الكتاب: شرح العقيدة السفارينية - الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض الطبعة: الأولى، 1426 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شرح العقيدة السفارينية ابن عثيمين الكتاب: شرح العقيدة السفارينية - الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ) الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض الطبعة: الأولى، 1426 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمد لله , نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين , وسلَّم تسليماً كثيراً , أما بعد: فإن من توفيق الله تعالى - وله الحمد والشكر - أن يسَّر لفضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - شرح منظومة " الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية " الشهيرة " بالعقيدة السفارينية " للعلامة الشيخ محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني النابلسي الحنبلي المتوفى - رحمه الله تعالى - عام 1188 هـ. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً. وقد شرحها شيخنا - رحمه الله تعالى - عدة شروحات كان آخرها ذلك الشرح المسجل صوتياً عام 1410 هـ ضمن الدروس العلمية التي كان يعقدها فضيلته - رحمه الله تعالى - في الجامع الكبير بمدينة عنيزة وهو الذي اعتمد عليه في إخراج الكتاب. الجزء: مقدمة وسعياً لتعميم النفع بهذا الشرح - إن شاء الله تعالى - وإنفاذاً للقواعد والتوجيهات التي قررها فضيلة شيخنا - رحمه الله - لإخراج مؤلفاته ودروسه العلمية وإعدادها للنشر , عهدت " مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية " إلى الشيخ " مساعد بن عبد الله السلمان - أثابه الله - " بالعمل لإعداده للنشر والطباعة , ثم قام الشيخ الدكتور " سامي بن محمد الصقير " أثابه الله بالمراجعة , فجزاهما الله خيراً على أعمالهما في خدمة هذا الكتاب. نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم , موافقاً لمرضاته , نافعاً لعباده , وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويسكنه فسيح جناته , ويضاعف له المثوبة والأجر , ويعلي درجته في المهديين , إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله , خاتم النبيين , وإمام المتقين , وسيد الأولين والآخرين , نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثمين الخيرية 15/3/1426هـ الجزء: مقدمة نص المنظومة 1. الحمد لله القديم الباقي ... مقدر الآجال والأرزاق 2. حي عليم قادر موجود ... قامت به الأشياء والوجود 3. دلت على وجوده الحوادث ... سبحانه فهو الحكيم الوارث 4. ثم الصلاة والسلام سرمدا ... على النبي المصطفى كنز الهدى 5. وآله وصحبه الأبرار ... معادن التقوى مع الأسرار 6. وبعد فاعلم أن كل العلم ... كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي 7. لأنه العلم الذي لا ينبغي ... لعاقل لفهمه لم يبتغ 8. فيعلم الواجب والمحالا ... كجائز في حقه تعالى 9. وصار من عادة أهل العلم ... أن يعتنوا في سبر ذا بالنظم 10. لأنه يسهل للحفظ كما ... يروق للسمع ويشفي من ظما 11. فمن هنا نظمت لي عقيدة ... أرجوزة وجيزة مفيدة 12. نظمتها في سلكها مقدمة ... وست أبواب كذاك خاتمة 13. وسمتها بالدرة المضية ... في عقدة أهل الفرقة المرضية 14. على اعتقاد ذي السداد الحنبلي ... إمام أهل الحق ذي القدر العلي 15. حبر الملا فرد العلا الرباني ... رب الحجى ماحي الدجى شيباني 16. فإنه إمام أهل الأثر ... فمن نحا منحاه فهو الأثري 17. سقى ضريحا حله صوب الرضا ... والعفو والغفران ما نجم أضا 18. وحله وسائر الأئمة ... منازل الرضوان أعلى الجنة 19. اعلم هديت أنه جاء الخبر ... عن النبي المقتفي خير البشر 20. بأن ذي الأمة سوف تفترق ... بضعا وسبعين اعتقادا والمحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 21. ما كان في نهج النبي المصطفى ... وصحبه من غير زيف وجفا 22. وليس هذا النص جزما يعتبر ... في فرقة ألا على أهل الأثر 23. فأثبتوا النصوص بالتتريه ... من غير تعطيل ولا تشبيه 24. فكل ما جاء من الآيات ... أو صح في الإخبار عن ثقات 25. من الأحاديث نمره كما ... قد جاء فاسمع من نظامي واعلما 26. ولا نرد ذاك بالعقول ... لقول مفتر به جهول 27. فعقدنا الإثبات يا خليلي ... من غير تعطيل ولا تمثيل 28. وكل من أول في الصفات ... كذاته من غير ما إثبات 29. فقد تعدى واستطال واجترى ... وخاض في بحر الهلاك وافترى 30. ألم تر اختلاف أصحاب النظر ... فيه وحسن ما نحاه ذو الأثر 31. فإنهم قد اقتدروا بالمصطفى ... وصحبه فاقنع بهذا وكفى 32. أول واجب على العبيد ... معرفة الإله بالتسديد 33. بأه واحد لا نظير ... له ولا شبه ولا وزير 34. صفاته كذاته قديمة ... أسماؤه ثابتة عظيمة 35. لكنها في الحق توقيفية ... لنا بذا أدلة وفيه 36. له الحياة والكلام والبصر ... سمع إرادة وعلم اقتدر 37. بقدرة تعلقت بممكن ... كذا إرادة فع واستبن 38. والعلم والكلام قد تعلقا ... بكل شيء يا خليلي مطلقا 39. وسمعه سبحانه كالبصر ... بكل مسموع وكل مبصر 40. وأن ما جاء مع جبريل ... من محكم القرآن والتنزيل 41. كلامه سبحانه قديم ... أعيا الورى بالنص يا عليم 42. وليس في طوق الورى من أصله ... أن يستطيعوا سورة من مثله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 43. وليس ربنا بجوهر ولا ... عرض ولا جسم تعالى ذو العلا 44. سبحانه قد استوى كما ورد ... من غير كيف قد تعالى أن يحد 45. فلا يحيط علمنا بذاته ... كذاك لا ينفك عن صفاته 46. فكل ما قد جاء في الدليل ... فثابت من غير ما تمثيل 47. من رحمة ونحوها كوجهه ... ويده وكل ما من نهجه 48. وعينه وصفته النزول ... وخلقه فاحذر من النزول 49. فسائر الصفات والأفعال ... قديمة لله ذي الجلال 50. لكن بلا كيف ولا تمثيل ... رقما لأهل الزيغ والتعطيل 51. نمرها كما أتت في الذكر ... من غير تأويل ومن غير فكر 52. ويستحيل الجهل والعجز كما ... قد استحال الموت حقا والعمى 53. فكل نقص قد تعالى الله ... عنه فيا بشرى لمن والاه 54. وكل ما يطلب فيه الجزم ... فمنع تقليد بذاك حتم 55. لأنه لا يكتفى بالظن ... لذي الحجى في قول أهل الفن 56. وثيل يكفي الجزم إجماعا بما ... يطلب فيه بعض العلما 57. فالجازمون من عوام البشر ... فمسلمون عند أهل الأثر 58. وسائر الأشياء غير الذات ... وغيرما الأسماء والصفات 59. مخلوقة لربنا من العدم ... وضل من أثنى عليها بالقدم 60. وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار 61. لكنه لم يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى 62. أفعالنا مخلوقة لله ... لكنها كسب لنا يا لاهي 63. وكل ما يفعله العباد ... من طاعة أو ضدها مراد 64. لربنا من غير ما اضطرار ... منه لنا فافهم ولا تمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 65. وجاز للمولى يعذب الورى ... من غير ما ذنب ولا جرم جرى 66. فكل ما منه تعالى يجمل ... لأنه عن فعله لا يسأل 67. فإن يثب فإنه من فضله ... وإن يعذب فبمحض عدله 68. فلم يجب عليه فعل الأصلح ... ولا الصلاح ويح من لم يفلح 69. فكل من شاء هداه يهتدي ... وإن يرد إضلال عبد يعتدي 70. والرزق ما ينفع من حلال ... أو ضده فحل عن المحال 71. لأنه رازق كل الخلق ... وليس مخلوق بغير رزق 72. ومن يمت بقتله من البشر ... أو غيره فبالقضاء والقدر 73. ولم يفت من رزقه ولا الأجل ... شيء فدع أصل الضلال والخطل 74. وواجب على العباد طرا ... أن يعبدوه طاعة وبرا 75. ويفعلوا الذي به أمر ... حتما ويتركوا الذي عنه زجر 76. وكل ما قدر أو قضاه ... فواقع حتما كما قضاه 77. وليس واجبا على العبد الرضا ... بكل مقضي ولكن بالقضا 78. لأنه من فعله تعالى ... وذاك من فعل الذي تقالى 79. ويفسق المذنب بالكبيرة ... كذا إذا أصر بالصغيرة 80. ولا يخرج المرء من الإيمان ... بموبقات الذنب والعصيان 81. وواجب عليه أن يتوبا ... من كل ما جر عليه حوبا 82. ويقبل المولى بمحض الفضل ... من غير عبد كافر منفصل 83. ما لم يتب من كفره بضده ... فيرتجع عن شركه وصده 84. ومن يمت ولم يتب من الخطأ ... فأمره مفوض لذي العطا 85. فإن يشأ يعفو ... وإن شاء انتقم وإن يشأ أعطى وأجزل النعم 86. وقيل في الدروز والزنادقة ... وسائر الطوائف المنافقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 87. وكل داع لابتداع يقتل ... كمن تكرر نكثه لا يقبل 88. لأنه لم يبد من إيمانه ... إلا الذي أذاع من لسانه 89. كملحد وساحر وساحرة ... وهم على نياتهم في الآخرة 90. قلت وإن دلت دلائل الهدى ... كما جرى للعيلبوني اهتدى 91. فإنه أذاع من أسرارهم ... ما كان فيه الهتك عن أستارهم 92. وكان للدين القويم ناصرا ... فصار منا باطنا وظاهرا 93. فكل زنديق وكل مارق ... وجاحد وملحد ومنافق 94. إذا استبان نصحه للدين ... فإنه يقبل عن يقين 95. إيماننا قول وقصد وعمل ... تزيده التقوى وينقص بالزلل 96. ونحن في إيماننا نستثني ... من غير شك فاستمع واستبن 97. نتابع الأخيار من أهل الأثر ... ونقتفي الآثار لا أهل الأشر 98. ولا تقل إيماننا مخلوق ... ولا قديم هكذا مطلوق 99. فإنه يشمل للصلاة ... ونحوها من سائر الطاعات 100. ففعلنا نحو الركوع محدث ... وكل قرآن قديم فابحثوا 101. ووكل الله من الكرام ... اثنين حافظين للأنام 102. فيكتبان كل أفعال الورى ... كما أتى في النص من غير أمترا 103. وكل ما صح من الأخبار ... أو جاء في التنزيل والآثار 104. من فتنة البرزخ والقبور ... وما أتى في ذا من الأمور 105. وأن أرواح الورى لم تعدم ... مع كونها مخلوقة فاستفهم 106. فكل ما عن سيد الخلق ورد ... من أمر هذا الباب حق لا يرد 107. وما أتى في النص من أشراط ... فكله حق بلا شطاط 108. منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 109. وأنه يقتل الدجال ... بباب لدخل عن جدال 110. وأمر يأجوج ومأجوج اثبت ... وأنه حق كهدم الكعبة 111. وأن منها آية الدخان ... وأنه يذهب بالقرآن 112. طلوع شمس الأفق من دبور ... كذات أجياد على المشهور 113. وآخر الآيات حشر النار ... كما أتى في محكم الأخبار 114. فكلها صحت بها الأخبار ... وسطرت آثارها الأخيار 115. واجزم بأمر البعث والنشور ... والحشر جزما بعد نفخ الصور 116. كذا وقوف الخلق للحساب ... والصحف والميزان والثواب 117. كذا الصراط ثم حوض المصطفى ... فيا هنا لمن به نال الشفا 118. عنه يزداد المفتري كما ورد ... ومن نحا سبل السلامة لم يرد 119. فكن مطيعا واقف أهل الطاعة ... في الحوض والكوثر والشفاعة 120. فإنها ثابتة للمصطفى ... كغيره من كل أرباب الوفا 121. من عالم كالرسل والأبرار ... سوى التي خصت بذي الأنوار 122. وكل إنسان وكل جنة ... في دار نار أو نعيم جنة 123. هما مصير الخلق من كل الورى ... فالنار دار من تعدى وافترى 124. ومن عصى بذنبه لم يخلد ... وإن دخلها يابوار المعتدي 125. وجنة النعيم للأبرار ... مصونة عن سائر الكفار 126. واجزم بأن النار كالجنة في ... وجودها وأنا لم تتلف 127. فنسأل الله النعيم والنظر ... لربنا من غير ما شين غبر 128. فإنه ينظر بالأبصار ... كما أتى في النص والأخبار 129. لأنه سبحانه لم يحجب ... إلا عن الكافر والمكذب 130. ومن عظيم منة السلام ... ولطفه بسائر الأنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 131. أن أرشد الخلق إلى الوصول ... مبينا للحق بالرسول 132. وشرط من أكرم بالنبوة ... حرية ذكورة كقوة 133. ولا تنال رتبة النبوة ... بالكسب والتهذيب والفتوة 134. ولكنها فضل من المولى الأجل ... لمن يشأ من خلقه إلى الأجل 135. ولم تزل فيما مضى الأنباء ... من فضله تأتي لمن تشاء 136. حتى أتى بالخاتم الذي ختم ... به وإعلانا على كل الأمم 137. وخصه بذاك المقام ... وبعثه لسائر الأنام 138. ومعجز القرآن كالمعراج ... حقا بلا مين ولا اعوجاج 139. فكم حباه ربه وفضله ... وخصه سبحانه وخوله 140. ومعجزات خاتم الأنبياء ... كثيرة تجل عن إحصائي 141. منها كلام الله معجز الورى ... كذا انشقاق البدر من غير امترا 142. وأفضل العالم من غير امترا ... نبينا المبعوث في أم القرى 143. وبعده الأفضل أهل العزم ... فالرسل ثم الأنبيا بالجزم 144. وأن كل واحد منهم سلم ... من كل ما نقص ومن كفر عصم 145. كذاك من إفك ومن خيانة ... لوصفهم بالصدق والأمانة 146. وجائز في حق كل الرسل ... النوم والنكاح مثل الأكل 147. وليس في الأمة بالتحقيق ... في الفضل والمعروف كالصديق 148. وبعده الفاروق من غير افترا ... وبعده عثمان فاترك المرا 149. وبعده فالفضل حقيقيا فاسمع ... نظامي هذا للبطين الأنزع 150. مجدل الأبطال ماضي العزم ... مفرج الأوجال وافي الحزم 151. وافي الندى مبدي الهدى مردي العدا ... مجلي الصدا ويا ويل من فيه اعتدى 152. فحبه كحبهم حتما وجب ... ومن تعدى أو قلي فقد كذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 153. وبعد فالأفضل باقي العشرة ... فأهل بدر ثم أهل الشجرة 154. وقيل أهل أحد المقدمة ... والأول أولى للنصوص المحكمة 155. وعائشة في العلم مع خديجة ... في السبق فافهم نكتة النتيجة 156. وليس في الأمة كالصحابة ... في الفضل والمعروف والإصابة 157. لأنهم شاهدوا المختار ... وعاينوا الأسرار والأنوار 158. وجاهدوا في الله حتى بانا ... دين الهدى وقد سما الأديان 159. وقد أتى في محكم التنزيل ... من فضلهم ما يشفي للغليل 160. وفي الأحاديث وفي الآثار ... وفي كلام القوم والأشعار 161. ما قد ربا من أن يحيط نظمي ... عن بعضه فاقنع وخذ من علم 162. واحذر من الخوض الذي قد يزري ... بفضلهم مما جرى لو تدري 163. فإنه عن اجتهاد قد صدر ... فاسلم أذل الله من لهم هجر 164. وبعدهم فالتابعون أحرى ... بالفضل ثم تابعوهم طرا 165. وكل خارق أتى عن صالح ... من تابع لشرعنا ومن ناصح 166. فإنها من الكرامات التي ... بها نقول واقف للأدلة 167. ومن نفاها من ذوي الضلال ... فقد أتى في ذاك بالمحال 168. لأنها شهيرة ولم تزل ... في كل عصر يا شقا أهل الزلل 169. وعندنا تفضيل أعيان البشر ... على ملاك ربنا كما اشتهر 170. قال ومن قال سوى هذا افترى ... وقد تعدى في المقال واجترا 171. ولا غنى لأمة الإسلام ... وفي كل عصر كان عن إمام 172. يذب عنها كل ذي جحود ... ويعتني بالغزو والحدود 173. وفعل معروف وترك منكر ... ونصر مظلوم وقمع كفر 174. وأخذ مال الفيء والخراج ... ونحوه والصرف في منهاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 175. ونصبه بالنص والإجماع ... وقهره فحل عن الخداع 176. وشرطة الإسلام والحرية ... عدالة سمع مع الدرية 177. وأن يكون من قريش عالما ... مكلفا ذا خبرة وحاكما 178. فكن مطيعا أمره فيما أمر ... ما لم يكن بمنكر فيحتذر 179. واعلم بأن الأمر والنهي معا ... فرضا كفاية على من قد وعى 180. وإن يكن ذا واحدا تعينا ... عليه لكن شرطه أن يأمنا 181. اصبر وزل باليد واللسان ... لمنكر واحذر من النقصان 182. ومن نهى عما له قد ارتكب ... فقد أتى بما به يقضي العجب 183. فلو بدا بنفسه فزادها ... عن غيها لكان قد أفادها 184. مدارك العلوم في العيان ... محصورة في الحد والبرهان 185. وقال قوم عند أصحاب النظر ... حس وإخبار صحيح والنظر 186. الحد وهو أصل كل علم ... وصف محيط كاشف فافتهم 187. وشرطه طرد وعكس وهو إن ... أنبا عن الذوات فالتام استبن 188. وإن يكن بالجنس ثم الخاصه ... فذاك رسم فافهم المخاصه 189. وكل معلوم بحس وحجى ... فنكره جهل قبيح في الهجا 190. فإن يقم بنفسه فجوهر ... أو لا فذاك عرض مفتقر 191. والجسم ما ألف من جزأين ... فصاعدا فاترك حديث المين 192. ومستحيل الذات غير ممكن ... وضده ما جاز فاسمع زكني 193. والضد والخلاف والنقيض ... والمثل والغيران مستفيض 194. وكل هذا علمه محقق ... فلم نطل فيه ولم ننمق 195. والحمد لله على التوفيق ... لمنهج الحق على التحقيق 196. مسلما لمقتضى الحديث ... والنص في القديم والحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 197. لا اعتني بقول غير السلف ... موافقا أئمتي وسلفي 198. ولست في قولي بذا مقلد ... إلا النبي المصطفى مبدي الهدي 199. صلى عليه الله ما قطر نزل ... وما تعاني ذكره من الأزل 200. وما انجلى بهديه الديجور ... وراقت الأوقات والدهور 201. وآله وصحبه أهل الوفا ... معادن التقوى وينبوع الصفا 202. وتاباع وتابع للتابع ... خير الورى حقا بنص الشارع 203. ورحمة الله مع الرضوان ... والبر والتكريم والإحسان 204. تهدي مع التبجيل والإنعام ... مني لمثوى عصمة الإسلام 205. أئمة الدين هداة الأمة ... أهل التقى من سائر الأئمة 206. لا سيما أحمد والنعمان ... ومالك محمد الصنوان 207. من لازم لكل أرباب العمل ... تقليد حبر منهم فاسمع تخل 208. ومن نحا سبلهم من الورى ... ما دارت الأفلاك أو نجم سرى 209. هدية مني لأرباب السلف ... مجانباً للخوض من أهل الخلف 210. خذها هديت واقتف نظامي ... تفز بما أملت والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تمهيد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،، أما بعد: فهذه المنظومة بين فيها المؤلف (1) رحمه الله عقيدة السلف رحمهم الله، وإن كان في بعضها شيء من المخالفات التي يأتي التنبيه عليها - إن شاء الله. واعلم أن أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. فأما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فلم يختلف فيه أهل القبلة، يعني لم يختلف فيه المسلمون، بل كل المسلمين مجمعون على توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، أي: أنه يجب إفراد الله عز وجل بالربوبية، ويجب إفراده بالعبادة. وأما توحيد الأسماء والصفات فهو الذي اختلف فيه أهل القبلة، أي: المنتسبون إلى الإسلام اختلافا يمكن أن نقول انه على ستة أقسام في إجراء النصوص: القسم الأول: من أجرى النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى وترك ما وراء ذلك. وهؤلاء هم السلف وأتباعهم.   (1) هو العلامة الشيخ محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفارني الشهرة والمولد، النابلسي الحنبلي، ولد عام 1114هـ، وتوفي عام 1188 هـ - رحمه الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فـ (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قالوا: إن ظاهره أن الله استوى على العرش، أي علا عليه، فنؤمن بأن الله سبحانه وتعالى نفسه علا على العرش ولا نلتفت لما وراء ذلك، لا نقول: أين الله قبل أن يخلق العرش؟ ولا نقول: هل استواؤه على العرش بمماسة أو بانفصال؟ ولا نقول: إن استواءه على العرش للحاجة إليه، بل يجب أن نقول إنه ليس للحاجة إليه، وفرق بين الأمرين. فنقول: إن استواء الله على العرش ليس لحاجته إلى العرش، بخلاف استواء الإنسان مثلا على السرير أو على الدابة فهو للحاجة إليها، ولهذا لو أزيل السرير من تحته لسقط أما الرب عز وجل فان استواءه على عرشه لظهور عظمته عز وجل، وتمام ملكه، وليس لأنه محتاج إلى العرش، بل إن العرش وغيره في حاجة إلى الله عز وجل في إيجاده وإمداده. فلا يمكن أن نقول: إن استواء الله على العرش للحاجة إليه. ولا نقول: إن استواء الله على العرش يقتضي أن يكون الله جسما أو ليس بجسم؛ لأن مسألة الجسيمية لم ترد في القرآن ولا في السنة إثباتا ولا نفيا، ولكن نقول بالنسبة للفظ لا ننفي ولا نثبت، فلا نقول جسم ولا غير جسم. لكن بالنسبة للمعنى نستفصل ونقول للقائل: ماذا تعني بالجسم؟ هل تعني انه الشيء القائم بنفسه، المتصف بما يليق به، الفاعل بالاختبار، القابض، الباسط؟ إن أردت هذا فهو حق ومعنى صحيح، فالله تعالى قائم بنفسه، فعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 لما يريد، متصف بالصفات اللائقة به، يأخذ ويقبض ويبسط، ويقبض السماوات بيمينه ويهزها. وإن أردت بالجسم الشيء الذي يفتقر بعضه إلى بعض، ولا يتم ألا بتمام أجزائه، فهذا ممتنع على الله؛ لأن هذا المعنى يستلزم الحدوث والتركيب، وهذا شيء ممتنع على الله عز وجل. والمهم أننا نقول: إن من أهل القبلة من أجرى النصوص على ظاهرها اللائق بالله عز وجل دون أن يتعرض لشيء، وهؤلاء هم السلف، وطريقة السلف على هذا الوجه اسلم وأعلم وأحكم: فهي اسلم لأنهم لم يتعرضوا لشيء وراء النصوص. وأعلم لأنهم أخذوا عقيدتهم عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأحكم لأنهم سلكوا الطريق الواجب سلوكها، وهو إجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله عز وجل. ومن هم هؤلاء السلف؟ هم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ كالإمام احمد بن حنبل، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم من أئمة المسلمين. وهل يمكن أن تكون السلفية في وقتنا الحاضر؟ نعم يمكن ونقول: هي سلفية عقيدة، وإن لم تكن سلفية زمنا؛ لأن السلف سبقوا زمنا، لكن سلفية هؤلاء سلفية عقيدة، بل عقيدة وعمل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الواقع، وهم بالنسبة لمن بعدهم سلف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في زيارة المقابر: ((أنتم سلفنا ونحن بالأثر)) (1) القسم الثاني: من اجروا النصوص على ظاهرها، وقالوا: النصوص على ظاهرها لكنها من جنس صفات المخلوقين، فقالوا: إن لله يدا كأيدينا، ووجها كوجوهنا. وهؤلاء هم الممثلة، وهم بلا شك ضالون، لم يقدروا الله حق قدره، ولو قدروا الله حق قدره ما جعلوا صفاته كصفات خلقه. وهم أيضا متناقضون، لأنهم لم يجعلوا الذات الإلهية كالذات المخلوقة، ومعلوم أن الصفات فرع عن الذات، فإذا كانت الذات لا تماثل ذوات المخلوقين، فالصفات أيضا لا تماثل صفات المخلوقين؛ لان صفة كل ذات تناسبها. أرأيت رجل البعير ورجل الذرة هل يتماثلان؟ الجواب: لا يتماثلان، بل بينهما فرق عظيم جدا. فإذا قال قائل: عندي رجل جمل، وقال الثاني: عندي رجل ذرة، هل يفهم أحد من الناس أن الذي عند الثاني كالذي عند الأول؟ فالجواب: لا؛ لان ذات الجمل ليست كذات الذرة، إذا صفات الجمل ليست كصفات الذرة. وأيضا قوة الفيل وقوة الذرة، كلاهما قوة، ولكنهما غير متماثلين؛ لان قوة الذرة صغيرة تعجز عن شيء يسير، أما الفيل فقوته تساعده على حمل الأشياء العظيمة.   (1) رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يقوم الرجل إذا دخل المقابر، رقم (1053) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فإذا قال الله عن نفسه عز وجل:) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: الآية 64) (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (صّ: 75) فلا يمكن لعاقل أبدا أن يعتقد أو يتصور أن يد الله عز وجل كيد المخلوق. وكيف يمكن ذلك والله عز وجل يقول:) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: 67) ويقول تعالى:) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104) . فالإنسان الكاتب يطوي الكتاب بسهولة، لكن هل يمكن للبشر كلهم أن يطووا واحدة من السماوات؟ لا يمكن أبدا. إذا هؤلاء الممثلة ضالون لم يقدروا الله حق قدره. وهل هم كافرون بذلك؟ نعم كافرون لان الله عز وجل يقول:) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11)) فإذا قال قائل: بل مثله شيء فقد كذب الخبر، وتكذيب خبر الله كفر، ولهذا قال نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله - شيخ البخاري: ((من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها)) (1) ، فإذا هؤلاء ضالون وكفار أيضا. ومن هذا ما ينشر في الأفلام الكرتونية حيث إنهم يشبهون الله عز وجل بشيخ رهيب، مزعج المنظر، ذي لحية طويلة، عملاق، فوق السحاب، يسخر الرياح ويعمل ما يريد، والحقيقة أني اشهد الله أن هذا نشر للكفر الصريح، لان الصبي إذا شاهد مثل هذا وفي أول تمييزه، سوف ينطبع في   (1) انظر مجموع الفتاوى 5/110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 نفسه إلى أن يموت ألا ما شاء الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (1) . ولهذا أقول: إن الذين يعرضون هذه الأشياء لصبيان المسلمين، سوف يحاسبون عند الله حسابا عسيرا يوم القيامة؛ لأنهم يريدون - شاءوا أم أبوا - أن يضل الناس بهذا ضلالا مبينا. وعلينا جميعا إذا كانت الأفلام على هذا الوجه أن نحذر منها أهل البيوت؛ حتى لا يقعوا في هذا الشر المستطير الذي هو أعظم من شر الأغاني وغيرها؛ لان كون الإنسان يمثل الله عز وجل بهذه الصورة البشعة لا شك انه من أعظم المنكر والعياذ بالله. وأقول: انظر إلى أعداء الله كيف يريدون أن يهينوا رب العزة والجلال بهذه الأشياء التي تسري على الناس سريان النار في الفحم من غير أن يشعر بها، وسريان السم في الجسد من غير أن يشعر به. والواجب علينا نحن المسلمين ولا سيما في بلادنا هذه أن نكون حذرين يقظين؛ لان بلادنا هذه مغزوة في العقيدة وفي الأخلاق، وفي الأعمال، ومن كل وجه. ولا تظن أن الغزو أن يقبل العدو بجحافله ودباباته وصواريخه ليهدم الديار ويقتل الناس فحسب، بل الغزو هو هذا الغزو المشكل الذي يدخل الناس من حيث لا يشعرون، والإنسان بشر مدني متكيف، ينفر من الشيء أول ما يسمعه، ولكن بعد مدة يرتاح إليه ويألفه، ويكون كأنه أمر عادي،   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا اسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ ، ... رقم (1358) ، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود على الفطرة وحكم موت ... ، رقم (2658) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 حتى الأمراض التي في الجسم، أول ما يدخل فيروس المرض ينفر منه الجسم ويتأثر ويسخن، لكنه ربما يتحمله بعد ذلك. وعلى كل حال فأنا أود من طلبة العلم، أن يؤدوا ما عليهم من مسؤولية، بأن يحذروا الناس من هذه الأفلام، مادامت تعرض مثل هذه الأمور التي لا يشك مؤمن بالله عز وجل أن عرضها قيادة للأطفال إلى الكفر بالله عز وجل، وإهانة الله سبحانه وتعالى. ونحن أهل الجزيرة علينا مسؤولية عظيمة ليست على بقية الناس، فمن هنا ظهر الإسلام وإليه يعود، في هذه الجزيرة، قال رسول البرية عليه الصلاة والسلام في مرض موته: ((اخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) (1) وقال: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع ألا مسلما)) (2) ، وقال: ((أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)) (3) . وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا بإخراج أجسادهم، فإنه يأمرنا أمراً أولوياً بإخراج أفكارهم وأخلاقهم التي يبثونها بين الناس ليضلوا عباد الله عز وجل، ولو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمامنا الآن يقول في   (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشف إلى أهل الذمة ... ، رقم (3053) ، ومسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس عنده شيء يوصي به، رقم (1637) . (2) رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، رقم (1767) . (3) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة..، رقم (3053) بفظ المشركين بدلا من اليهود والنصارى، ومسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس عنده شيء، ... ، رقم (1637) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مرض موته وهو على فراش الموت: ((اخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) هل لأنهم أجسام بشر مثلنا؟ !! لا. بل لأنهم يبثون شركهم وشرورهم بيننا، فهذه الجزيرة لها شان عظيم وميزان كبير في نظر الشرع باعتبار حماية الدين الإسلامي، فأنا اجعلها أمانة في أعناق طلبة العلم أن يحرصوا غاية الحرص على التحذير من هذه الأفلام. وهذه كلمة مهمة جداً، لكنها معترضة بالنسبة لموضوعنا، وسببها الاستطراد في مسألة المماثلة، وأن من مثل الله بخلقه فهو كافر. وعلى كل حال فقد أشترك هذان القسمان في إجراء النصوص على ظاهرها، وافترقا في أن السلف أجروها على اللائق بالله عز وجل، وهؤلاء أجروها على وجه التمثيل بالمخلوقات، وهذا فرق عظيم. القسم الثالث: من أجروا النصوص على خلاف ظاهرها إلى معان ابتكروها بعقولهم، وهؤلاء الذين يدعون أنهم العلماء والحكماء، ويقولون: طريقة السلف طريقة الذين يقرأون الكتاب أماني ولا يعرفون، أما نحن أهل العلم والحكمة، ولهذا قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، وقد ذكرنا في كتاب تلخيص الحموية بيان بطلان هذا القول. (1) هؤلاء الذين يجرون النصوص على خلاف الظاهر إلى معان عينوها بعقولهم، فقالوا: ((استوى على العرش)) أي استولى على العرش، ((يد الله)) : أي قوته أو نعمته، ((وجه الله)) : ثوابه، ((محبة الله)) : ثوابه، ((غضب   (1) فتح رب البرية بتلخيص الحموية ص5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الله)) : انتقامه، وهكذا قالوا لزعمهم: إن المعنى الظاهر ممتنع على الله عز وجل، ثم قالوا: إذا كان ممتنعا فلنا عقول نتصرف فيها. ونرد عليهم فنقول وبكل سهولة: إذا كان الأمر كما قلتم فلماذا يتحدث الله عن نفسه بعبارات غير مقصودة، ويجعل الأمر موكولا إلى عقولنا؟ . فالصواب انه ليس إلى العقل بل إلى الهوى المختلف الذي يقول فيه فلان: هذا واجب، ويقول فلان الثاني: هذا ممتنع على الله، والثالث يقول: هذا جائز. فلماذا يجعل الله عز وجل الحديث عن صفاته بكلمات لا يراد بها ظاهرها؟! وهل هذا إلا تعمية، وخلاف البيان الذي قال الله تعالى فيه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء: الآية 176) ؟ وقال:) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (النساء: الآية 26) ؟ ولماذا يجعل الأمر موكولا إلى ما تقتضيه عقولنا التي هي ليست عقلا في الواقع بل هي وهم؟! قالوا: لأجل أن يزيد ثوابنا بتحويل النص إلى معناه، لأنك إذا أخذت النص على ظاهره لم تتكلف، لكن إذا صرفته عن ظاهره يحتاج إلى دليل من اللغة وشواهد وجهد كبير حتى تصل إلى المعنى المراد، فهذه التعمية الواردة في أعظم الأخبار المقصود بها كثرة الثواب. يا سبحان الله العظيم، أيضيع الله أصلا عظيما في التحدث عن نفسه من أجل أن يزيد ثوابنا بالتعب! ثم إن التعب الذي يأتي لغير سبب لا يثاب عليه الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ولو قال قائل مثلا: الناس الآن يحجون على الطائرة وعلى السيارة، وأنا سأحج على حمار أعرج، أركبه تارة وأسوقه تارة حتى أصل إلى مكة لان هذا فيه تعب عظيم وأجر كبير فهل يؤجر الإنسان على هذا؟ الجواب: لا يؤجر؛ لان هذا تعب حصل باختياره هو، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس، أمره أن يدخل في الظل، ونهاه (1) عن تعذيب نفسه، والله عز وجل يقول:) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) (النساء: 147) . فالحاصل أن هؤلاء لا شك أنهم مخطئون ضالون، مرتكبون لضلالين يتضمن كل ضلال منهما القول على الله بلا علم. فقولهم: إن الله لم يرد كذا، هذا قول على الله بلا علم، إذ كيف لم يرد وهو ظاهر لفظه. وقولهم: أراد كذا، هذا أيضا قول على الله بلا علم؛ لأنه إذا انتفت إرادة الظاهر بقي ما يخالف الظاهر قابلا للاحتمالات الكثيرة؛ إذ ليس هناك ما يجعل هذا الاحتمال المعين هو المراد دون غيره من الاحتمالات. ولهذا نقول إن هؤلاء ضالون. القسم الرابع: قالوا: نسكت ونفوض، ولا نقول معناها كذا ولا كذا، نقرأ القرآن والحديث وكأنما نقرأ لغة لا نعرفها، كأننا عرب نقرأ باللغة الإنجليزية ولم نعرف اللغة الإنجليزية، أو كأننا عامة لا يعلمون الكتاب ألا أماني. وهؤلاء يقولون: كل نصوص الصفات غير معلومة المعنى. فإذا قلت   (1) رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، رقم (6704) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 لأحدهم: ما تقول بارك الله فيك وهداك إلى الصواب في قوله تعالى:) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ؟ وقوله تعالى:) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: من الآية 64) ؟ وقوله تعالى:) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) (الرحمن: الآية 27) . قال: الله اعلم. فسبحان الله!! نعم كل شيء الله اعلم به، لكنه عز وجل أنزل علينا كتابا مبينا) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ: 29) ،) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: الآية 89) فأي فائدة لنا في قران لا نعرف معناه؟! وهل يمكن أن نمتثل أمر الله، وأن نعظم الله عز وجل، وأن ننفي عنه النقائص ونحن لا نعلم ما أراد بكلامه؟! والجواب: لا، لا يمكن. وإذا كنتم انتم معنا تقولون: إن آيات الأحكام وأحاديث الأحكام معلومة المعنى، حيث يعرف الناس معنى الصلاة والزكاة والصيام والحج، فلماذا لا تجعلون آيات الصفات معلومة المعنى لأنها تتعلق بذات الخالق عز وجل وهي أعظم من آيات الأحكام التي تتعلق بعمل المخلوق فهي أولى بالعلم؟! والمهم أن هؤلاء يسمون عند أهل السنة بالمفوضة. وهناك من العلماء من يقول: إن التفويض هو مذهب السلف، ويقول: إن أهل السنة قسمان: مؤولة ومفوضة وهذا واقع. ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول وصدق فيما قال: ((قول أهل التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد، وذكر تعليلات عظيمة قوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 في كتابه المعروف بدرء تعارض العقل والنقل، وذكر الأدلة على ذلك، وقال هذا الذي فتح علينا باب الفلاسفة (1) ، وهذا الذي جعل أهل التخييل ينكرون اليوم الآخر والجنة والنار، وقالوا: إذا كنتم لا تعلمون معاني هذه الصفات فنحن نعلمها، وإذا كنتم لا تعرفون ما يتعلق بالرب فنحن نعرف ما يتعلق بالرب؛ فقالوا: الرب كله ليس له أصل، وإنما هو تخويف من عباقرة من البشر من اجل أن يستقيم الناس على ما طلب منهم. وصدق شيخ الإسلام رحمه الله فيما قال: إذ كيف ينزل الله علينا كتابا، ورسوله عليه الصلاة والسلام يخبرنا بأخبار فيما يتعلق بذات الرب عز وجل وصفاته، ويقال: كل هذا ليس له معنى، ولا يجوز أن نتكلم في معناه؟ . هذا من أعظم ما يكون من الإلحاد والكفر، وفيه من الاستهانة بالقرآن الكريم والذم له ما لا يعلمه ألا من تأمل هذا القول الفاسد الباطل. القسم الخامس: قالوا: نحن لا نتكلم بل علينا أن نمسك. فيجوز أن يكون المراد بها الظاهر اللائق بالله ويجوز أن المراد بها الظاهر المماثل للمخلوقين ويجوز أن يكون المراد بها خلاف الظاهر ويجوز أن لا يكون المراد بها شيء، كل هذا ممكن وجائز، وما دامت الاحتمالات قائمة فالواجب الإمساك. والفرق بينهم وبين المفوضة أن المفوضة يقولون: لا نقول شيئا أبداً، وهؤلاء يقولون: يحتمل كذا، وكذا، وكذا، وكذا، ونكف عن القول لان   (1) انظر درء تعارض العقل والنقل 1/205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الاحتمالات كلها واردة، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال. والقسم السادس: قوم اعرضوا عن هذا كله وقالوا: لا نقول شيئا في صفات الله، نحن نقرأ القرآن ونتعبد الله بقراءته ولا، تعرض لمعناه فيما يتعلق بالصفات إطلاقا، فهم لا يقولون بقول أحد الأقسام الخمسة السابقة، بل يسكتون ولا يقدرونها بقلوبهم ولا ينطقون بها بألسنتهم، بل يسكتون عن هذا كله. وهؤلاء غير سالمين بل واقعون في الخطأ، فالقرآن تبيان لكل شيء، والقرآن يراد به لفظه ومعناه الدال عليه لفظه، ومن لم يقل بذلك فهو على ضلال، والقرآن نزل بألفاظه ومعانيه، لكن علينا أن نتأدب مع الله عز وجل ولا نتجاوز القرآن ولا نتجاوز الحديث. ولو أن أحدا أراد أن يتكلم عن صفة شخص ليس حاضرا، فلا يسوغ له أن يتكلم عن صفته وهو لا يعلم، فكيف يتكلم عن صفات الخالق أو يحكم بعقله على هذه الصفات العظيمة التي لا يمكنه أن يدركها بعقله أبداً؟! وغاية ما عندنا نحن أن ندرك المعنى، أما الحقيقة والكيفية فهذا شيء لا يمكن إدراكه، ولهذا يحرم على الإنسان أن يتخيل أو أن يتصور شيئا من صفات الله عز وجل، فلا يجوز أن تتصور أو تتخيل يد الله كيف هي مثلا، ولهذا سألني سائل ذات مرة فقال: ما تقول في أصابع الله؟ كم هي؟ أعوذ بالله. فقلت: هل أحد يسأل هذا السؤال؟! يا أخي اتق ربك، أنت لست ملزما بهذا، أثبت أن لله أصابع كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما كم فلا يمكن لك أن تتكلم بهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فوالله ما أنت بأحرص على العلم بالله من الصحابة رضي الله عنهم، والصحابة رضي الله عنهم لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام ((إن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع)) (1) . إلى آخر الحديث، ما قالوا: يا رسول الله هل لله أكثر من هذه الأصابع؛ لأنهم أكمل أدبا، وأشد تعظيما لله ممن أتى بعدهم، وإذا كنت صادقا في عبادة الله فلا تتجاوز ما أخبر الله به عن نفسه، كما انك لا تتجاوز ما شرعه الله لعباده، فلو أردت أن تصلي الظهر خمسا لقال لك الناس كلهم هذا خطأ، إذاً لا تتكلم فيما اخبر الله به عن نفسه، أو اخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ألا بمقدار ما بلغك فقط. وأنت إذا سلكت هذا - والله - تسلم من أمور كثيرة؛ تسلم من شبهات يوردها الشيطان على قلبك، ومن شبهات يوردها عليك غيرك، ولما قيل للإمام مالك: يا أبا عبد الله:) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) كيف استوى؟ أطرق حتى علاه العرق من شدة هذا السؤال وعظمته - لان هذا السؤال منكر - ثم قال: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)) فانظر كلام السلف رحمهم الله كيف أن كل إنسان يسال عما لم يسأل عنه السلف - الصحابة رضي الله عنهم خاصة - فهو مبتدع. وكذلك قول القائل: إنه ثبت أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ونحن نشاهد أن الثلث يدور على الأرض إذا الله ينزل كل الليل. أعوذ بالله فمن قال هذا؟! قف يا أخي حيث جاءت   (1) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: ((وما قدروا الله حق قدره)) ، رقم (4811) ، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، بدون ذكر الباب، رقم (2786) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 النصوص وتسلم من هذا التقدير، اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وتسلم من هذا التقدير، فلو طلع الفجر هنا في المملكة وهو ثلث الليل في المغرب. فيكون النزول بالنسبة لنا انتهى وبالنسبة لهؤلاء الذين عندهم الثلث الأخير موجود. نحن في الثلث وأهل المشرق قد طلع عليهم الفجر، فالنزول بالنسبة لأهل المشرق انتهى، وبالنسبة لنا بدأ، ولا تتعدى هذا يا أخي، ولست ملزما بهذه التقديرات أبدا. والله لو كان خيرا لسبقنا إليه الصحابة رضي الله عنهم، فالصحابة أحرص منا على الخير. فإذا قال قائل: ربما لم يكن في قلوبهم هذا التقدير لأنهم ما عرفوا عن كروية الأرض على وجه مفصل، ولا عرفوا أن الشمس تغرب مثلا عن أهل المدينة قبل أن تغرب عن أهل المغرب فلهذا لم يسألوا؟ . فنقول: لو كان هذا من شرع الله لقيض الله له من يسال حتى يتبين؛ ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أيام الدجال، فيها يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، انطق الله الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم واحدة؟ قال: لا، اقدروا له قدره (1) . فلا تظن أبداً أن شيئا يلزمنا في ديننا يمكن أن يغفل إطلاقا، لو لم يتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء فسوف يقيض الله له من يسال عنه لان الله يقول:) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) (المائدة: الآية 3) . لما انقسم أهل القبلة - يعني الذين ينتسبون إلى الإسلام - هذه الانقسامات صار الناس يؤلفون الكتب المبنية على الجدل والنزاع والخصومات التي لا   (1) 12- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته ... ، رقم (2937) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 نهاية لها، وإذا طالعت كتب هؤلاء خصوصا أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم أهل التأويل، عجبت من التقديرات التي يقدرونها ويفصلون فيها ويجادلون فيها، في أمر لا يمكنهم إدراكه بالنسبة لما يتعلق بصفات الله عز وجل، وجعلوا الحكم راجعا إلى ما تقتضيه عقولهم لا إلى ما يقتضيه الكتاب والسنة، فضلوا في ذلك ضلالا بيناً، وصاروا يتخبطون خبط عشواء، لا يعرفون من الحق شيئا. ولقد ألف أهل السنة - الذين سلكوا مسلك السلف - كتبا كثيرة في العقيدة، مختصرة ومطولة ومتوسطة، ومن جملة ما ألف، هذه المنظومة التي نظمها السفاريني رحمه الله على مذهب أهل السنة والجماعة، على أن فيها بعض الأشياء التي تحتاج إلى بيان، وسنبينه بحسب موضعه إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 1- الحمد لله القديم الباقي ... مقدر الآجال والأرزاق   الشرح قوله: (الحمد لله) : يقول العلماء رحمهم الله: الحمد هو وصف المحمود بالكمال على وجه المحبة والتعظيم، فإن كرر الوصف صار ثناء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله تبارك وتعالى يقول: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي)) (1) . فنفسر الحمد بأنه: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم. وقوله: (الحمد) ((أل)) هنا قالوا: إنها للاستغراق، يعني جميع المحامد ثابتة لله، واللام في قوله: ((لله)) قالوا: إنها للاستحقاق، أو للاختصاص، وإن شئنا قلنا: إنها للاستحقاق وللاختصاص؛ للاستحقاق لان الله تعالى مستحق للحمد، وللاختصاص لان المحامد كلها لا تكون ألا لله وحده فقط. وقوله: (لله) : الله، علم على الرب سبحانه وتعالى، رب العالمين، وهو علم مختص به لا يمكن أن يكون لغيره، وهذا العلم يكون دائما متبوعا لا تابعا، بمعنى انه هو الذي يتبع بالأسماء وليس بتابع؛ فمثلا قال الله تعالى:) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) قال: ((لله)) ، ثم قال ((رب العالمين)) ، ولم يقل ((الحمد لرب العالمين الله)) وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ولم   (1) رواه مسلم، كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... ، رقم (395) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يقل: بسم الرحمن الرحيم الله، فدائما هو الذي تتبعه الأسماء وتلحق به. وقوله (القديم) القديم يعني السابق لغيره، فهو بمعنى الأول فقد قال الله تعالى:) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد: 3) ولكن هذا الاسم بهذا اللفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، وإذا لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة فليس لنا أن نسمي الله به، لأننا إذا سمينا الله بما لم يسم به نفسه فقد قفونا ما ليس لنا به علم، وقلنا على الله ما لا نعلم، والله تعالى قد حرم ذلك فقال:) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) . وقال تعالى:) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36) . وإذا سمينا الله بما لم يسم به نفسه فذلك جناية وعدوان، أرأيت لو أن شخصا سماك بغير اسمك ألا تعتبر ذلك جناية عليك؟ كذلك إذا سميت الله عز وجل بما لم يسم به نفسه فهذه جناية وعدوان في حق الخالق عز وجل، فلا يحل لك ذلك، وإذا نظرنا في القرآن والسنة فلن نجد انه جاء من أسماء الله. إذا: لا يجوز أن نسمي الله به أولا: لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة. وثانيا: لأن القديم ليس من الأسماء الحسنى، والله عز وجل يقول (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الأعراف: 180) فالقديم ليس من الأسماء الحسنى لأنه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يدل على الكمال، فإن القديم يطلق على السابق لغيره سواء كان حادث أم أزليا، قال الله تعالى:) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّس: 39) ، والعرجون القديم هو عذق النخلة الذي يلتوي إذا تقدم به العهد، ولا شك أنه حادث وليس أزليا، والحدوث نقص، وأسماء الله تعالى كلها حسنى لا تحتمل النقص بأي وجه. فتبين بذلك أن تسمية الله بالقديم لا تجوز بدليل عقلي وبدليل سمعي؛ الدليل السمعي قول الله تعالى) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) ، وقوله تعالى:) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36) أما الدليل العقلي فهو أن القديم ليس من الأسماء الحسنى لأنه يتضمن نقصا، حيث إن القديم قد يراد به الشيء الحادث، ومعلوم أن الحدوث نقص، فلو قال المؤلف رحمه الله بدل القديم: الحمد لله العليم أو العظيم أو الكريم أو ما أشبه ذلك من الأسماء التي أثبتها الله لنفسه لكان أولى. والأفضل من القديم: الأول، وذلك للأسباب الآتية: الأول: لان الله تسمى به وهو اعلم بأسمائه. والثاني: انه يدل على أن الله قبل كل شيء، وأنه أزلي. والثالث: أن الأول قد يكون له معنى آخر غير السبق في الزمن، وهو المآل، فالأول يعني الذي تؤول إليه الأشياء، فيكون مأخوذا من الأول بمعنى الرجوع؛ لان مرجع كل شيء إلى الله، فيكون أوسع دلالة من القديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إذاً تسمية الله بالقديم مما يؤخذ على المؤلف رحمه الله. وقوله: (الباقي) يعني الذي يبقى بعد كل شيء، فهو بمعنى الآخر، أي الذي ليس بعده شيء، والآخر من أسماء الله، قال الله تعالى:) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ عَلِيمٌ) (الحديد: 3) فكأن المؤلف رحمه الله أتى بالقديم بإزاء الأول وأتى بالباقي بإزاء الآخر، ولكن في هذا نظر، فلم يرد من أسماء الله عز وجل أنه الباقي، وإنما جاء) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) . والصفة لا يشتق منها اسم، وقد ذكرنا في كتابنا ((القواعد المثلى)) أن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة يشتق منها اسم (1) . فإذا قال الله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) فلا يعني ذلك انه يجوز أن نسمي الله بالباقي. فالصواب أن يجعل بدل هذين الاسمين الأول والآخر كما ثبت ذلك في القرآن والسنة. وقوله: (مقدر الآجال والأرزاق) مقدر: أي جاعلها على قدر معلوم، والآجال: جمع أجل، وهو منتهى الشيء وغايته، ومنه عمر الإنسان، فإنه مقدر عند الله عز وجل بأجل معلوم؛ لا يتقدم ولا يتأخر، وكذلك ما يحدث من الحوادث فهي مقدرة بأجل معلوم لا تتقدم ولا تتأخر. والأرزاق جمع رزق: وهو العطاء، والله سبحانه وتعالى هو مقدر الأرزاق؛ يقسمها بين عباده حسب ما تقتضيه حكمته، وقد جاء في   (1) انظر القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الحديث: ((إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى، وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر)) (1) والله عز وجل يرزق من يشاء، لكن حسب حكمته ورحمته، فقد يبتلي الله الإنسان بالفقر ليعلم أيصبر أم يجزع، وقد يبتلي الله الإنسان بالغنى ليعلم أيشكر أم يكفر، والله تعالى يقدر الأرزاق كلها. فإذا قال قائل: إذا كان الله مقدر الآجال والأرزاق فهل يسوغ لنا أن لا نفعل ما يكون به الرزق؟ فالجواب.: انه لا يسوغ؛ لان الله تعالى إذا قدر شيئا فإنه يقدره بأسبابه، فإذا قدر الرزق لشخص فإنه يقدره لأسباب يقوم بها الشخص، وقد يكون لأسباب لا يقوم بها الشخص، كما لو مات للإنسان ميت فورثه فهذا ليس من فعله، لكن على كل حال تقدير الله تعالى للأشياء لا يستلزم ولا يسوغ أن ندع الأسباب النافعة.   (1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد 6/504، وابن الجوزي في العلل المتناهية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ثم قال المؤلف رحمه الله: 2- حي عليم قادر موجود ... قامت به الأشياء والوجود   الشرح قوله: (حي) : الحي من أسماء الله، قال الله تعالى:) اللَّهُ لا إِلَهَ ألا هُوَ الْحَيُّ) (البقرة: الآية 255) فالله سبحانه وتعالى هو الحي ذو الحياة الكاملة، التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، أي الحياة الكاملة بجميع صفات الكمال. وقوله: (عليم) العليم: أي ذو علم: والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه، وعلم الله سبحانه وتعالى شامل لكل شيء) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: 5) وقال تعالى:) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (قّ: الآية 16) أي ما تحدثه به نفسه، وإن لم يخرجه للناس، بل يعلم سبحانه وتعالى ما سيحدث فضلا عن الحادث. وقوله: (قادر) القدرة صفة يتمكن بها الفعال من الفعل بلا عجز، فالله عز وجل قادر بقدرة هي وصفه، فهو يفعل عز وجل دون أن يعجز. والقوة: صفة يتمكن الفاعل بها من الفعل بلا ضعف. واضرب مثلا يتبين به الفرق: إذا قيل لشخص: ارفع هذا الحجر فإذا زحزحه وعجز عن رفعه، نقول انه غير قادر، وإذا حمله لكن بمشقة شديدة، نقول: قادر ولكنه ليس بقوي، وإذا حمله بسهولة نقول: انه قوي. وعلى هذا فالقوة أكمل من القدرة، كما أن القوة أيضا اشمل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 القدرة؛ لأنها - أي القوة - يوصف بها ذو الشهور وغيره، فيقال للإنسان قوي، وللحيوان قوي، وللحديد قوي، وللصخر قوي، أما القدرة فلا يوصف بها ألا ذو الشعور، ولهذا لا نقول للحديث انه قادر، ولا للصخر إنه قادر، لكن نقول إنه قوي. فالرب عز وجل قادر، قال الله تعالى:) وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة: الآية 120) وقدرته لا يستعصي عليها شيء، فهو قادر على كل شيء، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ما يتعلق به القدرة في كلام المؤلف رحمه الله. وقوله: (موجود) كلمة موجود في الحقيقة إنها مقحمة إقحاما لا وجه له؛ لأنه يغني عنها قوله: ((حي)) ؛ لان الحي موجود غير معدوم، وكلمة موجود ليست من الصفات الكاملة؛ لان الموجود قد يكون ناقصا وقد يكون كاملا، لكن يعتذر عن المؤلف رحمه الله بأنه أتى بها من باب الخبر لا من باب التسمية، ويصح أن نخبر عن الله بأنه موجود، لن لا نسميه بذلك، كما يصح أن نقول إنه متكلم ولكن لا نسميه بذلك؛ لان الكلام ليس صفة مدح على كل حال، قد يتكلم الإنسان بالسوء فيكون كلامه نقصا، لكن أقول انه يتسامح عن المؤلف بأنه قصد الخبر. وقوله: (قامت به الأشياء والوجود) قامت به - أي بالله عز وجل - الأشياء كلها؛ بل الوجود كله، ولولا الله عز وجل ما كان الوجود، ولا كانت الأشياء، ولولا الله عز وجل يمد هذه الأشياء والوجود بما تبقى به ما بقيت، فكل شيء قائم بالله عز وجل، لقوله تعالى:) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأمره) (الروم: الآية 25) فكل شيء من الأشياء والوجود قائم بالله عز وجل؛ فهو الذي أوجدها، وهو الذي أمدها حتى بقيت، وهو الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أعدها أي هيأها لما تكون صالحة له. وقيام الشيء بالله عز وجل يشمل ثلاثة أشياء: الإيجاد، والإمداد، والإعداد. أولاً: الإيجاد: فلولا الله عز وجل ما وجدت الأشياء، فهو الذي أوجد الأشياء عز وجل بقدرته وبحكمته، وهذه الأشياء الموجودة منها ما معلوم لنا، ومنها ما هو غير معلوم، فنحن لا نعلم ألا ما أعلمنا الله تعالى منها، ومع ذلك فما لم يعلمنا الله به أكثر مما أعلمنا عنه، قال الله تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الكهف: الآية 51) فنحن لا نعرف ألا السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي، لكن هناك مخلوقات من قبل لا ندري عنها؛ لان الله سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال فعال، والفاعل والفعل لابد أن ينتج عن مفعول، فإذا قلنا إن من صفاته الأزلية أنه فعال، لزم من ذلك أن يكون هناك مفعول، فكل الأشياء كائنة بالله تعالى. ثانياً: الإمداد فالله تعالى هو الذي أمدها حتى تبقى، أرأيت النبات ينبت في الأرض، فإذا منع الله المطر فني النبات، وإذا أنزل الله المطر بقي النبات وزاد! إذا فإمداد هذه الموجودات بما يبقيها وينميها من عند الله عز وجل. ثالثاً: الإعداد: ويعني تهيئتها لما هي صالحة له، فالإبل مثلا للركوب، قال تعالى:) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يّس: 71)) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) (يّس: 72) فالله أعدها وجعلها صالحة لما خلقت له، من حيث القوة والشكل واحدوداب الظهر حتى تقوى على التحمل، وإيجاد الشحم الكثير على ظهرها لئلا يرهقها الحمل، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 تنكسر العظام، أو يخل بها، إلى غير ذلك من الأشياء التي تكون مهيأة للشيء الذي أعدت له. فقيام الأشياء بالله عز وجل يكون من حيث الإيجاد والإمداد والإعداد، وكل هذا قائم بالله عز وجل. ودليل هذا قول الله تعالى:) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأمره) (الروم: الآية 25)) فلولا أمر الله عز وجل الكوني ما قامت السماوات والأرض، وصلاح الأرض والسماء بالقيام بأمر الله الشرعي أيضا، ولهذا تعد معصية الله من الإفساد في الأرض. ودليل آخر قوله تعالى:) اللَّهُ لا إِلَهَ ألا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم) (البقرة: الآية 255) لان معنى القيوم القائم بنفسه القائم على غيره. ودليل ثالث قوله تعالى:) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (الرعد: الآية 33) يعني: كمن ليس كذلك، ومعلوم أن القائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل، فصار الوجود كله قائما بالله تعالى إيجادا، وإمدادا، وإعدادا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ثم قال المؤلف رحمه الله: 3- دلت على وجوده الحوادث ... سبحانه فهو الحكيم الوارث   ي فائدة لنا في قران لانعرف معناه؟ ! وهل يمكن أن نتم الشرح أراد المؤلف رحمه الله أن يستدل على وجود الله عز وجل فاستدل بالحوادث على وجوده سبحانه وتعالى، يعني: أن حدوث الأشياء دليل على وجود الله عز وجل، وتقرير هذا الدليل أن نقول: كل حادث لا بد له من محدث، وإذا تتبعنا الأشياء وجدنا أنه لا محدث لهذا الحادث ألا الله عز وجل، ودليل هذا قوله تعالى:) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور: 35) الجواب: لا هذا ولا ذاك، يعني: لا هم خلقوا من غير خالق، ولا خلقوا أنفسهم، وحينئذ يتعين أن يكون لهم خالق. والذي خلقهم هو الله سبحانه وتعالى، لأنه لا أحد يستطيع أن يقول عن نفسه: أنا الذي خلقت، حتى الأب والأم لا يستطيعان أن يقولا خلقنا ما في بطن الأم. فلو قال الأب أنا الذي خلقت ابني وجعلت له عينين ولسانا وشفتين وأصابع يدين ورجلين، قال الناس له: كذبت ملء شدقيك. أين أنت من الجنين في بطن أمه؟ ! هل شققت البطن وجعلت تسوي هذا؟! هل نفخت فيه الروح؟ إذاً من يدعي ذلك كذاب، ولا يمكن أن يدعي ذلك أحد. ولو قال قائل: إن الذي خلقه فلان الولي العظيم الكبير. فأين هو هذا الولي؟ أليس في قبره؟! والحق أن قائل هذا كذاب ألف مرة، ولو ذهب إلى قبر هذا الذي زعم لوجده إما أن يكون قد أكلته الأرض، أو هو جثة لا يملك لنفسه شيئا. فكيف يملك لغيره؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 إذاً فالحوادث دليل على وجود الله لدليل سمعي ودليل عقلي. فالدليل السمعي: قوله تعالى:) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور: 35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور: 36) . والدليل العقلي: أن كل حادث لابد له من محدث، ولا محدث للحوادث ألا الله عز وجل. ولكن ينبغي أن نسأل: هل المؤلف رحمه الله أراد حصر الدليل على وجود الله عز وجل بهذه الطريق فقط؟ والجواب: لا. فإن كان أراد ذلك فلا شك أن هذا قصور، لان الأدلة على وجود الله عز وجل كثيرة؛ شرعية وعقلية وحسية وفطرية. فدلالة الفطرة على وجود الله أقوى من كل دليل لمن لم تجتاله الشياطين، ولهذا قال الله تعالى:) فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: من الآية 30) بعد قوله:) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (الروم: الآية 30) فالفطرة السليمة تشهد بوجود الله، ولا يمكن أن يعدل عن هذه الفطرة ألا من اجتالته الشياطين، ومن اجتالته الشياطين فقد وجد في حقه مانع قوي يمنع هذا الدليل. إذا فكل حادث لابد له من محدث، والحقيقة أن دلالة الحوادث على المحدث دلالة حسية عقلية، أما كونها حسية فلأنها مشاهدة بالحس، وأما كونها عقلية فلأن العقل يدل على أن كل حادث لابد له من محدث، ولهذا سئل أعرابي بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟ والجواب: بلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فهذا أعرابي استدل بعقله الفطري على أن هذه الحوادث العظيمة تدل على خالق عظيم عز وجل، هو السميع البصير. فالحوادث دليل على وجود المحدث، ثم كل حادث منها يدل على صفة مناسبة غير الوجود، فنزول المطر يدل بلا شك على وجود الخالق، ويدل على رحمته، وهذه الدلالة غير الدلالة على الوجود. وكذلك وجود الجدب والخوف والحروب تدل على وجود الخالق، وتدل على أمر ثان وهو غضب الله عز وجل وانتقامه، فكل حادث له دلالتان؛ دلالة كلية عامة تشترك فيها جميع الحوادث، وهي وجود الخالق، أي وجود المحدث، ودلالة خاصة في كل حادث بما يختص به؛ كدلالة الغيث على الرحمة ودلالة الجدب على الغضب، وهكذا. كذلك فإن هناك أدلة أخرى على وجود الخالق؛ فجميع الشرائع دالة على الخالق، وعلى كمال علمه، وحكمته، ورحمته؛ لان هذه الشرائع لابد لها من مشرع، والمشرع هو الله عز وجل. وأيضا فإن هناك دلالة أخرى وهي النوازل التي تنزل لسبب، فهي دالة على وجود الخالق؛ مثل دعاء الله عز وجل ثم استجابته للدعاء، فهو دليل على وجوده عز وجل، وهذه وإن كانت من باب دلالة الحادث على المحدث لكنها أخص، ولهذا لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يغيث الخلق قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) (1) . ثم نشأ السحاب وأمطر قبل أن ينزل من المنبر، وهذا يدل على وجود الخالق، وهذا أخص من دلالة العموم.   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة، ... ، رقم (1014) ، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ومن الدلائل رابعاً: الفطرة، فالفطرة السليمة تدل على وجود الخالق، وليست الفطرة التي فطر عليها الإنسان فقط، بل التي فطر عليها جميع الخلق، حتى البهائم العجم تعرف خالقها، قال الله تعالى: () تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ ألا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الاسراء: الآية 44)) ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) يعني ما من شيء ألا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، والمسبح لا يسبح ألا من يعرفه. إذا: فالأدلة على وجود الخالق عز وجل أربعة: الحوادث على سبيل العموم، والشرائع، والحوادث الخاصة التي تكون لسبب، والفطرة. ثم قال: (سبحانه فهو الحكيم الوارث) قوله: (سبحان) اسم مصدر سبح، والمصدر تسبيح، وأصل هذه المادة يدل على البعد، ومنه السبح في الماء لان السابح يذهب بعيدا، والمراد بتسبيح الله عز وجل تنزيهه المتضمن لبعده عن كل نقص، والنقص إما أن يكون في أصل الصفة، وإما أن يكون بمقارنتها بغيرها. ففي أصل الصفة نقول: هو حي، عليم، قادر، حكيم، عزيز، فكل صفاته ليس فيها نقص، فهو حي حياة لا نقص فيها، سميع سمعا لا نقص فيه، عليم علما لا نقص فيه، فلا نقول مثلا إن علمه عز وجل مسبوق بجهل، أو أنه يلحقه نسيان. والنقص باعتبار مقارنتها بغيرها: بأن ننزهه عن مماثلة المخلوقين؛ لان تمثيله بالمخلوقين يعتبر نقصا، فلا نقول مثلا إن وجه الله عز وجل كوجه المخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فصار - بذلك - النقص دائرا بين شيئين: الأول: نقص الصفة بذاتها فصفاته غير ناقصة. والثاني: نقصها باعتبار مقارنتها بصفة المخلوق، فإنه لا مقارنة بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فهو منزه عن النقص في صفاته، وعن النقص بمشابهته أو بمماثلته بالمخلوقين. ونحن نقول في كل صلاة: (سبحان ربي الأعلى) ، فهل نحن حينما نقول: (سبحان ربي الأعلى) نستحضر هذا المعنى أم نقول: (سبحان ربي الأعلى) باعتبار انه ذكر وثناء على الله؟ والجواب: أن الغالب على الناس عموما وخصوصا إنهم إذا قالوا: (سبحان ربي الأعلى) لا يشعرون ألا بالثناء على الله والتنزيه المطلق، ولا يستحضرون معنى: اللهم إني أنزهك يا ربي عن مماثلة المخلوقين، وعن كل نقص في صفاتك، فلا يشعر القائل بهذا المعنى ألا قليلا. وقوله: (فهو الحكيم الوارث) . الحكيم مأخوذ من الحكم والإحكام؛ فالإحكام الذي هو فعل الحكمة أو وصف الحكمة، والحكم الذي هو القضاء، فلله عز وجل الحكم، وحكمه كله إحكام: أي إتقان، والإتقان يعني الحكمة؛ لان الإتقان أن يوضع الشيء في موضعه على وجه لا خلل فيه، والله سبحانه وتعالى في أفعاله وأحكامه كذلك. قال العلماء - رحمهم الله -: والحكم حكمان: حكم كوني، وحكم شرعي. فمثال الحكم الكوني: قوله سبحانه وتعالى عن أحد إخوة يوسف (() فَلَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) (يوسف: الآية 80)) هذا حكم كوني وليس حكما شرعيا؛ لأنه من حيث الحكم الشرعي قد حكم الله له، فهذا حكم يتعين أن يكون حكما كونيا. ومثال الحكم الشرعي قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50) هذا حكم شرعي ولا يتضمن حكما كونيا. أما قوله تعالى: (له الحكم وإليه ترجعون) [القصص: 88] ) فهذا يشمل الكوني والشرعي، وكذلك قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين: 8) يشمل الحكم الكوني والحكم الشرعي. إذا أحكام الله عز وجل كونية وشرعية. فإذا قال قائل: نحن لا نشك في أن أحكام الله تعالى كونية وشرعية. لكن ما الفرق بينهما؟ فالجواب: أن الفرق بينهما من وجهين: أولا: الحكم الكوني واقع لا محالة وشامل لكل أحد. أما الحكم الشرعي فقد يقع وقد لا يقع، بمعنى أنه قد ينفذ وقد لا ينفذ، أما من حيث إن الله حكم به فهو واقع لا شك فيه. فالحرام حرام واقع، لكن هل ينفذ أو لا؟ قد ينفذ وقد لا ينفذ، وإذا قضى الله عز وجل بأن هذا واجب على العباد فقد يفعلونه وقد لا يفعلونه، لكن إذا حكم كونا بأن هذا واجب على العباد، أي: واقع عليهم فلابد أن يقع. ثانيا: الحكم الكوني يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه، فقد يحكم الله عز وجل بان يقع الكفر والشرك والزنا والفواحش، لكنه لا يرضاها شرعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أما الحكم الشرعي فلا يكون ألا فيما يرضاه الله عز وجل، إما أن يرضى وجوده وإما أن يرضى عدمه، فإن كان مأمورا به فقد رضي وجوده، وإن كان منهيا عنه فقد رضي عدمه. وقوله (الحكيم) سبق أن الحكيم بمعنى الحاكم وبمعنى المحكم، وكل أحكام الله سبحانه وتعالى الكونية والشرعية كلها محكمة مبنية على الحكمة، فما من حكم كوني حكم الله به ألا وهو مطابق للحكمة، وما من حكم شرعي حكم الله به ألا وهو مطابق للحكمة. والحكمة نوعان: غائية وصورية: أما الغائية: فهي بمعنى أن الشيء إنما كان لغاية حميدة. والصورية: بمعنى أن كون الشيء على هذه الصورة المعينة لحكمة، فإذا تدبرت الصلاة وكونها على هذا الوجه: قيام، ثم ركوع، ثم قيام، ثم سجود، ثم قعود، هذه صورية مطابقة للحكمة تماما. كذلك الغاية منها أيضا حكمة؛ فالغاية منها: الثواب والأجر عند الله عز وجل. وهكذا أيضا المخلوقات؛ فكون الشمس بهذا الحجم، وبهذه الحرارة وبهذا الارتفاع هذه صورية، هذا مناسب للحكمة تماما. ثم الثمرات الناتجة عن الشمس غائية. فالحاصل أن حكمة الله عز وجل تتعلق بالشيء من حيث صورته، ومن حيث غايته، وكل ذلك مطابق للحكمة. ولكن هل الحكمة معلومة للخلق؟ . والجواب: أن الحكمة قد تكون معلومة، وقد تكون غير معلومة، لكن كونها غير معلومة، وقد تكون غير معلومة، لكن كونها غير معلومة لا يعني إنها معدومة، بل إنها موجودة لكن لقصورنا أو تقصيرنا لم نصل إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 والأحكام الشرعية إذا لم يعلم العلماء حكمتها سموها بالأحكام التعبدية، ولهذا لو قال قائل: ما الحكمة في أن تكون صلاة الظهر أربعا دون ثمان؟ ، قلنا: الحكمة تعبدية ليس للعقل فيها مجال. فهم يقولون: إن علمت حكمة الحكم فهو حكم معقول المعنى، مع ما فيه من التعبد لله، وإن لم تعلم فهو حكم تعبدي ليس لنا أمامه ألا التعبد. وأيهما أقوى في التعبد: الامتثال لحكم التعبدي أو للحكم المعقول المعنى؟ الأول ابلغ في التذلل، فكونك تقبل الحكم وإن لم تعرف حكمته هذا أبلغ؛ لان كون الإنسان لا يقبل الحكم ألا إذا علم حكمته فيه نوع من الشرك، وهو عبادة الهوى، وأنه إذا وافق الشيء هواه وأدرك حكمته قبله واطمأن إليه ورضي به، وإن لم يكن صار عنده فيه تردد. والناظر إلى الناس اليوم يجد أن أكثرهم يطلبون العلة العقلية، حتى إن بعضهم إذا قلت له: قال الله ورسوله. يقول: وما الحكمة؟ فهلا علم هؤلاء أنهم مأمورون إن كانوا مؤمنين أن تكون الحكمة عندهم قول الله ورسوله، ولهذا لما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ((ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟)) فأجابت: ((كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)) (1) ، إذا هذه هي الحكمة التي نجيب بها على هذا السؤال، وبهذه الحكمة لا يمكن لأحد أن يتكلم بعد ذلك إن كان مؤمنا. لكن إذا ذهبنا نأتي بعلل معقولة، قد تكون مقصودة للشرع وقد لا تكون، أوردوا علينا وناقضونا؛ لان هؤلاء إنما يريدون الجدل، فكلما أتيت   (1) رواه مسلم، كتاب الحيض، باب وجود قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، رقم (335) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بعلة نقضوها، ولهذا نقول لكل من سال: ما الحكمة في هذا؟ نقول: الحكمة قول الله ورسوله إن كنت مؤمنا لان الله عز وجل يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمرهمْ) (الأحزاب: الآية 36) وبهذا نسد عليه الباب، فإن أراد أو حاول أن يجادل فإيمانه ضعيف لا شك؛ لان فرض المؤمن أن يقول: سمعنا وأطعنا. وخلاصة القول أن باب الحكمة باب عظيم، ينبغي للإنسان أن يعقله وأن يؤمن به إيمانا تاما، وأن يعلم أن أفعال الله مقرونة بالحكمة، خلافا لمن قال: إن أمره وفعله لغير حكمة بل لمجرد المشيئة، فإن في هذا من تنقص الله عز وجل ما هو معلوم. وقوله: (الوارث) هذا الاسم جاء في القرآن الكريم بصيغة الجمع وبالفعل؛ قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا) (مريم: الآية 40) وقال تعالى: (وكنا نحن الوارثين) (القصص: 40) ، فالوارث معناه: الذي يرث من قبله، ولا شك أن الله هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فإذا كان الآخر الذي ليس بعده شيء لزم أن يكون الوارث لكل شيء، فالله سبحانه وتعالى هو الوارث لكل شيء. كل من سواه فإن الله سبحانه وتعالى بعده، فهو الآخر الذي ليس بعده شيء. فالحاصل أن هذه الأبيات الثلاثة الأولى كلها ثناء على الله عز وجل، وقد اعتاد المصنفون رحمهم الله أن يبدأوا مصنفاتهم بالثناء على الله عز وجل، ثم بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم لان القصد الأول هو الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم دال على الطريق الموصل إلى الله، فكان حقه بعد حق الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 4- ثم الصلاة والسلام سرمدا ... على النبي المصطفى كنز الهدى   الشرح قوله: (ثم الصلاة والسلام سرمدا) ثم: أي بعد الثناء على الله أثنى بذكر حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بالصلاة والسلام عليه، وأعظم حقوق البشر حق النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أحق من الوالدين وأحق من الأقارب، بل وأحق من النفس ولهذا يجب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس، فيجب فداؤه بالنفس عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من الخلق يجب فداؤه بالنفس ألا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الخلق يجب تقديم محبته على النفس ألا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يؤمن الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يمكن أن يؤمن الإنسان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه حتى من نفسه. وقوله: (ثم الصلاة والسلام سرمدا) يعني أبداً. والصلاة تكلم العلماء رحمهم الله في معناها، ولكن أصح الأقوال فيها ما قاله أبو العالية الرياحي من أنها: ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى (1) ، فصلاة الله على رسوله يعني ثناءه عليه في الملا الأعلى، ومعنى ثنائه عليه في الملأ الأعلى أن الله تعالى يذكر أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الحميدة عند الملائكة ويثني عليه. وذهب بعض أهل العلم رحمهم الله إلى أن الصلاة هي الرحمة ولكن قولهم هذا ضعيف، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى ذكر الرحمة والصلاة في آية واحدة، فغاير بينهما، فقال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (البقرة: الآية 157) والعطف يقتضي المغايرة.   (1) رواه البخاري بصيغة الجزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ووجه آخر أن العلماء رحمهم الله اتفقوا على جواز الدعاء بالرحمة لأي شخص من المؤمنين، واختلفوا في جواز الصلاة، وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة، فالرحمة عامة، والصلاة أخص من مطلق الرحمة، والصحيح جوازها ما لم يتخذ شعارا لهذا الشخص المعين، فإن اتخذ شعارا لهذا الشخص المعين فهو ممنوع، لأنه خصه بخصيصة يفهم منها معنى فاسد. فالصلاة إذا ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، فإذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: اللهم صل على محمد، فالمعنى: اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى، فإن قلت ذلك مرة فإن الله يصلي عليك عشرا، يعني إذا سألت الله أن يثني على رسوله مرة واحدة أثنى الله عليك عشر مرات. وقوله: (والسلام) بمعنى السلام من كل آفة، والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم من كل آفة. فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فما معنى الدعاء له بالسلامة؟ فالجواب: أن دعاءنا له بالسلامة يشمل السلامة في الدنيا والسلامة في الآخرة. ففي الآخرة: إذا لم يسلم الله البشر هلكوا، ولهذا كان النبي يمرون على الصراط، وكان دعاء الأنبياء يومئذ: ((اللهم سلم اللهم سلم)) (1) . وفي الدنيا: ندعو أن الله يسلم الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك بان يسلمه من العدوان عليه، أي على جسده، أفليس قد ذكر في التاريخ أن رجلين أرادا أن يستلبا جسد النبي عليه الصلاة والسلام؟ إذا فنحن ندعو الله   (1) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل السجود، رقم (806) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أن يسلمه حتى في الدنيا أي يسلم جسده. ثم ربما يقال إن المسالة أوسع من ذلك، بأننا نسأل الله تعالى أن يسلمه في الدنيا أي يسلم شريعته من أن ينالها أحد بسوء؛ لان شريعة الإنسان لا شك أنه يذود عنها كما يذود عن نفسه، فالإنسان يذود عن مبدئه وعن شريعته وعن طريقه كما يذود عن نفسه، وما أكثر الذين يستميتون من اجل تحقيق دعوتهم. إذا: فالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في الدنيا والآخرة، ويكون بسلامته عليه الصلاة والسلام نفسه، وبسلامة شريعته. وقوله: (على النبي) : النبي: هل هو بالهمز وخفف أو بالياء التي أصلها الواو؟ قيل: إن أصله من النبوة، من نبا ينبو نبوا، وهو الارتفاع؛ لان نبا بمعنى ارتفع، ولا شك في ارتفاع رتبة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون النبي أصلها النبيو لكن اجتمعت الواو مع الياء وسبقتها الياء بالسكون فقلبت الواو ياء فصارت النبي. وقيل: إنه من النبأ بمعنى الخبر، لان النبي منبأ ومنبئ، ولكن سهلت الهمزة إلى ياء لكثرة الاستعمال، فأصلها النيئ، ثم سهل صارت النبي. والقاعدة: أنه إذا احتمل اللفظ معنيين لا يتنافيان حمل عليهما جميعا، فنقول هو مشتق من هذا ومن هذا؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم رفيع المنزلة، وهو أيضا منبئ ومنبأ. وقوله: (المصطفى) : يعني المختار، لأنه مأخوذ من الصفوة، وصفوة الشيء خياره، فهو صلى الله عليه وسلم مصطفى أي مختار على جميع الخلق، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل، والرسل أفضل الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 والدليل على أنه أفضل الرسل: أولا: أن الله تبارك وتعالى قال: () وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران: الآية 81) فالتزموا بذلك: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران: الآية 81) فهذه الآية نص صريح في أن محمدا صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء، وأنه يجب عليهم أتباعه؛ لان الذي جاء مصدقا لما معهم، هو الرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تبارك وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة: الآية 48) . ثانيا: أنه في ليلة المعراج، لما صلى الأنبياء كان إمامهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهو صفوة الصفوة عليه الصلاة والسلام، ولهذا نقول: المصطفى. فإذا قال قائل: أليس الله تعالى قد اتخذ إبراهيم خليلا، والخلة أعلى أنواع المحبة؟ فالجواب: بلى، لكنه قد اتخذ أيضا محمدا خليلا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا) (1) . فإن قال قائل: أليس الله تعالى قد كلم موسى تكليما؟ فالجواب: بلى، ولكنه أيضا كلم محمدا صلى الله عليه وسلم تكليما، فإذا كان الله قد كلم موسى وموسى في الأرض، فقد كلم سبحانه وتعالى محمداً ومحمد فوق السماوات السبع. فما من صفة كمال لنبي من الأنبياء ألا ولرسول الله   (1) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، رقم (532) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 صلى الله عليه وسلم مثلها أو خير منها، وما من آية لنبي ألا كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو لإتباعه، ومعلوم أن الكرامات للأتباع كالمعجزات للنبي المتبوع. وهناك كلمة يقولها من يزعمون أنهم يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقولون: محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله، وهذا نقص في جانب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لان الخلة أعلى من المحبة، ولهذا نقول إن الله يحب المحسنين والمتقين، ولا نقول أنه خليل للمحسنين والمتقين، ويحب الأنبياء، ولا نقول إنه خليل لهم ألا لمحمد وإبراهيم، ومن سواهم من الأنبياء لا نثبت لهم الخلة، بل نثبت لهم المحبة - بلا شك -، ونثبت المحبة للمؤمنين وللمحسنين وللمقسطين وما أشبه ذلك، لكن الخلة أعظم وأكمل. مسالة: هل المصطفى من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا، بل الظاهر أنه من أوصافه، والعجيب أن بعض الناس يكرر فيقول: قال المصطفى ... وقال المصطفى ... مع أن الصحابة رضي الله عنهم اشد منا تعظيما للرسول عليه الصلاة والسلام، وأعلم منا بمناقبه ولم يقولوا ذلك؛ فلم يقل أبو هريرة: قال المصطفى، ولا قاله أحد من الصحابة، وفي كل كتب الحديث يقول الصحابي: قال رسول الله، قال نبي الله، قال أبو القاسم، وما أشبه ذلك، لكن الناس في الوقت الحاضر ابتلوا بصياغة الألفاظ، ولم ينظروا إلى من سبقهم، والحقيقة أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى من سبق. ومثل ذلك ما يقوله بعض الناس الآن إذا أراد أن يقول: قال الله تعالى، يقول: قال الحق، وهذا قول الحق. ولا شك أن الله هو الحق المبين لكن يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أخي قل: قال الله. فالنبي عليه الصلاة والسلام - وهو لا شك أنه اعلم بالله منك، وأشد تعظيما لله منك - كان إذا أراد أن يتحدث عن الله عز وجل بالحديث القسي يقول: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك)) (1) . ولم يقل صلى الله عليه وسلم: قال الحق، ولكن بعض الناس يريد أن يجدد، والتجديد في مثل هذه الأمور لا ينبغي، وإتباع السلف في هذه الأمور أولى من التجديد. وقوله: (كنز الهدى) : يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الكنز، لكن ليس كنز الذهب والفضة، ولكنه كنز الهدى، أي: هدى الدلالة والإرشاد، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو العلم والمنار الذي يهتدي به، لكنه ليس كنز الهدى الذي بمعنى التوفيق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يهدي أحداً أبداً. ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يهدي أحداً لهدى عمه أبا طالب الذي أحسن إليه، ودافع عنه، وناضل عنه، وحماه. ومع ذلك كان يقول له عند موته: ((يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)) (2) ، ولكنه والعياذ بالله قد حقت عليه كلمة العذاب، فلم يقل هذا، وإنما كان آخر قوله: هو على ملة عبد المطلب، فأبى أن يقول لا إله ألا الله، ولكن من اجل أن هذا الرجل دافع عن الإسلام، وحمى النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، جازاه الله عز وجل بجزاء لم يكن لغيره من لكافرين، فأذن الله لنبيه أن يشفع فيه فشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أي في أبي طالب، فكان في ضحضاح من نار وعليه   (1) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985) . (2) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قصة أبي طالب، رقم (3884) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 نعلان من نار يغلي منهما دماغه، أعوذ بالله، وهو أهون أهل النار عذابا (1) ، إذا كان الدماغ يغلي وهو أبعد ما يكون عن النعلين، فما بالك بما تحته؟!. ولهذا نقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم (كنز الهدى) ، أي هدى العلم والدلالة دون التوفيق والعمل، فإنه لا يستطيع أن يهدي أحداً هداية توفيق وعمل، وإذا كان هذا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ففي حق غير الرسول من باب أولى، وبناء على ذلك فنحن لا نملك هداية الناس هداية توفيق، وإنما علينا أن نهديهم هداية دلالة وإرشاد، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك، فما أكثر ما قصرنا حتى في الدلالة والإرشاد، فنحن وظيفتنا أن ندل ونرشد ونبين وندعو ونأمر وننهي ونغير، وكل هذا بقدر الاستطاعة. فهنا بيان ودعوة وأمر وتغيير. وكثير من الناس يظنون أن معناها واحد، وليس كذلك: فالبيان: أن تبين بيانا عاما للناس. والدعوة: أن تقول افعلوا - يا أيها الناس - وتدعوهم، كالذي يدعو الغنم للشرب وما أشبه ذلك. والأمر: أن تقول يا فلان افعل كذا، فالأمر أخص من مجرد الدعوة، ثم بعد ذلك التغيير وهو أعلى شيء كما لو رأيت مثلا آلة لهو فلا تنهى وتقول: يا فلان لا تستعملها، بل تأخذها وتكسرها. وكل هذا والحمد لله منوط بالاستطاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)) (2)   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، رقم (212، 213) . (2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ... ، رقم (49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 5- وآله وصحبه الأبرار ... معادن التقوى مع الأسرار   الشرح قوله: (وآله وصحبه الأبرار) الآل تطلق على معان، وأصح ما تقول فيها: إنها إن قرنت بالإتباع فالمراد بها المؤمنون من قرابته، وذلك مثل أن نقول: وآله وأتباعه؛ وذلك لان العطف يقتضي المغايرة، وإذا ذكرت وحدها ولم تقرن بالإتباع، فالمراد بآله أتباعه على دينه، ويشمل المؤمنين من قرابته، وهذا هو أصح ما قيل في الآل. وعبارة المؤلف رحمه الله ليس فيها ذكر الأتباع، حيث قال: (وآله وصحبه) إذا نقول: المراد بآله هم أتباعه على دينه. وفي التشهد نقول: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) فالمراد بالآل هنا أتباعه على دينه، لأنه لم يذكر الأتباع، لكن إذا قلنا: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. صار المراد بالآل المؤمنين من قرابته، وقد قال الناظم: آل النبي هم أتباع ملته من الأعاجم والسودان والعرب لو لم يكن آله ألا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهب لان أبا لهب من قرابته، لكن الصواب أن الذين قالوا إن الآل هم القرابة لا شك أنهم يريدون المؤمنين من قرابته؛ لأنه لا يمكن أبداً لأي مؤمن أن يقول: إنني إذا قلت: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، أنني اقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أبا لهب، بل يجب علينا أن نتبرأ من أبي لهب ومن غيره من أقارب الرسول علي الصلاة والسلام ممن مات على الكفر. مسالة: هل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يعتبرون من آله؟ الجواب: الصحيح أنهن من آله. وقوله: (وصحبه) ، الصحب والأصحاب والصاحب - في اللغة العربية - تدل على المرافق الملازم، ولهذا نقول إن أصحاب النار هم أهلها الخالدون فيها، ولا يكون الإنسان صاحبا ألا بملازمة طويلة، ألا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مجرد الملاقاة مع الإيمان به تكون بها الصحبة؛ فالصحابي من اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك، حتى وإن لم يجتمع به ألا لحظة واحدة فهو صحابي. وقوله: (الأبرار) : جمع بر، وضدها الفجار، قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (المطففين: 7) وبعد ذلك قال: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (المطففين: 18) . فالأبرار جمع بر، وضده الفاجر، والبر في الأصل كثير الخير، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (الطور: 28) فالأبرار هم الذين أكثروا من الأعمال الصالحة. ولا نعلم أحداً من الخلق أكثر عملا في الصالحات من الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) ويجب علينا نحن خلف الأمة أن نعرف لهؤلاء   (1) رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا اشهد، رقم (2652) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة رضي الله عنهم، رقم (2533) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 السلف حقهم وقدرهم، وأن نحترمهم في أقوالهم وأفعالهم ما وجدنا لها مكانا في الاحترام. ومن المؤسف أن من الخلف اليوم ولا سيما بعض المدعين للاجتهاد، الذين يدعى أنهم مجتهدون على الإطلاق، وإنهم كالثريا بالنسبة للثرى مع العالم الآخر، من المؤسف أن هؤلاء عندما تقول لهم: قال فلان من الصحابة المعروفين بالفقه والعلم، يقول: هذا قول صحابي، ولا نوافق، وبهذه البساطة يتكلم بهذا الكلام، ويقول: قول صحابي ولا نعمل به. حتى إن بعضهم قال: إن الأذان الأول للجمعة بدعة لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه، فإذا قيل له: إنه سنة الخليفة الراشد الذي أمرنا بإتباعه، عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: وإن سنه، أنه ليس سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. وبهذا حكم على خليفة المسلمين الثالث، وعلى المسلمين عموما بالضلال، لأني لا اعلم إلى ساعتنا هذه أن أحداً من الصحابة أنكر على عثمان رضي الله عنه هذا الأذان، فيكون الصحابة رضي الله عنهم مجمعين على إقرار الضلالة، ويكون الخليفة الراشد ضالا؛ لان كل بدعة ضلالة. وهذا - والعياذ بالله - غرور بالنفس وزهو، ولا شك أن من ترافع إلى هذا الحد سوف يضعه الله، وان من تواضع لله رفعه الله، ويجب علينا أن نعرف لهؤلاء السلف حقهم ومنزلتهم عند الله، في العلم، وفي العبادة، صحح إذا قال أحدهم قولا مخالفا للكتاب والسنة - والإنسان غير معصوم - فلنا أن نرده لكن نرده مع الاعتذار عنهم، أما أن نرد بهذه الوقاحة في أمر اجتهادي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قد يكون الصواب مع الصحابة لا معك، هذا غلط. وحدثني بعض الأخوة أنه جاءهم رجل وقال لهم: إن التكبير: ((الله اكبر الله اكبر لا إله ألا الله، والله اكبر الله اكبر ولله الحمد)) ، هذا ليس بصحيح، ولا يقال، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأغفل أنه مروي عن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ خليفتان من خلفاء المسلمين، أن صفة التبكير: ((الله اكبر الله اكبر لا إله ألا الله، والله اكبر الله اكبر ولله الحمد)) ، وعن ابن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله عنهم التكبير ثلاث مرات، فكيف نقول: إن هذا لا يقال لأنه قول صحابي وليس فيه حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ثم إن قول الصحابي خير من قولك، وأنا لا أقول عين هذا القول، ولكن أقول لا تنكر هذا القول لان الإنكار يحتاج إلى دليل، وقول الصحابي إذا لم يخالف الدليل دليل، وهذا على قاعدة الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله، وعلى ظاهر الأدلة العامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) . فالمهم أنه ينبغي لنا أن نحذر من هؤلاء وطريقتهم، الذين لا يقيمون وزنا للسلف الصالح، ولا يحترمونهم، ويعدون القول منهم كقول السوقة من الناس اليوم، فإن الواجب أن نحترم أقوالهم، وإذا رأيناها مخالفة للدليل نطلب لهم العذر؛ ونقول لعله لم يبلغه، أو لعله تأول، والصحابة رضي الله   (1) تقدم تخريجه ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 عنهم لما علموا أن عثمان رضي الله عنه بإتمامه الصلاة في منى ليس على صواب، ما شنعوا عليه ولا انفصلوا عنه في الصلاة، بل أتموا الصلاة. ومن ذلك أنا رأينا في المسجد الحرام أقواما إذا صلوا خمس تسليمات انصرفوا، بحجة أن هذا الإمام مبتدع، وسبب ذلك عندهم قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة)) (1) . إذا فما زاد على ذلك فهو بدعة. وكأنه نسي أن الذي كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، قال حين سأله السائل عن صلاة الليل: ((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى واحدة)) (2) ولم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بعدد بل قال: إذا خشيت الصبح - ولو كنت مصليا مائتي ركعة -، فصل ركعة توتر لك ما صليت. ثم نسي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) (3) وهذا إمام شرعي مجعول في المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو غيره من المساجد. وكأنه نسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، رقم (1147) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل ... ، رقم (738) . (2) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، رقم (473) ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (749) . (3) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح ... ، رقم (378) ، ومسلم كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، رقم (411) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قيام ليلة)) (1) ولو كان نبينا عليه الصلاة والسلام قال: من زاد عن احدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فلا تصلوا خلفه، لكان انصراف هذا الرجل على حق، لكن أنى له ذلك؟! بل قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) . فأنا أحذر من هؤلاء وطريقتهم، وأقول: إنه يجب علينا أن نحترم أقوال سلفنا الصالح، ولكننا لا نعتقد عصمتهم، بل نقول: إن الخطأ جائز عليهم كما هو علينا أجوز، ولكن إذا رأينا خطأ بينا مخالفا للكتاب والسنة فإننا لا نقبله، ولكن نعتذر عمن علمنا حسن قصده. حتى من بعد الصحابة - رضي الله عنهم -، فهناك أئمة يخطئون، وهناك أتباع للأئمة لكنهم أئمة في مذاهبهم يخطئون، ولكن لا نتخذ من هذا الخطأ جفاء معهم ولا ينبغي الكلام عليهم بما لا ينبغي، بل إذا أخطئوا اعتذرنا عنهم، وقلنا: نحن لا نتبع ألا ما قام الدليل عليه، ولكن هؤلاء اخطئوا وربما يكون لهم عذر، ومن قرأ كتاب شيخ الإسلام رحمه الله رفع الملام عن الأئمة الإعلام، تبين له كيف يعامل الأئمة والعلماء - رحمهم الله -. أما أن نستعز بأنفسنا ويرى الواحد منا نفسه كأنه رسول يوحى إليه، فهذا خطأ عظيم. والغالب أن هؤلاء يحرمون بركة العلم، ولا أعني ببركة العلم ألا يكون عندهم علم واسع، بل قد يكون عندهم علم واسع، لكن يحرمون بركته؛ من خشية الإنسان لربه عز وجل وإنابته إليه، والحقيقة أن   (1) رواه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم (806) ، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان، رقم (1605) ، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم (1317) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 العلم إذا لم يثمر خشية الله عز وجل، والإنابة إليه، والتعلق به سبحانه وتعالى، واحترام المسلمين، فإنه علم فاقد البركة، بل قد يختم لمن سلك هذا الملك بخاتمة سيئة، مثلما علمنا أناسا علماء فطاحل، لكنهم - والعياذ بالله - ختم لهم بسوء الخاتمة لأنهم اعتزوا بأنفسهم، وفخروا بأنفسهم، وازدروا غيرهم، وهذا خطير جدا نسأل الله أن يعافينا وبقية إخواننا المسلمين من ذلك. وقوله: (معادن التقوى مع الأسرار) المعدن: أصل الشيء، ومنه المعادن الأرضية التي هي أصل هذه الجواهر النفيسة. وقوله: (التقوى) : أصلها وقوى مأخوذة من الوقاية، والتقوى: هي اتخاذ الإنسان وقاية من عذاب الله، بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وهذا هو اجمع ما قيل فيها. إذاً: فالتقوى اسم جامع لفعل الأوامر وترك النواهي، لكن أحيانا يقال: البر والتقوى، فإذا قيل البر والتقوى، صار البر فعل الطاعات والتقوى ترك المنهيات. وإلا فإن ذكرت التقوى وحدها شملت البر، وإن ذكر البر وحده شمل التقوى. وقوله: (مع الأسرار) : الأسرار جمع سر، والمراد به هنا الاطلاع على خفايا العلوم والمناهج. والمناهج يعني السبل والطرق والأخلاق التي يتخلقون بها، فلا أحد أعمق علما من الصحابة رضي الله عنهم، ولا أحد أقل تكلفا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك لو جمعت كل ما روي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الصحابة رضي الله عنهم في أبواب العلم لوجدته ينقص كثيرا عن مؤلف من مؤلفات علماء الكلام؛ الذي ليس فيه ألا حشو الكلام الذي لا منفعة فيه، بل فيه مضرة؛ أدناها إضاعة الوقت. وأنت تجد كلام الصحابة رضي الله عنهم سهلا واضحا سلسلا، ليس فيه تكلف ولا تشدد، بل كله مبني على السهولة، لما افطر الناس في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن تغرب الشمس - لأنها كانت غيما - ثم طلعت الشمس، قالوا: يا أمير المؤمنين إن الشمس قد طلعت، قال: ((الخطب سهل إننا لم نتجانف لإثم)) كلمات يسيرة واضحة سهلة بينت الحكم والحكمة، الخطب سهل لأننا لم نتجانف لإثم، إذا لا شيء علينا، وفي رواية أخرى قال: ((الخطب سهل نقضي يوما مكانه)) فيكون له في المسألة قولان. فعلم السلف رحمهم الله وخصوصا الصحابة رضي الله عنهم، وخصوصا الخلفاء الراشدين، تجده سهلا بينا واضحا، حتى النفس تلتذ له ولسماعه، فهذا هو المقصود بقول المؤلف رحمه الله (الأسرار) فالأسرار إذا جمع سر، والمراد بها خفايا العلوم والأخلاق التي تكون عند الصحابة رضي الله عنهم، بدون تكلف وبدون تعمق، بل بكل سهولة تجري على النفوس وعلى القلوب مجرى سهلا هيناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 6- وبعد فاعلم أن كل العلم ... كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي 7- لأنه العلم الذي لا ينبغي ... لعاقل لفهمه لم يبتغ   الشرح قوله: (وبعد فاعلم) بعد: أي بعد ما ذكر من الحمد والثناء على الله عز وجل، والصلاة والسلام على رسوله وآله، (فاعلم ... ) وبعدها مضمومة ضمة بناء؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوي معناه، وهذه الكلمات - بعد وأخواتها - يقول النحويون فيها إنها لا تخلو من أربع حالات: الحال الأولى: أن يحذف المضاف إليه وينوى معناه وحينئذ تبنى على الضم. الحال الثانية: أن يحذف المضاف إليه وينوى لفظه وحينئذ تعرب بالحركات غير منونة، فتجر في حال الجر؛ وتنصب في حال النصب، وما أمكن أن يرفع منها يرفع في حال الرفع لكن غير منون؛ لأنه قد نوى لفظ المضاف إليه، والكلمة إذا أضيفت لا تنون، كما قيل: كأني تنوين وأنت إضافة فأين تراني لا تحل مكاني الحال الثالثة: أن يذكر المضاف إليه فتعرب بالحركات حسب العوامل ولكن بغير تنوين. الحال الرابعة: أن يحذف المضاف إليه ولا ينوى لا لفظه ولا معناه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وحينئذ تعرب بالحركات منونة، قال الشاعر: فساغ لي الشراب وكنت قبلا أكاد أغص بالماء الفرات فقال: وكنت قبلا. وأكثر ما ترد هذه الكلمات مبنية على الضم؛ لان المضاف إليه يكون محذوفا وينوى معناه. إذا: (وبعد) هنا مبنية على الضم؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوى معناه. وقوله: (فاعلم) الفاء رابطة في جواب شرط مقدر، لان التقدير (وبعد) هو (وأما بعد) . (فاعلم أن كل العلم كالفرع للتوحيد) أمر المؤلف رحمه الله أن تعلم؛ لان المقام مقام ينبغي أن يهتم به، وهو أن يعلم الإنسان أن جميع العلوم كالفرع للتوحيد؛ كعلم الفقه والتفسير والحديث وغيرها كلها فرع لعلم التوحيد؛ لان التوحيد هو الأصل الذي ينبني عليه دين العبد، ولا يمكن أن يقوم دين ألا بتوحيد (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ ألا اللَّهُ) (محمد: الآية 19) . وقول المؤلف رحمه الله: (كالفرع للتوحيد) يعني بأقسامه الثالثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فكل العلوم بل والأعمال أيضا، مدارها على التوحيد، فالتوحيد هو الأصل وما سواه فهو فرع. وقوله: (فاسمع نظمي) أمر بان تعلم وان تسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 (نظمي) أي منظومي الذي سأنظمه وأقوله؛ لان ما سينظمه رحمه الله في علم التوحيد، ولهذا أمر بان تسمع إليه سماع انتفاع. ثم علل كون العلوم كالفرع للتوحيد بقوله: لأنه العلم الذي لا ينبغي لعاقل لفهمه لم يبتغ قوله: (لأنه) : أي علم التوحيد. وقوله: (العلم الذي لا ينبغي) أي لا يصلح ولا يستقيم ولا يمكن للإنسان العاقل أن لا يبتغي فهمه، اللام في قوله: ((لفهمه)) زائدة، يعني لا ينبغي لعاقل لم يبتغ فهمه، أي: أنه لا ينبغي لعاقل أن يدع فهم علم التوحيد، لأنه الأصل، وإذا كان هو الأصل وجب أن يقدم على غيره، لان الفرع لا يبنى ألا على أصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 8- فيعلم الواجب والمحالا ... كجائز في حقه تعالى   الشرح قوله: (فيعلم) يعني من جملة علم التوحيد، أن به يعلم الواجب والمحال والجائز في حق الله تعالى. فيعلم الواجب في حق الله، ويعلم المستحيل في حق الله، ويعلم الجائز في حق الله، فالأقسام إذا ثلاثة: واجب، ومستحيل، وجائز، ويقال للواجب أحيانا اللازم، ويقال للمحال أحيانا الممنوع، ويقال للجائز أحيانا الممكن، والمدار على المعنى. أما الواجب في حق الله تعالى: فهو ما لا يتصور عدمه بالنسبة إليه، فكل شيء لا يتصور عدمه بالنسبة لله فهو واجب، فمثلا الحياة من الواجب، والعلم من الواجب، والقدرة من الواجب، والقوة من الواجب، والأمثلة في هذا كثيرة، فكل ما لا يتصور عدمه فهو واجب. وأما المستحيل: فهو كل ما لا يتصور وجوده، فالذي لا يتصور وجوده هو المستحيل، مثل الموت والعجز والضعف والجهل والنسيان وما أشبه ذلك. فهذا كله ممتنع في حق الله عز وجل. والضابط في هذا أن كل كمال فهو من الواجب في حق الله تعالى، وكل نقص فهو من الممتنع في حق الله عز وجل. وأما الجائز: فهو ما جاز وجوده وعدمه بالنسبة للخالق، مثل النزول إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 السماء الدنيا، والاستواء على العرض، وخلق شيء معين كخلق ذباب مثلا، وخلق السماوات، وخلق الأرض، هذا من الأمور الجائزة، لأنه يجوز أن لا يخلق الله هذا لاشيء ويجوز أن يخلقه؛ فلو لم يخلقه لم يكن ذلك نقصا، ولو خلقه لم يكن نقصا، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا كلها من الأمور الجائزة. فإذا قال قائل: إن إثبات الجائز في حق الله ممنوع لأنه إن كان وجوده كمالا كان عدمه نقصا، وإن كان عدمه كمالا كان وجوده نقصا، وحينئذ لابد أن يكون إما موجودا فيكون من الواجب أو معدوما فيكون من المستحيل، فلا يتصور شيء جائز في حق الله؟ فالجواب على هذا أن نقول: هو كمال في حال وجوده، نقص في حال عدمه إن كان من الموجودات، أو هو كمال في حال عدمه نقص في حال وجوده، فمثلا إذا اقتضت الحكمة أن يوجد هذا الشيء فوجد صار كمالا، ووجوده قبل اقتضاء الحكمة نقص، وإذا اقتضت الحكمة عدمه كان وجوده نقصا، ووجوده في حال اقتضاء الحكمة عدمه نقص. وبهذا يمكن أن نقول إن هناك شيئا جائزا في حق الله، ويكون وجوده في حال اقتضاء الحكمة كمالا، ويكون عدمه في حال اقتضاء الحكمة كمالا، فنزول الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، في هذه الحال كمال، وفي غير هذه الحال لا يكون كمالا؛ لان الله عز وجل اقتضت حكمته أن يكون نزوله في هذا الوقت فقط، ولو اقتضت الحكمة أن ينزل في غير هذا الوقت ولم ينزل كان عدم النزول نقصا، وهذا شيء مستحيل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 حق الله عز وجل. فالحاصل: أنه لو أورد علينا إنسان إيرادا، وقال: إن تقسيمكم الأشياء إلى ثلاثة: واجب ومستحيل وجائز، تقسيم غير صحيح. فالشيء إما واجب وإما مستحيل، أما جائز فلا؛ لأنه إن كان وجوده كمالا وجب أن يكون موجودا دائما، وإن كان عدمه كمالا وجب أن يكون معدوما دائما، نقول هو كمال في حال وجوده إذا اقتضت الحكمة وجوده، وهو كمال في حال عدمه إذا اقتضت الحكمة عدمه، وحينئذ يصح هذا التقسيم. قال: (كجائز في حقه تعالى) سبق أن مثلنا للواجب بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وأشياء كثيرة، وللممنوع: بالموت والعجز والضعف والجهل وما أشبه ذلك، وللجائز بالنزول للسماء الدنيا، وكذلك الاستواء على العرش، وكذلك الكلام باعتبار أفراده، فإن الله يجوز أن يتكلم بهذا أو ألا يتكلم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 9- وصار من عادة أهل العلم ... أن يعتنوا في سبر ذا بالنظم 10- لأنه يسهل للحفظ كما ... يروق للسمع ويشفي من ظمأ   الشرح قوله: (وصار من عادة أهل العلم) : العادة: هي الشيء الذي يعود ويتكرر فيألفه الناس ويكون من عادتهم، فصار أهل العلم رحمهم الله من عادتهم (أن يعتنوا) أي: يبذلوا العناية (في سبر ذا) أي في سبر علم التوحيد، والمراد بالسبر: التتبع والاستقراء، فصاروا يسبرونه بالنظم. ولا شك أن هذا التركيب فيه تطويل، ومعناه أنه صار من عادة أهل العلم أن يبحثوا في هذا الموضوع الذي هو علم التوحيد بالنظم، وهناك عادة أخرى غير النظم وهي النثر، فالنثر كثير، وكلام العلماء في علم التوحيد نثرا أكثر من كلامهم فيه نظما، لكن مع ذلك النظم شائع مشهور معتاد عندهم أن ينظموا العقائد وعلم التوحيد، حتى يكون كما أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله: لأنه يسهل للحفظ كما يروق للسمع ويشفي من ظمأ والنظم الذي كان العلماء رحمهم الله يعتادونه في هذا الباب على بحر الرجز، كما هو الحال هنا في هذه القصيدة، وقد يكون على بحر الكامل، أو الطويل أو البحور الأخرى المعروفة في علم العروض، لكن أكثر ما يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 على الرجز؛ لان الرجز خفيف عند القراءة، وسهل عند النظم، لان غير الرجز لابد أن يلتزم الإنسان قافية معينة، وهذا قد يصعب على الإنسان غير الشاعر، أما الرجز فكل بيت له قافية معينة، لا يحتاج الراجز ألا إلى مراعاة الشطر الأول واشطر الثاني فقط. قال: (لأنه يسهل للحفظ) هذه فائدة؛ فالنظم يسهل للحفظ أكثر من النثر. وقوله: (كما يروق للسمع) يروق يعني يحسن ويطرب له السمع، ولهذا لو جاء إنسان يقرأ خطبة قراءة عادية لا تجد أنه يهز مشاعرك، أو يوجب انتباهك، لكن إذا كان نظما فإنه يروق لك. أما قوله: (ويشفي من ظما) فكون هذا خاصا بالشعر فيه نظر، لان الشفاء من الظمأ يكون في الشعر ويكون في النثر، لكن لعله يريد رحمه الله تكميل البيت بهذه الجملة، وإلا فإن الشفاء من الظمأ يكون في النثر وفي النظم، بل قد يكون في النثر أكثر، لان النظم أحيانا يضطر فيه الناظم إلى استعمال عبادات أو تركيبات من الكلام توجب تعقيد المعنى وعدم فهمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ثم قال رحمه الله تعالى: 11- فمن هنا نظمت لي عقيدة ... أرجوزة وجيزة مفيدة 12- نظمتها في سلكها مقدمة ... وست أبواب كذاك خاتمة   الشرح قوله: (فمن هنا أي من هذا الباب، أو من هذا المأخذ، (نظمت لي عقيدة) أصل النظم هو ضم الخرزات بعضها إلى بعض في سلك، ويطلق على ضم الكلمات بعضها على بعض في بيت تشبيها بخرزات السبحة أو غيرها مما ينظم. وقوله: (نظمت لي عقيدة) يحتمل أن اللام هنا بمعنى من، أي: نظمت مني عقيدة لإخواني المسلمين، ويحتمل أن اللام للاختصاص، يعني: نظمت لنفسي عقيدة، لكن الظاهر أن المراد المعنى الأول، أي: نظمت عقيدة لإخواني المسلمين مني. وقوله: (عقيدة) : فعيلة بمعنى مفعولة، أي شيء معتقد، والعقيدة في الأصل من العقد، وهو إحكام الشد، وضده الحل، وهذا في الأصل، أي في اللغة العربية. وأما في الاصطلاح: فهي حكم الذهن الجازم، يعني أن تحكم على الشيء حكما جازما، وتحكم عليه ذهنا، يعني تعتقد في قلبك بأن هذا كذا نفيا أو إثباتا، جازما به؛ فلا عقيدة مع الشك، لأنه لابد من أن يكون هناك جزم، ولا عقيدة باعتبار نطق اللسان، لان نطق اللسان يقع حتى من المنافق، فالمنافق يقول لا إله ألا الله ولكن ليس عنده عقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 إذا العقيدة تعريفها اصطلاحا: حكم الذهن الجازم. فقولنا حكم الذهن خرج به قول اللسان لأنه لا يعتبر عقيدة؛ إذ قد يقول الإنسان ما لا يعتقد. وخرج بقولنا: الجازم الشك فإن الشاك لم يعتقد. ولا يشترط أن يكون الحكم مطابقاً للواقع، فإن طابق الواقع فالعقيدة صحيحة، وإن خالف الواقع فالعقيدة فاسدة. فاعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة هذه عقيدة، ولكنها فاسدة لأنها غير مطابقة للواقع. واعتقاد أهل التحريف أن الاستواء بمعنى الاستيلاء عقيدة، لكنها فاسدة لأنها خلاف الواقع، لكن هم يجزمون بذلك ويعتقدون هذا. قال: (أرجوزة وجيزة مفيدة) فذكر أنه من أجل ذلك نظم عقيدة من بحر الرجز، ووصفها بأنها (وجيزة) يعني غير مطولة، وهو كذلك، فإنها ليست مطولة لأنه يذكر فيها رحمه الله القواعد العامة بدون تفصيل، وأنها أيضا (مفيدة) يعني تفيد قارئها وسامعها وكاتبها أيضا. فقوله: إنها أرجوزة وجيزة هذا ليس فيه مدح، لكن قوله مفيدة فيه مدح. فإذا قال قائل: كيف يسوغ للإنسان أن يمجد ما كان من صنعه وتأليفه، وهل هذا ألا افتخار؟! فالجواب: يسوغ ذلك إذا لم يقصد بهذا الافتخار على الخلق، وإنما قصد بيان الواقع، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (1) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لو اعلم أن أحداً اعلم مني بكتاب الله   (1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، رقم (3148) ، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، رقم (4308) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 تبلغه الإبل لرحلت إليه)) (1) وهذا يتضمن بلا شك أنه على علم عظيم بكتاب الله عز وجل، لكن ابن مسعود رضي الله عنه، لم يقل هذا القول ليمدح نفسه ويفتخر بل ليحث الناس على التلقي عنه وعن غيره من أهل العلم. والعلماء رحمهم الله إذا صنفوا يذكرون فوائد مصنفاتهم، كما قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته: تقرب الأقصى بلفظ موجز وتبسط البذل بوعد منجز وتقتضي رضا بغير سخط ... فائقة ألفية ابن معطي وهذا ثناء عليها لا ليفتخر بها لأنها من تأليفه، ولكن من أجل أن يحث الناس على تلقيها وتعلمها. وهكذا المؤلف رحمه الله هنا قال: ((مفيدة)) ، لأجل أن تحرص عليها وعلى ما فيها من فوائد. قال: (نظمتها في سلكها) هذا يسميه علماء البلاغة الاستعارة، لان هذه الأرجوزة ليس لها سلك لكنه شبهها بخرزات السبحة التي لها سلك فتنظم، لينضم بعضها إلى بعض؛ ولا يضيع بعضها عن بعض، ولا تتفرق وتتشتت. وتشتمل على مقدمة وستة أبواب وخاتمة قال: ................. مقدمة وست أبواب كذاك خاتمة فيكون المجموع ثمانية: مقدمة وخاتمة وستة أبواب   (1) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (5002) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود ... ، رقم (2463) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 13 - وسمتها بالدرة المضية ... في عقد أهل الفرقة المرضية   الشرح قوله: (وسمتها) أي جعلت عليها علامة لان الوسم هو العلامة، وفي بعض النسخ ((سميتها)) والمعنى متقارب، يعني إنني سميت هذه المنظومة، أو وسمتها أي جعلت عليها علامة (بالدرة المضية) أصل المضية المضيئة، لكن سهلت الهمزة لأجل استقامة البيت، و (الدرة) هي أعلى ما يقتنصه أهل البحر من البحار، و (المضية) يعني التي لها إضاءة لقوة صفائها وحسنها، وهذا الاسم مطابق لمسماه، فإن هذه المنظومة درة مضية، مضيئة لمن قرأها وتأملها؛ لان فيها فوائد كثيرة عظيمة فيما يتعلق بالعقدية. وقوله: (في عقد أهل الفرقة المرضية) عقد: بمعنى اعتقاد، فهي اسم مصدر لان اعتقد يعتقد، المصدر اعتقاد، وعقد اسم مصدر، واسم المصدر يقول النحويون، ما دل على معنى المصدر ولم يشتمل على حروفه فكل ما دل على معنى المصدر ولكنه لم يشتمل على حروفه، فإنه يسمى اسم مصدر. وقوله: (أهل الفرقة) الفرقة بالضم يعني الاختلاف والافتراق، والفرقة بالكسر يعني الطائفة، والمراد هنا الطائفة، وليس المراد أهل الفرقة، فهم ليسوا بأهل الفرقة، بل هم أهل اجتماع، لكن المراد أهل الفرقة يعني الطائفة (المرضية) التي ارتضاها الله ورسوله والمؤمنون، وهم أهل السنة والجماعة، الذين كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وضد هذه الفرقة المرضية أصحاب الفرق المسخوطة من أهل البدع، على اختلاف أصنافهم وأنواعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 14- على اعتقاد ذي السداد الحنبلي ... إمام أهل الحق ذي القدر العلي 15- حبر الملا فرد العلا الرباني ... رب الحجى ماحي الدجى الشيباني   الشرح قوله: (على اعتقاد ذي السداد الحنبلي) : يعني إنها مبنية على اعتقاد ذي السداد، والسداد يعني الصواب المسدد الموافق للحق. وقوله: (الحنبلي) صفة لذي لا للسداد، يعني على اعتقاد الحنبلي، وهو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله الإمام المشهور، فنسبته إلى حنبل لأنه جده. وقوله: ((إمام أهل الحق)) يعني الذي يقتدي به أهل الحق، لكن إمامته رحمه الله وإمامة غيره من الأئمة ليست إمامة مستقلة، بل هي إمامة تابعة للإمامة العظمى، وهي إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا ائتمام هؤلاء الأئمة به صلى الله عليه وسلم ما صاروا أئمة، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24) فهؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين صاروا أئمة لأنهم أهل للإمامة بما أعطاهم الله تعالى من الصبر واليقين. وقوله: (ذي القدر العلي) القدر يعني الشرف، العلي ضد النازل، فالإمام أحمد رحمه الله له قدر علي بين أهل الحق، تكاد تكون الأمة كلها مجمعة على الثناء عليه حتى إن بعض العلماء رحمهم الله قال: إنه يجوز أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 نشهد له ولأمثاله بالجنة؛ لان الأمة اتفقت على الثناء عليه، وقد قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: الآية 143) فإذا شهدت الأمة لشخص بالصلاح فلنا أن نشهد له بالجنة. والمسالة هذه فيها خلاف. لكن الكلام على أن الرجل قد اتفق على أنه - رحمه الله - من اجل أئمة الدين وأعظمهم قدرا، وحصل له من المحنة في الدفاع عن السنة ما يعلم من ترجمته، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1) ، وغيره من تكلموا عن سير الرجال (2) . وقوله: (حبر الملا) حبر بمعنى عالم، ويقال حبر؛ بفتح الحاء وكسر الحاء حبر الملا أو حبر الملا، وهي موافقة للبحر في الاشتقاق الأكبر لأنها موافقة لها في الحروف دون الترتيب، فحبر وبحر حروفها واحدة: الباء، والحاء، والراء، لكن اختلفت في الترتيب. إذا فهو العالم الواسع العلم، والعالم الواسع العلم يسمى حبرا، وقوله: (الملا) يعني الخلق. ومن المعلوم أنه رحمه الله واسع العلم وكثير العلم، ولا سيما علم المأثور، مع أنه يتكلم بعلم المعقول كلاما جيدا، كما يعرف من كلامه في الرد على الجهمية، لكنه في علم المأثور أكثر منه في علم المعقول. وقوله: (فرد العلا) يعني المتفرد بالعلا والشرف، ولا شك أن هذه الأوصاف التي تدل على الإطلاق، لا شك أن المؤلف رحمه الله لا يريد بها   (1) انظر البداية والنهاية 7/345. (2) انظر سير أعلام النبلاء 11/137 و177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الإطلاق، لان مثل هذه الأوصاف على الإطلاق لا تنطبق ألا على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها أوصاف نسبية يعني بالنسبة لمن دونه، وكان من الأولى والأفضل أن تكون الألفاظ مطابقة للواقع، بحيث لا يحصل فيها غلو؛ لان الغلو قد يخرج بالإنسان إلى الكذب. وتوجيه مثل هذا الكلام المطلق أن يقال إنه حبر الملا في وقته، فرد العلا في وقته، وأما أن نقول على سبيل العموم؛ هذا غير مراد للمؤلف. وقوله: (الرباني) يعني الذي تلقى علمه من شريعة الله؛ لان الشريعة ألصق ما تكون بالربوبية، فهو رحمه الله تلقى علمه من شريعة الرب عز وجل. وقيل إن الرباني هو المخلص لله في علمه، النافع لعباد الله، المربي لهم على شريعة الله، وهذا المعنى واضح. فالمخلص لله: لا يقصد ألا الرب، والنافع لعباد الله بالعلم، المربي لهم تربية خلقية، وتربية علمية، فيشمل الأمرين. فالتربية العلمية، قال العلماء رحمهم الله: معناها: أن يربي الطلبة بصغير العلم قبل كبيره، فإن هذا من التربية العلمية، فلا يأتي للطالب المبتدئ مثلا ويقول له: اقرأ قواعد ابن رجب، فإنه إذا قرأ الطالب المبتدئ قواعد ابن رجب فإنه لا يفهم أبداً، ولكن يربيه بصغار العلم، فيأتي مثلا بكتاب مختصر ومبسط وتدرج به شيئا فشيئاً. ففي النحو مثلا؛ إذا كان لا يعرف منه شيئا، فلا بد أن تربيه وتبدأ بأصغر كتب النحو حتى يترقى شيئا فشيئا، وفي أصول الفقه كذلك، وفي كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 العلوم ينبغي أن يرقى الطالب درجة، أما أن تقفز به من أسفل درجة لأعلى درجة فهذا لا يمكن، وربما يكون في ذلك ضرر كبير عليه، فإنه إذا لم يفهم انغلق ذهنه، يعني يحصل له رد فعل فلا يعرف من المسائل شيئا، حتى لو كررت عليه مائة مرة، لكن إذا بدا يتلقى العلم كما يتلقى الطفل اللبن يمصه شيئا فشيئا فإنه ينتفع به. وأما التربية الخلقية فينبغي للمعلم أن يبحث مع طلابه هل طبقوا العلم أو لم يطبقوه، وأن يتفقدهم، وإذا ذكر له عن شخص مخالفة، يتكلم معه بالكلام الذي يناسب، وفي الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، أما أن يملأهم من العلوم ويدعهم من العمل فهذا بلا شك قصور جدا؛ لان ثمرة العلم هي العمل، فإذا لم نعمل فإن علمنا أدنى من الحبر على الورق. إذاً العالم الرباني من اخلص لله في علمه ونفع عباد الله به، ورباهم في ذلك تربية علمية وخلقية. وقوله: (رب الحجى) : (رب) بمعنى صاحب، و (الحجى) : بمعنى العقل: يعني صاحب العقل. وقوله: (ماحي الدجى) : أي الظلمة بما لديه من نور الرسالة وهذا علمه بالأثر. فالإمام أحمد رحمه الله عنده علم المعقول وعلم المنقول، ومن راجع كتبه ورسائله عرف أن الرجل يتكلم بالمعقول كما يتكلم بالمنقول، وإن كان هو في علم الأثر أقوى منه في علم النظر؛ لان الأمة الإسلامية في عهده لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 تكن بلغت مبلغا كبيرا في الاستدلال بالنظر والمعقول، لكن مع ذلك يجادل أهل الباطل بالمعقول؛ لان المعقولات التي تشعبت في الأمة الإسلامية هي من علم المنطق الذي قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: ((إنه لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد)) (1) . والناس يعرفون الجدل والمناظرة حتى قبل ظهور علم المنطق اليوناني. فالحاصل أن هذا الشطر من البيت يدل على أن الإمام أحمد رحمه الله عنده علم بالمعقول وعلم بالمنقول، علم المعقول في قوله (رب الحجى) والمنقول في: (ماحي الدجى) . وقوله: (الشيباني) : يعني أنه - رحمه الله - من بني شيبان وهذا نسبه. ومن أراد المزيد من العلم بحياته فليرجع إلى ما صنف في تاريخ حياته، وقد صنف في تاريخ حياته مصنفات مستقلة، وذكر أيضا على سبيل التبع في كتب الرجال (2) وكتب التاريخ (3)   (1) انظر مجموع الفتاوى (9/82) (2) انظر تقريب التهذيب لابن حجر (س89) . (3) انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير 6/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 16- فإنه أمام أهل الأثر ... فمن نحا منحاه فهو الأثري 17- سقى ضريحا حله صوب الرضا ... والعفو والغفران ما نجم أضا 18- وحله وسائر الأئمة ... منازل الرضوان أعلى الجنة   الشرح قوله: (فإنه إمام أهل الأثر) فإنه: أي الإمام أحمد رحمه الله، إمام أهل الأثر يعني إمام السلفيين الذين يأخذون بالأثر في علم العقائد، كما يأخذون بالأثر في المسائل العملية. وذلك أن الإمام أحمد رحمه الله بلغ الإمامة في عصر المأمون، في المحنة التي ابتلي بها علماء السلف في ذلك العهد (1) ، فإن المأمون ادخل على الأمة الإسلامية من علم اليونان وعلم الكلام ما يستحق عليه الجزاء من الله عز وجل؛ لأنه ادخل على الأمة علوما أفسدت العقائد، ونصر البدعة والعياذ بالله نصرا عزيزا، وحصل منه إيذاء لأهل السنة، فكان يحبسهم، ويشهر بهم، ويطوف بهم في الأسواق، ويضربهم والعياذ بالله، مما اضطر كثير من العلماء إلى أن يوافقوه ولو ظاهرا على سبيل أنهم مكروهون، ومنهم من يتأول. ولكن الإمام أحمد رحمه الله ومحمد بن نوح أصرا على أن يعلنا الحق بدون تأويل، وحصل للإمام أحمد من الإيذاء والإهانة ما لا يصبر عليه إلا   (1) انظر البداية والنهارية لابن كثير (7/278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أمثاله، حتى كانوا يجرونه في الأسواق بالبغلة والعياذ بالله، ويضربونه بالسياط حتى يغمى عليه، وهو صابر ومصمم على أن يبقى على ما هو عليه من قول الحق، لأنه لو قال خلاف الحق في ذلك الوقت ولو بالتأويل لضل الناس؛ إذ إن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. فبذلك استحق أن يكون إماما؛ لأنه صبر وكان موقنا بما هو عليه من الحق والصواب، وقد قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24) فبذلك صار - رحمه الله - إماما لمن بعده، ولكن هذه الإمامة نسبية لأنها إمامة تابعة لإمامة عظمى، وهي إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم الذي يتفرع من إمامته إمامة الأئمة، فإمامة الأئمة من هذه الأمة إمامة فرعية لا إمامة أصلية، ولهذا لو خالف هذا الإمام هدي الإمام الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم لوجب أن يطرح قوله وأن يؤخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقوله: (إمام أهل الأثر) نقول: ليست هذه إمامة مطلقة أصلية، ولكنها إمامة نسبية فرعية تابعة للإمامة العظمى، وهي إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن هذا الإمام تابع لإمامة الرسول عليه الصلاة والسلام ما استحق أن يكون إماما، ألا أن يكون إمام ضلال، فإن الضلال له أئمة كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (القصص: 41) . وقوله: (فمن نحا منحاه فهو الأثري) : أي من سلك مسلكه فهو الأثري، نسبة إلى الأثر، والعلوم نوعان: أثرية ونظرية. فما كان متلقى من الكتاب والسنة فهو اثري، وما كان متلقى من العقل فهو نظري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 واعلم أن العلم الأثري لا ينافي العلم النظري بل كلاهما يؤيد الآخر، والأصل عند أهل السنة هو الأثر، سواء في الأمور العلمية أو الأمور العملية، بل أنهم يحكمون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء. والأصل عند أهل البدع هي العلوم النظرية، ولهذا يقدمون ما يدعون أنه عقل على الآثار من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فضلوا بذلك عن سواء السبيل، وأضلوا أمماً لا يعلمهم إلا الله. إذاًَ الأثري: هو الذي نحا منحى الإمام أحمد رحمه الله في الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولهذا أقول: من الممكن أن نقول إن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل الأثر في مسلكه لا في أقواله، ومعنى في مسلكه أنه سلك تحكيم الكتاب والسنة، وليس المعنى إمام أهل الأثر أي يؤخذ قوله؛ وحينئذ لا نحتاج إلى تقييد الإمامة بالنسبة له؛ لأننا نقول هذه الإمامة صحيحة، وهي أن يكون الإنسان متبعا لما جاء به الكتاب والسنة. وفي قوله: (الأثر) و (الأثري) جناس ناقص لزيادة الياء في الثاني. قال: (سقى ضريحا حله صوب الرضا) الضريح يعني القبر. (حله) : أي: نزل فيه، يعني يسأل الله سبحانه وتعالى أن يسقي ضريحه صوب الرضا من الله عز وجل، فالجملة هنا خبرية لكنها دعائية، يعني يسال الله تعالى أن يسقي ضريح الإمام أحمد صوب الرضا، والصوب والصيب معناهما واحد، أي: الصيب من الرضا، والصيب في الأصل هو الماء النازل من السماء فهو المطر، صوب الرضا من الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 واعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا رضي عن العبد أرضى الناس عنه، وإذا سخط على العبد اسخط الناس عليه، فإذا كنت تريد أن يرضى الناس عنك فاتبع رضا الله، ولكن لا تتبع رضا الله من اجل أن يرضى الناس عنك، فتطلب الأعلى للأدنى، ولكن اجعل رضا الله هو الأصل، وثق بان الله إذا رضي عنك رضي عنك الناس، ولكن إياك أن تنوي بطلب رضا الله رضا الناس فتكون متوسلا بالأعلى إلى الأدنى؛ لأنه ربما إذا نويت هذه النية لا يرضى الله عنك، وحينئذ يفوتك مقصودك مع ضعف مقصودك. قال: (والعفو والغفران) العفو عن ترك الواجبات، والغفران عن فعل المحرمات، هذا إذا اقترن العفو بالمغفرة، أما إذا انفصل أحدهما عن الآخر فكل واحد منهما يتضمن معنى الثاني، لكن إذا قيل عفا الله عنك وغفر لك، صار عفا الله عنك ما أهملته من واجبات، وغفر لك ما اقترفته من سيئات؛ لان الغفر بمعنى الستر مع التجاوز، والعفو بمعنى النزول عن الحق والإبراء منه. وقوله: (والعفو والغفران ما نجم أضا) يعني مدة إضاءة النجم، وهذا طويل إلى ما لا نهاية له، وأيضا يقول: (ما نجم) فهو نكرة يشمل كل نجم. وقوله: (وحله وسائر الأئمة) يعني أنزله وأنزل سائر الأئمة (منازل الرضوان أعلى الجنة) . الأئمة يعني أئمة الإسلام، وليس المراد بذلك الأئمة الأربعة فقط، بل هو شامل لكل إمام في دين الله من الأئمة الأربعة وغيرهم، وسواء كان إماما في الخلافة وتدبير الملك، أو إماما في العلم وتوجيه الناس، فإنه يدخل تحت قوله: وحله وسائر الأئمة منازل الرضوان أعلى الجنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 المقدمة 19- اعلم هديت أنه جاء الخبر ... عن النبي المقتفى خير البشر 20- بأن ذي الأمة سوف تفترق ... بضعا وسبعين اعتقادا والمحق 21- ما كان في نهج النبي المصطفى ... وصحبه من غير زيغ وجفا   الشرح قال المؤلف رحمه الله تعالى: (المقدمة) ، والمؤلف رحمه الله بين أن كتاب هذا يشتمل على ستة أبواب ومقدمة خاتمة (1) ، والمقدمة ذكر فيها ما يدل على الثناء على أهل السنة والجماعة المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قوله: (اعلم) يعني علم يقين. وقوله: (هديت) جملة معترضة دعائية، يعني وفقت للخير وعلمت الخير. وقوله: (أنه جاء الخبر) يعني الحديث، والخبر في اللغة: كل قول يحتمل الصدق والكذب لذاته، يعني بقطع النظر عن قائله، لان في القول ما لا يحتمل الكذب باعتبار قائله، وفي القول ما لا يحتمل الصدق باعتبار قائله، ونحن لا نتكلم باعتبار القائل بل باعتبار القول. فكل خبر يتضمن الصدق والكذب لذاته لا للمخبر به فإنه يسمى خبرا. فقول الله تعالى وقول الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به.   (1) انظر ص: 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أما قول مدعي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحتمل الصدق لكن باعتبار المخبر به. فلو قال المخبر: إني رسول الله، فكلمة: إني رسول الله، هذه خبر، لأنه يحتمل الصدق والكذب لذاته، لكن لو قاله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صدقا، ولو قاله مسيلمة الكذاب كان كذباً. أما في الاصطلاح: فالخبر ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من قول أو فعل أو تقرير. وقوله: (عن النبي المقتفى) النبي يقال: النبي بدون همزة، ويقال النبئ بهمزة، فعلى الهمز تكون مشتقة من النبأ وهو الخبر لان النبي صلى الله عليه وسلم مخبر مخبر، مخبر من قبل الله ومخبر للخلق بما يتلقاه عن الله عز وجل. ويقال: النبي بالياء، فقيل: إن أصله النبيء لكن سهلت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء، وقيل: بل أصله النبيو بالواو من النبوة وهي الارتفاع، فسمي نبيا لارتفاع مرتبته، ونحن نقول: إن اللفظ صالح للوجهين، أي: صالح لان يكون أصله النبيء ولكن سهل، ولأن يكون أصله من النبوة وهو الارتفاع؛ لان النبي رفيع المقام وهو مخبر ومخبر. وقوله: (المقتفى) يعني الذي يجب اقتفاءه، ومعنى الاقتفاء: أن تكون خلفه نقفو أثره، فالنبي صلى الله عليه وسلم مقتفى أي واجب الاقتفاء، يعني يجب على أمته أن تقتفي به، أي أن تقفوا أثره وأن تتبعه. وقوله: (خير البشر) البشر هم بنو آدم، وسموا بشرا لان ابشارهم ظاهرة بادية، والمخلوقات الأخرى ابشارها مستورة، وهذا من رحمة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 عز وجل، لأن الحيوانات الأخرى لابد أن يسترها شيء يقيها من الحر والبرد، أما بنو آدم فجعل الله تعالى الستر لهم، فهم الذين يسترون أنفسهم بالثياب التي رزقهم الله عز وجل، وهذه حكمة عظيمة من اجل أن يعرف الإنسان أنه بحاجة إلى ستر عورته المعنوية، كما أنه بحاجة إلى ستر عورته الحسية، فيحاول ستر عورته المعنوية كما يستر عورته الحسية. إذا النبي عليه الصلاة والسلام خير البشر، فكل البشر، حتى الأنبياء والرسل، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل، وهذه الخيرية تشمل كل الخيرات؛ خير البشر في النسب، وخير البشر في الخلق، وخير البشر في العلم، وخير البشر في الهداية، وخير البشر في العبادة، فهي خيرية مطلقة من جميع الوجوه. ومع هذا فإنه ليس له حق في خصائص الربوبية، فليس يعلم الغيب، وليس يملك لنفسه الضر والنفع، ولا يملك لغيره كذلك، والناس بالنسبة لرسول الله في هذا الباب بين طرفين ووسط؛ بين طرف غال مفرط في المدح والثناء حتى جعلوه بمنزلة الرب، وبين طرف آخر يتنقص النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله لا فرق بينه وبين البشر في الأمور التي يختص بها، وقسم ثالث عرف للنبي صلى الله عليه وسلم حقه فأنزله منزلته، وقال: هو عبد الله ورسوله وليس له حق فيما يختص بالرب عز وجل، وهو أعلى من البشر فيما خصه الله به وهذا هو مذهب أهل الحق. وقوله: (بان ذي الأمة سوف تفترق) ذي هنا اسم إشارة، وليست بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 صاحب والأمة هنا منصوبة، يعني بان هذه الأمة سوف تفترق. وقوله: (الأمة) المراد بالأمة هنا أمة الإجابة؛ لان أمة الدعوة تشمل اليهود والنصارى والمشركين، لكن المراد بذلك أمة الإجابة الذين ينتسبون إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. والأمة في اللغة تأتي لعدة معان؛ فتأتي بمعنى الزمن، وبمعنى الملة وبمعنى الإمامة، وبمعنى الطريقة، وبمعنى الطائفة، فهذه خمسة معان: 1- فتأتي بمعنى الزمن، مثل قوله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (يوسف: الآية 45) أي بعد زمن 2- وتأتي بمعنى الملة مثل قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) (المؤمنون: الآية 52) 3- وتأتي بمعنى الإمامة كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة) (النحل: 120) أي إماما. 4- وتأتي بمعنى الطريقة مثل قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) (الزخرف: الآية 23) . 5- وتأتي بمعنى الطائفة كما في كلام المؤلف. فقوله: (بان ذي الأمة) يعني الطائفة، وهي أمة الإجابة (سوف تفترق بضعا وسبعين اعتقادا) البضع ما بين الثلاثة إلى التسعة، والمراد به هنا الثلاثة، كما جاء في الحديث: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)) (1) فهذه بضع وسبعون، وإنما افترقت على ثلاث وسبعين، لان الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن هذه الأمة: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!)) (2) . والمتبع لسنة من كان قبله مخالف لشريعته، فإذا كان اليهود إحدى وسبعين، والنصارى ثنتين وسبعين، وارتكب أحد من هذه الأمة طريقة النصارى، صار الضلال في اثنتين وسبعين فرقة واحدة هي التي خرجت عن مشابهة اليهود والنصارى، وصارت على ملة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: .......................... .............................. والمحق ما كان في نهج النبي المصطفى وصحبه من غير زيغ وجفا ولذلك ذكر المؤلف في أول المقدمة أنه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بان هذه الأمة ستفترق، على ثلاث وسبعين فرقة، وهذه الفرق كلها في النار ألا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار)) ليس معنى هذا إنها من أصحاب النار لكن ما خرجت به عن السنة فهو من عمل أهل النار؛ لان أهل النار مخالفون   (1) رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة ... ، رقم 2640، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم (3991) . (2) رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم، رقم (7320) ، ومسلم، كتاب العلم، باب أتباع سنن اليهود والنصارى، رقم (2669) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لأهل الجنة، وكل من خرج عن عمل أهل الجنة فقد دخل في عمل أهل النار، ولا يلزم أن يكون من أصحاب النار، وفرق بين قوله: (في النار) وقوله: (من أصحاب النار) لان أصحاب النار هم أصحابها الذين هم أهلها وأما (في النار) فقد يكون المراد أنه يعذب بحسب ما خرج به عن أهل الحق، ولكن لا يخلد فيها. والغريب أن هذه الفرق كلها تدعي إنها على الحق، فالذي على الحق منها أمره واضح، والذي على غير الحق ويدعي أنه على الحق، نقول: هذا لا تخلو حاله من أحد أمرين: إما شبهة عرضت له فظن أن ما هو عليه هو الحق، وإما شهوة عرضت له، أراد بذلك الرئاسة والجاه، فبقي على الضلال مدعيا أنه على الحق. فالعوام المتبعون لأئمة البدع الذي حملهم على الخروج عن الحق شبهة لان العامي لا يدري، فظن أن هذا هو الحق، وأئمة البدع الضالون هؤلاء عرض لهم شهوة؛ لان الغالب عليهم أنهم يعرفون الحق، لكن أصروا على ما هم عليه من أجل البقاء على رئاستهم وعلى قيادتهم والعياذ بالله؛ مثل ما صنع أئمة الكفر في الجاهلية كأبي جهل وغيره، حين بقوا على الضلال مع علمهم بالحق، وكما فعل فرعون، حيث كان يعلم أنه على باطل، وأن الحق فيما جاء به موسى، ومع ذلك بقي على باطله. إذا نقول: إن هذه الفرق الثلاث والسبعين كل واحدة منها تعتقد إنها على صواب وعلى الحق، فالذين أصابوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 هؤلاء على الحق ولا شك، والذين خالفوه عرضت لهم إما شبهة وإما شهوة. قوله: (والمحق) يعني الذي على الحق (ما كان في نهج النبي المصطفى) في للظرفية، يعني ما كان في الدائرة التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (المصطفى يعني المختار، الذي اختاره الله عز وجل واصطفاه من خلقه حتى جعله رسولا للعالمين إلى يوم القيامة. وقوله: (وصحبه) يعني الصحابة رضي الله عنهم، (من غير زيغ وجفا) من غير زيغ: أي من غير ميل عن الحق بالغلو، ومن غير جفا: أي تقصير، والحقيقة أن التقصير زيغ، لكن لما ذكر المؤلف رحمه الله الزيغ ثم ذكر الجفا، وجب أن نحمل الزيغ على الغلو والجفا على التقصير، يعني: فالذين على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من غير غلو ولا تقصير هؤلاء هم المحقون. فإذا قال قائل: بأي شيء ندرك أن هذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فالجواب: بالرجوع إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم. وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن قول الصحابة رضي الله عنهم حجة، لقوله: (في نهج النبي المصطفى وصحبه) وهذا أحد احتمالين: الأول: أن يكون مراده بذلك أن قول الصحابي حجة. الثاني: أن يكون مراده أن نهج الصحابة الرجوع إلى الكتاب والسنة، فمن كان على نهجهم ورجع إلى الكتاب والسنة فهو على صواب، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 يلزم على هذا الاحتمال أن يكون قول الصحابي حجة؛ لأنه - أي الصحابي - قد يرجع إلى الكتاب والسنة ويكون لديه خطأ في الفهم، أو خطأ في الدليل، لخفاء الدليل عليه أو لخفاء الدلالة. وعلى كل حال كلام المؤلف يحتمل وجهين: الوجه الأول: أن يكون قول الصحابي مرجعا يرجع إليه. والوجه الثاني: أن تكون طريقة الصحابي في استخراج الأحكام والعقائد مرجعا يرجع إليه. والوجه الأخير اسلم للمرء، يعني إذا قال: أنا لا أريد ألا أن اتبع الكتاب والسنة لان هذا هو نهج الصحابة رضي الله عنهم، فهو خير من أن يقول: اتبع الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة، ولكن اعلم أن ما اجمع عليه الصحابة فهو حق؛ لان الإجماع دليل مستقل بنفسه، وكلامنا في الاحتمالين - اللذين ذكرناهما - إنما هو في قول الواحد من الصحابة، وأما إذا اجمعوا فلا شك أن إجماعهم حجة وانه دليل مستقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 22- وليس هذا النص جزما يعتبر ... في فرقة ألا على أهل الأثر 23- فأثبتوا النصوص بالتنزيه ... من غير تعطيل ولا تشبيه   الشرح قوله: (وليس هذا النص جزما) ، جزما: عائد على النفي، وليس متعلقا بقوله (يعتبر) ، يعني: بحيث أنه يعتبر ظنا، والمعنى أن هذا النص جزماً لا يعتبر في فرقة ألا على أهل الأثر. والنص، قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار ألا واحدة)) فهذه الواحدة نجزم جزما بأنها هي فرقة أهل الأثر، والأثر يعني الكتاب والسنة، لان الدليل أما اثر وإما نظر، فإن كان الدليل عقليا فهو نظر، وإن كان الدليل شرعيا فهو أثر. وأهل الأثر هم الذين اتبعوا الآثار، فاتبعوا الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وهذا لا يتأتى في أي فرقة من الفرق ألا على السلفية وأهل السلف، أي: الذين التزموا طريق السلف. وقوله: (فأثبتوا النصوص بالتنزيه) : (أثبتوا) : الضمير هنا يعود على أهل الأثر، أثبتوها لفظا، وأثبتوها عقيدة، وأثبتوها عملا بمقتضاها، فالإثبات يتناول ثلاثة أشياء: إثباتها لفظا، وإثباتها عقيدة، وإثباتها عملا بمقتضاها، ثم إثباتها اللفظي يتفرع عليه الإثبات المعنوي فيحسن أن نقول إثباتها لفظها ومعنى، وإثباتها اعتقادا، وإثباتها عملا بمقتضاها. مثال ذلك: من أسماء الله تعالى: السميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أثبتوا هذا الاسم لفظا، وأثبتوه معنى أي أنه دال على السمع، واعتقدوا لله السمع، واعتقدوا أن الله تعالى متصف بالسمع، وعملوا بمقتضى ذلك، وهو أنهم إذا اعتقدوا أن الله يسمع نزهوا ألسنتهم عن قول ما لا يرضاه الله عز وجل، كما انك - ولله المثل الأعلى - لو كنت تعلم أن عندك رجلا ينقل كلامك إلى الملك فلن تتكلم بما لا يرضاه الملك، كذلك إذا علمت أن الله يسمع كل قول تقوله فانك إذا كنت مؤمنا بذلك فلن تتكلم بما لا يرضاه الله عز وجل. ومن أسماء الله تعالى البصير: أثبتوا هذا الاسم لفظا، وأثبتوه معنى أي: أنه دال على البصر، وباعتقاد ذلك وليس مجرد العلم، فليس مجرد العلم كافيا، بل لابد من عقيدة، والرابع: العمل بمقتضاه، ومقتضاه: الإيمان بان الله يرى، لا افعل شيئا لا يرضاه الله، ولا أتحرك بأي حركة لا يرضاها الله عز وجل، لأني أؤمن أن من أسماء الله عز وجل البصير، وأن البصير متضمن البصر، واعتقد ذلك بقلبي، إذا جوارحي لابد أن تعمل بمقتضى ذلك الاعتقاد. وسبق أن العلم لا يستلزم العقيدة، فأبو طالب كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، لكن لم ينفعه؛ لأنه ما اعتقد ولا انقاد. فقول المؤلف رحمه الله: (أثبتوا النصوص) ، نقول أثبتوها لفظا ومعنى واعتقادا وعملا بمقتضاها. وقوله: (النصوص) جمع نص، والمراد به: الكتاب والسنة، وقوله: (بالتنزيه) ، الباء للمصاحبة؛ يعني أثبتوها إثباتا مصاحبا للتنزيه، والمراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 بالتنزيه: تنزيه الله عز وجل عن كل نقص. فمثلا يثبتون أن الله قدير، وأن هذا الاسم متضمن لمعناه وهي القدرة، ويعتقدون أن الله تعالى قادر بقدرة لا يلحقها نقص ولا يلحقه بها عجز، ويعملون بمقتضى ذلك، والعمل بمقتضى ذلك بان يعلموا أنه لو شاء الله عز وجل لأخذهم أخذ عزيز مقتدر إذا خالفوا أمره، فالإنسان له قدرة، لك هذه القدرة فيها نقص؛ لان الإنسان لا يقدر على كل شيء، أما قدرة الله فليس فيها نقص، فإن الله على كل شيء قدير. وهكذا جميع النصوص يثبتونها مع عدم النقص في إثباتها؛ سمع لا يعتريه صمم، وبصر لا يعتريه عمى، وكلام لا يعتريه خرس ولا عي؛ فكل النقص ينزهون الله سبحانه وتعالى عنه. قال: (من غير تعطيل) يعني أنهم ينزهون الله تعالى تنزيها خاليا عن التعطيل. والتعطيل: هو تخلية الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الأسماء والصفات؛ لان أصل التعطيل التخلية، والشاهد على أن التعطيل بمعنى التخلية قوله تعالى: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) (الحج: الآية 45) أي مخلاة متروكة، فالتعطيل معناه تخلية الله عما يجب له من الأسماء والصفات. ويجوز أن نقول إن التعطيل يعود على النصوص، فيكون المعنى: تعطيل النصوص عما دلت عليه، وحينئذ فيكون للتعطيل وجهان: إما تعطيل الخالق أو النصوص، فإن كان الخالق؛ فمعنى تعطي الخالق: أن الله تعالى لا يوصف بما وصف به نفسه، وإن كان من النصوص فتعطيلها أن لا يعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بها، ويكون تعطيلها بإنكار دلالتها على الشيء، فلا يعمل بها، فيكون مثلا سميعا بلا سمع، كمن يقول في قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 23) أي منتظرة لثواب ربها، فيعطل النص عما أريد به. وفي قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر: 22) ، أي: وجاء أمر ربك فهو بهذا قد عطل النص وعطل الله. عطل الله عن مجيئه الحقيقي وعطل النص بان حرفه فعطل معناه المراد به لان المراد بالنص (وجاء ربك) ، أي: جاء الله عز وجل نفسه. فإذا قال: جاء أمر ربك فقد عطل النص عن معناه المراد به. والذين يحرفون النصوص قالوا على الله بلا علم، في الإثبات وفي النفي، فقالوا: إن الله أراد كذا، وهو لم يرد، وقالوا: لم يرده، وهو قد أراده. ولو قال قائل: كيف تجزمون بأنه أراده؟ أليس يحتمل أن يكون مراده ما حرفوه إليه؟ فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بما تقتضيه عقولنا، وكلام الله سبحانه وتعالى موجه إلينا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا ألا وبينه، فلو كان المراد غير ظاهره لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، إذا نحن نجزم أن ظاهره مراد، لأنه لم يرد خلافه عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان المراد خلفه لبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا يصح أن نقول: اجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن الله يجيء بنفسه. فإذا قال قائل: هاتوا لنا حرفا واحدا عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 علي أو ابن مسعود أو ابن عباس أو غيرهم أن الله يجيء بنفسه؟ فنقول: لو كان المراد خلاف ذلك لنقل عنهم، فلما كانوا يقرؤون هذا صباحا ومساء ولم يرد عنهم ما يخالفه دل على أنهم يقولون به. فلا حاجة إلى أن نأتي عن الصحابة في كل صفة من الصفات بقول من أقوالهم، فهذا ليس بلازم؛ لان الصحابة يقرؤون القرآن ويعرفون معناه، ولم يأت عن أحد منهم أنه قال بخلافه، فكان سكوتهم عن قول خلافه، أو كان عدم النقل عنهم عن قول خلافه، دليلا على أنهم قالوا به، ولهذا يصح أن تقول اجمع الصحابة على أن الله استوى على عرشه حقيقة وانه ينزل إلى السماء الدنيا حقيقة وهكذا، وليس المراد استوى على عرشه ولا المراد ينزل أمره. فإذا قال قائل: أين الإجماع؟ فنقول: إن عدم نقل ما يخالف الظاهر عنهم دليل على أنهم أجروه على ظاهره. وهذه فائدة تنفعك عند المناظرة لأهل التحريف لان أهل التحريف قد يطالبونك ويقولون: إئت لنا بخبر واحد يدل على أن الصحابة قالوا: إن الله يجيء بنفسه، أو إن الله ينزل بنفسه، أو إن الله استوى على العرش بنفسه، أين الدليل؟ ، فلو أنك رجعت إلى المسانيد والكتب المؤلفة في هذه الأمور بالإسناد قد لا تجد، لكن نقول: إن عدم نقل ما يخالف ظاهر القرآن عنهم يدل على أنهم قالوا بظاهر القرآن، لان القرآن عربي، وهم يتلونه صباحا ومساء، ويعتقدونه بمقتضى دلالة ذلك اللسان العربي، فلو نقل الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 إجماع الصحابة في ذلك لكان نقله للإجماع صحيحا. فالحاصل أن كلا المعنيين متلازمان يعني أنه إذا عطل الله عما يجب له فقد عطل النصوص عما دلت عليه. فأهل التعطيل يعطلون النصوص عن مدلولها، ويخلون الله عز وجل عما يتصف به مما تقتضيه هذه النصوص، وأهل السنة يتبرؤون من ذلك. وإنما قال المؤلف رحمه الله: (بالتنزيه من غير تعطيل) لان المعطلة الذين أنكروا صفات الله، أو أنكروا بعضها، أو أنكروا الأسماء والصفات، أيضا يقولون: أنهم ينزهون الله، ويدعون أنهم منزهون لله، فيقولون: إن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه، والله منزه عن المشابهة، فإذا يجب أن ننكر هذه الصفات، والغالون قالوا: يجب أن ننكر حتى الأسماء، لان إثبات الأسماء على زعمهم ينافي تنزيه الله سبحانه وتعالى، حيث أنه يقتضي التشبيه عندهم. أما أهل السنة فينزهون الله عن النقص، ولا يعطلون النصوص الواردة في إثبات الصفات. قال: (ولا تشبيه) يعني أنهم لا يشبهون الله بخلقه، ومراد المؤلف رحمه الله بالتشبيه: التمثيل، ولهذا لو عبر به لكان أولى، فلو عبر بدلا عن قوله: (ولا تشبيه) بقوله: ولا تمثيل، لكان أولى من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن الذي جاء به القرآن والسنة نفي التمثيل لا نفي التشبيه، فليس في القرآن ولا في السنة نفي التشبيه وإنما الوارد نفي التمثيل، كما قال الله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: الآية 65) وقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: الآية 11) وقال تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) (النحل: الآية 74) ومعلوم أن المحافظة على لفظ النص لا سيما في هذه الأمور الدقيقة أولى من الإتيان بلفظ آخر، ولو ادعى من أتى به أنه مرادف للفظ الذي جاء به النص. الوجه الثاني: أن نفي التشبيه فيه إجمال، لأنه إن أراد نفي التشبيه من كل وجه فهذا غلط، وإن أراد نفي التشبيه في كل الصفات فهذا هو نفي التمثيل، ومع ذلك أنه إن أراد نفي التشبيه من كل وجه؛ أي أنه لا يشابه الخلق في أي شيء، وفي أي وجه من الوجوه فهذا خطأ، وإن أراد نفي التشبيه، يعني نفي أنه مشابه للخلق من كل وجه وفي كل معنى فهذا يكفي عنه التمثيل، لان هذا هو نفي التمثيل، وهو كاف عنه. أما الأول: وهو إن أراد نفي المشابهة من كل وجه، يعني أنه لا يشبههم بأي وجه من الوجوه فهذا باطل؛ لأنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه، واشتراك في بعض المعاني، فمثلا الحياة يتصف بها الخالق ويتصف بها المخلوق، فبينهما تشابه من حيث أصل الصفة وهي الحياة، ولولا هذا التشابه المشترك بين صفات الله وصفات المخلوق ما عرفنا معاني صفات الله فلابد أن يكون هناك اشتراك وتشابه من بعض الوجوه. كذلك لله علم وللمخلوق علم، وبين علم الله وعلم المخلوق تشابه من حيث أصل المعنى فالمخلوق يدرك ما يعلمه والخالق عز وجل كذلك، فهناك اشتراك في أصل المعنى. كذلك للمخلوق بصر وللخالق بصر، فالبصر للخالق والمخلوق مشتركان في أصل الرؤية، فبينهما تشابه من هذا الوجه لكنهما لا يتماثلان؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لان المماثلة هي التساوي في كل وجه، والمشابهة: الاشتراك ولو في بعض الوجوه. الوجه الثالث: أن نفي التشبيه صار عند كثير من الناس يعني نفي الصفات مطلقا، وذلك عند من يقول: إن كل من اثبت لله صفة فهو مشبه، فإذا قلنا: من غير تشبيه، صار معنى هذا الكلام عندهم أي من غير إثبات صفة، فيوهم هذا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب أهل التعطيل؛ لأنهم يرون أن معنى نفي التشبيه هو نفي الصفات، حيث يزعمون أن كل من اثبت لله صفة فهو مشبه، فيصير قولنا من غير تشبيه مساويا لقولنا من غير إثبات صفة، وهذه المسألة تحتاج إلى الانتباه لأهميتها، فإن أكثر ما يقرأ في الكتب في هذا الباب: من غير تشبيه، وهذا التعبير كما علم فيه نقص، والأولى أن يعبر عنه من غير تمثيل للوجوه الثلاثة التي ذكرناها: الأول: أن نفي التمثيل هو الذي ورد به النص، بخلاف لفظ نفي التشبيه، فإنه لا في القرآن ولا في السنة. قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) ولم يقل ليس كشبهه شيء. الثاني: ((من غير تشبيه) فيه إجمال، فإن أراد من غير مشاركة في أي نوع من المشاركة فهذا خطأ، وإن أراد من غير مشابهة يعني من غير مساواة في كل شيء فهذا صحيح، لكن يغني عنه لفظ نفي التمثيل، وهو أوضح منه. الثالث: أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات مطلقا عند من يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه. فالحاصل أن المؤلف رحمه الله تابع في قوله ولا تشبيه عبارة كثير ممن كتبوا أو تكلموا في هذا الباب، والصواب أن نقول من غير تمثيل، ولهذا عبر شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية بذلك (1) ، فقال: ((من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل) ، وعند المناظرة على العقيدة عندما جلس له مناظره عند الوالي، فقال له: لماذا لم تقل: ولا تشبيه؟ ، قال: ((لان التمثيل هو الذي ورد به القرآن، فعبرت باللفظ الذي جاء به القرآن) ، ولم يذكر الوجهين الآخرين، لكن ذكر احدهما في العقيدة التدمرية (2) -وهو أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات مطلقاً-.   (1) انظر العقيدة الواسطية (ص5) . (2) انظر العقيدة التدمرية (ص 104) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 24- فكل ما جاء من الآيات ... أو صح في الأخبار عن ثقات 25- من الأحاديث نمره كما ... قد جاء فاسمع من نظامي واعلما   الشرح قوله: (فكل ما جاء من الآيات) ، (فكل ما) ليست (كلما) التي هي أداة تكرار، بل (كل) هنا مضافة إلى (ما) الموصولة؛ يعني كل الذي جاء من الآيات. وهنا قال المؤلف: (فكل ما جاء من الآيات) ولم يقل: وكل ما جاء في الأخبار، وذلك لان القرآن كله صحيح فهو محفوظ، أما السنة ففيها الموضوع وفيها الضعيف، ولهذا قيد فقال: (أو صح في الأخبار) . هذه قاعدة ذكرها المؤلف رحمه الله، أن كل ما جاء في كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث فإننا نمره كما قد جاء، وهذا هو المروي عن السلف، أنهم يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: ((أمروها كما جاءت بلا كيف) . فالواجب علينا أن نمرها كما جاءت وهذا الإمرار ليس إمرارا لفظيا فقط بل هو إمرار لفظي معنوي، أما إمرارها لفا فقط فإنه مذهب باطل، ويسمى مذهب أهل التفويض أو المفوضة، وهو كما قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) (1) ؛ لأنهم بهذا   (1) - انظر درء تعارض العقل والنقل (1/205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 المذهب ارتكبوا خطأ عظيما، حيث جعلوا المسلمين يجهلون معاني آيات الصفات وأحاديثها، وهذا خطر عظيم، إذا كنا متعبدين بألفاظ الأحكام الشرعية كالصلاة والوضوء والتيمم والزكاة والحج، فكيف لا نتعبد بآيات الصفات حتى نفهم معناها؟! فالمهم إننا نمره كما جاء، ومن المعلوم أنه لفظ جاء لمعنى، فالواجب إثبات هذا اللفظ ومعناه المراد به. فإذا قال قائل: هل المعنى المراد هو الظاهر أو الاحتمال المرجوح؟ فالجواب: أنه هو الظاهر؛ لان صرف اللفظ عن ظاهره إلى احتمال مرجوح يحتاج إلى دليل، وهذا الدليل إذا لم يكن معلوما لنا كان ادعاؤه من أتباع الهوى والتحكم على الله عز وجل. وعلى هذا فنمر آيات الصفات الفعلية، وآيات الصفات الخبرية، وآيات الصفات الذاتية، - نمرها - على ما هي عليه، فالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والقوة وما أشبه ذلك من الصفات الذاتية، نمرها كما جاءت، ونقول: إن لله حياة وعلما وقدرة وسمعا وبصرا وقوة وعزة: إلى آخره، ولا يجوز أن نصرفها عن ظاهرها؛ لان صرفها عن ظاهرها خروج بها عما يراد بها. كذلك الصفات الفعلية نمرها كما جاءت، مثل المجيء والإتيان، والغضب، والسخط، والرضا، والفرح، والعجب، وغير ذلك من الصفات الفعلية، فنقول: المراد بالرضا المعنى الحقيقي، وبالسخط المعنى الحقيقي، وبالفرح المعنى الحقيقي، وبالكراهة المعنى الحقيقي، وهكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 لأنها ألفاظ جاءت لمعناها، فإذا صرفناها عن معناها الظاهر صار ذلك من باب أتباع الهوى لا الهدى. والصفات الخبرية: هي التي تدل على مسمى هو أبعاص لنا وأجزاء، مثل: الوجه، واليد، والقدم، والأصابع، والعين، فكل هذه ألفاظ تدل على مسميات هي بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، أما بالنسبة لله فلا نقول إنها أبعاض وأجزاء؛ لان البعض والجزء ما يمكن انفصال بعضه عن بعض، وهذا بالنسبة لله عز وجل مستحيل، ولهذا لم نر أحداً يقول: إن يد الله بعض منه أو جزء منه، أو إن وجهه جزء منه أو بعض منه، فلا يقال هذا في حق الله عز وجل؛ لان البعض والجزء ما صح انفصاله عن الأصل، وهذا بالنسبة لله أمر مستحيل، إذا نسميها يدا ووجها وعينا وأصبعا وقدما، وما أشبه ذلك، لكننا لا نسميها بعضا أو جزءا. وعكس طريق السلف في هذا الباب: الذين أجروها على خلاف ظاهرها، أو أجروها على ظاهرها وجعلوها من جنس صفات المخلوقين، أو لم يجروها على ظاهرها ولا على غير ظاهرها، فسكتوا. فمثلا: الذين أجروها على ظاهرها وجعلوها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء الممثلة، وحقيقة الأمر أنهم لم يجروها على ظاهرها، وإن ادعوا أن هذا هو الظاهر فهم كاذبون. ولنضرب لذلك مثلا باليد، فإذا قالوا إن ظاهر اليد أن تكون مثل أيدي المخلوقين، قلنا: كذبتم ليس هذا ظاهرها؛ لان هذه اليد أضيفت إلى الله، فلا يمكن أن يكون المضاف إلى الله كالمضاف للمخلوقين، بل المضاف إلى الله يكون لائقا بالله عز وجل، ووصف كل موصوف يناسبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أرأيت يد الإنسان، هل تفهم من هذه اليد المضافة إلى الإنسان إنها مثل اليد المضافة إلى الذرة؟! أبدا، ولا يمكن أن يفهم هذا إلا من فيه هوس، فكذلك اليد المضافة إلى الله لا يمكن أن يكون مدلولها كاليد المضافة إلى الإنسان؛ لأنها يد أضيفت إلى موصوف بها، وصفة كل موصوف تليق به وتناسبه بحسبه، فقولكم: إن ظاهر النصوص هو التمثيل، وأننا اسعد بإتباع ظواهر النصوص ممن نفي التمثيل، فنقول إن قولكم هذا ليس بصواب. والذين نفوا هذا الظاهر، وقالوا: إن المراد باليد القوة أو النعمة، وقالوا: نحن أسعد بتنزيه الله منكم، نقول لهم: كذبتم، لستم أسعد بتنزيه الله منا، بل انتم وصفتم الله تعالى وكلامه بالنقائص، حيث زعمتم أن الكتاب لا يراد به ظاهره، بل يراد به معنى يخالف الظاهر تتصرفون فيه انتم بعقولكم كما تشاءون، ولذلك نجدكم متفرقين في المعنى المراد بهذا اللفظ؛ منكم من يقول: المراد كذا؛ ومنكم من يقول: المراد كذا، وكل إنسان يأتي بما أراد مما يراه عقليات وهي وهميات وليست عقليات. إذا نقول: إن هؤلاء الذين قالوا: إن المراد بها خلاف الظاهر، هم أيضا لم يتبعوا ما يلزمهم من إجرائها على ظاهرها. أما ظاهرها فهو المعنى اللائق بالله حقيقة دون المجاز، فالمراد باليد يد حقيقية تأخذ وتتصرف وتقبض وتبسط، وكذلك أيضا المراد بالأصابع أصابع حقيقية يأخذ الله بها ما أراد من خلقه، وكذلك المراد بالعين، وهكذا بقية الصفات. فنحن نمرها كما جاء لفظا ومعنى، لأنها ألفاظ جاءت لمعان، فمن نفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 اللفظ فإنه لم يمره، ومن نفى المعنى فإنه لم يمره، بل الواجب أن نمرها كما جاءت، ولا نتعرض بقولنا: كيف؟ ولم؟ لان هذا التعرض من سبيل أهل البدع بدليل قول الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج (1) . فقال: ((والسؤال عنه بدعة)) ، فلا يجوز أبداً أن نسأل عن صفة من صفات الله فنقول: كيف؟ ، ولا يجوز أيضا أن نقول: إذا صح هذا لزم منه هذا مما يمتنع على الله، يعني مثل الذين يقولون: إذا صح نزوله إلى السماء الدنيا لزم أن تكون السماء الثانية فوقه، فهذا حرام ولا يجوز، ولا يمكن أن يقدر هذا التقدير من عرف الله وقدره قدره، بل نحن موقفنا في هذه الأمور هو التسليم، وعدم التعرض لأي سؤال مثل هذه الأسئلة. أما لو قال: ما معنى النزول؟ أو ما معنى المجيء؟ أو ما معنى الضحك؟ فهذا لا باس أن يسأل عن المعنى حتى يبين له معنى الاستواء مثلا، لكن كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يجيء؟ كيف عينه؟ كيف يده؟ كيف قدمه؟ فهذا لا يجوز. فالحاصل أن موقف أهل السنة والجماعة من الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله عز وجل أن يمروها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فهي ألفاظ جاءت لمعنى وهم يمرون اللفظ والمعنى، وقلنا هذا احترازا من مذهب المفوضة الذين يقولون: نمر لفظها، دون أن   (1) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للاكائي 3/398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 يتعرضوا لمعناها. فمثلا (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) : نثبت أن الله عز وجل مستو على العرش بدون كيف، ولا نتعرض لمعناها، بل المعنى معلوم ولكن بدون التكييف، والذين يقرؤون اللفظ ولا يتعرضون للمعنى هم أهل التفويض. أما نحن فنقول: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) نمره كما جاء وهو لفظ جاء لمعنى، والمعنى هو أنه عز وجل علا على عرشه علوا يليق بجلاله وعظمته، ولا نكيفه ولا نمثله. وكذلك أثبت الله عز وجل عن نفسه أنه يجيء، فقال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر: 22) نثبتها ونقول: إن الله عز وجل يجيء حقا مجيئا يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا نقول كيف؟ بل نثبت المعنى. وأما أهل التفويض فيقولون: نقرأ (وَجَاءَ رَبُّكَ) ولا نتعرض للمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 26- ولا نرد ذاك بالعقول ... لقول مفتر به جهول 27- فعقدنا الإثبات يا خليلي ... من غير تعطيل ولا تمثيل   الشرح قوله: (ولا نرد ذاك بالعقول) ، ولا نرد ذاك: أي ما جاءت به النصوص من الآيات والأحاديث لا نرده بالعقول، وإنما قال ذلك إشارة إلى قول من يقول: إن المرجع في إثبات الصفات أو نفيها هو العقل، فما اقتضى العقل ثبوته أثبتناه وما اقتضى العقل نفيه نفيناه، سواء كان موجودا في القرآن والسنة أم غير موجود، وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فأما أن نتوقف فيه، وإما أن ننفيه، وأكثرهم نفى ذلك. الأول: ما اقتضى العقل ثبوته فيثبتونه، سواء كان ثابتا في الكتاب والسنة أم لا. الثاني: ما اقتضى العقل نفيه فينفونه، سواء كان ذلك موجودا في الكتاب والسنة أم لا. الثالث: ما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه. فانقسموا فيه إلى قسمين: قسم نفاه وهم الأكثر، وقسم توقف فيه، وقال: لا نثبت ولا ننفي؛ لان العقل لا يقتضي إثباته ولا نفيه، فالذين نفوه وهم الأكثر قالوا: لان العقل لم يدل عليه، وما لم يدل عليه الدليل فالواجب نفيه، والذين توقفوا فيه قالوا: إن العقل لم يدل على نفيه ولم يدل على إثباته، فالواجب التوقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 لكن كل هذه القاعدة قاعدة مبنية على شفا جرف هار؛ لأنها قاعدة تقتضي تقديم المعقول على المنقول، والعقل يقتضي تقديم المنقول على المعقول. وهذا من العجب؛ أن يقولوا: نحن نبع العقل، وهم يهدمون العقل بما يدعونه عقلا؛ لان العقل يقتضي أن هذه الأمور الغيبية نقتصر فيها على الخبر المجرد، لان العقل لا يمكن أن يتحكم فيها أو يدركها، فكان مقتضى العقل الصريح أن يرجع فيها إلى النقل فالخبر المحض الذي لا تدركه بعقلك كيف ترجع إلى عقلك فيه؟! فمثلا: لو رجعت إلى عقلك بالنسبة إلى حال شخص من البشر، فلا يمكن أن تحكم بعقلك على أحواله، ولكن تعتمد في الحكم على أحواله على ما نقله عن نفسه أو ما نقل عنه بخبر الصادق، أما أن تحكم عليه بعقلك فهذا غير صحيح؛ فكل له تصرف يختص به، فأنت ربما في بيتك تقوم وتفطر وتروح لعملك، وربما هو يقوم ولا يفطر بل يروح إلى العمل قبل أن يفطر، وبذلك يختلف عنك، هذا وهو بشر، حاله قريبة من حالك، كيف بالله عز وجل؟! كيف تحكم على الله بعقلك والعقل يقتضي أن تعتمد في ذلك على النقل، لان هذا لا يثبت إلا بالخبر المحض. ولهذا نقول: انتم يا أصحاب العقول هدمتم العقول؛ لأنكم تقولون: العقل يقتضي أن لا يوصف الله بذلك، وهو قد وصف به نفسه، وهو خبر عن أمر لا يدرك بالعقل فالواجب فيه الاعتماد على النقل، وتقولون هذا ثابت لله، والله لم يثبته لنفسه، وهذا أيضا إثبات للعقل بما ينافي العقل، لان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الذي يقتضيه العقل أن ما لم يبلغك خبره في أمر غائب عنك أن تتوقف فيه، وأما أن تثبته مع نفي الله له، فهذا زيادة في العدوان. فالحاصل أن قول المؤلف رحمه الله (لا نرد ذاك بالعقول) يشير به إلى رد قول من يقول: إن المرجع في صفات الله إلى العقل، ونقول هلم: أولا: أن هذه القاعدة باطلة من أساسها لأنها تقتضي تقديم المعقول على المنقول، والعقل يقتضي تقديم المنقول على المعقول. ثانيا: أن هذه القاعدة تبطل الاعتماد على العقل؛ لان العقل يقتضي أن ما طريقه الخبر المجرد يعتمد فيه على النقل وعلى الخبر ما دامت العقول لا تدركه، فالواجب أن يعتمد على ما اخبر الله به عن نفسه أو أخبرت به عنه رسله. ثالثا: أن نقول: تحكيم العقل في هذا الباب تحكيم من لا يحيط بالحكم علما؛ وذلك لان ما يصف الله به نفسه لا يمكن للعقل أن يدركه، فإذا كان الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (الأنعام: الآية 103) ، والإدراك بالبصر إدراك بمحسوس، فكيف تدركه العقول؟ ! العقول لا تدركه كنه حقيقة صفات الله عز وجل أبداً، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: الآية 11) . رابعا أن هذه العقول التي زعمتم إنها مرجع ومحكم في صفات الله عقول متناقضة؛ لان هؤلاء العقلاء - كما يدعون - يتناقضون، فنجد بعضهم يقرر وجوب ذلك عقلا، والآخر يقرر امتناع ذلك عقلا، وفرق واسع شاسع بين الواجب والممتنع، وكل منهم يدعي أنه من ذوي العقول، هذا يقول: هذا ممتنع على الله ولا يجوز وصفه به، وهذا يقول: هذا واجب لله فيجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وصفه به، فأين العقل؟! وبأي شيء يوزن ما يجب لله تعالى وما يمتنع؟! وبأي عقل يوزن إن قلنا بعقل زيد، قال عمرو: ما لكم تتركون عقلي؟ وإن قلنا بعقل عمرو، قال زيد: ما لكم تتركون عقلي؟ فبأي عقل يوزن؟ فهم متناقضون. بل إنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من أهل العلم إن الواحد من هؤلاء الذين يحكمون العقل يكون متناقضا، فيكتب في بعض مصنفاته أن هذا واجب لله، ويكتب في المصنفات الأخرى أنه ممتنع على الله. خامسا: أن في الاعتماد على العقل ارتكاب محظورين عظيمين: الأول: أن نقول على الله ما لا نعلم. الثاني: أن ننفي عن الله ما أثبته لنفسه. وهذا محظور عظيم لا يمكن لمؤمن أن يرتكبه بل ولا يمكن لعاقل أن يرتكبه فضلا عن مؤمن. وهؤلاء ارتكبوا ذلك بحجة أن العقل يمنع هذا على الله، أو بحجة أن العقل يوجب على الله هذا الشيء. إذا الرجوع إلى العقل باطل من هذه الوجوه الخمسة. والواجب أن نرجع إلى النقل، فإذا وجب الرجوع إلى النقل فهناك مرحلة أخرى واجبة، وهي أن نأخذ بظاهر هذا النقل ولا نحرفه، فلا نقول المراد به كذا وكذا مما يخالف الظاهر، بل الواجب أن نأخذ بظاهره. فإذا قال قائل: إذا أخذت بظاهره فقد مثلت الله بخلقه، ولنفرض انك أخذت بظاهر اليد وأن لله يدين، فانك إذا قلت: إن المراد باليدين هما ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يؤخذ بهما ويقبض فقد مثلت الله بخلقه، وحينئذ وقعت فيما هو كفر؟. وجوابنا على ذلك أن نقول: من قال إن ظاهر اليدين حقيقة يقتضي المماثلة؟ ؛ بل لنا أن نقول إن ظاهر اليدين المضافتين إلى الله حقيقة يقتضي امتناع المماثلة؛ وذلك لأنها يد أضيفت إلى متصف بها، ومن المعلوم أن ما أضيف إلى الشيء فإنه يكون لائقا به، فاليدان اللتان أضافهما الله إلى نفسه يدان لائقتان بالله عز وجل، لا يمكن أن تماثل أيدي المخلوقين، الست تقول: يد إنسان، وتقول: يد حمار، وتقول: يد جمل، وتقول: يد هر، وتقول: يد أسد، وتقول: يد ذرة؟! فهل أحد من الناس يعتقد التماثل في هذه الأيدي؟! أبداً؛ لأنها أيد مضافة إلى متصف بها، فتكون هذه الأيدي لائقة بالموصوف بها، لكن لو قلت: يد أسد، ويد أسد آخر، صارت مماثلة. إذا علم التباين بين المخلوقات بعضها مع بعض فالتباين بين الخالق والمخلوق من باب أولى. ومن اعتقد أن ظاهر نصوص الكتاب والسنة التمثيل فقد كفر، لان تمثيل الله بخلقه كفر، ومن زعم أن ظاهر الكتاب والسنة ما يقتضي الكفر فهو كافر؛ لان الكتاب والسنة يقرران الإيمان وينكران الكفر، ولهذا قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها (1) فالحاصل أن نقول: إننا إذا أخذنا بظاهر النصوص لم نكن ممثلين بل   (1) انظر مجموع الفتاوى 5/110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 نحن أبعد الناس عن التمثيل، والممثل حقيقة هو الذي صرف النصوص عن ظاهرها، فهذا الذي جعل النصوص دالة على التمثيل هو الذي صرفها عن ظاهرها؛ لأنه لم يصرفها عن ظاهرها إلا حيث اعتقد أن ظاهرها يقتضي التمثيل، فلما اعتقد هذه العقيدة الباطلة ذهب يصرفها عن ظاهرها، ولهذا نقول: كل معطل فهو ممثل؛ لأنه لم يعطل إلا حيث اعتقد أن ظاهرها التمثيل فذهب يصرفها عن ظاهرها ويعطل مدلولها عما أراده الله. أما القائلون بتحكيم العقل فهم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وكل أهل التأويل يقولون بتحكيم العقل في هذا الباب، وسيأتي إن شاء الله في كلام المؤلف رحمه الله أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعا؛ ادعوا أن العقل يقتضيها، وأنكروا بقية الصفات بحجة أن العقل لا يقتضيها، ولكننا نقول بان العقل يؤيد ما جاءت به النصوص من هذه الصفات الكمالية، التي اتصف الله سبحانه وتعالى بها. قال: (ولا نرد ذاك بالعقول) أما الذين رجعوا إلى العقول فقد ردوها؛ لأنهم أنكروا دلالتها على المراد بها. فمثلا قالوا في قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) أي وجاء أمر ربك، فردوها، إذ قالوا: نحن لم نردها ولم نكذب بمجيء الله، ولكن المراد بمجيئه مجيء أمره، وما هذا في الحقيقة إلا رد؛ إذ ما معنى الرد إذا لم يكن هذا ردا؟ فربنا عز وجل يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) وانتم تقولون: لم يجئ ربك، بل الذي جاء أمره - سبحان الله! - هل الله يبين لعباده خشية أن يضلوا، أو يعمي على عباده ليضلوا؟! الجواب: الأول بلا شك قال تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء: الآية 176) ، فلو كان الله يريد بقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) : وجاء أمر ربك لكان هذا ابلغ ما يكون في التعمية، ولكان هذا من عدم البيان، بل من التلبيس على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 العباد، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أوجب على عباده أن يعرفوه بصفاته فكيف يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) وهو يريد وجاء أمر ربك؟! فإذا قال قائل: إن الله يقول: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (النحل: الآية 1) فيجب أن نحمل (وَجَاءَ رَبُّكَ) على هذه الآية؟ فالجواب: أن هذه الآية التي استدللتم بها حجة عليكم وليست حجة لكم، لان اختلاف التعبير في الموضعين يدل على أن احدهما غير الآخر، فلو كان الله يريد بقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ) : وجاء أمر ربك، لقالها، كما قاله في الآية الثانية (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) . ثم إن الله قال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر: 22) ، ومعلوم أن الذي جاءهم الملائكة أنفسهم وليس أمرهم، ففي الآية أيضا قرينة لفظية تدل على امتناع تفسيرها بمجيء أمره. ولا تعجب أن يكون كل دليل استدل به المبطل دليلا عليه؛ لان استدلاله به يدل على أنه فيه إشارة إلى هذا المعنى لكنه إشارة على غير ما أراده. وقد التزم شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه: درء تعارض العقل والنقل بألا يأتي مبطل بحجة يحتج بها على باطله إلا جعلها دليلا عليه لا له (1) إذاً: نقول للذين يحكمون العقل: إنكم انتم الذين خرجتم بآيات الصفات وأحاديثها عن ظاهرها، أما نحن فإننا أخذنا بظاهرها لان الله تعالى إنما انزل الكتاب تبيانا لكل شيء، وأراد من عباده أن يهتدوا بهذا القرآن لا أن يضلوا فيه، وإذا كنتم انتم تعملون بظاهر النصوص في العبادات   (1) انظر درء تعارض العقل والنقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 والمعاملات وهي أيضا - اعني العبادات والمعاملات - فيها ما يرجع فيه إلى العقل كالمسائل القياسية، فكيف لا ترجعون فيها إلى مجرد النقل وتمنعون القياس كما منعه أهل الظاهر؟! مع أن هؤلاء الذين يرجعون إلى العقل في باب الصفات فيها ولا يأخذون بظاهر النصوص في باب الصفات، وهذا من التناقض في الاستدلال. فالحاصل أنه لا يجوز الاعتماد في باب الصفات على العقل لعلل منها: الأولى: تناقض العقلاء فيما بينهم فيما يثبت وما ينفى. والثانية أن نقول: لو حكمنا العقل في هذا لكان مقتضى ذلك أن نرجع إلى المنقول؛ لان صفات الله عز وجل من باب الخبر المحض التي يعتمد فيها على النقل المحض. والثالثة: أن العقول لا يمكنها إدراك ما يجب لله ويمتنع ويجوز على سبيل التفصيل. أما على سبيل الإجمال فيمكن إدراكه وذلك بان الله موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن. والرابعة: أنه يمتنع عقلا أن تتحدث عن شخص تجهل حقيقة صفاته فكيف تتحدث عن الخالق الذي لا مثيل له؟ والخامسة: أن الذين رجعوا إلى العقول في هذا ارتكبوا محذورين: أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وينفون عن الله ما قاله عن نفسه، وهؤلاء ارتكبوا محظورا عظيما بحجة أن العقل يمنع هذا على الله، أو بحجة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 العقل يوجب على الله هذا الشيء، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولا نرد ذاك بالعقول) . وقوله: (لقول مفترٍ) اللام هنا للتعليل أي من اجل قول مفتر، والمفتري هو الكاذب. وقوله: (مفتر به جهول) : أي كاذب به جهول، ويجوز أن نجعل (به) متعلقا بجهول، أي جهول به، وإنما قال المؤلف: مفتر، وجهول لان من خالف النص وقال إن المراد به كذا، فهو إما كاذب وإما جاهل؛ إما كاذب إن تعمد مخالفة النص وهو يعلم أن النص يدل على كذا ولكن قال نرجع إلى كذا؛ وإما جهول إن كان لا يدري أنه خالف النص، فالذين خالفوا النصوص في هذا الباب لا يخرجون عن أحد هذين الوصفين؛ إما الكذب إن علموا أن النص يدل على خلاف قولهم ولكن ارتكبوا خلافه عن عمد؛ وإما الجهل إن ارتكبوا خلاف النص عن غير عمد. ثم قال رحمه الله: (فعقدنا الإثبات يا خليلي) عقدنا - يعني - اعتقادنا الإثبات من غير تعطيل ولا تمثيل. وقوله: (فقعدنا الإثبات) : أي ما أثبته الله لنفسه، ولا شك أن في العبارة قصورا؛ لان عقدنا: الإثبات فيما أثبته الله لنفسه، والنفي فيما نفاه الله عن نفسه، والتوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه ما لم يتضمن نقصا، فإن تضمن نقصا محضا فهو مما ينفى عن الله عز وجل، فصار اعتقادنا على النحو التالي: الأول: إثبات ما أثبته الله لنفسه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والوجه، والعين , واليد، والقدم، والأصبع، وغير ذلك: فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 نثبته لان الله أثبته لنفسه. والثاني: نفي ما نفاه الله عن نفسه، كالظلم، والجهل، والغفلة، والنسيان والعور، وغير ذلك، فننفي ما نفاه الله عن نفسه. والثالث: التوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه ما لم يتضمن نقصا محضا، فإن تضمن نقصا محضا فإننا ننفيه عن الله وإن لم يرد نفيه، وأما فيما لم يرد إثباته ولا نفيه فمثاله الجسم، فلو قال لنا قائل: هل تقولون إن الله جسم؟ فالجواب: لا نقول إنه جسم، وتأمل العبارة: لا نقول إنه جسم، وهذه العبارة غير أن نقول: أنه ليس بجسم: والصحيح قول: لا نقول إنه جسم. ونحن إذا قلنا: أنه ليس بجسم نفينا أنه جسم، أما إذا قلنا: لا نقول أنه جسم فقد نفينا القول بأنه جسم. وفرق بين النفيين؛ لان الأول وهو قول: أنه ليس بجسم حكم بانتفاء الجسمية عن الله، وهذا ليس عندنا علم فيه، والثاني وهو قول: لا نقول أنه جسم نفي للقول بذلك، ونحن ننفي أن نقول بذلك لأننا لا نعلم. إذا الجسم: لا نثبته ولا ننفيه؛ لان الله لم ينفه عن نفسه ولم يثبته، فإذا لم ينفه عن نفسه ولم يثبته فليس لنا دخل في هذا، فنقف حيث وقف النص، ولكن نسأل عن المعنى المراد بالجسم؛ فإن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يستحقه من الصفات، فهذا المعنى صحيح، فإن الله تعالى شيء قائم بنفسه متصف بما يليق به من الصفات: يستوي، ويأتي، وينزل، ويضحك، ويفرح، ويغضب، ويرضى، ونحن نؤمن بذلك، وإن أردت بالجسم الشيء المركب من أجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، ويجوز انفصال بعضها عن بعض كما في الأجسام المخلوقة فهذا باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 كذلك أيضا الجهة، هل الله في جهة؟ نقول: أما اللفظ فإننا نتوقف فيه، وما لنا وله! وأما المعنى فنستفصل: ماذا تريد بالجهة؟ إن أردت أن الله تعالى في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا ممتنع وباطل، وإن أردت بذلك جهة سفل ومخالطة للمخلوقات فهذا أيضا باطل وممتنع على الله، فليس الله في جهة السفل وليس في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف، وإن أردت أنه في جهة عليا عدمية لا تحيط به، ما ثم إلا هو عز وجل فهذا حق، والنبي عليه الصلاة والسلام اعلم الخلق بالله قال للجارية: ((أين الله) ؟ قالت: في السماء (1) . فاستفهم باين التي يستفهم بها عن المكان، والمرأة أجابت بفي الدالة على الظرفية، أي: الظرفية العدمية، يعني: لا شيء محيط بالله، فما ثم فوق المخلوقات إلا الله عز وجل. وفي خطبة يوم عرفة التي لم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون اجتماعا أعظم منها ولا اكبر منها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، قال وهو يخطب الناس: ((ألا هل بلغت) ؟ قالوا: نعم، فقال: ((اللهم اشهد) يشير بالسبابة إلى السماء وينكث بها إلى الناس. ((ألا هل بلغت) قالوا، نعم. ففعلها مرة أخرى: ((ألا هل بلغت) ؟ (2) قالوا: نعم ففعلها ثلاث مرات. وهذه الإشارة تعني أن الله في جهة وهي جهة العلو. فالحاصل انك إذا أردت بالجهة جهة علو عدمية، أي ليس فوق إلا الله وحده فهذا صحيح، ومع ذلك ونظرا لكون البسطاء من الناس يفهمون من   (1) رواه مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، رقم (537) . (2) رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الجهة أنه في كل مكان مثلا، فنقول: لا تطلق أن الله في جهة أو في غير جهة، بل لابد من التقييد على حسب التفصيل الذي ذكرنا. وكذلك الحيز، فاللفظ نتوقف فيه، والمعنى نستفصل، فإن أريد أن الله في حيز يحيط به ويحوزه فهذا باطل وممتنع؛ لان الله عز وجل لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وإن أريد أنه منحاز عن المخلوقات بائن منها غير مختلط فيها ولا هي حالة فيه فهذا حق. إذا قول المؤلف رحمه الله: (فعقدنا الإثبات) فيه قصور؛ لان الواقع أن عقدنا إثبات ونفي وتوقف، ولكن في باب النفي؛ هل الله تعالى متصف بصفات هي نفي محض؟ الجواب: لا، بل صفات الله سبحانه وتعالى المنفية متضمنة لثبوت كمال، ويجب أن نؤمن بأنها متضمنة لثبوت كمال، لأنها يراد بها بيان كمال الصفة المضادة فلا يظلم الله الناس شيئا (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (يونس: الآية 44) وذلك لكمال عدله، فهذا النفي إنما هو من أجل كمال الضد، فقد يكون في الإنسان عدل لكن يكون فيه أيضا ظلم، فيقال: فلان عدل، لكن ظلم في القضية الفلانية، فلا ينتفي عنه الظلم، لكن الله عز وجل ينتفي عنه الظلم، لان العدل لديه كامل لا يمكن أن يرد في حقه الظلم؛ لا في قليل ولا في كثير، فانتفى الظلم عنه لكمال العدل في حقه عز وجل. ولو قلت: أنا أقول: لا يظلم ولا أقول لكمال العدل، قلنا: هذا ليس بصحيح لان صفات الله عز وجل كلها عليا، وظلم لا يتضمن كمال العدل ليس من الصفات العليا؛ لان نفي الظلم إذا لم يكن لكمال العدل فقد يكون نقصا، وقد يكون لعدم القابلية، فلا يمدح بنقص ولا كمال، فإذا قلت فلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 رجل طيب لا يظلم، الناس يضربونه فيقول: اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وأعني على الصبر، يأخذون ماله فيقول: الله اغنني؛ لأنه غير قادر، فهو ضعيف جدا، بل يخاف إن تكلم أن يضرب زيادة، فهل هذا يعتبر مدحا إذا قلنا: إنه لا يظلم؟ لا، ولهذا قال الشاعر: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لو سمعت قوله: لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل، قلت: ما شاء الله هؤلاء ناس أهل وفاء، وأهل عدل، لا يغدرون، ولا يظلمون، لكن الواقع أنه يسبهم بأنهم لا يقدرون على الغدر ولا على الظلم، ويقول الشاعر أيضا: لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يحزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا فهذا الرجل يذم قومه وليس يمدحهم، ولهذا قال: فليت لي بهم قوما: أي بدلهم. إذا نفي النقص لعدم القدرة عليه يعتبر نقصا، وقد يكون نفي النقص لان المحل غير قابل له، لا لكمال المحل، كما لو قلت: جدارنا لا يظلم الناس، وسيارتي لا تظلم أحداً، فهذا لا يعتبر مدحا؛ لأنه لا يقبل الظلم ولا العدل. قال المؤلف رحمه الله: (من غير تعطيل ولا تمثيل) يعني يجب علينا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 نثبت بلا تعطيل والتعطيل نوعان: تعطي للنص، وتعطيل للصفة؛ فأما تعطي النص: فتعطيله عن دلالته، وأما تعطيل الصفة فنفيها عن الله عز وجل. مثلا: اليد تعطيلها باعتبار تعطيل الصفة بان يقول: ليس لله يد حقيقية، وتعطيل النص بان يقول في قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ) (ص: الآية 75) أي بقدرتي أو بنعمتي. فالتعطيل إذا إما تعطيل للنصوص بمنع دلالاتها على ما أريد بها، وإما تعطيل للصفات بنفيها عن الله سبحانه وتعالى مع ثبوتها له. فأهل السنة والجماعة يتبرؤون من التعطيلين؛ لأنهم يجرون النصوص على ظاهرها، ولأنهم يثبتون لله ما أثبته الله لنفسه. ثم اعلم أن التعطيل الذي ينفيه أهل السنة والجماعة ينقسم إلى أقسام: الأول: تعطيل جزئي: يكون بإثبات الأسماء، وإثبات سبع من الصفات، وإنكار الباقي، وهذا مذهب الأشاعرة، فالأشاعرة يثبتون الأسماء لله عز وجل، ويثبتون سبعا م الصفات، وينكرون الباقي، فإذا جاءت النصوص بدلالة على الباقي حرفوها، فيكون هؤلاء عطلوا النصوص وعطلوا الصفات فيما نفوه، فمثلا يقولون: في قول الله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه) (التوبة: الآية 100) يقولون: معنى رضي الله عنهم: أي أثابهم، فيفسرون الرضى بالمفعول المنفصل عن الله وهو الثواب، فهؤلاء عطلوا الصفة وهي الرضا، وعطلوا النص فصرفوا دلالته عن الرضا إلى الثواب، فعطلوه عن مدلوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الثاني: تعطيل هو فوق ذلك. وهو تعطيل الصفات كلها دون الأسماء فينفون الصفات عن الله ويثبتون له الأسماء ومنهم من يقر بالحياة والعلم والقدرة لأنه لابد للرب منها، وما عدا ذلك يحرفونه، وهؤلاء هم المعتزلة، وهذا هو المشهور عنهم؛ أنهم يقرون بالأسماء، وينكرون الصفات أو يقرون بثلاث صفات وينكرون الباقي. الثالث: تعطيل فوق ذلك، وهو إنكار الأسماء والصفات. فيقولون: إن الله لا يسمى سميعا ولا يثبت له سمع، وكل ما سمى الله به نفسه يجعلونه اسما للمخلوقات، فليس الله هو السميع بل السميع خلقه، وأضيف السمع إليه لأنه هو الذي خلقه في هذا، فيجعلون الأسماء والصفات كلها للمخلوقات لا للخالق عز وجل، وهؤلاء غلاة الجهمية، يقولون: لا نؤمن بان الله له أسماء ولا بان الله له صفات. الرابع: تعطيل قوم فوق ذلك وهم الذين لا يثبتون لله أي صفة ثبوتية. فكل شيء ثبوتي لا يثبتونه لله، وإنما يثبتون لله السلبيات فقط، فيقولون مثلا: ليس بمعدوم، ليس بجاهل، ليس بأعمى، ليس بأصم، وأما إثبات الصفة فهي ممنوعة، لا الأسماء ولا الصفات، وهؤلاء هم القرامطة وأشباههم. الخامس: تعطيل فوق ذلك وهم الذين يعطلون النفي والإثبات، فلا يصفون الله بصفة ثبوتية ولا بصفة سلبية، فلا يثبتون الإثبات ولا النفي، فيقولون: لا نقول أنه يرضى ولا نقول أنه لا يرضى ولا نقول حي ولا ميت، لا سميع ولا أصم، لا بصير ولا أعمى. فينفون عنه النفي والإثبات. قالوا: لأنك لو اثبت لشبهته بالمثبتات، ولا نفيت لشبهته بالمنفيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فأنت واقع في التشبيه سواء أثبت أم نفيت، فنقول لهم: هل تقولون أنه موجود؟ فيقولون: لا. هل تقولون معدوم؟ فسيقولون: لا. إذا لا موجود ولا معدوم! وهل هذا ممكن أن يكون الشيء لا موجودا ولا معدوما؛ أو موجودا معدوما؟! لا يمكن. إذا انتم الآن فررتم من تشبيهه بالمنفيات أو بالمثبتات وشبهتموه بالممتنعات. والممتنع طبعا لا وجود له أصلا. وانظر كيف يلعب الشيطان ببني ادم إلى هذا الحد؛ فيقول: إن قلت: حي فقد شبهت، وإن قلت: ليس بحي، فقد شبهت. وإن قلت: سميع فقد شبهت؛ وإن قلت: ليس بسميع فقد شبهت. فماذا نصنع؟ ! قل: لا سميع ولا غير سميع، وإن قلت: موجود شبهت، وإن قلت: لا موجود شبهت، إذا ماذا أقول؟! قل: لا موجود، ولا لا موجود. وهذا غاية ما يكون من الامتناع. وقال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: أنتم إذا فررتم من تشبيهه بالمثبتات والمنفيات - مع أن المثبتات والمنفيات أمر ممكن - فقد شبهتموه بالممتنعات؛ لان تقابل النفي والإثبات بإجماع العقلاء من باب تقابل النقيضين (1) ، يعني لو سلمنا جدلا بان الحياة والموت من باب تقابل العدم والملكة، وأنه يصح أن نقول لا حي ولا ميت فيما لا يقبل الحياة ولا الموت، كالجماد مثلا، فالجدار نقول: لا حي ولا ميت لأنه لا يقبل الحياة ولا الموت، فلو سلمنا جدلا بأننا نوافقكم على أن تقابل الحياة والموت والسمع   (1) انظر مجموع الفتاوى (12/356-357) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والصمم من باب تقابل العدم والملكة التي جوز أن تنفى عمن لا يكون محلا قابلا لها - لكن لا يمكن أن تخرجوا عن الإثبات والنفي، لان تقابل الإثبات والنفي من باب تقابل النقيضين، يعني ليس هناك شيء إلا موجود أو معدوم؛ إلا ثابت أو منفي. فإذا نفيتم الإثبات والنفي، أو الوجود والعدم فقد أتيتم بما أجمع العقلاء على امتناعه؛ وذلك لان تقابل الوجود والعدم، والإثبات والنفي من باب تقابل النقيضين اللذين اجمع العقلاء على إنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، فانتم لابد أن تصفوه أما بالوجود وإما بالعدم، فإما أن تقولوا: ليس بموجود أو ليس بمعدوم، أما أن تقولوا: لا موجود ولا معدوم فهذا شيء ممتنع، وقال بذلك غلاة القرامطة والباطنية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. والحاصل أن التعطيل خمسة أنواع، وأهل السنة والجماعة يتبرؤون من جميع هذه الأنواع، ويثبتون لله كل ما أثبته لنفسه. وأقول لهؤلاء: إنكم ما فررتم من شيء إلا ووقعتم في شر منه، لا في مثله فحسب بل في شر منه، لان هؤلاء إذا فروا مما يعتقدون في تشبيهه وأثبتوا صفة أخرى، نقول لهم: هذه الصفة موجودة في المخلوق فقد وقعتم فيما فررتم منه من حيث التشبيه بالمخلوق، وشر منه تحريف النص. ونضرب مثلا: الذين يقولون إن الله ليس له يد حقيقية وإنما له قوة. لماذا لم يثبتوا اليد الحقيقية؟ قالوا: لان هذا يقتضي التشبيه بالمخلوق الذي له يد وجارحة. فنقول: والقوة كذلك: أليس للمخلوق قوة؟ فلن يستطيع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 يقول: لا، والله يقول: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) (الروم: من الآية 54) فأنتم كان لكم ضعف ثم قوة ثم ضعف، فإذا قلتم: له قوة وقعتم في التشبيه على قاعدتكم؛ لان للمخلوق قوة، فيلزم على قاعدتكم أن تكونوا مشبهين لله تعالى بخلقه. وقلنا: أنهم وقعوا في شر مما يفرون منه وهو تحريف النص، حيث حرفوا معنى النص إلى معنى خلاف الظاهر، وهكذا كل الذين يتكلمون بالتعطيل نقول: هم فروا من شيء ووقعوا في شر منه. قوله: (ولا تمثيل) يعني: نثبت بلا تمثيل، وهذا من المؤلف جيد جدا حيث أتى بنفي التمثيل دون نفي التشبيه، فإن هذا أولى لوجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن نفي التمثيل هو الذي جاء به النص، كما قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) ، وقال تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) (النحل: الآية 74) . ولا شك أن استعمال الألفاظ التي جاءت بها النصوص أولى بكثير من استعمال ألفاظ جديدة لأمور: أولا: انك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص ربطت الناس بالنصوص، وربط الناس بالنصوص له اثر جيد محبوب. وثانيا: أنك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص سلمت من أي اعتراض، لان النصوص محكمة وليس فيها تناقض ولا اختلاف. وثالثا: انك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص فإن ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أدق وأبين مما إذا استعملت عبارات أخرى، وإن كانت فيما يبدو للسامع مرادفة لما جاءت به النصوص. الوجه الثاني: أن نفي التشبيه من كل وجه لا يصح؛ لأنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه في الجملة، ولولا هذا التشابه ما استطعنا أن نعرف المعنى أبداً، فلله حياة وللإنسان حياة، فهناك نوع من التشابه، لكن هل هناك تشابه فيما يختص فيه كل واحد؟ الجواب: لا. لان للمخلوق حياة تتميز عن حياة الخالق، وللخالق حياة تتميز عن حياة المخلوق، كما أن للخالق ذاتا تتميز عن ذات المخلوق وكذلك للمخلوق ذات تتميز عن ذات الخالق. الوجه الثالث: أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات؛ لان من الناس من يقول إن كل من أثبت لله صفة فهو مشبه، فإذا قلت: من غير تشبيه صار معناها عند هذا القائل من غير إثبات صفات، وهذا معنى باطل. وعلى هذا فما نقرؤه من كلمة: (من غير تشبيه) في كثير من الكتب المؤلفة في هذا الباب إنما يريدون به من غير تمثيل؛ لان نفي التشبيه من كل وجه لا يصح، ولان بعض الناس يعتقد أن كل من اثبت لله صفة فهو مشبه، فيكون المعنى على هذا الاعتقاد: من غير إثبات صفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 28 - فكل من أول في الصفات ... كذاته من غير ما إثبات 29- فقد تعدى واستطال واجترى ... وخاض في يبحر الهلاك وافترى   الشرح (كل) : مبتدأ، والخبر: (فقد تعدى) وقرن المؤلف رحمه الله الخبر بالفاء لان المبتدأ يشبه الشرط في العموم، قال العلماء رحمهم الله: وإذا كان المبتدأ يشبه الشرط في العموم حسن اقتران خبره بالفاء، ومثلوا ذلك بقولهم: الذي يأتيني فله درهم. وهذا مثله (كل من أول فقد تعدى) . وقوله: (فكل من أول في الصفات) من: اسم موصول يشمل كل مؤول، يعني سواء كان تأويله عاما أو خاصا، فإذا أول أي نص من غير ما إثبات، فإنه يكون متعديا، وسواء أول في الصفات الخبرية أو في الصفات الفعلية أو في الصفات الذاتية، فإنه يعتبر متعديا. فمن قال مثلا: إن المراد باليدين النعمة فهو مؤول، ومن قال: إن المراد بالوجه الثواب فهو مؤول، ومن قال: إن المراد بالاستواء الاستيلاء فهو مؤول، وتسميتنا إياه تأويلا من باب التسامح، وإلا فالحقيقة أن هذا تحريف، فكل تأويل ليس له أصل فإنه ينبغي أن نسميه تحريفا، كما نطق به القرآن: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (النساء: الآية 46) ، فكل من أول الكلم عن موضعه وحمله على معنى آخر فقد حرف. وقوله: (كذاته) يعني كما أن من أول في ذات الله من غير إثبات فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 معتد، فكذلك من أول في الصفات، وهذا إشارة من المؤلف رحمه الله بأن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما إننا نثبت لله عز وجل ذاتا لا تشبه ذات المخلوقين، فإننا نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقين. وقوله: (من غير ما إثبات) يعني من غير ما دليل على تأويله، فإنه يكون متعديا، فإن وجد دليل للتأويل فإن ذلك لا باس به، ولا يعد هذا تعديا، مثاله قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) (1) فلو قال قائل: ظاهر الحديث أن الله يكون سمع الإنسان وبصره ويده ورجله، فلماذا تؤولون هذا الحديث وتقولون: إن المراد أن الله يسدد هذا الرجل في سمعه وبصره ومشيه وبطشه؟ فالجواب أن نقول: لان عندنا دليلا يدل على ذلك، وهو قول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تتقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) . فهنا يوجد عابد ومعبود لقوله: ((ما تقرب إلى عبدي) ، ويوجد متقرب ومتقرب إليه ((ما تقرب إلي عبدي) ، ويوجد فارض ومفروض عليه ((مما   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 افترضت عليه) وفيه أيضا سائل ومسئول، ومعطي ومعطى، ومستعيذ ومستعاذ به، في قوله: ((ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) . وكل هذا يدل على التباين بين هذا وبين هذا، فإذا كان هذا دالا على التباين فكيف يكون هذا الشيء المباين بعضا من الشيء المباين؟! وكيف يكون سمعه وبصره ويده ورجله؟! فهذا مستحيل. وأيضا السمع والبصر واليد والرجل بعض من المخلوق ولا يمكن أن يكون بعض المخلوق هو الخالق، فهذا شيء مستحيل. إذا فعندنا دليل على هذا التأويل، وإذا قام الدليل على التأويل فإننا نقول: ليس ظاهر الحديث مقصودا، بل لنا أن نقول: أن هذا الظاهر الذي ادعي ليس هو ظاهر الحديث؛ لان ظاهر الحديث يناقض سياقه × ومعلوم أن ظاهر الكلام ما يقتضيه سياقه، وليس كل لفظ من الألفاظ له معنى منفرد، بل الألفاظ يكون معناها بضم بعضها إلى بعض. فنحن لم نخرج عن ظاهر الحديث ولم نؤول، وإذا تنزلنا جدلا وقلنا: إن هذا تأويل، فإننا نقول: إن هذا التأويل قد دل عليه الدليل، وإذا دل عليه الدليل من كلام من تأولنا كلامه لم نكن خرجنا بكلامه عن ظاهره، لان المتكلم اعلم بمراده؛ ومثل ذلك أيضا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول: ((عبدي جعت فلم تطعمني، ومرضت فلم تعدني) (1) فإنا لو أخذنا بظاهر هذا اللفظ لقلنا إن الله يمرض وإن الله يجوع، وهذا شيء مستحيل على الله، لكن هذا قد فسر في نفس الحديث حيث قال: ((إن عبدي فلانا جاءك فلم تطعمه، ومرض فلم تعده)) ،   (1) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، رقم (2569) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فهذا يدل على أن هذا اللفظ الذي يدعى أنه ظاهر غير مراد؛ لان الله تعالى بينه بنفسه. فالحاصل أن المؤلف رحمه الله أعطانا قاعدة وهي أن جميع من أول في الصفات من غير إثبات ولا دليل يدل على تأويله فإنه معتد. وأيضا كما أننا لا نؤول في الذات يجب أن لا نؤول في الصفات، لان الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. ثم قال رحمه الله: فقد تعدى واستطال واجترى وخاض في بحر الهلاك وافترى هذه خمس صفات - والعياذ بالله من ذلك -: تعدى، واستطال، واجترى، وخاض في بحر الهلاك، وافترى. كل هذه أوصاف لمن أول في الصفات من غير دليل. قوله: (فقد تعدى) تعدى على النصوص وعلى المتكلم بالنصوص؛ لان هذا التأويل تعد على اللفظ وإخراج له عن ظاهره، وتعد على قائل النص حيث كلم الناس بما لا يريد، وهذا نوع من التعمية، وهو خلاف قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: الآية 44) وخلاف قوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء: الآية 176) وخلاف قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (النساء: من الآية 26) ، فكل إنسان يؤول فقد تعدى على النص وعلى المتكلم بالنص وهو الله ورسوله. وقوله: (واستطال) استطال من الطول وهو الغنى، كما في قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) (النساء: الآية 25) أو من الاستطالة وهي العلو والترفع، والثاني انسب يعني أنه استطال واستعلى وترفع والعياذ بالله، واعتد برأيه، وأنكر رأي الآخرين. وقوله: (واجترى) من الجرأة، وهي الإقدام، أي: إقدام الإنسان على ما ليس له بحق، وقد تجرأ فلان على كذا: يعني أقدم على شيء ليس له فيه حق، وكذلك الذي يؤول في الصفات؛ فإنه قد أقدم على شيء ليس له بحق. وقوله: (وخاض في بحر الهلاك) الخوض في الأصل يطلق على العمل الذي ليس بمركز ولا منظم، ومنه الخوض في الوحل، والخوض في الماء، والخوض في الطين، قال تعالى: (فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (الطور: الآية 12) . وقوله: (في بحر الهلاك) الهلاك هنا معنوي، يعني يبقى حيا لكن هو في الحقيقة حي ميت، بل الميت على الحق خير من هذا الذي بقي على الباطل. وقوله: (وافترى يعني كذب ووجه كذبه أنه قال: إن الله لم يرد كذا وأراد كذا، فكذب في النفي وكذب في الإثبات: مثلا: في قوله تعالى: (بِيَدَيَّ) (صّ: الآية 75) قال: إن الله لم يرد اليدين وأراد النعمة فكذب في النفي وكذب في الإثبات، وقوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش) (الأعراف: الآية 54) قال: إن الله لم يستو على العرش ولكن استولى أو لم يرد العلو وإنما أراد الاستيلاء. فنقول: كذبت في الأول وفي الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 30- ألم تر اختلاف أصحاب النظر ... فيه وحسن ما نحاه ذو الأثر 31- فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى ... وصحبه فاقنع بهذا وكفى   الشرح لما ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز الرد إلى العقول في باب الصفات، وذكر تحريم التأويل وانه استطالة وجرأة وافتراء، ذكر دليلا حسيا ملموسا، فقال: (ألم تر اختلاف أصحاب النظر فيه) يعني الم تعلم أن أصحاب النظر والمراد بأصحاب النظر أصحاب الكلام، الذين يرجعون في إثبات الصفات أو نفيها إلى العقل، فهؤلاء اختلفوا واضطربوا اضطرابا كثيرا عظيما، حتى إن بعضهم يوجب ما يرى الآخر أنه مستحيل. احدهم يقول: هذا واجب لله، والثاني يقول: هذا مستحيل على الله، والأخر يقول: هذا جائز، وهذا من التناقض فاضطربوا اضطرابا كثيرا فيما هم عليه. ولا ريب أن اختلاف الأقوال واضطرابها يدل على ضعفها وأنه ليس لها أساس؛ لان الأقوال كلما قويت أساساتها تقاربت، ولهذا تجد المسائل المنصوصة في القرآن أو السنة الخلاف فيها قليل، وأضرب لك مثلا بالمواريث فإن الخلاف بين العلماء رحمهم الله في المواريث قليل بالنسبة للخلاف في غيره، وذلك لان غالب أحكامه منصوص عليها، والمنصوص عليه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يختلف الناس فيه. كذلك أهل الزكاة مثلا، فأهل الزكاة الثمانية لا تكاد تجد خلافا بين العلماء رحمهم الله فيهم إلا قليلا بالنسبة للخلاف في المسائل الأخرى، لان أصحاب الزكاة منصوص عليهم، فكلما كانت الأقوال مؤيدة بالنصوص كان الخلاف فيها أقل، لان النص يجمع أطراف الخلاف. أما إذا كانت المسائل ليست مبنية على نص ولا على أصل فانك ترى فيها الخلاف العجيب، ولو شئت لقلت، إن الخلاف أكثر من أصحابه، فإذا كانوا عشرة اختلفوا على خمسة عشر قولا. فإذا قال قائل: كيف يكون الخلاف أكثر من أصحابه؟! فنقول: يكون للواحد عدة أقوال. فإذا كانوا عشرة وكل واحد له خمسة أقوال صار الخلاف خمسين وجها. فأصحاب النظر، الذين يدعون أنهم أصحاب عقول وأن غيرهم عامة وحشوية وبلهاء وما أشبه ذلك، هم أكثر الناس اختلافا في هذا الباب، ومن طالع ما ينقل عنهم رأى العجب العجاب، حتى إنك لا تكاد تتصور القول من شدة فساده. فإذا كان هذا حال أصحاب النظر فكيف يعتمد على هؤلاء فيما هو أساس الرسالات، وهو معرفة الرب جل وعلا بأسمائه وصفاته؟! وكيف نعتمد على هذه الأقوال المتناقضة التي لا تنبني على أصل؟! ولهذا فإن المؤلف رحمه الله جاء باختلاف أهل النظر دليلا على فساد أقوالهم، لان الاختلاف والاضطراب يدل على الفساد. فإن قيل: من هم أصحاب النظر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فالجواب: هم أصحاب الكلام كما يسميهم أهل العلم، وعلمهم علم الكلام، وسموا أصحاب النظر لأنهم قدموا النظر على الأثر. وأصحاب النظر - هؤلاء المتكلمون - هم أكثر الناس فسادا واضطرابا في الأقوال؛ لأنهم لم يبنوا على أسس صحيحة، وإنما بنوا على وهميات ظنوها عقليات، فبنوا عليها عقيدتهم. ولعله قد مر بك أن أساطينهم ورؤساءهم أقروا بأنهم على ضلال، فمن جملتهم الرازي الذي يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ووجدت اقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ، وقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (فاطر: الآية 10) ، وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: الآية 110) ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. هذا هو الرازي أحد أساطينهم وكبرائهم وعلمائهم يقول: هذه المناهج والطرق ما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، أي، لا تسمن ولا تغني من جوع، ويقول: رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، يعني: طريقة تحكيم النصوص في هذا الباب، ثم ضرب مثلا: اقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) فأؤمن بأنه استوى على العرش، واقرأ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (فاطر: الآية 10) فأؤمن بأنه في العلو، واقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) وهي نفي للتمثيل، واقرأ: (َلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: الآية 110) وهي نفي التكييف، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ويقول: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا والقيل والقال محصول ليس بجيد، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال (1) . هؤلاء بحثوا طول عمرهم وما استفادوا إلا قيل وقالوا، وغاية دنياهم أذى ووبال والعياذ بالله؛ لان غاية دنياهم - نسأل الله العافية -الشك والحيرة، فأكثر الناس شكا عند الموت هم أهل الكلام، لأنهم ليس عندهم عقيدة يبنون عليها معبودهم عز وجل، بل لا يعرفونه إلا بوهمياتهم التي يدعون إنها عقليات، فلذلك إذا جاءت الساعة وجاء وقت الامتحان والمحك ضاعوا وما وجدوا حصيلة. فكانوا أكثر الناس شكا عند الموت نسأل الله العافية، حتى إن بعضهم يقول: ها أنا أموت على عقيدة أمي، أمه الأمية التي لا تعرف، والثاني يقول: أموت على عقيدة عجائز نيسابور. فرجعوا إلى عقيدة العجائز لأنها فطرية، وهم عقيدتهم نظرية وهمية في الواقع. فإذا نظرنا إلى هؤلاء والى مآلهم والى أحوالهم - فهل يمكن لنا أن نقول أنهم على حق وندع الأثر لنظرهم؟! لا يمكن أبداً فكل إنسان عاقل لا يمكن أي يتولى مثل هؤلاء ويأخذ من أقوالهم؛ لأنها أقوال فاسدة متناقضة ليس لها أساس لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من أقوال السلف.   (1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، رقم (7292) ومسلم، كتاب الاقضية، باب لنهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم (1715) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 والعجيب أن الرازي يقول: أرواحنا في وحشة من جسومنا، إلى هذا الحد: روحه مستوحشة من جسده، لا تود أن تقر فيه، كأنما يتمنون الموت الآن ومفارقة الروح الجسد الذي هي في وحشة منه؛ لان الإنسان - نسأل الله العافية والسلامة والثبات - إذا لم يكن له عقيدة ضاع، اللهم إلا أن يكون قلبه ميتا، لان الذي قلبه ميت يكون حيوانيا لا يهتم بشيء أبداً، لكن الإنسان الذي عنده شيء من الحياة في القلب إذا لم يكن له عقيدة فإنه يضيع ويهلك، ويكون في قلق دائم لا نهاية له، فتكون روحه في وحشة من جسمه وقوله: (وحسن ما نحاه ذو الأثر) نحاه بمعني اتبعه، يعني: وألم تر حسن ما اتبعه ذوي الأثر، والجواب: أننا نرى ذلك، فنحن نطالع كتب هؤلاء وأقوالهم، ونطالع كتب أولئك وأقوالهم، فنجد أن هؤلاء الأثريين، إذا قالوا قولاً فإنما يقولون بقول الله ورسوله، مطمئنين منشرحة صدورهم. أما أولئك فهم على العكس من هذا، دائماً في صراع قيل وقال، وجدل لا نهاية له، وفرضيات وهمية ليس لها أصل، فتجدهم في حيرة وقلق. لكن ما نحاه أهل الأثر واتبعوه يقرأ احدهم كلام الله عز وجل: (وَجَاءَ رَبُّكَ) (الفجر: 22) (فيقول: سبحانه وتعالى يجيء كما يليق بجلاله، ويقرأ: (استوى على العرش) (فيقول: استوى سبحانه وتعالى على عرشه كما يليق بجلاله، ويقرأ: (بل يداه مبسوطتان) (يقول: له يدان لكنها ليست كأيدي المخلوقين؛ لان الله ليس كمثله شيء وهكذا يقرأ في القرآن والسنة نصوصا واضحة بينة. ووالله لو خلوا من التقديرات التي يقدرونها ما وجدوا إلا خيرا، أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 شيء يضير الإنسان إذا قال: أنا أؤمن بان لله يدين؛ لأن الله أثبتهما لنفسه، ولكني أؤمن بأنه لا مثيل لهاتين اليدين، هل عليه ضير؟ أبداً، بل ينشرح صدره، ويستريح من التقديرات التي لا أساس لها، ولذلك تجد أهل السنة والجماعة في هذا الباب هم أريح الناس بالا، وأشرحهم صدرا، وأكثرهم اطمئنانا وأبعدهم إشكالا. أما أن نذهب نقدر ونقول: اليد جارحة، والجارحة ممتنعة، والجارحة بعض من كل، وما أشبه ذلك. وهذا جسم وهذا عرض، فإننا سوف نتعب في هذا. والأولى لنا أن نؤمن بأن لله يدا ونقول: سبحان الله العظيم، وبأن له وجها وبأن له عينا، وبأنه مستو على العرش، وبأنه يجيء يوم القيامة، وبأنه ينزل إلى السماء الدنيا، إلى غير ذلك بدون أن نقدر تقديرات، فلسنا نحن الذين نحكم على الله، بل الله هو الذي يحكم علينا ولنفسه بما شاء، أما نحن فليس لنا إلا التسليم في هذه الأمور، ولهذا قال: (حسن ما نحاه ذو الأثر) . وأنا أجزم جزما أنك لو تلوت على أحد من العامة حديثا في صفات الله عز وجل، تجده يسبح بلسانه، ويعظم الله بقلبه، ويقشعر من ذلك جلده، لكن لو تلوته على واحد من أهل الكلام ما أحس بهذا أبداً، بل ذهب يتصور أن الله مناف للمخلوق، ثم يحاول أن يصرف هذا النص إلى معنى يدعي أنه معقول، وتجده يتعب نفسه، وذاك العامي يسبح ويهلل ويمجد الله، ولا يتعب نفسه. وذاك يذهب يبحث عن القرائن، ولا يكون في قلبه من تعظيم الله مثل ما يكون في قلب العامي، وهذا أمر محسوس، ولهذا ما أوتي قوم الجدل إلا ضلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فأنت إذا أخذت النصوص على ظاهرها سلمت من كل شيء، وعظمت الله حق تعظيمه، ولن تحتاج إلى أن تتكلم في ذات الله كأنما تشرح جسما من أجسام الآدميين، كما يوجد عند بعض الناس الآن، حتى إني رأيت كتابا لبعض الناس يسال: هل يقال أن الله ذكر أو أنثى؟ أعوذ الله إلى هذا الحد - نسأل الله العافية؟! والله إن هذا الإنسان ليس في قلبه تعظيم لله عز وجل وهو يفرض هذا الفرض، فتجد من يقول: أقم دليلا على أن الله ذكر؟! وتجد من يفرض ويقول: هل الله واحد أو متعدد؟ والله يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) (الحجر: الآية 9) فنحن هنا جماعة؟! فإذا أراد الإنسان السلام فليدع هذه الأشياء، فماذا أنت يا ابن ادم بالنسبة للسماء وبالنسبة للأرض وبالنسبة للأشجار؟! لست بشيء فكيف تتكلم في خالق السموات والأرض بأشياء ما تكلم بها عن نفسه، ولا تحدث بها رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا قالها من هم احرص منك على الخير وأشد منك تعظيما لله؛ وهم الصحابة رضي الله عنهم. ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له.. إلى آخره) (1) لم يفكر الصحابة رضي الله عنهم كيف ينزل الله تعالى وكيف يصعد، بل فكروا كيف يستغلون هذا الوقت بالاستغفار والدعاء والسؤال، وهذا هو الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد منهم أن يفكروا كيف نزل ومتى يصعد وكيف   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، رقم (1145) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، رقم (857) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 صعد بل أراد منهم أن ينتهزوا هذه الفرصة في هذا الجزء من الليل الذي يقول الله فيه: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟ فالمهم أن الواجب علينا أن نعرض عما قاله أهل الكلام في هذا كله، ونحن نحاجهم بكلمة بسيطة وهم أهل جدل، فنقول: أأنتم أعلم باله أم الله؟ إن قالوا: نحن أعلم بالله من الله فهم كرة بذلك. وإن قالوا: الله أعلم، فنقول: ألم يقل عن نفسه كذا وكذا. فلماذا لا تقبلون؟! ولماذا تحاولون الزيغ يمينا ويسارا؟! والله عز وجل وضح وبين وكلامه أبين الكلام (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (النساء: الآية 26) (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء: الآية 176) (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: الآية 44) . فالقرآن مبين، والرسول عليه الصلاة والسلام مبين، ولا يمكن أبداً بحال من الأحوال أن يبين الله لنا كيف نبول، وكيف نتغوط، وكيف نلبس، وكيف ندخل، وكيف نخرج، وكيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف ننام، وكيف نستيقظ، ثم يدع البيان فيما يتعلق بأسمائه وصفاته التي هي زبدة الرسالة، ونحن إذا لم نعرف الله ما عبدناه، وإذا عرفناه فيجب أن نعرفه كما وصف نفسه، بعيدا عما أشار المؤلف إليه من اختلاف أصحاب النظر، فإن هذا يصدنا عن سبيل الله ويبعدنا كثيرا. إذا بأي شيء يكون: (حسن ما نحاه ذو الأثر) ؟ يكون بإتباع الآثار، وهذا الحسن يتمثل في طمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وركود النفس، والانبساط، وعدم القلق، وعدم الحيرة. وكل هذا موجود ولله الحمد فيما نحاه أهل الأثر، حيث يقولون: سمعنا وأطعنا. قوله: (فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى وصحبه) : (فإنهم) أي أهل الأثر، (قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 اقتدوا بالمصطفى) وهو محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فاتبعوه ظاهراً وباطناً، ومن اتبع المصطفى عليه الصلاة والسلام فقد هدى إلى صراط مستقيم، كما قال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: الآية 52) ، ومن وفق لذلك فقد وفق لمحبة الله له، قال تعالى: (كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) (آل عمران: الآية 31) ، ومن وفق لذلك فقد شرح صدره، قال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر: الآية 22) . فإذا وفق المسلم لإتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في العقيدة، والقول والعمل، والفعل والترك، فقد وفق لكل خير. وقد قال بعض السلف: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن في لجالدونا عليه بالسيوف. الله اكبر! فانك لو سالت أهل الدنيا: من انعم الناس؟ لقالوا: الملوك وأبناء الملوك. لكن أهل العبادة انعم من هؤلاء، انعم، واسر بالا، وأشرح صدرا وأهدأ نفسا، لأنهم متصلون بالله عز وجل في قيامهم وقعوهم ومنامهم ويقظتهم، دائما مع الله، والله تعالى معهم، فهم انعم الناس في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. لكن الملوك إذا اخذوا بما اخذ به هؤلاء صاروا انعم منهم، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إما عادل، وشاب نشأ في طاعة الله ... ) (1) فبدأ هؤلاء السبعة بالإمام العادل؛ العادل   (1) رواه البخاري، كتاب، الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، رقم (629) ، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إخفاء الصدقة، رقم (1031) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 في معاملة الله وفي معاملة عبد الله. فالمهم إننا نقول: إن الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام فيه كل الخير، فاحرص على أتباعه ظاهرا وباطنا، في العقيدة، والأقوال، والأعمال، والأفعال والتروك، لكن ما فعله على سبيل التعبد فانك تفعله عبادة وتقربا إلى الله هه، وما فعله لا على سبيل التعبد فإن من الناس من يفعله لمحبته للرسول عليه الصلاة والسلام، لا للتقرب إلى الله به، بل يفعله لان الرسول صلى الله عليه وسلم فعله فيحب ما عله الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لا تعبدا لله. كما أن الإنسان إذا أحب شخصا تجده يقلده وإن كان لا يعتقد أن في ذلك عبادة وتقربا إلى الله عز وجل. ومن ثم كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتتبع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في غير الأمور العبادية، حتى أنه كان يتحرى المكان الذي نزل فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ليبول فيه في الطريق فينزل ويبول، لكن هذه القاعدة خالفه فيها أكثر الصحابة رضي الله عنهم، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله. ثم قال: (وصحبه) صحب الرسول صلى الله عليه وسلم هم كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك، ولكن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم طبقات وليسوا طبقة واحدة، كما قال تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (الحديد: الآية 10) حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد لما نازع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: ((لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد احدهم ولا نصيفه) (1) ، ففرق بين خالد الذي تأخر إسلامه وبين عبد الرحمن بن عوف الذي يعتبر من السابقين إلى الإسلام. والمهم أن الصحب طبقات؛ طبقات في الصحبة، وطبقات في الهجرة، وطبقات في العلم وطبقات في كل شيء ولا يوجد أحد من الصحابة أفضل من أبي بكر رضي الله عنه؛ لان الله تعالى نص على صحبته في القرآن الذي يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: الآية 40) ، فاثبت الصحبة له، وأثبت المعية الخاصة له مع الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: الآية 40) . ثم يليه بلا شك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي اختاره أبوبكر، ونحن نشهد الله عز وجل أن أبا بكر اشد الناس أمانة وأصدقهم فراسة فأشد الناس أمانة لأننا نعلم لو كان الرجل يريد الخيانة ما ولى عمر رضي الله عنه ولولى أحد أبنائه أو أحد قومه، لكنه أمين على هذه الأمة، فأدى الأمانة رضي الله عنه حيا وميتاً. ونعلم أنه أصدق الناس فراسة لأنه ولى عليهم من هو خير الناس بعده، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان دائما يقول: ذهبت أنا وأبوبكر وعمر، وجئت أنا وأبوبكر وعمر، ودائما يقترن اسم هذين الرجلين باسم الرسول عليه الصلاة والسلام. ولهذا شاء الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يكون هؤلاء الثلاثة قرناء في   (1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا ... ، رقم (3673) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة، رقم (2540) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الحياة وفي الممات، فقبورهم في مكان واحد، ويوم القيامة يقومون من قبورهم قيام رجل واحد، وهذه هي الميزة والفضيلة. والمهم أن الصحب يختلفون، لكن على كل حال لا أحد يساوي الصحابة رضي الله عنهم في فضل الصحبة أبداً أما في العلم فربما يوجد من التابعين من هو اعلم من بعض الصحابة رضي الله عنهم، فإن الرجل الأعرابي لو جاء للرسول صلى الله عليه وسلم، وآمن به وأخذ منه ما أخذ من الشريعة وانصرف إلى قومه ولم يأت إلى المدينة للتعلم لا شك أن من التابعين من هو اعلم منه، ولكن الصحبة التي هي رؤية النبي عليه الصلاة والسلام مع الإيمان به لا توجد في غير الصحابة رضي الله عنهم. قال: (فاقنع بهذا وكفى) ، ونقول للمؤلف رحمه الله: سمعا وطاعة، نقنع بهذا إن شاء الله تعال، ونسأل الله تعالى أن يميتنا عليه، (اقنع بهذا) أي: بإتباع آثار المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وصحبه، (وكفى) أي: كفى عن كل شيء، كفى عن أهل النظر، وعن مجادلاتهم، وعن معقولاتهم التي هي وهميات، ففي هذين البيتين اكبر دليل على بطلان ما عليه أهل النظر، وأكبر دليل على صحة ما عليه أهل الأثر. والله اعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الباب الأول في معرفة الله تعالى 32- أول واجب على العبيد ... معرفة الإله بالتسديد 33- بأنه واحد لا نظير ... له ولا شبه ولا وزير   الشرح قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الباب الأول) والذي مضى من هذه العقيد (المقدمة) (1) . قال: (الباب الأول: في معرفة الله عز وجل) معرفة الله سبحانه وتعالى نوعان: معرفة ذاته بالوجود، ومعرفة صفاته كذلك، ومعرفة ذاته في الكنه والحقيقة، ومعرفة صفاته كذلك، يعني نقول: هي قسمان: معرفة وجود ومعاني ومعرفة كنه وحقيقة. أما معرفة الوجود والمعاني فهذا هو المطلوب منا، وأما معرفة الكنه والحقيقة فهذا غير مطلوب منا، فلا أحد يعرف حقيقة ذات الله سبحانه وتعالى ولا حقيقة صفاته، والوصول إلى ذلك مستحيل فمستحيل أن تعرف الله عز وجل في حقيقة ذاته. فالإنسان تعرف حقيقة ذاته، فهو لحم ودم وعظم وباقي مكونات الجسم، لكن الرب عز وجل لا تعرف عنه هذا، وصفات الإنسان كذلك   (1) انظر ص 74 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 تعرف حقيقتها وكنهها التي هي عليه، فتعرف وجه الإنسان؛ وتعرف العين؛ وتعرف القدم؛ وتعرف اليد؛ وتعرف الأصابع لكن صفات الله عز وجل لا تصل إلى حقيقتها وكنهها والمطلوب إذا معرفة الذات بالوجود ومعرفة الصفات بالمعاني، أما معرفة الكنه والحقيقة فهذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل فصار قول المؤلف رحمه الله في معرفة الله لا بد فيه من هذا التسديد. أول واجب على العبيد ... معرفة الإله بالتسديد فأول واجب على الإنسان أن يعرف الله، والمراد أول واجب لذاته، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله. فالعلماء رحمهم الله قالوا: أول ما يجب على الإنسان أن ينظر، فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة، فيكون النظر أول واجب لغيره، والمعرفة أول واجب لذاته. وقال بعض أهل العلم: إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته؛ لان معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة والإنسان مجبول عليها، ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين، ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر ويفكر. قالوا ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة) (1) ، ولقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) (2) ، فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على   (1) تقدم تخريجه ص 22 (2) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها ... ، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا ... ، رقم (2865) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فطرة سليمة. فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة، ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله، وحينئذ تكون عبادته لله، وإذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين هما الفطرة والبيئة، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) (1) . إذا معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل، ولهذا نجد عوام المسلمين الآن ما فكروا ونظروا وقرءوا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله، بل عرفوه بمقتضى الفطرة، ولا شك أن للبيئة تأثيرا لكنهم ما نظروا، بل إن بعض الناس - نسأل الله العافية - إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) (2) . فالصحيح إذاً ما قاله المؤلف رحمه الله أن أول واجب معرفة الله، وأما النظر فلا نقول أنه واجب، لكن لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر، مثل لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف ويحتاج إلى تقوية فحينئذ لابد أن ينظر، ولهذا قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (الأعراف: الآية 185) ، وقال (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)   (1) تقدم تخريجه، ص 22 (2) رواه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، رقم (2670) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 (المؤمنون: الآية 68) ، وقال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (صّ: الآية 29) . فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفا حينئذ يجب أن ينظر ولكن لا ينظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات؛ لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك، ويورد عليه الشيطان من الإشكالات والإيرادات ما يقف معها حيران لكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة، فمثلا إذا نظر إلى الشمس - هذا المخلوق العظيم الكبير الوهاج - فلا يقل: من الذي خلقه؟ خلقه الله. فمن خلق الله؟ فهذا لا ينبغي، بل يقول: خلقه الله ويقف؛ لان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله؟ لنقطع التسلسل، لأنك لو قلت من خلق الله؟ وقلت مثلا: خلقه شيء ما، سيقول لك الشيطان: فمن خلق هذا الشيء؟ ثم تتسلسل إلى ما لا نهاية له، وتضيع في البحر الذي لا ساحل له. فالحاصل أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا عند الضرورة كالدواء، فإذا ضعف إيمانه أو رأى من نفسه ضعفا فلينظر، وإلا فمعرفة الله مركزة في الفطر. قال المؤلف رحمه الله: (معرفة الإله بالتسديد) أي بالصواب، لكن ما هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل؟ الطريق: قلنا بالفطرة قبل كل شيء، فالإنسان مفطور على معرفة ربه وأن له خالقا، وإن كان لا يهتدي إلى معرفة صفات الخالق عل التفصيل، لكن يعرف أن له خالقا كاملا من كل وجه. ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله عز وجل الأمور العقلية، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 العقل يهتدي إلى معرفة الله إذا كان القلب سليما من الشبهات، فينظر إلى ما في الناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم، وعلى رحمة المنعم، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم، ولولا رحمته ما وجدت النعم. وينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله؛ لأن الله يقول: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) (فاطر: الآية 45) وصدق الله لو أن الله واخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة لأن أكثر الناس على الكفر فلو أراد الله أن يؤاخذهم بأعمالهم ما ترك ما على ظهرها من دابة. وننظر في السموات والأرض فنستدل به على عظمة الله وقدرته؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق، وهكذا. ونستدل أيضاً إلى معرفة الله تعالى بإجابة الدعاء، فالإنسان يدعو فيستجيب الله دعاءه، فنعرف بهذا وجود الله، وقدرة الله، ورحمة الله، وصدق الله عز وجل، قال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: الآية 60) إلى غير ذلك مما تستلزمه إجابة الدعاء. ومن الطرق التي يستدل به الإنسان على معرفة الله الواقع، فأخذ الله سبحانه وتعالى للكافرين بالنكبات والهزائم تدل على أن الله شديد العقاب وانه من المجرمين منتقم، ونصر الله لأوليائه يدل على انه عز وجل ينصر من شاء من العباد، وانه قادر على ذلك ولو كثر خصومهم. ثم إن المراد بالمعرفة ما يترتب عليها من التصديق والقبول للأوامر والإذعان لها، وأما مجرد المعرفة بدون أن يركن الإنسان إليها ويقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بمقتضاها فإنها لا فائدة منها؛ لأنه حتى الكفار يعرفون الله. ثم قال المؤلف رحمه الله: (بأنه واحد) بأنه: أي الله عز وجل واحد، واحد في ذاته وصفاته وأحكامه الكونية والشرعية، فهو واحد في ذاته لا نظير له ولا شبه ولا وزير، وواحد أيضاً في ربوبيته فلا أحد يتصرف معه، ولا أحد يملك معه، ولا أحد يعينه، بل لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه لكمال سلطانه. وكذلك هو واحد في ألوهيته فلا يعبد إلا هو عز وجل، ولا يتأله إلا إليه، ويجب أن يصرف الإنسان حبه وتعظيمه كله لله عز وجل، فلا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يرضى إلا بما يرضي الله، ويكره ما كرهه الله، ويبغض ما أبغضه الله، حتى يكون قلبه كله وإرادته لله عز وجل، فيوحد الله في القصد والعبادة. كذلك واحد واد في صفاته، فليس له نظير في صفاته، لا الصفات المعنوية لا الصفات الخبرية، لا الذاتية اللازمة ولا الفعلية المتعلقة بمشيئته عز وجل. قوله: (بأنه واحد لا نظير له ولا شبه) النظير: يعني المماثل والمشابه، وعليه فقوله: (ولا شبه) من باب عطف المتماثلين أو المترادفين، كقول الشاعر: فألفى قولها كذبا ومينا ... ....................... فالكذب والمين معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ، وكذلك النظير والشبه معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ، وهذا من باب التوكيد اللفظي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقوله: (ولا شبه) سبق أن الأولى أن يعبر بقوله: (لا مثل) للوجوه الثلاثة السابقة. فالله تعالى لا نظير له في ذاته ولا شبه له في ذاته، وكذلك لا شبيه هـ في صفاته سبحانه وتعالى وفي أفعاله، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: الآية 11) . وقوله: (ولا وزير) الوزير: أي المعين، ومنه قوله تعالى عن موسى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (طه: 29)) ، وهي مأخوذة من المؤازرة وهي المعاونة. فالله سبحانه وتعالى ليس له أحد يعينه لأنه قادر على كل شيء، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس: 82) ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سبأ: 22) (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ) (طه: الآية 109) ، فهم لا يملكون مثال ذرة في السموات ولا في الأرض على سبيل الاستقلال، وما لهم فيهما من شرك على سبيل المشاركة، والفرق بين الاستقلال والمشاركة واضح. فمثلا هذا لي أنا مستقل به، وهذا بيني وبينك أنا شريك فيه. فهم لا يملكون شيئا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل المشاركة مع الله عز وجل، و (وَمَا لَهُ) أي ما لله (مِنْهُمْ) من هؤلاء المدعوين (مِنْ ظَهِيرٍ) أي معين، فهم لا يعاونون الله بشيء. ثم مع ذلك لا تستطيع هذه الآلهة أن تشفع (لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ) ، وبنفي هذه الأمور الأربعة تنقطع الأسباب التي يتعلق بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 المشركون، لأن غاية ما يتعلقون به أنهم يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فقط الله كل سبب. فإن قال قائل: أليس هناك ملائكة موكلون بحفظ أعمال بني آدم، وملائكة موكلون بالقطر، وملائكة موكلون بالنبات، والملائكة موكلون بالحفظ العام لبني آدم؟ فالجواب: بلى هذا موجود، لكن لم يوكلهم الله تعالى استعانة بهم، بل وكلهم الله بذلك ليبين عظمته وكمال سلطانه، كما أن الملك في الدنيا - ولله المثل الأعلى -له من يتولى شئون ملكته، لكن الملوك في الدنيا يفعلون ذلك لقصورهم وعدم إحاطتهم، أما الله عز وجل فلا، إنما فعل ذلك سبحانه وتعالى ليظهر عظمة ملكه وسلطانه، وأنه المدبر سبحانه وتعالى، وان له جنودا لا يستعين بهم ولكن يمتثلون بأمره ويكلفهم عز وجل بما شاء، قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: الآية 31) ، ولكن ليسوا جنودا يعينونه كجنود الملوك في الدنيا، بل جنود تظهر بهم عظمته وكمال سلطانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 34- صفاته كذاته قديمه ... أسماؤه ثابتة عظيمه 35- لكنها في الحق توقيفيه ... لنا بذا أدلة وفيه   الشرح قوله: (صفاته كذاته قديمه) صفاته: مبتدأ، والخبر: قديمة، ذاته: حال، يعني صفاته حال كونها كذاته قديمة. والصفات: هي ما يتصف به الموصوف. وقول المؤلف: (صفاته قديمه) مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالصفات بالنسبة لله عز وجل ثلاثة أقسام: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية. (1) الصفات الذاتية: هي صفات المعاني الثابتة لله أزلاً وأبدا، مثل الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، إلى غير ذلك وهي كثيرة فهذه نسميها صفات ذاتية؛ لأنه متصف بها أزلا وأبدا ولا تفارق ذاته. (2) الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، مثل الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد، والفرح بتوبة التائب، والضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، والغضب على الكافرين، والرضا للمؤمنين، وغيرها، فهذه نسميها صفات فعلية؛ لأنها من فعله، وفعله يتعلق بمشيئته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 (3) لكن هذا القسم من صفات الله آحاده حادثة، تحدث شيئا فشيئا، وأما جنس الفعل فإنه أزلي أبدي، فجنس كون الله فعالا - أي جنس الفعل في الله عز وجل - أزلي، فلم يزل ولا يزال فعالا، لم يأت وقت من الأوقات يكون الله تعالى معطلا فيه عن الفعل، فإن الله لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد سبحانه وتعالى. لكن نوع الفعل أو آحاده هي التي تكون حادثة، مثلا الاستواء على العرش نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه كان بعد خلق العرش، كذلك النول إلى السماء الدنيا نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه كان بعد خلق العرش، كذلك النزول إلى السماء الدنيا نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه كان بعد أن خلق السماء الدنيا، كذلك الرضا والغضب نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه إذا فعل العبد فعلا يقتضي الرضا، رضي الله عنه، وإذا فعل فعلا يقتضي الغضب غضب الله عليه. وهذه تسمى الصفات الفعلية، وربما تسمي الأفعال الاختيارية؛ لأن هذه الأفعال تتعلق بمشيئة الله تعالى واختياره قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) (القصص: الآية 68) ، لكن - كما سبق - كل صفة فعلية فإنها حادثة النوع أو الفرد، لكنها قديمة الجنس، فمثال النوع الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا فهذا نوع، لكن نزوله كل ليلة فهذا فرد، لأن نزوله الليلة ليس هو نزوله البارحة. (4) الصفات الخبرية: وهي التي نعتمد فيها على مجرد الخبر، وليست من المعاني المعقولة، بل هي من الأمور المدركة بالسمع المجرد فقط، ونظيرها أو نظير مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، مثل اليد، والوجه، والعين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 والقدم، والإصبع، فهذه نسميها الصفات الخبرية، لأنها ليست معنى من المعاني، فاليد غير القوة، القوة معنى، واليد صفة من نوع آخر. مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، فاليد بعض من أو جزء منا، والوجه كذلك والعين كذلك. ولكن بالنسبة لله لا نقول أنها جزء أو بعض؛ لأن البعضية والجزئية لم ترد بالنسبة إلى الله لا نفيا ولا إثباتا، ولهذا نقول لمن قال: إن الله واحد لا يتجزأ ولا ينقسم وما أشبه ذلك، نقول: هذه ألفاظ بدعية. فليس هناك دليل على أن تصف الله بهذا النفي، وما أنت اعلم بالله من الله، ولا اعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اعلم بالله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قال واحد منهم قط: إنه لا يتبعض ولا يتجزأ، فاحبس لسانك عما حبسوا ألسنتهم عنه، ولا تتكلم بأشياء فارغة، وليس هناك داع لأن تقول: لا يتجزأ، فلا أحد يتصور أن الله تعالى - وله الحمد والفضل - يتجزأ، لا أحد يتصور هذا حتى تنفيه، فدع ذلك، وإنما ينفى مثل هذا الكلام لو أن أحداً قاله، إما ولم يقله أحد فليس له داع، بل يقال: لله يد، وله وجه، وله عين، ودع عنك: لا يتجزأ ولا يتبعض، فلم يتعبدنا الله بهذا، ولا ورد عن الله انه يتبعض أو يتجزأ، أو لا يتبعض ولا يتجزأ، بل قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) (البقرة: الآية 136) وقال: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة: الآية 255) وقال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص: 2) . وكل هذا لم يرد، وما لم يرد فالأدب مع الله ورسوله أن نمسك عنه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات: 1) ، فلو نفيت ما لم ينفه ما لم ينفه الله عن نفسه فقد تقدمت بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 يدي الله ورسوله، ولو أثبت ما لم يثبته فقد تقدمت بين يدي الله ورسوله. فالحاصل أن الصفات الخبرية هي التي مسماها أبعاض وأجزاء لنا، لكن بالنسبة لله فلا نقول انه بعض أو جزء؛ لأن إثبات البعضية أو الجزئية أو نفي البعضية أو الجزئية بالنسبة لله، من الألفاظ المبتدعة التي يجب على الإنسان أن يتحاشاها، فلم يتعبدنا الله لا في كتابه ولا على لسان رسوله بان نثبت البعضية أو ننفي البعضية ونحن نؤمن بان اليد غير الذات؛ يد الله غير ذاته؛ ووجه الله غير ذاته، فهو شيء آخر زائد عن الذات، وقد يعبر الله تعالى عن نفسه بوجهه، كما قال الله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) ، ونحن لا ننكر الوجه ولا ننكر أن يعبر به عن النفس. وهذه مع أنها صفات خبرية، فهي في نفس الوقت صفات قديمة؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متصفا بها، وصفات الله الذاتية والخبرية كلها قديمة، إما صفاته الفعلية فهي قديمة الجنس، حادثة النوع والآحاد، لذلك فإطلاق الوصف على صفات الله بأنها قديمة ليس بصحيح. وقول المؤلف رحمه الله: (كذاته) أي ذات الله تعالى. فأصل الذات كلمة مولدة بالمعنى المراد بها؛ لأن المراد بها عند القائلين - كلمة ذات وصفات - أرادوا بها: النفس، فذات الإنسان يعني نفس الإنسان، فالله سبحانه وتعالى لم يعبر عن نفسه بالذات، إنما عبر عن نفسه بالنفس فقال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) (آل عمران: الآية 28) وقال عز وجل عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) (المائدة: الآية 116) وأصل الذات في اللغة العربية بمعنى صاحبة، فيقال مثلا: ذات علم، ذات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قدرة، ويقال لامرأة: ذات جمال، فهي ذات بمعنى صاحبة تضاف إلى صفة، نقلها المتكلمون من كونها تضاف إلى صفة وجعلوها اسما للموصوف. فقالوا: كل موصوف قائم بنفسه فهو ذات، فمثلا أصل ذات الله يعني ذات الإلوهية، فنقلوا كلمة ذات إلى الشيء القائم بنفسه وقطعوه عن الإضافة، ولم تكن من كلام العرب، ولا يعرفها العرب بهذا المعنى؛ أي بأنها قائمة مقام النفس. لكن هم لما قالوا: ((ذات علم) ، قالوا: إن علم) صفة، و ((ذات) موصف، فأطلقوا على الموصوف اسم ذات، فقالوا: الذات، والصفات بدل الله وصفاته، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، فإن العلماء رحمهم الله تقبلوا هذا، وصاروا يقولون: ذات وصفات، صفات الذات وصفات الأفعال، وإلا فهي في الأصل ليست من كلام العرب. وذات الله تعالى قديمة، والقديم عند المتكلمين هو الذي لا ابتداء له، وليس هو القديم في اللغة العربية، بل القديم في اللغة العربية هو ما سبق غيره، ولو كان حادثا، إما القديم عند المتكلمين فهو الذي لم يسبق بعدم، بل دائما وأبدا موجود، فالذي لا أول له - أي لم يسبق بعدم - هو القديم عند المتكلمين، لكن اللغة العربية تقول: إن القديم ما تقدم غيره ولو كان حادثا، ومنه قوله تعالى: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّس: الآية 39) . وصفات الله سبحانه وتعالى كلها كمال، سواء كانت مطلقة أو مقيدة، فما كان كمالا محضا فهو مطلق؛ أي في كل حال وغير مقيد، وما كان كمالا في حال دون حال فهو مقيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فمثلا الخلق والزرق والكلام وما أشبه ذلك، هذا كمال مطلق، فيوصف الله به على الإطلاق، فيقال: إن الله متكلم رازق خالق، وما أشبه ذلك. وما كان كمالا في حال دون حال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله، وإنما يوصف به مقيدا، مثل المكر، والخديعة، والاستهزاء، والكيد، فهذا يكون كمالا في حال ونقصا في حال، فلا يوصف الله به إلا على وجه الكمال. فالمكر مثلا لا يجوز أن تصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق فتقول: إن الله ماكر، فهذا حرام؛ لأنه يفهم من ذلك النقص والعيب، فإن المكر عند الإطلاق صفة قدح وذم، لكنه عند المقابلة يكون صفة مدح، فتقو: إن الله يمكر بمن يمكر به وبرسله، وهنا صار المكر صفة كمال ومدح، أي انه أعلى من مكر أعدائه. كذلك إذا وصفت المكر بما يدل على الكمال فلا باس، مثل أن تقول: الله خير الماكرين، كما قال الله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه) (الأنفال: الآية 30) ثم قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: الآية 30) وكذلك الخداع لا يجوز أن تصف الله بأنه خادع، أو من صفاته الخداع على سبيل الإطلاق، لكن يجوز أن تصفه به على سبيل المقابلة، فتقول: إن الله تعالى يخدع المنافقين، أو خادع المنافقين، أو خادع من يخدعه، أو ما أشبه ذلك؛ لأنها في هذه الحال تكون صفة كمال، ولا يجوز أن تصفه بها على سبيل الإطلاق لأنها تحتمل معنى صحيحا ومعنى فاسداً. أما ما كان نقصا من الصفات فإنه لا يدخل في صفات الله عز وجل أبدا، وإنما جاء الكلام عليه في التقسيم من أجل الحصر. فصفات النقص لا تدخل في صفات الله تعالى أبدا، لا علي سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الإطلاق؛ ولا على سبيل التقييد، مثال ذلك: الخيانة، فالخيانة لا تدخل في صفات الله؛ لأنها ذم وقدح بكل حال، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تخن من خانك) (1) وقال: ((الحرب خدعة)) (2) ، فأذن بالخدعة في محلها وهو الحرب، ونهى عن الخيانة في محلها. فقال: ((لا تخن من خانك) . مع أن الإنسان قد تسول له نفسه أن يخون من خانه؛ لأن الله تعالى قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: الآية 194) ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تخن من خانك) فإذا ائتمنك إنسان بشيء وقد خانك من قبل فلا تخنه فيه؛ لأن الخيانة وصف ذم على الإطلاق، وبهذا نعرف خطأ قول العامة: خان الله من يخون. فهذا القول لا يجوز، وهو قول باطل. لكن لو قيل: خدع الله بمن يخدع. فهذا صحيح. إذا يمكن أن نقول: إن الصفات بالنسبة لله عز وجل على ثلاثة أقسام: 1- صفات كمال محض: فهذه يوصف بها على سبيل الإطلاق. 2- وصفات كمال في حال دون حال: فلا يوصف بها إلا مقيدا بالحال التي تكون فيها كمالا. 3- وصفات نقص على الإطلاق: فلا يوصف الله بها مطلقا. فإذا قال قائل: هل هناك فرق بين الأسماء والصفات في هذا الباب؟ بمعنى أن الاسم إذا كان متضمنا لنقص فإنه لا يسمى به الله في حال الكمال؟ فالجواب: لا؛ لأن الله تعالى قال في الأسماء: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)   (1) رواه الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي للمسلم، أن يدفع إلي الذمي الخمر، رقم (1264) . (2) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة ـ رقم (3029) ، ومسلم، كتاب الجهاد والسير باب جواز الخداع في الحرب، رقم (1740) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 (الأعراف: الآية 180) ، أي البالغة في الحسن كمالها، وحينئذ لا يسمى الله تعالى باسم يتضمن نقصا ولو في بعض الأحوال. ولهذا لا يسمى الله بالمتكلم مع أن الله يخبر بأنه متكلم ويوصف بذلك، فلا تقول: يا متكلم اغفر لي، وكذلك يوصف الله بالإرادة لكن لا يسمى بالمريد. فلينتبه للفرق: وهو أن الأسماء الحسنة من القسم الأول فقط، أي أنها من الكمال المطلق فقط، فلا تتضمن كمالا ونقصا في حال دون حال، بل هي كمال مطلق، والدليل على ذلك وصف الله تعالى إياها بأنها حسنى. بخلاف الصفات - التي كما سبق - منها الكمال المطلق الذي يوصف الله به على سبيل الإطلاق، والنقص المطلق، وهذا لا يوصف الله به مطلقا، والكمال في حال دون حال، وهذا يوصف به الله حال كونه كمالا، ولا يوصف به حال كونه نقصا. قال المؤلف رحمه الله: ((أسماؤه ثابتة عظيمة) : أسماء الله سبحانه وتعالى ثابتة عظيمة، (ثابتة) : بمعنى أنها حق واقع يجب الإيمان بها وإثباتها. (عظيمة) لاشتمالها على أحسن الصفات وأكملها، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف: 180) وأسماء الله سبحانه وتعالى البحث فيها من عدة أوجه: البحث الأول: أسماء الله سبحانه وتعالى كلها حسنة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه ولا بحال من الأحوال، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 (الأعراف: 180)) . وقال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر: 23) (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الحشر: الآية 24) فوصفها باسم التفضيل فليس فيها نقص بوجه من الوجوه. البحث الثاني: أن أسماء الله تعالى مشتقة، أي أنها تتضمن معاني وأوصافا فكل اسم منها يتضمن الصفة التي اشتق منها، حتى اسم (الله) يتضمن صفة وهي الإلوهية، فأسماء الله تعالى إذاً أعلام دالة على صفة، ولولا ذلك ما كانت حسنى، لأنها إذا لم تتضمن معنى صارت أسماء جامدة لا معنى لها، وإذا كانت أسماء جامدة لا معنى لها فلا توصف بالحسنة، والله عز وجل وصفها بأنها حسنة أي بالغة في الحسن كماله. إذا ما من اسم إلا ويتضمن صفة وقد يتضمن بعضها صفتين أو أكثر، عن طريق الالتزام، يعني من باب دلالة اللزوم أو الالتزام. فمثلا الخلاق من أسماء الله، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (الحجر: 86) ، فالخلاق يتضمن صفة الخلق، ويستلزم صفة العلم والقدرة إذ لا خلق إلا بعلم وقدرة، فهو إلى على الخلق بمقتضى مادته، ودال على العلم والقدرة بلازمه، فالخلاق دال على الخلق بمقتضى المادة، لأن الخلاق من الخلق، ودال على العلم والقدرة دلالة التزام؛ لأن من لازم الخلق العلم والقدرة، فمن لا علم عنده لا يمكن أن يخلق، إذ كيف يخلق وهو لا يعرف أن يخلق؟ ومن لا قدرة عنده لا يخلق؛ إذ كيف يخلق وهو ضعيف؟ ونضرب مثلا في الإنسان، فإذا قيل لإنسان: اصنع لنا مسجلا، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 إنسان عنده المواد الخام، وعنده قدرة ونشاط وذكاء، لكن ليس عنده علم. فهذا لا يمكن أن يصنع المسجل لعدم علمه. وإذا كان هناك إنسان عنده علم، فهو مهندس ودارس ويقرأ ويعرف، لكنه مشلول لا يقدر أن يصلح شيئا، فهذا لا يقدر أن يصنع المسجل لعدم القدرة. إذا اسم الله الخلاق تضمن ثلاث صفات: الخلق، والعلم، والقدرة، ولهذا قال الله عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: 12) ، يعني أخبرناكم بذلك لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، ولولا علمه وقدرته ما خلق السموات والأرض. ويعبر عن هذا البحث بأن أسماء الله أعلام وأوصاف، فباعتبار دلالتها على الذات هي أعلام؛ وباعتبار دلالتها على المعاني هي أوصاف. ويترتب على هذا البحث: هل أسماء الله متباينة أو مترادفة؟ والجواب أن نقول: إما باعتبار دلالتها على الذات فهي مترادفة؛ لأنها دلت على شيء واحد وهو الله، وأما باعتبار دلالتها على المعنى فهي متباينة؛ لأن لكل اسم منها معنى غير المعنى في الاسم الآخر. والمترادف: هو متعدد اللفظ متحد المعنى، والمتباين: هو متعدد اللفظ والمعنى، فحجر وإنسان متباين؛ لأن اللفظ مختلف والمعنى مختلف، وبشر وإنسان مترادف؛ لأن اللفظ متعدد والمعنى واحد. فالله والرحمن، والرحيم، والملك، والقدوس، والسلام، إلى آخر ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ذكر في سورة الحشر باعتبار دلالتها على الله، فهي مترادفة لأنها تدل على شيء واحد، وباعتبار دلالة كل واحد منها على معناه فهي متباينة. الوجه الثالث: أسماء الله عز وجل غير محصورة بعدد معين، ولا يمكن حصرها لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور - حديث ابن مسعود رضي الله عنه - في دعاء الغم والهم قال: ((أسالك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ... ) (1) إلى آخره، الشاهد قوله: ((أو استأثرت به في علم الغيب عندك) وهذا يدل على أن من أسماء الله ما استأثر الله به، وما استأثر الله به فلا يمكن الوصول إليه؛ لأنه لو أمكن الوصول إليه لم يكن مستأثرا به، ولهذا قال: ((استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فإذا ليست أسماء الله محصورة، ولا يمكن حصرها. فإذا قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) ؟ (2) فالجواب: أن هذا الحديث الثاني لا يدل على الحصر، وإنما يدل على حصر معين، وهو أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسما إذا أحصيتها دخلت الجنة، يعني إذا أحصيت تسعة وتسعين اسما من أسماء الله فانك تدخل الجنة. ونظيره لو قلت: عندي عشر سيارات أعددتها لحمل البطحاء، فليس   (1) رواه احمد (1/391) ، والطبراني في الكبير (10/169) وابن أبي شيبة (6/40) وأبو يعلي (9/199) . (2) رواه البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط، رقم (2736) ، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء باب في أسماء الله تعالى..، رقم (2677) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 معنى ذلك انه ليس عندك إلا هذه العشر، لكن هذه العشر خصت بأنها معدة لحمل البطحاء، وقد يكون عندك سيارات أخرى معدة لحمل الخشب، وأخرى معدة لحمل الرجال، وأخرى لحمل الأمتعة، ومثل هذا التعبير لا يدل على الحصر. فإذا قال قائل: ما الفائدة من هذا الكلام إذا قلنا إنه لا يدل على الحصر؟ قلنا: الفائدة من أجل أن يبحث المكلف عن هذه الأسماء من الكتاب والسنة حتى يدركها، وإلا لسردها لنا النبي صلى الله عليه وسلم سردا ونستريح، لكن من أجل أن يبتلي الله الإنسان الحريص من غير الحريص. فالحريص هو الذي يبحث عن الشيء حتى يصل إليه وغير الحريص هو الذي يقول إن كان الشيء سهلا أخذته، وإن كان صعبا يحتاج إلى مراجعة والى بحث فلا حاجة لي به. البحث الرابع: حكم التسمي بأسماء الله سبحانه وتعالى؟ إن من أسماء الله ما لا يسمى به غيره، مثل الله، فلا يمكن أن نسمي أحداً بهذا الاسم لا على سبيل إرادة المعنى، ولا على غيره، كذلك اسم الرحمن أيضاً، قال العلماء رحمهم الله: لا يجوز أن يسمى به غيره ولا يوصف به غيره؛ لأن الإلوهية والرحمة الواسعة الشاملة التي هي وصف لازم للراحم؛ هذه لا تكون إلا لله. أما بقية الأسماء فهي إن قصد بها ما يقصد بأسماء الله من الدلالة على العلمية والوصفية فإنها ممنوعة، وإن قصد بها مجرد العلمية فليست ممنوعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فالحكم والحكيم من أسماء الله، فإذا سمينا شخصا بالحكم أو بحكيم ولم نقصد معنى الحكمة فيه ولا معنى الحكم فهنا لا باس به، وفي الصحابة رضي الله عنهم من اسمه حكيم، وفيهم من اسمه الحكم. وإن قصدنا بذلك المعنى الذي اشتققنا منه هذا الاسم فهذا لا يجوز، لأن هذا من خصائص أسماء الله، فهي التي يراد بها الاسم والوصف، ولهذا إذا سمينا رجلا بصالح فإنه جائز ولا يغير الاسم، لأننا ما قصدنا بذلك التزكية، أي وصفه بالصلاح وأننا ما سميناه صالحا إلا لأنه صالح؛ سمينا صالحا مجرد علم. كذلك إذا سمينا شخصا بسلمان فليس لأنه سالم، بل قد يكون من أتعس الناس، يوما تكسر رجله، ويوما تكسر يده؛ ويوما يفلق رأسه، ويوما يخدش ظهره، وليس فيه السلامة، ومع ذلك نسميه سلمان، وكذلك سليمان. فالمهم انه إذا لم يقصد المعنى في الاسم فإنه جائز لمجرد العلم فقط. البحث الخامس: أن أسماء الله تعالى توقيفية وليس لنا أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه. قال المؤلف رحمه الله: (لكنها في الحق توقيفية) : (لكنها) : أي أسماء الله عز وجل، (في الحق) أي في القول الحق الصحيح، (توقيفية) أي موقوفة على ورود الشرع بها، والتوقيفي هو الذي يتوقف إثباته أو نفيه على قول الشارع، فهي توقيفية لا يجوز لنا أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ودليل ذلك من الأثر والنظر: أما من الأثر: فقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) وإثبات اسم من أسماء الله لم يسم به نفسه هذا من القول عليه بلا علم، فيكون حراما، وقال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36) وإثبات اسم لله لم يسم به نفسه من قفو ما ليس لنا به علم. أما من النظر: أولا: فلأن اسم المسمى لا يكون إلا بما وضعه لنفسه، وإذا كان الناس يعدون من العدوان أن يسمى الإنسان بما لم يسم به نفسه أو بما لم يسمه به أبوه، فإن كون ذلك عدوانا في حق الخالق من باب أولى، فلو أن رجلا اسمه محمد وناداه آخر: يا عبد الله، وكلما ناداه أو راسله سماه عبد الله، لغضب من ذلك، ورأى أن ذلك تعد عليه، فإذا كان هذا في حق المخلوق، فهو في حق الخالق أعظم. ثانياً: من الدليل النظري أيضاً أن الله قال: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الأعراف: الآية 180)) ، الحسنة البالغة في الحسن كماله، وأنت إذا سميت الله باسم فليس عندك علم أنه بلغ كمال الحسن، بل قد تسميه باسم تظن انه حسن، وهو سيئ ليس بحسن. وهذا أيضاً دليل عقلي يدل على انه لا يجوز أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه. فهذه أربعة أدلة؛ دليلان أثريان أو شرعيان؛ ودليلان عقليان نظريان. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لنا بذا أدلة وفيه) . (لنا بذا) : المشار إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 القول بأنها توقيفية. (أدلة وفية) أي كافية وافية بالمقصود. وهنا يرد سؤال وهو: هل الصفات كالأسماء توقيفية؟ والجواب: سبق أن ذكرنا أن الصفات ثلاثة أقسام: كمال محض، ونقص محض، وكمال في حال دون حال. فالكمال المحض يوصف الله به، والنقص المحض لا يوصف الله به، والمتردد بين هذا وهذا يوصف الله به في حال الكمال، ولا يوصف به في حال النقص ولا على الإطلاق، أي أن الذي يكون كمالا في حال دون حال يوصف الله به مقيدا في حال الكمال. إذا فليست كالأسماء توقيفية. ولهذا يمكن أن نشتق من كل فعل من أفعال الله صفة، فنقول: إن الله تعالى مزجي السحاب لقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً) (النور: الآية 43) ونقول: إن الله تعالى ماكر بمن يمكر به لقوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) (الأنفال: 30) ، ونقول: إن الله مستهزئ بمن يستهزئ به لقوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة: 15) لما قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة: 14) ، ونقول: إن الله خادع من يخدعه لقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) (النساء: 142) وعلى هذا فقس. مسألة: ما الضابط في التفريق بين الأسماء والصفات؟ نقول: الضابط هو أن ما دل على معنى وذات فهو اسم، وما دل على معنى فقط فهو صفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 36- له الحياة والكلام والبصر ... سمع إرادة وعلم واقتدر 37- بقدرة تعلقت بممكن ... كذا إرادة فع واستبن   الشرح شرع المؤلف رحمه الله في بيان الصفات على سبيل التفصيل، فقال: (له الحياة) : له: الضمير يعود على الله عز وجل (الحياة والكلام والبصر سمع) هذا على تقدير عاطف، أي: وسمع، (إرادة) كذلك على تقدير عاطف، أي: وإرادة وعلم (واقتدر) أي القدرة. فهذه سبع صفات أثبتها المؤلف رحمه الله لله عز وجل، وقد يظن أن في كلامه هنا إيهاما بأنه لا يثبت إلا هذه الصفات السبع، ولكن له كلام آخر بأنه يجب إثبات كل ما وصف الله به نفسه في قوله فيما سبق: فكل ما جاء من الآيات ... أو صح في الأخبار عن ثقات من الأحاديث نمره كما ... قد جاء فاسمع من نظامي واعلما فن كلامه السابق يدل على إننا نثبت لله تعالى كل ما أثبته لنفسه من الصفات. قال هنا ولا: (له الحياة) أي لله عز وجل، و (أل) في الحياة هنا للاستغراق، يعني الحياة الكاملة، أو لبيان الحقيقة، وتعرف الحقيقة بحسب ما تضاف إليه الصفة، فالحياة المضافة إلى الله ليست كالحياة المضافة إلى البشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أو إلى المخلوق على صفة العموم، فحياة الله عز وجل أزلية أبدية، أي لم يزل ولا يزال حيا، ثم هي حياة أيضاً كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، قال الله سبحانه وتعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان: من الآية 58) فهذا فيه الامتناع عن زوال هذه الحياة، وقال تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة: الآية 255) وهذا منع لوصفها بالنقائص، فهي حياة كاملة ليس فيها سنة ولا نوم، حياة دائمة ليس فيها موت، حياة أزلية لأنها لم تسبق بعدم، وكل حياة البشر بل كل المخلوقات حياتها مسبوقة بعدم، وكذلك أيضاً جميع حياة الإحياء قابلة للزوال غير الله عز وجل، حتى ما خلق للبقاء كالروح، وغلمان أهل الجنة، والحور؛ هذه خلقت للبقاء وستبقى، لكنها قابلة للزوال لو شاء الله تعالى لأهلكها. إما حياة الله عز وجل فإنها غير قابلة للزوال ولا للنقص ولا للابتداء، فيستحيل عليه ابتداء الحياة وزوالها ونقصها، ولهذا قال الله عز وجل: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة: 255) بخلاف حياة الإنسان فإنه وإن حاول أن يمتنع عن النوم فلابد أن يأخذه النوم أو يهلك، ولهذا عبر بقوله: (لا تَأْخُذُهُ) : أي لا تغلبه، ولم يقل: لا ينام؛ لأن البشر قد يحاول إلا ينام، ولكن لو حاول أن لا ينام فلنقصه؛ لأنه لابد أن تأخذه السنة والنوم أو يهلك. إما الرب عز وجل فلا تأخذه السنة ولا النوم، وفي الحديث الصحيح: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) (1) فانتفى بذلك غلبة النوم والسنة عليه عز وجل بنص القرآن، وأنه لا ينام ولا بإرادته؛ لأن ذلك من المستحيل عليه، لقوله: ((ولا ينبغي له أن ينام) ؛ لأن النوم نقص، ونحن إنما ننام لنقصنا لا   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا ينام وفي قوله حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه)) ، رقم (179) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 لكمالنا، ننام من أجل الراحة مما مضى واستجلاب القوة لما يستقبل أما الله عز وجل فإنه لم يزل ولا يزال قويا، وخلق السموات والأرض في ستة أيام وما مسه من لغوب. فالحاصل أن الله له الحياة الكاملة أزلا: ابتداء وانتهاء واستمرارا، فابتداء حيث لم تسبق، وانتهاء حيث لا يلحقها زوال، واستمرارا حيث أنها حياة كاملة لا يعتريها سنة ولا نوم ولا نقص بأي نوع من أنواع النقص: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة: 255) . ثانياً: (له الكلام) : فهو سبحانه وتعالى يتكلم، والكلام كمال، ولهذا يعد الخرس عيبا ونقصا، فله الكلام، وكلامه سبحانه وتعالى بحرف وصوت؛ لأننا نجد أن ما يتكلم الله به حروف، ونعلم أن كلامه يسمع ويرد عليه. أما الأول: وهو أن كلامه بحرف، فهو أشهر من أن يذكر، فكل الكلام الذي ذكره الله عن نفسه نجده بحروف، فمثلا القرآن الكريم سماه الله تعالى كلاما له، فقال: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) (التوبة: الآية 6) ومعلوم أن القرآن حروف، ثم إن الله يقول: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) (المائدة: الآية 116) ، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (صّ: 71)) ، (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة: الآية 35) ، كل هذه المقولات حروف متتابعة وليست متقارنة، فقوله: (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) (آل عمران: الآية 55) ، فعيسى بعد ((يا) ، وقوله: ((إني متوفيك) بعد عيسى فهي متتابعة بعضها بعد بعض، وليست متقارنة ولا يمكن أن تكون متقارنة. وكذلك فكلام الله بصوت، لقوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) (مريم: 52) فالمناداة بصوت مرتفع، والمناجاة بصوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 منخفض، وكل ذلك وصف الله به نفسه قال: (وَنَادَيْنَاهُ) وقال: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) فهذه كلها صفة للصوت. وفي السنة ((يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) (1) ثم إن المحاورة التي تقع بين الله وبين رسله تكون بشيء مسموع بلا شك، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما كان الله يحاوره قال: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) (طه: 17) (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) (طه: 18) (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى) (طه: 19) (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) (طه: 20) (قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) (طه: 21) وموسى صلى الله عليه وسلم كان يسمع هذا ولا يمكن أن يسمع شيئا بلا صوت، فلابد من صوت. فكلام الله إذا بحرف وصوت. وكلام الله أيضاً يتعلق بمشيئته ابتداء وانتهاء وكيفية، يعني متى شاء تكلم، ومتى شاء لم يتكلم، وبكيفية يشاءها، إن شاء تكلم بصوت مرتفع، وإن شاء تكلم بصوت غير مرتفع، إن شاء تكلم بالعربية، ,إن شاء تكلم بغير العربية فكلامه مع موسى بغير العربية؛ لأنه لو كلم موسى بالعربية ما فهم موسى شيئا، وكلامه لمحمد صلى الله عليه وسلم بالعربية، ولو تكلم بغير العربية ما فهمه محمد صلى الله عليه وسلم، إذا يتكلم كيف شاء ابتداء وانتهاء وكيفية. ولهذا نجد أن المحاورة التي مع موسى لها ابتداء وانتهاء: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) ابتداء بالواو وانتهاء بالألف من قوله: (يَا مُوسَى) ، قال:   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وترى الناس سكارى، رقم (4741) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 (أَلْقِهَا يَا مُوسَى) ابتداء بالهمزة وانتهاء بالألف. والمهم أن الله عز وجل يبتدئ بالكلام وينتهي بالكلام، ويتكلم كذل كيف يشاء باللغة التي يشاء، فيكلم محمدا بالعربية ويكلم موسى بالسريانية، وهذا هو الظاهر لنا، وإن كان من الجائز أن يكلمه الله بالعربية، وان يلقي له فهما خاصا في تلك اللحظة يفهم به اللغة العربية، وهذا جائز عقلا، لكنه خلاف الظاهر، ونحن ليس لنا إلا الظاهر، إما ما وراء الظاهر فلا نعلمه، فمن ادعاه فعليه الدليل، فالله عز وجل يتكلم كيف شاء، وكذلك يتكلم بما شاء، بالأمر والنهي والخبر والاستخبار الذي هو الاستفهام وغير ذلك، ويتكلم بما شاء؛ لأن له الملك المطلق والتدبير المطلق، فله أن يتكلم بما شاء من الكلام، متى شاء، لأن الكلام يتعلق بمشيئته فمتى شاء تكلم، فالكلام الذي حصل لموسى كان حين أرسله، وكان حين جاء للميقات، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (الأعراف: الآية 143) فيتكلم في أي وقت شاء، وكلامه في أي وقت شاء ضروري وهو أمر يوجبه العقل؛ لأننا نشاهد المحدثات لا تحدث إلا بإرادته، وإذا أراد شيئا فإنما يقو له: كن فيكون، إذا لابد أن يتعلق الكلام بمشيئته، متى شاء تكلم بما يريد عز وجل من الكلام الكوني ومن الكلام الشرعي. المهم أن كلام الله تعالى يتعلق بمشيئته، ولهذا قال أهل العلم من أهل السنة: إن الله يتكلم بحرف وصوف، بما شاء، متى شاء، كيف شاء. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله عز وجل، وهو مذهب تؤيده الأدلة الشرعية والأدلة العقلة والأدلة اللغوية؛ لأن الكلام لا يعقل إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بحرف وصوت. وقال أهل البدع قولا كثيرا في الكلام بلغ إلى ثمانية أقوال بالإضافة إلى قول أهل السنة والجماعة، ذكرها ابن القيم رحمه الله، في مختصر الصواعق المرسلة (1) ، ونذكر منها قولين مشهورين: القول الأول: قول الجهمية والمعتزلة وأتباعهما، يقولون: إن الله تعالى يتكلم بكلام يسمع، وبحرف، ومتى شاء، وبما شاء، ولكن ليس كلامه صفة فيه، بل كلامه مخلوق من مخلوقاته بائن منه، يخلق كلاما في الهواء أو في جهة معينة، ثم يسمع فيضاف إلى الله إضافة تشريف وخلق، كما أضاف الله إلى نفسه البيت في قوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) (الحج: الآية 26) ، وكما أضاف إلى نفسه الناقة في قوله: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا) (الشمس: الآية 13) وكما أضاف إلى نفسه المساجد في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (البقرة: الآية 114) فيقولون: إن إضافة الكلام إليه لا لأنه تكلم به وأنه صفة من صفاته، ولكن لأنه خلق، إما الله عز وجل فمحال أن يتكلم بكلام، وإنما يخلق كلاما في غيره ثم يضيفه إليه على سبيل التشريف والتكريم والتعظيم أما مناداة إله لموسى في قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (مريم: الآية 52) فيقولون فيها: خلق الله في جانب الطور الأيمن صوتا نادى موسى من الشجرة: (أَنْ يَا مُوسَى) (القصص: الآية 30) فيزعمون أن الله خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى عليه الصلاة والسلام، فنقول: سبحان الله! كيف   (1) مختصر الصواعق المرسلة 2/472 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 يضيف الله سبحانه وتعالى الكلام إلى نفسه: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (مريم: الآية 52) ويضيفه إلى نفسه في محاورته لموسى، ثم تقولون: إنه من الشجرة؟! وعلى قاعدتكم هذه نقول: كل كلام يمكن أن يكون كلام الله، حتى كلام البشر يمكن أن نقول: إنه كلام الله؛ لأنه مخلوق في الإنسان، بل إن كلام البشر على قاعدتكم يكون أشرف من كلام الله، لأنه مسموع من البشر، الذي فضله الله على كثير ممن خلق تفضلا، وكلام الله عندكم مسموع من شجرة أو من جانب جبل أو ما أشبه ذلك!! ومن ثم ادعى أهل الحلول أن كل كلام فهو كلام الله، حتى نعيق الطيور وأصواتها كلام الله، وقال قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه يعني كل كلام في الوجود فهو كلام الله، حتى من يتكلم باللعن والسب والشتم ويشتم الله ورسله وكتبه، فكل هذا يعتبر - والعياذ بالله - كلام الله عند أهل الحلول وهذا غير معقول. لكن هذا القول وإن كان الجهمية والمعتزلة ينكرونه، لكنه لازم لهم؛ لأنهم إذا اعتقدوا أن ما يضاف إلى الله من الكلام يكون كلام غيره، فلا فرق بين أن يكون كلام البشر، أو كلام الشجرة، وجانب الطور، وما أشبه ذلك. وعلى هذا المذهب لا يوصف الله تعالى بالكلام في الواقع، وإنما يوصف بأنه خالق الكلام، ومن ثم بنوا على هذا قولهم: إن القرآن مخلوق، وغير منزل واستدلوا بقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الزمر: الآية 62) ، والكلام شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فيكون مخلوقا غر منزل، وقالوا: حتى لو قلنا انه منزل فليس كل منزل غير مخلوق؛ فالله انزل من السماء ماء، والماء النازل من السماء مخلوق، وقال تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (الزمر: الآية 6) والأنعام مخلوقة، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (الحديد: الآية 25) والحديد مخلوق. فانظر كيف التلبيس! وهو من تلبيس إبليس، فبماذا نجيبهم على شبهتهم هذه؟! نقول: إن المنزل إما أن يكون عينا قائمة بنفسها وحينئذ يكون خلوقا؛ لأنه بائن من الله عز وجل، وإما أن يكون وصفا لا يقوم إلا بغيره، وحينئذ يجب أن يكون من صفات الله، والكلام وصف لا يقوم إلا بغيره، وحينئذ إذا أضاف الله الكلام إلى نفسه فهو صفة من صفاته، إما الحديد فلا يكون من صفات الله، والماء النازل من السماء ليس من صفات الله، وكذلك الأنعام: الإبل والبقر والغنم ليست من صفات الله، بل هي أعيان قائمة بنفسها، أضافها الله تعالى إلى نفسه إضافة خلق وتكوين، وليست إضافة صفة إلى موصوفها. ويمكن الرد عليهم فيما استدلوا به كما يلي: أولا: أما الآية التي استدلوا بها، وهي قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الرعد: الآية16) أي كل شيء يصلح للخلق، أي خالق كل شيء مخلوق، وأما القرآن فهو صفة من صفات الله عز وجل، وصفات الله غير مخلوقة، لأن الصفة تابعة للموصوف. وأيضا فإن هذه الآية الكريمة تدل على خالق ومخلوق، فيجب أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 المخلوق مخلوقا بائنا منفصلا عن خالقه، كما لو قلنا: صانع ومصنوع، فإننا إذا قلنا مثلا هذا صانع للقدر، فالقدر ليس من صفاته بل هو بائن عنه. إذا فالمخلوق الذي خلقه الله بائن عن الله عز وجل، ومن المعلوم أن الكلام معنى يقوم بالغير، وليس عينا قائمة بنفسها، فإذا أضافه الله إليه فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها. أما بالنسبة لقولهم: أن الله انزل الحديد والأنعام والمطر وهي مخلوقة، فنقول: هذه أعيان قائمة بنفسها، لا يصح أن تكون صفة لله عز وجل، بخلاف الكلام. إذا ما احتجوا به فهو باطل، وهم إذا أنكروا كلام الله الذي هو وصفه وقالوا إنه مخلوق، فإن إنكارهم هذا في الحقيقة يقتضي إنكار الشرع والقدر، لأنه يقتضي أن تكون المخلوقات بغير كلام الله، بل بمخلوق مثلها، ويقتضي أيضاً أن يكون الشرع بغير وحي الله، بل بمخلوق من المخلوقات، ولا يقتضي إلزام الناس به لأنه مخلوق. ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله في النونية (1) أن هذا القول يترتب عليه إبطال الخلق والأمر جميعا، لأنه لا يكون الخلق بقوله: ((كن)) ، ولا الشرع بقوله: ((افعلوا)) ، وإنما بأشياء مخلوقة بمخلوقة، وهذا إبطال للشرع والقدر. وقد ذكرنا انه يلزم على قولهم - غير ما ذكر ابن القيم رحمه الله من إبطال الشرع والقدر - أن يكون كل كلام الناس كلام الله، لأنهم إذا ادعوا أن الكلام المخلوق يكون كلاما لله، فنقول: إذا كلام المخلوقات كلام لله لأنه   (1) أنظر القصيدة النونية 1/127 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مخلوق، وهذا شيء ممتنع. إما القول الثاني: فقول الأشاعرة حيث قالوا: إن كلام الله صفة من صفاته وليس بمخلوق، ولكن الكلام الذي نقر به هو المعنى القائم بنفسه، وليس الشيء المسموع الذي يكون بالحروف، فإن هذا الشيء المسموع الذي يكون بالحروف خلق من مخلوقات الله، خلقه الله تعبيرا عما في نفسه، وليس هو كلام الله، لكن إضافته إلى الله من باب المجاز، فتجوز عما كان عبارة عن الشيء فسمي به الشيء، فسمي كلام الله لأنه عبارة عنه، وليس هو كلام الله، بل الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وهو أزلي أبدي لا يتعلق بمشيئته، بل هو وصف لازم له كلزوم الحياة والعلم والقدرة. وعلى زعمهم هذا فهو لا يتكلم متى شاء، كما أنه لا يعلم متى يشاء، بل علمه لازم لذاته، فهم يقولون: الكلام لازم لذاته ولا يتعلق بمشيئته، وعلى ذلك فالجهمية والمعتزلة خير منهم من هذا الوجه؛ لأنهم يقولون: إن كلام الله يتعلق بمشيئته لكنه مخلوق، وهم يقولون لا يتعلق بمشيئته ولا بإرادته. ثم يقولون: إن ما يسمعه محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وغيرهما من كلام الله، إنما هو شيء مخلوق، فهم قد شاركوا الجهمية والمعتزلة في أن ما يسمع مخلوق، لكن الجهمية قالوا: هو كلام الله، وهؤلاء قالوا: عبارة عن كلام الله، فوافقوا الجهمية في أن المسموع مخلوق، وخالفوهم في أنهم قالوا: إنه عبارة، وهؤلاء قالوا: إنه حقيقة. فصار المعتزلة والجهمية خيراً منهم من هذا الوجه؛ لأن الجهمية والمعتزلة يقولون هذا كلام الله، وهم يقولون: هذا ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، مع أن الله يصرح أنه كلامه، لكنهم يقولون: لا، بل هو عبارة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 كلام الله. ونحن نقول: إن دعواهم بان الكلام هو المعنى القائم بالنفس هذه دعوى يكذبها الشرع وتكذبها اللغة وإذا كانت يكذبها الشرع وتكذبها اللغة فهي باطلة. أما الشرع: فلأن الله تعالى وصف القرآن بأنه كلام الله، والأصل أن الصفة حقيقة في موصوفها، وهذا القرآن مسموع، وبحروف، ويتعلق بالمشيئة. فكذب دعواهم بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وأما مخالفته للغة: فلأنه لا يقال في اللغة للكلام كلام حتى يخرج باللسان، وإنما يذكر الكلام القائم بالنفس كلاما مقيدا، فيقال حدث نفسه، ويقال: حديث النفس، ويقال يقول في نفسه، إما عند الإطلاق فإن القول والكلام لا يقال إلا لما يسمع ويكون بالحروف فإذا قالوا: إن الله تعالى يقول: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُول) (المجادلة: الآية 8) قلنا: هذا رد عليكم وليس لكم، بل هو دليل عليكم وليس لكم؛ لأن الله لما أراد حديث النفس قال: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) ولما أراد حديث اللسان قال: (بِمَا نَقُول) فأطلق، وذلك في قوله تعالى (لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُول) (المجادلة: الآية 8) ولم يقولوا: بما نقول في أنفسنا؛ لأنهم يقولون بألسنتهم، لكن يحدثون أنفسهم ويقولون: لولا يعذبنا الله بما نقول. فحديث النفس لا يسمى قولا ولا كلاما ولا حديثا إلا مقيدا، وأما القول والحديث والكلام عند الإطلاق فإنما هو القول المسموع الذي يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بالحروف. ثم إننا نقول لهم: أي فرق بين العلم والكلام على ما زعمتم، لأن حقيقة الأمر أنه إذا كان الكلام هو ما قدره الله في نفسه صار معناه العلم، فلا فرق بن العلم والكلام على زعمكم. فإن قالوا: قال الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا قلنا: وهذا دليل عليكم أيضاً وليس لكم؛ لأن الشاعر يريد أن الكلام المعتبر هو الذي يخرج من القلب، ولكنه لا يسمى كلاما ولا يضاف إلى الإنسان حتى يقوم عليه الدليل، والدليل لا يكون إلا باللسان الذي ينطق فيسمع، ويكون بحروف. هذا إذا تنزلنا وقبلنا أن نوافق على الاستشهاد بهذا البيت، وأما إذا قيل: إن القائل لهذا البيت هو الأخطل، فإنه لا ليل فيه؛ لأن الأخطل من النصارى، وهم يجوزون من الوهميات ما تجيزه العقول، فالنصارى يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ويقولون: نحن موحدون، وكيف يكون موحد من جعل الإله ثلاثة؟! فهم عندهم خطأ وعندهم ضلال، ولهذا وصفوا بأنهم ضالون، وإن قولا يستشهد له ويستدل له بأقوال النصارى لقول مبني على شفا جرف هار. وعلى كل حال فنحن إذا سلمنا جدلا بالاستدلال بهذا البيت، فهو دليل عليهم لا لهم؛ لأن حقيقة القول أو حقيقة الكلام المعتبر، ما كان في القلب وعبر عنه اللسان، أما الكلام الذي لا يكون في القلب فهذا هذيان، فمثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 كلام النائم، أو المخرف البالغ من الكبر عتيا، لا يمكن أن نقول عنه انه كلام! فمراد الشاعر: أن الكلام المعتبر هو الذي يكون في القلب، ثم يعبر عنه اللسان، ويدل عليه (إنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا) . وعلى ذلك فإن الأشاعرة يخالفون أهل السنة في الكلام من وجوه: أولاً: أنه معنى وليس بحرف وصوت. ثانياً: أنه لازم لذات الله، ولا يتعلق بمشيئته وإرادته - وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه متعلق بمشيئته وإرادته، فمتى شاء تكلم، ومتى شاء لم يتكلم. وإذا قال قائل: على أي شيء بنى المعتزلة والأشاعرة قولهم؟ نقول: أما المعتزلة فبنوا قولهم على نفي الصفات عن الله؛ لأنهم ينفون صفة الكلام، وينفون أنه يتكلم. فهم يثبتون الأسماء ولا يثبتون الصفات. وأما الأشاعرة فبنوا قولهم على امتناع قيام الحوادث بالله، وقالوا: الشيء الحادث الذي يقوم بالمشيئة لا يقوم بالله أبدا، قالوا: لأن الحادث لا يقوم إلا بحادث، فإذا قامت بالله الحوادث لزم من ذلك أن يكون حادثا، وهذا لا شك أنه خطأ. أما مذهب المعتزلة والجهمية فظاهر خطؤه؛ لأنهم ينكرون جميع الصفات، ونحن نثبت لله جميع ما أثبته لنفسه. وأما الأشعرية فنقول: من قال:، إن الحادث لا يقوم إلا بحادث؟! فقد يقوم الحادث بالقديم أي بالأزلي الأبدي، وهذا من كمال الله، أن يكون فعله متعلقا بمشيئته، وان يحدث من أمره ما شاء، ونقول لهم: ماذا تقولون في قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس: 82) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فالآية واضحة، بأنه عند إرادة الشيء يقول له كن فيكون. والفاء في قوله: (كُنْ فَيَكُونُ) تدل على الترتيب والتعقيب، إذا فالأمر بالكون سابق للكون، لكنه مقارن يعني: متصل به (كُنْ فَيَكُونُ) . فإن ادعوا أن المراد: يقول في الأزل: كن. فالجواب أن هذا خلاف الظاهر؛ لأن (كُنْ فَيَكُونُ) تدل على أن هذه عقب هذه، وهذا يستلزم أن يكون قوله حادثا عند وجود ما أراده عز وجل. مسألة: قال الأشاعرة: إن القرآن جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا جعلتموه صفة من صفات الله فكيف تنفك الصفة عن الموصوف؟ والجواب على هذا يسير؛ فأنا عندما أقول لشخص ما: بلغ فلانا بكذا وكذا، فالكلام كلامي أنا، وأما هذا فهو مبلغ فقط، فالكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مبلغاً. وهذا الكلام - أصلا - هو كلام الله، لكن تكلم جبريل به هذا مخلوق، إما المتكلم به فهو كلام الله، فعندما أقرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: 3) (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة: 4) فصوتي هذا مخلوق، لكن ما أصوت به هو صفة الله غير مخلوق ولهذا وصف الله القرآن بأنه قول محمد صلى الله عليه وسلم وقول جبريل، ولا يمكن أن يكون قولا من قائلين؛ فقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير: 19) (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير: 20) ، والمراد بالرسول هنا جبريل، وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (الحاقة: 40) (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 (الحاقة: 41)) ، والمراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأضاف الله تعالى القول إلى محمد صلى الله عليه وسلم مرة، وأضافه مرة أخرى إلى جبريل. ومن المعلوم انه قول القائل الأول له؛ وهو الله عز وجل وليس محمدا صلى الله عليه وسلم ولا جبريل؛ ويبين ذلك قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 192) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء: 193)) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 194) ، وتنزيل رب العالمين هذا هو الأول من الثلاثة. إذا فالكلام يضاف إلى أول من قاله، فلو قلت: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) . فالذي قال هذا الكلام هو امرؤ القيس، وأنا قلت هذا الآن، لكنني قلته إما مبلغ إن كنت قد أمرت بتبليغه، وإما حاكيا إن لم أؤمر بتبليغه. ثالثاً: قال: (والبصر) ، يعني وله البصر، والبصر هو رؤية الأشياء، وقد أثبت الله في كتابه أنه بصير بما يعمل العباد، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن لله بصراً في قوله: ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (1) ، وعلى هذا فالبصر ثابت لله تعالى بالكتاب والسنة. لكن هذا الحديث الذي ذكرناه هو بصر الرؤية، إما بصر العلم فيستفاد من الآية، ولهذا نقول: إن بصر الله عز وجل نوعان: بصر رؤية، وبصر علم، وكلاهما يشمله قوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: الآية 15) وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحجرات: الآية 18) وما أشبه ذلك من الآيات، فإن هذا البصر شامل لبصر العلم وبصر الرؤية.   (1) رواه مسلم كتاب الإيمان في قوله عليه الصلاة والسلام إن الله لا ينام رقم179 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 أما قوله عليه الصلاة والسلام: ((لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فإنه يختص ببصر الرؤية، وعلى كل حال فالبصر ثابت لله عز وجل، وهو من الصفات الذاتية التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، فهو لم يزل ولا يزال عليما، ولم يزل ولا يزال بصيرا بخلقه عز وجل، أي يبصرهم. ولا يلزم من البصر العين، ولولا النصوص الدالة على ثبوت العين لم يجز أن نثبتها بثبوت البصر، ولهذا كانت الأشاعرة يثبتون لله البصر ولا يثبتون له العين، فيقولون: إن الله يرى لكن لا بعين، فالعين لها نصوصها الدالة عليها والبصر له نصوصه الدالة عليه. فإذا قال قائل: هل يمكن عقلا أن يرى بلا عين أو أن يحصل البصر بلا عين؟ فالجواب: نعم يمكن، فقد قال الله تعالى عن الأرض: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (الزلزلة: 4) أي تخبر بما عمل الناس عليها، وعمل الناس قد يكون فعلا يرى، وقد يكون قولا يسمع، فالأرض تسمع بلا إذن وترى بلا عين، والله على كل شيء قدير. وعلى كل حال فإننا نثبت لله البصر؛ بصر العلم وبصر الرؤية، ونرى أنه من الصفات الذاتية التي لم يزل ولا يزال الله متصفا بها. رابعا: السمع: قال: (سمع) ، وهذه معطوفة على قوله: الحياة، لكنها بإسقاط حرف العطف لضرورة النظم والسمع الذي أثبته الله لنفسه نوعان: سمع إدراك المسموع، وسمع إجابة المسموع. وهناك فرق بين الإدراك وبين الإجابة، قال الله تعالى: (وَلا تَكُونُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (الأنفال: 21) ، (سَمِعْنَا) ، أي: سمع إدراك، (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي سمع استجابة، في قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك) (المجادلة: 1) هنا سمع إدراك، وفي قوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) (إبراهيم: الآية 39) ، أي سمع استجابة، وفي قول المصلي: سمع الله لمن حمده. سمع الأمرين جميعاً، يعني يسمع ويجيب من حمده بالإثابة. إذا فسمع الله ينقسم إلى قسمين؛ سمع إدراك وسمع استجابة، لكن هل هما من الصفات الذاتية؟ أما سمع الإدراك فهو من الصفات الذاتية، وأما سمع الاستجابة فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه إن شاء استجاب وإن شاء لم يستجب. فأولوا الألباب الذين يقولون: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) (آل عمران: الآية 193) ، قال الله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ) (آل عمران: الآية 195) ، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: الآية 60) ، فالاستجابة حصلت بعد الدعاء، وكل شيء يكون له سبب من صفات الله فهو من الصفات الفعلية. إذا فسمع الاستجابة من الصفات الفعلية، فمن استجاب الله له فقد سمعه، لكن سمع الإدراك من الصفات الذاتية، لكن الحادث هو المسموع لا السمع، فأنا مثلا اسمع الصوت الآن ولكن سمعي موجود من قبل، أي أن هذا الصوت المعين حادث، ولكن القوة السمعية موجودة في من قبل هذا الصوت، فقد تكون الصفة قديمة ومتعلقها حادث ولا مانع. قال العلماء رحمهم الله: والسمع بمعنى الإدراك ينقسم إلى عدم أقسام: سمع عام لكل شيء، فهذا يشمل المؤمن والكافر، وما يرضاه الله وما لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يرضاه ومثاله قوله تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: الآية 224) هذا عام يشمل كل شيء. وسمع خاص مقتضاه النصر والتأييد، وهذا السمع الخاص له أمثلة في كتاب الله، مثل قوله تعالى لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه: 46)) فليس المراد هنا أن الله تعالى يسمعهما ويراهما مجرد سمع ورؤية، بل المراد أسمع وأرى فانتصر لكما، فهذا السمع مقتضاه النصر والتأييد. وقد يكون للتهديد والوعيد مثل قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) (آل عمران: الآية 181) ، وقوله تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف: 80)) . فصار السمع الخاص قد يكون مقتضاه النصر التأييد، وقد يكون مقتضاه الوعيد والتهديد. فإذا قال قائل: ما هو الضابط لما يقتضيه هذا وهذا؟ فالجواب: أن الضابط: القرائن، فقرائن الأحوال، وسياق الكلام، تدل على أن مقتضاه كذا أو كذا. خامسا: (إرادة) : بالرفع عطفا على الحياة، بإسقاط حرف العطف لضرورة النظم. فقوله إرادة: يعني أن الله عز وجل له الإرادة، ودليل ذلك قوله تعالى: (وقوله تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج: 16) وقول الله تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 (النساء: 27) : (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (النساء: الآية 26) والآيات في الإرادة كثيرة. قال أهل العلم رحمهم الله: والإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية: وهي التي بمعنى المشيئة، وإرادة شرعية: وهي التي بمعنى المحبة. مثال الإرادة الشرعية: قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (النساء: الآية 27)) فهذه بمعنى المحبة وليست بمعنى المشيئة؛ لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لتاب الله على جميع الناس، لكنها بمعنى المحبة فتتعلق بمشيئته إن شاء تاب، وإن شاء لم يتب. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (البقرة: الآية 185) . ومثال الإرادة الكونية التي بمعنى المشيئة قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (الحج: الآية 14) ، أي ما يشاء، بدليل قوله تعالى في الآية الثانية: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: الآية 27) ومن أمثلة الإرادة الكونية أيضاً قوله تعالى: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ) (هود: الآية 34) فالإرادة هنا كونية؛ لأن الله تعالى لا يريد شرعا أن يغوي عباده، بل يريد شرعا أن يهديهم، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (النساء26) (والله يُرِيدُ أن َيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (النساء: الآية 27) . فالإرادة إذا قسمان: كونية وشرعية. والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية من حيث الحكم من وجهين: الوجه الأول: أن الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يلزم فيها وقوع المراد، فقد يريد الله الشيء شرعا ولا يقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الوجه الثاني: الإرادة الشرعية لا تكون إلا فيما يحبه الله، والإرادة الكونية تكون فيما يحبه وما لا يحبه. فمثلا الإيمان والعمل الصالح مراد لله شرعا لا كونا؛ لأن من الناس من لم يؤمن ومن لم يعمل صالحا، ولو كان مرادا لله كونا وقدرا للزم أن يؤمن الناس كلهم ويعملوا صالحا. فإذا قال قائل: الكفر الواقع من بني آدم هل هو مراد لله؟ فنقول: مراد كونا لا شرعا؛ فمراد كونا لأنه واقع، وكل شيء يقع فهو مراد لله عز وجل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس: 82) ، فهو مراد كوناً غير مراد شرعاً؛ لأن الله لا يريد من عباده الكفر، وإنما يريد منهم الإيمان. ونمثل ذلك بالأشخاص فكفر أبي جهل مراد كونا، والدليل على أنه مراد كونا لأنه واقع، وكل شيء واقع فهو مراد كونا لا إشكال فيه، وليس هو مرادا شرعا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحبه، وإذا كان الله لا يحب شيئا فإنه وإن وقع غير مراد لله شرعاً. وإيمان أبي بكر رضي الله عنه، مراد كونا لوقوعه، ومراد شرعا لأنه محبوب إلى الله عز وجل؛ لأنه كما قلنا كل شيء واقع فهو مراد كونا، وإيمان أبي بكر واقع فهو مراد كونا. وإيمان أبي لهب - أي تقديراً - مراد شرعاً لا كوناً؛ لأنه لم يقع، فمراد شرعاً لأن الله يحب منه الإيمان؛ لأنه محبوب إلى الله عز وجل. وقد ذكرنا فيما سبق أن كفر أبي جهل مراد كونا لوقوعه، غير مراد شرعا لأن الله لا يحبه. وذكرنا أيضاً أن إيمان أبي لهب مراد شرعا لأن الله يحبه، غير مراد كونا لأنه لم يقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وهنا يرد علينا إشكال، وهو كيف يكون الشيء مرادا لله كونا وهو لا يحبه؟ وهل أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحب؟ وقد أجاب بعض المعتزلة فقال: كل ما وقع فهو مراد لله كونا وشرعا، حتى المعاصي قالوا: إن الله أرادها شرعا، ولكن هذا فيه إشكال والجواب السديد في مثل هذه المسألة أن يقال: إن الله يكره كفر هذا الكافر ولم يكرهه أحد على أن يوقع شيئا يكرهه، لكن هذا الشيء مكروه لذاته محبوب لغيره، فالكفر الواقع هنا مكروه لذاته محبوب لغيره. ويكون الشيء محبوبا مكروها باعتبارين، لا باعتبار واحد فهذا ممتنع. مثال ذلك: أنك ترى الرجل يأتي بالحديدة محماة حمراء من النار ليكوي بها ابنه المريض، لكن كيه لابنه ليس مرادا لذاته، بل مراد لغيره، ولهذا تجده محبوبا له مكروها، محبوبا من وجه، مكروها من وجه؛ من وجه إيلامه لابنه مكروه، ومن وجه أنه سبب لشفائه، محبوب. وكذلك الكفر واقع بإرادة الله عز وجل، مكروه إلى الله لذاته، محبوب إليه لغيره. فلولا الكفر ما عرف الإيمان، ولولا الكفر لم يكن جهاد، ولولا الكفر لم يكن امتحان، ولولا الكفر لكان خلق النار عبثا، إلى غير ذك من المصالح العظيمة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يقع الكفر بحكمته، ولهذا قال عمر: ((لا ينقض الإسلام عروة عروة إلا من لم يدخل في الكفر) ، يعني أن من عرف قدر الإسلام لا ينقضه، ولا يعرف قدر الإسلام إلا إذا كان قد دخل في الكفر، فبضدهما تبين الأشياء. وهكذا الله عز وجل يوقع في عباده ما يكرهه لكن من أجل مصلحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أخرى أعظم من إيقاعه وذلك مثل قوله تعالى في الحديث القدسي: ((ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره إساءته ولابد له منه) (1) ، فهذا مما يكرهه الله كونا لا شرعا، لكنه يوقعه عز وجل لما له من المصالح العظيمة، فإنه لابد من الموت حتى يجازي الإنسان بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. فالحاصل أن نقول جوابا على هذا الإيراد الشائك: إن هذا المكروه إلى الله مكروه إليه لذاته محبوب إليه لغيره فهو مكروه محبوب من وجهين. سادسا: قال: (وعلم) ، أي من صفات الله تعالى العلم، والعلم صفة كمال، ولهذا يمتدح به الإنسان، ويكره أن يوصف بضده، فلو قلت لشخص: يا جاهل، وأنت من أعلم الناس قال لك: أنت الجاهل؛ لأنه يرى أن وصفه بالجهل عيب وقدح ومسبة لابد أن ترد. فالعلم صفة كمال بلا شك، وعلم الله عز وجل شامل لكل شيء، حاضرا ومستقبلا وماضيا، قال الله سبحانه وتعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: الآية 12) ، وقال تعالى عن الملائكة: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما) (غافر: الآية 7) ، وقال تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: الآية 29) . وكذلك أيضاً علم الله تعالى محيط بكل شيء تفصيلا، قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 (الأنعام: 59) . وعلمه سبحانه وتعالى شامل لما يتعلق بفعله وما يتعلق بفعل عباده، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (قّ: الآية 16) ، وقال تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (التغابن: الآية 4) ، وقال تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: الآية 283) فعلم الله شامل لكل ما يعمله العبد. إذاً علم الله ثابت له بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، والنظر الصحيح. بالكتاب: وما أكثر الآيات التي تصف الله بالعلم. والسنة كذلك مملوءة بما يدل على أن الله تعالى بكل شيء عليم، كما في حديث الاستخارة وغيره. وإجماع المسلمين ثابت بأن الله بكل شيء عليم والنظر الصحيح يدل عليه، قول الله تعالى مستدلا على علمه بدلالة عقلية: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14) ، فالخالق لابد أن يكون عالما بمخلوقه، وعالما بخلقه كيف يخلق. فالعلم دل عليه القرآن والسنة والإجماع والعقل جملة وتفصيلا. سابعا: قال: (واقتدر بقدرة تعلقت بممكن) ، يعني من صفات الله تعالى القدرة، وقال: اقتدر، من باب المبالغة وهي أبلغ من قدر؛ لأن اقتدر تدل على صفة ذاتية لازمة، قال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (القمر: 54) (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر: 55) ، وقال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: الآية 20) ، والآيات في هذا كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقدرة الله تعالى قدرة مقرونة بالقوة، فهو القوي القادر، بخلاف المخلوق فإن قدرته محدودة، وقد تكون قدرة بقوة، وقد تكون قدرة بلا قوة. لكن المؤلف رحمه الله قيد القدرة حيث قال: (تعلقت بممكن) ، وتعلقت بالواجب أيضاً من باب أولى، ولم تتعلق بالمستحيل؛ لأن المستحيل ليس بشيء، فضلا عن أن يكون مقدورا عليه. لكن المستحيل الذي يتصور ذهننا أنه مستحيل: مستحيل لذاته، ومستحيل لغيره. أما المستحيل لذاته فهو مستحيل لا يمكن، فلو أن أحداً قال هل الله قادر على أن يخلق مثله؟ لقلنا: هذا مستحيل، لكن الله قادر على أن يخلق خلقا أعظم من الخلق الذي نعلمه الآن، ونحن نعلم أن أعظم مخلوق نعلمه هو العرش، فهو أعظم من كل شيء من المخلوقات التي نعلمها، ومع ذلك نعلم أن الله قادر على أن يخلق أعظم من العرش، لكن الشيء المستحيل لذاته هذا غير ممكن. كذلك نحن نعلم أنه يستحيل في العادة - وليس لذاته - أن يقع خسوف القمر في أول الشهر، فهذا مستحيل حسب العادة، ونعلم أيضاً أنه لا يمكن أن يهل الهلال ثم تخسف الشمس بعد غروبه، فهذا نعلم علم اليقين أنه لن يكون، لكن لغيره، أي حسب ما أجرى الله العادة، وإلا فإن الله قادر على أن يكسف القمر في أول الشهر وعلى أن يهل الهلال ثم تخسف الشمس بعد غروبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وظهور الهلال لا يمكن أن يكون قبل خسوف الشمس، بمعنى أنه إذا خسفت الشمس في ليلة قلنا: إنها أول ليلة في الشهر، فهذا شيء مستحيل؛ لأن من المعلوم أن كسوف الشمس سببه - الذي جعله الله سببا كونيا - حيلولة القمر بين الشمس والأرض، وحيلولة القمر بين الشمس والأرض يمنع أن يهل الهلال قبل الخسوف؛ لأنه إذا هل الهلال قبل الخسوف لا يمكن أن يتجاوز ثم يحول بين الشمس والأرض؛ لأن المعلوم أن القمر يتأخر عن الشمس. فسبب الخسوف الذي جعله الله سببا للخسوف في العادة. هو: حيلولة القمر بين الشمس والأرض إذا فهل الشمس سبقت في هذا الحال أو لم تسبق؟ الجواب: أنها لم تسبقه. لأنها لو سبقته لم يكن خسوف، وإذا هل الهلال لزم أن تكون الشمس قد سبقت الهلال؛ لأن الهلال لا يكون هلالا إلا بعد غروب الشمس. وإذا كان الشمس قد سبقت هل يمكن الخسوف؟ لا يمكن أبدا؛ لأن القمر لا يمكن بعد أن تأخر عن الشمس أن يذهب بسرعة حتى يكون تحتها، هذا مستحيل لغيره؛ يعني: مستحيل حسب ما أجرى الله العادة لكن الله قادر على أن يحبس الشمس ويسرع في سير القمر حتى يخسف بعد الغروب. إذاً قول المؤلف رحمه الله: ((تعلقت بممكن) نقول: ضده المستحيل، فالمستحيل لا تتعلق به القدرة؛ لأنه على اسمه مستحيل، ولكن يجب أن نعلم - حتى لا يتوهم واهم إننا خصصنا ما عممه أو قيدنا ما أطلقه - أن المستحيل نوعان: مستحيل لذاته ومستحيل لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فالمستحيل لذاته: لا يمكن أن تتعلق به القدرة، كما مثلنا وقلنا: لو قال قائل: هل يقدر الله أن يخلق مثله؟ قلنا: هذا مستحيل لذاته، لأن المماثلة مستحيلة، وأدنى ما نقول في ذلك: أن هذا مخلوق والرب خالق، فتنتفي المماثلة على كل حال. والمستحيل لغيره: بمعنى أن الله تعالى أجرى هذا الشيء على هذه العادة المستمرة التي يستحيل أن تنخرم، ولكن الله قادر على أن يخرمها، فهذا نقول إن القدرة تتعلق به، فيمكن للشيء الذي نرى أنه مستحيل بحسب العادة أن يكون جائزا واقعاً بحسب القدرة، وهذا الشيء كثير، فكل آيات الأنبياء الكونية من هذا الباب (المستحيل لغيره) ؛ فانشقاق القمر للرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل لغيره، لكن غير مستحيل لذاته لأنه وقع، والله قادر على أن يشق القمر نصفين، بل قادر على أن يشق الشمس نصفين. ونحن - مثلا - نرى أن من المستحيل أن تنزل الشمس حتى تحاذي منارة المسجد، ومن ادعى ذلك كذبناه، وقلنا: هذا مستحيل. لكن لابد أن نعلم أن هذا مستحيل لغيره لا لذاته، أي أنه مستحيل حسب ما أجرى الله العادة، لكن الله قادر على أن ينزل الشمس حتى تحاذي المنارة، بل ودون المنارة، فإنها يوم القيامة تكون على رؤوس الناس بقدر ميل، بقدرة الله. فعبارة المؤلف رحمه الله: (تعلقت بممكن) تحتاج إلى بيان، فإن ظاهر كلامه أن القدرة لا تتعلق بالمستحيل، ونحن نقول: لابد في ذك من التفصيل، فالمستحيل لذاته لا تتعلق به القدرة لأنه ليس موجودا، ولا يمكن أن يوجد، ولا يفرضه الذهن، كما انه لا يمكن أن يكون الشيء متحركا ساكنا في آن واحد؛ لأنه إن كان متحركاً فليس بساكن، وإن كان ساكناً فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بمتحرك. أما المستحيل لغيره - يعني الذي يكون بحسب العادة غير ممكن - فهذا تتعلق به القدرة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، فإن كل آيات الأنبياء الكونية من هذا الباب، فلو أن أحداً من الناس قال: أنا اضرب هذا الحجر ضربة بعصاي فينفلق اثنتي عشرة عينا لقلنا: هذا مستحيل حسب العادة، فلو ضرب الحجر بعصا من حديد حتى يتفتت الحجر ما أتى باثنتي عشرة عينا، لكن هذا مستحل لغيره وليس مستحيلا لذاته، لأن الله تعالى جعله لموسى عليه الصلاة والسلام. كذلك أن تصير العصا حية، هذا لا يمكن حتى في السحر؛ لأنه إنما تكون حية بالسحر حسب نظرنا وليس حقيقة، لكن يمكن أن تكون العصا حية حقيقة حسب قدرة الله تعالى، فكون العصا حية مستحيل لغيره لا لذاته، لكنه لقدرة الله ليس مستحيلا. ولهذا كان عصا موسى عليه الصلاة والسلام ينقلب حية حقيقية تلقف وتأكل. وكذلك فإن الإنسان مخلوق من الطين، فلو صنع شخص تمثالا على شكل طير وقام ينفخ فيه، وقال: صار طيرا وطار، فإننا لن نصدقه؛ لأن هذا مستحيل حسب العادة، لكنه مستحيل لغيره، وأما حسب القدرة فليس بمستحيل؛ لأنه غير مستحيل لذاته، ولهذا جعله الله آية لعيسى عليه الصلاة والسلام؛ يخلق تمثالا على شكل الطير ثم ينفخ فيه فيطير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 38- والعلم والكلام قد تعلقا ... بكل شيء يا خليلي مطلقا   الشرح لما بين المؤلف رحمه الله هذه الصفات السبع، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والإرادة، والكلام، بين متعلقات هذه الصفات، أما الحياة فلم يذكر متعلقاً لها كما سيأتي إن شاء الله أنه لا متعلق لها؛ لأنها لا تتعدى. وأما القدرة: فقال المؤلف رحمه الله: بقدرة تعلقت بممكن ... كذا إرادة فع واستبن وسبق لنا أن قوله: (بممكن) يخرج به المستحيل، وذكرنا أن المستحيل نوعان، مستحيل لذاته ومستحيل لغيره. فخلق عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب أمر مستحيل في العادة، فلا يمكن أن يوجد ولد بلا أب، وكذلك خلق ولد بلا أم، فإن ذلك مستحيل في العادة، فما من ولد إلا وله أم، ولكن في حواء صار لها أب وليس لها أم. كذلك أيضاً يستحيل في العادة أن يوجد بشر بلا أم ولا أب، ولكن هذا مستحيل لغيره، ولو شاء الله أن يخلقه لخلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ثم أليس الناس إذا دفنوا في القبور فإن الأرض تأكل أجسامهم كلها إلا عجب الذنب ومع ذلك يتكون من هذا التراب البشر مرة أخرى، وآدم عليه الصلاة والسلام كان خلقه من الطين، وهذا مستحيل لغيره حسب العادة ولكن الله قادر عليه. قوه: (كذا إرادة) ، يعني كذلك الإرادة تتعلق بالممكن أما المستحيل فلا يمكن. فالمستحيل لذاته لا يمكن أن يريده الله؛ لأن هذه الإرادة عبث والله منزه عن العبث، فلو قال قائل مثلا: إن الله يريد هذا الشيء أن يكون متحركا ساكنا، لأجيب بأن الله لا يريد هذا؛ لأنه متى كان الشيء متحركا لم يكن ساكنا، ومتى كان ساكنا لم يكن متحركا، وليس المراد أنه يكون متحركا ثم يسكن أو ساكناً ثم يتحرك فهذا ممكن. فالإرادة إذاً تتعلق بالممكن، ولهذا نقول: إن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، وهذا يدل على أن الإرادة تكون في الأشياء الممكنة، التي يمكن أن يفعلها الله عز وجل. قال: (والعلم والكلام قد تعلقا بكل شيء) ، يعني: أن الله يمكن أن يتكلم بالشيء المستحيل، ويعلم بالشيء المستحيل، فالله سبحانه وتعالى يقول: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: الآية 22) فقال بالمستحيل يعني تكلم عن شيء مستحيل، وكذلك قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: 22) (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) (المؤمنون: الآية 91) فتكلم بشيء مستحيل. والعلم أيضاً يتعلق بالمستحيل والدليل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء: الآية 22) فهذا خبر يخبر الله فيه أنه لو كان في السماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والأرض آلهة إلا الله لفسدتا، وهذا خبر عن شيءٍ مستحيل إذاً الكلام يتعلق بالمستحيل. وكذلك يتعلق بالواجب من باب أولى، فالله تعالى يتكلم بالشيء الواجب، ومما تكلم به من الأمور الواجبة أن الله واحد لا شريك له، قال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18) . والعلم أيضاً يتعلق بالماضي والمستقبل والحاضر؛ لأن الله بكل شيء عليم. فكل شيء فالله عليم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 39- وسمعه سبحانه كالبصر ... بكل مسموع وكل مبصر   الشرح أي أن السمع يتعلق بالمسموعات لا بكل شيء، لا يتعلق بالمرئيات، فلا يقال: سمع الله فلانا أي نظر إليه؛ لان السمع يتعلق بالمسموعات. فالأقوال من شأن السمع، والبصر كذلك يتعلق بالمبصرات، فالأفعال، من شأن البصر؛ لأن الفعل يرى ولا يسمع، فالذي يسمع ليس الفعل وإنما هو حركة الفاعل. إذاً الأفعال من متعلقات البصر، والأقوال من متعلقات السمع؛ ولهذا قال: (وسمعه سبحانه كالبصر بكل مسموع) كالأقوال، (وكل مبصر) كالأفعال. أما الحياة فلا تتعلق بشيء بائن عن الله عز وجل؛ لان الحياة وصف لازم لذاته لا تتعدى لغيره، فلهذا لم يذكر لها المؤلف رحمه الله متعلقا. فهذه سبع صفات ذكرها المؤلف رحمه الله، ولكنه لم يذكر غيرها؛ لأنها هي الصفات التي اتفق عليها السلف وأهل التأويل من الأشعرية ونحوهم، فلهذا خصها المؤلف بالذكر؛ لأنها محل اتفاق، أما السلف فيثبتون لله تعالى أكثر من هذه الصفات، يثبتون لله كل ما وصف به نفسه من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام والحفظ والرضا والغضب وغير ذلك مما وصف الله به نفسه، لكن الأشاعرة لا يثبتون إلا هذه الصفات السبع فقط؛ لأنهم يرون أن هذه الصفات السبع دل عليها العقل فأثبتوها لدلالة العقل عليها، وأما ما سواها فإن العقل لا يدل عليها فيجب أن تأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ثم فصلوا كيف دل عليها العقل فقالوا: الإيجاد دل على القدرة، حيث إن إيجاد الأشياء يدل على قدرة الموجد وهو الله عز وجل، والأشياء موجودة فإيجاد الأشياء دليل على القدرة. وأحكام هذه الأشياء خلقا وصنعا يدل على العلم؛ لأن الجاهل لا يحكم الشيء. والتخصيص يدل على الإرادة وذلك أن كون هذا ذكر وهذه أنثى، وهذه شمس وهذا قمر، وهذه أرض وتلك سماء، يدل على الإرادة، فأراد الله أن تكون السماء سماء فكانت وأن تكون الأرض أرضا فكانت، وأن يكون الإنسان إنسانا فكان، وأن يكون البعير بعيرا فكان، فالتخصيص يدل على الإرادة، وهذه ثلاث صفات. ثم قالوا: وهذه الصفات الثلاث لا تقوم إلا بحي، أي من لازم المتصف بهذه الصفات الثلاث أن يكون حيا، فاثبتوا الحياة، فتكون الصفات بذلك أربع. ثم يقولون: إذا ثبت أنه حي فإما أن يتصف بالسمع والبصر والكلام أو بضد ذلك، وضد ذلك ممتنع، لأن ضد السمع الصمم، وضد الكلام الخرس، وضد البصر العمى، وهذه الصفات صفات عيب لا يمكن أن يتصف بها الخالق، وهذا وجه دلالة العقل على هذه الصفات السبع. أما الرحمة والرضا والحكمة والوجه واليدان فقالوا: لا نثبت لله رحمة، ولا نثبت لله رضا، ولا نثبت لله حكمة، ولا نثبت لله وجها، ولا نثبت لله يدين؛ لان هذه الصفات لا يدل عليها العقل، وإذا لم يدل عليها العقل فإنه لا يمكن أن نثبتها لله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ويجاب عليهم بثلاثة أجوبة وهي: أولا: أن الرجوع إلى العقل في هذه الأمور باطل شرعا وعقلا. أما شرعا فقال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: الآية 36) ، وقال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) . وأما بطلانه عقلا فلأن هذه الأمور من الأشياء التي تتلقى بالخبر؛ لأن الخالق عز وجل ليس كمثل الخلق، فلا يجوز عليه ما يجوز عليهم، ولا يمتنع عليه ما يمتنع عليهم، ولا يجب له ما يجب لهم، فهو مخالف للخلق، وإذا كان مخالفا للخلق فلا يحكم الخلق عليه بعقولهم، وكيف يحكم الخلق عليه وهم لم يشاهدوا الله، ولا نظيرا لله؛ فكان في الشرع والعقل ما يبطل الاعتماد على العقل في هذه الأمور. ثانياً: هب أن العقل لا يدل على سوى هذه الصفات السبع، فقد دل عليها الشرع، وتعدد الدليل جائز عقلا وواقعا، فإذا انتفى أحد الدليلين ثبت المدلول بالدليل الآخر؛ لان انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، فقد يكون للمدلول دليل آخر غير الدليل الذي انتفى. فإذا فرضنا جدلا أن العقل لا يدل على هذه الصفات فإن الشرع دل عليها وإذا دل عليها وجب إثباتها. ثالثاً: أننا يمكننا أن نثبت بالعقل ما نفيتم أن العقل دال عليه، يعني إننا نستدل بالعقل كما استدللتم بالعقل، فنقول: ما نفيتموه قد دل عليه العقل. مثال ذلك: هذه النعم التي نشاهدها، وهذه النقم التي تندفع عنا مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وجود أسبابها، فهذه تدل على الرحمة، ونزول المطر من آثار الرحمة، ونبات الأرض من آثار الرحمة، والنوم والراحة من آثار الرحمة، والعلم والرزق من آثار الرحمة، كل ما بنا من نعمة فهي من آثار الرحمة، ودلالة هذه الأشياء على الرحمة عقلا أوضح وأبين من دلالة التخصيص على الإرادة؛ لأن دلالة هذه الأشياء على الرحمة واضحة للعامي والعالم، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يفهمها إلا عالم، وكذلك إثابة الطائعين وتعلية منازلهم دليل على الرضا عنهم لا الكراهة لهم؛ لأنه لو كرههم لعاقبهم. وانتقامه سبحانه وتعالى من المجرمين يدل على الغضب، قال تعالى: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) (الزخرف: الآية 55) . فالمهم أن ما ذكروا أن العقل لا يدل عليه، فإنه يمكننا أن نثبته نحن بدلالة العقل. لكن إثبات الأشاعرة لهذه الصفات السبع ليس كإثبات أهل السنة لها بل يختلف، فالكلام مثلا عند أهل السنة والجماعة ليس هو الكلام عند الأشاعرة وسبق أن الأشاعرة قالوا في الكلام قولا لا يقوله من له عقل بل قالوا قولا حقيقته نفي الكلام؛ لأنهم قالوا: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس والمسموع عبارة عن هذا الكلام خلقه الله ليعبر عما في نفسه. وسبق بيان قولهم والرد عليهم (1) ،   (1) انظر ص 179 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 كذلك السمع والبصر يختلف إثباتهم لها عن إثبات أهل السنة والجماعة. فلهذا نقول: إن مذهب أهل السنة والجماعة مع مذهب الأشاعرة متماثل في عد هذه الصفات السبع وثبوتها. وإن كان يختلف في كيفية إثباتها. فصارت هذه الصفات الست: اثنتان منها تتعلقان بكل شيء وهما: العلم والكلام. واثنتان تتعلقان بالممكن وجودا وعدما وهما: القدرة والإرادة. واثنتان تتعلقان بالموجود وهما: السمع والبصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 40- وأن ما جاء مع جبريل ... من محكم القرآن والتنزيل 41- كلامه سبحانه قديم ... أعيا الورى بالنص يا عليم   الشرح لما ذكر المؤلف رحمه الله ما ذكر من صفات الله عز وجل، وهي الصفات التي اتفق عليها أهل السنة والأشاعرة على خلاف بينهم في الإيمان بهذه الصفات؛ أي في كيفية الإيمان بها، ذكر الكلام على القرآن الكريم فقال: (وأن ما جاء مع جبريل) ويجوز (وأن ما جاء مع جبريل) عطفا على قوله: بأنه واحد، يعني ومن الواجب أن ما جاء مع جبريل من محكم الآيات كلامه، ولعل الكسر أظهر، وإن ما جاء مع جبريل هو من عند الله، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 192) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء: 193) عَلَى قَلْبِكَ) (الشعراء: الآية 194) . قول المؤلف رحمه الله: (وأن ما جاء مع جبريل) بكسر (جبريل) مع أنه اسم لا ينصرف، والله تعالى يقول: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) (البقرة: الآية 98) فجره بالفتحة، ولكن المؤلف هنا جره بالكسرة لضرورة الشعر. قال ابن مالك رحمه الله: ولاضطرار أو تناسب صرف .......................... يعني عند الضرورة يصرف ما لا ينصرف وجبريل أحد الملائكة الكرام العظام، وهو موكل بالوحي ينزل به على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الأنبياء، وربما وكل بغير ذلك، كما في قوله تعالى في قصة مريم: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) (مريم: الآية 17) لكن العمل الموكول إليه في الأصل هو نزول الوحي على الأنبياء. ولهذا يقال ثلاثة من الملائكة علمنا أنهم موكلون بما فيه الحياة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فجبريل موكل بما فيه حياة القلوب، وميكائيل موكل بما فيه حياة النبات، أي القطر، وإسرافيل موكل بما فيه بعث الأجساد بعد الموت وهو النفخ في الصور، وأشرفها وأعلاها ما فيه حياة القلوب. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر هؤلاء الثلاثة في افتتاح صلاة الليل، حيث يقول في افتتاح صلاة الليل: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) (1) . ووصف الله سبحانه وتعالى جبريل بأنه أمين، فقال: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير: 19) (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير: 20) (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير: 21) ووصفه بالقوة، فقال تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم: 5) (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (النجم: 6)) فاجتمع في حق جبريل عليه الصلاة والسلام القوة والأمانة، فبأمانته نعلم أنه لا زيادة ولا نقص في القرآن الذي أوحاه الله إليه ليلقيه على قلب النبي عليه الصلاة والسلام، وبالقوة نعلم أنه لا أحد تسلط على القرآن حين نزول جبريل به، أو غلبه عليه، أو توانى جبريل في تنزيله؛ لأنه قوي   (1) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل، رقم (770) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يستطيع الدفع ولا يقربه أحد. فجبريل عليه الصلاة والسلام نزل وجاء بالوحي من الله عز وجل، ولهذا قال المؤلف: (من محكم القرآن والتنزيل) ؛ محكم القرآن: هذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ أي من القرآن المحكم، والقرآن محكم أي متقن، فهو متقن من كل وجه؛ أخباره محكمة ليس فيها كذب؛ أحكامه محكمة ليس فيها جور؛ دلالاته أو مدلولاته محكمة ليس فيها تناقض. وليعلم أن الله تعالى وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه حكيم، ووصفه كله بأنه متشابه، ووصفه بأن بعضه متشابه وبعضه محكم، فهذه ثلاث صفات. وصفه بأنه محكم في قوله: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) (هود: الآية 1) وفي قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (يونس: الآية 1) (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) (يونس: الآية 2) . ووصفه بأنه متشابه في قوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ) (الزمر: الآية 23) . ووصفه بان بعضه محكم وبعضه متشابه في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران: الآية 7) ولكل من هذه الأوصاف وجه. أما وصف كونه محكما؛ فلأن القرآن كله متقن، لا يكذب بعضه بعضا، ولا يناقض بعضه بعضا، وليس فيه شيء من الباطل، قال تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (فصلت: الآية 42) وأما وصفه كله بأنه متشابه؛ فلأنه يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 والمنافع العظيمة، وإن كان يتفاوت في هذا الوجه لكنه يشبه بعضه بعضا، والتفاوت باعتبار المتكلم به ممنوع؛ لان المتكلم به واحد وهو الله، وأما باعتبار مدلول الكلام فإن الاختلاف بينه واقع، فأعظم سورة في كتاب الله الفاتحة، وأعظم آية فيه آية الكرسي، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) تعدل ثلث القرآن، وليست السورة التي قبلها بمنزلتها في الدلالة العظيمة، فسورة تبت ليست في موضوعها ومدلولها كسورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) إذا هو متشابه من حيث الكمال والجودة فكله كامل وكله على غاية ما يكون من الجودة، وأما وصف بعضه بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه؛ فأرجح الأقوال فيها أن المحكم ما اتضح معناه، والمتشابه ما خفي معناه؛ لأنه يشتبه على بعض الناس دون بعض، ولكن الذين أتاهم الله العلم يردون هذا المتشابه الخفي المعنى إلى المحكم الواضح، فيكون القرآن كله واضحا بهذا الاعتبار. ولكن لو قال قائل: كيف نطلق على القرآن كله أنه محكم مع أن الله قال في كتابه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران: الآية 7) ، فجعل منه آيات محكمات، وجعل منه أخر متشابهات؟ والجواب: أن الله قال في المحكمات (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) ، أي: مرجع الكتاب، فإذا وجدنا متشابهات رددناه إلى الأم، والأم محكم، فيكون هذا المتشابه محكما، وحينئذ يكون التشابه في ابتداء الأمر، أما في النهاية فيكون محكما، وهذا كثير في القرآن، فتجد آيات مجملات فصلت بآيات أخرى، وتجد آيات ظاهرها التعارض يجمعها دليل آخر، وهكذا، وبهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يكون القرآن كله محكما. وقوله: (من محكم القرآن والتنزيل) القرآن: ما يقرأ، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، والمصدر يأتي على وزن فعلان؛ كالغفران والشكران والكفران والطغيان وما أشبه ذلك. إذا فالقرآن مصدر بمعنى اسم المفعول لأنه مقروء، وقيل بمعنى اسم الفاعل لأنه قارئ أي جامع؛ لأنه جامع لكل ما تتضمنه الكتب السابقة، كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة: الآية 48) . وقوله: (والتنزيل) التنزيل: بمعنى المنزل؛ لان التنزيل فعل المنزل، وهنا منزل وتنزيل ومنزل إليه وواسطة، فالمنزل هو الله والتنزيل فعله الذي هو الكلام، تكلم الله عز وجل ثم أمر جبريل فنزل به على محمد عليه الصلاة والسلام، والمنزل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، والواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام. وقوله: (من محكم القرآن والتنزيل) ، هذا من باب عطف المترادفين، فإن التنزيل هو القرآن. وقوله: (كلامه سبحانه) هذا خبر (أن) ، يعني ما جاء مع جبريل من محكم الآيات والتنزيل الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام الله لفظا ومعنى، تكلم الله به جل وعلا فسمعه جبريل، فنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 192) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 195) وقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) (التوبة: الآية 6) ، وعلى هذا فهذا القرآن كلام الله عز وجل تكلم به نفسه بحروفه وألفاظه، وسمعه جبريل فنزل به كما كان على محمد صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ولهذا قال الله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير: 19) (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير: 20) ، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء: 193) ، فوصفه بالأمانة، ووصفه بالكرم، ووصفه بالقوة، وبهذا نعلم علم اليقين أن هذا القرآن الكريم لم يتغير فيه شيء، بل هو كلام الله نفسه. وإذا علمنا أنه كلام الله لزم من ذلك أن نعظم هذا الكلام، ولهذا نهينا أن نمس هذا القرآن بلا طهارة، كما في حديث عمرو بن حزم المرسل الذي تلقته الأمة بالقبول: ((لا يمس القرآن إلا طاهر) أي إلا طاهر متوضئ؛ لأن الوضوء طهارة، كما قال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (المائدة: الآية 6) . وأما من فسر الطاهر في قوله: ((لا يمس القرآن إلا طاهر) (1) بالمؤمن فقد أبعد؛ لأننا لا نجد في القرآن ولا في السنة التعبير بالطاهر عن المؤمن أبداً، وإن كان المؤمن لا ينجس لكن لم يعبر عنه بالطاهر، المؤمن يعبر عنه بالإيمان أو بالتقي أو ما أشبه ذلك. وقوله: (كلامه سبحانه) سبحانه: جملة معترضة يراد بها تنزيه الله عز وجل، ولهذا يقولون: التسبيح بمعنى التنزيه، ويقولون: إن سبحان اسم مصدر فعله سبح، والمصدر تسبيح، وسبحان اسم مصدر، واسم المصدر:   (1) رواه مالك في الموطأ (1/199) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 كل ما دل على معنى المصدر وليس فيه حروفه فإنه يسمى اسم مصدر، والكلام: اسم مصدر فعله كلم، والسلام اسم مصدر فعله سلم، فسبحان اسم مصدر فعله سبح. فقوله: (سبحانه) أي تنزيها له عن صفات النقص، وعن نقص كماله، وعن مماثلة المخلوقين؛ لان الله منزه عن هذه الأشياء الثلاثة: عن نقص الكمال، وعن النقص المحض، وعن مماثلة المخلوقين. مثال نقص الكمال الذي ينزه الله عنه: ما ادعاه اليهود - عليهم لعنة الله -، حيث قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام فتعب واستراح، وقد كذب الله قولهم هذا في قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ: 38)) ، فهؤلاء اثبتوا له القدرة، ولكن هذه القدرة ناقصة. ومثال النقص المحض: قول اليهود أيضا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) (آل عمران: الآية 181) ، وقولهم: إن الله بخيل، في قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) (المائدة: الآية 64) . ومن ذلك أيضا من اثبت لله علما ولكنه قال: إن الله قد يخفى عليه شيء، فهذا لم يسبح الله. ومثال مماثلة المخلوقين كقول النصارى: (إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة: الآية 73) فاثبتوا له مثيلاً، والله تعالى قد كذبهم في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) (، وقوله: (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الأنعام: الآية 19) . ومن ذلك أيضا من قال: إن قدرة الله كقدرة المخلوق، فهذا لم يسبح الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقوله: (كلامه سبحانه قديم) ، القديم عندهم ما ليس له أول، يعني ما كان أزليا لم يسبقه عدم، وليس القديم عندهم هو القديم في اللغة؛ لان القديم في اللغة هو ما تقدم على غيره وإن كان حادثا غير أزلي، قال الله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّس: 39)) ، والعرجون هو ما يكون فيه ثمر النخل يعني القنو، فالقنو القديم ينحني ويتقوس لكنه غير أزلي؛ لأنه حادث بعد أن لم يكن. وعلى هذا يقول المؤلف: إن القرآن كلام الله القديم يعني الأزلي، أي أن القرآن قديم بقدم الله عز وجل، فهو أزلي؛ أي لم يزل هذا القرآن على زعمه موجودا من قبل خلق السموات، بل من قبل كل شيء. ولا شك أن هذا القول باطل لان القرآن يتكلم الله به حين إنزاله، والدليل على هذا أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن أشياء وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بصيغة الماضي، وهذا يدل على أن كلامه بها كان بعد وقوعها، قال الله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 121) ، قال: غدوت بصيغة الماضي، وهذا القول قاله الله بعد غدو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (المجادلة: الآية 1) ، فقال تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) ، ولا يمكن أن يخبر الله عن شيء أنه سمعه وهو لم يقع، فقوله، قد سمع، يدل على أن هذا الكلام كان بعد وقوع الحادثة وهذا هو الحق، أن الله تكلم بالقرآن حديثا، كما قال تعالى: (مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) (الأنبياء: الآية 2) . والقول بان المراد بمحدث أي محدث إنزاله فهذا خطأ، بل هو محدث هذا الذكر؛ لان الله يتكلم متى شاء بما شاء، وعلى هذا لو أن المؤلف - عفا الله عنه - قال: عظيم بدل قوله: قديم فقال: (كلامه سبحانه عظيم) ؛ وذلك كما وصفه الله به، حيث قال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ) (الحجر: 87)) ، أو قال: كريم، كما وصفه الله تعالى حيث قال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة: 77) ؛ لكان انسب وابعد عن الخطأ، وأما كلمة قديم فهي كلمة محدثة غير صحيحة بالنسبة للقران. فإذا قال قائل: أليس قد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، ونزل إلى بيت العزة في السماء، ثم صار ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب الذي يؤمر بتنزيله فيه؟ والجواب: نعم روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولكن ظواهر القرآن ترده، ونحن لا نطالب إلا بما دل عليه القرآن. فأما قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج: 21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 22)) ، فانه لا يتعين أن يكون القرآن نفسه مكتوبا في اللوح المحفوظ، بل يكون الذي في اللوح المحفوظ ذكره دون ألفاظه، وهذا لا يمتنع، أي أن يقال: إن القرآن في كذا والمراد ذكره، كما في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء: 196)) ، وإنه: أي القرآن (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء: 196)) ، أي ذكره لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 القرآن نفسه؛ لان القرآن ما نزل على احد قبل محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن المراد ذكره. والدليل على أن المراد ذكره قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ) (الشعراء: 197)) ، وكلنا يقرأ قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (المجادلة: الآية 1) ، ولو كان القرآن العظيم مكتوبا في اللوح المحفوظ بهذا اللفظ لأخبر الله عن سمع ما لم يكن، والله تعالى قال: (قَدْ سَمِعَ) ، ثم قال: (والله يسمع) بالمضارع الدال على الحال والحاضر، وإذا كان الله عبر بقوله: (قَدْ سَمِعَ) عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، فان سلمنا هنا أن نقول بهذا، فانه تمتنع مثل هذه الدعوى في قوله (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) (المجادلة: الآية 1) ، فان ((يسمع) فعل مضارع يدل على الحاضر. فلو قال قائل: إن الله عبر في الآية عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) (النحل: الآية 1) ؟ فالجواب أن هذا لا يصح؛ لان الله تعالى قال: (قَدْ سَمِعَ) ، وإذا قلنا انه عبر عنه قبل وقوعه صح أن تقول: إنه لم يسمعه، ولا أحد يتجرأ أن يقول مثل هذا القول أبداً، وأما (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) (النحل: 1) فان الله ذكر في الآية ما يدل على انه لم يأت، حيث قال: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) ، إذا هو لم يأت، ويصح أن نقول في (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) انه لم يأت؛ لان الله قال: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، ولو كان قد أتى لم يستقم أن يقول: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) . فالراجح عندي أن القرآن تكلم الله عز وجل به حين نزوله، وأن ما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 اللوح المحفوظ فإنما هو ذكره (1) وأنه سيكون، وفيه ثناء عليه أيضا، كما قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج: 21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 22) يعني ذكر في اللوح المحفوظ بالمجد وبالعظمة. وعلى كل حال فقول المؤلف: (قديم) كلمة ضعيفة لا يجوز أن يوصف بها القرآن الكريم، فان القرآن الكريم يتكلم الله به عز وجل حينما ينزله على محمد صلى الله عليه وسلم. يبقى النظر في كلام الله من حيث هو، لا في القرآن نفسه، فكلام الله   (1) كان هذا رأي شيخنا رحمه الله ثم رجع عنه. قال رحمه الله في شرح الأربعين النووية: ص 225 عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والقرآن حجة لك أو عليك)) ، وكونه في الكتاب المكنون هل معناه أن القرآن كله كُتب في اللوح المحفوظ أو أن المكتوب ذكر القرآن وانه سينزل وسيكون كذا وكذا؟ الجواب: الأول، لكن يبقى النظر: كيف يكتب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفيه العبارات الدالة على المضي مثل قوله تعالى: (إذ غَدَوتَ من أَهلِكَ تُبَوِىءُ المُؤمِنِين مَقاعِد للقِتال *واللهُ سَميعٌ عَلِيم) ، ومثل قوله: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَولَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوجَها) ، وهو حين كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع قولها، لأن المجادلة لم تخلق أصلاً حتى تُسْمَع مُجَادلتها؟ فالجواب: أن الله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ. كما انه علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عز وجل بقوله: (كن فيكون) هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مما تطمئن إليه النفس، وكنت من قبل أقول: إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن لا القرآن، بناء على انه يرد بلفظ المضي قبل الوقوع، وأن هذا كقوله تعالى عن القرآن الكريم (وإِنهُ لَفِي زُبر الأوَلِين) ، والذي في زبر الأولين ليس القرآن، بل ذكر القرآن والتنويه عنه. ولكن بعد أن اطلعت على كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى انشرح صدري إلى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ ولا مانع من ذلك، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل. هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن والله اعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 من حيث هو ليس بقديم، لكن وصف الله تعالى بالكلام هذا أزلي، فالله سبحانه وتعالى لم يزل متكلما كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية (1) . والله ربي لم يزل متكلما .................... فالله لم يزل متكلما، وكلامه سبحانه وتعالى أزلي من حيث النوع، أما من حيث الآحاد فانه متعلق بمشيئته وليس أزليا. والفرق بينهما ظاهر، فالله لم يزل يتكلم، ولكن آحاد كلامه ليست أزلية، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس: 82) ، والمراد لله مُتَجَدِد؛ فالله تعالى يريد مثلا أن ينزل المطر فينزل، ويريد أن تنبت الأرض فتنبت، فإذا أراد شيئا قال له: كن فيكون. إذا فالقول يحدث بعد الإرادة، فتكون آحاد الكلام حادثة ليست أزلية، لكن الأصل في الكلام انه أزلي، فان الله تعالى لم يزل متكلماً ولا يزال متكلماً أيضاً، كلامه لا ينفدُ، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف: 109)) ، وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان: 27)) . والحاصل أن كلام الله من حيث الأصل أزلي، لم يزل الله عز وجل ولا يزال متكلما، أما من حيث الآحاد فهو حادث يتعلق بمشيئته سبحانه متى شاء تكلم بما شاء. قال: (اعيا الورى بالنص يا عليم) (أعيا) بمعنى أعجزه، و (الورى) : أي الخلق، فلم يأت الخلق بمثل هذا القرآن، قال الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ   (1) انظر القصيدة النونية 1/262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء: 88)) ، وقال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ) (البقرة: الآية 23) ، وقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) (هود: الآية 13) ، فعجز العرب وهم أهل البلاغة عن أن يأتوا بمثل القرآن، فهذا دليل على أن هذا القرآن كلام الله؛ لأنه لو كان كلام المخلوق لأمكن للمخلوق أن يأتي بمثله، فلما عجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله عُلَمَ أنه صفة من صفات الله التي لا تماثلها صفات المخلوقين. وقوله: (بالنص) : النص هو ما ذكرناه من الآيات السابقة. وقوله: (يا عليم) : يعني يا ذا العلم، كأنه يقول: اعلم أنه أعيا الورى بالنص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 42- وليس في طوق الورى من أصله ... أن يستطيعوا سورة من مثله   الشرح قوله: (وليس في طوق) بمعنى طاقة الورى، و (الورى) الخلق. وقوله (ليس في طوق الورى من أصله) فيه إشارة إلى رد قول من يقول: إن الورى لا يستطيعون مثله بالصرفة، يعني أن الله صرفهم عن أن يأتوا بمثله، أما في الأصل فإنهم قادرون على أن يأتوا بمثله. ولا شك أن هذا القول قول باطل؛ وذلك لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، وإذا كانت جميع صفات الله لا يمكن أن يتصف بمثلها المخلوق فكذلك الكلام لا يمكن أن يأتي بمثله المخلوق، وليس ذلك لان الله صرفهم عن معارضته، بل لأنهم عاجزون من أصله لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن. وعلى فرض أن الله صرفهم فإن صرف الله عن معارضته دليل على أن القرآن حق، وإلا لسلط الله عليه من يعارضه، لكن هذا القول كما مر ضعيف، والذين أنكروه وقالوا: إن إعجاز القرآن ليس بالصرفة، قالوا: لأنه لو كان بالصرفة لكان في استطاعة الخلق أن يأتوا بمثله، فلا يكون آية، ولكن يرد عليهم في ذلك بأن القرآن لو كان آية بالصرفة كان آية من وجه آخر، وهو أن الله لم يسلطهم على معارضته بل منعهم. لكننا قلنا من الأصل: إن هذا القول ضعيف، والصحيح الذي لا شك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فيه أن الخلق عاجزون عن معارض القرآن، وان يأتوا بمثله، لا لأنهم صرفوا عن ذلك ومنعوا منه قدرا، ولكن لأنهم عاجزون من الأصل، لأن القرآن كلام الله صفته، وصفات الله لا يمكن أن يشابهها صفات. قال المؤلف رحمه الله: (أن يستطيعوا سورة من مثله) قال بعض العلماء رحمهم الله: بل أن يستطيعوا آية من مثله، وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى تحدى الخلق بأربعة وجوه: أن يأتوا بمثل القرآن كله، أو بعشر سور منه، أو بسورة، أو بحديث؛ والحديث يشمل ما دون السورة. فبالقرآن كله في قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (الإسراء: الآية 88) ، وبعشر سور في قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) (هود: الآية 13) ، وبسورة في قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه) (البقرة: الآية 23) ، وبما دون السورة في قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) (الطور: 33) (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور: 34)) . وخلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله: أننا نؤمن بأن ما نزل به جبريل من عند الله كلام الله عز وجل، لكن القول بأنه قديم ليس بصحيح (1) ، ولا يجوز أن نقول به؛ لأنه مخالف للقرآن. ثم إننا نؤمن بأن هذا القرآن لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله من الأصل؛ لأنه صفة الله، وصفة الله لا يمكن أن يتصف بها المخلوق، وليس ذلك لان المخلوق يمكن أن يقول مثله لكنه صرف، بل لأن   (1) انظر ص 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 المخلوقين عاجزون عن أن يأتوا بمثله. ونؤمن بأنه غير مخلوق؛ لأنه لو كان مخلوقا لم يكن صفة من صفاته ولو جاز أن يكون مخلوقا لكان الخلق من صفات الله، ولكنت أنا وأنت صفة من صفات الله، والشمس صفة من صفات الله، والقمر صفة من صفات الله، وهكذا ... ، ومعلوم أن هذا منكر ولم يقل به أحد، فلم يقل أحد إننا صفات الله إلا من قال بوحدة الوجود، وهؤلاء معروف أنهم ملحدون. إذاً فهو غير مخلوق؛ لأنه صفة من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة، ولو جاز أن نسمي القرآن صفة من صفات الله ومخلوقا، لجاز أن نسمي كل مخلوق بأنه صفة من صفات الله، يقول العلماء: (منه بدأ) . منه: أي من الله بدأ، فلم يبتدئه أحد قبله، وإذا كان منه بدأ فهو كلامه يرجع إليه. فإن قال قائل: أليس الله يقول: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (الحاقة: 40) (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) (الحاقة: الآية 41) ، فنسبه إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ لقلنا: إن الله تعالى نسبه إلى محمد لأنه مبلغ، والدليل على هذا أن الله نسبه في آية أخرى إلى جبريل، ومعلوم أن الكلام الواحد لا يصدر من متكلمين، فإذا نسبه إلى محمد صلى الله عليه وسلم والى جبريل فباعتبار أنهما قاما بتبليغه؛ جبريل بلغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم بلغه إلى الأمة. (ثم إليه يعود) ، ومعنى إليه يعود على وجهين: الوجه الأول: إليه يعود وصفاً فلا يوصف به غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والوجه الثاني: إليه يعود في آخر الزمان؛ حيث جاء في الآثار أن هذا القرآن ينزع من صدور الناس ومن بطون المصاحف، حتى يصبح الناس وليس بين أيديهم قرآن، وليس في صدورهم قرآن، كما أن الكعبة تهدم وتمحى من الأرض، وذلك فيما إذا أعرض الناس عن ذلك القرآن إعراضا كليا، فان الله تعالى يغار على كلامه أن يبقى بين أناس معرضين عنه إعراضا كليا، والكعبة أيضا لا يسلط الله عليها أحدا إلا إذا لم يقم أهلها بما يجب لها من التعظيم، فإن الله يسلط عليها الرجل الحبشي فيقضها حجراً حجرا حتى تلقى في البحر (1) - نسال الله العافية -.   (1) رواه البخاري، كتاب الحج، باب هدم الكعبة، رقم (1595) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 43- وليس ربنا بجوهر ولا ... عرض ولا جسم تعالى ذو العلا 44- سبحانه قد استوى كما ورد ... من غير كيف قد تعالى أن يحد   الشرح هذا الكلام من المؤلف رحمه الله يحتمل وجهين: الوجه الأول: ولسنا نقول: - ربنا - جوهرا أو عرضا أو جسما، يعني لا نقول بذلك بل نسكت، وهذا الوجه صحيح، يعني لا يجوز لنا أن ننفي أن الله جوهر أو عرض أو جسم، كما لا يجوز لنا أن نثبت ذلك؛ لأنه لم يرد في القرآن ولا السنة إثبات ذلك ولا نفيه، والمعتمد في صفات الله هو الكتاب والسنة، فإذا لم يرد فيهما إثبات ولا نفي وجب علينا أن لا نقول بالإثبات ولا بالنفي. الوجه الثاني لكلام المؤلف: نفي الجوهر لا نفي القول به، وعلى هذا الوجه يكون معناه القول بنفي الجوهر، يعني إننا نقول: إنه ليس بجوهر. والفرق بين الوجهين ظاهر. فقول المؤلف رحمه الله: (وليس ربنا بجوهر) يحتمل أن المعنى لا نقول إن ربنا ليس بجوهر أو أنه جوهر، يعني: لا نقول لا هذا ولا هذا، وهذا المعنى صحيح؛ لان ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ويحتمل أن يكون معنى كلامه: إن الله ليس بجوهر، فحينئذٍ أثبت قوله وهو: نفي الجوهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 يعني أن الله ليس بجوهر. أما الوجه الأول وهو نفي القول بأنه جوهر فهذا صحيح؛ لأنه ليس لنا أن نقول: إنه جوهر، ولا أن نقول: إنه ليس بجوهر. وأما الوجه الثاني وهو القول بأنه ليس بجوهر فهذا غير صحيح. وهو ظاهر كلام المؤلف، فالمؤلف - رحمه الله - يرى أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الله ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، ولا شك أن هذا النفي ليس بصحيح، ولم يقل أهل السنة بذلك، وليس هذا مذهبهم؛ لأنهم لا يجزمون بنفي شيء أو إثباته إلا بدليل، وهذا ليس فيه دليل، لا إثباتا ولا نفيا. والجوهر: هو ما قام بنفسه، والعرض: هو ما قام بغيره، والجسم: يعني ما له تمثال، يعني أنه شيء ملموس أو قائم مجسم. فالمؤلف رحمه الله يرى أن من عقيدتنا أن ننفي هذه الثلاثة عن الله عز وجل، ولكن هذا ليس بصحيح وليس من مذهب أهل السنة والجماعة وذلك أن هذه الألفاظ ألفاظ حادثة لم تكن معروفة عند السلف فلا يوجد في أقوال السلف قول يقول: إن الله جسم ولا أنه ليس بجسم، ولا أن الله عرض ولا أنه ليس بعرض، ولا أن الله جوهر ولا انه ليس بجوهر، لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف. لكن المتكلمين لما حدثت فتنتهم صاروا يذكرون هذه الكلمات للتوصل بنفيها إلى نفي الصفات عن الله، فمثلا يقولون: النزول لا يكون إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم، وإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم، إذاً لا ينزل الله إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 السماء الدنيا، كذلك الاستواء على العرش حقيقة يستلزم أن يكون الله جسماً، والله تعالى ليس بجسم، إذاً فنفي استواء الله على العرش، وهكذا أتى المتكلمون بمثل هذه العبارات ليتوصلوا بها إلى نفي صفات الله عز وجل، وإلا فليس لهم غرض في نفي هذا أو إثباته إلا هذه المسالة. ولما كانت هذه الكلمات غير موجودة لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة لا نفيا ولا إثباتا، فالواجب علينا أن نتوقف فلا ننفي أن الله جسم ولا نثبته، ولا أن الله عرض ولا نثبته، ولا أن الله جوهر ولا نثبته، بل نسكت ونستفصل في المعنى، فنقول لمن نفى أن يكون الله جسما: إن أردت بالجسم ما كان حادثا مركبا من أجزاء وأعضاء فنحن معك في نفيك، فالله ليس بحادث، ولا مركب من أعضاء وأجزاء بحيث يجوز أن يفقد شيء منها، لكن لا ننفي الجسم، بل نقول إن الله منزه - عز وجل - عن أن يكون له أبعاض كأبعاض المخلوقين، بحيث يكون جسما مركبا منها، ويفقد بعضها مع بقاء الأصل وما أشبه ذلك. وإن أردت بالجسم الذات الموصوفة بالصفات اللائقة بها، فهذا حق نثبته، ولا يجوز لنا أن ننفيه، لكن مع ذلك لا نقول: إن الله جسم حتى إن أردنا هذا المعنى؛ لأن لفظ الجسم لم يرد في القرآن ولا في السنة، لا إثباتا ولا نفيا؛ ولأن إثبات الجسم إن أثبتناه مستلزم للتشبيه على رأي بعض الناس، وإن نفيناه فهو مستلزم للتعطيل على رأي آخرين، إذاً فلا نثبته ولا ننفيه. وهذه هي العقيدة السليمة: أن لا نثبت باللفظ أن الله جسم أو ليس بجسم، بل نسكت، فما دام الله قد سكت عنه، ورسوله سكت عنه، والصحابة سكتوا عنه، فنسكت فلا نثبت ولا ننفي، لكن نؤمن بأن لله ذاتاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 موصوفة بالصفات اللائقة بها، وأن الله تعالى يقبض، ويبسط، ويأخذ بيمينه الصدقة، ويريبها، وينزل، ويأتي، فيجب علينا أن نؤمن بهذا، وما ورآء ذلك فلا نتعرض له. قوله: (تعالى ذو العلا) تعالى: أي ترفع عن كل ما لا يليق به ترفعا معنويا، وترفع بذاته ترفعا حسيا، فهو سبحانه وتعالى متعال حسا ووصفا عن كل نقص، قال الله تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ) (غافر: الآية 15) . وقوله: (سبحانه) أي تنزيها له عن أن يكون جسما أو جوهر أو عرضا، وهذا التنزيه ينبغي التنزه منه لا الاتصاف به؛ لأنه كما سبق: لا يجوز لنا أن نثبت ولا أن ننفي، ونفينا ذلك عن الله وادعاء أن ذلك تنزيه خطأ، فقول المؤلف: (سبحانه) أي تنزيها له عن أن يوصف بهذه الصفات، فالتنزيه أن ينزه الله عما لا يليق به، لا أن يؤتى بألفاظ مجملة وينزه الله عنها. ثم قال: (قد استوى كما ورد من غير كيف) . ولم يذكر المؤلف رحمه الله متعلق الاستواء، لكن من المعلوم أن المراد: استوى على العرش كما ورد. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الاستواء على العرش في سبعة مواضع من كتابه؛ ففي سورة الأعراف قال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف: الآية 54) ، وفي سورة يونس: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (يونس: الآية 3) ، وفي سورة الرعد (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الرعد: الآية 2) ، وفي سورة طه (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ، والخامس في سورة السجدة (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (السجدة: الآية 4) ، والسادس في سورة الفرقان (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرحمنُ فَاسْئَل بِهِ خَبِيراً) (الفرقان: الآية 59) ، والسابع في سورة الحديد (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الحديد: الآية 4) . ففي سبعة مواضع ذكر الله سبحانه وتعالى الاستواء على العرش نصاً صريحاً واضحاً، فأضاف الاستواء على العرش ((بعلى)) الدالة على العلو كقوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) (المؤمنون: الآية 28) ، أي علوت عليه واستقررت عليه وقال الله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (الزخرف: الآية 12) (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) (الزخرف: الآية 13) ، أي تعلوا عليها وتستقروا عليها. والاستواء يرد في اللغة العربية على أربعة وجوه: مطلق، ومقيد بالى، ومقيد بعلى، ومقيد بالواو. 1- فإذا كان مطلقا فالمراد به الكمال، كما قال تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى) (القصص: الآية 14) ، أي كمل. 2- وإذا ورد مقرونا بـ (إلى) صار معناه: الانتهاء إلى الشيء في كمال، كقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) (فصلت: الآية 11) . 3- وإذا كان مقيدا بـ (على) كان معناه العلو والاستقرار، كالآيات التي سبق أن ذكرناها في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الرعد: الآية 2) . 4- وإذا اقترن بالواو صار معناه المساواة كقولهم: استوى الماء والخشبة: أي ساوى الماء الخشبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 واستوى على العرش في جميع مواقعها في اللغة العربية لا تقتضي إلا العلو والاستقرار. فمن أصول أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الله تعالى استوى على عرشه، أي علا عليه واستقر عليه علوا واستقرارا يليق بجلاله عز وجل، لا يماثل استواء الإنسان على البعير، أو على الفلك. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (كما ورد) ويجوز أن تكون الكاف للتشبيه يعني استواء كالوارد، والوارد في استوائه أنه استواء يليق بجلاله. ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل، أي استوى لأنه ورد في كتاب الله، والكاف تأتي للتعليل كما قال ابن مالك: شبه بكاف وبها التعليل قد يعني ............................ ومنه قوله تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) (البقرة: الآية 198) ، على أحد الوجهين: أي لهدايته إياكم، وقوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً) (البقرة: الآية 151) ، وفي حديث التشهد: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) (1) . وعلى كل حال فإن مراد المؤلف بهذا أن نؤمن بأن الله استوى على العرش استواء يليق بجلاله استواء يليق بجلاله، ومعنى استوى عليه: أي علا واستقر، وأما بالنسبة لكيفية هذا الاستواء فإنه يقول: (من غير كيف) والمراد بقوله: (من غير كيف) أي من غير تكييف، وليس المراد من غير كيفية؛ لأننا نعلم أن الله استوى على العرش على كيفية يعلمها ونحن لا نعلمها، ولا يصح أن يراد بذلك نفي الكيفية، لأننا إذا نفينا الكيفية نفينا الأصل؛ إذ ما من شيء يكون   (1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) ، رقم (3370) ، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (406) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 إلا وله كيفية، ولكن المنفي هو التكييف. وعلى هذا يجب أن نصرف كلام المؤلف رحمه الله إن كان ظاهره خلاف ذلك إلى هذا المعنى ونقول من غير كيف: أي من غير تكييف. وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو الذي عليه أئمة السلف، فان مالكا رحمه الله سئل وهو في مجلسه، فقال له قائل: يا أبا عبد الله، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) كيف استوى؟ فسأله عن الكيفية، فاطرق رحمه الله برأسه حتى علاه العرق، من شدة وقع السؤال على قلبه، ثم رفع رأسه وقال: يا هذا، الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به فأُخرج (1) . وهكذا ينبغي لأهل العلم إذا رأوا في صفوفهم مبتدعا أن يطردوه عن صفوفهم؛ لأن المبتدع وجوده في أهل السنة شر؛ لأن البدعة مرض كالسرطان لا يرجى برؤه إلا أن يشاء الله، وقوله: (إلا مبتدعاً) ، يحتمل أنه أراد: إلا مبتدعا بهذا السؤال، أو: إلا أنك من أهل البدع؛ لأن أهل البدع هم الذين يكون ديدنهم السؤال عن المشتبهات من أجل التشويش على الناس، وأياً كان المعنى فهو يدل على أن من هدي السلف طرد المبتدعين عن صفوف المتعلمين، وهكذا ينبغي أن يُطردوا عن المجتمع كله، وأن يضيق النطاق عليهم حتى لا تنتشر بدعهم، ولا يقال: كل إنسان حر، بل يقال: إنه حر لكن في حدود الشرع، أما إذا خالف الشرع فإنه يجب أن يضيق عليه، ويبين له الحق، فإن رجع إليه فذاك، وإلا عومل بما تقتضيه بدعته، من   (1) انظر شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 3/398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 تكفير أو فسق. إذاً معنى الاستواء على العرش هو العلو عليه، لكنه علو خاص بالعرش ليس كالعلو المطلق على جميع الكون، ولهذا قال الله تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ) (غافر: الآية 15) ، وهو سبحانه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (البروج: 15) (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج: 16) . فالله تعالى عال علواً مطلقاً على جميع الكون، ويمكننا أن نضرب مثلا يبين الفرق بين العلو العام والعلو الخاص: فلو أن رجلا على السطح على السرير، كان علوه على السرير علوا خاصا، وعلوه على ما تحت السقف علوا عاما. فالاستواء على العرش اخص من مطلق العلو الشامل لجميع الكون، ولذلك نقول: إن الله تعالى علا على الأرض وعلى السماء، ولا نقول: استوى على الأرض أو على السماء. وفي الاستواء عدة مباحث: المبحث الأول: أن الاستواء بمعنى العلو لكنه علو خاص. وسبق الكلام على هذا المبحث. المبحث الثاني: على أي كيفية كان الاستواء؟ الجواب: الله أعلم بها، له كيفية لكننا لا نعلمها، وحينئذ لا يحل لنا البحث فيها لا سؤالا ولا إجابة والله تعالى قد أخرَنا بأنه استوى ولم يخبرْنا كيف استوى، وعلى هذا فلا يمكننا أن نعرف ذلك لأنه من أمور الغيب، والله يقول: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: الآية 36) ، ويقول تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) ، فلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 سألنا سائل وقال: كيف استوى الله على العرش؟ فإننا نقول: إن هذا السؤال لا يجوز. ولا كان لنا في معرفة هذا خير لبينه الله لنا، ولا يمكن أن ندرك هذا؛ لأن كيفية صفات الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا. المبحث الثالث: هل استوى الله على العرش بمماسة أو بغير مماسة؟ الجواب أن نقول في هذا كما قلنا في الأول: السؤال عن هذا بدعة وليس لنا أن نقول بمماسة أو غير مماسة، بل نقول: استوى، ولا نتجاوز القرآن والحديث؛ لان هذه الأمور الغيبية لا يجوز للإنسان أن يسال عن شيء إلا عن معناها فقط، أما عن كيفيتها وما زاد عن المعنى فلا يحل لنا أن نبحث فيه؛ لا سؤالاً ولا إجابةً. ولهذا نقول: لقد أخطأ بعض العلماء الذين قالوا: إن الله استوى على العرش بدون مماسة، وأنه ليس لهم الحق أن يقولوا بمماسة أو بدون مماسة؛ لأن ذلك لم يرد، بل ندع هذا وليسعنا ما وسع الصحابة الذين هم أحرص منا على العلم، وأشد منا تعظيما لله عز وجل. وعلى هذا فكلمة مماسة أو غير مماسة يجب أن تلغى وتحذف. المبحث الرابع: هل نقول: إن الله استوى على العرش بذاته؟ والجواب على ذلك: أن كلمة بذاته ليس لنا فيها حاجة؛ لأن كل فعل أضافه الله إلى نفسه فهو إلى ذاته لا شك، ولهذا لا يقال: إن الله خلق السموات بذاته؛ لأنه هو نفسه الذي خلق السموات، ولا يقال: ينزل إلى السماء الدنيا بذاته، فما دام الفعل مضافا إلى الله فهو صادر منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 لكن ورد في كلام بعض السلف قولهم: إن الله استوى على العرش بذاته ومرادهم بهذا الرد على قول من قال: إن الله استولى على العرش، كما قالوا: إن الله تعالى عال بذاته؛ رداً على قول من يقول: إن الله عال بصفاته لا بذاته، وإلا فإن القاعدة التي ليس فيها إشكال أن كل شيء أضافه الله إلى نفسه فهو إليه نفسه. فلا حاجة أن نقول: استوى على العرش بذاته؛ لأن الله قال: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش) (الأعراف: الآية 54) أي نفسه، لكن إذا جاء أحد يشكك ويقول: إن استوى بمعنى استولى، وليس هناك استواء ذاتي، حينئذ نضطر إلى أن نقول: بذاته. كذلك ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فلا نزيد ونقول: ينزل بذاته وليس هناك حاجة لأن نزيد: بذاته؛ لأن الله أضاف النزول إليه نفسه، فإذا قال: ينزل إلى السماء الدنيا، يعني هو نفسه ينزل، وليس هناك حاجة أن نقول: بذاته، لكن لما قال المعطلون: ينزل أمره، احتاج أهل السنة أن يقولوا: إنه ينزل بذاته، يعني: ينزل ذاته، هذا قصدهم. فلهذا نقول: استوى على العرش بذاته، لا حاجة إليها؛ لأنها معلومة بمجرد إضافة الفعل إلى الله. المبحث الخامس: هل يجوز أن نفسر الاستواء بالاستيلاء كما قاله أهل التعطيل حيث قالوا: إن الله استوى على العرش أي استولى عليه، وليس معناه علا عليه؟ قالوا: لأننا لو قلنا: إن استوى على العرش أي علا عليه لزم أن يكون الله محدوداً، يعني له حد، ويقال: إن امرأة الجهم بن صفوان قدمت البصرة، فقيل لها: إن الله استوى على العرش، فقالت متعجبة منكرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 محدود على محدود! ولا شك أن القول بذلك كفر، يعني: إذا استوى على العرش لزم أن يكون محدوداً، ولزم أن يكون جسماً، والحد ممتنع، والجسمية - على زعمهم - ممتنعة، فلهذا نقول استوى يتعين أن تكون بمعنى استولى. ورداً عليهم نقول: إن هذا التأويل، بل هذا التحريف، خطأ من عدة وجوه: الوجه الأول: إنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف؛ فظاهر اللفظ (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش) ليس فيه استولى، والسلف أيضا مجمعون على أن استوى بمعنى علا، فإن قال قائل: وما الدليل على إجماعهم؟ فإننا نقول: لأن هذا هو معنى استوى على الشيء في اللغة العربية، والسلف لغتهم عربية، ولو كان المراد بالآية سوى ما تقتضيه اللغة العربية لتكلموا به وبينوه، فلما لم يأت عنهم ما يخالف مقتضى اللغة العربية في هذه الكلمة، علم بأنهم يقولون فيها بمقتضى اللغة العربية، فهم مجمعون على أن استوى بمعنى علا على العرش واستقر. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في النونية أنه ورد عن السلف في ذلك أربعة معان: علا واستقر وارتفع وصعد (1) . الوجه الثاني: إننا إذا قلنا استوى بمعنى استولى؛ لزم أن يكون العرش قبل استواء الله عليه ملكاً لغيره، والله تعالى يقول: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف: الآية 54) ، فهل يكون قبل ذلك لغير الله؟! هذا لا شك أنه معنى باطل، لا يمكن أن يقول به قائل.   (1) انظر القصيدة النونية (1/233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الوجه الثالث: إننا لو قلنا: استوى بمعنى استولى، لصح أن يقال: إنه استوى على الأرض، وعلى الشمس، وعلى القمر، وعلى السماء، وغير ذلك مما هو ملك لله، فإذا كان استوى بمعنى استولى، فالله مستوٍ على كل شيء، ولا يمكن أن يقول بهذا قائل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. الوجه الرابع: أنه ليس في اللغة العربية أن استوى تأتي بمعنى استولى، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وليس في موضع واحد من المواضع السبعة التي ذكر الله فيها الاستواء - أنه استولى على العرش، بل المواضع السبعة كلها جاءت على وتيرة واحدة: استوى على العرش. فإذا قالوا عندنا دليل وهو قول القائل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مِهراق ومعنى استوى بشر على العرق: أي استولى على العراق، فالجواب على ذلك: أولاً: إن هذا البيت قائله مجهول ولا يدرى من قائله، ولا يمكن أن يستدل على شيء من العقيدة المتعلقة بالله عز وجل ببيت شعر مجهول قائله، فالاحتجاج به مردود من الأصل. ثانيا: أن نقول: لو ثبت أن قائله من العرب العرباء الذين لم تغيرهم اللكنة ولا العجمة، فإن المانع من جعل الاستواء هنا بمعنى العلو قرينة ظاهرة، وهو أن بشراً لم يكن يرتفع على العراق حتى يكون العراق تحته كالكرسي، فيكون لدينا قرينة تمنع من إرادة العلو، ولم توجد هذه القرينة في قوله تعالى: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف: لآية 54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ثالثا: أنه يمكن أن نجعل استوى في هذا البيت أيضاً بمعنى علا، فيكون قوله: ((قد استوى بشر على العراق) أي قد علا على العراق لكنه علو معنوي، كقوله تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) (محمد: الآية 35) فليس معنى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إننا فوق المشركين وعلى رؤوسهم، لكن هذا علو معنوي، فيكون استوى بشر على العراق يعني علا عليه، لكن علواً معنوياً. هذا إن صح أن قائل هذا البيت من العرب العرباء، مع أنه لم يصح، فبطل الاستدلال بهذا البيت على أن استوى بمعنى استولى. إذاً فعقيدتنا التي ندين الله بها، ونسال الله أن نكون عليها حتى نموت، هي أن استوى على العرش: أي علا عليه علواً خاصاً كما يليق بجلاله وعظمته، لا نكيفه، ولا نمثله. أما العرش فهو ذلك المخلوق العظيم الذي فوق جميع المخلوقات، واختصه الله تعالى لنفسه، وهو محيط بالكون كله، وقد ورد أن السموات السبع والأراضين السبع بالنسبة للكرسي الذي وسع السموات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فالحلقة إذا ألقيت في فلاة من الأرض فإنها لا تمثل شيئا بالنسبة إليها، ولا تنسب إليها، قال: ((وإن فضل الله على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة) (1) . إذاً فالعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن نتصور عظمة هذا العرش، ولهذا وصفه الله بأنه مجيد، وانه عظيم؛ لأنه اكبر المخلوقات التي نعلمها، وأعلى المخلوقات التي نعلمها، ولذلك هو عرش يليق بالله سبحانه وتعالى.   (1) رواه محمد بن أبي شيبة في العرش (58) ، وابن مردويه كما في تفسير ابن كثير 1/309، 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المبحث السادس: هل الله عز وجل باستوائه على العرش يكون العرش مُقِلاً له حاملاً له، كما يستوي الإنسان منا على السرير؟ الجواب: لا، ليس كذلك، لأننا لو قلنا إنه حامل له كحمل السرير لأحدنا، لزم من هذا أن يكون محتاجا إلى العرش، والله عز وجل مستغن عن كل شيء، وكل شيء محتاج إليه، فلا يمكن أن نقول إن العرش يقل الله أبداً. فالله أعظم من أن يقله شيء من مخلوقاته، لكن هو الذي اختصه الله لنفسه بالاستواء فقط، وأما أن يقله، فلا لأننا لو قلنا بذلك لزم منه معنى فاسد لا يدل عليه القرآن، وهو احتياجه إليه كاحتياج الإنسان منا إلى السرير، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن العرش لا يقل الله، بمعنى أنه ليس محتاجاً إليه كما يحتاج الإنسان منا إلى السرير، فالإنسان منا يحتاج إلى السرر ليجلس عليه، ولو أزيل من تحتنا لسقطنا. ثم قال المؤلف رحمه الله: (قد تعالى أن يحد) تعالى: يعني ترفع وتباعد عن الحد، (أن يحد) : يعني عن أن يحد، فإن وما دخلت عليه في تأويل مصدر منصوبة بنزع الخافض؛ لأن نزع الخافض مع أن وإن مطرد، كما قال ابن مالك رحمه الله: نَقلاً وَفي أَنَّ وَأَنْ يَطَّردُ مع أمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أنْ يَدُواْ وعلى كل حال فترتيب العبارة: تعالى عن أن يحد، أي تعالى عن الحد، ومعنى ذلك أن الله لا يحد. وكلمة (الحد) من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فليس في الكتاب أن الله يحد، ولا أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 لا يحد، ولا في السنة أن الله يحد، ولا أنه لا يحد. وإذا كان كذلك فالواجب السكوت عن ذلك فلا يقال إنه يحد ولا إنه لا يحد، وليس هناك ضرورة أن نقول: إنه يحد أو لا يحد، ولو كان من الضروري أن نعتقد أن الله يحد أو لا يحد لبينه الله تعالى أو بينته السنة؛ لأن الله تعالى يقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء) (النحل: الآية 89) . ولذلك اختلف كلام من تكلم به من السلف في: هل الله يحد أو لا يحد؟ فمنهم من أنكر الحد وقال: إنه لا يجوز أن نقول إن الله محدود، ومنهم من قال: يجب أن نقول إن الله محدود، وأن له حداً. ولكن يجب أن نعلم أن الخلاف يكاد يكون لفظيا؛ لأنه يختلف باختلاف معنى الحد المثبت والمنفي. فمن قال: إن الله محدود أراد أنه بائن من الخلق ومحاد لهم ليس داخلاً فيهم ولا هم داخلون فيه، كما نقول: هذه أرض فلان، وهذه أرض فلان، كل واحدة منهما محدودة عن الأخرى، أي بينهما حد، فمن أثبت الحد أراد به هذا المعنى: أي أن الله تعالى منفصل بائن عن الخلق ليس حالا فيهم ولا الخلق حالُّون فيه، وهذا المعنى صحيح. ومن قال: إنه غير محدود أراد أن الله تعالى أكبر من أن يحد، ولا يحده شيء من مخلوقاته، ولا يحصره شيء من مخلوقاته، فقد وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يمكن أن يحده شيء من المخلوقات وهذا المعنى صحيح، وكل السلف متفقون على هذا، وعليه فيكون الخلاف بينهم لفظيا بحسب هذا التفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فقول المؤلف رحمه الله: (قد تعالى أن يحد) يدل على أن المؤلف ممن ينكر أن يوصف الله بالحد، فيحمل كلامه على أن المراد بالحد: الحد الحاصر الذي يحصر الله عز وجل، فإن الله تعالى - بهذا المعنى - غير محدود، فالله واسع عليم وسع كرسيه السموات والأرض، والسموات والأراضين كلها في كف الرحمن عز وجل كخردلة في كف أحدنا، وهذا على سبيل التقريب، وإلا فما بين الخالق والمخلوق أعظم مما بين كف الإنسان والخردلة، وعلى كل حال فإن المؤلف أراد بنفي الحد هنا الحد الذي يحصر الله عز وجل، ولم يرد الحد الذي يجعله بائنا من الخلق، فإن الحد الذي يراد به بينونة الله من خلقه أمر ثابت واجب اعتقاده. على إننا كما قلنا: إن الكلام في الحد إثباتا ونفيا من الأمور التي ينبغي السكوت عنها؛ لأنها لم ترد في القرآن ولا في السنة لكن إذا ابتلينا وجب أن نفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 45- فلا يحيط علمنا بذاته ... كذاك لا ينفك عن صفاته   الشرح قوله: (فلا يحيط علمنا بذاته) هذا مما يدل على أنه أراد بقوله: (قد تعالى أن يحد) أنه لا يمكن أن يكون حصوراً، يحاط به، ولهذا قال: (فلا يحيط علمنا بذاته) ، فذات الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يحيط بها العلم، وإذا كان الحس لا يحيط بها فالعلم من باب أولى، قال الله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 103) ، فإذا كان البصر لا يدرك الله مع مشاهدته له، فكذلك العلم المبني على مجرد التخيل والتصور لا يمكن أن يحيط بالله عز وجل؛ لأن الله أكبر وأعظم من كل شيء تقدره - مهما قدرت - فالله أعظم، ومهما قدرت فأنت كاذب في تقديرك؛ لأن الله يقول: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: الآية 110) ، فكل ما يقدره ذهنك من تصور في ذات الله عز وجل فإنه كذب، والله أعظم وأجل، ولهذا نهى بعض السلف أن يفكر الإنسان في ذات الله، وقال: إنما التفكر في آيات الله، قال تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ) (آل عمران: الآية 191) ولم تأت آية - ولا حديث - تحثنا على أن نتفكر في الله نفسه، فالتفكر إنما يكون في آياته، وفي أسمائه، وفي صفاته، أما في ذاته فلا؛ لأنه مهما كان الأمر فلا يمكن أن تصل إلى نتيجة إلا إلى نتيجة محرمة، وهي أن تتصور مثالا ليس لك به علم، وقد قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: الآية 36) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 إذاً: دَعِ التفكر في هذا، وتفكر في أسمائه؛ ومعنى كل اسم، وما يتضمنه من صفة، وتفكر أيضاً في آياته، وما تدل عليه؛ والشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار، ومداولة الأيام بين الناس، وما أشبه ذلك، أما أن تجعل ذات الله عز وجل هي محط التفكير فهذا خطأ وضلال؛ لأنه مهما كان لا يمكن أن تدركها، ولهذا قال: فلا يحيط علمنا بذاته كذاك لا ينفك عن صفاته لما بين المؤلف رحمه الله: أنه لا يحيط علمنا بذاته، وذلك قد يوهم إلا نتحدث عن الصفات كما إننا لا نتحدث عن الذات، قال: (كذاك لا ينفك عن صفاته) : أي لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال، وإذا كان متصفاً بصفات الكمال فلنا أن نبحث عن الصفة من حيث المعنى، لا من حيث الكيفية والكنه التي هي عليه؛ لأن هذا غير مدرك لنا، لكن من حيث المعنى لنا أن نبحث عن الصفة؛ عن معنى الرحمة، ومعنى العزة، ومعنى الحكمة، وغيرها. على أن قول المؤلف رحمه الله: (كذاك لا ينفك عن صفاته) فيه شيء من الإجمال يحتاج إلى تفصيل، وذلك أن صفات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: قسم لازم لذاته لا ينفك عنه أبداً، وهذا ما يعرف عند العلماء رحمهم الله بالصفات الذاتية، مثل العلم، والقدرة، والحكة، والعزة، وغيرها. كذلك أيضاً لا ينفك عن الصفات الخبرية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وأجزاء، مثل اليد، فاليد صفة ثبتت بالخبر، ولولا الخبر لم يهتدِ العقل إليها إطلاقا، بخلاف القدرة، والقدرة ثبتت بالنص، وثبتت أيضاً بالعقل، حيث إن العقل يهتدي إلى أن الله لابد أن يكون قادراً، أما اليد فلا يثبت العقل ذلك إلا بعد ورود الشرع به، وهذه تسمى صفات خبرية، يعني أن مدارها على الخبر المحض، وليس للعقل فيها مجال إطلاقاً. وهذه الصفات هي التي مسماها أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، فاليد بالنسبة لنا جزء منَّا وبعض، لكن لا يجوز أن نقول: إنها بالنسبة للخالق بعض وجزء؛ لأن البعض أو الجزء هو ما صح انفصاله عن الكل، ومعلوم أن صفات الله تعالى كاليد والقدم لا يمكن أن يتصور فيها أو أن يحكم فيها بجواز الإنفصال، إذاً فلا يصح أن نطلق عليها أنها بعض من الله أو جزء من الله. بل نقول: إنها صفة من صفات الله الذاتية أخبر إله بها عن نفسه فوجب علينا قبولها والإيمان بها. القسم الثاني: صفات فعلية: وهذه باعتبار الجنس - أي جنس الفعل - صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعالاً سبحانه وتعالى، أفعاله لا تنقضي، وكذلك أقواله، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف: 109) ، لكن آحاد الفعل أو نوع الفعل؛ ينفك الله عنه؛ يعني: ليس لازماً لذاته. مثال ذلك: النزول إلى السماء الدنيا، فهذا نوع وآحاد، نوع: لأنه لم يثبت له نظير قبل خلق السماء، وآحاد: لأنه يتجدد كل ليلة، فالأفعال نوعها قد يكون حادثاًً، وآحادها قد تكون حادثة، لكن جنسها أزلي أبدي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 يعني أن الله لم يزل ولا يزال فعالاً، فالنزول فعل نوعه حادث، وأفراده كل ليلة آحاد. كذلك الاستواء على العرش أيضاً باعتبار أصل الفعل ضفة ذاتية، وباعتبار النوع فهو حادث،؛ وذلك لأنه لم يكن إلا بعد خلق العرش، فيكون الاستواء صفة فعلية، أما أن يكون صفة آحادية فلا نستطيع أن نقول بذلك؛ لأن الاستواء على العرش ثابت، ولا يمكن أن نقول: إن الله قد لا يستوي على العرش، لأننا ليس عندنا علم بهذا الشيء، بخلاف النزول إلى السماء الدنيا، فإنه لما كان مقيداً بزمن قلنا: إنه يحدث كل ليلة بالنسبة للسماء الدنيا. إذاً قول المؤلف رحمه الله (كذاك لا ينفك عن صفاته) يجب أن يحمل على الصفات الذاتية والصفات الخبرية، وعلى جنس الصفات الفعلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 46- فكل ما قد جاء في الدليل ... فثابت من غير ما تمثيل 47- من رحمة ونحوها كوجهه ... ويده وكل ما من نهجه   الشرح قوله رحمه الله: فكل ما قد جاء في الدليل فثابت من غير ما تمثيل هذه قاعدة نافعة في باب الصفات، فكل ما جاء في الدليل فثابت، ولكن الدليل الذي يعتمد عليه في صفات الله عز وجل هو الأثر فقط عند أهل السنة والجماعة، والأثر يتمثل في أمور ثلاثة: الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهذه هي مصادر التلقي بالنسبة للصفات. أما عند غير أهل السنة والجماعة فالدليل المعتمد عليه في هذا الباب هو العقل، وهذا مذهب الأشاعرة، والمعتزلة والجهمية وغيرهم، فيقولون: ما اقتضى العقل إثباته أثبتناه وإن لم يوجد في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه نفيناه وإن وجد في الكتاب والسنة. وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فأكثرهم نفاه؛ لعدم وجود الدليل المثبت، والأصل العدم فما دام العقل لم يثبته فيجب نفيه، وبعضهم توقف فيه لعدم الدليل المثبت والنافي، وقال: لا نثبت لعدم وجود الدليل المثبت، ولا ننفي لعدم وجود الدليل النافي، لكن الأكثر على النفي لقولهم: إذا لم يوجد دليل مثبت فالأصل عدم الثوب؛ فنفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقوله: (فثابت) أي ما جاء فيه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم فإنه ثابت، لا يجوز أن ننفيه لا تكذيباً ولا تحريفاً، وهذا الأخير يسمى عندهم بالتأويل، وإن شئت فقل: لا تكذيبا ولا تأويلا بمعنى التحريف. فمثلاً الاستواء على العرش: هذا ثابت بالدليل، وهو قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ، فلا يجوز أن ننفيه بتكذيب فنقول إن الله لم يستوٍ؛ لأن من قال: إن الله لم يستوٍ فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة لأنه مكذب، ولا يجوز أن ننفيه بتأويل يكون تحريفاً، فمن قال: إن الله استوى بمعنى استولى، فهذا اثبت الاستواء لكن حرف معناه، فنحن نثبته ولا ننفيه لا تكذيباً ولا تأويلاً الذي حقيقته التحريف، وهذا هو معنى قول المؤلف: (فثابت) أي ثابت ثبوتاً حقيقياً لا تكذيب فيه ولا تحريف، والدليل على وجوب ثبوته من النقل والعقل. أما النقل فلأن الله أثبت هذه الأسماء والصفات في كتابه فقال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف: الآية 180) ، وقال: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) (الكهف: الآية 58) ، وقال: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) ، فاثبت الأسماء والصفات الخبرية والذاتية. أما الدليل من العقل: فهو أن صفات الله عز وجل وأسماءه أمور خبرية غيبية لا مدخل للعقل في تفصيلها، فوجب الاعتماد فيها على النقل، فما أثبته النقل أثبتناه، وما نفاه نفيناه، وما سكت عنه توقفنا فيه، لا نثبت، ولا ننفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقول المؤلف: (فثابت من غير ما تمثيل) ؛ لما كان الثبوت قد يستلزم التمثيل، نفى هذا فقال: (من غير ما تمثيل) فلا نمثل، فنثبت لله وجها بدون تمثيل، ونثبت له يدا بدون تمثيل، وهكذا بقية الصفات والتمثيل قد دل على نفيه عن الله النقل والعقل فأما الدليل من النقل: فقد قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء) (الشورى: الآية 11) ، وهذا نفي عام لا يماثله شيء في أي صفة من صفاته، وقال: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: الآية 65) ، وقال: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) (النحل: الآية 74) ، وقال: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً) (البقرة: الآية 22) والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على أن الله ليس له مثل، ولا يجوز أن يجعل له مثل. فليس له مثل للأدلة الخبرية، ولا يجوز أن يجعل له مثل للأدلة الطلبية. وليلاحظ أن هناك نفياً للمماثلة ونهياً عن المماثلة، فنفي المماثلة مثل قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء) ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) ، والنهي عن التمثيل كقوله تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) ، وقوله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً) . وأما الدليل العقي على امتناع التمثيل: أن الخالق مباين للمخلوق في ذاته ووجوده ومرتبته. أما في ذاته: فإن كل أحد يعلم بأن الخالق ليس كالمخلوق، فالمخلوق خلق من مادة ومن عناصر مكونة يقوم بعضها ببعض، والخالق ليس كذلك، فليس من جنس العناصر الموجودة؛ ليس من جنس الذهب ولا الحديد ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الزجاج ولا الرصاص ولا اللحم ولا التراب، فهو مخالف لجميع الأجناس المخلوقة وليس من جنسهم. كذلك أيضاً في الوجود: فالمخلوق وجوده ممكن والخالق وجوده واجب، وقلنا: المخلوق وجوده ممكن؛ لأنه يجوز عليه العدم، وكل ما نشأ من عدم فإنه يجوز عليه العدم، أما الخالق فوجوده أزلي أبدي. وأما في المرتبة: فالخالق فاعل والمخلوق مفعول، والفاعل أكمل من المفعول، فلا يمكن أن يجعل البناء كالباني، فلا يجعل القصر كالذي بناه فلما كان الخالق مخالفاً للمخلوق في ذاته ووجوده ومرتبته لزم من ذلك أن يكون مخالفاً له في صفاته؛ لأن الاختلاف في الذات يستلزم الاختلاف في الصفات، ولهذا نقول: إن الله تعالى لا يماثله شيء من مخلوقاته سمعاً وعقلاً. والحس يشهد بالمخالفة أيضاً؛ فالرب عز وجل إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، والرب عز وجل كل المخلوقات في يده كخردلة في يد أحدنا. إذاً لا يمكن أن يكون مماثلا للمخلوق. كذلك أيضاً نشاهد أن الناس يدعون الله فستجيب لهم بأمور لا يمكن أن يطيقها المخلوق، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((اللهم أغثنا) (1) ، فنشأت السحابة وأمطرت قبل أن ينزل من المنبر، ولا يمكن للمخلوق أن يصنع ذلك. إذاً الحس يشهد بمخالفة المخلوق للخالق. ولا يلزم من التماثل في الإسم أن يتماثل الشيء في الصفة، ولهذا نقول: للإنسان يد ورجل، وللثور يد ورجل، وللفيل يد ورجل، وللنمل يد   (1) تقدم تخريجه ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ورجل، ولا يلزم من هذا التماثل في الإسم التماثل في الحقيقة، وكل يعرف أن رجل الفيل ليست كرجل الذرة، وهذا في المخلوقات مع بعضها فكيف بالخالق؟! فتبين إذاً مخالفة الخالق للمخلوق بدليل السمع والعقل والحس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (من رحمة) ؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الرحمة لله وأنها صفة حقيقية يتصف الله بها حقاً، أما أهل التعطيل من الأشاعرة وغيرهم فقد أنكروا صفة الرحمة، لكنهم أنكروها إنكار تأويل وليس إنكار تكذيب، وسبق أن إنكار التكذيب كفر، وإنكار التأويل ليس بكفر، بل قد يعذر فيه الإنسان. وهم يفسرون الرحمة ويقولون: إن المراد بها أحد أمرين: إما الإحسان وإما إرادة الإحسان. فإذا فسروها بالإحسان فقد فسروها بمفعول منفصل عن الله، وليس من صفاته، وإذا فسروها بالإرادة فسروها بصفة يقررونها؛ لأنهم يثبتون لله سبع صفات، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والإرادة، والكلام. فهم يثبتون الإرادة؛ ولذلك يفسرون الرحمة بإرادة الإحسان، فيقولون: الرحمن الرحيم: يعني المريد للاحسان، أو المحسن، فيفسرون الرحمة بلازمها ومقتضاها، ولا شك أن هذا تحريف. والرد عليهم في ذلك بأن يقال: ما دام أثبتم الإرادة فليس هناك ما يمنع أن تثبتوا الرحمة، وما زعمتم من أن الرحمة رقة ولين وضعف فالجواب عن هذا بأمرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الأول: منع أن تكون الرحمة دالة على الرقة واللين والضعف. والثاني: لو قدر أن هذا مقتضاها باعتبار رحمة المخلوق، فإن ذلك لن يكون مقتضاها باعتبار رحمة الخالق. وقول المؤلف رحمه الله: (ونحوها) . أي نحو الرحمة، ومثال ذلك الحكمة، فالحكمة صفة ثابتة لله عز وجل، والسلف وأهل السنة والجماعة يثبتونها لله تعالى ويرون أنها من أكمل الصفات. والحكمة ممنوعة عند أهل التعطيل، حيث يقولون: إن الله ليس له حكمة، لا فيما شرع ولا فيما خلق؛ لأن الحكمة غرض، والله تعالى منزه عن الأغراض، ومنزه عن الأعراض، ومنزه عن الأبعاض، ولذلك يقول القائل منهم في الثناء على الله: سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض. وهذا كلام مسجوع لكنه ممنوع، لأن المراد بقولهم: سبحان من تنزه عن الأعراض: يعني عن الصفات، والأغراض: يعني عن الحكمة، والأبعاض: يعني عن اليد والوجه والعين وغيرها. فهم ينكرون الحكمة ويقولون: إن الله لا يفعل الشيء لحكمة، ولكنه لمجرد المشيئة؛ إذا شاء أن يفعله فعله، وإذا شاء أن لا يفعل فلا يفعل، أما أن يكون لحكمة وغاية محمودة فهذا لا يمكن؛ لأن الحكمة غرض، والغرض فيه منفعة لصاحب الغرض أو دفع مضرة عنه، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى جلب منفعة ولا إلى دفع مضرة. ولا شك أن هذا القول من أنكر الأقوال، وفيه في الحقيقة سلب صفة عن الله من أجل الصفات وهي الحكمة، وعلى قولهم يكون الله تعالى قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 خلق السموات والأرض باطلاً، ويكون قد خلق الإنسان سدى، وقد شرع الشرائع عبثاً، وكل هذا يكذبه القرآن، قال الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 115) ولو كان خلق الخلق لغير حكمة لكان عبثاً، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الدخان: 38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الدخان: 39) ، وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (صّ: 27) . وإذا قدر أن الغرض جلب منفعة أو دفع مضرة فإن هذا بالنسبة للمخلوق، أما الخالق فليس ذلك، على إننا لا نرى أن هذا يكون مطرداً في المخلوق، فقد يريد الإنسان الشيء لجلب منفعة لغيره أو دفع مضرة عن غيره، فإن الإنسان لو وجد شخصاً غريقاً في الماء ونزل لإنقاذه فإنه لا يطلب منفعة مادية لذلك وإن كان له الأجر، والثواب في الآخرة، على أن أول وارد يرد على الإنسان في هذا إنقاذ أخيه، وقد يكون حين الإنقاذ لم يتصور ولم يفكر في الثواب، فيكون الغرض من ذلك دفع ضرة عن الغير. ومع هذا نقول: لو سلمنا جدلاً أن الإنسان لا يريد بأفعاله وأقواله إلا ما يتعلق بمصلحته، من جلب منفعة أو دفع مضرة، فهذا بالنسبة للمخلوق. أما الله عز وجل فإنه غني عن العباد، قال الله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: الآية 97) فهو يفعل الشيء لا لمصلحته ولا لمنفعته ولا لدفع الضرر عنه ولكن للإحسان إلى المخلوق، والإحسان إلى الغير صفة مدح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وبناء على ذلك فحكمة الله عز وجل متعلقة بفعله ومتعلقة بمفعوله، بفعله فلا ينسب إلى العبث؛ وبمفعوله بما يحسن به إلى الناس، من جلب المنفعة ودفع المضرة. إذاً فنحن نثبت الحكمة لله عز وجل لا على أنه محتاج إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، ولكن لأن فعله ليس بعبث وليس بباطل، وهو سبحانه وتعالى إنما يفعل الفعل لمصلحة العبد، فلهذا فنحن نثبت لله الحكمة. والمنكرون للحكمة القائلون بأن فعله إنما هو لمجرد المشيئة، لهم شبهات، منها مثلاً قوله تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء: 23)) ، ولكن هذا ليس فيه دليل: أولاً: لأن الآية في إبطال ألوهية الأصنام، ومن خصائص ألوهية الأصنام أنها تسأل إذا كانت ممن يتوجه إليه السؤال، أما الله فإنه لا يسأل. ثانياً: أن معنى الآية لا يسأل عما يفعل سؤال مناقشة، بحيث يمنع أو يؤذن له؛ لأنه تام السلطان سبحانه وتعالى، فله أن يفعل ما يشاء، ولكن نحن نعلم أن فعله مقرون بالحكمة، وليس في الآية ما يشير إلى أن فعل الله عز وجل ليس له حكمة، بل في الآية ما يدل على كمال سلطانه، وأنه لا أحد يسأله، أو على كمال فعله وحكمته، فلا نحتاج أن نسأل لماذا فعل؟ لأننا نعلم أنه ما فعل إلا لحكمة. فالآية منزلة على أحد وجهين إما أنه لا يسال عن فعله لكمال سلطانه؛ أو لا يسال عن فعله لكمال حكمته، لكن غير الله يسأل: لماذا فعلت؟ لأنه قد يفعل الشيء لغير حكمة، وقد يفعل الشيء لما يظنه حكمة وليس بحكمة، إما الله عز وجل فلا يفعل الشيء إلا لحكمة يعلم أنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 حكمة، وحينئذٍ لا يسأل عما يفعل. قال المؤلف رحمه الله: (كوجهه) فالوجه أيضاً من صفات الله، وقد أثبت الله لنفسه الوجه في عدة آيات، منها قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (الرحمن: 26) (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27)) ، فأثبت الله لنفسه وجها، ووصف هذا الوجه بأنه ذو جلال وإكرام، أي ذو عظمة وبهاء وحسن، (وذو إكرام) أي يكرم ويكرم سبحانه وتعالى. وهنا يرد إشكال في قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) ، وفي قوله: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 78) ، فجاء في الآية الأولى ((ذو)) وفي الآية الثانية ((ذي)) ، وذلك لأن ((ذو) في الآية الأولى صفة للوجه الذي هو فاعل الفعل (يبقى) ، قال تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) . وأما (ذي) في الآية الثانية فهي صفة للرب تعالى وليست صفة للاسم؛ لأن الاسم لا يوصف، فهو صفة للذات وليس صفة للإسم، قال تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ والإكرام) فقال: ربك ذي الجلال، وهذا يعني أنه لا يصح أن يوصف الاسم بأنه ذو جلال وإكرام، فالاسم اسم مسمى، بخلاف الوجه. وقال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه) (القصص: الآية 88) ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) (الرعد: الآية 22) ، والآيات في هذا متعددة. وأما قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) (البقرة: الآية 115) ، ففيها قولان للسلف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 القول الأول: إن المراد بوجه الله وجه الله الحقيقي، وقالوا: إن الآية نزلت في الصلاة، والمصلي أينما توجه فالله قِبل وجهه. القول الثاني: إن المراد بالوجه الجهة، كقوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: الآية 148) ، فالمراد أينما تكونوا فثم جهة الله التي أمركم باستقبالها، وتكون الآية نزلت فيمن اشتبهت عليه القبلة فاتجه إلى غير القبلة وهو يريد القبلة، فنقول: هذه جهة صحيحة؛ لأنك اجتهدت وأداك اجتهادك إلى ذلك، أو لصلاة النافلة في السفر، فإن المسافر يصلي حيث كان وجهه. وعلى كل حال فالآية التي يقول الله تعالى فيها: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) ، فيها قولان للسلف، لكن بقية الآيات لا يراد بها إلا الوجه. والوجه صفة حقيقية ثابتة لله تعالى، منزهة عن مماثلة أوجه المخلوقين، والدليل على أنها حق ثابتة لله تعالى أن الله أثبتها لنفسه، والدليل على أنها لا تماثل أوجه المخلوقين أن الله قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: الآية 11) . فإن قال قائل: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ((إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) (1) ، وهذا يدل على أن وجه آدم مماثل لوجه الله، وانتم تقولون: إن لله وجها لا يماثل أوجه المخلوقين، فما هو الجواب عن هذا الحديث؟   (1) رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام، رقم (6227) دون قوله إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب المنهي عن ضرب الوجه، رقم (2612) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فالجواب: أن يقال: هذا الحديث من الأحاديث المتشابهة، فمن كان في قلبه زيغ اتبعه، وجعله مناقضا للقران، وضرب القرآن بعضه ببعض، وقال إن القرآن يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) وهذا الحديث يقول: ((إن الله خلق آدم على صورته) ؛ فيتبع المتشابه، وأما الراسخون في العلم فيفتح الله عليهم ويعرفون وجه الجمع بين النصوص، ويقولون. أولاً: إن معنى قوله: ((خلق آدم على صورته) : أي على الصورة التي اختارها الله سبحانه وتعالى، وخلقها في أحسن صورة، تكون إضافة الصورة إلى الله إضافة خلق وتشريف، كقوله: (نَاقَةُ اللَّهِ) (الأعراف: الآية 73) :، (مَسَاجِدَ اللَّهِ) (البقرة: الآية 114) ، وما أشبه ذلك، وهذا وارد في القرآن، ولا يمتنع على الله عز وجل. ثانياً: أن نقول: ((على صورته) : أي على صورة الله التي هي صفته، ولا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً للشيء، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر (1) ، ومعلوم أنها ليست على صورة القمر من كل وجه، فليس في القمر عين ولا أنف ولا فم، ومن دخل الجنة فهو له عين وأنف وفم، فهذا يدل على أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً للشيء. وهنا يرد إشكال حيث يعتقد بعض العامة أن القمر وجه إنسان، وأن فيه عينين وشفتين ومنخرين، وأن المرأة إذا صعدت إلى السطح يجب عليها أن تحتجب عنه لأنه وجه آدمي.   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3246) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر رقم (2834) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 والجواب على هذا: أنه غير صحيح، لأنه غير وارد، وقد ذكرت هذا هنا من أجل التحذير من مثل هذه العقائد الفاسدة. وعلى هذا يكون قولنا: إن الله خلق آدم على صورته، لا ينافي قولنا: إننا نثبت لله وجها لا يماثل أوجه المخلوقين. وصفة الوجه هنا ليست معنوية، ولكنها موافقة لمسمى هو منا أبعاض وأجزاء، فالوجه بالنسبة لنا بعض منا، لكن بالنسبة لله لا نقول إنه بعض، لأن البعض في اللغة ما جاز انفكاكه عن أصله وانفصاله عنه، ومثل هذا في صفات الله لا يمكن، وإن كان في صفاتنا ممكنا، فلهذا نقول: إن هذه الصفات صفات خبرية، مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء. وقال المؤلف رحمه الله: (كوجهه) وقد تكلمنا على الوجه، وذكرنا أن الوجه صفة حقيقية ثابتة لله، وليست هي الثواب كما ادعاه أهل التعطيل؛ فقالوا: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) (الرحمن: الآية 27) أي ثوابه؛ لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، فالثواب لا يوصف بأنه ذو جلال وإكرام. بل وجه الله سبحانه وتعالى هو الذي يوصف بالجلال والإكرام. وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة) (1) ، فقال: بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وهذا لا يمكن أن يكون للثواب. والمهم أن الذين فسروه بالثواب أخطئوا الطريق وضلوا عنه، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فجمعوا بين الجهل والضلال؛ حيث وصفوا الثواب بما لا يصح إلا لوجه الله، وبين العدوان على النصوص حيث حرفوها عن   (1) رواه ابن أبي شيبة 6/67، والطبراني في الكبير، وانظر مجمع الزوائد 6/35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 مواضعها بشبهة؛ هي شبهة وليست بحجة، حيث يقولون: لو أثبتنا لله وجهاً لكان جسماً. وجوابنا على ذلك أن نقول: أأنتم اعلم أم الله، فإن قالوا: نحن أعلم. كفروا، وإن قالوا: الله أعلم، فنقول: إن الذي هو أعلم هو الذي وصف نفسه بأن له وجهاً، فلماذا تنكرون ما وصف به نفسه؟ ثم نقول: إن تفسير الوجه بالثواب أو نحوه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، والواجب علينا في الأمور الخبرية هو إتباع النص والأخذ بظاهره، وإتباع السلف في هذا؛ لأن العقول ليس لها مجال في هذا الباب. والوجه من الصفات الخبرية وليس من الصفات المعنوية، وذلك لأن الله اخبر عنه ولم يكن له مستند إلا الخبر المحض، ولولا إخبار الله أن له وجهاً ما عرفنا أن له وجهاً. إذاً هو ليس معنوياً، أي ليس كالقوة والعزة والحكمة، يعني ليس معنى من المعاني، بل هو حقيقة أخرى نظير مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، فالوجه بعض منا لكننا لا نطلق كلمة بعض على الله أو على شيءٍ من صفاته؛ لأن البعض ما جاز انفصاله عن الكل، وهذا بالنسبة لصفات الله أمر مستحيل. وقوله رحمه الله: (ويده) يعني وكذلك نؤمن بيد الله عز وجل بدون تمثيل، والبحث في اليد في أمور: البحث الأول: هل ثبتت اليد لله عز وجل: الجواب: نعم ثبتت اليد لله بالكتاب والسنة وإجماع السلف، قال الله تعالى يخاطب إبليس: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 (صّ: الآية 75) بيدي الثنتين، وقال عز وجل عن اليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: الآية 64) ، فأثبت الله تعالى له يدين بدليل هاتين الآيتين، وهذا هو الدليل من القرآن الكريم. أما الدليل من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه) (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)) (2) ، فقال في الحديث الأول: ((يد الله ملأى ... سحاء) ، ملأى: يعني فيها الخير الكثير، سحاء: أي معطاء تعطي؛ وذلك لأن اليد قد تكون خالية فلا يمكن العطاء منها، وقد تكون ملأى ويكون صاحبها بخيلا، فإذا كانت ملأى ولكن صاحبها لا ينفق صارت غير سحاء، وإذا لم يكن فيها شيء فلا إنفاق؛ لأنها خالية، أما يد الله سبحانه وتعالى فملأى سحاء دائماً، تعطي الليل والنهار، ومع ذلك فإنه لم يغض ما في يمنه أي لم ينقص. أما إجماع السلف فهذا أمر معلوم وسبق أن عرفنا طريق العلم بمثل هذا الإجماع؛ لأنه قد يتعذر أن تجد نقلاً عن السلف وخصوصاً الصحابة رضي الله عنهم بأنهم أثبتوا اليد لله نصا، فيكون الطريق إلى الإجماع في هذا: أن القرآن نزل باللسان العربي الذي يفهمه الصحابة، فإذا لم يأت عنهم ما يخالف هذا القرآن فهم مجمعون عليه؛ لأنهم لو فهموا أن المراد خلاف ما جاء به لنقل عنهم. فلما لم ينقل عنهم قول مخالف، لما كانوا يتلونه في الليل والنهار، علم   (1) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ) (صّ: 75) ، ورقم (7411) ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، رقم (993) . (2) رواه مسلم، كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة رقم (2759) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أنهم يقولون به، فهذا وجه قولنا: إن السلف اجمعوا على ذلك، وإلا فقد يصعب علينا أن نجد نقلاً في كل مسالة من مسائل العقيدة عن الصحابة، لكن تقرير الإجماع: أن القرآن والسنة بلغة العرب التي يفهمها الصحابة رضي الله عنهم، وهم يمرون عليها ليلاً ونهاراً ولم يوجد عنهم حرف واحد يخالف ما جاء فيها، إذا فهم مجمعون على القول بها. البحث الثاني: هل اليد حقيقة أو مجاز؟ وقبل أن نجيب لابد أن نعرف أنه ليس في القرآن مجاز أصلاً؛ وذلك لأن من أبرز علامات المجاز جواز نفيه، وليس في القرآن شيء يجوز نفيه أبداً، فمثلاً إذا قلت: رأيت أسداً يحمل حقيبته ويحفظ درسه. فأسد هنا أعني به طالباً شجاعاً. فإذا قال لي المخاطب: هذا ليس بِأَسد بل هذا بشر، فإنه يصح كلامه. إذا فهنا قد نفينا وصح الكلام، وعلى ذلك فالمجاز يصح نفيه. لكن ليس في القرآن شيء يصح نفيه. وهذا دليل واضح على ذلك، وعليه اعتمد الشنقيطي رحمه الله في كتابه منع المجاز في القرآن، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ذهبا إلى أبعد من ذلك، وقالا: ليس في اللغة العربية كلها مجاز، والمجاز الذي ادعاه من ادعاه طاغوت أرادوا به أن يحرفوا آيات الصفات وأحاديثها عما أراد الله بها ورسوله، ولهذا عنون ابن القيم رحمه الله في النونية على هذه المسالة فقال: ((فصل في كسر الطاغوت الذي نفوا به صفات ذي الملكوت والجبروت) (1) ، يعني المجاز الذي كانوا يلهجون به ويحتجون به وعلى العكس من ذلك فقد رأيت كلاماً لبعض أهل اللغة نقله ابن القيم.   (1) أنظر القصيدة النونية (2/163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أيضاً في الصواعق المرسلة، يقولون: جميع الكلام في اللغة العربية مجاز، وليس فيه حقيقة فإذا قيل: إن زيداً قائم، قالوا: إن زيداً قائم، ليس حقيقة؛ لأنه لا يقع الفعل على نفس الجملة، بل يقع على مدلولها. وكذلك قولنا: خلق الله الإنسان، قالوا: ليس هذا القول حقيقة بل مجاز، وهكذا يأتون بأشياء يضحك منها المجنون لا العاقل. وعلى كل حال فإننا نقول: ليس في القرآن مجاز، بل ولا في اللغة العربية مجاز؛ لأن المجاز أبرز علاماته أن يصح نفيه، ومن المعلوم أن الكلمة في مكانها ومعناها الذي دلت عليه وضعاً أو بقرينة لا يمكن نفيها. وربما أورد علينا قول الله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) (يوسف: الآية 82) وقيل: أليس هذا مجازا؟ وهل القرية تسأل؟ فنقول: بأن هذا ليس مجازا؛ لأن المخاطب يعرف المعنى، ولو أردت أن تحول القرية إلى الجدران والبيوت لقيل: إنك مجنون. وأولاد يعقوب لما قالوا: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (يوسف: الآية 82) ما كانوا يريدون من أبيهم ولا يمكن أن يفهم أبوهم أنهم يريدون أن يذهب إلى القرية ويقف عند كل جدار ويسأله هل سرق ابني؟ أبدا، فما كانوا يريدون هذا ولا خطر ببالهم، ويعقوب أيضاً يفهم أنهم لم يريدوا هذا، فإذا كان المتبادر من هذا السياق أن المراد سؤال من يصح توجيه السؤال إليه، بقي الكلام حقيقة. فالأصل إذاً في الكلام الحقيقة، حتى عند القائلين بأن هناك حقيقة ومجازا، يرون أن الأصل في الكلام الحقيقة، ونحن إذا حملنا النصوص في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 اليد على حقيقتها لم يلزم منها محظور، لا في ذات الله ولا في صفاته، فليس هناك محذور في أن نقول: لله يد حقيقية بها يأخذ ويقبض ويبسط، ولكنه لا تشبه أيدي المخلوقين. البحث الثالث: هل اليد واحدة أو متعددة؟ والجواب على ذلك: أنها متعددة. فلله تعالى يدان اثنتان، والدليل قوله تعالى وهو يمتدح بكمال القدرة: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (صّ: الآية 75) فال: (بيدي) ولو كان له أكثر من اثنتين لقال: بأيدي؛ لأن الأكثر أبلغ في القدرة من الأقل، فلما قال في مقام التمدح بالقدرة والقوة والتشريف لآدم (بيدي) علم أنه سبحانه ليس له إلا يدان اثنتان. ولما قالت اليهود يد الله مغلولة قال عز وجل: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: الآية 64) ، وهذا في مقام الثناء على الله بكثرة العطاء، ولو كان له أكثر من أثنيتن لذكرها، لأن المعطي بثلاث أكثر من المعطي باثنتين، ولكن الكمال كله لله عز وجل باليدين الثنتين. فإن قال قائل: قد جاءت النصوص بان لله يدا واحدة، كقوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك: الآية 1) ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم ((يد الله ملأى) (1) ، فيد الله هنا واحدة، ووصفها بأنها ملأى سحاء الليل والنهار. فكيف نجمع بين النصوص ولماذا لم نقل: إن لله يداً واحدةً؟ فالجواب: أن نقول: من المقرر عند العلماء رحمهم الله في الاستدلال أنه إذا جاء دليلان أحدهما فيه زيادة أخذ بالزائد؛ وذلك لأن الأخذ بالزائد أخذ بالناقص وزيادة، ولو اقتصرت على الأخذ بالناقص لألغيت الزيادة التي جاء بها الزائد، وهذا خطأ. فهنا نقول: إن النصوص الدالة على ثنتين فيها   (1) تقدم تخريجه ص 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 زيادة فيؤخذ بها. وعند ذلك فإنه لا يلزم من أخذنا بالزيادة وأن نجعل له اثنتين أن نهدر دلالة اليد التي جاءت في الإفراد؛ وذلك لأن اليد التي جاءت مفردة جاءت مضافة: ((يد الله ملأى) ، (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك: الآية 1) ، والمفرد إذا أضيف يكون عاماً فيشمل كل ما لله من يد ولو زادت على الواحدة، وحينئذٍ لا معارضة بين مجيئها مفردة ومجيئها مثناة. والأدلة على أن المفرد إذا أضيف يكون للعموم كثيرة، منها قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: الآية 34) ، وهي ليست نعمةً واحدةً بل هي نعم كثيرةٌ، إن تُعد لا تحصى، أما الواحدة فمحصاة، فلما قال تعالى: (لا تُحْصُوهَا) عُلم أنها نعم عظيمة كثيرة. فإذا قال قائل: أنت أصلت قاعدة وألزمتنا بها ونحن نقبلها، وهو أنه إذا جاءت النصوص بزائد وناقص أخذ بالزائد، ونحن نلزمك بناءً على هذه القاعدة أن تجعل له أكثر من يدين؛ لأن الله تعالى يقول: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً) (يّس: الآية 71) ، ويقول: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذاريات: 47)) . فأثبت لله أكثر من اثنتين؟ وللإجابة على ذلك أقول: قد ذكرنا أن اليدين الثنتين ذكرتا في مقام التمدح والثناء، وهذا يمنع أن يكون هناك زيادة عليهما؛ لأنه لو كان هناك زيادة عليهما لم يكمل التمدح والثناء؛ لأننا عندئذٍ نكون قد أثنينا عليه بما هو أنقص من كماله، لكن يبقى هنا الجواب عن الجمع، ويمكن الجمع هنا بأحد أمرين: إما أن نسلك طريق من قالوا: إن أقل الجمع اثنان. حيث قالوا: إن أقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الجمع اثنان شرعاً ولغةً؛ أما لغةً: فقد قال الله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) (التحريم: الآية 4) ، وهما اثنتان وليس لهما إلا قلبان بنص القرآن؛ قال الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب: الآية 4) ، وهما امرأتان؛ إذاً ليس لهما إلا قلبان، وقد جمع فقال قلوبكما، وهذا يدل على أن الجمع قد يراد به الاثنان. وأما شرعاً: فلأن الإنسان مأمور بصلاة الجماعة، وإذا صلى اثنان أحدهما بالآخر صارا جماعة، وهذه جماعة شرعية، وهما اثنان. فإذا يكون قوله تعالى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً) (يّس: الآية 71) ، كما لو قال: مما عملت يدانا أنعاما؛ لأن المدلول واحد. أما الطريق الثاني فنقول: إن اقل الجمع ثلاثة، لكن الجمع هنا لا يراد به حقيقته، وإنما المراد به التعظيم، كما قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) (الحجر: الآية 9) ، و (نحن) و (نزلنا) : ضمائر جمع، لكن المراد بها التعظيم، فالأيدي هنا المراد بها تعظيم اليد. وهناك أيضاً مناسبة لفظية، وهي أن أيدي أضيفت إلى (نا) الدالة على الجمع، فكان جمعها أنسب للمضاف إليه من التثنية، ولهذا لما جعلها الله بالتثنية أضافها إلى مفرد فقال: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي) (صّ: الآية 75) ، وقال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان) (المائدة: الآية 64) ، فلم يقل: لما خلقت بيدينا، بل قال: بيدي، لكن لما أضافها الله عز وجل إلى ضمير الجمع الدال على العظمة، كان المناسب أن يجمعها ليتطابق اللفظان ولا يحصل بينهما تنافر. وكذلك في الآية الثانية، قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذاريات: 47) والباني هو الله عز وجل، وبناءً على ذلك هل يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 لله أيد كثيرة؟ والجواب عن هذه الآية سهل جداً، فأيدٍ هنا ليست جمعاً، ومن قال إنها جمع فإنه واهم، لا يعرف سياق الكلام، ولا يعرف قواعد اللغة العربية، فـ (أيد) هنا مصدر وليست اسماً لليد، وفعلها (آد) ، (يئيد) ، والمصدر: أيدا، كباع، يبيع، بيعا، وكال، يكيل، كيلا، إذا أيد ليست جمعاً ليد، بل هي مصدر (آد) ، ومعنى (آد) أي قوي، فمعنى بأيدٍ أي بقوة، فيكون المعنى أن السموات قوية، كما قال تعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً) (النبأ: 12) ، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) (النازعات: 27) (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) (النازعات: 28) . ويدل لذلك أن الله لم يضف الأيدي إلى نفسه، ولم يقل: بأيدنا، فإذا قلت: إن الأيد هنا المراد بها يد الله فقد أخطأت خطأً عظيماً، وقلت على الله ما لا تعلم؛ لأن الله لم يضف الأيدي إليه، فكيف يصح منك أن تضيفها إلى الله؟ لكن في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) (القلم: 42)) هل المراد بذلك ساق الله، مع أن الله لم يضفه إلى نفسه بل قال: (عَنْ سَاقٍ) ؟ والجواب: أنه يحتمل أن يراد بذلك ساق الله، ويحتمل أن يراد بالساق الشدة، وقد قال السلف بهذين القولين. وعلى هذا فليس علينا جناح إذا قلنا: إن المراد بالساق في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) الشدة، يعني يوم تتبين الشدة، ويكشف عنها حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 تظهر، كما يكشف عن الوجه حتى يتبين، فيكشف عن ساق: يعني يزال المانع من ظهور الشدة حتى تظهر، فإذا قلنا بهذا فلا يصح أن تورد علنا هذه الآية على أنها تعارض القاعدة التي ذكرنا، لأنها جارية على القاعدة؛ فنحن لم نضف الساق إلى الله؛ لأن الله ما أضافه إلى نفسه، وهذا على القول بأن الساق هو الشدة على قول بعض السلف. ولو ذهبنا إلى أن المراد بالساق ساق الله، كما هو القول الثاني للسلف في الآية، ودليلهم في ذلك حديث أبي سعيد الطويل، الذي جاء فيه: أن الله يأتي عز وجل فيكشف عن ساقه فيسجد له كل من كان يسجد لله تعالى في الدنيا (1) . فإن سياق الحديث يجاري سياق الآية تماماً، فتحمل الآية على ما جاء في الحديث، وتكون إضافتنا الساق لله في الآية بناءً على الحديث، ومن المعلوم أن الحديث يفسر القرآن وبهذا تكون القاعدة مطردة ليس فيها نقص. لكن هل خالف أحد من المسلمين في تفسير اليد بأنها اليد الحقيقية؟ الجواب: نعم. خالف الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل في إثبات اليد الحقيقية، وقالوا: ليس لله يد حقيقية، ومن أثبت لله يداً حقيقية فقد شبه الله بخلقه فهو كافر، وقالوا: إن اليد الحقيقية حرام أن نثبتها لله، ولو أثبتناها لله أثبتنا أن الله جسم، وأثبتنا أن له أبعاضاً، وهذا حرام، والله تعالى يقول: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال) (النحل: الآية 74) ، ونحن إذا أثبتنا لله يدا حقيقية فقد ضربنا له الأمثال، والله سبحانه وتعالى يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: الآية 11) ، فإذا أثبتنا له يداً حقيقيةً كذبنا مقتضى هذا الخبر   (1) رواه البخاري كتاب تفسير القرآن، باب يوم يكشف عن ساق، رقم (4919) . ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وجعلنا لله مثيلاً، ثم قالوا: إذا لمراد باليد النعمة، واستشهدوا بقول الشاعر: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تحدث أن المأنوية تكذب المانوية: قوم من المجوس يقولون: إن الظلمة تخلق الشر ولا خير فيها، والشاعر يقول لممدوحه: أنت تنعم ليلاً ونهاراً، فكم من نعمة بذلتها يدك في ظلام الليل تحدث أن المانوية - الذين يقولون أن الظلمة كلها شر - تكذب. وكذلك قال مندوب قريش لأبي بكر رضي الله عنه: لولا يد لك علي لم أجزك بها لأجبتك. ومعنى يد: أي نعمة ومنة. فالمراد بيد الله عندهم نعمته ومنته، أو المراد بها القوة والقدرة؛ لأنه يقال: ما لهذا بهذا يد. أي طاقة وقدرة، ومنه حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل في قصة يأجوج ومأجوج: أن الله تعالى يوحي إلى عيسى بن مريم ((إني قد أخرجت عباداً لا يَدان لأحد بقتالهم)) (1) . والمعنى: لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم. وللجواب عن هذه الشبهة نقول: أولاً: أما قولكم إن إثبات اليد الحقيقية يستلزم التمثيل فقول باطل بنص القرآن؛ لأن الذي قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هو الذي قال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان) (المائدة: الآية 64) . وإذا قلتم: إن إثبات اليدين يستلزم التمثيل لزم أن يكون القرآن يكذب بعضه بعضا، وهذا لا تقولون به.   (1) رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (2937) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ثانياً: أنه لا يلزم من إثبات اليد أن تكون مماثلة ليد المخلوق، فكما أنكم تثبتون لله ذاتاً ولا ترون من اللازم أن تكون مماثلة لذوات المخلوقين، فالصفات يحذى بها حذو الذوات، وإذا كان لنا أيدٍ وللفيلة والقردة أيدٍ، فإنه لا يلزم من ذلك مشابهة أيدينا لأيدي الفيلة والقردة. إذاً لا يلزم من إثبات اليد لله عز وجل أن تكون مماثلة لأيدي المخلوقين، كما لا يلزم من إثبات يد الإنسان أن تكون مماثلة ليد الفيل. فلا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في المسمى في حقيقته. وعلى ذلك فدعواهم أن إثبات اليد يستلزم التمثيل باطل بالشرع والعقل والحس. فبالشرع: حيث أثبت الله له اليدين في القرآن ونفى المماثلة. وبالعقل: فإنه كما أثبتوا ذاتاً لا تشبه الذوات أو لا تماثل الذوات، فيلزم أن يثبتوا صفات لا تماثل الصفات. وبالحس المشاهد: فكما يثبتون لأنفسهم أيدياً حقيقيةً وللفيلة أيدياً حقيقيةً ولا تتماثل؛ فهذا دليل حسي واضح. وأما دعواهم أن المراد باليد القدرة أو النعمة فهذا يكذبه النص، فإن الله تعالى يقول لإبليس: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (صّ: الآية 75) ، وإذا جعلنا اليد بمعنى القوة أو القدرة فإنه لا حجة على إبليس بهذا؛ لأنه أيضاً مخلوق بالقدرة. فهو مخلوق بالقدرة والله عز وجل ذكر ذلك احتجاجاً عليه، وإذا كان الله ذكر ذلك احتجاجاً عليه دل هذا على أن اليد ليست هي القدرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ثالثاً: أن نقول جاءت اليد بصيغة التثنية، وإذا فسرنا اليد بالقدرة كانت قدرة الله قدرتين وهذا ليس بصحيح، فليست قدرة الله تعالى قدرتين، بل قدرة الله معنى واحد شامل لكل شيء (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الشورى: الآية 9) . وكذلك نقول لمن فسرها بالنعمة: لا يمكن أن تحصر النعمة بنعمتين، والله تعالى يقول: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: الآية 34) ؛ فدل ذلك على بطلان تفسيرها بالقدرة وبالنعمة. وأما ما استشهدوا به فإن في السياق ما يمنع أن يكون المراد باليد اليد الحقيقية، وقد نقول: المراد باليد اليد الحقيقية في نفس ما استشهدوا به؛ وذلك لأن النعمة والإحسان والمنة في الغالب تناول باليد فيكون ذلك من باب التعبير بالسبب عن المسبب. ثم لما كان السلف مجمعين على أن المراد باليد اليد الحقيقية، كان تفسير هؤلاء المحرفة لليد مخالفا لإجماع السلف، فلا يعول عليه. وأما القول بأن إثبات اليد يستلزم التبعيض في الخالق، فهذا نحتاج فيه إلى تفصيل، فنقول: لا يمكن أن نطلق على شيء من صفات الله أنها بعض؛ لأن البعض ما جاز أن يفارق الكل، وصفات الله عز وجل لازمةٌ أزليةٌ أبديةٌ، فَيَدُه أزلية أبدية، وكذلك وجهه وعينه، وغير ذلك من صفاته الخبرية هي صفات أزليةٌ أبدية، لا يمكن أبداً أن تتبعض، وهذا شيء معلوم بالمعقول، فلا تُلزمونا بشيء نحن لا نعترف به، وأنتم كذلك لا تعترفون به، وإنما تذكرن ذلك على سبيل الإلزام. وقوله: (وكل ما من نهجه) ، أي: طريقه يعني كل ما كان على هذا النحو من صفات الله فإن الواجب أن نؤمن به ونثبته لله عز وجل لكن من غير تمثيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 48 - وعينه وصفة النزول ... وخلقه فاحذر من النزول   الشرح قوله: (وعينه) يعني ونؤمن أيضاً بما جاء في الدليل من ثبوت العين لله عز وجل. والعين لله سبحانه وتعالى فيها عدة مباحث: المبحث الأول: هل هي عينٌ حقيقيةٌ أو هي كنايةٌ عن الرؤية؟ والجواب: أنها عينٌ حقيقيةٌ، ودليل ذلك أن الله أثبتها لنفسه في غير موضع، وأثبت الرؤية في غير موضع، وإثبات هذا تارة وهذا تارةً يدل على التغاير بينهما، فالرؤية شيءٌ والعين شيءٌ آخر، فقوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (التوبة: الآية 105) ، وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) (العلق: 14) فهاتان في الرؤية. ولكن: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) (القمر: الآية 14) (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: الآية 39) فهاتان الآيتان ليستا في الرؤية، بل أثبتتا عيناً مخالفةً للرؤية، ولهذا نقول: إن العين صفةٌ حقيقيةٌ، نظير مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، لكننا لا نقول: إن العين بعض من الله أو جزء منه؛ لأن ذلك ممتنع على الله حسب فهم البعض والجزء؛ فإن البعض والجزء هو ما جاز أن ينفصل عن الكل، وهذا بالنسبة لصفات الله تعالى ممتنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المبحث الثاني: هل عين الله تعالى تماثل أعين الخلق؟ الجواب: لا، أبداً ولا نقول بهذا، بل نقول: هذا ممتنع لأن الله يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) . وإن كان أهل التحريف والتعطيل يشنعون على الذين يثبتون لله العين حقيقة، ويقولون لمن أثبتها: لابد أن تقول: هل هي مستديرة أو مستطيلة، وهل هي بيضاء أو سوداء، وهل فيها باضٌ وسوادٌ أم ليس فيها؟ وفي الحقيقة أن هذا لا يلزمنا، فنحن نثبت لله العين، ولكن لا نقول: إن لها مثيلاً حتى نلزم بذلك. فكما أننا نقول في ذات الله أنها ليست كذات المخلوقين، ولا نقول في ذاته سبحانه: هل هو طويل أو قصير أو أسود أو أبيض أو سمين أو هزيل أو غير ذلك، وإذا لم يجز لنا أن نقول ذلك في الذات ولم نلتزمه، فكذلك لا نلتزم بقول ذلك في العين. إذاً لا نعلم حقيقة هذه العين ولا كيفية هذه العين، لكن نعلم أنها حقيقة إلا أنها لا تماثل أي حقيقة من حقائق أعين المخلوقات، لأن الله تعالى مباين للخلق غاية المباينة في ذاته وصفاته. المبحث الثالث: هل هي واحدةٌ أو متعددة؟ وإذا قلنا متعددة فهل هي ثنتان أو أكثر؟ الجواب: أنها ليست واحدة، بل أكثر من واحدة، وهي قد جاءت بلفظ الإفراد، وجاءت بلفظ الجمع، ولم تأت في القرآن بلفظ التثنية كما جاءت اليد؛ فمن مجيئها بلفظ الإفراد قوله تعالى لموسى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: الآية 39) فـ (عيني) هذه مفرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ومن مجيئها بلفظ الجمع قوله تعالى عن سفينة نوح: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) (القمر: الآية 14) وقوله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور: الآية 48) هذا لفظ الجمع. أما التثنية فلم تأتِ في القرآن، ولكنها جاءت في حديث ذكره ابن القيم رحمه الله في مختصر الصواعق (1) ولم يعزُه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه بين عيني الرحمن) (2) . ولكن جاءت في السنة بما يدل دلالةً واضحةً على أن العين اثنتان وذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام في صفة الدجال: ((إنه أعور العين اليمنى وإن ربكم ليس بأعور) (3) ، فإن هذا كالنص الصريح على أنهما اثنتان، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر علامة فارقة بين الدجال وبين الرب عز وجل، بأن الدجال أعور العين اليمنى والرب ليس بأعور، ولا عورٌ إلا لذي عينين. ولو كان لله أكثر من اثنتين لكان الزائد عن اثنتين كمالاً قطعاً؛ لأنه لا يمكن أن يتصف بنقص - يعني لكان الزائد عن ثنتين كمال، والزائد على ثنتين هل يحصل به الفرق بين الدجال وبين الرب؟ الجواب: يحصل؛ لأن الدجال من بني آدم وليس له إلا ثنتين، وذكر الفارق الدال على الكمال أولى من ذكر الفارق الذي هو النقص في الدجال. فإذا لو كان له أكثر من ثنتين لقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وإن لربكم أكثر   (1) أنظر مختصر الصواعق المرسلة (2/398) . (2) رواه العقيلي في الضعفاء (1/70) . (3) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) رقم 3440) . ومسلم، كتاب الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، رقم (169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 من عينين، لأجل أن يثبت الكمال لله عز وجل مع الفارق بينه وبين الدجال. لكن لما قال: أعور، صار الفرق بينهما العور، وهو نقص الدجال في عينه. إذاً تعين أن تكون العينان الثابتتان لله اثنتين، وهذا واضح جداً. وادعى بعض المجادلين قال: إن المراد بالعور: العيب، فنقول له: هذا تحريف لأن لفظ الحديث ((اعور العين اليمنى)) ، وهذا صريح بأن المراد عور العين لا العور الذي هو العيب العام الذي ينزه الله عنه على سبيل العموم وهذا القول تحريف. ويبقى النظر، في مجيء العينين بصيغة الجمع (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) ، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) (القمر: الآية 14) ، فكيف نجمع بين الجمع وبين المثنى؟ نقول: الجمع بينهما سهل؛ هو نظير الجمع بين اليدين الوارد مجيؤهما بصيغة التثنية وبصيغة الجمع، فإما أن يراد بالجمع ما دون الثلاثة لأن اللغة العربية قد جاءت بالجمع مراداً به ما دون الثلاثة. فيكون قوله: (بِأَعْيُنِنَا) كقوله بعينينا، لأن أقل الجمع اثنان. وإما أن يقال أقل الجمع ثلاثة كما هو الأكثر، ولكن الجمع هنا لا يراد به مدلوله التعددي، وإنما يراد به مدلوله المعنوي؛ وهو التعظيم، فيكون الله عز وجل جمع العينين، فقال: بأعيننا تعظيماً لهما. وأيضاً يضاف إلى التعظيم المناسبة؛ لأن ((نا)) دالة على الجمع في أصل الوضع، فناسب أن يكون المضاف إليها مجموعاً للتعظيم كما هي في قوله: (بِأَعْيُنِنَا) للتعظيم، فيتناسب هنا المضاف والمضاف إليه، وهذه المناسبة لفظية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 المبحث الرابع: هل الله تعالى يبصر بهما، أو بصره بغير العين؟ الجواب: يبصر بهما، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (1) فقال: (بصره) ، وهذا يدل على أن لله بصراً، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: الآية 11) . والبصر حسب مقتضى اللغة العربية يكون بالعين، وقد سبق أنه لولا أن الله أثبت له عيناً لقلنا: يمكن أن يكون البصر بغير العين، كما أن الأرض تحدث أخبارها مع أنها ليس لها أعين. وعلى كل حال فالله تعالى يبصر بعينيه كما قال ذلك السلف رحمهم الله في كتبهم، فله عينان يبصر بهما، لكنه ليس كبصر المخلوق، فالله سبحانه وتعالى يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء - السوداء أيضاً - في الليلة الظلماء؛ يعني لو كانت أخفى ما يكون فإن الله تعالى يبصرها. أما نحن فبصرنا محدود، ولا يمكن أن يكون كبصر الله سبحانه وتعالى. فإذا قال قائل: قد ورد في تفسير بعض السلف لقوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) قال: تجري بمرأى منا، فهل يعتبر هذا تحريفاً أم ماذا؟ فالجواب: ليس هذا تحريفاً؛ لأنهم يقولون: تجري بمرأى منا مع إقرارهم بالعين، ولو أن هذا القول كان من شخص ينكر العين لقلنا: هذا تحريف، والذين قالوا: إن المعنى بمرأى منا، فإن معنى كلامهم أنها تجري ونحن نراها بأعيننا، وكأنهم يريدون بذلك الرد على من زعم أن ظاهر الآية أن السفينة تجري في نفس العين، وحاشا لله.   (1) تقدم تخريجه ص 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أما من يتخذ من ذلك مأخذاً على مذهب أهل السنة والجماعة، ويرى أن ذلك خلاف مذهبهم في إجراء نصوص الصفات على ظاهرها، وأن ظاهر الآية أن السفينة في نفس عين الله، فهذا لا شك أنه إلزام باطل، وأن السلف لايلتزمون بهذا، بل يقولون إن هذا ليس مدلول اللفظ، وفي اللغة العربية إذا قال الإنسان: اذهب فأنت بعيني، يعني أراك وألاحظك ولا تغيب عن عيني، ولا أحد يقول: إن الرجل إذا قال لصحابه: أنت بعيني، يعني أنك في نفس العين أبداً، وليس هذا مقتضى لفظ اللغة العربية. ثم إن في الآية ما يدل على منع ذلك، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) أي السفينة، فهي تجري في الأرض على الماء الذي خلقه الله عز وجل من الأرض والسماء، فكيف يقال: إن ظاهر الآية أنها تجري في عين الله؟ ، لكنهم يتشبثون بكل شيء من أجل التشنيع على أهل السنة. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وصفة النزول) يعني من الأمور التي نثبتها لله، وهي ثابتةٌ له من غير تمثيل صفة النزول وفيه عدة مباحث: المبحث الأول: ما معنى النزول وهل الله سبحانه وتعالى ينزل بذاته؟ النزول: يعني إلى السماء الدنيا، وذلك لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو اشتهر اشتهاراً قريباً من التواتر أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ينزل - نزولاً حقيقياً؛ بذاته إلى السماء الدنيا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) (1) .   (1) تقدم تخريجه ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقائل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن يجب علينا أن نؤمن بأنه أعلم الناس بالله، وأنه أصدق الخلق مقالاً، وانصحهم مقصداً، وأفصحهم نطقاً، فلا أحد أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق، ولا أحد من الخلق أفصح منه ولا أبلغ، ولا أحد من الخلق أصدق منه، ولا أحد من الخلق أعلم منه بالله. وهذه صفات أربع يتصف بها كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وبها يتم الكلام، وهي: العلم والصدق والنصح والفصاحة. فإذا قال: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، فإن مراده يكون نزوله تعالى بذاته، وقد صرح أهل السنة بأن المراد نزوله بذاته، وصرحوا بكلمة بذاته مع أننا لا نحتاج إليها، لأن الأصل أن كل فعل أو اسم أضافه الله إليه فهو إلى ذاته، فهذا هو الأصل في الكلام. فلو قلت في المخلوقين: هذا كتاب فلان، فإن المعنى أن هذا كتابه نفسه لا غيره، وكذلك لو قلت: جاء فلان، فإن المراد أنه جاء هو نفسه لا غيره. وهكذا كل ما أضافه الله إلى نفسه من فعل أو اسم فالمراد إليه ذاته، لكن على وجه لا نقص فيه، فمثلاً (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) أضافه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذات الله فقال: (ربنا) فوجب أن يكون المراد نزوله بذاته، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن المراد: ينزل ربنا بذاته سبحانه وتعالى. والدليل على إجماعهم أنه لم يرد عنهم ولو كلمةً واحدةً في أن المراد: ينزل شيء آخر غير الله، وهم يقرؤون هذا الحديث، فإذا كانوا يقرؤونه، ولم يرد عنهم أنهم قالوا: إن المراد: ينزل رحمة من رحمته، أو ملك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ملائكته، علم أنهم أثبتوا نزوله بذاته، لكن لم يقولوا بذاته، لأنه لم يظهر في زمنهم محرفون يقولون: إن المراد: ينزل أمره أو رحمته أو مَلك من ملائكته حتى يحتاجوا إلى قول: ينزل بذاته، لكن لما حدث هؤلاء المحرفون احتاج أئمة المسلمين إلى أن يقولوا ينزل بذاته، ولكل داءٍ دواءٌ يناسبه. إذاً ينزل ربنا إلي السماء نزولاً حقيقياً، والذي ينزل هو الله تعالى بذاته، لا رحمةٌ من رحمته ولا مَلكٌ من ملائكته، والذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا) . فالله هو الذي ينزل. المبحث الثاني: هل النزول يستلزم أن تكون السماء الدنيا تقله، والسماء الثانية فوقه؟ والجواب: لا يلزم، بل نعلم أنه لا يمكن، وذلك لأنه لو أقلته السماء الدنيا لكان محتاجاً إليها، ولو أقلته السماء الثانية لكانت فوقه، والله سبحانه وتعالى له العلو المطلق أزلاً وأبداً، إذاً فليست السماء الدنيا تقله ولا السماء الأخرى تظله. المبحث الثالث: هل إذا نزل إلى السماء الدنيا يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ في هذا ثلاثةُ أقوال لعلماء السنة: · فمنهم من قال: إن العرش يخلو منه. · ومنهم من قال: إن العرش لا يخلو منه. · ومنهم من توقف. فأما الذين قالوا: إن العرش يخلو منه، فقولهم باطل، لأن الله أثبت أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض، ولم ينفِ هذا الاستواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 في الحديث حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ينزلُ ربنا إلى السماء الدنيا) ، فوجب إبقاء ما كان على ما كان، وليس الله عز وجل كالمخلوقات، إذا شغل حيزاً فرغ منه الحيز الآخر، نعم، نحن إذا نزلنا مكاناً خلا منا المكان الآخر، أما الله عز وجل فلا يقاس بخلقه. فهذا القول باطل لا شك فيه. ويبقى النظر في القولين الآخرين، وهما: التوقف، أو أن نقول: إنه لا يخلو منه العرش. فذهبت جماعة من العلماء رحمهم الله إلى التوقف، وقالوا: ما لنا ولهذا السؤال أصلاً. ولا ينبغي أن نورد هذا السؤال؛ لأننا لسنا أشد حرصاً على العلم بالله من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن هذا، فنقول: هذا السؤال من أصله غير وارد، ونقول لمن أورده: أنت مبتدع ودعنا من هذا. وعندي أن هذه الطريقة أسلم طريقة؛ أن لا نسأل عن شيء لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وأن نلقم من سأل عنه حجراً، فإذا قال قائل: أنا أريد المعقول، قلنا: اجعل عقلك في نفسك، وفكر في نفسك، أما في مثل هذا الأمر فلا تفكر فيه ما دام لم يأتك خبر عنه. وللأسف فإن بعض الناس يجادل ويقول: دعوني أتصور النزول حقيقة حتى أتبين هل خلا منه العرش أم لا؟ ، فنقول: سبحان الله! ألا يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم؟ اسكت واترك هذا الكلام الذي لم يقله الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أشد الناس حرصاً على العلم بالله، وأعلم الناس بالله. وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يخلو منه العرش، لأن الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ذكر أنه استوى على العرش حين خلق السموات والأرض، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل خلا منه العرش، فالواجب بقاء ما كان على ما كان، فهو سبحانه استوى على العرش، ولم يزل مستوياً عليه، وينزل إلى السماء الدنيا في هذا الوقت، والله على كل شيء قدير، وهو سبحانه لا يقاس بخلقه. كما إننا نقول جزماً: إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا لم يكن نازلاً على المخلوقات، بل هو فوق كل شيء، وإن كان نازلاً إلى السماء الدنيا؛ لأن الله لا يقاس بخلقه، والى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن العرش لا يخلو منه (1) . ولكني أميل إلى ترجيح القول الثاني وهو التوقف وألا يورد هذا السؤال أصلا، وإذا كان الإمام مالك رحمه الله لما قال له القائل: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ قال: السؤال عن هذا بدعة، فإننا نقول في هذا: السؤال عنه بدعة. المبحث الرابع: استشكل كثيرٌ من الناس في عصرنا: كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ونحن نعلم أن ثلث الليل الآخر لا يزال سارياً جارياً على الأرض وتحت السماء، فيلزم من ذلك أن يكون النزول إلى السماء الدنيا دائماً؟ والجواب على هذا أن نقول: ليس هناك إشكال في نزول الله تعالى في الثلث الأخير رغم استمرار تتابعه على الأرض، ونحن نؤمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ينزل حتى يطلع الفجر)) (2) ، فإذا كان كذلك فالواجب علينا ألا نتجاوزه، فما دام ثلث الليل الآخر باقياً في منطقة من المناطق الأرضية   (1) انظر شرح حديث النزول ص (232) (2) تقدم تخريجه ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فالنزول حاصل باقٍ، ومتى طلع الفجر في هذه المنطقة فلا نزول، وإن كان في الجهة الأخرى يوجد نزول، والله على كل شيء قدير، ولا يقاس سبحانه بالخلق؛ فينزل إلى السماء في ثلث الليل الآخر في جهة من الأرض، ولا ينزل بالنسبة لجهة أخرى ليس فيها ثلث الليل. والحقيقة أن الإنسان إذا لزم الأدب مع الله ورسوله اطمأن قلبه، واستراح من التقديرات، أما إذا كان يورد على نفسه هذه المسائل فإنه ينتقل من مشكلةٍ إلى أخرى فيخشى عليه من الشك، نسأل الله العافية وأن يرزقنا اليقين، ولهذا يقول بعض السلف: أكثر الناس شَكاً عند الموت أهل الكلام، لأنهم فتحوا هذه المشاكل على أنفسهم وعجزوا عن حلها، لكن لو لزموا الأدب وقالوا ما قال الله ورسوله، وسكتوا عما سكت عنه الله ورسوله، لسلموا من هذا كله. فمثلاً لو كان أحدنا في المنطقة الشرقية وقد أذن الفجر، والآخر في المنطقة الغربية وهو في آخر الليل، فإننا نقول: هذا وقت نزول ربنا عز وجل بالنسبة للذي في المنطقة الغربية، ونقول للآخر: انتهى وقت النزول. وليس في هذا إشكال؛ فالذين هم في ثلث الليل يجتهدون في الدعاء لأنه وقت إجابة، والآخرون انتهى عندهم وقت النزول، ونسلم من هذه الإشكالات، ونتشوف كل ليلة إلى ثلث الليل متى يأتي حتى ندعو الله فيه. أما هذه الإشكالات التي تورد فهي في الحقيقة من سفه الإنسان، وقلة رشده، ومن قلة أدبه مع الله ورسوله، والذي ينبغي لنا، كما قال النبي عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الصلاة والسلام: ((اسلم تسلم) (1) . ونحن نقول أيضاً: اسلم تسلم، لكن ليس المراد هنا الدخول في الإسلام، وإنما المراد: استسلم للنصوص، حتى تسلم. المبحث الخامس: هل النزول من الصفات الفعلية أو من الصفات الذاتية؟ والجواب: النزول من الصفات الفعلية، لأنه فعل يتعلق بالمشيئة، وكل فعل يتعلق بالمشيئة فإنه من الصفات الفعلية. وقد أنكر بعض الناس صفات الأفعال، وقال: صفات الأفعال لله باطلةً، ولا يمكن أن نثبت لله فعلاً يتعلق بمشيئته إطلاقاً؛ فلا ينزل؛ ولا يجيء يوم القيامة؛ ولا يتكلم بكلام محدث، ثم عللوا ذلك بشبهة عظيمة تنطلي على طالب العلم الصغير، حيث قالوا: إن هذا الفعل أو هذا الكلام، إن كان صفة كمال، وجب أن يتصف الله به دائماً، وإن كان صفة نقص فإنه لا يجوز أن يوصف به، لأن الله منزه عن النقص. فكل فعل اختياري لله يجب أن ننكره بزعمهم، ويقولون: إن الله لا تقوم به الأفعال الاختيارية؛ لأن هذه الأفعال إن كانت كمالاً وجب أن يكون الله متصفاً بها دائماً، وإن كانت نقصاً لزم أن لا يتصف بها أبداً. والجواب على هذه الشبهة أن نقول لهم: إنها صفة كمال في محلها، والحكمة لا تقتضيها في غير محلها، فلو جاءت في غير محلها لكانت نقصاً، أرأيت لو أن ولدك أساء فضربته لكان ضربك إياه في ذلك الوقت   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم (7) ، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلي الله عليه وسلم إلي هرقل، رقم (1773) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 حكمةً وكمالاً، لكن ضربك إياه وهو يطيع نقص. فنقول: هذه الأفعال الاختيارية كمال لله في محلها الذي تقتضيه الحكمة، وفي غير محلها لا يمكن أن يتصف الله بها، لأنها في غير محلها لا تقتضيها الحكمة، والله سبحانه وتعالى أفعاله مقرونة بالحكمة، وبهذا تزول هذه الشبهة. وليعلم أيضاً - وهذه فائدة مهمة - أن جميع ما يتشبث به أهل الباطل في إبطال الحق هو شبهات وليس بحجج، لقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه) (آل عمران: الآية 7) . ونظير هذا من بعض الوجوه قول من قال من أهل الفلسفة: الدعاء لا فائدة منه فلا ندعو الله؛ لأنه إن كان قدر لنا شيئاً فسيحصل بدون دعاء، وإن كان الله لم يقدره فلن يحصل ولو دعونا. إذاً لا فائدةَ منه وعلمه بحالي كفاه عن سؤالي. ونرد عليهم بشيء يسير تعرفه العجائز، فنقول: إن الله قدره بهذا الدعاء، وجعل له سبباً وهو الدعاء، وإلا فقل: أنا لن أتزوج، وإن كان الله قدر لي ولد فسيخرج من الأرض، وإن لم يُقدر لي ولد فلن يخرج ولو تزوجت مائة امرأة. ولا أحد يقول هذا الكلام. كذلك الدعاء أيضاً، فإن الدعاء سبب لحصول المطلوب، فإذا وفقت للدعاء فقد وفقت للإجابة، لقوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: من الآية 60) وهذا نظيرٌ من بعض الوجوه لقول من يقول: إن أفعال الله الاختيارية لا يمكن إثباتها، لأنها إن كانت كمالاً وجب أن يتصف بها أزلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وأبداً، وإن كانت نقصاً وجب أن ينزه عنها أبداً، نقول: هي كمال في محلها، وفي غير محلها لا تقتضيها الحكمة فلا تكون كمالاً. إذاً النزول من صفات الأفعال. المبحث السادس: هل أحد من أهل القبلة خالف في تفسير النزول على ما قلناه؟ الجواب: نعم؛ فمنهم من قال (ينزل ربنا) : أي تنزل رحمة ربنا. ومنهم من قال (ينزل ربنا) : أي مَلك من ملائكته، وهؤلاء إنما قالوا ذلك لأنهم ينكرون النزول الحقيقي. والرد على هؤلاء أن نقول: أولاً: أن قولهم هذا مخالف لظاهر النص؛ لأن ظاهره أن الذي ينزل هو الله عز وجل. ثانياً: أن قولهم هذا مخالفٌ لصريح النص في قوله تعالى: (من يدعوني) (1) إذ إن الملك لا يمكن أن يقول للخلق من يدعوني فأستجيب له، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله، ولو أن أحداً قاله من الخلق لقلنا إنه نزل نفسه منزلة الخالق، والملائكة مكرمون عن هذا، فالملائكة يسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، ويتبرؤون ممن يدعون غير الله. وأيضاً فإذا قلنا: إن الرحمة هي التي تنزل إلى السماء الدنيا، فإن هذا من الغلط؛ لأن رحمة الله ليس غايتها السماء الدنيا، بل إن الرحمة تنزل إلى الأرض حتى تبلغ الخلق، وأي فائدة لنا إذا نزلت الرحمة إلى السماء   (1) تقدم تخريجه ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الدنيا؟! ثم إن الرحمة تنزل كل وقت، ولا تختص بثلث الليل الآخر، فإذا خصصناها بثلث الليل الآخر فمعنى ذلك أن يبقى الزمن أكثره بدون رحمة. ثم إن الرحمة لا يمكن أن تقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه؛ لأن الرحمة صفة من صفات الله، ولو قالت هذا القول لكانت إلهاً مع الله، ولهذا لا يصح لنا أن ندعو صفات الله، حتى إن من دعا صفات الله فهو مشرك، فلو قال يا قدرة الله اغفر لي. يا مغفرة الله اغفر لي. يا عزة الله أعزيني. فهذا لا يجوز، بل هو شرك، لأنه جعل الصفة بائنة عن الموصوف، مدعوة دعاء استقلالياً وهذا لا يجوز. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (برحمتك استغيث) (1) ، فهذا من باب التوسل، يعني استغيث بك برحمتك، فـ (الباء) هنا للاستغاثة والتوسل، وليست داخلة على المدعو حتى نقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أو استغاث برحمة الله، لكن استغاث بالله لأنه رحيم، وهذا هو معنى الحديث الذي يتعين أن يكون معنى له. وقوله: (وخلقه) يعني ومما يجب إثباته بالدليل القاطع إثبات الخلق. والخلق صفة من صفات الله عز وجل الفعلية من حيث آحادها وأنواعها. أما من حيث الأصل فهي صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال خلاقاً. وقد ثبتت هذه الصفة بقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ) (الحشر: الآية 24) وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (الحجر: 86) فالخلاق والخالق يؤخذ   (1) رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، رقم (3524) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 منهما صفة الخلق بناء على القاعدة التي سبقت في هذا الباب، وهي: أن كل اسم من أسماء الله تعالى فهو متضمن لصفة وليست كل صفة متضمنة لاسم، ولهذا كانت الصفات أوسع من باب الأسماء، فالخلق صفة لله تعالى، فهو يخلق ما يشاء إيجاداً وإعداماً، كما قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) (الملك: الآية 2) فجعل الموت مخلوقاً مع أن الموت عدم، لكنه عدم على وجه معين وليس عدما محضاً، فمفارقة الروح الجسد موت، وليس عدما، بل مفارقة تفقد بها الحياة. والمهم أن من صفات الله الخلق، ونص المؤلف رحمه الله عليه لأن الأشاعرة لا يثبتون هذه الصفة لله، وإنما يثبتها الماتريدية، حيث أنهم يثبتون ثماني صفات، والأشاعرة يثبتون سبعاً. فالخلق إذاً صفة ذاتية من حيث الأصل، وهي صفة فعلية من حيث النوع والآحاد، فالله تعالى يخلق ما يشاء بالنوع، ويخلق ما يشاء بالآحاد. فالإنسان مثلاً مخلوق بالنوع، وبالآحاد من حيث كل إنسان على حدة. فخلق الله للإنسان من حيث هو، يعتبر واحداً بالنوع، وخلق الله للإنسان باعتبار كل فرد يعتبر واحداً بالشخص، أي بالآحاد. أما من حيث الفعل لله عز وجل الذي هو صفة الخلق، فإن الله لم يزل ولا يزال خلاقاً، فهو من الصفات الذاتية. قال رحمه الله: (فاحذر من النزول) احذر من النزول: يعني من النزول الخلقي والنزول العلمي والنزول السلوكي والنزول الفكري، لأن النزول صفة ذم بكل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فالنزول الخُلقي: أن لا تخالق الناس بخلق حسن، فإن من الناس من قد يُرزق علماً وفهماً لكنه لا يخالق الناس بخلق حسن، فتحمله الغيرة وما عنده من العلم، على الشراسة والعنف وتضليل الناس، وربما تصل به الحال إلى تكفيرهم. والنزول العلمي: وهو أنك لا تحرص على العلم ولا تبتغي العلم ولا تطلبه. فإن العلم إذا تركته تركك، بل إذا تهاونت في طلبه فاتك، ولهذا قال بعض السلف: لا يُنال العلم براحة الجسم. وقال بعضهم: أعط العلم كلك يعطك بعضه، وأعطه بعضك يفتك كله. ولم ينل العلماء رحمهم الله الذين اشتهروا بالإمامة في العلم هذا الذي نالوا به الإمامة إلا بدأبٍ عظيم، وتعبٍ على ما هم عليه من شظف العيش وقلة المساعدة. والنزول السلوكي: وهو قريب من النزول الخُلقي، لكنه يشمل العبادة والتعبد لله عز وجل، بأن تكون عالي الهمة بالنسبة للعبادة، لا تتوانى ولا تتكاسل، تتقي الله تعالى ما استطعت. والنزول الفكري: وهو أن تنزل بفكرك إلى ما يخالف السلف الصالح، كما نزل أهل التعطيل وأهل التمثيل، فإن أهل التعطيل نزلوا بأفكارهم وانحدروا بها إلى الهاوية، وأهل التمثيل كذلك. كل منهم نزل، فهؤلاء غلوا في شأن التنزيه، وهؤلاء غلوا في الإثبات، فتطرفوا جميعاً فنزلوا عن مستوى الحق والصراط المستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 49- فسائر الصفات والأفعال ... قديمة لله ذي الجلال ­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­   الشرح قوله: (فسائر الصفات والأفعال) سائر ترد بمعنى (باق) ، وترد بمعنى جميع، فأما ورودها بمعنى (باق) فإنها مأخوذة من السؤر وهو البقية، كما يقال مثلاً: سؤر البهائم طاهرٌ؛ أي بقية شرابها، وتقول: شربت سؤر فلان؛ أي بقية شرابه، وعلى هذا فتكون سائرٌ بمعنى باقٍ. وأما سائر بمعنى جميع فهي مشتقة من السور؛ لأنه يحيط بالقصر. فكلام المؤلف هنا يتنزل على المعنى الثاني؛ فتكون سائر بمعنى جميع. قال رحمه الله: (فسائر الصفات والأفعال قديمة لله) وكلامه هذا في إطلاقه نظر ظاهر؛ وذلك أن صفات الله عز وجل تنقسم إلى ثلاثة أقسام: خبرية وذاتية وفعلية. أما الفعلية فنص عليها المؤلف رحمه الله بقوله: (الأفعال) ، فيبقى قوله: (الصفات) شاملاً للخبرية والذاتية، ونحن نوافقه على أن الصفات الذاتية والصفات الخبرية قديمة لله؛ قديمة: يعني أزليةٌ لم تزل موجودةٌ، وهي كذلك أبدية لا تزال موجودة. فالصفات الخبرية مثل: الوجه، والعين، واليد، والقَدَم، هذه صفات أزليةٌ قديمة، وهي أيضاً أبدية. والصفات الذاتية مثل: العلم، والقدرة، والعزة، وغيرها، فهذه أيضاً قديمة لله عز وجل أزلية أبدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أما الصفات الفعلية التي أشار إليها المؤلف رحمه الله في قوله: (والأفعال) فلا يطلق عليها أنها قديمة على سبيل الإجمال، ولا أنها حادثة، بل في ذلك تفصيل: فباعتبار الجنس هي قديمة، فإن الله لم يزل ولا يزال فعالاً؛ لم يأت عليه وقتٌ كان معطلاً عن الفعل بل لم يزل فعالاً، فباعتبار جنس الأفعال نقول: إنها قديمة، كما قال المؤلف، وباعتبار النوع والآحاد فليست قديمة. وأضرب مثلاً للنوع: استواء الله على العرش نوعٌ من أنواع الفعل، لكن لا يمكن أن نقول: إنه قديم، لأنه لم يكن إلا بعد خلق العرش، وخلق العرش حادث، فيلزم من ذلك أن يكون الاستواء حادثاً وليس بقديم. هذا باعتبار النوع أما باعتبار الآحاد فالله تعالى خلق الملايين من البشر، وخَلْقُ الله عز وجل للبشر حادث بلا شك، فخلق كل فرد منهم وجد حين خلقه الله، ومن له عشر سنوات فهو قبل أحد عشر سنة ليس موجوداً، ولم يكن شيئاً مذكوراً، ولا تعلقت به صفة الخلق. إذاً فكلام المؤلف رحمه الله بِقِدَم الصفات صحيح باعتبار قسمين من الصفات، وهي: الصفات الخبرية، والذاتية، أما الأفعال فصحيح أنها قديمة باعتبار الجنس، فجنس الأفعال قديمة، وأما أنواعها وآحادها فليست قديمة. ومن أمثلة الصفات الخبرية: الوجه والعين واليد والإصبع والساق والقدم وغيرها. فكل ما ورد به النص نثبته على أنه قديم. ولا يستوحش من إثباتها، ولا يقال: كيف يكون لله كذا؟! لأن الذي تكلم بهذه الصفة إما الله نفسه - إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 كانت الصفة ثابتةٌ بالقرآن - وإما رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق به، فلا يستوحش مما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله. والذي يستوحش منه تحريف ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله. أما الأفعال؛ فالأفعال كثيرة أيضاً نوعها وجنسها، فالكلام صفة فعل باعتبار آحاده، وهو صفة ذاتٍ باعتبار أصله؛ فالكلام ليس له حصر ولا يمكن أن يحاط به، فإن الله تعالى يقول: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (لقمان: الآية 27) أي لو أن الذي في الأرض من الأشجار أقلام، يعني: جعل أقلاماً وكتب به وجعل المداد البحر يمده من بعده سبعة أبحر، لنضب الماء وتكسرت الأقلام ولم تنفد كلمات الله، إذاً كلمات الله لا حصر لها، ولا يمكن الإحاطة بها، والكلام من صفات الأفعال. وقول المؤلف رحمه الله (قديمة لله ذي الجلال) ، ذي: صفة لله، والجلال: بمعنى العظمة والكبرياء، وقد وصف الله نفسه بأنه ذو الجلال والإكرام، وأنه مع عظمته وكبريائه يكرمه المؤمنون من عباده، ويكرم هو من يستحق الإكرام من العباد، ولهذا نقول: الإكرام صفة صالحة لصدوره من الله؛ ولصدوره لله؛ فهو صالح لصدوره من الله حيث يكرم من يستحق الإكرام من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولهذا يقال في الجنة: إنها دار الكرامة، وهو صالح لصدوره لله حيث إنه سبحانه وتعالى مكرم من قبل هؤلاء العباد الخلص النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 50- لكن بلا كيف ولا تمثيل ... رغماً لأهل الزيغ والتعطيل 51- نمرها كما أتت في الذكر ... من غير تأويل وغير فكر   الشرح قوله: (لكن بلا كيف) يعني أنها قديمة وثابتة لله لكن بلا كيف، والمراد بقوله (بلا كيف) أي بلا تكييف منَّا لها، وليس المراد أنه ليس لها كيفية، وذلك لأنه ما من شيء ثابت إلا وله كيفية ولابد، فاليد لها كيفية، والوجه له كيفية، والعين لها كيفية، لكن نحن لا نكيفها، فتكييفنا لها حرام، بل السؤال عن الكيفية بدعة، كما نص على ذلك الإمام مالك رحمه الله، وأقره أهل العلم عليه، فلا نسأل عن الكيفية ولا نكيف. والتكييف باطل بدلالة السمع ودلالة العقل. أما دلالة السمع فمنها: أولا: قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) ، والشاهد قوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: الآية 169) فإذا كَيَّف أحد صفة من صفات الله فقد قال على الله ما لا يعلم؛ لأن الله أخبر بالصفة ولم يخبر عن كيفيتها، وهذا من الأمور الغيبية التي لا يمكن أن تدرك بالحس، ولا يمكن - بحسب إضافتها إلى الله - أن تدرك بالعقل أيضاً، لأنه ليس هناك علة جامعة بين الخالق والمخلوق حتى نقيس ما غاب عنا من صفات الخالق على صفات المخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 صحيح لو أن أحداً من الناس سألنا عن وجهه أو عن عينه أو عن يده لكنا نعرف كيفيتها بالقياس؛ لأنه بشر مثل سائر الخلق، ونحن نرى نظيره، لكن بالنسبة للخالق ليس هناك علة تجمع بينه وبين المخلوق، حتى يقاس على المخلوق، ويدعي المدعي أنه يعرف الكيفية. ثانياً: قول الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36) ، (تقفو) : يعني تتبع ما ليس لك به علم، ومنه تكييف صفات الله، فإنه لا علم لنا به. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) (الإسراء: الآية 36) هذه طرق الإدراك (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: الآية 36) فيسأل الإنسان عنه إذا استمع لما لا يعنيه، أو نظر إلى ما لا يعنيه، أو فكر فيما لا يعنيه، فإن الإنسان سوف يسأل عن ذلك كله يوم القيامة. أما الأدلة العقلية: فإننا نقول: إن الشيء لا يمكن إدراكه إلا بمشاهدته أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه؛ فكل شيء لا يمكن إدراكه إلا بواحد من هذه الأمور الثلاثة. أن تشاهده، وهذا عين اليقين، أو تشاهد نظيره، وهذا أدنى رتبة من الأول، لأن هذا تدركه بالقياس؛ فمشاهدة النظير ومعرفة النظير بالنظير هذا قياس. أو بالخبر الصادق عنه، لكن ليس الخبر كالمعاينة، ولذلك فهو أدنى رتبة من الأول. ومعلوم أن واحداً من هذه الطرق الثلاثة لم يحصل بالنسبة لصفات الله عز وجل، فنحن لم نشاهد شيئاً من هذه الصفات، ولو شاهدنا شيئاً منها لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ندركه؛ لأن الله قال: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (الأنعام: الآية 103) وقال: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: الآية 110) ، وبهذا فقد انتفى الأمر الأول. كذلك فنحن لم نشاهد نظيرها؛ لأن الله يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11) إذاً لم نشاهد مثيلاً لله عز وجل. وكذلك لم يخبرنا الله سبحانه أو رسوله عن كيفية هذه الصفات، فيتعذر إذاً أن نعلم كيفيتها، لأن وسائل العلم انتفت، وإذا انتفت الوسيلة انتفت الغاية، وحينئذٍ نقول: لا يمكن أن نكيف صفات الله، ولا يجوز أن نسأل عن الكيفية، ومن سأل عن الكيفية نهيناه؛ لأن السؤال عن الكيفية هلكة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((هلك المتنطعون) (1) . والسؤال عن الكيفية من التنطع؛ لأنه لو كان لك فائدة في علم الكيفية لبينها الله ورسوله، بل نقول: إن الوصول إلى حقيقة كيفية صفات الله أمرٌ مستحيل؛ لأن الإنسان أقل من أن يحيط بكيفية صفات الله. وانظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم حين قال لله: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك) (الأعراف: الآية 143) فهو يطلب النظر إلى الله عز وجل شوقاً إليه، لا شكاً في وجوده، فلما قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك) (الأعراف: الآية 143) قال: (لَنْ تَرَانِي) (الأعراف: الآية 143) يعني: لا يمكن أن تراني (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) (الأعراف: الآية 143) فنظر إلى الجبل، فلما تجلى الله عز وجل للجبل جعله دكاً، أي اندك الجبل وصار رملاً. فسبحان الله! هذا الجبل الأصم، الصلب، لما تجلى الله عز وجل له اندك وصار رملاً.   (1) تقدم تخريجه ص 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ولما رأى موسى هذا المشهد العظيم خر صعقاً وغشي عليه. ولو تصور كل إنسان نفسه أنه هو الذي في هذه الحالة لغشي عليه من باب أولى. وتأمل كيف خر موسى صعقاً لما تجلى ربه للجبل، وكيف عجز الجبل عن أن يقاوم هذه الرؤية العظيمة واندك. والله عز وجل يقول عن كلامه، وهو صفة من صفاته: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر: الآية 21) يهبط ويتصدع لكن لا يكون دكاً؛ لأن التجلي أعظم من نزول الكلام. إذاً لا يمكننا إدراك كيفية صفات الله وكنهها. فالسؤال عنه يكون لغواً من القول وتنطعاً في الدين ولهذا لما ورد هذا السؤال على الإمام مالك رحمه الله عجز عن تحمله فأطرق برأسه وجعل يتصبب عرقاً. فالكيفية ثابتةٌ والتكييف ممنوع ولو نفيت الكيفية على الإطلاق لكنت نفيت الوجود وعلى هذا نحمل كلام السلف حيث قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: (أمروها كما جاءت بلا كيف) ، أي: بلا تكييف. وقوله: (بلا تمثيل) يعني: وكذلك ثابتة بلا تمثيل. وقد سبق الكلام على نفي التمثيل وأنه ثابت بدلالة السمع والعقل وأن التعبير بقول القائل: (بلا تمثيل) ، أولى من قوله: (بلا تشبيه) ، من ثلاثة أوجه. لكننا نرى في بعض الأحيان كلاماً بلفظ التشبيه جاء من أئمة السلف، وهذا الذي جاء - بلفظ التشبيه - من أئمة السلف، يريدون به التمثيل. والمؤلف رحمه الله لغيرته وشدة تمسكه بمذهب السلف قال: إننا نقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ذلك (رغماً لأهل الزيغ) يعني نراغمهم بذلك، والرغام أصله التراب، وهو كناية عن الإذلال؛ يقال: راغمته: أي أذللته، ومنه قولهم: رغم أنف امرئ. قوله: (والتعطيل) ، والتعطيل: معناه الترك والتخلية، ومنه قوله تعالى: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَة) (الحج: الآية 45) أي متروكة مخلاة تركها أهلها. أما في الاصطلاح فالتعطيل: هو تعطيل الله عما يجب له، وهو أنواع بحسب ما ترك من واجب لله. أولاً: التعطيل المطلق: فالمنكرون لوجود الرب عطلوا أعظم تعطيل؛ حيث يقولون: ليس هناك رب، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، فهؤلاء عطلوا وجود الله أصلاً. ثانياً: تعطيل ألوهيته تعالى: فالمشركون الذين يعبدون مع الله غيره عطلوا الله عما يجب له من العبادة؛ لأن الواجب إخلاص العبادة لله وحده. فهؤلاء الذين يعبدون مع الله غيره عطلوا الله عن التوحيد الخالص. ثالثاً: تعطيل أسمائه: فالذين عطلوا أسماء الله قالوا: إن الله تعالى ليس له أسماء، وأن ما نُسب إليه من الأسماء فإنما هي أسماء لمخلوقاته وليست له، فهذا تعطيل شديد أيضاً. رابعاً: تعطيل الصفات: حيث يقول الذين عطلوا الصفات: إن الله له أسماء لكن ليس له صفات؛ فلا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة، ولا قدرة؛ فينكرون الصفات أصلاً، وهذا أيضاً تعطيل، حيث عطلوا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 عما يجب له من الصفات. خامساًً: التعطيل لبعض الصفات: حيث يثبت أصحاب هذا النوع من التعطيل شيئاً من الصفات وينكرون أشياء من الصفات، فهذا أيضاً تعطيل، وهذا له أنواع: فمنهم من يعطل صفات الأفعال فقط، ومنهم من يعطل كل صفة لا يدل عليها العقل بزعمه، ويختلفون في هذا. فصار التعطيل بذلك أنواعاً خمسة: أولاً: التعطيل المطلق: وهو تعطيل وجود الخالق. ثانياً: تعطيل ألوهيته: بأن يعبد معه غيره. ثالثاً: تعطيل أسمائه: بأن تنفى عنه الأسماء، والذي ينفي الأسماء ينفي الصفات من باب أولى. رابعاً: تعطيل الصفات: فيقال: إن الله له أسماء وليس له صفات. خامساً: تعطيل بعض الصفات: وهذا يختلف فيه الناس كثيراً، فمنهم من يعطل كثيراً ومنهم من يعطل قليلاً. وكل أنواع التعطيل هذه منفية في قول المؤلف رحمه الله: (رغماً لأهل الزيغ والتعطيل) . فالجهمية - المقتصدون منهم - عطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء، والغلاة منهم عطلوا الأسماء والصفات. والمعتزلة عطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء، لكنها أسماء مجردة وليس لها معانٍ، فهو سميعٌ بلا سمع، وبصيٌر بلا بصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 والأشاعرة أثبتوا الأسماء وأنكروا الصفات إلا سبعاً، والأفضل هنا أن نقول: إنهم أنكروا الصفات إلا سبعاً، ولا نقول أثبتوا سبع صفات؛ لأن الصفات السبع قليلة بالنسبة للصفات الكثيرة العديدة؛ فلهذا نقول أنكروا الصفات إلا سبعاً. أما أهل السنة والجماعة فأثبتوا توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأثبتوا لله الأسماء والصفات كلها، بدون قيد وبدون تفصيل، لأنهم يقولون: إن الواجب علينا أن نمرها كما جاءت. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (نمرها كما أتت في الذكر) نمرها: يعني اقبلها وأمرها بلسانك وبقلبك كما أتت في الذكر. و (في الذكر) يعني في القرآن، سواء أتت في القرآن مباشرة أو بالإحالة؛ فمباشرة بأن تكون الأسماء والصفات في القرآن، أو بالإحالة بأن تكون الأسماء والصفات في السنة، لأن ما جاء في السنة فقد أتى في القرآن لكن عن طريق الإحالة: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (الحشر: الآية 7) . وقوله رحمه الله: (نمرها كما أتت في الذكر) هذه العبارة ورد معناها عن السلف، فقالوا في آيات الصفات وأحاديثها أمروها كما جاءت بلا كيف. وهذه العبارة تجاذبها طائفتان: طائفة ادعت أن السلف أرادوا بهذه العبارة التفويض، والتفويض: يعني إننا نمر النص ونفوض معناه ونقول: الله أعلم بما أراد، فنقرأ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ولكننا لا نعلم معنى استوى، ونقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا من السماء الدنيا) (1) ولا نعلم معنى   (1) تقدم تخريجه ص 140 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ينزل، ونقرأ قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) ولا نعلم معنى الوجه، وعلى هذا فقس، وادَّعوا أن هذا مذهب أهل السنة والجماعة وأنه مذهب السلف. والغريب أن هذه الدعوى تصدر من علماء أجلاء يشهد لهم بالخير، لكننا نشهد لهم بالخير، ونشهد عليهم بالخطأ في نقل مذهب السلف على هذا الوجه، ونرى أنهم مخطئون لكن عن غير عمد؛ لأن نيتهم حسنة - لا شك عندنا في ذلك -، لكنهم فهموا عن السلف فهماً خاطئاً، فليس مذهب السلف هو التفويض، فالسلف من أفقه الناس في معنى آيات الصفات وأحاديثها، لكنهم من أبعد الناس أن يقولوا فيها ما لا يعلمون. وليتنبه أننا لو قلنا: إن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها هو التفويض الذي أراده هؤلاء، لكان أجهل الخلق بالله هم " السلف، لأن من لا يعرف معنى الصفات كيف يعرف الله؟! ، فالذي لا يعرف معنى السميع ولا البصير ولا العزيز ولا الحكيم، كيف يعرف الله؟! فهذا اللازم لا شك أنه لازم باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. ومن ثم أطلق بعض هؤلاء العلماء القول بأن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا القول فيه حق وباطل. فقولهم: إنها أسلم صحيح، لكن ليس على الوجه الذي أرادوه، ولو كان مذهب السلف هو الوجه الذي أرادوه لم يكن أسلم، بل كان أسلم لأن مذهباً يقول: أنا أقرأ آيات الصفات وأحاديثها ولا أعرف معناها، أين السلامة؟! فإذا لم تعرف المعنى وتثبته فأنت غير سالم، لكنهم قالوا: إن قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الإنسان: (لا أدري) هذه سلامة. وقولهم في طريقة الخلف: إنها أعلم وأحكم؛ فأعلم لأنهم يثبتون معنى؛ وأحكم لأنهم قالوا: إن من المحال أن ينزل الله علينا كتاباً في أعظم ما نحتاج إليه ثم لا يكون له معنى معلوم، فلو قال إنسان: عن آيات الصفات وأحاديثها ليس لها معنى أو ليس معناها معلوماً، لكان هذا مناقضاً للحكمة. ولهذا قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، وقد بينا أن هذه المقولة باطلة متناقضة (1) ، وقد كذبوا بذلك على السلف فيما فهموا من مذهبهم. وقوله: (نمرها كما أتت في الذكر) ، سبق أن السلف قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. وهذه العبارة لا تدل على أن السلف يفوضون المعنى، بل الذي تدل عليه أن السلف يثبتون معنى آيات الصفات وأحاديثها، وتدل العبارة على هذا من وجهين: الأول: قولهم: (أمروها كما جاءت) ومن المعلوم أنها جاءت ألفاظاً لمعانٍ، ولم تأت ألفاظاً لغير معنى كالحروف الهجائية أبداً، فإذا أمررناها كما جاءت فمعنى ذلك أننا نثبت اللفظ والمعنى. والثاني: قولهم: (بلا كيف) يعني بلا تكييف، وهذه أيضاً تدل على ثبوت المعنى، لأنه لولا ثبوت أصل المعنى ما احتجنا إلى قول بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بموجود لغوٌ من القول، وهذا واضح.   (1) انظر فتح رب البرية بتلخيص الحموية ص 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فهم أثبتوا المعنى، ووجه ذلك أن نفي التكييف يدل على ثبوت أصل المعنى؛ لأنه لولا ثبوت أصل المعنى ما احتيج إلى أن نقول بلا تكييف. فالسلف يثبتون لنصوص الصفات معنى، ووالله لولا إثباتنا للمعنى ما ذقنا طعم هذه النصوص في الصفات وفي الأسماء أبداً، ولو كنت أقرأ: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كما أقرأ ((أ-ب- ج)) لما استفدت وما ازداد إيماني ومعرفتي بالله أبداً. فلولا أني أعرف أن معنى استوى علا علواً يليق بجلاله وعظمته لما استفدت، ولهذا كان دعوى عدم إثبات السلف المعنى لآيات الصفات دعوى باطلة، وقدْحاً عظيماً في السلف، ومهما كان مصدر هذا القول، فهو خطأ. فإذا كان السلف يثبتون المعنى بلا تكيف صاروا أسلم وأعلم وأحكم، وهذا هو المطلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 52- ويستحيل الجهل والعجز كما ... قد استحال الموت حقاً والعمى 53- فكل نقص قد تعالى الله ... عنه فيا بشرى لمن والاه   الشرح قوله: (ويستحيل الجهل والعجز) الاستحالة معناها التعذر وعدم الإمكان، أي يستحيل الجهل على الله، ودليل استحالته أثري ونظري: أما الأثري: ففي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: 5) وقوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق: الآية 12) وقوله (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس: الآية 61) . والنصوص في أنه يستحيل الجهل على الله كثيرة؛ لأن الإخبار على هذا الوجه يدل على عموم إحاطة علم الله عز وجل بكل شيء، وإذا أحاط بكل شيء استحال الجهل. وأما النظري: فلأن الجهل صفة نقص، حتى إن الإنسان يُعَير به فيقال: يا جاهل، أو يقال: فلان جاهل، وإذا كان صفة نقص فإنه ينزه عنه الخالق، فالخالق لا يمكن أن يتصف بنقص إطلاقا، وقد استدل إبراهيم عليه الصلاة والسلام على أبيه بهذا فقال: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (مريم: الآية 42) إذاً هذا وجه استحالته نظرياً. وإذا استحال الجهل فإنه يكون من الصفات السلبية المنفية، وقد سبق أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 لا يوجد في صفات الله صفة سلبية محضة، بل لابد أن تكون متضمنة لكمال ضدها، فإذا استحال الجهل صار كمال العلم واجباً، ولهذا يجب أن يكون الله متصفاً بكمال العلم. والجهل قد يكون سابقاً للعلم وقد يكون لاحقاً، وكلاهما مستحيل، فما كان سابقاً للعلم فهو جهل، وما كان لاحقاً له فهو نسيان، وكلاهما مستحيل على الرب عز وجل. وقد قال موسى لفرعون حين قال: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (طه: 51) قال موسى: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طه: الآية 52) وقوله: (ويستحيل الجهل والعجز) ، أي: ومما يستحيل أيضاً: العجز، والعجز مستحيل بدلالة السمع، ودلالة العقل: أما السمع: فقد قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر: الآية 44) ومثل هذا النفي (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) (فاطر: الآية 44) إنما يصاغ فيما كان ممتنعا غاية الامتناع، كما في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117) (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (الأنفال: الآية 33) وما أشبه ذلك. إذاً فالنفي في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ) (فاطر: الآية 44) ، يدل على امتناع المنفي امتناعاً مطلقاً بكل حال. وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (العنكبوت: 4) وقال تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 السَّمَاءِ) (العنكبوت: الآية 22) والآيات الدالة على استحالة العجز كثيرة. أما الدليل العقلي على استحالة العجز فهو أن العجز صفة نقص، والرب سبحانه وتعالى منزه عن النقص، فيجب أن ينزه عن العجز، قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض) (فاطر: لآية 44) إذاً فالعجز مستحيل سمعاً وعقلاً، وإذا استحال العجز على الله فإن القدرة تجب له سبحانه وتعالى سمعاً وعقلاً: أما السمع: فما أكثر الآيات التي يقول الله فيها: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (النور: الآية 45) ومنها هذه الآية التي نفى الله فيها عجزه مطلقاً، حيث قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض) (فاطر: الآية 44) ثم قال: (إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (فاطر: الآية 44) . وأما العقل: فقرر دلالته على ذلك أهل العلم في قولهم: إن الخلق يدل على الخالق وعلى القدرة أيضاً، لأنه لا يمكن أن يوجد خلق إلا بقدرة عليه، فوجود المخلوقات وإثبات الخلق دليل على قدرة الخالق عز وجل. فصار العجز مستحيلاً سمعاً وعقلاً، وإذا استحال العجز ثبت ضده وهي القدرة، والقدرة أيضاً ثابتة سمعاً وعقلاً. ثم قال المؤلف رحمه الله: (كما قد استحال الموت حقاً) أيضاً الموت مستحيل سمعاً وعقلاً: أما استحالته سمعاً: فقد قال الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (الرحمن: 26) (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان: الآية 58) بل نفى الله عنه الميتة الصغرى في قوله: (لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة: الآية 255) فإن النوم هو الميتة الصغرى، ونفيه نفياً لها. أما استحالته عقلاً: فلأن الموت لا يلحق إلا الناقص: أي ناقص الحياة؛ لأن الموت لا شك أنه فقدٌ للحياة، والحياة صفة كمال، فإذا فقدت زال الكمال، والله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص. وقوله: (حقاً) مصدر عامله محذوف تقديره: أحق ذلك حقاً، يعني أثبته إثباتاً لا شك فيه. وقوله: (والعمى) ، العمى: ضد البصر، فالله سبحانه وتعالى منزه عن العمى وعن العور الذي هو فقد إحدى العينين، ودليل ذلك أيضاً من السمع والعقل: أما من السمع: فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) (1) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور) (2) . وأما عقلاً: فلأن من لا يبصر ناقص، والنقص منزه عنه الله عز وجل، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (مريم: الآية 42) . ثم ذكر المؤلف قاعدة عامة مطردة فقال: (فكل نقص قد تعالى الله عنه) أي: كل نقص - على سبيل العموم - فإن الله جل وعلا قد تعالى عنه؛ سواء كانت هذه الصفة نقصاً في ذاتها؛ أو كانت الصفة نقصاً في كمالها. مثل الصفة التي هي نقص في ذاتها: العمى والجهل المطلق.   (1) تقدم تخريجه ص 184. (2) تقدم تخريجه ص 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ومثال الصفة التي هي نقص في كمالها: العور؛ فالأعور ينظر بعين واحدة وتستقيم أموره، لكن هذه الرؤية ناقصة وليست كاملة. ولهذا يستدل بعض أهل القيافة على أن هذه البهيمة عوراء برعيها الشجرة، حيث إن العوراء إذا وقفت عند الشجرة ترعى من جانب واحد، لأنها لا ترى الجانب الآخر، فإذا أقبل على بعير ترعى شجرة، ووجدها قد أكلت من اليمين عرف أنها عوراء من اليسار. ويستدل كل إنسان على الأعور أنه إذا أتاه من جهة العوراء فإنه لا يبصره، لأنه لا ينظر إلا من جهة واحدة، فالعور نقص، وهو نقص في كمال وليس فقداً للكمال. وكذلك أيضاً في صفة القوة، فلو كان الله ليس فيه قوة إطلاقاً لكان هذا نقصاً في ذات الصفة، فإذا كان فيه قوة ولكنه لا يقوى على بعض الأشياء فهذا نقص في كمال. فالله عز وجل منزه عن الأمرين؛ منزه عن النقص الذي هو فقد الكمال بالكلية، وعن النقص الذي هو نقص في كماله. أما مماثلة المخلوقين فهي نقص في كماله، فلو قيل لله عينان مثل عيني المخلوق لكان هذا نقصاً في كمال، أو قيل لله علم مماثل لعلم المخلوق لصار أيضاً نقصاً في كمال. فالحاصل أن الله تعالى منزه عن كل نقص، سواء كان نقصا بحسب الأصل، أو نقصا بحسب الكمال، فالله سبحانه وتعالى منزه عنه، وتنزيه الله عن النقص مأخوذ من قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل: الآية 60) فإن إثبات المثل الأعلى يدل على أن كل ما كان نقصاً فالله منزه عنه؛ لأنه ينافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الأعلوية، والله يقول: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) . (النحل: الآية 60) . قوله: (يا بشرى لمن والاه) (يا) : هذه حرف نداء، لكن (بشرى) منادى وهو غير عاقل، فكيف يوجه النداء لغير العاقل؟. اختلف النحويون في هذا، فقالوا: إذا وجه النداء لغير العاقل فهو للتمني، أو يكون المنادى محذوفاً ويقدر بحسب السياق، ففي قول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل هنا خاطب الشاعر الليل وناداه: (ألا أيها الليل) والليل لا يعقل، فقالوا: إن هذا للتمني: يعني يتمنى أن ينجلي الليل، ومع ذلك يقول: حتى لو أنجليت فالصبح ليس أمثل منك، وقال الله تعالى: (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) (يّس: الآية 26 (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يّس: 27) (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) فهذه للتنبيه لأن ليت حرف لا ينادى فتكون للتنبيه. وقال بعضهم أن المنادى محذوف والتقدير: يا ربي ليت قومي يعلمون. والبشرى بمعنى البشارة، وهي الخبر السار، فالخبر السار يسمى بشرى، وسمي بشرى لأن البشرة تتغير به، ولهذا إذا سر الإنسان استنار وجهه، كما حصل للرسول عليه الصلاة والسلام حين مر مجزز المدلجي بزيد بن حارثة وأسامة بن زيد، وعليهما رداء قد بدت منه أقدامهما، فقال: (إن هذه الأقدام بعضها من بعض) (1) . فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى صارت أسارير   (1) رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب القائف، رقم (6770) ، ومسلم، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، رقم (1459) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وجهه تبرق. ولذلك فكل خبر سار، يسمى بشرى. وقد تطلق البشرى على الخبر المسيء بجامع التغير في كل منهما، كما في قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران: الآية 21) . وقوله: (لمن والاه) أي والاه الله وصار له ولياً. فيا بشرى لمن كان ولياً لله، نسأل الله أن يجعلنا من أوليائه. وذلك لأن ولي الله قد أمنه الله من كل خوف، يقول تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس: 62) (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس: 63) فولي الله عز وجل إذا عاداه أحد فقد حارب الله تعالى: وليس فقط عادى الله؛ بل قد حارب الله، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) (1) ، ومن آذنه الله بالحرب فهو مغلوب على كل حال، لأن الله تعالى عزيز قوي لا يغلبه شيء، ولهذا نقول: يا بشرى في الدنيا والآخرة لمن والاه الله، أي صار له ولياً بالمعنى الخاص؛ لأن الله ولي كل شيء بالمعنى العام ولكن بالمعنى الخاص فهو ولي لأهل الإيمان والتقوى.   (1) تقدم تخريجه ص 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 54 - وكل ما يطلب فيه الجزم ... فمنع تقليد بذاك حتم 55- لأنه لا يكتفى بالظن ... لذي الحجى في قول أهل الفن 56- وقيل يكفي الجزم إجماعاً بما ... يطلب فيه عند بعض العلما 57- فالجازمون من عوام البشر ... فمسلمون عند أهل الأثر   الشرح انتقل المؤلف رحمه الله من ذكر الصفات إلى ذكر بعض الأحكام في التقليد، ومن المعلوم أن إدراك المعلومات قد يكون عن اجتهاد ونظر في الأدلة، فهذا الذي يتوصل إليه الإنسان باجتهاده ونظره، يجب عليه أن يعتقده أو يعمل بمقتضاه، لكن بشرط أن يكون من أهل الاجتهاد ذوي العلم؛ وليس من أهل الاجتهاد ذوي الجهل؛ لأن اجتهاد ذوي الجهل خطأ على كل حال، حتى لو أصاب ذو الجهل فهو مخطئ، لأن استعمال اجتهاده مع عدم القدرة والأهلية خطأ. فلو قال قائل: رجل وجب عليه إعتاق رقبة، فقال شخص: اذهب إلى السجناء وأخرج واحدا محبوسا بدينه، ولو كان دينه عشرة ريالات، فأوف عنه الريالات فتكون قد أعتقت رقبة؛ لأنك فككته من الأسر، أي من اسر الحبس، والفقهاء رحمهم الله يقولون: إنه يجوز صرف الزكاة في فكاك الأسير، فهذا صار فقيها من وجه وجاهلا من وجه آخر، واجتهاده هذا اجتهاد في غير محله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومثل ذلك أيضاً: إذا أنقذ إنسان شخصا من الغرق، وكان عليه عتق رقبة كفارة عن قتل أو ظهار أو جماع في رمضان، فأفتاه جاهل بان إنقاذ صاحبه من الغرق عتق رقبة، فهذا الاجتهاد غير مقبول لأنه عن جهل. ومثال آخر: إذا قام الإمام إلى خامسة فنبهه المصلون بقولهم: (سبحان الله) فأبى وأصر على أن يكمل الخامسة، فلما سلم التفت إلى الجماعة ينكر عليهم تصرفهم وجهلهم، مدعيا أن الفقهاء قالوا: إذا شرع الإمام في القراءة حرم الرجوع، فكيف يلحون عليه أن يرجع وقد شرع في القراءة؟! ، والحقيقة انه هو الجاهل لأن الفقهاء رحمهم الله يقولون: إذا شرع في القراءة حرم الرجوع فيما إذا ترك التشهد الأول، أما إذا قام إلى زائدة فيرجع ولو كان قد ركع. والمهم في ذلك أن مثل هذا المجتهد لا يعتبر اجتهاده مطلقا ولا يقبل، لكن المجتهد الذي فيه أهلية الاجتهاد، وعنده علم وبصر في كلام أهل العلم فالمؤلف يقول رحمه الله: وكل ما يطلب فيه الجزم فمنع تقليد بذاك حتم يعني يجب أن يجتهد الإنسان فيما يطلب فيه الجزم، وعلى ذلك فكل شيء يطلب فيه الجزم فلا تقلد فيه، بل يجب أن تعرف الحكم من الكتاب والسنة. وعلى هذا فالعوام الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ولا يعرفون الدليل لكن لما سمعوا العلماء يقولون بهذا آمنوا به، فعلى كلام المؤلف يكون إيمانهم ليس بصحيح، لأن الذي يطلب فيه الجزم لابد أن يكون عن اجتهاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ولا يصح أن يكون عن تقليد، لكن هذا القول ضعيف جدا، ولهذا قال: وقيل يكفي الجم إجماعا بما يطلب فيه عند بعض العلما يعني قال بعض العلماء رحمهم الله: بل يصح التقليد فيما يطلب فيه الجزم، وهذا القول هو الراجح، وسيأتي إن شاء الله دليل هؤلاء ودليل هؤلاء ومناقشة الأدلة. فالمسائل العلمية؛ كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك، يجوز فيها التقليد بالاتفاق، ولا يمكن أن يلزم الإنسان الناس بالاجتهاد في هذا؛ لأن الاجتهاد في هذا صعب، والعامة لا يمكن أن يقرؤوا كتب الفقه. أما مسائل العقيدة التي يجب على الإنسان فيها الجزم فقد اختلف العلماء رحمهم الله؛ هل يجوز فيها التقليد أو لابد من الوقوف على الدليل؟ ولا شك أن الوقوف على الدليل أولى حتى في المسائل العملية؛ لأن الإنسان إذا بنى عقيدته أو عمله على الدليل استراح، وصار يعلم انه يمشي في طريق صحيح، لكن إذا لم يمكن الوقوف على الدليل ففي التقليد خلاف بين أهل العلم رحمهم الله؛ فمنهم من قال: إنه يكفي، ومنهم من قال: انه لا يكفي، ولكن الحقيقة انه لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة يجب فيها اليقين؛ لأن من مسائل العقيدة ما اختلف فيه العلماء رحمهم الله، وما كان مختلفا فيه بين أهل العلم فليس يقينيا؛ لأن القين لا يمكن نفيه أبدا. فمثلا اختلف العلماء رحمهم الله في عذاب القبر؛ هل هو واقع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 البدن أو على الروح؟ واختلف أيضاً العلماء رحمهم الله أيضاً في الذي يوزن؛ هل هي الأعمال أو صحائف الأعمال أو صاحب العمل؟ واختلف العلماء رحمهم الله أيضاً في الجنة التي اسكنها آدم؛ هل هي جنة الخلد أم جنة في الدنيا؟ واختلف العلماء رحمهم الله أيضاً في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه؛ هل رآه بعينه - يعني في الحياة - أم رآه بقلبه؟ واختلف العلماء رحمهم الله في النار؛ هل هي مؤبدة أم مؤمدة؟ وكل هذه المسائل من العقائد، والقول بان العقيدة ليس فيها خلاف على الإطلاق غير صحيح، فإنه يوجد من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن. فمثلا في قوله تعالى في الحديث القدسي: ((من تقرب إلى شبرا تقربت منه ذارعا) (1) ، لا يجزم الإنسان بان المراد بالقرب القرب الحسي، فإن الإنسان لا شك انه ينقدح في ذهنه أن المراد بذلك القرب المعنوي. وقوله تعالى: ((من أتاني يمشي أتيته هرولة) هذا أيضاً لا يجزم الإنسان بان الله يمشي مشيا حقيقيا هرولة، فقد ينقدح في الذهن أن المراد الإسراع في إثابته، وان الله تعالى إلى الإثابة أسرع من الإنسان إلى العمل، ولهذا اختلف علماء أهل السنة في هذه المسالة، بل إن إذا قلت بهذا أو هذا فلست تتيقنه كما تتيقن نزول الله عز وجل، الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام   (1) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الذكر ... ، رقم (2687) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) (1) فهذا ليس عند الإنسان شك في انه نزول حقيقي، وكما في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) فلا يشك إنسان انه استواء حقيقي. والحاصل أن مسائل العقيدة ليست كلها مما لابد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه. فقد يكون الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقا، لأنه قد اتضح عنده أن هذا له وجه وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسالة بل عنده يقين، وأما الأول فيكون عنده إشكال وإذا رجح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن. ولهذا لا يمكن أن نقول إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده. إذا هذه الكلمة التي نسمعها بان مسائل العقيدة لا خلاف فيها، ليس على إطلاقها؛ لأن الواقع يخالف ذلك. كذلك مسألة العقيدة بحسب اعتقا الإنسان، فليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزما لا احتمال فيه، فهناك بعض المسائل - أحاديث أو آيات - قد يشك الإنسان فيها، كقوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) (القلم: الآية 42) هذه من مسائل العقيدة، وقد اختلف فيها السلف؛ هل المراد ساقه عز وجل أو المراد الشدة؟ وعلى هذا فقس.   (1) تقدم تخريجه ص 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وقوله: (كل ما يطلب فيه الجزم) يريد بذلك مسائل العقيدة وغير العقيدة، فكل شيء يطلب فيه الجزم (فمنع تقليد بذاك حتم) ، ومما يجب فيه الجزم أن نجزم أن الصلوات الخمس مفروضة، ولهذا لو أنكر إنسان فرضية الصلوات الخمس كفر، فيجب أن نجزم بأنها مفروضة، وان الزكاة مفروضة، وان الصيام مفروض، وان الحج مفروض وجوبا. فهل نقول انه لا يجوز أن يقلد العامي شخصا في ذلك وهو لا يدري؟ ذكر المؤلف هذا قال: (فمنع تقليد بذاك حتم) وعلل: لأنه لا يكتفى بالظن لذي الحجى في قول أهل الفن لأن التقليد ظن، ولهذا تقول للمقلد: هل تجزم بهذا؟ فيقول لك: لا. بل يقوله فلان. إذا ليس عنده جزم، فالتقليد يفيد الظن، ولولا حسن ظن المقلد بالمقلد ما قلده. وعلى هذا فكل شيء يطلب فيه الجزم فلا تقلد فيه، لأن هذا ينافي المطلوب، وهو الجزم، والتقليد يفيد الظن فلا يجوز أن نقلد. ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقيل يكفي الجزم إجماعا بما ... يطلب فيه عند بعض العلما وهذا قول ثان في هذه المسالة؛ وهو انه يكفي الجزم بما يطلب فيه الجزم، ولو عن طريق التقليد؛ فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 مما يجب فيه الجزم، ولكن العامي لا يدرك ذلك بدليله ومع ذلك نصحح إيمانه، ونقول إنه مؤمن وإن كان لا يدرك ذلك بدليله. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وقيل يكفي الجزم إجماعا) يعني انه إذا وجد الجزم حصل المقصود بالإجماع. وقوله: (بما يطلب فيه) ، نائب فاعل (يطلب) يعود على الجزم، يعني يكفي الجزم بما يطلب فيه الجم بالإجماع، وقائل هذا بعض العلماء ولهذا قال: (عند بعض العلما) وهذا القول هو الصحيح، والدليل على ذلك أن الله أحال على سؤال أهل العلم في مسالة من مسائل الدين التي يجب فيها الجزم، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: 7) ، وواضح إننا نسألهم لنأخذ بقولهم، ومعلوم أن الإيمان بان الرسل رجال هو من العقيدة، ومع ذلك أحالنا الله فيه إلى أهل العلم. وقال تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) (يونس: الآية 94) وإنما يسألهم ليرجع إليهم، وإذا كان هذا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشك، فنحن إذا شككنا في شيء من أمور الدين فنرجع إلى الذين يقرؤون الكتاب، أي إلى أهل العلم لنأخذ بما يقولون. وهذا عام يشمل مسائل العقيدة. ثم إننا لو ألزمنا العامي بترك التقليد والتزام الأخذ بالاجتهاد لألزمناه بما لا يطيق، وقد قال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: الآية 286) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وقال: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون: 61) (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (المؤمنون: الآية 62) فالصواب المجزوم به هو القول الثاني؛ وهو أن ما يطلب فيه الجزم يكتفى فيه بالجزم، سواء عن طريق الدليل أو عن طريق التقليد. قال المؤلف رحمه الله: (فالجازمون من عوام البشر) يعني الذين يجزمون بما يعتقدون من العوام الذين ليس عندهم علم لأنهم عوام، قال: (فمسلمون) يعني فهم مسلمون وإن كانوا لم يأخذوا ما يطلب فيه الجزم عن طريق الاجتهاد. ثم قال: (عند أهل الأثر) وكفى بأهل الأثر قدوة، فأهل الأثر يرون انه يجوز التقليد فيما يطلب فيه الجزم، والمقصود أن يحصل الجزم سواء عن طريق التقليد أو عن طريق الاجتهاد، وإذا كان هذا هو ما يراه أهل الأثر فهو الذي نراه نحن وهو الصحيح. بقي في كلام المؤلف رحمه الله إشكال في قوله (فمسلمون) فهو خبر لقوله (فالجازمون) ودخلت الفاء في الخبر لأن (الجازمون) فيه ((ال) الموصولة، والموصول يشبه الشرط في العموم، فيجوز أن تدخل الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ اسما موصولا. ومنه قول النحويين في المثال: (الذي يأتيني فله درهم) ، ودليل ذلك في القرآن: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) (البقرة: الآية 274) فهنا جاءت الفاء في خبر المبتدأ الموصول لأنه يشبه الشرط في العموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الباب الثاني في الأفعال المخلوقة 58- وسائر الأشياء غير الذات ... وغيرما الأسماء والصفات 59- مخلوقة لربنا من العدم ... وضل من أثنى عليها بالقدم   الشرح قال المؤلف رحمه الله: (الباب الثاني: في الأفعال المخلوقة) والأولى أن يقول: (الباب الثاني: في الأشياء المخلوقة) ، وذلك لأن قوله: (في الأفعال المخلوقة) توهم بأن المراد بالأفعال أفعال الله، وأفعال الله ليست مخلوقة وإنما المخلوق هو المفعول، وأما الفعل فهو صفة لله، وصفات الله ليست مخلوقة. فالأشياء المخلوقة أي كل الأشياء، وكل ما عدا الخالق فهو مخلوق؛ من الأعيان والصفات والزمان والمكان وغير ذلك، قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) فالرب غير مخلوق والعالم مخلوق. ثم أيضاً لو قال: (في الأشياء المخلوقة) لشمل ذلك الأعيان والأفعال والأوصاف، بخلاف ما لو قال: (في الأفعال المخلوقة) فإن ذلك يختص بالأفعال فحسب. فمثلاً: الآدمي عين، وبطشه وأكله وشربه أفعال، وأوصافه أوصاف. فإذا قلنا: في الأشياء المخلوقة شمل الأعيان والأوصاف والأفعال، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 قلنا: في الأفعال اختص بها، والأشياء الموجودة إما خالق وإما مخلوق، فالخالق رب العالمين عز وجل، والمخلوق ما سواه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وسائر الأشياء غير ذات) أي ذات الله. قال رحمه الله: (وسائر الأشياء غير الذات) (سائر) هنا بمعنى جميع، ولا يصح أن تكون بمعنى باق. وسائر اسم فاعل مأخوذ من السور وهو الجدار المحيط بالبيت، وهي على هذا الوجه بمعنى الجميع، أو سائر من السؤر، وهو بقية الشراب، وهي على هذا بمعنى باق، ومن ذلك قول عائشة رضي الله عنها لما ذكرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الغسل يفيض على رأسه ثلاث مرات، قالت: ((ثم غسل سائر جسده) (1) فسائر هنا بمعنى باق. (وغيرما الأسماء والصفات) (ما) زائدة من أجل الوزن، (وغيرما الأسماء) أي أسماء الله تعالى (والصفات) يعني صفات الله تعالى (مخلوقة) هذا خبر المبتدأ وهو قوله (سائر) ، (لربنا) أي لله تعالى، (من العدم) يعني بعد أن كانت عدما. قوله: (وضل من أثنى عليها بالقدم) - (ضل) : يعني تاه وضاع عن الطريق المستقيم، (من أثنى عليها بالقدم) أي من وصفها بالقدم. وقوله: (وسائر الأشياء) أي جميع الأشياء، من الموجودات غير ذات الله وأسمائه وصفاته، ولم يذكر المؤلف رحمه الله أفعاله سبحانه، لأن أفعاله   (1) رواه البخاري، كتاب الغسل، باب تخليل الشعر، رقم (273) ، ومسلم، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، رقم (317) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 من صفاته، ولم يذكر الكلام لأن كلامه سبحانه أيضاً من صفاته. إذاً فذات الله سبحانه وتعالى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة، وما عدا ذلك فهو مخلوق، فالآدمي مخلوق بعد أن لم يكن، والروح مخلوقة بعد أن لم تكن، والسماء مخلوقة بعد أن لم تكن، والأرض مخلوقة بعد أن لم تكن، وكل شيء مخلوق من العدم بعد أن لم يكن. وهذه المسالة ضل فيها من ضل من الناس، وزعموا أن المخلوقات قديمة النوع، وأن المادة أزلية، كما أنها أبدية، ولهذا يقولون: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم؛ فليست معدومة من قبل، ولا تفنى من بعد. وكل هذا ضلال؛ لأنك إذا قلت: بقدم الأشياء وأنها لم تكن حادثة، أشركت بالله وجعلت له شريكاً في القدم وهذا شرك. ولكن هل الله عز وجل أتى عليه وقت لم يكن يفعل شيئاً؟ قال بعض العلماء: نعم، أتى عليه وقت لم يكن يفعل شيئاً، ثم حدث الفعل، لأنك إن لم تقل بذلك لزم أن تجعل المفعول قديماً، فإنك إذا اثبت لله فعلاً - فلا فعل إلا بمفعول - وحينئذٍ يلزمك أن تقول بقِدم المفعولات، فتقع في الضلال. ولهذا اختلف الناس في هذه المسالة، فمنع قوم التسلسل في الماضي، كان منعوه في المستقبل، وقالوا: إن الله تعالى في الأول لم يكن يفعل، وفي النهاية أيضاً لا يفعل، وبنوا على ذلك أن الجنة تفنى، والنار تفنى، أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ينعدمان بالكلية، بل ولا يبقى شيء أبداً؛ لا سماء ولا أرض، ولا نجوم، ولا شمس، ولا قمر، ولا يبقى إلا الله عز وجل، وهذا مذهب الجهمية، حيث قالوا: بأن الأشياء لا تدوم فكما أن لها ابتداء فلها انتهاء. وقال بعض منهم بل تفنى الحركات دون الذوات، فحركات الحي تفنى دون ذاته، فيبقى الناس كأنهم أصنام، وهذا مذهب العلاف وهو من المعتزلة، وقد سخر به ابن القيم رحمه الله في النونية (1) ، فقال: على زعمه: أن الإنسان من أهل الجنة إذا رفع إلى فمه فاكهة وجاء وقت الفناء جمع على ما هو عليه، وبقيت الفاكهة بيده لم تصل إلى فمه إلى أبد الآبدين، وإذا كان على أهله من الحور العين أو من نساء الدنيا وأتى وقت فناء الحركات بقي على ما هو عليه إلى أبد الآبدين. وهذا كلام غير معقول، بل أنه ضلال والعياذ بالله، وغالباً ما يكون من لا يبني على علم من الشرع ضحكة. وقال قوم بعكس القول السابق حيث قالوا بالتسلسل في الابتداء والانتهاء، وأن الخلق قديم كما أنه لا نهاية له، فطردوا المسالة من الوجهين، فقالوا: إذا كنا نقول بإمكان تسلسل الحوادث في المستقبل، وأن الجنة والنار باقية إلى أبد الآبدين، فكذلك في الماضي. وقال آخرون -وزعموا أنهم أهل السنة - بأن التسلسل في المستقبل واجب وفي الماضي مستحيل، ومعنى ذلك أنه في الزمن الآتي لا تفنى الجنة، ولا تنفى النار ولا يفنى ما فهما، وأما في الماضي فالتسلسل مستحيل لأنه يلزم منه أن تكون الحوادث قديمة كقِدم الله، وهذا شرك.   (1) انظر القصيدة النونية (1/82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وهنا قول رابع: وهو أن التسلسل في المستقبل ممكن في الذوات نفسها، وفي ذوات أخرى تستجد فيما بعد، وأما التسلسل في الماضي ففي الذوات مستحيل، ومعنى ذلك أن قولنا: إن هذه الذات لم تزل ولا تزال موجودة وهذا مستحيل؛ لأنه ليس هناك شيء من المخلوقات يوصف بالقِدم كقِدم الله. لكن ليكن معلوماً أن الله لم يزل ولا يزال خلاقًا، وأن هناك مخلوقات غير السماء والأرض؛ لأن المصلي يقول: ((ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد) (1) ، فهناك مخلوقات قبل السموات وقبل العرش لا نعرف ما هي؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعالا، ولا يلزم من هذا أن قدم المفعول كقدم الفاعل؛ لأنه باتفاق العقلاء أن المفعول مسبوق بالفاعل؛ لأن المفعول نتيجة فعل الفاعل، وفعل الفاعل وصف له، ولابد أن يكون الموصوف سابقا على الصفة، ثم المفعول بعد الصفة. يعني لما كان عندنا مفعول وفعل وفاعل، فالمفعول لا شك أنه متأخر عن فعل الفاعل، وفعل الفاعل متأخر عن الفاعل، وعلى ذلك فلا يلزم من قولنا بقدم الحوادث أن تكون قديمة كقدم الله، وأن تكون شريكة لله في الوجود. وهذا هو الحق الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) ، وقد شنع عليه خصومه تشنيعاً عظيماً، وقالوا: هذا قول الفلاسفة، وهذا قول باطل، ولكنه رحمه الله تخلص منهم بأنه لا يلزم من قدم المفعول أن   (1) رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، رقم (476) . (2) انظر مجموع الفتاوى (16/444) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 يكون مساوياً للفاعل، لأنه بضرورة العقل أن المفعول لابد أن يكون مسبوقاً بفعل، والفعل لابد أن يكون مسبوقاً بفاعل، وهذا هو الحق. وقول المؤلف: (وضل من أثنى عليها بالقدم) إن أراد من أثنى عليها بالنوع فليس بصحيح، وإن أراد من أثنى عليها بالعين فهذا صحيح؛ لأن ما من شيء من المخلوقات يكون قديما ليس له أول أبدا. وخلاصة القول في ذلك أنه ليس في الوجود إلا خالق ومخلوقا، وأن الخالق جل وعلا لم يزل ولا يزال موجوداً، وأما المخلوق فالأزل في حقه ممتنع، فليس هناك شيء من المخلوقات يكون أزلياً أبداً، بل ما من مخلوق إلا وهو حادث بعد أن لم يكن؛ فالسموات والأرض والجبال والشجر والدواب والعرش والكرسي والقلم وغير ذلك كله مخلوق من العدم، ولم يقل أحد بقدمه إلا الفلاسفة. فالفلاسفة هم الذين قالوا بقدم العالم، وأن العالم لم يزل ولا يزول، ولهذا يقولون: إن المادة لا تفنى كما أنها ليست حادثة، وهذا لا شك أنه شرك مخرج عن الملة، ومن ادعى أن مع الله شريكاً في الوجود فهو مشرك. وهذه المخلوقات منها شيء أبدي خلقه الله للبقاء، ومنها شيء أمدي يعني له مدة ثم ينتهي، فمن الأشياء الأبدية الروح، فإن الله خلق أرواح للأبد، ولا يقال: إن الحيوان يموت فتفقد روحه؛ لأن موت الحيوان ليس فقداً لروحه، بل مفارقة الروح للبدن. اللهم إلا روح من لم يخلق للأبد فهذه قد تفنى، وليس عندي في ذلك أثارة من علم، لكن هذا هو الظاهر، فأرواح الحيوان سوف تعاد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 أجسادها يوم القيامة، كما قال الله تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير: 5) ولكن يأمرها الله عز وجل بعد أن يقضي بينها بعدله أن تكون ترابا فتكون ترابا، وظاهر هذا أنها تفنى الأرواح والأجساد، لأن بقاء الأرواح بعد هذا الفصل والحكم لا فائدة منه فيما يظهر لنا. إذا فالذي خلق للبقاء من الأرواح هو أرواح المكلفين؛ يعني بني آدم والجن، وكذلك الحور والولدان الذين في الجنة، فهؤلاء خلقوا للبقاء فلا يموتون. إذا فمن جهة الأزلية ليس هناك مخلوق يكون أزليا أبدا، ومن جهة الأبدية ففيه تفصيل منه ما خلق على أنه أبدي، ومنه ما خلق على انه أمدي؛ يفنى ويزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 60- وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار 61- لكنه لم يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى   الشرح يشير المؤلف رحمه الله بقوله: (وربنا يخلق باختيار) إلى أن أفعال الله سبحانه وتعالى اختيارية، كما قال الله تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: الآية 27) ، وقال: (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ) (الشورى: الآية 29) يعني إذا شاء جمعهم فهو قدير عليه لا يعجز عنه، وليست المشيئة هنا تابعة للقدرة، بمعنى أنه قدير إذا شاء، بل هو يجمع إذا شاء الجمع، فإنه لا يستعصي عليه بل هو قادر عليه. والله تعالى يفعل باختيار تام وإرادة تامة، قال الله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) (القصص: الآية 68) ، وليس يفعل لذاته بدون اختيار كما زعمه بعض أهل البدع، ولا هو مجبر على الفعل، بل فعله تابع لمشيته؛ إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، ولو قلنا: إن فعله ذاتي لزم أن يفعل الشيء كرها عليه، وهذا شيء مستحيل، بل هو يفعل ما يشاء من إيجاد أو إعدام، ومن إيجاد على سبيل البقاء، أو إيجاد على سبيل الزوال، فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء باختياره. وقوله: (من غير حاجة ولا اضطرار) يعني أنه لا يحتاج للفعل ولا يضطر إليه، والفرق بين الحاجة والضرورة أن الضرورة ما يحصل الضرر بفقدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ولا يمكن أن يستغني عنها، والحاجة ما يفقد الكمال بفقدها لكن يمكن أن يستغني عنها، إذاً فالحاجة كمالية والضرورة ضرورية. فمثلاً الكتب التي نقرؤها في المقررات ضرورية وليست كمالية؛ لأنه لولا وجود الكتب لصار علينا ضرر، والكتب التي للمراجعة وزيادة العلم حاجية؛ لأنه يفوت بفقدها الكمال، ولا يحصل بفقدها الضرر، وعلى هذا فالله عز وجل ليس محتاجاً إلى الخلق بمعنى أنه لو لم يوجد هذا الخلق لفات كماله، وليس هناك ضرورة إلى وجودهم من باب أولى. فأفعال الله التي يفعلها لا يفعلها لحاجته إليها ولا لضرورته إليها، ونحن نفعل الأفعال لحاجتنا إليها، فنتكسب لنزداد من المال وهذه حاجة، ونتكسب لننقذ أنفسنا من الهلاك وهذه ضرورة. لكن الله عز وجل يفعل بلا حاجة ولا اضطرار، لأن الله عز وجل يقول (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: الآية 15) ، فهو غني عن كل أحد، حميد على كل فعل وعلى كل صفة، فلا يفعل حاجة ولا يفعل لضرورة. فإن قال قائل: هل تنفون حكمة الله في أفعاله؟ فالجواب: لا: لكن الحكمة لا تعود لنفسه بل تعود لغيره، ولهذا قال المؤلف نافيا لهذه الشبهة: لكنه لم يخلق الخلق سدى كما أتى في النص فاتبع الهدى يعني لما قال بالأول: أنه يفعل بلا حاجة ولا اضطرار، كأن قائلاً يقول: إذاً خلق الخلق عبث؛ لأنه مادام ليس هناك حاجة ولا اضطرار فإنه يكون عبثاً فنفى المؤلف رحمه الله هذا الوهم، فقال: (لم يخلق الخلق سدى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ودليل أنه لم يخلق الخلق سدى أثري ونظري: أما الأثري: فقوله تعالى (أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (القيامة: 36) ، وقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: 115) ، وقوله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ) (الأنبياء: 16) ، وقوله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً) (صّ: الآية 27) ، وقوله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ) (الحجر: الآية 85) . والآيات في أنه سبحانه لم يخلق الخلق إلا لحكمة كثيرة، لكن هذه الحكمة ليس لأنه محتاج لها هو أو مضطر إليها بل يحتاج إليها الخلق، فالله سبحانه وتعالى يفعل الفعل لحاجة الخلق إليه، لا لحاجته هو إلى الفعل، فهو كامل على كل حال، لكن الخلق هم الذين يحتاجون إلى ما يكون به كمالهم ودفع ضرورتهم، ولذلك لا ينتفع بأفعال الله إلا الخلق، فهم يستدلون بها على آياته، وعلى فضله، وعلى عدله، وعلى عقابه وانتقامه، وغير ذلك. فالحاجة إذاً للخلق وليست للخالق، أما الخالق عز وجل فإنه يفعل بلا حاجة ولا اضطرار. أما الدليل النظري: - على أن الله يخلق لغير حاجة ولا اضطرار - أن العقل يدل على كمال الخالق، والكامل لا يحتاج إلى مكمل. وقوله: (كما أتى في النص فاتبع الهدى) النص: هو الكتاب والسنة، (فاتبع الهدى) يعني ولا تتبع الهوى، كما قال الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (صّ: الآية 26) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 62- أفعالنا مخلوقة لله ... لكنها كسب لنا يا لاهي 63- وكل ما يفعله العباد ... من طاعة أو ضدها مراد 64- لربنا من غير ما اضطرار ... منه لنا فافهم ولا تمار   الشرح قوله: (أفعالنا مخلوقة لله) ، أفعالنا: يعني ما نفعله من طاعة أو معصية، سواء كانت باليد أو الرجل أو العين أو الأنف أو الإذن كلها مخلوقة لله، وذلك من وجوه: الوجه الأول: أن أفعالنا من صفاتنا، ونحن مخلوقون لله، وخالق الأصل خالق للصفة، فإذا كان الإنسان مخلوقاً لله فإن صفاته أيضاً مخلوقة، فأفعالنا صفات لنا، وخالق الذات خالق للصفة، ولهذا صح أن نقول: إن أفعالنا مخلوقة لله، وهذا وجه. الوجه الثاني: أن فعل الإنسان ناتج عن أمرين عن إرادة، وقدرة: أما القدرة: فالله تعالى هو الذي خلقها، ولا إشكال في ذلك، ولو شاء الله عز وجل لسلب الإنسان القدرة وصار عاجزاً عن الفعل. والإرادة: كذلك، فإن الله هو الذي خلقها، لأنه هو الذي يودع في القلب هذه الإرادة، وما أكثر ما يرد الإنسان شيئاً وفي آخر لحظة يتجه إلى غيره. فأحياناً تمشي على أنك ذاهب إلى صديق لك لتزوره، وفي أثناء الطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ترجع وتترك الزيارة، وتقول: أذهب له غداً، أو بعد غد، وقد سئل أعرابي بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم، وهذا الجواب من الأعرابي على فطرته، ونقض العزائم: يعني أن الإنسان يعزم على الشيء عزماً أكيداً، لا يداخله أدنى إشكال، ثم يتراجع بدون أي سبب، وكذلك صرف الهمم، فقد يهم الإنسان بالشيء ويبدأ بالفعل والمباشرة له ثم ينصرف. ولهذا قال الأعرابي أنه بذلك عرف الله؛ لأن نقض العزائم وصرف الهمم ليس له سبب معلوم يضاف إليه، إذاً فلابد أن يكون السبب إلهياً. إذاً فأفعالنا مخلوقة لله ودليل ذلك أمران: الأمر الأول: أن أفعالنا صفات لنا وخالق الذات خالق للصفات. ثانياً: أن أفعالنا ناتجة عن إرادة جازمة وعن قدرة، والذي خلق الإرادة وخلق القدرة فينا هو الله عز وجل، وخالق السبب التام وهو الإرادة والقدرة، خالق للمسبب، وهو الفعل الناتج عن الإرادة والقدرة. الوجه الثالث: أن الله خالق كل شيء، كما قال تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء) (الرعد: الآية 16) ، وهذا العموم يشمل أفعال العباد؛ لأن أفعال العباد من الشيء. ثم قال رحمه الله (لكنها كسب لنا يا لاهي) هذا الاستدراك معناه: أن أفعال العباد مخلوقة لله، لكنها ليست كسباً له، بل هي كسب للعباد. وكسب لنا: أي أن ثوابها وعقابها لنا، كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (فصلت: الآية 46) . فالأفعال مخلوقة لله، لكنها بالنسبة للثواب والعقاب كسب لنا، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: الآية 286) وإذا كانت كسباً لنا فإنها تضاف إلينا حقيقة مباشرة، وتضاف إلى الله خلقاً وتقديراً، فهي مضافة لنا مباشرة وكسباً، وهي مضافة لله خلقاً وتقديراً، فلما انفكت الجهة أمكن الاجتماع، وإلا فقد يقول قائل: أليس من التناقض أن نضيف أفعال العباد إلى الله وإلى أنفسهم؟ فإننا إن أضفناها إلى الله لزم ألا نضيفها إلى العباد وإن أضفناها إلى المخلوقين لزم ألا نضيفها إلى الله. وقد ذهب إلى هذين الاحتمالين طائفتان: فالجبرية قالوا: نضيفها إلى الله، وإذا أضفناها إلى الله لا يمكن أن نضيفها إلى العباد. والقدرية قالوا: نضيفها إلى العباد وإذا أضفناها إلى العباد لا يمكن أن نضيفها إلى الله، ولهذا جعلوا فعل العبد منفصلاً عن الله عز وجل، لا يشاؤه ولا يخلقه، والجبرية بالعكس جعلوا فعل العبد منفصلاً عن العبد فهو مجبور عليه. ووجه الشبهة عندهم أنهم يقولون: لا يمكن أن نضيف فعلاً واحداً إلى فاعلين، فلا يمكن أن نضيف الفعل إلى الله وإلى الإنسان، لأنه فعل واحد لا يصدر من فاعلين. والجواب عن تلك الشبهة أن نقول: إن إضافة الفعل هنا مختلفة؛ ففعلنا مضاف إلى الله تقديرا وخلقا، ومضاف إلينا فعلا وكسبا. فنحن الذين باشرنا الفعل فإذا صلينا فليس الله هو المصلي، وإذا صُمنا فليس الله هو الصائم، وإذا تصدقنا فليس الله هو المتصدق، بل الصائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 والمصلي والمتصدق نحن، فنحن المباشرون، ونحن الذين لنا ثمرة هذا العمل من ثواب أو عقاب، أما الله فإنه عز وجل مقدر وخالق فقط، فلما انفكت الجهة صحت النسبة إلى الله والى الإنسان. فإذا قال قائل: ما الدليل على أن أفعالنا مخلوقة لله؟ قلنا: الأدلة في هذا كثيرة، قال الله تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: الآية 253) فقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يدل على أن اقتتالهم بمشيئة الله، ثم قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) إذاً ففعلهم منسوب إلى الله خلقا كما أنه منسوب إلى الله تعالى إرادة وتقديرا. وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) (الأنعام: الآية 112) فأضاف فعلهم إلى الله، وأنه واقع بمشيئته، وأما إضافته إلى العبد فهو كثير جدا، كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 277) فقوله: آمنوا وعملوا الصالحات، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، أضاف الفعل في ذلك كله إليهم. وقوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: الآية 286) ، وقال تعالى: (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَت) (النحل: الآية 111) فأضاف الله تعالى الأفعال والكسب إلى الفاعل المكتسب، وجعل ذلك بمشيئته وتقديره في قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وفي قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) وغير ذلك من الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فصح الآن أن أفعالنا منسوبة إلى الله خلقاً وتقديراً، والينا فعلاً وكسباً، ولهذا قال: (لكنها كسب لنا يا لاهي) ؛ يا لاهي، أي يا غافل، كأنه يشير رحمه الله إلى أنه يجب التفطن هنا والتنبه لئلا نقع في فخ المعتزلة أو فخ الجبرية؛ لأن المسالة خطيرة. ولما قيل لجبرية: إذا كان الله تعالى يجبر العبد والفعل فعل الله، فكيف يثاب العبد ويعاقب؟ فقالوا: إن الله يفعل ما يشاء؛ قد يثيب من لا يستحق الثواب، ويعاقب من لا يستحق العقاب، فقيل لهم: لو عاقب من لا يستحق العقاب لكان هذا ظلماً قالوا: ليس هذا بظلم، إنما الظلم: تصرف الغير في غير ملكه، وإذا تصرف إله في ملكه فليس بظلم؛ لو عاقب إنساناً يصلي ليلاً ونهاراً، ويقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق بالمال، فعاقبه حتى خلده في نار جهنم، قالوا: إن هذا ليس بظلم؛ لأن الظلم أن يتصرف المتصرف في غير ملكه، والكل ملك الله، فلا يسال عما يفعل وهم يسألون. والحقيقة أن هذا ظلم بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طه: 112) ، وقال الله عز وجل: (قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) (قّ: 28) (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (قّ: 29) إذ كيف يجوز أن يأمر الله شخصاً أن يفعل ثم بعدما يفعل يعاقبه؟ وهذا لو جرى من مخلوق مع مخلوق لعد ذلك ظلماً، فكيف إذا كان مع الخالق عز وجل الذي هو ارحم الراحمين واعدل الحاكمين؟ إذا هذا ظلم. والمعتزلة أقرب من الجبرية من وجه من جهة المعقول، حيث قالوا: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الإنسان يفعل ما يشاء؛ يروح ويغدو، ويجلس ويقوم، ولا يشعر أن أحداً يجبره، والجزاء على عمله مطابق تماماً، وهم من هذه الناحية أقرب من الجبرية لكن الجبرية من ناحية تقدير الله أقرب من هؤلاء. أما أهل السنة والحمد لله فقد اخذوا بهذا وهذا، وقالوا: هي تضاف إلى الله خلقاً وتقديراً، وإلينا مباشرة وكسباً. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وكل ما يفعله العباد) في بعض النسخ جاءت (كل) متصلة بـ (ما) ، هكذا: (كلما) ، وهذا غلط، لأن (كلما) أداة شرط تفيد التكرار، وأما (كل ما) فـ (كل) مضافة إلى اسم موصول، فالصواب ألا تكتب متصلة، وان تكتب (كل) وحدها و (ما) وحدها، والتقدير: وكل الذي يفعله العباد. يقول المؤلف رحمه الله: وكل ما يفعله العباد من طاعة أو ضدها مراد لربنا من غير ما اضطرا ... منه لنا فافهم ولا تمار ومعنى ذلك أن كل: ما يفعله العباد من الطاعة وضدها فهو مراد لله، أي واقع بإرادته الكونية، ثم إن كان طاعة فهو واقع بإرادته الكونية والشرعية، وإن كان غير طاعة فهو واقع بالإرادة الكونية دون الشرعية، فكل ما يفعله العباد فهو مراد لله، ودليل ذلك السمع والعقل. أما السمع: فمنه قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: الآية 253) ، فدل هذا على أن قتالهم كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بمشيئة الله، وبإرادته أيضاً. وأما العقل: فإننا نقول: إن فعل العبد فعل لمخلوق وهو مخلوق، فإذا كان مخلوقاً فهل خلق بإرادة الله أم خلق بغير إرادة منه؟ الجواب: بإرادة من الله، فما دام مخلوقاً فإن الله لا يجبر أحد على شيء، فلا يكون هذا الفعل إلا بإرادة الله عز وجل، وهذا دليل عقلي. وقد اختلف الناس في هذه المسالة: فالجبرية قالوا: بإرادة الله المجبرة؛ التي تجبر الإنسان على أن يفعل. والقدرية قالوا: ليس بإرادة الله إطلاقاً، والإنسان مستقل بعمله. وأهل السنة؛ قالوا: إنه بإرادة الله غر المجبرة؛ لأن الإنسان يفعل الفعل باختياره وليس مجبراً عليه، ولا فرق في هذا بين الطاعة والمعصية، فالطاعة التي تقع من العبد بإرادة الله، والمعصية التي تقع من العبد بإرادة الله. لأن اقتتال الكفار والمؤمنين - الذي سبق أن بينا أنه بمقتضى الآية الكريمة واقع بإرادة الله - فيه شيء حلال بل واجب، وفيه شيء حرام؛ فقتال المؤمنين للكفار هذا واجب، وقتال الكفار للمؤمنين هذا حرام، ومع ذلك أخبر الله عز وجل بأن ذلك وقع بمشيئته، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) (البقرة: الآية 253) إذاً فالله مريد للمعصية كما أنه مريد للطاعة. فإن قال قائل كيف يكون الله مريداً للمعصية؟ أليست المعصية شراً؟! فالجواب: بلى هو شر، لكن الله تعالى قد يريد هذا الشر لمصلحة عظيمة، وبكونه لمصلحة ينتفي عنه أن يكون شراً محضاً، فالشر المحض ليس إلى الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ولا يمكن أن يريده الله، لكن هذه المعصية هي بنفسها شر، لكن بما تودي إليه تكون خيراً فليست شراً محضاً؛ لأن المعصية فساد، والله لا يحب الفساد، ولا يريد الفساد المحض، فمن الخير في المعاصي: أولاً: أن الله تعالى يقدرها يتبين بذلك فضل الطاعة؛ لأنه لولا تقدير المعصية لما عرف فضل الطاعة؛ فإذا حصلت المعصية وحصل من نتائجها ما يحصل من العقوبات العامة والخاصة والظاهرة والباطنة، عرف بذلك قدر الطاعة، وأن الطاعة خير. ثانياً: يعرف بها تمام قدرة الله وحكمته، حيث أراد الطاعة التي فيها الخير، وأراد المعصية؛ فإن هذا من الحكم التي يتبين بها قدرة الله عز وجل على الجمع بين النقيضين بين الطاعة والمعصية. ثالثاً: قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لولا المعصية لما كان هناك منكر يحتاج إلى النهي عنه، ولم يعرف المعروف حتى يؤمر به. رابعاً: إقامة الجهاد، فإذا كانت المعصية كفراً فإن المسلمين يجب عليهم مجاهدة الكفار حتى تكون كلمة الله هي العليا، إما بإسلامهم وإما بإخضاعهم لأحكام الإسلام وبذل الجزية. خامساً: أن المعصية يكون فيها أحياناً خير للعاصي، وذلك أنه ينتبه إذا رأى آثارها، فيقلع عن المعصية، ويزداد عملاً صالحاً، ويكون عبد المعصية خيراً منه قبلها. إذاً فالمعاصي مرادة لله عز وجل من أجل ما يترتب عليها من المصالح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 لا لذاتها، لأن ذاتها شر، لكن الله يريدها لأنه يترتب عليها خير كثير، كما لو أراد الأب الحنون أن يكوي ابنه من مرض ألم به، فالكي شر، لكن لما يترتب عليه من المصالح يكون مراداً للأب، ولهذا لو أراد أحد أن يكوي ابنه بدون سبب لمنعه بقدر ما يستطيع. وكان بعض المعتزلة يقول: إن الله يريد الطاعة لأنها خير، ولا يريد المعصية لأنها شر، والله تعالى لا يحب الشر ولا يحب الفساد، فقال معتزلي ذات يوم عند رجل من أهل السنة: (سبحان من تنزه عن الفحشاء) وهذا الكلام طيب لأن الله لا يفعل الفحشاء، وحاشاه، ولكن هذه الكلمة إذا سمعها العامي فإنه يظن أن قائلها قد قدس ربه ونزهه عما لا يليق، ولكن هذه الكلمة ظاهرها رحمة وباطنها عذاب، فالله عز وجل تنزه عن الأمر بالفحشاء: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (الأعراف: الآية 28) ولم يقل: قل إن الله لا يقدر الفحشاء، وفرق بين الأمر بالفحشاء وبين تقدير الفحشاء. المهم أنه لما قال: ((سبحان من تنزه عن الفحشاء)) ، قال له السني: ((سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء)) . ولا يخفى أن الكلمة الثانية هي الأصح؛ لأن العاصي مملوك لله، ومعصيته داخلة في ملك الله، فلا يمكن أن تكون معصية في ملكه ولم يشأها الله، فإن قلنا: بذلك فقد حكمنا بأنه يكون في ملك الله ما لا يشاء. فقال له المعتزلي: ((أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلى أم أساء؟)) وقوله: إن منعني الهدى؛ يعني جعلني كافراً، وهو بقوله هذا يريد أن يلزم السني، حيث إنه كان يرى أنه لو قال: إن الكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 بإرادة الله فقد أساء إليه، والله عز وجل لا يسيء إلى أحد. فقال له السني: ((إن منعك ما أنت عليه فقد أساء، وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)) . وهذا جواب سديد، فالهداية فضل من الله؛ وإن منعك فإنه لم يمنع حقاً واجباً عليه لك، فقطع المعتزلي وبهت وعجز عن الجواب، وهذا هو الحق، فكل ما في الكون من طاعة أو ضدها فهو مراد لله. وقول المؤلف: (أو ضدها) يعني المعصية، فالمعصية مرادة لله، لكنها مرادة لله تعالى قدراً لا شرعاً، وأما الطاعة فمرادة شرعا وقدرا إذا وقعت من العبد. فمثلاً إذا قام رجل فتوضأ وصلى، فإن هذا الوضوء وهذه الصلاة مرادة لله شرعاً وقدراً؛ أما كونها مرادة شرعاً فلأنها محبوبة إلى الله، وأما كونها مرادة قدراً فلأنها وقعت. ومثال آخر: إذا سرق رجل فهذه معصية، وهي مرادة لله لكنها مرادة قدراً لا شرعاً. ومن ثم نقول: إن إرادة الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: الأول: إرادة شرعية: وهي التي تكون بمعنى المحبة، فكل شيء محبوب إلى الله فهو مراد له شرعاً، والإرادة الشرعية قد يقع فيها المراد وقد لا يقع، فالله سبحانه وتعالى يريد الصلاة شرعاً، لكن قد يصلي الإنسان وقد لا يصلي، مع أن الله قد أراد الصلاة شرعاً. الثاني: إرادة كونية: وهي التي تكون بمعنى المشيئة، فكل شيء واقع فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 مراد له كونا، لأنه لم يقع إلا بمشيئته، والإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، فإذا أراد الله تعالى شيئاً كوناً وجب، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس: 82) كما أن الإرادة الكونية لا تختص بما يحبه الله، بل تكون فيما يحبه الله وفي غير ما يحبه، حتى زنا الزاني فإن الله تعالى أراده كوناً، فكل شيء واقع فإننا نعلم أنه قد تعلقت به الإرادة الكونية. إذاً فالفرق بينهما أن الإرادة الشرعية بمعنى المحبة، يعني تختص بما يحبه الله ولا يلزم فيها وقوع المراد؛ والإرادة الكونية على العكس؛ يلزم فيها وقوع المراد، ولا تختص بما يحبه الله، بل تكون فيما يحبه وفيما يكرهه. ولنضرب لهذا أمثلة: " أولاً: إيمان أبي بكر رضي الله عنه من الإرادة الشرعية والكونية، وذلك لأنه تم بإرادة الله سبحانه وتعالى، فكونه وقع وتم فقد أراده الله إرادة كونية، وكونه محبوباً إلى الله فقد أراده إرادة شرعية. وأما كفر أبي لهب فهو مراد بالإرادة الكونية لأنه واقع، ووقوعه يدل على أنه مراد كوناً، وهو ليس مراد شرعاً؛ لأنه غير محبوب لله، فكل شيء يقع في الكون وهو غير محبوب إلى الله فهو مراد كوناً لا شرعاً. وعلى ذلك فإيمان أبي لهب مراد شرعاً وغير مراد كوناً؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد من أبي لهب أن يؤمن، وتلك إرادة شرعية، لكنه لم يرد ذلك كوناً؛ لأنه لو أراد كوناً أن يؤمن لآمن. أما كفر أبي سفيان ففيه تفصيل؛ فكفر أبي سفيان حال كفره مراد كوناً لا شرعاً، وكفره بعد إسلامه غير مراد لا شرعاً ولا كوناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ثانياً: قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (الأنعام: الآية 125) فهاتان الإرادتان كونيتان، لأن من يشأ الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام؛ وليس المعنى: من يحب الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام؛ لأن الله يحب أن يهدي كل أحد، ويلزم من هذا أن يشرح صدر كل أحد، إذاً الإرادة في الآية كونية في الجملة الأولى والثانية. ثالثاً: قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (النساء: الآية 26) هذه إرادة شرعية كونية لأن الله يحبها ووقعت؛ شرعية لأن الله يحب البيان، وكونية لأنها وقعت، والبيان كوني شرعي، وهداية سنن الذين من قبلنا شرعية لأن من الناس من لم يهتد. رابعاً: قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (النساء: الآية 27) هذه إرادة شرعية، لأن الله يحب أن يتوب على الجميع، لكن هذا شيء يرجع إلى مشيئته، فهي شرعية لأنها لو كانت كونية لتاب الله على كل الناس. خامساً: قول هود: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) (هود: الآية 34) هذه إرادة كونية، لأن الله سبحانه وتعالى لا يحب الإغواء. إذاً الإرادة الكونية شاملة لما يحبه الله وما لا يحبه، ثم لابد فيها من وقوع المراد، أما الإرادة الشرعية فهي بخلاف ذلك، فهي تختص بما يحبه الله، ولا يلزم منها وقوع المراد. ثم قال المؤلف رحمه الله: (من طاعة أو ضدها مراد) ، وهنا يرد إشكال حيث قد يقول قائل: إذا قلتم إن الله يريد المعاصي بالإرادة الكونية ولكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 يكرهها بالإرادة الشرعية. فكيف يكون في ملكه ما يكرهه؟ وهل الله مجبر؟ فالجواب: إن الله ليس بمجبر ولا شك، وكذلك لا يكون في ملكه ما يكرهه كراهة مطلقة، لكن يكون في ملكه ما يكرهه كراهة إضافية؛ فيكرهه من وجه ويحبه من وجه آخر، فالمعاصي مكروهة لله لا شك، كما قال الله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (الإسراء: 38) لكنه قد يريدها كوناً مع كراهته لها شرعاً لحكمة بالغة، فإن وجود المعاصي في بني آدم له حكمة عظيمة، منها ما ذكرناه سابقا (1) ؛ فإن المعاصي يتبين بها فضل الطاعات، وهناك فوائد ذكرناها أيضاً، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والصبر، وغير ذلك. فصار الجواب على هذا أن نقول: إن الله تعالى يريد المعاصي مع كراهته لها لحكمة بالغة، كما أن الإنسان يأخذ بإبنه الذي هو من أحب الناس إليه ويكويه بالنار وهو يكره أن يكويه لأنها تؤلمه، لكن يفعل ذلك لما يترتب عليه من المصالح. قال المؤلف: (مراد لربنا) ، وأتى بقوله (لربنا) لأن من مقتضى ربوبيته أن يكون كل شيء مراداً له. وقوله: (من غير ما اضطرار منه لنا) ((ما)) زائدة لتوكيد النفي، يعني: من غير أن يضطرنا نحن إلى ما نفعله. ويريد بذلك الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبر على عمله، فالمؤلف رحمه الله يقول: إنه يريد   (1) ص 330 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 منا ذلك لكن لم يضطرنا إلى هذا، فنحن نفعل الطاعات باختيارنا، ولا نشعر بأن أحداً يجبرنا عليها، ونفعل المعاصي كذلك باختيارنا، ولا نشعر أن أحداً يجبرنا عليها. والدليل على أن فعل الإنسان صادر عن إرادة منه - سمعي وواقعي: أما الدليل السمعي: فالآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة) (آل عمران: الآية 152) وقوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) (البقرة: الآية 272) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) (1) والأدلة أكثر من أن تحصر بأن فعل العبد صادر باختياره، لكن هذا الاختيار تابع لمشيئة الله، لقوله تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: الآية 30) . أما الدليل الواقعي: فإن كل إنسان يفعل الأفعال وهو لا يشعر أن أحداً يجبره عليها، فيحضر إلى الدرس باختياره، ويغيب عن الدرس باختياره، ولهذا إذا وقع الفعل من غير اختيار لم ينسب إلى العبد، بل يرفع عنه إثمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) (2) . ولم ينسب الله عز وجل تقلب أصحاب الكهف إلى أنفسهم بل نسبه إليه، فقال: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) (الكهف: الآية 18) ولم يقل يتقلبون، لأنه ليس منهم إرادة، فالنائم لا إرادة له، ولهذا لا يقع طلاقه لو طلق؛ فلو فرضنا أن أحداً كلم زوجته في النوم، وقال: يا فلانة، أنت طالق   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم (1) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال ... ، رقم (1907) (2) رواه الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن يجب عليه الحد، رقم (1423) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ثلاثاً بتاتاً، ثم أصبح فإن طلاقه لا يقع؛ لأن النائم لا ينسب فعله إليه، لأنه وقع بغير إرادة. وهذه قاعدة مطردة؛ فلو طلق السكران - وهو لا يعي ما يقول - فإن طلاقه لا يقع، ولو طلق الغضبان غضباً شديداً لا يملك نفسه فإن طلاقه لا يقع؛ لأنه بغير إرادة. فإذا كان الشيء بغير إرادة فلا حكم له شرعاً، فتبين بهذا أن وقوع الشيء بإرادة منا ثابت بالقرآن والواقع. ثم قال المؤلف رحمه الله: (فافهم ولا تماري) ، لا تمار: أي لا تجادل؛ لأن المراء بغير حق، من أجل أن ينتصر الإنسان، هذا مراء محرم؛ لأنه يجادل بالباطل ليدحض به الحق، أما الذي يماري لثبات الحق فإن ذلك من الجدال المأمور به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 65- وجاز للمولى يعذب الورى ... من غير ما ذنب ولا جرم جرى 66- فكل ما منه تعالى يجمل ... لأنه عن فعله لا يسأل 67- فإن يثب فإنه من فضله ... وإن يعذب فبمحض عدله 68- فلم يجب عليه فعل الأصلح ... ولا الصلاح ويح من لم يفلح   الشرح قوله: (وجاز للمولى يعذب الورى) هذه الجملة فيها إشكال من جهة اللغة العربية، وهي أن (يعذب) قائمة مقام الفاعل، أي جاز للمولى تعذيب، معان الحرف المصدري محذوف منها، فهل يعتبر هذا شاذاً؟ الجواب: لا، فالشذوذ أن يحذف الحرف المصدري وينصب الفعل بعده، فيقال: وجاز للمولى يعذب، فهذا هو الشاذ، ومنه قولهم ((تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فقالوا: تسمع، والتقدير أن تسمع، فالشذوذ هنا كون ((أن)) تنصب وهي محذوفة، أما أن يرفع الفعل - ولكنه يحل محل المصدر - فهذا لا باس به، وهو جائز وسائغ في اللغة العربية وكثير، ومنه قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) (الروم: الآية 24) أي أراءتكم، فهنا يؤول الفعل بالمصدر وإن لم يوجد به الحرف المصدري، ولا بأس بذلك ما دام حرف المصدر لم يعمل مع الحذف. وسبك المصدر بدون حرف المصدر كثير، ومنه قوله تعالى أيضاً: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 6) أي سواء عليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 إنذارهم أم عدمه. فكلام المؤلف (وجاء للمولى يعذبُ الورى)) هذا غير شاذ، أما لو قيل (وجاء للمولى يعذبَ الورى) فهذا شاذ؛ لأننا إذا قلنا ((يعذبَ)) أعملنا حرف المصدر مع حذفه، وإذا قلنا ((يعذبُ)) لم نعمله بل ولا نقدره أيضاً. قوله: (وجاز للمولى) وهو الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى مولى كل أحد بالمعنى العام، ومولى المؤمنين بالمعنى الخاص، قال الله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد: 11) فهذه هي الولاية الخاصة، وقال الله عز وجل: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: الآية 61) (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) (الأنعام: الآية 62) قال: مولاهم الحق - وهم كفار، وهذه هي الولاية العامة، وهنا في قول المؤلف (وجاز للمولى) فالولاية هنا من الولاية العامة التي يكون الله فيها مولى لكل أحد. وقوله رحمه الله: (وجاز للمولى يعذبَ الورى) الورى: أي الخلق، وقوله (من غير ما ذنب) أي من غير ذنب، فـ (ما) هنا زائدة، (ولا جرم جرى) يعني ولا إجرام، أي أن الله يجوز أن يعذب الناس دون ذنب؛ بترك واجب، أو إجرام بفعل محرم. فإذا قدرنا أن هناك رجلاً مؤمناً، تقياً، يقوم الليل والنهار في طاعة الله ومات على ذلك فإن الله يجوز أن يعذبه ويخلده في النار ولكن كيف ذلك؟ قال المؤلف رحمه الله: فكل ما منه تعالى يجمل لأنه عن فعله لا يسأل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فعلل ذلك بتعليلين: التعليل الأول: أن كل شيء من الله فهو جميل. التعليل الثاني: أن الله لا يسأل عن فعله، كما قال الله تعالى: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء: 23)) . ولكن هذا القول والتعليل لهذا القول كلهما باطل ولا نقول: ضعيف بل نقول: إنه باطل؛ لأنه مخالف للنص الصريح في كتاب الله، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117) وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طه: 112) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (يونس: الآية 44) وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ((فصلت: 46)) والآيات في هذا المعنى كثيرة. فإذا قلنا: إن من آمن واتقى ومات على ذلك جاز أن يعذبه الله صار هذا القول مخالفاً لنص القرآن. ثم، هذا الفعل غير جميل، والله سبحانه وتعالى لا يفعل إلا الجميل، وفي الحديث القدسي الصحيح أن الله تعالى قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) (1) ثم إن تعذيب المطيع القائم بأمر الله ليلاً ونهاراً حتى مات، لا أحد يشك في أنه ظلم وأنه غير جميل. إذا سقط التعليل الأول في قوله: (فكل ما منه تعالى يجمل) ، فإن عقوبة المطيع ليست جميلة، فلا يصدق عليها   (1) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 هذا التعليل. أما التعليل الثاني في قوله: (لأنه عن فعله لا يسأل) فهذا صحيح، فالله تعالى لا يسأل عما يفعل، فلا يسأل لماذا هدي هذا الرجل حتى استقام ولماذا أضل الآخر حتى انحرف، فلا يسأل عن هذا؛ لأن الله له الحكمة فيما قدر، لكن بعد أن يوجد السبب المقتضي للثواب أو العقاب، فلو أن الله عاقبه لكان هناك سؤال عن سبب معاقبة الله لهذا الرجل، ولهذا أيضاً يسقط هذا التعليل، ويحمل - إذا أردنا أن نجعله صحيحاً - على أنه لا يسأل عن فعله في إيجاد الأسباب المقتضية للعذاب أو للثواب. فإذا قال قائل: أليس الخلق كله ملكاً لله؟ وإذا كان ملكاً له أفلا يمكن أن يقال: إن له أن يفعل في ملكه ما شاء؟ فالجواب: بلى، ولكن نقول: هو نفسه عز وجل أخبر بأنه لا يمكن أن يظلم أحداً، ولا يمكن أن يعذب طائعاً، فيكون هذا الشيء - أي تعذيب المطيع - ممتنعاً بمقتضى خبر الله عز وجل، وبمقتضى أسمائه وصفاته، وأنه عز وجل احكم الحاكمين واعدل العادلين. فحينئذٍ يكون ممتنعاً لأخبار الله بأنه لا يظلم أحداً، وأن (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (فصلت: الآية 46) : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7) إلى غير ذلك من الآيات، فهو ممتنع لهذا الوعيد، وإلا فمن المعلوم أن الله يفعل في خلقه ما يشاء، لكن هو نفسه سبحانه وتعالى حرم على نفسه الظلم وأوجب على نفسه أن يثيب المطيع، قال الله عز وجل: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإنَّهُ غَفُورٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 رَحِيمٌ) (الأنعام: الآية 54) . وبناء على ذلك صار قول المؤلف رحمه الله: وجاز للمولى يعذب الورى من غير ما ذنب ولا جرم جرى قولاً باطلاً مخالفاً للكتاب والسنة، ومخالفاً لما تقتضيه أسماء الله وصفاته، وأما التعليلان المذكوران فهما أيضاً غير صحيحين بالنسبة لهذه المسالة؛ لأنه إذا قال: كل فعل من أفعال الله فهو جميل، قلنا: لا جميل في تعذيب المطيع، وإذا قال: لأنه عن فعله لا يسأل، قلنا: هذا في منع السبب المقتضي للثواب أو العقاب، فإذا هدى شخصاً وأضل شخصاً فإنه لا يسأل، لكن إذا وجد الضلال أو الهدى فإنه لابد أن يترتب عليهما مقتضاهما من ثواب في الهدى، وعقاب في الضلال. ثم قال المؤلف رحمه الله: فإن يثب فإنه من فضله وإن يعذب فبمحض عدله (إن يثب) يعني إن يثب المطيع فإنه من فضله، وهذا صحيح؛ فهو سبحانه إذا أثاب المطيع فإن ذلك فضله، ولكن هذا الفضل أوجبه الله على نفسه، وإذا كان الله أوجبه على نفسه فلا يمكن أن يتخلف هذا الموجب، ولهذا فإن قول المؤلف: (فإن يثب فإنه من فضله) حق وصدق، فإن الله إن يثب فهو من فضله، بل إن الله عز وجل يثيب على العمل أكثر من العمل، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فعشر الأمثال ثابتة وما زاد فهو نافلة وهو فضل الله عز وجل. ونحن نسلم بهذا ولكننا نقول: هذا الفضل كان واجباً على الله بإيجابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 إياه هو على نفسه سبحانه وتعالى، فهو الذي أوجب على نفسه أن يثيب المطيع، وإذا كان لكرمه عز وجل أوجب على نفسه أن يثيب المطيع فإن هذا الإيجاب لن يتخلف، لأنه لو تخلف - وحاشاه من ذلك - لكان مخلفاً للميعاد، والله عز وجل لا يخلف الميعاد، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (فصلت: الآية 46) ، وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7)) فلابد أن يوجد هذا الذي وعد الله به. ثم إن الله يثبت فإنه من فضله، سواء أثاب المطيع على عمله بالطاعة، أو عفا عن المجرم، فإن عفوه عن المجرم يعتبر إثابة؛ لأن ترك العقوبة إحسان، وإذا عفا عن المجرم فهو بفضله، والعفو عن المجرم محتمل إلا إذا كان الإجرام شركاً، ودليله قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48) . وقوله: (وإن يعذب فبمحض عدله) وهذا صحيح؛ لأن الله إذا عذب فبعدله، لكن متى يكون العذاب عدلاً؟ نقول: إذا وجد سببه صار عدلاً، أما إذا لم يوجد فإنه يكون ظلماً. وظاهر كلام المؤلف: (أن يعذب) مطلقاً، لقوله: (وجاز للمولى يعذب الورى) ولكننا نقول: إن هذا الظاهر إن كان مراداً للمؤلف فهو غير صحيح وإن أراد بقوله (إن يعذب) على الإساءة فهذا صحيح، فإنه إن يعذب على الإساءة فبمحض العدل، لأنه لا يعذب على الإساءة إلا بمثل السيئة، قال تعالى: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام: الآية 160) يعني لو جزي بأكثر لكان ظلماً ولكنهم لا يظلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وانظر إلى تمام العدل وتمام الفضل أن السيئة بمثلها لا تزيد، والحسنة بعشر أمثالها، والعدل أن تكون الحسنة بمثلها، أو السيئة بعشر أمثالها، لكن ليتبين فضل الله صارت الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، ومع ذلك فإن هذه السيئة قابلة للمغفرة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48) أما ثواب الحسنة فهو غير قابل للإسقاط، فإن لم يزد لم ينقص، وهذا أيضاً يظهر به تمام فضل الله عز وجل؛ حيث إن السيئة بسيئة قابلة للعفو، والحسنة بعشر أمثالها غير قابلة للنقص، بل هي باقية، وما زاد على العشر يمكن أن يكون إلى سبعمائة ضعف، بل إلى أضعاف كثيرة. إذا قوله: (إن يعذب فبمحض عدله) قول صحيح إن أراد به من أساء، أما إن أراد به - حتى من أحسن - فليس بصحيح؛ لأنه لو عذب المحسن لكان هذا ظلماً، والله عز وجل منزه عن الظلم. وقول المؤلف: (إن يعذب فبمحض عدله) أراد بذلك الاحتجاج لقوله، وفي الحقيقة أنه حجة عليه؛ لأننا نقول: التعذيب يكون عدلاً إذا وجد سببه وإذا لم يوجد سببه فليس بعدل وقد يرد إشكال بناء على ذلك في فهم الحديث: ((إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) (1) ، فكيف نجيب على هذا الحديث؟ والجواب عنه يكون من أوجه: أولاً: ينظر في صحة الحديث.   (1) رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم (4699) ، وابن ماجه في المقدمة، باب في القدر، رقم (77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ثانياً: فإذا صح كان المعنى أن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لكان تعذيبه إياهم في غير ظلم، أي لكان تعذيبه إياهم بسبب منهم وهو المعصية. ثالثاً: لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وذلك بأن يقابل إحسانه بإحسانهم، فإنه إذا قابل إحسانه بإحسانهم صار إحسانهم ليس بشيء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يدخل أحد الجنة بعمله) (1) أي من باب المقابلة، لأن الله لو حاسبنا على وجه المناقشة لكان فعلنا للخيرات دَيناً علينا، لأنه هو الذي منَّ علينا بذلك، وحينئذٍ لو عذبنا في هذه الحال أو من هذا الوجه لعذبنا وهو غير ظالم، هذا إذا صح الحديث، وعلى ذلك فلا يكون في هذا إشكال. ثم قال المؤلف رحمه الله: فلم يجب عليه فعل الأصلح ... ولا الصلاح ويح من لم يفلح يعني بذلك أنه لا يجب على الله أن يفعل الأصلح، ولا يجيب عليه أن يفعل الصلاح. وهنا خمسة أقسام: الأصلح، والصلاح، والأسوأ، والسيئ، وما لا صلاح فيه ولا سوء، فالأصلح أعلى من الصلاح، والأسوأ أدنى من السيئ، وما لا صلاح فيه ولا سوء فهو مستوي الطرفين. ولله عز وجل أن يفعل ما شاء، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج: الآية 18) ، لكن ما كان من مقتضى حكمته وكماله فلابد أن يكون، وما خالف مقتضى الحكمة والكمال فإنه مستحيل، فمثلاً تعذيب المطيع هذا مستحيل؛ لأن مقتضى الحكمة أن يثاب المحسن على إحسانه، لأنه لو عذب   (1) رواه مسلم، كتاب صفة القيامة، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله ... ، بدون رقم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 المحسن لكان فيه إخلاف لوعده والله عز وجل لا يخلف الميعاد؛ لأنه ليس عاجزاً وليس كاذباً سبحانه وتعالى، بل هو الصادق القادر فلا يخلف الميعاد. إذاً هذا الذي عمل صالحاً يجازيه الله تعالى بالأصلح وجوباً بمقتضى الحكمة والكمال؛ لأنه عز وجل وعد بأنه يثيب الطائع، فيجب عليه ليس بإيجابنا بل بإيجابه هو على نفسه. فمثلاً لو قال قائل: هل الجدب الذي يصيب الناس صلاح؟ في الحقيقة أنه غير صلاح، والله تعالى يقول: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (الروم: الآية 41) ومنه الجدب، وهو غير صلاح في حد ذاته، لكنه صلاح لغيره، بدليل (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: الآية 41) . ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله؛ هل يجب على الله فعل الأصلح أو لا يجب؟ وهل يجب عليه فعل الصلاح أو لا يجب؟ ونحن نقول إنه يمتنع عليه عز وجل فعل الأسوأ وفعل السيئ لأن هذا نقص والله سبحانه منزه عن النقص، وكذلك فعل ما ليس فيه صلاح ولا سوء فهو أيضاً منزه عنه؛ لأن مثل هذا الفعل سفه ولعب، والله تعالى منزه عن ذلك، وبذلك يبقى عندنا الصلاح والأصلح. ولكن ما ميزان الصلاح والأصلح؟ إن كان عقولنا؛ فربما نتوهم أن الله تعالى فعل الأسوأ أو السيئ، وإن كان الميزان الواقع فإنه عز وجل لا يفعل إلا الصلاح أو الأصلح، بل مقتضى الكمال أنه إذا كان صلاح وأصلح فإنه يفعل الأصلح. فإن قال قائل: إذا قلنا: إنه يجب عليه فعل الأصلح أو الصلاح، ورد علينا خلق إبليس، وأنه لو سلم الناس من إبليس لكانوا في خير وكان أصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 لهم، والله تعالى قد خلقه؟ فالجواب على هذا الإشكال أن نقول: إن خلق إبليس لا شك أنه شر، لكن وجود شر يصارع بخير هذا أصلح، لأن الناس لو كانوا على طريقة واحدة وليس هناك ما يضلهم لم يتبين الصادق من غير الصادق؛ لأنه ليس هناك سبيل إلى أن يكون الإنسان فاجراً. فلو لم يوجد إبليس ولا نفس أمارة بالسوء ما كان هناك طريق يمكن أن يسلكه الإنسان فيكون فاجراً حتى يعرف حسن نيته من سوء نيته، فالحكمة إذاً أن يخلق إبليس، بل والأصلح أن يخلق إبليس؛ لأنه لا يمكن امتحان العبد ومعرفة كونه عبداً خالصاً لله أو عابداً لهواه إلا بوجود إبليس والشر والنفس الإمارة بالسوء، إذاً هذا ليس صلاحاً في نفسه ولا أصلح في نفسه ولكن لغيره. وكذلك الجدب - وهو متعلق بالكون - فإنه ولا شك فساد للناس، وتعطل مصالح، وهلاك مواش، وربما هلاك أنفس أيضاً، والله عز وجل يقدر الجدب. فإذا قال قائل: كيف يستقيم هذا مع قولنا: إن الله لا يفعل إلا الأصلح أو الصلاح؟ ويجاب على ذلك بأن هذا سيئ من وجه وصالح من وجه، فالجدب مثلاً سيئ، لكن الله يقدره لأمر أعظم وأنفع للعباد من الخصب، فالله تعالى يقول: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ((الروم: 41)) فهذا صلاح لغيره، والله بين الحكمة منه فقال (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ولو بقي الناس قد بسط لهم الرزق لكان الأمر كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى: 27) ومعلوم أن بقاء الناس على فسوقهم وعتوهم وضلالهم مفسدة عظيمة أعظم من مفسدة الجدب، فإذا جاءت مفسدة الجدب من أجل استقامة الناس على دين الله صار وجود الجدب صلاحاً عظيماً. ونضرب مثلاً لذلك بإنسان أراد أن يعطي شخصاً ألف درهم، لكن يعلم أنه لو أعطاه ألف درهم لذهب يشتري بها أشياء لا تنفع ويتمرد بها، لكن لو أعطاه كل يوم درهماً أو منعه في بعض الأيام لكان ذلك صلاحاً أو أصلح له. لأنه في هذه الحال - التي لا يعطيه فيها إلا درهماً وربما منعه في بعض الأحيان -، إصلاحه للمعطى أحسن من إصلاح الحال الأولى التي يعطيه فيها ألف درهم ويذهب ينفقها في أشياء ليس فيها نفع أو في أشياء فيها ضرر. أرأيت لو كان عندك صبي مريض بمرض يشفى منه بالكي، فأنت تكويه رغم أن الكي إساءة، رجاء مصلحة أعظم؛ لأن الكي لا يقتله لكن المرض الذي أصابه ربما يقتله، ولا أظن أن أحداً من الناس يقول: إنك أسأت التصرف؛ بل يقولون: أحسنت التصرف، أما لو كويته من أجل أنك رأيته يلعب في السوق، فإن هذا لا يجوز، لأنه لا يعذب بالنار، ثم إن النار هنا ليست هي السبب في صلاحه، فقد يكوى ولا ينتهي، ولهذا جاز الكي للاستشفاء من المرض، ولم يجز الكي من أجل تأديب الصبي ليصلي أو لئلا يلعب في السوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وقوله: (فلم يجب عليه فعل الأصلح ولا الصلاح) ، أي: إذا كان هناك فعل فيه صلاح، وفعل فيه أصلح، وفعل ليس فيه صلاح ولا أصلح، وفعل فيه سوء، وفعل فيه أسوا، فهذه خمسة أقسام، وفعل الله عز وجل - وحاشاه من ذلك سبحانه وتعالى - الأسوأ، فإن ذلك في نظر المؤلف رحمه الله جائز على الله. ولكن كلام المؤلف هذا أيضاً فيه نظر ظاهر؛ لأن فعل الأسوأ مع إمكان الصلاح منافٍ للحكمة، لكن قد يخطئ الإنسان في الفهم فيظن أن الأصلح خلاف كذا، ولكن الأمر خلاف ما ظن، فيظن في هذه الحال أن الله فعل الأسوأ وليس كذلك، لكن لو كان الأسوأ حقيقة وتقديرا وتصورا فإننا نقول: إن الله لا يمكن أن يفعله؛ لأنه مناف للحكمة، والله سبحانه وتعالى حكيم لا يمكن أن يفعل إلا ما فيه الخير إما بذاته وإما بغيره. والحاصل أن هذه المسالة فيها نزاع طويل بين أهل السنة وأهل الاعتزال، فالمعتزلة يرون أن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح والصلاح، وأهل السنة يقولون: لا يجب، والصحيح التفصيل وأن نقول: إن الله تعالى يفعل ما كان من مقتضى كماله، ولكن الميزان في الأصلح والصلاح هو الواقع الذي يتبين به أن هذا الفعل الذي أجراه الله عز وجل هو الأصلح. قال تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (الأنعام: الآية 65) ، فكل هذه في ظاهرها مفاسد ومساوئ، فالعذاب من فوقنا حاصب من السماء أو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 تحت أرجلنا: كالزلازل والبراكين: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) يعني القتال والنزاع فيما بينكم، وكل هذه في ظاهرها سيئة، ولكن فيها مصلحة عظيمة، وهي أن نتوب إلى الله ونرجع إليه حتى نتقي هذه العقوبات. والنبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) ، قال: ((أعوذ بوجهك)) ، وفي الثانية: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ٍ) ، قال: ((أعوذ بوجهك)) ، وفي الثالثة: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض) ، قال: ((هذه أهون، أو هذا أيسر) (1) ولهذا وقعت - في الأمة - الثالثة، أما الأولى والثانية فلم تقع في الأمة على سبيل العموم، وربما يوجد في أجزاء من الأرض زلزال أو ما أشبه ذلك، ولكنها ليست عامة. وبذلك يكون المؤلف رحمه الله قد وافق أهل السنة من جهة، وخالف المعتزلة من جهة أخرى، فالمعتزلة يقولون: إنه يجب على الله فعل الأصلح بجانب الصلاح وفعل الصلاح بجانب الفساد، ولكننا قلنا: إنه إن كان المراد بالصلاح، والفساد، والأصلح ما يناط بالعقل فقول المعتزلة خطأ، وذلك لأن عقولنا تقتصر عن إدراك الصلاح والفساد، فقد نظن هذا الشيء فسادا ويكون صلاحا، وقد نظنه صلاحا ويكون فساداً. وإن أرادوا بالأصلح ما تقتضيه حكمة الله عز وجل - وإن كان بالنسبة لنا سيئاً - فإن هذا هو ما تقتضيه حكمة الله عز وجل؛ لأن الله لا يفعل شيئاً يكون فساداً، والله عز وجل يقول: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة: الآية 205) ، ولكننا   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله ((قل هو القادر على أن يبعث عليكم) ، رقم (4628) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 نحن قد نظن هذا الشيء فساداً وهو صلاح. فخلق إبليس مثلاً، يقول أهل السنة للمعتزلة: إنه فساد وشر، وهو ينقض عليكم قولكم: إنه يجب على الله فعل الأصلح؛ لأن المعتزلة يقولون: يجب على الله فعل الأصلح، وأهل السنة - كما قال المؤلف رحمه الله - يقولون: لا يجب، لكن سبق أن الصواب التفصيل في ذلك وهو أن يقال: إن خلق إبليس شر من وجه وخير من وجه آخر، فلولا خلق إبليس ما وجد الكفر ولا الفسوق والعصيان، ووجود الكفر والفسوق والعصيان هو مقتضى حكمة الله عز وجل الذي به تتم كلمته ويصدق وعده. قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118) (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَئنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود: 119)) ، فلو كان الناس كلهم على الصلاح فلن تتم كلمة الله بملء النار. إذا فوجود إبليس - وإن كان فيه الشر والفساد - ففيه مصلحة؛ لأن ذلك مقتضى الحكمة الذي يتم به غايات حميدة أرادها الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قال المؤلف رحمه الله تعالى: 69- فكل من شاء هداه يهتدي ... وإن يرد إضلال عبد يعتدي   الشرح هذا البيت ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) (1) ، ولكن سبب الهداية وسبب الإضلال يكون من العبد، لأن الله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد: 17) . فإذا علم الله من العبد أن نيته الهدى وطلبه الهدى هداه، وإذا زاغ القلب أزاغه الله، كما قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: الآية 5) ، وقال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (المائدة: الآية 13) . فسبب الهداية والإضلال من العبد، فإذا علم الله من هذا العبد أنه أهل للهداية هداه، كما أنه إذا علم أن هذا العبد أهل للرسالة أرسله، وذلك قبل ختم النبوة، قال الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: الآية 124) .   (1) رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 70- والرزق ما ينفع من حلال ... أو ضده فحل عن المحال 71- لأنه رازق كل الخلق ... وليس مخلوق بغير رزق 72- ومن يمت بقتله من البشر ... أو غيره فبالقضاء والقدر 73- ولم يفت من رزقه ولا الأجل ... شيء فدع أصل الضلال والخطل   الشرح قال المؤلف رحمه الله: (والرزق ما ينفع من حلال أو ضده) ، الرزق بمعنى العطاء، والله سبحانه وتعالى هو الرزاق، وهو الذي يرزق العباد. لكن هل الرزق شامل الحلال والحرام أو هو خاص بالحلال؟ نقول: الرزق نوعان: النوع الأول: رزق ما يقوم به البدن: وهذا يشمل الحلال والحرام، ويشمل رزق البهائم والإنسان، فهو عام، حتى لو فرض أن الرجل لا يأكل إلا الخنزير والميتة فهو رزق، ولو فرض أنه لا يأكل إلا الربا وما يكون بالغش والخيانة فهو رزق. النوع الثاني: رزق ما يقوم به الدين: وهذا خاص بالرزق الحلال، لأن الرزق الحرام وإن قام به البدن لكن ينقص به الدين. فقول المؤلف رحمه الله: (وارزق ما ينفع من حلال أو ضده) يريد به من نوعي الرزق ما يقوم به البدن لأنه عام للحلال والحرام، والناطق والبهيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وكل شيء. ثم علل المؤلف رحمه الله فقال: (لأنه رازق كل الخلق) ولو قلنا: إن الرزق خاص بالحلال فقط لخرج بذلك قسم كبير من الخلق عن كون الله يرزقهم، مع أن الله رازق كل الخلق، قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود: 6)) . أما إذا كان الرزق مطلوباً من العبد؛ كقول العبد: اللهم ارزقني، فلا ريب أنه إنما يطلب الرزق الحلال، الذي به قوام الدين، ولا يخطر ببال أي إنسان إذا دعا الله أن يرزقه، أنه يريد الحلال والحرام، إنما يريد الرزق الحلال. لكن قد يقول قائل: أليس الإنسان يقول: ((اللهم ارزقني رزقاً حلالاً طيباً)) ؟ فالجواب: بلى، ولكنه يقول ذلك من باب التأكيد، كما يقول القائل: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، علانيته وسره، وأوله وآخره)) ، مع أنه يغني عن ذلك أن يقول: ((اللهم اغفر لي ذنبي)) ، لكن يقول هذا من باب التأكيد، ومن باب الإلحاح على الله بالدعاء، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء، ومن باب كثرة مناجاة الله عز وجل؛ لأن الإنسان المحب لله يحب أن يكثر مناجاته، لأن الحبيب يحب طول المناجاة مع حبيبه. إذاً الرزق ينقسم إلى قسمين: ما يقوم به البدن وما يقوم به الدين، فالذي يقوم به البدن عام يشمل الحلال والحرام، ورزق الناطق والبهيم، والذي يقوم به الدين خاص بالرزق الحلال، ومنه رزق العلم والإيمان، فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 مما يقوم به الدين، أما الرزق المطلوب أي الذي يطلبه العبد من الله فهو يختص بالرزق الحلال، لقرينة السؤال، لأنني لا أظن أن أحداً من المؤمنين يسأل الله رزقا على أي وجه كان، وإنما يريد السائل الرزق الحلال. قوله: (وليس مخلوق بغير رزق) أو (بغير رزق) ، يجوز هذا وهذا، فالرزق بالفتح هو الفعل، والرزق بالكسر هو المرزوق، وهذا صحيح، فإنه لأي وجد مخلوق بغير رزق أبدا، كل المخلوقات قد رزقها الله عز وجل، قال تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه: 50)) مسألة: هل الرزق فيه تبعة أي إثم على المرزوق أو لا؟ نقول: إذا كان مؤمناً تقياً فليس عليه تبعة في رزقه؛ لأن هذا المؤمن التقي لن يأكل إلا الحلال، فلا يكون عليه شي. أما الكافر فإنه يعاقب على رزقه؛ لأن الأرزاق لا تكون خالصة لهم لقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) (المائدة: الآية 93) فمفهومه أن غير المؤمنين عليهم جناح. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ومن يمت بقتله من البشر) فقوله (من البشر) بيان لـ (من) ، يعني من يموت من البشر بالقتل فبالقضاء والقدر. وقوله: (أو غيره) ؛ غير: يحتمل أن تكون عائدة إلى البشر، فيكون المعنى: من يمت بقتله من البشر وغير البشر، ويحتمل أن تكون عائدة على القتل؛ أي: ومن يمت بقتله من البشر أو بغير قتله، بل يموت موتاً طبيعياً، فبالقضاء والقدر، واللفظ الذي يحتمل هذين المعنيين صحيح، والمعنيان لا يتنافيان، فيكون شاملاً لمن يموت بقتل أو بغير قتل، ومن يموت من البشر أو غيره بالقتل فبالقضاء والقدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وقوله: (فبالقضاء والقدر) قضاء الله عز وجل وقدره. والقضاء والقدر بمعنى واحد إن انفرد أحدهما عن الآخر، ويختلف معناهما عند الاجتماع، فيكون القدر ما قدره الله بالأزل، والقضاء ما حكم به فعلاً، أما إذا قيل: قضاء الله وحده، أو قيل: قدر الله وحده، فهو شامل للمعنيين جميعا. قوله: (ولم يفت من رزقه ولا الأجل شيء) أي لم يفت من رزقه الذي قدره الله شيء، ولا من اجله الذي كتبه الله له شيء، ودليل هذا قوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف: 34) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) (1) ؛ تستكمل رزقها وأجلها، أي لا يبقى من الأجل ولا لحظة، ولا من الرزق ولا حبة، كلها تستكمل وتنتهي. فإذا كان الأمر كذلك علمنا بأن الذي يقتل يكون قد مات بأجله، وأن الذي يقتل يكون قد استكمل رزقه. مثال ذلك: رجل قتل عند زوال الشمس، فلا يقول قائل: إن هذا الرجل فاته الغداء من الرزق، ولو بقي لتغدى. نقول: هذا لا يمكن أبدا؛ لأن الله قدر أن يموت هذا الرجل قبل أن يأتي موعد الغداء، إذاً فالغداء ليس له، ولم يكتب له. كذلك الأجل، لو قال قائل: هذا الرجل يبقى إلى الليل لو لم يقتل، لقلنا: هذا محال؛ لأن الله قدر أن يموت بهذا السبب في هذه الساعة، فلا يفوت الأجل أبداً بالقتل.   (1) رواه ابن ماجة (2144) ، وابن حبان (3239) ، والحاكم (2/4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 لكن لو قيل: لو لم يقتل لم يمت بالقتل فهذا صحيح، لكن كونه يمتد الأجل إلى الليل أو لا يمتد، هذا شيءٌ ثان مجهول لنا، إنما المعلوم لنا انه لو لم يقتل لم يمت بالقتل، ونقول: إن هذا افرض أمر لا يمكن أن يقع ما دام قد قتل، لأننا نعلم أن الله قدر اجله إلى هذه الساعة بل إلى هذه اللحظة وبهذا السبب، ولكن لو قال قائل: يمكن أن يموت قبل أن يقتل، بلدغة حية، أو بأكل سم، أو بغتة، أو بمرض، فإن هذا لا يمكن، لأن الله قد كتب أن يموت بالقتل وفي هذه الساعة. إذا فهذا الإيراد وهو قوله: لو لم يقتل لبقي. نقول: هو إيراد شيء محال، كقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف: 81) فمحال أن يبقى بعد هذا الزمن الذي قتل فيه ولا لحظة، ومحال أن يموت بغير هذا السبب، لأنه لما وقع علمنا أن الله قد كتبه في الأزل. فإن قال قائل: بماذا تجيبون عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) (1) ، فجعل صلة الرحم سببا لبسط الرزق وللتأخير في الأثر؟ نقول في جوابنا على هذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم حق، وصلة الرحم من أسباب طول العمر، ومن أسباب سعة الرزق، وإذا قدر أن الإنسان وصل رحمه علمنا أنه فعل السبب الذي يكون به طول العمر وسعة الرزق، ولا يختلف هذا عن قوله تعالى فيمن عمل صالحاً بأنه يدخل الجنة، لأننا نعلم أنه متى فعل السبب وجد المسبب، وإذا لم يفعله لم يوجد المسبب، فهذا الرجل   (1) رواه البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، رقم (2067) ، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم (2557) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 إذا لم يصل رحمه لم يطل عمره ولم يبسط له في رزقه لأنه لم يفعل السبب، لكن إذا وصل رحِمه طال عُمره واتسع رزقه، ونعلم أن هذا الرجل قد كُتب أصلاً عند الله بأنه وصول لرحمه، وعمره ينتهي في الوقت المحدد، ورزقه يكون إلى الساعة المحددة، ونعلم أن الرجل الآخر لم يكتب أن يصل رحمه، فكتب رزقه مضيقاً، وكتب عمره قاصراً من الأصل، فليس هناك شيء يزيد وينقص عن الذي كتب في الأزل. إذاً ما الفائدة من قول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الكلام؟ نقول: الفائدة من ذلك الحث على صلة الرحم، وإذا كان الله قد كتب هذا الرجل وصولاً لرحمه سيصل رحمه، لكن كتابة الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل أن يكون وصولاً للرحم أمر مجهول لنا ولا نعلمه، لكن الأمر الذي بأيدينا هو أن نعمل، وما وراء ذلك فهو عند الله عز وجل. وبهذا التقرير نسلم من قول من قال من العلماء رحمهم الله: إن المراد بطول العمر البركة فيه، والمراد ببسط الرزق البركة فيه؛ لأن هذا القول لا يجدي عنهم شيئاً؛ لأن البركة أيضاً وجودها كطول العمر، ونزعها كقصر العمر، فإن كان الله قد كتب أن يكون عمرك مباركاً كان مباركاً، وإن كان الله قد كُتب أنه غير مبارك صار غير مبارك، وكذلك الرزق إن كان الله قد كتبه مباركاً كان مباركاً، وإن لم يكن كتبه مباركاً لم يكن مباركاً، فالمسألة هي هي، فهم فروا من شيء ووقعوا فيه؛ لأن كل شيء مقدر، بركة المال وبركة العمر، وبسط الرزق وطول العمر؛ فكله مكتوب. والمهم أن الذين قالوا بهذا القول قولهم غير صحيح، وكذلك أيضاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الذين قالوا: إن للإنسان عمرين؛ عمراً إن وصل، وعمراً إن قطع، ورزقين؛ رزقاً إن وصل، ورزقاً إن قطع، وهذا غير صحيح؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يكون الله تعالى غير عالم بالمآل، وهذا خطأ ونحن نقول: إن الله عالم بالمآل، فهو عالم بأن هذا يصل ويطل عمره ويبسط له في رزقه، وهذا لا يصلْ فيقصر عمره وينقص رزقه، وهذا عند الله معلوم، وهو شيء واحد لا يتغير، لكنه عندنا غير معلوم، ولهذا حثنا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن نصل الرحم. ونظير ذلك أيضاً في مسالة الزواج إذا قيل: ((من أحب أن يولد له فليتزوج) ، فالمراد بهذا الحث على الزواج، وإلا فنحن نعلم أن الله كتب لهذا الرجل أن يتزوج ويولد له، أو ألا يتزوج ولا يولد له. والحاصل أن الإنسان إذا علم أن الشيء مكتوب بأسبابه - فطول العمر مكتوب بسببه، وسعة الرزق مكتوبة بسببه، الذي هو الصلة، لكن نحن لا نعلم، فالمقصود من مثل هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم الحث على صلة الرحم وأنه سبب. والدعاء أيضاً سبب لحصول المقصود فمن أحب أن يرزق فليسأل الله الرزق، فالسؤال سبب، ولو قال قائل: إذا كان الله قد كتب لك الرزق فلا حاجة لك في السؤال، لكان هذا غلطاً، ففعل الأسباب التي جاءت بها الشريعة، أو شهد بها الواقع أمر مطلوب للشرع، والله تعالى بحكمته قد ربط المسببات بأسبابها، فلا إشكال والحمد لله في الحديث، إنما هو ذلك لسبب يكون عند الله معلوماً مكتوباً، وعندنا غير معلوم، إنما الشيء الذين خاطب به أن نفعل السبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الباب الثالث في الأحكام 74- وواجب على العباد طرا ... أن يعبدوه طاعة وبرا 75- ويفعلوا الذي به أمر حتما ... ويتركوا الذي عنه زجر   الشرح قال المؤلف رحمه الله: (الباب الثالث في الأحكام) . الأحكام: جمع حكم، والمراد به الأحكام الشرعية، والأحكام الكونية، والأحكام الدينية في الأسماء كما سيأتي، والأحكام الدنيوية، والأحكام الأخروية ... والمهم الأحكام عامة كما سيتبين من الشرح. قال المؤلف رحمه الله: (وواجب على العباد طرا أن يعبدوه) ((واجب)) : خبر مقدم، ((وأن يعبدوه)) : مبتدأ مؤخر، وإنما قلنا بذلك لأن ((واجب)) : حكم، و ((العبادة)) : محكوم عليه، ويجوز على قول لبعض النحويين أن نجعل ((واجب)) : مبتدأ، و ((أن يعبدوه)) : فاعل أغنى عن الخبر؛ لأنه يجوز إذا كان الخبر وصفاً وتأخر المبتدأ أن يكون الوصف مبتدأ، ويكون ما بعده فاعلاً أو نائب فاعل اغنى عن الخبر، لكن المشهور أن هذا لا يجوز إلا إذا اعتمد على نفي أو استفهام. وقوله: (وواجب على العباد) ، الواجب عند أهل العلم رحمهم الله: ما أمر به على سبيل الإلزام، أو ما ألزم به المكلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وقوله: على (العباد) المراد بهم كل الناس، فالعبادة هنا بالمعنى العام وليست العبودية الخاصة، والعبودية تكون عامة وهي التعبد الكوني، وتكون خاصة وهي التعبد الشرعي، والمراد هنا التعبد الكوني، يعني يجب على كل العباد أن يعبدوا الله عز وجل، وقوله (طرأ) أي جميعا. وقوله: (أن يعبدوه) الهاء في (يعبدوه) ليس لها مرجع سابق ولا لاحق، ولكن مرجعها معلوم من السياق؛ لأن الذي يجب أن يعبد هو الله عز وجل، فالهاء إذاً عائدة على الله. فوجوب عبادة الله عز وجل على جميع العباد من جملة الأحكام التي سيذكرها المؤلف رحمه الله في هذا الباب، ودليلها قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (النساء: الآية 36) ، وقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)) . قوله: (طاعة وبرا) يعني أن يعبدوه امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه، وبراً: أي رجاء لبره وثوابه، فيشعر الإنسان عند فعل العبادة بأنه فعلها طاعة لله ورجاء لثوابه، فالصلاة مثلاً يقيمها طاعة لله ورجاء لثوابه. وقد سبق أنه ينبغي للإنسان أن ينوي في عبادته الوصول إلى الله عز وجل، وإلى دار كرامته، فيجمع بين الأمرين؛ بين إرادة الخالق عز وجل كما قال تعالى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الأنعام: الآية 52) ، وبين إرادة ثوابه كما قال تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً) (الفتح: الآية 29) فهذا واجب على كل مخلوق أن يعبد الله عز وجل، والمراد بالعبادة هنا التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً بفعل أوامره وترك نواهيه. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ويفعلوا الفعل الذي به أمر حتماً) يعني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وواجب عليهم أن يفعلوا الفعل الذي أمر به حتماً، و (حتماً) وصف يعود على الأمر، يعني الذي أمر به أمر حتم؛ لأن مأمورات الله عز وجل قسمان: قسم مأمورات حتم، وقسم مأمورات تطوع، فالذي يجب أن يفعل هو ما أمر به حتماً، ولكن ما أمر به تطوعاً قد يكون القيام به فرض كفاية إذا كان تبليغ الرسالة يتوقف عليه، بمعنى إننا لو تركناه لماتت السنة، فهنا ربما يقول قائل: إنه يجب أن يقوم الإنسان بما لم يؤمر به حتماً، ويكون وجوبه هنا لغيره، يعني لئلا تموت السنة لا لإيجاد الفعل، أما إذا كانت السنة مشهورة فمعلوم أن القيام بها ليس على سبيل الوجوب. قوله: (ويتركوا الذي عنه زجر) يعني يتركوا ما زجر عنه من النواهي، وهذا هو الواجب على كل مؤمن؛ أن يفعل ما أمر الله به وجوباً فيما حتمه؛ واستحباباً فيما ندب إليه، ويترك الذي عنه زجر وجوباً فيما حرمه، وندباً فيما هو مكروه. وهنا يرد سؤال: هل هناك وظيفة أخرى للإنسان غير العبادة؟ الجواب: لا، ما خلق الإنسان إلا للعبادة فقط، وما عدا ذلك فإنه مكمل للعبادة، حتى تناول المباحات إنما أباحها الشارع لئلا تمل النفوس، لأن النفوس لو بقيت ملزمة بفعل شيء وترك شيء كلت وملت، لكن فسح لها فيما احل الله عز وجل. ولهذا نجد أن الشارع فسح للنفوس في أيام الفرح أن تتناول ما يفرح ويطرب، مثل الدف في الأعياد، وكذلك في الأعراس، وأباح للنفس أن تنال مطلوبها عند الأحزان؛ فأباح للإنسان أن يحد على الميت ثلاثة أيام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) (1) . فثلاثة الأيام يجوز فيها الحداد على الميت؛ لأن النفس تكون حزينة وكئيبة، ولا تنبسط للأمور الترفيهية، فلا يتجمل الإنسان فيها، ولا يخرج للنزهة، ولا يفعل الأمور الترفيهية العادية؛ لأنه محزون، وينطوي على نفسه، وهذا لا باس به بشرط ألا يكون الحامل له على ذلك التسخط من قضاء الله وقدره، فإن كان الحامل على ذلك التسخط فهو حرام. إذاً الواجب على الإنسان العبادة، لكن الشرع أباح للإنسان ما يترفه به في حدود معينة لئلا يلحقه الملل والسآمة، والإنسان لنفسه عليه حق.   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب احداد المرأة على غير زوجها، رقم (1280) ، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الاحداد في عدة الوفاة وتحريمه في ... ، رقم (1486) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 76- وكل ما قدر أو قضاه ... فواقع حتما كما قضاه 77- وليس واجب على العبد الرضا ... بكل مقضي ولكن بالقضا 78- لأنه من فعله تعالى ... وذاك من فعل الذي تقالى   الشرح قال رحمه الله: (وكل ما قدر أو قضاه فواقع حتما) (كل) مبتدأ و (فواقع) خبره، ووقعت الفاء في خبر المبتدأ (واقع) ؛ لأن المبتدأ متضمن لمعنى الشرط، ومعنى الشرط هنا هو العموم في (كل) ، فإذا كان المبتدأ عاما فإنه يجوز أن تقترن الفاء في خبره؛ فلو قلت: كل أحد فقائم، صح، لكن لو قلت: زيد فقائم، لم يصح؛ لأن الأول بمعنى الشرط والثاني ليس كذلك. وقوله: (كل ما قدر) ، أي: كل الذي قدره أو قضاه، (فواقع) يعني فلابد أن يقع، (حتماً) أي جزماً، (كما قضاه) أي على الوجه الذي قضاه؛ سواء كان هذا الشيء من فعله عز وجل، أو كان متعلقاً بأفعال العباد، فلابد أن يقع، قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس: 82) فأخبر أنه لابد أن يكون. فإذا قدر الله على شخص أن يهتدي اهتدى، وإذا قضى على شخص بالضلال ضل، وإذا قضى له بالرزق رزق، وإذا قضى له بالفقر افتقر، وإذا قضى الله سبحانه وتعالى بالخصب والرخاء حصل الخصب والرخاء، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 قدر الله الجدب والضيق حصل الجدب والضيق، وإذا قدرت الفتن والقتال وقع ذلك، وإذا قدر رفعه رفع. وعلى كل حال فإن كل شيء يقضيه الله فلابد أن يقع، ولكن ليلاحظ أنه قد يكون لهذا المقضي موانع قضاها الله عز وجل، كما جاء في الحديث (لا يرد القدر إلا الدعاء) (1) ، فنقول: هذا مقدر، ثم قدر له مانع بأمر الله عز وجل فمنعه، إذا كل ما قضاه الله أو قدره - حتى ما كان مقضيا - ثم وجد له المانع فإنه داخل في عموم كلام المؤلف رحمه الله. ولهذا نرى من الجهل أن يقول بعض الناس في دعائه: ((اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه) ، وكأنه يقول: ابتلني بما شئت فإنه لا يهم، بل المهم اللطف بي - فسبحان الله - إن هذا الدعاء لا يصح نقلاً عن السلف، وإن صح عن بعضهم فلا يمكن أن يصح عن الصحابة رضي الله عنهم، الذين أقوالهم مأثورة ومشهورة. ولكن قل: (اللهم إني أسألك اللطف في قضائك) . وهذا صحيح، أما قول: ((لا أسألك رد القضاء) ، فإن الله عز وجل لا يقضي شيئاً - سواء لطف بك أو شدد عليك - إلا وقد قضاه، لذلك ينبغي أن ننبه من يقول هذا الدعاء، إلى أنه لا فائدة منه. فإذا قال الداعي: (اللهم قني عذابك) (2) ، معناه أنه لا يرد أن يعذبه الله،   (1) رواه ابن ماجه في المقدمة، باب في القدر، رقم (90) . (2) رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، رقم (3398) ، وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم، رقم (5045) ، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، رقم (3877) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أما قول: ((اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف فيه) فمعناه: إذا كنت قد قدرت شقائي فاجعلني شقياً، لكن هو، في الشقاء. ولكن بعض الناس إذا سمعوا الكلام المركب تركيباً جميلاً اخذوا به وهم لا يدرون ما معناه، وهذا من الغفلة، والواجب أن نتأنى في كل ما نسمع حتى نزنه بميزان الكتاب والسنة. قال رحمه الله: وكل ما قدر أو قضاه فواقع حتما كما قضاه حتى المعاصي إذا قدر أن تقع، فإنها تقع كما قضاها، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان، قال: ((وتؤمن بالقدر خيره وشره) (1) ، وأجمع المسلمون على قولهم: ((ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((احرص على ما ينفعك) إلى أن قال: ((ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل) (2) . إذاً ما قدره الله فلابد أن يقع، وأنت إذا آمنت بذلك حصل لك طمأنينة كاملة فيما يصيبك؛ لأنك تعلم أنه لن يتغير الواقع أبداً. فلو قدر أن شخصاً صار يعمل في التجارة ثم خسر حتى فني ماله، فيجب أن نعلم أن هذا الذي حصل بقضاء الله وقدره، وحينئذٍ يطمئن ويسلم لأنه يرضى بالله رباً، كذلك رجل خرج ابنه إلى السوق فأصابه حادث ومات فلا يجوز أن يورد على قلبه أنه لو لم يخرج لم يمت، هذا غير واقع،   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8) . (2) رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، رقم (2664) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وهذا يجب أن تطرده عن قلبك؛ لأنه لابد أن يكون كما حصل، ولا يمكن أبداً أن تسير الأمور إلا على هذا الذي حصل. ولهذا قال الله تعالى عن المنافقين الذين قالوا: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) (آل عمران: الآية 156) ، فقال الله عنهم: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (آل عمران: الآية 156) ، فهذه الأمور لا تولد إلا الحسرة. والإحياء والإماتة بيد الله، (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم) (آل عمران: الآية 154) وأنت إذا آمنت بهذا الكلام الذي جاء في الكتاب والسنة وقرره المؤلف رحمه الله، فإنك سوف تستريح ولا تسأم ولا تمل ولا تضجر. إذاً فمن جملة الأحكام في هذا الباب وجوب عبادة الله عز وجل على جميع العباد، وكذلك فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإنه هو عبادته سبحانه وتعالى، وكذلك فإن ما قدره الله أو قضاه، فإنه واقع حتماً ولابد كما قضاه، لا يختلف عما قضاه في الأزل، وهذا يعود إلى وجوب الرضا بالقدر. والإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة، والرضا بالقدر من الرضا بالله رباً، والإنسان يجب أن يرضى بالله رباً مدبراً يفعل ما يشاء عز وجل. وهنا مسالة مهمة جداً وهي: هل الواجب بالنسبة للقضاء والقدر، الرضا بالقضاء والمقضي أو الرضا بالقضاء ويستفصل في المقضي؟ بين المؤلف ذلك في قوله رحمه الله: وليس واجباً على العبد الرضا ... بكل مقضي ولكن بالقضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وهناك في بعض النسخ (وليس واجب) برفع واجب، والظاهر أن الأولى النصب، على أنه يجوز الوجهان، فإن أردت أن تخبر عن الواجب، فالواجب مرفوع والرضا منصوب، على أنه خبر ليس، يعني: وليس الواجب الرضا بكل مقضي، وإن كنت تريد أن تخبر عن الرضا، فانك تقول: فليس واجبا على العبد الرضا، فواجب منصوب على أنه خبر ليس، يعني: وليس الواجب الرضا بكل مقضي، وإن كنت تريد أن تخبر عن الرضا، فإنك تقول: فليس واجباً على العبد الرضا، فـ (واجب) منصوب على أنه خبر ليس واسمها الرضا، وتقدير الكلام على هذا: وليس الرضا واجباً، فالوجهان جائزان. ومعنى كلام المؤلف أنه لا يجب على الإنسان أن يرضى بكل مقضي، وإنما يجب أن يرضى بالقضاء الذي هو فعل الله عز وجل، وعلى ذلك فالمقضي يحتاج إلى تفصيل: أولاً: أن يكون المقضي حكماً شرعياً، فهذا يجب الرضا به، من حيث كونه فعل الله، والسخط منه مناف للإسلام، فيجب علينا مثلاً أن نرضى بفرض الله للصلاة والزكاة والصوم والحج والبر والصلة وغير ذلك، ويجب علينا كذلك أن نرضى بتحريم الزنا؛ لأن ذلك محبوب إلى الله عز وجل، والمحبوب إلى الله يجب أن نحبه. أما باعتبار فعل العبد فيجب الرضى به إن كان طاعة، ويجب سخطه إن كان معصية، ولهذا وجب علينا أن ننكر على العاصي. ثانياً: إذا كان المقضي أمراً كونياً، فإن الأمر الكوني منه ملائم يلائم النفوس، وهذا الرضا به أمر فطري. مثال ذلك: إذا قضى الله للإنسان بولد، ورزق واسع، ودار مهيأة، ومركوب فخم، وعلم، وإيمان، فإنه يرضى به لأن ذلك يلائم نفسه، ورضاه بذلك أمر فطري، ولا يحتاج أن نقول: يجب أن ترضى به؛ لأنه سيرضى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أما إذا كان المقضي لا يلائم النفوس بل يؤلمها كالأمراض فالإنسان إذا قضى الله عليه بمرض، فإن المرض غير ملائم للنفوس، فإن الناس فيه على أربع مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة السخط: بأن يسخط هذا الذي قضاه الله وعلامة السخط أن يقول قولاً منكراً، أو يفعل فعلاً منكراً. مثال القول: أن يقول: يا ويلاه، وا ثبوراه، وما أشبه ذلك من الكلمات التي تنبئ عن التسخط. وأما الفعل المنكر فمثل لطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، والقفز حتى يسقط على الأرض، وما أشبه ذلك، فهذا تسخط فعلي، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) (1) ، فالأولان فعلان والثالث قول. المرتبة الثانية: مرتبة الصبر: بأن يتألم الإنسان نفسياً ولكنه يصبر، فلا يشق ثوباً، ولا يلطم خداً، ولا يقول منكراً، وهذه المرتبة واجبة، أي أنه يجب على الإنسان أن يصبر إذا أصيب بالمصائب. المرتبة الثالثة: الرضا: أي يرضى بقضاء الله عز وجل، والرضا معناه أن يكون مطمئناً منشرح   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب، رقم (1294) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود ... ، رقم (1030) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الصدر بما قضى الله عز وجل، لا يتألم نفسياً، رغم أنه يكره هذا الشيء الذي أصابه ولا شك؛ لأنه لا يلائم النفوس، لكنه لا يتألم نفسياً؛ بل يقول: هذا قضاء الله، وأنا من جملة ملك الله عز وجل، له أن يفعل في ما شاء، ويطمئن بذلك. وهذه المرتبة اختلف فيها العلماء رحمهم الله على قولين: منهم من قال: إنها واجبة، ومنهم من قال: إنها مستحبة، والصحيح أنها مستحبة وليست بواجبة؛ لأنها صعبة على كثير من النفوس. وعلامة الرضا أنك لو سألته: هل تأثرت بما قضى الله عليك؟ لقال: لا؛ لأني أعلم أن الله لا يقدر لي شيئاً إلا كان خيراً لي، فأنا مؤمن والله لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيراً له. المرتبة الرابعة: مرتبة الشكر: وهذه المرتبة أعلى من التي قبله؛ لأنها رضا وزيادة. فإذا قال قائل: كيف يشكر الله على المصيبة؟ قلنا: يشكر الله على المصيبة لأنه يعلم أن ثوابها وأجرها - إذا صبر واحتسب الأجر - أكثر من مصيبتها، فيشكر الله على هذا؛ لأن ما يترتب عليه من الخير أكثر مما يترتب عليه من الأذى، فمن هذه الناحية يشكر الله، وقد قال بعض أهل العلم رحمهم الله: إن هذه المرتبة أعلى من التي قبلها، أي من الرضا. فهذا حكم الرضا بالمقضي. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولكن بالقضا) ؛ يعني: ولكن يجب أن يرضى (بالقضا) ، أي قضاء الله عز وجل، وهو فعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 فإن قال قائل: هل المعاصي واقعة بقضاء الله عز وجل أو لا؟ وكيف ترضون بقضاء الله لها؟ فالجواب: بلى، هي واقعة بقضاء الله، ونحن نرضى بقضاء الله وإن كرهنا المقضي، وهذه المعصية لا نرضاها ونكرهها ونؤدب عليها، ولكن نرضى بكون الله قضاها، ولا نعترض على الله عز وجل في قضائها، فإذا رأينا مثلاً العصاة والفساق وأهل المجون فيجب علينا أن نرضى بما وقع منهم باعتباره من قضاء الله، لكن لا يجوز أن نرضى بما صدر منهم باعتباره من فعلهم؛ فنسخط فعلهم ونرضى فعل الله الذي هو قضاؤه، وبهذا التفصيل يزول عنا إشكالات كثيرة. فإذا قال قائل: يوجد في الخلق شر مثل إبليس، فهو أصل الشر. فهل يجب علينا أن نرضى بإيجاد إبليس؟ فالجواب: نعم يجب أن نرضى بدون تفصل، لكننا لا نرضى بما يأمر به إبليس؛ لأن إبليس يأمر بالشر والفحشاء والمنكر؛ (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) (النور: الآية 21) إذاً نرضى بأن الله خلقه، ولا نشك في أن الله خلقه لحكمة، ولكن لا نرضى بما يكون من فعل إبليس، من الشر والفساد.. إلى آخره. قال رحمه الله: (ولكن بالقضا لأنه من فعله) . (لأنه) أي القضاء (من فعله) أي من فعل الله، ولهذا قال: (من فعله تعالى) . قوله: (وذاك) أي المقضي (من فعل الذي تقالى) أي الذي تباعد وفعل ما يبغض عليه، وهذا التعليل الذي ذكره المؤلف ينطبق على المعاصي تماماً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فالمعاصي واقعة بقضاء الله وقدره، نرضى بها من هذه الناحية، وواقعة من فعل الشخص العاصي، ومن هذه الناحية لا نرضاها، ولهذا قال: (لأنه) أي القضا (من فعله وذاك) أي المقضي (من فعل الذي تقالى) . فإن قال قائل: ما الجمع بين قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) (الفلق: 2) وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) (1) . فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر؛ لأن قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) أضاف الشر إلى المخلوق، أما إلى الله فلا يضاف الشر، فلا شك أن الله هو الذي قدر الشر، لكن قدر الشر في مفعولاته،، أما تقديره لهذا الشر فهو لحكمة عظيمة يترتب عليها من المصالح ما يجعلها غير مكروهة، لكن فرق بين المفعول وبين الفعل والفاعل، فالفاعل هو الله عز وجل وهو المقدر، وهذا لا شك نحبه على كل حال، وفعله أيضاً خير على كل حال، أما مفعوله ففيه خير وفيه شر.   (1) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (771) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 79- ويفسق المذنب بالكبيرة ... كذا إذا أصر بالصغيرة 80- لا يخرج المرء من الإيمان ... بموبقات الذنب والعصيان 81- وواجب عليه أن يتوبا ... من كل ما جر عليه حوبا 82- ويقبل المولى بمحض الفصل ... من غير عبدا كافرا منفصل 83- ما لم يتب من كفره بضده ... فيرتجع عن شركه وصده   الشرح قال المؤلف رحمه الله تعالى: ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة هذا من الأحكام أيضاً، وهو أمر مهم؛ لأن الناس تنازعوا فيه، فابتدعت فيه طائفتان، وسلمت الثالثة. المذنب إذا أذنب بكبيرة فإنه يكون فاسقاً مؤمناً؛ فيكون فاسقاً بمعصيته، مؤمناً بإيمانه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب الذي تؤيده النصوص، ويؤيده النظر والعدل؛ فالعدل أن يعامل كل إنسان بما يستحق، فلما كان هذا الرجل مؤمناً، لكنه فعل كبيرة ولم يتب منها، فهو باق على إيمانه لكنه فاسق بكبيرته، ويمكن أن نقول: إنه مؤمن ناقص الإيمان؛ مؤمن بما معه من أصل الإيمان، ناقص الإيمان بما اقترفه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 معصيته، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب الحق كما سنذكر إن شاء الله. وقالت الخوارج: إنه ليس بمؤمن بل هو كافر، فإذا زنا فقد كفر، وإذا سرق فقد كفر، وإذا قتل نفساً بغير حق فقد كفر، وإذا عق والديه فقد كفر، وإذا قطع أرحامه فقد كفر، وهكذا إذا فعل أي كبيرة صار كافراً خارجاً عن الإيمان، فإذا كان كافراً خارجاً عن الإيمان، فإنه إذا مات لا يُغسل ولا يُكفن ولا يُصلى عليه، ولا يدفعن في مقابر المسلمين، وحكمه في الآخرة أنه يخلد في النار. ووافقتهم المعتزلة على التخليد في النار، لكن خالفتهم في الحكم في الدنيا؛ فقالوا - أي المعتزلة -: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لكنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين؛ لا نصفه لا بالإيمان ولا بالكفر، فلا نقول: مؤمن - ولو بقيد النقص -، ولا نقول: كافر - ولو بقيد أصل الإيمان -؛ بل نقول: في منزلة بين منزلتين، وإذا مات فإنه يعامل معاملة المسلمين؛ لأنه لم يدخل في الكفر، إلا أنه يخلد في النار. إذاً توافق الخوارج والمعتزلة في شيء وتخالفوا في شيء؛ توافقوا في أحكام الآخرة؛ فجعلوا فاعل الكبيرة خالداً في النار، واختلفوا في أحكام الدنيا؛ فحكمت الخوارج بأنه كافر، وحكمت المعتزلة بأنه ليس بمؤمن ولا كافر - بل في منزلة بين المنزلتين. فعلى رأي الخوارج إذا رأينا فاعل كبيرة فلنا قتله؛ لأنه مرتد مباح الدم، وعلى رأي المعتزلة لا نقتله لأنه ليس بكافر، ولا نكرمه إكرام المؤمن لأنه ليس بمؤمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أما المرجئة فقالوا: إن فاعل الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحق العقاب، وليس عليه شيء، ولو زنا وسرق وشرب الخمر وقتل وعق وقطع وغش وكذب، ما دام أنه مؤمن بالله فهو مؤمن كامل، إيمانه كإيمان جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم - ونعوذ بالله - وهذا ليس بمعقول، لكنه مذهبهم. ولا يخفى أن الذي يصلح ويناسب الزمان هو ما جاءت به السنة؛ حيث المعاملة بما يستحقه فاعل الكبيرة؛ فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهذا هو الحق. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة لا يخرج المرء من الإيمان بموبقات الذنب والعصيان قال المؤلف: (ويفسق المؤمن بالكبيرة) ، والفسق في اللغة: الخروج، ومنه فسقت الثمرة عن قشرها، أي برزت وخرجت منه، وفي الاصطلاح: فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة. كما قال المؤلف: ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة (بالصغيرة) يعني على الصغيرة، فالفسق شرعاً: فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة. فإذا زنا المرء صار فاسقاً، وإذا أصر على شرب الدخان صار فاسقاً، وإذا شرب الخمر مرة واحدة فقط فهو فاسق لأن شربه كبيرة. والكبيرة في المعنى ضد الصغيرة، والميزان في ذلك - كما قال بعض العلماء رحمهم الله -: ما نص الشارع على أنه كبيرة فهو كبيرة، وما لم ينص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عليه فهو صغيرة، فقوله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات) (1) ، هذه كبائر، وقوله: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر) (2) ، هذه كبائر، فما نص الشارع على أنه كبيرة فهو كبيرة، وما لا فلا. وقال بعض العلماء رحمهم الله: ما توعد عليه بلعن أو غضب فهو كبيرة. وقال آخرون: ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة، واختلفوا اختلافا كبيراً. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الكبيرة ما رتبت عليها عقوبة خاصة (3) ، وأما ما نهى عنه فقط، ولم يعين له عقوبة خاصة فهو صغيرة، ومع ذلك يقول: إن الكبائر تتفاوت؛ فبعضها أشد من بعض، وقوله - رحمه الله - أقرب إلى الصواب. فمن فعل الكبيرة ولم يتب منها صار فاسقاً، ومن أصر على الصغيرة -ولم يقلع عنها - صار فاسقاً. وقوله: (ويفسق المذنب) خلافاً للمرجئة؛ لأن المرجئة يقولون: إن المذنب لا يفسق بالكبيرة ولا بالإصرار على الصغيرة، بل هو مؤمن كامل الإيمان، قال ابن القيم مبيناً مذهبهم: والناس في الإيمان شيء واحد ... كالمشط عند تماثل الأسنان (4)   (1) رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: ((إن الذين يأكلون أموال..) ، رقم (2767) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم (89) . (2) رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم (2654) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم (87) (3) انظر مجموع الفتاوى 11/651. (4) انظر القصيدة النونية 1/65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: لا يخرج المرء من الإيمان بموبقات الذنب والعصيان أي لا يخرج المرء من الإيمان بفعل الموبقات، والموبقات: هي المهلكات، وهذا رد على الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة يقولون: إنه يخرج من الإيمان، لكن الفرق بينهما أن الخوارج قالوا: إذا خرج من الإيمان دخل في الكفر، وليس هناك واسطة، والمعتزلة قالوا: إذا خرج من الإيمان فهو في منزلة بين منزلتين، كرجل سار من المدينة يريد مكة فنزل في بدر، فصار في منزلة بين المنزلتين؛ ليس من أهل المدينة ولا من أهل مكة، لكن الخوارج أقرب إلى الصواب منهم حيث قالوا: ليس هناك واسطة، كما قال الله تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) (يونس: الآية 32) وقال: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة: الآية 66) ولم يذكر منزلة، فالمنزلة هذه بدعة مردودة على صاحبها. قال رحمه الله: وواجب عليه أن يتوبا ... من كل ما جر عليه حوبا (وواجب عليه) أي على المرء المذنب (أن يتوبا) والألف هنا للإطلاق، أي لإطلاق الروي، والروي آخر البيت، ولولا ذلك لقال: (أن يتوب) لأن المتحرك الأخير يوقف عليه بالسكون، (من كل ما جر عليه) أي على الفاعل، (حوباً) أي إثما. ومعنى كلام المؤلف رحمه الله أن على الإنسان أن يتوب من كل شيء حصل له به الإثم؛ إن كان ترك واجب فبفعله، وإن كان فعل محرم فبتركه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 لأن ترك الواجب يجر على الإنسان الإثم، وفعل المحرم كذلك يجر على الإنسان الإثم. والدليل على وجوب التوبة قوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: الآية 31) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (التحريم: الآية 8) . وقوله: (واجب عليه أن يتوبا) ، أي: فوراً؛ لأن الأصل في الواجبات الفورية، ولأن الإنسان لا يأمن أن يموت، فقد يأتيه الموت بغتة قبل أن يتوب، ولو تاب عند الموت لم تنفعه التوبة، لقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (النساء: الآية 18) . وللتوبة شروط خمسة، هي بالترتيب: الإخلاص، والندم، والإقلاع، والعزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، وأن تكون في وقت قبولها. وليتنبه هنا إلى أن من شروط قبول التوبة: العزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، وليس الشرط ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، إذ لو كان الشرط ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى لكان من غلبته نفسه وعاد إلى الذنب ثانياً لم تقبل توبته الأولى، لكن الشرط: العزم على ألا يعود، فمن غلبته نفسه وعاد إلى الذنب فإن توبته الأولى مقبولة، ولذلك أن تحقيق هذا الشرط هو العزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى. قال المؤلف رحمه الله: ويقبل المولى بمحض الفضل ... من غير عبد كافر منفصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 قوله: (ويقبل المولى بمحض الفضل) أي يقبل الله التوبة من الإنسان، (بمحض الفضل) أي بالفضل الخالص المحض، لأن الله عز وجل هو الذي منَّ عليه أولاً بالتوبة، فإن توفيق الله العبد للتوبة توبة، قال الله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة: الآية 118) ، يعني ثم وفقهم للتوبة ليتوبوا، فالله عز وجل يمن عليك بمحض الفضل أن تتوب، ثم يمن عليك مرة أخرى بقبول التوبة، ولو شاء ألا يقبل لم يقبل، ولكن من فضله ورحمته عز وجل أن من تاب إلى الله تاب الله عليه. بل أشد من ذلك وأبلغ أنه يفرح بتوبة عبده، ويحب توبته؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: الآية 222) ، ويفرح بتوبة عبده فرحاً أشد من فرح الإنسان الذي أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه، ثم وجدها، فهذا فرحه لا يوصف، ومع ذلك فالله يفرح بتوبة عبده المؤمن أشد من فرح هذا الرجل براحلته. قال رحمه الله: ........................ من غير عبد كافر منفصل ما لم يتب من كفره بضده ........................ الحقيقة أن هذا الاستثناء وهو قوله: (ما لم يتب) ، فيه شيء من النظر؛ لأن كل من تاب تاب الله عليه من أي ذنب كان، وكلامنا في التوبة، فإذا تاب تاب الله عليه ولو كان كافراً، أما إذا مات على المعصية وهي غير كفر، فهذه هي التي تكون تحت المشيئة؛ إن شاء الله غفر له وإن شاء عاقبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ثم إن قوله: (من غير عبد كافر منفصل ما لم يتب) ، ينطبق على الفاسق أيضاً، فإن الفاسق لا يقبل الله منه حتى يتوب، وإلا سيبقى على وصف الفسق. إلا إذا كان المؤلف يرد بقوه: (يقبل المولى) أي يقبل العبادات من غير الكافر، فهذا له وجه، لكنه لا يرد هذا الشيء. قوله: (ما لم يتب من كفره بضده) وضده الإسلام، فإذا تاب من كفره بضد الكفر، فإنه تقبل منه التوبة، وإن تاب من كفره بكفر آخر فإنه لا يقبل منه، ولذلك قال المؤلف: (فيرتجع عن شركه وصده) فإنه حينئذ يقبل الله منه؛ مثل: لو تاب من نوع الكفر وبقي على النوع الآخر، فإنه لا يقبل منه، بل لابد أن يكفر بالجميع، فلو كان رجل منكرا لشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتاب منه لكنه مشرك بالله يعبد الصنم، فإنه لا يقبل منه حتى يؤمن بكل ما كفر به. ولو تاب المسلم من ذنب وهو مصر على آخره، فإنه تقبل توبته مما تاب منه؛ لعدم اشتراط ألا يكون مصراً على ذنب آخر، ولعموم الآيات في القرآن الكريم، وكذلك الأدلة من السنة، فكلها تدل على أنه إذا تاب من الذنب تاب الله عليه. وقال بعض العلماء: إنه إذا كان الذنب الذي أصر عليه من جنس الذنب الذي تاب منه، فإنها لا تقبل توبته، وإذا كان من غير جنسه قبلت، لكن الصحيح أنها تقبل. وذهب بعض العلماء إلى أن التوبة لا تقبل حتى يقلع عن جميع الذنوب، ولذلك أضافوا شرطاً سادساً إلى الشروط الخمسة، وهو: أن يقلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 عن جميع الذنوب وليس عن الذنب الخاص، بل عن كل الذنوب، وبناء على هذا القول فلو تاب من ذنب وهو مصر على آخر فإنه لا تقبل توبته. مثال ذلك: إذا تاب رجل من الزنا لكنه يشرب الخمر، فعلى هذا الرأي لا تقبل توبته من الزنا؛ لأنه لو كان صادقاً ما عصى الله، ولو كان صادقاً في التوبة والرجوع إلى الله ما عصى الله بالذنب الآخر. ولو تاب من الربا لكنه يغش الناس، فإنه لا تقبل توبته على هذا الرأي، ولكن الصحيح أنها تقبل. ولكن يقال: أما التائب التوبة المطلقة فهذا لابد لتوبته من أن يكون مقلعاً عن جميع الذنوب، وأما التوبة الخاصة المقيدة فإنها تصح من ذنب مع الإصرار على غيره، إذاً فالمدح بالتوبة لا يكون إلا لمن أقلع عن جميع الذنوب، وأما التقييد فيصح من ذنب ولو مع الإصرار على آخر، فالذي تاب من الزنا لكنه يشرب الخمر، لا يصح أن نصفه بأنه تائب على سبيل الإطلاق، لكن نقول: إنه تائب من الزنا - مقيداً -، فلا يصح الوصف المطلق الذي يمدح به التائب، وإنما يمدح بقدر ما حصل منه من توبة فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 84- ومن يمت ولم يتب من الخطا ... فأمره مفوض لذي العطا 85- فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم ... وإن يشأ أعطى وأجزل النعم   الشرح قوله رحمه الله: (ومن يمت ولم يتب من الخطا) أي من غير الشرك؛ لأن الشرك لا يغفره الله تعالى (فأمره مفوض لذي العطا) وهو الله عز وجل. فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم وإن يشأ أعطى وأجزل النعم وذلك فوق الذنب، ودليل ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48) وهذه الآية قاضية على كل ذنب ما عدا الشرك فإن قال قائل: لو مات شخص على الكفر دون الشرك، مثل أن يكون جحد شيئاً من القرآن مثلاً ومات على ذلك، فهل يكون داخلاً تحت المشيئة؟ فالجواب: لا؛ لأن المراد بالشرك ما كان مخرجاً عن الإسلام، فكل شيء يخرج عن الإسلام فإن الإنسان إذا مات عليه لا يغفر له، وما دون ذلك فإن الله يغفره إن شاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 86- وقيل في الدروز والزنادقة ... وسائر الطوائف المنافقة 87- وكل داع لابتداع يقتل ... كمن تكرر نكثه لا يقبل 88- لأنه لم يبد من إيمانه ... إلا الذي أذاع من لسانه   الشرح اتفق العلماء على أن كل من تاب من كفر فإنه يقبل منه، ويرتفع عنه القتل؛ لعموم قول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53) ، وهذه الآية نزلت في التائبين، فكل ذنب يتوب الإنسان منه فإن الله تعالى يتوب عليه. واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله؛ الدروز والزنادقة ... إلى آخره. والدروز فرقة أصلها التشيع لأهل البيت، ثم غلت غلوا فاحشا حتى جعلوا المخلوق الها والعياذ بالله، وصاروا يعبدون المخلوق من دون الله، ومذاهبهم معروفة، قال بعض العلماء: إن الدروز يجب قتلهم بكل حال وإن تابوا، لعظم ذنبهم، فهم من أجل عظم الذنب لا تقبل منهم التوبة. كذلك الزنديق، والزنديق هو المارق عن الدين كله، وقيل: الزنديق هو المنافق، ولعل الزنديق أشد من المنافق؛ لأن المنافق ربما يتصنع للمسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ويظهر أنه مسلم، كما هو الشأن في المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (وسائر الطوائف المنافقة) أي: الدروز والزنادقة والمنافقون وغيره، (وكل داع لابتداع) أي كل إنسان يدعو للبدعة، والمراد البدعة المكفرة، (يقتل) وهذا مقول القول، يعني يقتل ولو تاب، فإنها لا تقبل توبته، (كمن تكرر نكثه لا يقبل) يعني تكررت ردته؛ بحيث يرتد ثم يتوب، ويرتد ثم يتوب؛ ويرتد ثم يتوب، وهكذا. قالوا: هذا لا تقبل توبته لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (النساء: 137) ، فقال: (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (النساء: الآية 137) وهذا يقتضي أنه لا تقبل توبتهم. قوله: (لأنه لم يبد من إيمانه) لأنه: الضمير يعود على هؤلاء باعتبار الجنس، 0 لم يبد من إيمانه إلا الذي أذاع من لسانه) أذاع: يعني أظهر من لسانه، فالمنافق مثلاً إذا قلنا: إنه يجب قتله، فقال: أنا مسلم أشهد لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأصلي معكم وأزكى، نقول: ولو كنت كذلك، فإذا قال: أنا تائب، فنقول: ولو تبت نقتلك؛ لأن قولك الآن أنك تائب وتصلي وتزكي هو قولك أولاً لأنك تنافقنا، فلم يبد من إيمانك إلا ما أذاعه لسانك، وما أذعته اليوم كالذي أذعته بالأمس، أنت تنافقنا فلا نقبل منك. ولكن الصحيح أن المنافق تقبل توبته لقول الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا) (النساء: 145) (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء: 146) وهذه الآية صريحة في أنه تقبل توبة المنافق، ولكن الله ذكر شروطاً لابد منها، حيث قال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) (النساء: الآية 146) ، وذلك حتى نعرف إصلاحهم. والذين عللوا عدم قبول توبة المنافقين، يقولون: إن من تكرر نكثه فإننا لا نقبل توبته، للآية التي ذكرناها، ولأننا لو قبلنا إسلامه اليوم فسوف يرتد غداً؛ لأن هذه عادته؛ يؤمن ويكفر، ويؤمن ويكفر، فلا نثق به فنقتله، ولكننا نقول إن الله تعالى يقول في الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (النساء: 137) ، فكانت نهايتهم الزيادة في الكفر، ولم تكن نهايتهم التوبة، وعلى هذا فإذا تابوا وعرفنا أن توبتهم صحيحة باستقامة أحوالهم، فالصحيح أنها تقبل. أما الدروز والزنادقة فقالوا: أنها لا تقبل توبتهم لفداحة كفرهم، وإنهم كالمستهزئين بالله فلا تقبل، والصحيح أن كل كافر بأي نوع من أنواع الكفر تقبل توبته، فإننا لا نعلم كفراً أعظم من كفر فرعون، ومع هذا لما قال عندما أدركه الغرق: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: الآية 90) ، قيل له: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس: 91) ولم يقل له إن كفرك عظيم لا تنفع فيه التوبة، ولكن قيل: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) لأنه فات وقت التوبة الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فإذا تاب الإنسان من أي ذنب كان، وعلمنا صدق توبته، فإننا لا نقتله بل نحكم بإسلامه، أما الداعي للبدعة؛ فإنه لو رأى ولي الأمر أن يقتله لأنه ساع بالفساد في الأرض فله أن يقتله من باب التعزير - حتى لو تاب فله أن يقتله، وقولنا: فله أن يقتله من باب التعزير، يعني وليس واجباً عليه، بل إن رأى ولي الأمر أن هذا الداعية للبدعة إذا تاب من بدعته ربما يكون داعياً للسنة فلا يقتله؛ لأن التائب من البدعة حقيقة لابد أن ينقض ما كان عليه من قبل، وحينئذٍ إذا نقض ما كان عليه من قبل من البدع فلا شك أنه مَكسب ويكون في ذلك مصلحة للسنة وأهل السنة. والخلاصة أن كل من كفر بأي سبب من أسباب الكفر، إذا تاب وصلحت حاله فإننا نقبل توبته مهما كان ذنبه، ونقبل توبته على كل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 89- كملحد وساحر وساحرة ... وهم على نياتهم في الآخرة 90- قلت وإن دلت دلائل الهدى ... كما جرى للعيلبوني اهتدى 91- فإنه أذاع من أسرارهم ... ما كان فيه الهتك عن أستارهم 92- وكان للدين القويم ناصرا ... فصار منا باطنا وظاهرا   الشرح قوله: (كملحد وساحر وساحرة) : السحر له تأثير، ودليل تأثيره أن السحرة لما سحروا أعين الناس بحبالهم وعصيهم التي ألقوها، كانت مؤثرة حتى في موسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طه: الآية 66) مع أنها حبال وعصي ساكنة في الأرض لا تتحرك، لكن يراها الرائي وكأنها تتحرك. فإذا قال قائل: هل هذا يدل على أن للسحر تأثيراً أو ليس له تأثير؟ فالجواب: أما في قلب الحقائق فليس له تأثير، وأما في تصريف الشيء على غير هيئته فهذا له تأثير، فالعصي مثلاً لا يمكن للساحر أن يقلبها إلى حية، والحبال لا يمكن أن يقلبها إلى حية، لكن يمكن أن يجعل الرائين يرونها وكأنها حيات. وعلى كل حال فإن السحر يؤثر، لكن ليس في قلب الحقائق؛ لأنه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 يقدر على قلب الحقائق إلا الخالق عز وجل، فهو القادر على قلب الحقائق، وقد قلب عصا موسى حية تسعى وتأكل. والسحر نوعان: سحر يكفر به الساحر: وهو السحر بواسطة الاستعانة بالشياطين، فهذا كفر لقول الله تعالى: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) (البقرة: الآية 102) ، وهذا الساحر يجب أن يقتل لكفره ومفسدته، فإن تاب قتل لمفسدته. وسحر لا يكفر به الساحر: وهو الذي يكون بالأدوية، لكن يجب أن يقتل درءاً لمفسدته. فقول المؤلف رحمه الله: (وساحر وساحرة) فيه هذا التفصيل؛ فنقول: إذا كفر بسحره فإنها لا تقبل توبته؛ باعتبار إننا نقيم عليه الحد ونقتله، وإن لم يكفر بسحره أقمنا عليه الحد تطهيراً لا كفراً. قوله: (وهم على نياتهم في الآخرة) يعني نحن نحكم بالظاهر، وأما السرائر فإلى الله عز وجل. قال: (قلت وإن دلت دلائل الهدى) قلت: يعني القائل هو المصنف رحمه الله (إن دلت) هذا شرط، و (اهتدى) جواب الشرط. (إن دلت دلائل الهدى) يعني وجدت قرائن تدل على صدق توبته فإنه يهتدي، وإذا اهتدى قبلنا توبته. وأما قوله: (كما جرى للعيلبوني) فهذا رجل كان من الزنادقة، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الله سبحانه وتعالى هداه، وكان في الأصل درزياً، (فاهتدى) أي يقول المؤلف رحمه الله: فمثل هذا تقبل توبته. والقرائن التي دلت على صدق توبة العيلبوني هي ما ذكرها المؤلف بقوله رحمه الله: فإنه أذاع من أسرارهم ... ما كان فيه الهتك عن أستارهم وكان للدين القويم ناصراً ... فصار منا باطناً وظاهراً فإذا دلت القرائن على أن هذا الزنديق أو هذا الملحد صار مؤمناً حقيقة، فإننا نقبل توبته، ونرفع عنه القتل؛ لأننا إذا كنا نعمل بالظاهر وقامت القرائن الظاهرة على صدق توبته وقبلنا توبته فقد عملنا بالظاهر، أما مع عدم القرينة فإننا لا نقبل توبته. وهناك أشياء ذكر العلماء رحمهم الله أنها لا تقبل توبة من اتصف بها؛ منها الاستهزاء بالله، والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فمن استهزأ بالله لم تقبل توبته لعظم ذنبه، حيث يستهزئ برب العالمين، ومن استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا تقبل توبته لعظم ذنبه، ولكن الصحيح أنها تقبل توبة كل تائب، لقوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر: الآية 53) والدليل في المستهزئين خاصة أن الله قال: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ) (التوبة: الآية 66) ، فبين أنه قد يعفو عن طائفة منهم، ويعذب الطائفة الأخرى. ولكن من سب الله أو استهزأ بالله قبلنا توبته ورفعنا عنه القتل، ومن سب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الرسول صلى الله عليه وسلم فتاب، قبلنا توبته وقتلناه، والفرق بين الذي يسب الله عز وجل، والذي يسب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أن الله عز وجل قد أخبرنا بأنه يعفو عن حقه بالتوبة، ولم يستثن شيئاً، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فسبه حق له، ولا نعلم هل يسقطه أو لا؟ فإذا كنا لا نعلم هل يسقطه أو لا فإن الأصل عدم الإسقاط، وعلى هذا فنقتله حداً لا كفراً. والخلاصة أن من سب الله أو رسوله ثم تاب فالصحيح قبول توبته، ثم إن كان في حق الله ارتفع عنه القتل؛ لأنه إنما يقتل لحق الله وقد عفا الله عنه، وإن كان في حق الرسول فهو مؤمن ولكن نقتله ثم نغسله ونكفنه ونصلي عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 93- فكل زنديق وكل مارق ... وجاحد وملحد منافق 94- إذا استبان نصحه للدين ... فإنه يقبل عن يقين   الشرح قوله: (إذا استبان نصحه) ولا يكفي مجرد التوبة؛ لأن الله تعالى قال في المنافقين: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء: الآية 146) ، فجعل إضافات على التوبة، وليس مجرد أن يقول المنافق إنه مسلم نقبل منه؛ لأنه كان يقول إنه مسلم من قبل، لكن لابد أن يكون هناك إصلاح، وإخلاص لله، واعتصام به، بمعنى أن تكون هناك قرائن تبين أنه صادق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فصل في الكلام على الإيمان 95- إيماننا قول وقصد وعمل ... تزيده التقوى وينقص بالزلل   الشرح قال المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام على الإيمان: (إيماننا قول وقصد وعمل) والكلام على الإيمان في أمور: أولاً: هل الإيمان هو الإسلام أو هما شيئان متباينان؟ وهذه مسألة مهمة، والجواب على ذلك أن نقول: إذا ذكر الإيمان والإسلام في سياق واحد فالإيمان غير الإسلام، وإن أفرد أحدهما عن الآخر صار بمعنى واحد، فهما من باب إذا اجتمعا افترقا، وإذا افتقرا اجتمعا، إذاً لا نقول: الإيمان غير الإسلام، ولا نقول: الإيمان هو الإسلام؛ لأننا إذا أطلقنا أخطأنا، فلابد من التفصيل على النحو التالي: فإن ذكرا في سياق واحد فالإيمان غير الإسلام، والدليل: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة جبريل، حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبرني عن الإيمان، فأخبره بما يخالف ما أخبره به عن الإسلام؛ لأنهما ذُكرا في سياق واحد، فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الإسلام الأعمال الظاهرة، وجعل الإيمان الأعمال الباطنة، فقال: ((الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)) وقال في الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)) (1) . وإن ذُكر أحدهما منفرداً عن الآخر دخل هذا في هذا، مثاله: قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسلام دِيناً) (المائدة: الآية3) ، فالإسلام هنا يشمل الإسلام والإيمان. فإذا قال قائل: من قال إن الإيمان دين؟ فنقول: قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ((أتدرون من السائل؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) (2) ، ومما علمهم الإيمان، إذاً ((رضيت لكم الإسلام دينا)) يشمل الإيمان والإسلام؛ لأنه أُفرد أحدهما عن الآخر، وقال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام) (آل عمران: الآية19) ، وهنا يدخل الإيمان؛ لأن الإيمان من الدين ولا شك. فإن قال قائل: قال الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: الآية14)) فما الجواب عن هذه الآية؟ فالجواب: إنهما هنا ذُكرا في سياق واحد ففرق الله بينهما، وقد اختلف المفسرون رحمهم الله في هؤلاء الأعراب؛ هل هم مؤمنون ضعيفو الإيمان، أو هم منافقون؟ فمن المفسرين من قال: إنهم منافقون، وقالوا: إن قوله: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (الحجرات: الآية14)) يعني الإسلام الظاهر، فإن المنافقين مسلمون ظاهراً. ومنهم من قال: بل هم مسلمون حقيقة لكن إيمانهم ليس تاماً، لم يتعمق   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ((إن الله عنده علم الساعة)) ، رقم (4777) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8) . (2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 في قلوبهم، بدليل قوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ لإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: الآية14)) و ((لما)) هذه تدل على قرب الشيء، كما قال تعالى: (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ) (صّ: الآية8)) وكون الإيمان قريباً من دخول قلوبهم يدل على انتفاء النفاق عنهم؛ لأن المنافقين نفى الله عنهم الإيمان نهائياً، فقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة: 8) وهؤلاء لم ينف الله الإيمان عنهم، بل قال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُم) (الحجرات: الآية14)) . وهذا القول الثاني أقرب من الأول وإن كان الأول محتملاً، إذاً هنا فرق بين الإسلام والإيمان. وقال الله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 35) (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات: 36) هذه الآية استدل بها بعض العلماء ممن يقولوا: إن الإسلام هو الإيمان مطلقاً لأن الله قال: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات: 35) (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين) والحقيقة أن هذه الآية دليل عليهم وليست دليلاً لهم؛ لأن الله قال: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين) ، والبيت هو بيت لوط، ومن بينهم امرأته، وامرأته ليست مؤمنة ولكنها مسلمة، ولهذا قال الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) (التحريم: الآية10)) ، أي أظهرتا الإسلام وهما كافرتان، فامرأة لوط كانت كافرة هلكت مع قومها، فالآية فيها أن البيت مسلم، لكن ليس فيها أن من في البيت مسلمون. وعلى ذلك فليس في الآية دليل على ما ذهبوا إليه، بل نقول: إن الآية تدل على أن الإيمان غير الإسلام؛ لأن الله اخرج من كان فيها من المؤمنين وبين أنه لم يسلم أحد في هذه القرية بأكملها - ورسولهم بينهم يدعوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وفي هذا فائدة عظيمة للدعاة في كل مكان؛ فإن الواحد منا إذا دعا ولم يستجب الناس له ويسمعوا ويطيعوا أمره، قال: إن هؤلاء الناس ليس فيهم خير، ولن أدعوهم مرة ثانية، فهذا رسول بقي يدعو قومه، ولم يُسلم من القرية أحد بل لم يوجد بيت مسلم إلا بيته، وكذلك نوح عليه الصلاة والسلام بقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل، وهو رسول يأتي بالآيات، أما نحن فإذا دعا الواحد منا ثم دعا - ولم يجد استجابة كبيرة - استحسر، وغضب، وتوقف، وهذا خطأ، والصواب أن ندعو إلى سبيل ربنا ونحن مأجورون على كل حال. ثانياً: هل الإيمان تصديق القلب وإقرار القلب واعترافه فقط أو هو شامل للتصديق ومستلزماته؟ والجواب: أن الإيمان في الأصل هو التصديق بالقلب، فأنت عندما تقول: آمنت بالله، لا تحس إلا أنك أقررت به في قلبك، فالإيمان في القلب وهذا هو الأصل، لكن الإيمان شرعاً أوسع من الإيمان لغةً، وهذا من الغرائب، لأن القاعدة المطردة أن المصطلح الشرعي أضيق من المصطلح اللغوي. فمثلاً الزكاة في اللغة: النماء، وفي الاصطلاح: مال خاص، والطهارة في اللغة: النظافة، وفي الشرع: نظافة خاصة، والصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: دعاء خاص، والحج في اللغة: القصد، وفي الشرع: قصد خاص، لكن الإيمان في اللغة: التصديق، ولا يشمل الأعمال الظاهرة، وفي الشرع: يشمل التصديق والأعمال الظاهرة، إذاً فالمصطلح الشرعي في باب الإيمان أوسع منه لغة ً، على خلاف المعهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وعلى كل حال فالإيمان في الشرع يشمل التصديق والإقرار الحاصل بالقلب، ويشمل أيضاً ما يلزم منه من الأعمال الصالحة، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة - أو وستون شعبة - فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (1) ، فقول ((لا إله إلا الله)) قول باللسان، وقال: ((إماطة الأذى عن الطريق)) وهذا عمل بالجوارح، ((والحياء شعبة من الإيمان)) ، وهذا عمل قلبي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)) (2) ، وهذا اعتقاد قلبي. وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (البقرة: الآية143)) ، قال المفسرون: أي صلاتكم إلى بيت المقدس، والصلاة عمل، وعلى ذلك فإن الإيمان في الشرع يشمل اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ((إيماننا قول وقصد وعمل) ثلاثة أشياء؛ قول مثل: لا إله إلا الله، وقصد وهو: الاعتقاد، مثل: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغير ذلك، وعمل؛ وأدناه إماطة الأذى عن الطريق. فالإيمان إذاً يشمل الثلاثة. وكون الاعتقاد إيماناً واضح، أما كون العمل إيمانا فذلك لأنه لم يحملني عليه إلا الإيمان والاعتقاد الذي في القلب، ولولا أني اعتقد الثواب في إماطة الأذى عن الطريق ما أمطته، ولكان عملي عبثاً، ولولا أني اعتقد أني أثاب على قولي: لا إله إلا الله، ما قلتها؛ لأنه يكون عبثاً، فلما كان هذا العمل   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، رقم (35) . (2) تقدم تخريجه ص 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 نتيجة للاعتقاد التام في القلب صار إيماناً وهذا واضح. وقد خالف أهل السنة والجماعة في ذلك طائفتان متطرفتان: الطائفة الأولى: وهم المرجئة الذين جعلوا الإيمان مقتصراً على القصد فقط، وقالوا: إن الإيمان هو اعتقاد القلب فقط، ومتى اعترف الإنسان بقلبه بالله عز وجل فهو مؤمن سواءٌ عمل أم لم يعمل، ومن كان عنده اعتقاد تام فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن زنا وسرق وشرب الخمر ولم يزكِ ولم يحج ولم يصم، فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان محمد وجبريل وميكائيل عليهم الصلاة والسلام، ولا يدخل النار مهما عمل من المعاصي، وهؤلاء هم المرجئة، وقد عناهم ابن القيم رحمه الله في قوله في النونية: والناس في الإيمان شيء واحد ... كالمشط عند تماثل الأسنان (1) والمشط أسنانه سواء، أي أنهم يقولون: الناس في الإيمان شيء واحد، أفسق الناس وأطوع الناس كلهم واحد في الإيمان، وهذا شيءٌ غريب - نسأل الله العافية - وعلى رأيهم فالعاصي الذي يشرب الخمر ويسرق ويزني ويكذب ويخون - لكنه مؤمن بالله وينتسب للإسلام - عندهم أنه مؤمن كامل الإيمان، والله تعالى يقول: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: الآية9)) لا يستويان، لكنهم يقولون: إنهم يستوون، ففاعل الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحق دخول النار، ولا يستحق العقاب، وهذا الفكر مناسب لحال الفسقة من أهل العصر؛ إذا نهي عن الفسق يقول: أنا مؤمن كامل الإيمان - على رأي المرجئة.   (1) انظر القصيدة النونية 1/65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وأقول: إن هناك ثلاث جيمات يجب التنبيه والتحذير منها وهي: جهمية وجبرية ومرجئة، فكلها وصف لموصوفٍ واحد؛ فالجهمية هم بإعتبار صفات الله عز وجل معطلة؛ ينكرون الصفات، وهم أيضاً جبرية باعتبار أفعال العبد، يقولون: إن الإنسان مجبرٌ على عمله، لا يستطيع أن يتخلص منه، فلو وجدنا شخصين ينزلان من السطح: أحدهما ينزل بتؤده درجة درجة، والثاني دفعناه من أعلى الدرجة وعجز أن يمسك نفسه، فعندهم الكل سواء وكلهم مجبرون، ومرجئة يقولون: الإيمان هو اعتراف الإنسان بقلبه. ونحن نلزمهم بأن نقول لهم: إن إبليس عندكم مؤمن كامل الإيمان؛ لأن إبليس مؤمن بالله، ويسأل الله ويدعو الله، فيقول: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (صّ: 79) ، فهو عندهم مؤمن كامل الإيمان، وموحد لأنه مؤمن بالربوبية. وهؤلاء لاشك أن قولهم مجانب للصواب، وإذا قيل لهم: يوجد آيات وأحاديث فيها وعيد مثل قول الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) (النساء: الآية93)) قالوا: هذا للكافر، أي من يقتل مؤمناً وهو كافر، وهذا لا شك أنه تحريف؛ لأن الله علق هذه العقوبة على وصف وهو القتل، وهؤلاء تركوا هذا الوصف جانباً، وأتوا بوصف جديد وهو الكفر والآية ليس فيها الكفر، فهم ألغوا الوصف الذي رتبت عليه العقوبة وأتوا بوصف جديد. ونظير هذا قول بعضهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (1) ، قالوا من جحدها، فألغوا الوصف الموجود،   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، رقم (82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 واعتبروا الوصف المفقود، وذكر الجحد غير موجود في الحديث، ثم نقول لهم: إذا جُحد وجوب الصلاة ولو كان يصلي الصلوات الخمس كل يوم فهو كافر، فهم ألغوا الوصف الموجود الذي رتب الشارع عليه الحكم، وأتوا بوصف مفقود جديد من عندهم. ومثل هذه الأشياء إذا تأملها الإنسان عرف أن التعصب للقول سبب للضلال، وأن الإنسان ينبغي أن يستدل ثم يعتقد، لا أن يعتقد ثم يستدل؛ لأنه إذا اعتقد ثم استدل يلوي أعناق النصوص لتوافق ما اعتقد، لكن إذا استدل أولاً ثم اعتقد بنى عقيدته على الدليل، ووافق الدليل. وأسأل الله أن يعفو لإخواننا العلماء السابقين واللاحقين الذين يعتقدون أشياء، ثم يحاولون لَيّ أعناق النصوص إلى ما يعتقدون، وهذا لا شك أنه خطأ، فنحن نؤمن بأن الأحكام مَردها إلى الله، فإذا حكم الله أو رسوله بحكم لا نستحي أن نطبقه ولا نخجل ولا نتهيب، فالحكم ليس إلينا بل نحن منفذون ولا نهيب، فإذا حكم الله على هذا بالكفر فلنقل: كافر ولا نبالي، وإذا حكم الله على هذا بالإيمان فلنقل: مؤمن ولا نبالي، أما التحكم، واعتقاد كفر المؤمن أو إيمان الكافر فهذا ليس إلينا. وأحب أن يتنبه طالب العلم لمسألة مهمة، وهي أن يجعل الدليل متبوعاً لا تابعاً، وأن يحذر من أن يلوي أعناق النصوص إلى رأيه، فإن هذا خطر عظيم، ولهذا جاء في الحديث: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) (1) .   (1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، رقم (2951) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 والطائفة الثانية: قالوا: إن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقاد، وإن هذه الأشياء جزءٌ لا يتجزأ من الإيمان، فمن اعتقد ولم يقل أو لم يعمل فإنه كافر، بمعنى أنهم جعلوا القول والعمل جزءاً من الإيمان وشرطاً في وجوده، حتى قالوا: إن فاعل الكبيرة خارج من الإيمان، ولو صلى وصام وزكى وحج، ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: يكفر، وقال بعضهم: يكون في منزلة بين منزلتين. وتفرع عن هؤلاء طوائفٌ كثيرة، لكن هذه هي الأصل، فمنهم من يقول الإيمان هو القول فقط، فإذا قال الإنسان بلسانه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهو مؤمن، لكنه مخلد في النار؛ لأن من قال بلسانه ولم يعتقد بقلبه فهو منافق، وهؤلاء يسمونه مؤمناً، ولكنهم يقولون: إنه مخلد في النار، وهذا لا شك أنه مناف لقول أهل السنة والجماعة وللقران أيضاً، لقول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة: 8) ، وأيضاً فإن الله سمى هؤلاء الذين يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم منافقين، فكيف نسميهم مؤمنين؟! إذاً أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويستدلون لذلك بأدلة كما ذكرنا فيما سبق، وخالفهم - مخالفة أصلية - طائفتان: الطائفة الأولى: قالوا: إن الإيمان هو اعتقاد القلب فقط، والأعمال لا تدخل في الإيمان، وهؤلاء هم المرجئة، وعلى رأسهم الجهمية الذين يقولون: إن الناس في الإيمان سواء، وإن الإيمان هو اعتقاد القلب، وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الأعمال فإنها لا تدخل في الإيمان لا حقيقة ولا مجازا. الطائفة الثانية: قالوا: إن الأقوال والأعمال من الإيمان، لكنها شرطٌ في وجوده، بمعنى أنه إذا فقد منها شيء فقد الإيمان كله. فقالوا: من لم يزك فهو كافر، ومن لم يصل فهو كافر، ومن لم يصم فهو كافر، ومن لم يحج فهو كافر، ومن عق والديه فهو كافر، وبعضهم قال: لا نسميه كافراً، ولا نسميه مؤمناً، ولكن نقول: هو في منزلة بين منزلتين. وهذا الأخير هو مذهب من يرون أنفسهم أذكياء العالم، وهم المعتزلة، والذي قبله هو مذهب الخوارج ولذلك كان موقف الخوارج أشجع من المعتزلة؛ لأن الخوارج قالوا: كافر ولم يبالوا، والمعتزلة قالوا: لا نقول كافر ولا مسلم، بل هو في منزلة بين منزلتين؛ فأحدثوا مرتبةً لم ينزل الله بها سلطاناً؛ وهي المنزلة بين منزلتين. فإن قال قائل: - على مذهب أهل السنة - هل الأعمال شرط في وجود الإيمان؟ فالجواب: أن منها ما هو شرط ومنها ما ليس بشرط، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله شرط في وجود الإيمان، ومن لم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر. وإن آمن بالله، ولم يصل - والصلاة عمل - فهو كافر، وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن آمن بالله، لكن لم يزك - والزكاة من الأعمال - فليس بكافر. وخلاصة ذلك أنه إن فقد الاعتقاد في القلب كفر الإنسان، وإن وجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 لكن تخلفت الأقوال أو الأعمال ففيه تفصيل. فإن دلت النصوص على أنه يكفر كفر، وإلا فلا، فمن آمن بالله تعالى، ولم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقد ترك قولاً، ولكنه يكفر بذلك، ومن قال: آمنت بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكن لم يصل فقد كفر - على القول الراجح - ومن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآمن بالله وصلى ولكنه لم يزك فليس بكافر، وعند الخوارج كافر، وعند المعتزلة في منزلة بين منزلتين - إلا إن كانوا يرون كفر مانع الزكاة. ثم قال: (تزيده التقوى وينقص بالزلل) وهنا يجب تسكين (ينقص) من أجل وزن البيت، وإن كان لا يوجد ما يوجب جزمها لكنها تسكن، وعلى هذا نقول (ينقص) مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها إقامة الوزن للبيت. وقوله: (تزيده التقوى) أي تقوى الله عز وجل تزيد في الإيمان. وهنا مبحث: هل الإيمان يزيد وينقص؟ والجواب على ذلك: أن مذهب السلف: أن الإيمان يزيد وينقص، وقال بعض علماء السلف: الإيمان يزيد ولا ينقص، وقالت المرجئة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقالت الخوارج والمعتزلة: لا يزيد ولا ينقص؛ لأنهم يرون أن الإيمان إما أن يوجد كله وإما أن يعدم كله. وإذا أردنا تحليل ذلك فإننا نبدأ أولاً بالعقيدة، والعقيدة تزيد وتنقص بلا شك، والدليل على ذلك عقلي وشرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أما الدليل العقلي: فلأن الاعتقاد مبني على العلم، والعلم مبني على طرق العلم، وطرق العلم تختلف، فلزم من ذلك أن يزيد الاعتقاد وينقص باعتبار طرقه، وهذا دليل عقلي على أن الاعتقاد يزيد وينقص. ونضرب مثلاً محسوساً لهذا: فأنت إذا أخبرك رجل ثقة بخبر اعتقدت مخبره، فإذا جاءك ثان وأخبرك بنفس الخبر زاد اعتقادك، فإذا أخبرك ثالث فرابع زاد أكثر، فإذا شاهدت ذلك بنفسك، فإن اعتقادك يزيد أكثر وأكثر، ولهذا قال المحدثون: ((إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، أو الضروري)) على خلاف في هذا. أما الدليل الشرعي: على أن الاعتقاد يزيد وينقص، فمنه قول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: الآية260)) ، وعلى هذا فالاعتقاد يزيد وينقص بدليلين؛ أحدهما أثري، والثاني نظري، وإن شئت فقل: أحدهما سمعي والثاني عقلي. فالاعتقاد يزيد وينقص، وأنت بنفسك تحس بذلك، فأحياناً يكون عندك حضور ذهن وصفاء نفس، فتتعبد لله وكأنك تشاهد الجنة والنار، وأحياناً تستولي عليك الغفلة، فلا يحصل عندك هذا الاعتقاد، ولهذا لما سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا رسول الله إذا كنا عندك وذكرت الجنة والنار فكأنما نشاهدها رأي عين، فإذا ذهبنا إلى أهلينا وعافسنا الأولاد والنساء)) - يعني غفلنا، قال النبي عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 والسلام: ((يا حنظلة ساعة وساعة)) (1) ، وهذا أمر مشاهد. والقول - وهو من الإيمان - أيضاً يزيد وينقص؛ فالذي يذكر الله عشر مرات ليس كمن يذكره خمس مرات، فالذي يذكره سبحانه عشراً ذكره أكثر، إذاً القول يزيد وينقص، وإذا زاد القول زاد الإيمان. وزيادة القول تكون تارة بالكمية، وتارة بالكيفية، وتارة بهما جميعا، فالإنسان إذا قال: لا إله إلا الله، موقناً بها قلبه تماماً، ملتزماً لمقتضياتها، فهو أزيد ممن قالها مع الغفلة، والإنسان الذي يقول - عشر مرات لا إله إلا الله أزيد من الذي يقول خمس مرات، فزيادة القول تكون بالكمية والكيفية. وعلى هذا فإذا زاد القول - وقلنا إنه من الإيمان - لزم زيادة الإيمان، وإذا نقص القول نقص الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) قالوا: يا رسول الله ما نقصان دينها؟ قال: ((أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم)) (2) . والصيام والصلاة عمل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نقصه من الحائض نقصاً في الدين، إذاً هنا نقص الإيمان بنقص العمل. وكذلك العمل يزيد وينقص، والزيادة في العمل تكون كميةً وكيفيةً ونوعا.   (1) رواه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر ... ، رقم (2750) . (2) رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان ... ، رقم (80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ففي النوع: فإن الواجب أفضل من التطوع، لقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلىّ عبدي بشيءٍ أحب إليّ مما افترضته عليه)) (1) . فالصلاة في جنسها أفضل من الصدقة، وكذلك الأضحية - في وقتها - أفضل من الصدقة، وهذا في النوع. وفي الكمية: فإن من صلى عشر ركعات إيمانه أزيد ممن صلى ركعتين. وفي الكيفية: فإن من صلى صلاة يطمئن فيها بخشوع وتأن وتدبر لما يقول، ليس كمن صلى صلاة على غير هذا الوجه. قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة: 124) وزيادة الإيمان في الآية تشمل زيادة القول والعمل والاعتقاد، فيزدادون إيماناً، ويزدادون عملاً إذا كانت الآية فيها أمر بأعمال، أو قولاً إذا كان فيها أمر بأقوال. وإذا تقرر عندنا أن الإيمان يزيد في الاعتقاد والقول والعمل، فلابد أن نعرف أن هناك أسباباً لزيادة الإيمان. يقول المؤلف رحمه الله: (يزيد بالتقوى) ، فتقوى الله عز وجل أحد أسباب زيادة الإيمان، فهذا هو السبب الأول. والتقوى هي: اتخاذ وقاية من عذابه سبحانه وتعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فكلما زاد الإنسان من فعل الطاعة زاد إيمانه، وكلما تجنب النواهي مخلصاً لله زاد إيمانه، إذاً فعل الطاعة تقرباً إلى الله يزيد في الإيمان، وترك المعصية تقرباً إلى الله يزيد في الإيمان.   (1) تقدم تخريجه ص 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 السبب الثاني: النظر في آيات الله الكونية أو الشرعية، قال الله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101) ، وهذه آيات كونية. والقرآن الكريم قال الله تعالى فيه (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: الآية2) وهذه آيات شرعية. فالنظر في آيات الله الكونية مثل أن يجلس الإنسان ساعة يتفكر في خلق السموات، ويتفكر في خلق الأرض، فهذه المخلوقات العظيمة الواسعة منتظمة منذ الأزل، ليس فيها ما يتناقض أو يتدافع، ليس فيها من خراب: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (الملك: الآية3) فيتأمل فيوقن أنها ممن خلق الله عز وجل، ثم يتأمل - إن شاء - في نفسه، وسيرى من آيات الله فيها العجب العجاب، فهذا الجسم فيه معامل كيماوية عظيمة، مع أننا لا نحس بشيء، ولو أن بيضة مرت على ذارع أحدنا لاحس بتدحرجها، ولكنها تمر في الأمعاء ولكن لا نحس بها، فما الظن لو كنا نحس بمرورها بأمعائنا كما نحس بمرورها على الجلد؟ ولو كان ذلك لما استطعنا أن ننام وهي تتقلب في أحشائنا، لكن الله عز وجل بحكمته جعل الداخل لا يحس به من أجل ألا يتألم الإنسان عند مرور الطعام والشراب وغيره. وتأمل أيضاً الإحساس في الجلود؛ فإنه ليس على حد سواء، بل هناك مناطق حساسة جداً. تحس بأي شيء يمر عليها وتتأثر به، وهناك مناطق لا تحس هذا الإحساس، فباطن القدم لا يحس كباطن اليد؛ لأن باطن القدم لو كان حساساً كباطن اليد لما استطعنا أن نمشي عليه، لكن من حكمة الله عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وجل أن جعله هكذا غير حساس . ولو تأملت راحة اليد لوجدت أن من عظيم حكمة الله أنها ليس فيها شعر، ولو كان فيها شعر لتلوث باطن اليد بالطعام وتلوثت الأشياء، ولقل الإحساس بها، ولفقدت الإتقان في فعل الأشياء، ويدل لهذا أنك لو لبست قفازين لفقدت الإتقان في العمل بيدك. وعلى كل حال فنحن معرفتنا بهذه الأشياء سطحية، لكن لو أنك أتيت واحداً من الأطباء، وشرح لك ما في الإنسان من آيات لبهرك، ولهذا قال الله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21) ولهذا نقول إن التفكر في آيات الله الكونية يزيد في الإيمان، وهذا ظاهر محسوس. وكذلك التفكر في الآيات الشرعية يزيد في الإيمان بلا شك، لكن يحتاج إلى أن يكون الإنسان بصيراً في أحكام الشرع، حتى يعرف الحكمة في الأشياء التي شرعها الله، وهذا يخفى على بعض الناس ولا سيما من أعرض عن ذكر الله، فإنه لا يفتح له باب المعرفة، يقول المعري: يد بخمس مئين عسجداً وديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار كأن الناس هم المشرعون حتى ينتقدهم هذا الانتقاد، خمس مئين عسجد، والعسجد هو الذهب، يعني خمسمائة دينار دية اليد، فإذا سرق ربع دينار قطعت، فكانت اليد بقيمة ربع دينار؛ لأنه إذا قطعها الإنسان يلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 بخمسمائة دينار، وإذا سرقت ربع دينار قطعت؟! وهذا لا يعرف الحكمة فه إلا من فتح الله عليه وأقبل بصدق على تأمل شريعة الله لا انتقادها، وإني لأجزم بأن الإنسان الذي يريد أن ينظر إلى الشريعة بانتقاد لن يفتح الله له باب المعرفة، أما الذي ينظر إليها باسترشاد ويطلب الرشد فهذا يفتح الله عليه، ويبين له من الأسرار ما يخفى على كثير من الناس. ولقد أجاب الشاعر الآخر المعري فقال: قل للمعري عار أيما عار ... جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار يد بخمس مئين عسجدا وديت ... لكنها قطعت في ربع دينار صيانة النفس أغلاها وأرخصها ... حماية المال فافهم حكمة الباري يعني أنها تؤدى بخمسمائة دينار صيانة للنفوس، وتقطع بربع دينار حماية للأموال، وهذه حكمة عظيمة؛ لأن من علم أنه سيضمن خمسمائة دينار إذا قطع اليد أو تقطع يده سوف يحجم، ومن علم أنها ستقطع بربع دينار سوف يحجم عن السرقة وهذه هي الحكمة. ولهذا فإنه يجب علينا أن نتأمل الآيات الشرعية تأمل استرشاد لا تأمل انتقاد، حتى يفتح الله لنا من الخير ومعرفة حكمة الله عز وجل ما يخفى على كثير من الناس. وإذا أردت أن تعرف هذا فانظر أحياناً وأنت تقرأ الكتاب، فإنك إذا كنت تقرأه قراءة منتقد على مؤلف فإنك لا تستفيد منه كثيراً، لكن إذا كنت تراجع الكتاب وتسترشد من مؤلف فإنك تنتفع كثيرا. قال المؤلف: (وينقص بالزلل) يعني أن الإيمان ينقص بالزلل، والدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين)) (1) ، قال: ناقصات عقل ودين، وهذا دليل على أن الإيمان ينقص. والدليل الثاني: وهو دليل عقلي أنه إذا ثبتت الزيادة ثبت النقص؛ لأنه لا تعقل زيادة إلا بوجود مزيد ومزيد عليه، فإذا ثبتت الزيادة بالنص، فقد ثبت النقص أيضاً؛ لأنه لا يتصور زيادة إلا بمقابلة نقص، فمثلاً إذا كان هناك رجل زاد إيمانه، فمعنى ذلك أنه قبل ذلك كان ناقصاً، وهذا من باب التلازم فإنه لا يمكن زيادة إلا بوجود نقص. ثم اعلم أن نقص الإيمان على قسمين: الأول: نقص لا حيلة للإنسان فيه كنقص دين المرأة بترك الصلاة في أيام الحيض، فإن هذا لا اختيار لها فيه، بل لو أرادت أن تصلي حتى لا ينقص إيمانها لقيل لها: إن هذا حرام عليك، ولو صليت لزاد إيمانك نقصاً. إذاً هذا نقص لا حيلة للإنسان فيه ولا يلام عليه؛ لأن هذا لا اختيار له فيه إطلاقاً. ومثل أن يموت الإنسان صغيراً، فإن إيمانه ينقص عمن عُمِرْ؛ لأن من عُمِرْ زاد إيمانه وزادت أعماله، فهذا النقص لا حيلة له فيه لا يلام عليه إطلاقاً. الثاني: نقص باختيار الإنسان، وهذا ينقسم إلى قسمين: إن كان سببه المعصية أو ترك الواجب فإنه يلام عليه، ويأثم به، وإن كان نقصه بترك تطوع غير واجب فإنه لا يلام عليه لوماً يأثم به، وإن كان على الإنسان أن يجتهد في العمل الصالح، ولهذا قيل لابن عمر رضي الله عنهما   (1) تقدم تخريجه ص 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 في المنام: نعم الرجل لو كان يقوم من الليل (1) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاص: ((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)) (2) ، وهذا لا شك أنه نوع لوم لكنه لوم لا إثم به، بخلاف من ترك الواجب أو فعل المحرم فإنه يلام لوماً يأثم به. إذاً نقص الإيمان على قسمين: الأول: لا يكون للإنسان اختيار فيه، فهذا لا لوم عليه فيه، مثل ترك المرأة الصلاة أثناء الحيض، ومثل من نقص عمله وإيمانه لموته صغيراً. الثاني: ما كان للإنسان فيه اختيار، فهذا إن كان واجباً فهو ملام آثم، وإن كان غر واجب فقد يلام، ولكنه لوم لا إثم فيه. وقول المؤلف: (ينقص بالزلل) (الباء) هنا للسببية، والزلل: مصدر زل، يزل، زللا، وهو مثل الزلق يعني الخروج عن الاعتدال، هذا هو الزلل، فإذا خرج الإنسان عن واجبه نقص إيمانه.   (1) رواه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل رقم (1121) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر، رقم (2479) . (2) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من ترك قيام الليل ... ، رقم (1152) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ... ، رقم (1159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 96- ونحن في إيماننا نستثني ... من غير شك فاستمع واستبن 97- نتابع الأخيار من أهل الأثر ... ونقتفي الآثار لا أهل الأشر   الشرح قال رحمه الله تعالى: (ونحن في إيماننا نستثني) (نحن) : ضمير يعود على أهل الأثر؛ لأن هذه العقيدة أو هذه المنظومة مبنية على مذهب أهل الأثر، يعني نحن أهل الأثر نستثني في إيماننا، والاستثناء في الإيمان أن يعلق بالمشيئة، أي مشيئة الله، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فنحن نستثني في الإيمان ونرى أنه جائز، لكن على تفصيل في ذلك كما سنذكره إن شاء الله. وذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء في الإيمان حرام؛ لأنه ينبئ عن شك، فإذا قلت: أنا مؤمن إن شاء الله، كأنك شاك في الموضوع، فيكون الاستثناء حراماً؛ لأنك شككت هل أنت مؤمن أو غير مؤمن. وقال بعض العلماء: بل الاستثناء واجب؛ لأنك إذا قلت: أنا مؤمن، ولم تقل: إن شاء الله، فإنك تكون قد زكيت نفسك، وشهدت لها بأنك قمت بكل الواجبات، وتزكية النفس حرام، وعلى هذا فيجب أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله. لئلا تزكي نفسك، قالوا: ولأنك لا تدري فلعلك الآن مؤمن ثم تكفر، والإيمان النافع هو الذي يوافي به الإنسان ربه ويكون في آخر الحياة. هذان قولان؛ الأول تحريم الاستثناء، والثاني وجوب الاستثناء، والصحيح أن الاستثناء ينقسم إلى واجب ومحرم وجائز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فالواجب: إذا كان الحامل على الاستثناء الخوف من التزكية فالاستثناء واجب؛ لأنه إذا جزم بأنه مؤمن فقد شهد لنفسه بأنه مؤمن والمؤمن له الجنة، فيكون قد شهد لنفسه بأن له الجنة، ولا يجوز للإنسان أن يشهد لأحد بأن له الجنة إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يخشى من التزكية فالاستثناء واجب. والمحرم: إذا كان الحامل على الاستثناء التردد وعدم الجزم، فالاستثناء حرام، بل مناف للإيمان. والجائز: إذا كان الاستثناء للتعليل؛ بمعنى أنا مؤمن بمشيئة الله. فهذا جائز؛ لأن هذه هي الحقيقة، والدليل على ذلك قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (الفتح: الآية27)) فالتعليق هنا ليس للتردد لأن الله غير متردد، وإنما هو لبيان العلة، وهي أن دخولكم بمشيئة الله. ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عند مروره لزيارة القبور ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) (1) فالإنسان لا يشك في أنه لاحق جزما بالأموات، ولكنه أتى بالمشيئة للتعليل، أي أن لحوقنا بكم بمشيئة الله تعالى. ومنه قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) (الفتح: الآية27)) ، لأن هذا ليس للتعليق، بل هو خبر من عند الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى جازم به. فقول المؤلف رحمه الله: (ونحن في إيماننا نستثني من غير شك) فإن كان لشك فهو حرام بل كفر. وقوله: (فاستمع) يعني استمع لما أقول، (واستبن) يعني اطلب بيان ما   (1) رواه البخاري، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة ... ، رقم (249) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 خفي عليك. وقوله: (فاستمع) ولم يقل: فاسمع؛ لأن الاستماع: الإنصات والسماع عن قصد، والسماع يكون عن قصد ويكون عن غير قصد، ونضرب لهذا مثلاً: لو مررت برجل يغني غناء محرما وسمعته فلا إثم عليك، لكن لو استمعت وأنصت إليه لكنت آثماً، ويدل على هذا الفرق قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ القرآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (الأعراف: الآية204)) قال (فاستمعوا له) ، ولم يقل: فاسمعوه؛ لأننا سمعناه من قبل، ولو أننا لم نسمعه لم يقل: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) . قال رحمه الله: (نتابع الأخيار من أهل الأثر) (الأخيار) : جمع خير، وهم السلف الصالح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) فنحن نتابع الأخيار. وقوله: (من أهل الأثر) ، المراد بالأثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن شئت فقال: المراد به ما هو أعم من ذلك، وهو ما ثبت عن طريق الشرع، وضده أو مقابله ما ثبت عن طريق العقل؛ وهو الدليل العقلي، فالأثر: ما كان ثابتاً بالأثر، وعلى رأسه - بالمعنى الأعم - القرآن والسنة، ثم ما روي عن الصحابة والتابعين. قوله: (ونقتفي الآثار) ، (الآثار) : جمع أثر وهي النصوص الواردة بالشرع. (لا أهل الأشر) أي لا نتبع أهل الأشر والبطر والفرح فيما هم عليه من البدع، وفي هذا إشارة إلى أن هذه المسألة قد اختلف فيها أهل الأثر وأهل الأشر، ونحن نتبع في ذلك أهل الأثر.   (1) تقدم تخريجه ص 59- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 98- ولا تقل إيماننا مخلوق ... ولا قديم هكذا مطلوق 99- فإنه يشمل للصلاة ... ونحوها من سائر الطاعات 100- ففعلنا نحو الركوع محدث ... وكل قرآن قديم فابحثوا   الشرح قال رحمه الله تعالى: (ولا تقل إيماننا مخلوق ولا قديم) وهذا بحث أحدثه المتكلمون، ولم يكن في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في عهد الصحابة، وهو: هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ وقد سبق لنا بحث أهم منه وأكثر وقوعاً وهو الاستثناء في الإيمان. أما هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ فهذا محدث؛ حدث بعد أن حدث القول بخلق القرآن، فصار المتكلمون يتحدثون ويتساءلون: هل إيمان العبد مخلوق أو غير مخلوق؟ فإن قيل: مخلوق فهو خطأ، وإن قيل: غير مخلوق فهو خطأ. ولهذا قال المؤلف رحمه الله هنا: (لا تقل إيماننا مخلوق ولا قديم) وقديم بمعنى غير مخلوق؛ لأن القديم عندهم هو الشيء الأزلي الذي لم يخلق من عدم، يعني لا تقل هذا ولا هذا، بل قل: آمنت بالله، أو أنا مؤمن، سواء كان مخلوقاً أو غير مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: إن الإيمان يشمل شيئاً محدثاً، والمحدث مخلوق؛ وشيئاً غير محدث، وغير المحدث غير مخلوق، قال: (فإنه يشمل للصلاة) والصلاة فيها قول وفعل، فالأفعال التي في الصلاة كلها مخلوقة؛ لأنها صفة حادث، وصفة الحادث حادث، لذلك قال المؤلف رحمه الله: (ففعلنا نحو الركوع محدث) . والأقوال التي في الصلاة منها مخلوق، ومنها غير مخلوق، ففيها قراءة القرآن، والقرآن غير مخلوق وهو من الإيمان، لذلك قال المؤلف: (وكل قرآن قديم فابحثوا) . فمعنى كلام المؤلف: لا تقل: إيماني مخلوق، ولا غير مخلوق؛ لأنك ستركع والركوع مخلوق، وستقرأ القرآن، والقرآن غير مخلوق وكل ذلك من الإيمان. ولكن القول الراجح في هذه المسألة أن إيماننا كله مخلوق، أما قراءة القرآن فإن القراءة التي هي فعل القارئ مخلوقة، وأما القرآن نفسه فغير مخلوق، لكن القرآن ليس هو إيمان العبد نفسه، وإنما القرآن مما يؤمن به العبد، وهناك فرق بين إيماننا، وما نؤمن به، فكلامنا بالقرآن مخلوق، لكن ما نتكلم به غير مخلوق. ولهذا فإننا نقول: إن كلام المؤلف رحمه الله هنا فيه نظر، بل الصواب أن نقول: إيماننا كله مخلوق، والقرآن ليس هو الإيمان ولكن قراءة القرآن هي التي من الإيمان؛ لأن الإيمان عندنا - أهل السنة - قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وعلى هذا فمن قال: إيماني مخلوق فقد صدق، أما ما آمن به ففيه التفصيل؛ منه ما هو مخلوق، ومنه ما هو غير مخلوق، رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلوق وأنا مؤمن به، والقرآن غير مخلوق وأنا مؤمن به، وكذلك الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ فالملائكة مخلوقون، والكتب غير مخلوقة، والإيمان بالرسل إيمان بمخلوق، واليوم الآخر مخلوق. فصار المؤمن به منه مخلوق ومنه غير مخلوق، أما مجرد إيمان العبد فإنه مخلوق؛ لأنه حادث، فالعبد لم يكن شيئاً مذكورا، ثم كان وأحدث الإيمان، وعلى هذا فالقول الصحيح أنه يجوز أن يقول الإنسان: إيماني مخلوق؛ لأنني مخلوق. ومما يؤخذ على المؤلف أيضاً قوله: (وكل قرآن قديم) ، والصحيح أن القرآن حادث؛ يتكلم الله به حين إنزاله، فيتلقاه جبريل فيأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا أن الله يتحدث عن مسائل مضت بلفض الماضي فيقول عز وجل: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) (آل عمران: الآية121) إذ غدوت، يعني فيما مضى، وهو إشارة إلى غزوة أحد، ويقول جل وعلا: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) (المجادلة: الآية1)) ، وهذه الآية نزلت بعد أن حصلت الشكوى ولا شك؛ لأنه عبر عنها بلفظ الماضي. فإن قال قائل: عُبِر عنها بلفظ الماضي لأنه متحقق الوقوع، فهو كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (النحل: الآية1) ، قلنا: هذا يأباه قوله: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 تَحَاوُرَكُمَا) ؛ لأن (يسمع) فعل مضارع لحكاية الحال، يعني يسمع حين تحاورتما فأخبر الله عن شيء مضى بصيغة المضارع الذي تحكى بها الحال، وحينئذٍ يتبين أن الله جل وعلا يتكلم بالقرآن حين إنزاله. ويدل لذلك أيضاً أنه تقع مسائل فيجيب الله عنها، قال تعالى: (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (المائدة: الآية4)) ، والله لم يتكلم بهذا الجواب قبل أن يسألوا، بل بعد أن سألوا، إذاً فهو محدث. وهذا في القرآن صريح، قال تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) (الأنبياء: الآية2) ، وقد أَولَ من يقول إن القرآن قديم. قوله: (مُحْدَثٍ) بأنه محدث إنزاله، وهذا تحريف؛ لأن (محدث) اسم مفعول، ونائب الفاعل فيه يعود على الذكر لا على الإنزال، فقوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (الأنبياء: الآية2)) هو: أي الذكر، فصرفُ الضمير إلى غير الذكر تحريف. فإن قال قائل: إن الله عز وجل يقول: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة: 77) (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: 78) ، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج: 21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 22) ، وقال أيضاً: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: 78) (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة: 79) ، فهل يقتضي ذلك أن الله كتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يتكلم به، وقبل أن ينزله على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب على ذلك أن قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة: 77) (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: 78) وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج: 21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 22) لا تدل على أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، إذ قد يكون المراد بذلك ذكره والتحدث عنه، وشأنه وعاقبته، بدليل قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء: 196)) وإنه: أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 القرآن: وذلك في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 192) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء: 193) (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 194) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء: 195) (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء: 196) ، والقرآن ليس مكتوباً في زبر الأولين، بل هو متحدث عنه في زبر الأولين. فيكون قوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة: 77) (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة: 78) ، وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (البروج: 21) (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج: 22) يعني التحدث عنه وذكر شأنه وحاله، ولا يتعين أن تكون الآية دالة على أنه مكتوب، والدليل على أنه لا يتعين قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء: 196) أي ذكره والتحدث عنه، لا أن القرآن نفسه مكتوب هناك؛ لأنه لو كان مكتوباً هناك لكان نازلاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم بأعوام. والخلاصة: أن القول بأن القرآن قديم قول منكر، بل نقول: القرآن مجيد كريم، ونصفه بما وصفه الله به، أما أنه قديم فلا يوصف بذلك، وهذا القول - أعني أن يوصف القرآن بالقدم - هو نزعة من نزعات الأشاعرة، الذين يقولون: إن كلام الله هو المعني القائم بالنفس، وهو قديم كقِدم العلم، أي لم يزل الله عز وجل مريداً للشيء عالماً به. فيقولون: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يسمعه جبريل، أو يسمعه موسى، أو سمعه محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج، فهذا عبارة عن أصوات مخلوقة تعبر عن كلام الله، أي أن الله خلق أصواتاً في الجو تعبر عن ما في نفس الله من الكلام، فهذا كلام الله عندهم، وقد قال بعض علمائهم المنصفين: الحقيقة أنه لا فرق بيننا وبين الجهمية؛ لأننا متفقون على أن ما يسمع ويقرأ فهو مخلوق، لكن الجهمية خير منهم في التعبير؛ لأن الجهمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 يقولون: هذا كلام الله، وهم يقولون: هذا عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، فصار الجهمية أحسن من الأشاعرة في هذا التعبير، وإن كان كل منهم أخطأ وأبعد عن الصواب. إذاً كلام المؤلف في هذين البيتين فيه نظر من وجهين: الأول: قوله: إن إيماننا منه ما ليس بمخلوق، ووجه النظر في ذلك أن إيماننا كله مخلوق؛ لأن إيماننا من صفاتنا، ونحن مخلوقون فصفاتنا مخلوقة، لكن ما نؤمن به هو الذي ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق. الثاني: قوله بأن القرآن قديم، والصواب انه ليس بقديم (1) فإن الله يتكلم به حين إنزاله؛ لأن الله قال: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 192) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء: 193) (عَلَى قَلْبِكَ) ، فظاهر السياق انه من حين يتكلم الله ينزل به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحق وهو المعقول. وينبغي لنا في العقيدة أن لا نستوحش ولا نتهيب من شيء دل عليه الكتاب والسنة، الوحشة كل الوحشة أن تحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل عقيدة تعتقدها وهي خطأ، هذه هي الوحشة، أما شيء دل عليه ظاهر الكتاب والسنة فلابد لك من قوله. قال المؤلف: (وكل قرآن قديم فابحثوا) البحث: يعني التفتيش، وأصله من بحث الأرض أي حرثها باليد، فكأن المفتش للوصول إلى العلم كمن يحرث الأرض ليستخرج ما كان خابئاً فيها. والبحث من أهم وسائل العلم، لكن بشرط أن يكون الغرض منه   (1) انظر حاشية ص 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الوصول إلى الحق، ودون الانتصار لقول النفس أو قول المتبوع، بل إذا بحث الإنسان فلتكن نيته سليمة، فينوي ببحثه الوصول إلى الحق، وسواء كان معه أو مع خصمه قبله، أما الإنسان الذي يكثر النقاش من أجل أن ينتصر لقوله - وإن كان يعتقد أنه حق - فإنه لا يجوز له ذلك، بل الذي ينبغي له أن يجعل مناقشته من أجل الوصول إلى الحق سواء كان معه أو مع غيره، ثم إنه إذا انقاد للحق - إذا كان مع خصمه - فإنه يجد لذلك لذة، ويجد تواضعاً يهون عليه مخالفة نفسه. أما إذا تعصب لقوله وصار يحاول أن ينتصر له ولو بالخطأ، فإنه سيضيق صدره ولا شك، وسوف لا يتمكن فيما بعد من الرضوخ للحق، وهذه آفة عظيمة، ألا وهي الاستكبار عن الحق. فالواجب على الإنسان أن ينظر إلى الصواب، سواء كان معه أو مع خصمه. ثم عليه إذا بحث، وأتى بحجته، ثم أتى الآخر بحجته، ولم يتبين لأحدنا صواب صاحبه، فإن الحكم إلى كتاب الله وسنة رسوله عن طريق الذي هو أعلم منا، حتى يكون الاتفاق، ويزول الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 101- ووكل الله من الكرام ... اثنين حافظين للأنام 102- فيكتبان كل أفعال الورى ... كما أتى في النص من غير امترا   الشرح قوله رحمه الله: (ووكل الله من الكرام) التوكيل هو إقامة الغير مقام النفس، مثال ذلك: لو وكل إنسان آخر ليشتري له حاجة من السوق فهو موكل، والآخر وكيل. وفي قوله: (ووكل الله من الكرام) إشكال. فهل الله عز وجل يوكل؟ وهل الله تعالى في حاجة إلى أن يوكل؟ والجواب: أن التوكيل المضاف إلى الله ليس كالتوكيل المضاف إلى الآدمي؛ لأن التوكيل المضاف إلى الآدمي قد يكون سببه العجز، كرجل مريض لا يستطيع أن يصل إلى السوق فوكل شخصاً يشتري له حاجة من السوق، أما التوكيل من الله فهو لكمال سلطانه وأنه يدبر الخلائق، فهو جنود لله عز وجل، وليسوا يقومون مقامه من أجل عجزه في تصريف خلقه، بل هم يقومون بما وكل إليهم لكمال سلطان خالقهم عز وجل. وقد أضاف الله التوكيل إلى نفسه في قوله تعالى: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام: الآية89)) . وعلى ذلك فالله وكيل، لقوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) (النساء: الآية81) ، أي قائم بشؤون خلقه؛ وموكل أي مدبر لخلقه لكمال سلطانه، فالتوكيل هنا ليس لنقص الموكل ولكن لكمال سلطانه، يدبر ما شاء؛ فهذا جند له موكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بكتابة الأعمال؛ وهذا جند من جنوده موكل بالنار؛ وهذا جند من جنوده موكل بالجنة، وهكذا. يقول رحمه الله: (ووكل الله من الكرام) أي من الملائكة الكرام، ودليل ذلك قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (الانفطار: 9) (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (الانفطار: 10) (كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار: 11) (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 12) ، وصفهم الله بالكرام لكمال أخلاقهم، والكمال يسمى كرَماً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ((إياك وكرائم أموالهم)) (1) ، أي كاملها في الصفات والحسن، فهم كرماء لكمال صفاتهم وإلا فإنهم لا يعلمون الناس شيئاً، لكن الكرم يكون من أجل البذل، ويكون من أجل الكمال، مع أن البذل من آثار الكمال. قوله: (اثنين حافظين للأنام) اثنين: يعني من الملائكة الكرام؛ أحدهما يكون عن اليمين؛ والثاني يكون عن الشمال، كما قال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) (قّ: 17) (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: 18) فأي قول يلفظ به الإنسان فلديه رقيب عتيد؛ حاضر لا يغيب عنه، أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال. ولما دخل على الإمام أحمد رحمه الله أحد أصحابه وكان مريضاً، وسمعه يئن أنين المريض، قال له: يا أبا عبد الله، إن طاوساً - وهو من كبار التابعين رحمه الله - يقول: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، فلما قال هذا لأبي عبد الله رحمه الله، أمسك حتى عن الأنين، خوفاً من أن يكتب عليه، ولا شك أن أنين المريض إذا كان ينبئ عن تسخط فإنه يكتب عليه، أما إذا كان   (1) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب اخذ الصدقة من الأغنياء ... ، رقم (1496) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، رقم (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 بمقتضى الحمى، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وعلى ذلك فهؤلاء الملائكة يحفظون الأنام؛ أي يحفظون أعمالهم، ويكتبونها في سجلات تقرأ يوم القيامة، قال الله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء: الآية13)) يعني عمله (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً) (الإسراء: الآية13) أي مفتوحاً غير مغلق، لا يكلفه في النظر إليه (اقْرَأْ كِتَابَكَ) (الإسراء: 14) يعني يقال: إقرأ كتابك فكل شيء مكتوب (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء: الآية14) . قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك، وهذا صحيح؛ فإن من غاية الإنصاف أن يقدم للإنسان دفتر الحساب ويقال له: أنت حاسب نفسك. فهؤلاء الملائكة يكتبون ما عمله الإنسان من حسنات، ويكتبون ما عمله من سيئات، لا شك في هذا، لكن هل يكتبون ما صدر منه من لغو - أي ما ليس بحسنة ولا سيئة؟ والجواب: أن هناك قولين للعلماء رحمهم الله: فمنهم من قال: إنهم يكتبونه لكن لا يحاسب الإنسان عليه، ومنهم من قال: إنهم لا يكتبونه؛ لأنه لغو وكتابة اللغو من اللغو، وهؤلاء الملائكة كرام، والكريم كامل الصفات، وكامل الصفات لا يفعل ما هو لغو. لكن لو قال قائل: هل في الكلام من لغو، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (1) . وهو إذا صمت لا يكتب عليه شيء، وإن قال؛ قال خيراً؛ أو قال شراً؟   (1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... ، رقم (6018) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت، رقم (47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 والجواب: الظاهر أن هناك لغواً؛ لقوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان: الآية72) ، وهذا يعني اللغو القولي واللغو الفعلي. فالظاهر أن اللغو موجود ولكن في كتابته أو عدم كتابته شيء من التوقف: هل يكتبونه أو لا؟ وإن نظرنا إلى عموم قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: 18) ، ومن كون النكرة في سياق النفي، وهي نكرة مؤكدة بمن، قلنا: يكتب كل شيء، ولكن لا يلزم من الكتابة المحاسبة، فيكتب ولا يحاسب عليه؛ لأنه لغو. وإن نظرنا إلى أن اللغو الذي لا يحاسب عليه الإنسان كتابته لغو فلا يكتب، ويمكن أن يقال: إن العموم في قوله تعالى: (مِنْ قَوْل) (قّ: الآية18) يراد به الخاص، أي من قول يثاب عليه أو يعاقب (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: الآية18) وهنا سؤال: إذا قلنا: إن الملائكة تكتب اللغو، فهل يكتب مع الحسنات أو مع السيئات؟ والجواب: أنه يكتب على أنه فعل هذا والحساب على الله، أو نقول: إنه إلى السيئات أقرب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (1) ، فهذا يدل بظاهره على وجوب السكوت إذا لم يكن القول خيراً. وعلى كل حال فالإنسان يجب أن يحتاط وأن يحترس، وألا يقول كلمة إلا وهو يعرف أنها له أو عليه، فإن كانت له فليحمد الله على ذلك، وإن كانت عليه فلا يلومن إلا نفسه.   (1) تقدم تخريجه ص 424 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وقوله: (اثنين حافظين للأنام) وهما من الملائكة، والملائكة عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وسخرهم لما أراد منهم، منهم العابدون، ومنهم الموكلون ببني آدم، ويختلفون اختلافا كثيراً وليس هم القوى المادية أو العقلية أو ما أشبه ذلك، بل هم أجسام، كما قال تعالى: (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) (فاطر: الآية1) ، وهم مخلوقون من النور، ونحن نؤمن بكل من علمنا اسمه منهم، وبصفة كل من علمنا بصفته، وما وراء ذلك من علم الغيب فلا ندري عنه. ومن جملة هؤلاء الملائكة من ذكرهم المؤلف رحمه الله، وهم الملكان الرقيب والعتيد، وليس الرقيب غير العتيد، بل الرقيب هو العتيد،؛ لأن الله تعالى قال: (رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: الآية18) ولم يقل سبحانه: رقيب وعتيد، إذاً الرقيب هو العتيد، وهما ملكان عن اليمين وعن الشمال. وهذان الاثنان دائمان مع الإنسان لقوله تعالى: (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: الآية18) ، وقيل إنهما يفارقانه إذا دخل الخلاء، وإذا كان عند الجماع، فإن صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإن لم يصح فالأصل العموم. فإن قال قائل: إنهما يكتبان القول ويكتبان الفعل لأنهما - أي القول والفعل - ظاهران، لكن هل يكتبان الهم وهم في القلب أو لا يكتبانه؟ فالجواب: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من هم بالحسنة فلم يعملها كتبت حسنة (1) ، ومن هم بالسيئة فلم يعملها كتبت حسنة، والمعروف أن الذي   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، رقم (6491) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب هم العبد بحسنة .... ، رقم (130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 يكتب هم الملائكة قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (الانفطار: 10) (كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار: 11)) ، وعلى هذا فيكون عندهم اطلاع على ما في القلب، ولا غرابة في ذلك، فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (قّ: الآية16) ، فهو سبحانه عالم بذلك، ويجوز أن يطلع الله هؤلاء الملائكة على ما علمه من حال الشخص، ويكون علمهم بذلك بواسطة من علم الله عز وجل، ويجوز أن يعلموا ذلك بما يحصل للقلب من حركة؛ لأن الهم حركة القلب، فهو يهم بالشيء أي يتحرك، فيعلمان ما يحصل بحركة القلب، وإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويصل إلى شغاف قلبه، فلا غرو أن يعلِم الملائكة بما يحدث للإنسان في قلبه. وعلى كل حال فسواء كان الله عز وجل يطلعهم على ما في القلب ليكتباه، أو هما يعلمان ذلك بحركة القلب، فإنهما يكتبان هم القلب، فصار الهم والقول والعمل كله يكتب. ولكن هل يحاسب الإنسان على مجرد ما يحصل في قلبه من الوهم أو لابد من حركة؟ الجواب: انه لابد من حركة، وهي لست حركة ظاهرة، بل حركة في القلب أي ميل وهم، أما مجرد ما يخطر على الإنسان، أو يحدث به نفسه فإنه لا يكتب عليه ولا له، اللهم إلا أن يكتب له لحسن نيته، حيث فكر أن يعمل عملاً صالحاً. ولا يخفى أن هناك فرقاً بين حديث النفس والهم، فالهم أن يتحرك الإنسان ويعمل الشيء، لكن حديث النفس مجرد تفكير في الشيء وخواطر فيه لا أثر لها، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)) (1) . وقول المؤلف: (اثنين حافظين للأنام) الأنام: أي الخلق (فيكتبان كل أفعال الورى) يكتبان: أي الملكان، (كل أفعال الورى) كل: هذه للعموم. وقول المؤلف (أفعال الورى) ظاهره أنهما لا يكتبان القول، ولا يكتبان الهم، وفي هذا نظر ظاهر، فإن القرآن الكريم يقول في القول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: 18)) ، وأما الهم فمن هم بالحسنة فعملها فله عشر حسنات، ومن لم يعملها فله حسنة، ومن هم بالسيئة فتركها لله فله حسنة، وسبق الكلام حول علم الملكين بالهم وإعلام الله عز وجل لهما به، ولعل المؤلف أخذ هذا أي قصره ما يكتب على الفعل من قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (الانفطار: 10) (كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار: 11 (َ (يعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 12)) ، ولكن من الواضح أننا إذا علمنا قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: 18)) وضممناه إلى القول السابق، فإنه يكون الذي يكتب هو القول والفعل، ثم نضم هذين الاثنين إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن هم بالحسنة ومن هم بالسيئة، فيكون الذي يكتب القول والفعل والهم. قوله: (كما أتى في النص، من غير امترا) النص هو قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (الانفطار: 10) (كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار: 11) (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 12) ، وقوله تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف: 80)) ، يعني أننا نسمع. وهذا نص في أن القول يُكتب.   (1) رواه البخاري، كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة ... ، رقم (2528) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس ... ، رقم (127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الباب الرابع في أشراط الساعة 103- وكل ما صح من الأخبار ... أو جاء في التنزيل والآثار 104- من فتنة البرزخ والقبور ... وما أتى في ذا من الأمور   الشرح أورد المؤلف رحمه الله هذا الباب، وهو في أشراط الساعة، والأشراط جمع شرط، وهو في اللغة العلامة، وفي الاصطلاح ما يتوقف صحة الشيء على وجوده، والمراد به هنا العلامة، فقوله: أشراط الساعة، يعني علاماتها، والساعة هي القيامة، وسميت الساعة لأنها ساعة مشقة وإنذار وساعة عظيمة ومفزعة، وكل شيء يكون عظيماً فإنه يسمى ساعة، قال تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) (محمد: الآية18)) . وأشراط الساعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم مضى، وقسم ما زال يأتي، وقسم أكبر وهو الأشراط القريبة منها وهي الأشراط الكبار. فمن الأشياء التي مضت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن بعثته وجعه آخر الرسل تدل على أن الساعة قريبة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين)) (1) ، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى يعني أننا مقترنان، وليس   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت ... ، رقم (6503) ، ومسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 بيننا إلا مثل ما بين السبابة والوسطى. وهناك أشراط ما زالت تقع مثل كثرة المال وكثرة الهرج يعني القتل، وتقارب الزمان، وغير ذلك. وقسم ثالث لم يأت بعد، وهو الأشراط الكبيرة: كنزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وما أشبهها. فما موقفنا نحو هذه الأشراط؟ يقول المؤلف: (وكل ما صح من الأخبار) يعني الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم (أو جاء في التنزيل والآثار) . وهذه ثلاثة طرق تثبت بهذا أشراط الساعة: الأول: ما صح من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وقيد المؤلف رحمه الله ذلك بقوله: (ما صح) احترازا مما لم يصح، وليعلم أن بعض العلماء رحمهم الله أفرط في سياق الأشراط، وذكر ما لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث لا زمام لها ولا صحة لها، ولهذا يجب التحرز من الكتب المؤلفة في هذا، مثل الإشاعة في أشراط الساعة، فإن فيه أشياء كثيرة غير صحيحة، فيجب التحرز من هذا لئلا نقع في نسبة شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس كذلك. الثاني: ما جاء في التنزيل، والمراد به القرآن، كما قال الله تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (السجدة: 2) . والثالث: ما جاء في الآثار، وهي جمع أثر، وهو ما روي عن الصحابي، بشرط ألا يكون معروفاً بالأخذ عن بني إسرائيل، فإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 معروفاً بالأخذ عن بني إسرائيل فإن إخباره تكون كأخير بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب. فهذه ثلاثة طرق لإثبات أشراط الساعة. ثم ذكر المؤلف رحمه الله أمثلة لهذه الأشراط، فقال: (من فتنة البرزخ والقبور) والواقع أن هذا ليس من أشراط الساعة، لكنه من الأمور السمعيات التي تتلقى من السمع. والفتنة في اللغة هي الاختبار، فهي هنا اختبار للإنسان، والبرزخ: الحاجز بين الشيئين، والمراد به ما بين موت الإنسان إلى قيام الساعة، وعطف القبور عليه من باب عطف الخاص على العام؛ لأن البرزخ أعم من القبور، قد يموت الإنسان ويلقى على وجه الأرض فتأكله السباع، فهو حين ذلك لا يكون في قبر، ولكنه في برزخ، فكل ميت فهو في برزخ، وكل مقبور فهو في برزخ، فعطف القبور على البرزخ من باب عطف الخاص على العام. وفتنة البرزخ هي الاختبار الذي يحصل للميت إذا دُفن، وذلك بأنه يأتيه ملكان فيقعدانه، ويسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: المؤمن ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي، فيصدق، ويسمعه هو، فيزداد بذلك فرحاً أن شهد له شاهد من السماء بأنه صادق. ويعتبر هذا من نعيم القبر؛ لأن الإنسان إذا صدق في قوله ازداد بذلك فرحاً وسرورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وأما المنافق أو المرتاب، فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي؛ حيث أنه يدري أنه لا إله إلا الله، ويدري أن محمدا رسول الله، ويدري أن الدين عند الله الإسلام، ولكنه عاند وأصر، فيقال: كذب عبدي. فيفسح للأول في قبره، ويفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه عمله الصالح فيجلس عنده يؤنسه، وأما الثاني - والعياذ بالله - فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، أي يدخل بعضها في بعض من شدة الضيق، ويفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويأتيه عمله السيئ في أخبث صورة - والعياذ بالله - فيوبخه على ما فرط وأهمل في دين الله عز وجل. هذه الفتنة يجب علينا أن نؤمن بها، فقد ثبتت هذه الفتنة في الكتاب والسنة، أما في الكتاب فعلى طريق الإشارة في قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27) ، وأما في السنة فالأحاديث بذلك مشهور معلومة، فيجب علينا أن نؤمن بها. وفي هذه المسألة مباحث، منها: المبحث الأول: متى تكون هذه الفتنة؟ هل هي بخروج الروح أو بتسليم الإنسان إلى عالم الآخرة؟ والجواب الثاني: أما مجرد خروج الروح فلا يحصل به فتنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أرادوا دفن الميت، يقول: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تكن صالحة فخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 تقدمونها إليه)) (1) ، وهذا يدل على أنها لا تصل إلى ذلك الخير ما دامت في أيديهم، وعلى هذا فإذا مات ميت ووضع في الثلاجة للتحقق من موته، وأسبابه، فإنه لا يفتن، ولا يأتيه ملكان حتى يدفن. المبحث الثاني: هل هذا خاص بالمقبور لقوله: (إذا دفن الميت) أو يشمل كل ميت؟ والجواب: أن هذا ليس خاصا بالمقبور بل يشمل كل ميت، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دفن الميت ... الخ)) ، بناءً على الأغلب، وما قيد بقيد أغلبي فلا مفهوم له، وعلى هذا فإذا ألقي الإنسان في البر، أو القي في البحر ومات هناك، فإنه يأتيه الملكان ويفتن. المبحث الثالث: هل هذه الفتنة عامة لكل أحد أو يخرج منها من يخرج بإذن الله؟ والجواب: أن هذه الفتنة يخرج منها من يخرج بإذن الله، ومن ذلك: أولاً: غير المكلف، فإن كثيراً من أهل العلم قالوا: إن غير المكلف لا يسأل لأنه غير مكلف؛ سواء أجاب بخطأ أو صواب، فما دام التكليف رفع عنه في الدنيا فإنه يرفع عنه في الآخرة. وقال بعض العلماء: بل يأتيه الملكان ويسألانه، وهو إذا كان محكوماً بإيمانه فإنه سوف يجيب بالصواب، ولا يبعد أن الله عز وجل يكلف هذا الصغير، وأن الصغير يجيب بالصواب، فها هو عيسى بن مريم كان في المهد، ولما انتقدوا على أمه أشارت إليه، (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، رقم (1315) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) (مريم: 30) (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) (مريم: 31) (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) (مريم: 32) (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) (مريم: 33) كل هذا قاله وهو في المهد. فهؤلاء الأطفال الذين يموتون، أو المجانين - وإن كانوا غير مكلفين - فإن الله تعالى قادر على أن ينطقهم في القبر بما يشاء. مسألة: إذا قلنا: أن غير المكلف لا يُسأل في قبره فلو كلف ثم زال تكليفه يعني كان بالغ ثم أصيب بجنون هل يسأل؟ والجواب: الظاهر أنه يسأل لأنه أتى عليه زمن التكليف. ثانياً: ومما يستثنى الشهيد؛ فالشهيد الذي قتل في سبيل الله لا يسأل، كما جاء ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)) (1) ، فإن هذا الرجل الذي وقف أمام السيوف وسلم رقبته للعدو، يدل فعله هذا أكبر دلالة على صحة إيمانه، وحينئذٍ لا يحتاج إلى سؤال. ثالثاً: ومما يستثنى: النبي؛ فإنه لا يسأل؛ لأن النبي مسؤول عنه، حيث يقال: ما دينك؟ من نبيك؟ ولأنه إذا كان الشهيد لا يسأل، فالني أعلى درجة منه، وإن كانت الأمور في الآخرة ليس فيها قياس، لكننا نقول: إن النبي عنده من اليقين أكثر مما عند الشهيد، ولا شك في هذا، ولهذا نقول: إن النبي لا يسأل.   (1) رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب الشهيد، رقم (2053) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 المبحث الرابع: بأي لغة يسال؟ والجواب: قال بعض العلماء: يسأل بالسريانية، والسريانية لغة النصارى، والظاهر والله أعلم أن هذا القول مأخوذ من النصارى، من أجل أن يفتخروا ويقولوا لغتنا لغة السؤال في القبر لكل ميت، والذي يظهر أنه يسأل بما يفهم. ولو أردنا أن نفضل لغة على لغة لفضلنا العربية؛ لأنها لغة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال فإن الذي يظهر لنا -والعلم عند الله - أن الإنسان يسأل بما يفهم، فإن كان من العرب فباللغة العربية، وإن كان من غير العرب فبلغتهم. المبحث الخامس: من السائل؟ والجواب: السائل الملكان كما في الحديث، فقيل: إنهما الملكان اللذان يكتبان على الإنسان عمله من خير وشر، فهما صاحباه في الدنيا، وهما سائلاه في القبر. وقيل: بل هما ملكان آخران، ونحن نتوقف في هذا، فالله أعلم. ففي الأحاديث جاء في بعضها: ((أتاه ملكان)) (1) ، وفي بعضها جاء ((يأتيه الملكان)) (2) . بـ (ال) ، و (ال) هذه يحتمل أنها للمعهود الذهني، أي الملكان المعروفان اللذان يكتبان أعمال العباد، ويحتمل أنها للجنس؛ فتكون   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، رقم (1338) ، ومسلم، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت ... ، رقم (2870) . (2) رواه ابوداود، كتاب السنة، باب في مسألة في القبر وعذاب القبر، رقم (4753) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 بمعنى ملكين. وأنا أتوقف في هذا؛ فأقول: يأتيه ملكان أو الملكان كما جاء في الحديث، والله أعلم من هما. المبحث السادس: ما اسم هذين الملكين؟ والجواب: ورد في بعض الآثار: أن اسمهما منكر ونكير، وليس المنكر هنا المنكر الشرعي، بل المنكر غير المعروف. كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام للملائكة: (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (الحجر: 62) ، فهذا منكر أي لا يعرفه الميت، ونكير بمعنى منكر، فالاختلاف في اللفظ. وقيل لا يسميان، وأن تسميتهما بمنكر ونكير ضعيف، ولم يصح به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعقيدتنا في هذا أن نقول: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم سماهما بذلك فنحن نعتقده، وإن لم يكن سماهما فنحن نطلق، ونقول: ملكان فقط، ولا يسعنا أكثر من ذلك. المبحث السابع: ثبت في الحديث إنهما يقعدان الميت (1) ، وهنا إشكال فإن القبر لا يتسع لجلوس الميت كما هو معروف، فكيف يقال إنهما يقعدانه؟ والجواب على ذلك أن نقول: أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا، فأمور الآخرة وظيفتنا أن نقول عندها: سمعنا وصدقنا وآمنا، ولا تكون كأحوال الدنيا، وإذا كنا نرى في الدنيا أشياء في المنام لا تطابق المعروف في اليقظة. فما بالك في الممات؟ ففي المنام يرى الإنسان الرؤيا فيها ذهاب ومجيء   (1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، رقم (1374) ، ومسلم، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت ... ، رقم (2870) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وركوب وغيره، كل هذا وهو على فراشه لم يتحرك، حتى اللحاف ما انكشف منه شيء. وقد يرى أشياء تحتاج لوقت طويل في مدة قصيرة، لكن سبحان الله؛ في المنام يرى الإنسان أشياء يقضيها في لحظة وهي تحتمل أياماً، فنقول: الأمور الأخروية لا تقاس بالأمور الدنيوية، وأمور الموت لا تقاس بأمور اليقظة، بل وأمور النوم لا تقاس بأمور اليقظة. قوله: (وما أتى في ذا من الأمور) أي فيما يتعلق بالقبر والبرزخ من الأمور العظيم، منها أنه بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب، وعلى هذا فيجب علينا أن نؤمن بأن الإنسان يعذب أو ينعم في قبره، والدليل على ذلك من الكتاب ومن السنة. أما من الكتاب، فقال الله عز وجل: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيبين يَقُولونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادخلوا الجَّنة بِما كُنْتُم تَعْمَلُون) (النحل: 32) .، وهذا يدل على أنهم يأتيهم من نعيم الجنة في أول يوم يفارقون الدنيا. وأما العذاب فمن ذلك قوله تبارك وتعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الأنفال: 50) (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) أي: في تلك الساعة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: الآية93)) ، فقال سبحانه (الْيَوْمَ) يعني يوم إخراج أنفسهم، أي يوم موتهم يجزون عذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الهون. ومن ذلك قوله تعالى في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر: 46) فقال: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) . وذلك قبل قيام الساعة. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . أما السنة فهي مستفيضة في إثبات عذاب القبر ونعيمه، ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (1) ، فأثبت هذا الحديث عذاب القبر. ومن ذلك أيضاً دعاؤنا في الصلاة: ((أعوذ بالله من عذاب القبر)) ونحن لا نستعيذ إلا من شيء موجود. وهنا يرد سؤال: هل العذاب على البدن أو على الروح أو عليهما معاً أو يختلف؛ فتارةً يكون عليهما معا وتارة يكون على الروح فقط؟ والجواب على ذلك أن نقول: الأصل أن العذاب على الروح، ولكن الروح قد تتصل بالبدن أحيانا فيتنعم أو يعذب، وهذا ما ذهب إليه المحققون من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية (2) (3) وغيرهما (4) .   (1) رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب وضع الجريدة على القبر، رقم (2069) . (2) انظر: مجموع الفتاوى (4/262-270) (3) انظر: الروح ص (96) . (4) انظر: فتح الباري (233-235/3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 أما من ناحية دوام عذاب القبر أو انقطاعه؛ فإن الكافر عذابه دائم مستمر، وأما المؤمن فيحتمل أن ينقطع ويحتمل أن يستمر؛ لأنه سيعذب على حسب عمله، وعمله قد يستوعب جميع الزمن وقد ينقص عنه. ثم هل يمكن أن نطلع على عذاب القبر؟ الأصل أنه لا يمكن الاطلاع على عذاب القبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا ألا تدافنوا لدعوتُ الله أن يريكم عذاب القبر)) (1) ، إذاً فالأصل أنه غير معلوم لكن قد يطلع الله عليه بعض الناس إما برؤيا صالحة وإما باليقظة، كما اطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على القبرين اللذين يعذبان، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (2) إذا فالأصل أن عذاب القبر غير معلوم، ولكن قد يعلم الله به من شاء من عباده. وهذه مباحث فيما يتعلق بنعيم القبر وعذاب القبر، وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فإن الواجب علينا أن نؤمن به.   (1) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها ... ، باب عرض مقعد الميت من الجنة ... ، رقم (2867) . (2) تقدم تخريجه ص 438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 105- وأن أرواح الورى لم تعدم ... مع كونها مخلوقة فاستفهم 106- فكل ما عن سيد الخلق ورد ... من أمر هذا الباب حق لا يرد   الشرح قال رحمه الله: (وأن أرواح الورى لم تعدم) يعني نؤمن بأن أرواح الورى أي الخلق لم تعدم، و (لم) هنا بمعنى لن، يعني لن تعدم في المستقبل؛ لأن الله تعالى خلقها للبقاء لا للفناء، كما خلق الجنة للبقاء لا للفناء، وخلق النار للبقاء لا للفناء، وخلق ما في الجنة من الحور والولدان للبقاء لا للفناء، كذلك الأرواح خلقت للبقاء لا للفناء، فهي لا تعدم. ولكن هل هي مخلوقة أو أزلية؟ والجواب: أنها مخلوقة وليست أزلية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الزمر: الآية62)) وهي داخلة في لفظ كل شيء، فكل من سوى الله، وما سوى الله، فهو مخلوق، ولا شك أنه مخلوق من العدم، فالروح ليست أزلية. والروح إن شئنا عرفناها بلازمها الذي لابد منه، فالروح على ذلك هي ما به حياة الأبدان، وهذا التفسير لها هو تفسير باللازم المتحتم؛ لأنها إذا فارقت البدن ذهبت عنه الحياة، وما دامت في البدن فهو حي، أما عن ماهية الروح فقد اختلف العلماء رحمهم الله فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 فقيل إنها البدن، أو جزء منه، أو صفة من صفاته. وبناء على هذا القول الباطل يكون خروجها من البدن هو عدمها، لأنه إذا كان جزء من البدن ومات البدن لزم أن تموت هي أيضاً، ولكن هذا القول باطل يبطله الكتاب والسنة والواقع. وقيل إن الروح شيء معلوم في الذهن لا يمكن تخيله، ولا يمكن أن يكون داخل العالم ولا خارج العالم، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم، ولا فوق العالم ولا تحت العالم، ولا مباين للعالم ولا محاذِ للعالم، فوصفوها بما وصفوا الله به، وهذا أيضاً باطل. والصحيح كما قال الله عز وجل: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: الآية85) ، فالروح أمرها عجيب، ولا يمكن الإحاطة بها، ولا يمكن تحديد ماهيتها أبداً، كما قال تعالى: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء: الآية85) وصدق الله. لكن ومع ذلك فنحن نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة من أوصافها، فقد ثبت في السنة أن الروح ترى، وهذا يقتضي أن تكون جسما؛ لأنه لا يرى إلا الجسم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أبي سلمة رضي الله عنه وإذا بصره قد شخص، أي ارتفع وانفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) (1) ، فينظر الإنسان إلى هذا الذي خرج منه عند الموت، ويشخص بصره بقوة، وهذا يدل على أنها جسم وأنها ترى. كذلك أيضاً ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنها إذا قبضها ملك   (1) رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له ... ، رقم (920) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الموت، وعنده الملائكة المساعدون له الذين نزلوا من السماء، فإنها إذا كانت صالحة كان معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فلا يدعونها في يده طرفة عين، حتى يضعوها في هذا الكفن وهذا الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، ويشعها من كل سماء مقربوها إلى السماء التي فوقها، ويقال ما هذه الروح الطيبة؟ فيقول الملائكة: هذه روح فلان بن فلان، بأطيب ما يسمى به في الدنيا حتى تصل إلى خالقها عز وجل، ثم يقول سبحانه وتعالى: ردوه إلى الأرض، فإني منها خلقته، وفيها أعيده، ومنها أخرجه تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده حتى يأتيه الملكان ويسألاه، ثم بعد ذلك تذهب إلى الجنة (1) ، وهذا يدل على أنها جسم، ووجه الدلالة أنها تكفن، ويصعد بها، وتطيب، فهذا يدل على أنها جسم. ولكن هذا الجسم ليس من جنس الأجسام المعهودة، بل من أجسام لا نعرفها، لأنها ليست من مادة الجسم، والجسم من طين، والنسل من سلالة من ماء مهين، لكن هي من جسم غريب ليس من هذه المواد التي تعرف في الدنيا أبدا، ولذلك قال الله فيها: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء: الآية85) وأما ما وصفها به بعض العلماء من أنها جسم نوراني لطيف، يسري في الجسد سريان النار في الفحم، والماء في اللبن، فهذا لا نجزم به، لكن نجزم بأنها جسم يرى، وأن مادتها من غير مواد الأجسام، وليست من تراب ولا من مني. خلقت - والله أعلم - قبل البدن. أو خلقت عند تكون البدن على الخلاف في ذلك.   (1) تقدم تخريجه ص 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 والمهم أننا لا نستطيع أن نحدد من أي ماهية هي، ولا أن نحدد هل هي نور مشع أو غير مشع. ولما كانت من أمر الغيب فإننا نقتصر فيها على ما ورد فقط، ونقول: إذا مات الإنسان اتبع بصره روحه ينظر إليها، وإذا قبضت روحه فإنها تجعل في كفن ويصعد بها إلى السماء، ونقتصر على ذلك ولا نتعداه؛ لأن هذا أمر لا نحيط به. قال رحمه الله: (وأن أرواح الورى لم تعدم) قوله (الورى) يعني بذلك الخلق، ثم قال: (مع كونها مخلوقة فاستفهم) قوله: (مخلوقة) هذا رد على الفلاسفة الذين يقولون: إنها قديمة وإنها ليست حادثة. وعقيدتنا أنها مخلوقة، لقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر: 62) . واعلم أن هناك فرقا بين الروح والنفس، فالروح ما به حياة البدن، أما النفس فقد يراد بها الإرادة، كما يقال: أمرت نفسي بكذا، وكقوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف: الآية53) وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح الكلام في هذه المسائل، لكن هذا الكتاب فيه أشياء قد يشك في صحتها الإنسان. ثم قال المؤلف رحمه الله: (فكل ما عن سيد الخلق ورد) فكل: مبتدأ. وسيد الخلق: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيد هو ذو الشرف والجاه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق جميعا على الإطلاق، قال الناظم: وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، كما أخبر عن نفسه وهو الصادق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 المصدوق. فقال: ((أنا سيد ولد آدم)) (1) وهل النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق أو سيد ولد آدم؟ والجواب: هذا ينبني على الخلاف في اعتبار أن ولد آدم أشرف للمخلوقات، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: 70) ، فلم يقل الله تعالى: فضلناهم على من خلقنا، بل قال: (عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا) (الإسراء: الآية70) ، فمن خلق الله تعالى من لم يفضل عليهم بنو آدم. ومن ثم اختلف العلماء رحمهم الله في تفضيل الملائكة على بني آدم، فقيل: إن الملائكة أفضل لأنهم خلقوا من نور، ولأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولم يفتتنوا بالدنيا، وعلى ذلك فهم أفضل. وقال آخرون: بل بنو آدم أفضل لأن الله سخر الملائكة لهم في الدنيا وفي الآخرة، ولأنهم ابتلوا بالفتن فصبروا، ومن ابتلى بالفتن وصبر نال درجة الصبر، بخلاف من لم يفتن، فدرجة الصبر عنده ضعيفة، ولأن في بني آدم الرسل والنبيين والصديقين والشهداء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) : الملائكة أفضل باعتبار البداية؛ لأنهم خُلقوا من نور، واصطفاهم الله لنفسه، وبنو آدم أفضل باعتبار النهاية؛ لأنهم هم الذين يكونون في جوار الله في الجنة، والملائكة   (1) تقدم تخريجه ص 75. (2) انظر مجموع الفتاوى 4/342-343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم، فهم أفضل باعتبار النهاية، وبذلك يكون قد جمع بين القولين رحمه الله. وبناء على هذا إذا قلنا: بنو آدم أفضل من الملائكة، فمحمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وإذا قلنا الملائكة أفضل، فإنه يبقى النظر: هل محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم؟ وذلك يحتاج إلى إثبات؛ لأن تفضيل الجنس على الجنس لا يمنع أن يكون فرد من أفراد هذا الجنس أفضل من الجنس الثاني، فتفضيل الجنس على الجنس تفضيل مطلق على مطلق، وتفضيل الفرد على الفرد أو على الجنس تفضيل معين، وإذا كان في هذا الجنس من فاق الجنس الأول لا يلزم أن يكون هذا الجنس أفضل من الآخر، فالفضل المطلق غير الفضل المقيد. ولهذا لو قال قائل مثلاً: يوجد لعثمان رضي الله عنه مناقب ليست لعلي، ولعلي مناقب ليست لعثمان، ولعمر مناقب ليست لأبي بكر، ولأبي بكر مناقب ليست لعمر، فإن الفضل الخاص لا يلغي الفضل المطلق العام، وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام انه في آخر الزمان أيام الصبر، للعامل فيهن أجر خمسين من الصحابة (1) ، فلا يقال: إن هذا العامل الذي في آخر الزمان أفضل من الصحابة، أو أفضل من الخمسين، فهذا فضله خاص، حيث عمل في هذا الزمان المظلم الذي لا يجد فيه من ينصره، بل يجد من يستهزئ به ويسخر به، والصحابة كلهم يعملون بالحق، فكان أجر خمسين من الصحابة لما يعانيه من القيام بشرائع دينه، وليس أفضل من الصحابة بلا شك. ولو عبر المؤلف رحمه الله بسيد بني آدم لكان أسد وأسلم   (1) رواه ابوداود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم (4341) ، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، رقم (3058) . وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) رقم (4014) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 من الإيراد. وقول المؤلف رحمه الله: (فكل ما عن سيد الخلق) في هذا دليل على أن المؤلف يرى جواز إطلاق السيادة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك فيه باعتبار الخبر؛ كأن يخبر بأنه صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، أو سيد الأنبياء، أو سيد الرسل. وأما عند خطابه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان) (1) ، فحذرهم من الغلو إذا خاطبوه بمثل هذا الخطاب، وهناك فرق بين المخاطبة وبين الإخبار، فنحن نخبر بأنه سيد الخلق، وأنه عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق، لكن عندما نخاطبه فإنه يجب علينا التحرز من المغالاة، لقوله: ((قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان)) . قال رحمه الله: (من أمر هذا الباب) أي باب البرزخ فتنته وعذابه والباب يعبر به العلماء رحمهم الله عن المسألة، يقال في هذا الباب: أي في هذه المسألة، كما نجد ذلك كثيراً في كلام الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم - رحمهم الله -، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) (2) ، قال الإمام احمد: لا يثبت في هذا الباب شيء، أي باب التسمية على الوضوء، فالعلماء يعبرون بالباب عن المسألة.   (1) رواه أحمد في المسند 3/153. (2) رواه الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء، رقم (25) ، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء، رقم (101) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية على الوضوء، رقم (397) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فقول المؤلف: (من أمر هذا الباب) يعني فتنة القبر وعذاب القبر، كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق ثابت يجب علينا أن نؤمن به، سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وسواء أدركته حواسنا أم لم تدركه، ومن ذلك عذاب القبر، فيجب علينا أن نؤمن به وإن لم تدركه الحواس. فلو قال قائل: نبشت قبراً فلم أجد أثرا للتعذيب في جسد ميت، وكان كافراً، قلنا له هذا أمر غيبي لو أراد الله تعالى أن يكون محسوساً لأبرزه، مع أنه قد يكشف عن العذاب في القبر، كما كشف للنبي صلى الله عليه وسلم في الرجلين اللذين يعذبان بالنميمة وعدم التنزه من البول، ووضع عليهما جريدة رطبة وقال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)) (1) . وقد أوردت هنا هذا الحديث مع وضوحه للتنبيه على المسألة من أغرب المسائل، وهي أن بعض الناس إذا دفن الميت أتى بجريدة خضراء، أو شجرة وغرزها في القبر لعلها تخفف عنه ما لم تيبس. وهذا الفعل إساءة ظن بالميت، فإن كونه يعذب أو لا يعذب هذا من أمور الغيب التي لا يعلمها أحد إلا الله، ثم مع كونها إساءة للميت هي بدعة في دين الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يضع الجريدة على كل قبر، إنما وضعها على من كشف له أنها يعذبان، ولم يكن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم كلما دفن ميتاً أن يضع عليه جريدة، فهذا الفعل جمع بين إساءة الظن بالميت وبين البدعة في دين الله، وهذا من الضلال؛ أن يزين للإنسان سوء العمل   (1) تقدم تخريجه ص 438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 هذا من الضلال، قال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهدِي مَنْ يَشَاء) (فاطر: الآية8)) . وأما وضع الزهور فليس كوضع الجريدة لكن قد يكون فيه تشبيه بالنصارى وهذا أخبث. قال رحمه الله: (حق لا يرد) وحق: هو خبر المبتدأ (كل) ، وعلى ذلك فكل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق ثابت سواء أدركته عقولنا أو لم تدركه؛ لأن هناك شيئا وراء هذه المادة، فنحن لا ندرك في حياتنا إلا هذه المادة فقط، أما ما وراءها فنحن لا ندركه على الإطلاق، ولهذا فنحن لا ندرك كُنْهَ أرواحنا التي فينا؛ لأنها لم تخلق من تراب ولا من مني ولا من المواد التي نعرفها، ومن ثم اختلف فيها كما سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 107- وما أتى في النص من أشراط ... فكله حق بلا شطاط 108- منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح 109- وأنه يقتل الدجال ... بباب لدٍ خل عن جدال   الشرح قال رحمه الله تعالى: (وما أتى في النص من أشراط) (ما) مبتدأ، يعني الذي أتى، و (من) بيان لـ ((ما)) ، فهي بيانية، وجملة (فكله حق) خبر المبتدأ، يعني كل ما أتى في النص من أشراط الساعة فكله حق (بلا شطاط) ، يعني بلا شطط في اعتقاده، ولا في المنازعة فيه، بل يجب أن يكون مسلماً. وأشراط الساعة: علاماتها الدالة على قربها، وهي أنواع: منها ما مضى، ومنها ما هو حاضر، ومنها ما هو مستقبل. والمراد بها هنا التي في المستقبل، يعني الأشراط الكبيرة العظمى وإنما قدم الله تعالى لها أشراطاً لعظمها وأهميتها وهذه الأشراط هي مُقدِّمات - أو مقدَّمات - بين يديها من أجل أن ينتبه الناس ويستعدوا لها. قال: (منها) أي من أشراط الساعة، (الإمام الخاتم الفصيح محمد المهدي) الإمام: يعني الذي يؤم الناس؛ لا في الصلاة ولكن في القيادة، فيكون إماماً لهم أعظم كالخليفة، وهذا الإمام يقول: إنه (الخاتم) أي للأئمة؛ لأنه لا إمام بعده، فهو خاتم الأئمة، واسمه يقول: محمد ولقبه المهدي؛ لأن الذي هداه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الله عز وجل. هذا المهدي يبعث في آخر الزمان إذا مُلئت الأرض ظلماً وجوراً، ونسي فيها الحق، وصار المظلوم لقمة للظالم، وانتشرت الفوضى، فحينئذٍ يبعث الله هذا الرجل إماماً مصلحاً للحق. والأحاديث الواردة فيه تنقسم إلى أربعة أقسام: صحيح وحسن وضعيف وموضوع. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في إثباته؛ فمنهم من قال: انه لا مهدي، وإن جميع الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة ولا تقوم بها حجة، وهذه مسألة غيبية مهمة، لا يمكن أن تترك أو لا يأتي بيانها إلا في أحاديث ضعيفة أو تبلغ درجة السن بتعدد طرقها، فلا عبرة بها. ومنهم من قال: يجب أن نتبع الحق، فإذا جاءت السنة الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الرجل، ومنها ما يبلغ درجة الصحة، فإن الواجب القول به، وأنه يخرج رجل في آخر الزمان عند فساد الأمة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والله على كل شيء قدير. ولكن هذا المهدي ليس مهدي الرافضة الذي ينتظرونه، فإنهم ينتظرون مهدياً يخرج من سرداب سامراء، يدعون أنه اختفى عن الحروف والفتن التي حصلت في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما بعدها، فاختفى في هذا السرداب، وأنه ما دام مغلوباً لا يستطيع أن ينفذ ما أراد فإنه مختف، ولهذا تجدهم في أدعيتهم يقولون: فرج الله كربته وأزال غربته، كربته: لأنه مكروب بهذا السرداب، غربته: لأنه غريب في هذا السرداب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ويقال: إنهم كلما طلعت الشمس أرسلوا فارساً على فرس معه خبز وماء وعسل ولبن، يقف عند باب هذا السرداب يدعو مولاه المهدي لعله يخرج فيفطر على هذا الخبز والعسل والماء، فإذا أفطر فالفرس مهيأ معه السيف ومعه الرمح يعتم ويركب وتفتح له الدنيا بَاباً بَاباً، حتى يملك مشارق الأرض ومغاربها هم ينتظرون ذلك، ولكن هذا ليس بصحيح، وكيف يمكن لشخص أن يبقى في هذا السرداب لا يعلم عنه؟ ! لا يأتيه أكل ولا شرب ولا شيء! كيف يبقى هذه المدة؟! ويعللون لذلك بقولهم: إن الله على كل شيء قدير، وهذا الرجل وليٌ مجاب الدعوة، ما في الكون حبة ولا ذَرة تتحرك أو تسكن إلا بعد علمه، وهو يعلم ما كان وما يكون وما سيكون لو كان كيف يكون، يعلم كل شيء وتعرض عليه جميع المقدرات اليومية. وإن المتأمل في ذلك يجد أن هذه العقول عقول لا قيمة لها، وهذا داخل في قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) (الكهف: 103) (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف: 104) (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف: 105) . أما المهدي الذي يتكلم عليه أهل السنة، فليس هو مهدي الرافضة الذي ينتظرونه، بل هذا المهدي خليفة يبعثه الله عز وجل في آخر الزمان، وهو ليس مختفياً بل يخلق في وقته، فيخرج ويملأ الأرض عدلاً بعد أن كانت ملئت ظلماً وجوراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قال رحمه الله: (محمد) يعني أن اسمه محمد، (المهدي) لقبه، فله اسم ولقب، الاسم محمد واللقب مهدي، وأصل مهدي في التصريف مهدوي على وزن مفعول، ولكن حدث فيها إعلال فصارت مهدي. وقوله رحمه الله: (والمسيح) يعني: ومن أشراط الساعة الكبرى المسيح عيسى بن مريم، فهو من آيات الله عز وجل. والمسيح عيسى بن مريم من آيات الله عز وجل ابتداءً وانتهاء، أما ابتداء فلأن الله خلقه من أم بلا أب، وأما انتهاء فلأنه الآن في السماء حي، حيث رفعه الله إليه، وينزل من السماء في آخر الزمان عند قيام الساعة؛ فيقتل المسيح الدجال عند باب اللد، واللد: قرية من قرى فلسطين، لذلك قال رحمه الله: وأنه يقتل الدجال ... بباب لُدٍ خل عن جدال إذاً المسيح يقتل مسيحا؛ مسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة. فإذا قال قائل: كيف نجمع بين القول بأن عيسى ابن مريم حي، وبين قول الله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ) (آل عمران: الآية55)) . فالجواب على ذلك في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) (الأنعام: الآية60) ، وقوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) (الزمر: الآية42) ، وعلى هذا فيكون عيسى بن مريم توفاه الله، يعني قبضه وهو حي، كما صعد بمحمد إلى السماء وهو حي. والدجال مشتق من الدجل، وهو التكذيب والتمويه، والكلام على الدجال يشمل المباحث الآتية: المبحث الأول: الدجال بشر من بني آدم، ليس من الشياطين ولا من مواد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 أخرى وهو كله عيب، حتى إنه اعور أعين التي يبصر بها، فهو أعور العين، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذا فهو بشر سيئ أعور العين قبيح المنظر. المبحث الثاني: ذكر من فتنته أنه يدعي أول ما يظهر أنه نبي، فإذا تابعه الناس على ما معه من التمويه ادعى أنه رب، ويؤيد على ذلك بما آتاه الله من الفتنة؛ حيث يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فيأتي إلى القوم يدعوهم إلى أنه الرب، فإذا أجابوه قال للسماء: أمطري، فتمطر السماء، وقال للأرض: انبتي، فتنبت الأرض، وتهتز رابية، فترجع مواشيهم إليهم أسبغ ما تكون ضروعاً، فتمتلئ ضروعها لبناً، وجلودها لحما وشحما، ويخصبون. ويأتي إلى القوم يدعوهم فينكرونه ويكذبونه، فيأمر السماء فتقلع، والأرض فتجدب، فيصبحون ممحلين ليس عندهم شيء من المراعي، وترجع إليهم مواشيهم كأهزل ما تكون، وهذه فتنة عظيمة، ولا سيما لأهل البادية فيبعث الله إليه شاباً فيواجهه، يدعوه إلى ما يدعوه إليه من أنه الرب، فيقول له الشاب: كذبت، ولكنك الدجال الذي اخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين - أي قطعتين - ويمشي بين القطعتين تحقيقا للانفصال، ثم يأمره فيقول: قم، فتلتئم الجزلتان ويقوم سويا، ولكنه يقول: اشهد أنك المسيح الدجال الذي أخرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيقتله ثانية ويمشي بين شقيه ثم يحييه، فإذا قال له: أنت المسيح الدجال، وأراد أن يقتله عجز عنه، فظهر بذلك عجزه أمام الناس (1) . المبحث الثالث: يمكث المسيح الدجال في الأرض أربعين يوماً، اليوم   (1) رواه البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم (1882) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الأول كسنة، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كجمعة، واليوم الرابع كسائر الأيام. ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك لم يؤولوا الحديث ويقووا: إن اليوم الأول كسنة لشدته على الناس، والشدة تكون أيامها طويلة، هذا هو معنى الحديث المعقول، وليس معنى الحديث أن الشمس تتريث وتبقى لا تغيب إلا بعد سنة. فلم يقولوا هكذا، ولو أن هذا كان عند المتأخرين لسهل عليهم أن يقولوا بذلك، ولقالوا: هذا كناية عن شدة اليوم الأول، وأنه لشدته كأنه سنة، لكن الذين عندهم صفاء القلوب وقبول ما جاءت به الشريعة قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بصلاتنا في ذلك اليوم؟ قال: ((اقدروا له قدره)) (1) ، فأخذوا الأمر مسلماً به بدون تأويل، وإن هذا التسليم التام للنص ليدعونا إلى التأمل والاعتبار. وقد استفدنا نحن من سؤال الصحابة رضي الله عنهم وجزاهم الله عنا خيراً حلاً لمشكلة جدت الآن، وهي خاصة بأصحاب الدوائر القطبية، الذين يبقى اليوم عندهم أسبوعاً أو شهراً أو ستة أشهر، فعلى هؤلاء أن يقدروا له قدره، فحيث لا يوجد عندهم ليل ولا نهار، فيظلوا ستة أشهر في ليل، وستة أشهر في نهار، كان عليهم أن يقدروا لستة أشهر الليل صلاة ستة أشهر، وستة أشهر النهار صلاة ستة أشهر. وقال بعض العلماء: عليهم أن يقدروا الصلاة باعتبار توقيت مكة؛ لأنها أم القرى، ومركز الأرض كما ثبت ذلك جيولوجيا.   (1) تقدم تخريجه ص 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وقال آخرون: بل يقدرون ويعتدون بالزمن المعتدل في المنقطة الواقعة على خط الاستواء، الذي فيه النهار اثنا عشر ساعة والليل اثنا عشر ساعة. وقال آخرون: عليهم أن يقتدوا بأقرب البلاد إليهم مما فيه ليل ونهار معتاد. هذه أقوال ثلاثة وبكل منها قال بعض العلماء. وأقرب ما يكون عندي إلى الصواب هو القول الأخير، وهو أن يعتبروا بأقرب البلاد إليهم؛ لأن الأعراض الأفقية عندهم أقرب إليهم من المكان البعيد عنهم. والخلاصة أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا، فتكون أيامه باعتبار أيامنا سنة وشهرين وأسبوعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى 110- وأمر يأجوج ومأجوج ... اثبت فإنه حق كهدم الكعبة 111- وأن منها آية الدخان ... وانه يذهب بالقرآن 112- طلوع شمس الأفق من دبور ... كذات أجياد على المشهور 113- وآخر الآيات حشر النار ... كما أتى في محكم الأخبار 114- فكلها صحت بها الأخبار ... وسطرت آثارها الأخيار   الشرح قال رحمه الله: (وأمر يأجوج ومأجوج اثبت) وهذا هو الشرط الرابع، فالأول: المهدي، والثاني: المسيح عيسى بن مريم، والثالث: الدجال، والرابع: يأجوج ومأجوج، لكن نزول عيسى بعد الدجال، فكان عليه أن يقدم الدجال أولاً ثم عيسى بن مريم؛ لأن عيسى بن مريم يقتل الدجال، وقد صح بذلك الحديث (1) . أما أمر يأجوج ومأجوج فيقول: (اثبت وانه حق) ونحن نثبته لأنه حق جاء في القرآن، قال الله تبارك وتعالى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (الأنبياء: 96) (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) (الأنبياء: الآية97)) . ويأجوج ومأجوج بشر من بني آدم، لا يخرجون عن صفاتهم، ودليل ذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقو: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال: ربي، وما بعث النار؟   (1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب عيسى بن مريم، رقم (3448) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة، فلما عظم ذلك على الصحابة وشق عليهم قالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الواحد؟ فقال: أبشروا فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج)) (1) . وهذا يدل على أنهم بشر من بني آدم؛ فلهم ما لبني آدم وعليهم ما عليهم. فهم بشر يأكلون، ويشربون، ويرتدون، ويأتزرون. وعلى ذلك فنحن لا نصدق ما اشتهر في بعض الإسرائيليات وعند العامة، وبعض كتب الوعظ من أنهم مختلفون في الخلقة، فبعضهم طويل جداً جداً يأخذ السمكة من قاع البحر ويشويها في قرص الشمس، ويقولون: إن بعضهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، أي أن آذانهم كبيرة طويلة، وبعضهم قصير جداً يترادفون على ربع الصاع - وهو المد - فيظنونه بئراً، فيقول أعلاهم إذا نظر في هذا المد وليس فيه ماء: إن بئركم لا ماء فيه، وذلك لأنهم قصار. وكل هذا لا أصل له. وسموا يأجوج ومأجوج من الأجيج، أي أجيج النار، والنار إذا اضطرمت اضطربت وصار لهبها يتداخل بعضه في بعض، وهم لكثرتهم هكذا، ولهذا يقول الله عز وجل لعيسى بن مريم: ((إني قد أخرجت عباداً لا يدان لأحد بقتاهم)) (2) ، فهم كثيرون جداً، وإذا نظرت إليهم وجدتهم كأنهم قرية نمل أو ذر، هذا يجئ وهذا يروح، متداخلون مثل لهب النار يتداخل بعضه مع بعض. وعندهم طيش وعجلة وعدوان على الخلق، بل وعلى الخالق؛ فهم   (1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، رقم (3169) . (2) تقدم تخريجه ص 264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 يجتمعون في قاعة كبيرة، ويأخذون بنشابهم التي يرمون بها فيصوبونها نحو السماء، ثم يطلقون السهام فترجع السهام مخضبة بدماء. امتحانا من الله، فيقول بعضهم لبعض: غلبنا أهلَ السماء، فهلم لنغلب أهل الأرض، فيغزون الناس، ويحصل فيهم فتنة عظيمة. وجاء في حديث النواس بن سمعان الطويل، قال: يقول الله تعالى لعيسى بن مريم: إني قد بعثت عباداً لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور فيحرزهم إلى الطور، ويبقون في الجبل حتى يلحقهم من المشقة ما شاء الله، ثم يرغب عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه إلى الله عز وجل في أن يهلك هؤلاء القوم، فيرسل الله عليهم النغف في أعناقهم أو في رقابهم، والنغف دودة كبيرة تقضي على المخ والنخاع الشوكي والشرايين العصبية، فيصبحون موتى ميتة رجل واحد، فيملؤون الأرض نتناً وزهماً ورائحة كريهة، فيرغب عيسى بن مريم إلى الله عز وجل أن يخلصهم من شر هذه الأجساد المنتنة، فيبعث الله تعالى طيورا كأعناق الإبل تأخذ الواحد منهم فترميه في البحر (1) . فهؤلاء هم يأجوج ومأجوج، وهم من أشراط الساعة الكبيرة القريبة من قيامها. فإن قال قائل: جاء في قصة ذي القرنين كما قال الله تعالى في سورة الكهف: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) (الكهف: 92) (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَولاً) (الكهف: الآية93) ، وذلك لأن لغتهم كانت غريبة، (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً   (1) تقدم تخريجه ص 264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف: 94) ، وهذا يدل على أنهم كانوا موجودين. فكيف يكونون موجودين من عهد ذي القرنين، ويكون خروجهم من أشراط الساعة؟! فالجواب أن نقول: إن الذي من أشراط الساعة ليس إيجادهم بل انبعاثهم وخروجهم على الناس، وعبثهم في الأرض وفسادهم فيها، أما وجودهم فهم موجودون من زمن ذي القرنين إلى الآن، لكنهم منفردون في محل؛ فإذا أراد الله خروجهم سلطهم وجعل لهم قدرة وقوة فينفذون من وراء هذه السدود. وقوله رحمه الله: (فإنه حق) يعني ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من أمور الغيب التي لا مجال للعقل فيها، ولهذا يجب علينا أن نسلم بها تسليما كاملاً، ونحن في الأمور الغيبية ظاهرية؛ نأخذ بظاهر النص، ولا نتعرض لشيء، ولا نسأل عن شيء، بل نقول: سمعنا وآمنا وصدقنا، ونعرض عن كل شيء من شأنه رد مثل هذه النصوص. قال رحمه الله: (كهدم الكعبة) يعني كما أن هدم الكعبة حق ومن أشراط الساعة. فهذه الكعبة التي هي بيت الله، والتي بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحماها الله عز وجل من الأعداء حتى من أصحاب الفيل، الذين جاءوا بفيلهم وجنودهم من أجل هدم الكعبة، قال تعالى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ) (الفيل: 3) (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (الفيل: 4) (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل: 5) لكن في آخر الزمان يسلط الله على هذه الكعبة رجلا من الحبشة قصير افحج - يعني الرجلين - فينتقضها حجراً حجرا، ومعه جنود يتناولون هذه الأحجار من رجل لآخر إلى البحر، أي أنهم من مكة إلى جدة، وهم صف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 يتناولون أحجارها ويلقونها في البحر، ولا يسلط عليه أحد (1) ؛ لأن الله عز وجل قد قضى بنهاية هذه الكعبة أما أصحاب الفيل فحماها الله منهم؛ لأنه لم يقض أجلها بعد، ولأن هناك رسولاً يبعث من أم القرى يدعو الناس إلى حج هذا البيت، فكان من حكمة الله عز وجل أن دافع الله عنه حتى بقي ولله الحمد. ولا شك أن الله تعالى يسلط هذا الرجل الحبشي على بيت الله فينتقضه حجراً حجرا، وإنما يكون ذلك - والله اعلم - إذا عتى أهل مكة فيها، وأهانوا حرمة البيت، وذلك بالمعاصي؛ من شرك وزنى ولواط وشرب خمر وغير ذلك، فحينئذٍ لا يبقى مكان لهذا البيت المعظم بين هؤلاء الذين أهانوه، أما ما دام معظماً فإن لله سيحميه، لكن إذا أسقطت حرمته من أهل مكة؛ حينئذٍ لا يبقى له مكان بين هؤلاء القوم. ونظيره ما ذكره المؤلف رحمه الله: (وأنه يذهب بالقرآن) وهذا أيضاً من أشراط الساعة، أنه يذهب بالقرآن؛ فينزع من صدور الرجال ويمحى من المصاحف، في ليلة واحدةٍ يقوم الناس والحفاظ وقد نسوا، والمصاحف بيضاء ليس فيها كتابة. وهذا هو أحد المعنيين في قول السلف: منه بدأ واليه يعود، أي يرجع في آخر الزمان، فلا يبقى مصاحف، ولا قرآن في الصدور. فإذا قال قائل: كيف يكون ذلك وما هي الحكمة من ذلك؟ فالجواب عن هذا ما ذكرناه في الكعبة؛ حين يعرض الناس عن كتاب الله فلا يتلونه حق تلاوته، ولا يصدقون أخباره، ولا يعلمون بأحكامه، فيبقى   (1) رواه البخاري، كتاب الحج، باب هدم الكعبة، رقم (1595) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 هذا القرآن الكريم في قوم قد جفوه تماما، فلا يليق أن يبقى بينهم. وعلى هذا يحمل حديث حذيفة في قوم لا يعرفون من الإسلام إلا لا إله إلا الله، وقد اندرس الإسلام (1) ، وهذا يكون بعد نزع القرآن من الصدور والمصاحف ولا يبقى شيء يعلم - نسأل الله العافية -، وهو من أشراط الساعة؛ لأن نزعه من الأمة دليل على قرب انتهائها. ثم قال رحمه الله: (طلوع شمس الأفق) و (شمس الأفق) : أي الشمس، (من دَبور) بفتح الدال: أي من المغرب، والدبور هو المغرب، والقبول والصبا هي المشرق، كما جاء في الحديث: ((نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدَبور)) (2) ؛ يعني الريح الغربية. فالشمس الآن تشاهدها تطلع من المشرق، وتغرب في المغرب، منذ خلقها الله إلى اليوم، لكن في آخر الزمان تسجد تحت عرش الله عز وجل وتستأذن أن تخرج فلا يؤذن لها، فترجع من حيث جاءت، وكيف التصور لو أصبحنا والشمس قد خرجت من المغرب لحصل انزعاج الناس، ولعلموا أن هذا هو الحق المبين، فيتوبوا إلى الله، فيتوب العصاة ويؤمن الكفار، ولكن الله قال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) (الأنعام: الآية158) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها)) (3) .   (1) رواه ابن ماجة، كتاب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم، رقم (4049) . والحاكم في المستدرك (4/520) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (2) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت، رقم (1035) ، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، رقم (900) . (3) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، رقم (2479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 إذاً خروجها من مغربها يعني نهاية الدنيا. فيختل سيرها وتخرب الأفلاك بإذن الله عز وجل؛ لأن اتجاه الأفلاك كله للغرب، فإذا انعكست القضية فمعنى ذلك أن نظام الكون قد تغير، وآن انقضاؤه. فيكون طلوع الشمس من المغرب من أشراط الساعة الكبار. وفي هذا الحديث دليل على أن الشمس هي التي تدور على الأرض، وأن بدورانها على الأرض يحصل اختلاف الليل والنهار، لقول الله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) (الكهف: الآية17) ، أربعة أفعال كلها مسندة للشمس. الأول: طلعت، الثاني: تزاور، الثالث: غربت، الرابع: تقرضهم، وإذا أضيف الفعل إلى فاعله فالأصل أنه واقع منه حقيقة، ولهذا نقول: إنه يجب علينا أن نعتقد بأن الشمس هي التي تدور على الأرض؛ لأن هذا هو ظاهر القرآن وليس لنا إلا الظاهر. نعم لو ثبت بطريق علمي لا إشكال فيه أن اختلاف الليل والنهار بدوران الأرض، فحينئذٍ نقول به، ونقول: إنه لا يعارض ظاهر القرآن لما سبق من أنه لا تعارض بين قطعيين، ولا بين قطعي وظني، وهو لا يعارض ظاهر القرآن لاحتمال أن يكون المراد بقوله: طلعت، في رؤية العين لا في حقيقة الواقع، ففي رؤية العين فهي التي تطلع، وهذا إذا ثبت قطعاً ثبوتاً يقينياً بأن الشمس لا تدور على الأرض، وان اختلاف الليل والنهار إنما هو بدوران الأرض فقط. لكنه عندي - وأنا قاصر العلم في مسألة الفلك - أنه لم يثبت بعد. والذين قالوا بذلك عللوا قولهم بأن الأرض جرم صغير، والكبير لا يدور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 على الصغير؛ لأن الصغير يكون تابعاً لا متبوعاً. لكن هذا يرد بأنها ليست تابعة للأرض، بل تدور من أفق بعيد جداً حول الأرض، والله سبحانه وتعالى سخرها لأجل مصلحة العباد، والمسألة ليست مسألة كبير وصغير حتى نقول لا سلطان للأرض على الشمس، أبدا، بل الكل مسخر بأمر الله، سخر الله هذه الشمس العظيمة أن تدور على الأرض من أجل مصلحة الخلق. فإذا قال قائل: فما تفسير اختلاف الفصول من برد إلى حر إلى وسط؟ فالجواب: أن تفسير ذلك سهل، فإن نفس الشمس لها حركة تقرب من الشمال وتقرب من الجنوب، فإذا قربت من الشمال توسطت على الرؤوس، فاشتدت حرارتها؛ لأن الحرارة إذا كانت عمودية تكون أشد مما إذا كانت جانبية، والمسألة واضحة ولله الحمد. لكن لو قال لنا علماء الفلك: إننا متيقنون من هذا، فإننا نقول: إن تيقنكم لكم، ولا نقول إنكم كفرتم بذلك؛ لأن المسألة مجرد ظاهر القرآن، فإذا كنتم متيقنين لهذا، فأنتم على يقينكم، ولا نقول: أزيلوا ذلك اليقين، فإن الإمام إذا كان في الصلاة وتيقن، وسبح به كل الذين وراءه، فلا يجوز أن يرجع إلى قولهم وهو يتيقن خلافه، فهؤلاء العلماء كذلك. قوه (كذات أجياد على المشهور) وهذه هي العلامة التاسعة من علامات الساعة، وإن شئت فقل: الشرط التاسع من أشراط الساعة، وأجياد مكان معروف في مكة بهذا الاسم إلى اليوم، وهي الدابة التي تخرج من ذاك المحل على المشهور؛ تخرج على الناس ويكون لها رعب شديد، وتلاحق أناس فمن كان كافراً وسمته بسمات الكفر، ومن كان مؤمناً وسمته بسمات الإيمان، وهذه هي الدابة المذكورة في قوله تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ) (النمل: 82) ، هذا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم، وهو المشهور كما قال المؤلف. وقال بعض العلماء: إن الدابة أمر مبهم صحت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم تبين (1) ، وما ورد من صفاتها وأنها تخرج من أجياد أو من الصفا أو من غيرهما أحاديث ضعيفة وليست بالأحاديث التي تبنى عليها العقيدة، وحسبنا أن نؤمن بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: الدابة فقط، وأما الصفات الواردة فيها وليست بصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يلزمنا اعتقادها؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. أما آخر شيء من هذه الأشراط فيقول رحمه الله: (آخر الآيات حشر النار) حشر مضاف والنار مضاف إليه، من باب إضافة المصدر إلى فاعله، يعني: حشر النار الناس، وهذه نار تخرج من عدن تسوق الناس إلى الشام أي إلى المحشر، وقد ورد أنها تمشي مع الناس تسير بسيرهم، وتقيل بمقيلهم، وتبيت بمبيتهم حتى ينجفل الناس كلهم إلى المحشر (2) ، وحينئذٍ ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فهذه آخر الآيات كما قال المؤلف رحمه الله تعالى. أما آية الدخان فقد اختلف العلماء فيها: هل هي آية مضت أو هي آية مقبلة؟ فمنهم من قال: إنها آية مضت، وهي المشار إليها في قوله تعالى:   (1) رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى، رقم (2941) . (2) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف الحشر، رقم (6522) ، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ... ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر ... ، رقم (5861) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) (الدخان: 10) ، وأن المراد بذلك ما أصاب قريشاً من الجدب والقحط حتى أصيبوا بالجهد العظيم، وكان الإنسان منهم ينظر إلى السماء فيظن أنها دخان من شدة تأثير الجوع عليه. ومنهم من قال: بل هو أمر مستقبل، وهو أن الله سبحانه وتعالى يبعث عند قيام الساعة دخاناً عظيما يملأ الأجواء ويغشى الناس كلهم. والأقرب للصواب أنه دخان يرسله الله عز وجل عند قيام الساعة فيغشى الناس كلهم، والله أعلم بكيفية هذا الدخان، فنحن إنما نعرف انه دخان، لكن لا نعرف كيف يأتي الناس ولا من أين يأتي، فهذا أمره إلى الله عز وجل. والمقصود من هذه الأشراط هو إنذار الناس بقرب قيام الساعة، حتى يستعدوا لها ويعملوا لها. ثم قال المؤلف رحمه الله: (فكلها صحت بها الأخبار) كلها: يعني كل هذه الأشراط العشرة صحت بها الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم. (وسطرت آثارها الأخيار) سطرت: يعني كتبت، وسميت الكتابة تسطيراً لأنها تكتب بأسطر، والأخيار: جمع خير، فظاهر كلام المؤلف انه حتى الدابة التي تخرج من أجياد قد صحت بها الأخبار، ولكن الأمر خلاف ذلك، اللهم إلا أن تكون صحت عنده، فإنه قد يصح الحديث عند شخص ولا يصح عند آخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 115- واجزم بأمر البعث والنشور ... والحشر جزماً بعد نفخ الصور 116- كذا وقوف الخلق للحساب ... والصحف والميزان للثواب   الشرح قال رحمه الله: (واجزم بأمر البعث والنشور) وهذا يوم القيامة، والبعث: أي الإخراج، والنشور: أي النشر والتفريق والتوزيع، ثم قال: (والحشر جزماً بعد نفخ الصور) ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يأمر اسرافيل وهو أحد الملائكة الموكلين بحمل العرش أن ينفخ في الصور، والصور وصف بأنه قرن عظيم واسع؛ سعته كسعة السماء والأرض، تودع فيه الأرواح عند نفخه، فإذا نفخ فيه أولاً فزع الناس، ثم صعقوا وهلكوا كلهم، قال الله تعالى (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) (النمل: 87)) ، وقال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) (الزمر: 68) . وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل النفخ يكون ثلاث مرات؛ نفخ الفزع، ونفخ الصعق، ونفخ البعث، أو هو مرتان فقط، وأن نفخ الفزع والصعق واحد؛ ينفخ أولاً فيفزع الناس ثم يصعقون، وينفخ ثانياً فيقومون من قبورهم لرب العالمين؟ وهذا الأخير هو الأقرب للصواب، والأمر في هذا قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 حتى لو قال قائل بأنه ينفخ أولاً فيفزع الناس، ثم ينفخ فيموتون، لم يكن ذلك متناقضاً، لكن الأقرب أنهما نفختان فقط. وقوله (كذا وقوف الخلق للحساب) كذا وقوف الخلق: يعني المخلوقين، فالخلق مصدر أريد به اسم المفعول، وقوفهم للحساب: أي ليحاسبهم الله عز وجل. والكلام في الحساب في أمور، منها: أولاً: أن الحساب يتنوع: فالحساب ينقسم إلى حساب للمؤمن، وحساب للكافر: أما حساب المؤمن: فإن الله تعالى يخلو به وحده، ويقرره بذنوبه حتى يقر ويعترف بها، ثم يقول الله له: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم، فينجو. وأما حساب الكافر: فليست كيفيته كحساب المؤمن، فإنه تحصى أعماله وتبين، ثم يخزى بها والعياذ بالله، ويقال: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: الآية18)) . فالمؤمن حسابه ستر، وبينه وبين ربه، أما الكافر فحسابه كشف يفضح به بين الناس. نسأل الله أن يستر علينا. ثانياً: أن الحساب ليس عاماً: بل إن من الناس من ينجو من الحساب فلا يحاسب، بل ويدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، ومنهم سبعون ألفاً كما هو ثابت في الصحيحين (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الإمام أحمد في مسنده   (1) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره ... ، رقم (5705) ، ومسلم في الإيمان، باب ذكر الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة، رقم (216) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 بإسناد جيد أن مع كل واحد منهم سبعين ألفاً؛ فعددهم حاصب ضرب السبعين ألفاً في سبعين ألفاً، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فالحساب إذاً يتنوع، وهو ليس عاماً لكل أحد. قوله: (والصحف) يعني الصحف التي كتبت فيها أعمال العبد، وهي التي كتبتها الملائكة في الدنيا، قال الله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) (الانفطار: 9) (وإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَافِظِين) (الانفطار: 10) (كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار: 11) ، وقال تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً) (الإسراء: 13) (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء: 14) . فهذه الصحف قد كتبت من قبل وسجلت، فتنشر يوم القيامة، ويقال للرجل إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وقد قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك. وهذه الصحف تنشر وتتطاير، فينقسم الناس فيها إلى قسمين: قسم يأخذها باليمين؛ وقسم يأخذها بالشمال، وفي آية ثالثة من وراء الظهر، ويحتمل أن تكون هذه صفة ثالثة، ويحتمل أن تكون صفة في صفة الشمال، وهو الصنف الثاني، وهذا هو الأقرب، والأول محتمل. ثم إن الآخذ لكتابه بيمينه يفتخر ويقول للناس كما قال تعالى (هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ) (الحاقة: الآية19) (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) (الحاقة: 20) .، (وَأَمَّا مَنْ أُوتَي كَتَابَهُ وَرَاءَ ظَهرِه فَسَوف يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً) (الانشقاق: الآية 10-11) ويقول كما قال تعالى: (ُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) (الحاقة: الآية25) (وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ) (الحاقة: 26) (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 (الحاقة: 27) (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) (الحاقة: 28) (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) (الحاقة: 29) وهذا كما نشاهده في الدنيا حين يعطى إنسان نتيجة الاختبار، فإن كان ناجحاً فإنه يرفعها ويقول: انظروا. انظروا. وإن كان راسباً خرج مُنسَلاً. فالإنسان المؤمن يفرح ويقول للناس: هاؤم اقرؤوا كتابي، ويبين السبب؛ إني ظننت إني ملاق حسابي، يعني أيقنت ذلك والصحف هي الكتب التي كتبت فيها أعمال العباد، بحيث يأخذها الناس باليمين وبالشمال أو من وراء الظهر، والذي من وراء الظهر هو الشمال، لكنه والعياذ بالله تخلع يده إلى الخلف كما جعل كتاب الله وراء ظهره. ثم قال المؤلف رحمه الله: (والصحف والميزان للثواب) فنحن نؤمن أيضاً بالميزان للثواب، والميزان ما يعرف به وزن الشيء، وقد اختلفت الأمة هل هذا الميزان حسي أم هو معنوي؟ فذهبت المعتزلة إلى أنه معنوي، وأن الميزان المذكور في القرآن والوزن المذكور في القرآن معناه إقامة العدل، وليس ثمة شيءٌ محسوس يوزن به، وعللوا ذلك بأن الأعمال أوصاف ومعانٍ، والأوصاف والمعاني لا توزن، وإنما الوزن يكون للأجسام، أما الأوصاف والمعاني فلا يمكن أن توزن. فحكموا العقل، وقدموه على النقل وعلى الشرع، والنصوص تدل على أن هذا الميزان ميزان حسي، وحديث صاحب البطاقة (1) واضح فيه، وكذلك   (1) رواه الترمذي، كتاب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله ... ، رقم (2639) ، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ما يوجب من رحمة الله يوم القيامة، رقم (4300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما خرج ذات يوم في ريح شديدة، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفئه ويميل منها؛ لأنه نحيف ليس كبير الجسم، فضحك منه بعض الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن ساقيه في الميزان أثقل من أُحد)) (1) ، وهذا يدل على أن الوزن وزن حسي حقيقي. وأما قولهم: إن الأعمال أوصاف ومعان فلا توزن، فنقول رداً على ذلك: إن الله على كل شيء قدير، قد يجعل الله المعاني أجساماً، فها هو الموت معنى من المعاني ويؤتى به يوم القيامة على صورة كبش، ويوقف بين الجنة والنار ويقال لأهل النار وأهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ولأهل النار: خلود فلا موت (2) . فالله عز وجل قادر على أن يجعل الأوصاف والمعاني أجساماً، ولا يجوز أن نرد الأدلة بمجرد ما تتحير فيه العقول، بل إذا تحيرت العقول فأعلم أن القول فوق العقول، ولا يمكن أن تأتي النصوص بما يحيله العقل أبدا، إذا فالصحيح أن الميزان حسي لا معنوي. واختلف العلماء في الذي يوزن هل هو العمل أو صاحب العمل أو كتاب العمل؟ وفي هذا للعلماء ثلاثة أقوال: قال بعض العلماء: إن الذي يوزن هو العمل، واستدل هؤلاء بقوله   (1) رواه الإمام احمد في مسنده (1/421) . (2) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وأنذرهم يوم الأزفة ... ، رقم (4730) ، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها ... ، رقم (2849) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة: 7) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة: 8) ، وبقوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: 47) ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (1) . فقال: ((ثقيلتان في الميزان)) . وهذه النصوص واضحة في أن الذي يوزن العمل، ويبقى رد الإشكال الذي أورده المعتزلة وردوا به النصوص؛ وهو أن الأعمال أوصاف ومعان. فكيف توزن؟ ونقول: إن الله قادر على أن يجعلها أجساماً فتوزن. القول الثاني: أن الذي يوزن صحائف العمل، وأن هذه الصحائف تثقل وتخف بحسب ما فيها من الأعمال، واستدلوا لهذا بحديث صاحب البطاقة الذي يُمد له سجل من المعاصي، ثم يؤتى ببطاقة صغيرة فيها كلمة الإخلاص، فيقول هذا الرجل: وما تصنع هذه البطاقة في هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، ثم توضع البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجع بهن البطاقة (2) ، وهذا يدل على أن الذي يوزن صحائف العمل. القول الثالث: أن الذي يوزن هو صاحب العمل، واستدل القائلون بذلك بقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ   (1) رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب إذا قال والله لا أتكلم اليوم فصلى .... ، رقم (6682) ، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء ... ، باب فصل التهليل والتسبيح ... ، رقم (2694) . (2) رواه احمد في المسند (2/213) ، والترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله حديث رقم (2639) وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، حديث رقم (4300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف: 105) قال: فلا نقيم لهم، ولم يقل لأعمالهم، ولا لصحائف أعمالهم، واستدلوا أيضا بحديث ابن مسعود الذي ذكرناه آنفا. فإذا قال قائل: لا شك أن الاستدلال بحديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة لا يقاوم الأدلة الدالة من القرآن والسنة على أن الذي يوزن هو العمل، ولهذا صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية فقال: تنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد (1) ، وهذا هو الحق، لكن حديث البطاقة قد يقال: إن هذا خاص به وبأمثاله من أجل أن يتبين له فضل الله عز وجل عليه، وقد يقال: إنه لما وزنت الصحيفة وثقلت بحسب العمل، فإن الوزن حقيقة يكون للعمل. وأما حديث ابن مسعود والآية فلا تدل على ذلك؛ لأن معنى لا نقيم لهم وزناً يعني لا نقيم لهم قيمة، كما نقول: فلان ليس له عندي وزن؛ أي لا قيمة له ولا اعتبار، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن خفة الجسم لا تدل على قلة العمل، أو على خفته، وليس بذاك الصريح. وعلى ذلك فالمعتمد أن الذي توزن هي الأعمال نفسها. بقي البحث في: هل الميزان واحد توزن به الأعمال كلها، أو أن لكل أمة ميزاناً؛ حيث إن الأمم تتفاضل في الثواب، أو أن لكل شخص ميزاناً؟ في هذا أقوال للعلماء؛ فمنهم من قال: لكل شخص ميزان، ومنهم من قال: لكل أمة ميزان، ومنهم من قال: الميزان واحد. ولنستعرض الآيات الدالة على الميزان وما تدل عليه، قال تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 8) ، وهذا   (1) انظر العقيدة الواسطية ص 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الدليل لا يدل على تعدد، ولا على إفراد، لأنه قال: الوزن. ولكن هناك أدلة تذكر الميزان مثل قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (الأنبياء: الآية47) ، والموازين هنا جمع. وفي حديث: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان)) ، والميزان هنا مفرد، فمن قالوا بما يقتضيه الجمع قالوا بأن المراد بالميزان في قوله: ((ثقيلتان في الميزان)) الجنس، ومن قالوا بأن الميزان واحد، قالوا: إن الجمع في الآية باعتبار الموزون. والذي يظهر لي - والله أعلم - إن الموازين متعددة بحسب الأمم؛ لأن الأمم تتفاضل في الأعمال، وإذا كانت تتفاضل في الأعمال لزم أن تكون موازين أعمالها مختلفة. ولهذا كانت هذه الأمة - ولله الحمد - توفي سبعين أمة، وهي أكرمها عند الله عز وجل، وهي اقلها زمنا وأكثرها أجرا، فزمنها من العصر إلى الغروب، ويعطون أجرهم مرتين. إذاً لا يمكن أن يكون ميزان هؤلاء كميزان الآخرين. ثم إن رجحان الحسنات معناه أن تنزل الكفة، لا أن ترتفع الكفة، فهي لما تثقل تنزل، وفي حديث البطاقة طاشت السجلات أي ارتفعت، وعلى هذا يكون الوزن من جهة نزول الكفة إذا ثقلت كالوزن في الدنيا. وأما من قال: إن رجحان الحسنات يكون إذا ارتفعت، وأن هذا هو الثقل، فهذا غير صحيح، وهو خلاف المحسوس، نسأل الله أن يثقل موازيننا يوم القيامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى 117- كذا الصراط ثم حوض المصطفى ... فيا هنا لمن به نال الشفا 118- عنه يذاد المفتري كما ورد ... ومن نحا سب السلامة لم يرد 119- فكن مطيعا واقف أهل الطاعة ... في الحوض والكوثر والشفاعة 120- فإنها ثابتة للمصطفى ... كغيره من كل أرباب الوفا 121- من عالم كالرسل والأبرار ... سوى التي خصت بذي الانوار   الشرح قال المؤلف رحمه الله: (كذا الصراط) أي كذا أجزم بالصراط، والصراط في الأصل هو الطريق الواسع المستقيم، وسمي صراطاً لأن الناس يسلكونه بسرعة لكونه واسعاً مستقيماً، ومنه ما يسمى عندنا الآن بالخط السريع؛ لأنه واسعٌ ومستقيم، قالوا: وأصل ذلك من قولهم زرط اللقمة إذا ابتلعها بسرعة، فلا يسمى الطريق صراطاً إلا إذا كان واسعاً مستقيماً ولهذا أن الصراط الذي يسأل المرء ربه هدايته مستقيماً، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: 6)) . والصراط جسر يوضع على جهنم يصعد منه المؤمنون من أرض المحشر إلى الجنة، ولا يصعده إلا المؤمنون، أما الكفار فقد سيقوا إلى جهنم وألقوا فيها، لكن المؤمنون هم الذي يصعدون هذا الصراط. واختلف العلماء في هذا الصراط: هل هو صراط واسع يسع أمماً عظيمة أو هو صراط ضيق؟ وذلك على قولين فمنهم من قال: إنه أدق من الشعر، وأحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 السيف، وأحر من الجمر، فلما قيل: إن هذا لا يمكن العبور عليه، أجابوا بأن الأمور الآخرة لا تقاس بالأمور الدنيا، وأن الله على كل شيء قدير، وأن الله جعله بهذه الصفة لمشقة العبور منه كمشقة الصراط في الدنيا على النفوس، لأن الجنة حفت بالمكاره. ومنهم من قال: بل إنه صراط واسع، فيه مزلة ومدحضة، وعليه الشوك كالسعدان، لكن لا يعلم عظمها إلا الله سبحانه وتعالى، وأياً كان فهو مخيف غاية الخوف، ولهذا كان من دعاء الرسل - وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم - يومئذٍ ((اللهم سلم اللهم سلم)) (1) ، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويعبر الناس الصراط على قدر أعمالهم في الدنيا، منهم من يعبر كلمح البصر، ومنهم من يعبر كالبرق، ومنهم من يعبر كالريح، ومنهم من يعبر كالخيل الجواد أو الجياد، ومنهم من يعبر كركاب الإبل، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف ومنهم من يكردس في النار، كلهم على حسب أعمالهم، فالمتقبل للدين في الدنيا المنشرح به صدراً المسابق إليه يكون عبوره على الصراط بسرعة، والمتباطئ في دينه يكون عبوره على الصراط ببطء، والمسرف على نفسه بفعل المعاصي ربما يلقى في جهنم يطهر بما يصيبه من العذاب ثم يخرج؛ إما بشفاعة وإما بانتهاء عقوبته؛ وإما بفضل الله عليه ورحمته. وخلاصة ذلك أنه يجب علينا أن نؤمن بأنه يوضع على جهنم صراط، وهو صراط خطر مخيف يدعو الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أن يسلمهم الله تعالى منه، وأنه يمر الناس على هذا الصراط على قدر أعمالهم، وهذا المرور حسب تقبلهم لدين الله في الدنيا، وإن من الناس من يعبر الصراط   (1) تقدم تخريجه ص 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ومنهم من يكردس في النار، ثم يخرجون منها إلى أن يصلوا إلى الجنة. فإذا وصلوا إلى الجنة لم يجدوها مفتوحة الأبواب، على خلاف أهل النار، فإنهم إذا وصلوا إلى النار فتحت الأبواب ليسوءهم العذاب والعياذ بالله، أما الجنة فلا تكون مفتوحة الأبواب، وإنما يوقفون هناك على قنطرة، وهي الجسر الصغير فيقتص لبعضهم من بعض اقتصاصاً غير الاقتصاص الأول الذي في عرصات القيامة، فيقتص لبعضهم من بعض اقتصاصاً يزيل ما في صدورهم من الغل والحقد؛ لأن الاقتصاص الذي في عرصات القيامة اقتصاص تؤخذ فيه الحقوق، وربما يبقى في النفوس ما يبقى، لكن هذا الأخير اقتصاص للتطهير والتهذيب والتنقية، حتى يدخلوا الجنة وما في صدورهم من غل. وبهذا نجمع بين النصوص الواردة بأن هنا اقتصاصين، الاقتصاص الأول في العرصات ويقصد منه أخذ الحقوق، وهذا الاقتصاص الأخير والمقصود به التنقية والتطهير من الغل. فإن قال قائل: أفلا يحصل ذلك بأخذ الحقوق؟ قلنا: لا، فلو أن رجلاً اعتدى عليك في الدنيا ثم أخذت حقك منه، فإنه قد يزول ما في قلبك عليه وقد لا يزول، فإحتمال أنه لا يزول وارد، لكن إذا هذبوا ونقوا بعد عبور الصراط ودخلوا الجنة على إكمال حال، قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر: 47) . ثم قال: (ثم حوض المصطفى) يعني ثم نجزم بحوض المصطفى، والحوض مجتمع الماء، والمصطفى مأخوذ من الصفوة، واصله المصتفى لكن قلبت التاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 طاء لعِلة تصريفية، والمصطفى يراد به هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الرسل كلهم مصطفين؛ لأنه قد اصطفاهم الله تعالى، كما قال الله تعالى: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) (صّ: 47)) ، لكن المراد بالمصطفى هنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نؤمن بهذا الحوض على الوجوه التالية: أولاً: نؤمن بوجود هذا الحوض، وأنه سيكون حوضاً للرسول صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة يشرب الناس منه؛ لأن الناس في هذا المكان في غاية ما يكونون حاجة للماء، فيشربون منه ثانياً: نؤمن بمادة هذا الحوض، وأن هذا الحوض يأتي من الكوثر، والكوثر نهر أعطاه الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في الجنة، كما قال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر: 1)) يصب منه ميزابان في هذا الحوض، ولهذا ترده الأمة كلها وهو باق؛ لأنه يصب عليه هذان الميزابان. ثالثاً: ماء هذا الحوض جاء في السنة أنه أشد بياضاً من اللبن، وأنه أحلى من العسل، وأنه أطيب من رائحة المسك (1) ، فهو طيب في لونه، طيب في مذاقه، طيب في رائحته، فالعين والفم والأنف تعشقه؛ العين تلتذ به برؤية هذا الحوض الصافي الذي هو أشد بياضا من اللبن، والأنف تلتذ برائحته التي هي أطيب من ريح المسك، والفم يلتذ بمذاقه الذي هو أحلى من العسل، فما أحسن الطعم والرائحة والمنظر رابعاً: يشرب الناس منه بآنية لا بأكفهم، وهذه الآنية جاء في الحديث   (1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا ... ، رقم (2300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الصحيح ((أنها عدد نجوم السماء)) (1) ، وجاء في لفظ آخر ((أنها كنجوم السماء)) (2) ، ووصفها بأنها كنجوم السماء أعم من وصفها بأنها عدد نجوم السماء؛ لأن الوصف الأول يشمل وصفها بأنها كنجوم السماء عددا وكنجوم السماء جمالاً ولمعاناً، فآنيته إذاً كثيرة لا يحصيها إلا الذي خلقها عز وجل، وكذلك لها لمعان ونور يتلألأ من هذه الآنية. خامساً: يرد هذا الحوض المؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، أما غير المؤمن فلا يرده، فلا يرده المنافق، ولا يرده الكافر الخالص، بل أولئك يذهبون إلى النار، تتمثل لهم كأنها سراب فيردونها عطاشا، وإنهم إذا رأوا هذا السراب يفرحون ويقولون: الآن نروى، فإذا وصلوا إليها والعياذ بالله ألقوا فيها، أما المؤمنون فيردون هذا الحوض ويشربون منه - أسأل الله أن يروينا منه. سادساً: أن من شرب منه فلن يظمأ بعده أبداً، وقد سبق أنه يكون في عرصات القيامة، ولكن قد ورد في الحديث أنهم يشربون بعد الصراط، أي بعد أن يعبروا على الصراط، وليس في ذلك تعارض؛ لأنه قد ثبت أن من شرب منهم شربة واحدة لن يظمأ بعدها أبداً، فيكون شربهم بعد الصراط إما لظمأ يسير ليس فيه مشقة؛ لأنهم عبروا النار وهي حارة، أو أنهم يشربون منه تلذذاً لا عطشاً. وعلى ذلك فيكون في عرصات القيامة، وكذلك بعد العبور على الصراط، لكن الأهم هو الذي يكون في عرصات القيامة؛ لأن الناس ينالهم   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، رقم (6580) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا، رقم (2300) . (2) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، رقم (6579) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا، رقم (2392) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 عطش وشدة عظيمة حيث تدنوا الشمس منهم مقدار ميل، فيعطشون ويحتاجون إلى الشرب من هذا الحوض، فإياك إياك أن تحرم الورود على هذا الحوض، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار الحوض إذا صبروا على جور السلطان، فقال: ((إنكم ستلقون بعدي أثرة)) أي استئثارا عليكم، ((فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) (1) . لذلك يرجى لمن صبر على السلطان وعلى جوره أن ينال مثل هذا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك قاعدة تقول: أن الأحكام الشرعية والجزائية لا تتعلق بالشخص بعينه ولكن بوصفه وعمله، والعمل وصف، فليس هناك حكم شرعي أو جزائي معلق بشخص بعينه ولكن بوصفه بعمله، وهذا هو مقتضى عدل الله عز وجل؛ لأن الله ليس بينه وبين أحد محاباة حتى نقول: يمكن أن يحابي أحداً لشخصه، فالإنسان قد يحابي شخصاً معيناً في حكم يختص به لشخصه، لقرابته أو لصداقته، لكن الرب عز وجل (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (الإخلاص: 3) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص: 4) ، لا يعطي أحداً حكماً خاصاً لشخصه أبدا. فإن قال قائل: بل قد ورد التخصيص في الحكم الشرعي لعين الشخص كما في حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه، فإنه لما كان يوم عيد الأضحى أحب أن يذبح أضحيته مبكراً من أجل أن يأكل هو وأهل بيته، فذبح أضحيته قبل صلاة العيد، فلما جاء وصلى العيد وخطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة، وقال: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في   (1) رواه البخاري، كتاب المساقاة، باب القطائع، رقم (2370) ، ومسلم، كتاب الاجارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة ... ، رقم (1845) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 شيء)) (1) . وأبو بردة رضي الله عنه مثل غيره من الصحابة صرحاء، لما سمع ذلك قال: يا رسول الله، إني نسكت قبل أن أصلي، يعني وأحببت أن آكل أنا وأهلي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((شاتك شاة لحم)) ، أي أنها غير مجزئة، قال: يا رسول الله، أن عندنا عناقا - أنثى من المعز الصغيرة - هي أحب إلينا من شاتين. أفتجزئ عني؟ يعني أن اذبحها الآن، قال: ((نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك)) (2) . وهذا الحديث يدل على أن الحكم خصص بابي بردة رضي الله عنه بعينه، إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم لن تجزئ عن أحد بعدك، فأخذ بذلك بعض العلماء، وقال: إن هذا تخصيص في الحكم الشرعي بعين الرجل، لكن أبى ذلك الحبر ابن تيمية رحمه الله (3) ، وقال: المراد بقوله: ((بعدك)) : أي بعد حالك، يعني لن تجزئ عن أحد حاله ليست كحالك، مثلما تقول للرجل: ما بعدك رجل يوفي بالعهد، فالمعنى ما بعد وفائك وفاء بالعهد؛ لأنه وفاء كامل، وإلا سيوفي آخر بعده بالزمن وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الحق، فإنه لو جاءنا رجل مثل أبي بردة وذبح شاته قبل الصلاة جاهلاً، ثم قال لنا مثل ما قال أبو بردة للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي عناق صغيرة اذبحها بدلها؟ قلنا: نعم؛ لأنه جاهل.   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الخطبة بعد العيد، رقم (965) ، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (1961) . (2) رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يجوز من السنن في الضحايا، رقم (3800) . (3) انظر مجموع الفتاوى 17/126-127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فإذا قال قائل: أليس الله خص نبيه بخصائص كما قال تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الأحزاب: الآية50)) ؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم خُصَّ بذلك؛ لأنه رسول الله، فهو خص بوصفه لا بعينه، ولولا أنه رسول لكان رجلاً من بني هاشم. إذاً فالقاعدة عندنا أن الأحكام الشرعية والجزائية لا تخصص بالأشخاص بأعيانهم، ولكن بالأشخاص بأوصافهم، وهذا الاستطراد أوجبه قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار: ((إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) (1) ، وعلى ذلك فيرجى لمن صبر على جور الأئمة وأثرتهم أن يرد الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم. وقلنا: يرجى، ولم نقل: يجزم؛ لأنه ربما يقول قائل: إنه لن يتصف أحد بأوصاف الأنصار، حتى لو صبر فهو ليس كالأنصار، ولكن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالصبر، فيرجى لمن صبر أن يكون كالأنصار في هذا. سابعاً: هل هذا الحوض خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل يوجد في يوم القيامة أحواض أخرى لغير الرسول صلى الله عليه وسلم؟ اختلف في ذلك أهل العلم، فمنهم من قال: إنه لا حوض إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الحوض الذي تواترت فيه الأدلة؛ ولأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة لكل الخلق فيكون التابعون له أكثر فيحتاجون إلى ماء يروي ظمأهم. وقال بعض العلماء: بل لكل نبي حوض، ولكن الأكبر والأعظم   (1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار، رقم (3793) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 والأفضل والأكمل هو حوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في هذا حديث رواه الترمذي بإسناد لا بأس به (1) . وهذا القول الأخير هو الراجح وهو أن لكل نبي حوضاً، ولكن الحوض الكبير الأعظم الأمثل الأكمل هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك: أولاً: لهذا الحديث الذي أشرنا إليه، وثانياً: لأن هذا من كمال عدل الله عز وجل، فإنه من نهل من شرعه في الدنيا كان جزاؤه أن ينهل من أحواض الأنبياء يوم القيامة، لكن ليس معلوماً لدينا من أين تستمد هذه الأحواض التي لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، أما حوض الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكون من الكوثر كما ذكرنا. وهل هذا الحوض واسع أو ضيق؟ جاء في الحديث الصحيح أن طوله شهر وعرضه شهر (2) ، وبذلك يكون واسعاً. لكن أخذ بعض العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم: طوله شهر وعرضه شهر أن الحوض مدور؛ لأنه لو كان مربعاً لكان ما بين الزاويتين أكثر من الشهر، فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن طوله شهر وعرضه شهر فإنه لا يتحقق هذا في جميع جهاته إلا إذا كان مدوراً. وعلى كل حال فإن كان هذا هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا نقبله، وإن لم يكن مراده فإنه جرى على لسان العرب أنهم يقولون: الحُجرة طولها أربعة أذرع وعرضها أربعة أذرع مع أنها مربعة. قال المؤلف رحمه الله: (فيا هنا لمن به نال الشفا) والمراد بالشفا هنا الري؛   (1) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، رقم (2445) . (2) تقدم تخريجه ص 478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 لأن من شرب منه مرة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً. ثم قال: (عنه يذاد المفتري كما ورد) يذاد أي يطرد، والمفتري أي الكافر. قال: (كما ورد) أي كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُذاد عنه الكافرون، حتى إنه يذاد عنه أناس من أصحابه فيطردون، فيقول: يا رب، أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (1) ، وهذا في الذين ارتدوا على أدبارهم بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله (ومن نحا سبل السلامة لم يرد) من نحا: أي من سلك، سبل السلامة: أي طرقها، وجمع المؤلف السبل مع أن سبيل الشرع واحدة، كما قال تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: الآية153) - جمعها المؤلف - لوجهين: الوجه الأول: ضرورة الشعر؛ لأن الشعر يضطر صاحبه إلى ما لا يجوز، كما قال صاحب منظومة النحو المسماة ملحة الإعراب. وجائز في صنعة الشعر الصلف ... أن يصرف الشاعر ما لاينصرف فوصف الشعر بأنه صلف؛ لأنه لا يعطي الشاعر الحرية في انتقاء الكلمات، بل لابد أن يأتي بكلمة لا ينكسر بها البيت. الوجه الثاني: انه لم يرد بالسبل عموم الشريعة والملة، إنما أراد بذلك سبل الخيرات، وهي صلوات وزكوات وصيام وحج وبر وصلة وحسن خلق وغير ذلك، فهي بهذا الاعتبار تكون سبلاً. وقوله: (سبل السلامة) أي السبل التي يحصل بها السلامة من العقوبات في الآخرة، (لم يرد) أي لا يرده أحد عن الشرب من هذا الحوض.   (1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب ما جاء في قول الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) رقم (7049) ومسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 قوله: (فكن مطيعاً واقف أهل الطاعة) أقف أي اتبع، والمراد بقفوهم إتباع آثارهم. فكن مطيعاً لأوامر الله، ومن أوامر الله التصديق بما اخبر الله به ورسوله، يعني فصدق بهذه الأشياء وثبوتها. قال رحمه الله (في الحوض والكوثر) الحوض سبق الكلام عليه، والكوثر على وزن فوعل، وهو مأخوذ من الكثرة لكن زيدت الواو فيه للمبالغة، والكوثر نهر عظيم في الجنة أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم وليس لغيره من الأنبياء، وقد ذكره الله عز وجل في قوله (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر: 1) (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2) . وسمي كوثر لكثرته وكثرة خيره وبركته وغير ذلك، مما تدل عليه المبالغة في كلمة الكوثر، فيجب علينا أن نؤمن بأن للرسول صلى الله عليه وسلم نهراً في الجنة يسمى الكوثر. قوله: (والشفاعة) الشفاعة: مأخوذة من الشفع، وهي ضد الفرد، وإن شئت فقل ضد الوتر، قال الله تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (الفجر: 3) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) (الفجر: 4) . والشفاعة في اللغة: ضم شيء إلى آخر ليشفعه بعد أن كان مفردا. وأما في الاصطلاح: فإنها التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. مثال الأول: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فهذا التوسط في جلب خير، ومثال الثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار أن يخرج منها، وهذا في دفع ضرر. فالشفاعة إذاً هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. فلو أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 إنساناً توسط لنفسه أو دافع عنها عند الغير لمصلحته، فلا يسمى ذلك شفاعة؛ لأنه ليس للغير، والشفاعة لا تكون إلا للغير. ثم إن الشفاعة تنقسم إلى شرعية وشركية. أولاً: الشفاعة الشرعية: هي ما اجتمع فيها ثلاثة شروط: الأول: رضي الله عن الشافع. ودليل اشتراط رضى الله عن الشافع قوله تبارك وتعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السموات لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (النجم: 26) (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طه: 109) والثاني: رضي الله عن المشفوع له، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء: الآية28) أي لمن رضيه الله عز وجل. والثالث: إذن الله بالشفاعة، ودليل ذلك قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة: الآية 255) ، فمن شفع بغير إذن الله فإنه لا تنفعه الشفاعة، ولا تعتبر شفاعة شرعية، فلابد من إذن الله بالشفاعة. فلابد إذاً من ثلاثة شروط لتكون الشفاعة شرعية. النوع الثاني: الشفاعة الشركية: وهي ما يعتقده المشركون في آلهتهم، حيث يتقربون إلى هذه الآلهة بالقربى، ويدعون أنهم يريدون بذلك أن تشفع لهم. وليست بنافعة لهم؛ لأن الله لا يمكن أن يأذن لها إن كانت هذه الأصنام ممن يكرهه الله، ولا يمكن أن يأذن لهذه الآلهة إذا كان هؤلاء ممن لا يرتضيهم الله، فالذين يعبدون عيسى ليشفع لهم، فإنه لا يمكن أن يشفع عيسى لهم؛ لأن الله لا يأذن بالشفاعة - حسب خبره عز وجل - حيث إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 هؤلاء الذين يعبدون عيسى لا يرضاهم الله وإن كان عيسى يرضاه الله عز وجل لكن هؤلاء المشفوع لهم لا يرضاهم الله عز وجل، فلا يمكن أن تتحقق الشفاعة، وهذه الشفاعة تكون شركية. ونحن نقول: إن هذه شفاعة تنزلاً مع هؤلاء الذين يقولون: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (يونس: الآية18) ، وإلا فهي في الحقيقة شرك؛ لأنهم يعبدون هذه الأصنام ويدعون أنها تشفع لهم. والشفاعة الشرعية تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة. فالعامة لجميع الخلق من الأنبياء والصالحين. والخاصة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة العظمى في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وشفاعة ثالثة أخص وهي شفاعته لعمه أبي طالب حتى خفف عنه العذاب، فهذه ثلاثة أنواع من الشفاعات خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم. أولاً: الشفاعة العظمى: وهي أن الناس يوم القيامة يقفون في موقف عظيم، وأوصاف عظيمة وهي في الكتاب والسنة كثيرة ومعلومة، فيلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقولون: ألا أحد يشفع لنا عند الله ويريحنا من هذا الموقف، فيذهبون إلى آدم لأنه أبو البشر ويعتذر، ثم إلى نوح ويعتذر، ثم إلى إبراهيم ويعتذر، ثم إلى موسى ويعتذر، ثم إلى عيسى ولا يعتذر لكن يعلم أن للشفاعة من هو أولى بها منه، فيحيلهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب إلى الله عز وجل، ويستأذن أن يشفع فيؤذن له، فيسجد تحت العرش، ويفتح الله عليه من المحامد ما لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 يعرفه، فيشفع إلى الله في أن يقضي بين الناس ليريحهم من هذا الموقف، فيقبل الله شفاعته، ويأتي جل وعلا للقضاء بين أهل الموقف. فهذه هي الشفاعة العظمى العامة لكل الخلق، وهي داخلة في قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) (الإسراء: الآية79) ؛ لأن هذا المقام يحمده فيه كل الناس، حيث إن الأنبياء قبله اعتذروا فصار الحمد له صلى الله عليه وسلم في هذا المقام العظيم. ثانياً: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة: وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وجدوا أبواب الجنة مغلقة، لحكمة يريدها الله عز وجل، من هذه الحكمة أنهم يقفون هناك فيقتص لبعضهم من بعض قصاصاً يراد به زوال أثر ما كان في قلوبهم مما كان بينهم، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، بعد أن يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يفتح باب الجنة فيدخلوها. ثالثاً: شفاعته في عمه أبي طالب: فإنه شفع إلى الله أن يخفف عنه فأذن الله له في ذلك، وخفف عن أبي طالب فكان في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وهو أهون أهل النار عذاباً. إذاً الشفاعات بالتدرج: شفاعة عامة وشفاعة خاصة وشفاعة أخص، فالعامة: وهي أن يشفع في أهل الموقف عامة أن يقضى بينهم، والخاصة: وهي أن يشفع لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، والتي أخص من ذلك: وهي أن يشفع لعمه أبي طالب أن يخفف الله عنه العذاب. وكانت هذه الشفاعة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع لعمه أبي طالب؛ لأنه لا يمكن الشفاعة لمشرك، حيث، من شرط الشفاعة أن يرضى الله عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 المشفوع له؛ إلا في هذه المسألة فقط، وهي ليست شفاعة كاملة أيضاً، فلم تكن شفاعة في أن يخرج أبو طالب من النار بل كانت شفاعة في أن يخفف عنه، ولا شك أن الخروج هذه عن سائر الشفاعات حكمة - فكما قررنا أن الأحكام الشرعية والأحكام الجزائية لا يمكن أن تخصص لشخص بعينه إنما تخصص للشخص بوصفه - وكانت الحكمة من تلك الشفاعة شكراً له على ما قدم من حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، والذب عنه، فهو مصدق للرسول، لكن فاته شيء واحد وهو القبول والإذعان، وإلا فهو مصدق يعلن على الملأ أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق لكنه - نسأل الله العافية - لم يقبل ولم يذعن. ثم قال المؤلف رحمه الله: (فإنها ثابتة للمصطفى كغيره) قال: (فإنها) أي الشفاعة، (ثابتة للمصطفى) والمراد بالمصطفى هنا مصطفى معيناً، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهناك أناس مصطفون غير الرسول صلى الله عليه وسلم لكن المراد بالمصطفى هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عام أريد به الخاص. وقوله: (كغيره) يعني كغير الرسول صلى الله عليه وسلم 0 (من كل أرباب الوفا) أرباب: جمع رب بمعنى صاحب، (من عالم كالرسل) والرسل اعلم العلماء من البشر، (والأبرار) الأبرار: جمع بر، وهو القائم بحق الله وحق العباد على الوجه الأكمل بقدر المستطاع. قوله: (سوى التي خصت بذي الأنوار) أي بصاحب الأنوار، يعني سوى الشفاعة التي خصت بصاحب الأنوار، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والشفاعة التي خصت بصاحب الأنوار صلى الله عليه وسلم هي غير الشفاعة التي سبق ذكرها؛ وهي: الشفاعة العظمى، والشفاعة لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، والشفاعة لأبي طالب، بل الشفاعة المقصودة هنا هي الشفاعة العامة وهي فيمن دخل النار أن يخرج منها، وفيمن استحق النار أن لا يدخلها، فهاتان شفاعتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الشفاعة الأولى: فيمن دخل النار أن يخرج منها، وهذه الشفاعة عامة، يعني لا تختص بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل كل من رضيه الله شفع - لكن بإذن الله - فهذه الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وهم أهل الكبائر من هذه الأمة ومن غير هذه الأمة، فإنهم يدخلون النار بكبائرهم، ولكن يأذن الله عز وجل لمن شاء من خلقه إكراماً له ورحمة بالمشفوع له أن يشفع فيه. ولهذا فإن الشفاعة في الحقيقة تتضمن شيئين: تتضمن إكرام الشافع بقبوله شفاعته، وتتضمن رحمة المشفوع له بإخراجه من محنته. فيأذن الله عز وجل لمن شاء من خلقه؛ من الرسل الكرام صلوات لله وسلامه عليهم، والأنبياء، والعلماء، والصالحين أن يشفعوا فيمن شاء الله أن يشفعوا فيه أن يخرج من النار، فيخرجون من النار بعد أن كانوا حمماً أي صاروا فحماً. وهذه الشفاعة ينكرها المعتزلة والخوارج؛ لأنهم يقولون: من دخل النار فإنه لا يخرج منها، فإنه لا يدخلها إلا صاحب كبيرة، والكبيرة توجب الخلود في النار، وهذا رأي الخوارج والمعتزلة. ولكن الخوارج أشد من المعتزلة حيث إن الخوارج يرون أنه لا يخرج من النار وانه كافر. أما المعتزلة ففيهم شبه من المنافقين حيث يقولون: لا نقول مؤمن ولا كافر، لكنه مخلد في النار. فاتفق المعتزلة والخوارج على الجزاء الأخروي، وهو الخلود في النار، واختلفوا في الحكم الدنيوي: فالخوارج قالوا: هو كافر حلال الدم، حلال المال، ولذلك قاتلوا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم، والعجيب أنهم قاتلوا المؤمنين ولم يقاتلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الكافرين؛ لأن المؤمنين عندهم مرتدون، والمرتد في زعمهم أعظم من الكافر الأصلي؛ لأن الكافر الأصلي يمكن إقراره بالجزية، والمرتد لا يمكن إقراره، فلهذا قالوا: نقاتل هؤلاء المرتدين ‍ فمن زنى عندهم فإنه كافر يحل قتله ولو كان بكراً، ومن عق والديه حل قتله، ومن اغتاب الناس - وكان ذلك عندهم كبيرة - حل قتله. أما المعتزلة فقالوا: نحن أهل العدل؛ نخرجه من الإسلام ولا ندخله في الكفر، والخوارج قالوا: نحن أهل الصراحة؛ نخرجه من الإسلام وندخله في الكفر؛ لأنه ليس هناك إسلام، ووسط، وكفر. وقالوا: إن المنزلة بين المنزلتين بدعة في دين الله منكرة، واستدلوا بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (التغابن: الآية 2) ، ولم يقل ومنكم في منزلة بين المنزلتين. وكلا الفريقين على ضلال والعياذ بالله، والصواب الذي عليه أهل السنة: أن هذا الصنف من الناس يمكن أن يشفع فيه ويخرج من النار. أما الشفاعة الثانية: فيمن استحق النار أن لا يدخلها فهذه أثبتها شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية (1) . ولكنني إلى الآن لم أجد لها دليلاً صحيحاً صريحاً. وقد وردت فيها أحاديث في إسنادها مقال، لكن تعددها وتلقي الأمة لها بالقبول يدل على ثبوتها.   (1) انظر العقيدة الواسطية ص 36-37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 122- وكل إنسان وكل جنة ... في دار نار أو نعيم جنة 123- هما مصير الخلق من كل الورى ... فالنار دار من تعدى وافترى   الشرح انتقل المؤلف رحمه الله إلى نهاية البشر، وبهذه المناسبة أنبه على كلمة يقولها كثير من الناس وهم لا يفهمون معناها؛ حيث يقولون في الميت إذا مات ثم دفن: نقل إلى مثواه الأخير، وهذه الكلمة لو أخذنا بمدلولها لكانت كفراً؛ لأن مضمونها إنكار البعث، حيث إن المثوى الأخير الجنة أو النار؛ لأنه إذا قيل: إن هذا الرجل الذي مات ودفن انتقل إلى مثواه الأخير، فمضمون هذا أنه لا بعث، وأن الأمر انتهى، لكن كثيراً من الناس لا يفهمون هذا المعنى في الواقع، بل يقولون هذه العبارات بالتقليد، ولا يفكرون في المعاني الدالة عليها، وكما في قول بعضهم: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، فهذا منكر، والصواب أن نعزم السؤال، فإن الله لا مكره له. فبعد ما يحصل في عرصات القيامة يؤول الناس إلى المثوى الأخير حقيقة، وهو ما ذكره المؤلف في قوله وكل إنسان وكل جنة ... في دار نار أو نعيم جنة (كل إنسان) يعني من بني آدم (وكل جِنة) يعني من الجن، والجن عالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 غيبي مستترون عن الأعين، وقد يبدون أحياناً، وقد يتصورون بشكل حيوانات كما تشكل الجني في فراش الأنصاري في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بشك حية، فإن شاباً من الأنصار كان حديث عهد بعرس فلما رجع إلى بيته وجد زوجته عند الباب، فقال لها: ما شأنك؟ لماذا أنت عند الباب؟ قالت له: ادخل، فدخل، فإذا حية مطوية على فراشه، فأخذ الرمح فوخزها فماتت، ثم مات هو في الحال؛ فما يدري أيهما أسرع موتاً الرجل أو الحية؛ لأن هذه الحية كانت جنية فقتله أهلها (1) . ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات التي تكون في البيوت حتى يحرج عليها ثلاثاً، أي يخاطبها ويقول لها: أنت مني في حرج. اخرجي، فإذا حرج عليها ثلاثا وعادت قتلها؛ لأنها إن كانت جنية فلن تأتي، وإن أتت فقد أهدرت دمها، وإن كانت غير جنية فهي لا تفهم وسوف تأتي وتقتل ولا ضرر في قتلها. وعالم الجن هذا أصله من النار؛ لأن أباهم الشيطان إبليس، وقد خلقه الله من نار. ثم إن هذا العالم فيهم الصالحون، وفيهم دون ذلك، وفيهم المسلمون، وفيهم الكافرون، وإن كان أصلهم إبليس كافراً، لكن فيهم المسلم، وفيهم الصالح، وفيهم طالب العلم، وفيهم العابد. يقول المؤلف رحمه الله: وكل إنسان وكل جِنة ... في دار نار أو نعيم جنة يعني أن هذا هو المآل؛ إما النار وإما الجنة، ولا ثالث لهما، ودليل المآل   (1) رواه مسلم، كتاب السلام، باب قتل الحيات وغيرها، رقم (2236) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الأول وهو قوله: (في دار نار) قوله تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ) (الأعراف: الآية 38) ، وهذا نص صريح في أن النار يدخلها أمم من الجن وأمم من الإنس، وهذا محل إجماع من العلماء؛ أن كافر الجن في النار ككافر الإنس، ويدل لهذا أيضاً قوله تعالى في سورة الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجن: 14) (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (الجن: 15) . فالكافر من الجن في النار بالنص والإجماع، ولا خلاف في ذلك، لكن المؤمن من الجن في دخوله الجنة خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال إن المؤمن من الجن لا يدخل الجنة ولكن ينجو من النار، وكفى بذلك راحة؛ لأنهم لما قالوا: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ) (الجن: الآية 14)) قال تعالى: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجن: الآية 14) ولم يذكر جزاء لهم، قال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (الجن: 15)) ؛ قالوا: هؤلاء تحروا رشداً: أي تحروا سلوكا طيبا ومعاملة حسنة، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فلم تذكر الآية شيئا عن ذلك. وقال بعض العلماء: بل إن مؤمنهم في الجنة كمؤمن الإنس، واستدلوا لذلك بآية من سورة الرحمن يخاطب الله تعالى فيها الجن والإنس ويقول (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن: 33) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 34) (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ) (الرحمن: 35) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 36) (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) (الرحمن: 37) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 38) (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (الرحمن: 39) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 40) (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) (الرحمن: 41) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 42)) كل هذا للجن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 والإنس، ثم قال تعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 47) (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) (الرحمن: 48) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 49)) ، وهذا للجن والإنس فالسياق واحد والخطاب واحد. إلى أن قال تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (الرحمن: 56) فلم يطمثهن إنس فيفسدهن على الإنس، ولا جان فيفسدهن على الجن. وهكذا في الجنتين الأخريين، قال: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) (الرحمن: 70) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 71) (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) (الرحمن: 72) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 73) (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (الرحمن: 74) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 75)) . وهذا هو الصحيح المقطوع به، أن المسلم من الجن يدخل الجنة، وهذا هو مقتضى حكمة الله وعدل الله عز وجل. ولكن يبقى النظر هل أرسل من الجن رسول؟ فيه خلاف، قيل لا، لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (يوسف: الآية 109)) ، وقيل: بل منهم رسول لقول الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (الأنعام: الآية 130)) فهو يخاطب الجن والإنس يقول: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) إِنس من الإنس وجِن من الجن. وأما قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف: الآية 109)) فإن الذكور من الجن يسمون رجالاً، كما قال الله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) (الجن: الآية 6)) ، فالجن فيهم رجال كما في هذه الآية الكريمة، وعلى هذا فلا يتم الاستدلال بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) ، ويكون ظاهر قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أن من الجن رسلاً. والذين قالوا: إنه ليس من الجن رسل، أجابوا عن قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) قالوا: إن الخطاب باعتبار المجموع لا باعتبار الجميع، فهو كقوله تعالى في البحرين: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) (الرحمن: 22)) ، واللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من المالح على المشهور. قالوا أيضاً: إن حكمة الله تعالى تأبى ذلك؛ لأن الرسالة تشريف وتكريم وتعظيم، والجن أصلهم من النار وأبوهم إبليس سيد المتكبرين، وقائد الكافرين، فليس من الحكمة أن يكرم هؤلاء بالرسالة، وإنما يتلقون التعاليم مما جاء إلى البشر، كما قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (الاحقاف: 29) (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (الاحقاف: 30) (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الاحقاف: 31) فقالوا: إن الجن ليس منهم رسل لكن منهم نذر؛ حيث قال تعالى: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ، فيتلقى هؤلاء النذر مما جاءت به الرسل وينذرون بها قومهم. وينبني على ذلك: هل ما يؤمر به الجن هو ما يؤمر به الإنس؟ يعني هل صلاتهم كصلاتنا وزكاتهم كزكاتنا وصيامهم كصيامنا وحجهم كحجنا؟ في هذا أيضاً خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فمنهم من قال: إذا كان تلقيهم لما يقومون به من الشرائع مما جاءت به الإنس، وجب أن يكون هو نفس ما جاء به الإنس؛ لأننا لا نرى فيما جاء به الإنس فضلاً خاصاً بالجن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 بل نجد أن الأحكام واحدة، وعلى هذا فيكون ما أمر به الإنس هو ما أمر به الجن ولا فرق. وقال بعض العلماء رحمهم الله: بل إنهما يفترقان، فليس ما أمر به الجن مساوياً لما أمر به الإنس في الحد والحقيقة؛ لأن جنس الجن ليس كجنس الإنس، وإذا كان الإنس تختلف أحكامهم باختلاف أحوالهم؛ فالمريض يصلي قاعداً مثلاً؛ والفقير لا زكاة عليه؛ ومن لا يستطيع الحج فلا حج عليه، فكذلك الجن لا يمكن أن يكلف إلا بما يناسب حالهم، وتكون العمومات الدالة على ذلك مثل (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: الآية 286)) وما أشبهها - تقيد عموم تكليفهم بشرائع الإنس. وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: إن اختلافهم عن الإنس في الحد والحقيقة يقتضي ألا يتساووا في التكليف؛ لأن حكمة الله تعطي كل مكلف ما يناسبه حتى في البشر (1) وعلى كل حال فنحن نؤمن بأن الجن مكلفون بالجملة، وأن كافرهم يدخل النار، وأن مؤمنهم يدخل الجنة أيضاً، أما مسألة الرسالة وعدم الرسالة فقد تكون الأدلة متكافئة وإن كان الراجح أن الرسل من البشر، وأما مساواتهم للإنس في الأحكام الشرعية فهذا محل توقف؛ فإن نظرنا إلى عموم الأدلة قلنا: هم مساوون للإنس، وإن نظرنا إلى الحكمة في التشريع، وأن الشرع يختلف باختلاف المكلف قلنا: لابد أن يكون لهم شرع خاص بهم، وهذا الشرع الخاص بهم وإن كنا لا نجده لا في الكتاب ولا في السنة، لكن يؤخذ من العمومات مثل قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)   (1) انظر مجموع الفتاوى 4/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 (البقرة: الآية 286)) ، وقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: الآية 16)) ، فهم قد لا يستطيعون كل ما يستطيعه الإنس، وقد لا يكون عندهم كل ما عند الإنس، فتكون لهم أحكام خاصة بهم، ولذا نقول فيه: الله اعلم، فالأدلة في هذا متكافئة وليس هناك دليل واضح على أن ما كلفوا به مساوٍ لما كلف به الإنس أو مخالف. والمهم أن المؤلف رحمه الله يقول (في دار نار) هذا بالإجماع ومستنده النص وقوله: (أو نعيم جنة) فيه خلاف. والصحيح: أنهم يدخلون الجنة. مسألة: هل يمكن التعاون بين الجن والإنس؟ والجواب: أن التعاون بينهما إذا أمكن فلا بأس به، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الاستعانة بالجن جائزة بشرطين: ألا يكون الطريق الموصل إليها محرماً، وألا يستعين بهم على شيء محرم، فإن كانت الطريقة محرمة؛ كأن يقولوا: لا نعينك حتى تسجد لنا مثلاً. وهذا لا يمكن أن يقع من مؤمني الجن؛ لأن مؤمن الجن لا يمكن أن يأمر بالشرك، لكن قد يكون مؤمناً أو يكون مسلماً وعنده فسق، فيقول مثلاً للمرأة: لا أعينك حتى تمكنيني من نفسك، أو يكون عنده فاحشة اللواط ويقول للشاب: لا أعينك حتى تمكنني من نفسك فهذا حرام، أو يستعين بهم على شيء محرم بأن يقول لهم: احضروا لي مال فلان، فيذهبون ويحضرون إليه مال فلان، فهذا حرام؛ لأنه استعان بهم على المعصية وهي سرقة مال الناس، لكن إذا استعان بهم على شيء مباح وبطريق مباح فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: إنه لا باس بذلك وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وقائع في الفتاوى وكذلك في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 النبوات وكذلك في إيضاح الدلالة في عموم الرسالة أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت امرأة في المدينة لها رئي من الجن وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر وبحثوا عنه فجاءوا إلى هذه المرأة فأرسلت رئيها فأخبرهم (1) . وقوله: (هما مصيرَ الخلق) ، أي: الجنة والنار. فالجنة والنار داران هما مآل الخلق وليس بعدهما دار؛ لأن دور الإنسان أربع: الأولى في بطن أمه، والثانية في الدنيا، والثالثة في البرزخ، والرابعة يوم القيامة، وهذه هي الأخيرة لا دار بعدها. والبحث في مسألة الجنة والنار من وجوه متعددة: الوجه الأول: هل الجنة والنار موجودتان الآن؟ والجواب: نعم، هما موجودتان الآن، ودليل ذلك في القرآن والسنة. أما القرآن فقد قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (آل عمران: 131) ، والإعداد بمعنى التهيئة، فإنها مهيأة للكافرين. وأما الجنة فقال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133) ، والإعداد بمعنى التهيئة. وفي السنة: فقد عرضت النار على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي صلاة الكسوف (2) ، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، يعني يجر أمعاءه، ورأى فيها امرأة تعذب في هرة لها حبستها حتى ماتت، ورأى فيها   (1) انظر مجموع الفتاوى 11/63. (2) رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (904) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 صاحب المحجن الذي يسرق الحجاج بمحجنه الذي معه، وهو العصا المحنية الرأس، فكان يمر بالحاج ويخطف متاعه، فإن لم يفطن له الحاج ذهب، وإن فطن له قال: تعلق متاعك بمحجني، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يعذب بمحجنه في النار (1) . أما الجنة فرآها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يصلي صلاة الكسوف حتى هم أن يتناول منها قطف عنب ولكنه لم يفعل (2) ، وكذلك دخلها عليه الصلاة والسلام ورأى فيها قصراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يدخله لأنه تذكر غيرة عمر (3) ، ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بذلك بكى عمر رضي الله عنه وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ يعني: لو دخلته ما غرت ولو غرت على غيرك ما غرت عليك. فالمهم أنه ثبت بالكتاب والسنة أن الجنة والنار موجدتان الآن، وهو أيضاً محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، ولكن متى خلقتا؟ هذا هو الذي نتوقف فيه، فإننا لا ندري متى خلقهما الله عز وجل. الوجه الثاني: هل الجنة والنار مؤبدتان أو إلى أمد ثم تفنيان؟ أما الجنة فبالإجماع أنها مؤبدة لا تفنى، والآيات في هذا كثيرة، فما أكثر ما نتلو قول الله تعالى في أهل الجنة: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (النساء: الآية 169) ، وهو محل إجماع. وأما النار فمحل إجماع أنها مؤبدة إلا خلافاً يسيرا ذهب إليه بعض العلماء رحمهم الله وهو مرجوح، بل لا وزن له، والصحيح الذي لا شك فيه   (1) رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (904) . (2) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، رقم (745) . (3) رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه، رقم (2295) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 أن النار مؤبدة دائماً وأبداً، لقول الله تبارك وتعالى في آيات ثلاث في كتابه: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (النساء: الآية 169)) ؛ فقال جل وعلا في سورة النساء: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) (النساء: 168) (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (النساء: الآية 169) ، وتأبيد الخالد يدل على تأبيد مكان الخلود ضرورة، وإلا فكيف يكون خالداً في غير محل؟! هذا مستحيل، وقال تعالى في سورة الأحزاب (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (الأحزاب: 64) (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (الأحزاب: 65) ، وقال في سورة الجن: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (الجن: الآية 23) . وثبت في السنة أنه يؤتى يوم القيامة بالموت فيوقف في مكان بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة. يا أهل النار. فيشرئبون ويطلعون، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقوون: نعم، هذا الموت، فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت (1) ، ولم يحدد. والإجماع يكاد يكون منعقداً إلا خلافاً يسيراً عن طائفة من السلف والخلف لكنه مرجوح بل لا وزن له. فإن قالوا: إن رحمة الله سبقت غضبه؟ قلنا لا قياس في مقابلة النص، فما دام عندنا نص من القرآن صريح بالتأبيد فلا قياس. الوجه الثالث: هل يدخل الإنس والجن الجنة والنار أو هذا خاص بالإنس؟ الجواب: أما النار فيدخلها الجن والإنس بالنص والإجماع، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ) (الأعراف: الآية 179) أي خلقنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وقال تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ   (1) تقدم تخريجه ص 471. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ) (الأعراف: الآية 38) ، وقال تعالى: في سورة الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجن: 14) (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (الجن: 15) وأما دخول المؤمنين الجنة فهو بالنسبة للبشر بالنص والإجماع، وبالنسبة للجن محل خلاف، والصحيح أنهم يدخلون الجنة، والدليل على ذلك ما جاء في سورة الرحمن حيث يخاطب الله الجن والإنس فيقول جل وعلا (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) (الرحمن: 41) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 42) (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) (الرحمن: 43) (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حمَِيمٍ آنٍ) (الرحمن: 44) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 45) ، وهذا في دخول النار وهو مجمع عليه وليس فيه إشكال، ثم قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن: 46) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 47) ، والخطاب لمن؟ نقول: هو للجن والإنس، إلى أن قال في الجنتين الأوليين والأخريين (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (الرحمن: 74) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 75)) ، وعليه فالقول الراجح أن مؤمني الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس بالنص، ولأن هذا من كمال عدل الله عز وجل أن من عمل ابتغاء ما وعد به من الثواب فلابد أن يحقق الله له الثواب، ولأن هذا مقتضى قوله تعالى في الحديث القدسي: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) (1) . والذين يقولون إن كافر الجن يدخل النار وأن مؤمنهم لا يدخل الجنة؛ يجعلون غضبه سبق رحمته؛ إذ كيف يقال: إن هؤلاء إذا عملوا بما يقتضي   (1) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء ... ، رقم (7422) ، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى ... ، رقم (2751) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الرحمة فإنهم لا يعطون الرحمة، وإذا عملوا بما يقتضي العذاب فإنهم يعذبون. فأين سبق الرحمة للغضب في هذا؟! فإن قيل: ما تقولون في قوله تعالى (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجن: الآية 14)) ، وفي قوله تعالى: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الاحقاف: 31)) ، ولم يقل ويدخلكم الجنة. فالجواب: أن السكوت عن الشيء لا يلزم منه انتفاء الشيء؛ لأن عدم الذكر ليس ذكراً للعدم، فإذا لم يذكر ثوابهم في هذه الآية فقد ذكر في آيات أخرى لا معارض لها. وعلى هذا فنقول: في هذا البحث إن مؤمني الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس ولا فرق، وهذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (وكل إنسان وكل جنة) يعني كل واحدٍ من الإنس وكل واحد من الجن (في دار نار أو نعيم جنة) ، وعلى هذا فكلام المؤلف صريح في أن الجنة يدخلون الجنة، وكذلك يدخلون النار، وكذلك الإنس. وقوله رحمه الله: (ما مصير الخلق من كل الورى) (هما) أي النار والجنة (مصير الخلق) فليس هناك دار ثالثة، حتى أصحاب الأعراف الذين يوقفون في مكان بين الجنة والنار مآلهم إلى الجنة ولابد، فلا يمكن لأحد من الورى إلا أن يكون إما في جنة وإما في نار. وقوله: (من كل الورى) يريد به الخصوص، أي يريد به الإنس والجن، أما الملائكة فلا يدخلون النار، لكنهم في الجنة مسخرون لأهل الجنة، قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) (الرعد: الآية 23) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 24)) ، وهناك ملائكة، الله أعلم بمصيرهم، لكننا نعلم أنهم لن يدخلوا النار. ثم قال رحمه الله: (النار دار من تعدى وافترى) أي النار دار من تعدى الحدود وافترى الكذب، فمن أشرك فهو متعدٍ ومفترٍ أيضاً؛ لأن إشراكه بالله يقتضي انه يقول بلسان حاله أو بلسان مقاله: إن مع الله إلها آخر، وهذا افتراء، ومن زعم أن لله ولداً فهو متعد مفتر، وعلى هذا فيكون التعدي والافتراء متلازمين، لكن الافتراء يلزم منه التعدي بكل حال، والتعدي لا يلزم منه الافتراء بلسان المقال، ولكن يلزم منه الافتراء بلسان الحال. ويتضح هذا بالنسبة المفتري أن يقال: إن المفتري متعد ولا شك، لأن الإنسان لو تقول على بشر لقيل إنه متعد عليه. فكيف إذا تقول على رب العالمين؟! أما المعتدي فقد يعتدي بغير افتراء، لكن لسان حاله يقول إنه مفتر. نسأل الله أن يعيذنا من التعدي والافتراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 124- ومن عصى بذنبه لم يخلدِ ... وإن دخلها يابوار المعتدي 125- وجنة النعيم للأبرار ... مصونة عن سائر الكفار 126- واجزم بأن النار كالجنة في ... وجودها وأنها لم تتلف   الشرح قال المؤلف رحمه الله: (ومن عصى بذنبه لم يخلد وإن دخلها يابوار المعتدي) وهذا البيت كالاستثناء من قوله: (هما مصير الخلق من كل الورى) يعني يستثنى من ذلك (من عصى بذنبه فإنه لا يخلد، والمعصية الخروج من الطاعة، وتنقسم عند العلماء رحمهم الله إلى قسمين: صغائر وكبائر فإن قيل: ما ضابط الكبائر. وهل هي محدودة أو معدودة؟ فالجواب: قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الكبائر معدودة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (1) وقال بعض العلماء رحمهم الله: إنها محدودة غر معدودة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم عدَّ منها الإشراك بالله، وهو كفر مخرج عن الملة، فدل هذا على أن المراد بيان عِظم هذه السبع، ولكن هناك شيء آخر لم يذكر، فهي محدودة بضوابط، وهذه الضوابط كما قال بعضهم: كل ذنب ترتب عليه لعنة، أو غضب، أو وعيد في الآخرة، أو حد في الدنيا. يعني كل ما فيه حد في الدنيا   (1) تقدم تخريجه ص 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أو وعيد في الآخرة أو غضب أو لعنة، وهذه أربعة أوصاف. فالزنا مثلا كبيرة؛ لأن فيه حداً في الدنيا، والإسبال كبيرة؛ لأن فيه وعيداً في الآخرة، وقتل النفس كبيرة لأن فيه لعنة وغضباً، وهلم جرا أخذا بهذا الضابط. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الكبيرة ما ترتب عليه عقوبة خاصة (1) ، يعني ما جعل الله أو رسوله عليه عقوبة خاصة سواء كانت العقوبة دنيوية، أم دينية، أم أخروية. وذلك لأن المعاصي إما أن تقع منهياً عنها أو محرمة أو ما أشبه ذلك فهذه تكون صغيرة قال تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ) (النور: الآية 31) فهذه صغيرة، لكن إذا ترتب على ذلك عقوبة خاصة؛ كحدٍ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو لعنة، أو غضب، أو نفي إيمان، أو تبرؤ من فاعله، فإن ذلك يكون من كبائر الذنوب، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (2) ، فإذا لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك فإن هذا من الكبائر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وهذا الضابط ضابط حسن، وبه يمكن أن تميز بين الصغائر والكبائر، فما جاء مرتباً عليه عقوبة خاصة فهو كبيرة، وما جاء منهياً عنه، أو ذكر فيه التحريم، أو كان لا ينبغي، أو ما أشبه ذلك؛ فهذه من صغائر الذنوب. إذاً فالمعاصي تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر، والفرق بينهما من حيث الحقيقة والماهية هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن   (1) انظر مجموع الفتاوى 11/651-660. (2) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم (13) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان ... ، رقم (45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 النفس تطمئن إليه، أما من حيث الحكم؛ فالفرق بينهما أن الصغائر تكفرها الصلاة والصوم والوضوء والصدقة والتسبيح وما أشبه ذلك مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الكبائر فلابد فيها من توبة، ولا تنمحي عن الإنسان إلا بتوبة هذا هو الأصل. وفرق ثانٍ من حيث الحكم: أن الكبائر بمجرد فعلها يخرج الإنسان من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق، أي انه يكون فاسقا بمجرد فعل الكبيرة ما لم يتب، والصغائر لا يخرج فاعلها من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق إلا بالإصرار عليها، إذا أصر عليها صار فاسقاً لا عدلا. وعلى ذلك فالفرق بينهما من وجهين: الأول: أن الصغائر تكفر بالأعمال الصالحة، والكبائر لابد فيها من توبة. والثاني أن الكبائر يخرج بها الإنسان من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق بمجرد الفعل، أما الصغائر فلا يخرج بها من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق إلا بالإصرار عليها. فمثلاً حلق اللحية صغيرة، لكن إذا أصر عليه الإنسان صار كبيرة. وكذلك شرب الدخان صغيرة، فإذا أصر عليه الإنسان صار كبيرة، هذا بقطع النظر عما يحدث في قلب الفاعل؛ لأنه أحياناً يقترن بفعل الصغيرة شيء من الاستخفاف بأوامر الشرع والاستهانة بها، وحينئذٍ تنقلب الصغيرة كبيرة من من أجل الاستخفاف بأوامر الشرع. وربما تكون الكبيرة صغيرة مثل أن يفعلها الإنسان من الخجل من الله عز وجل ورؤيتها أمام عينه دائماً، فهنا تنقلب إلى صغيرة، وربما يكون شعوره هذا توبة. وقولنا: إن الكبائر لابد فيها من توبة. فهل يعني ذلك أن الإنسان لابد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 يعاقب عليها؟ والجواب: أن الكبائر إذا فعلها الإنسان فإنه يستحق العقوبة ما لم يتب، أما الصغائر فقد تقع مكفرة بالأعمال الصالحة. أما نفس العقوبة فإن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48)) ، وعلى هذا ففاعل الكبيرة إذا لم يتب فهو على خطر؛ لأنه يقال له: ما الذي أعلمك أنك داخل في المشيئة، وللأسف فإن بعض الناس إذا نهيته عن الكبيرة قال: إن لله تعالى يقول في القرآن الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48)) فانظر كيف تمنيه نفسه، فالله تعالى لم يقل: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) (النساء: الآية 48)) مطلقاً، بل قيد ذلك بالمشيئة، فقال: (لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48)) ، ثم إنه لا يضمن لك أحداً أنك ممن دخل في المشيئة، فربما تكون ممن لا يشاء الله أن يغفر له فأنت على خطر. ثم إنه قد يقال إن المستثنى في قوله تعالى: (لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48)) هو الذي فعل الكبيرة على وجه الحياء والخجل من الله عز وجل، فصارت الكبيرة دائماً في عينه، فإنها حينئذٍ تنقلب صغيرة ويدخل صاحبها في المشيئة، فقد يقال هذا وإن كان هذا خلاف ظاهر اللفظ. والحاصل أننا نقول لهذا المفرط الذي منته نفسه ما لم يكن على علم من حصوله: من قال إنك داخل في قوله (لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: الآية 48)) ؟! ثم قال المؤلف رحمه الله: (ومن عصى بذنبه لم يخلد) والمراد بالمعصية في كلام المؤلف هنا الكبائر، قال: (وإن دخلها) وفي نسخة: (وإن يردها) ، يعني وإن وردها دخولاً، لكن النسخة الصحيحة وإن دخلها، يعني وإن دخل النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 لا يخلد، لأنه لا يخلد فيها إلا الكافرون. وقوله: (وإن دخلها يا بوار المعتدي) يا بوار المعتدي: هذا نداء، يعني: يا بوار المعتدي احضر، لأن المعتدي أهل للبوار، والبوار هو الهلاك، كما قال تعالى: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم: الآية 28)) ، أي دار الهلاك. وقوله: (يا بوار المعتدي) قد يشكل من المعتدي هنا. هل المعتدي هو العاصي الذي يدخل النار، أو المعتدي من يقول: إن من دخل النار لا يخرج منها. أو هما جميعا؟ الظاهر أنهما جميعاً، أو أن مراد المؤلف رحمه الله بالمعتدي المعتزلة والخوارج؛ لأن المعتزلة والخوارج يقولون: من دخل النار - ولو من أجل الكبيرة - فإنه لا يخرج منها، ولكن يختلفون في أحكام الدنيا؛ فقالت المعتزلة: لا نقول مؤمن ولا نقول كافر، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، وقالت الخوارج: إنه كافر، وهم جميعا اتفقوا أنهم في الآخرة - أي العصاة - مخلدون في النار، ولهذا لا تنفع فيهم الشفاعة. وهناك طائفة ثالثة من المبتدعة؛ وهم المرجئة الذين يقولون: إن أهل الكبائر لا يدخلون النار لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. فهم يقولون إن الأعمال لا تدخل في الإيمان، فإذا آمن الإنسان بقلبه فهو مؤمن ولا يستحق العقاب، وإذا قيل لهم: فما تقولون في آيات الوعيد وأحاديث الوعيد؟ قالوا: هذه في الكفار، أما المؤمن فلا يمكن أن يدخل النار. وهذا المذهب باطل؛ لأن هناك نصوصاً كثيرة تعلق الوعيد على فعل ما ليس بكفر، فقطع الرحم مثلاً ليس بكفر، وقد قال النبي عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 والسلام ((لا يدخل الجنة قاطع)) (1) وعلى كل حال فيمكن أن نقول: إن الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها - من أهل الكبائر - يخالف فيها ثلاث طوائف مبتدعة: المرجئة: لأنهم يقولون: إن أهل الكبائر لا يدخلون النار أصلاً. والخوارج والمعتزلة: لأنهم يقولون: من دخل النار فهو خالد فيها. والصحيح ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة كما سبق في أحاديث كثيرة في الشفاعة؛ وان من دخلها من العصاة فإنه يخرج منها؛ ما بالشفاعة، وإما بفضل الله ورحمته. ثم بين لمن تكون الجنة ولمن تكون النار، فقال رحمه الله: ((وجنة النعيم للأبرار)) جنة النعيم: هي جنة الآخرة، ونعيمها نعيم في البدن ونعيم في القلب. بخلاف الدنيا فإن الدنيا في الغالب لا يجتمع فيها النعيمان؛ فقد ينعم الإنسان في البدن ولا ينعم في القلب، وقد ينعم في القلب ولا ينعم في البدن، فقد يكون رجل غني عنده من الترف ما لا يعلمه إلا الله، ينعم في بدنه تماماً، لكن قلبه يغلي من الهم والغم والخوف على نعيمه والخوف على نفسه، ومهما يكن من نعيم الدنيا فإن الإنسان إذا تذكر الموت أو تذكر الهرم تنغص، كما قال الشاعر: لا طيب للعيش ما دامت منغصة ... لذاته بادكار الموت والهرم على أنه لا يمكن أن يتم النعيم من وجه الدنيا، كما قال الشاعر   (1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب إثم القاطع، رقم (5984) ، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم (2556) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الحكيم: فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نُساء ويوم نُسر وقس هذا بنفسك، فإنك إذا سررت اليوم فانتظر الحزن غداً، وإن حزنت اليوم فانتظر السرور غداً، هكذا الدنيا. لكن نعيم الجنة - جعلنا الله والمسلمين ممن يتمتع به - ليس فيه حزن، ولهذا قال المؤلف: (وجنة النعيم) يعني كلاً من نعيم القلب ونعيم البدن، ولهذا قال الله تعالى في سورة الإنسان: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (الإنسان: الآية11) ، نضرة في الوجه وفي البدن، وسرور في القلب، فاجتمع لهما النعيمان؛ نعيم البدن بالنضرة الحسنة، ونعيم القلب بالسرور. قال المؤلف رحمه الله: واجزم بأن النار كالجنة في ... وجودها وأنها لم تتلف وهذا سبق أن تكلمنا عنه في وجود الجنة والنار، حيث قلنا إن الجنة والنار الآن موجودتان بدلالة الكتاب والسنة، وذكرنا أن القول الراجح أنهما لا يفنيان، وأن عدم فناء الجنة محل إجماع من أهل السنة، وأما النار ففيها خلاف ضعيف جداً، والقائل به قليل فلا يعتد به ولا يلتفت إليه. والصحيح الذي لا شك فيه عندنا، والذي ندين الله به ونعتقده أن النار مؤبدة لن تتلف، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: واجزم بأن النار كالجنة في ... وجودها وأنها لم تتلف ولم هنا بمعنى لن: لن تتلف في المستقبل. وهنا قاس النار على الجنة؛ لأن النار مختلف في بقائها بخلاف الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 127- فنسأل الله النعيم والنظر ... لربنا من غير ما شين غبر 128- فإنه ينظر بالأبصار ... كما أتى في النص والأخبار 129- لأنه سبحانه لم يحجب ... إلا عن الكافر والمكذب   الشرح قال رحمه الله: ((فنسأل الله النعيم والنظر لربنا)) نسأل الله النعيم في الجنة، ونسأله النظر لربنا عز وجل وهو أعلى نعيم في الجنة، فإن أهل الجنة لا يعطون نعيماً أعظم ولا أسر من النظر لوجه الله. وقوله: (من غير ماشين غبر) أي من غير سوء، وغبر: أي مضى. أي نسأل الله النعيم والنظر من غير أن يتقدم ذلك عذاب، بل نسأله أن ندخل الجنة بلا عذاب. وقوله: (فإنه ينظر بالأبصار) فإنه: أي الله عز وجل، (ينظر بالأبصار) الأبصار جمع بصر يعني بالعين، رداً على من قال أنه ينظر بالقلب، وأن النصوص الواردة في النظر إلى الله يراد بها النظر بالقلب، أو النظر إلى ثوابه، وكلاهما معنيان باطلان. أما النظر بالقلب فإن هذا حاصل لأهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة، فإن المؤمن يكاد يرى ربه بقلبه من شدة إيمانه به، وبأسمائه وصفاته، وأنت لو وصف لك شيء في الدنيا كما لو وصف لك إنسان ثقة بيتاً لتشتريه وصفاً دقيقاً، فكأنما تراه بقلبك، وكذلك فالمؤمنون المتقون يرون الله سبحانه وتعالى بقلوبهم قبل يوم القيامة، ولولا هذا اليقين ما حصل لهم دخول الجنة، فهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 يرون الله تعالى بقلوبهم من قبل أن يدخلوا الجنة، وحينئذٍ لا نعيم لهم بهذا النظر؛ لأنه قد تم لهم من قبل وأما الذين قالوا: إنهم ينظرون إلى ثواب الله، فيقال لهم: هذا تحريف للنصوص الصريحة الصحيحة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس ليس دونها سحاب)) (1) ، وهذا واضح في أن الذي يُرى هو الله عز وجل، فنراه كالشمس ليس دونها سحاب، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ترونه كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)) (2) . وقوله: (كما أتى في النص) النص: يعني القرآن، (والأخبار) جمع خبر، وهي الأحاديث. فرؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة ثابتة بالقرآن والسنة وإجماع السلف، حتى إن بعض العلماء رحمهم لله صرح بأن من أنكر رؤية الله في الآخرة فهو كافر؛ لأنه مكذب للنصوص الصريحة الصحيحة، ومخالف لإجماع السلف. وقال بعض العلماء رحمهم الله: من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فنسأل الله أن يحرمه رؤيته في الآخرة. ولا شك أن الذي ينكر أن الله يرى في الآخرة يستحق أن يقال له: حرمك الله منها، وأعتقد أننا لو قلنا له: حرمك الله منها لاستشاط غضباً، فكيف إذا دعي عليه بألا يرى ربه غضب وهو يقول   (1) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل السجود، رقم (806) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (182) . (2) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس، رقم (4851) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 في عقيدته: يمتنع أن نرى ربنا؟ ‍فمن العجب أن يغضب عند إلزامه بما يقول. وقد دل على ثبوت الرؤية القرآن والسنة: أما دلالة القرآن على الرؤية: فمن وجوه: الأول: التصريح بالنظر. والثاني: نفي الإدراك. والثالث: حجب أعداء الله عن رؤية الله. هذه ثلاثة أنواع من الأدلة. أولاً: التصريح بالنظر: مثل قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) (القيامة: 22) (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 23) فالله عز وجل قال: وجوه، ولم يقل قلوب يومئذٍ ناظرة، وإذا كانت الوجوه هي التي ترى، فوسيلة الرؤية في الوجه لا شك أنها العين. إذاً نراه بأعيننا. وقال الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس: الآية26) ، وفسر الزيادة أعلم الخلق بالله عز وجل وكتابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، ولا نعلم تفسيراً أصح وأوثق من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، فإذا قال: هي النظر إلى وجه الله قلنا: صدقت وصدق الله ورسوله. ثانياً: نفي الإدراك: قال الله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (الأنعام: الآية103) ، فإن نفي الإدراك يدل على ثبوت أصل الرؤية؛ لأن نفي الإدراك مع عدم ثبوت الرؤية لغو من القول وفساد؛ إذ كيف يقال: لا تدركه الإبصار وهو لا يرى أصلاً؟ ‍فكونه يقول: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) يعني أنها تراه ولكن لا تدركه. ولهذا استدل بهذه الآية أهل السنة على أن الله يرى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ووجه الدلالة أن نفي الإدراك دليل على أصل ثبوت الرؤية؛ لأن نفي الإدراك عما لم يثبت أصله لغو من القول لا حاجة له، وحينئذٍ يكون في الآية دليل على ثبوت الرؤية. والعجب أن الذين ينفون الرؤية يستدلون بنفس الآية على أنه لا يرى لأن الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، ونقول رداً عليهم: الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ) ولم يقل: لا تراه. وفرق بين الإدراك والرؤية. فنحن الآن نعلم الله عز وجل لكن لا ندرك حقيقته. ولو قلنا بقولهم لقلنا: إن الله لا يعلم. وعلى هذا فالآية صريحة في أن الله تعالى يرى. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة في الاستدلال، وناهيك به فهما وفقها، فقال: أنا ملتزم بكل دليل صحيح استدل به مبطل على باطله أن اجعله دليلاً عليه لا له، سواء كان أثريا أم نظريا، ذكر هذا في كتابه درء تعارض العقل والنقل، وذلك لأن الاستدلال بالدليل الصحيح على القول الباطل لا شك أنه يشم منه رائحة ما ذهب إليه. فهؤلاء الذين استدلوا بنفي الرؤية في الآخرة بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، قال شيخ الإسلام: هذا دليل عليهم؛ لأن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية، ولولا وجود أصل الرؤية لكان نفي الإدراك لغوا ينزه عنه كلام الله. ثالثاً: حجب الله عن أعدائه، وذلك في قوله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين: 15)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 قال الإمام الشافعي رحمه الله: والله ما حجب أعداءه عنه في حال الغضب إلا ليراه أولياؤه في حال الرضا، وهذا صحيح؛ لأنه لو كان الجميع محجوبين لم يكن لنفي الحجب عن الأعداء فائدة، بل فيه مضرة، حيث أوهم التخصيص ببعض مدلولاته. والحاصل أن رؤية الله ثابتة بالنص على ثلاثة أوجه: ثبوت الرؤية، ونفي الإدراك، والحجب عن الأعداء. أما دلالة السنة على الرؤية: فقد تواترت السنة على رؤية المؤمنين لله سبحانه وتعالى يوم القيامة وعلى هذا قول الناظم ينظم بعض ما تواتر: مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتا واحتسب ورؤية شافعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض والشاهد قوله: (ورؤية) . ثم قال المؤلف رحمه الله: لأنه سبحانه لم يحجب ... إلا عن الكافر والمكذب هذا تعليل بتدليل؛ لأنه لم يحجب إلا عن الكافر والمكذب، وفي هذا يشير المؤلف رحمه الله إلى قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين: 15)) ، فإذا حجب هؤلاء فضدهم يرون الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الباب الخامس في ذكر النبوة ومتعلقاتها 130- ومن عظيم منة السلام ... ولطفه بسائر الأنام 131- أن ارشد الخلق إلى الوصول ... مبيناً للحق بالرسول   الشرح الدين الإسلامي نبي على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فبشهادة أن لا إله إلا الله يكون الإخلاص، وبشهادة أن محمدا رسول الله يكون الإتباع. وقد انتهينا مما يتعلق بالرب عز وجل فيما قال المؤلف رحمه الله، في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. وبقيت شهادة أن محمداً رسول الله، وحينئذٍ لابد أن نعرف النبوة والرسالة، والحكمة من الرسالة والنبوة وما يتعلق بهذا، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: ومن عظيم منة السلام ... ولطفه بسائر الأنام أن أرشد الخلق إلى الوصول ... مبينا للحق بالرسول وصدق رحمه الله، فمن عظيم المنة، بل أعظم منة من الله بها أن أرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين، والمنة: العطاء، فالعطاء بلا طلب مكافأة يسمى منة، وأَمنُّ المعطين عليك الله جل وعلا ثم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا في غزوة حنين غنم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أموالاً كثيرة جداً، فصار يعطي المؤلفة قلوبهم تأليفا لهم على الإسلام؛ لأن الإنسان مهما كان يحب المال، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات: 8)) ، حتى إنه مرة من المرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 جاء أعرابي مسلما لكن إسلامه ليس إلى ذاك، يعني ليس ثابتاً، والأعراب يحبون المواشي وبالأخص الغنم والإبل، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فذهب إلى قومه وقال: يا قومي، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة (1) ، ولم يقل: اسلموا تدخلوا الجنة. فانظر كيف ملك هذا المال قلبه، وبهذا نعرف حكمة الله عز وجل أن جعل للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة الواجبة؛ فيعطون من الزكاة من أجل تأليف القلوب، خلافاً لبعض الدعاة الآن حيث يعطونهم من صلف القول ما ينفر قلوبهم. وهذا يعني أننا لو رجعنا للدين الإسلامي وتأملنا كيف يدعو الناس لدين الإسلام، وجدنا رحمة وعطفاً، ووجدنا أن الإسلام يقابل المخالفين مقابلة الطبيب الحاذق المشفق، لا مقابلة المنتصر الذي يريد أن ينتقم، وهذه مسألة نسأل الله أن يعيننا على تنفيذها في دعوة الخلق إلى الحق. فمن تمام نعمة الله عز وجل ورحمته وحكمته أيضاً أن أرسل إلى الخلق رسلاً؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ ولأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه، حتى يقوم الإنسان بفعله، فلابد من إرسال الرسل، وضرورة الناس إلى الرسل أشد من ضرورتهم إلى الطعام والشراب والهواء؛ لأن بالرسل سعادة الدنيا والآخرة، وإذا لم يبعث الرسل بقي الناس جهالا؛ ولهذا كان من علامات الساعة أن يقبض العلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال، ولكن يقبضه بموت   (1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (2312) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 العلماء، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) (1) . إذاً لابد من الرسالة حتى تقوم الحجة، وتبين المحجة، ويسلك الناس إلى ربهم طريق الهدى، وهي من منة الله، بل أمن شيء من الله به علينا هو الرسالة والعلم. وقوله: (ولطفه بسائر الأنام) أي ومن لطفه جل وعلا ورأفته ورحمته، (بسائر الأنام) أي بعموم الأنام، والأنام: هم الخلق، (أن ارشد الخلق إلى الوصول) (أن) هنا مصدرية وهي في محل المبتدأ، ومن عظيم: خبر مقدم، أي: من عظيم منة الرحمن أن ارشد الخلق إلى الوصول. وقوله: (مبيناً للحق بالرسول) المراد بالرسول هنا الجنس، وعلى هذا فـ (الـ)) لبيان الجنس وليست للعهد الذكري ولا الحضوري ولا الذهني، بل هي للجنس الدال على العموم، وقد بين الله تعالى في كتابه أنه ما من أمة من الأمم إلا خلا فيها نذير، وكل رسول يرسل إلى قومه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، وبلغت رسالته جميع الخلق إلى يوم القيامة، وآيته العظمى هذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا - ولله الحمد - إلى اليوم.   (1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، رقم (100) ، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن، رقم (2673) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 132- وشرط من أُكرم بالنبوة ... حرية ذكورة كقوة   الشرح النبي لابد أن يكون أهلاً للرسالة، فلابد أن يكون المعطى للرسالة مؤهلاً لها؛ لأنه ليس كل إنسان يصلح للرسالة والله عز وجل يؤتي فضله من يشاء، وهذا كما أن العلم الموروث عن الرسالة لا يعطيه الله إلا لمن هو أهل له، نسأل الله أن يجعلنا منهم. والدليل على ذلك قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: الآية124)) ، وذلك رداً على الكفار المعاندين للرسل الذين قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ) (الأنعام: الآية124)) فقال الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: الآية124)) ، أي أنهم ليسوا أهلا للرسالة فلم يعطوها لكن أعطيها من هو أهل لها. والنبوة لها شروط، وقد بين المؤلف رحمه الله شيئاً منها فقال: (وشروط من أكرم بالنبوة حرية) شرط: مبتدأ، حرية: خبره، من أكرم: أي من أكرمه الله وفضله، بالنبوة: أي بالرسالة، فالرسالة إذاً إكرام من الله تعالى للعبد، قال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) (الإسراء: الآية55)) ، وقال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة: الآية253) ، وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (الإسراء: الآية70)) ، ومن المعلوم أن أعلى أصناف بني آدم هم الرسل عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 فالرسالة كرامة من الله عز وجل؛ سواء تمكن الرسول من بث رسالته وانتفع به الخلق أم لم يتمكن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء، رأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، وكلهم مكرمون، لكن لا شك أن من منّ الله عليهم بكثرة الإتباع أعظم إكراماً ممن دون ذلك. فإن قيل: كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يأتي النبي وليس معه أحد)) (1) . وقوله: (مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا جعل الله له حواريين) (2) (2) . فالجواب: إما أن يكون المراد بالحديث الثاني ذوي العزم من الرسل أو أنه يستثني من الحديث الثاني ما دل عليه الحديث الأول؛ لأن الأنبياء كثيرون. وقوله: (وشرط من أكرم بالنبوة حرية ... الخ) النبوة لها شروط: الشرط الأول: ذكره المؤلف رحمه الله في قوله: (حرية) يعني شرطه أن يكون حراً لا رقيقاً، والرقيق هو المملوك، العبد الذي يباع ويشترى، فهذا لا يكون نبياً ولا رسولاً؛ وذلك لأن الرق وصف نازل عن الحرية، فالرقيق مملوك يملكه سيده، يباع، ويشترى، ويستخدم، فلا يمكن أن يكون هذا قائدا؛ لأنه هو نفسه مملوك مقود؛ فكيف يكون قائداً. إذا لابد أن يكون النبي حراً. واعلم أن هذه الشروط شروط لما وقع لا لما سيقع؛ لأنه لا يمكن أن يقع   (1) رواه البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره ... ، رقم (5705) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة، رقم (220) . (2) رواه مسلم كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان .... رقم (50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الآن، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، لكن الذين كانوا أنبياء لأبد فيهم من هذه الشروط، فلابد أن يكونوا أحراراً ولا يمكن أن يكونوا أرقاء. فإن قيل: إن يوسف عليه الصلاة والسلام بيع مملوكاً عند عزيز مصر؟ فالجواب: أن يوسف عليه الصلاة والسلام نبئ بعد السجن. فإذا قال قائل: ما تقولون في قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا) (يوسف: الآية15)) ، يعني جاءه الوحي قبل السجن؟ فالجواب: أن الضمير يعود على أبيه يعقوب عليه الصلاة والسلام. والشرط الثاني: قال (ذكورة) فالنساء ليس منهن رسول؛ لأنهن لسن أهلاً لتحمل هذه القيادة العظيمة، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) (1) ، ولو بالانتخاب؛ فإذا انتخبوا امرأة فإنهم لن يفلحوا، فكيف يمكن أن تكون امرأةً رسولاً، ثم لو قدر أنها صارت نبيا، والنبي هو الذي يصلي بقومه، فإذا جاءها الحيض فلن تصلي إذا فلا يصح إطلاقاً أن تكون نبيا، لكن يصح أن تكون عالماً، وهذا هو الدليل العقلي. أما الدليل السمعي فلقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) (الأنبياء: الآية7)) ، فاخبر تعالى أنه لا يرسل إلا رجالا؛ لا ملائكة ولا إناثا. فإن قال قائل: إن هناك أقواماً ولوا أمرهم نساء وأفلحوا فما الجواب عن   (1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، رقم (4425) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ذلك؟ فالجواب عنه من أحد وجوه: الوجه الأول: إما أن يراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) ، يعني أولئك القوم فيكون خاصاً، وإذا كان خاصا لم يكن إشكال. الوجه الثاني: أن نقول: إن هؤلاء النساء لم يتولين الأمر على وجه الإطلاق بل الذي يدبر الأمر غيرهن لكن لهن الرئاسة اسماً لا حقيقة. الوجه الثالث: أن يقال: هؤلاء القوم لو أنهم ولوا رجلا لكان افلح لهم ويكون المراد بالنفي: لن يفلح قوم نفي الفلاح التام فيقال: هؤلاء القوم لو أنهم ولوا رجلا لكان افلح لهم. الوجه الرابع: أن يقال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لن يفلح قوم)) هذا بناء على الأغلب والأكثر وإلا فقد يفلحوا. فهذه أربعة أوجه في الجواب عن هذا الحديث والله أعلم. والشرط الثالث: قال: (كقوة) يعني أن يكون عنده قدرة وقوة على إبلاغ الرسالة، فلا يمكن أن يكون أصم، ولا يمكن أن يكون أبكم لا يتكلم، ولا يمكن أن يكون منهك القوى البدنية، بل لابد أن يكون عنده قوة؛ لأن إرسال من ليس ذا قوة عبث ينزه الله عنه، فلا يعقل أن يرسل من لا يستطيع أن يتكلم أو من هو أصم، والأعمى قد نقول إنه لا يمكن أن يرسل الله رسولاً أعمى، وقد نقول انه يمكن؛ لأن العمى وإن كان يضعف القوة على أداء الرسالة لكنه لا يمنع أداء الرسالة، والكلام على ما يمنع أداء الرسالة. فلابد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 أن يكون قوياً. لا يرد عليك نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لأنه أصيب بما أصيب ثم برئ في النهاية فهذا من العوارض. ولا يشترط أن يكون ذا سيادة في قومه، لكن في الغالب أنه يكون ذا سيادة في قومه، لقول الله تعالى: (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) (هود: الآية91) ، وهذا هو الغالب وقد يكون ذا شرف في قومه وسيادة، لقول لوط عليه الصلاة والسلام: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (هود: الآية80)) ، أي إلى قوم يمنعونني منكم. فالمهم أنه ليس بشرط أن يكون الرسول ذا سيادة وشرف في قومه، لكن ذلك هو الأكثر، ولا سيما في خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أشرف قومه نسباً؛ لأن الله اصطفى إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاه صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، فهو كريم من كرام؛ كرام الآباء والأجداد، عليه الصلاة والسلام، ولكن ليس هذا بشرط. وقوله: (حرية ذكورة كقوة) لو قال: (حرية ذكورة وقوة) لكان أحسن. لكنه قال: (كقوة) فكأنه جعل القوة تعليلاً لاشتراط الذكورة واشتراط الحرية، وهذه الكاف للتشبيه يعني كما تشترط القوة. فالشروط التي ذكرها المؤلف رحمه الله ثلاثة: الحرية والذكورة والقوة على إبلاغ الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 133- ولا تنال رتبة النبوة ... بالكسب والتهذيب والفتوة 134- لكنها فضل من المولى الأجل ... لمن يشا من خلقه إلى الأجل   الشرح قال المؤلف رحمه الله: ولا تنال رتبة النبوة ... بالكسب والتهذيب والفتوة يعني أن رتبة النبوة لا تنال بعمل العبد، وهذا أيضاً كما سبق لا مجال له الآن؛ لأن الرسالة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقول المؤلف: إن النبوة لا تنال (بالكسب) يعني بالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والقيام بما يجب على الإنسان من الحقوق التي لربه والتي للخلق. (والتهذيب) أي ولا تنال أيضا بتهذيب الإنسان نفسه، وتهذيب غيره، بأن يكون رجلا مريدا للإصلاح ساعيا فيه. قوله: (والفتوة) أي وكذلك لا تنال بالفتوة، وهي الكرم والشجاعة. وذكر المؤلف رحمه الله هذا الكلام رداً على بعض المتكلمين الذين قالوا: إنه يمكن للإنسان أن يهيئ نفسه ويهذبها حتى يكون مؤهلاً للنبوة فيكون نبياً، وهذا ليس بصحيح، فالنبوة لا تنال بالكسب، ولا يمكن أن يصل إليها الإنسان بالكسب. ولكن ربما يقول قائل: ألم يقل الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: الآية124)) ؟ فنقول: بلى، ولكن هذا الذي كان أهلاً للرسالة، لم تكن هذه الأهلية بعمل منه بل كانت بفضل من الله تعالى، ويدل لذلك أننا نجد أناساً وصولاً إلى القمة في الكرم والشجاعة وحسن الأخلاق في الجاهلية؛ مثل عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الله بن جدعان وغيره، ومع ذلك لم ينل النبوة، وإنما نالها محمد صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: لكنها فضل من المولى الأجل ... لمن يشا من خلقه إلى الأجل أفادنا المؤلف رحمه الله في هذا البيت أن النبوة فضل من لله يتفضل بها على من يشاء من عباده، ولهذا لما قال أعداء الرسل للرسل: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) (إبراهيم: الآية10) (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (إبراهيم: الآية11) يعني ما نحن إلا بشر مثلكم، (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (إبراهيم: الآية11) فالله سبحانه وتعالى هو الذي يمن بالنبوة على من يشاء من عباده، كما يمن بالعلم على من يشاء من عباده، مع أن العلم ربما يحصل بالكسب، لكن هو منة من الله، فكم من إنسان حاول أن يطلب العلم ولكنه عجز. وأفادنا في قوله: (لمن يشا من خلقه إلى الأجل) أن من كان نبياً فلا يمكن أن تسلب منه النبوة، فالنبوة لها ابتداء وليس لها انتهاء إلا بالموت، يعني لا يمكن أن يكون الإنسان رسولاً ثم تسلب منه الرسالة، لكن يمكن أن يكون غير رسول ثم يُرسل كما هو الأصل؛ فالأصل أنه لا يرسل إلا من كان قد بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ليكون تام العقل. وأما قوله تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام حين أشارت أمه إليه فقالوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ َصبِيّاً) (مريم: الآية29) (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) (مريم: 30) (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ َالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) (مريم: 31) (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) (مريم: 32) ، فقال بعض العلماء رحمهم الله: إن هذا خاص بعيسى عليه الصلاة والسلام، وأما غيره فلابد أن يبلغ أشده ويستوي ويكبر، أما عيسى فإنه آية من آيات الله في خلقه وتكوينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ورسالته، وقيل المعنى آتاني الكتاب في علمه، فيكون التعبير بالماضي باعتبار علم الله، ويكون الماضي هنا استعمل في المستقبل لتحقق وقوعه، وهذا هو الأقرب. فإن قال قائل: لماذا رجحتم هذا مع أن التقدير الأول لا مانع منه وهو أن يكون خاصاً به؟ فالجواب: إذا رجحنا التقدير الأول فمعنى هذا أننا نمنع هذا الأصل وهو عدم الخصوصية هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الله لن يرسل رسولاً إلا إذا أن أهلاً للرسالة يتحمل الدعوة ويتحمل الرد على الآخرين، هذا الذي يظهر لي، والله اعلم. مسألة: ما الفرق بين النبي والرسول؟ الفرق بين النبي والرسول كما ذهب إليه الجمهور؛ أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، ولهذا يسمى نبياً ولا يسمى رسولاً لأنه لم يؤمر، لكنه لم ينه عن إبلاغه، وأما الرسول فهو من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهناك فرق بين أن نقول في النبي لم يؤمر بتبليغه وبين أن نقول: نهي عن تبليغه، وهذا نظير ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله فيمن لم ينكر على الولاة ولامه بعض الناس على عدم إنكاره للمنكر، قال شيخ الإسلام: هناك فرق بين السكوت عن الإنكار، وبين الأمر بالمنكر (1) ، فالسكوت عن الإنكار مع عدم القدرة على الإنكار أو مع خوف منكر أكبر لا يلام عليه الإنسان بل قد يحمد إذا ترك الإنكار خوفاً من مفسدة اكبر، لكن لو أمر بالمنكر فإنه في هذه الحال يذم على الأمر بالمنكر والرضى به.   (1) انظر مجموع الفتاوى 14/472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 135- ولم تزل فيما مضى الأنباء ... من فضله تأتي لمن يشاء   الشرح قوله: (الأنباء) بالرفع على أنها اسم (تزل) ؛ لأن زال ويزال تعمل عمل كان إذا سبقت بنفي أو شبهه، وهنا سبقت بنفي وهو قوله: (ولم تزل) ، وعليه فالأنباء اسم تزل، وخبرها قوله (تأتي لمن يشاء) أي لم تزل الأنباء آتية لمن يشاء. وقوله: (فيما مضى) أي فيما سبق هذه الأمة، و (من فضله) أي على المرسل وعلى المرسل إليهم جميعا. وقوله: (لمن يشاء) أي لمن يشاء من عباده، وقد اخبر الله عز وجل أنه بعث في كل أمة رسولاً، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: الآية36) ، وقال تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: الآية24) وعليه فإن كل الأمم السابقة قد أرسل الله إليهم الرسول والنذير وأقام الحجة على جميع الخلق، ولم يبقى لأحد حجة على الله عز وجل. فإن قال قائل: هل الأنبياء محصورون؟ قلنا: إنه ورد في ذلك حديث يدل على حصرهم بأربعة وعشرين ألفاً، والرسل دون ذلك؛ لأن الأنبياء أكثر بكثير من الرسل، أما الرسل فأقل، وقد ذكر في القرآن منهم خمسة وعشرون رسولاً ولكنهم أكثر من هذا، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 يزيدون على ثلاثمائة إلا أن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (غافر: الآية78) إذاً فعقيدتنا بالنسبة للرسل أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وما من أمة إلا بعث الله إليها من يوجهها ويبين لها الحق. وأول الأنبياء هو آدم، فإنه كان نبيا مكلماً، كما في حدث أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم (1) . وأما أول الرسل فهو نوح، لقول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ َوالْكِتَابَ) (الحديد: الآية26) ، فإذا كانت النبوة والكتاب في ذرية نوح وإبراهيم دل هذا على أنه ليس قبل نوح رسول، ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء: الآية163) ، ويدل لهذا ما ثبت في الصحيح: ((أن الناس يأتون إلى نوح يوم القيامة ويقولون: أنت أول رسول أرسله الله إلى الأرض)) (2) . وبهذا نعرف أن من أقحم إدريس بين نوح وآدم فإنه غلط؛ لأننا نجد شجرة الأنبياء التي كتبها بعض الناس قد كتب فيها إدريس قبل نوح، وهذا غلط لاشك فيه. فإن عقيدتنا أن نوحاً هو أول الرسل. وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: الآية40) ، فمن ادعى النبوة بعده فهو كافر، ومن صدق مدعي النبوة بعده فهو كافر أيضاً، لأنه مكذب لله   (1) رواه احمد (5/178) . (2) رواه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قول الله: وعلم آدم الأسماء كلها، رقم (4476) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم (193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 ورسوله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين خلفه في أهله في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخرج وأقعد مع النساء والولدان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) (1) ، فرضي علي رضي الله عنه وقد استدلت الرافضة بهذا الحديث على أن علياً رضي الله عنه أفضل الصحابة، ولكن لا دليل فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بقوله أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين خلفه في قومه، أي في هذه المسألة فقط، أما الفضل الآخر فلا شك أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.   (1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة تبوك .... ، رقم (4416) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب ... ، رقم (2404) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 136- حتى أتى بالخاتم الذي ختم ... به وأعلانا على كل الأمم   الشرح قوله: (إعلانا) : يعني جعلنا فوق كل الأمم؛ فنحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن الشهداء على الخلق في أن الرسل بلغوا ما أُنزل إليهم من ربهم، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: الآية143) ، فهذه الأمة ولله الحمد هي أعلى الأمم، ولها النصر التام على غيرها، ولكن بشرط أن تكون عاملة بشريعة الله التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن تكون منتسبة فقط، ويكون الإسلام دين بطاقة وهوية بدون عمل، فهذا لا يجدي شيئاً، وللأسف فإن أكثر الناس قد كتب في هويته وبطاقته: الديانة: مسلم، وهو لا يعرف الإسلام، وقد لا يعرف كيف يتوضأ ولا كيف يصلي ‍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 137- وخصه بذاك كالمقام ... وبعثه لسائر الأنام   الشرح وقوله (وخصه بذاك) خصه: أي النبي صلى الله عليه وسلم، (بذاك) أي بختمه للرسالة، فإنه خاتم الأنبياء ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائص صلى الله عليه وسلم. وكان عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم خاتم أنبياء بني إسرائيل، ولكن هذا الختم مقيد بأنبياء بني إسرائيل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فختمه ختم مطلق فلا نبي بعده، وهذا يدعو إلى تأمل الحكمة من أن عيسى ينزل في آخر الزمان ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، ليتبين أن الختم الذي ختمت به رسالة بني إسرائيل ليس ختماً مطلقاً بل هو ختم مقيد، والرسول الذي بعده هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك في آخر الزمان إذا نزل عيسى فإنما يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: أليس قد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ولا يقبل الإسلام فلا يقبل الجزية، وهذا ليس هو الحكم الشرعي الموجود الآن؛ فإن الحكم الشرعي الموجود الآن أن يُقر النصارى على ما هم عليه، إذا كان بيننا وبينهم عهد فإننا لا نتعرض لديانتهم؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بذلك مقرراً له راضياً به، فيكون ما يقضي به عيسى في آخر الزمان من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله (كالمقام) يشير بذلك إلى قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) (الإسراء: الآية79) ، وقد سبق أن من المقام المحمود الشفاعة العظمى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 حيث تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الناس يلحقهم من الكرب والغنم ما لا يطيقون، فيستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، حتى تنتهي إليه، فهذا من المقام المحمود - حيث يحمده فيه الأولون والآخرون - وليس كله. مسألة: هل من المقام المحمود ما ذكره بعض العلماء من أن الله سبحانه وتعالى يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش؟ فالجواب: هذا إن صح فهو من المقام المحمود لا شك. وقوله (وبعثه لسائر الأنام) يعني، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعث إلى سائر الأنام، وغيره من الأنبياء بعثوا إلى أقوامهم فقط. فإن قال قائل: أليس نوح عليه الصلاة والسلام مرسلاً إلى جميع الخلق في وقته؟ قلنا: بلى هو مرسل إلى جميع الخلق في وقته، لكن لم يكن هناك قوميات سوى هذه القومية، فيكون نوح مرسلاً إلى قومٍ، كما قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (نوح: 1) ، والخليقة في ذلك الوقت لم تكن كثرت بعد حتى تولد منها قوميات، وبذلك يكون نوح مرسلاً إلى قومه فقط، بل كانت الأمة قليلة وأرسل إليهم نوح فكان مرسلاً إلى قومه خاصة. وقوله: (لسائر الأنام) سائر: يقولون أنها تطلق بمعنى الباقي، وتطلق بمعنى الجميع؛ فإن أخذت من السؤر صارت بمعنى الباقي، وإن أخذت من السور - والسور محيط بل ما كان داخله - صارت بمعنى الجميع، وإذا كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 بمعنى الجميع كان فيها إعلال؛ لأنها تكون مشتقة من السور، والسور ليس فيه همزة، لكن قلبت الواو همزة في (سائر) لعلة تصريفية. أما إذا قلنا إن (سائر) من السؤر فالهمزة فيها أصلية. ونظير ذلك لفظ زائر، هل الهمزة أصلية أو منقلبة؟ فيه تفصيل؛ فإن كانت من زأر الأسد فهي أصلية، تقول: زأر الأسد فهو زائر، وإن كانت من الزيارة فهي منقلبة، تقول زار يزور فهو زائر، وأصلها زاير لكن قلبت همزة. قوله: (الأنام) أي الخلق، قال الله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) (الرحمن: 10) ، أي: للخلق فهو مبعوث لجميع الخلق المكلفين، ودليل اختصاصه بذلك من وجهين: الوجه الأول: كونه خاتم الأنبياء، وهذا ثابت بالقرآن، فإذا كان خاتم الأنبياء - والناس كلهم محتاجون للرسالة - لزم من ذلك أن يكون رسولاً إلى جميع الخلق. الوجه الثاني: أنه في حديث جابر بن عبد الله رضي الله رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) (1)   (1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت ... ، رقم (438) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، رقم (521) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 فهذه من خصائصه، أما غيره من الأنبياء فإنه يبعث إلى قومه خاصة. فمثلاً إذا كان في الأرض أقوام متعددة فإن الرسول يبعث إلى قومه الذي هو في أرضهم، أو في غير أرضهم لكنه يبعث إليهم خاصة. ولا يرد على هذا نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأن القوم في عهد نوح هم قومه، إذ كان الناس في ذلك الوقت قليلين لم يتفرقوا شعوباً وأقواما، فكان مبعوثاً إلى الخلق عموماً؛ لأن الخلق في ذلك الوقت ليس فيهم أقوام، ولهذا اهلك المكذبون له وصار الذي بقوا ممن على السفينة هم آباء الخلق كلهم، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) (الصافات: 77) ، أي ذرية نوح. وبهذا ينكف الإيراد الذي أورده بعض العلماء حيث قال: إن نوحاً أرسل إلى جميع أهل الأرض؟ وجواب هذا الإيراد أن جميع أهل الأرض هم قومه في ذلك الوقت، وليس هناك أقوام آخرون، لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هناك أقوام آخرون؛ فهناك الفرس والروم والبربر وغيرهم، وهو مبعوث إليهم جميعا. فمن نعمة الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أرسله إلى جميع الخلق، لأنه يلزم من ذلك أن كل من عمل بشريعته ناله من أجره، ولهذا رفع له سواد عظيم فظن أنهم أمته فقيل له: هذا موسى وقومه، ثم رفع له سواد عظيم أعظم من الأول وقيل له: هذه أمتك (1) . فأمة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم، وأجره أكثر أجر الأنبياء؛ لأن كل واحد من   (1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى، رقم (3410) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب رقم (220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 أمته يعمل بشريعته فإن له مثل أجره، وبهذا نعرف ضلال من إذا فعلوا طاعة أهدوها للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن إهداء القرب للرسول صلى الله عليه وسلم بدعة وضلالة في الدين وسفه في العقل؛ لأن من أهدى إليه عبادة فعلها فمضمون ذلك أنه حرم نفسه من أجرها فقط، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فأجرها واصل إليه من الأصل؛ سواء أهديتها إليه أم لم تهدها إليه. ثم إنك لم تؤمر أن تهدي إليه العبادات؛ لا أضحية، ولا قراءة قرآن، ولا غيره، بل أمرت أن تصلي وتسلم عليه، وتدعو له، فهكذا أمرت كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب: الآية56) قال شيخ الإسلام: ولم يعهد أن أحداً من القرون المفضلة فعل ذلك، لا الصحابة ولا التابعون وتابعوهم، كلهم لم يهدوا للرسول عليه الصلاة والسلام ثواب قربة أبداً؛ لأنهم أفقه وأعلم واحكم من أن يهدوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثواباً؛ إذ إن أجرهم حاصل للرسول صلى الله عليه وسلم فإن ((الدال على الخير كفاعله)) (1)   (1) رواه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء الدال على الخير كفاعله، رقم (2670) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 138- ومعجز القرآن كالمعراج ... حقا بلا مين ولا اعوجاج   الشرح قال رحمه الله: (ومعجز القرآن) يعني وخصه تعالى بمعجز القرآن، فالقرآن معجز، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء: 88) . فالإنس والجن متفرقون أو متعاونون لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن. والدليل على هذا من الواقع أن القرآن نزل في قوم هم أفصح العرب، وبلغة هؤلاء القوم، ومع ذلك عجزوا عن معارضته، وهم بلا شك يودون بكل طاقاتهم أن يجدوا معارضة للقرآن الكريم، حتى يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ما جئت به فإننا نستطيع مثله، فأنت لست بنبي، لكن عجزوا، بل كان هذا القرآن يأخذ بألبابهم حتى يصغوا إليه قهراً. وذكروا في التاريخ أن رؤساءهم كانوا يأتون خفية إلى قرب النبي صلى الله عليه وسلم ليستمعوا القرآن؛ لأنه يعجبهم ويبهرهم، وقد قال الله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القرآن لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: الآية19) ، فدل ذلك على أن بلاغهم تقوم به الحجة. وقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بمثله فعجزوا: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ) (البقرة: الآية23) ، وتحداهم بعشر سور فعجزوا، وتحداهم بسورة فعجزوا، وتحداهم بآية فعجزوا، وقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور: 34) ، أي: حديث مثله إن كانوا صادقين فعجزوا، ولهذا قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) (الطور: 33) ، أي ليس عندهم علم إلا أنهم كفار لا يؤمنون، (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور: 34) ، وما أتوا (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (الطور: 38) ، وهذا تحدٍ؛ إن كانوا صادقين فليأت مستمعهم بسلطان مبين، وكل هذا لم يكن، إذاً فالقرآن أعجز الورى؛ لأنه إذا اعجز الذين نزل بلغتهم وبوقتهم، فمن بعدهم من باب أولى ومن سواهم من باب أولى. لكن هنا ملاحظة على قول المؤلف: (ومعجز القرآن) هذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها لأن المعنى: والقرآن المعجز، وكان ينبغي له ألا يعبر عن آيات الأنبياء بالإعجاز؛ لأن الإعجاز ليس من خصائص الأنبياء، فإن الساحر يعجز، والبهلواني يعجز، فلما كان هذا اللفظ مشتركاً بين الحق والباطل، كان الأولى أن نأتي بلفظ يتعين فيه الحق، وهو ما نطق الله به وهو (الآيات) كما قال الله تعالى في القرآن: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت: الآية49) . فالأولى أن يقول: آيات القرآن بدل: معجز القرآن، والأولى في جميع ما يسمى بمعجزات الأنبياء أن نسميه آيات الأنبياء؛ لأن الآيات بمعنى العلامات الدالة على صدقه. أما المعجزات فقد يعجز الساحر وقد يعجز غيره، فإن أحداً لا يستطيع أن يجعل الحبال كأنها حيات تسعى إلا السحرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 فالسحرة يفعلون ما يعجز عنه البشر، لكن بالسحر، ولهذا نقول كان من الأولى أن يعبر عن معجزات الأنبياء التي تسمى معجزات بالآيات. وقد قال بعض الناس: إن معجزات السحرة لا تشتبه بآيات الأنبياء؛ لأن آيات الأنبياء مقرونة بالتحدي، وهذا غير صحيح؛ لأن آيات الأنبياء تارة تكون تحدياً؛ وتارة تكون ابتداءً بدون تحد. فقد جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبية، وقالوا له: يا رسول الله، ليس عندنا ماء، فدعا بإناء فوضع أصابع يده عليه فجعل الماء يفور من بين أصابعه (1) ، وليس في هذا تحد، وهم رضي الله عنهم لم يقولوا له ائتنا بآية، بل شكوا إليه قلة الماء فجاءت هذه الآية. وآيات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما تكون بغير تحد، كما جاءه الرجل وهو على المنبر صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يغيثنا: فدعا صلى الله عليه وسلم فأغيثوا قبل أن ينزل من منبره، وجاء في الجمعة الثانية، وقال: ادع الله أن يمسكها عنا فدعا فانفرجت السماء (2) ، وليس في هذا تحد. وقال بعض الناس: إن معجزات الأنبياء تشبه كرامات الأولياء، فلذلك يجب أن ننكر إما آيات الأنبياء أو كرامات الأولياء، وآيات الأنبياء لا يمكن إنكارها فلننكر كرامات الأولياء؛ فقالوا: لا يمكن أن يوجد للأولياء كرامات، والصواب أن كرامات الأولياء ثابتة فيمن قبلنا وفي هذه الأمة.   (1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم (4152) . (2) رواه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع، رقم (1013) ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 فقصة مريم فيها كرامة من عدة أوجه فقد فجاءها المخاض إلى جذع النخلة فجاءت إلى جذع النخلة لأن المخاض اضطرها أن تأتي إليه، وهي حامل تطلق، فوضعت الولد، وقيل لها: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: 25) وهي امرأة نفساء، والمرأة النفساء عادة تكون ضعيفة، ثم قيل لها: هزي بجذع النخلة دون أن تصعدي إلى أعلاها، والهز بجذع النخلة لا يتأتى بل إنه صعب، فإن الرجل القوي إذا صعد إلى أعلاها وهزها تهتز، لكن إذا هزها من أسفل لا تهتز، لكن مريم قيل لها: هزي بجذع النخلة فهزت فاهتزت النخلة، وهذه كرامة (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: الآية25) ، يعني مخروفة بيسر، والعادة أن الرطب إذا تساقط من فوق النخلة، فإنه يفسد ويتفضخ، لكنه في شأنها بقي رطبا جنيا، وهذه كرامة، ولما جاءت تحمل الولد فقيل لها معرضين لها بالزنى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً) (مريم: 28) ، (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) (مريم: الآية29) فكلمهم، وهذه كرامة. فهذه كرامة وهي في الحقيقة تشبه آيات الأنبياء، لكن الفرق بينهما أن آيات الأنبياء تأتي من النبي، وكرامة الأولياء تأتي من ولي متبع للنبي، وهذا الولي لا يقول إنه نبي أبداً، وقد لا يزكي نفسه ولا يقول إنه ولي فتأتيه الكرامة. فإن قيل: كيف كان القرآن آية؟ أبلفظه أم بمعناه أم بصدق مخبره أم بماذا؟ فالجواب: أنه آية بكل معنى الآية في اللفظ والأسلوب والمعنى وأنه مهما كررته فلا يمكن أن تمل منه، وهذه الفاتحة نكررها في اليوم مرات ومرات ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 نملها أبدا، وهذا على عكس أي كلام آخر، فلو قرئت قطعة من أحسن قصيدة من قصائد العرب وكررتها في اليوم مرتين فإنك تمل، ثم لا تلبث أن تحس وكأنها شيء خلق، أما هذا القرآن فإنك مهما كررته لا تمله، وربما إذا وفقك الله للتدبر أن يفتح الله عليك في المرة الثانية من المعاني واللطائف ما لم تجده في المرة الأولى. وكذلك أيضاً في تأثيره على القلب، فإن الإنسان إذا قرأه بتدبر فإنه يلين القلب، ويوجه الإنسان إلى ربه، ويوجد طعماً عجيباً للإيمان، قال ابن عبد القوي رحمه الله في داليته المشهورة: وحافظ على درس القرآن فإنه ... يلين قلباً قاسياً مثل جلمد فهذه من آيات القرآن، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) (الحديد: الآية16) ، وقال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: الآية23) وهذه من آيات القرآن. ومن آيات القرآن الإصلاح التام إذا تمسكت به الأمة، فلا سبيل إلى إصلاح الأمة إلا بالقرآن، قال الله تعالى عن نبيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4) ، وقالت عائشة رضي الله عنها: ((كان خلقه القرآن)) (1) ، فصلاح الأمة بهذا القرآن، فبالقرآن تجد الأمة صالحة؛ كلمة واحدة، يد واحدة، جسد واحد، روح واحد. قال تعالى: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا) (آل عمران: الآية103) ، وهذا الأثر العظيم من آيات القرآن.   (1) رواه الإمام احمد (6/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 ومن ذلك أيضاً أن القرآن بمجرد ما يسمعه الإنسان يشعر بأنه قامت عليه الحجة، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) (التوبة: الآية6) ، فجعل الله تعالى سماعه أثراً في قلب هذا المؤَمَن. . ومن آيات القرآن الآثار العظيمة التي لم تكن لأي أمة قامت بكتاب؛ فتح المسلمون بالقرآن مشارق الأرض ومغاربها، وهذا لم يوجد لأي كتاب آخر. فإذاً القرآن كله آيات من كل وجه؛ في لفظه، ومعناه، وأسلوبه، وتأثيره، وآثاره، ولا يوجد له نظير، ولهذا قال المؤلف رحمه الله (ومعجز القرآن كالمعراج)) . قوله: (كالمعراج) المعراج مفعال من العروج، وهي آلة العروج، يعني الآلة التي يعرج بها الإنسان من أسفل إلى أعلى، فالسلم معراج ومصعد، والمعراج من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، لم يحصل لأحد من الأنبياء قبله، ولم يحصل لأحد بعده إلا روح المؤمن؛ فإن روح المؤمن إذا قبضت يصعد بها إلى الله عز وجل سماء فسماء، والملائكة شأنهم شأن آخر، فمن خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام المعراج؛ لأنه لم يحصل لأحد من الأنبياء سواه. والمعراج هو أنه عرج به صلى الله عليه وسلم من الأرض إلى السماء السابعة، إلى أن بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام -أقلام القضاء والقدر. فالقلم إذا كتب به سُمع له صوت - فهو صلى الله عليه وسلم وصل إلى هذا الحد، إلى سدرة المنتهى التي ينتهي إليها كل شيء صعد من الأرض، وهو مكان ما بلغه فيما نعلم أحد من البشر. وكان العروج وهو صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات، أُسري به من مكة إلى المسجد الأقصى، واجتمع بالأنبياء هناك؛ لأن أنبياء بني إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 كلهم أو غالبهم كانوا في جهة الشام أو مصر، فجمعوا له هناك وصلى بهم إماما، إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو إمامهم ورضوا كلهم بذلك؛ لأن الله قد أخذ عليهم الميثاق، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا) (آل عمران: الآية81) . فصلى بهم ثم صعد به جبريل سماء فسماء حتى وصل إلى السماء السابعة، وهو يمر بمن يمر به من الملائكة، وبمن يمر به من الأنبياء، ومر عَلَى عِلْيَة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكلهم إذا سلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه السلام ويرحب به؛ قال له آدم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، وقال مثل ذلك إبراهيم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، وبقية الأنبياء قالوا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح (1) ، فشهد له الأنبياء بالبنوة والإخوة والنبوة وبالصلاح مرتين، وكل هذا من إعلاء ذكره صلى الله عليه وسلم، وهو داخل في قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح: 4) . وفي هذا المعراج فرض الله عليه أفضل الأعمال البدنية وهي الصلاة، ولم يفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج، ولهذا لا نعلم عبادة فرضت من الله إلى الرسول بدون واسطة إلا الصلاة، وفرضها الله عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، وهذا يدل على أهميتها، وفضلها، وعناية الله بها، وأنها جديرة بأن يصرف الإنسان جميع وقته أو جله فيها؛ لأن خمسين صلاة تستوعب وقتاً طويلاً، لا سيما وأننا لا ندري كم كان عدد الركعات فيها،   (1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (164) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 ونزل نبينا وإمامنا وقائدنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم مقتنعاً بذلك، راضياً به مسلماً. ففرضت الصلاة خمسين صلاة يصليها في اليوم والليلة هو وأمته، حتى قيض الله له موسى صلى الله عليه وسلم، وألهم الله موسى أن يسأله: ماذا فَرض عليك ربك؟ فأخبره، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك؛ إني جربت بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة (1) . وموسى عليه الصلاة والسلام لا شك أنه قاس هذه الأمة على بني إسرائيل؛ لأنه لا يعلم الغيب، وإلا فلا يصح قياس هذه الأمة على بني إسرائيل؛ لأن هذه الأمة أطوع لله من بني إسرائيل، فهذه الأمة لما ابتلاها الله بالصيد وهم محرمون تناله أيديهم ورماحهم؛ تناله أيديهم فيما يمشي، ورماحهم فيما يطير، والعادة أن الذي يطير لا ينال إلا بالسهام، والذي يمشي لا ينال إلا بالرماح، لكن ابتلاهم الله فحرم عليهم الصيد، لحكمة هي: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) (المائدة: الآية94) ، فكف الصحابة رضي الله عنهم عن الصيد مع تيسره. أما بنو إسرائيل فقيل لهم لا تصيدوا يوم السبت سمكاً، فقالوا: لا نصيد، فطال عليهم الأمد، فابتلاهم الله يوم السبت، بحيث تأتي الحيتان شرعا على وجه الماء، وفي غير يوم السبت لا تأتي، ورأوا ألا يبقوا هكذا لا يأكلون السمك وكانوا أصحاب حيل، فأرادوا أن يحتالوا على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فوضعوا شبكاً يوم الجمعة فجاءت الحيتان على العادة يوم السبت، فدخلت الشبك وعجزت عن الخروج، فلما كان يوم   (1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 الأحد أخذوها، فتحيلوا على محارم الله، لكن لم ينفعهم هذا التحيل، بل قلبهم الله تعالى قردة، فأصبحوا قردة يتعاوون، وأصبح الرجل الذي بالأمس يمشي على رجليه قرداً يمشي على يديه ورجليه. فلما كانت الحيلة التي فعلوها أقرب ما يكون للحل، مسخوا إلى أقرب ما يكون لبني آدم فصار الجزاء وفاقا من جنس العمل. إذاً لا يمكن أن تقاس هذه الأمة السامعة المطيعة التي قال قائلهم لما استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: الآية24) ، أي إنا قاعدون في هذا المكان لا نتعداه. لكن قال الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم: (اذهب فقالت: فنحن بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك. فموسى عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، ومن نعمة الله عز وجل أنه كان لا يعلم عن هذه الأمة حقيقة، ولهذا قال: ارجع إلى ربك فأساله التخفيف لامتك، فرجع فوضع عنه خمساً خمسا، أو عشرا، حتى وصلت إلى خمس، فنادى منادٍ إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي؛ هن خمس في الفعل وخمسون في الميزان (1) . وهذا يدل على فضل الصلاة وعظمها، ففرض الله عليه الصلاة ونزل إلى الأرض حتى وصل مكة بغلس وصلى بها الفجر. وهذا المعراج من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يحصل لأحد من الأنبياء سواه أبداً، فهو من الآيات العظيمة الدالة على كمال قدرة الله عز وجل، وعلى   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 الآيات الكبرى التي شاهدها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو أننا استعرضنا المعراج لوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم في غاية ما يكون من الأدب، قال تعالى: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم: 17) ، فلم يتجاوز النظر الذي حدد له؛ فكان في غاية ما يكون من الأدب، و (مَا زَاغَ الْبَصَرُ) (النجم: الآية17) أي ما نظر شيئاً على خلاف الواقع. قال تعالى: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 18) ، والكبرى فيها وجهان من الإعراب: الوجه الأول: مفعول به: أي لقد رأى الكبرى من آيات ربه، والوجه الثاني: صفة لآيات. والظاهر أن كونها صفة أبلغ؛ لأنها إذا كانت مفعولاً به صار المعنى أنه رأى الكبرى التي لا أكبر منها، وإذا قلنا: إنها صفة، صار المعنى رأى من الآيات الكبرى الموجودة في ذلك الوقت، وهي كثيرة. وهنا قد يرد إشكال، حيث وجد النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السموات فكيف نقول: إنه اختصه بالمعراج مع أن الأنبياء كانوا في السموات؟ والجواب على ذلك من وجهين: الأول: أن الأنبياء لم يعرج بهم وهم أحياء من الدنيا إلى السموات، وإنما وجد أرواحهم في السموات. والثاني: أنه حتى الذين في السموات لم يصلوا إلى سدرة المنتهى؛ لأن أعلاهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في السماء السابعة، ولم يصل إلى سدرة المنتهى. وهذان فرقان واضحان. ومن الآيات التي أخبرت عن الإسراء والمعراج قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (النجم: 1) (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (النجم: 2) ، فأقسم الله تعالى بالنجم حين هويه؛ فقيل: المعنى حين غروبه لأنه يهوي في الأفق، وقيل: المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 حين انطلاقه ليضرب مسترق السمع، ويكون في هذا إشارة إلى حماية الله تعالى للوحي الذي نزل على محمد، وهذا المعنى أصح. قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (النجم: 1) (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (النجم: 2) ضل: أي خالف الحق عن جهل، وغوى: أي خالف الحق عن عمد، وصاحبكم: هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عدل عن قوله ما ضل محمد أو ما ضل النبي إلى قوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 3) لإقامة الحجة عليهم وعلى بلاهتهم، كأنما يقول: ما ضل هذا الرجل الذي تعرفونه، وهو صاحبكم؛ نشأ بينكم وعرفتم صدقه وأمانته، والصاحب أعلم الناس بصاحبه، فقد يعلم الصاحب من صاحبه ما لا يعلمه القريب من قريبه. فهذا صاحبكم. فكيف تقولون إنه ضل؟! ثم قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 3) ، ولم يقل: ما ينطق بالهوى؛ أي ما ينطق بالهوى الذي يريد، بل قال تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 3) يعني لا ينطق نطقاً صادراً عن هواه، وإنما ينطق نطقاً صادراً عن وحي، أو عن اجتهاد أراد به المصلحة لا لمجرد الهوى، والفرق بينهما عظيم. ولهذا قال: (إِنْ هُوَ) (النجم: الآية4)) أي نطقه (إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: الآية4) ، والمراد بالضمير في قوله: (إِنْ هُوَ) (النجم: الآية4) القرآن خاصة، وقوله: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم: 5) ، وهو جبريل، والذي علمه جبريل هو القرآن: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم: 5) (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (النجم: 6) مرة: يعني هيئة حسنة. فوصفه بالقوة والحسن والجمال والبهاء، وإذا اجتمعت القوة والحسن والبهاء والجمال فذلك هو الكمال. ثم وصفه بوصف ثالث وهو علو المنزلة، فقال تعالى: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 (النجم: 6) (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (لنجم: 7) ، استوى: أي كمل، يعن كان على خلقته وهو بالأفق الأعلى، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على خلقته التي خلقه الله عليها مرتين؛ مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في الأرض. رآه صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى وله ستمائة جناح، قد سد الأفق من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يعني غيمة واحدة سدت الأفق (1) . قال تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (النجم: 8) ، دنا: أي قرب، والمقصود ذو المرة وهو جبريل، (فَتَدَلَّى) والتدلي: النزول من فوق. (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم: 9) ، أي كان جبريل قاب قوسين أو أدنى من الرسول صلى الله عليه وسلم. (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (النجم: 10) ، أي أوحى جبريل، إلى عبده: أي عبد الله، ما أوحى: أي القرآن وأبهمه تعظيماً له، ولا يقال إن قوله: أوحى ما أوحى هو تحصيل حاصل، بل يقال: إن هذا إبهام للتعظيم، كقوله تعالى: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) (طه: الآية78) ومعلوم أن الذي غشيهم هو الذي غشيهم، لكن جاء بصورة الإبهام للتعظيم. والمعنى: أوحى لعبده شيئاً عظيماً من الوحي. قال تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (النجم: 11) ، فالفؤاد ما كذب الذي رأى بل رآه على ما هو عليه صدقاً وحقاً. (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) (النجم: 12) ، أي أفتجادلونه على شيء رآه بعينه وقلبه. قال تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) (النجم: 13) ، أي قد رأى جبريل مرةً   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (3234) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 أخرى في الأفق نازلاً (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) (النجم: 14) ، وهذه هي المرة الثانية التي رآه على خلقته التي خلقه الله عليها (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) (النجم: 15) ، عند سدرة المنتهى جنة المأوى، وهذا يدل على أن الجنة عليا فوق السموات - جعلنا الله من أهلها - (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) (النجم: 16) ، يعني رآه حين يغشى السدرة ما يغشى، وهنا أيضاً إبهام للتعظيم، فالذي غشيها من البهاء والحسن والجمال ما يبهر العقول. فهي سدرة لكن غشيها جمال عظيم يبهر العقول. (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم: 17) ، يعني ما مال البصر وما تجاوز الحد، فهو لم يدر يميناً ولا شمالاً، ولم يتقدم أماماً ولا فوقاً، وذلك لكمال أدبه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 18) وهذه هي آيات المعراج. أما عن آيات الإسراء فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1) ، وقوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) يؤيد ما قلناه سابقاً من أن الأولى في قوله تعالى: (مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) أن الكبرى صفة لآيات، وذلك أولى من الاحتمال الآخر وهو كونها مفعولاً به، وذلك لأن معنى قوله في سورة الإسراء: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) أي بعض آياتنا. والبحث في مسائل المعراج من وجوه: الأول: متى كان؟ كان قبل الهجرة بثلاثة سنوات، وهذا أرجح ما قيل في ذلك، على انه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 قد قيل فيه أقوال أخرى ولكنها لم تحرر؛ لأن الناس في الجاهلية ما كانوا يعتنون بهذه الأمور، ولهذا لم يكن لهم تاريخ، بل كان الجيد منهم والمثقف يؤرخ بعام الفيل، وما عرف التاريخ إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إذاً هو على الأرجح قبل الهجرة بثلاث سنوات. الثاني: من أين كان؟ كان المسجد الحرام من الحجر، أي حجر الكعبة (1) ، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث أنه كان من بيت أم هانئ، والجمع بينهما أن يقال: كان نائماً عند أم هانئ فأتاه آتٍ فأيقظه، فقام إلى المسجد الحرام، واضطجع عند الحِجْر فعرج به من هناك، من المسجد الحرام. الثالث هل كان يقظة أو مناما؟ الصواب المقطوع به أنه كان يقظة؛ لأن الله تعالى قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) ولم يقل بروح عبده، والعبد هو الجسم الذي فيه الروح، فقد أسري به بجسمه صلوات الله وسلامه عليه يقظة. ويدل لذلك أيضاً أنه لو كان مناماً لم تنكره قريش؛ لأن المنام لا ينكر، فالإنسان لو قال: انه رأى في المنام انه ذهب إلى أقصى الشرق أو أقصى الغرب ورأى ما رأى فإنه لا يكذب، فلولا أنه كان بجسمه ويقظة ما كذبت به قريش. الرابع: هل تكرر؟   (1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب حديث الإسراء، رقم (3886) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح الدجال، رقم (170) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 الصحيح - إن لم نقل المقطوع به - أنه لم يتكرر، وأنه ليس إلا مرة واحدة. الخامس: هل الإسراء والمعراج في ليلة واحدة؟ أو الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة؟ الصواب أنهما في ليلة واحدة، لقوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: الآية1) ، والآيات التي ذكر الله انه يريه إياها هي قوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 18) ، فالصواب أن الإسراء والمعراج، كانا في ليلة واحدة. وهنا يجدر بنا أن ننبه على كتيب في المعراج، تنسب روايته إلى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو كتيب مطول ولكن أكثره ليس بصحيح، ولا تجوز قراءته، وقد كان الناس فيما سبق يقرؤونه ويجتمعون إلى قارئه، وفيه أشياء منكرة قطعاً. فيجب الحذر من هذا الكتاب؛ لأنه موضوع على ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح عنه. السادس: هل كان المعراج كما اشتهر عند الناس ليلة سبعة وعشرين من رجب؟ اشتهر عند الناس أنه كان ليلة السابعة والعشرين من رجب، وصار بعض الناس يحتفل به، وبعض الدول تجعله عطلة رسمية، مع أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، وهذا من التناقض العجيب ‍‍ ولكن الصواب أن المعراج ليس في رجب، وأقرب ما قيل: أنه في ربيع الأول؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ولد في ربيع الأول، وأنزل عليه الوحي أول ما نزل في ربيع الأول، وقد نزل عليه القرآن في رمضان لكن أول ما بدئ به في الوحي الرؤيا الصادقة من ربيع، كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدئ بالوحي أنه أن يرى الرؤيا الصالحة حتى تأتي مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 فلق الصبح (1) ، وبقي على هذا ستة أشهر، وهي: ربيع الأول، والثاني، وجماد الأول، والثاني، ورجب، وشعبان، وفي رمضان أنزل عليه القرآن. وإذا قارنت بين هذا وبين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) (2) ، ونسبت ستة الأشهر إلى الثلاث والعشرين سنة وهي مدة الوحي، صارت ستة الأشهر بالنسبة للثلاث والعشرين سنة، جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم ولد في ربيع، وأول ما جاءه الوحي في ربيع، لكن أول ما أنزل عليه القرآن في رمضان، وهاجر في ربيع، وتوفي في ربيع، فكل الحوادث الكبيرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت في ربيع، فأصح ما قيل: إن المعراج كان في ربيع وليس في رجب، لكن اشتهر أنه في رجب، وصار عند الناس كأنه مجزوم به، كما اشتهر أن ولادته كانت في ليلة الثاني عشر، وهذا لا أصل له. ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (حقاً بلا مين ولا اعوجاج) والمين: هو الكذب، والاعوجاج: هو الانحراف عن الاستقامة، فهو حق لا كذب فيه، وهو استقامة ليس فيها اعوجاج ولا تحريف.   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم (4) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، رقم (160) . (2) رواه البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة .... ، رقم (6988) ، ومسلم، كتاب الرؤيا، باب منه، رقم (2263) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 139- فكم حباه ربه وفضله ... وخصه سبحانه وخوله   الشرح قوله رحمه الله: (فكم حباه ربه وفضله) يعني ما أكثر ما حباه ربه وفضله، فكم هنا تكثيرية، ويجوز أن تكون استفهاما يراد به التكثير، والمعنى واحد، (حباه ربه وفضله) وحبى حباء بمعنى الإعطاء، والتفضيل بمعنى الزيادة، (وخصه سبحانه) يعني بأشياء لم تكن لغيره، (وخوله) أي أعطاه، فعليه: الحباء والتخويل بمعنى واحد. فالله سبحانه وتعالى خص نبيه عليه الصلاة والسلام بخصائص لم تكن لغيره، وفضله بفضائل لم تكن لغيره، وأعطاه من الهبات ما لم تكن لغيره، فصلوات لله وسلامه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 فصل في التنبيه على بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم وهي كثيرةٌ جداً 140- ومعجزات خاتم الأنباء ... كثيرة تجل عن إحصائي 141- منها كلام الله معجز الورى ... كذا انشقاق البدر من غير امترا   الشرح قال رحمه الله: (ومعجزات خاتم الأنباء) أي خاتم أنباء الأنبياء. الأنباء أي أنباء الأنبياء، فهو خاتم النبيين لا خاتم الأنباء، لأن الأنباء جمع نبأ، لكن مراد المؤلف رحمه الله خاتم أنباء الأنبياء، وخاتم بفتح التاء كما في القرآن، وهو أبلغ من خاتم بكسر التاء؛ لان خاتم بالفتح بمعنى الطابع الذي لا ينفذ من ورائه شيء، والخاتِم بالكسر بمعنى الآخِر، إذا فالخاتم بالفتح أبلغ من الخاتم. والمعجزات: جمع معجزة، وهي في التعريف أمر خارق للعادة يظهره الله سبحانه وتعالى على يد الرسول شهادة بصدقه، فهو يشهد بصدقه بالفعل وهو إظهار هذه المعجزة. فقولنا: أمر خارق للعادة، خرج به ما كان جارياً على سنن العادة، فإنه لا يعتبر هذا معجزة، ولا كرامة لولي، فلو أن رجلاً ادعى الولاية لله، وأراد أن يثبت ذلك للناس بكرامة له، فاخبر أن الشمس تطلع في اليوم المحدد في الوقت المحدد، وكان هذا الوقت هو موعد طلوعها الذي يعرفه الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 ويعهدونه، فخرجت كما قال، فخرجت كما قال، فإنه لا يعد ذلك شهادة له بالولاية، ولا يعد كرامة له؛ لأنه ليس خارقاً للعادة، فلا يكون كرامة. ولما ناظر شيخ البطائحية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة قال له شيخ البطائحية: أنا وأنت أمام الواقع ندخل في النار، فأينا لم تحرقه النار فهو الذي على الحق، ومن أحرقته النار فهو على باطل، فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: نعم ليس عندي مانع، فإذا كان الله عز وجل جعل النار برداً وسلاما على إبراهيم، فإنها تكون برداً وسلاما على أمة محمد، فلا مانع من أن ندخل النار، لكن بشرط أن نغتسل وننظف أجسامنا أنا وأنت قبل أن ندخل النار، فنكس الرجل على عقبيه، فقال شيخ الإسلام: أنا أعلم أن هذا الرجل قد طلى جسمه بمادة تمنع الاحتراق، فأراد أن يعجزني بهذا، فبهت الذي ابتدع. مسألة: لو أن رجلاً من الناس دخل النار حقيقة ولم يحترق تأييداً للشرع هل يعد هذا كرامة؟ الجواب: نعم، لأنه أمر خارق للعادة. وقولنا: يظهره الله على يد الرسول تأييدا له فإن أظهره الله على مدعي الرسالة تكذيباً له لا تصديقاً فليس بمعجزة، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1) وغيره من المؤرخين أنا مسيلمة الكذاب نبي اليمامة كان يدعي أنه رسول، وقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أنا أريد أن أكون أنا وأنت شركاء في الرسالة.   (1) انظر البداية والنهاية 6/331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 وقد جاءه قومه في يوم من الأيام، وقالوا: يا نبي الله - وهو كاذب - إن بئرنا غار ماؤها، ولم يبق فيها إلا القليل من الماء الذي لا يروينا، فقال: أنا آت إليكم، فجاء إليهم وطلب ماء، فأعطوه ماء فتمضمض به ومجه في البئر، فصاروا ينتظرون أن تجيش بالماء كما صار ذلك في بئر غزوة الحديبية فلما مج هذا الماء في الماء الباقي غار بإذن الله، وهذا خارق للعادة وليس موافقاً لها، لكن كان تكذيباً لا تصديقا. وذكروا عنه أيضاً، أنهم أتوه بصبي شعر رأسه متمزق ليمسحه حتى يخرج بقية الشعر، فلما مسح على رأسه زال الشعر الموجود، وصار الصبي أصلع بالمرة، وهذا أيضاً خارق للعادة؛ لأن الإنسان لو مسح على رأس الصبي ما نبت الشعر ولا زال، لكن كان ذلك تكذيباً له. ولهذا قلنا: المعجزة أمرٌ خارق للعادة يظهره الله على يد الرسول تأييداً له وتصديقاً له. قال رحمه الله: (ومعجزات خاتم الأنباء كثيرة) وهنا أحب أن ارشد إلى فصل نافع جداً في هذا الموضوع، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1) ، حيث ذكر كلاماً حسناً جدا، ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (2) ، وقد ذكر ابن كثير أيضاً آيات كثيرة للرسول عليه الصلاة والسلام في كتابه البداية والنهاية لما تكلم على آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث ذكر آيات؛ أرضية، وسماوية،   (1) انظر الجواب الصحيح 6/324. (2) انظر البداية والنهاية 6/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 وحيوانية، وغير ذلك. فمن أراد الازدياد من ذلك فليراجعه. ولهذا قال المؤلف: (تجل عن إحصاء) أي لكثرتها. قال المؤلف رحمه الله: (منها كلام الله معجز الورى) أي من هذه المعجزات (كلام الله) عز وجل وهو القرآن، الذي أعجز الورى، وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم؛ فمن ذلك: 1- عجز الناس أن يأتوا بمثله، ولا بسورة، ولا بحديث. مع أنهم أمراء الفصاحة والبلاغة، وهذا لا شك أنه من آيات الله عز وجل. لكن الغريب أن بعض العلماء قال: إنهم عجزوا بالصرفة لا بمقتضى الطبيعة، يعني أنهم قادرون من حيث طبيعتهم على معارضة القرآن، لكن صرفوا، أي صرفهم الله عن معارضته، فيكون إعجاز القرآن على هذا القول لا لذات القرآن، ولكن لأمر خارج وهو صرفهم عن المعارضة، وهذا القول باطل لا شك في ذلك. ثم على تقدير التسليم، فإن القرآن يعتبر بذلك آية؛ لأن كون الله صرفهم عن معارضته يدل على أنه لا تمكن معارضته شرعاً، ولكن الذي نرى أنه الصواب أنهم عاجزون عن الإتيان بمثله طبعاً لا صرفاً، بمعنى أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله. 2- تأثيره وآثاره؛ تأثيره على القلوب، وآثاره في الفتوحات وانتصار الأمة الإسلامية وإعزازها وغير ذلك. 3- أن قارئه لا يمل منه ولو كرره عدة مرات، بخلاف غيره فإنه مهما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 من الفصاحة والبلاغة فإنه يمل. 4- حفظ الله له حيث بقي إلى وقتنا الحاضر في القرن الخامس عشر، ولم يستطع أحد أن يغير منه حرفاً واحداً، بينما الكتب السابقة بقيت دون ذلك وحرفت. 5- ما فيه من الأخبار السابقة واللاحقة، حيث يخبر عن الشيء فيقع كما اخبر ويخبر عن الماضي، ولا شك أن الماضي كما اخبر، ولهذا قال الله تعالى في سورة إبراهيم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) (إبراهيم: الآية9) ، ولهذا يجب التحري في نقل أخبار الأمم السابقة؛ لأنه لا يعلمهم إلا الله عز وجل. والمهم أن القرآن من أعظم المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: من أعظم المعجزات تبعاً للمؤلف، وإلا فالصواب أن نقول: الآيات. قوله: (كذا انشقاق البدر) أيضاً من آيات الرسول عليه الصلاة والسلام: انشقاق البدر أي القمر، وقد انشق القمر فلقتين حقيقة لا برأي العين، فكان أحدهما على جبل الصفا والصفا والثاني على جبل المروة، يشاهده الناس من هنا ومن هنا، قال الله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (القمر: 1) (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (القمر: 2) ، لما أراهم النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية وشاهدوها بأعينهم، قالوا: سحرنا محمد، ليس صحيحاً أن القمر ينشق. والعجيب أن آخر هذه الأمة وافق المشركين في إنكار انشقاق القمر، قالوا: انشقاق القمر غير صحيح، ولا يمكن أن ينشق القمر، لكن قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي ظهر نور الرسالة. وهذا تحريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 فهو سبحانه يقول: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) ، ثم ليس هناك مانع من أن ينشق القمر. وأما من زعم أن الأفلاك لا يمكن أن تتغير فتباً لعقله، والله تعالى يقول: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) (الانفطار: 1) (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) (الانفطار: 2) ، وما هذا إلا تغير للأفلاك، وكذلك قال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (التكوير: 1) (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (التكوير: 2) ، وهذا تغير للأفلاك، فالذي جمع القمر حتى صار كتلة واحدة قادر على أن يفرقه ويجعله كتلاً. ولهذا فإننا نأسف أن يقع مثل هذا من علماء أجلاء معاصرين؛ يقولون: إنه لا يمكن انشقاق القمر؛ لأن هذا تغير أفلاك، وهذا لا يمكن. بل الذي خلق الأفلاك قادر على أن يمزقها سبحانه وتعالى. وقال آخرون منكرين انشقاق القمر بحجة باردة؛ قالوا: لو كان انشقاق القمر حقاً لعلم به الناس في كل مكان على الأرض؛ لعلم به أهل الهند، وأهل الغرب، وأهل الشمال، وأهل الجنوب، ولكان نقله مما تتوافر الدواعي عليه، ولنقل في التواريخ، ولم ينقل هذا في التواريخ. والجواب على ذلك أن يقال: لا يوجد تاريخ أصدق من كلام الله عز وجل: القرآن، ولا تاريخ أصدق مما جاء في الصحيحين البخاري ومسلم، حيث تلقتهما الأمة الإسلامية بالقبول. فإذا قالوا: لماذا لم يذكره مؤرخو الهند مثلاً أو غيرهم؟ فالجواب أن يقال: ربما كان عندهم في تلك الليلة غيوم وأمطار حجبت رؤية القمر، أو نقول: إن انشقاق القمر لم يبق مدة طويلة حتى يتمكن الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 من رؤيته، إذ ربما تكون المدة يسيرة حين شاهده الناس ثم تلاءم، وربما أنضاف إلى ذلك أن الناس في ذلك الوقت في الهند مثلاً كانوا نياما؛ لأن الهند يسبق مكة في الزمن؛ فيقع هذا وهم نائمون ثم يلتئم قبل أن يستيقظوا، ثم إنه لا يهمنا في شيء كون علماء الهند قالوا أم لم يقولوه، فما دام موجوداً في كتاب الله عز وجل وفيما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا يهمنا أن ينقل أو لا ينقل. والمهم أن انشقاق البدر من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يعلم أنه انشق لأحد غيره عليه الصلاة والسلام، وهو أعظم من بعض الآيات التي حصلت للأنبياء من قبل، حتى إن ابن كثير رحمه الله قال: ما من آية حصلت لنبي إلا وجد مثلها للرسول عليه الصلاة والسلام أو لأتباع الرسول، والآية لأتباع الرسول تعتبر آية للرسول؛ لأنها شهادة بصدق ما هو عليه هذا المتبع. كان موسى عليه الصلاة والسلام يضرب الحجر - إما حجراً معيناً أو أي حجر - فيتفجر انهارا وعيونا، والحجر يمكن أن يتفجر كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) (البقرة: الآية74) ، لكن الماء نبع من الإناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة الحديبية جاءوا يشكون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فدعا بإناء فيه ماء يسير فوضع يده فيه، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كالعيون، حتى ارتوى الناس كلهم، وكانوا ألفاً وأربعمائة شخصا، وهذا أعظم من أن يتفجر الحجر، لأن الحجر جرت العادة بأنه يتفجر، أما الإناء فمن أين يتفجر؟ وأين صلته بالأرض؟ فلهذا نقول: آيات الرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة كثيرة، وكما قال ابن كثير رحمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 الله ما من آية لنبي إلا حصل مثلها أو أعظم للرسول عليه الصلاة والسلام أو لإتباع الرسول، فإحياء الموتى حصل؛ إما للرسول صلى الله عليه وسلم إن صحت الرواية؛ وإما لأتباعه، فهذا صلة بن أشيم من التابعين العباد، كان في سفر فماتت فرسه، فبقي ليس له مركوب، فدعا الله تعالى أن يحييها حتى توصله إلى بلده، فأحياها الله، وركب عليها، ولما وصل إلى البلد، قال لابنه: يا بني ألق السرج عن الفرس فإنه عارية، فتعجب الولد! فلما وضع السرج عنه سقط الفرس ميتاً؛ لأنه كان دعا الله أن يحييه حتى يوصله إلى أهله فحصل هذا، فهذا إحياء للموتى وهو إحياء مؤقت أيضاً كأنه عارية مؤقتة وهناك أشياء كثيرة في البداية والنهاية فلتراجع. وقوله: (من غير امترا) أي من غير شك فإن انشقاق القمر عندنا يقين في حدوثه كرؤيتنا للقمر الآن، لا نمتري في هذا، ونقول: إن الله على كل شيء قدير، فالذي جمع القمر قادر على تفريقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 فصل في ذكر فضيلة نبينا وأولي العزم وغيرهم من النبيين والمرسلين 142- وأفضل العالم من غير امترا ... نبينا المبعوث في أم القرى 143- وبعده الأفضل أهل العزم ... فالرسل ثم الانبيا بالجزم   الشرح قال المؤلف رحمه الله: فصل في ذكر فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأولي العزم، وغيرهم من النبيين والمرسلين، وليعلم ما يلي: أولاً: أن الفضل أو التفاضل مراتب لا تتلقى إلا من الوحي؛ لأن المراتب تختلف اختلافاً عظيماً وتتباين تبايناً كبيرا، ولا يمكن أن نرتب فضيلة على أخرى إلا بدليل من الشرع، فإن لم يكن لنا دليل من الشرع فليس لنا الحق في أن نتكلم. ثانياً: الترتيب في الفضيلة بناء على ما يظهر لنا، لا على ما هو الواقع عند الله عز وجل؛ لأننا قد نرى شخصين يصليان أحدهما قد أجاد صلاته ظاهراً تماماً؛ بحيث لا نراه يتحرك ولا يعبث، ونراه قد خضع برأسه وصلى صلاة كاملة باعتبار ما يظهر لنا، وآخر نرى أنه يحصل منه بعض الحركة وما أشبه ذلك، فنحن إذا فضلنا الأول نفضله بحسب ما يظهر لنا، أما عند الله فقد يكون الثاني أفضل. فقد يكون هذا الثاني قام بقلبه من الإخلاص لله وتعظيم الله عز وجل ما لم يكن في قلب الأول؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 والسلام في شارب الخمر الذي يكثر أن يجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه يحب الله)) (1) . مع أنه يكثر شرب الخمر، فلو أننا حكمنا بالظاهر لقلنا: هذا الذي يكثر شرب الخمر ليس في قلبه محبة لله، ومع ذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنه يحب الله)) . ولهذا فإننا حين نفضل فإنما نفضل بحسب ما يظهر لنا. أما ما ورد به النص فلا شك أننا نتبعه؛ لأن النص ورد من عند الله، والله تعالى عليم بما في القلوب وبما في الظواهر. قال المؤلف رحمه الله: (وأفضل العالم من غير امترا نبينا) ثم قال في البيت التالي: (وبعده الأفضل أهل العزم) ثم قال رحمه الله: (فالرسل ثم الانبيا بالجزم) . هذه المسألة، وهي التفاضل بين الأنبياء، ثابتة شرعا، فقد قال الله تبارك وتعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة: الآية253) ، هذا في الرسل، وقال تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) (الإسراء: الآية55) ، فالله سبحانه وتعالى فضل الرسل بعضهم على بعض، وفضل النبيين بعضهم على بعض، وفضل الناس بعضهم على بعض، قال تعالى: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: الآية32) ، فالله عز وجل فضل بعض الناس على بعض؛ الرسل والأنبياء وغيرهم. والعقل يدل على أن البعض أفضل من البعض، لأن من قام بمهمات عظيمة جليلة يقتضي العقل انه أفضل ممن دونه، فالتفاضل إذاً ثابت. والتفضيل يقتضي أن بعضهم أفضل من بعض في الإيمان وفي الأعمال   (1) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر ... ، رقم (6780) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 الصالحة أيضاً، ودليل ذلك قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: الآية13) فدل هذا على أن الكرم عند الله بالتقوى، ولا شك أنه قد جرى لبعض الأنبياء من المحن ما لم يجر لغيرهم، فأي محنة حصلت لإنسان مثل ما حصل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في إلقائه في النار إزاء توحيده وما يدعو إليه من التوحيد، فيلقى في النار وهو يراها أمامه تضطرم. وكذلك ما حصل في الأمر بذبح ولده، فإن هذه محنة عظيمة؛ ويصبر على ذلك، وهذا شيء عظيم، ودليل على الإخلاص لله تعالى. يقال له: اذبح ولدك فيمتثل ويستسلم، وليس عنده غيره، والولد قد بلغ معه السعي؛ فليس صغيراً لا يلتفت له، وليس كبيراً قد بان من أبيه، بل صار يافعا، وأكبر ما تتعلق به النفس في مثل هذا السن، ثم يقال: اذبح ولدك، فإن هذه محنة عظيمة. ثم إنه قد يفضل النبي غيره بكثرة أتباعه؛ لأن أتباعه كلما عملوا عملاً صالحا فله مثل أجورهم. فإن قال قائل: كيف نثبت ذلك وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء (1) ؟ فيقال: حاشى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهى عما أثبته الله ولا يمكن ذلك أبداً، فإذا اخبر الله عز وجل انه فضل بعض النبيين على بعض، فلا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا تفضلوا بين الأنبياء، ولكنه نهى عن التفضيل بين الأنبياء حيث يكون الحقد والعدوان، فلو أن أحداً فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على   (1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وإن يونس لمن المرسلين، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم، رقم (2373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 موسى بحضرة اليهود، وصار ذلك سبباً للعداوة أو البغضاء ثم سببا للشر فإنه لا يفضل درءاً للمفسدة. فالذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام من التفضيل ما كان موجبا للمفسدة، أما ما كان حكاية للواقع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن ينهى عنه وقد أثبته الله. إذاً فنحن حينما نتكلم عن تفضيل الرسول عليه الصلاة والسلام على جميع الناس، فإننا نتكلم به خبراً عما قاله الله، ولكننا لا نتكلم به حيث يكون في ذلك شر فساد. قال المؤلف رحمه الله: (وأفضل العالم من غير امترا) ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من كل المخلوقات؛ لأن العالم هو كل ما سوى الله، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) فليس هناك إلا رب ومربوب، والعالمون كلهم مربوبون، وإذا لم يكن إلا رب ومربوب صار المراد بالعالمين من سوى الله، فيشمل ذلك عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجمادات، وكل شيء. فهل يوجد دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من هؤلاء كلهم؟ والجواب أن نقول: إن مراد المؤلف أفضل العالم من البشر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((أنا سيد ولد آدم)) (1) ، أما من سواهم فإننا نتوقف وإن كنا يغلب على ظننا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق على الإطلاق، وفي ذلك يقول الناظم: وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمل عن الشقاق مل: فعل أمر من مال يميل   (1) تقدم تخريجه ص 75 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 قال رحمه الله: (نبينا المبعوث في أم القرى) وهذه صفة كاشفة وليست صفة مقيدة؛ لأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا في أم القرى، ومعنى المبعوث: المرسل إلى الناس، والمراد بأم القرى: مكة، وسميت أم القرى لأن القرى كلها تؤمها؛ في الحج إليها، والاعتمار إليها، وتؤمها في اتجاهها إليها في الصلاة وغير الصلاة. وقال بعض الناس: هي أم القرى لأنها مركز العالم، ووسط العالم، وهذا أمر جغرافي لا ندري عنه، ولكن إن ثبت فلا مانع من أن نقول به، وإن لم يثبت فهي أمر القرى في الفضائل تؤمها القرى في الحج والعمرة والاتجاه. قال رحمه الله: (وبعده الأفضل أهل العزم) أي بعد محمد عليه الصلاة والسلام فالأفضل أهل العزم، وهم أربعة غير محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم: إبراهيم وموسى وعيسى ونوح، وهم مرتبون على هذا: إبراهيم، ثم موسى، أما نوح وعيسى فاختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل؟ فقيل: إن عيسى أفضل؛ لما أعطاه الله عز وجل من الآيات، ولكثرة أتباعه، وقيل: إن نوحاً أفضل؛ لأنه أول الرسل، وعانى من المشقة والتعب من قومه ما لم يذكر لنا أنه حصل لعيسى، حيث لبت فيهم ألف سنة إلا خمسين وما آمن معه إلا قليل. ولكننا نقول: إن الفضل الذي عند الله لا نعلمه، أما ما تبين لنا من شأنهم في الدنيا، فلكل واحد مزية لم تحصل للآخر، وحينئذٍ نتوقف، فإذا توقفنا فنقدم ذكراً نوحا؛ لأنه الأول وعيسى بعده، ومع ذلك فإن هذا التقديم لا يقتضي الترتيب لأن الواو لا تستلزم الترتيب. ثم قال: (فالرسل ثم الانبيا) الرسل: جمع رسول، والرسول هو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 أرسل. تقول: أرسلت فلاناً إلى فلان، أي أمرته أن يبلغ فلاناً عني شيئاً، أما النبي: فإنه من النبأ، وهو الذي أتاه الخبر لكن لم يكلف بالتبليغ، وهذا الذي قررنا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، أن الرسول من أُوحي إليه بشرع وأمر أن يبلغه، وأما النبي فهو من أوحي إليه بشرع دون أن يكلف بالتبليغ، ولكنه لم يمنع من التبليغ، يعني نبئ إليه بشرع ولم يقل له: لا تبلغه، فإذا بلغه كان متطوعاً. فالفرق بين النبي والرسول: أن الرسول ملزم بالتبليغ والنبي غير ملزم، لكن غير ممنوع من التبليغ، بل يعمل هو بنفسه ويجدد الشرع ولكنه لا يلزم بالتبليغ، وهذا هو وجه كون الرسول أفضل من النبي؛ لأن الرسول ألزم بالتبليغ، وبزيادة تكليف، والتكليف ليس بالأمر الهين؛ لأن فيه معاناة الناس والتعب معهم. ولا يخفى علينا جميعاً ما حصل للرسل من الأذية، بل من الضرر أحياناً، لكن النبي يتعبد بما أوحى إليه ولا يكلف أن يبلغ به، فمن اقتدى به واخذ بما هو عليه فله ذلك، ومن لا فلا؛ ولهذا كان الأنبياء في بني إسرائيل كثيرين جداً؛ لأن بني إسرائيل قوم عتاة يحتاجون إلى تجديد الوحي دائما. إذاً مرتبة الرسل فوق مرتبة الأنبياء وهذا صحيح. وقول المؤلف (بالجزم) أي قل ذلك بالجزم، أو قلت ذلك بالجزم، وعلى الثاني يكون الكلام خبراً عن عقيدة المؤلف، وعلى الأول يكون أمراً باعتقاد هذا؛ أي: أن نعتقد هذا جزماً. فإذا قال قائل: كم عدد الرسل؟ وهل جميع الرسل بُلغوا لنا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 فالجواب: أن عدد الرسل ورد فيه أحاديث ليست بتلك القوة، فلا يلزم بها، فورد أن عددهم أربعة وعشرون ألفاً، ولكننا لا نردي على يصح هذا الخبر أولا؟ إنما الذين ذكروا في القرآن خمسة وعشرون رسولاً، وكل من ذكر في القرآن فهو رسول وإن ذكر بوصف النبوة، وذلك لأن كل رسول نبي ولا عكس، والدليل على أن كل من ذكر في القرآن رسول قول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (غافر: الآية78) ، فعلم بهذا أن كل من قص الله علينا نبأه فهو رسول. أما الذين لم يقصوا علينا فهم كثيرون ولكننا نؤمن بهم إجمالاً، ومعنى إجمالاً أي أنه لا يلزمنا التعيين؛ لأننا لا نعلم عنهم، لكن نقول: آمنا بكل رسول أرسله الله تعالى. مسألة: ثبت في السنة أن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبياً (1) وقد ذكر في القرآن فهل يكون رسولاً؟ فالجواب: لا؛ لأنه لم يذكر في القرآن بوصف النبوة. فالمهم أن أفضل البشر من حيث الجنس الرسل، ثم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، أما بالتعيين فأفضل البشر محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل النقلي على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (2) . والدليل الفعلي: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء إماماً لهم في ليلة الإسراء. وهناك عبارة خاطئة تقول: الرسل خادم، والنبي عالم، والولي ولي   (1) رواه احمد في المسند (5/265) . (2) تقدم تخريجه ص 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 موالٍ، وعلى هذا يقولون: إن الولي أفضل، ثم النبي لأنه خص بالعلم، ثم الرسول لأنه خادم، ويقول قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي وهذا القول كفر؛ فإن الرسول جمع بين النبوة والولاية، فهو أفضل الأولياء، والنبي جمع بين الولاية والنبوة، فهو في الدرجة الثانية بعد الرسالة، والولي فاتته النبوة والرسالة فليس له من الفضل إلا فضل الولاية. لكن القائلين بما سبق من قول باطل يرون أن من يزعمونهم أولياء أشرف البشر، ولهذا تصل بهم الحال إلى عبادتهم، وذلك باعتقاد أنهم يدبرون الكون تدبيراً كاملاً، كما قال ذلك بعض مشايخ الصوفية الغالين وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 144- وأن كل واحد منهم سلم ... من كل ما نقص ومن كفر عصم 145- كذاك من إفك ومن خيانة ... لوصفهم بالصدق والأمانة 146- وجائز في حق كل الرسل ... النوم والنكاح مثل الأكل   الشرح قوله رحمه الله تعالى: (وأن كل واحد منهم سلم) - ((وأن)) : الظاهر أن الصواب كسرها، وإن كان المعنى: ونؤمن بأن، لكن الأصل عدم التقدير. والضمير في قوله: (منهم) يعود على الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكل واحد منهم سلم (من كل ما نقص) و (ما) هنا زائدة، والتقدير: من كل نقص، وليس المراد بقول (من كل ما نقص) نقص الخلقة، أو نقص البشرية، بل المراد من كل ما نقص في الدين، لأنهم عليهم الصلاة والسلام هم أسبق الناس إلى الخيرات، وأعظم الناس امتثالاً لأمر الله، فهم سالمون من كل نقص في الدين. وكذلك من فوات الدين بالكلية لقوله: (ومن كفر عصم) . فلم يكفر أحد من الرسل، وليس من الرسل كافر، ولم يتعمد أحد من الرسل أن يفعل ما فيه نقص الدين أبداً، وإن فعلوا شيئاً فأما عن اجتهاد أو تأويل أو ما أشبه ذلك، ثم يبرؤون من إثمه بتوبة الله عليهم. قوله: (كذاك من إفك ومن خيانة) يعني أنهم مبرؤون من الإفك وهو الكذب؛ ولهذا ما كذب نبي قط، وأما ما جاء عن إبراهيم عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 والسلام من أنه كذب ثلاث كذبات في الله (1) فهي كذبات تورية، والتورية ليست كذباً في الواقع، لأن المعنى الباطن منها حقيقي مطابق للواقع، فقوله للملك الظالم: هذه أختي وهي زوجته، فهي وإن كانت ليست أخته بمعنى شقيقته، فإنها أخته على وجه صحيح، فقد أراد أنها أخته في دين الله، وكذلك قوله: بل فعله كبيرهم هذا، أيضاً فيه تورية، وإن كان الكبير لم يفعله، لكن الذي كسر الأصنام هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إلا أنه ورى أي فعله كبيرهم الذي تزعمون أنه إله. وفعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هنا ضرورة، ولا يقال إن التورية جائزة مطلقاً، فالتورية للظالم حرام بالإجماع، وللمظلوم جائزة، أما من ليس بظالم ولا مظلوم ففيها خلاف بين أهل العلم؛ فبضعهم يقول إنها حرام؛ لأن الإنسان يتهم بذلك ويجر على نفسه التهمة، وبعضهم يقول ليست بحرام، والراجح أنها حرام إلا لحاجة؛ لأن الإنسان لو أجزنا له التورية كلما شاء صار كل كلامه تورية، وأدى ذلك إلى عدم وثوق الناس به. وقوله (ومن خيانة) أي: أن الرسل مبرؤون من الخيانة، فهم لا يمكن أن يخونوا لا بالقول ولا بالفعل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الإشارة بالعين ومن الغمز بالعين، لأن هذا نوع من الخيانة. إذاً فهم صلوات الله وسلامه عليهم قد سلموا من كل كذب، وسلموا من كل خيانة؛ لأن الكذب والخيانة ينافيان الرسالة منافاة كاملة، إذ لا ثقة بقول الخائن ولا ثقة بقول الكاذب، لاحتمال أن يكون ما يقول به من الكذب الذي   (1) رواه البخاري، كتاب البيوع، باب شراء المملوك ... ، رقم (2217) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال ... ، رقم (2371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 كان يكذبه، ولاحتمال أن يكون خان فأخبر بالأمر على خلاف وجهه، لذلك فهم مبرؤون من الكذب والخيانة. لذلك قال رحمه الله: (لوصفهم بالصدق) وهذا ضد قوله: (من إفك) ، (والأمانة) وهي ضد قوله: (ومن خيانة) ، فهم موصوفون بالصدق عليهم الصلاة والسلام، لأن الله شهد لهم، كذلك موصوفون بالأمانة؛ لأنهم أمناء على وحي الله عز وجل، وإذا كان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بالأمانة وهو رسول إليهم، فهم كذلك من باب أولى. وأفادنا المؤلف رحمه الله أن الرسل معصومون مما ذكر، لكن هل هم معصومون من صغائر الإثم؟ وجواب ذلك أن نقول: إنهم ليسوا معصومين من صغائر الإثم، لكنهم معصومون من إرادة المخالفة، ومن الإصرار على المعصية. وقلنا: إنهم معصومون من إرادة المخالفة. وقلنا: إنهم معصومون من إرادة المخالفة لأن الذي يقع منهم يكون عن قصد اخطئوا فيه الصواب، فمثلاً قال تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة: 43) ، فهو قد أذن لهم اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم يظن أن المصلحة في ذلك، ولكن المصلحة في غير هذا، فالمصلحة أن يتأنى حتى يعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التحريم: 1) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم ما احل الله له طلباً لمرضاة زوجاته وتأليف قلوبهن، ولكنه لم يحرمه حكماً شرعياً، إنما حرمه امتناعا، يعني حرمه على نفسه، كما يقول أحدنا: حرام علي أن البس هذا الثوب، أو حرام علي أن ادخل هذا البيت، أو حرام علي أن اشتري هذه السيارة مثلاً. فتحريمه صلى الله عليه وسلم هذا ليس تحريماً شرعياً، لكنه تحريم امتناع، يعني إنني ألزم نفسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 أن امتنع من هذا الشيء. كذلك قال تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) (الأحزاب: الآية37) ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يخف في نفسه هذا عناداً ومخالفة؛ لكنه أخفاه تحرياً للمصلحة، ومع ذلك نهي عن هذا، فالحاصل أنهم عليهم الصلاة والسلام لا يمنعون من وقوع صغائر الذنوب، لكنهم لا يفعلونها كما يفعلها غيرهم تعمداً للمخالفة، ولا يقرون عليها أيضاً، بل لابد أن ينبهوا عليها حتى يرجعوا إلى الصواب. مسألة: قال الله تعالى عن يونس عليه الصلاة والسلام: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (الأنبياء: الآية87) ، فهل يجوز مثل هذا الظن من الرسل؟ والجواب: أن معنى نقدر أي نضيق كما قال تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) (الطلاق: الآية7) ، فيونس عليه الصلاة والسلام ظن أنه بخروجه هذا أنه يجد سعة عما كان عليه في الأول فظن ذلك، ولكن الله تعالى أراه انه في قبضته عز وجل وضيق عليه أكثر من ذي قبل، في بطن الحوت: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (الصافات: 143) (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات: 144) . مسألة: إذا كان الأنبياء معصومين من فعل الكبائر. وقتل النفس من الكبائر وقد وقع من بعضهم فما الجواب؟ والجواب: أن قتلهم للنفس يكون بتأويل وإذا كان بتأويل فقد يكون الشيء كبيرة لكن في حقهم ليس بكبيرة لأنهم لم يتعمدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: وجائز في حق كل الرسل ... النوم والنكاح ومثل الأكل بعد أن تكلم المؤلف رحمه الله عن الممتنع في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم انتقل إلى الجائز في حقهم، والجائز في حقهم هي الطبائع البشرية، فالطبائع البشرية يستوون فيها مع الناس، ولهذا قالوا للمكذبين: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم: الآية11) ، وقال خاتمهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون)) (1) ، وهذه طبيعة بشرية، فهو صلى الله عليه وسلم يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويتقي البرد كما نتقيه، ويتقي الحر كما نتقيه، ويلبس الدروع في الحرب كما نلبسها، وهكذا، فالطبائع البشرية جائزة في حق الرسل. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وجائز في حق كل الرسل النوم) ، لكن قد يختصون بخصائص في النوم، منها اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، فالإحساس الظاهري منه ينام كغيره، وفي الباطن لا ينام قلبه، فقلبه دائماً مشغول بذكر الله تعالى وبغير ذلك مما أراد سبحانه وتعالى. وقوله: (النوم والنكاح) أي والنكاح جائز في حقهم والجواز هنا جواز خلقي، أما شرعاً فهم مأمورون بذلك، لأنهم مشرعون للأمة؛ قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً) (الرعد: الآية38) ، وقوله: (مثل الأكل) فالأكل أيضاً من الأمور الجائزة، فلا يعاب على الرسول إذا أكل أو شرب أو ما أشبه ذلك، فهذه من الأمور الجائزة، فكل الأمور البشرية جائزة عليهم.   (1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة ... ، رقم (401) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 بقي الشيء الواجب، وهو الدعوة إلى الله عز وجل، وإبلاغ الرسالة، والنصح للأمة. فيجب عليهم من ذلك ما لا يجب على غيرهم، فهم ملزمون بالبلاغ بكل حال، وملزمون بالدعوة في كل حال، وملزمون بالجهاد من أمر منهم بالجهاد، ووجوب هذه الأشياء عليهم أو كد من وجوبها على غيرهم، ولهذا نقول: الأمور المسنونة يجب على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغها، ويجب أن يفعلها ليقتدي به الناس، وإن كانت أموراً مسنونة، فإذا كان البلاغ لا يحصل إلا بفعلها وجب على الرسول أن يفعلها لوجوب البلاغ عليه. ومما هو ممتنع في حقهم دعوى الإلوهية أو دعوى الربوبية، ولهذا لما قال الله تعالى لعيسى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة: الآية116) (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (المائدة: الآية117) . ومما يجوز عليهم الموت، فهو جائز عليهم شرعاً وواقعاً، قال الله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر: 30) ، وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) (الأنبياء: الآية34) ، وقال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران: الآية144) ، أفإن مات: أي ميتة طبيعية، أو قتل: أي فمات بسبب القتل، انقلبتم على أعقابكم، إذاً فهو ميت. فإذا قال إنسان: كيف تكون الرسل أمواتاً والشهداء - وهم دونهم - إحياء، كما قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 والجواب: أن هذه الحياة التي للشهداء يكون للأنبياء والرسل أعظم منها، لكنها حياة برزخية لا حياة دنيا ولا حياة جسم، وإنما هي حياة برزخية، الله اعلم بكيفيتها. ولكن الخرافيين يأبون إلا أن يقولوا إنها حياة حقيقية، وهم بقولهم ذلك أشد الناس تقصيراً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الواجب عليهم إذا كانوا يعتقدون هذا أن يذهبوا إليه بأكل وشرب لأنه محتاج له، وهذا مثل ما يفعله الرافضة فيما يعتقدونه المهدي الذي سيخرج في آخر الوقت، إذا تسنى له الخروج، حيث يقول السفاريني رحمه الله في شرح العقيدة: إنهم كانوا في صباح كل يوم يذهب واحد منهم على فرس مسرج، وبيده رمح، ومعه ماء وعسل وخبز، وذلك كل صباح حتى ترتفع الشمس وييأس من خروجه إلى الفطور، فيرجع، وفي صباح اليوم الثاني مثل ذلك، وهو يأتي بهذا لأجل إذا خرج هذا المهدي من السرداب وجد الفطور جاهزاً والرمح جاهزاً، فأفطر ثم ركب الفرس ودعا إلى الجهاد. فيا لها من عقول سخيفة ‍‍نسأل الله أن يرزقنا العافية مما ابتلاهم به. فالحاصل أن حياة الرسل والأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الشهداء بلا شك، لأنهم أفضل عند الله، ولكن من المتعين أن هذه الحياة حياة برزخية لا حياة دنيوية وإلا لوجب علينا أن نأتي بالطعام والشراب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام كل يوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 فصل في ذكر الصحابة الكرام الصحابي والصاحب والصحب والصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم لهم ميزة على غيرهم، فالصاحب في غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم هو من كثرت ملازمته لصاحبه، أما الصحابي للرسول عليه الصلاة والسلام فهو: (من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ولو حكماً ومات على ذلك) . فخرج بقولنا: (من اجتمع) من أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به لكن لم يجتمع به، مثل أن يكون اقبل على المدينة ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم فمات الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يصل، فهذا ليس بصحابي، وإن كان قد اسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكنه اصطلحوا على أن يسموه مخضرماً، ومرتبته بين الصحابة الخلص وبين التابعين الخلص، لأنك إن نظرت إلى كونه اسلم في عهد الرسول ألحقته بالصحابة، وإن نظرت إلى أنه لم يجتمع به ألحقته بالتابعين، ولهذا كان في منزلة بين منزلة الصحابة والتابعين ويسمى مخضرماً. وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعتبر منقطعاً، لأنه لم يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم. وقولنا: (مؤمنا به) خرج بذلك من اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً بغيره، ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به، فهذا ليس بصحابي لأنه حين اجتماعه به لم يكن مؤمناً به. ودخل في قولنا (من اجتمع بالنبي) من كان أعمى واجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون صحابيا، وبهذا يكون قولنا: (من اجتمع به) أحسن من قول بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 العلماء: (من رآه مؤمناً به، لأننا لو قلنا: (من رآه) خرج بذلك الأعمى. وقولنا: (ولو حكما) دخل فيه الصبي الذي في المهد إذا اجتمع بالرسول عليه الصلاة والسلام، كما لو جيء بصبي من أبناء المسلمين إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ثم مات النبي قبل أن يميز هذا الصبي، فإن هذا مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم حكماً؛ وقلباً لأنه صبي لا عقل له، لكنه مؤمن بإيمان أبويه وعلى هذا فمحمد ابن أبي بكر الذي ولد في حجة الوداع يعتبر صحابياً. وقولنا: (ومات على ذلك) دخل فيه من ارتد ثم رجع إلى الإسلام ومات على الإسلام، فإنه يكون صحابياً، فالردة لا تبطل الصحبة إلا أن يموت على الردة، كما أنها لا تبطل الأعمال الصالحة إلا أن يموت عليها، لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) (البقرة: الآية217) ، وخرج به من اجتمع بالرسول عليه الصلاة والسلام مؤمناً به ثم ارتد ومات على الردة، فإنه لا يكون صحابيا. أما من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ثم لم يره بعد وآمن لا يكون صحابيا، لأنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ونحن ذكرنا أن الصحابي (من اجتمع بالنبي) أي بوصفه نبياً لا بوصفه رجلاً سينبأ، فمن اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمنا بالرسول وقال: هذا هو النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل فآمن بالرسول لكن بعد بعثة الرسول لم يره، فإنه لا يعتبر صحابياً؛ لأنه آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون نبيا. وهكذا نقول في الأعمال كلها، فلو أن الإنسان ارتد ثم عاد إلى الإسلام ومات على الإسلام، فإن أعماله السابقة للردة تبقى صحيحة مقبولة، إذا تمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 فيها شروط القبول، فإذا حج الإنسان ثم ارتد بترك الصلاة مثلاً، ثم عاد إلى الإسلام ومات على الإسلام فلا يؤمر بإعادة الحج؛ لأن الردة لا تبطل الأعمال إلا إذا مات وهو على الكفر. أما الصحبة في حق غير الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون إلا بملازمة طويلة يستحق أن يسمى الإنسان بها صاحباً، فلو اتفق شخصا مع آخر في سفر فوصلا إلى المدينة وتفرقا، فإن ذلك لا يعد صحبة إلا مقيدة، فيقال: صحبته في السفر المعين، أو صحبته في الحج، أو ما أشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 147- وليس في الأمة بالتحقيق ... في الفضل والمعروف كالصديق   الشرح هذه الأمة أفضل الأمم ولله الحمد، ودليل ذلك من القرآن والسنة؛ قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: الآية110) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) (1) . ثم إن خير هذه الأمة الصحابة رضي الله عنهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (2) ثم إن الصحابة المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن المهاجرين جمعوا بين النصرة والهجرة، فقد هاجروا أوطانهم وأموالهم وأهليهم إلى الله ورسوله، ونصروا لله ورسوله، قال الله تعالى في وصف المهاجرين: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون) (الحشر: الآية8) ، فنص على الهجرة ونص على النصرة، فهم رضي الله عنهم أفضل من الأنصار، وهذا من حيث الجنس. ثم إن أفضل المهاجرين الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. وأفضل هؤلاء الأربعة كما قال المؤلف: (وليس في الأمة) أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم (بالتحقيق) أي بالقول المحقق، الذي دلت عليه النصوص في الكتاب   (1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، رقم (3001) . (2) تقدم تخريجه ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 والسنة، (في الفضل والمعروف كالصديق) الفضل: بذل الخير والإحسان؛ من العلم والمال وغير ذلك. والمعروف: ضد المنكر. فهو جامع رضي الله عنه بين العدل الذي هو المعروف، وبين الفضل الذي هو الإحسان، ويدل لذلك أن الله تعالى لم يصف أحداً من الصحابة بأنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر، قال الله تعالى: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: الآية40) ، وهذه منقبة عظيمة لم ينلها إلا من هو أهل لها، وهو أبو بكر رضي الله عنه، قال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: الآية124) ، وهو أعلم سبحانه، حيث يجعل فضله، فهذا الفضل العظيم الذي لأبي بكر لم ينله أحد من الصحابة رضي الله عنهم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن إخوة الإسلام ومودته)) (1) ، وقال: ((لا يبقين في المسجد باب ولا خوخة إلا سدت إلا باب أبي بكر)) (2) ، وقال معلناً على المنبر: ((إن أمنَّ الناس عليّ بماله وصحبته أبو بكر)) (3) ، فلا يقال بعد هذا إن غيره أفضل منه، مع أن المنة حقيقة للرسول عليه الصلاة والسلام، فكون أبي بكر يكون صاحباً للرسول ولم يطرده الرسول، أو يعرض عنه، أو يريه وجه غضب، هذا في الواقع منة   (1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت .... ، رقم (3657) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ... ، رقم (2383) . (2) رواه البخاري، كتاب الخوخة والممر في المسجد، رقم (446) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر ... ، رقم (2382) . (3) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا الأبواب، رقم (3654) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من كرم الرسول عليه الصلاة والسلام أن جعل المنة من أبي بكر عليه. كذلك أيضاً الصحبة المنة فيها للرسول صلى الله عليه وسلم. والمنة الأولى للجميع هي من الله عز وجل، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام كلما ذكر للأنصار يبين لهم ما من الله به عليهم؛ حيث إن الله هداهم به وأغناهم به وألفهم به، قالوا: الله ورسوله أمن. إذاً ليس في الأمة مثل أبي بكر رضي الله عنه في الفضل والمعروف - الذي هو الإحسان والعدل -، وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي كل شيء، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم حث على الصدقة فانصرف الناس ليتصدقوا، فقال عمر رضي الله عنه، الآن اسبق أبا بكر، فأتى بنصف ماله - في حين أن الواحد منا الآن إذا أراد أن يخرج ربع العشر وهو الواجب صار يحمر ويصفر، ويسأل العلماء لعل أحداً منهم يقول: هذا ليس فيه زكاة - فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام: ما تركت لأهلك؟ قال: شطر المال. فأتى أبو بكر بكل ماله. فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام: ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله. فقال عمر: الآن لا أسابق أبا بكر أبدا (1) . فعرف أنه عاجز عن أن يسبقه، وعمر هو الرجل الثاني في هذه الأمة إذاً لا يسبق أبا بكر أحد من هذه الأمة، فما دام الرجل الثاني عجز عن سبقه فمن دونه من باب أولى. وقوله: (كالصديق) هذا لقب أبي بكر رضي الله عنه، وكنيته أبو بكر،   (1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر ... ، رقم (3675) ، وأبو داود، كتاب الزكاة، باب في الرخصة في ذلك، رقم (1678) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 واسمه عبد الله، وإنما سمي بالصديق - والصديق: فعيل من الصدق - لكمال صدقه في المقال والفعال، ولتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس. ويقال: إن أول ما لقب بهذا اللقب لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج، فاتخذت قريش هذا فرصة وذهبت إلى أبي بكر فقالت: إن صاحبك يحدث بحديث المجانين، يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع منه، ونحن لا نصل إليه إلا في شهر ولا نرجع إلا في شهر، فقال: إن كان ما قلتم حقاً فهو صادق. وقال ذلك احترازا؛ لأنه يحتمل أنهم كذبوا على الرسول، فسمي من ذلك اليوم الصديق. ولا شك أنه أصدق هذه الأمة في المقال والفعال والمقاصد وغيرها، وانه أقواها يقيناً وتصديقاً، فهو رضي الله عنه ليس في هذه الأمة مثله، ولو لم يكن من حسناته على هذه الأمة إلا استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكفى بذلك فخراً؛ لأنه لا أحد ينكر ما صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من السياسة الحكيمة، والحكم العادل، والفتوحات العظيمة، وإذلال أهل الشرك، فعمر بذلك يعتبر حسنة من حسنات أبي بكر رضي الله عنه على هذه الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 148- وبعده الفاروق من غير افترا ... وبعده عثمان فاترك المرا   الشرح قال رحمه الله: (وبعده الفاروق) أي بعد أبي بكر الفاروق، والفاروق على وزن فاعول، وهو من صيغ المبالغة، مأخوذ من الفرق، وسمي بذلك لأن الله تعالى فرق به بين الحق والباطل، فقد أعز الله تعالى الإسلام بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفرق الله تعالى به بين الحق والباطل في خلافته وقبل خلافته، وجعل الله الحق على لسانه، وقد قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن يكن فيكم محدثون فعمر)) (1) ، أي ملهمون بالوحي، وكان رضي الله عنه موفقاً للصواب، حتى إن الوحي أحياناً يأتي موافقا لقوله واقتراحه، فهو رضي الله عنه فاروق فرق الله به بين الحق والباطل، وكان رضي الله عنه بعد أبي رضي الله عنه في الفضيلة، وبعد أبي بكر في الخلافة، وعلى هذا أجمع أهل السنة والجماعة على أن هذين الرجلين أبا بكر وعمر هما أفضل الأمة، وأن أبا بكر أفضل من عمر. وعمر رضي الله عنه ولي الخلافة بتعيين من أبي بكر، فإنه رضي الله عنه عينه وتحمل أبو بكر رضي الله عنه المسؤولية في هذه الأمة حياً وميتاً، لكنه رضي الله عنه أدى الأمانة ووفق، فصار من فضائله على الأمة أن استخلف عمر بن الخطاب، ولا يخفى على أحد منصف فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قرأ سيرته.   (1) رواه البخاري، كتاب مناقب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب .... ، رقم (3689) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 تولى عمر رضي الله عنه الخلافة بعد أبي بكر، وقام بأعباء الخلافة خير قيام، وكثرت الفتوحات على يده وصار له من الهيبة والعظمة ما خذل الله به أعداءه، ومع ذلك فكان متواضعاً يقبل الحق من أي شخص كان، وكان لا يأخذ من بيت المال إلا مثل ما يأخذه أي أحد من الناس، ولا يعطي أحداً من أولاده إلا مثل ما يعطي أحداً من الناس، بل ربما نقصه، ولم يتخذ رضي الله عنه لنفسه بواباً ولا قصراً، بل كان رضي الله عنه ينام في المسجد فيجمع الحصى ثم ينام عليه كوسادة له، وكان عليه رداء مرقعه، وفي سيرته من العجب ما لا يكاد يصدق فيما ينقل عنه، ولهذا أعز الله به الإسلام بعد أن كان خليفة، وقبل أن يكون خليفة. وكان له هيبة عظيمة رضي الله عنه، ومن ذلك ما يذكر من أن رجلاً من اليهود في الشام كان منزله إلى جنب بيت المال، فعرض عليه معاوية أن يشتريه منه، قال: بع على البيت - من أجل أن يدخله في بيت المال - فأبى اليهودي، فأعطاه ثمناً أكثر من ثمنه، فأبى. فأدخله معاوية رضي الله عنه في بيت المال وقال: إن شئت أعطيناك، وذلك لما رأى معاوية رضي الله عنه أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة. ولكن اليهودي أبى فقدم المدينة يبحث عن عمر، فقيل له: تجده الآن في المسجد، فذهب إلى المسجد فوجده رضي الله عنه نائماً على البطحاء في هدوء، عليه رداء مرقع، كأنه فقير؛ في حين أن معاوية وهو أمير من أمرائه - لما كانوا في الشام يقدسون ملوكهم ويعظمونهم ويجعلون لهم القصور - قد اتخذ لنفسه مثل هذا، لا حباً في الدنيا، ولكن إقامة للسلطة حتى يهابها الناس؛ لأن معاوية لو فعل مثل ما فعل عمر في المدينة وهو في الشام لن يبالي به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 الناس. فجاءه الرجل فقص عليه القصة، فيقال انه رضي الله عنه أخذ عظماً من الأرض، وكتب فيه: ليس كسرى بأعدل منا، ووضع خطاً وفوق الخط آخر كالصليب، وقال لليهودي: اذهب أعطه معاوية، فلما جاء به إلى معاوية، وقطعا بينه وبين عمر إشارة وهي ما يسمى في العرف الحاضر ((شفرة)) - لما رأى هذا العظم يقال إنه وضعه على رأسه، ثم قال لليهودي: ماذا تريد؟ أتريد أن أبني لك بيتك وأعيده من جديد؟ أم تريد أن أعطيك عشرة أمثاله أم ماذا تريد؟ فقال الرجل: وهكذا يكون أمراؤكم مع خلفائكم؟ ‍قال: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن بيتي صدقة للمسلمين. وبهذا نرى كيف أن العدل يجعل الناس يستجيبون ولو كانوا كفاراً، والظلم والاستئثار يجعل الناس لا يستجيبون ولو كانوا مسلمين. فالحاصل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع كونه ذا سلطة عظيمة وهيبة عظيمة إذا جاءه الإنسان وجده كأنه عادي. وكذلك القصة المشهورة - وإن كان فيها شيء من النظر -: أنه لما خطب الناس رضي الله عنه حين تغالوا في المهور، وقال: لا يزيد أحد على مهر النبي عليه الصلاة والسلام لأزواجه وبناته إلا جعلت الزائد في بيت المال، فقامت امرأة فقالت: مهلاً يا أمير المؤمنين، ليس ذلك إليك، إن الله تعالى يقول: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (النساء: الآية20) . فأقر الله تعالى إيتاء القنطار للزوجة، والقنطار ألف مثقال ذهب، وقيل إنه ملء جلد ثور صغير من الذهب. فقال رضي الله عنه: امرأة أفقه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 عمر، ثم ترك الناس، وهذا الحديث في صحته نظر لكنه مشهور عند الناس. وقد كان عمر رضي الله عنه من أكثر الناس تواضعاً؛ وعظ الناس يوماً من الأيام، فقام إليه سلمان الفارسي، وقال: يا أمير المؤمنين، كيف تعطي عبد الله ابن عمر ثوبين ولم تعط الناس إلا ثوباً واحداً من بيت المال؟ ‍فقال له: قم يا عبد الله رد عليه، فقام فرد عليه فقال: إن الثوب الثاني ثوب عمر أعطاه إياه، وليس زائدا على ما يعطي للمسلمين. وكان رضي الله عنه إذا أمر الناس بشيء أو نهاهم عن شيء جمع أهله وقال لهم: إن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم - والطيور تنظر إلى اللحم نظر شره تريد أن تبتلعه - وإني قد أمرت بكذا أو نهيت عن كذا، فلا أجد أحدكم مخالفاً إلا أضعفت عليه العقوبة. كل هذا من باب العدل والتخويف، وإلا كان العدل ألا يضعف العقوبة عليهم، لكنه رضي الله عنه له غور في الفقه، قال: إن أقرباء السلطان يخالفون بسلطة قربهم منه، فيتوصلون إلى المخالفة بقربهم من ولي الأمر، فرأى رضي الله عنه أن هذه نوع مخالفة، مع المخالفة الأصيلة، فيجمع عليهم عقوبتين. ومآثره رضي الله عنه كثيرة، وكان آخر أمره أنه سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة في سبيله، والموت في بلد رسوله، فكان الناس يتعجبون؛ المدينة بلد إسلام وليس فيها قتال، فكيف يجتمع أنه شهيد في سبيل الله وميت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ‍فاستجاب الله دعوته، وقتل شهيداً في بلد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لم يقتل لعداء شخصي، لكنه لعداء ديني؛ لأن القاتل له أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة، وكان عمر رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ينهى أن تكثر العلوج، يعني هؤلاء الأرقاء من الفرس وغيرهم في المدينة، ولكن كان أمر الله مفعولا. وهذا الخبيث لما قتل عمر رضي الله عنه بخنجر له وجهان وكان قد مسكه بالوسط، وكان قد سقى كل جانب منه السم، فلما طعن عمر وهو يصلي بالناس الفجر، قال: أكلني الكلب. فزع الناس فلحقوا هذا الرجل الخبيث الهارب، فقتل نحو ثلاثة عشر نفراً، فلما رأى انه قد أدرك، وألقى عليه أحد الصحابة بساطاً غمه فيه، فلما رأى ذلك قتل نفسه فالحمد لله رب العالمين أنه قتل نفسه على هذا الوجه، وهو لم يسجد لله سجدة، فكان والعياذ بالله آخر أمره أن قتل نفسه، والذي يظهر لنا أنه قتل نفسه على الكفر، وهذا آخر ما حصل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن أراد المزيد من ذلك فليقرأ ما كتب عنه في البداية والنهاية وغيرها. ثم قال رحمه الله: (وبعده عثمان فاترك المرا) أي بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فالأفضل عثمان، (فاترك المرا) أي الجدال، فإن هذا أمر مفروغ منه؛ أن عثمان رضي الله عنه هو الثالث في الخلافة والفضيلة، وإنما قال: فاترك المراء لكثرة الجدال فيه وفي علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: أيهما أفضل؟ حتى إن بعض علماء السنة قالوا: علي بن أبي طالب أفضل من عثمان، فجعلوه في المرتبة الثالثة في الفضيلة، وعثمان في المرتبة الرابعة، ومنهم من قال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وسكت، ومنهم من أخذ بما قال المؤلف، وهو أن الأفضل عثمان، ثم علي. وقد قال شخ الإسلام رحمه الله: وهذا هو الذي استقر عليه أمر أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 السنة والجماعة: إن ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة: تولى عثمان رضي الله عنه الخلافة لا بنص من عمر وتعيين، ولا باجتهاد مطلق من الرعية، فتوليه للخلافة أمر غريب لم يكن معروفاً؛ لأن عمر لما طعن وقيل له: استخلف على الأمة، قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر -، وإن لم أستخلف فقد ترك من هو خير مني - يعني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وقال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، يقصد أبا عبيدة عامر بن الجراح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه أمين هذه الأمة)) (1) . فسبحان الله كانوا رضي الله عنهم لا ينظرون إلى شرف قبيلة، ولا إلى سيادة قوم، بل ينظرون إلى المعاني الشرعية، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح)) ، فقال عمر رضي الله عنه: لو كان حيا لاستخلفته (2) ، ولكنه مات قبل عمر، ثم جعل الأمر شورى بين الستة الذين توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فلما توفي جلس هؤلاء للتشاور واستقر الأمر على عثمان، وكان أكثر أهل المدينة يختارون عثمان، فبويع عثمان بالخلافة مبايعة شرعية؛ بايعه عليها علي بن أبي طالب، وبقية أصحاب الشورى وغيرهم، وأجمعت الأمة على ذلك، وصار الخليفة الثالث بإجماع المسلمين. ولهذا قال الإمام احمد رحمه الله: من طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله (3)   (1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، رقم (4380) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة ... ، رقم (2419) . (2) رواه الإمام احمد في مسنده (1/18) . (3) انظر مجموع الفتاوى 3/153 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 أما الرافضة فقد طعنت في خلافة الجميع إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضلت بهذا عن الأمة، وعن الحق، بل وعما مشى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه بايع أبا بكر وعمر وعثمان اختياراً لا اضطراراً، والعجب أن غلاة الرافضة قالوا: إن علياً فاسق لأنه رضي بالظلم وبايع، وهذه مداهنة، والمداهنة في الحق ضلال وفسق. وإنك لتعجب كيف وصل بهم الحال إلى هذا السفه، والمنصف منهم من يعرف إنه على ضلال، حيث يقولون: نحن شيعة، وهؤلاء أهل سنة. وكل يعرف أن أهل السنة هم على حق لأنهم على السنة، أما الشيعة فمتعصبون لأشخاص معينين، وكونهم يقولون: هؤلاء أهل سنة ونحن شيعة؛ اعتراف منهم بأنهم ليسوا على سنة، وإذا كان كذلك فيقال: اتقوا الله وارجعوا إلى السنة ما دمتم الآن تعترفون أن هؤلاء أهل السنة وأنتم شيعة. ثم نقول: إن أحق الناس تشيعاً لأهل البيت هم أهل السنة، فنحن نحب أهل البيت المؤمنين منهم؛ لكونهم مؤمنين؛ ولكونهم من قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام، ونحن نفضلهم على غيرهم لهذا المعنى، لكن لا نعطيهم الفضل المطلق، بل ننزلهم منزلتهم، وأهل البيت يرضون بهذا غاية الرضى، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو إمام أهل البيت رضي الله عنه يقول على منبر الكوفة معلناً: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر (1) ، وأحياناً يقول: ثم عثمان، وأحياناً يسكت. فعلى هذا نقول: إن عثمان رضي الله عنه يلي عمر بن الخطاب في الفضيلة،   (1) رواه الإمام احمد في مسنده (1/106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 وهو الثالث في الفضل في هذه الأمة، وهو الثالث في الخلافة في هذه الأمة، ومن أنكر ذلك بالنسبة للخلافة فيقول الإمام احمد رحمه الله: إنه أضل من حمار أهله، وإنما قال: إنه أضل من الحمار؛ لأن الحمار من أبلد الحيوانات، ولهذا مثل الله اليهود بالحمار، الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) (الجمعة: الآية5) فإنك إذا حملت على الحمار كتاب المغني، والمجموع، والإنصاف، وتفسير ابن كثير، وفتح الباري - فإنه لا يستفيد منها شيئاً، فالحمار لا يهمه إلا المبيت والمأوى والأكل والشرب، وأما غير ذلك فلا يشغل مخه به، وليس عنده تفكير. ولهذا قال الإمام احمد: إن من طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 149- وبعد فالفضل حقيقا فاسمع ... نظامي هذا للبطين الأنزع 150- مجدل الأبطال ماضي العزم ... مفرج الأوجال وافي الحزم 151- وافي الندى مبدي الهدى مردي العدا ... مجلي الصدا يا ويل من فيه اعتدى   الشرح قال رحمه الله: (وبعد فالفضل حقيقا فاسمع) بعد: أي بعد الخلفاء الثلاثة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان. وبعد ذلك (فالفضل حقيقاً) أي حقيقة، أو حقيقاً: بمعنى جديرا، كما في قوله تعالى: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (الأعراف: الآية105) فهي صالحة لهذا وهذا، قال: (فاسمع نظامي هذا) فأمر بسماع النظام للتأكيد والتنبيه. (للبطين) خبر قوله: فالفضل، أي فالفضل كائن للبطين الأنزع، والبطين: أي واسع البطن، و (الأنزع) : الذي انحسر شعر مقدم رأسه، والبطين ضده الضامر، وهو الذي بطنه ليست واسعة، والأنزع ضده الأفرع، وهو الذي نزل شعر رأسه إلى جبهته. ونزع شعر الرأس ممدوح عند العرب، يقول الشاعر لزوجته: فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا أغم القفا والوجه ليس بأنزع إذاً وصف هذا المذكور بوصفين: أولاً: أنه بطين، وثانيا: أنه انزع. وأراد المؤلف رحمه الله بهذا الوصف التعريف لا الذم؛ لأنه لا يريد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 يذم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الوصف، بل أراد أن يعرفه، وكان رضي الله عنه بطيناً أي واسع البطن وقد علم بهذا الوصف، وكان أنزع أي منحسر شعر الرأس من الإمام، وهذا لا يدل على شيء وإنما هو خلقة، ويكون عند الكبر كثيراً كما هو معروف ومشاهد. قوله: (مجدل الأبطال) ، التجديل معناه أنه يوقعهم صرعى، (والأبطال) جمع بطل، وهم الشجعان، (ماضي العزم) يعني أنه ذو عزيمة ماضية لا ينثني. قوله: (مفرج الأوجال) الأوجال: جمع وجل وهو الخوف، يعني أنه يفرج الخوف من شجاعته رضي الله عنه، ولا شك أنه رضي الله عنه كان من أشجع الناس، (وافي الحزم) يعني أنه ذو حزم، ووافي: أي كامل. وقد يقول قائل تعليقاً على قول المؤلف رحمه الله في وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (مفرج الأوجال) و (مجلي الصدا) : أليس في هذا العموم غلو؟ والجواب: الحقيقة أن فيه شيئاً من الغلو، خصوصا (مفرج الأوجال) ، لكن يقال في الاعتذار عن المؤلف رحمه الله: إن هذا وصف إضافي، بمعنى أنه عندما يخاف الناس يكون هو الذي يزيل الخوف عنهم، لكن بأمر الله عز وجل، وإلا فإن التفريج المطلق لا يكون إلا لله عز وجل. أما مجلي الصدا فكذلك أيضاً يمكن أن يقال إن فيه شيئاً من المبالغة، لكنه رحمه الله إنما أطنب في وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأسباب سيأتي ذكرها إن شاء الله. (وافي الندى) الندى: أي الفضل والعطاء، وافيه: أي كامله، (مبدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 الهدى) مظهر الهدى، وهو العلم، وقد اشتهر علي رضي الله عنه بسعة علمه وذكائه، (مردي العدا) مردي: أي مهلك، كما قال تعالى: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل: 11) أي إذا هلك، والعدا: جمع عدو، هذه ثلاثة أوصاف بالإضافة إلى ما سبق فتكون تسعة أوصاف. (مجلي الصدا) مجلي: أي مذهب، والصدا: في الأصل هو الوسخ الذي يكون على الحديد لطول مكثه، أو لكونه حول الماء؛ فهذا يجلوه ويزيله. وقوله رحمه الله: (يا ويل من فيه اعتدى) يا ويل: (يا) هذه للندبة، وويل: أي هلاك، من فيه اعتدى: أي من اعتدى في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويريد بذلك الوعيد على من اعتدى في حق علي بن أبي طالب بإفراط أو تفريط؛ كلهم يا ويلهم، فالذين اعتدوا في حقه بالإفراط هم الرافضة، والذين اعتدوا في حقه بالتفريط هم الناصبة. وذكر المؤلف ذلك لأنه هلك في علي بن أبي طالب طائفتان؛ طائفة غلت وطائفة فرطت. الطائفة الأولى: وهي الطائفة التي غلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث غلوا فيه حتى جعلوه إلهاً، حتى أنهم صرحوا بذلك، فقد قال عبد الله بن سبأ وشيعته لعلي بن أبي طالب صراحة ومقابلة: أنت الله حقاً، وهو يهودي خبيث دخل في دين الإسلام ظاهراً ليفسده. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: كما ظهر بولس في دين النصارى، وتنصر ظاهراً من أجل أن يفسد دين النصارى، فإن هذا الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر دخل في دين الإسلام على أنه مسلم (1) ، لكن أتى إلى   (1) انظر مجموع الفتاوى 4/518، 28/474. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 علي بن أبي طالب وقال له: أنت الله، فأمر علي رضي الله عنه - لشدة ما جرى- بالأخدود فحفرت، ثم أمر بالحطب فجمع في هذه الأخدود، ثم أمر بعبد الله بن سبأ وشيعته أن يلقوا في هذه الأخدود بعد أن أضرم فيها النار، فأحرقوا. ويقال: إن عبد الله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر، وبث دعوته فيها، ثم إلى العراق، ثم إلى فارس، فانتشرت دعوته. فهؤلاء اعتدوا في علي بن أبي طالب بالإفراط وزيادة الحد. الطائفة الثانية: وهي الطائفة التي فرطت فيه، وهذه الطائفة قابلوا القسم الآخر، وذلك لأن العادة أنه إذا وجد غلو في جانب وجد تطرف في جانب آخر، وهذا يكون من أجل مواجهة ذلك الغلو، فهؤلاء أناس صاروا على العكس نواصب نصبوا العداوة لأهل البيت، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فجعلوا يسبونهم ويلعنونهم ويعتدون في حق آل البيت - والعياذ بالله-. فيا ويل الطرفين هؤلاء وهؤلاء، ولا شك أن المفرط أشد ضررا على الإسلام من المفرط، لأن المفرط تعدى طوره كثيراً حتى جعل علي بن أبي طالب إلهاً، وجعل من أئمة أهل البيت من يعلم الغيب، ويدبر الكون، حتى سمعنا في أشرطتهم من يقول: إن جميع الكون تحت ظفر فلان، يدبره حيث شاء. وقوله: تحت الظفر، جعل كل الكون وسخاً من أوساخ الأظفار، نسأل الله العافية. وهذا أشد. وهم في الحقيقة يصوغونه بصيغة عاطفية، حتى في أداء شعائرهم التي يترنمون بها من الدعاء لآل البيت والدعوة له، فتجدهم يترنمون بصوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 حزين يشد العاطفة، أما الذين ينصبون العداوة لأهل البيت فلا يطيعهم أحد، بل كل الناس ينفرون مما ذهبوا إليه. لكن هؤلاء حيث أنهم يخاطبون العاطفة صار ضررهم على الناس أكثر جداً. ولهذا فإنك لو قارنت بين الروافض والنواصب من حيث العدد، لوجدت أن النواصب لا ينسبون إلى الروافض. فإن قال قائل: لماذا أطنب المؤلف رحمه الله في وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، دون الثلاثة الأولين وهم أفضل منه؟ فالجواب: انه أطنب في ذلك لسببين: السبب الأول: الرد على النواصب، فإنه لما كان موقف النواصب هو السب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأراد المؤلف رحمه الله أن يمدحه، ويثني عليه بما هو أهله، رداً على هؤلاء النواصب. السبب الثاني: الرد على الروافض، وكأنه قال: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع هذه الأوصاف الكريمة، والآداب العالية، والشجاعة التامة، لا يستحق أن يترقى إلى المكان الذي رقاه إليه هؤلاء الرافضة. فصار في إطناب المؤلف رحمه الله في مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه فائدتان: الأولى: الرد على النواصب، والثانية: الرد على الرافضة. يعني أننا - أيها الروافض - نقر بفضله وأن فيه من الفضل كذا وكذا وكذا، لكننا لا ننزله فوق منزلته كما فعلتم أنتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 152- فحبه كحبهم حتما وجب ... ومن تعدى أو قلى فقد كذب   الشرح قوله رحمه الله: (وحبه كحبهم حتماً وجب) حبه: أي حب علي بن أبي طالب، كحبهم: أي حب الثلاثة؛ أبي بكر وعمر وعثمان، حتماً وجب: أي وجب حتماً، يعني: وجوباً حتماً مؤكداً. ومحبة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم واجبة لوجوب محبة الصحابة رضي الله عنهم، والدليل على وجوب محبة الصحابة قوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا) (الحشر: الآية10) ووجه ذلك أنهم سألوا الله أن يتخلوا من هذا الغل الذي يكون في القلوب، وهذا يقتضي وجوب المحبة، ولأحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب في الله وابغض في الله ووالى في الله وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك)) (1) ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يذوق أحد حلاوة الإيمان.. وذكر منها: ((أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) (2) . ونشهد الله عز وجل على محبته، ونشهد الله عز وجل على محبة إمامنا وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالمحبة أولاً وآخراً كلها للرسول، ونحن لم نحب   (1) رواه أبو نعيم في الحلية 1/312، والطبراني في الكبير 12/417، وانظر مجمع الزوائد 1/90. (2) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم (16) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم (43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 هؤلاء إلا بمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلا لكانوا من رجالات قريش وليس لهم فضل، لكن لمحبة الرسول له فإننا نحبهم. ثم إن محبتنا للرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً تابعة لمحبة الله، لأن المحبة، الأولى، والأخيرة، والنهاية، والبداية، كلها لله عز وجل، خلافا لمن صاروا الآن يحبون الرسول أكثر من محبة الله عز وجل، وإذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم بكوا وتهاملت الدموع، وإذا ذكر الله فالوجه هو الوجه لا تغير ولا بكاء - نسال الله العافية والسلامة - سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينل هذا الشرف إلا لأنه رسول الله، ولأن الله يحبه، وإلا لكان بشراً عادياً لا يحب ولا يكره إلا بما فيه من الخير والشر. فنحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم لمحبتنا لله تعالى الذي أرسله، ونحب الخلفاء الراشدين لمحبتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، ولمحبتنا للرسول وهم خلفاؤه. فحب علي بن أبي طالب كحب الثلاثة الآخرين واجب حتماً، فيجب علينا أن نحبه. وقد يقول قائل: إن المحبة وصف فطري نفسي لا يملكه الإنسان، ولهذا يذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما لا أملك)) (1) ، يعني بذلك المحبة، والإنسان لا يمكن أن يجعل في قلبه محبة إنسان يبغضه. لكن المحبة يمكن أن تنال بالكسب؛ بأن تذكر صفات الكمال في هذا   (1) رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، رقم (2134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 الرجل، فإذا ذكرت أوصاف الكمال، واعتقدت ثبوتها فيه، والنفوس تميل بلا شك إلى الكمال فتحبه، ولهذا جاء في الحديث: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم)) (1) ، يعني أنك على الأقل إذا ذكرت نعم الله عليك فسوف تحبه لذلك؛ لأنك إذا من عليك أحد بمنة فانك تحبه، ((تهادوا تحابوا)) (2) ، وهذا شيء مجرب. ومعلوم أن الإنسان لا يمكن أن يقع في نفسه محبة إلا لسبب ظاهر يحمله على المحبة، فإذا كان الأمر كذلك فاذكر ما للنبي عليه الصلاة والسلام، وما للخلفاء الراشدين، وما لغيرهم من عباد الله؛ من الصفات الحميدة، والخصال الطيبة، وحينئذٍ لابد أن تحبه. ولهذا فأحياناً يجمع الإنسان في قلبه بين محبة شخص وكراهته. فإن قال قائل: إن المحبة والكراهة ضدان لا يجتمعان؟ فيقال: بل يجتمعان، حيث يكون في الإنسان خير ويكون فيه الشر، فيحب لخيره، ويكره لشره، ثم إذا كان منصفاً عمل بأقوى الجانبين؛ فإن غلب خيره على شره غلبت محبته على كراهته، واغتفر شره بجانب الخير الغالب فيه. ولهذا قال ابن رجب رحمه الله في أول قواعد الفقه قولاً حكيماً صحيحاً، حيث قال: ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه (3) . فنحن إذا نظرنا ما للصحابة الكرام رضي الله عنهم من الفضائل والسبق أحببناهم؛ فيجب علينا أن نحب الخلفاء الأربعة كلهم، كما يجب علينا أن   (1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي ... ، رقم (3789) . (2) رواه الإمام مالك في الموطأ (2/908) . (3) قواعد ابن رجب ص 5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 نحب بقية الصحابة رضي الله عنهم، لكن لكل درجات مما عملوا. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ومن تعدى أو قلى فقد كذب) تعدى: مثل الرافضة، أو قلى: يعني أبغض كالنواصب، (فقد كذب) نعم، لا شك أن من تعدى في حق هؤلاء، وتجاوز الحد، فقد كذب، ومن قلى وأبغض فقد كذب. إذاً فالرافضة مخطئون من الجانبين؛ تعدوا في علي، وقلوا في بقية الخلفاء، فجمعوا بين الشرين وبين الفسادين؛ غلو زائد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتفريط زائد في حق الخلفاء الراشدين الثلاثة، حتى إن بعضهم - والعياذ بالله - يلعن أبا بكر وعمر صراحة، ويقول: إنهما ظالمان، وإنهما ممن يذاد عن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. قاتلهم الله! كيف يذاد رجلان دفنا إلى جنب الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ولم تحصل هذه الفضيلة لأحد سواهما أبدا، ولهذا كانا رفيقيه في الدنيا، ورفيقيه في البرزخ، وسيكونان رفيقيه في يوم القيامة - رضي الله عنهما وأرضاهما -. وهنا يرد سؤال بالنسبة لقول الرافضة: علي كرم الله وجهه، أو الإمام علي؟ فالحقيقة أن هذه من شعار الرافضة، ونحن نقول؛ علي إمام ولا شك، وقوله متبوع بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)) (1) ، وعلي منهم، ونقول: أبو بكر إمام، وعمر إمام، وعثمان إمام، بل نقول: من دون هؤلاء إمام؛ الإمام احمد بن حنبل، الإمام   (1) رواه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة ... ، رقم (2676) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 الشافعي، الإمام أبو حنيفة، فليست الإمامة خاصة بعلي بن أبي طالب، إلا إذا كانوا يريدون بها إمامة هم يدعونها وهي إمامة العصمة، فنحن لا نقرهم على ذلك، لا في علي ابن أبي طالب ولا في غيره إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. أما قولهم: كرم الله وجهه، فالتكريم ليس بأبلغ من الرضا، بل الرضا أبلغ، والدليل على ذلك أن أهل الجنة يقول الله لهم: ((تمنوا علي)) ، فيقولون: الم تعطنا؟! الم تفعل؟! ألم تفعل؟! ويذكرون نعمه عليهم، ثم يقول: ((إن لكم عليّ أن احل عليكم رضواني فلا اسخط بعده أبدا)) (1) ، فصار الرضوان أعظم من التكريم. فهؤلاء الذين أرادوا أن يكرموا علي بن أبي طالب عدلوا عن الأفضل إلى المفضول، فنقول لهم: إنكم إذا قلتم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن ذلك أفضل مما إذا قلتم: علي كرم الله وجهه؛ لأن التكريم دون الرضا، والدليل حديث أهل الجنة مع الله عز وجل حين يذكرون نعمه عليهم فيقول ((احل عليكم رضواني فلا اسخط بعده أبداً)) . لكن الإنسان الذي يريد الباطل، فإنه بإذن الله يحرم الحق، فلما أرادوا الباطل بهذا، وتخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا حرموا الحق، وعدلوا إلى المفضول مع وجود الأفضل. ثم إننا نقول: إن أكمل شيء يناله العبد هو رضا الله، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ   (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6549) ، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة ... ، رقم (2829) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة: الآية100) ، فلم يقل الله تعالى إنه كرم وجوههم، ولكن قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه) (التوبة: الآية100) . وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 7) (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (البينة: الآية8) ، ختمها بهذا: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة: الآية8) ثم إنهم يزعمون أنهم يصفونه بكرم الله وجهه لأنه لم يسجد لصنم، ونقول لهم: إذا كان الأمر كذلك فما أكثر الصحابة الذين لم يسجدوا لصنم، فكل الذين ولدوا في الإسلام لم يسجدوا لصنم، والذين ولدوا في الجاهلية لا نعلم أنهم سجدوا للأصنام أم لم يسجدوا. مسألة: هل نطلق على من سب الصحابة رضي الله عنهم بالكفر؟ الجواب: نعم قال شيخ الإسلام رحمه الله من سب الصحابة جميعاً أو اعتقد أنهم ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك في كفره، بل لا شك في كفر من شك في كفره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 153- وبعد فالأفضل باقي العشرة ... فأهل بدر ثم أهل الشجرة 154- وقيل أهل احد المقدمة ... والأول أولى للنصوص المحكمة   الشرح ثم قال المؤلف رحمه الله: (وبعد فالأفضل باقي العشرة) بعد: أي بعد الخلفاء الأربعة، (فالأفضل باقي العشرة) وهم ستة. وهؤلاء العشرة هم المبشرون بالجنة، أطلق عليهم هذا اللقب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم في نسق واحد، في حديث واحد. فقال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، ... )) (1) ، وقد جمعوا هؤلاء الستة المتممين للعشرة في بيت واحد وهو: سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهو والزبير الممدح فالخلفاء الأربعة وهؤلاء الستة المذكورون في البيت، وهم: سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وعامر ابن الجراح - أبوعبيدة -، والزبير ابن العوام: مجموعهم عشرة، وقد عدهم النبي عليه الصلاة والسلام في نسق واحد في حديث واحد قال: هؤلاء في الجنة.   (1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف ... ، رقم (3747) ، وأبو داود، كتاب السنة، باب في الخلفاء، رقم (4649) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأخبر بأنهم في الجنة، وهذه بشرى لهم، ويجب علينا أن نقول: إن هؤلاء أفضل الصحابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في نسق وحد. وفي حديث واحد. فإن قيل: هل اقتصرت شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة على هؤلاء؟ فالجواب: لا، فقد شهد لأناس كثيرين غير هؤلاء؛ منهم عكاشة بن محصن، فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وذلك أنه لما حدث الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أمته سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، قام عكاشة فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: ((أنت منهم)) (1) . وكذلك ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، حيث قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنه يحيا سعيداً، ويقتل شهيداً، ويدخل الجنة)) (2) . وكذلك المرأة التي كانت تصرع، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة)) (3) ، فقالت: اصبر. وإذا تتبع الإنسان هذا فإنه يتبين له أناس كثيرون ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. والشهادة بالجنة نوعان: شهادة بوصف وشهادة بشخص. أما الشهادة بالوصف: فان تشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة على سبيل العموم. وأما الشهادة بالشخص: فأن تشهد لشخص بعينه بأنه من أهل الجنة، وكلتا   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف المسلمين الجنة، رقم (218) . (2) رواه الحاكم في مستدركه (3/260) . (3) رواه البخاري، كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح، رقم (5652) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 هاتين الشهادتين قد دل عليها الكتاب والسنة. فمثلاً بين الله تعالى في القرآن أن الجنة أعدت للمتقين، فنشهد لكل المتقين أنهم في الجنة، لكن لا نشهد لفلان أنه في الجنة إذا رأينا تقيا لاحتمال أن يرد عليه في آخر عمره أشياء تصرفه عن التقوى، فلا نشهد بالجنة بالتعيين إلا لمن عينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نشهد بالوصف إلا لمن شهد له الله ورسوله. والشهادة بالوصف لا تجوز الشهادة بالعين، فمثلاً نقول: كل مؤمن فإنه في الجنة، وكل تقي فإنه في الجنة، لكن لا نشهد بان فلاناً المعين في الجنة. كذلك أيضا في الشهادة؛ فكل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، لكن لو رأينا رجلاً مسلماً قتل في المعركة فلا نقول: إنه شهيد؛ لأننا لو قلنا: إنه شهيد لزم من ذلك أن نشهد له بالجنة، وهذا لا يجوز. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: من أجمعت الأمة أو كادت أن تجمع على الثناء عليه، فإننا نشهد له بالجنة (1) ، واستدل لذلك بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: الآية143) ، فإنه قد مرت جنازة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه فاثنوا عليها خيرا، فقال: ((وجبت)) . ثم مرت أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: ((وجبت)) . فقالوا: يا رسول اله، ما وجبت؟ قال: ((مرت الجنازة الأولى فأثنيتم عليها خيراً، فقلت: جبت؛ أي وجبت له الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت؛ أي وجبت له النار. إنتم شهداء الله في أرضه)) (2)   (1) انظر مجموع الفتاوى 11/518، 18/313. (2) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، رقم (1367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وعلى رأي شيخ الإسلام رحمه الله فإنه يجوز أن نشهد للإمام أحمد بأنه من أهل الجنة، لاتفاق الناس أو جملتهم عليه، وكذلك بقية الأئمة، وأئمة الإتباع؛ لأنهم ممن اتفق الناس أو جلهم على الثناء عليهم. قال المؤلف رحمه الله: (فأهل بدر) أي بعد العشرة أهل بدر، والعشرة من أهل بدر، يعني لا يمتنع أن يكون في الإنسان وصفان. وأهل بدر هم الذين قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بعير لقريش جاءت من الشام تريد مكة، وهي لابد أن تمر بالمدينة أو حولها، فندب أصحابه إلى الخروج لهذه العير لأخذها، فانتدب منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط، على سبعين بعيراً وفرسين. وكانوا لا يريدون غزواً ولا فكروا أن يكون هناك غزو، إنما أرادوا عير قريش مع أبي سفيان، وهي عير كثيرة محملة بالطعام والثياب وغيرها، ولذلك كان معها أبو سفيان من كبراء قريش، فلولا أنها عير كثيرة لم يكن معها هذا الزعيم. فإذا قال قائل: كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج ليأخذ أموالهم؟ نقول: فالجواب: أن أخذ أموالهم ليس بشيء بالنسبة لإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم، فهؤلاء اخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذ أموالهم فقط، وهي من الأنفال التي نفله الله عز وجل: (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (الأنفال: الآية1) . فلما سمع أبو سفيان بالخبر، وأن الرسول خرج هو وأصحابه إليهم، وكان رجلا ذكياً، عدل عن الطريق إلى ساحل البحر وأرسل إلى أهل مكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 يستصرخهم؛ لا للقتال، ولكن لإنقاذ العير فقط، وظن أنهم سيرسلون فلاناً وفلاناً من عامة الناس لإنقاذ العير ويرجعون، ولكن قريش أخذتهم الحمية، وقالوا: كيف يتعرض محمد لعيرنا بقيادة زعيم من زعمائنا؟! لابد أن نخرج ونقضي عليه. وتشاوروا فيما بينهم، وفي النهاية أجمعوا على أن يخرجوا للرسول عليه الصلاة والسلام بكبرائهم؛ خرجوا بطراً ورئاء الناس، بحدهم وحديدهم، وخيلهم ورجلهم، وزعمائهم ومن دونهم، وجاءوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. فلما كانوا في أثناء الطريق تشاوروا فيما بينهم: هل نمضي أو نرجع؟! فكان أبو جهل يلمزهم في هذا، ويقول: كيف تفكرون في الرجوع وأنتم خرجتم؟! والله لا نرجع حتى نقدم بدراً ونقيم فيها ثلاثاً؛ ننحر الجذور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً. وهذا فخر وبطر منه، ولكن الحمد لله؛ فلم تنحر الجذور ولكن نحر هو!! فقدموا بدراً وتلاقى الصفان، وتراءى الجمعان، وحصل ما حصل، وبني للنبي صلى الله عليه وسلم عريش يدخل فيه يدعو الله سبحانه وتعالى بالنصر؛ لأنه إذا استنفذنا قوتنا المادية الحسية لم يبق لنا إلا الدعاء. فالدعاء مع القوة المادية الحسية وعدم استعمالها خطأ، لكن الدعاء عند العجز واجب، وإن جمعت بينهما فخير. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل. فماذا كان الأمر؟ قال الله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال: 12) ، فنفرت الملائكة، ونزلت تقاتل؛ تثبت المؤمنين، وتلقي في قلوب الكفار الرعب، فهربوا، وقتل منهم سبعون رجلاً، واسر سبعون رجلاً. وكان ممن قتل هذا الزعيم الذي يقول: إننا لن نرجع حتى نقدم بدراً، وأخر ما قال: وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. لكن العرب سمعت بهم فنزلت مرتبتهم عند العرب!! فالحاصل أن أهل بدر في الفضل يلون العشرة المبشرين بالجنة، لما لهم من بلاء حسن في غزوة بدر. وقد يرد هنا إشكال على قوله تعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) (1) ؛ فإن ظاهر هذا القول العموم، يعني أنه يشمل الكفر وما هو دونه، والجواب على هذا بأحد وجهين: الأول: أن يقال أنهم لا يمكن أن يشاءوا الكفر لما حل في قلوبهم من الإيمان الراسخ الذي لا يمكن أن يدخل من خلاله الكفر، فيكون في هذا بشارة لهم أنهم لن يكفروا، ويبقى ما دون الكفر مكفر بهذه الغزوة. إذاً فقوله: ((ما شئتم)) لا يدخل فيه الكفر لأنهم لا يمكن أن يشاءوا الكفر بسبب ما قدموه من هذه الحسنات العظيمة، ويكون في هذا بشارة لهم بأنهم لن يكفروا. ثانياً: أنه على فرض كفرهم سوف ييسرون للتوبة حتى يغفر لهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: الآية38) ، فيكون في هذا   (1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، رقم (3007) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم ... ، رقم (2494) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 بشارتان، إما بأنهم لن يكفروا، أو أنه لو قدر أنهم كفروا فإنهم سوف يعودون إلى الإسلام، ويغفر لهم ما قد سلف، ومن تتبع أحوالهم لم يجد أحداً منهم ارتد، فكل الذين في غزوة بدر لم يرتد منهم أحد، وبهذا يكون المعنى الأول اقرب واصح، وهو أنهم لن يشاءوا الكفر. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ثم أهل الشجرة) أي بعد أهل بدر أهل الشجرة؛ و (الـ) هنا في قوله: (أهل الشجرة) للعهد الذهني، أي الشجرة التي بايع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة ومعه نحو ألف وأربعمائة رجل، خرج قاصداً البيت الحرام للعمرة، ومعه البدن قد ساقها عليه الصلاة والسلام تعظيماً لله عز وجل ولبيته الحرام، فلما وصل إلى الحديبية - وهي مكان بعضها من الحل وبعضها من الحرم - صده المشركون، وقالوا: لا يمكن أن تدخلوا علينا مكة وأن نؤخذ ضغطة. وهذا من حمية الجاهلية؛ لأن قريشاً لا تمنع أي أحد من الحج أو من العمرة، بل ترحب به؛ لأنه يفيدها اقتصادياً، لكن محمد صلى الله عليه وسلم وهو أولى الناس بالبيت هو ومن معه، هو الذي يصد، وهذه حمية جهل لا حمية علم. فمنعوه. وجرت بينه وبينهم مراسلات، فبايع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه تحت هذه الشجرة على أن لا يفروا أبداً، وذلك لأنه أشيع أن عثمان بن عفان رضي الله عنه - وهو السفير بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش - حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، أنه قتل، فقال: لئن كان كذلك لأناجزنهم أن يقتلوا رسولي، لأن قتل الرسول أمر ممنوع في كل قانون، فالرسول الذي يكون بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 المتحاربين لا يمكن أن يقتل، حتى في الجاهلية فهو ممنوع. فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن كانوا قتلوه لأناجزنهم)) ، فبايع أصحابه، وكان عليه الصلاة والسلام يبايعهم على أن لا يفروا، وقد قال الله تعالى في هذه البيعة المباركة: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح: الآية10) ، فصرح أن مبايعتهم للرسول مبايعة لله، وأن الرسول نائب عن الله في ذلك، قال: (يَدُ اللَّهِ) وهي يد الرسول صلى الله عليه وسلم، (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، لكن لما كانت يد رسوله كانت كيده على أحد القولين في الآية، فبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى في هذه البيعة: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: 18) ، والفتح القريب هو الصلح الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش. فإن قال قائل: كيف كان فتحاً مع أن ظاهره أنه هضم للمسلمين؟ فالجواب: أنه كان فتحاً لأن الناس بدا يأتي بعضهم إلى بعض من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة، لأجل العهد الذي بينهم. فكان فتحاً مبيناً، والشيء الذي خشي عليه أن يكون ضغطاً على المسلمين زال ولله الحمد، وذلك في قصة أبي بصير رضي الله عنه ومن خرج إليه من أهل مكة. فإنه لما جاء أبو بصير إلى المدينة فاراً من أهل مكة الحقوا به رجلين يطلبانه، وذلك تعصباً منهم، فلما وصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إذا الرجلان قد وصلا خلفه، فقالا: يا محمد، العهد أن من جاء منا إليك ترده علينا. فلما رده إليهما وخرجوا من المدينة، جلس الثلاثة يتغدون؛ أبو بصير ورجلا قريش، وكان أبو بصير قوياً، فقال لأحدهم: أعطني سيفك؛ إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 سيف جيد، وقام يمدح هذا السيف، قال الرجل: نعم إنه جيد، وكم قرعت به من رأس، وأعطاه السيف، فسله أبو بصير وجب به رقبته. أما الرجل الثاني فهرب إلى المدينة فاراً، ولحقه أبو بصير، فجاء إلى الرسول مذعوراً، وقال: إن صاحبي قتل، يعني وأنا أخاف على نفسي، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ويل أمه - يعني أبا بصير- مسعر حرب لو يجد من ينصره)) (1) !! فعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن ينصره، وسوف يسلمه مرة ثانية، فخرج من المدينة وقعد الصراط لعير قريش؛ كلما جاءت عير هجم عليها وأخذ منها ما شاء الله. فعلم بعض الصحابة الذين في مكة بخبره فخرجوا إليه فكانوا عصابة، فأخافوا السبيل، وأرسلت قريش إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، يلغون العهد الذي بينه وبينهم في هذا، فرجع أبو بصير ومن معه إلى المدينة، واستتب الأمن (2) ، ولله الحمد. وأما العهد الذي كانت مدته عشر سنين فإن قريشا نقضته، حيث أعانت حلفاءها على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ انتقض العهد، فلم يكن بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فغزاهم. وبهذا فان هذا الصلح صار فتحاً مبيناً، قال تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) (الحديد: الآية10) ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية.   (1) رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم (2734) . (2) رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم (2734) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 فهؤلاء أهل الشجرة، وهذه الشجرة بقيت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى عهد أبي بكر وهي باقية، فلما كان عمر سمع أن قوماً يترددون إلى هذه الشجرة فأمر رضي الله عنه بقطعها حماية لحمى التوحيد. ولعلها لو بقيت كانت ذات أنواط أو أشد أو لعَبَدَها الناس!! لأن الناس الآن أكثرهم همج، لكن من بركات عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الأمة أن قطع دابر الشجرة، وأخفى موضعها، حتى أخفيت - ولله الحمد - ولم يعرف مكانها حتى الآن. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وقيل أهل أحد المقدمة) يعني قال بعض العلماء رحمهم لله: إن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، ومن المعلوم أن من الصحابة من كان من أهل بدر ومن العشرة ومن أهل بيعة الرضوان ومن أهل أحد، أي أن بعض الصحابة اجتمعت لهم الأوصاف الأربعة، وبعضهم ليس كذلك. وإذا قلنا: إن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، مع أن أهل بيعة الرضوان أكثر عدداً، حيث إن أهل بيعة الرضوان ألف وأربعمائة نفر، أما أهل أحد فنحو سبعمائة نفر، لكن أصابهم من البلاء والتمحيص والقتل مالم يكن في بيعة الرضوان، ولهذا رجح بعض العلماء أهل أحد على أهل بيعة الرضوان. ولكن الذي يظهر القول الأول؛ أن أهل بيعة الرضوان أفضل، لأن أهل بيعة الرضوان استحقوا الرضا، قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (الفتح: الآية18) ، أما أهل أحد فاستحقوا العفو، وفرق بين هذا وهذا، قال الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: الآية152) ، ففرق بين من استحق وصف العفو ومن استحق وصف الرضوان؛ فالثاني أكمل. فالصحيح أن أهل بيعة الرضوان أفضل من أهل أحد، مع أنه ربما يكون أهل أحد قد شملتهم بيعة الرضوان. أما غزوة أحد فالقصة فيها معروفة، وسببها أن قريشا لما هزموا تلك الهزيمة النكراء يوم بدر ورجعوا إلى بلدهم تشاوروا فيما بينهم، وقالوا: إن محمداً استأصل شأفتنا، وقتل خيارنا وسادتنا، فلنخرج إليه حتى نأتيه في المدينة ونقضي عليه فجاءوا إلى المدينة يريدون القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لملاقاتهم، فالذين لم يشهدوا بدراً قالوا له: اخرج. يريدون الغزو والشهادة، والذين حضروا بدراً قالوا: يا رسول الله نبقى في المدينة، فإذا جاؤوا قضينا عليهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجح رأي الذين قالوا بالخروج، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته من أجل أن يتأهب للحرب، ويلبس لامة الحرب والدرع وغير ذلك، فكأنهم تشاوروا فيما بينهم، قالوا: لعلنا اكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، وذلك لأنه كان يميل بداية إلى أنهم لا يخرجون. فلما خرج عليهم وقد لبس لامة الحرب على رأسه واستعد للحرب، قالوا: يا رسول الله، لو تركنا هذا وبقينا على الرأي الأول فنبقى في المدينة فإذا جاؤوا قاتلناهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما كان ينبغي لنبي لبس لامة الحرب حتى يقضي الله بينه وبين عدوه)) (1) ، فخرج ومعه ألف نفر؛ سبعمائة مؤمنين   (1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/40) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 خلص، وثلاثمائة منافقون، وكان المنافقون لا يريدون الغزو، بل كانوا يقولون: ابقوا هاهنا. ولما كانوا في أثناء الطريق قال عبد الله بن أُبي رأس المنافقين: محمد يطيع صغار السن ويعصينا، لا يمكن أن نقاتل، فرجع بثلث الجيش، وثلث الجيش لا يخفي أنه ليس بالأمر الهين في كسرة قلوب الجيش، فلولا أن الله تعالى أعان المسلمين بالإيمان لانخذلوا؛ لأنه إذا رجع من الجيش ثلثه فلا يبقى على عزيمته الأولى، ولهذا حرم الفرار من الزحف، ولو كان واحداً من الناس؛ لأنه يكون سبباً لضعف النفوس ووهن القلوب والهزيمة. لكن هؤلاء صمموا حتى كانت الغزوة في أحد، وكان في أول النهار النصر للمؤمنين، إلا أن الله بحكمته أراد خلاف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خمسين رامياً وأمر عليهم عبد الله بن جبير فجعلهم على ثغر في الجبل وقال: لاتبرحوا مكانكم أبداً سواء لنا أو علينا. فلما انكشف المسلمون وانهزموا، صار المسلمون يجمعون الغنائم، قال الرماة بعضهم لبعض: انكشف المشركون وولوا الأدبار، فانزلوا لجمع الغنائم كما يجمع الناس فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير بقول النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران: الآية152) ، فنزلوا إلا نفراً قليلاً لا يغنون شيئاً. وإذا فرسان قريش النبهاء الشجعان رأوا المكان خالياً فكروا على المسلمين من خلف الجبل، ومنهم خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، اللذان صارا فارسين من فرسان المسلمين والحمد لله - فاختلط المشركين بالمسلمين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ورائهم، وحصل ما حصل من الأذى والضرر والقتل، وأصاب المسلمين محن عظيمة. فحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم يمثل به بعد أن قتل، حتى قيل إن هند بنت عتبة أخذت من كبده بعد أن فرت بطنه وجعلت تأكله، لكن عجزت أن تبلعها بإذن الله عز وجل. والرسول عليه الصلاة والسلام شج وجهه، وجعل الدم يسيل على وجهه، وكسرت رباعيته، وحصل له من التعب والمشقة ما لا يصبر عليه إلا أمثاله عليه الصلاة والسلام. وقتل من المسلمين سبعون نفراً، وأصابهم غم بغم، ولكن الله عز وجل سَلاهُم بآيات كثيرة، كما في سورة آل عمران، فإن نصفها أو أكثر عن هذه الغزوة، ولما كانت النتيجة أن قتل منهم سبعون نفراً، قال الله تبارك وتعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) (آل عمران: الآية165) أي كيف كانت هذه المصيبة؟ قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: الآية165) أي أنتم السبب، (ْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: الآية165) ، فهو قادر عز وجل على أن يكشف المشركين، ولا ينالكم سوء، لكن انتم البلاء (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) يقول هذا لجند معهم رسول الله عليه الصلاة والسلام. (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) والمعصية التي فعلوها معصية يسيرة. فما الظن بنا الآن؟! هل عند أنفسنا شيء يمنعنا من النصر؟! والحقيقة أنه ليس عندنا شيء يوجب لنا النصر، فكثير من حكام المسلمين لا يرضون أن يحكموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكثير من حكام المسلمين يلاحقون المؤمنين بالله ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج: 8) ، وكثير من أسواق المسلمين تشرب فيها الخمور، وتعاقر فيها النساء، وكثير من حكام المسلمين لهم موالاة ظاهرة مع أعداء الله. فهل يمكن أن يكون النصر لهؤلاء؟! بل قد يكون هؤلاء أحق بالخذلان من الكفار الخلص؛ لأن الكفار كفار، لكن هؤلاء ينتمون إلى الإسلام وهم لا يؤمنون بالإسلام حقيقة، ولذلك نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم إلا من شاء الله، فأقول: إننا ما أصبنا بهذه المصائب التي نحن عليها اليوم إلا بسبب ذنوبنا. فالحاصل أن غزوة أحد قد حصل فيها من البلاء والتمحيص ما لم يحصل في غيرها؛ ولهذا قال بعض العلماء: إنها أفضل من غزوة الحديبية، ولكن الصحيح أن أهل الحديبية أفضل من أهل أحد، وذلك لان الله تعالى احل عليهم رضوانه، وأما هؤلاء فقال عنهم: (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ) (آل عمران: الآية152) . ثم قال رحمه الله: (والأول اولى) هنا سقطت همزة القطع مراعاة للوزن (والأول اولى للنصوص المحكمة) يعني للأدلة، والنصوص المحكمة: يعني الواضحة البينة، لان المحكم يقال بإزاء المتشابه، ومنه قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران: 7) ، ويقال: بإزاء المنسوخ، فيقال: هذا محكم وهذا منسوخ، وأصل الإحكام هو الإتقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 155- وعائشة في العلمِ مع خديجة ... في السبق فافهم نكتة النتيجة   الشرح عائشة وخديجة من أمهات المؤمنين رضي الله عنهما، وقد اختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل؟ فقيل: إن عائشة أفضل، وقيل: إن خديجة أفضل. والصواب أن يقال: أما مرتبتهما عند الله فهذا ليس إلينا، بل هو إلى الله عز وجل ولا نتكلم في هذا. وأما المفاضلة بينهما بحسب ما ظهر لنا من أفعالهما وأحوالهما فهذا إلينا؛ لأنه أمر ظاهر معروف. وأما باعتبار كونهما زوجين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مفاضلة؛ كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشتركن في هذه الفضيلة، أي في أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، وأنهن أمهات المؤمنين، وأنه يجب علينا من احترامهن وتعظيمهن ما يليق بهن وبحالهن. فالجهات ثلاث: أولاً: من حيث كونهما زوجين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحال لا مفاضلة، لأن جميع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم يشتركن في هذا الفضل. ثانياً: من حيث المرتبة عند الله، فهذا لا مفاضلة أيضا؛ لأن هذا مجهول لنا، وكم من شخصين عملهما واحد لكن مرتبتهما عند الله بينهما كما بين السماء والأرض؛ لأن الله لا ينظر إلى صورنا وأعمالنا وإنما ينظر إلى قلوبنا. ثالثاً: بالنسبة للأعمال الظاهرة أيهما أفضل عائشة أو خديجة؟ وأصح ما قيل في ذلك ما أشار إليه المؤلف رحمه الله؛ أن خديجة لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 فضل السبق إلى الإسلام، وفضل مناصرة النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها دائماً، وانه لم يتزوج عليها، وإنها أم أكثر أولاده، ونحو ذلك. وعائشة رضي الله عنها في كونها أحب النساء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنايتها بالرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة محبتها له، وما نشرت من العلم الكثير في الأمة، فتكون بذلك أميز من خديجة. فصارت خديجة أفضل من وجه وعائشة أفضل من وجه. والى هذا أشار بقوله: (وعائشة في العلم مع خديجة في السبق) فعائشة رضي الله عنها نشرت كثيراً من العلم في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وخديجة سبقت، وناصرت الرسول صلى الله عليه وسلم وعاضدته رضي الله عنها، وجزاها الله خيراً، وعائشة رضي الله عنها في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام لا أحد يشك في درجتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته لها، بل وكونه صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها، وفي حجرها، وفي يومها، وأخر ما طعم من الدنيا ريقها رضي الله عنها، فكل هذه فضائل وميزات لم تحصل لخديجة ولا لغيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (فافهم) . وبالنسبة لمحبتنا لهن، فإننا نحبهن كلهن على حد سواء، من حيث كونهن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهن عندنا من الاحترام والتعظيم ما يليق بحالهن، ويزداد حبنا للواحدة منهن بحسب ما أسدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والى الأمة، وهذا هو العدل والميزان الحق، وأما الميل مع العاطفة فهذا لا شك أنه خلاف الحق: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (النساء: الآية135) يعني إن أردتم العدل فلا تتبعوا الهوى، بل اتبعوا ما يقتضيه العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 156- وليس في الأمة كالصحابة ... في الفضل والمعروف والإصابة   الشرح الصحابة هم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن صحبته تحصل بالاجتماع به على الإيمان ولو لحظة واحدة ولهذا قالوا: الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. أما صحبة غير الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون الإنسان صاحباً إلا بعد طول مدة، لكن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحبه من اجتمع به مؤمناً به ومات على ذلك حتى لو فرضنا أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وانصرف إلى إبله وغنمه فإنه يعتبر من الصحابة، ولكن الصحابة درجات مختلفة على حسب ما سبق في هذا الفصل. وقوله: (في الفضل والمعروف) الفضل هو الإحسان والمعروف هو العدل. وقوله (والإصابة) يعني إصابة الحق فأقرب الناس إلى الصواب هم الصحابة رضي الله عنهم لا شك في هذا. وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل قول الصحابي حجة أو لا؟ بمعنى هل يجوز أن نعتمد في ديننا على قول الصحابي، أو نقول لا نعتمد على قول أحدٍ إلا على قول الله ورسوله؟ فمن العلماء من قال: لا نعتمد إلا على قول الله ورسوله، وأما ما سوى ذلك فهو مجتهد يخطئ ويصيب ولا نلزم بقوله، ومن العلماء من قال: بل إن قول الصحابي حجة بشرط ألا يخالف نصاً وألا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 يخالف غيره، فإن خالف النص؛ فهو مردود سواء كان نص قرآن أو سنة، وإن خالف غيره، طلبنا الترجيح فنرجح من كان قوله إلى الصواب أقرب، ومن العلماء من زاد شرطاً ثالثاً وهو أن يكون معروفاً بالفقه والعلم ليخرج بذلك الصحابي الذي لم يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً، وهذا شرط لابد منه، فشروط قبول قول الصحابي وكونه حجة ثلاثة: أن يكون مشهوراً بالعلم، والثاني: ألا يخالف النص، والثالث: ألا يخالف صحابيا آخر؛ لأنهم هم أقرب إلى الصواب. ولهذا قال: (والإصابة) ، يعني أنهم أقرب إلى الصواب. ولا شك أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على إتباع قوله فقوله حجة إذا لم يخالف النص مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)) (2) ، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الرشد. مسألة: إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم على قولين، فهل نقول: إن القولين تعارضا فتساقطا، أو لا بد من أن نطلب ما يساعده الدليل؟ الجواب: الغالب أن الحق لا يخرج عن أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وبناء على ذلك نقول: نبحث فيما يعضده الدليل لأنهم هم أقرب الناس إلى الصواب، ولا شك انه إذا تعارض قولان للصحابة رضي الله عنهم بدون مرجح فانه يضعف القول؛ لأنه عورض بمثله وهذا قد يبدو للإنسان أن   (1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر، رقم (3662) . (2) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة ... ، رقم (681) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 يقول: لا احتج به ما دام ضعيفاً عورض بمثله. لكن: الخير أن نقول: ما دام أنه عورض بمثله فإن الواجب أن نبحث؛ لأنهما وإن تعارضا فإنهما أقرب إلى الصواب من غيرهما، ولكن يلاحظ أنه لا يمكن أن نعارض قول عمر رضي الله عنه بقول رجل من الصحابة رضي الله عنهم بعيد عن الفقه إلا إذا عضده الدليل. فإذا عضد المفضول الدليل فمعلوم أن الواجب إتباع الدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 157- فإنهم قد شاهدوا المختارا ... وعاينوا الأسرار والأنوارا 158- وجاهدوا في الله حتى بانا ... دين الهدى وقد سما الأديانا 159- وقد أتى في محكم التنزيل ... من فضلهم ما يشفي للغليل   الشرح قوله: (فإنهم) هذا تعليل لقوله: (وليس في الأمة كالصحابة) ؛ لأنهم قد شاهدوا المختارا وهذا تعليل وليس بدليل، الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) ، وهذه الخيرية شاملة لخيرية العلم، وخيرية العبادة، وخيرية الأخلاق. وقوله: (شاهدوا المختارا) ، يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله تعالى لهذه الرسالة العظيمة التي قال الله تعالى عن الكتاب الذي هو مصدر أساسها: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل: 5) ، هو ثقيل في العمل به وتحمله وإبلاغه وغير ذلك، ولهذا قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلاً) (الإنسان: 23) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) (الإنسان: الآية24) ، ولم يقل فاشكر نعمة الله؛ لأنه ثقيل بل قال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) (الإنسان: الآية24) ، أي: اصبر لحكم الله الشرعي والكوني الذي يترتب على هذا التنزيل، وهذا يدل على أنه سيناله منه ما يحتاج إلى صبر فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مختاراً؛ لأنه أفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنه إمامهم وأنه الذي أخذ على الرسل إذا بعث أن يؤمنوا به وينصروه. وقوله: (وعاينوا الأسرار والأنوار) ، أي أسرار الشريعة وعرفوا أسبابها ولا   (1) تقدم تخريجه ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 شك أنه ليس الخبر كالمعاينة فنحن مثلاً نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام في مناسبة ما ونستخلص منه الحكمة والسر، لكن ليس كالمعاين فهم عاينوا الأسرار يعني بذلك الحكم العظيمة التي بنيت عليها هذه الشريعة، فإن الشريعة كلها حكمة قال تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (النساء: الآية113) . وقوله: (والأنوارا) ، أي الأنوار المعنوية وليست الأنوار الحسية ويدل لهذا قول أنس بن مالك رضي الله عنه: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأضاء منها كل شيء)) ، إضاءة معنوية فلما توفي يقول: ((أظلم منها كل شيء)) إظلاماً معنوياً، وإلا من المعلوم أن الشمس لم تكسف حين موته وأنه لم يطلع شمسان حين قدومه، فالأمر كما هو فالإضاءة والإظلام ليس حسياً ولكنه معنوي كما وصف أنس بن مالك رضي الله عنه. فالأنوار التي شاهدها الصحابة رضي الله عنهم هي الانوار المعنوية وذلك بما يتلقونه من العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن علم الرسول صلى الله عليه وسلم كله نور قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء: 174) . وقوله: (وجاهدوا في الله) ، أي بذلوا الجهد في الله، أي في دينه وشريعته ولا أحد ينكر ذلك ممن عرف سيرة الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته كيف جاهدوا الجهاد العظيم بأموالهم وأنفسهم تركوا أوطانهم وعرضوا رقابهم لسيوف الأعداء حتى كمل الدين ولله الحمد. فجهادهم الجهاد العظيم يجعلهم في منزلة هي خير المنازل في هذه الأمة. وقوله: (حتى بانا) ، بانا بالألف للإطلاق وليست ألف التثنية بل هي ألف تسمى ألف الإطلاق من أجل القافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وقوله: (دين الهدى) ، يعني بذلك دين رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) (التوبة: الآية33) . وقله: (وقد سما الأديانا) ، سما أي علا، والأديان مفعول سما؛ يعني علا الأديان، وهذا أيضاً مأخوذ من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (التوبة: الآية33) ومعروف من وقائع الأمور أن دين الإسلام لما كان الناس عليه حقيقة علا كل الأديان، وأطاع بعروش كسرى وقيصر والمقوقس وغيرهم، وبإطاحته بهذه العروش صار الدين دين المسلمين وعلا على الأديان كلها حتى صار أعداء المسلمين أذلاء يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، ولما تقاعس الناس عن الدين مع الأسف انخذلوا وذلوا وصارت الدائرة عليهم؛ لأن الله جل وعلا ليس بينه وبين الناس نسب يراعيهم به ويحابيهم به بل من تمسك بدينه فهو ولي الله المنصور إلى قيام الساعة ولهذا قال: وقد أتى في محكم التنزيل من فضلهم ما يشفي للغليل ويجوز ما يشفي للعليل. قوله: (أتى في محكم التنزيل) ، يعني بذلك القرآن، والمحكم هو المتقن الواضح البين فأتى في هذا القرآن الكريم المحكم ما يشفي للغليل، أي للمريض، وإن كان الأصل في الغليل العطشان لكن هو يريد بها المريض هنا؛ لأن الشفاء يقابل المرض. مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 (الحشر: 8) وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9) ، ومثل قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح: 29) ، والآيات في هذا متعددة. وقول المؤلف رحمه الله: (في محكم التنزيل) ، قلنا: إنه يريد به القرآن، والقرآن لا شك أنه محكم متقن، في ألفاظه ومعانيه وفي جميع ما يتعلق به؛ أخباره صدق، وأحكامه عدل، لا تجد فيه تناقضاً: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: الآية82) . ولكن قد يشكل على هذا أن الله تعالى سماه في موضع متشابها، فقال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً) (الزمر: الآية23) ، والمتشابه ضد المحكم؛ لأن المتشابه يوجب لمن نظر فيه الحيرة والتردد، فلا يكون محكما. والجواب عن ذلك أن يقال: إن التشابه الذي وصف به القرآن، ليس التشابه الذي هو خفاء المعنى، بل التماثل والتساوي، يعني أنه متماثل يشبه بعضه بعضاً؛ في كماله، وجودته، وإصلاحه للقلوب والأعمال. ولهذا لما أريد بالمتشابه المشتبه في معناه قسم الله تعالى القرآن إلى قسمين: محكم، ومتشابه، فقال جل وعلا: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: الآية7) . فحينئذٍ نقول: إن القرآن محكم: بمعنى واضح بين لا يشتبه على أحد، ومتشابه: أي خفي المعنى لا يعلمه إلا أولو العلم الراسخون فيه، ولهذا قال) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: الآية7) على قراءة الوصل. فصار القرآن يوصف بأنه كله محكم وبأنه كله متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه، ولكن المعنى يختلف في هذا التفصيل: فإن قيل: هل يمكن أن يوجد في القرآن آيات متشابهة على جميع الناس لا يعرفون معناها؟ فالجواب: أنه لا يوجد مثل هذا في القرآن. والدليل قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء) (النحل: الآية89) ، فلا يوجد فيه شيء غير واضح، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء: 174) فلا يمكن إطلاقاً أن يوجد فيه آية أو كلمة لا يفهم معناها، لكن الذي يخفى هو حقيقة مدلولات الآيات، مثل ما اخبر الله به عن نفسه واليوم الآخر فإننا نعرف حقيقته. فإذا قال قائل: إن القول بأنه لا يوجد شيء يخفى معناه على جميع الناس منقوض بالحروف الهجائية التي ابتدئت بها السور، فان أحداً لا يعرف معناها. فالجواب على ذلك: أن هذه الحروف التي ابتدئت بها السور ليس لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 معنى أصلاً، لأنها حروف هجائية غير مركبة، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي يقتضي أن مثل هذه الحروف ليس لها معنى. ولكن لها مغزى، وهو ظهور إعجاز القرآن لهؤلاء القوم الذين ادعوا أنه مفترى على الله عز وجل، وأنه قول البشر، ويدل لهذا انه ما من سورة ابتدئت بها هذه الحروف إلا ويأتي بعدها ذكر القرآن. فإن قيل: هل القرآن متفاضل، فيفضل بعضه بعضاً؟ فالجواب: أن يقال إن القرآن باعتبار المتكلم به لا يتفاضل؛ لأن المتكلم به واحد، وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلوله لا شك انه يتفاضل، فإن: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد: 1) ليست مثل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) ، وإن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي. إذاً القرآن يتفاضل من حيث ما يدل عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 160- وفي الأحاديث وفي الآثار ... وفي كلام القوم والأشعار 161- ما قد ربا من أن يحيط نظمي ... عن بعضه فاقنع وخذ من علم   الشرح قوله رحمه الله: (وفي الأحاديث وفي الآثار) يعني ورد ذلك أيضاً في الأحاديث والآثار؛ والأحاديث ما أضيف للرسول صلى الله عليه وسلم؛ والآثار ما أضيف لغيره، هذا عند الإطلاق، وإلا فقد يراد بالأثر ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الغالب أنه يقيد فيقال: في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وفي كلام القوم والأشعار) والظاهر أنه يريد بالقوم في قوله: (وفي كلام القوم) أي الصحابة، وكذلك من بعدهم، فإن في أشعارهم من الثناء على الصحابة، وبيان فضلهم، ومواقفهم، ولهذا قال: ما قد ربا من أن يحيط نظمي عن بعضه فاقنع وخذ من علم يعني أن فضلهم ومآثرهم تربو عن أن يحيط نظمه ببعض ما قيل فيهم. فكيف بكل ما قيل فيهم؟! يكون من باب أولى أنه يعجز عنه. واعلم أن المطالعة في الكتب التي في سيرة الصحابة رضي الله عنهم تحتاج إلى حذر؛ وذلك لأنه ظهر أعداء للصحابة من بعدهم؛ من الخوارج والروافض، فيحتاج الإنسان إلى حذر فيما ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم. وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية (1) - تلك العقيدة المباركة - أشار إلى ما ورد عن الصحابة مما حصل من الفتن، وأن ما وقع منهم يكون مغفوراً ومغموراً بجانب الفضائل.   (1) انظر العقيدة الواسطية ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 162- واحذر من الخوض الذي قد يزري ... بفضلهم مما جرى لو تدري 163- فإنه عن اجتهاد قد صدر ... فاسلم أذل الله من لهم هجر 164- وبعدهم فالتابعون أحرى ... بالفضل ثم تابعوهم طرا   الشرح قال المؤلف رحمه الله في تكميل الكلام على الصحابة رضي الله عنهم: (واحذر من الخوض) أحذر: فعل أمر من الحذر، وهو التخوف وعدم الإقدام، والوقوف أمام الشر والفتنة بحيث لا يتجاوزها المرء. وقوله: (من الخوض الذي قد يزري) الخوض: الكلام اللغو الذي لا فائدة منه، ويطلق على الكلام الذي يأثم فيه الإنسان، كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) (الطور: 12) ، فالكلام الذي لا فائدة منه في الصحابة، أو الكلام الذي قد يتأثم به العبد، يجب أن يحذره وألا يتكلم فيه. وقوله: (قد يزري بفضلهم) أي يحط من قدرهم، (مما جرى بينهم) أي مما وقع بينهم، (لو تدري) لو هذه للتمني، أي ليتك تدري. وذلك أنه جرى من الصحابة رضي الله عنهم من الأمور التي هي في الواقع من المتشابه، لكن من المتشابه الواقع، لا من المتشابه المنزل، ووجه كونها من المتشابه أنه قد يكون فيها مدخل لكل ذي غرض سيئ، وأن الصحابة رضي الله عنهم تقاتلوا فيما بينهم وأراقوا الدماء من أجل الوصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 إلى السلطة، لا من أجل إحقاق الحق، ولذلك فهو من المتشابه الواقع. وطريقة أهل العلم والإيمان في المتشابه في المنزل، أو من الواقع، أن يرجعوا إلى المحكم الذي لا تشابه فيه، فما جرى من الصحابة رضي الله عنهم من الفتن؛ كالذي بين علي وعائشة والزبير رضي الله عنهم، والذي بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وأحداث كثيرة تعلم من التاريخ. وقد استغل هذه الأحداث المغرضون الحاقدون على الإسلام من أجل الطعن في الصحابة، وحمولها على أنها صدرت عن نية سيئة، كالرافضة الذين في قلوب كثير منهم غل وحقد على الإسلام، ولا سيما على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أطاح بعروشهم وفل جموعهم، فكانوا يتخذون من هذه الوقائع سلماً للقدح في الصحابة رضي الله عنهم، حتى كانوا يلعنون من قام ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتقربون إلى الله تعالى بلعنه والعياذ بالله مع ما له من الفضيلة. لكن الراسخين في العلم وأهل الإيمان يقولون: إن هذا الأمر الذي وقع بينهم يجب أن يحمل على نية حسنة، وذلك لما للصحابة من الفضل، والمعروف، والإحسان، والجهاد في سبيل الله. فما يقع منهم من المعاصي فهو منغمر في جانب الحسنات، والحكم العدل هو الذي يقارن بين الحسن والسيئ، ويجعل الحكم للأكثر، ونحن إذا قارنا بين ما حصل من الصحابة مما يظن إثماً وبين ما حصل منهم من الفضائل والكمالات، وجدنا أن الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 أكثر بكثير من الأول. فالواجب أن تنغمر السيئات في جانب الحسنات، وهذا هو العدل وما أحسن كلمة قالها ابن رجب رحمه الله في مقدمة كتاب القواعد: ((المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه)) (1) . ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فإنه عن اجتهاد قد صدر) فإنه: أي ما جرى بين الصحابة من الفتن والقتال، (عن اجتهاد قد صدر) والاجتهاد افتعال من جهد، أي بذل الجهد وهو الطاقة في الحصول على المقصود، ولهذا يسمى العالم الذي يتطلب الأحكام من أدلتها الشرعية مجتهداً؛ لأنه يبذل جهده وطاقته ووسعه للوصول إلى الحق عن طريق الدليل. فالصحابة رضي الله عنهم حصل ما حصل بينهم عن اجتهاد، فمثلاً معاوية وعائشة والزبير رضي الله عنهم قاتلوا يظنون أن هذا هو الذي يكون سبباً للعثور على قتلة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه؛ ليقتص منهم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أخر البحث عن القاتل أو عن المتآمرين لأن الحال تقتضي ذلك، فالناس في فتنة، ويصعب جداً العثور على هؤلاء المدبرين، ثم إذا عثرنا عليهم فإن قتلهم قد يؤدي إلى فتنة أكبر؛ لأن منهم رؤوس قبائل، فعلي رضي الله عنه له رأي، ومعاوية وعائشة والزبير رضي الله عنهم لهم رأي آخر، وكله عن اجتهاد. ثم إنه قد قيل: إن الفتنة كادت تنطفئ لولا رجال من رجال معاوية رضي الله عنه صار في نفوسهم بعض الشيء وبادروا بالقتال، فحصل   (1) انظر قواعد ابن رجب ص5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 الشر. وأيا كان التقدير فإنه يجب أن نحمل الإساءة على الإحسان، وننظر بينهما ونقول: إذا قدرنا أن هؤلاء أخطئوا في هذه الفتنة الكبيرة، فإن لهم من الحسنات ما يوجب محو هذا. والإنسان المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله اجر، والخطأ مغفور. وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)) (1) ، وهؤلاء بين مجتهد مصيب ومجتهد مخطئ، فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد. فإن قال قائل: أيهما أقرب إلى الصواب؟ وأيهما أحق بالخلافة؟ فالجواب: أن الأقرب إلى الصواب، والأحق بالخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا شك في هذا، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمار بن ياسر: ((إنه تقتله الفئة الباغية)) (2) ، الباغية: يعني الخارجة على الإمام، والذي قتل عماراً هم أصحاب معاوية، وعلى هذا يكون علي بن أبي طالب أقرب إلى الصواب من معاوية، ويكون جيش معاوية هو الفئة الباغية. لكن مع هذا يجب علينا ألا نضمر حقداً ولا بغضاء لواحد من الصحابة، وأن نحمل ما جرى منهم من الخطأ على أنه اجتهاد والله يغفر له، ثم إنه من العقل والإيمان إلا نجعل ما جرى بين الصحابة من هذه المسائل سبباً للأخذ   (1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب اجر الحاكم ... ، رقم (7352) ، ومسلم، كتاب الاقضية، باب بيان اجر الحاكم .... ، رقم (916) (2) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد، رقم (447) ، ومسلم، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، رقم (2915) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 والرد والخلاف؛ لأن هذه أمة قد خلت؛ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. وعلينا أن نجتمع من الآن على طريق الحق الذي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا نداهن كما يدعو إليه بعض الناس اليوم من محاولة التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة؛ لأن محاولة التقريب بين المذهب الحق والمذهب الباطل ليس إلا مداهنة في دين الله. وإن من الواجب على الجميع الرجوع إلى الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وأول ما يجب الكف عن مساوئ الصحابة رضي الله عنهم، واعتقاد أن من أخطأ منهم فإن خطأه منغمر في جانب صوابه، وما حصل من فساد فهو منغمر في جانب الإصلاح. هذا هو الواجب علينا فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. ثم قال المؤلف رحمه الله: (فاسلم أذل الله من لهم هجر) اسلم: أي من الخوض، والوقوع في الصحابة رضي الله عنهم والعداوة والبغضاء لهم. (أذل الله من لهم هجر) أي أوقعه في الذل والهوان، وهذه جملة خبرية، جملة دعائية. ويشير رحمه الله هنا إلى الرافضة الذين هجروهم؛ لا نقول هجروهم فلا يكلمونهم فهم أموات، لكن هجروا فضلهم ونشر فضلهم، بل اعتدوا عليهم، وليت الصحابة سلموا منهم، وليتهم سكتوا عن نشر فضائلهم فحسب، ولكنهم اتهموهم ورموهم بالباطل، والكذب، بل لعنوهم على رؤوس المنابر - والعياذ بالله. بل الأدهى والأمر أنهم يلعنونهم في أذكار الصباح والمساء، حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 يكتبون: اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما. يعنون بذلك أبا بكر وعمر والعياذ بالله. وهذا ما رأيناه في كتبهم يذكرونه في أذكار الصباح والمساء، يعني أنهم يتقربون إلى الله بلعن أبي بكر وعمر - نسأل الله العافية. ولكن أبعدهم الله، فإنهم لا يزدادون بذلك إلا بعداً من الله عز وجل. فنشكر المؤلف رحمه الله، ونسأل الله أن يعفو عنه حيث دعا بالذل على من هجر الصحابة بعدم نشر فضائلهم، ومن زاد على ذلك فنشر ما اتهمهم به وما كذب عليهم به من المساوئ. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وبعدهم فالتابعون أحرى بالفضل) أحرى: أي: أجدر، فبعد الصحابة في الفضل التابعون، وهم التابعون لهم بإحسان، وهم القرن الثاني من هذه الأمة. واعلم أن القرن يعتبر بأكثره، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله (1) ، وليس معنى التابعين أنه لا يوجد أحد من الصحابة، بل إذا كان القرن أكثرهم من التابعين أي ممن لم يشاهد النبي عليه الصلاة والسلام - فإنه يسمى قرن التابعين، وإن كان يوجد العشرة والمائة وما أشبه ذلك من الصحابة، وكذلك يقال في تابعي التابعين، فالقرن يعتبر بأكثر أهله. فالتابعون هم أحرى الناس بالفضل بعد الصحابة رضي الله عنهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (2) ، والتفضيل هنا تفضيل للجمة على الجملة، وليس لكل فرد على كل فرد،   (1) انظر مجموع الفتاوى 10-357 (2) انظر تقدم تخريجه ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 بمعنى أنه قد يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من التابعين؛ في العلم، والعبادة، والجهاد وكذلك أيضاً يوجد في التابعين من هو أفضل من بعض الصحابة في العلم والجهاد. فإن واحداً من هؤلاء قد يفضل واحداً من هؤلاء. إلا أن الصحابة يتميزون بخصيصة ليست لغيرهم وهي الصحبة، وهذه لا يمكن أن ينالها أحد من التابعين، لكن الفضل والعلم والجهاد ربما يوجد في التابعين من هو خير من بعض الصحابة، كما يوجد في تابعي التابعين من هو خير من بعض التابعين، فالتفضيل اذاً في الجملة لا لكل فرد إلا من سبق من تميز الصحابة رضي الله عنهم بهذه الخصيصة، وهي الصحبة. ثم قال المؤلف رحمه الله: (ثم تابعوهم طرا) أي تابعو التابعين. وقوله: (طرا) يحتمل أن تكون بمعنى قطعاً، ويحتمل أن تكون بمعنى جميعاً، والأمر كذلك، فإننا نقطع بأن تابعي التابعين بعد التابعين، وأن التابعين بعد الصحابة. وسكت المؤلف عن بقية الطبقات، فلم يذكر إلا ثلاث طبقات، وهم: الصحابة، والتابعون لهم، وتابعو التابعين، وإنما اقتصر على ذلك بناء على حديث عمران بن حصين وغيره من أن خير الناس الصحابة، ثم التابعون، ثم تابعو التابعين. وعلى هذا فنقول: إنه بعد هذه القرون الثلاثة حصلت الفتن، وانتشرت البدع، وتفرقت الأهواء، وحصل الشر الكثير، ورفعت المبتدعة رؤوسها، واضطرب الناس أمناً وأيماناً، وتكلم الناس في كل شيء، حتى أنهم تكلموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 في الله عز وجل، وصاروا في الله سبحانه وتعالى ما بين معطل لصفاته، ومثبت ممثل، وقائم بالقسط معتدل. واختلاف الناس في الله عز وجل، في أسمائه وصفاته، كان بعد الاختلاف في مسألة القدر، ومسألة الإيمان والكفر؛ لأن مسألة القدر أدركت أواخر عصر الصحابة رضي الله عنه، ومسألة الأسماء والإيمان والكفر بعدها، وكذلك الإرجاء وما يتعلق به، ثم جاءت بدع الأسماء والصفات، وانتشرت هذه انتشاراً عظيماً، وصار الناس يتكلمون عليها أكثر من غيرها؛ لأنها أشد خطرا من غيرها. والى هنا انتهى كلام المؤلف رحمه الله على الصحابة رضي الله عنهم، وما يتعلق بفضلهم. وبعد فإني أدعو إلى قراءة أخبار الصحابة رضي الله عنهم بعد قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يشد الإنسان نفسه مع السابقين السالفين ليزداد بذلك إيماناً ومحبة لهم ومنهجاً طيباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 فصل في ذكر كرامات الأولياء وإثباتها 165- وكل خارق أتى عن صالح ... من تابع لشرعنا وناصح 166- فإنها من الكرامات التي ... بها نقول فأقف للأدلة   الشرح انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر كرامات الأولياء وإثباتها. والكرامات جمع كرامة، وهي ما يقدم للضيف ونحوه تكريماً له، وهذا هو الأصل فيها. ثم صارت الكرامة اسماً لكل خارق للعادة، يظهره الله سبحانه وتعالى على يد ولي من أوليائه تكريماً له، أو إحقاقاً لحق قام به، فهي إذاً أمر خارق للعادة يجريه الله تعالى على يد ولي من أوليائه؛ إما تكريماً له، وإما إظهاراً للحق الذي قام به. وهنا ثلاثة قيود: القيد الأول: قولنا: كل أمر خارق للعادة، يخرج به ما كان جارياً على العادة، فما كان جارياً على العادة لا يعد كرامة مثل أن يأكل الولي طعاماً فيشبع، فإنه إذا شبع من الخبز، لا يقال هذه كرامة؛ لأن هذا على العادة، أو لو قال الولي مثلاً: بعد عشر دقائق ستظهر الشمس، وكان قد بقي على طلوعها عشر دقائق، فخرجت فقال: ألا أيها الناس اشهدوا على كرامتي؛ إني قلت: الشمس ستطلع بعد عشر دقائق فطلعت. فليست هذه كرامة؛ لأن هذه جارية على العادة. ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الكرامة أمر خارقٌ للعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 القيد الثاني: يظهره الله على يد ولي من أوليائه، وحينئذٍ فلابد أن نعرف من هو الولي. والولي بينه الله عز وجل في قوله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس: 62) (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس: 63) ، فمن تحقق فيه هذان الوصفان، وهما: الإيمان والتقوى - فهو الولي. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً)) (1) ، وقد أخذ المعنى الآية الكريمة التي يقول الله فيها: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) . القيد الثالث: تكريماً له، أو إظهاراً للحق الذي قام به، يعني قد يكون هذا تكريماً للشخص؛ كما وقع كثيراً من بعض الأولياء يعطش في البر، فيسأل الله تعالى الماء، فينشئ الله السحاب ويمطر ويشرب. وكذلك أيضاً صلة ابن أشيم حيث يذكرأنه مات فرسه في أثناء السفر، فدعا الله أن يحييه إلى أن يصل إلى بلده، فأحيا الله له الفرس وركبه، فلما وصل إلى بيته قال لابنه: يا بني ألق السرج عن الفرس فإنه عارية، فألقى السرج عنه فمات الفرس في الحال. فهذه كرامة. وكذلك أيضاً ما يذكر عن العلا بن الحضرمي انه خاض البحر بجنوده، وكذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وغير ذلك. فالمهم أن الكرامات كثيرة، ومن أراد أن يطلع على شيء منها فعليه بكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) .   (1) انظر مجموع الفتاوى 2/224. 11/64، 25/316 (2) انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 قال العلماء رحمهم الله: وكل كرامة لولي فإنها آية للنبي الذي اتبعه هذا الولي؛ لأن هذه الكرامة شهادة من الله أن هذا الولي على حق، فإذا كان يتبع نبياً من الأنبياء فهي أيضاً تستلزم الشهادة بأن هذا النبي حق، وإلا لما أيد متبعه بهذه الكرامة. وقد خرج بقولنا: على يد ولي، معجزات الأنبياء، فمعجزات الأنبياء خوارق للعادة لكنها ليست على يد الأولياء، بل على يد من هم أكبر من الأولياء وهم الأنبياء. فعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كان يقف على قبر الميت ويقول: اخرج فيخرج، وعلى الميت فيقول: احي فيحيى، فهو يحيي الموتى ويخرج الموتى، وهذه لاشك أنها معجزة خارقة للعادة لكن على يد نبي فلا تسمى كرامة اصطلاحاً. وإلا فإنها لا شك كرامة، لكنها اصطلاحا لا تسمى كرامة، لأن الكرامات إنما تكون على يد الأولياء. وهذه تسمى عند كثير من العلماء رحمهم الله معجزة، والصحيح أنها آية وتسميتها آية أصح من تسميتها بمعجزة، لما يلي: أولاً: لأن هذا الموافق للفظ القرآن؛ لأن الله سمى هذه المعجزات التي تأتي بها الأنبياء آيات ولم يسمها معجزات. ثانياً: أن المعجزات قد لا تكون آية على نبوة، كما في حال المشعوذين وغيرهم من السحرة، لكن لو قلنا: آية؛ يعني علامة على صدق هذا النبي. ثالثاً: أن كلمة معجزة من الإعجاز لفظها بشع، لكن آية أي علامة، هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 محببة للنفوس، كما قيل: كأنه علم في رأسه نار. فلهذا كان التعبير بالآية أولى. وخرج أيضاً بقولنا: على يد ولي من أوليائه - ما يخرج العادة مما جرى على أيدي أولياء الشيطان من السحرة والمشعوذين وغيرهم؛ لأن منهم من يأتي بالخارق الذي يخرج عن العادة، لكن بواسطة الشياطين. ويذكر عن مثل هؤلاء أشياء عجيبة، فيذكر أن الواحد منهم قبل أن تأتي الطائرات إذا كان يوم عرفة أحرم من بيته، وذهب إلى مكة - وهو من أقصى الشرق أو الغرب - وحج مع الناس، وهذا خارق للعادة، ولكن الذي حمله هم الشياطين، والشياطين قد تحمل أشياء ثقيلة من بلاد بعيدة وتحضرها في ساعة سريعة. وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الاستغاثة، قال: لو لم يكن من خطأ هؤلاء إلا أنهم يتجاوزون الميقات بلا إحرام (1) ، وذلك لأنه يمر به الشيطان مع الجو ولا يحرم إذا حاذى الميقات، بل يحرم في مكة. فالحاصل أن ما يحصل من الأمور الخارقة للعادة على يد هؤلاء الذين نسميهم أولياء الشيطان، هذا ليس بكرامة، بل هو إهانة. فصار الخارق للعادة إما آية، وأما كرامة، وأما إهانة، وأما فتنة. والفتنة ما يأتي من السحرة وشبههم، لأنهم يرون ذلك إكراماً لهم.   (1) انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 والإهانة مثل ما يذكر عن مسيلمة الكذاب الذي ظهر في اليمامة وادعى أنه نبي وذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ بذلك قومه وجعلوه نبياً، وصار يعينه الشيطان في بعض الأمور، فيقال إنهم جاءوا إليه في يوم من الأيام، وقالوا: يا أيها النبي، إن عندنا بئراً قد غار ماؤها، ولم يبق فيها إلا ماء قليل فنريد أن نتبرك بك، فذهب معهم واخذ بعض الماء ليتمضمض به ويمجه في البئر ينتظر أن يرتفع ماؤه، فيقال إنه لما مج الماء في البئر غار الماء الموجود، فصار هذا خارقاً للعادة؛ لأنه ليس من العادة أن يتمضمض إنسان بماء ثم إذا مجه ذهب ماؤه، فهذا خارق للعادة، لكنه إهانة، ودليل على كذبه. وفي قصة أخرى يقال: إنه جيء إليه بغلام رأسه فيه قزع، يعني بعضه نبت وبعضه ما نبت، فقل له: أيها النبي، امسح على رأس هذا الغلام لعل الله يخرج بقية الشعر، فمسحه فزال الشعر الموجود، وهذا أيضاً إهانة، وهو خارق للعادة؛ لأنه لم تجر العادة أن إنساناً يمسح على شعر فيتحات. وعلى كل حال فالخارق للعادة أربعة أنواع: أعلاها: الآية، ثم الكرامة، ثم الإهانة، ثم الفتنة. ثم إن أهل العلم رحمهم الله قالوا: إن كل كرامة لولي فهي آية للنبي؛ لأنه لما كان هذا الولي متبعاً لنبي من الأنبياء - ومعلوم انه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم - ثم أوتي كرامة لتأييد ما هو عليه من الحق، كان ذلك آية للرسول الذي اتبعه. وقوله: (وكل خارق أتى عن صالح) أي: وكل خارق للعادة أتى عن صالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 قوله: (من تابع لشرعنا) ، خرج به التابع لغير شرعنا، فهذا لا يمكن أن يؤتى كرامة، لأن من لم يتبع شرعنا فهو كافر، فإن وجد على يده خارق فهو فتنة أو إهانة؛ ففتنة إن كان فيما يحب، أو إهانة إن كان فيما يكره. وقوله: (من تابع لشرعنا وناصح) وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام لمن تكون النصيحة، فقال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم)) (1) . وقوله رحمه الله: ((فإنها من الكرامات التي بها نقول)) الفاعل هنا مستتر وجوباً تقديره نحن، والمراد بذلك أهل السنة، يعني أن أهل السنة يقولون بإثبات الكرامات للأولياء. وقوله رحمه الله: (فأقف للأدلة) اللام هنا للتعليل، والأدلة جمع دليل، وهو في اللغة المرشد، ومنه الدليل في الطريق، لكن الدليل في الشرع هو ما يثبت به الحكم. وهناك أدلة كثيرة تدل على كرامات الأولياء، منها مثلاً: قصة أصحاب البقرة: وهم قوم تدارؤوا حيث قتل بينهم قتيل، وكادت الفتنة أن تكون بين القبليتين، فأمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يذبحوا بقرة، وأن يضربوا القتيل بجزء منها، ففعلوا ذلك، فلما ضربوا القتيل بهذا الجزء من البقرة حيي بإذن الله وقال: إن قاتله فلان، وهذه كرامة لهؤلاء القوم، حيث ذهب عنهم النزاع وطفئت الفتنة. وربما نقول: هي كرامة من وجه وآية من وجه آخر؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي أمر بذلك. ومثال آخر: الرجل الذي مر على قرية خاوية على عروشها هامدة، فقال:   (1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) (البقرة: الآية259) ، فأكرمه الله عز وجل؛ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكان هذا الرجل معه حمار ومعه طعام، فأما الحمار فمات وأما الطعام فلم يتغير، بل بقي مائة سنة ولم يتغير؛ لا غيرته الشمس، ولا الهواء، ولا المطر، ولا أي شيء وهو طعام وكما نعلم أنه يسرع إليه الفساد، وربما فسد في يوم وليلة، لكن هذا الطعام بقي مائة سنة. أما الحمار فلما بعث الله صاحبه وجد أنه قد مات، ووجده عظاماً تلوح، فقال الله له: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْما) (البقرة: الآية259) ، فجعل ينظر إلى عظام الحمار يتراكب بعضها ببعض، وينشزها الله تعالى بالعصب، ويكسوها اللحم، حتى كمل الحمار، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: الآية259) وهذه نعمة من الله عز وجل؛ أن يري الله العبد آية كونية أو شرعية تقوي إيمانه؛ لأن الإنسان أحيانا قد يضعف إيمانه، وأحيانا يأتي الإنسان كسل وفتور وترد على القلب؛ لأن القلب يتقلب، فإذا منَّ الله على العبد وأراه آية يطمئن بها قلبه، فلا شك أن هذه نعمة من الله عز وجل؛ كبيرة ليس لها ثمن. فهذا الرجل كان يشك في إحياء الله الموتى؛ لأنه أتى على هذه القرية وقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) (البقرة: الآية259) ، وهذه قرية فكيف بالبشر؟ ‍فأراه الله الآية، فلما تبين له قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: الآية259) . ولا شك أن هذا كرامة لهذا الرجل؛ فالحمار شاهده والله تعالى يحييه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 شيئاً فشيئاً؛ والطعام شاهده لم يتغير، وقد بقي مائة سنة - وهي ليست بهينة - ولم يتغير فآمن أن الله قادر على ألا يغير الشيء مع طول المدة، وقادر على أن ينشئ الشيء مرة أخرى، ففي هذه الآية طرد وعكس، ففيها إبقاء الشيء على ما هو عليه، وإنشاء الشيء من جديد وكل ذلك كرامة لهذا الرجل. كذلك من الأدلة قصة مريم، وهي ليست نبيه، أرسل الله تعالى إليها رسوله جبريل، فنفخ فيها من روح الله عز وجل، أي نفخ في فرجها روحا، فالتقمها الرحم، وصار إنساناً بشراً - وهو عيسى عليه الصلاة والسلام - (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم: الآية23) يعني أدركها إلى جذع نخلة، فقالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً) (مريم: الآية23) ، وهي هنا لم تتمن الموت، لكن تمنت أنها ماتت قبل أن تحصل هذه الفتنة؛ لأنها تعرف أن بني إسرائيل سيتهمونها كما وقع، والمسألة ليست هينة بل هي عرض. (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً) (مريم: 24) أي نهراً، وكان هذا النهر كرامة لها. (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: 25) الله أكبر! امرأة أدركها المخاض - والمرأة إذا أدركها المخاض تكون ضعيفة جدا - تهز بجذع النخلة، وليس برأس النخلة! ثم إن الهز بجذع النخلة لا يجعل النخلة تتحرك أصلاً. قال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: 25) والرطب من المعلوم أنه بعيد لا تدركه هي ولو أدركته لأخذته، فقال الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 تعالى: (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: الآية25) بدأت تهز بالجذع، ويتساقط الرطب (جَنِيّاً) أي مخروفا، فكان يسقط هذا الرطب اللين جدا ًمن مكان عال على الأرض ويبقى كما هو، وكأنه مخروف باليد. وهذه آية خارقة للعادة، فالعادة أن الرطب إذا سقط من مثل هذا المكان تفتت وتمزق، لكن هذا بقي كأنه مخروف باليد. (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) (مريم: الآية26) وكل هذا أيضاً من آيات الله عز وجل، حيث تقر عيناً في هذا المكان الخالي. وأصحاب الكهف أيضاً أعطاهم الله كرامة، فإنهم خرجوا من قومهم المشركين مهاجرين إلى الله عز وجل، فهيأ الله لهم كهفاً - أي غاراً - في الجبل موجهاً توجيهاً تاماً إلى ما بين الشمال والشرق فإذا طلعت الشمس تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، حيث إن اتجاهه إلى الشمال الشرقي حتى لا تدخل الشمس عليهم فتؤذيهم أو تتلف أجسامهم. فبقوا ثلاثمائة سنة بل زادوا تسع سنين وهم لم يحتاجوا لأجل ولا شرب ولا بول ولا غائط ولا شيء، وهذا غير معتاد، ثم إن الله تعالى بحكمته ورحمته يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنهم لو بقوا على جنب واحد لتأثر ذلك الجنب، ولكن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال. وفي هذا دليل على أن النائم لا يكون مستلقياً ولا منبطحا على بطنه، إنما هو على يمين أو شمال، وفيه أيضاً دليل على أن النائم لا ينسب إليه الفعل؛ لأن الله قال: (وَنُقَلِّبُهُمْ) (الكهف: الآية18) ولم يقل: ((يتقلبون)) . إذا بقوا هذه المدة وهم لم يتغيروا، حتى شعورهم وأظفارهم بقيت على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 ما هي عليه، لأنه لما استيقظوا قالوا: لبثناً يوما أو بعض يوم، ولو أن الشعور والأظفار نمت كالعادة لعرفوا أنهم بقوا مدة طويلة، لكن بقيت لم تنمُ. ولا يعني ذلك أن النائم لا تنمو أظفاره وشعوره، بل إن هذا من آيات الله لهؤلاء القوم، وكذلك فإن أجسامهم لم تتغير بعرق ولا غيره، ولم تأكل الأرضة ثيابهم. وحصل مثل هذه الكرامات في هذه الأمة كما حدث في الأمم السابقة، من ذلك ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما حوصر سارية وهو أمير على سرية، فاطلع عليه عمر رضي الله عنه من بعد، وأرسل إليه كلاماً، قال: يا سراية، الجبل! فسمع سارة كلامه ثم انحاز إلى الجبل. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله جملة صالحة من ذلك في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (1)   (1) انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 309 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 167- ومن نفاها من ذوي الضلال ... فقد أتى في ذاك بالمحال 168- لأنها شهيرة ولم تزل ... في كل عصر يا شقا أهل الزلل   الشرح قوله: (من نفاها) من شرطية، ونفى فعل الشرط، وجملة (فقد أتى في ذاك بالمحال) جواب الشرط. يعني أن الذي ينفي الكرامات أتى بمحال، أي بشيء محال، وذلك أنه حاول إبطال ما تواترت الأدلة على ثوبته، والمتواتر يفيد العلم اليقيني الذي يستحيل ارتفاعه. وقوله: (من ذوي الضلال) أي من أصحاب الضلال، يشير إلى من رد الكرامات؛ مثل المعتزلة وغيرهم، حيث قالوا: إنه لا يمكن أن نثبت كرامات؛ لأننا لو أثبتنا الكرامات لا تشبه النبي بالولي والولي بالساحر. ونجيب على قول المعتزلة ومن نحا نحوهم بأنه ليس هناك اشتباه؛ فالولي لا يقول: إنه نبي، ولو قال إنه نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ولياً؛ لأنه لا يكون عنده إيمان ولا تقوى، فلا يمكن الاشتباه إذاً، قد يكون هذا ممكنا فيما مضى من الأمم، لكن في هذه الأمة لا يمكن أبداً؛ لأن الولي لا يقول إنه نبي. كذلك بالنسبة للساحر لا يمكن أن يشتبه بالولي؛ لأن الولي مؤمن تقي والساحر كافر شقي فلا يشتبه هذا بهذا، كذلك فالساحر تأتيه هذه الخوارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 بفعله هو، حيث يتقرب للشياطين فيساعدونه، ويدعي أن هذه كرامة له. ثم الأدلة الكثيرة الموجودة إلى اليوم تثبت وجود كرامات لوجودها إلى يومنا هذا. لكن الكرامات بعضها ظاهر وكبير، وبعضها خفي، فمثلاً لو أن رجلاً أراد أن يسافر إلى الرياض، وأراد أن يسلك الطريق اليمنى، وفي آخر لحظة اتجه إلى الطريق اليسرى، وبعد ذلك اتضح أن في الطريق اليمنى قطاع طريق. ولا شك أن العادة في الواقع أن الإنسان إذا عزم على شيء ولم يكن هناك مانع حسي ظاهر. فإنه يتجه إليه ويسير معه، لكن لما صرف هذا بدون أي سبب ظاهر إلى الطريق الآخر، وإذا به يبلغ أن الطريق الذي كان قد نوى أن يتجه عليه فيه قطاع طريق - فإننا نعتبر هذه من الكرامة، لكن ليست كالكرامة الكبيرة، إنما هي كرامة، ولا شك أنها نعمة، حتى يعرف الإنسان أن الله دفع عنه من النقم ما لم يكن في حسابه. وعلى كل حال فالكرامة موجودة، ويقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية (1) : أنها موجودة في هذه الأمة إلى يوم القيامة. ومنها الشاب الذي يعارض الدجال، ويتحداه، وذلك حينما يأتي الدجال ويدعي أنه الرب، ولكن هذا الشاب يعارضه، ويقول له: أنت الدجال الذي أخبر عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتله، ويجعله شقين ويمر بين شقيه تحقيقاً لموته، ثم يقول له: قم، فيقوم، ولكنه لا يزداد إلا تحدياً، وفي النهاية يعجز الدجال عن أن يقتله، فهذا كرامة بلا شك.   (1) انظر العقيدة الواسطية ص 133 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 فالحاصل أنها موجودة، ولهذا قال رحمه الله: (لأنها شهيرة) لأنها: أي الكرامات، شهيرة: أي مشهورة، ففعيلة بمعنى مفعولة، كجريحة بمعنى مجروحة. وقوله رحمه الله: (ولم تزل في كل عصر) يعني أنها ما زالت ولا تزال موجودة في كل عصر. وقوله: (يا شقا أهل الزلل) يا: هنا يحتمل أن تكون منادي، والمعنى يا شقاء أهل الزلل احضر، ويحتمل أن تكون للتعجب، ومعنى (يا شقا) : يعني ما أشقى أهل الزلل. ولا شك أن أهل الزلل أشقياء لا سيما من زل عن عمد، فإنه من أشقى عباد الله - والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 فصل في المفاضلة بين البشر والملائكة 169- وعندنا تفضيل أعيان البشر ... على ملاك ربنا كما اشتهر 170- وقال من قال سوى هذا افترى ... وقد تعدى في المقال واجترا   الشرح هذا الفصل ليت المؤلف رحمه الله لم يعقده، وليته لم يتكلم في هذا المسألة، وموضعها: أيهم أفضل؛ الملائكة أو البشر؟ فيقال: أصل البحث في هذا لا داعي له؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الناس على العلم والإيمان لم يبحثوا هذا البحث، ولم يقولوا البشر أفضل أم الملائكة. وشيء سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم مما يتصل بالدين، فالأجدر بنا أن نسكت عنه. وهذه قاعدة يجب على طالب العلم أن يفهمها، وهي أن كل شيء سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم من أمور الدين فاعلم أن الخوض فيه من فضول الكلام، ولا حاجة إليه؛ لأنه لو كان من مهمات ديننا ومن أصول ديننا ومما يجب علينا أن ندين الله به لتبين، إما عن طريق القرآن، أو عن طريق السنة، أو الصحابة، فإذا لم يوجد واحد من هذه الثلاثة علم أنه ليس من الدين في شيء. وإذا بنيت نهجك على هذا استرحت من إشكالات كثيرة يوردها بعض المتعلمين اليوم، فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، وفيما يتعلق باليوم الآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 من أمور الغيب التي لا مجال للعقل فيها، فيوردون أشياء هي في الحقيقة تدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطعون)) (1) ، قالها ثلاثا. وصدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل إنسان يتنطع فهو هالك ولابد، ولو لم يكن من هلاكه إلا مخالفته طريق الصحابة. لذا فنحن نقول: ليت المؤلف لم يتكلم بهذا إذ لا فائدة لنا منه. هذا من الناحية العقلية، ومن الناحية الأثرية فإن ذلك لم يكن في أسلافنا من الصحابة، ولم يخوضوا في هذا الأمر. لكن مع ذلك خاض الناس واضطر بعض من يكره الخوض في هذا إلى أن يخوض فيه ويتكلم؛ لئلا يترك المجال لمن لا يصلح أن يتكلم فيه، وهذا كثير في العقائد وغير العقائد. فمثلاً وجد من يتكلم في العقائد فيقول مثلاً: هل الله جسم أو غير جسم؟ ثم يقول: ليس بجسم، ثم يبني على ذلك جميع الصفات التي ينكرها بهذه الحجة، وهل الله في جهة أو ليس من جهة؟ وهل الله يحد أو لا يحد؟ هل الصحابة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك أو بحثوا فيه؟ فينبغي لنا أن نسكت كما سكتوا، فلا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم. لكن لما اضطر علماء السنة إلى الكلام في هذا بناء على أن غيرهم تكلم، قالوا: لم نكن ندع المجال والميدان لهؤلاء الضلال يتلاعبون به، بل لابد أن نخوض ونبين الحق. فمثلاً في مسألة الجسم قالوا: إذا كان المراد بالجسم أن الله - سبحانه وتعالى - مكون من أشياء يمكن فقدها مع بقاء الجسم، أو لا يمكن بقاء الجسم   (1) تقدم تخريجه ص 149 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 مع فقدها، أو ما أشبه ذلك، فنحن ننفي هذا المعنى عن الله، وإن أريد بالجسم القائم بنفسه، المتصف بالصفات اللائقة به، الفعال لما يريد، فإننا نثبت هذا المعنى لله عز وجل. أما لفظ الجسم فنبعده بعيداً؛ لا ننفيه، ولا نثبته، لكننا نستفصل في معناه، أما أن نقول: إنه جسم أو غير جسم فليس لنا أن نتكلم بهذا؛ لأن الله لم يقل عن نفسه جسم أو أنه غير جسم. كذلك مسألة تفضيل الملائكة على البشر أو بالعكس، فالذي ينبغي للإنسان في هذه المسألة أن يدع الكلام فيها ما لم يضطر، والعلماء اضطروا إلى ذلك. قال المؤلف رحمه الله: وعندنا تفضيل أعيان البشر ... على ملاك ربنا كما اشتهر قوله: (عندنا) الضمير هنا يعود على أهل السنة والجماعة. وقوله: (ملاك) يعني: ملائكة الله. وقوله: (تفضيل أعيان البشر على ملاك ربنا) قال: أعيان، لا الجنس، يعني أننا نفضل الأعيان على جنس الملائكة، فالرسل مثلاً هم أعيان البشر، وهم خلاصة البشر، وهم المصطفون من البشر، فهؤلاء أفضل من الملائكة، لكن لا نفضل جنس البشر على جنس الملائكة، بل نفضل الأعيان من البشر على جنس الملائكة. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، ولكل قوم دليل، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 استدل من يقول إن البشر أفضل من الملائكة بأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم وهو أبو البشر، ومعلوم أن السجود ذل للمسجود له، فيكون المسجود له اعز وأكرم من المساجد. واستدل من قال: إن الملائكة أفضل بقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ((من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) (1) . وكلا الاستدلالين في القلب منه شيء؛ أما الأول: فإنه لا يلزم إذا أكرم الله آدم بهذه المنقبة أن يكون البشر أفضل من الملائكة، وذلك للقاعدة العامة وهي أن التميز بخصيصة واحدة لا يقتضي التميز المطلق، ولهذا نجد بعض الصحابة يميزه الرسول صلى الله عليه وسلم بميزة لا تكون لغيره، ولا يقتضي ذلك أن يكون أفضل من غيره. وأما الثاني: ((من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) ، فالمراد خير من الملأ الذين ذكر الله عندهم، وليس المراد خيراً من كل البشر، ومعلوم أن كون الملائكة الذين عند الله والذين يذكر الله الذاكر فيهم، خيراً من الملأ الذين ذكر الله عندهم0 - لا يستلزم الخيرية المطلقة. ولهذا نرى التوقف في هذا من ناحيتين: أولاً: التوقف عن البحث فيه إطلاقاً. وثانياً: التوقف عن الحكم بتفضيل هؤلاء على هؤلاء. وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الملائكة أفضل باعتبار البداية، والبشر أفضل باعتبار النهاية (2) . فباعتبار البداية الملائكة أفضل؛ لأنهم خلقوا من   (1) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء ... ، باب الحث على ذكر الله، رقم (2675) . (2) انظر مجموع الفتاوى 4/342-343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 نور، ولا يستكبرون عن عبادة الله، ولا يستحسرون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولم تركب فيهم الشهوة التي تعصف بهم، بل هم عباد مكرمون قائمون بأمر الله، فهم باعتبار البداية أفضل. أما باعتبار النهاية، وكون البشر محل رضا لله عز وجل وأهل كرامته وما أشبه ذلك، حتى إن الملائكة يدخلون عليهم في الجنة، يدخلون السرور عليهم، قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) (الرعد: الآية23) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) (الرعد: الآية24) . فهذا يدل على أن البشر أفضل، وهذا له وجه حسن. لكن الذي أرى الإعراض عن كل هذا، وأن نقول في مسألة التفضيل: أولاً: الجنس مختلف، ولا تفاضل بين الجنسين المختلفين. ثانياً: باعتبار المرتبة عند الله عز وجل، فهذا ليس لنا به علم إطلاقاً، بل علمه عند الله سبحانه وتعالى. وبعد أن قال المؤلف رحمه الله: (وعندنا تفضيل أعيان البشر على ملاك ربنا) قال: (كما اشتهر) . يعني: كما هو مشهور عند العلماء رحمهم الله. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وقال من قال سوى هذا افترى) . (قال) : الفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو، يعود على الإمام أحمد رحمه الله، ومثل هذا التعيير عند العلماء غير صحيح وذلك لجهالة مرجع الضمير فيه فيكون الكلام غير معلوم، إذ أنه لابد أن يعلم مرجع الضمير؛ إما من سياق الكلام؛ وإما من مذكور سابق أو مذكور لاحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 ولكن يجب أن نعلم أن مقلدي الإمام رحمه الله إذا ذكروا الفعل دون مرجع معلوم له فهو يرجع إلى الإمام، والناظر في كتب الفقه مثل الإنصاف وغيره يجد أنه يقول: نص عليه، وليس عناك مرجع سابق للضمير، فإن الضمير يعود إلى الإمام احمد، وإذا قال: وعنه لا يلزمه كذا. وليس للضمير مرجع، فإن الضمير يعود إلى الإمام أحمد، لكن كون الكتب ألفت في مذهبه يدل على أن الضمير الذي ليس له مرجع معلوم يعود إلى الإمام. والسفاريني رحمه الله من الحنابلة، فإذا قال: (وقال) ولم يكن مرجع الضمير معلوماً؛ فالظاهر أن مرجعه إلى الإمام احمد، هذا على القاعدة المعروفة؛ وهي أن الضمير إذا لم يكن له مرجع معلوم في كتب المقلدة، فإنه يرجع إلى إمامهم. وقوله رحمه الله: (وقال من قال سوى هذا افترى) هذا: اسم إشارة يعود على تفضيل أعيان البشر على ملاك الله. (من قال سوى هذا افترى) أي كذب. وقوله رحمه الله: (وقد تعدى في المقال واجترا) يعني تعدى في قوله واجترأ، وكأن الإمام احمد رحمه الله ينكر إنكاراً تاماً على من قال بهذا القول؛ أي بان الملائكة أفضل من البشر. والخلاصة أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في تفضيل الملائكة على البشر، أو البشر على الملائكة، على أقوال يمكن أن نجعلها أربعة: أولاً: تفضل البشر. ثانياً: تفضيل الملائكة. ثالثاً: الوقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 رابعاً: التفصيل، والتفصيل مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: الملائكة أفضل باعتبار البداية، والبشر أفضل باعتبار النهاية (1) أما الوقف فهو قولنا (2) ؛ وهو أن نقول: الله اعلم، وليس لنا أن نتكلم بهذا؛ لأنه لم يكن من بحث الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن داعي السؤال عما يتعلق بالدين في الصحابة أقوى منه فينا، ولا شك أيضا أن الإجابة عن الاستشكال في عهد الصحابة أصوب من أجابتنا نحن؛ لأنهم سيسألون الرسول عليه الصلاة والسلام، وسيجيبهم بالعلم اليقيني. فإذا لم يكن سؤال من الصحابة عما يتعلق بالدين، فاعلم أن السؤال عنه من باب التنطع في دين الله، وإن شئت فاجعله بدعة، كما قال الإمام مالك رحمه الله فيمن قال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) كيف استوى؟ قال: ما أراك إلا مبتدعاً.   (1) انظر فتاوى العقيدة لفضيلة الشيخ الشارح رحمه الله تعالى 4/342-343. (2) أي قول فضيلة الشيخ الشارح رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 الباب السادس في ذكر الإمامة ومتعلقاتها   الشرح هذا الباب كنا نستهونه في أيام طلبنا، كما كنا نستهون كتاب الجهاد، فكنا نتساءل: أين الجهاد؟ وما حاجتنا في أن نبحث في الجهاد، ومتى يكون واجباً على العين وعلى الكفاية، وما حكم ما يلزم الجيش وما يلزم الإمام؟! وسبب ذلك أنه لا يوجد جهاد، ثم لما حصل الجهاد في الوقت الأخير عرفنا إننا مفرطون، وأنه كان ينبغي أن نعرف أحكام الجهاد تماماً!! وفي مسألة الإمامة كنا نقول: ليس لنا حاجة في أن نبحث في الإمامة، فنحن والحمد لله إمامنا ابن سعود، ولكل بلد إمامه، والأمور مستقرة على ذلك، لكن الآن تبين لنا أنه لابد أن نعرف الحكم، فلابد أن نعرف من هو الإمام، ومن يستحق الإمامة، ولابد أن نعرف ما حق الإمام على رعيته، وما حق الرعية على الإمام. وذلك لأنه كثر القيل والقال، وخاض في ذلك من هم من الجاهلين، فصاروا يتخبطون خبط عشواء فيما يلزم الإمام وفيما يلزم الرعية، وغالبهم يميل إلى تحميل الإمام ما لا يلزمه حمله، وتبرئة الشعب مما يلزمهم القيام به، هذا حال غالبهم، وذلك لأن بعض الناس مشغوف -والعياذ بالله- بنشر المساوئ من ولاة الأمور، وكتم المحاسن، فيكون معه جور في الحكم، وسوء في التصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 إذاً لابد الآن أن نعرف من هو الإمام، وبم تثبت الإمامة، وما حق الإمام على الرعية، وما حق الرعية على الإمام، وما طريق السلف في معاملة الأئمة الظلمة والمنحرفين، حتى نمشي على طريقهم، ونكون أمة سلفية، وحتى لا نبرئ أنفسنا نحن من النقص، بل نحن ناقصون؛ إذا قارنت بين أعمالنا وعقائدنا وبين ما كان عليه الصحابة، وجدت أن الفرق بيننا وبينهم كالفرق بين زماننا وزمانهم، وأن الفرق كبير. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نريد أن يكن لنا ولاة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟! فهذا ظلم، وهذا تأباه حكمة الله عز وجل، ولهذا جاء في الأثر: كما تكونون يولى عليم، فكيف نريد أن يكون خلفاء الأمة الإسلامية الآن كخلفاء الأمة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ونحن على هذه الحال؛ كذب وغش وظلم وسوء عقيدة وغير ذلك؟! ويذكر أن عبد الملك بن مروان شعر بأن الناس قد ملوه أو عندهم شيء من التمرد عليه، فجمع وجهاء القوم وأعيانهم وتكلم فيهم وقال لهم: أتريدون أن نكون لكم كأبي بكر وعمر؟ قالوا: نعم. قال: إن كنتم تريدون ذلك فكونوا لنا كالذين كانوا لأبي بكر وعمر، فأقام عليهم الحجة. وكذلك أيضاً ينقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلاً خارجياً قال له: يا علي، كيف دان الناس لأبي بكر وعمر ولم يدينوا لك؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كان رجالهم أنا وأمثالي، وكان رجالي أنت وأمثالك. فأقام عليه الحجة. فالمهم أنه لا يمكن أن نطمع في أن يكون ولاة أمورنا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ونحن على الحال التي تشاهد؛ ولا شك في أن البيت الذي فيه ثلاثة نفر يكون فيه أربعة آراء! فأين الوفاق فينا؟ وأين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 الصلاح فينا كي يكون في ولاتنا؟! فالمهم أن هذا الباب - باب مهم، يجب أن يعتنى به. والإمامة نوعان: إمامة في الدين، وإمامة في التدبير والتنظيم، فمن إمامة الدين الإمامة في الصلاة، فإن الإمام في الصلاة إمامته إمامة دين، ومع ذلك فله نوع من التدبير، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمتابعته، ونهى عن سبقه والتخلف عنه، فهذا نوع تدبير؛ لأنه مثلاً إذا كبر كبرنا، وإذا ركع ركعنا، وإذا سجد سجدنا. وهكذا. وأما إمامة التدبير فتشمل الإمام الأعظم ومن دونه، والإمام الأعظم هو الذي له الكلمة العليا في البلاد؛ كالملوك ورؤساء الجمهوريات وما أشبه ذلك، ومن دونه كالوزراء والأمراء وما أشبه ذلك، والأمة الإسلامية بشر كغيرها من البشر، والبشر كائن من الأحياء، وكل حي فلابد له من رئيس. بل حتى البهائم، وكذلك الطيور في الجو، لها رئيس تتبعه، ولهذا كان الصيادون إذا مرت بهم جحافل من الطيور أو الظباء أو ما أشبه ذلك ذلك يصيدون أول ما يصيدون قائدهم، فإذا صادوا القائد ارتبك المجموع فسهل صيده؛ لأن كل كائن سواء من البشر أو غيرهم لابد له من قائد يقوده. ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام والمسافرين إذا كانوا ثلاثة، يعني فأكثر، أن يؤمروا واحدا منهم (1) ، يعني أنه لابد من أمير وإلا لاضطربت الأحوال، وصار كل إنسان يقول: أنا أمير نفسي، وحينئذٍ يتزعزع الأمن ويحل الخوف.   (1) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم رقم (2608، 2609) والبيهقي في سننه (5/257) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: 171- ولا غنى لأمة الإسلام ... في كل عصر كان عن إمام   الشرح يعني لا يمكن أن تستغني أمة المسلمين في كل العصور من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا عن أمام، أي عن قائد يقودها، وحتى الأمة من الأمم الكافرة لابد لها من إمام، ولذلك تجد الأمم الكافرة ربما ينقادون لأئمتهم أكثر مما ينقاد بعض المسلمين لأئمتهم؛ لأنهم يعلمون أن الأمن والاستقرار إنما يكون في إتباع الأئمة، والانقياد لهم، والانصياع لأوامرهم. وهذه مسألة يغفل عنها كثير من المسلمين، وقد حدثنا بعض من يذهبون إلى بلاد الكفر أن رعاياهم يتبعون الأنظمة تماما، ويطبقونها تماما؛ سواء أنظمة المرور، أو أنظمة الأمن، أو غير ذلك، مع أنهم كفار لا يرجون بهذا ثوابا من الله عز وجل، لكن يعلمون أن انتظام الأمة وحفظ أمنها لا يكون إلا بإتباع أوامر الرؤساء. فلذلك كانوا أشد تطبيقاً من بعض المسلمين لطاعة ولاة الأمور، مع إننا نحن بامتثالنا لطاعة ولي الأمر نرجو الثواب من الله عز وجل، وبالمخالفة نخاف العقاب؛ لأن مخالفة أي نظام من أنظمة الدولة بدون سبب شرعي، والسبب الشرعي سبب واحد وحيد وهو أن يأمروا بمعصية الله، وما سوى ذلك تجب علينا طاعته من أجل حفظ الأمن. وبعض الناس يتوهم انه لا تجب طاعتهم إلا حيث أمروا بما أمر الله به، وهذا وهم باطل؛ لأنهم إذا أمروا بما أمر الله به فأمرهم هذا تأكيد لأمر الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 فقط، ولو أمرنا أي واحد بما أمرنا الله به لكانت الطاعة مفروضة علينا؛ لأنه أمر الله. لكن طاعة ولاة الأمور في غير معصية شيء وراء ذلك، فيجب علينا أن نطيع ولاة الأمور في كل ما أمروا به، ما لم يأمروا بمعصية. فإذا لابد للأمة الإسلامية - بل وغير الإسلامية - من إمام يقودها ويوجهها، ويأمرها، وينهاها، وإلا لضاعت وأصبحت الأمور فوضى. قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا فلابد من قيادة، ولابد من أن تكون هذه القيادة حكيمة. قال المؤلف رحمه الله: ولا غنى لأمة الإسلام ... في كل عصر كان عن إمام عصر بمعنى وقت، والوقت كما نعلم هو ظرف الحوادث والأحداث، ولهذا أقسم الله به في قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ) (العصر: 1) (إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر: 2) ، فكل عصر لابد فيه للأمة الإسلامية من إمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 172- يذب عنها كل ذي جحود ... ويعتني بالغزو والحدود   الشرح قوله: (يذب عنها كل ذي جحود) يذب: يعني يطرد عنها. (كل ذي جحود) : أي كل ذي كفر. وهذه من مسؤوليات الإمام وهي: أولاً: أن الإمام يذب أهل الكفر عن بلاد المسلمين، أي يرد ويطرد ويمنع كل ذي جحود من أن يعتدي على بلاد المسلمين، ومن المعلوم أنه ليس يمنع بنفسه ولكن يمنع بجنوده. ثانياً: قال: (ويعتني بالغزو) يعني غزو الكفار، والشطر الأول للمدافعة، والشطر الثاني للمهاجمة، فالإمام يعتني بغزو الكفار ومقاتلتهم؛ لأن الواجب على المسلمين أن يقاتلوا الكفار، وذلك فرض كفاية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وإذا نظرنا في واقعنا اليوم فإننا سنجد أن مسألة غزو الكفار ممحوة من القاموس، اللهم إلا ما يقع مدافعة، ومع ذلك فإن ما يقع مدافعة لا تكاد تجد فيه من يساعد هؤلاء المدافعين، إلا النادر من إفراد الشعوب، أما الحكومات الإسلامية فإنها مع الأسف - ونقولها بكل مرارة - لا تساعد على الأقل مساعدة ظاهرة في الدفاع عن المسلمين، والأحداث لا تحتاج أن أفصلها؛ لأنها منشورة مشهورة. إذاً فلابد من مقاتلة الكفار، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39) ، وهذا فرض كفاية، ومعلوم أن فرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 الكفاية يحتاج إلى شرط وهو القدرة، فبالنسبة للشعوب لا قدرة لهم، وبالنسبة للحكومات فالله حسيبهم؛ منهم من يقتدر، ومنهم من لا يقتدر وفي ظني أن كل واحد منهم يقتدر بالنسبة للمضايقات الدبلوماسية. ثالثاً: قال رحمه الله: (والحدود) يعني أن من مسؤوليات الإمام أنه يعتني بالحدود، والحدود جمع حد، والحد في اللغة المنع، والمراد بالحدود هنا العقوبات التي قدرها الله ورسوله في فعل معصية، مثل قطع يد السارق، فهذا حد، فمتى ثبتت السرقة وتمت شروط القطع فإنه يجب تنفيذه، إذاً فالحدود يجب تنفيذها وهي رحمة من الله عز وجل لعباده، إذ أن في الحدود فائدتين: الأولى: أنها كفارة للفاعل الذي أقيم عليه الحد. والثانية: أنها ردع لغيره. فإن قال قائل: لكن فيها إتلاف عضو من الأعضاء، وربما يكون هذا العضو عاملاً في غاية الأهمية عند صاحبه، بل وغيره؟ فالجواب على ذلك بأنه لابد أن نقطعها حتى لا يأتي آخر فيسرق، ولهذا قال الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) (البقرة: الآية179) مع أن القصاص إضافة إزهاق نفس إلى نفس أخرى؛ فالمقتول واحد وبالقصاص يكون المقتول اثنين، لكن هذا فيه حياة، فكم من إنسان يرتدع عن القتل إذا علم أنه إذا قتل قتل! ولهذا قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) . ومن الحدود حد الزنى، وهو على حسب الجرم، فالبكر حده مائة جلدة وتغريب سنة، يعني يجلد مائة جلدة ويطرد عن البلد لمدة سنة، والثيب الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 قد منَّ الله عليه بالنكاح حده الرجم، فيرجم بحجارة لا صغيرة ولا كبيرة حتى يموت، وإذا مات فإنه يصلى عليه لأنه مسلم، ويدعى له بالمغفرة والرحمة. ومن الحدود حد القذف، والقذف هو أن يرمى المحصن بالزنى، والمحصن يعني العفيف، وذلك كأن يقول لشخص عفيف ذكر أو أنثى أنه زان، فهذا إما أن يقيم البينة بشهادة أربعة رجال بذلك؛ وإلا فحد ظهره، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (النور: الآية4)) . وقد رتب الله على القذف ثلاثة أمور، حيث قال تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: الآية4)) ، ثم استثنى الله تعالى فقال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 5) ، وهذا الاستثناء يعود على الفاسقين في قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) يعني إذا تابوا وأصلحوا زال عنهم الفسق. لكن هل من تاب قبلت شهادته كما زال عنه الفسق؟ في هذا خلاف بين العلماء، فمنهم من يقول: إنه إذا تاب قبلت شهادته، ومنهم من يقول: لا تقبل؛ لأن الله تعالى قال: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً) . وكذلك فإن هذا الاستثناء لا يعود على العقوبة الأولى في قوله: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ، فإذا تاب فإنه لا يعود عليه بالاتفاق. فصارت هذه العقوبات الثلاث بالنسبة للاستثناء على النحو التالي: أولاً: يعود الاستثناء على آخرها بالاتفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 ثانياً: لا يعود على أولها بالاتفاق. ثالثاً: وفي عودة الاستثناء على أوسطها خلاف. ومن الحدود حد قطاع الطريق، قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً) (المائدة: الآية33) ، فهؤلاء يقفون على الطرق ومعهم السلاح ومن مر اخذوا ماله أو قتلوه، وما أشبه ذلك، فهؤلاء حدهم كما قال تعالى: (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْض) (المائدة: الآية33) وهذه الأنواع الأربعة من الحدود التي ذكرنا، كلها حدود لا إشكال فيها. واختلف العلماء رحمهم الله في الخمر هل عقوبته حد أو تعزير، والصحيح أنها تعزير، ويدل لذلك ما يكاد يكون إجماعاً من الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فيما يصنع، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أخف الحدود ثمانون؛ يعني فاجلد شارب الخمر هذا الجلد، فأمر به عمر فارتفع إلى ثمانين جلدة (1) ، وهذا يكاد يكون كالإجماع؛ لأن كونه أخف الحدود يعني أن عقوبة الخمر ليست حداً. ويدل لذلك أيضاً انه لو كانت عقوبة الخمر حدا، ما كان لعمر أن يغيرها، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) (البقرة: الآية229) ، ولهذا فإنه لو كثر بين الناس اقتراف الزنا - نسأل الله العافية - فإننا لا يمكن أن نزيد المائة جلدة إلى مائتين مثلاً، وذلك لأن الحدود لا تزاد، وهذا يدل على أن عقوبة   (1) رواه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الخمر، رقم (1706) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 شارب الخمر ليست من الحد. لكن المشهور عند أكثر العلماء أنها حد من الحدود. أما قتل المرتد فإنه ليس بحد؛ لأن الحد لا يسقط بعد القدرة على الفاعل ولو تاب، وقتل المرتد يسقط بعد القدرة إذا تاب، فالردة إذا تاب منها المرتد ولو بعد القدرة عليه، فإنه لا يقتل، ويحرم قتله. إلا ما قيل في الساحر فإنه يقتل حداً، لحديث: ((حد الساحر ضربة - أو قال: ضربة بالسيف)) (1) . أما القصاص فإنه ليس بحد، ولذلك لو أن أولياء المقتول عفوا فإنه لا يقتص من القاتل، وبناء على ذلك فإنه ليس بحد. وقد رأيت بعض المتأخرين المعاصرين من يجعل الحدود سبعة أنواع، ويدخل حد الردة والقصاص، وهذا خطأ وغلط؛ لأن الحد عقوبة مقدرة من الشرع لا تسقط بإسقاط أحد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما شفعوا إليه في المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها - غضب وخطب الناس، وقال لأسامة وقد شفع إليه: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) (2) . ولو أن القاتل لما طلب أولياء المقتول أن يقتل وشفع أحد فيه فإنه لا ينكر عليه؛ لأن الحق لهم فلو أن أولياء المقتول قالوا: لابد أن يقتل القاتل، وحكم القاضي بقتله، فجاء رجل طيب وعرف أن هذا القاتل رجل من الخيار، لكن   (1) رواه الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد الساحر، رقم (1460) . (2) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم (3475) ، ومسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف ... ، رقم (1688) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 سولت له نفسه قتل أخيه فقتله، فذهب إلى أولياء المقتول وشفع إليه فلا بأس. ولو كان حداً لحرمت الشفاعة فيه. إذاً فإن من مهمات الإمام إقامة الحدود، وهذا يعني أنه يجب على الإمام أن يقيم الحدود على أي إنسان كائن من كان، حتى لو سرق أبو الإمام فإنه يأمر بقطع يده، ولا ينافي ذلك البر، بل هذا من البر؛ لأن هذا الحد كفارة له يسقط عنه عقوبة الآخرة، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا. ثم إن هذا الحق ليس حقا للإمام، بل هو حق لله عز وجل رب الإمام ورب أبي الإمام، فإذا أمر بقطع يد أبيه لأنه سرق قلنا: جزاك الله خيراً، فهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم أقساماً أمام الناس ويقول: ((وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (1) .   (1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم (3475) ، ومسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره ... ، رقم (1688) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 173- وفعل معروف وترك نكر ... ونصر مظلوم وقمع كفر   الشرح قال رحمه الله: (وفعل معروف) هذا هو الرابع من مسؤوليات الإمام، يعني ويعتني بفعل المعروف؛ بأن يفعل هو المعروف؛ وأن يأمر بالمعروف، أي بكلا الأمرين، لكن الأول له ولغيره، ففعل المعروف كل إنسان مطالب به، لكن الأمر بالمعروف أول من يطالب به الإمام، فيجب عليه أن يأمر بالمعروف؛ إما بنفسه وإما بنوابه وجوبا. فالأمر بالمعروف من مهمات الإمام ومن مسؤولياته، وإذا أضيع - لا قدر الله - فإن الله سوف يسأله عنه يوم القيامة سؤالا مباشراً. لكن ما المراد: المعروف؟ هل المعروف ما تعارف الناس عليه أو هو ما عرفه الشرع وأقره؟ وما المراد بالمعروف في قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف) (النساء: الآية19) ؟ المراد بالمعروف في الآية ما تعارف الناس عليه، لكن لو قلنا: إن المعروف هو ما تعارف الناس عليه لفسدت الدنيا وفسد الدين، وصار لكل بلد شرع؛ لأن أعراف الناس تختلف؛ فمن الناس من يستبيحون أن يقيموا أسواق الدعارة، فلا يكون ذلك معروفاً لأنه متعارف بينهم، ومن الناس من تباع عندهم جِرار الخمر كما تباع جِرار الماء، فلا نقول: هذا معروف. إذاً المعروف هو ما عرفه الشرع وقره، وإن شئت فقل: هو ماشرعه الشرع، وهذا أدق؛ لأن شرعه إياه اعتراف به، فكل ما شرعه الله ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 فهو معروف، ثم الأمر به على حسب مرتبته، فالأمر بالواجب واجب؛ والأمر بالمستحب مستحب. وقوله: (وترك نكر) فترك النكر أيضاً المسؤولية فيه على الإمام وهذا هو الخامس من مسؤوليات الإمام، وليعلم أن ترك المعروف وفعل المنكر إذا كان مستتراً عن الإمام فليس من مسؤوليته، فمسؤوليته المنكر الظاهر، فالمنكرات التي في البيوت إذا لم يطلع عليها فليست من مسؤوليته؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. ومن المنكرات التي يجب على الإمام أن يمنعها، أن يظهر النصارى أو اليهود أو البوذيون أو غيرهم من أهل الكفر ما يكون شعاراً لهم في بلاد الإسلام، مثل أن يعلق النصراني صليبا في صدره، فهذا ممنوع في بلاد الإسلام، ويجب منعه، ولكن بالتي هي أحسن، وقد سمعت أن بعض الإخوة الناهين عن المنكر رأى فلبينيا قد تقلد قلادة من ذهب وفي أسفلها الصليب، فأمسك بالقلادة وبترها، حتى كادت أن تحز رقبته وتقطعها. وهذا ليس من الخير، بل في هذا إساءة إلى الإسلام، وهو غلط. والواجب أن مثل هذا ينصح، لو انه قال لهذا الرجل: اخف هذا، بلطف، لحصل المقصود بدون عنف، والله تعالى يحب الرفق في الأمر كله، كما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله رحمه الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) (1) إذاًَ يجب على الإمام أن يمنع المنكرات، فما كان معلناً فالأمر واضح أنه   (1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم (6024) ، ومسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام .... ، رقم (2165) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 من مسؤوليته، وما كان مستوراً فإن علم به فعليه مسؤولية، وإن لم يعمل فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والمنكر ليس هو ما أنكره الناس، وإنما هو ما أنكره الشرع ومنعه، أما ما أنكره الناس فهذا ينظر فيه؛ فإن كان مشروعاً فالواجب إظهاره، مثل لو أنكر الناس الصلاة في النعال، فهنا أنكروا معروفاً فلا يجابون على ذلك، بل يبين الحق حتى يطمئن الناس إليه. وكل الناس ينكرون ذلك حينما كانت المساجد مفروشة بالحصباء أو بالرمل، أما الآن فلا يمكن الصلاة في النعال لما في ذلك من تلويثها، وأكثر الناس لا يهتمون عند دخول المسجد، ويمكن للإنسان أن يحصل السنة بأن يصلي في بيته بنعاله وأما ما أنكره الناس مما ليس مشروعاً، فإنه ينكر لئلا يقع الإنسان في الشهرة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة، حتى لا يذكر المرء في المجالس؛ لأن الإنسان الذي يخالف عادات الناس سوف تلوكه ألسنتهم، إما بالذم، وإما بالمدح، والغالب أنه يكون بالذم، فلو قام طالب علم من طلبة العلم المحترمين وخرج إلى الناس ببنطلون وبرنيطة وكرفتة فإن الناس سيرون هذا شهرة مع أنه في الأصل مباح إذا لم يكن تشبهاً بالكفار، لكنه مخالف للعادة فيشتهر الإنسان به، ويكون ملاكاً تلوكه الألسنة. وقد نهي الإنسان عن لباس الشهرة - مع أنه قد يكون طيباً - لئلا يشتهر به الإنسان ويذكر في المجالس. والناس في الواقع لا يلقون بالاً لهذا الأمر، ويغفلون عن مسألة الشهرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 فتجد الإنسان لا يبالي بأحد؛ اشتهر أم لم يشتهر، وهذا غلط؛ لأنك عرضت نفسك للكلام في المجالس، والإنسان في غنى عن أن يتكلم الناس فيه. إذاً فالمنكر هو ما أنكره الشرع ولم يقره، أما ما أنكره العرف فينظر فيه؛ إن كان من الأمور المشروعة فلابد أن يروض الناس عليه، وأن يفعل أمامهم حتى يطمئنوا إليه؛ وإذا لم يكن كذلك فإنه يكون من الشهرة التي نهي عنها. سادساً: نصر المظلوم، فمن مسؤوليات الإمام نصر المظلوم، لذا قال المؤلف: (ونصر مظلوم) ، فيجب على الإمام وعلى غيره أيضاً نصر المظلوم، لكن على الإمام بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الذي يستطيع أن ينصر المظلوم، وذلك برفع الظلم عنه إن كان قد وقع، ودفعه عنه إن كان متوقعاً. فلو علم الإمام مثلاً أن إنسانا يهدد شخصا بأخذ ماله أو غيره، فعليه أن يمنع من ذلك، أو لو كان إنسان قد استولى فعلاً على حق غيره فإنه يرفعه. فعلى الإمام مسؤولية نصر المظلوم، وغيره عليه أيضاً أن ينصر المظلوم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما)) (1) ، لكن غير الإمام قد لا يتسنى له ذلك، فقد يكون الظالم أكبر ممن يريد أن يرفع الظلم، وحينئذٍ لا يقدر على رفعه، لكن الإمام لا أحد فوقه من البشر، فيجب عليه أن ينصر المظلوم، بدفع المتوقع وبرفع الواقع. وإذا عرفنا أنه يجب على الإمام أن ينصر المظلوم، فلنعلم أنه لابد لذلك من شروط، منها مثلاً ثبوت وقوع هذا الظلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعطى   (1) رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب اعن أخاك ظالما ... ، رقم (2443) ، ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)) (1) سابعاً: قال المؤلف رحمه الله: (وقمع كفر) يعني إذا ظهر، وهذا غير ذب الجحود، لأن ذب الجحود يعني دفعه ومنعه، أما هذا فقمع الكفر بعد وقوعه. والكفر كما نعلم كفر صريح بالسلاح، وهذا له الجهاد، وكفر باطن وهذا أيضاً يجب أن يقمع، مثل أن يكون هذا الرجل متظاهراً بالإسلام لكن له أفكار رديئة ينشرها في الأمة، فهذا أيضا يجب على ولي الأمر أن يقمعه، ولا يجوز له أن يمكنه من كفره الذي ينشره في الأمة، وإن كان يتظاهر بالإسلام؛ وذلك لأنه إذا لم يقم بهذا انتشر الكفر واستشرى في الأمة من حيث لا يعلم. وقد يقول قائل إذا كان هذا الرجل له فكر رديء يدعو إليه وأنتم تقولون: إن الإسلام يعطي كل إنسان حريته فأفسحوا المجال لكل من عنده رأي أو فكر يتكلم بما شاء، وإلا فقد كذبتم في دعواكم؟ ويجاب على هذا القائل بأن نقول: نعم، نحن نقول: إن الإسلام قد أعطى كل إنسان حريته، لكن ما هي الحرية الصحيحة؟ إن الحرية الصحيحة هي التحرر من قيود الشيطان، ومن قيود النفس الأمارة بالسوء، ولهذا فإن كل من خالف الشرع فإنه رقيق وليس بحر، والى هذا يشير ابن القيم رحمه الله في بيت أرى أن يكتب بماء الذهب، يقول:   (1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم، رقم (4552) ، ومسلم، كتاب الاقضة، باب اليمين على المدعي عليه، رقم (1711) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 هربوا من الرق الذي خلقوا له ... وبلوا برق النفس والشيطان (1) يعني أنهم تحرروا من الرق الذي خلقوا له، وهو الرق لله عز وجل، ولكنهم ابتلوا برق النفس والشيطان. ونحن نقول لمن يطلب حريته في أن يقول ما يشاء: إننا إذا أعطيناك حريتك وقلت ما شئت من الكفر والفسوق والأخلاق الرديئة، فإنك قد بليت برق آخر وهو رق النفس والشيطان. ولهذا نقول: إن قمع الكفر ولو تظاهر الإنسان بالإسلام من واجبات الإمام، وعلى هذا يجب على الإمام أن يجعل له نظراء ينظرون في كل ما يكتب في الصحب والمجلات، وكل ما ينشر في الاذاعات المسموعة والمرئية، وكل ما يذكر في الكتب والرسائل المؤلفة، فيجعل أمناء علماء بالشريعة ويوليهم الحق في النظر في كل ما ينشر في وسائل الإعلام، ويمنعوا كل شيء يدعو إلى الفسوق والمجون والكفر، وهذا يجب على الإمام. اعلم أن معنى قولنا: يجب على الإمام كذا ليس حروفاً تكتب على ورق، بل هي مسؤولية عظيمة، يسأل عنها الإمام بين يدي الله عز وجل، لذا فعليه مسؤولية قمع الكفر بأنواعه وأشكاله.   (1) انظر القصيدة النونية 2/466. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 174- وأخذ مال الفيء والخراج ... ونحوه والصرف في منهاج   الشرح ثامناً: قال (وأخذ مال الفيء والخراج) أي ويعتني أيضاً بأخذ مال الفيء والخراج، وهذان مادة بيت المال، وبيت المال هو عبارة عن الخزانة التي تودع فيها أموال المسلمين، ومنها مال الفيء. والفيء ما أفاء الله على المسلمين من أموال الكفار، وذلك أن المسلمين إذا اغتنموا غنيمة قسمت إلى خمسة أقسام، أربعة أقسام للغانمين، الذين جاهدوا وباشروا القتال، وتقسم بينهم، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، وللراكب بعير ونحوها سهمان. والقسم الخامس يقسم أيضاً خمسة أقسام، ذكرها الله عز وجل بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال: الآية41) . فهي خمس لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا إلى بيت المال، وأربعة أخماس لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وذو القربى قيل: هم قرابة الإمام، وقيل: بل هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح الثاني. وبناء على هذا التقسيم يكون مال الفيء بالنسبة للغنيمة جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً، وهذا يجعل لبيت المال في المصالح العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 والخراج هو: أن المسلمين إذا غنموا أرضاً - والغنائم إما عقارات وأراض وإما منقولة - وفتحوها بالسيف، وجلا أهلها عنها فإنها تكون للمسلمين، ويخير الإمام بين قسمها على ما سبق، أي تقسم خمسة أسهم، والخمس الخامس يقسم خمسة أسهم؛ وبين أن يقفها على المسلمين، فيجعلها وقفاً، ويضرب عليها خراجاً. والخراج يعني الرزق، قال تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المؤمنون: 72) والخراج: أن يجعل شيئاً معيناً من الدراهم مقابل مساحة معينة، وهذا الخراج يؤخذ من كل من تكون هذه الأرض بيده، سواء انتقلت بالميراث أو ببيع أو بغير ذلك. وهذه الطريقة اختارها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب، عندما قسمت خيبر، كما في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال يا رسول الله: (إني أصبت أرضاً بخيبر، ولم يكن لي مال أنفس منها ... ) (1) ، لكن أرض الشام ومصر والعراق التي فتحت في عهد عمر، رأى رضي الله عنه ألا تقسم بين الغانمين، قال: إذا قسمناها بين الغانمين انحصر نفعها بالغانمين، فيكون أربعة أخماس النفع، فرأى أنها تبقى بأيدي أهلها عامة، ويضرب عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي بيده. ونظير الخراج الأجرة كما لو كان لأحد بيت وأجَّره واحداً من الناس عشر سنوات كل سنة بمائة أي بمبلغ معين، فهذه الأجرة نظيرها الخراج. ففي الخراج مثلاً؛ من أخذ من هذه الأرض مساحة كذا وكذا فعليه كذا   (1) رواه البخار ي، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، رقم (2737) ، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوقف، رقم (1633) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 وكذا من الدراهم. وتبقى الأرض بيدهم، وكل سنة تسلم الدراهم التي جعلت عليها إلى بيت المال، والمعنيُّ ببيت المال هو الإمام، ولهذا قال: (وأخذ مال الفيء والخراج) فهذا من مسؤوليات الإمام. لكننا نعلم أنه الآن لم تعد توجد أرض خراجية يستخرج منها فقد تغيرت البلاد ومن عليها، لكن فيما سبق كانت موجودة، وتدر هذه الأرضي على بيت المال شيئاً كثيراً. مسألة: هل يمكن في الخراج المضروب أن يزاد فيه أو هو ثابت؟ الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله فيما وضعه عمر رضي الله عنه، فمنهم من قال: لا يزاد على ما وضعه عمر لأنه له سنة متبعة، وأما ما وضعه الخلفاء بعده فإنه لا باس أن يزاد أو ينقص عليه، والمرجع إلى رأي الإمام في هذه المسألة، فقد تكون الأراضي مثلاً مرتفعة الأسعار فيزيد في الخراج وقد تكون بالعكس فينقص. ثم قال رحمه الله: (ونحوه) ، ونحوه بمعنى مثله، وهي كلمة واسعة عامة كثيرة، منها مثلاً: إذا مات ميت وليس له وارث، فإن ماله يذهب لبيت المال، والمعْني بذلك الإمام، وكذلك الأموال المجهول صاحبها، أي الضائعة ولم يعرف لها صاحب، فإنها أيضاً تكون لبيت المال، وهلم جرا، فهناك أموال كثيرة تدر على بيت المال، وبيت المال يُعنَى به الإمام، ويجب عليه أن يصرفه في مصالح المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 وقوله رحمه الله: (والصرف في منهاج) يعني وأيضاً هو يعتني بالصرف في منهاج، وما أثقل هذا، فالأخذ سهل على الإمام؛ فسهل أن يأخذ الخراج من الأراضي، وسهل أن يأخذ مال من مات وليس له وارث، كل هذا سهل، لكن الشاق هو الصرف في منهاج، أي الصرف في طريق شرعية، فصرف المال في طريق شرعي هذا من مسؤوليات الإمام. فيجب على الإمام أن يصرف مال المسلمين في الطريق الصحيح النافع للمسلمين، فلا يكون جماعاً مناعاً دفاعاً؛ جماعاً للمال، مناعاً في بذله في الخير، دفاعاً في بذله في الشر، فهذا حرام. ((إن أقواماً يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة)) (1) . فهذه مما يجب على الإمام من المسؤوليات العظيمة، وأكبر مسؤولية عليه فيما أرى من هذه الأشياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا واجب في الحرب والسلم والأمن والخوف والرخاء والشدة، وواجب في كل قرية وفي كل مدينة وفي كل طريق، فلذلك نقول: إن مسؤوليات الإمام عظيمة نسأل الله أن يعين الأئمة على ما فيه الخير. وهل هذه الإمامة شرط في العبادات بمعنى أنها لا تصح العبادات إلا بإمام؟ والجواب: لا، إلا عند الرافضة، فالرافضة يقولون: لا يمكن أبداً أن نصلي جماعة إطلاقاً حتى يأتي الإمام المنتظر، هذا الإمام الذي يدعون أنه اختفى في سرداب منذ مئات السنين.   (1) رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى: ((فإن لله خمسه وللرسول)) ، رقم (3318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 وكل صباح يهيئون فرساً عليه راكب، معه رمح وخبز وعسل وماء، فيجلس عند هذا السرداب ينتظر خروج الإمام، فإذا خرج أفطر بالخبز والماء والعسل، ثم أخذ الرمح وركب الفرس، وسار في الأرض يملؤها عدلاً بعد أن ملئت جوراً، ويسمى هذا الإمام المنتظر. فيقولون: لا يمكن أبداً أن نصلي جماعة ولا جمعة إلا إذا جاء هذا الإمام المنتظر، لكن في ظني أنه بعد أن جاء زعيمهم الذي أسس ولاية الفقيه غيَّر هذا الرأي، وقال: لا يمكن، أين الإمام المنتظر؟ لماذا لا نصلي جمعة ولا جماعة حتى يأتي! ، وصار يأمرهم أن يصلوا مع الجماعات والجمعات، وهذا طيب وتحول إلى حق والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 175- ونصبه بالنص والإجماع ... وقهره فحل عن الخداع   الشرح بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله الفوائد والمصالح من تنصيب الإمام ومسؤولياته، وأنه لا غنى للأمة عنه، ذكر في هذا البيت الأمور التي ينصب بها، وهي: الأمر الأول: النص: فإذا نص عليه الخليفة من قِبله فإنه يكون خليفة، ولا تجوز منازعته، ولا يحتاج إلى بيعة؛ لأن بيعته يغني عنها بيعة الأول، إذ أن بيعة الأول معناها التزام الناس بتصرف الأول، وإذا تصرف الأول هذا التصرف وقال: إن الإمام من بعدي أو الخليفة من بعدي فلان، فإنه يكون هو الخليفة دون أن يكون هناك مبايعة. الأمر الثاني: الإجماع: وهو إجماع أهل الحل والعقد على بيعته، كما أجمع أصحاب الشورى الستة الذين وضعهم عمر علي مبايعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإذا أجمع أهل الحل والعقد على شخص ونصبوه إماماً، صار إماماً، لكن بشرط ألا يكون الخليفة الأول قد نص على شخص معين، فإن كان قد نص على شخص معين فلا كلام، لكن لو مات ولم ينص على أحد فإنه يجتمع أهل الحل والعقد، فإذا أجمعوا على أن فلانا هو الخليفة صار خليفة. ولا يشترط أن يبايع كل فرد من الأمة، ولأن هذا شيء غير ممكن، ولهذا لم يبايع أبا بكر رضي الله عنه إلا أهل الحل والعقد، ولم يرسل إلى كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 مراهق، ولا إلى كل عجوز، ولا إلى كل شاب، ولا إلى كل رجل أن يبايعه، ولم يرسل إلى مكة ولا إلى الطائف ولا إلى غيرها من البلاد، بل ولا إلى أهل المدينة، بل اكتفى بمبايعة أهل الحل والعقد. وبهذا نعرف أن من قال من السفهاء الأغرار: أنا لم أبايع، أنه أخطأ، فإنه لا يشترط أن يبايع كل واحد من الأمة، فالمبايعة ليست لكل واحد من الناس، بل المبايعة لأهل الحل والعقد، فإذا اجمعوا عليه وبايعوه صار إماما، ووجب على الجميع التزام أحكام الإمام في هذا الرجل الذي أجمع عليه أهل الحل والعقد، وذلك مثل عثمان رضي الله عنه، فقد بويع بإجماع أهل الشورى الذين نصبهم عمر رضي الله عنه. الأمر الثالث: القهر: يعني لو خرج رجل واستولى على الحكم وجب على الناس أن يدينوا له، حتى وإن كان قهراً بلا رضا منهم؛ لأنه استولى على السلطة، ووجه ذلك أنه لو نوزع هذا الذي وصل إلى سدة الحكم لحصل بذلك شر كثير. وهذا كما جرى في دولة بني أمية فإن منهم من استولى بالقهر والغلبة، وصار خليفة ينادى باسم الخليفة، ويدان له بالطاعة امتثالاً لأمر الله عز وجل. فهذه هي الطرق التي يكون بها الإمام إماماً وهي ثلاثة: النص والإجماع والقهر. وإذا قلنا: إن الخلافة تثبت بواحد، هذه الطرق الثلاث فيعني ذلك أنه لا يجوز الخروج على من كان إماماً بواحد منها أبدا. ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فحل عن الخداع) يعني لا تخادع ولا تخن إذا ثبتت الإمامة بواحدة من هذه الطرق، فالإمامة ثابتة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 176- وشرطه الإسلام والحرية ... عدالة سمع مع الدرية 177- وأن يكون من قريش عالماً ... مكلفاً ذا خبرة وحاكما   الشرح قال رحمه الله: (وشرطه) أي شرط الإمام الذي يكون خليفة على المسلمين، وعدد رحمه الله شروطاً، وهي: الشرط الأول: (الإسلام) وهذا لابد منه، فلا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسم أبداً، بل لابد أن يكون مسلماً. فلو استولى عليهم كافر بالقهر، وعندهم فيه من الله برهان أنه كافر؛ بأن يعلن أن يهودي أو نصراني مثلاً، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح، وعليهم أن ينابذوه، ولكن لابد من شرط مهم وهو القدرة على إزالته، فإن كان لا تمكن إزالته إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى، فليصبروا حتى يفتح الله لهم باباً؛ لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع، وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها. الشرط الثاني: (الحرية) فيشترط أن يكون حراً، أما الرقيق فلا ولاية له؛ لأن الرقيق قاصر، والرقيق مملوك، فكيف يكون مالكاً؟ فلو فرض أن العبد الرقيق كان مالكاً خليفة فكيف يتصور موقفه مع سيده؟! لا شيء لأن سيده مالك له، وإذا كان هو مملوكاً بمنزلة البعير يباع ويشترى ويؤجر. فكيف يكون هذا إماماً للمسلمين!؟ ، فلابد من الحرية. بل لابد من كمال الحرية ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 يصح أن يكون المبعض إماماً، لأن هذا الجزء الرقيق منه يمنعه من كمال التصرف. الشرط الثالث: (العدالة) والعدالة هي العدل، أي أن يكون عدلاً، والعدالة في اللغة هي: الاستقامة، وفي الشرع هي: الاستقامة في الدين والمروءة، يعني أن يكون مؤدياً للفرائض، مجتنباً للكبائر، ذا مروءة من الكرم والشجاعة والحزم واليقظة وما أشبه ذلك. فإذا لم يكن مستقيماً في دينه فإنه لا يجوز أن يولى، وهذا الشرط شرط للابتداء، أي العدالة شرط للابتداء، بمعنى أننا لا نوليه وهو غير عدل إذا كان الأمر باختيارنا، أما من ملك وصار خليفة فإن العدالة ليست شرطاً فيه، ولهذا أذعن المسلمون للخلفاء ذوي الفسوق والفجور، مع فسقهم وفجورهم وخلاعة بعضهم، وانحراف بعضهم في الدين، إلا أنه انحراف لا يصل إلى الكفر. إذاً فالعدالة هنا شرط للابتداء، يعني عندما نريد أن ننصب إماماً فلابد أن يكون عدلاً، أي مستقيماً في دينه ومستقيماً في مروءته. الشرط الرابع: (سمع) ، يعني يشترط أن يكون سميعاً، فإن كان أصم لا يسمع أبداً فإنه لا يصح أن يكون إماما، وهذا أيضاً شرط في الابتداء، فلو أنه صار إماماً ثم حدث له حادث فأصمه، فإن ولايته باقية، لكن حينما نريد أن ننصبه لابد أن يكون سميعاً، وذلك لأن الأصم لا يمكن أن يتم به الحكم، وإن تم في بعض الأمور لكن لا يكون تاماً كما ينبغي، حتى وإن كان له وزراء ومساعدون يساعدونه فإنه لا يكفي، فلابد أن يكون سميعا. على أن الشرط هو مطلق السمع وإن لم يكن قوياً، فالمهم أن يسمع ولو كان سماعه بعد التصويت البالغ، وذلك لأن غير السميع لا يتم به التصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 في الإمامة. الشرط الخامس: قال: (مع الدرية) يعني أن يكون ذا دراية، يعني ذا فطنة، ومعرفة بالسياسة، ومعرفة بالأحوال، حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة، وتقتضيه المصالح، والمصالح لا تنكرها الشريعة، وضد ذي الدرية المغفل الغبي، فلا ينصب إماماً وهو مغفل غبي، يأتيه الصبي فيلعب بعقله. فلابد لمن يتولى على المسلمين أن يكون عنده دراية، أي علم بأحوال الناس، وبمخادعة الناس، وغير هذا مما تتطلبه الإمامة. الشرط السادس: قال: (وأن يكون من قريش) أي أن يكون الخليفة من قريش، وهذا أيضاً شرط في الابتداء، ومع ذلك فقد اختلف العلماء رحمهم الله في اشتراطه؛ فمنهم، قال: لابد أن يكون من قريش، فإن كان من غير قريش ولو كان عربياً فإنه لا يجوز أن يكون إماماً، وهذا رأي الجمهور. ومعنى لا يجوز أن يكون إماماً أي لا يجوز أن ننصبه إماماً، ووجه ذلك انه قد ورد في بعض الأحاديث، ما يدل على أنه لابد أن يكون من قريش، ولأن قريشاً أفضل العرب وفيهم أفضل الرسالة، فكانوا أحق بالإمامة، كما جعلهم الله تعالى أحق بالرسالة. الشرط السابع: قال: (عالما) يعني ذا علم، والمراد بالعلم هنا العلم بأحوال الخلافة وما تتطلبه الخلافة، فلا يشترط أن يكون عالماً بالشرع، وإن كان علمه بالشرع أكمل، لكنه ليس بشرط، أما العلم بما تتطلبه الإمامة فلابد منه، إذ كيف يتصرف من لا يعلم المناسب من غير المناسب، وهل هذا لابد منه أو مما استغنى عنه، وما أشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 الشرط الثامن: (مكلفاً) يعني بالغاً عاقلاً، فلا يجوز أن نجعل صبياً له عشر سنوات خليفة على المسلمين؛ لأن من دون البلوغ مولى عليه، فكيف يكون والياً على المسلمين؟ حتى لو فرض أنه مراهق، وأنه ذكي فإنه لا يصح أن يتولى إمامة المسلمين لنقصه. وإن كان مجنوناً فمن باب أولى ألا يجوز به، فلا يعقل أن نجعل الرجل المجنون خليفة على المسلمين، فيوماً يجلب عليهم بلية، ويوما يأمرهم بطامة، فلابد أن يكون بالغاً عاقلاً. الشرط التاسع: (ذا خبرة) ، والخبرة هي العلم ببواطن الأمور، وهي أخص من قوله فيما سبق: (عالما) ، وهي أن يكون ذا خبرة في أساليب الحكم، ومنها أن يكون ذا خبرة فيما يتعلق بالجهاد، من السلاح وغير ذلك. وهذه الشروط كما سبق أن قلنا شروط في الابتداء، إلا الإسلام فإنه شرط في الابتداء والدوام. الشرط العاشر: (وحاكما) وهذا الشرط يعني أن له قوة شخصية حتى يحكم تماماً؛ لأن من الناس من يكون له علم وخبرة وعدالة ومن قريش وغير ذلك من الشروط، لكنه ليس بحاكم، يلعب به في الحكم، فيكون حاكماً بلا حكم، ولا فائدة منه حينئذٍ، فلابد أن يكون حاكماً؛ أي ذا شخصية يستطيع بها تنفيذ حكمه. فهذه شروط عشرة للإمامة؛ واحد منها شرط للابتداء والاستمرار، وهو الإسلام، ويلحق به أيضاً العقل إذ لابد منه، فلو جن فإنه يجب عزله، وإقامة غيره، لكن إذا فسق بعد العدالة، أو ضعف لكنه يستطيع تدبير الحكم، فإنه لا تزول ولايته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:: 178- فكن مطيعاً أمره فيما أمر ... ما لم يكن بمنكر فيحتذر   الشرح قوله: (كن) يعني أيها الإنسان، (مطيعاً أمره) أي أمر الإمام، (فيما أمر) يعني في كل ما أمر به؛ لأن (ما) اسم موصول، واسم الموصول يفيد العموم، أي في جميع ما يأمر به، (ما لم يكن بمنكر) فإن أمر بمنكر فلا طاعة له. والنصوص في هذا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معلومة مستفيضة مشهورة. من ذلك قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: الآية59) ، ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أمر)) (1) ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)) (2) وغير ذلك كثير. وتعليل ذلك انه لو عصي الإمام لصار الناس فوضى؛ إذ لا فائدة في أمام لا يؤتم به. فلابد من طاعة ولي الأمر. لكنه يقول: (ما لم يكن بمنكر) والمنكر نوعان: إما فعل محرم وإما ترك واجب، فلو أمر بترك الواجب، وقال: لا تصلوا مع الجماعة مثلاً. فإنه يقال: لا سمع ولا طاعة، ونصلي مع الجماعة.   (1) رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ... ، رقم (7144) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء ... ، رقم (1839) . (2) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ... ، رقم (1847) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 ولو أمر بمنكر بأن قال مثلاً: يا فلان في البلد نصارى كثيرون، والنصارى لا يحرمون شرب الخمر، فافتح لهم معملاً للخمر حتى يشربوا، كما أنك تشرب المرطبات، وما أشبهها، فلا يطاع في ذلك حتى ولو أمر به؛ لأن هذا معصية لله عز وجل، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: الآية59) فلم يعد الفعل مع أولي الأمر، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، فدل ذلك على أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله، فإذا أمروا بالمعصية فلا سمع ولا طاعة. أما إن اكرهوا على المعصية، مثل أن يقولوا: احلق لحيتك وإلا حبسناك، فإنه تباح المعصية للإكراه؛ لأن الله أباح الكفر للإكراه، لكن بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، فهنا أيضاً المعصية إذا أُمرت بها وأكرهت عليها فافعل، بشرط أن يكون قلبك مطمئناً بأن هذا معصية لله، ولولا الإكراه ما فعلت. وهذا من رحمة ارحم الراحمين سبحانه وتعالى، إن الإنسان عند الإكراه يفعل ما اكره عليه. لكن إذا اكره الإنسان على الفعل فهل يفعله دفعاً للإكراه أو يفعله للإكراه؟ قال بعض العلماء: لابد أن ينوي أنه يفعله دفعاً للإكراه لا للإكراه ولكن الصحيح أنه ليس بشرط أن يفعله دفعاً للإكراه، بل الشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالأيمان وبحكم الله عز وجل؛ لأن كونه يريد بذلك دفع الإكراه لا يتسنى لكل أحد، فلا يتسنى إلا لطالب علم يعرف، ثم إن طالب العلم قد يكون المقام لهوله وشدته منسياً له عن هذه الإرادة، فالصواب أنه يفعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 للإكراه لا اختياراً له، لا لدفع الإكراه. والفرق أن فعله لدفع الإكراه يعني لا يريد به إلا أن يدفع إكراه هذا الرجل ولا يريد الفعل، أما فعله للإكراه فيعني أنه يريد الفعل، لكن لأنه مكره لا اختياراً للفعل، فالأول لم ينو الفعل أصلا ًإنما هو مدافع فقط أي يدافع الإكراه، والثاني نوى الفعل لكن من أجل الإكراه وقلبه مطمئن. وهناك مرتبة ثالثة وهي أن يفعل الفعل مع الاطمئنان إليه فهذا له حكم الفاعل بدون إكراه. وقد يقول قائل: إن هذه مسألة فرضية ولا يمكن أن توجد. لكن نقول: أنها قد توجد، فقد يكون الرجل يكره المعصية التي أمر بها، لكن يجعل الإكراه سبباً مبيحاً، فهو يريد المعصية لكنه قبل الإكراه لا يفعلها، فيجعل الإكراه سبباً لاستباحتها. مثال ذلك: لو فرضنا أن رجلاً يحب الزنا والعياذ بالله ويريده، لكن ما دام لم يحرض فهو مجتنب له، فإذا جاء أحد يكرهه سواء من المرأة نفسها أو من غيرها، فعله حباً له وتعلل بأنه مكره، وهذا أمر يقع. ولذلك قال الفقهاء رحمهم الله: إن الرجل إذا اكره على الزنا فزنى فإنه تجب إقامة الحد عليه، ولو أكرهت المرأة لم تجب إقامة الحد عليها، وعللوا ذلك فقالوا: لأن الرجل لا يمكن أن يجامع إلا إذا انتشر ذكره، ولا انتشار إلا بإرادة، فكأن هذا الرجل يريد الزنا لكنه يخشى من اللوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة هذه الأمة، ورمز شرفها وفضلها، لقول الله تبارك وتعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: الآية110) ، وقال تعالى في بني إسرائيل: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) (المائدة: الآية79) حتى إن بعض العلماء ذكره من أركان الإسلام هو والجهاد، وذلك لأنه أمر عظيم لا تقوم الأمة إلا به، ولا يحصل الائتلاف إلا به، قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104) (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105) فدل ذلك على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجب للاختلاف، وهذا ظاهر لأننا إذا جعلنا كل واحد يعمل كما شاء تفرقت الأمة. فإذا التزمت الأمة جميعاً على العمل بدين الله ائتلفت واتفقت، وهذا هو السر في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: الآية105) بعد قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) . ولابد هنا أن نعرف ما هو المعروف وما هو المنكر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 أما المعروف: فهو ما عَرفه الشارع وأقره وأمر به؛ فكل ما أمر الله به فهو معروف. والمنكر: هو ما نهى الله عنه، فكل ما نهى الله عنه فإنه منكر، يعني وهو منكر؛ لأن الشرع أنكره والنفوس السليمة والعقول المستقيمة كذلك تنكره. قال بعض العلماء: إن الله ما أمر بشيء فقال العقل: ليته لم يأمر به وما نهى عن شيء فقال العقل: ليته لم ينه عنه، وهذا يعني أن المأمورات موافقة ومطابقة للعقول الصريحة، وكذلك المنهيات، لكن العقل لا يمكن أن يحيط بتفاصيل المصالح والمفاسد حتى يستقل بالأمر والنهي، ولذلك لابد من الشرع، والإنسان إذا لم يقس الأمور بالشريعة ضل. أما حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض كفاية، إن قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإن لم يقم به من يكفي تعين على الجميع، لقول الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) و (من) هنا قيل: إنها للتبعيض، يعني وليكن بعضكم، وقيل: إنها لبيان الجنس، فتكون للعموم، يعني كونوا أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله. وإذا تتبعت موارد الشريعة عرفت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، لكن من رأى المنكر فلينه عنه، ومن رأى الإخلال بالمعروف فليأمر به، ومن رأى من ينهى عن منكر فلا يجب أن ينهى هو أيضاً عنه؛ لأنه حصل بهذا الناهي الكفاية، إلا إذا رأينا الذي أنكر عليه لم يمتثل، فحينئذٍ يتعين أن يساعد هذا الناهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 179- واعلم بان الأمر والنهي معا ... فرضا كفاية على من قد وعى 180- وإن يكن ذا واحد تعينا ... عليه لكن شرطه أن يأمنا   الشرح من المعلوم أنه إذا صُدرت الجملة باعلم فهو دليل على الاهتمام بها والعناية بها، ومن ذلك قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (محمد: الآية19) ، وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 98) وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ) (الحديد: الآية20) فالمؤلف رحمه الله هنا صدر حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله (واعلم) يعني أيها المخاطب (بأن الأمر والنهي معاً) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (معاً) أي جميعا، (فرضا كفاية) ؛ (فرضا) : خبر أنَّ مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، وقد قيل إن مثل هذا التعبير غير صحيح، وذلك لأن فرض مصدر والمصدر لا يجمع ولا يثنى حتى وإن وقع خبراً أو وقع وصفاً، قال ابن مالك رحمه الله: ونعتوا بمصدر كثيرا ... فالتزموا الإفراد والتذكيرا لكن يسهل تثنيته أو جمعه أنه بمعنى اسم المفعول، واسم المفعول يجمع ويثنى ويفرد، فمعنى فرضا كفاية: أي مفروضاً كفاية، وعلى هذا سهل أن يثنى وهو مصدر. وقوله: (فرضا كفاية) معناه أن المقصود حصول الفعل بقطع النظر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 الفاعل، فإذا وجد الفعل فلا يهمنا أن يكون الفاعل واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر، المهم أن هذا الفعل يوجد، ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقصد إيجاده فقط بقطع النظر عن القائم به، وحده أهل العلم بقولهم فرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين. واختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل فرض الكفاية أو فرض العين؟ فقال بعضهم: فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن نفسه وعن غيره، وأما فرض العين فلا يقوم به إلا عن نفسه فقط. ولكن الصحيح أن في ذلك تفصيلاً؛ فأما من حيث التأكد ومحبة الله للفعل ففرض العين أفضل، ولذلك أوجبه الله على كل واحد. وأما من حيث إن القائم بفرض الكفاية قام عن الباقين فهو أفضل؛ لأنه اسقط به الفرض عن نفسه وعن غيره. وقوله: (على من قد وعى) أي على من كان واعياً، أي عاقلاً، ولم يذكر المؤلف رحمه الله إلا شرط العقل، ويمكن أن يقال: بل المراد بالوعي ما هو أعم من العقل، فالمراد العاقل العالم، وذلك لأن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر مما ذكره المؤلف رحمه الله؛ فمن الشروط ما يلي: الشرط الأول: أن يكون الإنسان عالماً بأن هذا منكر، يعني أنه قد أنكره الشرع، فلا يجوز أن يحكم بالذوق أو بالعاطفة أو ما أشبه ذلك؛ لأن المرجع في هذا إلى الشرع، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: الآية36) ونضرب مثلاً لذلك بأنه أول ما ظهرت مكبرات الصوت في المساجد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 أنكرها بعض الناس، وقال: إن هذا حرام فهذا بوق اليهود تماماً، ونحن إذا صلينا واستخدمناه فإننا نتشبه باليهود في عبادتنا ولكن الصواب أن هذا ليس من أبواق اليهود، وليس هذا إلا نقل الصوت على وجه أوسع فقط، وكما أن الإنسان يضع نظارة على عينه فتكبر الحروف، فإنه هنا يضع إمامه لاقطة تكبر الصوت، ولا فرق. إذاً فلابد أن يعلم من ينهى أن هذا الذي ينهى عنه محرم، حتى إننا رأينا أيضاً من يقول: إنه يحرم على الإنسان تحريماً باتا قاطعاً أن يستمع إلى القرآن من الشريط المسجل؛ لأن الشريط المسجل ليس له أجر، وأنت لابد أن تستمع إلى إنسان يؤجر فتؤجر معه، وهذه تعاليل عليلة، ثم يذهب هؤلاء ينكرون حتى على أهلهم إذا دخلوا بيوتهم ورأوهم يستمعون إلى القرآن وهذا غير صحيح. إذاً لابد أن نعلم أن هذا الذي ننكره أنكره الشرع، ثم إننا إذا رأينا من يفعل منكراً في رأينا، لكنه ليس منكراً عند غيرنا، ونحن نعلم أن هذا الرجل الذي تلبس بما نراه محرماً يرى أنه حلال، فإنه لا يلزمنا أن ننكر عليه ما دامت المسألة فيها مجال للاجتهاد. مثال ذلك: إذا رأينا رجلا يرمي الجمرات في الليل، ونحن نرى أنه لا يرمى بالليل في أيام التشريق، وكنا نعرف أن هذا الرجل يرى أنه يجوز الرمي ليلاً، فلا يجب علينا أن ننكر عليه؛ لأن المسألة فيها مجال للاجتهاد فلا ننكر عليه. وكذلك إذا رأينا رجلا يشرب الدخان، وهو يرى بدليل شرعي أنه حلال، فلا يجب أن ننكر عليه ما دمنا نعلم أنه يقول: إنه حلال؛ لأن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 فيه مجال للاجتهاد. وكذلك إذا رأينا امرأة كاشفة وجهها، وهي ترى أنه يجوز كشف الوجه للرجال الأجانب فلا ينكر عليها لأنها تعتقد أن هذا هو الدين، لكن لنا أن نمنعها إذا كانت في بلد محافظ وأهله يرون أنه لابد من تغطية الوجه، ولا يكون ذلك من جهة أنه حرام عليها في الشرع لأنها تعتقد أنه حلال، لكن من جهة أن هذا يفسد علينا النساء. ولهذا قال العلماء رحمهم الله: يجوز أن نقر أهل الذمة على شرب الخمر ما لم يعلنوه في أسواقنا، فإن أعلنوه منعناهم للإعلان لا لأنه حرام؛ لأنهم معتقدون أنه حلال، وهذه المسألة يجب التفطن لها. صحيح أننا لا ننكر على غيرنا اجتهاده ما دامت المسألة فيها مساغ للاجتهاد، لكننا نمنع ما يكون ضرراً علينا. إذاً لابد أن نعلم أن هذا الذي ننكره منكر، ولابد أيضاً أن يكون الذي ننكر عليه يرى أنه منكر، فإن كان لا يرى أنه منكر، وهو مما يسوغ فيه الاجتهاد فإنه لا يلزمنا أن ننهى عنه؛ لأن الدين يسر، والصحابة رضي الله عنهم وهم أجل منا قدراً وأحب للائتلاف والاجتماع منا، لا ينكر بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، وإن كان الحاكم منهم الذي يتولى الحكم قد ينكر على غيره الاجتهاد خوفاً من أن يشيع في المجتمع، كما أنكر أحدهم على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مسألة المتعة؛ لأن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرى جواز المتعة للضرورة، ولكن القول الذي عليه أهل العلم - عامتهم أو أكثرهم - أنه لا يجوز للضرورة؛ لأنه يمكن للإنسان أن يعقد النكاح عقداً شرعياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 الشرط الثاني: أن نعلم أن هذا الفاعل فاعل للمنكر وهو منكر في حقه؛ لأنه قد يكون منكراً عندنا وعنده، ولكنه في حال يباح له أن يمارس هذا المحرم، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: الآية36) مثال ذلك: ((إنسان يأكل لحم ميتة)) عند الجميع، لكن هذا الرجل مضطر إن لم يأكل مات، فلا ننكر عليه إذا أكل، إذاً لابد أن نعلم أن هذا الفاعل للمنكر قد فعله وهو منكر في حقه. وكذلك نقول في الأمر بالمعروف: إنه لابد أن نعلم أن هذا التارك للمعروف تركه وهو معروف في حقه، ولهذا لما دخل الرجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وجلس، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بداية، بل سأله صلى الله عليه وسلم أولاً قال: ((أصليت؟)) قال: لا (1) إذاً لا نأمر بالمعروف حتى نعرف أن هذا الذي تركه في حال يؤمر فيها؛ لأنه قد تقول لرجل دخل المسجد: قم صل، فيقول صليت، ففي هذا تسرع والأولى أن تسأله أولاً. ومثل ذلك يقال في الواجب؛ فلو أن رجلاً أكل لحم إبل، وقام يريد أن يصلي، وترك الوضوء مع أن وضوءه من لحم الإبل معروف، فإذا كنت أعلم أن يرى أنه لا يجب الوضوء منه فلا آمره؛ لأنه يقول: أنا لا أرى الوجوب. إذاً لابد أن نعلم أن هذا التارك للمعروف يرى أنه معروف، أما إذا كان   (1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره ... ، رقم (930) ، ومسلم، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، رقم (875) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 لا يرى أنه معروف، ويقول: الأمر ليس للوجوب فلا آمره. لكن لي أن آمره على سبيل الاستحباب، فأقول: يا أخي أنت ترى أنه ليس واجباً، لكن الاحوط والأولى بك أن تتوضأ. الشرط الثالث: ألا يتغير المنكر إلى ما هو أنكر منه، وفي هذا القمام تكون أربعة أحوال إذا نهينا عن المنكر: إما أن يزول بالكلية إذا نهينا عنه، أو يقل، أو يتغير إلى منكر مساوٍ له أي مثله، أو يتغير إلى أشد. فإذا كان يزول بالكلية أو يقل فالنهي عن هذا المنكر واجب؛ لأن إزالة المنكر والتقليل منه واجب، فيجب أن ننهى. أما إذا كان يتغير إلى مثله؛ مثل لو نهينا شخصاً عن السرقة من آخر فذهب يسرق من ثالث، فهنا تغير المنكر لكن إلى مثله مساوٍ له، فهنا لا ننهاه ما دمنا نعلم أنه لابد أن يفعل. ولو أن هناك سلطاناً جائراً يريد أن يضرب ضريبة على التجار، فضرب على رجل فنهيناه عن الضريبة لأنها حرام، فقال: حرام أن نأخذ من هذا إذاً نأخذ من آخر، فهذا لا ننهاه؛ لأنه لا فائدة من النهي. ولو قال قائل: إلا يمكن أن يكون تغيره من حال إلى حال سببا لإقلاعه عنه؟ قلنا: إن صح ذلك وجب النهي، أما إذا لم يصح فيقال: ليس بواجب. لكن هل يخير الإنسان بين أن ينهى أو يترك؟ وأيهما أرجح النهي أو الإمساك؟ ، الظاهر أنه ينظر إلى المصلحة. أما إذا كان المنكر يتغير بالنهي إلى أنكر منه، فإنه لا ينهى عنه، وذلك مثل أن نرى رجلاً أحمق ينظر إلى النساء، ونعلم إننا لو نهيناه عن النظر إلى النساء لذهب يغمزهن، فهذا الثاني أنكر من الأول، ولهذا فإننا لا ننهاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 عن النظر. ويدل لهذا قوله تبارك وتعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: الآية108) وجه الدلالة في الآية أن سب آلهة المشركين خير وواجب، فإذا كان يتضمن شراً أكبر منه ترك سبهم، ولما كان سب آلهة المشركين يؤدي إلى أنهم يسبون المنزه عن كل عيب وهو الله عز وجل؛ يسبونه عدواً بغير علم، ونحن إذا سببنا آلهتهم سببناها حقاً بعلم؛ وسببناها عدلاً بعلم وليس عدواً بغير علم، لكن لما كان هذا يتضمن شراً أكبر نهى الله عنه. وقد مر شيخ الإسلام رحمه الله وصاحب له بجماعة من التتار يشربون الخمر ويسكرون، وكان شيخ الإسلام رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم فقال له صاحبه: لماذا لم تنههم؟ قال: هم الآن يشربون الخمر وضررهم على أنفسهم، لكن لو نهيناهم وصاروا منتبهين، ذهبوا يقتلون رجال المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويعتدون على أعراضهم (1) ، وهذا أعظم ضرراً من شربهم الخمر، فتركهم يشربون الخمر حتى لا يعتدوا على المسلمين، وهذا من فقهه رحمه الله، وهذا واضح عند التأمل، وليس فيه إشكال. والحاصل أن يشترط إلا يتحول المنكر إلى ما هو أنكر منه، فإذا كان كذلك حرم النهي؛ لأن كونه ينتقل إلى مفسدة أعظم هذا حرام. فالشروط إذا هي: أولاً: العلم بأن هذا منكر.   (1) انظر اعلام الموقعين 3/16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 ثانياً: العلم بحال الرجل وأنه ارتكبه وهو منكر في حقه. ثالثاً: العلم بأنه ارتكب منكراً، وهذا غير العلم بأنه ارتكب منكراً في حقه. رابعاً: ألا يتغير إلى أنكر منه، فإن تغير إلى أنكر منه فإنه لا يجوز أن ينكر. وقول بعض العلماء رحمهم الله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، مبني على ما ذكرنا من الشروط؛ وذلك لأن المسائل الاجتهادية ليس فيها إنكار ما دام يسوغ فيها الاجتهاد، أما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فإنه ينكر على فاعله، ولو قال: لقد أدى بي اجتهادي إلى كذا وكذا، يقال: لا محل للاجتهاد والنص في صريح. فلو قال قائل في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (المائدة: الآية3) لا حرج في أكل ميتة الظبي والأرنب لأن الله تعالى قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (المائدة: الآية3) بعد أن قال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) (المائدة: الآية1) فيكون معنى الآية حرمت عليم الميتة من بهيمة الأنعام، وزعم أنه مجتهد في ذلك؟ فيجاب عليه بأن هذا لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ لأن العلماء رحمهم الله مجمعون على أن جميع الميتات حرام، وما لا يسوغ فيه الاجتهاد لو زعم فاعله أنه مجتهد فيه، قلنا له: لا قبول. والذين أنكروا صفات الله عز وجل إما كلية أو جزئية، ننكر عليهم. فإذا قالوا: هذا اجتهادنا، وعقولنا ترفض أن تكون لله عين أو يد أو وجه أو قدم، نقول: إن المرجع في الأمور الغيبية إلى النقل المجرد لا إلى العقول، فالشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 الغيبي عنك كيف تحكم عقلك فيه؟! ثم هو شيء غيبي أيضاً لا يمكن إدراكه، قال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: الآية110) فهذا لا يسوغ فيه الاجتهاد، ثم أين الاجتهاد في هذا في عهد الصحابة رضي الله عنهم التابعين؟ وعلى ذلك فقول بعض العلماء: ((لا إنكار في مسائل الاجتهاد)) ليس على إطلاقه، بل المراد ما يمكن أن يجتهد فيه، وأما ما لا يمكن ففيه الإنكار. الشرط الخامس: القدرة، وفي ذلك يقول المؤلف: (لكن شرطه أن يأمنا) فيشترط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القدرة، وهذا شرط في جميع العبادات، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: الآية16) وقوله الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: الآية286) ، وقوله تعالى في المسألة الخاصة: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: الآية97) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة الخاصة لعمران بن حصين: ((صل قائما، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك)) (2) . إذا الدليل على هذه المسألة من القرآن قواعد وأمثلة، فالقواعد: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، و (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) ، والأمثلة: مثل الحج قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ   (1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (7288) ، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم (1337) . (2) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، رقم (1117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 سَبِيلاً) . وفي السنة: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك)) ، وهناك أيضاً أمثلة أخرى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور: الآية61)) ، و (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: الآية91) وذكر الله الهجرة وتوعد على من تركها: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 98) (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) (النساء: الآية99) . والمهم أن هذه القاعدة لها أمثلة في القرآن والسنة، ومن جملة ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لابد فيه من الاستطاعة؛ فمن لم يستطع أن يأمر وينهى سقط عنه؛ إما لكونه رجلا ًعاجزاً عن القول والإشارة، أو لكونه قيل له: إنك إن أمرت بمعروف أو نهيت عن المنكر قصصنا لسانك أو سجناك، فهذا عاجز تسقط عنه الواجبات. إذا شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خمسة؛ شرط عام في كل عبادة وشروط خاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشرط العام هو القدرة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (شرطه أن يأمنا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 ثم قال رحمه الله تعالى: 181- فاصبر وزل باليد واللسان ... لمنكر واحذر من النقصان   الشرح قوله رحمه الله: (فاصبر) ، الصبر: حبس النفس عن التسخط وعن الحجام، فلا تحجم ولا تتسخط، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: في سورة لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17) فلابد من صبر. وإنما أمر الله بالصبر عند ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشارة إلى أن الآمر والناهي سوف يلقى الأذى، وربما يلقى الضرر، فيقال للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مثلاً: هذا متشدد، هذا مطوع، ويقال هذا على سبيل السخرية، وسيتكلم الناس عليه بكلام كثير. فموقف الآمر الناهي في ذلك كله هو الصبر، وليعلم أنه ما أوذي أذية في ذلك إلا كتب الله له فيها أجراً، وقربه إلى العاقبة الحميدة، لأن الله تعالى قال: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (هود: 49) . وكلما اشتد الأذى قرب الفرج، ومعنى قرب الفرج: أن يفرج الله عنه معنى وحساً، أما التفريج حسا فظاهر؛ بأن يزول عنه الكبت والمنع والأذى، وأما معنى - وهو أهم - فبأن يشرح الله صدره، ويعطيه الطمأنينة في قلبه، ويصبر ويحتسب، ويرى العذاب في ذات الله عذباً. ويقال إن شيخ الإسلام رحمه الله لما حبسوه وأغلقوا عليه الباب، قال (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 (الحديد: الآية13) وقال رحمه الله: ((ما يصنع أعدائي بي؛ إن حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة)) أي حال يفعلونها بي فهي خير لي. وهذا أيضاً مما يفرج الله به عن الإنسان إذا كبت وأوذي وعذب في ذات الله، فمن أقوى التفريج عنه أن يشرح الله صدره لما وقع عليه، وكأن شيئاً لم يكن. لذا نقول للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: اصبر على الأذى فالفرج قريب، ولا تيأس من رحمة الله، أنت تقاتل بسيف الله، وإنك تدعو بدعوة الله، فاحتسب، ولو شق عليك نفسياً أو جسمياً فاصبر واصبر. قوله (وزل باليد واللسان) زل أصلها أزل (لمنكر واحذر من النقصان) هذا مرتبة أخرى غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي مسألة التغير، والتغير ليس كالأمر والنهي. ولكي يتبين لنا الفرق بين الأمر أو النهي والتغيير نضرب مثالاً بشخص رأى آخر معه زمارة من آلات اللهو؛ يزمر بها ويرقص عليها، فقال له: يا فلان اتق الله، هذا حرام ولا يحل، فهذا نسميه نهياً عن المنكر، وإذا جاءه مرة أخرى فرآه أيضاً معه الزمارة فأخذها وكسرها، فهذا يسمى تغييراً، إذاً فمقام المغير أقوى من مقام الآمر والناهي. وكذلك إذا رأيت رجلاً لايصلي مع الجماعة مع وجوبها عليه، فقلت له: يا أخي اتق الله وأقم الصلاة مع المسلمين، فهذا يسمى أمراً بالمعروف، ثم إذا جئت مرة ثانية ووجدته لم يخرج من بيته فقرعت الباب عليه، فإذا أبى كسرت الباب ثم جررته إلى المسجد، فهذا تغيير. لكن هذا الأخير ليس كل أحد يطيقه على خلاف الأول، فكل أحد يطيقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 إلا ما ندر، ولهذا جاء التعبير النبوي: ((فإن لم تستطع)) ولم يأت حديث واحد فيه: (مروا بالمعروف فإن لم تستطيعوا) فدل ذلك أن التغيير شيء والأمر شيء آخر. وقوله: (فاصبر وزل باليد واللسان) واليد في وقتنا هذا لا تكون إلا من ذي سلطان، وإنما كان الأمر كذلك لئلا يصبح الناس فوضى. وعلى كل حال فنحن نقول: إن التغيير شيء لا يكون إلا من ذي سلطان وهو حق؛ لأنه لو جعل التغيير باليد لكل إنسان لأصبح من رأى ما يظنه منكراً منكراً عنده، فأتلف أموال الناس من أجل أنه منكر، فمثلاً يرى بعض الناس أن المذياع منكر، فإذا مر هذا برجل قد فتح المذياع يسمع الأخبار، وقلنا غير باليد، فإنه يكسر المذياع مع أنه ليس له حق في أن يكسره. فلو جعل التغيير في وقتنا الحاضر لغير ذي سلطان لأصبح الناس فوضى، وتقاتل الناس فيما بينهم. ومنذ سنوات حدث أن دخل حاج من الحجاج إلى مسجد مطار جدة ومعه مذياع، فقام رجل حبيب طيب ينهى عن المنكر أمام المصلين، وقال: نعوذ بالله؛ يأتي أحدكم بالمذياع مزمار الشيطان ويجعله معه في المسجد ... وهو مذياع فيه تسجيل. فهذا لعله يسمع أخباراً يسجلها تنفعه، فقام الحاج يتكلم كلاماً عظيماً منبهراً: هل هذا حرام؟! نحن جئنا لنحج ولا نبتغي الحرام. فقلت لهم: اطمئنوا فإنه حلال إن شاء الله، لكن إياكم أن تفتحوه على الأغاني والموسيقى، فإن هذا حرام، أما الأخبار والقرآن والحديث فهذا ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 فيه شيء، فالقرآن والحديث طيب والأخبار من الأمور المباحة، فأقول: إن بعض الناس يظن ما ليس منكراً منكرا، فلو قلنا: غير باليد، كسر هذا المذياع أو المسجل أو الذي يرى أنه منكر. ولهذا نقول: الإزالة باليد أو التغيير باليد في الوقت الحاضر لايكون إلا من ذي سلطان، والسلطان من أعطاه ولي الأمر صلاحية في ذلك، وعلى هذا فرجال الحسبة الموجودون عندنا يكون لهم السلطة. وقوله: (فاصبر) ، اصبر أمر بالصبر، لأن المقام يحتاج إلى الصبر ولهذا قال الله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) .... وزل باليد واللسان ... لمنكر واحذر من النقصان هذه مراتب التغيير غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سبق أن هناك ثلاث مراتب؛ الدعوة والأمر والنهي والتغيير. فالدعوة أن يدعو الإنسان إلى الله عز وجل ترغيباً وترهيباً، دون أن يوجه أمراً معينا لشخص معين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما يوجه إلى شخص معين أو طائفة معينة وما أشبه ذلك، لكن فيه أمر؛ افعلوا، اتركوا. فلو قام رجل بعد صلاة الظهر مثلاً يدعو الناس، ويرشدهم إلى الله؛ يبين الحق ويرغب فيه ويبين الباطل ويحذر منه، فإن هذا يقال: إنه داع إلى الله، ولو رأينا رجلاً يقول لشخص: يا فلان افعل كذا، يا فلان اتق الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 اترك كذا؛ فإن هذا آمرٌ وناهٍ. أما التغيير فهو أن يغير الإنسان منكراً بنفسه، بأن يكون دعا صاحب المنكر إلى تركه ولكن أبى، أو أمر تارك المعروف أن يفعله ولكن أبى، فهذا يغير؛ بأن يُضرب ويحبس ويكسر آلة اللهو وما أشبه ذلك. وقد قيد الرسول عليه الصلاة والسلام التغيير، ولم يقيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ((والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا)) (1) ، وما قال: إن استطعتم، لكن قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه)) (2) إذاً فالتغيير غير الدعوة والأمر أو النهي؛ فالتغيير فيه سلطة وقدرة، والأب في بيته داعٍ آمر مغير، لأن له سلطة، ورجل الحسبة في المجتمع داعٍ وآمر ومغير، لكن ليس التغيير لكل أحد، فما كل أحد يستطيع أن يغير، فقد يغير الإنسان ويلحقه من الضرر ما لا يعلمه إلا الله، بل يلحق غيره أيضاً ممن لم يشاركه في التغيير كما هو الواقع. ولهذا قال المؤلف رحمه الله هنا: (زل باليد) أي غير باليد، فإن لم تستطع قال: (واللسان) ، والمؤلف رحمه الله رتبها ترتيباً محلياً لا لفظياً، فلم يأت بثم الدالة على الترتيب، أو بالفاء، أو ما أشبه ذلك، لكن تقديم بعضها على بعض يدل على الترتيب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الصفا والمروة من شعائر الله. أبدا بما بدأ الله به)) ، مع أن الله قال: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (البقرة: الآية158) ولم يقل ثم المروة. إذاً فالأول: التغيير باليد، والثاني: التغيير باللسان.   (1) رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم (4336) (2) تقدم تخريجه ص 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 والتغيير باللسان ليس أن تقول: يا فلان لا تفعل هذا اتق الله، بل أن تنتهره، وأن تريه سلطة وقدرة استعلاء بالحق، فهذا التغيير باللسان. ثم قال المؤلف رحمه الله: (لمنكر واحذر من النقصان) - النقصان هو أن تغير بالقلب؛ لأنه اضعف الإيمان. لكن هل الإنسان يمكن أن يغير بالقلب؟ ، الجواب: نعم، يمكن؛ بالكراهة للمنكر وعدم مخالطة فاعليه، لقول الله تبارك وتعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (النساء: الآية140) إنكم إذاً - أي إذا قعدتم - مثلهم. فإذا فرضنا أن قوماً يلعبون الشطرنج ومعهم رجل صالح، فقال: يا قوم اتقوا الله، هذا حرام لا يجوز، قالوا: لن ندع هذا، فلا يجوز أن يجلس معهم، لكنهم إذا قالوا له: إن خرجت سنفعل بك كذا وكذا فجلس، فلا يأثم لأنه مكره على الجلوس، فإن قال: أنا لم اكره على الجلوس لكن أخشى إن ذهبت أن يقع بيني وبينهم عداوة، فإننا نقول له: وليكن، إنك إذا عاديتهم لله، فإنه لا يضرك، فإن قال: أخشى أن يقع بيني وبينهم قطيعة رحم، فنقول: لا يقع بينك وبينهم قطيعة رحم، صلهم أنت فإن صلة الرحم من قبلك ممكنة، وليست متعذرة، وأنت إذا وصلتهم وهم يقطعونك فكأنما تسفهم المل، كما جاء في الحديث (1) . فالحاصل أن التغيير له ثلاث مراتب؛ الأول باليد والثاني باللسان والثالث بالقلب، ومعنى التغيير بالقلب: الكراهة وعدم المخالطة.   (1) رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم (2558) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 182- ومن نهى عما له قد ارتكب ... فقد أتى بما به يقضى العجب   الشرح قوله: (من) شرطية، و (فقد) جواب الشرط، (عما له قد ارتكب) في بعض النسخ (عن ما) وهذا غلط،؛ لأن ألذ يقرؤها على هذا يحسبها عن ماله، وقوله (ومن نهى عما له قد ارتكب ... الخ) ، أي: عن الذي هو يرتكبه، وهنا يقصد المؤلف أن من ينهي عن شيء وهو يرتكبه، فإنه فعل ما يدعو إلى العجب. فمثلاً إذا نهى الإنسان عن شيء يرتكبه، مثل أن يرى رجلاً يتعامل بالربا فيقول له: يا فلان اتق الله ولا تتعامل بالربا، فإن الربا من كبائر الذنوب، وهو نفسه له محل يتعامل بالربا فيه، هذا عجب، وهذا يقضى به العجب إذ كيف ينهى عن شيء هو يفعله؟! ولو كان باطلاً ما فعله، وإن فعله وهو يعتقد أنه باطل فهو سفيه، لقول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة: 44) ، وقال تعالى لهذه الأمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 2) (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3) .، فهذا من كبائر الذنوب. ولهذا يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار حتى تندلق اقتاب بطنه - يعني أمعاءه - فيدور عليها كما يدور الحمار على رحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ! ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) (1) وهذا   (1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، رقم (3267) ، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله ... ، رقم (2989) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 وعيد شديد نسأل الله العافية، وفضيحة وعار، وكذلك يكون هو أول من تسعر به النار يوم القيامة. نسأل الله العافية. ويقول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم والمهم أن الإنسان الذي يأتي بشيء ينهى عنه، هذا أتى مما به يقضى العجب، أو بما به يقضى العجب، إذ كيف يأمر بما لا يفعل أو ينهى عما يفعل. وإتيان المؤلف رحمه الله بهذا البيت أو بهذا الحكم بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يفيد أن من فعل ذلك لا يسقط عنه الأمر والنهي، فلو كان مبتلى بهذا الأمر ويفعله فلينته عنه، ولو أن إنساناً مبتلى بشرب المخدرات، وشارب المخدرات لا يكاد يقلع، وهو ينهى الناس عن المخدرات، فلا يقال له: ما دمت أنك تفعل اسكت، بل نقول له: اِنهَ الناس. إذاً لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان مخالفاً؛ لأنه إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المخالفة، يكن قد ترك واجبين؛ الأول: ترك المعصية التي يفعلها، والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنقول: وإن كنت لا تفعل المعروف فأمر به، وإن كنت تفعل المنكر فإن فعلك إياه لا يسقط عنك النهي عنه. فإنه عنه. فإذا قال قائل: كيف أنهى عنه وأُعرضُ نفسي للفضيحة وللوعيد في قول النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يلقى في النار فتندلق اقتاب بطنه (1) . فالجواب: إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذيراً من أن يأمر الإنسان ولا يفعل أو أن ينهى ويفعل، وليس مراده أن يحذر من أن يأمر بما لا يفعل وأن ينهى عما يفعل.   (1) تقدم تخريجه ص 711. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 183- فلو بدا بنفسه فذادها ... عن غيها لكان قد أفادها   الشرح قال المؤلف رحمه الله: (لو بدا بنفسه فذادها عن غيها) ولم يقل: فلو اعتنى بنفسه؛ يعني وترك الآخرين، لأن البداية لها نهاية، فيبدأ أولاً بنفسه ثم بغيره، وهذه هي الحكمة وهذا هو الترتيب الصحيح. لكن لو أصر هو على فعل المعصية فلا يمنعنه ذلك من ترك النهي عنها. وبهذا يكون قد انتهى الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأتت الخاتمة، نسأل الله حسن الخاتمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 الخاتمة 184- مدارك العلوم في العيان ... محصورة في الحد والبرهان 185- وقال قوم عند أصحاب النظر ... حسٌّ وإخبار صحيح والنظر   الشرح هذه مسائل مبنية على علم المنطق، والمؤلف رحمه الله أتى بها ملجأ إليها، وإلا فنحن في غنى عن المنطق فالصحابة رضي الله عنهم لم يدرسوا المنطق، ولا عرفوا المنطق، والتابعون كذلك. والمنطق حدث أخيراً، ولا سيما بعد افتتاح بلاد الفرس والرومان حيث انتشرت كتب الفلاسفة، ولا سيما أنها دعمت بعمل من الخلافة كما فعل المأمون، الذي قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله: لا اعتقد أن الله يغفل للمأمون عما صنع بهذه الأمة (1) ، أو كلمة نحوها والعياذ بالله، فقد جر الناس إلى سوء، ودعاهم إلى ضلاله، والله حسيبه. لكن علم المنطق كتب فيه العلماء رحمهم الله وحذروا منه، وممن كتب في الرد على المنطق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) ، فقد كتب في الرد عليهم كتابين أحدهما مطول والآخر مختصر؛ المطول: الرد على المنطقيين، والمختصر: نقض المنطق، وهذا الأخير أحسن لطالب العلم؛ لأنه أوضح وأحسن ترتيباً، وقد ذكر رحمه الله في مقدمة كتاب الرد على المنطقيين قال:   (1) انظر بيان تلبيس الجهمية 2/80. (2) انظر مجموع الفتاوى 9/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 ((إن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد)) ، فالبليد يبقى ساعات ليحل سطراً مما كتب فيه، والذكي لا يحتاج إليه، وإذا كان الذكي لا يحتاج إليه والبليد لا ينتفع به، إذاً فإن دراسته مضيعة وقت. وهذا الكلام من شيخ الإسلام يدل على أن أدنى أحواله الكراهة، والعلماء رحمهم الله اختلفوا فيه؛ فمنهم من حرمه ومنهم من قال: ينبغي أن يعلم، ومنهم من فصل، فقال: الإنسان الذي عنده منعة لا يؤثر على عقيدته فإنه ينبغي أن يتعلمه ليحاج به قومه، أي قوم المنطق، ومن لم يكن كذلك فلا يتعلمه لأنه ضلال. والصحيح أنه لا يتعلمه مطلقاً؛ لأنه مضيعة وقت، لكن إذا اضطر إلى شيء منه فليراجع ما اضطر إليه فقط، ليكون تعلمه إياه كأكل الميتة، يحل للضرورة وبقدر الضرورة، فإذا كان هناك اضطرار أخذ من علم المنطق ما يضطر إليه فقط، أما أن يتوسع ويضيع وقته فيه فلا. وذلك لأنه ما ادخل علم المنطق على المسلمين إلا البلاء، حتى أوصلهم إلى أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وينكروا على الله ما وصف به نفسه، فالمسألة خطيرة، والله عز وجل نزل الكتاب تبياناً لكل شيء، لا يحتاج الناس إلى شيء بعد كتاب الله، وأمر عند التنازع أن يرد إلى الكتاب والسنة، قال تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: الآية59)) . وقول المؤلف رحمه الله: مدارك العلوم في العيان ... محصورة في الحد والبرهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 يعني المؤلف رحمه الله بذلك أن الشيء يدرك بأمرين: حده ودليله؛ الحد في قوله: (في الحد) ، والدليل في قوله: (والبرهان) يعني الدليل، فكل المعلومات محصورة في الحد والدليل. والحد يكون به التصور، والدليل يكون به النفي أو الإثبات، والأسبق الحد، ولهذا يقال الحكم على الشيء فرع عن تصوره تصور أولاً ثم احكم بالإثبات أو بالنفي، وهذا حق لأنني مثلاً لا يمكن أن أقول إن الأمر بالمعروف واجب حتى أعرف ما هو المعروف وما معنى الأمر، فحينئذٍ أقول هو واجب، أما أن يقال لي: الأمر بالمعروف واجب، وأنا لا اعرف معنى الأمر ولا أعرف معنى المعروف، فهذا سبق للشيء قبل أوانه. وكثير من العلماء - ولا سيما الفقهاء - يحدون الشيء بحكمه، وعلى هذا فيتضمن الحكم الحد، لكن هذا عند المناطقة ممنوع، كما قيل: وعندهم من جملة المردود أن تدخل الأحكام في الحدود وقوله: (مدارك العلوم ... محصورة في الحد والبرهان) هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ أن جميع الأشياء محصورة بالحد والبرهان، وهذا في الأمور المعقولة قد يكون مقبولاً، أي أن نحد أولاً ثم نحكم ثانياً، لكن هناك أشياء لا تتوقف على العقل، بل تعرف بالحس، فإذا قلنا: إن مدارك العلوم محصورة في الحد والبرهان خرج عن هذا جميع المحسوسات، وهذا لاشك أنه نقص، لأننا نعلم بالحس أحياناً أكثر مما نعلم بالعقل، والحس يشترك في العلم به عامة الناس وخاصة الناس، والعقل لا يشترك فيه إلا من كان ذا عقل وذكاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 ولهذا قال: (وقال قوم) وهذا قول ثان (عند أصحاب النظر) أي من أصحاب النظر (حس وإخبار صحيح والنظر) أي قال قوم من العلماء رحمهم الله: إن مدارك العلوم ثلاثة: الحس، والخبر الصحيح، والنظر، وهو العقل، يعني أن الأشياء تدرك بواحدة من هذه الأمور الثلاثة. الحس: وهو ما يدرك بإحدى الحواس الخمسة، وهو السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، هذه الحواس ما أدرك بها فهو مدرك بالمحسوس، فإذا أخذت عسلاً فشربته أدركت حلاوته بالذوق، وإذا أخذت طيباً فشممته أدركته بالشم، وإذا رأيت شبحاً فأدركت أنه إنسان فبالبصر، وإذا سمعت صوتاً فأدركت أنه صوت فهو بالسمع، وإذا وقعت يدي على شيء لين فأدركت ليونته فهو باللمس. هذا لا شك أن كل إنسان يدركه حتى الصبي، بل حتى البهائم، فالبهائم إذا رأت الشيء الأخضر قربت منه على أنه علف، وإذا شمت الشيء فرت منه على أنه سيئ، ولهذا فإنك تقدم لها أحياناً طعاماً له رائحة منتنة، وطعاما بدون رائحة، فتجدها تأكل مما لا رائحة فيه، وتدع الذي فيه الرائحة المنتنة، كما أنك تشاهد البقرة وهي من أبلد البهائم تنفض العلف بفمها وتأخذ الشيء الطيب، كما تختار أنت التمرة الطيبة من التمر، فهذا الإدراك بالحس متفق عليه بين جميع المدركين من البهائم والآدميين. والإدراك بالحس أمر يقيني أحياناً، وظني أحياناً؛ فأحيانا تدرك الشيء يقيناً على ما هو عليه، وأحياناً تدركه ظنا، ولذلك يرى الإنسان الشبح البعيد فيظنه رجلاً فإذا دنا منه فإذا هي شجرة ملتفة على بعضها، وأحياناً يرى حيوانا بعيداً فيظنه ذئبا فإذا دنا منه فإذا هو غزال، وأحيانا يرى الشيء متحركا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 وهو ساكن، أو ساكنا وهو متحرك. إذا الإدراك بهذه الأمور الحسية لا يكون يقينياً على كل حال، بل يكون يقينياً وقد يكون ظنياً، وذلك حسب القوة والقرب. والإدراك الثاني: هو الإخبار الصحيح، فالإخبار الصحيح مما تدرك به العلوم، فنحن لم نعلم عما مضى من الأمم والرسل إلا عن طريق الخبر الصحيح، قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) (إبراهيم: الآية9)) ، فالذي أعلمنا هذا هو الله عز وجل، وكذلك الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي دلنا أن هناك ثلاثة من بني إسرائيل انطبق علهم الغار، وتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم هو النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح (1) . والثالث: النظر، والنظر يعني العقل، ولهذا يقال: أدلة نظرية، وأدلة أثرية، فالنظرية هي ما يدرك بالعقل، لأن في الاستدلال بالعقل ينظر الإنسان ثم يحكم، والأثرية ما اثر من الكتاب والسنة. وهذا القول أصح لكن هذا القول اخرج الحد، كأنه يقول: لا ضرورة للحد، كل أحد يعرف الإنسان، ولو سألت: ما هو الإنسان؟ كان الجواب عند القوم الأولين أن يقولوا: الإنسان حيوان ناطق، أما هؤلاء فيقولون: الإنسان، هو الإنسان، هذا معروف بالحس. أما أولئك فيقولون: الإنسان حيوان ناطق؛ حيوان لأن فيه حياة، ناطق لأن هذا هو الفصل المميز بينه وبين بقية الحيوانات؛ لأن كل الحيوانات بهيم   (1) رواه البخاري كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه ... ، رقم (2215) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 لأنها لا تنطق، لكنها مع ذلك فيما بينها تنطق وتعرف، حتى معنى الصوت، حتى إن الذكور إذا احتاجت الإناث أو بالعكس فلها نغمة غير نغمتها التي تحتاج إلى الطعام، حتى إن الهرة إذا نادت أولادها لها نغمة غير النغمة الأخرى، لأنها تنطق بكلام يفهم، ولذلك تجدها إذا وجدت طعاماً ثم نادت أولادها بصوت خاص اجتمعوا عليها. وكذلك الديك فإن له مناطق، فهو يؤذن وهذا معروف، ويقطقط إذا رأى هراً أو شيئا يستنكره، وهذا معناه احتجاج، وكذلك يدعو غيره إذا رأى حبة، فبعض الديكة عندها إيثار عظيم، فلو كان جائعاً جدا ثم رأى حبة فإنه ينادي الدجاج، ونداؤه للدجاج بنغمة خاصة. ومعنى ذلك أن كل شيء له منطق لكن نحن لا نفهمه، قال الله عز وجل: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء: الآية44)) . والمهم أن أصحاب القول الثاني يقولون: لا حاجة للحد لأن الأمور معروفة، لأنك ربما لو حددت شيئا على حسب قواعد المنطق جعلته خفياً على الناس، فأيهما أوضح: أن تقول: الإنسان بشر، أو تقول: الإنسان حيوان ناطق؟ ، لا شك أن الأول أوضح وأبين. فالحاصل أن هؤلاء يقولون: لا حاجة للحد؛ لأن الأمور معروفة إما بالحس وإما بالأخبار الصحيحة أو بالنظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 186- فالحد وهو أصل كل علم ... وصف محيط كاشف فأفتهم 187- وشرطه طرد وعكس وهو إن ... أنبا عن الذوات فالتام استبن 188- وإن يكن بالجنس ثم الخاصه ... فذاك رسم فافهم المحاصه   الشرح قوله: (فالحد) بدأ المؤلف بتعريف الحد تفريعاً على القول الأول، فقال: (فالحد وهو أصل كل علم) لكن قوله وهو أصل كل علم، فيه نظر، فمن الذي قال إنه أصل كل علم؟ بل من قال إن العلوم تفتقر إليه؟ ، لأن القول الثاني الذي ذكره يقول: إن الحد لا نفتقر إليه، فكيف نقول إنه أصل كل علم. ولهذا تجد هؤلاء القوم الذين يرون هذا يتعبون في صياغة الحد، فيأتي بجملة، ثم يأتي آخر فيقول: هذه غير جامعة، ومعنى غير جامعة أنه يخرج منها بعض الأفراد، ويأتي آخر بحد فيقول الثاني: غير مانع، ومعنى غير مانع أنه يدخل فيه ما ليس منه، فتجدهم يتعبون في صياغة الحدود، مع أنها أمر واضح، فنحن نقول: إن الحد لا شك أنه يبين في بعض الأحيان، ويوضح، لكن ليس لنا أن ندعي أنه أصل كل علم. فالحد (وصف محيط كاشف فأفتهم) وهذا تعريف الحد: (وصف محيط) أي جامع، (كاشف) يعني مانع، فلابد أن يكون جامعاً مانعاً، هذا هو الحد. فإذا قلت: ما هي الطهارة؟ فالطاهرة على الرأي الثاني هي: أن يتنظف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 الإنسان مما ينبغي أن يتنظف منه، وعلى الرأي الأول، فالطهارة هي: ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث. فارتفاع الحدث وما في معناه، أي ما في معنى ارتفاع الحدث لا ما في معنى الحدث. فتجد أن هذا ربما لايفهمه إلا القليل، لكن إذا قلت: الطهارة التنظف مما ينبغي التنظف منه إن كان حدثاً أو خبثاً، كان التعريف واضحاً، لكن الأول جامع مانع في الواقع، لكن فيه صعوبة في صياغته وفي فهمه. وقوله رحمه الله: (وشرطه) أي شرط صحته (طرد وعكس) يعني يشترط أن يكون مطردا منعكساً، مطرداً: يعني الجامع، منعكساً: يعني المانع، يعني يشترط أن يكون مطرداً تدخل فيه جميع الأفراد، ومنعكساً يخرج منه ما ليس منه. فلو قيل لك: ما هو الإنسان؟ فقلت: الإنسان جثة ذو روح، فالحد هنا غير صحيح؛ لأنه غير مانع فيدخل فيه البعير، لأن البعير جثة ذو روح، وإذا قال آخر: الإنسان جثة ذو روح طبيب، فالحد أيضاً غير جامع، لأنه ليس كل إنسان طبيباً، فيخرج منه بعض الناس وهو من ليس بالطبيب، فيكون هذا لم يجمع الناس كلهم، فهو غير مطرد؛ لأنه غير جامع، فلابد في الحد أن يكون مطرداً منعكساً. وكذلك لو قلنا: عضو الهيئة رجل يأمر الناس بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا الحد غير صحيح، لأنه غير مانع، فإنه يدخل فيه من ليس من أعضاء الهيئة، حيث يدخل فيه كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكروهو من غير أعضاء الهيئة، أما إذا قلت: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 بتكليف من السلطان، فهذا صحيح؛ لأنه جامع ومانع. وإذا قلنا: رجل الهيئة رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مكلف من ذي السلطان، عليه شماغ. فهذا الحد غير صحيح لأنه غير جامع، لأن بعضهم ليس عليه شماغ. إذاً الجامع: الشامل لجميع المحدود، والمانع: هو ما يمنع دخول غير المحدود فيه. فإذا عرفنا الطهارة بأنها إزالة الخبث، كان هذا الحد غير جامع؛ لأنه لا يدخل فيه الطهارة من الحدث. وإذا قلنا: الطهارة هي ارتفاع الحدث الواجب رفعه وزوال الخبث. كان هذا الحد غير جامع؛ لأنه يخرج بذلك الطهارة المسنونة. فالمهم أن الحد لابد أن يكون جامعاً مانعاً، فانظر هذه التعقيدات، ونحن يمكننا أن نسلم من هذا ونقول: المحدودات معروفة، لكن مع ذلك يقولون: لا يمكن أن تدرك المعلوم إلا بمعرفة حده أولاً، ثم الدليل وهو البرهان الذي يقتضي إثباته أو نفيه، فالدليل هنا صحيح؛ فلابد من دليل يثبت الشيء أو ينفيه، لكن كوننا لا ندرك المعلومات إلا بهذا ففيه نظر. ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة هو القول الثاني: إن مدارك العلوم التي تدرك بها العلوم ثلاثة: الحس، والإخبار الصحيح، والعقل. ثم قال المؤلف رحمه الله: (وهو إن أنبا عن الذوات فالتام استبن) بعد أن عرف المؤلف رحمه الله الحد وذكر شرطه، شرع في ذكر أقسام الحد وهي كما يلي: أولاً: الحقيقي التام وهو ما أنبأ عن الذوات، أي عن حقيقة الذات، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 أنبأ عن حقيقة الذات مع جنس قريب فهو تام. مثال ذلك: الإنسان حيوان ناطق، هذا أنبأ عن حقيقة الإنسان أنه حيوان، وأنه ناطق، والجنس هنا قريب. ويوضح ذلك أن كلمة حيوان لو وضع بدلاً منها جثة فقلنا: الإنسان جثة ناطقة، صح. لكن جثة أبعد عن الإنسانية من حيوان، لأن الجثة تشمل الحيوان الذي فيه الروح، والذي ليس فيه الروح، فهي جنس بعيد وحيوان جنس قريب:، فإذا كان الجنس قريباً مع ذكر الفصل فإن هذا يكون حداً تاماً، ويسمونه حداً حقيقياً تاماً. ثانياً: الحقيقي الناقص، وهو الذي ينبئ عن الحقيقة بجنس بعيد، وذلك مثل قولنا: الإنسان جثة ناطقة، فهذا حد ناقص؛ لأنه أنبأ عن الذات بجنس بعيد، وهذا هو النوع الثاني للحد. وإن يكن بالجنس ثم الخاصه فذاك رسم فافهم المحاصه ثالثاً: الرسمي التام وهو ما كان بالجنس القريب والخاصة، والخاصة أي ما يختص به الإنسان ولكنه ليس فصلاً. مثال ذلك أن تقول الإنسان حيوان ضاحك، فوصف ضاحك لا يلازم الإنسان كما يلازمه ناطق، لكنهم يقولون - وقد لا نسلم لهم -: إنه من خصائص الإنسان، وإنه لا يضحك إلا الإنسان. فهي من خصائصه لكن ليست من لوازمه؛ أما النطق فمن لوازمه، حيث الأصل أنه ناطق، لكن ليس الضحك من لوازمه؛ لأن الأصل أنه غير ضاحك، لأن الضحك له سبب فيكون هذا للجنس ثم الخاصة وهذا يسمونه حداً بالرسم، وليس حقيقياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 رابعاً: الرسمي الناقص وهو ما كان بالجنس البعيد والخاصة مثل: الإنسان جثة ضاحك. إذاً إذا كان الحد ينبئ عن الذات فهو الحقيقي، ثم إن كان بجنس قريب فهو التام، وإن كان بجنس بعيد فهو الناقص، وما أنبأ عن الخصائص فهذا الرسم، ويكون تاماً إن كان بجنس قريب، وناقصاً إن كان بجنس بعيد. خامساً: الحد بالأظهر، والحد بالأظهر يسمى حداً لفظياً، ومعناه أن تفسر الكلمة بما هو أوضح منها عند المخاطبة. مثال ذلك: ((العيش)) عندنا هو القمح، فإذا كنت تخاطب أحداً من بلد آخر كسوريا أو مصر أو العراق، فمعنى ((العيش)) عنده الخبر، فإذا أردت أن تعرِّف له العيش فإنك تقول: البر، فيكون البر تعريفاً ((للعيش)) عندنا باللفظ، أي إنك أتيت بمرادف أظهر. وكذلك إذا سأل سائل فقال: ماهو الهر؟ فقلنا (البَسّ) . يكون هذا تعريفاً لفظياً لا معنوياً؛ لأن المعنى لم يتغير، بل المعنى هو نفسه، لكن أتينا بلفظ مرادف أظهر، ويسمى هذا تعريفاً لفظياً. واشتهر عند العامة كسر كلمة ((بِسْ)) ، والصواب أن تقول: ((بَسْ)) بفتح الباء، كما جاء في القاموس (1) ، قال: البس: الهر أو القط. إذاً صار الحد ينقسم إلى خمسة أقسام، هي: حقيقي تام، هو الذي ينبئ من الذات مع الجنس القريب والفاصل، مثاله: الإنسان حيوان ناطق، وحقيقي ناقص، وهو الذي ينبئ عن الذات مع الجنس البعيد والفاصل، مثل   (1) انظر القاموس، ص 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 أن تقول: الإنسان جثة ناطقة، ورسمي تام، وهو الذي ينبئ عن الذات مع الجنس القريب ولا يذكر معه الفاصل وإنما يذكر معه الخصائص. مثاله الإنسان حيوان ضاحك، ورسمي ناقص، وهو الذي ينبئ عن الذات مع الجنس البعيد ولا يذكر معه الفاصل وإنما يذكر معه الخصائص، مثاله: الإنسان جثة ضاحك، ولفظي، وهو أن يفسره بكلمة أظهر عند المخاطب. وفي ذلك قال رحمه الله: ............. وهو إن ... أنبا عن الذوات فالتام استبن وإن يكن بالجنس ثم الخاصه ... فذاك رسم فافهم المحاصه إذاً المؤلف رحمه الله لم يستوعب الأقسام الخمسة، وإنما أتى بقسمين فقط: الأول: الحقيقي التام، والثاني: الرسمي التام؛ الجنس - يعني الجنس القريب - ثم الخاصة. وقوله: (فافهم المحاصه) ، المحاصة معناها المقاسمة، بمعنى أن يأخذ كل واحد من الشريكين حصته، أي افهم المحاصة بين الرسمي وبين الحقيقي، وقد جاء به هنا لتكميل البيت، وإلا فلسنا بحاجة إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 189- وكل معلوم بحص وحجى ... فنكره جهل قبيح في الهجا   الشرح يقول رحمه الله هنا: إن كل شيء معلوم بالحس أو بالعقل فإن إنكاره جهل قبيح، ويسمى مثل هذا الإنكار مكابرة. وهذا يرد به على السوفسطائية، وهم الذين ينكرون الحقائق والمحسوسات، ويقولون: كل شيء فهو شك، وقال بعضهم: جزمك بأن كل شيء فهو شك، هو أيضاً شك، فإذا قلت: أنا أشك، قلنا: وهذا شك، إذا قلت: أنا اشك بأني أشك. قلنا أيضاً: وهذا شك، وهلم جرا؛. فهؤلاء ينكرون حتى الحقائق، حتى إنه يكلمك ويخاطبك، ويقول: أنا لا ادري هل أنا أنت أو أنت أنا؟! وهذا موجود، ويقال: إنهم إذا أرادوا النوم جميعاً ربطوا في رجل كل واحد خيطاً يخالف خيط الآخر، حتى إذا صحا لا يغلط، ويظن نفسه رفيقه، وهذا شيء عجيب، ويذكر عنهم أشياء عجيبة غير ذلك. فنقول: هؤلاء لا شك قالوا قولاً قبيحاً؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يشكوا حتى في الله، وفي السموات، وفي الأرضين، حتى في كل شيء، وهو كذلك، فهم يشكون في كل شيء، ثم إن بعضهم يقول: ما دمت جزمت بالشك فأنا شاك به، وحينئذٍ لا يمكن أن أصل إلى يقين أبداً. وكذلك الذي ينكر ما ثبت بالعقل، فإذا قيل له: كل حادث فلابد له من محدث، قال: لا أسلم بهذا، فنقول له: من القبيح أن تنكر شيئاً معلوماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 بالضرورة من العقل، ويعتبر هذا منه مكابرة، وموقفنا من المكابر الإعراض عنه وتركه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 96) (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 97) ، فنتركه حتى إذا جاءه الأجل عرف، لأن المكابر لا تستطيع أن تقنعه إطلاقاً، إن أتيته بدليل أنكره، أمكنه الإنكار، أو حرفه إن لم يمكنه الإنكار، فكيف تصنع مع هذا؟!. ولذلك فنحن نقول: إن الذين ينكرون المحسوسات جهال، وجهلهم قبيح، والذين ينكرون العقليات التي ليست وهميات أيضاً جهال؛ وجهلهم قبيح. وقد قلت: العقليات الصريحة دون الوهميات؛ لئلا يحتج علينا المعتزلة والأشاعرة والجهمية وغيرهم، الذين سلكوا تحكيم العقل في الأمور الغيبية، حتى في صفات الله، حيث قالوا: لا نقبل إلا ما أملت علينا عقولنا. فنقول: هذه العقول التي زعمتموها هي عقول وهمية وخيالات لا أصل لها؛ لأن العقل الصريح لا يمكن أن يناقض النقل الصحيح من الكتاب والسنة أبداً، وهذه قاعدة مطردة. ومعنى قولنا: العقل الصريح أي الخالص من دائين عظيمين، وهما: الشبهة، والشهوة، ولا أعني شهوة الفرج بل أعني شهوة الإرادة، فالشبهة ألا يكون عنده علم، والشهوة ألا يكون له إرادة صالحة؛ لأن كل الانحرافات عن الحق لا تخرج عن أحد هذين السببيين، وهما الشبهة والشهوة؛ فإما جهل وإما سوء إرادة؛ لذا يقول المؤلف رحمه الله: (فنكره جهل قبيح في الهجا) يعني بالتتبع نجد أن إنكاره جهل قبيح. 0 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 190- فإن يقم بنفسه فجوهر ... أو لا فذاك عرض مفتقر   الشرح يعني بذلك رحمه الله أن كل الموجودات بل كل المعلومات لا تخلوا من حالين: إما شيء قائم بنفسه، وإما شيء قائم بغيره. ومن مصطلحاتهم: أن القائم بنفسه يسمى جوهراً - وليس المقصود بالجوهر الذي هو نوع من الزينة، بل الجوهر أي القائم بنفسه، فجسم الإنسان جوهر، والشمس جوهر، والقمر جوهر، وكل شيء قائم بنفسه يمكن أن نسميه جوهراً. ثم قال رحمه الله: (أو لا) ؛ يعني لا يقوم بنفسه بل بغيره (فذاك عرض) سواءً كان لازماً أم طارئاً، وعلى هذا فالطول والقصر واللون والقوة والضعف وما أشبه ذلك تسمى عرضاً، ففلان جوهر، وكونه طويلاً أو قصيراً عرض، والباب جوهر، وكونه احمر أو أبيض أو أسود هذا عرض. فلو قال قائل: ما الفائدة من معرفتنا لهذه الأمور؟ فنقول: ليس فيه فائدة؛ ولكن كما قلنا: لما أدخل المتكلمون هذه المسائل وهذه البحوث في عقائدهم اضطر علماء أهل السنة إلى أن يتدخلوا في الموضوع لئلا يبقى الميدان خالياً من أهل الحق. وقوله رحمه الله: (فذاك عرض مفتقر) أي مفتقر لغيره لأنه لا يقوم بنفسه، وأنت بمجرد أن يقال لك طول أو قصر، تعرف أنه عرض قائم بغيره؛ لأنه ليس هناك شيء يسمى طويلاً وشيء آخر يسمى قصيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 191- والجسم ما ألف من جزأين ... فصاعداً فاترك حديث المين   الشرح ذكر المؤلف رحمه الله تعريف الجسم فقال: (والجسم ما ألف من جزئين فصاعدا) يعني أن الجسم كل شيء مؤلف من جزئين أو أكثر، والواقع أن كل شيء 0 وإن صغر - مؤلف من جزئين، حتى نصل إلى شيء كرأس الإبرة، وهو الفرد المطلق، والناس مختلفون في وجود الفرد المطلق. هل هو ممكن أو لا؟ ويقال: إنه ما من شيء إلا ويمكن أن يتجزأ. ولمزيد علم في ذلك يمكن الرجوع في وقتنا هذا إلى علماء الذرة، فهم الذين يعرفون هذه الأشياء، وما يمكن أن يشطر وما لا يمكن أن يشطر. فعند المناطقة أن الجسم كل شيء مؤلف من جزئين، أما المعاني فهي غير مؤلفة من جزئين، وكذلك الصفات غير مؤلفة من جزئين، فلا تكون أجساماً، لكن الله قادر على أن يجعل هذه الأوصاف والمعاني أجساماً، فالأعمال يوم القيامة تجعل أجساماً وتوزن، والموت يكون كبشاً ويذبح بين الجنة والنار، مع أن الموت معنى. وقد أدى القول بان الجسم ما ألف من جزئين إلى إنكار الصفات، قالوا: لأننا إذا أثبتنا الصفات والصفات لا تقوم إلا بجسم، والجسم مؤلف من جزئين، فيكون الرب عز وجل مؤلفاً من جزئين، وهذا ممتنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 وقد بينا فيما سبق أنه لا يجوز إطلاق لفظ الجسم نفياً ولا إثباتاً، فلا نقول: إن الله جسم ولا ليس بجسم؛ لأن ذلك لم يرد في الكتاب والسنة لا نفيه ولا إثباته، لكن يستفصل في المعنى، فإن أردت بالجسم الشيء المركب من أعضاء وأجزاء فهذا شيء ممنوع، وإن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق، فإن الله تعالى قائم بنفسه متصف بما يليق به. ثم قال رحمه الله: (فاترك حديث المين) وحديث المين: يعني حديث الكذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 192- ومستحيل الذات غير ممكن ... وضده ما جاز فاسمع زَكَني   الشرح هنا بدأ بالمستحيل والجائز وينبغي أن يضاف الواجب أيضاً، والمستحيل ما لا يمكن وجوده، والجائز ما يمكن وجوده وعدمه، والواجب ما لا يمكن عدمه، والموجودات إما من قبيل الجائز أو من قبيل الواجب أو من قبيل المستحيل. ونرجع في استحالة الشيء وعدمه قطعاً إلى الشرع؛ أي إلى الكتاب والسنة، فيما يتعلق بالشرعيات، وإلى الواقع وأهل الخبر فيما سوى ذلك، وإلا لأمكن كل واحد أن يقول: هذا مستحيل، كما قال أهل التعطيل: إن الله مستحيل أن يكون له وجه، ومستحيل أن يكون له يد، ومستحيل أن يكون له عين، وما أشبه ذلك. لكن الكلام على الواقع، فالمستحيل غير ممكن، والواجب غير ممكن عدمه، والجائز ما أمكن وجوده وعدمه. ولنضرب لهذا أمثلة: فوجود إله مع الله مستحيل ولا شك، وعدم الله مستحيل، ووجود الله واجب، ووجود الآدمي جائز؛ لأن الله تعالى جائز أن يخلق الآدميين وجائز ألا يخلق، وتعذيب الله سبحانه وتعالى للطائع ممتنع وإن كان يمكن أن يقع، لكنه ممتنع شرعاً، وممتنع عقلاً من وجه آخر، ممتنع شرعاً لأن الله تعالى أخبر أنه لا يظلم أحداً، وتعذيب الطائع ظلم، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 (طه: الآية112) إذاً فهو مستحيل شرعاً، وهو مستحيل عقلاً بالنسبة لله عز وجل؛ لأن الله منزه عن الظلم لذاته. فإن قال قائل: إنه جاء في الحديث: ((إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم)) (1) ، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يدخل أحد الجنة بعمله)) قالوا: ولا أنت؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)) (2) . قلنا لا إشكال، أما الأول: فمعناه أن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهم مستحقون للعذاب، وهو غير ظالم، وهم إنما يستحقون متى خالفوا؛ بترك الطاعة أو بفعل المعصية. وأما الثاني: فالباء في قوله: ((بعمله)) للمعاوضة، يعني لو رجعنا إلى التعويض لم يدخل أحد الجنة؛ لأن الإنسان لو حُوسب على أدنى نعمة من الله لهلك، لكن برحمة الله سبحانه وتعالى.   (1) رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم (4699) ، ووابن ماجه، كتاب المقدمة، باب في القدر، رقم (77) . (2) تقدم تخريجه ص 345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 193- والضد والخلاف والنقيض ... والمثل والغيران مستفيض   الشرح يقول رحمه الله: إن العلم بهذه الأشياء مستفيض، لكن لا حاجة لنا به وإن كان مستفيضاً، وهي: الأول: الضد، ضد الشيء هو الذي لا يمكن أن يجتمع معه، لكن يمكن أن يعدما جميعاً، يعني لا يجتمعان ويجوز أن يرتفعا، وهذا هو الضد. مثال ذلك: اللون الأبيض والأسود، فهذان ضدان، يعني لا يمكن أن يكون شيء أبيض أسود، لكنهما يرتفعان فيمكن أن يكون الشيء أحمر، فكل شيئين لا يجتمعان ولكنهما يرتفعان؛ أي يجوز ارتفاعهما فإنهما يسميان ضدين. الثاني: الخلاف: الخلافان هما اللذان يجتمعان ويرتفعان، ولكن كل واحد منهما غير الثاني، حيث يعني غيران يجتمعان ويرتفعان. مثاله: الحركة والبياض هذان خلافان؛ لأن كل واحد منهما يخالف الآخر، ولكنهما يجتمعان ويرتفعان، فقد يكون الشيء لا متحركاً ولا أبيض يعني ساكناً أسود، وقد يكون متحركاً أسود، وقد يكون أبيض ساكناً إذاً يجتمعان من كل وجه، ويرتفعان من كل وجه، وحقيقتهما غير متماثلة لأنهما خلافان. الثالث: النقيض: ونقيض الشيء ما لا يجتمع معه لكن لا يرتفعان، فلابد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 من وجود أحدهما، فالنقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان، بل لابد من وجود أحدهما. مثاله: الوجود والعدم: فهما نقيضان لأن المعدوم غير موجود، والموجود غير معدوم. ولا يمكن أن يجتمعا، وكذلك لا يمكن أن يرتفعا، فلا يمكن أن يكون الشيء لا موجوداً ولا معدوماً، بل لابد أن يكون إما موجوداً وإما معدوماً. ومثل ذلك: الحركة والسكون، فهما نقيضان؛ لأنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، لأنه ما من شيء إلا وهو متحرك أو ساكن ولابد. الرابع: المثل: أي المثلان، والمثلان هما شيء واحد فلا يصح أن نقول: إنهما متغايران، كالجلوس والقعود مثلاً، فالجلوس والقعود شيء واحد، هذا إذا أريد بالقعود قعود الإنسان بجسمه، أما إذا أريد بالقعود التأخر مثل قوله تعالى: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: الآية46)) ، فهذا غير هذا. والخامس: الغيران: وهما اللذان أحدهما غر الآخر، وهذا يشمل كل ما سبق، يعني الغيران تشمل الضد والخلاف والنقيض، وأما المثل فليس غير المثل بل هو المثل. وقوله: (مستفيض) أي معلوم مشهور عند علماء المنطق، ولكن كما سبق فنحن لا نستفيد من هذا، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: كنت أعلم دائماً أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد (1)   (1) انظر مجموع الفتاوى 9/82 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 194- وكل هذا علمه محقق ... فلم نطل فيه ولم ننمق 195- والحمد لله على التوفيق ... لمنهج الحق على التحقيق   الشرح قوله: (وكل هذا علمه محقق) عند أهل المنطق (فلم نطل فيه ولم ننمق) وفي قوله: (ولم ننمقُ) رفع الفعل مراعاة للروي، وإلا كان الواجب أن يقول: ولم ننمقِ، أو ولم ننمقْ، لكن لا بأس، لأن النظم كما قال الحريري في الملحة: صلف يعسف الناس ولا يعسفونه، وقد قال: وجائز في صنعة الشعر الصلف أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف وقوله: (فلم نطل فيه ولم ننمق) ، يعني رحمه الله: أننا ما اطلنا فيه، ولا نمقنا، ولا حسنّا، ولا زينّا. ثم حمد الله عز وجل على إكمال هذه المنظومة فقال: والحمد لله على التوفيق ... لمنهج الحق على التحقيق لأن من وفقه الله لمنهج الحق فقد انعم عليه نعمة كبيرة، لأن الهداية - مع أن أكثر أهل الأرض على ضلال - نعمة الله، ونجاة من الله سبحانه وتعالى ينجي بها العبد، فيستحق عز وجل أن يحمد عليها. وقوله: (على التحقيق) يعني أن هذا المنهج - وهو منهج أهل السنة والجماعة وهو منهج التحقيق، وليس ما يدعيه أهل الكلام، وذلك لأن أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 الكلام إذا أرادوا أن يتكلموا قالوا: قال أهل التحقيق، أو: اجمع أهل التحقيق، وهذا دعوى، فالتحقيق هو محاولة الوصول إلى الحق، ولا نعلم أحداً يحاول الوصول إلى الحق وهو أقرب إلى الحق من أهل السنة والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 196- مسلماً لمقتضى الحديث ... والنص في القديم والحديث 197- لا أعتني بقول غير السلف ... موافقاً أئمتي وسلفي   الشرح قوله: (مسلماً) يعني حال كونه مسلماً، (لمقتضى الحديث) أي لما يقتضيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، و (والنص) يعني القرآن، (في القديم) أي في الزمان القديم، (والحديث) يعني الزمان الحديث، ولا يخفى ما في هذا البيت من الجناس، وهو اتفاق اللفظين مع اختلاف المعنى، لأن قوله: (الحديث) في الشطر الأول يعني الحديث النبوي، وقوله: (الحديث) في الشطر الثاني يعني الجديد ضد القديم. وقد يقول قائل: لماذا قدم المؤلف رحمه الله الحديث على النص وهو القرآن، مع أن القرآن أشرف؟ فنقول: إنه يجوز تقديم غير الأشرف على الأشرف لمراعاة نسق الكلام، وانظر إلى موسى وهارون، فمع أن موسى أشرف، وهو يقدم بالذكر، لكن في سورة طه قال تعالى: (بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) (طه: الآية70)) ، وذلك لأجل أن تتناسب هذه الآية مع الآيات الأخرى. ثم قال المؤلف: لا اعتني بقول غير السلف ... موافقًا أئمتي وسلفي يعني لا أهتم بقول غير السلف، حال كوني موافقاً أئمتي وسلفي، وهذا تحدث بنعمة الله عز وجل عليه، وليس من باب الفخر والعلو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 198- ولست في قولي بذا مقلداً ... إلا النبي المصطفى مبدي الهدى   الشرح يعني لا أقلد فيما ذهبت إليه إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وفهم من كلامه انه يجوز أن يسمى إتباع النبي صلى الله عليه وسلم تقليداً، وهذا مختلف فيه؛ فمنهم من يقول: لا تسم نفسك مقلداً للرسول، ولكن سم نفسك متبعاً للرسول. ولا شك أن هذا هو الأولى؛ لأن الأصل في التقليد قبول قول القائل بدون دليل، وقبولنا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم قبول بدليل، ولهذا ينبغي أن نسمي ذلك اتباعاً، كما قال تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: الآية31)) ، وقال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: الآية 158) . لكن لا بأس أن نتسامح ونقول من باب التجوز: إن هذا تقليد. وقوله: (إلا النبي المصطفى) يعني بذلك محمداً صلى الله عليه وسلم، والمصطفى اسم مفعول من الصفوة، وأصلح المصتفى، ولكن قلبت التاء طاءً لعلة تصريفية، والمصطفى: يعني الذي اصطفاه الله عز وجل وجعله من صفوة خلقه. وقوله: (مبدي الهدى) أي مظهره، قال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: الآية52)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 199- صلى عليه الله ما قطر نزل ... وما تعانى ذكره من الأزل   الشرح قوله رحمه الله: (صلى عليه الله) الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يعني ثناءه عليه في الملأ الأعلى. وقوله: (ما قطر نزل) يعني مدة نزول القطر، والذي يحصي نزول القطر هو الله عز وجل، يعني صلى الله عليه صلوات كثيرة كثيرة كقطرات المطر. وقوله: (وما تعانى ذكره من الأزل) يعني وأصلي عليه أيضاً ما تعانى - وفي بعض النسخ تعالى - ذكره من الأزل، يعني ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، (من الأزل) أي من الماضي القديم، وتعانى من الاعتناء، والمهم أنه يصلي عليه - جزاه الله خيرا - بهذا القدر الكثير الذي لا يحصى، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 200- وما انجلى بهديه الديجور ... وراقت الأوقات والدهور   الشرح قوله: (وما انجلى بهديه الديجور) أي الظلام، وما أكثر ما انجلى الظلام بهدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما أكثر المتبعين له الذين اهتدوا بهديه صلى الله عليه وسلم، واستناروا بنوره. قوله: (وراقت الأوقات والدهور) أي صارت رائقة محبوبة، والمراد بذلك تكثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أهل لذلك، فصلوات الله وسلامه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 201- وآله وصحبه أهل الوفا ... معادن التقوى وينبوع الصفا   الشرح قوله رحمه الله: (وآله) عطفاً على قوله (صلى عليه الله) ، يعني وصلى على أهله وصحبه، وآله إذا لم يقترن معها شيء فأصح الأقوال أنهم أتباعه على دينه. وأما (صحبه) فهم أصحابه، والصحابي: من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، ويشمل أي اجتماع سواء كان طويلاً أو قصيراً. وقوله: (أهل الوفا) يعني أصحاب الوفا، فإنه لا أحد من أتباع الأنبياء أوفى من صحابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا هجروا أوطانهم، وتركوا أموالهم إلى الله ورسوله، ونصروا الله ورسوله، وجاهدوا في الله حتى فتح الله بهم قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وفتحوا البلاد وأنجوا العباد وصار لهم من المكانة ما ليس لغيرهم من أتباع الرسل. قوله: (معادن التقوى وينبوع الصفا) يعني أنهم معادن التقوى، والمعادن جمع معدن، وهو ما يكون في الأرض من غير جنسها، مما خبأته الأرض من أطايب العناصر؛ كالذهب والفضة وما أشبه ذلك، هؤلاء هم معادن التقوى، أي تقوى الله عز وجل. قوله: (وينبوع الصفا) ينبوع: يعني الماء النابع من الأرض، والصفا: من الصفوة؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم هم صفوة هذه الأمة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 202- وتابعً وتابعٍ للتابع ... خير الورى حقًا بنص الشارع   يلونهم)) (1) الشرح قوله (تابع) : أي تابع للصحابة، (وتابعٍ للتابع) : أي تابع التابعين، وهذه هي القرون المفضلة، ولهذا قال: (خير الورى حقًا) ، حقاً: مفعول مطلق لعامل محذوف، والتقدير أُحِقُّ ذلك حقا وأثبته إثباتاً، (بنص الشارع) وهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويطلق على الله أيضاً، قال الله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً) (الشورى: الآية13)) ، وقال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) (الجاثية: الآية18)) ، والرسول صلى الله عليه وسلم شارع يشرع للناس ويبين لهم الطريق، فقد نص صلى الله عليه وسلم على أن خير الناس قرنه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (2) .   (1) تقدم تخريجه ص 59. (2) تقدم تخريجه ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 203- ورحمة الله مع الرضوان ... والبر والتكريم والإحسان 204- تهدى مع التبجيل والأنعام ... مني لمثوى عصمة الإسلام   الشرح قوله: (ورحمة الله) مبتدأ، و (تهدى) خبر المبتدأ. وقوله: (رحمة الله مع الرضوان) أي مع رضاه عز وجل، ورضاه أخص من رحمته؛ لأن رحمته تنقسم إلى قسمين: عامة لجميع الخلق، وخاصة بالمؤمنين، أما الرضا فهو خاص بالمؤمنين، ولا يمكن أن يرضى الله عن الكافرين، ولا عن أعمالهم، فلذلك صار الرضوان أخص. قوله: (والبر والتكريم والإحسان) ؛ (البر) : الخير الكثير، (والتكريم) أي مِنّا لهم، وإكرامنا إياهم وهم أموات بإكرام آرائهم وأقوالهم، واحترامها، وعدم الاعتراض عليها، والدعاء لهم، وسؤال العفو لهم إذا أخطأوا، وما أشبه ذلك. (والإحسان) أي الإحسان إليهم بالدعاء، وكان المؤمنون يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ) (الحشر: الآية10)) . وقوله رحمه الله: (تهدي مع التبجيل والإنعام) التبجيل: غاية التكريم، (تهدى) أي من المؤلف رحمه الله، (والإنعام منّي) الإنعام: يعني الأفضال، والنعمة هي الفضل. وقوله: (لمثوى عصمة الإسلام) مثوى عصمة الإسلام هي قبورهم، فكأنه دعا لأهل عصمة الإسلام أن يضع الله في قبورهم الرحمة والرضوان والبر والتكريم والإحسان إلى آخره، وعصمة الإسلام: يعني الذين بهم عصم الإسلام، وهم العلماء الربانيون الذين علموا الحق، وعملوا بالحق، ودعوا إلى الحق، ودافعوا للحق، هؤلاء هم الأئمة رحمة الله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 205- أئمة الدين هداة الأمة ... أهل التقى من سائر الأئمة   الشرح قوله: (أئمة الدين هداة الأمة) ، (هداة) : جمع هادٍ، والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة والإرشاد، لأنه لا أحد يهدي أحداً هداية توفيق إلا رب العالمين عز وجل. قوله: (أهل التقى من سائر الأئمة) سائر أي جميع، وسائر تطلق بمعنى جميع، وتطلق بمعنى بعض، فأما إطلاقها بمعنى جميع فهي مشتقة من السؤر لأنه محيط بالبيت، وأما بمعنى باقٍ فهي مشتقة من السؤر وهو بقية شراب الحيوان؛ كسؤر الهرة، وسؤر الإنسان، وما أشبه ذلك. والمراد المعنى الأول أي من سائر الأئمة، والأئمة: جمع إمام، وهو من تميز بشيء متبوع عليه، وليس كل عالم إماماً، فالعلماء الأجلاء هم الذين تميزوا بالتحقيق والتدقيق والتحرير حتى تبعهم الناس، هؤلاء أئمة، لكن منهم أئمة اشتهروا وانتشرت آراؤهم، وكاد المسلمون يجمعون على أنهم أئمة، ومنهم أئمة دون ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 206- لا سيما أحمد والنعمان ... ومالك محمد الصنوان   الشرح قوله: (لا سيما أحمد) ، لا سيما: كلمة يؤتى بها لبيان أن ما بعدها أولى مما قبلها، (أحمد) يعني به ابن حنبل، (النعمان) يعني به أبا حنيفة، (مالك) يعني به مالك بن أنس إمام دار الهجرة، (محمد) : يعني به الشافعي، (الصنوان) لأنه رحمه الله كان مطلبياً، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن عم الرجل صنو أبيه)) (1) ، فهو صنوان للرسول عليه الصلاة والسلام، وتراجم هؤلاء الأئمة الأربعة معروفة مشهورة، فلا نطيل بذكرها.   (1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، رقم (983) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 207- من لازمٌ لكل أرباب العمل ... تقليد حبر منهم فاسمع تخل   الشرح قوله رحمه الله: (مَن لازم لكل أرباب العمل) من: اسم موصول، ولازم: خبر مقدم، وتقليد مبتدأ مؤخر، يعني من تقليد حبر منهم لازم لكل أرباب العمل، إذاً في العبارة تقديم وتأخير؛ حيث تقدم الخبر على المبتدأ، يعني أنه يلزم لكل إنسان يعمل أن يقلد واحداً من هؤلاء الأربعة، فهذا معنى كلام المؤلف رحمه الله، وهذا قول ضعيف جداً، لأن مقتضاه انه لا يجوز العمل بقول خارج عن أقوال هؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم الله، والأمر ليس كذلك، ولا يلزم إتباع أحد على كل حال إلا الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فهو الذي يلزم إتباع قوله على كل حال. أما هؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم الله فإنه لا يلزمنا أن نأخذ بقولهم، ولنا أن نخرج عن أقوالهم. ولكن لا شك أنهم إذا أطبقوا على شيء فإنه أقرب إلى الصواب، والخروج عنه يحتاج إلى تأن وهذه قاعدة ينبغي أن تعرف، وهي أنك إذا رأيت الجمهور على قول فلا تخرج عنه إلا بعد التأني والتريث والنظر في الأدلة والتدبر فيها؛ لأن قول الجمهور لا يستهان به، وقول الجمهور أقرب للحق من قول الواحد، فلا تفرح أن تجد قولاً غريباً تخرج به أمام الناس، ليصدق قول الناس عليك: خَالِفْ تُعرفْ، وبعض الناس يقول: خَالِفْ تُذْكَر. بل كن مع الجماعة، لكن إذا بان أن الحق في خلاف الجمهور، فالواجب عليك إتباع الحق. إذاً فكلام المؤلف رحمه الله فيه نظر. وقوله: (تخل) ، أي: تخلى من اللوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 208- ومن نحا لسبلهم من الورى ... ما دارت الأفلاك أو نجم سرى 209- هدية مني لأرباب السلف ... مجانباً للخوض من أهل الخلف   الشرح قوله رحمه الله: (ومن نحا لسبلهم من الورى) ، (من نحا) ؛ أي من اتجه وأخذ، (لسبلهم) أي طرقهم) ، (من الورى) أي من الخلق. قوله: (ما دارت الأفلاك أو نجم سرى) يعني مدة دوران الأفلاك، وسريان النجم، والنجم هنا عام يشمل كل نجم، فما أكثر هذا الدعاء الذي ذكره المؤلف رحمه الله، ما دام شاملاً لكل الأفلاك، أو لكل دورة من دورات الأفلاك، وسريان النجم! قوله: (هدية مني لأرباب السلف) ، أي: لأصحاب السلف. قوله: (مجانباً للخوض من أهل الخلف) لأن هذه العقيدة مبنية على طريق السلف، وإن كان فيها بعض الشيء الذي نبهنا عليه أثناء الشرح به، لكنها في الجملة سلفية محضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: 210- خذها هديت واقتف نظامي ... تفز بما أملت والسلام   الشرح يعني أنك إذا أخذتها واتبعت نظامي، أي منظومي فيها، فإنك تفوز بما أمَّلت، (والسلام) . أي: وتفوز بالسلام أي: الأمان من التخليط في الاعتقاد. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749