسين بن على، الى مسلم ابن عقبه تعلمه ان منزلها انتهب، فامر برد جميع ما أخذ لها. ثم شخص بالجيش الى مكة، وكتب الى يزيد بما صنع بالمدينة، فتمثل يزيد. ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل [2] حين حكت بقباء بركها ... واستحر القتل في عبد الأشل فلما بلغ ابن عقبه هرشى [3] اعتل، واشتدت علته، ونزل به الموت، فقال: أسندوني. فاسند، فقال: ان امير المؤمنين أمرني ان حدث بي في وجهى هذا حدث ان استخلف الحصين ابن نمير على الجيش، ولو كان الأمر الى ما استخلفته، لان من شان اليمانيه الرقة، غير انى لا اعصى امير المؤمنين. ثم قال: يا حصين، إذا وافيت مكة فناجز ابن الزبير الحرب من يومك، ولا ترد اهل الشام عن شيء يريدونه بعدوهم، ولا تجعل اذنك وعاء لقريش فيخدعوك. ثم مات، وكانت به الذبحه. فتولى امر الجيش الحصين بن نمير، فسار حتى وافى مكة. وتحصن منه ابن الزبير في المسجد الحرام في جميع من كان معه، ونصب   [1] جمع جلواز بالكسر، وهم الشرطه. [2] الرماح [3] هرشى: ثنية في طريق مكة قريبه من الجحفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الحصين المجانيق على جبل ابى قبيس [1] ، وكانوا يرمون اهل المسجد. فبيناهم كذلك إذ ورد على الحصين بن نمير موت يزيد بن معاويه، فأرسل الى عبد الله بن الزبير: ان الذى وجهنا لمحاربتك قد هلك، فهل لك في الموادعة؟ وتفتح لنا الأبواب، فنطوف بالبيت، ويختلط الناس بعضهم ببعض. فقبل ذلك ابن الزبير، وامر بأبواب المسجد، ففتحت، فجعل الحصين واصحابه يطوفون بالبيت. فبينا الحصين يطوف بعد العشاء إذ استقبله ابن الزبير، فاخذ الحصين بيده، فقال له سرا: هل لك في الخروج معى الى الشام؟ فادعو الناس الى بيعتك، فان امرهم قد مرج [2] ، ولا ارى أحدا أحق بها اليوم منك، ولست اعصى هناك. فاجتذب عبد الله بن الزبير يده من يده، وقال، وهو يجهر بقوله: دون ان اقتل بكل رجل من اهل الحجاز عشره من اهل الشام. فقال الحصين: لقد كذب من زعم انك من دهاه العرب، اكلمك سرا، وتكلمني علانية، وادعوك الى الخلافه وتدعوني الى الحرب. ثم انصرف في اصحابه الى الشام، ومر بالمدينة، فبلغه انهم على محاربته ثانيا. فجمع اليه أهلها، وقال: ما هذا الذى بلغنى عنكم؟ فاعتذروا اليه، وقالوا: ما هممنا بذلك. وذكر ابو هرون العبدى، قال: رايت أبا سعيد الخدرى، ولحيته بيضاء، وقد خف جانباها، وبقي وسطها، فقلت: يا أبا سعيد، ما حال لحيتك؟   [1] الجبل المشرف على مكة من غربيها، وكان يسمى في الجاهلية الامين لأنه استودع فيه الحجر الأسود. [2] اختلط وفسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فقال: هذا فعل ظلمه اهل الشام يوم الحره، دخلوا على بيتى، فانتهبوا ما فيه حتى أخذوا قد حي الذى كنت اشرب فيه الماء، ثم خرجوا، ودخل على بعدهم عشره نفر، وانا قائم اصلى، فطلبوا البيت، فلم يجدوا فيه شيئا، فاسفوا لذلك، فاحتملوني من مصلاي، وضربوا بي الارض، واقبل كل رجل منهم على ما يليه من لحيتي، فنتفه، فما ترى منها خفيفا فهو موضع النتف، وما تراه عافيا فهو ما وقع في التراب، فلم يصلوا إليها، وسادعها كما ترى حتى اوافى بها ربى. الخوارج قالوا: وفي سنه ثمانين تفاقم امر الازارقه الخوارج، وانما سموا ازارقه برئيسهم نافع بن الأزرق. وكان أول خروجهم في اربعين رجلا، وفيهم من عظمائهم نافع بن الأزرق، وعطية بن الأسود، وعبد الله بن صبار، وعبد الله بن اباض، وحنظله بن بيهس، وعبيد الله بن ماحوز، وذلك في سلطان يزيد. وعلى البصره يومئذ عبيد الله بن زياد، فوجه اليهم عبيد الله اسلم بن ربيعه في الفى فارس، فلحقهم بقرية من الاهواز تدعى آسك [1] مما يلى فارس، فواقعهم، فقتلت الخوارج من اصحاب ابن ربيعه خمسين رجلا، فانهزم اسلم، فأنشأ رجل من الخوارج يقول: األفا مؤمن منكم زعمتم ... ويهزمكم بأسك اربعونا؟ كذبتم، ليس ذاك كما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليله قد علمتم ... على الفئة الكثيره ينصرونا أطعتم امر جبار عنيد ... وما من طاعه للظالمينا   [1] بلد من نواحي الاهواز، قرب ارجان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فاغتاظ ابن زياد من ذلك، فكان لا يدع بالبصرة أحدا ممن يتهم براى الخوارج الا قتله، حتى قتل بالتهمة والظنه تسعمائة رجل. ولم يزل يتفاقم امر الخوارج، ويتحلب اليهم من كان على رأيهم وهواهم من اهل البصره حتى كثروا بعد موت يزيد، وهرب عبيد الله بن زياد من العراق. وخاف اهل البصره الخوارج على انفسهم، ولم يكن يومئذ عليهم سلطان، فاجتمعوا على مسلم بن عبيس القرشي، ووجهوا معه خمسه آلاف فارس من ابطال البصره، فسار اليهم، فلحقهم بمكان يسمى الدولاب [1] فالتقوا واقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض، حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف، وصاروا الى المكادمة، فقتل مسلم بن عبيس، وانهزم اصحابه. فقال رجل من الأزد: قد رمينا العدو إذ عظم الخطب ... بذى الجود مسلم بن عبيس فانظروا غير مسلم بن عبيس ... فاطلبوه من حيث اين وليس [2] لو رموا بالمهلب بن ابى صفره ... كانوا له كاكله حيس [3] وكان المهلب يومئذ بخراسان على ولايتها. فخاف اهل البصره حين قتل مسلم بن عبيس خوفا شديدا من الخوارج، فاختاروا عثمان بن معمر القرشي، وانتدب معه زهاء عشره آلاف رجل من ابطالهم، فسار بهم عثمان في طلب الخوارج، فلحقهم بفارس، فاقتتلوا، فقتل عثمان، وانهزم اصحابه. فكتب اهل البصره الى عبد الله بن الزبير يعلمونه انه لا امام لهم، ويسالونه ان يوجه اليهم رجلا من قبله يتولى الأمر.   [1] من قرى الري. [2] اى من حيث هو ولا هو. [3] الحيس تمر يخلط بسمن ومخيض غنم، فيعجن شديدا، ثم يندر منه نواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فوجه اليهم الحارث بن عبد الله بن ابى ربيعه المخزومي، فقدم البصره، وتولى الأمر بها، فدعا وجوه اهل البصره، فاستشارهم في رجل يوليه حرب الخوارج، فكلهم قالوا: عليك بالمهلب بن ابى صفره. وقام رجل من اهل البصره يعرف بابن عراده، فانشده: مضى ابن عبيس مسلم لسبيله ... فقام لها الشيخ الحجازي عثمان فارعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وابرق، والبرق الحجازي خوان ولم ينك عثمان جناح بعوضة ... واضحى عدو الدين مثل الذى كانوا وليس لها الا المهلب انه ... مليء بأمر الحرب، شيخ له شان إذا قيل من يحمى العراقين أومأت ... اليه معد بالاكف، وقحطان فذاك امرؤ ان يلقهم يطف نارهم ... وليس لها الا المهلب انسان حرب المهلب مع الخوارج فقال الأحنف بن قيس للحارث بن عبد الله: ايها الأمير، اكتب الى امير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وسله ان يكتب الى المهلب بان يخلف على خراسان رجلا، ويسير الى الخوارج، فيتولى محاربتهم. فكتب. فلما انتهى كتابه الى عبد الله بن الزبير كتب الى المهلب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله امير المؤمنين الى المهلب بن ابى صفره، اما بعد، فان الحارث بن عبد الله كتب الى يخبرني ان الازارقه المارقه قد سعرت نارها، وتفاقم امرها، فرايت ان اوليك قتالهم لما رجوت من قيامك، فتكفى اهل مصرك شرهم، وتؤمن روعتهم، فخلف بخراسان من يقوم مقامك من اهل بيتك، وسر حتى توافى البصره، فتستعد منها بافضل عدتك، وتخرج اليهم، فانى أرجو ان ينصرك الله عليهم، والسلام. فلما وصل كتابه الى المهلب خلف على خراسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 واقبل حتى وافى البصره، فصعد على المنبر، وكان نزر الكلام وجيزه، فقال: ايها الناس، انه قد غشيكم عدو جاحد، يسفك دماءكم، وينتهب أموالكم، فان أعطيتموني خصالا اسالكموها قمت لكم بحربهم، واستعنت بالله عليهم، والا كنت كواحد منكم لمن تجتمعون عليه في امركم. قالوا: وما الذي تريد؟ قال: انتخب منكم أوساطكم، لا الغنى المثقل، ولا السبروت [1] المخف، وعلى ان لي ما غلبت عليه من الارض، والا اخالف فيما ادبر من رأيي في حربهم، واترك ورأيي الذى أراه، وتدبيرى الذى ادبره. فناداه الناس: لك ذلك، وقد رضينا به. فنزل من المنبر، واتى منزله، وامر بديوان الجند، فاحضر، فانتخب من ابطال اهل البصره عشرين الف رجل، فيهم من الأزد ثمانية آلاف رجل، وبقيتهم من سائر العرب، وولى ابنه المغيره مقدمته في ثلاثة آلاف رجل. وسار حتى اتى الخوارج، وهم بنهر تستر [2] ، فواقعهم، فهزمهم، حتى بلغوا الاهواز، فقال زياد الأعجم في ذلك: جزى الله خيرا، والجزاء بكفه ... أخا الأزد عنا ما أذب واحربا ولما رأينا الأمر قد جد جده ... والا توارى دوننا الشمس كوكبا دعونا أبا غسان، فاستك سمعه ... واحنف طأطأ راسه، وتهيبا وكان ابن منجوف لكل عظيمة ... فقصر عنها حبله وتذبذبا فلما رأينا القوم قد كل حدهم ... لدى حربهم فيها دعونا المهلبا   [1] الفقير. [2] اعظم انهار خوزستان، بنى عليه سابور الملك شاذروان بباب تستر، حتى ارتفع ماؤه الى المدينة، لان تستر على مكان مرتفع من الارض، وهذا الشاذروان كان من عجائب الابنيه، طوله ميل، مبنى بالحجارة المحكمه، والصخر واعمده الحديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 واقام المهلب بالجسر بعد ان هزم الخوارج اربعين يوما، ثم ارتحل سائرا في آثارهم. فبلغ ذلك نافع بن الأزرق، فأقام بالاهواز حتى وافاه المهلب، فواقعهم بمكان يسمى نسلى [1] ، فقاتلهم يوما الى الليل، واصابته ضربه في وجهه، أغمي عليه منها، فقال الناس قتل الأمير، فازدادوا لذلك حنقا وجدا، وقتلوا من الخوارج بشرا كثيرا، وقتل رئيسهم نافع بن الأزرق، وانهزمت الخوارج نحو فارس. وبلغ اهل البصره ان المهلب قتل، فرج المصر باهله، وهم أميرهم الحارث ابن ابى ربيعه ان يهرب، فكتب اليه رجل من بنى يشكر: أيا حار، يا ابن السادة الصيد، هب لنا ... مقامك، لا ترحل ولم يأتك الخبر فان كان اودى بالمهلب يومه ... فقد كسفت في أرضنا الشمس والقمر وما لك من بعد المهلب عرجه ... وما لك بالمصرين سمع ولا بصر فدونك، فالحق بالحجاز، ولا تقم ... ببلدتنا، ان المقام بها خطر وان كان حيا كنت بالمصر آمنا ... وكان بقاء المرء فينا هو الظفر وقال رجل من بنى سعد: الا كل ما ياتى من الأمر هين ... علينا يسير عند فقد المهلب فان يك قد اودى فما نحن بعده ... بامنع من شاء عجاف لاذؤب [2] نعوذ بمن ارسى ثبيرا مكانه ... ومرسى حراء والقديد وكبكب [3] من الخبر الملقى على الحور حذرها ... ويشجى به ما بين بصرى ويثرب   [1] موضع بالاهواز قرب مناذر. [2] جمع ذئب. [3] الكبكب كجعفر جبل بعرفات خلف ظهر الامام إذا وقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فاقبل البشير الى اهل البصره بسلامه المهلب، فاستبشروا بذلك، واطمأنوا، واقام أميرها بعد ان هم بالهرب. فقال رجل من بنى ضبة: ان ربا انجى المهلب ذا ... الطول لأهل ان تحمدوه كثيرا لا يزال المهلب بن ابى صفره ... ما عاش بالعراق أميرا فإذا مات فالرجال نساء ... ما يساوى من بعده قطميرا [1] قد أمنا بك العدو على المصر ... ووقرت منبرا وسريرا وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق: شمت المهلب، والحوادث جمة ... والشامتون بنافع بن الأزرق ان مات غير مداهن في دينه ... ومتى يمر بذكر نار يصعق والموت امر لا محاله واقع ... من لا يصبحه نهارا يطرق فلئن منينا بالمهلب انه ... لأخو الحروب وليث اهل المشرق ولعله يشجى بنا ولعلنا ... نشجى به في كل ما قد نلتقي بالسمر نختطف النفوس ذوابلا ... وبكل ابيض صارم ذي رونق فيذيقنا في حربنا، ونذيقه ... كل مقالته لصاحبه ذق وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة على الهرب، فعزله، وولى أخاه مصعبا، فسار مصعب حتى قدمها، وتولى امر جميع العراقين، وفارس والاهواز.   [1] القطمير شق النواة او القشرة التي فيها، او القشره الرقيقه بين النواه والتمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ولما قتل نافع بن الأزرق اجتمعت الخوارج، فولوا على انفسهم عبد الله ابن ماحور [1] ، وكان من نساكهم. وبلغ ذلك المهلب، فسار من الاهواز في طلبهم حتى وافاهم بمدينه سابور من ارض فارس، فالتقوا، فاقتتلوا، وانهزمت الخوارج في آخر النهار حتى انتهوا الى مكان يدعى كركان [2] واتبعهم المهلب، فوافاهم، فالتقوا به في يوم شديد المطر، فقاتلهم، فهزمهم، فأخذوا نحو كرمان [3] فلم يزل المهلب يسير في طلبهم من بلد الى بلد، ويواقعهم وقعه بعد وقعه طول ما ملك عبد الله بن الزبير الى مقتله، وخلوص الأمر لعبد الملك بن مروان. فلما استدف الأمر لعبد الملك، وولى الحجاج العراقين استبطأ المهلب في استئصال الخوارج، وظن انه يهوى مطاولتهم، فبعث اليه عبد الأعلى بن عبد الله العامري، وعبد الرحمن بن سبره، وقال لهما احملاه على مناجزة القوم وترك مطاولتهم. فقدما عليه، فأخبراه بما بعثا له، فقال لهما: أقيما حتى تعاينا ما نحن فيه، فان الحجاج أتاه السماع فقبله، وأتاه العيان فرده، وقد حملني على خلاف الرأي، وزعم انه الشاهد وانا الغائب. ثم سار نحو الخوارج فلحقهم بأداني ارض كرمان، فواقعهم، وامامه ابنه المفضل، فقتل رئيس الخوارج عبد الله بن ماحور، وانهزموا حتى توسطوا ارض كرمان، وولوا على انفسهم رجلا من نساكهم، يسمى قطري بن الفجاءه. ثم ان المهلب انصرف الى بلد سابور، فوافاهم يوم النحر، فخرج بالناس الى المصلى.   [1] في الأصل: ماحوز. [2] مدينه مشهوره بين طبرستان وخراسان. [3] ولايه مشهوره، وناحيه معمورة، ذات بلاد وقرى، ومدن واسعه، وهي بلاد كثيره النخل والزرع، ومن مدنها المشهوره جيرفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فبينا هو يخطب الناس على المنبر، وقد صلى بهم إذ اقبلت الخوارج، فقال: سبحان الله، افي مثل هذا اليوم يأتوننا؟ ما ابغض الى المحاربة فيه، ولكن الله تعالى يقول: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [1] ثم نزل عن المنبر، ونادى في اصحابه، فركبوا واستلاموا، واستقبلوا الخوارج، فحملت عليهم الخوارج، وامامهم عظيم منهم يسمى عمرو القنا وكان من فرسانهم، وهو يرتجز: نحن صبحناكم غداه النحر ... بالخيل امثال الوشيج تسرى [2] يقدمها عمرو القنا في الفجر ... الى اناس لهجوا بالكفر اليوم اقضى في العدو نذرى ثم اقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض، وكثرت بينهم القتلى، فلم يزل كل فريق منهما على مكانه حتى حال بينهم الليل، وانحازت الخوارج الى كازرون [3] . وسار اليهم المهلب فواقعهم بكازرون، فاسرع المهلب في الخوارج، فتفرقوا [4] في تلك الوقعه، وصاروا سياره، وخرجوا الى تخوم اصطخر، واتبعهم المهلب. فتواقف الفريقان، وحمل بعضهم على بعض، وامام الخوارج رجل يرتجز: حتى متى يتبعنا المهلب ... ليس لنا في الارض منه مهرب ولا السماء، اين اين المذهب؟   [1] سوره البقره الآية: 194. [2] الوشيج: شجر الرماح. [3] مدينه بفارس بين البحر وشيراز، ويقال انها هي دمياط الأعاجم، وكلها قصور وبساتين ممتدة عن يمين وشمال. [4] في الأصل: فرقوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فلما سمع قطري ذلك بكى، ووطن نفسه على الموت، وباشر الحرب بنفسه، وهو يرتجز: حتى متى تخطئنى الشهاده ... والموت في أعناقنا قلاده ليس الفرار في الوغى بعاده ... يا رب زدني في التقى عباده وفي الحياه بعدها زهاده فاقتتلوا يومهم حتى حال بينهم الليل. ومضى قطري في اصحابه نحو جيرفت [1] ، وهم بالهرب الى كرمان، فقال رجل من اصحابه: أيا قطري الخير ان كنت هاربا ... ستلبسنا عارا وأنت مهاجر إذا قيل قد جاء المهلب اسلمت ... له شفتاك الفم، والقلب طائر فحتى متى هذا الفرار مخافة ... وأنت ولى، والمهلب كافر ولما رات الخوارج نكول قطري عن الحرب، وما هم به من الفرار خلعوه عنهم، وولوا عبد ربه وكان من نساكهم، فسار بهم الى قومس [2] ، فأقام بها. المهلب والحجاج وان الحجاج كتب الى المهلب: اما بعد، فقد طاولت القوم وطاولوك، حتى ضروا بك ومرنوا على حربك، ولعمري لو لم تطاولهم لا نحسم الداء وانفصم القرن، وما أنت والقوم سواء، ان   [1] مدينه بكرمان، من اعيان مدنها وأنزهها، بها نخل وفواكه، قال سهيل بن عدى: ولم تر عيني مثل يوم رايته ... بجيرفت من كرمان اوهى واحقرا [2] تعريب كومس: كورة كبيرة واسعة، بها مدن وقرى ومزارع في ذيل جبل طبرستان، قصبتها دامغان، بين الري ونيسابور، ومن مدنها بسطام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 خلفك رجالا واموالا، والقوم لا رجال عندهم ولا اموال، ولن يدركك الوجيف [1] بالدبيب، ولا الجد بالتعذير، وقد بعثت إليك عبيد الله بن موهب، ليأخذك بمناجزه القوم وترك مطاولتهم، والسلام. فلما قدم عبيد الله بن موهب على المهلب بكتاب الحجاج كتب اليه في جوابه: اما بعد، فانه أتاني من قبلك رجلان، لم أعطهما على الصدق ثمنا، ولم احتج مع العيان الى التقدير، ولم يكذبا فيما انباك به من امرى وامر عدوى، والحرب لا يدركها الا المكيث، ولا بد لها من فرجه يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، فاما ان انساهم وينسونى فهيهات من ذلك، والقوم سدى، فان طمعوا أقاموا، وان يئسوا هربوا، فعلى في مقامهم القتال والحرب، وفي هربهم الجد والطلب، وانا إذا طاولتهم شاركتهم في رأيهم، وإذا عاجلتهم شركونى في رأيي، فان خليتني ورأيي فذاك داء محسوم وقرن مفصوم، وان عجلتنى لم اطعك ولم اعصك، وكان وجهى إليك باذن منك، وانا اعوذ بالله من سخط الأمراء ومقت الأئمة، والسلام. فلما قرأ الحجاج كتابه كتب الى المهلب: انى قد رددت الرأي إليك، فدبر ما ترى، واعمل ما تريد. فلما أتاه كتاب الحجاج بذلك نشط لطلب الخوارج. وسار في طلبهم الى ارض قومس، فهربوا منه، فاتوا جيرفت وتحصنوا في مدينه هناك، فخرج خلفهم، وحاصرهم في تلك المدينة حتى أكلوا خيلهم. وامر المهلب ابنه يزيد ان يقيم عليهم أياما، ثم يخلى لهم عن الباب، فإذا خرجوا واصحروا اتبعهم. وتنحى المهلب فعسكر على خمسه فراسخ، واقام عليهم يزيد أياما، ثم خلى لهم عن الباب، فخرجوا، واتبعهم المهلب.   [1] الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فسار في طلبهم يومين حتى لحقهم، فوقفوا له، فاقتتلوا يوما كله، ثم غدوا في اليوم الثانى على الحرب، فناداهم عبد ربه: يا معشر المهاجرين، روحوا بنا الى الجنه، فان القوم رائحون الى النار. فاطعنوا بالرماح حتى تكسرت، واضطربوا بالسيوف حتى تقطعت، ثم صاروا الى المعانقه، فترجل المهلب في حماته، وحمل عليهم، وهو يتلو قول الله عز وجل: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [1] . فلم يزالوا يقتتلون حتى حال بينهم الليل، ثم غدوا على الحرب، وقد كسرت الخوارج جفون سيوفهم، وحلقوا رءوسهم، فاقتتلوا، فقتل عبد ربه، وجميع ابطاله، ولم يبق الا ضعفاؤهم، فدخلوا في عسكر المهلب، وانضم كل رجل الى عشيرته من اصحاب المهلب. فنزل المهلب عن فرسه، وقال الحمد لله الذى ردنا الى الأمن، وكفانا مئونه الحرب، وكفى امر هذا العدو. ووجه بشر بن مالك الحرسى الى الحجاج يبشره بالفتح، وكتب معه كتاب الظفر. فلما وصل الكتاب الى الحجاج وجه به الى عبد الملك، وقام بشر بن مالك، فأنشأ يقول: قد حسمنا داء الازارقه الدهر ... ، فاضحوا طرا، كال ثمود بطعان الكماة في ثغر القوم ... وضرب يشيب راس الوليد كلما شئت راعنى قطري ... فوق عبل الشوى أقب عنود [2] . معلما يضرب الكتيبة بالسيف ... ، وعمرو «كالنار ذاتِ الْوَقُودِ»   [1] سوره البقره الآية: 193. [2] عبل الشورى اى قوى اليدين والرجلين والفرس الأقب هو الضامر البطن والعنود من الإبل والدواب المتقدمة في السير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وكتب الحجاج الى المهلب يأمره بالقدوم عليه. فسار حتى قدم على الحجاج، فاستقبله الحجاج، واظهر بره وإكرامه، وامر له بالجوائز والصلات، وامر لولده وكانوا سبعه المغيره، وحبيب، ويزيد، والمفضل، ومدرك، ومحمد، وعبد الملك، وعبد الله، واكرم اصحاب المهلب. قتل قطري بن الفجاءه ولحق قطري بالري، فوجه الحجاج سفيان بن الأبرد حتى اتى الري، وعليها اسحق بن محمد بن الاشعث، فركب معه في مائه فارس من جنده، وسارا حتى لحقاه، وهو في مائه فارس بتخوم طبرستان، فنزل عن دابته، ونام متوسدا يده، ثم استيقظ، وقال لعلج [1] . من أهلها: ايتنى بشربه من ماء. فأتاه بالماء، ولحقه القوم، فقتلوه قبل ان يشرب ذلك الماء، واحتز راسه، واخذه سفيان بن الأبرد، وانصرف الى الحجاج، فرمى بالراس بين يديه، فوجه الحجاج بالراس الى عبد الملك. ولايه خراسان واقام المهلب بعد انصرافه بالبصرة في منزله حتى وافاه عهده من عند عبد الملك على خراسان، فسار إليها فمكث عليها خمس سنين، ثم مات. فجعل عبد الملك امر خراسان الى الحجاج، فاقر الحجاج عليها يزيد ابن المهلب. وكان يزيد اجمل ولد المهلب جمالا واكملهم عقلا، وافضلهم رايا، واذربهم لسانا، وكان المهلب استخلفه عليها عند وفاته، فمكث عليها أعواما، ثم عزله الحجاج، واستعمل عليها قتيبة بن مسلم، فافتتح كل ما وراء النهر، ولم يزل هناك الى ان هاج به اصحابه، فقتلوه.   [1] العلج: الرجل الشديد الغليظ، وقيل هو من خرجت لحيته، واشتد بدنه، او هو الرجل من كفار العجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وافضى الملك بعد ذلك الى الوليد بن عبد الملك، ثم الى سليمان بن عبد الملك، فولى سليمان على العراق خالد بن عبد الله القسرى، فولى خالد أخاه اسد بن عبد الله خراسان، فلم يزل بها حتى ظهر فيها دعاه الامام محمد بن على بن عبد الله بن عباس. العراق بعد موت يزيد قالوا، ومات يزيد بن معاويه، وعبيد الله بن زياد بالبصرة، فكتب اليه الحارث بن عباد بن زياد بهذه الأبيات: الا يا عبيد الله قد مات من به ... ملكت رقاب العالمين يزيد اتثبت للقوم الذين وترتهم؟ ... وذاك من الرأي الزنيق بعيد [1] وما لك غير الأزد جار فإنهم ... اجاروا اباك، والبلاد تميد فتعجب عبيد الله من راى ابن أخيه، وكان ذا راى. ثم ان عبيد الله دعا بمولى له يسمى مهران، وكان يعدل في الدهاء والأدب والعقل بوردان غلام عمرو بن العاص، وهو الذى ينسب اليه البراذين المهرانية، فقال يا مهران: ان امير المؤمنين يزيد قد هلك، فما الرأي عندك؟ فقال مهران: ايها الأمير، ان الناس ان ملكوا انفسهم لم يولوا عليهم أحدا من ولد زياد، وانما ملكتم الناس بمعاويه، ثم بيزيد، وقد هلكا، وانك قد وترت الناس، ولست آمن ان يثبوا بك، والرأي لك ان تستجير هذا الحى من الأزد، فإنهم ان اجاروك منعوك، حتى يبلغوا بك مأمنك، والرأي ان تبعث الى الحارث بن قيس، فانه سيد القوم، وهو لك محب، ولك عنده يد، فتخبره بموت يزيد، وتسأله ان يجيرك.   [1] الزنق بضمتين: العقول التامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فقال عبيد الله: اصبت الرأي يا مهران. ثم بعث من ساعته الى الحارث بن قيس، فأتاه فاخبره بموت يزيد، واستشاره، فقال: المستشار مؤتمن، فان اردت المقام منعناك معاشر الأزد، وان اردت الاستخفاء اشتملنا عليك حتى يسكن عنك الطلب، ويخفى على الناس موضعك، ثم نوجه معك من يبلغك مأمنك. فقال عبيد الله: هذا اريد. فقال له الحارث: فانا اقيم عندك، الى ان تمسى ويختلط الظلام، ثم انطلق بك الى الحى. فأقام الحارث عند عبيد الله. فلما امسى واختلط الظلام امر عبيد الله ان توقد السرج في منزله ليلته كلها، ليظن من يطلبه انه في منزله، ثم قام فلبس ثيابه، واعتم بعمامته وتلثم. فقال له الحارث: التلثم بالنهار ذل، وبالليل ريبه، فاحسر عن وجهك، وسر خلفي، فان المقدم وقاية للمؤخر، فسار. فقال للحارث: تخلل بنا فداك ابى وأمي الطرق، ولا تأخذ بنا طريقا واحدا، فانى لا آمن ان يطلب اثرى. فقال الحارث: لا باس عليك، ان شاء الله، فاطمئن. ثم سارا هويا. فقال للحارث: اين نحن؟. قال: في بنى مسلم. قال: سلمنا ان شاء الله. ثم سارا جميعا ساعه، فقال: اين نحن؟. قال الحارث في بنى ناجيه. قال: نجونا ان شاء الله. ثم سارا حتى انتهيا الى الأزد، واقحم الحارث بعبيد الله دار مسعود بن عمرو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وكان رئيس الأزد كلها بعد المهلب بن ابى صفره، وكان المهلب في هذا الوقت بخراسان بعد. فقال الحارث لمسعود: يا ابن عم، هذا عبيد الله بن زياد، قد اجرته عليك وعلى قومك. قال مسعود: اهلكت قومك يا ابن قيس، وعرضتنا لحرب جميع اهل البصره، وقد كنا أجرنا أباه من قبله فما كانت عنده مكافاه. وكان سبب اجارتهم زيادا، ان على بن ابى طالب رضى الله عنه، في خلافته ولى زيادا البصره عند خروجه الى صفين، وانما كان يعرف بزياد بن عبيد، فوجه معاويه الى البصره عامر بن الحضرمى في جمع، فغلب على البصره، وهرب منه زياد، فلجا الى الأزد، فأجاروه، ومنعوه حتى ثاب الناس الى زياد، واجتمعوا، فطرد عامر بن الحضرمى عن البصره، واقام على عمله فيها. ثم ان مسعود بن عمرو ادخل عبيد الله دار نسائه، وافرده في بيت من بيوته، ووكل به امرأتين من خدمه، وجمع اليه قومه، فاعلمهم ذلك. ولما اصبح الناس، واستحق عندهم الخبر أتوا داره، فاقتحموها ليقتلوه، فلم يصادفوا فيها أحدا، فانطلقوا الى الحبس، فكسروه، واخرجوا من كان فيه، وبقي اهل البصره تسعه ايام بغير وال. فاتفقوا على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، فولوه امرهم لصلاحه، وقرابته من رسول الله ص، فتولى الأمر، وقام بالتدبير. ولما اتى على عبيد الله ايام، وامن الطلب، قال لمسعود بن عمرو، والحارث بن قيس: ان الناس قد سكنوا، ويئسوا منى، فاعملا في إخراجي من البصره لألحق بالشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فاكتريا له رجلا من بنى يشكر أمينا هاديا بالطريق، وحملاه على ناقه مهريه [1] ، وقالا لليشكرى: عليك به لا تفارقه حتى توصله الى مأمنه بالشام. فخرج، وخرجا معه مشيعين له في نفر من قومهما ثلاثة ايام، ثم ودعاه وانصرفا. قال اليشكري: فبينا نحن نسير ذات ليله إذا استقبلنا عير وحاد يحدو فيها، ويقول: يا رب، رب الارض والعباد ... العن زيادا، وبنى زياد كم قتلوا من مسلم عباد ... جم الصلاة خاشع الفؤاد يكابد الليل من السهاد فلما سمع عبيد الله ذلك فزع، وقال: عرف مكاني. فقلت: لا تخف، فليس كل من ذكرك يعلم موضعك. ثم سرنا فاطرق طويلا، وهو على ناقته، فظننت انه نائم، فناديته: يا نومان. فقال: ما انا بنائم، ولكنى مفكر في امر. قلت: انى لأعلم الذى كنت مفكرا فيه. فقال: هاته اذن. قلت: ندمت على قتلك الحسين بن على، وفكرت في بنائك القصر الأبيض بالبصرة، وما انفقت عليه من الأموال، ثم لم يقض لك التمتع به، وندمت على ما كان من قتلك الخوارج من اهل البصره بالظنه والتوهم. قال عبيد: ما اصبت يا أخا بنى يشكر شيئا مما كنت مفكرا فيه، اما قتلى الحسين فانه خرج على امام وأمه مجتمعه، وكتب الى الامام يأمرني بقتله، فان كان ذلك خطا كان لازما ليزيد، واما بنائى القصر الأبيض، فما فكرتي   [1] نوع من الإبل ينسب الى حي مهره بن حيدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 في قصر بنيته للإمام بامره وماله، واما قتلى من قتلت من الخوارج فقد قتلهم قبلي من هو خير منى، على بن ابى طالب رضى الله عنه. غير انى فكرت في بنى ابى، وأولادهم، فندمت على تركي اخراجهم من البصره قبل وقوع ما وقع، وفكرت في بيوت الأموال بالكوفه والبصره الا أكون فرقتها وبددتها في الناس عند ما ورد على من وفاه الخليفة، فكنت اكتسب بذلك حمدا في الناس وذكرا. قلت: فما تريد ان تصنع الآن؟ قال: ان وافيت دمشق، وقد اجتمع الناس على امام دخلت فيما دخلوا فيه، وان لم يكونوا اجتمعوا على احد كانوا غنما، قلبتها كيف شئت. خلافه مروان بن الحكم قال: فسرنا حتى دخلنا دمشق، والناس مختلفون، لم يملكوا عليهم أحدا، وقد كان مروان بن الحكم هم باللحاق بعبد الله بن الزبير ليبايعه، ويكون معه. فدخل عبيد الله، وعنفه في ذلك، وقال: أنت سيد قومك، وأحق الناس بهذا الأمر، فمد يدك ابايعك. فقال مروان: وما تبلغ بيعتك وحدك؟ اخرج الى الناس وناظرهم في ذلك. فخرج من عنده، ولقى جماعه بنى اميه، فعنفهم في ذلك، وفي تخاذلهم، وحملهم على بيعه مروان، فاجتمعوا، وبايعوه. وتزوج مروان أم خالد بنت هاشم بن عتبة، التي كانت امراه يزيد بن معاويه، فلما تم لملك مروان بن الحكم تسعه اشهر قتلته امراته أم خالد. وذلك ان مروان نظر يوما الى ابنها خالد بن يزيد بن معاويه، وهو غلام من أبناء سبع سنين، يمشى مشيه أنكرها، فقال له: ما هذه المشية يا بن الرطبه؟. فشكا الغلام ذلك الى أمه، فقالت له: انه لا يقول بعد هذا. فسقته السم، فلما احس بالموت جمع بنى اميه واشراف اهل الشام، فبايع لابنه عبد الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 خلافه عبد الملك بن مروان وامتنع عمرو بن سعيد من البيعه، ومات مروان، وله ثلاث وستون سنه، ثم ملك عبد الملك بن مروان سنه ست وستين، فخرج عمرو بن سعيد بن العاص عليه، فصار اهل الشام فرقتين: فرقه مع عبد الملك، وفرقه مع عمرو بن سعيد. فدخلت بنو اميه واشراف اهل الشام بينهما حتى اصطلحا، على ان يكونا مشتركين في الملك، وان يكون مع كل عامل لعبد الملك شريك لعمرو بن سعيد، وعلى ان اسم الخلافه لعبد الملك، فان مات عبد الملك فالخليفه من بعده عمرو بن سعيد، وكتبا فيما بينهما كتابا، واشهدا عليه اشراف اهل الشام. وكان روح بن زنباع من اخص الناس بعبد الملك بن مروان، فقال له، وقد خلا به يوما: يا امير المؤمنين، هل من رأيك الوفاء لعمرو؟ قال: ويحك يا ابن زنباع، وهل اجتمع فحلان في هجمة قط الا قتل أحدهما صاحبه؟ وكان عمرو بن سعيد رجلا معجبا بنفسه، متهاونا في امره، مغترا باعدائه. قتل عمرو بن سعيد بن العاص ثم ان عمرا دخل على عبد الملك يوما، وقد استعد عبد الملك للغدر به، فامر به، فاخذ، فاضجع، وذبح ذبحا، ولف في بساط. واحس اصحاب عمرو بذلك، وهم بالباب، فتنادوا، فاخذ عبد الملك خمسمائة صره، قد هيئت، وجعل في كل صره ألفا درهم، فامر بها، فاصعدت الى اعلى القصر، فالقيت الى اصحاب عمرو بن سعيد مع راس عمرو، فترك اصحابه الراس ملقى، وأخذوا المال، وتفرقوا. فلما اصبح عبد الملك أخذ من اصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلا، فضرب أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله بن الزبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وفي ذلك يقول قائلهم: غدرتم بعمرو يال مروان ضله ... ومثلكم يبنى البيوت على الغدر فرحنا، وراح الشامتون بقتله ... كان على أكتافنا فلق الصخر وما كان عمرو عاجزا، غير أنه ... اتته المنايا بغته، وهو لا يدرى كان بنى مروان إذ يقتلونه ... بغاث من الطير اجتمعن على صقر [1] قالوا: ولما خرج عبيد الله من البصره شاع بها ان عبيد الله كان عند الأزد، فاقبل رجل من الخوارج ليلا، فجلس لمسعود بن عمرو، فلما خرج لصلاة الفجر، وثب عليه بسكين فقتله. فاجتمعت الأزد، وقالوا: والله ما قتله الا بنو تميم، ولنقتلن سيدهم الأحنف بن قيس. فقال الأحنف لقومه: ان الأزد قد اتهموكم في قتل صاحبهم، وقد استغنوا بالظن عن اليقين، ولا بد من غرم عقله [2] . فجمعوا الف ناقه، ووجهوا بها الى الأزد وكانت ديه الملوك فرضيت الأزد، وكفوا. وقوى امر عبد الله بن الزبير، واعطاه اهل الكوفه الطاعة. فولى الكوفه عبد الله بن مطيع العدوى. ووجه أخاه مصعب بن الزبير الى البصره، وامر عبد الله بن مطيع بمكاتبته. ووجه عماله الى اليمن، والبحرين، وعمان، وسائر الحجاز. ودانت لابن الزبير البلدان الا الشام ومصر. فان مروان بن الحكم كان حماهما. وانحلبت على ابن الزبير الأموال، فهدم الكعبه وجدد بناءها، وذلك في   [1] البغاث مثلثه: طائر ضعيف من شرار الطير، لونه اغبر. ومن امثله العرب، ان البغاث بأرضنا يستنسر، اى من جاورنا عز بنا. [2] العقل الديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 سنه خمس وستين، ولف الحجر الأسود في حرير وجعله في تابوت وختم عليه، واستودعه الحجبة مع جميع ما كان معلقا في الكعبه من ذهب وجوهر، ولما بناها ادخل الحجر في البيت. فلما قتل ابن الزبير نقضها الحجاج، واعاد بناءها على ما كان، فهى على ذلك الى اليوم. الدعوة الى العلويين قالوا: وان المختار [1] بن ابى عبيد الثقفى جعل يختلف بالكوفه الى شيعه بنى هاشم، ويختلفون اليه، فيدعوهم الى الخروج معه والطلب بدم الحسين، فاستجاب له بشر كثير، وكان اكثر من استجاب له همدان، وقوم كثير من أبناء العجم الذين كانوا بالكوفه، ففرض لهم معاويه وكانوا يسمون الحمراء وكان منهم بالكوفه زهاء عشرين الف رجل. وكان على الكوفه يومئذ من قبل عبد الله بن الزبير عبد الله بن مطيع، فأرسل ابن مطيع الى المختار: ما هذه الجماعات التي تغدو وتروح إليك؟ فقال المختار: مريض، يعاد. فلم يزل كذلك حتى قال له نصحاؤه: عليك بابراهيم بن الاشتر، فاستمله إليك، فانه متى شايعك على امر ظفرت به، وقضيت حاجتك. فأرسل المختار الى جماعه من اصحابه، فدخلوا عليه، وبيده صحيفه مختومه بالرصاص. فقال الشعبى: وكنت فيمن دخل عليه، فرايت الرصاص ابيض يلوح، فظننت انه انما ختم من الليل، فقال لنا: انطلقوا بنا حتى ناتى ابراهيم ابن الاشتر.   [1] كان خروج المختار في صفر سنه 66 سبتمبر 685. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قال: فمضينا معه، وكنت انا ويزيد بن انس الأسدي، واحمر بن سليط، وعبد الله بن كامل، وابو عمره كيسان، مولى بجيله، الذى يقول الناس: قد جاوره ابو عمره، وكان من بعد ذلك على شرط المختار. قال الشعبى: فأتينا ابراهيم بن الاشتر، وهو جالس في صحن داره، فسلمنا عليه، فتناول يد المختار، واجلسه معه على مقعده كان عليها. وتكلم المختار وكان مفوها، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي ص، ثم قال: ان الله قد اكرمك، واكرم اباك من قبلك بموالاة بنى هاشم ونصرتهم، ومعرفه فضلهم، وما اوجب الله من حقهم، وقد كتب إليك محمد بن على بن ابى طالب يعنى ابن الحنفيه هذا الكتاب بحضره هؤلاء النفر الذين معى. فقال القوم جميعا: نشهد ان هذا كتابه، رأيناه حين كتبه. ثم ناوله، ففتحه وقراه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن على الى ابراهيم الاشتر، اما بعد، فان المختار بن ابى عبيد على الطلب بدم الحسين، فساعده في ذلك، وآزره يثبك الله ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة. فلما قرأ ابراهيم بن الاشتر الكتاب قال للمختار: سمعا وطاعه لمحمد بن على، فقل ما بدا لك، وادع الى ما شئت. فقال المختار: اتأتينا، او نأتيك في أمرنا؟ فقال ابراهيم: بل انا آتيك كل يوم الى منزلك. قال الشعبى: فكان ابراهيم بن الاشتر يركب الى المختار في كل يوم في نفر من مواليه وخدمه. قال الشعبى: ودخلتنى وحشه من شهاده النفر الذين كانوا معى، على انهم رأوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 محمد بن الحنفيه حين كتب ذلك الكتاب الى ابراهيم بن الاشتر، فاتيتهم في منزلهم رجلا رجلا، فقلت: هل رايت محمد بن الحنفيه حين كتب ذلك الكتاب؟ فكل يقول: نعم، وما انكرت من ذلك؟ فقلت في نفسي: ان لم استعملها من العجمي، يعنى أبا عمره، لم اطمع فيها من غيره. فأتيته في منزله، فقلت: ما أخوفني من عاقبه امرنا هذا ان ينصب الناس جميعا لنا، فهل شهدت محمد بن الحنفيه حين كتب ذلك الكتاب؟ فقال: والله ما شهدته حين كتبه، غير ان أبا اسحق يعنى المختار عندنا ثقه، وقد أتانا بعلامات من ابن الحنفيه، فصدقناه. قال الشعبى: فعرفت عند ذلك كذب المختار، وتمويهه، فخرجت من الكوفه حتى لحقت بالحجاز، فلم اشهد من تلك المشاهد شيئا. قالوا: وكان على شرطه عبد الله بن مطيع بالكوفه اياس بن نضار العجلى، وكان طريق ابراهيم بن الاشتر إذا ركب الى المختار على باب داره، فأرسل الى ابراهيم: انه قد كثر اختلافك في هذا الطريق، فاقصر عن ذلك. فاخبر ابراهيم المختار بما ارسل اليه اياس، فقال له المختار: تجنب ذلك الطريق، وخذ في غيره. ففعل. وبلغ اياسا ان ابراهيم بن الاشتر لا يقلع عن اتيان المختار كل يوم، فأرسل اليه: ان امرك يريبني، فلا ارينك راكبا، ولا تبرحن منزلك، فاضرب عنقك. فاخبر ابراهيم المختار بذلك. واستاذنه في قتله، فاذن له. وان ابراهيم ركب في جماعه من اهل بيته وما يليه، وجعل طريقه على مجلس اياس، فقال له اياس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يا ابن الاشتر، الم آمرك الا تبرح من منزلك؟ فقال له ابراهيم: أنت والله ما علمت احمق. فقال للجلاوزه: نكسوه. فانتضى ابراهيم سيفه، وشد على اياس، فضربه حتى قتله. ثم حمل على الجلاوزة، فانحرفوا عنه، ومضى ابراهيم. وبلغ عبد الله بن مطيع الخبر، فامر بطلب ابراهيم، ووجه الى منزله. وبلغ ذلك المختار، فوجه الى ابراهيم بمائه فارس، فلما وافوه حمل على اصحاب ابن مطيع، فانهزموا عنه، فاقبل ابراهيم نحو دار الإمارة، ووافاه المختار في سبعه آلاف فارس. فتحصن ابن مطيع في القصر، وبعث الى الحرس والجند. فوافاه منهم نحو ثلاثة آلاف رجل، فنادى يا لثارات الحسين فوافاه زهاء عشره آلاف رجل ممن بايعه على الطلب بدم الحسين. وفي ذلك يقول عبد الله بن همام: وفي ليله المختار ما يذهل الفتى ... ويزويه عن رود الشباب شموع دعا، يالثارات الحسين فاقبلت ... كتائب من همدان بعد هزيع ومن مذحج جاء الرئيس ابن مالك ... يقود جموعا اردفت بجموع ومن اسد وافى يزيد لنصره ... بكل فتى ماضى الجنان منيع وخرج ابن مطيع من القصر، واجتمع اليه الجنود، ونهد [1] اليه المختار في اصحابه، وعلى مقدمته ابن الاشتر، فالتقوا، فاقتتلوا، فقتل من اصحاب ابن مطيع بشر كثير، فانهزموا. وبادر ابن مطيع الى القصر، فتحصن فيه في طائفه من اصحابه، واقبلت همدان حتى تسلقوا القصر بالحبال من ناحيه دار عماره بن عقبه بن ابى معيط.   [1] نهض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فلما راى ابن مطيع ضعفه عن القوم سال الامان على نفسه ومن معه من اصحابه، فأجابه المختار الى ذلك، فآمنه. فخرج ابن مطيع، واظهر المختار إكرامه، وامر له من بيت المال بمائه الف الف درهم، وحفظ فيه قرابته من عمر بن الخطاب، وقال له: ارحل إذا شئت. ثم ان المختار غلب على الكوفه ودانت له العراق وسائر البلاد الا الجزيرة والشام ومصر، فان عبد الملك قد كان حماها، ووجه عماله في الافاق. فاستعمل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمدانى على الموصل، ومحمد بن عثمان التميمى على اذربيجان، وعبد الله بن الحارث أخا الاشتر على الماهين وهمذان، ويزيد ابن معاويه البجلي على أصبهان وقم وأعمالها، وابن مالك البكراوى على حلوان [1] وماسبذان، ويزيد بن ابى نجبه الفزارى على الري ودستبى، وزحر بن قيس على جوخى. وفرق سائر البلدان على خاصته. وولى الشرطه كيسان أبا عمره، وامره ان يجمع الف رجل من الفعله بالمعاول، وتتتبع دور من خرج الى قتال الحسين بن على، فيهدمها. وكان ابو عمره بذلك عارفا، فجعل يدور بالكوفه على دورهم، فيهدم الدار في لحظه، فمن خرج اليه منهم قتله، حتى هدم دورا كثيره، وقتل أناسا كثيرا، وجعل يطلب ويستقصى، فمن ظفر به قتله، وجعل ماله وعطاءه لرجل من أبناء العجم الذين كانوا معه. ثم ان المختار عقد ليزيد بن انس الأسدي في عشرين الف رجل وقواهم بالسلاح والعده، وولاه الجزيرة وما غلب عليه من ارض الشام. فسار يزيد حتى نزل نصيبين.   [1] بلد في العراق، آخر حدود السواد مما يلى الجبال، سميت باسم حلوان بن عمران بن قضاعه، وكان اقطعه إياها بعض الملوك، وكانت مدينه عامره، لم يكن بالعراق بعد البصره والكوفه وواسط اكبر منها، وحواليها عيون كبريتيه ينتفع بها من عده أدواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فخرج باهل الشام فوافى نصيبين، وقاتل يزيد ابن انس، فهزمه، وقتل من اصحابه مقتله عظيمه. وبلغ المختار ذلك، فقال لإبراهيم بن الاشتر: ايها الرجل، انما هو انا وأنت، فسر اليهم، فو الله لتقتلن الفاسق عبيد الله ابن زياد، او لتقتلن الحصين بن نمير، وليهزمن الله بك ذلك الجيش، أخبرني بذلك من قرأ الكتاب، وعرف الملاحم. قال ابراهيم: ما احسبك ايها الأمير باحرص على قتال اهل الشام، ولا احسن بصيره في ذلك منى، وانا سائر. فانتخب له المختار عشرين الف رجل، وكان جلهم أبناء الفرس الذين كانوا بالكوفه، ويسمون الحمراء. وسار نحو الجزيرة، ورد من كان انهزم من اصحاب يزيد بن انس، فصار في نحو من ثلاثين الف رجل. وبلغ ذلك عبد الملك، فعقد للحصين بن نمير في فرسان اهل الشام، وكانوا نحوا من اربعين ألفا، وفيهم عبيد الله بن زياد، وفيهم من قتله الحسين: عمير بن الحباب، وفرات بن سالم، ويزيد بن الحضين، واناس سوى هؤلاء كثير. فقال فرات لعمير: قد عرفت سوء ولايه بنى مروان، وسوء رأيهم في قومنا من قيس، ولئن خلص الأمر، وصفا لعبد الملك ليستاصلن قيسا، او ليقصينهم، ونحن منهم، فانصرف بنا لننظر ما حال ابراهيم بن الاشتر. فلما جنهما الليل ركبا فرسيهما، وبينهما وبين عسكر ابراهيم اربعه فراسخ، وكانا يمران بمسالح اهل الشام، فيقولون لهما: من [1] أنتما؟ فيقولان: طليعه للأمير الحصين بن نمير. فاقبلا حتى أتيا عسكر ابراهيم بن الاشتر، وقد اوقد النيران، وهو قائم يعبى   [1] في الأصل: ما أنتما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 اصحابه، وعليه قميص اصفر هروي [1] وملاءه مورده متوشحا بها، متقلدا سيفه. فدنا منه عمير بن الحباب، فصار خلفه، وابراهيم لا يابه له، فاحتضنه من ورائه، فما تحلحل [2] ابراهيم عن موضعه، غير انه امال راسه، وقال: من هذا؟ قال: انا عمير بن الحباب. فاقبل بوجهه اليه، وقال: اجلس حتى افرغ لك. فتنحى عنه، وقعدا ممسكين بأعنة فرسيهما. فقال عمير لصاحبه: هل رايت رجلا اربط جأشا، وأشد قلبا من هذا؟ تراه تحلحل من مكانه، او اكترث لي، وانا محتضنه من خلف. فقال له صاحبه: ما رايت مثله. فلما فرغ ابراهيم من تعبئة اصحابه أتاهما، فجلس إليهما، ثم قال لعمير: ما اعملك الى يا أبا المغلس؟ قال عمير: لقد اشتد غمى مذ دخلت عسكرك، وذلك انى لم اسمع فيه كلاما عربيا حتى انتهيت إليك، وانما معك هؤلاء الأعاجم، وقد جاءك صناديد [3] اهل الشام وابطالهم، وهم زهاء اربعين الف رجل، فكيف تلقاهم بمن معك؟ فقال ابراهيم: والله لو لم أجد الا النمل لقاتلتهم بها، فكيف وما قوم أشد بصيره في قتال اهل الشام من هؤلاء الناس الذين تراهم معي؟ وانما هم اولاد الأساورة من اهل   [1] من صنع هراة، بلده بفارس. [2] اى ما تحرك عن موضعه، وفي نسخه تخلخل. [3] السادة الشجعان، وجماعات العسكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فارس، والمرازبه، وانا ضارب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، والنصر من عند الله. قال عمير: ان قومى قيسا. إذا التقى الجبلان غدا في ميسره اهل الشام فلا تحفل بنا، فانا منهزمون لنكسر الجيش بذلك، فانا لا نحب ظهور بنى مروان لسوء صنيعهم إلينا معاشر قيس، وانا إليك لاميل. قال ابراهيم: وذاك. ثم انصرفا الى معسكرهما. ولما اصبح الفريقان زحف بعضهم الى بعض، فتواقفوا بمكان يدعى خازر [1] فنادى ابراهيم بن الاشتر حماه عسكره عليكم بالميسرة، وفيها قيس. فقال عمير بن الحباب لصاحبه: هذا وابيك الحزم، لم يثق بقولنا وخاف مكرنا. وصاح عمير بن الحباب في قيس، يالثارات مرج راهط [2] ، فنكسوا اعلامهم، وانهزموا، فانكسر اهل الشام. وحمل عليهم ابراهيم بن الاشتر، فاكثر فيهم القتل، وانهزم اهل الشام، فاتبعهم ابراهيم يقتلهم الى الليل، وقتل أميرهم الحصين بن نمير وكان من قتله الحسين وشرحبيل بن ذي الكلاع، وعظماء اهل الشام. فلما وضعت الحرب أوزارها قال ابراهيم بن الاشتر: انى قتلت في الوقعه رجلا من اهل الشام، كان يقاتل في اوائلهم قتالا شديدا، وهو يقول: انا الغلام القرشي. فلما سقط شممت منه ريح المسك، فاطلبوه بين القتلى. فطلب حتى أصابوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد، فامر به ابراهيم، فخر راسه، فوجه به الى المختار، فوجه به المختار الى محمد بن الحنفيه. واحتوى ابراهيم بن الاشتر على عسكر الشام، فغنم ما كان فيه.   [1] كوره بين الموصل واربل، على نهير سمى به [2] المرج الموضع ترعى فيه الدواب، ومرج راهط: ناحيه من نواحي دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فاتته هند ابنه أسماء بن خارجه الفزارى، امراه عبيد الله بن زياد، فاخبرته بانتهاب ما كان معها من مالها، فقال لها: كم ذهب لك؟ قالت: قيمه خمسين الف درهم. فامر لها بمائه الف درهم، ووجه معها مائه فارس حتى أتوا بها أباها البصره. ودخل عبيد الله بن عمرو الساعدي، وكان شاعرا على ابراهيم بن الاشتر، فانشده: الله أعطاك المهابه والتقى ... وأحل بيتك في العديد الأكثر واقر عينك يوم وقعه خازر ... والخيل تعثر بالقنا المتكسر من ظالمين كفتهم آثامهم ... تركوا لعافيه وطير حسر ما كان اجراهم، جزاهم ربهم ... شر الجزاء على ارتكاب المنكر انى اتيتك إذ تناءى منزلي ... وذممت اخوان الغنى من معشرى وعلمت انك لا تضيع مدحتي ... ومتى أكن بسبيل خير اشكر فهلم نحوى، من يمينك نفحة ... ان الزمان الح يا ابن الاشتر فاعطاه عشره آلاف درهم. وان ابراهيم بن الاشتر اقام بالموصل، ووجه عماله الى مدن الجزيرة، فاستعمل اسماعيل بن زفر على قرقيسياء [1] ، وحاتم بن النعمان الباهلى على حران [2] والرها [3]   [1] في الأصل قرقيسيا، وهي بلد على نهر الخابور عند مصبه، ومنها جانب على نهر الفرات، فوق رحبه مالك بن طوق. [2] مدينه قديمه، قصبه ديار مضر، قيل انها أول مدينه بنيت بعد الطوفان، وكانت منزل الصابئه، وهي مهاجر الخليل ابراهيم ع. [3] مدينه بأرض الجزيرة في العراق فوق حران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وسميساط [1] ، وعمير بن الحباب السلمى على كفرتوثا [2] ، والسفاح ابن كردوس على سنجار [3] ، وعبد الله بن مسلم على ميافارقين [4] ، ومسلم ابن ربيعه العقيلي على آمد [5] ، وسار هو الى نصيبين، فأقام بها. وان المختار كتب الى عبيد الله بن الحر الجعفى، وكان بناحيه الجبل يتطرف ويغير: انما خرجت غضبا للحسين، ونحن أيضا ممن غضب له، وقد تجردنا لنطلب بثاره، فأعنا على ذلك. فلم يجبه عبيد الله الى ذلك. فركب المختار الى داره بالكوفه فهدمها، وامر بامراته أم سلمه، ابنه عمر الجعفى، فحبست في السجن، وانتهب جميع ما كان في منزله، وكان الذى تولى ذلك عمرو بن سعيد بن قيس الهمدانى. وبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فقصد الى ضيعه لعمرو بن سعيد بالماهين، فاغار عليها، واستاق مواشيها، واحرق زرعها، وقال: وما ترك الكذاب من جل مالنا ... ولا المرء من همدان غير شريد افي الحق ان يجتاح مالي كله ... وتامن عندي ضيعه ابن سعيد؟ ثم اختار من ابطال اصحابه مائه فارس، فيهم محشر التميمى، ودلهم بن زياد المرادى، واحمر طيّئ، وخلف بقية اصحابه بالماهين. وسار نحو الكوفه حتى انتهى الى جسرها ليلا، فامر بقوام الجسر، فكتفوا، ووكل بهم رجلا من اصحابه، ثم عبر.   [1] مدينه على شاطئ الفرات في طرف بلاد الروم، وكان بها قلعه، يسكن في شق منها الأرمن. [2] في الأصل كفرثونا والصحيح ما ذكر، وهي قريه كبيره، من اعمال الجزيرة بالعراق. [3] مدينه مشهوره من نواحي الجزيرة. [4] اشهر مدينه بديار بكر، وقد بناها الروم. [5] لفظه رومية، وهي بلد قديم حصين، يحيط باكثره نهر دجلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ودخل الكوفه، فلقيه ابو عمره كيسان، وهو يعس بالكوفه، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اصحاب عبد الله بن كامل، أقبلنا الى الأمير المختار. قال: امضوا في حفظ الله. فمضوا حتى انتهوا الى السجن، فكسروه، فخرج كل من فيه، وحمل أم سلمه على فرس، ووكل بها اربعين رجلا، وقدمها، ثم مضى. وبلغ الخبر المختار، فأرسل راشدا مولى بجيله في ثلاثة آلاف رجل، وعطف عليهم ابو عمره من ناحيه بجيله في الف رجل. وخرج عليهم عبد الله بن كامل من ناحيه النخع في الف رجل، فأحاطوا بهم. فلم يزل عبيد الله يكشفهم، ويسير والحجاره تأخذه هو واصحابه من سطوح الكوفه حتى عبر الجسر، وقد قتل من اصحاب المختار مائه رجل، ولم يقتل من اصحابه الا اربعه نفر. وسار عبيد الله حتى انتهى الى بانقيا [1] فنزلوا، وداووا جروحهم، وعلفوا دوابهم، وسقوها، ثم ركبوا، فلم يحلوا عقدها حتى انتهوا الى سورا [2] فاراحوا بها، ثم ساروا حتى أتوا المدائن، ثم لحق باصحابه بالماهين. ولما تجرد المختار لطلب قتله الحسين هرب منه عمر بن سعد ومحمد بن الاشعث، وهما كانا المتوليين للحرب يوم الحسين، واتى بعبد الرحمن بن ابزى الخزاعي، وكان ممن حضر قتال الحسين، فقال له: يا عدو الله، اكنت ممن قاتل الحسين؟ قال: لا، بل كنت ممن حضر، ولم يقاتل. قال: كذبت، اضربوا عنقه. فقال عبد الرحمن: ما يمكنك قتلى اليوم حتى تعطى الظفر على بنى اميه،   [1] ناحيه من نواحي الكوفه، كانت على شاطئ الفرات. [2] مدينه تحت الحله، لها نهر ينسب إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ويصفو لك الشام، وتهدم مدينه دمشق حجرا حجرا، فتأخذني عند ذلك، فتصلبنى على شجره بشاطئ نهر، كأني انظر إليها الساعة. فالتفت المختار الى اصحابه وقال: اما ان هذا الرجل عالم بالملاحم. ثم امر به الى السجن. فلما جن عليه الليل بعث اليه من أتاه به، فقال له: يا أخا خزاعة، اظرفا عند الموت؟ فقال عبد الرحمن بن ابزى: أنشدك الله ايها الأمير ان اموت هاهنا ضيعه. قال: فما جاء بك من الشام؟ قال: باربعه آلاف درهم لي على رجل من اهل الكوفه، أتيته متقاضيا. فامر له المختار باربعه آلاف درهم، وقال له: ان اصبحت بالكوفه قتلتك. فخرج من ليلته حتى لحق بالشام. ومكث المختار بذلك يطلب قتله الحسين، وتجبى اليه الأموال من السواد، والجبل، وأصبهان، والري، واذربيجان، والجزيرة ثمانية عشر شهرا، وقرب أبناء العجم، وفرض لهم ولأولادهم الاعطيات، وقرب مجالسهم، وباعد العرب وأقصاهم، وحرمهم. فغضبوا من ذلك. واجتمع اشرافهم فدخلوا عليه، فعاتبوه، فقال: لا يبعد الله غيركم، اكرمتكم فشمختم بآنافكم، ووليتكم فكسرتم الخراج، وهؤلاء العجم اطوع لي منكم، واوفى، واسرع الى ما اريد. قالوا: فدنت العرب، بعضها الى بعض، وقالوا: هذا كذاب، يزعم انه يوالى بنى هاشم، وانما هو طالب دنيا. فاجتمعت القبائل على محاربته، وصاروا في ثلاثة امكنه، وولوا امرهم رفاعة ابن سوار، فاجتمعت كنده، والأزد، وبجيله، والنخع، وخثعم، وقيس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وتيم الرباب في جبانه مراد [1] ، واجتمعت ربيعه وتميم، فصاروا في جبانه الحشاشين [2] . وارسل المختار الى همدان وكانوا خاصته واجتمع اليه أبناء العجم. فقال لهم: الا ترون ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: بلى. قال: فإنهم لم يفعلوا ذلك الا لتقديمى إياكم، فكونوا أحرارا كراما. فحرضهم بذلك، واخرجهم الى ظهر الكوفه، فاحصاهم، فبلغوا اربعين الف رجل. وان شمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد، ومحمد بن الاشعث، وأخاه قيس بن الاشعث قدموا الكوفه عند ما بلغهم خروج الناس على المختار وخلعهم طاعته، وكانوا هرابا من المختار طول سلطانه، لانهم كانوا الرؤساء في قتال الحسين، فصاروا مع اهل الكوفه، وتولوا امر الناس. وتاهب الفريقان للحرب، واجتمع اهل الكوفه جميعا في جبانه الحشاشين، وزحف المختار نحوهم، فاقتتلوا، فقتل بينهم بشر كثير، فنادى المختار: يا معشر ربيعه، الم تبايعوني؟ فلم خرجتم علي؟ قالت ربيعه: قد صدق المختار، فقد بايعناه واعطيناه صفقه ايماننا، فاعتزلوا، وقالوا: لا نكون على واحد من الفريقين. وثبت سائر القبائل، فقاتلوا. وان اهل الكوفه انهزموا، وقد قتل منهم نحو خمسمائة رجل، واسر منهم   [1] محله بالكوفه، واهل الكوفه يسمون المقبرة جبانه. [2] يطلق لفظ الحشاشين على فريق من طائفه الاسماعيليه الذين كانوا يحتلون الحصون الجبليه في الشام وفي غيرها من ربوع المسلمين، ولا يميزهم عن سائر الاسماعيليه مبدأ خاص بقدر ما يميزهم تحول نظامهم السياسى الى جماعه سريه يطيع إفرادها ائمتهم طاعه عمياء، وقد اتخذوا القتل وسيله للتخلص من اعدائهم. دائره المعارف الإسلامية المجلد السابع، ص 434 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 مائتا رجل، فهرب اشراف الكوفه، فلحقوا بالبصرة، وبها مصعب بن الزبير، فانضموا اليه. وبلغ المختار ان شبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن الاشعث مع عمر بن سعد قد أخذوا طريق البصره في اناس معهم من اشراف اهل الكوفه، فأرسل في طلبهم رجلا من خاصته يسمى أبا القلوص الشبامي في جريدة خيل، فلحقهم بناحيه المذار، فواقعوه، وقاتلوه ساعه، ثم انهزموا، ووقع في يده عمر بن سعد ونجا الباقون. فاتى به المختار، فقال: الحمد لله الذى امكن منك، والله لأشفين قلوب آل محمد بسفك دمك، يا كيسان، اضرب عنقه. فضرب عنقه. وأخذ راسه، فبعث به الى المدينة، الى محمد بن الحنفيه. وقال اعشى همدان، وكان من اهل الكوفه: ولم انس همدانا غداه تجوسنا ... باسيافها، لا اسقيت صوب هاضب [1] فقتل من اشرافنا في محالهم ... عصائب منهم اردفت بعصائب فكم من كمى قد ابارت سيوفهم ... الى الله اشكو رزء تلك المصائب يقتلنا المختار في كل غائط ... فيا لك دهر مرصد بالعجائب وبلغ المختار ان شمر بن ذي الجوشن مقيم بدستميسان [2] في اناس من بنى عامر بن صعصعة، يكرهون دخول البصره لشماته اهل البصره بهم، فأرسل المختار اليهم زربيا، مولى بجيله، في مائه فارس على الخيل العتاق [3] ، فسار بهم بالحث   [1] الهاضب: المطره. [2] في الأصل: دست ميسان، وهي كوره بين واسط البصره والاهواز، وقيل انها الأبله، فتكون البصره منها. [3] نجائب الحيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الشديد، فقطع اصحابه عنه الا عشره فوارس، فلحقهم وقد استعدوا له، فطعنه شمر، فقتله، وانهزم اصحابه العشرة حتى لحق بهم الباقون، فطلبوا شمرا واصحابه، فلم يلحقوهم. ومضى شمر حتى نزل قريبا من البصره بمكان يدعى سادماه فأقام به. وان قيس بن الاشعث انف من ان ياتى البصره فيشمت به أهلها، فانصرف الى الكوفه مستجيرا بعبد الله بن كامل، وكان من اخص الناس عند المختار. فاقبل عبد الله الى المختار، فقال: ايها الأمير، ان قيس بن الاشعث قد استجار بي واجرته، فانفذ جواري اياه. فسكت عنه المختار مليا، وشغله بالحديث، ثم قال: ارنى خاتمك، فناوله اياه، فجعله في اصبعه طويلا. ثم دعا أبا عمره، فدفع اليه الخاتم، وقال له سرا: انطلق الى امراه عبد الله بن كامل، فقل لها: هذا خاتم بعلك علامه، لتدخلينى الى قيس بن الاشعث، فانى اريد مناظرته في بعض الأمور التي فيها خلاصه من المختار، فادخلته اليه. فانتضى سيفه، فضرب عنقه، وأخذ راسه، فاتى به المختار، فالقاه بين يديه. فقال المختار: هذا بقطيفه الحسين. وذلك ان قيس بن الاشعث أخذ قطيفه كانت للحسين حين قتل، فكان يسمى قيس قطيفه. فاسترجع عبد الله بن كامل، وقال للمختار: قتلت جارى وضيفي وصديقي في الدهر؟ قال له المختار: لله ابوك، اسكت، اتستحل ان تجير قتله ابن بنت نبيك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ثم ان المختار دعا بالأسرى الذين اسرهم من اهل الكوفه في الوقعه التي كانت بينه وبين اهل الكوفه، فجعل يضرب أعناقهم حتى انتهى الى سراقه البارقى، وكان فيهم، فقام بين يديه، وأنشأ يقول: الا من مبلغ المختار انا ... نزونا نزوه كانت علينا خرجنا لا نرى الاشراك دينا ... وكان خروجنا بطرا وحينا [1] ثم قال للمختار: ايها الأمير، لو انكم أنتم الذين قاتلتمونا لم تطمعوا فينا. فقال له المختار: فمن قاتلكم؟ قال سراقه: قاتلنا قوم بيض الوجوه على خيل شهب. قال له المختار: تلك الملائكة، ويلك، اما إذ رايتهم فقد وهبتك لهم. ثم خلى سبيله، فهرب، فلحق بالبصرة، وأنشأ يقول: الا ابلغ أبا اسحق انى ... رايت الشهب كمتا مصمتات [2] ارى عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات كفرت بدينكم وبرئت منكم ... ومن قتلاكم حتى الممات وهرب أسماء بن خارجه الفزارى، وكان شيخ اهل الكوفه وسيدهم من المختار خوفا على نفسه، فنزل على ماء لبنى اسد يسمى ذروه: في نفر من مواليه واهل بيته فأقام به. وهرب عمرو بن الحجاج، وكان من رؤساء قتله الحسين، يريد البصره، فخاف الشماتة فعدل الى سراف. فقال له اهل الماء: ارحل عنا، فانا لأنا من المختار، فارتجل عنهم، فتلاوموا، وقالوا: قد أسأنا. فركبت جماعه منهم في طلبه ليردوه، فلما رآهم من بعيد ظن انهم من اصحاب   [1] الحين: الهلاك. [2] الكمته: لون بين السواد والحمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 المختار، فسلك الرمل في مكان يدعى البيضه [1] وذلك في حماره القيظ، وهي فيما بين بلاد كلب وبلاد طيّئ، فقال [2] فيها، فقتله ومن معه العطش. ولم يزل أسماء مقيما بذروه [3] الى ان قتل المختار، ودخل مصعب بن الزبير الكوفه، فانصرف أسماء الى منزله بالكوفه. ولما تتبع المختار اهل الكوفه جعل عظماؤهم يتسللون هرابا الى البصره حتى وافاها منهم مقدار عشره آلاف رجل، وفيهم محمد بن الاشعث، فاجتمعوا، ودخلوا على مصعب بن الزبير. فتكلم محمد بن الاشعث، وقال: ايها الأمير، ما يمنعك من المسير لمحاربه هذا الكذاب الذى قتل خيارنا، وهدم دورنا، وفرق جماعتنا، وحمل أبناء العجم على رقابنا، وأباحهم أموالنا؟ سر اليه، فانا جميعا معك، وكذلك من خلفنا بالكوفه من العرب، هم أعوانك. قال مصعب: يا ابن الاشعث، انا عارف بكل ما ارتكبكم به، وليس يمنعني من المسير اليه الا غيبه فرسان اهل البصره واشرافهم، فإنهم مع ابن عمك المهلب ابن ابى صفره في وجوه الازارقه بناحيه كرمان، غير انى قد رايت رايا. قال: وما رايت ايها الأمير؟ قال: رايت ان اكتب الى المهلب، آمره ان يوادع الازارقه، ويقبل الى فيمن معه، فإذا وافى تجهزنا لمحاربه المختار. قال ابن الاشعث: نعم ما رايت، فاكتب اليه، واجعلنى الرسول. فكتب مصعب بن الزبير الى المهلب كتابا، يذكر له ما فيه اهل الكوفه من القتل والحرب، ويفسر فيه امر المختار. فسار محمد بن الاشعث بكتابه حتى ورد كرمان، واوصل الكتاب الى المهلب،   [1] اسم ماء في باديه حلب، بينها وبين تدمر. [2] القائله: نصف النهار. [3] ارض بباديه الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وقال له: يا ابن عم، قد بلغك ما لقى اهل الكوفه من المختار، وقد كتب إليك الأمير مصعب بما قد قراته. فكتب المهلب الى قطري، وكان رئيس الازارقه يومئذ، يسأله الموادعة الى اجل سماه، ويكتب بينهما كتابا في ذلك، ويضعان الحرب الى ذلك الأجل. فأجابه قطري الى ذلك، وكتبا بينهما كتابا وجعلا الأجل ثمانية عشر شهرا. وسار المهلب بمن معه حتى وافى البصره، فوضع مصعب لأهل البصره العطاء وتهيأ للمسير. وبلغ المختار ذلك فعقد لاحمر بن سليط في ستين الف رجل من اصحابه، وامره ان يستقبل القوم، فيناجزهم الحرب. فسار احمر بن سليط في الجيوش حتى وافى المذار، وقد انصرف إليها شمر ابن ذي الجوشن انفه من ان ياتى البصره هاربا، فيشمتوا به، فوجه احمر بن سليط الى المكان الذى كان متحصنا فيه خمسين فارسا، وامامهم نبطي [1] يدلهم على الطريق، وذلك في ليله مقمره. فلما احس بهم دعا بفرسه فركبه، وركب من كان معه ليهربوا، فادركهم القوم، فقاتلوهم، فقتل شمر وجميع من كان معه، واحتزوا رءوسهم، فاتوا بها احمر ابن سليط، فوجهها الى المختار، فوجه المختار برأس شمر الى محمد بن الحنفيه بالمدينة. وسار مصعب بن الزبير بجماعه اهل البصره نحو المذار، وتخلف عنه المنذر ابن الجارود، وهرب منه نحو كرمان في جماعه من اهل بيته، ودعا لعبد الملك ابن مروان.   [1] من الأنباط وهم اهل البطاع بين العراقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 واقبل مصعب حتى وافى المذار [1] ، وامامه الأحنف بن قيس في تميم. وزحف الفريقان، بعضهم الى بعض، فاقتتلوا، فانهزم اصحاب المختار، واستحر القتال فيهم، ومضوا نحو الكوفه، واتبعهم مصعب يقتلهم في جميع طريقه، فلم يفلت منهم الا القليل. فقال اعشى همدان في ذلك: الم يبلغك ما لقيت شبام [2] ... وما لاقت عرينه بالمذار اتيح لهم بها ضرب طلحق ... وطعن بالمثقفه الحرار كان سحابه صعقت عليهم ... فعمتهم هنالك بالدمار وما ان ساءني ما كان منهم ... لدى الاعسار منى واليسار ولكنى فرحت وطاب نومي ... وقر لقتلهم منى قرارى وان مصعبا سار بالجيوش نحو الكوفه، فعبر دجلة، وخرج الى ارض كسكر، ثم أخذ على حديثه الفجار، ثم أخذ على النجرانية حتى قارب الكوفه. قتل المختار وبلغ المختار مقتل اصحابه، فنادى في بقية من كان معه من جنوده، فقواهم بالأموال والسلاح، وسار بهم من الكوفه مستقبلا لمصعب بن الزبير، فالتقوا بنهر البصريين، فاقتتلوا، فقتل من اصحاب المختار مقتله عظيمه، وقتل محمد بن الاشعث، وقتل عمر بن على بن ابى طالب، ع. وذلك انه قدم من الحجاز على المختار، فقال له المختار: هل معك كتاب محمد بن الحنفيه؟   [1] بلده في ميسان بين واسط والبصره، بها مشهد عظيم، به قبر عبد الله بن على بن ابى طالب. [2] شبام: حي من همدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فقال عمر: لا، ما معى كتابه. فقال له: انطلق حيث شئت فلا خير لك عندي. فخرج من عنده، وسار الى مصعب، فاستقبله في بعض الطريق، فوصله بمائه الف درهم، واقبل مع مصعب حتى حضر الوقعه، فقتل فيمن قتل من الناس. وانهزم المختار حتى دخل الكوفه، وتبعه مصعب، فدخل في اثره، وتحصن المختار في قصر الإمارة، فاقبل مصعب حتى اناخ عليه، وحاصره اربعين يوما. ثم ان المختار قلق بالحصار قلقا عظيما، فقال [1] للسائب بن مالك الأشعري، وكان من خاصته: ايها الشيخ، اخرج بنا نقاتل على احسابنا لا على الدين. فاسترجع السائب، وقال: يا أبا اسحق، لقد ظن الناس ان قيامك بهذا الأمر دينونه. فقال المختار: لا، لعمري ما كان الا لطلب دنيا، فانى رايت عبد الملك ابن مروان قد غلب على الشام، وعبد الله بن الزبير على الحجاز، ومصعبا على البصره، ونجده الحروري على العروض [2] ، وعبد الله بن خازم على خراسان، ولست بدون واحد منهم، ولكن ما كنت اقدر على ما اردت الا بالدعاء الى الطلب بثار الحسين. ثم قال: يا غلام، على بفرسي ولامتى. فاتى بدرعه، فتدرعها، وركب فرسه. ثم قال: قبح الله العيش بعد ما ارى، يا بواب، افتح. ففتح له الباب.   [1] محو في الأصل. [2] العروض: المدينة ومكة واليمن، وقال ابن الكلبى: برد اليمامه والبحرين وما والاها العروض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وخرج ومعه حماه اصحابه، فقاتل القوم قتالا شديدا، وانهزم اصحابه، ومضى هو نحو القصر، وهو في حاميه اصحابه، فدخل القصر من اصحابه سته آلاف رجل، وبقي مع المختار نحو من ثلاثمائه رجل، فاخذ اصحاب مصعب عليه باب القصر، فلجا المختار فيمن معه الى حائط القصر، واقبل يذمر اصحابه، ويحمل. فلم يزل يقاتل حتى قتل اكثر من كان معه. فحمل عليه اخوان من بنى حنيفه من اصحاب المهلب، فضرباه بالسيف حتى سقط، وبادرا اليه، فاحتزا راسه، فأتيا به مصعبا، فأعطاهما ثلاثين الف درهم. فقال سويد بن ابى كاهل يذكر قتل المختار: يا ليت شعرى متى تغدو مخيسه [1] ... منا فتبلغ اهل الموسم الخبرا انا جزرنا عن الكذاب هامته ... من بعد طعن وضرب يكشف الخمرا ووجه مصعب برأس المختار الى عبد الله بن الزبير مع عبد الله بن عبد الرحمن. قال عبد الله: فوافيت مكة بعد العشاء الآخرة، فأتيت المسجد، وعبد الله ابن الزبير يصلى، قال: فجلست انتظره، فلم يزل يصلى الى وقت السحر، ثم انفتل من صلاته، فدنوت منه، فناولته كتاب الفتح، فقراه، وناوله غلامه، وقال: امسكه معك. فقلت: يا امير المؤمنين، هذا الراس معى. قال: فما تريد؟. قلت: جائزتي. قال: خذ الراس الذى جئت به بجائزتك. فتركته، وانصرفت.   [1] جماعه من راكبي الإبل المخيسه وهي التي لم تسرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 سلطان عبد الله بن الزبير قالوا: ولما قتل المختار، واستتب الأمر لعبد الله بن الزبير، ارسل الى عبد الله ابن عباس ومحمد بن الحنفيه: اما ان تبايعاني او تخرجا من جواري. فخرجا من مكة، فنزلا الطائف، وأقاما هناك. وتوفى عبد الله بن عباس بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفيه. وخرج محمد بن الحنفيه حتى اتى ايله [1] ، وكتب الى عبد الملك بن مروان، يستاذنه في القدوم عليه، والنزول في جواره، فكتب اليه: وراءك اوسع لك، ولا حاجه لي فيك. فأقام محمد بن الحنفيه عامه ذلك بايله، ثم توفى بها. وقتل المختار، وابراهيم بن الاشتر عامله على كوره الجزيرة، فكتب الى مصعب يسأله الامان، وكتب اليه يأمره بالقدوم عليه، فقدم وبايعه، وفوض مصعب اليه جميع امره، واظهر بره والطافه، ولم تزل السته الآلاف [2] الذين دخلوا القصر متحصنين فيه شهرين، حتى نفد جميع ما كان المختار اعده فيه من الطعام، فسألوا الامان، فأبى مصعب ان يعطيهم الامان الا على حكمه. فأرسلوا اليه: انا ننزل على حكمك. فنزلوا عند ما بلغ اليهم الجوع. فضرب أعناقهم كلها، وكانوا سته آلاف: الفين من العرب، واربعه آلاف من العجم. ودعا مصعب بامرأتي المختار، أم ثابت ابنه سمره بن جندب، وعمره بنت النعمان بن بشير، فدعاهما الى البراءة من المختار، فاما أم ثابت فإنها تبرات منه، وأبت عمره ان تتبرأ منه. فامر بها مصعب، فأخرجت الى الجبانة، فضربت عنقها.   [1] مدينه كانت على ساحل البحر الأحمر مما يلى الشام، وهي مدينه اليهود الذين اعتدوا في السبت، وكان حجاج مصر يجتازونها. [2] في الأصل: آلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فقال بعض الشعراء في ذلك: ان من اعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حره عطبول [1] قتلوها بغير ذنب سفاها ... ان لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك: الم تعجب الأقوام من قتل حرة ... من المخلصات الدين محموده الأدب؟ من الغافلات المؤمنات بريئة ... من الزور والبهتان والشك والريب علينا كتاب الله في القتل واجب ... وهن الضعاف في الحجال وفي الحجب فقلت ولم اظلم، اعمرو بن مالك ... يقتل ظلما، لم يخالف ولم يرب ويسبقنا آل الزبير بوترنا ... ونحن حماة الناس في البارق الاشب [2] فان تعقب الأيام منهم نجازهم ... على حنق بالقتل والاسر والحنب [3] ثم ان مصعب بن الزبير نزل القصر بالكوفه، واستعمل العمال، وجبى الخراج، فولى البصره عبيد الله بن معمر التيمى، ورد المهلب الى قتال الازارقه. قالوا: ولما صفا الأمر لعبد الله بن الزبير ودانت له البلدان الا ارض الشام، جمع عبد الملك بن مروان اخوته، وعظماء اهل بيته، فقال لهم: ان مصعب بن الزبير قد قتل المختار، ودانت له ارض العراق، وسائر البلدان، ولست آمنه ان يغزوكم في عقر بلادكم، وما من قوم غزوا في عقر دارهم الا ذلوا، فما ترون؟. فتكلم بشر بن مروان، فقال: يا امير المؤمنين، ارى ان تجمع إليك اطرافك، وتستجيش جنودك، وتضم إليك قواصيك، وتسير اليه، وتلف الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، والنصر من عند الله.   [1] المرأة العطبول هي الفتيه الجميلة الممتلئة الطويله العنق. [2] البارق: موضع قرب الكوفه، والاشب: كثير الشجر. [3] الحنب والتحنيب: اعوجاج في الضلوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فقال القوم: هذا الرأي، فاعمل به، فان بنا قوه ونهوضا. فوجه رسله الى كور الشام ليجتمع اليه، فاجتمع له جميع اجناد الشام، ثم سار وقد احتشد، ولم ينزل. خضوع العراق لجند الشام وبلغ مصعب بن الزبير خروجه، فضم اليه اطرافه، وجمع اليه قواصيه، واستعد، ثم خرج لمحاربته، فتوافى العسكران بدير الحانات، فقال عدى بن زيد بن عدى، وكان مع عبد الملك: لعمري لقد اصحرت خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب [1] يجرون كل طويل الكعوب ... معتدل النصل والثعلب [2] بكل فتى واضح وجهه ... كريم الضرائب [3] والمنصب ولما نظر اصحاب مصعب الى كثره جموع عبد الملك تواكلوا، وشملهم الرعب، فقال مصعب لعروه بن المغيره، وهو يسايره: ادن يا عرو اكلمك. فدنا منه. فقال: أخبرني عن الحسين، كيف صنع حين نزل به الأمر؟ قال عروه: فجعلت احدثه بحديث الحسين، وما عرض عليه ابن زياد من النزول على حكمه، فأبى ذلك، وصبر للموت. فضرب مصعب معرفه [4] دابته بالسوط، ثم قال: فان الالى بالطف [5] من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا وان عبد الملك كتب الى رؤساء اصحاب مصعب يستميلهم اليه، ويعرض عليهم الدخول في طاعته، ويبذل لهم على ذلك الأموال.   [1] اصحرت الخيل: برزت في الصحراء، والأكناف جمع كنف بفتحتين وهو الجانب. [2] المقصود بالثعلب طرف الرمح الداخل في جبه السنان. [3] الضرائب: جمع ضريبه، وهي الطبيعة والسجية، او السيف وحده، كالمضرب. [4] المعرفة موضع العرف من الفرس. [5] الطف: موضع قرب الكوفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وكتب الى ابراهيم بن الاشتر فيمن كتب. فاقبل ابراهيم بالكتاب مختوما فناوله مصعبا، وقال: ايها الأمير، هذا كتاب الفاسق عبد الملك بن مروان. قال له مصعب: فهلا قراته. قال: ما كنت لافضه، ولا اقراه الا بعد قراءتك له. ففضه مصعب، وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك امير المؤمنين الى ابراهيم ابن الاشتر، اما بعد، فانى اعلم ان تركك الدخول في طاعتي ليس الا عن معتبه، فلك الفرات وما سقى، فانجز الى فيمن أطاعك من قومك، والسلام. فقال مصعب: فما يمنعك يا ابن النعمان؟ قال: لو جعل لي ما بين المشرق الى المغرب ما اعنت بنى اميه على ولد صفيه. فقال مصعب: جزيت خيرا أبا النعمان. فقال ابراهيم لمصعب: ايها الأمير، لست اشك ان عبد الملك قد كتب الى عظماء أصحابك بنحو مما كتب الى، وانهم قد مالوا اليه، فائذن لي في حبسهم الى فراغك، فان ظفرت مننت بهم على عشائرهم، وان تكن الاخرى كنت قد أخذت بالحزم. قال مصعب: اذن يحتجوا على عند امير المؤمنين. فقال ابراهيم: ايها الأمير، لا امير المؤمنين والله لك اليوم، وما هو الا الموت، فمت كريما. فقال مصعب: يا أبا النعمان، انما هو انا وأنت فنقدم للموت. قال ابراهيم: اذن، والله افعل. قال: ولما نزلوا بدير الجاثليق [1] باتوا ليلتهم.   [1] الجاثليق رئيس للنصارى في بلاد الاسلام بمدينه السلام، ويكون تحت يد بطريق أنطاكية، ثم المطران تحت يده، ثم الاسقف يكون في كل بلد من تحت المطران، ثم القسيس، ثم الشماس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فلما أصبحوا نظر ابراهيم بن الاشتر، فإذا القوم الذين اتهمهم قد ساروا تلك الليلة، فلحقوا بعبد الملك بن مروان، فقال لمصعب: كيف رايت رأيي؟. ثم زحف بعضهم الى بعض، فاقتتلوا، فاعتزلت ربيعه، وكانوا في ميمنه مصعب، وقالوا لمصعب: لا نكون معك ولا عليك. وثبت مع مصعب اهل الحفاظ، فقاتلوا، وامامهم ابراهيم بن الاشتر، فقتل ابراهيم. فلما راى مصعب ذلك، استمات، فترجل، وترجل معه حماه اصحابه، فقاتلوا حتى قتل عامتهم، وانكشف الباقون عن مصعب. فحمل عليه عبد الله بن ظبيان، فضربه من ورائه بالسيف، ولا يشعر به مصعب، فخر صريعا، فنزل واجهز عليه، واحتز راسه. فاتى به عبد الملك، فخزن عليه حزنا شديدا، وقال: متى تغدو قريش مثل مصعب؟ وددت لو انه قبل الصلح، وانى قاسمته مالي. ولما قتل مصعب بن الزبير استامن من بقي من اصحابه الى عبد الملك، فامنهم. فقال عبد الله بن قيس الرقيات: لقد ورد المصرين خزى وذله ... قتيل بدير الجاثليق مقيم فما صبرت في الحرب بكر بن وائل ... ولا ثبتت عند اللقاء تميم ولكنه ضاع الذمار فلم يكن ... بها عربي عند ذاك كريم وكان قتل مصعب يوم الخميس للنصف من جمادى الاولى سنه اثنتين وسبعين [1] . فارتحل عبد الملك بالناس حتى دخل الكوفه، فدعاهم الى البيعه، فبايعوه. ثم جهز الجيوش الى تهامه لمحاربه عبد الله بن الزبير، وولى الحرب قدامه ابن مظعون، وامره بالمسير. وانصرف عبد الملك الى الشام.   [1] سنه 691 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 مقتل عبد الله بن الزبير ثم وجه الحجاج بن يوسف لمحاربه عبد الله بن الزبير، وعزل قدامه بن مظعون، فسار الحجاج حتى نزل الطائف، واقام شهرا. ثم كتب الى عبد الملك: انك يا امير المؤمنين متى تدع ابن الزبير يعمل فكره، ويستجيش ويجمع انصاره، وتثوب اليه فلاله كان في ذلك قوه له، فائذن في معاجلته لي. فاذن له. فقال الحجاج لأصحابه: تجهزوا للحج. وكان ذلك في ايام الموسم. ثم سار من الطائف حتى دخل مكة، ونصب المنجنيق على ابى قبيس [1] . فقال الاقيشر الأسدي: لم أر جيشا غر بالحج مثلنا ... ولم أر جيشا مثلنا غير ما خرس دلفنا لبيت الله نرمي ستوره ... باحجارنا زفن الولائد في العرس [2] . دلفنا له يوم الثلاثاء من منى ... بجيش كصدر الفيل ليس بذى راس فالا ترحنا من ثقيف وملكها ... نصل لايام السباسب والنحس [3] . فطلبه الحاج، فهرب، واناخ الحجاج بابن الزبير. وتحصن منه ابن الزبير في المسجد. واستعمل الحجاج على المنجنيق ابن خزيمة [4] ، فجعل يرمى اهل المسجد ويقول: خطاره مثل الفنيق الملبد ... نرمي بها عواذ اهل المسجد [5]   [1] ابو قبيس جبل بمكة سمى باسم رجل من مذحج حداد، لأنه أول من بنى فيه. [2] زفن كضرب: رقص. [3] السباسب هي ايام السعانين، والسعانين، او الشعانين: عيد للنصارى قبل عيد الفصح باسبوع، يخرجون فيه بصلبائهم. [4] الخثعمى [5] الخطاره: المقلاع والمنجنيق، والفنيق الفحل المكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فلما اشتد على ابن الزبير واصحابه الحصار، خرجت بنو سهم من بابهم، فقال ابن الزبير: فرت سلامان، وفرت النمر ... وقد تكون معهم فلا تفر وجعل اهل الشام يدخلون عليه المسجد، فيشد عليهم، فيخرجهم من المسجد حتى رمى بحجر، فأصاب جبهته، فسقط لوجهه، ثم تحامل، فقام، وهو يقول: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما ثم قال لأصحابه: اخرجوا الى من بالباب، واحملوا، ولا يلهينكم طلبى، والسؤال عنى، فانى في الرعيل الاول. فخرج، وخرجوا معه، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل عامه من كانوا معه، واحدقوا به من كل جانب، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه. فامر به الحجاج، فصلب. فمر به عبد الله بن عمر، فقال: رحمك الله أبا بكر، اما والله لقد كنت صواما قواما، غير انك رفعت الدنيا فوق قدرها، وليست لذلك باهل، وان أمه أنت شرها لامه صدق. وكان مقتل ابن الزبير يوم الثلاثاء لسبع عشره ليله خلت من جمادى الآخرة، سنه ثلاث وسبعين [1] . ولما قتل عبد الله بن الزبير خرج اخوه عروه بن الزبير هاربا من الحجاج حتى اتى الشام، فاستجار بعبد الملك بن مروان، فاجاره، واظهر إكرامه، واقام عنده. فكتب الحجاج الى عبد الملك به ان اموال عبد الله بن الزبير عند أخيه عروه، فرده الى لاستخرجها منه. فقال عبد الملك لبعض احراسه: انطلق بعروة الى الحجاج.   [1] سنه 692 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فقال عروه: يا بنى مروان، ما ذل من قتلتموه، بل ذل من ملكتموه. فتذمم عبد الملك، وخلى سبيل عروه. وكتب الى الحجاج: اله عن عروه، فلن أسلطك عليه. فأقام الحجاج بمكة حتى اقام للناس الحج. وامر بالكعبه فنقضت، واعاد بناءها، وهو هذا البناء القائم اليوم. وفي ذلك العام توفى عبد الله بن عمر، وله اربع وسبعون سنه. فدفن بذى طوى [1] في مقبره المهاجرين. وكان يكنى أبا عبد الرحمن. وفيها مات ابو سعيد الخدرى، واسمه سعد بن مالك. وفيها مات رافع بن خديج، وله ست وثمانون سنه، وكان يكنى أبا عبد الله. سك النقود العربية قالوا: وامر عبد الملك بضرب الدراهم سنه ست وسبعين، ثم امر بعد ذلك بضرب الدنانير، وهو أول من ضربها في الاسلام. وانما كانت الدراهم والدنانير قبل ذلك مما ضربت العجم. وفي تلك السنه مات جابر بن عبد الله، وله سبع وتسعون سنه. ابن الاشعث وفتنته ثم خرج عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بن قيس على الحجاج. وكان سبب خروجه انه دخل على الحجاج يوما، فقال له الحجاج: انك لمنظر انى. قال عبد الرحمن: اى والله، ومخبرانى. وقام عبد الرحمن، فخرج.   [1] ذو طوى، مثلث الطاء موضع قرب مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فقال الحجاج لمن كان عنده: ما نظرت الى هذا قط، الا اشهيت ان اضرب عنقه. وكان عامر الشعبى حاضرا. وان عبد الرحمن لما خرج قعد بالباب حتى خرج الشعبى، فقام عبد الرحمن اليه. فقال له: هل ذكرني الأمير بعد خروجى من عنده بشيء؟ فقال الشعبى: أعطني عهدا وثيقا الا يسمعه منك احد. فاعطاه ذلك. فاخبره بما كان الحجاج قال فيه. فقال عبد الرحمن: والله لاجهدن في قطع خيط رقبته. ثم ان عبد الرحمن دب في عباد اهل الكوفه وقرائهم، فقال: ايها الناس، الا ترون هذا الجبار يعنى الحجاج وما يصنع بالناس؟ الا تغضبون لله؟ الا ترون ان السنه قد أميتت، والأحكام قد عطلت، والمنكر قد اعلن، والقتل قد فشا؟ اغضبوا لله، واخرجوا معى، فما يحل لكم السكوت. فلم يزل يدب في الناس بهذا وشبهه حتى استجاب له القراء والعباد، وواعدهم يوما يخرجون فيه. فخرجوا على بكره ابيهم، واتبعهم الناس، فساروا حتى نزلوا الاهواز، ثم كتبوا الى الحجاج: خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام [1] فأرسل الحجاج كتابه الى عبد الملك بن مروان. فكتب عبد الملك في جوابه: وانى وإياهم كمن نبه القطا ... ولو لم ينبه باتت الطير لا تسرى [2] اخال صروف الدهر للحين منهم ... ستحملهم منى على مركب وعر   [1] جمع عرور بضم الاول والثانى وهو الاجرب. [2] القطا: طائر ومفرده قطاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قالوا: واهديت لعبد الملك في ذلك اليوم جاريه إفريقية، أهداها اليه موسى ابن نصير، عامله على ارض المغرب، وكانت من اجمل نساء دهرها، فباتت عنده تلك الليلة، فلم ينل منها شيئا اكثر من ان غمز كفها، وقال لها: ان دونك امنيه المتمنى. قالت: فما يمنعك؟ قال: يمنعني بيت مدحنا به، وهو: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت باطهار فزعموا انه مكث سبعه اشهر لا يقرب امراه حتى أتاه قتل عبد الرحمن بن محمد. ثم ان الحجاج بعث أيوب بن القرية الى عبد الرحمن بن محمد، وقال: انطلق، فادفعه الى الطاعة، وله الامان على ما سلف من ذنبه. فانطلق اليه ابن القرية، فدعاه، فابلغ في الدعاء، فقال له عبد الرحمن: ويحك يا ابن القرية، ايحل لك طاعته مع ارتكابه العظائم، واستحلاله المحارم؟ اتق الله يا ابن القرية، ووال عباد الله في البريه. ولم يزل عبد الرحمن بابن القرية يختدعه حتى ترك ما ارسل فيه، واقام مع عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: انى اريد ان اكتب الى الحجاج كتابا مسجعا، اعرفه فيه سوء فعاله، وابصره قبح سريرته، فامله على. فقال أيوب: ان الحجاج يعرف الفاظى. قال: وما عليك، انى لأرجو ان نقتله عن قريب. فاملى عليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن محمد، الى الحجاج بن يوسف، سلام على اهل طاعه الله، الذين يحكمون بما انزل الله، ولا يسفكون دما حراما، ولا يعطلون لله احكاما، فانى احمد الله الذى بعثني لمنازلتك، وقواني على محاربتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 حين تهتكت ستورك، وتحيرت امورك، فأصبحت حيران تائها، لهفان لا تعرف حقا، ولا تلائم صدقا، ولا ترتق فتقا، ولا تفتق رتقا، وطالما تطاولت فيما تناولت، فصرت في الغى مذبذبا، وعلى الشراره مركبا، فتدبر امرك، وقس شبرك بفترك [1] ، فإنك مراق عراق [2] ، ومعك عصابه فساق، جعلوك مثالهم، كحذوهم نعالهم، فاستعد للابطال بالسيوف والعوال [3] ، فستذوق وبال امرك، ويرجع عليك غيك، والسلام. فلما قرأ الحجاج الكتاب عرف الفاظ ابن القرية، وعلم انه من املائه. فكتب الى عبد الرحمن في جوابه. بسم الله الرحمن الرحيم، من الحجاج بن يوسف الى عبد الرحمن بن الاشعث، سلام على اهل التورع لا التبدع، فانى احمد الله الذى حيرك بعد البصيره، فمرقت عن الطاعة، وخرجت عن الجماعه، فعسكرت في الكفر، وذهلت عن الشكر، فلا تحمد الله في سراء، ولا تصبر لأمره في ضراء، قد أتاني كتابك بلفظات فاجر، فاسق غادر، وسيمكن الله منه، ويهتك ستوره، اما بعد فهلم الى فعل وفعال، ومعانقه الابطال بالبيض والعوال، فان ذلك احرى بك من قيل وقال، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وخشي الله، واتقى. وان عبد الملك وجه الى الحجاج عشره آلاف رجل من فرسان اهل الشام لمحاربه عبد الرحمن بن محمد. فلما قدموا عليه تجهز، وسار نحو عبد الرحمن، فالتقوا بالاهواز، فاقتتلوا، فانهزم عبد الرحمن، ومضى على وجهه، فمر على رجل من اصحابه مسلوب حاف، يمشى ويعثر.   [1] الشبر: ما بين اعلى الابهام واعلى الخنصر، والفتر بالكسر ما بين طرف الابهام وطرف المشيره. [2] المرق: اكثار مرقه القدر والعرق العظم بلحمه. [3] الرماح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فأنشأ عبد الرحمن يقول: منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكئه اطراف مرو حداد [1] اخرجه الخذلان عن أرضه ... كذلك من يكره حر الجلاد ان كان في الموت له راحة ... فالموت حتم في رقاب العباد فقال الرجل: فهلا ثبت، فنقاتل معك. فقال له عبد الرحمن: اوبمثلك تسد الثغور؟!. ومضى عبد الرحمن حتى استجار بملك الاتراك، فأقام عنده. فكتب عبد الملك الى ملك الاتراك، يخبره بشقاق عبد الرحمن، وخلعه الطاعة، وخروجه عليه، ويسأله ان يرده عليه. فقال ملك الاتراك لطراخنته [2] : ان ابن الاشعث هذا رجل مخالف للملوك، فلا ينبغى لي ان آويه، بل ابعث به الى ملكه، فيتولى من امره ما أحب. فوجه به مع مائه رجل من ثقاته، فانزلوه في طريقه قصرا في قريه، فرقى الى ظهر القصر، ورمى بنفسه من السور، فمات. وان أيوب بن القرية اسر فيمن اسر من اصحاب عبد الرحمن، فادخل به على الحجاج. فلما ادخل عليه، قال له: يا عدو الله، بعثتك رسولا الى عبد الرحمن، فتركت ما بعثت له، وصرت وزيرا ومشيرا، تصدر له الكتب، وتسجع له الكلام، وتدبر له الأمور.   [1] الوجى: الحفا، او أشد منه، ونكى: جرح، والمرو: حجارة بيض تورى النار. [2] جمع طرخان بالفتح وهو اسم للرئيس الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فقال ابن القرية: اصلح الله الأمير، كان شيطانا في مسك انسان، استمالني بسحره، وخلبنى بلفظه، فكان اللسان ينطق بغير ما في القلب. قال الحجاج: كذبت يا ابن اللخناء [1] ، بل كان قلبك منافقا، ولسانك مدامجا، فكتمت امرا اظهره الله، واطعت فاسقا خذله الله، فما بقي من نعتك؟ قال ابن القرية: ذهني جديد، وجوابي عتيد. قال: كيف علمك بالأرض؟ قال: ليسألني الأمير عما أحب. قال: أخبرني عن الهند. قال: بحرها در، وجبلها ياقوت، وشجرها عطر. قال: فأخبرني عن مكران. قال: ماؤها وشل [2] ، وتمرها دقل [3] ، وسهلها جبل، ولصها بطل، ان كثر الجيش بها جاعوا، وان قلوا ضاعوا. قال: فخراسان. قال: ماؤها جامد، وعدوها جاهد، بأسهم شديد، وشرهم عتيد، وخيرهم بعيد. قال: فاليمن. قال: ارض العرب، ومعدن الذهب. قال: فعمان. قال: حرها شديد، وصيدها موجود، وأهلها عبيد.   [1] اللخن محركه: قبح ريح الفرج، والمرأة اللخناء التي لم تختن. [2] الوشل محركه: الماء القليل. [3] الدقل: اردا التمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قال: فالبحرين. قال: كناسه [1] بين مصرين، وجنه بين بحرين. قال: فمكه. قال: قوم ذوو جفاء، ومن سجيتهم الوفاء. قال: فالمدينة. قال: ذوو لطف وبر، وخير وشر. قال: فالبصره. قال: حرها فادح، وماؤها مالح، وفيضها سائح. قال: فالكوفة. قال: جنه بين حماه وكنه [2] ، العراق تحشد لها، والشام يدر عليها، سفلت عن برد الشام، وارتفعت عن حر الحجاز. قال: فالشام. قال: تلك عروس بين نسوه جلوس، تجلب إليها الأموال، وفيها الضراغمه الابطال. قال له الحجاج: ثكلتك أمك، أنت المصدر الكتب لابن الاشعث، الم تعلم انى لا اصاحب على الشقاق، ولا اجامع على النفاق؟ قال ابن القرية: استبقني ايها الأمير. قال: لماذا؟ قال: لنبوه بعد هفوة. قال الحجاج: لا، بل لغدره بعد نكثه، يا غلام، ناولني الحربه. وقد امسك ابن القرية اربعه رجال فلا يستطيع تحريكا، وهز الحجاج الحربه ثلاثا.   [1] الكناسة: المرأة الحسناء. [2] موضعان أولهما بالشام والثانى بفارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فقال ابن القرية: اسمع منى ثلاث كلمات، تكن بعدي مثلا. قال: هات. قال: لكل جواد كبوه، ولكل حليم هفوة، ولكل شجاع نبوه. فوضع الحجاج الحربه في ثندوه ابن القرية، ودفعها حتى خالطت جوفه، ثم خضخضها [1] ، وأخرجها، فاتبعها دم اسود. فقال الحجاج: هكذا تشخب أوداج الإبل. وفحص ابن القرية برجليه وشخص بصره، وجعل الحجاج ينظر اليه حتى قضى. فحمل في النطع [2] . فقال الحجاج: لله درك يا ابن القرية، اى ادب فقدنا منك، واى كلام رصين سمعنا منك. ودخل بعد ذلك انس بن مالك. فقال له الحجاج: هيه يا انس، يوما مع المختار، ويوما مع ابن الاشعث، جوال في الفتن، والله لقد هممت ان اطحنك طحن الرحى بالثفال [3] ، واجعلك غرضا للنبال. قال انس: من يعنى الأمير؟ اصلحه الله. قال: إياك اعنى، اسك الله سمعك. فانصرف انس الى منزله، وكتب من ساعته الى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عبد الملك امير المؤمنين من انس بن مالك،   [1] الخضخضة: تحريك الماء. [2] النطع: بساط من الأديم. [3] الثفال ككتاب الحجر الأسفل من الرحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 اما بعد، فان الحجاج قال لي نكرا، واسمعنى هجرا، ولم أكن لذلك أهلا، فخذ على يديه، وأعدني عليه، والسلام. فلما قرأ عبد الملك كتاب انس استشاط غضبا، ثم كتب اليه. هيه يا ابن يوسف، اردت ان تعلم راى امير المؤمنين في انس، فان سوغك مضيت قدما، وان لم يسوغك رجعت القهقرى، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب [1] ، انسيت مكاسب آبائك بالطائف في حفر الابار، وسد السكور [2] ، وحمل الصخور على الظهور؟ ابلغ من جرأتك على امير المؤمنين ان تعنت بانس ابن مالك، خادم رسول الله ص ست سنين، يطلعه على سره، ويفشى اليه الاخبار التي كانت تأتيه عن ربه؟ فإذا أتاك كتابي هذا فامش اليه على قدميك حتى تأخذ كتابه الى بالرضى، والسلام. فلما وصل كتاب عبد الملك الى الحجاج قال لمن حوله من اصحابه: قوموا بنا الى ابى حمزه. فقام ماشيا. ومضى معه اصحابه حتى اتى أنسا، فاقراه كتاب عبد الملك اليه. فقال انس: جزى الله امير المؤمنين خيرا، كذلك كان رجائى فيه. قال له الحجاج: فان لك العتبى، وانا صائر الى مسرتك، فاكتب الى امير المؤمنين بالرضى. فكتب اليه انس بالرضى عنه. ودفعه الى الحجاج، فانفذه الحجاج على البريد الى عبد الملك. نهاية عبد الملك بن مروان قالوا: ولما حضرت عبد الملك الوفاة، وذلك في سنه ست وثمانين أخذ البيعه   [1] العجم كل ما كان في جوف ماكول كالزبيب، واستفرمت المرأة بعجم الزبيب يعنى انها عالجت به فرجها ليضيق. [2] السكور جمع سكر وهو ما يسد به النهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 لابنه الوليد، وكان ولده: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، ومسلمه، ومحمد. ثم قال للوليد: يا وليد، لا الفينك إذا وضعتني في حفرتي ان تعصر عينيك كالأمة الورهاء [1] بل ائتزر وشمر، والبس جلد النمر، وادع الناس الى البيعه ثانيا، فمن قال برأسه كذا، فقل بالسيف كذا. ووعك وعكا شديدا. فلما اصبح جاء الوليد، فقام بباب المجلس، وهو غاص بالنساء، فقال: كيف اصبح امير المؤمنين؟ قيل له: يرجى له العافيه. وسمع عبد الملك ذلك، فقال: وكم سائل عنا يريد لنا الردى ... وكم سائلات والدموع ذوارف ثم امر بالنساء، فخرجن. واذن لبنى اميه فدخلوا عليه وفيهم خالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاويه فقال لهما: يا بنى يزيد، اتحبان ان اقيلكما بيعه الوليد؟ قالا: معاذ الله، يا امير المؤمنين. قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه. ثم خرجوا عنه، واشتد وجعه، فتمثل ببيت اميه بن ابى الصلت: ليتنى كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال ارعى الوعولا فلم يمس يومه ذلك حتى قضى. وكان سلطانه احدى وعشرين سنه وسته اشهر، وكان له يوم مات ثمان وخمسون سنه، من ذلك سبع سنين، كان فيها محاربا لعبد الله بن الزبير، ثم صفا له الملك بعد قتله ابن الزبير ثلاثة عشر سنه ونصفا.   [1] الجاريه الحمقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الوليد بن عبد الملك ولما انصرف الوليد من قبل ابيه قصد المسجد الأعظم، واجتمع اليه الناس، فبايعوه. وعقد لعمر بن عبد العزيز بن مروان على الحرمين. فنزل المدينة، فدعا بعشره نفر من افاضل أهلها، منهم عروه بن الزبير، وعبيد الله بن عتبة، وابو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابو بكر ابن سليمان بن ابى حثمه، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، فاجتمعوا، فدخلوا عليه، فقال: اعلموا اننى لست اقطع امرا الا برأيكم ومشورتكم، فأشيروا على. قالوا: نفعل ايها الأمير، جزيت على ما تنوى خير ما جزى مؤثر لمرضاه ربه. ثم خرجوا. اصلاح الحرم النبوي ثم كتب الوليد الى عمر بن عبد العزيز، ان يشترى الدور التي حول مسجد رسول الله ص، فيزيدها في المسجد، ويجدد بناء المسجد. وكتب الى ملك الروم يعلمه ما هم به من ذلك، ويسأله ان يبعث اليه ما استطاع من الفسيفساء [1] فوجه اليه منها اربعين وسقا [2] . فبعث به الى عمر بن عبد العزيز، فهدم عمر المسجد، وزاد فيه، وبناه، وزينه بالفسيفساء.   [1] الفسيفساء: الوان من الخرز تركب في حيطان البيوت من داخل. [2] الوسق: ستون صاعا او حمل بعير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فتح بخارى وسمرقند وكان على خراسان من قبل الحجاج قتيبة بن مسلم الباهلى. فكتب اليه الحجاج يأمره بعبور النهر نهر بلخ، وان يفتح تلك البلاد. فاستعد قتيبة، وسار في المفازة التي بين مدينه مرو وبين مدينه آمويه، وهي ذات رمال وغضى [1] ، فصار الى آمويه، ثم عبر النهر وسار الى بخارى. وكان ملك تلك الارضين يسمى صول وكان ملكه على جميع ما وراء النهر، فلقيه الملك، فحاربه قتيبة، فهزمه، وهرب صول نحو الصغانيان. فاحتوى قتيبة على بخارى وحيزها، فولى عليها رجلا. وسار حتى وافى بلاد السغد [2] ، فأناخ على مدينتها العظمى، وهي سمرقند، فحاصرها أشهرا. فوجه اليه دهقانها [3] : انك لو اقمت على مدينتي هذه عمرك لم تصل إليها، لأنا نجد في كتب آبائنا، انه لا يقدر عليها الا رجل اسمه بالان، لست اياه، فامض لشأنك. فزعموا ان قتيبة احتال لما يئس من مكابرتها، فهيأ صناديق، وجعل لها أبوابا من أسافلها، تغلق من داخل، وتفتح، وجعل في كل صندوق رجلا مستلئما، معه سيفه، واقفل أبوابها العليا. ثم ارسل الى الدهقان: اما إذا كان هذا هكذا، فانى راحل عنك الى الصغانيان، وناحيتها، ومعى فضول اموال وسلاح، فوادعنى، واحرز هذه الصناديق عندك الى عودي ان سلمت. فأجابه الى ذلك، وتقدم قتيبة الى الرجال ان يفتحوا أبواب الصناديق في جوف الليل، فيخرجوا، ثم يصيروا الى باب المدينة فيفتحوه. وامر الدهقان بالصناديق، فادخلت المدينة.   [1] مفرده غضاه وهي الشجرة، والارض الغضياء كثيره الشجر. [2] السغد بالضم: بساتين نزهه واماكن مثمره، حول سمرقند، ومنها على بن الحسين وكامل ابن مكرم واحمد بن حاجب المحدثون. [3] الدهقان بالضم وبالكسر لغة، القوى على التصرف مع حده، وهو زعيم فلاحى العجم، ورئيس الإقليم، لفظ معرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فلما جن الليل، وهدأ الناس خرج الرجال مستلئمين، معهم السيوف، لا يستقبلهم احد الا قتلوه، حتى أتوا باب المدينة، فقتلوا الحرس، وفتحوا الباب. ودخل قتيبة بالجيش، ووقعت الواعية، وهرب الدهقان في سرب [1] ، فلحق بالملك، وصارت سمرقند في قبضه قتيبة، فخلف عليها رجلا. وسار حتى اتى الصغانيان، فهرب الملك منهم حتى صار في بلاد الترك، ووغل فيها، وخلى المملكة لقتيبه. فدخل قتيبة الصغانيان، ووجه عماله الى كش [2] ونسف [3] ، وافتتح جميع ما وراء النهر، وجميع تخارستان، ولم يبق من خراسان شيء الا افتتحه. ولم يزل قتيبة بخراسان سنين حتى شغب عليه اجناده، فقتلوه. فاستعمل الوليد بن عبد الملك عليها الجراح بن عبد الله الحكمي. وحج الوليد بن عبد الملك في سنه احدى وتسعين، وقد فرغ عمر بن عبد العزيز من بناء مسجد الرسول ص، فدخله، وطاف به، ونظر الى بنائه. ولم يكن بقي في زمن الوليد من الصحابه الا نفر يسير، منهم بالمدينة، سهل ابن سعد الساعدي، وكان يكنى أبا العباس، توفى في آخر خلافه الوليد، وكان يوم مات ابن مائه سنه، ومنهم جابر بن عبد الله. وبالبصرة انس بن مالك. وبالكوفه عبد الله بن ابى اوفى. وبالشام ابو امامه الباهلى. موت الحجاج وفي السنه الخامسه من خلافه الوليد مات الحجاج بواسط، وله اربع وخمسون سنه، وكانت امرته على العراق عشرين سنه.   [1] السرب: الحفير تحت الارض، والقناه يدخل منها الماء الحائط. [2] مدينه في بخارى بين سمرقند وبلخ، وتسمى اليوم شهرى سبز، اى المدينة الخضراء، لخصب ريفها، ومنها خرج تيمور لنك الذى زينها بالبنايات الفخمه. [3] مدينه بفارس، فيها نشا الفقيه المحدث النسفى، صاحب التفسير المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 منها في خلافه عبد الملك خمس عشره سنه، وفي خلافه الوليد خمس سنين. وقد كان قتل سعيد بن جبير قبل موته بأربعين يوما. قالوا: وكان يقول في طول مرضه إذا هجر: ما لي ولك يا ابن جبير؟ وقتل ابن جبير وهو ابن تسع واربعين سنه، وكان يكنى أبا عبد الله، وكان ولاؤه لبنى اميه. سليمان بن عبد الملك ولما تم للوليد بن عبد الملك تسع سنين وسته اشهر حضرته الوفاة، فاسند الملك الى أخيه سليمان بن عبد الملك. فبويع سليمان في جمادى الآخرة سنه ست وتسعين، وسليمان يومئذ من أبناء سبع وثلاثين سنه. فملك سليمان سنتين وثمانية اشهر، ثم مرض مرضته التي مات فيها. فلما ثقل كتب كتابا، وختمه، ولم يدر احد ما كتب فيه، ثم قال لصاحب شرطه: اجمع إليك اخوتى، وعمومتي، وجميع اهل بيتى، وعظماء اجناد الشام، واحملهم على البيعه لمن سميت في هذا الكتاب، فمن ابى منهم ان يبايع، فاضرب عنقه، ففعل. فلما اجتمعوا في المسجد امرهم بما امر به سليمان. فقالوا: أخبرنا، من هو؟ لنبايعه على بصيره. فقال: والله ما ادرى من هو، وقد أمرني ان اضرب عنق من ابى. قال رجاء بن حيوه: فدخلت على سليمان، فاكببت عليه، وقلت: يا امير المؤمنين، من صاحب الكتاب الذى أمرتنا بمبايعته؟ فقال: ان اخوى يزيد وهشاما لم يبلغا ان يؤتمنا على الامه، فجعلتها للرجل الصالح، عمر بن عبد العزيز ، فإذا توفى عمر رجع الأمر إليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فخرج رجاء بن حيوه، فاخبر يزيد وهشاما بذلك، فرضيا، وسلما، وبايعا، ثم بايع بعدهما جميع الناس. وكان اكبر ولده يومئذ محمد بن سليمان، فكانت له اثنتا عشره سنه. وجعل يقول، وهو يجود بنفسه: ان بنى صبية صيفيون ... افلح من كان له ربعيون وذكر عن الكلبى انه قال: بعث الى سليمان بن عبد الملك، فدخلت عليه، وقد انتفخ سحرى [1] ، فسلمت عليه بالخلافة، فرد على السلام. ثم أومأ الى، فجلست، فسكت عنى حتى إذا سكن جاشى، قال لي: يا كلبى، ان ابنى محمدا قره عيني وثمره قلبي، وقد رجوت ان يبلغ الله به افضل ما بلغ رجلا من اهل بيته، وقد وليتك تأديبه، فعلمه القرآن، وروه الاشعار، فان الشعر ديوان العرب، وفهمه ايام الناس، وخذه بعلم الفرائض، وفهمه السنن، ولا تفتر عنه ليلا ونهارا، فإذا أخطأ بكلمة، او زل بحرف، او هفا بقول، فلا تؤنبه بين يدي جلسائه، ولكن إذا خلا لك مجلسك، لئلا تمحكه [2] ، وإذا دخل عليه الناس للتسليم، فخذه بألطافهم واظهار برهم، وإذا حيوه فليحيهم باحسن منها، وأطيبا لمن حضر بمائدتكما الطعام، واحمله على طلاقه الوجه، وحسن البشر، وكظم الغيظ، وقله القذر، والتثبت في المنطق، والوفاء بالعهد، وتنكب الكذب، ولا يركبن فرسا مخذوفا [3] ، ولا مهلوبا [4] ولا يركبن بسرج صغير، فتبدو اليتاه منه. قال: فلم يلبث سليمان بعد ذلك الا قليلا حتى مات.   [1] السحر: الرئه، وانتفخ سحره عدا طوره وجاوز قدره. [2] حتى لا تغضبه، والمحك: اللجج. [3] الفرس المخذوفة التي تحرك جنبيها في مشيها. [4] الفرس المهلوب التي تتابع الجرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 عمر بن عبد العزيز واسند الأمر الى عمر بن عبد العزيز. قالوا: فلما استخلف قعد للناس على الارض. فقيل له: لو امرت ببساط يبسط لك، فتجلس، ويجلس الناس عليه كان ذلك اهيب لك في قلوب الناس. فتمثل: قضى ما قضى فيما مضى، ثم لا ترى ... له صبوه احدى الليالى الغوابر ولولا التقى من خشيه الموت والردى ... لعاصيت في حب الصبا كل زاجر وكان إذا جلس للناس قال بسم الله، وبالله، وصلى الله على رسول الله، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ [1] ثم تمثل بهذه الأبيات: نسر بما يبلى، ونشغل بالمنى ... كما سر بالأحلام في النوم حالم نهارك يا مغرور سهو وغفله ... وليلك نوم، والردى لك لازم وسعيك فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم ثم نصب نفسه لرد المظالم. وبدا ببني اميه، وأخذ ما كان في ايديهم من الغصوب [2] ، فردها على أهلها. ودخل عليه اناس من خاصته، فقالوا: يا امير المؤمنين، الا تخاف غوائل قومك؟. فقال: ابيوم سوى يوم القيامه تخوفوننى؟ فكل خوف اتقيه قبل يوم القيامه لا وقيته. فلما تم لخلافته سنتان وخمسه اشهر مات.   [1] الآية رقم 205 من سوره الشعراء. [2] المال والعقار والضياع مما اخذوه من اصحابه غضبا وقهرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 يزيد بن عبد الملك وافضى الأمر الى يزيد بن عبد الملك في أول سنه مائه واحدى. فولى المصرين أخاه مسلمه بن عبد الملك. وكان مسلمه ذا عقل كامل وادب فاضل، فاستعمل مسلمه على خراسان سعيد ابن عبد العزيز بن الحكم بن ابى العاص بن اميه. ظهور الدعوة الى العباسيين قالوا: وفي ذلك العام [1] توافدت الشيعة على الامام محمد بن على بن عبد الله ابن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، وكان مستقره بأرض الشام، بمكان يسمى الحميمه وكان أول من قدم من الشيعة ميسره العبدى، وابو عكرمه السراج، ومحمد بن خنيس، وحيان العطار. فقدم هؤلاء عليه، فارادوه على البيعه، وقالوا له: ابسط يدك لنبايعك على طلب هذا السلطان، لعل الله ان يحيى بك العدل، ويميت بك الجور، فان هذا وقت ذلك، وأوانه، والذى وجدناه مأثورا عن علمائكم. فقال لهم محمد بن على: هذا أوان ما نامل ونرجو من ذلك، لانقضاء مائه من التاريخ، فانه لم تنقض مائه سنه على أمه قط الا اظهر الله حق المحقين، وابطل باطل المبطلين، لقول الله جل اسمه أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، قالَ، أَنَّى يُحْيِي هذِهِ [2] اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ [3] فانطلقوا ايها النفر، فادعوا الناس في رفق وستر، فانى أرجو ان يتمم الله امركم، ويظهر دعوتكم، ولا قوه الا بالله.   [1] في سنه 720 م. [2] في الأصل اثر رطوبة مكان ما بين الحاصرتين. [3] الآية رقم 259 من سوره البقره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ثم وجه ميسره العبدى، ومحمد بن خنيس الى ارض العراق، ووجه أبا عكرمه، وحيان العطار الى خراسان، وعلى خراسان يومئذ سعيد بن عبد العزيز بن الحكم ابن ابى العاص. فجعلا يسيران في ارض خراسان من كوره الى اخرى، فيدعوان الناس الى بيعه محمد بن على، ويزهدانهم في سلطان بنى اميه لخبث سيرتهم، وعظيم جورهم، فاستجاب لهما بخراسان اناس كثير، وفشا بعض امرهم وعلن. فبلغ امرهما سعيدا، فأرسل اليهم، فاتى بهم، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم تجار. قال: فما هذا الذى يذكر عنكم؟ قالوا: وما هو؟ قال: أخبرنا انكم جئتم دعاه لبنى العباس. قالوا: ايها الأمير، لنا في أنفسنا وتجارتنا شغل عن مثل هذا. فأطلقهما. فخرجا من عنده، يدوران كور خراسان ورساتيقها في عداد التجار، فيدعوان الناس الى الامام محمد بن على، فمكثا بذلك عامين. ثم قدما على الامام محمد بن على بأرض الشام، فأخبراه انهما قد غرسا بخراسان غرسا يرجوان ان يثمر في أوانه، والفياه قد ولد له ابو العباس ابنه. فامر باخراجه اليهم، وقال: هذا صاحبكم. فقبلوا اطرافه كلها. وكان مع الجنيد بن عبد الرحمن عامل السند رجل من الشيعة، يسمى بكير ابن ماهان، فانصرف الى موطنه من الكوفه، وقد أصاب بأرض السند مالا كثيرا، فلقيه ميسره العبدى وابن خنيس، واخبراه بامرهما، وسألاه ان يدخل في الأمر معهما، فأجابهما اليه، وقام معهما، وانفق جميع ما استفاد بأرض السند من الأموال بذلك السبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ومات ميسره بأرض العراق. وكتب الامام محمد بن على الى بكير بن ماهان، ان يقوم مقام ميسره، وكان بكير يكنى بابى هاشم، وبها كان يعرف في الناس. وكان رجلا مفوها، فقام بالدعاء، وتولى الدعوة بالعراقين، وكانت كتب الامام تأتيه، فيغسلها بالماء ويعجن بغسالتها الدقيق، ويأمر، فيختبز منه قرص، فلا يبقى احد من اهله وولده الا اطعمه منه. ثم انه مرض مرضه الذى مات فيه، فاوصى الى ابى سلمه الخلال، وكان أيضا من كبار الشيعة. وكتب الى [1] يعلمه ذلك. فكتب محمد بن على الى ابى سلمه، فولاه الأمر، وامره بالقيام بما كان يقوم به ابو هاشم. ثم كتب الى ابى عكرمه وحيان، وكانا صاحبي الأمر بخراسان، يأمرهما ان يكاتبا أبا سلمه، فدعاهما الى الدخول معه في امره، فاجاباه، ودخلا معه، وكانفاه. ثم ان يزيد بن عبد الملك عزل أخاه مسلمه عن العراق وخراسان، واستعمل مكانه خالد بن عبد الله القسرى، واستعمل خالد اسد بن عبد الله على خراسان، فانتهى خبر ابى عكرمه، وحيان الى اسد بن عبد الله، فامر بطلبهما، فأخذا، واتى بهما، فضربت أعناقهما، وصلبا. وبلغ ذلك محمد بن على، فقال: الحمد لله الذى صحح هذه العلامة، وقد بقي من شيعتي رجال سوف يفوزون بالشهادة. فلما تم لملك يزيد بن عبد الملك اربع سنين واشهر توفى بالبلقاء من ارض دمشق. وكانت وفاته سنه خمس ومائه، وله يوم مات ثمان وثلاثون سنه.   [1] الامام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 هشام بن عبد الملك ثم استخلف هشام بن عبد الملك، وهو ابن اربع وثلاثين سنه. فعزل اسد بن عبد الله عن خراسان، وولاها الجنيد بن عبد الرحمن، وكان رجلا من اليمانيه، ذا فضل وسخاء. وهو الذى يقول فيه الشاعر: ذهب الجود والجنيد جميعا ... فعلى الجود والجنيد السلام ولما قتل ابو عكرمه وحيان وجه الامام محمد بن على الى خراسان خمسه نفر من شيعته: سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، وموسى بن كعب، وخالد بن الهيثم، وطلحه بن زريق، وامرهم بكتمان امرهم، والا يفشوه الى احد الا بعد ان يأخذوا عليه العهود المؤكدة بالكتمان. فساروا حتى أتوا خراسان، فكانوا يأتون كوره بعد كوره، فيدعون الناس سرا الى اهل بيت نبيهم، ويبغضون اليهم بنى اميه، لما يظهر من جورهم واعتدائهم، وركوبهم القبائح، حتى استجاب لهم بشر كثير في جميع كور خراسان. وبلغ الجنيد امرهم، فامر بطلبهم، وأخذوا، واتى بهم الجنيد. فقال: يا فسقه، قد قدمتم هذه البلاد، فافسدتم قلوب الناس على بنى اميه، ودعوتم الى بنى العباس. فتكلم سليمان بن كثير، وقال: ايها الأمير، اتاذن لي في الكلام؟ قال: تكلم قال: انا وإياك كما قال الشاعر: لو بغير الماء حلقى شرق ... لاستغثت اليوم بالماء القراح نعلمك ايها الأمير، انا اناس من قومك اليمانيه، وان هؤلاء المضرية تعصبوا علينا، فرقوا إليك فينا الزور والبهتان، لأنا كنا أشد الناس على قتيبة، فهم الان يطلبون بثاره بكل عله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فقال الجنيد لمن كان حوله من اصحابه: ما ترون؟. فتكلم عبد الرحمن بن نعيم رئيس ربيعه، وكان من خاصته: نرى ان تمن بهم على قومك، فلعل الأمر كما يقولون. فامر باطلاقهم. فخرجوا، وكتبوا بقصتهم الى الامام. فكتب اليهم: ان هذا اقل ما لكم، فاكتموا امركم، وترفقوا في دعوتكم. فساروا من مدينه مرو الى بخارى، ومن بخارى الى سمرقند، ومن سمرقند الى كش ونسف، ثم عطفوا على الصغانيان، وجازوا منها الى ختلان [1] ، وانصرفوا الى مرو الروذ [2] ، والطالقان [3] ، وعطفوا الى هراة [4] ، وبوشنج [5] ، وجازوا الى سجستان. فغرسوا في هذه البلدان غرسا كثيرا، وفشا امرهم في جميع اقطار خراسان. وبلغ ذلك الجنيد، فأسف على تركهم، ووجه في طلبهم، فلم يقدر عليهم. فكتب الى خالد بن عبد الله القسرى، وكان على العراق، يعلمه انتشار خراسان وما حدث فيها من الدعاه الى محمد بن على. فكتب خالد بن عبد الله الى هشام يعلمه بذلك. فكتب اليه هشام، يأمره بالكتاب الى الجنيد، الا يرغب في الدماء، وان يكف عمن كف عنه، ويسكن الناس بجهده، وان يطلب النفر الذين يدعون الناس حتى يجدهم، فينفيهم.   [1] في نسخه اخرى جيلان والصواب ما ذكر، وهي بلاد مجتمعه وراء النهر قرب سمرقند. [2] في الأصل: مرووذ، وهي مدينه من مدن خراسان. [3] قال الاصطخرى في كتابه: ان طالقان اكبر مدن خراسان. [4] مدينه من أمهات المدن في خراسان، وقد خربها التتار. [5] بليده حصينة من نواحي هراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فلما انتهى ذلك الى الجنيد بعث رسله في اقطار خراسان. وكتب الى عماله في الكور يطلب القوم، فطلبوا، فلم يدرك لهم اثر. ابو مسلم الخراسانى قالوا: وكان بدء امر ابى مسلم انه كان مملوكا لعيسى، ومعقل، ابنى ادريس، ابن عيسى العجليين، وكان مسكنهما بماه البصره، مما يلى أصبهان. وكان ابو مسلم ولد عندهما، فنشأ غلاما، فهما، أديبا، ذهنا، فاحباه حتى نزل منهما منزله الولد. وكانا يتوليان بنى هاشم، ويكاتبان الامام محمد بن على، فمكثا بذلك ما شاء الله. ثم ان هشاما عزل خالد بن عبد الله القسرى من العراق، وولى مكانه يوسف ابن عمر الثقفى، فكان يوسف بن عمر لا يدع أحدا يعرف بموالاة بنى هاشم، وموده اهل بيت رسول الله الا بعث اليه، فحبسه عنده بواسط. فبلغه امر عيسى، ومعقل ابنى ادريس، فاشخصهما، وحبسهما بواسط فيمن حبس من الشيعة. وكانا اخرجا معهما أبا مسلم فكان يخدمهما في الحبس. وان سليمان بن كثير، ومالك بن الهيثم، ولاهز بن قرط، وهم كانوا الدعاه بخراسان قدموا للحج، وقدم معهم قحطبه بن شبيب، وكان ممن بايعهم، وشايعهم على امرهم، فجعلوا طريقهم على مدينه واسط، ودخلوا الحبس، فلقوا من كان فيه من الشيعة، فرأوا أبا مسلم، فأعجبهم ما رأوا من هيئته، وفهمه، واستبصاره في حب بنى هاشم. ونزل هؤلاء النفر بعض الفنادق بواسط، فكان ابو مسلم يختلف اليهم طول مقامهم حتى انس بهم، وانسوا به، فسألوه عن امره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فقال: ان أمي كانت أمه لعمير بن بطين العجلى، فوقع عليها، فحملت بي، فباعها، وهي حامل، فاشتراها عيسى، ومعقل، ابنا ادريس، فولدت عندهما، فانا كهيئة المملوك لهما. ثم ان النفر شخصوا من واسط، وأخذوا نحو مكة على طريق البصره، فوصلوا الى مكة، وقد وافاها الامام محمد بن على حاجا، فلقوه، وسلموا عليه، واخبروه بما غرسوا به في جميع خراسان من الغرس، ثم اخبروه بممرهم بواسط، ودخولهم على إخوانهم المحبسين بها. ووصفوا له صفه ابى مسلم، وما رأوا من ذكاء عقله وفهمه، وحسن بصره، وجوده ذهنه، وحسن منطقه. فسألهم: احر هو أم مملوك؟ فقالوا: اما هو، فيزعم انه ابن عمير بن بطين العجلى، وكانت قصته كيت وكيت، ثم فسروا له ما حكى لهم من امره. فقال: ان الولد تبع للام، فإذا انصرفتم فاجعلوا [1] ممركم بواسط، فاشتروه، وابعثوا به الى الحميمه [2] من ارض الشام، لاجعله الرسول فيما بيني وبينكم، على انى احسبكم لا تلقوني بعد عامي هذا، فان حدث بي حدث فصاحبكم ابنى هذا يعنى ابراهيم فاستوصوا به خيرا، فانى ساوصيه بكم خيرا. فانصرف القوم نحو خراسان، ومروا بواسط، ولقوا عيسى، ومعقل ابنى ادريس، فاخبروهما بحاجه الامام الى ابى مسلم، وسألوهما بيعه منهم. فزعموا، انهما وهباه له. فوجه به القوم الى الامام، فلما رآه تفرس فيه الخير، ورجا ان يكون هو القيم بالأمر، لعلامات رآها فيه، قد كانت بلغته. فجعله الرسول فيما بينه وبينهم، فاختلف اليهم مرارا كثيره.   [1] مكان ما بين الحاصرتين اثر ارضه في الأصل. [2] بلد في اطراف الشام، كان منزل بنى العباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وفاه الامام ثم توفى الامام محمد بن على، فقام بالأمر بعده ابنه ابراهيم بن محمد، وكان اكبر ولده، فامر أبا مسلم ان يسير الى الدعاه بالعراق، وخراسان، فيعلمهم وفاه الامام، وقيامه بالأمر من بعده. فسار حتى وافى العراق، ولقى أبا سلمه، ومن كان معه من الشيعة، فاخبرهم بما امره به. ثم سار الى خراسان ولقى الدعاه بها، فاخبرهم بذلك. وبلغ وفاه الامام جميع من بايع في اقطار خراسان، فسودوا ثيابهم حزنا لمصابه، وتسلبا عليه. وكان أول من سود منهم ثيابه حريش مولى خزاعة، وكان عظيم اهل نسا [1] ، ثم سودها من بعده قحطبه بن شبيب، ثم سود القوم جميعا، وكثرت الشيعة بخراسان كلها، وعلن امرهم. وكتب يوسف بن عمر، وكان على العراقين، الى هشام، يخبره بذلك، فكتب هشام الى يوسف، يأمره ان يبعث اليه رجلا، له علم بخراسان، ومعرفه بمن فيها من قوادها، وجنودها. وقد كان يوسف بن عمر عزل عنها الجنيد بن عبد الرحمن، واستعمل عليها جعفر بن حنظله البهرانى. فكتب جعفر الى يوسف بن عمر مع عبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي، يخبره بتفاقم امر المسودة بخراسان، وكثره من أجاب الدعاه بها. فلما أتاه كتاب هشام يأمره ان يوجه اليه رجلا، له علم بخراسان، حمل عبد الكريم بن سليط اليه على البريد.   [1] بلد بخراسان تقع بين مرو ونيسابور وقد عرفت بجوده خيلها، وفيها قبور الأولياء من الشيوخ والاعلام، وإليها ينسب الشيخ احمد النسائي المحدث صاحب كتاب السنن احد الكتب السته المشهوره في علم الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 قال عبد الكريم: فسرت حتى وافيت دمشق، فدخلت على هشام، فسلمت عليه بالخلافة. فقال لي: من أنت؟ قلت: انا عبد الكريم بن سليط بن عطية الحنفي. قال: كيف علمك بخراسان وأهلها؟ قلت: انا بها جد عالم. ثم اخبرته ان وجهى كان منها بكتاب أميرها جعفر بن حنظله البهرانى الى يوسف بن عمر يخبره بما حدث فيها. قال: انى اريد ان اولى امرها رجلا من القواد، الذين هم مرتبون بها، فمن ترى ان اولى امرها منهم، وأيهم اقوم بها؟ قال عبد الكريم: وكان هواى في اليمانيه فقلت: يا امير المؤمنين، اين أنت من رجل من قوادها ذي حزم، وباس، ومكيده، وقوه، ومكانفه من قومه؟ قال: ومن هو؟ قلت: جديع بن على الأزدي المعروف بالكرمانى. قال: وكيف يسمى الكرماني؟ قلت: ولد بكرمان، كان أبوه مع المهلب عند محاربته الازارقه، فولد هذا هناك. قال: لا حاجه لي في اليمانيه وكان هشام يبغض اليمانيه، وكذلك سائر بنى اميه. قلت: يا امير المؤمنين، فأين أنت من المجرب البطل النافذ اللسن؟ قال: ومن هو؟ قلت: يحيى بن نعيم، المعروف بابى الميلاء، وهو ابن أخي مصقله بن هبيرة. قال: لا حاجه لي فيه، لان ربيعه لا تسد بها الثغور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فقلت: يا امير المؤمنين، فعليك بالماجد اللبيب الأريب، الكامل الحسيب، عقيل بن معقل الليثى. قال، فكانه هويه. فقلت: ان اغتفرت منه هنه فيه. قال: وما هي؟ قلت: ليس بعفيف البطن والفرج. قال: لا حاجه لي فيه. قلت: فالكامل النافذ، الفارس المجرب، محسن بن مزاحم السلمى. قال، فكانه هويه، للمضريه. قلت: ان اغتفرت هنه فيه. قال: وما هي؟ قلت: اكذب، ذي لهجة. قال: لا حاجه لي فيه. قلت: فذو الطاعة لكم، المتمسك بعهدكم، المقتدى بقدوتكم، يحيى بن الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعله. قال: الم اخبرك ان ربيعه لا تسد بها الثغور؟ قلت: فالكامل النافذ الشجاع البطل، قطن بن قتيبة بن مسلم. قال: فمال اليه بالمضريه. قلت: ان اغتفرت منه هنه. قال: وما هي؟ قلت: لا آمنه ان افضى اليه السلطان ان يطلب جنود خراسان بدم ابيه قتيبة، فإنهم جميعا تظافروا عليه. قال: لا حاجه لي فيه. قلت: فأين أنت من العفيف المجرب، الباسل المحنك، نصر بن سيار الليثى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 قال: فكانه تفاءل به، ومال اليه، بالمضريه. قلت: ان اغتفرت منه خصله. قال: وما هي؟ قلت: ليست له بخراسان عشيره من جنودها، وانما يقوى على ولايه خراسان من كانت له بها عشيره من جنودها. قال: فأي عشيره اكثر منى، لا أبا لك، يا غلام؟ انطلق الى الكتاب، فمرهم بإنشاء عهده، وائتونى به. فكتب له عهده، واتى به. فناولنيه، وقال: انطلق حتى توصله اليه. ثم امر ان احمل على البريد. فسرت حتى وافيت خراسان، فأتيته في منزله، فناولته العهد، فامر لي بعشره آلاف درهم. ثم تناول العهد، فانطلق الى جعفر بن حنظله، الأمير كان بها، فدخل عليه، وهو جالس على سريره، فناوله العهد. فلما قراه أخذ بيد نصر، فرفعه حتى اجلسه معه على سريره، وقال: سمعا وطاعه لأمير المؤمنين. فقال له نصر: أبا خلف، السلطان سلطانك، فمر بأمرك. ودعا له جعفر بن حنظله، وسلم الأمر اليه. وان سليمان بن كثير، ولاهز بن قرط، ومالك بن الهيثم، وقحطبه ابن شبيب أرادوا الحج، فخرجوا مع الحاج متنكرين حتى أتوا مكة، وقد وافاها في ذلك العام ابراهيم بن محمد الامام، فاخبروه بما اجتمع له الناس بخراسان. وقد كانوا حملوا اليه ما بعثت به اليه الشيعة. فقالوا: قد حملنا إليك مالا. قال: وكم هو؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 قالوا: عشره آلاف دينار، ومائتا الف درهم. فقال: سلموه الى مولاى عروه، فدفعوه اليه. فقال لهم ابراهيم: انى قد رايت ان اولى الأمر هناك أبا مسلم، لما جربت من عقله، وبلوت من أمانته، وانا موجهه معكم، فاسمعوا له، وأطيعوا امره، فان والدى رحمه الله عليه قد كان وصف لنا صفته، وقد رجوت ان يكون هو الذى يسوق إلينا الملك، فعاونوه، وكانفوه، وانتهوا الى رايه، وامره. قالوا: سمعا وطاعه لك ايها الامام. فانصرفوا، وابو مسلم معهم، حتى صاروا الى خراسان، فتشمر ابو مسلم للدعاء، وأخذ القوم بالبيعه، ووجه كل رجل من اصحابه الى ناحيه من خراسان، فكانوا يدورون بها كوره كوره، وبلدا بلدا، في زي التجار. فاتبعه عالم من الناس عظيم، فواعدهم لظهوره يوما سماه لهم، وولى على من بايعه في كل كوره رجلا من أهلها، وتقدم اليهم بالاستعداد للخروج من ذلك اليوم الذى سماه لهم حتى أجاب جميع ارض خراسان، سهلها وجبلها، وأقصاها وأدناها. وبلغ في ذلك ما لم يبلغه اصحابه من قبله، واستتب له الأمر على محبته، وصار من اعظم الناس منزلا عند شيعته، حتى كانوا يتحالفون به، فلا يحنثون، ويذكرونه، فلا يملون. وقد كان خالد بن عبد الله ولى العراقين عشر سنين، أربعا في خلافه يزيد ابن عبد الملك، وستا في خلافه هشام. فلما عزله هشام، وولى مكانه يوسف بن عمر حاسبه يوسف، فخرج عليه عشره آلاف درهم، قد كان وهبها للناس، وبذرها وكان من اسخى العرب فحبسه يوسف بن عمر عنده في العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وكتب الى هشام يتقاعد خالد بالمال الذى خرج عليه. فكتب اليه هشام بالبسط عليه [1] فدعا به يوسف بن عمر وقال: ما هذا التقاعد بمال السلطان يا ابن الكاهن؟ يعنى شق بن صعب المعروف بالكهانة وكان خالد بن عبد الله من ولده. فقال له خالد بن عبد الله. اتعيرني بشر في يا ابن الخمار؟ وانما كان ابوك وجدك بالطائف اصحاب حانه. وبلغ هشاما ان خالدا بذر ذلك المال في الناس، فكتب الى يوسف يأمره باطلاقه، والكف عنه. فلم يزل خالد مقيما بالكوفه حتى خرج زيد بن على، بن الحسين، بن على بن ابى طالب ع بالكوفه. وكان خروجه في صفر سنه ثماني عشره ومائه. فسار اليه يوسف بن عمر، فالتقوا بالكناسة [2] فانهزم اصحاب زيد، وخذلوه. فأخذه يوسف بن عمر، فضرب عنقه. وبعث برأسه الى هشام، وصلب جسده بالكناسة. وان خالدا كتب الى هشام يستاذنه في الخروج الى طرسوس [3] غازيا متطوعا، فاذن له هشام في ذلك، فسار حتى وافى طرسوس فأقام بها مرابطا.   [1] كذا في الأصل، وفي اللغة، بسط فلان من فلان، أزال منه الاحتشام، ويقال بسطت يده عليه اى سلط عليه. [2] محله مشهوره بالكوفه. [3] مدينه بثغور الشام، يشقها نهر البردان، وبها قبر المأمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وقيعه بين خالد وهشام وان رجلا من اهل العراق كان يتلصص، ويكنى أبا المعرس، قدم من الكوفه نحو ارض الشام، في جماعه من لصوص الكوفه، حتى وافوا مدينه دمشق، فكان إذا جنه الليل اشعل في ناحيه من السوق النار، فإذا تصايح الناس، واشتغلوا بإطفاء الحريق، اقبل في اصحابه الى ناحيه اخرى من السوق، فكسر الأقفال، وأخذ ما قدر عليه، ثم هرب. فدخل كلثوم بن عياض القسرى على هشام، وكان معاديا لخالد بن عبد الله، وهو ابن عمه، فقال لهشام: يا امير المؤمنين، ان هذا الحريق لم يكن بدمشق، وقد حدث، وما هو الا عمل محمد بن خالد بن عبد الله القسرى وغلمانه. فامر هشام بطلب محمد بن خالد، فاتوه به، وبغلمان له، فامر بحبسه، وحبس غلمانه. وبلغ ذلك خالدا، وهو بطرسوس، فسار حتى وافى دمشق، فنزل في داره بها، وغدا عليه الناس مسلمين، حتى إذا اجتمعوا عنده قال: ايها الناس، خرجت غازيا باذن هشام وامره، فحبس ابنى وغلماني، ايها الناس، ما لي ولهشام؟ والله ليكفن عنى هشام يسميه في كل مره باسمه ولا يقول امير المؤمنين او لادعون الى عراقي الهوى، شامي الدار، حجازى الأصل، ابراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، الا وانى قد أذنت لكم ان تبلغوا هشاما. وبلغ هشاما ذلك فقال: خرف ابو الهيثم، وانا حرى باحتماله، لقديم حرمته، وعظيم حقه. فأقام خالد بن عبد الله بمدينه دمشق عاتبا لهشام، مصارما له، لا يركب اليه، ولا يعبأ به، وهشام في كل ذلك يحتمله، ويحلم عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وان رجلا يسمى عبد الرحمن بن ثويب الكلبى دخل على خالد بن عبد الله، فسلم عليه، وعنده نفر من اشراف اهل الشام، فقال له: يا أبا الهيثم، انى احبك لعشر خصال فيك يحبها [1] الله منك: كرمك، وعفوك، ودينك، وعدلك، ورأفتك، ووقارك في مجلسك، ونجدتك، ووفاؤك، وصلتك ذوى رحمك، وادبك. فاثنى عليه خالد، وقال له خيرا. وبلغ هشاما ذلك فقال: ابلغ من امر الفاسق عبد الرحمن بن ثويب ان يصف خالدا بمحاسن لم تجتمع في احد من الخلفاء المؤتمنين على عباد الله وبلاده؟ ثم امر به، فاحسن أدبه، ونفى عن دمشق. وبلغ ذلك خالدا، وعنده اناس من وجوه اهل الشام، فقال لهم: الا تعجبون من صنيع هشام برجل ذكر منى خصالا؟ زعم انه يحبني لها، فضربه وطرده، وان اعظم مما قال في عبد الرحمن بن ثويب قول عبد الله بن صيفي حين قال له: يا امير المؤمنين، اخليفتك في اهلك أحب إليك وآثر عندك أم رسولك؟. قال هشام: بل خليفتي في اهلى. قال: فأنت خليفه الله في ارضه وخلقه، ومحمد رسول الله ص اليهم، فأنت اكرم على الله منه، فلم ينكر هذه المقاله من عبد الله بن صيفي، وهي تضارع الكفر، ويغضب على عبد الرحمن بن ثويب، وينكر عليه ما وصفني به من خصال، يحبها الله، فاحبنى لها. فلم يحفل هشام حين بلغه ذلك من قول خالد، ولم يؤاخذه بشيء من مقالته، فلما تم لخلافه هشام تسع عشره سنه وسبعه اشهر مرض مرضته التي مات، فاسند الخلافه الى ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك.   [1] محوفى الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الوليد بن يزيد فلما استخلف الوليد بن يزيد امر صاحب شرطه سعيد بن غيلان بأخذ خالد بالمال الذى عليه من بقايا خراج العراقين والبسط عليه، وقال: اسمعنى صياحه. فاقبل سعيد بن غيلان الى خالد وهو في منزله، فاخرجه، فانطلق به الى السجن، فعذبه يومه ذلك بألوان العذاب، فلم يكلمه خالد بحرف. وقال الاشعث بن القينى فيما نال خالدا: الا ان خيرا الناس نفسا ووالدا ... اسير قريش عندها في السلاسل لعمري، لقد اعمرتم السجن خالدا ... واوطاتموه وطأة المتثاقل فان تحبسوا القسرى لا تحبسوا اسمه ... ولا تحبسوا معروفه في القبائل وقدم يوسف بن عمر الثقفى بمال العراقين على الوليد، فجلس الوليد للناس، واذن لهم إذنا عاما. فتكلم زياد بن عبد الرحمن الضمرى، وكان معاندا لخالد، فقال: يا امير المؤمنين، على محاسبه خالد بخمسه آلاف الف درهم، فسلمه الى. فأرسل الوليد الى خالد وهو في السجن ان زياد بن عبد الرحمن قد اعطى بمحاسبتك خمسه آلاف الف درهم، فان صححتها لنا، والا دفعناك اليه. فأرسل له خالد: ان عهدي بالعرب لاتباع، وبالله لو سألتني ان اضمن لك هذا، ورفع عود من الارض، ما فعلت. فلما راى الوليد بن زيد تقاعد خالد بما عليه من المال امر به، فسلم الى يوسف ابن عمر، وقال: انطلق به الى العراق، واستاده جميع ما عليه من المال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فحمله يوسف بن عمر معه الى واسط [1] ، فكان يخرجه كل يوم ويعذبه، ثم يرده الى الحبس، فاخرجه ذات يوم، وقال: ما هذا التقاعد يا ابن المائقه [2] . فقال له خالد: ما ذكرك الأمهات، لعنك الله؟ والله لا اكلمك بكلمة ابدا. فغضب يوسف بن عمر من ذلك، فوضع على خالد المضرسه [3] ، وجعل يعذبه بها حتى قتله، فدفنه ليلا في عباءه كانت عليه. فأنشأ الوليد بن يزيد: الم تهتج فتذكر الوصالا ... وحبلا كان متصلا فزالا بلى، فالدمع منك له سجال ... كماء الغرب ينهمل انهمالا فدع عنك ادكارك آل سعدى ... فنحن الاكثرون حصى ومالا ونحن المالكون الناس قسرا ... نسومهم المذلة والنكالا ونوردهم حياض الخسف ذلا ... وما نالوهم الا خبالا [4] وطئنا الاشعرين بكل أرض ... ولم يك وطؤنا ان يستقالا وكنده والسكون قد استعاذوا ... نسومهم المذلة والخبالا شددنا ملكنا ببني نزار ... وقومنا بهم من كان مالا وهذا خالد فينا قتيلا ... الا منعوه ان كانوا رجالا ولو كانت بنو قحطان عربا ... لما ذهبت صنائعه ضلالا ولا تركوه مسلوبا أسيرا ... نحمله سلاسلنا الثقالا ولكن المذلة ضعضعتهم ... فلم يجدوا لذلتهم مقالا فلما سمع من كان باقطار الشام من اليمانيه هذا الشعر انفوا أنفا شديدا، فاجتمعوا من مدن الشام، وساروا نحو الوليد بن يزيد.   [1] موضع بين البصره والكوفه. [2] الموق هو الحمق في غباوة. [3] حجر غليظ جدا خشن الوطء. [4] الخبال هو الهلاك والعناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وبلغ الوليد مسيرهم، فامر بمحمد بن خالد بن عبد الله فحبس بدمشق. واقبلت اليمانيه، وخرج اليهم الوليد بمضر مستعدا للحرب، فالتقوا، واقتتلوا، وأثخنت اليمانيه القتل في مضر، فانهزمت مضر، وأخذوا نحو دمشق، ودخل الوليد قصره، فتحصن فيه. واقبلت اليمانيه حتى دخلت دمشق، واخرجوا محمد بن خالد من محبسه، وراسوه عليهم. فأرسل محمد بن خالد الى ابن عم الوليد بن يزيد، وهو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فجاء به، فبايعوه جميعا، وارسل الى اشراف المضريين، فبايعوه طوعا وكرها. وخلعوا الوليد بن يزيد، فلبث مخلوعا أياما كثيره، وهو خليع بنى اميه. يزيد بن الوليد فقام يزيد بن الوليد بالخلافة، ووضع للناس العطاء، وفرق في اليمانيه الصلات والجوائز. واقبل محمد بن خالد الى قصر الوليد بن يزيد، وامر بالاوهاق [1] ، فالقيت في شرف القصر، وتسلقوا، فعلوه، ونادوا: يا وليد، يا لوطي، يا شارب الخمر، ثم نزلوا اليه، فقتلوه. واستدف [2] الملك ليزيد بن الوليد. وان محمد بن خالد وجه منصور بن جمهور في خيل الى العراق، وامره ان يقصد الى مدينه واسط، فيأخذ الناس بالبيعه ليزيد بن الوليد، فإذا بايعوا دعا بيوسف بن عمر، فضرب عنقه.   [1] الحبال جمع وهق. [2] استتب واستقام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فسار منصور بن جمهور، فبدا بالكوفه واخذهم بالبيعه ليزيد بن الوليد، فلما بايعوا سار منها الى واسط، فاجتمع اليه الناس، فبايعوا ليزيد، فلما فرغ دعا بيوسف ابن عمر، فقال له: أنت القاتل سيد العرب خالد بن عبد الله؟ قال يوسف: كنت مأمورا، وما لي في ذلك من ذنب، فهل لك ان تعفيني من القتل، وأعطيك ديتي عشره آلاف درهم، فضحك منه، ثم حمله حتى اتى به محمد بن خالد بالشام، فقال له محمد: اما زعمك انى كنت مأمورا فقد صدقت، وقد قتلت قاتل ابى، وانما اقتلك بعبده غزوان، ثم قدمه، فضرب عنقه. فملك يزيد بن الوليد سته اشهر، ثم مات. ابراهيم بن الوليد وقام بالملك من بعده اخوه ابراهيم بن الوليد، فبايعه الناس بالشام، وجميع الافاق، وجعل ولى العهد من بعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، واستعمل على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، فسار ابن هبيرة حتى نزل المكان الذى الى اليوم يسمى قصر ابن هبيرة وبنى فيه قصرا، واتخذ ذلك المكان منزلا له ولجنوده. قالوا: وان المضرية تلاومت فيما كان من غلبه اليمانيه عليها، وقتلهم الخليفة الوليد بن يزيد، فدب بعضهم الى بعض، واجتمعوا من اقطار الارض وساروا حتى وافوا مدينه حمص [1] ، وبها مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وكان يومئذ شيخ بنى اميه وكبيرهم، وكان ذا ادب كامل وراى فاضل، فاستخرجوه   [1] بلد مشهور في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحده، في طرفه القبلي قلعه حصينة على تل عال كبير، بين دمشق وحلب، في نصف الطريق، وقد سمى باسم من احدثه، وهو حمص ابن مكنف العمليقى، وبه قبر خالد بن الوليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 من داره، وبايعوه، وقالوا له: أنت شيخ قومك وسيدهم، فاطلب بثار ابن عمك الوليد بن يزيد. فاستعد مروان بجنوده في تميم، وقيس، وكنانه، وسائر قبائل مضر، وسار نحو مدينه دمشق. وبلغ ذلك ابراهيم بن الوليد، فتحصن في قصره. ودخل مروان بن محمد دمشق، فاخذ ابراهيم بن الوليد وولى عهده عبد العزيز ابن الحجاج فقتلهما، وهرب محمد بن خالد بن عبد الله القسرى نحو العراق حتى اتى الكوفه، فنزل في دار عمرو بن عامر البجلي، فاستخفى فيها، وعلى الكوفه يومئذ زياد بن صالح الحارثى، عاملا ليزيد بن عمر بن هبيرة. مروان بن محمد واستدف الملك لمروان بن محمد، واعطاه اهل البلدان الطاعة، ثم ان العصبية وقعت بخراسان بين المضرية واليمانيه. وكان سبب ذلك، ان جديع بن على المعروف بالكرمانى كان سيد من بأرض خراسان من اليمانيه، وكان نصر بن سيار متعصبا على اليمانيه، مبغضا لهم، فكان لا يستعين بأحد منهم، وعادى أيضا ربيعه لميلها الى اليمانيه، فعاتبه الكرماني في ذلك. فقال له نصر: ما أنت وذاك؟ قال الكرماني: انما اريد بذلك صلاح امرك، فانى اخاف ان تفسد عليك سلطانك، وتحمل عليك عدوك هذا المطل، يعنى المسودة [1] . قال له نصر: أنت شيخ قد خرفت. فاسمعه الكرماني كلاما غليظا، فغضب نصر، وامر بالكرمانى الى الحبس، فحبس في القهندر، وهي القلعة العتيقة.   [1] المسودة هم العباسيون، لسواد أغطية رءوسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فغضب احياء العرب للكرمانى، فاعتزلوا نصر بن سيار، واجتمع الى نصر المضرية، فطابقوه وشايعوه. وكان للكرمانى مولى من أبناء العجم، ذو دهاء وتجربه، وكان يخدمه في محبسه، وكان الكرماني رجلا ضخما عظيم الجثة، عريض ما بين المنكبين، فقال له مولاه: اتوطن نفسك على الشده والمخاطره حتى اخرجك من الحبس؟ قال له الكرماني: وكيف تخرجني؟ قال: انى قد عينت على ثقب ضيق، يخرج منه ماء المطر الى الفارقين، فوطن نفسك على سلخ جلدك لضيق الثقب. قال الكرماني: لا بد من الصبر، فاعمل ما اردت. فخرج مولاه الى اليمانيه، فواطاهم، ووطنهم في طريقه، فلما جن الليل، ونام الاحراس اقبل مولاه من خارج السور، فوقف له على باب الثقب، واقبل الكرماني حتى ادخل راسه في الثقب، وبسط فيه يديه حتى نالت يداه كفى مولاه، فاجتذبه اجتذابه شديده، سلخ بها بعض جلده، ثم اجتذبه ثانيه حتى انتهى به الى النصف، فإذا هو بحية في الثقب، فنادى الكرماني مولاه: بذبخت، مار مار اى حيه قد عرضت، فقال مولاه: بكز بكز اى عضها، ثم اجتذبه الثالثه، فاخرجه، فقال لمولاه: أمهلني ساعه، حتى افيق، ويسكن ما بي من وجع الانسلاخ. فلما رجعت الى الكرماني نفسه نزل من ذلك التل، واتى بدابه ركبها حتى انتهى الى منزله، واجتمعت اليه الأزد، وسائر من بخراسان من اليمانيه، وانحازت ربيعه معهم. وبلغ نصر بن سيار الخبر، فدعا بصاحب الحبس فضرب عنقه، وظن ان ذلك كان بمواطاة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ثم قال لسلم بن احوز المازنى، وكان على شرطه: انطلق الى الكرماني، فاعلمه: انى لم ارد به مكروها، وانما اردت تأديبه لما استقبلني به، ومره ان يصير الى آمنا، لاناظره في بعض الأمر. فصار سلم اليه، فإذا هو بمحمد بن المثنى الربعي جالسا على الباب في سبعمائة رجل من ربيعه، فدخل عليه، فابلغه الرسالة، فقال الكرماني: لا، ولا كرامة، ما له عندي الا السيف. فابلغ ذلك نصرا. فأرسل نصر بعصمه بن عبد الله الأزدي، وكان من خاصته، فقال له: انطلق الى ابن عمك، فآمنه، ومره ان يصير الى آمنا، لاناظره في بعض ما قد دهمنا من هذا العدو. فقال الكرماني لعصمه، حين ابلغه رساله نصر: يا ابن الخبيثة، وما أنت وذاك؟ وقد ذكر لي عمك، انك لغير ابيك الذى تنسب اليه، انما تريد ان تتقرب الى ابن الأقطع يعنى نصرا اما لو كنت صحيح النسب لم تفارق قومك، وتميل الى من لا رحم بينه وبينك. فانصرف عصمه الى نصر، وابلغه قوله. ثم ان الكرماني كتب الى عمر بن ابراهيم، من ولد أبرهة بن الصباح، ملك حمير، وكان آخر ملوكهم، وكان مستوطنا الكوفه، يسأله ان يوجه اليه بنسخه حلف اليمن وربيعه، الذى كان بينهم في الجاهلية، ليحييه، ويجدده، وانما اراد بذلك ان يستدعى ربيعه الى مكانفته. فأرسل به اليه. فجمع الكرماني اليه اشراف اليمن وعظماء ربيعه، وقرأ عليهم نسخه الحلف. وكانت النسخه: بسم الله العلى الأعظم، الماجد المنعم، هذا ما احتلف عليه آل قحطان وربيعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الاخوان، احتلفوا على السواء السوا، والأواصر والإخاء، ما احتذى رجل حذا، وما راح راكب واغتدى، يحمله الصغار عن الكبار، والاشرار عن الاخيار. آخر الدهر والأبد، الى انقضاء مده الأمد، وانقراض الآباء والولد، حلف يوطأ ويثب، ما طلع نجم وغرب، خلطوا عليه دماهم، عند ملك ارضاهم، خلطها بخمر وسقاهم، جز من نوصيهم اشعارهم، وقلم عن أناملهم اظفارهم، فجمع ذلك في صر، ودفنه تحت ماء غمر، في جوف قعر بحر آخر الدهر، لا سهو فيه ولا نسيان، ولا غدر ولا خذلان، بعقد موكد شديد، الى آخر الدهر الابيد، ما دعا صبى أباه، وما حلب عبد في أناة، تحمل عليه الحوامل، وتقبل عليه القوابل، ما حل بعد عام قابل، عليه المحيا والممات، حتى ييبس الفرات، وكتب في الشهر الأصم [1] عند ملك أخي ذمم، تبع بن ملكيكرب، معدن الفضل والحسب، عليهم جميعا كفل، وشهد الله الأجل، الذى ما شاء فعل، عقله من عقل، وجهله من جهل. فلما قرئ عليهم هذا الكتاب تواقفوا على ان ينصر بعضهم بعضا، ويكون امرهم واحدا. فأرسل الكرماني الى نصر: ان كنت تريد المحاربة فابرز الى خارج المدينة. فنادى نصر في جنوده من مضر. وخرج، فعسكر ناحيه من الصحراء، وفعل الكرماني مثل ذلك. وخندق كل واحد منهما في عسكره، ويسمى ذلك المكان الى اليوم الخندقين. ووجه الكرماني محمد بن المثنى، وأبا الميلاء الربعيين، في الف فارس، من ربيعه، وامرهما ان يتقدما الى عسكر نصر بن سيار. فاقبلا، حتى إذا قاربا عسكره قال نصر لابنه تميم: اخرج الى القوم في الف فارس من قيس وتميم.   [1] الشهر الأصم: هو رجب، وسمى بذلك في الجاهلية لعدم سماع السلاح فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فانتخب الف فارس، ثم خرج، فالتقوا، واقتتلوا، وحمل محمد بن المثنى الربعي على تميم بن نصر، فتضاربا بسيفيهما، فلم يصنع السيفان شيئا، لكمال لامتيهما، فلما راى محمد بن المثنى ذلك حمل بنفسه على تميم، فعانقه، فسقطا جميعا الى الارض، وصار محمد فوق تميم، فانحنى على حلقه بالسيف، فذبحه. وقال نصر بن سيار يرثى ابنه تميما: نفى عنى العزاء وكنت جلدا ... غداه جلى الفوارس عن تميم وما قصرت يداه عن الأعادي ... ولا اضحى بمنزله اللئيم وفاء للخليفة وابتذالا ... لمهجته يدافع عن حريم فمن يك سائلا عنى فإني ... انا الشيخ الغضنفر ذو الكليم نمتنى من خزيمة باذخات ... بواسق ينتمين الى صميم قالوا: فمكثوا بذلك عشرين شهرا، ينهض بعضهم الى بعض كل ايام، فيقتتلون هويا، ثم ينصرفون، وقد انتصف بعضهم من بعض. وشغلهم ذلك عن طلب ابى مسلم واصحابه حتى قوى امره، واشتد ركنه، وعلن شانه في جميع كور خراسان. فقال عقيل بن معقل الليثى لنصر بن سيار: ان هذه العصبية قد تمادت بيننا وبين هؤلاء القوم، وقد شغلتك عن جميع اعمالك، وضبط سلطانك، وقد اظلك هذا العدو الكلب، فأنشدك الله ان تشام [1] نفسك وعشيرتك، قارب هذا الشيخ يعنى الكرماني بعض المقاربة، فقد انتقض الأمر على الامام مروان بن محمد. فقال نصر: يا ابن عم، قد فهمت ما ذكرت، ولكن هذا الملاح قد ساعدته   [1] يعنى ان تأخذ بهم نحو الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 عشيرته، وظافرتهم على امرهم ربيعه، فقد عدا من اجل ذلك طوره، فلا ينوى صلحا، ولا ينيب الى أمان، فانطلق يا ابن عم ان شئت، فسله ذلك، وأعطه عنى ما اراد. فمضى عقيل بن معقل حتى استاذن على الكرماني، فدخل فسلم. ثم قال له: انك شيخ العرب وسيدها بهذه الارض، فابق عليها، قد تمادت هذه العصبية بيننا وبينكم، وقد قتل منا ومنكم ما لا يحصيه احد، وقد أرسلني نصر إليك، وجعل لك حكم الصبى على ابويه، على ان ترجع الى طاعته، لتتآزرا على إطفاء هذه النار المضطرمة في جميع كور خراسان، قبل ان يكاشفوا يعنى المسودة. قال الكرماني: قد فهمت ما ذكرت، وكنت كارها لهذا الأمر، فأبى ابن عمك يعنى نصرا الا البذخ والتطاول حتى حبسنى في سجنه، وبعثني على نفسه وقومه. قال له عقيل: فما الذى عندك في إطفاء هذه النائرة [1] ، وحقن هذه الدماء؟ قال الكرماني: عندي من ذلك ان نعتزل انا وهو الأمر، ونولي جميعا امرنا رجلا من ربيعه، فيقوم بالتدبير، ونساعده جميعا، ونتشمر لطلب هؤلاء المسودة قبل ان يجتمعوا، فلا نقوى بهم، ولو احلب عليهم معنا جميع العرب. قال عقيل: ان هذا ما لا يرضى به الامام مروان بن محمد، ولكن الأمير نصرا يجعل الأمر لك، تولى من شئت، وتعزل من شئت، وتدبر في هؤلاء المسودة ما شئت، ويتزوج إليك، وتتزوج اليه. قال الكرماني: كيف يتزوج الى. وليس لي بكفء؟ قال عقيل: اتقول هذا لرجل له بيت كنانه؟   [1] النائرة: الحقد والعداوة، تقع بين القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 قال الكرماني: لو كان من مصاص [1] كنانه ما فعلت، فكيف وهو ملصق فيهم؟ فاما قولك، انه يجعل الأمر الى، اولى، واعزل من اريد، فلا، ولا كرامة، ان أكون تبعا له، او اقاره على السلطان. فانصرف عقيل الى نصر، فقال: انك كنت بهذا الملاح ابصر منى. ثم اخبره بما دار بينهما كله. فكتب نصر بن سيار، الى الامام مروان بن محمد، يخبره بخروج الكرماني عليه، ومحاربته اياه، واشتغاله بذلك عن طلب ابى مسلم واصحابه، حتى قد عظم امرهم، وان المحصى المقلل لهم يزعم، انه قد بايعه مائتا الف رجل، من اقطار خراسان، فتدارك يا امير المؤمنين امرك، وابعث الى بجنود من قبلك يقو بهم ركني، واستعن بهم على محاربه من خالفني. ثم كتب في اسفل كتابه: ارى تحت الرماد وميض جمر ... ويوشك ان يكون له ضرام فان النار بالعودين تذكى ... وان الشر مبدؤه كلام وقلت من التعجب، ليت شعري ... اايقاظ اميه أم نيام؟ فان يقظت، فذاك بقاء ملك ... وان رقدت، فانى لا الام فان يك أصبحوا، وثووا نياما ... پفقل قوموا، فقد حان القيام فلما وصل كتابه الى مروان كتب الى معاويه بن الوليد، بن عبد الملك، وكان عامله على دمشق، ومروان حينئذ بمدينه حمص، يأمره ان يكتب الى عامله بالبلقاء [2] ، ان يسير الى الحميمه [3] ، فيأخذ ابراهيم بن محمد بن على، فيشده وثاقا، ويرسل به اليه.   [1] مصاص القوم: اصل منبتهم. [2] ارض بالشام. [3] بلد من اعمال عمان في اطراف الشام كانت منزل بنى العباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فاتى ابراهيم، وهو جالس في مسجده، فلف راسه، وحمل الى مروان، واتبعه من اهل بيته عبد الله بن على، وعيسى بن موسى بن على، ونفر من مواليه. فلما دخل على مروان قال له: ما هذه الجموع التي خرجت بخراسان تطلب لك الخلافه؟ قال له ابراهيم: ما لي بشيء من ذلك علم، فان كنت انما تريد التجنى علينا فدونك وما تريد. ثم بسط لسانه على مروان، فامر به، فحبس. قال الهيثم: فأخبرني ابو عبيده، قال: كنت آتى ابراهيم في محبسه، ومعه فيه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فاسلم عليه، وأظل عامه نهاري عنده، وربما جننى الليل عنده، فأبيت معه، فبينا انا ذات ليله عنده، وقد بت معه في الحبس، فانا نائم في سقيفه فيه، إذ قيل، مولى لمروان، فاستفتح الباب، ففتح له، فدخل ومعه نحو من عشرين رجلا من موالي مروان، فلبثوا ساعه، ثم خرجوا، ولم اسمع لأحد صوتا. فلما اصبحت دخلت البيت لاسلم عليها، فإذا هما قتيلان، فظننت انهما خنقا. ولما قتل ابراهيم بن محمد خاف اخواه: ابو جعفر، وابو العباس على أنفسهما، فخرجا من الحميمه هاربين من العراق، ومعهما عبد الله، واسماعيل، وعيسى، وداود بنو على بن عبد الله بن عباس، حتى قدموا الكوفه، ونزلوا على ابى سلمه الداعي، الذى كان داعيه أبيهما، محمد بن على بأرض العراق. فانزلهم جميعا دار الوليد بن سعد، التي في بنى أود، والزمهم مساورا القصاب، ويقطينا الابزارى، وكانا من كبار الشيعة، وقد كانا لقيا محمد بن على في حياته، فامرهما ان يعينا أبا سلمه على امره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وكان ابو سلمه خلالا [1] ، فكان إذا امسوا اقبل مساور بشقه لحم، واقبل ابو سلمه بخل، واقبل يقطين بالابزار، فيطبخون، ويأكلون. وفي ذلك يقول ابو جعفر: لحم مساور، وخل ابى سلمه ... وابزار يقطين، وطابت المرقه فلم يزل ابو العباس، وابو جعفر مستخفين بالكوفه الى ان قدم قحطبه بن شبيب العراق. قالوا: وبلغ أبا مسلم قتل الامام ابراهيم بن محمد، وهرب ابى العباس، وابى جعفر من الشام، واستخفاؤهما بالكوفه عند ابى سلمه. فسار من خراسان حتى قدم الكوفه، ودخل عليهما، فعزاهما بأخيهما، ابراهيم الامام. ثم قال لأبي العباس: مد يدك ابايعك. فمد يده، فبايعه. ثم سار الى مكة. ثم انصرف إليهما. فتقدم اليه ابو العباس، الا يدع بخراسان عربيا لا يدخل في امره الا ضرب عنقه. ثم انصرف ابو مسلم الى خراسان، فجعل يدورها، كوره كوره، ورستاقا رستاقا، فيواعدهم اليوم الذى يظهرون فيه، ويأمرهم بتهيئه السلاح والدواب لمن قدر. قالوا: ولما اعيت نصر بن سيار الحيل في امر الكرماني، وخاف ازوف ابى مسلم كتب الى مروان:   [1] يمتهن بيع الخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 يا ايها الملك الوانى بنصرته ... قد آن للامر ان يأتيك من كثب اضحت خراسان، قد باضت صقورتها ... وفرخت في نواحيها بلا رهب فان يطرن، ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهب فلما وصلت هذه الأبيات الى مروان كتب الى يزيد بن عمر بن هبيرة عامله [1] على العراقين، يأمره ان ينتخب من جنوده اثنا عشر رجلا، مع فرض يفرضه بالعراق من عرب الكوفه والبصره، ويولى عليهم رجلا حازما، يرضى عقله واقدامه، ويوجه بهم الى نصر بن سيار. فكتب يزيد بن عمر بن هبيرة الى مروان: ان من معه من الجنود لا يفون باثنى عشر ألفا، ويعلمه ان فرض الشام افضل من فرض العراق، لان عرب العراق ليست لهم نصيحه للخلفاء من بنى اميه، وفي قلوبهم احن. ولما أبطأ عن نصر الغوث اعاد الى مروان: من مبلغ عنى الامام الذى ... قام بأمر بين ساطع انى نذير لك من دوله ... قام بها ذو رحم قاطع والثوب ان انهج فيه البلى ... اعيى على ذي الحيله الصانع كنا نداريها، فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع فلم يجد عند مروان شيئا. ظهور دعوه ابى مسلم وحان الوقت الذى واعد فيه ابو مسلم مستجيبيه، فخرجوا جميعا في يوم واحد من جميع كور خراسان حتى وافوه، وقد سودوا ثيابهم، تسليا على ابراهيم بن محمد بن على بن عباس الذى قتله مروان، فكان أول من ورد عليه من القواد،   [1] في الأصل محو مكان ما بين الحاصرتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وقد لبس السواد، اسيد بن عبد الله، ومقاتل بن حكيم، ومحقن بن غزوان، والحريش مولى خزاعة، وتنادوا: محمد، يا منصور. يعنون محمد بن على بن عبد الله ابن عباس. وهو أول من قام بالأمر، وبث دعاته في الافاق. وانجفل الناس على ابى مسلم من هراة، وبوشنج، ومرو الروذ، والطالقان، ومرو، ونسا، وابيورد [1] ، وطوس [2] ، ونيسابور، وسرخس، وبلخ، والصغانيان، والطخارستان، وختلان، وكش [3] ، ونسف، فتوافوا جميعا مسودى الثيابا، وقد سودوا أيضا انصاف الخشب التي كانت معهم، وسموها كافر كوبات [4] . وأقبلوا فرسانا، وحماره، ورجاله، يسوقون حميرهم ويزجرونها، هر مروان، يسمونها مروان، ترغيما لمروان بن محمد، وكانوا زهاء مائه الف رجل. فلما بلغ نصر بن سيار ظهور ابى مسلم سقط في يديه، وخاف على نفسه، ولم يامن ان ينحاز الكرماني في اليمانيه، والربعيه اليهم، فيكون في ذلك اصطلامه، فاراد ان يستعطف من كان مع الكرماني من ربيعه. فكتب اليهم، وكانوا جميعا بمرو: ابلغ ربيعه في مرو وإخوتها ... ان يغضبوا قبل ان لا ينفع الغضب ما بالكم تلحقون الحرب بينكم ... كان اهل الحجا عن فعلكم غيب وتتركون عدوا قد أظلكم ... ممن تأشب، لا دين ولا حسب ليسوا الى عرب منا، فنعرفهم ... ولا صميم الموالي، ان هم نسبوا قوما يدينون دينا ما سمعت ... عن الرسول، ولا جاءت به الكتب   [1] مدينه بخراسان تقع بين سرخس ونسا. [2] مدينه تشتمل على بلدتين بالقرب من نيسابور، بها قبر هرون الرشيد، وعلى بن موسى الرضا في بستان كان له بها، وكان بينهما وبين نيسابور قصر عظيم بناه بعض التبابعه لما قصد الصين، وراى ان حرمه وكنوزه وذخائره. [3] قريه من قرى اصفهان. [4] كذا في الأصل، وصوابه كافر كوباد اى مضرب الكافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فمن يكن سائلي عن اصل دينهم ... فان دينهم ان تقتل العرب فلم تحفل ربيعه بهذه الأبيات. وبلغ أبا العباس الامام، وهو مستخف بالكوفه ان أبا مسلم لو اراد ان يصطلم عسكر نصر والكرماني لفعل، غير انه يدافع الحرب، فكتب اليه يؤنبه في ذلك. وكان ابو مسلم يحب ان يستميل احد الرجلين، ليفصم به شوكه الآخر، فأرسل الى الكرماني، يسأله ان ينضم اليه، لينتقم له من نصر بن سيار، فعزم على المسير اليه، واقبل ابو مسلم في عساكره الى ارض مرو، فعسكر على سته فراسخ من المدينة. وخرج اليه الكرماني ليلا في نفر من قومه، فاستامن لجميع اصحابه، فامنهم ابو مسلم، واكرم الكرماني، فأقام معه، وشق ذلك على نصر بن سيار، وايقن بالهلكة. فكتب الى الكرماني يسأله الرجوع اليه، على ان يعتزلا، ويوليا الأمر رجلا من ربيعه، يرضيانه، وهو الأمر الذى كان ساله اياه. فاصغى الكرماني الى ذلك، وتحمل ليلا من معسكر ابى مسلم، حتى انصرف الى معسكره، واسترسل الكرماني الى نصر، فلما أصاب منه غره دس عليه من قتله. ويقال: بل وجه اليه نصر رجلا من قواده في ثلاثمائه فارس، فكمنوا له ليلا عند منصرفه من معسكر ابى مسلم، فلما حاذاهم، وهو غافل عنهم، حملوا عليه، فقتلوه. وبلغ ذلك أبا مسلم فقال لا يبعد الله غيره، لو صبر معنا لقمنا معه، ونصرناه على عدوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وقال نصر في ظفره بالكرمانى: لعمري، لقد كانت ربيعه ظافرت ... عدوى بغدر حين خابت جدودها وقد غمزوا منى قناه صليبه ... شديدا على من رامها الكسر عودها وكنت لها حصنا، وكهفا، وجنه ... يؤول الى، كهلها، ووليدها فمالوا الى السوءات، ثم ... وهل يفعل السوءات الا مريدها؟ فاوردت كرمانيها الموت ... كذاك منايا الناس يدنو بعيدها قالوا: ولما قتل الكرماني مضى ابنه على من خندقه الى ابى مسلم، فسأله ان يطلب له بثار ابيه. فامر قحطبه بن شبيب ان يستعد، ويسير حتى ينيخ على نصر في خندقه، فينابذه الحرب، او ينيب الى الطاعة. فسار قحطبه، فبدا بالمدينة، فدخلها، واستولى عليها، وارسل الى نصر يؤذنه بالحرب. فكتب نصر الى ابى مسلم، يسأله الامان، على ان يدخل معه في امره، فأجابه الى ذلك، وامر قحطبه ان يمسك عنه. فلما أصاب نصر من قحطبه غفله تحمل في حشمه وولده، وحاشيته ليلا، فخرج من معسكره من غير ان يعلم اصحابه، وسار نحو العراق، وجعل طريقه على جرجان، فأقام بها، فمرض فيها، فسار منها الى ساوه [1] ، فأقام بها أياما ثم توفى بها. فاستامن جميع اصحابه واصحاب الكرماني الى ابى مسلم الا أناسا كرهوا امر ابى مسلم، فساروا من مدينه مرو هرابا، حتى أتوا طوس، فأقاموا بها.   [1] وهي ساوى، مدينه في بلاد فارس الوسطى، واقعه على الطريق بين قزوين والقرم، وقد ضربها المغول سنه 1220، وكان سكانها سنيين على مذهب ابى حنيفه، والان كلهم شيعيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وان أبا مسلم استولى على خراسان، واستعمل عماله عليها. فكان أول من عقد له منهم زنباع بن النعمان، على سمرقند، وولى خالد بن ابراهيم، على طخارستان، وولى محمد بن الاشعث، الطبسين [1] ، ثم وجه اصحابه الى سائر تلك البلاد، وضم الى قحطبه بن شبيب أبا عون، مقاتل بن حكيم العكي، وخالد بن برمك، وحارثة بن خزيمة، وعبد الجبار بن نهيك، وجهور بن مراد العجلى، والفضل بن سليمان، وعبد الله بن النعمان الطائي، وضم الى كل واحد من هؤلاء القواد صناديد الجنود وابطالهم. وامر قحطبه ان يسير الى طوس، فيلقى من قد اجتمع بها من جنود نصر بن سيار، والكرماني، فيحاربهم حتى يطردهم عنها، ثم يتقدم، قدما قدما، حتى يرد العراق. فسار قحطبه حتى إذا دنا من طوس هرب أولئك الذين قد كانوا تجمعوا بها، فتفرقوا، وسار قحطبه من طوس الى جرجان، فافتتحها. وسار منها الى الري، فواقع عامل مروان عليها، فهزمه، ثم سار من الري الى أصبهان حتى وافاها، وبها عامر بن ضباره، من قبل يزيد بن عمر، فهرب منه، ودخلها قحطبه، واستولى عليها. ثم سار حتى اتى نهاوند، وبها مالك بن ادهم الباهلى، فتحصن أياما، ثم استامن الى قحطبه، فآمنه، فخرج اليه، وسار قحطبه حتى نزل حلوان، فأقام بها. وكتب الى ابى مسلم يعلمه خبره، وان مروان بن محمد قد اقبل من الشام حتى وافى الزابين [2] فأقام بها في ثلاثين ألفا، وان يزيد بن عمر بن هبيرة قد استعد بواسط.   [1] كورتان بخراسان. [2] كوره على نهر بقرب واسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 فأتاه كتاب ابى مسلم، يأمره ان يوجه أبا عون العكي في ثلاثين الف فارس من ابطال جنوده الى مروان بن محمد بالزابين، فيحاربه، ويسير هو في بقية الجنود الى واسط، فيحارب يزيد بن عمر، ليشغله عن توجيه المدد الى مروان. ففعل قحطبه ذلك. وبلغ مروان فصول ابى عون اليه بالجيوش من حلوان فاستقبله، فالتقيا بشهرزور، فاقتتلوا، فانهزم اهل الشام حتى صاروا الى مدينه حران. قال الهيثم: فحدثني اسماعيل بن عبد الله القسرى، أخو خالد بن عبد الله قال: دعانى مروان عند وصوله الى حران، وكنت اخص الناس عنده، فقال لي: يا أبا هاشم وما كنانى قبل ذلك. فقلت: لبيك يا امير المؤمنين. قال: ترى ما قد نزل من الأمر، وأنت الموثوق برايه، فما ترى؟. قلت: وعلا م اجمعت يا امير المؤمنين؟. قال: اجمعت على ان ارتحل بأهلي، وولدى، وخاصه اهل بيتى، ومن اتبعنى من اصحابى حتى اقطع الدرب، واصير الى ملك الروم، فاستوثق منه بالأمان، ولا يزال يأتيني الخائف من اهل بيتى وجنودي حتى يكثف امرى، واصيب قوه على محاربه عدوى. قال اسماعيل: وذلك، والله، كان الرأي له عندي، غير انى ذكرت سوء اثره في قومى، ومعاداته إياهم، وتحامله عليهم، فصرفت الرأي عنه. وقلت له: يا امير المؤمنين، اعيذك بالله، ان تحكم اهل الشرك في نفسك وحرمك، لان الروم لا وفاء لهم. قال: فما الرأي عندك؟ قلت: الرأي ان تقطع الفرات، وتستقرى مدن الشام، مدينه مدينه، فان لك بكل مدينه صنائع ونصحاء، وتضمهم جميعا إليك، وتسير حتى تنزل ببلاد مصر، فهى اكثر اهل الارض مالا، وخيلا، ورجالا، فتجعل الشام امامك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وإفريقية [1] خلفك، فان رايت ما تحب انصرفت الى الشام، وان تكن الاخرى اتسع لك المهرب نحو إفريقية، فإنها ارض واسعه، نائيه منفرده. قال: صدقت، لعمري، وهو الرأي. فسار من حران حتى قطع الفرات، وجعل يستقرى مدن الشام، فيستنهضهم، فيروغون عنه، ويهابون الحرب، فلم يسر معه منهم الى قليل. وسار ابو عون صاحب قحطبه في اثر مروان حتى انتهى الى الشام، وقصد دمشق، فقتل من أهلها مقتله عظيمه، فيهم ثمانون رجلا من ولد مروان ابن الحكم. نهاية بنى اميه ثم عبر الشام سائرا نحو مصر حتى وافاها، واستعد مروان فيمن كان معه، من اهل الوفاء له، وكانوا نحوا من عشرين الف رجل، وسار مستقبلا أبا عون حتى التقى الفريقان، فاقتتلوا. فلم يكن لأصحاب مروان ثبات، فقتل منهم خلق، وانهزم الباقون، فتبددوا، وهرب مروان على طريق إفريقية، وطلبته الخيل، فحال بينها وبينه الليل، فعبر مروان النيل في سفينه، فصار في الجانب الغربي، وكان منجما [2] ، فقال لغلامه: انى ان سلمت هذه الليلة رددت خيل خراسان على اعقابها حتى ابلغ خراسان. ثم نزل، ودفع دابته الى غلامه، وخلع درعه، فتوسدها، ونام لشدة ما قد كان مر به من التعب، ولم يكن معه دليل يدله على الطريق، وخاف ان يوغل في تلك المفاوز، فيضل.   [1] تذكر إفريقية في كتب التاريخ العربي، ويقصد بها بلاد شمال إفريقية. [2] له دراية بعلم النجوم والفلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 واقبل رجل من اصحاب ابى عون، يسمى عامر بن اسماعيل في طلب مروان، حتى اتى المكان الذى عبر فيه مروان، فدعا بسفينه، فجلس فيها، وعبر، فانتهى به السير الى مروان، وهو مستثقل نوما، فضربه بالسيف حتى قتله. قالوا: ولما بلغ محمد بن خالد بن عبد الله القسرى، وكان مستترا بالكوفه في بجيله، موافاه قحطبه بن شبيب حلوان بجموع اهل خراسان جمع اليه نفرا من اشراف قومه، ثم ظهر، ودعا لأبي العباس الامام، فطلبه زياد بن صالح، عامل يزيد بن عمر، فاجتمع اليه قومه، فمنعوه، وقاموا دونه. وبلغ ذلك يزيد بن عمر بن هبيرة، فامد زياد بن صالح بالرجال، واجتمع الى محمد جميع من كان بالكوفه من اليمانيه والربعيه، فهرب زياد بن صالح حتى لحق بيزيد بن عمر بواسط. وكتب محمد بن خالد الى قحطبه، وهو بحلوان، يسأله ان يوليه امر الكوفه، ويبعث اليه عهده عليها، ففعل. فاتى المسجد الأعظم في جمع كثير من اليمانيه، وقد أظهروا السواد، وذلك يوم عاشوراء من المحرم سنه اثنتين وثلاثين ومائه [1] . وقال محمد بن خالد فيما كان من قتله الوليد بن يزيد بن عبد الملك: قتلنا الفاسق المختال لما ... اضاع الحق، واتبع الضلالا يقول لخالد الا حمته ... بنو قحطان ان كانوا رجالا فكيف راى غداه غدت عليه ... كراديس يشبهها الجبالا [2] الا ابلغ بنى مروان عنى ... بان الملك قد اودى، فزالا وسار يزيد بن عمر بن هبيرة الى الكوفه يريد محمد بن خالد، فدخل محمد على   [1] الموافق اغسطس من سنه 749 م. [2] الكردسه بالضم عظيمه من الخيل، وكل عظمين التقيا في مفصل، والكردوسان قيس ومعاويه، ابنا مالك بن حنظله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ابى سلمه الداعي، فاخبره بفصول ابن هبيرة نحوه، وتخوفه ان لا يقوى بكثرة جموعه. فقال له ابو سلمه: انه قد كان منك من الدعاء الى الامام ابى العباس ما لا ينساه لك، فلا تفسد ذلك بقتلك نفسك، ومن معك، ودع الكوفه، فإنها في يديك، وسر بمن معك حتى تنضم الى قحطبه. قال محمد: لست بخارج من الكوفه حتى ابلى عذرا في محاربه ابن هبيرة. فاستعد بمن كان معه بالكوفه من اليمن وربيعه، وسار مستقبلا لابن هبيرة حتى التقى. فنادى محمد بن خالد من كان مع ابن هبيرة من قومه: تبا لكم، انسيتم قتل ابى خالد، وتحامل بنى اميه عليكم، ومنعهم إياكم اعطياتكم؟ يا بنى عم، قد أزال الله ملك بنى اميه، وادال منهم، فانضموا الى ابن عمكم، فان هذا قحطبه بحلوان في جموع اهل خراسان، وقد قتل مروان، فلم تقتلون أنفسكم؟ وان الأمير قحطبه قد ولانى الكوفه، وهذا عهدي عليها، فليكن لكم اثر في هذه الدولة. فلما سمعوا ذلك مالوا اليه جميعا، ولم يلق مع ابن هبيرة الا قيس وتميم. فلما راى ذلك ولى منهزما بمن معه حتى وافى واسط، ووجه في نقل الميرة [1] إليها، واستعد للحصار. وانصرف محمد بن خالد الى الكوفه، فخطب الناس، ودعا لأبي العباس، وأخذ بيعه اهل الكوفه. واقبل قحطبه من حلوان حتى وافى العراق، فنزل دمما [2] وهي فيما بين بغداد والأنبار وذلك قبل ان تبنى بغداد، وانما كانت قريه، يقوم بها سوق في كل شهر مره، فأقام معسكرا بها.   [1] الطعام. [2] كانت قريه كبيره على فم نهر عيسى قرب الفرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فقال على بن سليمان الأزدي يذكر محمد بن خالد وسبقه الى الدعاء الى بنى هاشم: يا حاديينا بالطريق قوما ... بيعملات كالقسى رسما [1] تنجو باحواز الفلاة مقدما ... الى امرئ اكرم من تكرما محمد لما سما وأقدما ... ثار بكوفان بها معلما في عصبه تطلب امرا مبرما ... حتى علا منبرها معمما اكرم بما فاز به وأعظما ... إذ كان عنها الناس كلا نوما وان قحطبه عند مسيره الى العراق استخلف على ارض الجبل يوسف بن عقيل الطائي، واقبل ابن هبيرة حتى صار على شاطئ الفرات الغربي، وهو في نحو من ثلاثين الف رجل. واقبل قحطبه حتى نزل في الجانب الشرقى، فأقام ثلاثا، ثم نادى في جنوده، ان اقحموا خيلكم الماء، فاقتحموها، وقحطبه امام اصحابه. ولما عبر اصحاب قحطبه قاتلهم ابن هبيرة، فلم يقم لهم، فانهزم حتى اتى واسطا، فتحصن فيها، وفقد قحطبه بن شبيب فلم يدر اين ذهب. ويزعم بعض الناس ان فرسه غاص به فغرق، وتولى امر الناس ابنه الحسن بن قحطبه. ولما تحصن ابن هبيرة بواسط خلف الحسن بن قحطبه عليه بعض قواده في عشرين الف رجل، وسار نحو الكوفه، وقد أخذها محمد بن خالد، فوافاها الحسن بن قحطبه، وبها الامام ابو العباس.   [1] اليعمله الناقه النجيبه المعتملة المطبوعه، والجمل يعمل، وناقه عمله بينه العماله فارهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 [ خلافة بني العباس ] مبايعه ابى العباس فأظهر أبا العباس، واقبل به حتى دخل المسجد الأعظم، واجتمع له الناس، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على نبيه، ع، ثم ذكر انتهاك بنى اميه المحارم، وهدمهم الكعبه، ونصبهم عليها المجانيق، وما أبدعوا من خبيث السير، ثم نزل. فاكثر الناس له من الدعاء، واقبل نحو دار الإمارة، فنزلها. وامر الحسن بن قحطبه بالانصراف الى واسط، والإناخة بيزيد بن عمر بن هبيرة. فسار الحسن وحاصر يزيد أشهرا كثيره. قال الهيثم بن عدى: بويع لأبي العباس بالخلافة، ولأبي جعفر بولاية العهد من بعده، في رجب، من سنه اثنتين وثلاثين ومائه [1] . فلما استدف لأبي العباس الإمرة ولى أبا سلمه الداعي جميع ما وراء بابه، وجعله وزيره، واسند اليه جميع أموره، فكان يسمى وزير آل محمد، فكان ينفذ الأمور من غير مؤامره. وبلغ ذلك أبا مسلم وهو بخراسان، فدعا مروان الضبي، وكان احد قواده، وقال له: انطلق الى الكوفه، فاخرج أبا سلمه من عند الامام ابى العباس، فاضرب عنقه، وانصرف من ساعتك، ففعل الضبي ذلك. فقال الشاعر يرثى أبا سلمه: ان الوزير وزير آل محمد ... اودى فمن يشناك كان وزيرا [2] . ثم ان الامام أبا العباس راى ان يوجه أخاه أبا جعفر المنصور الى واسط، ليتولى   [1] الموافق فبراير سنه 750 م. [2] شناه اى ابغضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 محاربه ابن هبيرة، فوجهه، وكتب الى الحسن بن قحطبه يعلمه ان العسكر عسكره، وانه أحب ان يكون اخوه المتولى للامر. فلما وافى ابو جعفر واسطا تحول الحسن بن قحطبه عن سرداقه، وخلاه بما فيه له، فنزله ابو جعفر بحريمه وحشمه. وكتب ابو جعفر الى قواد يزيد بن عمر واشراف من العرب، يستميلهم بالاطماع، وينبههم على حظوظهم، ويعرفهم انصرام دوله بنى اميه، فأجابوه جميعا. وكان أول من اجابه وانحرف اليه زياد بن صالح الحارثى، وكان عامل ابن هبيرة على الكوفه، واخص اصحابه عنده، وقد كان ابن هبيرة ولاه حراسه مدينته بالليل، ودفع اليه مفاتيح أبوابها. قال الهيثم: فحدثني ابى، قال: لما هم زياد باللحوق بابى جعفر ارسل الى، وكان وصى ابى، فكنت ادعوه أبا وعما، وقد كان رسوله أتاني عند اختلاط الظلام، يأمرني بالمصير اليه، فأتيته، فخلا بي، وقال: يا ابن أخي، انك لست ممن اكتمه شيئا، وقد أتاني كتاب ابى جعفر، يدعوني الى اللحوق به، ويبذل لي على ذلك منزله سنيه، واعلم في كتابه انه راع للخئوله وكانت أم ابى العباس حارثيه. قال والدى: فقلت له، يا عم، ان لابن هبيرة ايادى جميله، واكره لك الغدر به. فقال: يا ابن أخي، انا من اشكر الناس له، غير انى لا ارى ان اقيم على ملك، قد انقضت قواه، ووهت عراه، وانا لابن هبيرة اليوم عند ابى جعفر انفع منى له هاهنا، وأرجو ان يصلح الله امره بي وعلى يدي، فاقم عندي الى وقت خروجى لاسلم لك المفاتيح. فاقمت عنده. فلما مضى ثلث الليل امر غلمانه، فحملوا اثقاله، وأسرجوا دوابه، ثم ركب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وخرج من منزله، وانا امشى معه، حتى انتهى الى باب المدينة الذى يلى دجلة، وكانت المفاتيح معه، وامر الاحراس ان يفتحوا الباب، وقال لهم: اريد الخروج لاستطلاع بعض الأمور، وانا منصرف بعد ساعه. ثم خرج، وأمرني باغلاق الباب وأخذ المفاتيح. فقال لي فيما بيني وبينه: إذا اصبحت فانطلق بالمفاتيح حتى تدفعها الى ابن هبيرة من يدك الى يده، واعلمه انى له هناك افضل منى له هاهنا، ثم ودعني، ومضى، وانصرفت الى منزلي. فلما اصبحت اتيت باب قصر الإمارة، فاستأذنت على ابن هبيرة. فقال لي الحاجب: هو قاعد في مصلاه، لم يقم عنه. قلت: اعلمه انى أتيته في مهم. فاذن لي. فدخلت، وهو قاعد في محرابه، وعليه كساء بركانى [1] معلم، فسلمت عليه بالإمرة. فرد السلام. وقال: مهم. فحدثته بأمر زياد بن صالح، فدمعت عيناه. وقال: بمن تثق اليوم بعد زياد، وتوليتي اياه الكوفه، وبري به؟ فقلت: ايها الأمير: ان الله ربما جعل في الكره خيرا، وأرجو ان ينفعك الله بمكانه هناك. فقال: لا حول ولا قوه الا بالله. ثم قال: يا غلام، على بطارق بن قدامه القسرى. فدخل عليه، وانا جالس عنده، فدفع اليه تلك المفاتيح.   [1] الكساء البركاني هو ذو اللون الأسود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وقال: يا طارق، انى قد اخترتك لحراسة هذه المدينة على جميع أصحابك من خاصتنا، فكن كنحو ثقتي بك. ولما طال على ابن هبيرة الحصار بعث الى المنصور يسأله الامان، فأرسل اليه: ان اردت ان أومنك على حكم امير المؤمنين ابى العباس فعلت. فشاور ابن هبيرة نصحاءه، فأشاروا عليه ان يفعل. فأرسل الى ابى جعفر يعلمه: انى راض بذلك. فكتب اليه ابو جعفر ذلك بخطه، واشهد على نفسه بذلك القواد. فخرج ابن هبيرة الى ابى جعفر في نفر من بطانته، فدخل عليه، وهو في سرادقه، وحول السرادق عشره آلاف نفر من اهل خراسان مستلئمين في السلاح، فامر ابو جعفر بوساده، فجلس عليها قليلا، ثم نهض، ودعى له بدابته، فركب، وانصرف الى منزله، وفتحت أبواب المدينة، ودخل الناس بعضهم في بعض. قالوا: واحصى ما في الخزائن من الأموال والسلاح، وما بقي من الطعام والعلف الذى كان ابن هبيرة قد ادخر، واعد للحصار، فكان المال ثلاثة آلاف الف درهم، ومن السلاح شيء كثير، وطعام ثلاثين الف رجل، وعلف عشرين الف راس من الدواب سنه. وان أبا جعفر كتب الى ابى العباس يخبره بخروج ابن هبيرة على حكمه، ويسأله ان يعلمه الذى يرى فيه. فكتب ابو العباس: لا حكم لابن هبيرة عندي الا السيف. فلما انتهى الكتاب بذلك الى ابى جعفر كتمه عن جميع الناس. وقال لحاجبه: مر ابن هبيرة إذا ركب إلينا الا يركب الا في غلام واحد، ويدع عنه هذه الجماعات. فلما كان من غد ركب ابن هبيرة الى ابى جعفر في موكب عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فقال له سلام الحاجب: أبا خالد، كأنك انما تأتي ولى العهد مباهيا، ولا تأتيه مسلما. قال ابن هبيرة: ان كنتم كرهتم ذلك لم آتكم الا في غلام واحد. قال: فلا تأتنا الا في غلام واحد، فانى لم اقل ذلك استخفافا بحقك، الا ان اهل خراسان ينكرون كثره من يركب معك. فكان ابن هبيرة بعد ذلك لا يأتيهم الا في غلام واحد، فيدخل، ويسلم، وينصرف. ثم ان أبا جعفر قال للحسن بن قحطبه: اجمع إليك أبا بكر العقيلي، والحوثره بن سهل، ومحمد بن بنانه، وعبد الله بن بشر، وطارق بن قدامه، وسويد بن الحارث المزنى، وهؤلاء كانوا قواد يزيد بن عمر، فإذا اجتمعوا عندك فاضرب أعناقهم، وائتنى بخواتيمهم، ووجه حرسا يحرسون ابن هبيرة، لانفذ فيه امر الامام ابى العباس. فانطلق الحسن بن قحطبه، فانفذ امره في أولئك، وأتاه بخواتيمهم. قال: فما نطق منهم احد عند قتله، وما كان منه جزع ولا امتناع. فلما كان في اليوم الثانى دعا ابو جعفر خازم بن خزيمة، وابراهيم بن عقيل، فقال لهما: انطلقا في عشره نفر من الحرس حتى تدخلا على ابن هبيرة فتقتلاه. فاقبلا حتى دخلا عليه عند طلوع الشمس، وهو جالس في مسجده في القصر مسند ظهره الى المحراب، ووجهه الى رحبه القصر. فلما نظر اليهم قال لحاجبه: يا أبا عثمان، احلف بالله ان في وجوه القوم لشرا. فمضى ابو عثمان مستقبلا لهم، وقال لهم: ما تريدون؟. فبعجه ابراهيم بن عقيل بالسيف، فقتله، وقام ابراهيم ابنه في وجوه القوم، فقتل، ثم قام ابنه داود في وجوههم، فقتل، ثم قام كاتبه عمرو، فقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وأقبلوا نحو ابن هبيرة، فلما دنوا منه حول وجهه الى القبله، وسجد، فضربوه بأسيافهم حتى خمد. ثم انصرفا الى ابى جعفر، فأخبراه بذلك، فامر ابو جعفر مناديا، فنادى ايها الناس، أنتم آمنون الا الحكم بن عبد الملك بن بشر، ومحمد بن ذر، وخالد بن سلمه المخزومي. قال الهيثم: فحدثني ابى قال: قال محمد بن ذر، فضاقت على الارض برحبها، فخرجت ليلا من مدينه واسط على قدمي، وانا اقرا آيه الكرسي، فما عرض لي احد من الناس حتى نجوت، فلم أزل خائفا حتى استامن لي زياد بن عبد الله من الامام ابى العباس، فآمنني. قال وهرب الحكم بن عبد الملك الى كسكر، فاستخفى بها. وضاقت بخالد بن سلمه المخزومي الارض، فاتى باب ابى جعفر المنصور ليلا، فاستامن له، فآمنه. ثم نودى ايها الناس، أنتم جميعا آمنون، يا اهل الشام، ألحقوا بشامكم، ويا اهل الحجاز، ألحقوا بحجازكم، فسكن الناس، وآمنوا، واطمأنوا. واستعمل المنصور على واسط الهيثم بن زياد الخزاعي في خمسه آلاف من اهل خراسان، ثم انصرف بسائر الناس حتى قدم على الامام ابى العباس، وهو بالحيرة. ثم ان الامام سار من الحيرة في جموعه حتى اتى الأنبار، فاستطابها، فابتنى بها مدينه باعلى المدينة عظيمه لنفسه وجموعه، وقسمها خططا بين اصحابه من اهل خراسان، وبنى لنفسه في وسطها قصرا عاليا منيفا، فسكنه، واقام بتلك المدينة طول خلافته، وتسمى الى اليوم مدينه ابى العباس. ثم ان أبا العباس وجه أخاه أبا جعفر المنصور الى خراسان، وامره ان ياتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أبا مسلم، فيناظره في بعض الأمور، ووجه معه ثلاثين رجلا من وجوه القواد، وفيهم الحجاج بن ارطاه الفقيه، واسحق بن الفضل الهاشمى. فلما قدم المنصور على ابى مسلم لم يبالغ ابو مسلم في بره وإكرامه، ولم يظهر السرور التام بقدومه. فانصرف الى ابى العباس، وقال: لست بخليفه ما دام ابو مسلم حيا، فاحتل لقتله قبل ان يفسد عليك امرك، فلقد رايته وكأنه لا احد فوقه، ومثله لا يؤمن غدره ونكثه. فقال ابو العباس: وكيف يمكن ذلك، ومعه اهل خراسان؟ وقد اشربت قلوبهم حبه، واتباع امره، وايثار طاعته. فقال ابو جعفر: فذاك والله احرى ان لا تامنه، فاحتل له. فقال ابو العباس: يا أخي، اضرب عن هذا، ولا تعلمن رأيك في ذلك أحدا. وان أبا العباس قال ذات يوم للحجاج بن ارطاه، وقد خلا معه: ما تقول في ابى مسلم؟ فقال: يا امير المؤمنين، ان الله تعالى يقول في كتابه: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. قال ابو العباس: امسك، فقد فهمت ما اردت. ثم ان أبا مسلم وجه محمد بن الاشعث بن عبد الرحمن أميرا على فارس. وراى ابو العباس ان يستعمل عليها عمه عيسى بن على، فعقد له عليها، وامره بالمسير إليها. فلما قدم عيسى على محمد بن الاشعث ابى ان يسلم اليه. فقال له عيسى: يا ابن الاشعث، الست في طاعه الامام ابى العباس؟ قال: بلى، غير ان أبا مسلم أمرني الا اسلم العمل الى احد من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 قال عيسى: فإنما ابو مسلم عبد الامام، وان الامام لا يرضى ان يرد امره. قال محمد: دع عنك هذا، لست اسلم العمل إليك الا بكتاب ابى مسلم. فانصرف عيسى الى ابى العباس، فاخبره ذلك، فكظم، وامر عمه بالمقام عنده، فأقام. وان أبا مسلم عقد للمغلس بن السرى على ارض طخارستان حتى وافاها، فخرج اليه منصور مستعدا للحرب، فالتقوا، فاقتتلوا، فكان الظفر للمغلس، وهرب منصور في نفر من اصحابه حتى وقعوا في الرمال، فماتوا عطشا. واقام المغلس على باب بلاد السند. وان أبا مسلم كتب الى الامام ابى العباس يستاذنه في القدوم عليه، والمقام عنده الى أوان الحج ليحج، فاذن له ابو العباس في ذلك، فسار ابو مسلم حتى إذا قارب الامام امر ابو العباس جميع من كان معه بالحضرة من القواد والاشراف ان يستقبلوه، فاستقبل بالكرامه، وترجل له الاشراف والقواد. واقبل حتى وافى مدينه ابى العباس، فانزله معه في قصره، ولم يال جهده في بره وإكرامه، حتى إذا حان وقت الحج استاذنه في الحج. فقال له ابو العباس: لولا ان أخي أبا جعفر قد عزم على الحج لوليتك الموسم، فكونا جميعا. قال ابو مسلم: وذاك أحب الى. ثم خرجا. فكان يرتحل ابو جعفر، وينزل ابو مسلم حتى وافيا مكة، فقضيا حجهما، وانصرفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ابو جعفر المنصور فلما وصل ابو جعفر الى ذات عرق في منصرفه أتاه نعى الامام ابى العباس [1] ، فأقام بمكانه حتى وافاه ابو مسلم، فاخبره بوفاه ابى العباس. فخنقت أبا مسلم العبرة [1] ، وقال: رحم الله امير المؤمنين، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. فقال ابو جعفر: انى قد رايت ان تخلف اثقالك ومن معك من جنودك على، فيكونوا معى، وتركب أنت في عشره نفر البريد حتى ترد الأنبار، فتضبط العسكر، وتسكن الناس. قال ابو مسلم: افعل. فركب في عشره نفر من خاصته، وسار بالحث الشديد حتى وافى العراق، وانتهى الى مدينه ابى العباس بالأنبار، فوجد عيسى بن على بن عبد الله بن عباس قد دعا الناس الى بيعته، وخلع ولايه العهد عن ابى جعفر. فلما رأوا أبا مسلم مالوا معه، وتركوا عيسى. فلما وافى ابو جعفر اعتذر اليه عيسى، واعلمه انه انما اراد بذلك ضبط العسكر، وحفظ الخزائن، وبيوت الأموال. فقبل ابو جعفر منه ذلك، ولم يؤاخذه بما كان منه. واجتمع الناس، وبايعوا المنصور أبا جعفر. ثم أتاه انتقاض الشام، وقد كان ابو العباس استعمل عليها عمه عبد الله بن على، فلما بلغه وفاه ابى العباس دعا لنفسه، واستمال من كان معه من جنود خراسان، فمالوا معه. فلما بلغ أبا جعفر ذلك قال لأبي مسلم ايها الرجل، انما هو انا او أنت، فاما ان تسير الى الشام فتصلح امرها، او اسير انا.   [1] رطوبة مؤثره في الأصل مكان ما بين الحاصرتين. [1] رطوبة مؤثره في الأصل مكان ما بين الحاصرتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 قال ابو مسلم، بل اسير انا. فاستعد، وسار في اثنى عشر ألفا من ابطال جنود خراسان حتى إذا وافى الشام انحاز اليه من كان بها من الجنود جميعهم، وبقي عبد الله بن على وحده. فعفا ابو مسلم عنه، ولم يؤاخذه بما كان منه. وكانت خلافه ابى العباس اربع سنين وسته اشهر. وان أبا جعفر عند مسير ابى مسلم نحو الشام وجه يقطين بن موسى في اثر ابى مسلم، وقال: ان تكن هناك غنائم فتول قبضها. وبلغ ذلك أبا مسلم، فشق عليه، وقال: ان امير المؤمنين لم يأتمنى على ما هاهنا حتى استظهر على بامين. ودخلته من ذلك وحشه شديده. ولما بلغ المنصور اصلاح الشام كره المقام بمدينه ابى العباس التي بالأنبار، فسار بعسكره الى المدائن، فنزل الى المدينة التي تدعى الرومية وهي من المدائن على فرسخ، وهي المدينة التي بناها كسرى انوشروان، وأنزلها السبى الذى سباه من بلاد الروم، فأقام المنصور بتلك المدينة. وان أبا مسلم انصرف فاخذ على الفرات حتى وافى العراق على الأنبار، وجاز حتى وافى كرخ بغداد [1] ، وهي إذ ذاك قريه، ثم عبر دجلة من بغداد، وأخذ طريق خراسان، وترك طريق المدائن. وبلغ ذلك أبا جعفر. فكتب الى ابى مسلم: اريد مناظرتك في امور لم يحتملها الكتاب، فخلف عسكرك حيث ينتهى إليك كتابي، فاقدم على. فلم يلتفت ابو مسلم الى كتاب المنصور، ولم يعبأ به. وكان مع المنصور رجل من ولد جرير بن عبد الله البجلي، واسمه جرير بن يزيد بن عبد الله، وكانت له خلابة، وتات في الأمور، ومكيده. فقال له ابو جعفر: اركب البريد حتى تلحق أبا مسلم، فتحاول رده الى،   [1] مكان بين المصراة ونهر عيسى، اتخذ سوقا، ورتب فيه كل صنف موضعه، وذلك ان أبا جعفر المنصور لما بنى مدينه بغداد امر ان تجعل الاسواق في طاقات المدينة بإزاء كل باب سوقا، ثم أشير على المنصور باخراج الاسواق من المدينة حتى لا يوافى الجواسيس من الاطراف بعلة التجارة فيتجسسون الاخبار، فامر ببناء السوق خارج المدينة، وسمى الكرخ لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فانه قد مضى مغاضبا، ولا آمن افساده على، وتات في رده بافضل التاتى. فسار الرجل حتى لحقه في بعض الطريق، وقد نزل بعض المنازل بعسكره، فدخل عليه مضربه. فقال: ايها الأمير، اجهدت نفسك، واسهرت ليلك، واتعبت نهارك في نصره مواليك، واهل بيت نبيك حتى إذا استحكم لهم الأمر، وتوطد لهم السلطان، ونلت امنيتك فيهم تنصرف على هذه الحال، فما تقول الناس؟ الا تعلم ان ذلك مطعنه عليك، ومسبه، في حياتك، وبعد وفاتك؟. فلم يزل به حتى عزم على الانصراف معه الى المنصور، وخلف عسكره بمكانه ذلك. وسار منصرفا في الف فارس من افاضل من كان معه من جنود خراسان والقواد، وقد كان ابو مسلم يقول: ان المنجمين أخبروني ان لا اقتل الا بالروم. قتل ابى مسلم الخراسانى حتى وافى أبا جعفر بالرومية، فدخل عليه، فقام اليه ابو جعفر، وعانقه، واظهر السرور بانصرافه. وقال له: كدت تمضى من قبل ان أراك، وافضى إليك بما اريد، فقم، فضع عنك ثيابك، وانزل حتى يذهب كلال السير عنك. فخرج ابو مسلم الى قصر قد اعد له. ونزل اصحابه حوله. فمكث ثلاثة ايام، يغدو كل يوم الى ابى جعفر، فيدخل على دابته، حتى ينتهى الى باب المجلس الذى فيه الامام، فينزل، ويدخل اليه، فيجلس عنده مليا، فيتناظران في الأمور. فلما كان في اليوم الرابع وطن له ابو جعفر عثمان بن نهيك، وكان على حرسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وشبث بن روح، وكان على شرطته، وأبا فلان بن عبد الله، وكان على الخيل، وامرهم ان يكمنوا في بيت الى جنب المجلس الذى كان فيه. وقال لهم: إذا انا صفقت يدي ثلاثا فاخرجوا الى ابى مسلم، فبضعوه. وامر الحاجب إذا دخل ابو مسلم ان يأخذ عنه سيفه. واقبل ابو مسلم، فدخل، وأخذ الحاجب سيفه. فدخل مغضبا، وقال: يا امير المؤمنين، فعل بي ما لم يفعل بي مثله قط، أخذ السيف من عاتقى. قال ابو جعفر: ومن اخذه لعنه الله؟ اجلس، لا عليك. فجلس، وعليه قباء اسود خز، ووضع له متكئا، ولم يكن في البيت غيرهما. فقال ابو جعفر: ما اردت بمضيك نحو خراسان قبل لقائي؟ قال ابو مسلم: لأنك وجهت في اثرى الى الشام أمينا في احصاء الغنائم، اما وثقت بي فيها؟. فاغلظ له ابو جعفر الكلام. فقال: يا امير المؤمنين، انسيت حسن بلائي، وفضل قيامي، واتعابى نفسي ليلى ونهاري؟ حتى سقت هذا السلطان إليكم. قال ابو جعفر: يا ابن الخبيثة، والله لو قامت مقامك أمه سوداء لاغنت غناك، انما تأتي لك الأمور في ذلك بما أحب الله، من اظهار دعوتنا اهل البيت، ورد حقنا إلينا، ولو كان ذلك بحولك وحيلتك وقوتك ما قطعت فتيلا، الست يا ابن اللخناء الذى كتبت الى تخطب عمتي آمنه بنت على بن عبد الله؟ وتزعم في كتابك انك ابن سليط بن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت مرتقى صعبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فقال ابو مسلم: يا امير المؤمنين، لا تدخل على نفسك الغم والغيظ بسببي، فانى اصغر قدرا من ان ابلغ منك هذا. فصفق ابو جعفر بكفيه ثلاثا، وخرج عليه القوم بالسيوف. فلما رآهم ابو مسلم ايقن بالأمر، فقام الى ابى جعفر، فتناول رجله ليقبلها، فرفسه ابو جعفر برجله، فوقع ناحيه، فأخذته السيوف. فقال ابو مسلم. اما من سلاح يحامى به المرء عن نفسه. فضربوه حتى خمد. وامر به ابو جعفر، فلف في بساط، ووضع ناحيه من البيت. وقد كان ابو مسلم قبل دخوله على ابى جعفر قال لعيسى بن على: ادخل معى الى امير المؤمنين، فانى اريد معاتبته في بعض الأمور. فقال له عيسى: تقدم فانى على اثرك. فاقبل عيسى حتى دخل على ابى جعفر، فقال: يا امير المؤمنين، اين ابو مسلم؟ قال ابو جعفر: ها هو ذاك ملفوف في ذلك البساط. قال عيسى: اقتلته؟ انا لله، فكيف تصنع بجنوده؟ وهؤلاء قد جعلوه ربا. فامر ابو جعفر فهيئت الف صره، في كل صره ثلاثة آلاف درهم. واحس اصحاب ابى مسلم بالأمر، فصاحوا، وسلوا السيوف، فامر ابو جعفر بتلك الصرر، فقذفت اليهم مع راس ابى مسلم. وصعد عيسى بن على الى اعلى القصر، وقال: يا اهل خراسان، انما كان ابو مسلم عبدا من عبيد امير المؤمنين، وجد عليه، فقتله، فليفرخ روعكم، فان امير المؤمنين بالغ آمالكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فترجل القوم وتناولوا تلك الصرر، كل واحد صره، وترك الراس مقذوفا. ثم ان أبا جعفر وضع لأصحاب ابى مسلم العطاء، ووجه الأموال الى عسكر ابى مسلم حيت خلفه، فاسنى لهم العطاء، وكتب كتابا، فقرئ عليهم، يبسط فيه آمالهم، واجزل صلات القواد والاشراف منهم، فارضاهم ذلك. واستدفت الخلافه لأبي جعفر المنصور سنه ثمان وثلاثين ومائه [1] ، فوجه عماله الى اقطار الارض. مدينه بغداد وان أبا جعفر أحب ان يبنى لنفسه وجنوده مدينه ليتخذها دار المملكة. فسار بنفسه يرتاد الاماكن حتى انتهى الى بغداد، وهي إذ ذاك قريه يقوم بها سوق في كل شهر، فاعجبه المكان، فخط لنفسه وحشمه ومواليه وولده واهل بيته المدينة، وسماها مدينه السلام، وبنى قصره وسطها الى المسجد الأعظم. ثم خط لجنوده حول المدينة، وجعل اهل كل بلد من خراسان في ناحيه منها منفرده، وامر الناس بالبناء، ووسع عليهم في النفقات، وامر، فحفر نهر الفرات من ثمانية فراسخ، وفوهه النهر من دمما [2] ، فأجرى الى بغداد ليأتي فيه مواد الشام والجزيرة، كما تأتي مواد الموصل وما اتصل بالموصل في دجلة، وكان بناؤه إياها في سنه تسع وثلاثين ومائه [3] . ثم ان أبا جعفر حج بالناس سنه اربعين ومائه، وجعل منصرفه على مدينه الرسول، فوضع لأهلها العطاء، فاسنى لهم في الرزق وفرق فيهم الجوائز. ومضى نحو الشام قاصدا لبيت المقدس حتى وافاها، فأقام بها شهرا، ثم سار الى الرقة، فأقام بها بقية عامه ذلك، ثم سار من الرقة حتى وافى مدينه السلام، فأقام بها حولا كاملا.   [1] سنه 755 م. [2] قريه كبيره على فم نهر عيسى، قرب الفرات، وقد خربت. [3] سنه 756 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الراونديه ثم سار منها سنه اثنتين واربعين ومائه نحو البصره حتى وافاها، فبلغه ان الراونديه [1] تداعوا، وخرجوا يطلبون بثار ابى مسلم، وخلعوا الطاعة، فوجه اليهم خازم بن خزيمة، فقتلهم، وبددهم في الارض، ثم عقد لمعن بن زائده من البصره على اليمن، واقام عامه ذلك بالبصرة. وزعموا ان عمرو بن عبيد دخل اليه، فلما رآه ابو جعفر صافحه، واجلسه الى جانبه، فتكلم عمرو، فقال: يا امير المؤمنين، ان الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك من الله ببعضها، واعلم ان الله لا يرضى منك الا بما ترضاه منه، فإنك لا ترضى من الله الا بان يعدل عليك، وان الله لا يرضى منك الا بالعدل في رعيتك، يا امير المؤمنين، ان من وراء بابك نيرانا تاجح من الجور، وما يعمل من وراء بابك بكتاب الله ولا بسنه رسول الله، يا امير المؤمنين: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، حتى اتى على آخر السورة [2] ، ثم قال: ولمن عمل والله بمثل عملهم. قالوا: فبكى ابو جعفر. فقال ابن مجالد: مه يا عمرو، قد شققت على امير المؤمنين منذ اليوم. قال عمرو: من هذا يا امير المؤمنين؟ قال: هذا اخوك ابن مجالد. قال عمرو: يا امير المؤمنين ما احد اعدى لك من ابن مجالد، ايطوى عنك النصيحه، ويمنعك من ينصحك؟ وانك لمبعوث وموقوف ومسئول عن مثاقيل الذر من الخير والشر.   [1] الراونديه فئه تنسب الى احمد بن يحيى بن اسحق الراوندي المتوفى سنه 303 هـ وقد كان معتزليا، ثم صار شيعيا، ثم تغير الى الزيغ والإلحاد، وله مؤلفات تمثل ذلك الاضطراب الذى تقلب فيه تاريخ الإلحاد في الاسلام للدكتور عبد الرحمن بدوى. [2] الآية رقم 6 من سوره الفجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 قال: فرمى ابو جعفر بخاتمه، وقال: قد وليتك ما وراء بابى، فادع أصحابك، فولهم. قال: ان اصحابى لن يأتوك حتى يروك قد عملت بالعدل، كما قلت بالعدل. ثم انصرف. وسار ابو جعفر من البصره سنه ثلاث واربعين نحو الجبل حتى وافى مدينه نهاوند، وقد كان بلغه طيبها، فأقام بها شهرا. ثم انصرف حتى اتى المدائن، فأقام بها بقية عامه ذلك، وعقد منها لخزيمه بن خازم على جميع طبرستان، حتى إذا آن أوان الحج خرج منها حاجا سنه اربع واربعين ومائه، ونزل الربذة [1] ، فلما قضى حجه انصرف، ولم يدخل المدينة. وفي ذلك العام خرج عليه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن ابى طالب ع، الملقب بالنفس الزكيه، فوجه اليه ابو جعفر عيسى بن موسى بن على في خيل، فقتل رحمه الله، وخرج اخوه ابراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، فقتل رضوان الله عليهم. موت ابى جعفر المنصور وفي سنه ثمان وخمسين ومائه حج ابو جعفر، فنزل الابطح على بئر ميمون، فمرض بها، وتوفى غداه السبت، لست خلون من ذي الحجه. فأقام الحج للناس في ذلك العام ابراهيم بن محمد بن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وصلى على ابى جعفر عيسى بن موسى، فكانت خلافته عشرين سنه، وتوفى وله ثلاث وستون سنه، ودفن باعلى مكة.   [1] الربذة قريه قرب المدينة المنوره، وبها قبر ابى ذر الغفاري، وقد خرجها القرامطة سنه 319 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 توليه محمد المهدى ثم بويع للمهدي بن المنصور يوم السبت لسبع عشره ليله خلت من ذي الحجه [1] ، وفي ذلك العام امر المهدى باتخاذ المقاصير في جميع مساجد الجماعات، ثم حج المهدى سنه ستين ومائه، فانصرف على المدينة، فامر ان يشترى ما حول المسجد من المنازل والدور، فيوسع به المسجد. وفي سنه اثنتين وستين ومائه خرجت المحمرة بجرجان، فسار اليهم عمر بن العلاء، ففرقهم. وفي ذلك العام عقد المهدى ولايه العهد لابنه موسى الهادي، ومن بعده لابنه الرشيد. وفي سنه تسع وستين خرج موسى بن المهدى الى جرجان، وخرج المهدى الى ماسبذان [2] فأقام بها متنزها. ومات بها وهو ابن ثلاث واربعين سنه، وكانت خلافته عشر سنين وشهرا ونصفا. ولايه موسى الهادي وأتت الخلافه موسى الهادي، وهو بجرجان، وبويع بمدينه السلام لثمان بقين من المحرم. وفي ذلك العام خرج الحسين بن على بن الحسن بالمدينة، وسار نحو مكة، فلقيه عيسى بن موسى والعباس بن على، فقتلاه. وفي سنه سبعين ومائه توفى الامام موسى بن المهدى بعيسياباذ [3] في النصف من شهر ربيع الاول، وكان له يوم توفى اربع وعشرون سنه، وكانت خلافته سنه وشهرا واربعه وعشرين يوما.   [1] الموافق 19 اكتوبر سنه 774 م. [2] اصله ماه، سبذان، وهي مدن عده وبها قبر المهدى، ولا اثر بها الا بناء قد تغصت رسومه ولم يبق منه الا الآثار. [3] كذا في الأصل، وهي عيساباز محله كانت بشرقى بغداد، وقد بنى بها المهدى قصره الذى سماه قصر السلام، وقد خربت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 خلافه هرون الرشيد وفي ذلك العام استخلف هرون الرشيد، وحج، وانصرف الى المدينة، فوضع لأهلها العطاء، واجزل لهم. واقبل الى العراق فوافى الكوفه، وعقد لأبي العباس الطوسى على خراسان، فلبث عليها عامين، ثم عزله. واستعمل عليها محمد بن الاشعث. وفي سنه اربع وسبعين ومائه وقعت العصبية بأرض الشام بين المضرية واليمانيه، فتحاربوا حتى قتل من الفريقين بشر كثير. وحج الرشيد في ذلك العام بالناس ومعه ابناه محمد، وعبد الله، وكتب بينهما كتابا بولاية العهد لمحمد، ومن بعده لعبد الله المأمون، وعلق الكتاب في جوف الكعبه، ثم انصرف الى مدينه السلام. واستعمل على خراسان الغطريف بن عطاء. قال على بن حمزه الكسائي: ولانى الرشيد تاديب محمد وعبد الله، فكنت اشدد عليهما في الأدب، وآخذهما به أخذا شديدا، وبخاصه محمدا، فاتتنى ذات يوم خالصه جاريه أم جعفر. فقالت: يا كسائي، ان السيده تقرا عليك السلام، وتقول لك، حاجتي إليك ان ترفق بابني محمد، فانه ثمره فؤادى وقره عيني، وانا ارق عليه رقه شديده. فقلت لخالصه: ان محمدا مرشح للخلافة بعد ابيه، ولا يجوز التقصير في تأديبه. فقالت خالصه: ان لرقة السيده سببا، انا مخبرتك به. انها في الليلة التي ولدته اريت في منامها كان اربع نسوه اقبلن اليه، فاكتنفنه عن يمينه وشماله، وامامه وورائه، فقالت التي بين يديه: ملك قليل العمر، ضيق الصدر، عظيم الكبر، واهي الأمر، كثير الوزر، شديد الغدر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقالت التي من ورائه: ملك قصاف، مبذر متلاف، قليل الإنصاف، كثير الاسراف، وقالت التي عن يمينه: ملك ضخم، قليل الحلم، كثير الإثم، قطوع للرحم، وقالت التي عن يساره: ملك غدار، كثير العثار، سريع الدمار. ثم بكت خالصه، وقالت: يا كسائي، وهل يغنى الحذر؟. وذكر عن الأصمعي قال: دخلت على الرشيد، وكنت غبت عنه حولين بالبصرة، فأومأ الى بالجلوس قريبا منه، فجلست قليلا، ثم نهضت، فأومأ الى ان اجلس، فجلست، حتى خف الناس. ثم قال لي: يا أصمعي، الا تحب ان ترى محمدا وعبد الله؟ قلت: بلى يا امير المؤمنين، انى لاحب ذلك، وما اردت القيام الا إليهما، لاسلم عليهما. قال: تكفى. ثم قال: على بمحمد وعبد الله. فانطلق الرسول. وقال: أجيبا امير المؤمنين. فاقبلا، كأنهما قمرا أفق، قد قاربا خطاهما، وضربا ببصرهما الارض حتى وقفا على أبيهما، فسلما عليه بالخلافة، وأومأ إليهما، فدنيا منه، فاجلس محمدا عن يمينه، وعبد الله عن شماله. ثم أمرني بمطارحتهما، فكنت لا القى عليهما شيئا من فنون الأدب الا أجابا فيه وأصابا. فقال: كيف ترى ادبهما؟ قلت: يا امير المؤمنين، ما رايت مثلهما في ذكائهما وجوده ذهنهما، فاطال الله بقاءهما، ورزق الامه من رأفتهما ومعطفتهما. فضمهما الى صدره، وسبقته عبرته حتى تحدرت دموعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ثم اذن لهما، حتى إذا نهضا وخرجا، قال: كيف بكم إذا ظهر تعاديهما وبدا تباغضهما، ووقع باسهما بينهما حتى تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء انهم كانوا موتي؟ فقلت: يا امير المؤمنين، هذا شيء قضى به المنجمون عند مولدهما، او شيء اثرته العلماء في أمرهما؟ قال: بل شيء اثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في امرهما. قالوا: فكان المأمون يقول في خلافته: قد كان الرشيد سمع جميع ما جرى بيننا من موسى بن جعفر بن محمد، فلذلك قال ما قال. قال الأصمعي: وكان الرشيد يحب السمر، ويشتهى احاديث [1] الناس، فكان يرسل الى إذا نشط لذلك، وجن عليه الليل، فاسامره، فأتيت ذات ليله، ولم يكن عنده احد، فسامرته ساعه، ثم اطرق، وفكر، ثم قال: يا غلام، على بالعباسى يعنى الفضل بن الربيع. فحضر، ودخل، فاذن له بالجلوس. فقال: يا عباسي، انى عنيت بتوليه العهد، ومثبت الأمر في محمد وعبد الله، وقد علمت انى ان وليت محمدا مع ركوبه هواه، وانهماكه في اللهو واللذات خلط على الرعية، وضيع الأمر، حتى يطمع فيه الأقاصي من اهل البغى والمعاصي، وان صرفت الأمر الى عبد الله ليسلكن بهم المحجة، وليصلحن المملكة، وان فيه لحزم المنصور وشجاعة المهدى، فما ترى؟ قال الفضل: يا امير المؤمنين، ان هذا امر خطير عظيم، والزلة فيه لا تستقال، وللكلام فيه مكان غير هذا. فعلمت انهما يحبان الخلوه، فقمت عنهما، وجلست ناحيه من صحن الدار، فما زالا يتناظران الى ان أصبحا.   [1] بياض في الأصل مكان ما بين الحاصرتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 واتفق رأيهما على توليه محمد العهد، وتصيير عبد الله من بعده، وقسمه الأموال والجنود بينهما، وان يقيم محمد بدار الخلافه، ويتولى المأمون خراسان. فلما اصبح امر بجميع القواد، فاجتمعوا اليه، فدعاهم الى بيعه محمد، ومن بعده الى بيعه المأمون، فأجابوا الى ذلك، وبايعوا. وفي سنه ثمانين ومائه [1] عقد الرشيد لعلى بن عيسى بن ماهان على خراسان، وفي ذلك العام خرج الرشيد الى ارض الشام، وأخذ على الموصل، فلما وافاها امر بهدم مدينتها، وقد كانوا وثبوا بعامله. وفي ذلك العام وثب اهل خراسان بعاملهم، فقتلوه، فأقام بالشام عامه ذلك، ثم خرج حاجا، فلما انصرف قصد الأنبار، فنزل به بمدينه ابى العباس، وهي من الأنبار على نصف فرسخ، وقد كان بقي بها جمع عظيم من أبناء اهل خراسان، توالدوا بها حتى كثروا، فهم الى الان، فأقام بها شهرا، ثم توجه منها الى الرقة [2] فأقام بها شهرا. وخرج منها غازيا الى ارض الروم، فافتتح مدينه من مدنهم، تسمى معصوف. ثم انصرف الى الرقة، فأقام بها بقية عامه ذلك. فلما كان أوان الحج، حج، فقضى نسكه، وجعل منصرفه على الرقة، فأقام بها، وولى يزيد بن مزيد أرمينية، ثم قدم من الرقة سنه اربع وثمانين ومائه حتى وافى مدينه السلام، ونزل قصره بالرصافة [3] ، وأخذ عماله بالبقايا، ثم سار من مدينه السلام في سنه خمس وثمانين ومائه عائدا الى الرقة، وقد كان استطابها. فلما كان أوان الحج حج، فمر بالمدينة، فأعطاهم ثلاث اعطيات، واعطى اهل مكة عطاءين، ثم انصرف، فقصد الأنبار، فأقام بها شهرا، ثم انصرف الى مدينه السلام.   [1] سنه 796 م. [2] مدينه على نهر الفرات كان بها قصران لهشام بن عبد الملك. [3] محله بالجانب الشرقى من بغداد، كان المهدى قد عسكر بها، فأمره المنصور ان يبنى فيها دورا، فالتحق بها الناس وعمروها، وفيها قبور جماعه من الخلفاء العباسيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ثم عقد البيعه لابنه القاسم بعد محمد وعبد الله، وولاه الشام، فوجه القاسم عليها عماله. وحج الرشيد سنه ثمان وثمانين ومائه، وانصرف فنزل الحيرة [1] ، فأقام بها أياما، ثم دخل مدينه السلام. وفي سنه تسع وثمانين سار الى الري فأقام بها شهرا، ثم انصرف نحو مدينه السلام، فضحى بقصر اللصوص [2] ، ثم دخل بغداد، ولم ينزلها، ومضى حتى انتهى الى السالحين [3] ، وهي من مدينه السلام على ثلاثة فراسخ، فبات بها ثم سار عامدا للرقه حتى وافاها، وامر عند ممره ببغداد بخشبه جعفر بن يحيى ان تحرق، واقام بالرقة بقية ذلك العام. فلما دخلت سنه تسعين ومائه خرج غازيا لارض الروم حتى اوغل فيها وانتهى الى هرقله [4] ، فافتتحها. وفي ذلك العام خرج رافع بن نصر بن سيار مغاضبا بأرض خراسان، وكان سبب خروجه ان على بن عيسى بن ماهان لما ولى خراسان أساء السيرة، وتحامل على من كان بها من العرب، واظهر الجور، فخرج عليه رافع، فواقعه وقعات، ثم انحاز فيمن اتبعه من اهل خراسان، وكانوا زهاء ثلاثين الف رجل في سمرقند، واقام بمدينتها. وبلغ ذلك الرشيد، فعزل على بن عيسى عنها، واستعمل عليها هرثمة بن اعين. ثم انصرف الرشيد قافلا من الروم حتى نزل بمدينه السلام عامه ذلك، واستخلف ابنه محمدا على دار المملكة، وخرج عامدا لارض خراسان ليتولى حرب رافع بنفسه. ودخلت سنه اثنتين وتسعين ومائه وفيها خرجت الخرمية [5] بأرض الجبل   [1] مدينه كانت على ثلاثة اميال من الكوفه على النجف، وكانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية، النعمان وآباؤه، وسموها بالحيرة البيضاء لحسنها. [2] سمى بذلك لان جيشا من المسلمين نزلوا به، فسرقت دوابهم. [3] قريه من نهر عيسى ببغداد، وهي السيلحين التي بات بها المثنى بن حارثة وصبح، فاغار على سوق بغداد. [4] مدينه ببلاد الروم، قرب صفين فتحها الرشيد وسبى أهلها وقد خربت، ولم يبق منها آثار عماره. [5] طائفه تنسب الى بابك الخرمى، وتدين بما تدين الباطنية اولاد المجوس الذين تأولوا آيات القرآن وسنن النبي على موافقه أصواتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 في المره الاولى، فوجه اليهم محمد الامين بعبد الله بن مالك الخزاعي، فقتل منهم مقتله عظيمه، وشرد بقيتهم في البلدان. وسار الرشيد حتى وافى مدينه طوس [1] ، فنزل في دار حميد الطوسى، ومرض بها مرضا شديدا، فجمع له الأطباء يعالجونه، فقال: ان الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع محذور جرى ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يشفى مثله فيما مضى فلما اشتد به الوجع قال للفضل بن الربيع: يا عباسي، ما تقول الناس؟ قال: يقولون، ان شأني امير المؤمنين قد مات. فامر ان يسرج له حمار ليركبه، ويخرج، فاسرج له، وحمل حتى وضع على السرج، فاسترخت فخذاه ولم يستطع الثبوت. فقال: ارى الناس قد صدقوا. ثم توفى. وذلك في سنه ثلاث وتسعين ومائه يوم السبت، لخمس ليال خلون من جمادى الآخرة [2] ، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنه، وشهرا ونصفا. توليه محمد الامين فاتت الخلافه محمدا الامين ببغداد، يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة، ونعاه للناس يوم الجمعه، ودعاهم الى تجديد البيعه، فبايعوا. ووصل الخبر بوفاه الرشيد الى المأمون، وهو بمدينه مرو، يوم الجمعه لثمان خلون من الشهر، فركب الى المسجد الأعظم، ونودى في الجنود وسائر الوجوه، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي وآله، ثم قال:   [1] مدينه بالقرب من نيسابور، بها آثار اسلاميه جليله، وكان بها دار حميد قحطبه. [2] الموافق 27 مارس سنه 808 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ايها الناس، احسن الله عزاءنا وعزاءكم في الخليفة الماضى، صلوات الله عليه، وبارك لنا ولكم في خليفتكم الحادث، مد الله في عمره. ثم خنقته العبرة، فمسح عينه بسواده. ثم قال: يا اهل خراسان، جددوا البيعه لامامكم الامين. فبايعه الناس جميعا. ولما أتت الخلافه محمدا، وبايعه الناس دخل عليه الشعراء، وفيهم الحسن ابن هانئ [1] ، فانشدوه، وقام الحسن في آخرهم، فانشده قوله: الا دارها بالماء حتى تلينها ... فلن تكرم الصهباء حتى تهينها وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... كان شعاع الشمس يلقاك دونها كان يواقيتا رواكد حولها ... وزرق سنانير تدير عيونها [2] لقد جلل الله الكرامه أمه ... يكون امير المؤمنين امينها حميت حماها بالقنابل والقنا ... ووفرت دنياها عليها ودينها يراك بنو المنصور اولاهم بها ... وان أظهروا غير الذى يكتمونها فوصلهم جميعا، وفضله. ثم ان محمد الامين دعا اسماعيل بن صبيح كاتب السر، فقال: ما الذى ترى يا ابن صبيح؟ قال: ارى دوله مباركه، وخلافه مستقيمه، وامرا مقبلا، فتمم الله ذلك لأمير المؤمنين بافضله واجزله.   [1] وهو المشهور بابى نواس. [2] السنانير جمع سنور وهو القط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قال له محمد: انى لم أبغك قاصا، انما اردت منك الرأي. قال اسماعيل: ان راى امير المؤمنين ان يوضح لي الأمر لأشير عليه بمبلغ رأيي ونصحى فعل. قال: انى قد رايت ان اعزل أخي عبد الله من خراسان، واستعمل عليها موسى ابن امير المؤمنين. قال اسماعيل: اعيذك بالله يا امير المؤمنين ان تنقض ما اسسه الرشيد، ومهده، وشيد أركانه. قال محمد: ان الرشيد موه عليه في امر عبد الله بالزخرفه، ويحك يا بن صبيح، ان عبد الملك بن مروان كان احزم رايا منك، حيث قال: لا يجتمع فحلان في هجمة الا قتل أحدهما صاحبه. قال اسماعيل: اما إذ كان هذا رأيك، فلا تجاهره، بل اكتب اليه، واعلمه حاجتك اليه بالحضرة، ليعينك على ما قلدك الله من امر عباده وبلاده، فإذا قدم عليك، وفرقت بينه وبين جنوده كسرت حده، وظفرت به، وصار رهنا في يديك، فائت في امره ما اردت. قال محمد: اجدت يا ابن صبيح، واصبت، هذا لعمري الرأي. ثم كتب اليه يعلمه ان الذى قلده الله من امر الخلافه والسياسة قد اثقله، ويسأله ان يقدم عليه ليعينه على أموره، ويشير عليه بما فيه مصلحته، فان ذلك اعود على امير المؤمنين من مقامه بخراسان، واعمر للبلاد، وادر للفيء، واكبت للعدو، وآمن للبيضه. ثم وجه الكتاب مع العباس بن موسى، ومحمد بن عيسى، وصالح صاحب المصلى. فساروا نحو خراسان، فاستقبلهم طاهر بن الحسين مقبلا من عند المأمون على ولايه الري، حتى انتهوا الى المأمون وهو بمدينه مرو، فدخلوا عليه، وأوصلوا الكتاب اليه، وتكلموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 فذكروا حاجه امير المؤمنين الامين اليه، وما يرجو في قربه من بسط المملكة، والقوه على العدو، فابلغوا في مقالتهم. وامر المأمون بانزالهم واكرامهم. ولما جن عليه الليل بعث الى الفضل بن سهل، وكان اخص وزرائه عنده، واوثقهم في نفسه، وقد كان جرب منه وثاقه راى وفضل حزم، فلما أتاه خلا به، واقراه كتاب محمد، واخبره بما تكلم به الوفد من امر التحضيض على المسير الى أخيه ومعاونته على امره. قال الفضل: ما يريد بك خيرا، وما ارى لك الا الامتناع عليه. قال المأمون: فكيف يمكنني الامتناع عليه، والرجال والأموال معه، والناس مع المال؟ قال الفضل: أجلني ليلتي هذه لآتيك غدا بما ارى. قال له المأمون: امض في حفظ الله. فانصرف الفضل بن سهل الى منزله، وكان منجما، فنظر ليلته كلها في حسابه ونجومه، وكان بها ماهرا. فلما اصبح غدا على المأمون، فاخبره انه يظهر على محمد ويغلبه، ويستولى على الأمر. فلما قال له ذلك، بعث الى الوفد، فاحسن صلاتهم وجوائزهم، وسألهم ان يحسنوا امره عند الامين، ويبسطوا من عذره. وكتب معهم اليه: اما بعد، فان الامام الرشيد ولانى هذه الارض على حين كلب من عدوها، ووهى من سدها، وضعف من جنودها، ومتى اخللت بها، او زلت عنها لم آمن انتقاض الأمور فيها، وغلبه اعدائها عليها، بما يصل ضرره الى امير المؤمنين حيث هو، فراى امير المؤمنين في ان لا ينقض ما أبرمه الامام الرشيد. وسار القوم بالكتاب حتى وافوا به الامين، وأوصلوا الكتاب اليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فلما قراه جمع القواد اليه، فقال لهم: انى قد رايت صرف أخي عبد الله عن خراسان، وتصييره معى ليعاوننى، فلا غنى بي عنه، فما ترون؟ فاسكت القوم. فتكلم خازم بن خزيمة، فقال: يا امير المؤمنين، لا تحمل قوادك وجنودك على الغدر فيغدروا بك، ولا يرون منك نقض العهد فينقضوا عهدك. قال محمد: ولكن شيخ هذه الدولة على بن عيسى بن ماهان لا يرى ما رايت، بل يرى ان يكون عبد الله معى ليؤازرنى ويحمل عنى ثقل ما انا فيه بصدده. ثم قال لعلى بن عيسى: انى قد رايت ان تسير بالجيوش الى خراسان، فتلى امرها من تحت يدي موسى بن امير المؤمنين، فانتخب من الجنود والجيوش على عينك. ثم امر بديوان الجند، فدفع اليه، فانتخب ستين الف رجل من ابطال الجنود وفرسانهم، ووضع لهم العطاء، وفرق فيهم السلاح، وامره بالمسير. فخرج بالجيوش، وركب معه محمد، فجعل يوصيه، ويقول: اكرم من هناك من قواد خراسان، وضع عن اهل خراسان نصف الخراج، ولا تبق على احد يشهر عليك سيفا، او يرمى عسكرك بسهم، ولا تدع عبد الله يقيم الا ثلاثا من يوم تصل اليه، حتى تشخصه الى ما قبلي. وقد كانت زبيده تقدمت الى على بن عيسى، وكان أتاها مودعا، فقالت له: ان محمدا، وان كان ابنى وثمره فؤادى، فان لعبد الله من قلبي نصيبا وافرا من المحبه، وانا التي ربيته، وانا احنو عليه، فإياك ان يبدأه منك مكروه، او تسير امامه، بل سر إذا سرت معه من ورائه، وان دعاك فلبه، ولا تركب حتى يركب قبلك، وخذ بركابه إذا ركب، واظهر له الإجلال والاكرام. ثم دفعت اليه قيدا من فضه وقالت: ان استعصى عليك في الشخوص فقيده بهذا القيد. وان محمد انصرف عنه بعد ان اوعز اليه، واوصاه بكل ما اراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وسار على بن عيسى بن ماهان حتى صار الى حلوان، فاستقبله عير مقبلة من الري، فسألهم عن خبر طاهر، فاخبروه انه يستعد للحرب، فقال: وما طاهر؟ ومن طاهر؟ ليس بينه وبين أخلاء الري الا ان يبلغه انى جاوزت عتبة همذان. ثم سار حتى خلف عتبة همذان وراءه، فاستقبله عير اخرى، فسألهم عن الخبر. فقالوا: ان طاهرا قد وضع العطاء لأصحابه، وفرق فيهم السلاح، واستعد للحرب. فقال: في كم هو؟ فقالوا: في زهاء عشره آلاف رجل. فاقبل الحسن بن على بن عيسى على ابيه فقال: يا أبت، ان طاهرا لو اراد الهرب لم يقم بالري يوما واحدا. فقال: يا بنى، انما تستعد الرجال لاقرانها، وان طاهرا ليس عندي من الرجال الذين يستعدون لمثلي، ويستعد له مثلي. وذكروا ان مشايخ بغداد قالوا: لم نر جيشا كان اظهر سلاحا، ولا اكمل عده، ولا افره خيلا، ولا انبل رجالا من جيش على بن عيسى يوم خرج، انما كانوا نخبا. وان طاهر بن الحسين جمع اليه رؤساء اصحابه فاستشارهم في امره، فأشاروا عليه، ان يتحصن بمدينه الري، ويحارب القوم من فوق السور الى ان يأتيه مدد من المأمون. فقال لهم: ويحكم، انى ابصر بالحرب منكم، انى متى تحصنت استضعفت نفسي، ومال اهل المدينة اليه لقوته، وصاروا أشد على من عدوى، لخوفهم من على ابن عيسى، ولعله ان يستميل بعض من معى بالاطماع، والرأي ان الف الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، والنصر من عند الله. ثم نادى في جنوده بالخروج عن المدينة، وان يعسكروا بموضع يقال له القلوصه. فلما خرجوا عمد اهل الري الى أبواب مدينتهم، فاغلقوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فقال طاهر لأصحابه: يا قوم، اشتغلوا بمن امامكم، ولا تلتفتوا الى من وراءكم، واعلموا انه لا وزر لكم ولا ملجأ الا سيوفكم ورماحكم، فاجعلوها حصونكم. واقبل على بن عيسى نحو القلوصه، فتواقف العسكران للحرب، والتقوا، فصدقهم اصحاب طاهر الحمله. فانتقضت تعبئة على بن عيسى، وكانت منهم جولة شديده، فناداهم على ابن عيسى، وقال: ايها الناس، ثوبوا، واحملوا معى. فرماه رجل من اصحاب طاهر، فاثبته، وبعد ان دنا منه، وتمكن رماه بنشابه وقعت في صدره، فنفذت الدرع والسلاح حتى افضت الى جوفه، وخر مغشيا عليه ميتا. واستوت الهزيمة باصحابه. فما زال اصحاب طاهر يقتلونهم، وهم مولون حتى حال الليل بينهم، وغنموا ما كان في معسكرهم من السلاح والأموال. وبلغ ذلك محمدا، فعقد لعبد الرحمن الابناوى في ثلاثين الف رجل من الأبناء، وتقدم اليهم، الا يغتروا كاغترار على بن عيسى، ولا يتهاونوا كتهاونه. فسار عبد الرحمن حتى وافى همذان. وبلغ ذلك طاهرا، فتقدم، وسار نحوه، فالتقوا جميعا، فاقتتلوا شيئا من قتال، فلم يكن لأصحاب عبد الرحمن ثبات، فانهزم، واتبعه اصحابه، فدخلوا مدينه همذان، فتحصنوا فيها شهرا حتى نفد ما كان معهم من الزاد. قال: فطلب عبد الرحمن الابناوى الامان له ولجميع اصحابه، فاعطاه طاهر ذلك. ففتح أبواب المدينة، ودخل الفريقان بعضهم في بعض. وسار طاهر حتى هبط العقبه، فعسكر بناحيه اسداباذ [1]   [1] مدينه بهمذان الى ناحيه العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ففكر عبد الرحمن، وقال: كيف اعتذر الى امير المؤمنين؟ فعبا اصحابه. فلما طلع الفجر زحف باصحابه الى طاهر، وهو غار، فوضع فيهم السيوف، فوقفت طائفه من اصحاب طاهر رجاله، يذبون عن اصحابهم حتى ركبوا، واستعدوا، ثم حملوا على عبد الرحمن واصحابه، فأكثروا فيهم القتل. فلما راى ذلك عبد الرحمن ترجل في حماه اصحابه فقاتلوا حتى قتل عبد الرحمن، وقتلوا معه. وبلغ ذلك محمدا، فسقط في يده، وبرز جنوده، فعقد لعبد الله الحرشي، في خمسه آلاف رجل، وليحيى بن على بن عيسى، في مثل ذلك، فسارا حتى وافيا قرميسين [1] . وبلغ طاهرا ذلك، فسار نحوهما، فانهزما من غير قتال حتى رجعا الى حلوان، فأقاما هناك. فزحف طاهر نحو حلوان، فانهزما حتى لحقا ببغداد، واقام طاهر بحلوان حتى وافاه هرثمة بن اعين من عند المأمون، في ثلاثين الف رجل من جنود خراسان، فاخذ طاهر من حلوان نحو البصره والاهواز. وتقدم هرثمة الى بغداد، فلم تقم لمحمد قائمه حتى قتل، وكان من امره ما كان. وان طاهر بن الحسين صعد من البصره، وتقدم هرثمة حتى احدقا ببغداد، واحاطا بمحمد الامين، ونصبا المنجنيق على داره حتى ضاق محمد بذلك ذرعا. وكان هرثمة بن اعين يحب صلاح حال محمد، والإبقاء على حشاشه نفسه، فأرسل   [1] بلد قرب الدينور بين همذان وحلوان على جاده العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 اليه محمد يسأله القيام بامره، واصلاح ما بينه وبين المأمون، على ان يخلع نفسه عن الخلافه، ويسلم الأمر لأخيه. فكتب اليه هرثمة: قد كان ينبغى لك ان تدعو الى ذلك قبل تفاقم الأمر، فاما الان فقد بلغ السيل الزبى، وشغل الحلى اهله ان يعار [1] ، ومع ذلك فانى مجتهد في اصلاح امرك، فصر الى ليلا، لأكتب بصوره امرك الى امير المؤمنين، وآخذ لك عهدا وثيقا، ولست آلو جهدا ولا اجتهادا في كل ما عاد بصلاح حالك، وقربك الى امير المؤمنين. فلما سمع ذلك محمدا استشار نصحاءه ووزراءه، فأشاروا بذلك عليه، وطمعوا في بقاء مهجته. فلما جنه الليل ركب في جماعه من خاصته وثقاته وجواريه، يريد العبور الى هرثمة. فأحس طاهر بن الحسين بالمراسله التي جرت بينهما والموافقة التي اتفقا عليها. فلما اقبل محمد، وركب بمن معه الماء شد عليه طاهر، فأخذه ومن معه، ثم دعا به في منزله، فاحتز راسه، وانفذه من ساعته الى المأمون. واقبل المأمون حتى دخل مدينه السلام، وصفت له المملكة واستوسقت له الأمور. وكان قتل محمد الامين ليله الأحد لخمس خلون من المحرم، سنه ثمان وتسعين ومائه [2] ، وقتل، وله ثمان وعشرون سنه، وكانت ولايته اربع سنين وثمانية اشهر. الخليفة عبد الله المأمون وبويع المأمون، وهو عبد الله بن الرشيد، يوم الاثنين لخمس بقين من المحرم سنه ثمان وتسعين ومائه.   [1] مثل عربي، يضربه المسئول شيئا هو احوج اليه من السائل مجمع الأمثال ج 2 ص 330 [2] اى سنه 903 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وكان شهما، بعيد الهمه، ابى النفس، وكان نجم ولد العباس في العلم والحكمه، وقد كان أخذ من جميع العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم، وهو الذى استخرج كتاب اقليدس من الروم، وامر بترجمته وتفصيله، وعقد المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان استاذه فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل العلاف. ودخل بلاد الجزيرة والشام، فأقام بها مده طويله، ثم غزا الروم، وفتح فتوحا كثيره، وابلى بلاء حسنا. ثم توفى على نهر البذندون [1] ، ودفن بطرسوس يوم الأربعاء لثمان خلون من رجب سنه ثمان عشره ومائتين [2] . وكانت ولايته عشرين سنه وخمسه اشهر وثلاثة عشر يوما، وقد كان بلغ من السن تسعا وثلاثين سنه. وقد كان بايع لابنه العباس بن المأمون بولاية العهد من بعده. وخلفه بالعراق. ولايه محمد المعتصم فلما مات هو على نهر البذندون جمع اخوه ابو اسحق محمد بن هرون المعتصم بالله اليه وجوه القواد والأجناد، فدعاهم الى بيعته، فبايعوه. فسار من طرسوس حتى وافى مدينه السلام، فدخلها، وخلع العباس بن المأمون عنها، وغلبه عليها، وبايعه الناس بها. وكان قدومه بغداد مستهل شهر رمضان سنه ثمان عشره ومائتين، فأقام بها سنتين، ثم مر باتراكه الى سر من راى فابتناها، واتخذها دارا ومعسكرا.   [1] في الأصل نهر البدندون والصحيح ما ذكر، وهو نهر سمى باسم البلد بذندون، وهي قريه قريبه من طرسوس. [2] الموافقة سنه 209 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وكانت في خلافته فتوحات لم تكن لأحد من الخلفاء الذين مضوا مثلها قبله. فمنها فتح بابك، واسره وقتله اياه، وصلبه، ومنها مازيار صاحب قلعه طبرستان، فانه تحصن في القلاع والجبال، فما زال به حتى اخذه، فقتله، وصلبه الى جنب بابك، ومنها جعفر الكردى، وقد كان اخرب البلاد وسبى الذراري، فوجه الخيول في طلبه، ولم يزل به حتى اخذه وقتله، وصلبه الى جنب بابك ومازيار، ومن ذلك فتح عموريه وهي القسطنطينية الصغرى، والاخرى فتحها الله على يديه. وكان ابتداء امر بابك، انه تحرك في آخر ايام المأمون وقد اختلف الناس في نسبه ومذهبه، والذى صح عندنا، وثبت، انه كان من ولد مطهر بن فاطمه بنت ابى مسلم، هذه التي ينتسب إليها الفاطمية من الخرمية، لا الى فاطمه بنت رسول الله ص، فنشأ بابك، والحبل مضطرب، والفتن متصله، فاستفتح امره بقتل من حوله بالبذ [1] ، واخراب تلك الأمصار والقرى التي حواليه، لتصفو له البلاد، ويصعب مطلبه، وتشتد المئونة في التوصل اليه، واشتدت شوكته، واستفحل امره. وقد كان المأمون وجه اليه حين اتصل به خبره عبد الله بن طاهر بن الحسين في جيش عظيم. فسار اليه، ونزل في طريقه الدينور [2] ، في ظاهرها، في مكان يعرف الى يومنا هذا بقصر عبد الله بن طاهر، وهو كرم مشهور، ومكان مذكور. ثم سار منها حتى وافى البذ، وقد عظم امر بابك، وتهيبه الناس، فحاربوه، فلم يقدروا عليه، ففض جمعهم، وقتل صناديدهم.   [1] البذ: كوره بين ايران واذربيجان. [2] بلدا بي حنيفه مؤلف الكتاب، وإليها ينسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وكان ممن قتل في تلك الوقعه محمد بن حميد الطوسى. وهو الذى رثاه ابو تمام بقصيدته التي يقول فيها: كان بنى نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر وفيها يقول: فاثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من تحت اخمصك الحشر فلما افضى الأمر الى ابى اسحق المعتصم بالله لم تكن همته غيره، فأعد له الأموال والرجال، واخرج مولاه الافشين حيدر بن كاوس، فسار الافشين بالعساكر والجيوش حتى وافى برزند [1] ، فأقام بها حتى طاب الزمان، وانحسرت الثلوج عن الطرقات، ثم قدم خليفته يوباره [2] وجعفر بن دينار، وهو المعروف بجعفر الخياط في جمع كثير من الفرسان الى الموضع الذى كان فيه معسكرا، وامرهما ان يحفرا خندقا حصينا، فسارا حتى نزلا هناك، واحتفرا الخندق. فلما فرغا من حفر الخندق استخلف الافشين ببرزند المرزبان، مولى المعتصم في جماعه من القواد، وسار هو حتى نزل الخندق، ووجه يوباره، وجعفر الخياط في جمع كثيف الى راس نهر كبير، وامرهما بحفر خندق آخر هناك فسارا حتى احتفراه. فلما فرغا وافاهما الافشين، ثم خلف في موضعه محمد بن خالد بخاراخذاه، وشخص الى درود [3] ، في خمسه آلاف فارس والفى راجل، ومعه الف رجل من الفعله حتى نزل درود، واحتفر بها خندقا عظيما وبنى عليها سورا شاهقا، فكان بابك واصحابه يقفون على جبال شاهقة، فيشرفون منها على العسكر، ويولولون. ثم ركب الافشين يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شعبان في تعبئة، وحمل المجانيق، وامر بابك آذين ان يحصن تلا مشرفا على المدينة، ومعه ثلاثة آلاف رجل، وقد كان احتفر حوله الابار ليمنع الخيل منهم. فانصرف الافشين يوما الى خندقه، ثم غدا عليه يوم الجمعه في غره شهر رمضان،   [1] بلد من بلاد أرمينية. [2] في الأصل يوناره. [3] كذا في الأصل، والصواب دروذ، مكان في ثغر اذربيجان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فنصب المجانيق والعرادات [1] على المدينة، واحدقت القواد والرؤساء. واقبل بابك في انجاد اصحابه، وعباهم، فقاتله [2] القواد قتالا شديدا الى العصر، ثم انصرفوا، وقد نكوا في اصحابه. واقام الافشين سته ايام، ثم ناهضه يوم الخميس لسبع ليال خلون من شهر رمضان، واستعد له بابك، فوضع على البذ عجلا عظيما ليرسله الى اصحاب الافشين. ثم ارسل بابك رجلا يقال له موسى الأقطع الى الافشين، يسأله ان يخرج اليه ليشافهه بما نفسه، فان صار الى مراده والا حاربه، فأجابه الافشين الى ذلك، فخرج بابك حتى صار بالقرب من الافشين في موضع بينهما واد. فلما راى الافشين كفر له، فبسطه الافشين، واعلمه ما في الطاعة من السلامة في الدنيا والآخرة، فلم يقبل ذلك. فانصرف الى موضعه، وامر اصحابه بالحرب، فتسرعوا الى ذلك، ودهدهوا [3] العجل الذى كانوا اعدوه، فانكسر العجل، وثاب اصحاب الافشين، فدفعوهم الى راس الجبل. وقد كان يوباره وجعفر الخياط وقفا بحذاء عبد الله أخي بابك، فحملا، وحمل عليهم القواد من جميع النواحي، فقتلوهم قتلا ذريعا، وانهزموا حتى دخلوا المدينة، فدخلوا خلفهم في طلبهم، وصارت الحرب في ميدان وسط المدينة. وكانت حربا لم ير مثلها شده، وقتلوا في الدور والبساتين، وهرب عبد الله أخو بابك. فلما راى بابك ان العساكر قد احدقت به، والمذاهب قد ضاقت عليه، وان اصحابه قد قتلوا وفلوا توجه الى أرمينية، وسار حتى عبر نهر الرس متوجها الى الروم. فلما عبر نهر الرس قصد نحوه سهل بن سنباط صاحب الناحية، وقد كان   [1] جمع عراده وهي آله للحرب اصغر من المنجنيق. [2] في الأصل فقاتلوه القواد. [3] دهده: دحرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الافشين كتب الى اصحاب تلك النواحي، والى الأكراد بإرمينية، والبطارقه بأخذ الطرق عليه. فوافاه سهل بن سنباط، وقد كان بابك غير لباسه، وبدل زيه، وشد الخرق على رجليه، وركب بغله باكاف [1] ، فاوقع به سهل بن سنباط، فأخذه أسيرا. ووجه به الى الافشين، فاستوثق منه الافشين، وكتب الى المعتصم بالفتح، واستاذنه في القدوم عليه، فاذن له، فسار حتى قدم عليه، ومعه بابك واخوه، فكان من قتل المعتصم لبابك وقطع يديه ورجليه وصلبه ما هو مشهور. قالوا: ولما قدم الافشين ومعه بابك اجلسه المعتصم على سرير امامه، وعقد التاج على راسه. وفي ذلك يقول اسحق بن خلف الشاعر في قصيدته التي مدح فيها المعتصم بالله: ما غبت عن حرب تحرق نارها ... بالبذ كنت هنا وأنت هناكا عزت بافشين حسامك أمة ... والدين ممتسك به استمساكا لما أتاك ببابك توجته ... وأحق من اضحى له تاجاكا ثم ان احمد بن ابى داود وجد على الافشين لكلام بلغه عنه، فاشار على المعتصم ان يجعل الجيش نصفين نصفا مع الافشين، ونصفا مع اشناس، ففعل المعتصم ذلك. فوجد الافشين منه، وطال حزنه، واشتد حقده. فقال احمد بن ابى داود للمعتصم: يا امير المؤمنين ان أبا جعفر المنصور استشار انصح الناس عنده في امر ابى مسلم، فكان من جوابه ان قال يا امير المؤمنين ان الله تعالى يقول لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فقال له المنصور: حسبك، ثم قتل أبا مسلم.   [1] الاكاف: بردعه الحمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فقال له المعتصم: أنت أيضا حسبك يا أبا عبد الله، ثم وجه الى الافشين، فقتله. وزعموا، انهم كشفوا عنه فوجدوه غير مختون. ومات المعتصم بالله يوم الخميس لإحدى عشره ليله بقيت من شهر ربيع الاول سنه سبع وعشرين ومائتين [1] ، وصلى عليه ابو عبد الله احمد بن ابى داود، وكان المعتصم اوصى اليه بالصلاة عليه، وكانت ولايته ثماني سنين وثمانية اشهر وسبعه عشر يوما، وكان قد بلغ من السن تسعا وثلاثين سنه. وهذا آخر كتاب الاخبار الطوال على ما جمعه ابو حنيفه احمد بن داود الدينورى رحمه الله تعالى ورضى عنه.   [1] الموافق 9 يناير 842 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406