الكتاب: المعونة على مذهب عالم المدينة «الإمام مالك بن أنس» المؤلف: أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي (المتوفى: 422هـ) المحقق: حميش عبد الحقّ الناشر: المكتبة التجارية، مصطفى أحمد الباز - مكة المكرمة أصل الكتاب: رسالة دكتوراة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الطبعة: بدون عدد الأجزاء: 3 (في ترقيم مسلسل واحد)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- المعونة على مذهب عالم المدينة القاضي عبد الوهاب الكتاب: المعونة على مذهب عالم المدينة «الإمام مالك بن أنس» المؤلف: أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي المالكي (المتوفى: 422هـ) المحقق: حميش عبد الحقّ الناشر: المكتبة التجارية، مصطفى أحمد الباز - مكة المكرمة أصل الكتاب: رسالة دكتوراة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الطبعة: بدون عدد الأجزاء: 3 (في ترقيم مسلسل واحد)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المعونة على مذهب عالم المدينة "الإمام مالك بن أنس" تأليف القاضي عبد الوهاب البغدادي 422 هـ تحقيق ودراسة حميش عبد الحقّ والكتاب في الأصل رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى بمكة المكرمة الجزء الأول الناشر المكتبة التجارية مكة المكرمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 المكتبة التجارية مصطفى أحمد البَاز مكة المكرمة: المركز الرئيسي: 5749022 - فاكس: 5745044 فرع النزهَة: 5459850 - فرع الجامِعَة:5581584 - المستودع: 5372374 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 المعُونة على مذهب عالم المدينة "الإمام مالك بن أنس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر الحمدُ لله ربٍّ العالمينَ، حَمْدًا دائمًا أبدًا، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وأقسم بالقلم فقال {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ... } وذلك لِعِظَم شَأنِ العِلْم، وعظم مَرتبتِهِ، وقد كانَ ذلك شأن دين الإِسلام، إذْ استفتح الوحي على نبي الإِسلام محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..}. لذا فالكتابة والقراءَةُ وما دُوِّنَ من كراريس ودفاتر هي ذخر وفخرٌ لدين الله، وميسمٌ يوسم بِهِ دِينُنَا، وما جاءَنا عن أسلافنا من كُتُبٍ هي مَشَاعِلُ نورٍ، لذا تسارعت دُوُر النَّشْر بكلِّ طاقَاتِهَا وما لديها من قدرات علميةٍ، وحضاريَّة إلى إخراج مخطوطات تراثنا العظيم من دَيَاجِير الظَّلام إلى رُبُوع النُّورِ ليستَهْدِىَ بها في عصرنا الحاضر عصر العلم والآفاق والنَّشْرِ والإعلامِ حتى لما هو خبيثٌ خسيسٌ، فحَقِيقٌ بدور النَّشْرِ أن تبادِرَ إلى إخراج نفيس العلم، وبثِّه بين النَّاس، ومخطوطاتُنَا هي ذاكرة أمتنا الحيَّةِ، فهي حاويةٌ لمجدها وتاريخها ومبادئ دينها وصفوة فِكْرِ عُلَمَائِهَا، على مدار تاريخها التَّالِدِ الشامخ لذا خِدْمَةُ المَخْطُوطَاتِ تُعَدُّ من الوَاجِباتِ المقدَّمَةِ المقدَّسَة علينا، لذا تَتَشَرَّفُ المكتبة التجارية بمكة المكرمة بأن تساهم بيدٍ بيضاء وجهدٍ وضاء في إثراء المكتبة الإِسلاميةِ بإخراج هذا الكتاب القيم بهذه الحلة القشيبة وهو رسالة الدكتوراه للدكتور حميش عبد الحق من جامعة أم القرى وهو كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة الإِمام مالك بن أنس للقاضي عبد الوهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فنسأل الله العلي القدير أن يقبل هذا الجهد قبولا حسنًا، وأن ينفع به المسلمين، وأنْ ينالنا الرِّضا من الجميع، وأن يعيننا على تواصل إخراج المفيد للأمة الإِسلاميَّةِ خدمةً لدين الله وللثقافة العربية جمعاء. والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل المكتبة التجارية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين .. تحتوي خزانة التراث الفقهي على كتب هامة من تراثنا الإِسلامي الخالد، الذي ألفه سلف هذه الأُمة عبر القرون الماضية، وهذه الكنوز ادخرت لهذه الأُمة لتستفيد منها ولتعمل بما فيها. لهذا اتجه العلماء، وطلاب الدراسات العليا نحو تحقيق الكتب القديمة من أجل إحياء التراث الإسلامي النافع الذي يستفيد منه الناس وينفعهم في دينهم ودنياهم. لكن هذا الاتجاه تحقيق التراث نراه يسير سيرًا بطيئًا، فإن عددًا ضخمًا من المخطوطات لا يزال غير منشور على أهميته وبعضه أصل في الفن الذي يتناوله. لهذا صار لزامًا على المعنيين بهذا الأمر تشجيع تحقيق المخطوطات وتذييل الصعوبات التي يواجهها طلاب العلم الذين يقبلون بحماسة على العمل، ولا يجدون ما يحققونه، فيتولون وقلوبهم تفيض بالأسى حزنًا ألا يجدوا ما يحققون. ولما كانت كتب المالكية خالية من ذكر الدليل ليس فيها إلا الفقه المحض والآراء المجردة، وما كان هذا ليليق بمذهب إمام اعترف له الجميع بالتقدم في السنة، وسلموا له الإمامة في علم الحديث، وكان الإِمام الشافعي يفاخر به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 نعم ما كان يليق بمذهب الإِمام مالك أن تكون كتب فقهه مجردة عن الدليل خالية من ذكر الاستنباط والتعليل، ولعل عذر المالكية في ذلك اعتمادهم على أن مُتقدميهم تكفلوا بذلك فسلموا لهم ذلك، ولم يوجد لهم معارض فأخذ الناس الفقه بهذه الطريقة. ومع الصحوة الإِسلامية المنتشرة حديثًا والدعوة القائمة بالرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة. وللفرق بين من يأتي بالعبادة تقليدًا لإمامه بمعقوله، ومن غير معرفة الدليل وبين من يأتي بها، وقد ثلج صدره بعد ما عرفه من دليل الكتاب أو السُّنَّة بحثت في بطون المكتبات الإِسلامية -التي تحفظ لنا مخطوطات تراثنا الإِسلامي- عن كتاب يجمع بين الفقه والدليل، فوقع نظري على كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة" -للقاضي عبد الوهاب البغدادي- فوجدته كتابًا ليس كالكتب بل هو كتاب عظيم، ينافح عن المذهب المالكي بالحُجَّة والدليل والبرهان مؤلفه فقيه مالكي أصولي ضليع بلغ درجة الاجتهاد المذهبي، بل الاجتهاد المطلق -كما صرح بذلك السيوطي-. ومساهمة متواضعة مني في إحياء التراث الفقهي النافع، وتلبية للحاجة الماسة في إخراج وتحقيق هذا الكتاب، فقد اخترته موضوعًا لرسالة الدكتوراة للاعتبارات التالية: • أسباب اختيار الموضوع: 1 - يعد كتاب "المعونة" كتابًا جامعًا لأبواب الفقه كلها على مذهب الإمام مالك بن أنس، وفق منهج العراقيين الذي يتميز بسلاسة أسلوبه وسهولة عباراته، وهو مع صغر حجمه غزير العلم، يحتوي على عدد كبير من القواعد والضوابط الفقهية التي تغني عن سرد كثير من الفروع والمسائل الفقهية. 2 - رجوع الكتاب عصر متقدم -القرن الرابع الهجري- وقيام مؤلفه -القاضي عبد الوهاب- بتحرير فروع المذهب وتوثيق آراء كبار فقهاء المالمكية ابتداء بإمام المذهب الإِمام مالك وأصحابه ابن القاسم، وأشهب ومحمد بن عبد الحكم وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 3 - احتواؤه على الأدلة الثابتة الصحيحة لجميع المسائل والفروع الفقهية، فهو يحتوي على أزيد من ألف ومائتي حديث وأثر، وعلى كثير من الاستنباطات والتعليلات والقواعد الفقهية وعلى أقوال أئمة المذهب المالكي وغيرهم. 4 - يعد الكتاب مرجعًا هامًّا، حيث اتخذه الفقهاء الذين جاءوا من بعده مصدرًا لكتبهم ولآرائهم، واعتنوا بتدريسه ونقله جيلًا عن جيل، فهم يرجعون إليه عندما يذكرون أقوال الفقهاء وآرائهم؛ لأن القاضي عبد الوهاب له قدم راسخة في الفقه والأصول واللغة والعلوم الأخرى، ويعد عالمًا من كبار العلماء وفقيهًا من أشهر الفقهاء، فكانوا يثقون به وبكتبه وخاصة منها "المعونة"، وإن كتب فقهاء المالكية المتأخرين مليئة بالاستدلال بأقواله - رحمه الله -. 5 - كما أنه يشير إلى أقوال المذاهب الفقهية الأخرى في المسائل الفقهية، ويذكر المسائل المجمع عليها. وكتاب "المعونة" لا يزال مخطوطًا حيث بدأ يتعرض للتلف، فصفحاته الأولى والأخيرة تآكلت وانعدمت حتى أصبح من العسير قراءتها. وبتحقيق هذا الكتاب ونشره تضاف لبنة جديدة إلى بناء الفقه الإِسلامي عمومًا، والفقه المالكي بخاصة، نظرًا للأهمية الكبيرة التي يتميز بها هذا الكتاب والتي ذكرناها فيما سبق. وقد قسمت البحث إلى قسمين: قسم دراسي، وقسم تحقيق النص. ففي القسم الأول، قسم الدراسة والذي جعلته إلى فصلين: في الفصل الأول: تحدثت عن القاضي عبد الوهاب، وجعلت هذا الفصل في مبحثين: في المبحث الأول تحدثت عن عصر المؤلف: عن الحالة السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وفي المبحث الثاني تحدثت عن القاضي عبد الوهاب: اسمه ونسبه، ومولده ونشأته، شيوخه، خروجه من العراق ورحلته إلى مصر، فضائله ومكانته العلمية وأقوال العلماء فيه، توليه القضاء، وتلاميذه، وآثاره العلمية، شعره، عقيدته ووفاته. أما الفصل الثاني فخصصته لدراسة الكتاب: * فبدأت بلمحة عن تاريخ المذهب المالكي في العراق، ومميزات هذه المدرسة، وعلاقة المالكية بالعراق بنظرائهم في المغرب والأندلس. * توثيق كتاب "المعونة"، سبب تأليفه، وقيمته العلمية. * مكانة الكتاب ومصادره ومحتوياته. * أسلوب ومنهج كتاب "المعونة"، وطريقته في الاستدلال. * شروح كتاب "المعونة". * نقد كتاب "المعونة". وجعلت في الأخير مبحثًا خاصًّا يشمل: أولًا: المسائل التي استدل لها القاضي عبد الوهاب بعمل أهل المدينة. ثانيًا: القواعد الأصولية، والفقهية التي ذكرها القاضي عبد الوهاب في كتابه. والقسم الثاني - قسم التحقيق: ولقد كان منهجي في تحقيق الكتاب على النحو التالي: 1 - نسخ الكتاب وإخراج نصه سليمًا بالرسم الإملائي الحديث. 2 - إثبات فروق النسخ المختلفة بالهامش. 3 - ترقيم الآيات القرآنية وبيان مكانها من سور القرآن الكريم. 4 - تخريج الأحاديث والآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 5 - توثيق النقول والمسائل الفقهية. 6 - شرح الألفاظ الغريبة والمصطلحات الفقهية. 7 - التعليق على بعض المسائل الفقهية التي تحتاج إلى ذلك. 8 - ترقيم الفصول ترقيمًا تسلسليًّا. 9 - وضع العناوين اللازمة. 10 - التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في نص الكتاب. وحتى يستكمل التحقيق جوانبه الفنية ألحقت الكتاب بفهارس وتشمل: فهارس للآيات القرآنية الكريمة، فهرس للأحاديث، وفهرس للآثار، وفهرس للأعلام، وفهرس للكتب، وفهرس للأشعار، وفهرس للمصطلحات، وفهرس للأُمم والأماكن والبلدان، وأخيرًا فهرس تفصيلي للموضوعات. ويعلم الله أني بذلت جهودًا مضنية من أجل إخراج الكتاب في صورته القريبة من الكمال، ومن أجل توضيح غوامضه وفتح مغاليقه. وهذا لا يعني أنني قد قمت بكل ما يجب، لكني أعلم أنني قصرت في بعض الأُمور التي كان يجب الوقوف عندها طويلًا، لكن كما يقال: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فحسبي أنني قمت بإيصال هذا الكتاب المهم إلى القاريء في هذه الحلة المناسبة، ليستفاد منه ويطلع عليه بيسر وسهولة، وقمت بذلك على قدر استطاعتي تاركًا الباب لأرباب الكفاءة الصحيحة لتتميم ما نقص وإصلاح ما اعوج وتصويب ما وقع فيه الخطأ. وأسأل الله تعالى العفو عن السهو والتقصير أنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .. حميش عبد الحق *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 القسم الأول الدارسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الفصل الأول القاضي عبد الوهاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الفصل الأول المبحث الأول: عصر المؤلف: أولًا: الحالة السياسية. ثانيًا: الحالة الاجتماعية والاقتصادية. ثالثًا: الحالة الثقافية. رابعا: الحالة الدينية. المبحث الثاني: القاضي عبد الوهاب: أولًا: اسمه ونسبه. ثانيًا: مولده. ثالثًا: نشأته. رابعًا: شيوخه. خامسًا: خروجه من العراق ورحلته إلى مصر. سادسًا: فضائله ومكانته العلمية وأقوال العلماء فيه. سابعًا: القاضي عبد الوهاب فقيهًا وأصوليًّا. ثامنًا: توليه القضاء. تاسعًا: تلاميذه. عاشرًا: آثاره العلمية - مؤلفاته. الحادي عشر: شعره. الثاني عشر: عقيدته. الثالث عشر: وفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الأول: عصر المؤلف • الحالة السياسية (1) - (304 - 467 هـ): ونعني بالحالة السياسية هنا هي دراسة الظروف التي تعاقبت على بغداد وغيرها من بلاد المسلمين في الفترة التي عاشها القاضي عبد الوهاب وهي التي تمتد من عام 362 هـ سنة ميلاد القاضي إلى سنة 422 هـ، وهي سنة وفاته. والسمة البارزة للحالة السياسية التي كان يوصف بها الحكم خلال هذه الفترة هو ضعف الخلافة العباسية في بغداد في هذه الفترة، وذلك لاستبداد البويهيين (2) بأمور الدولة، حيث لم يبق للخليفة آية سلطة إلا الاسم حتى أصبح كدمية توضع وتحرك بأيديهم، فكان الأمير البويهي هو الذي يصدر الأوامر وعلى الخليفة توقيعها لتكتسب الشرعية أمام الناس. ونتيجة لهذا الاستبداد عاشت بغداد أسوأ الظروف، فقد ضعف الخليفة عن القيام بأعباء الخلافة في وسط المؤامرات والدسائس، وساءت الحالة الاجتماعية والاقتصادية. وقد تعاقب على الخلافة في هذه الفترة من الزمن خليفتان: الطائع لله، وهو   (1) انظر: الكامل في التاريخ -لابن الأثير: 7/ 53 - 354، البداية والنهاية لابن كثير: 11/ 293 - 380، تاريخ الأمم الإِسلامية: الدولة العباسية للخضري ص 371 - 410. (2) البويهيون: المنتسبون إلى بني بوية، وهي أسرة تتكون من ثلاثة رجال ظهر أمرهم وهم عليّ والحسن وأحمد، أبناء بوية، كانوا أسرة فقيرة ببلاد الديلم، وكان أبوهم أحمد ابن بويه رجلًا من عامة الناس يتعيش من صيد السمك، وقد كان أحمد بويه بعد أن ملك البلاد وتولى إمرة الأمراء ببغداد يتحدث بنعمة الله فيقول: كنت أحتطب الحطب على رأسي (انظر وفيات الأعيان- لابن خلكان: 1/ 176). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أبو بكر عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي (1)، ولقد كان رجلًا صالحًا عالمًا، وكانت مدة خلافته ثلاثين عامًا، حيث تولى الحكم عام 363 هـ، أي بعد ميلاد القاضي عبد الوهاب بعام واحد واستمر حكمه إلى عام 393 هـ. وبعده حكم القادر بالله: وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر جعفر ابن المعتضد العباسي البغدادي (2) الذي عرف بالزهد والعلم، ولكنه كان ضعيفًا ليس بيده من الأمر شيء، وكانت مدة خلافته إحدى وأربعين سنة، أي أنه حكم إلى أن مات سنة 422 هـ، وهو نفس العام الذي توفي فيه القاضي عبد الوهاب. وكان في مصر الحاكم بأمر الله الفاطمي (411 هـ)، والذي تمكنت في أيامه الباطنية، وهو الذي أسس المكتبة الشهيرة بمصر دعاها دار العلم (3). وكان في الأندلس آخر الدولة الأموية سليمان المستعين (407 هـ)، حيث الدولة الأموية في النزع في آخر رمق بعد تغلب الدولة العامرية، كما فعل الديلم في بغداد (4). ...   (1) راجع: ترجمته في شذرات الذهب: 3/ 143، سير أعلام النبلاء: 15/ 118 - 126. (2) راجع ترجمته في شذرات الذهب: 3/ 326، وسير أعلام النبلاء: 15/ 138 - 151. (3) انظر الكامل في التاريخ: 7/ 304، البداية والنهاية: 12/ 9. (4) انظر الكامل في التاريخ: 7/ 284، البداية والنهاية: 12/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 • الحالة الاجتماعية والاقتصادية (1): لا شك أن الاضطراب السياسي يظهر أثره على الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فقد ظهرت في هذه الفترة في المجتمع الإِسلامي بوادر الانفصام والتفكك، وذلك لكثرة المفارقات التي اعترته من عصبيات جنسية واختلافات عقدية ومذهبية، وفوارق مادية جعلت المجتمع ينقسم من حيث الثراء والموارد الاقتصادية إلى ثلاث طبقات: طبقة عليا تضم الملوك والأمراء والوزراء والولاة استأثرت بالجزء الأكبر من الموارد والثروات. وطبقة وسطى مستورة الحال من التجار والحرفيين والفلاحين. وطبقة دنيا فيها سواد الشعب من الفقراء والضعاف، وكان من هذه الطبقة معظم الفقهاء، ومنهم القاضي عبد الوهاب الذي لم يكن يستطيع ضمان رغيف يومه كما سنعرفه فيما يأتي: فنتيجة لهذه المفارقات حل الظلم والفساد محل العدل والصلاح، وحل النزاع والقتال محل التكافل والأمن, فاختل الأمن وعمت المصائب وأنواع النبلاء، أما الحالة الاقتصادية فقد تأثرت هي الأخرى بالاضطرابات السياسية والاجتماعية التي حلت بالدولة الإِسلامية، إلا أن هذا التأثير كان بتدرج بطيء، فبعد أن امتاز الاقتصاد في بداية القرن الرابع بالازدهار، وتقدم العلوم والفنون بدأ يضعف شيئًا فشيئًا. ... • الحالة الثقافية (2): على العكس من الحالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فبالرغم من الضعف والفوضى والفرقة التي سادت، فإن الثقافة والمعرفة والحالة الفكرية قد   (1) انظر المراجع السابقة. (2) انظر المصادر السابقة، وتاريخ التشريع الإِسلامي -للخضري بك- ص 275، تاريخ الخلفاء- للسيوطي ص 405 - 419، الفتح المبين -للمراغي: 1/ 215 - 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 نمت وانتشرت انتشارًا واسعًا وازدهر الفكر ازدهارًا كبيرًا، فتعددت الدراسات الإِسلامية في مختلف الفنون مما حدى بكثير من المؤرخين بوصف هذه الفترة من التاريخ الإِسلامي بالعصر الذهبي بالنسبة للثقافة الإِسلامية، وأسباب هذا الازدهار تقريب الملوك والأمراء لبعض العلماء والأدباء وتنافسهم في إكرامهم وضمهم إلى بلاطهم، وكذلك انتشار المكتبات العامة، وإنشاء المدارس الخاصة والعامة، ومما شارك وساهم في هذه النهضة الفكرية كذلك انفتاح الحضارة الإِسلامية على الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية والهندية التي بدأت من عصر المأمون، وقد اشتغل بها عدد كبير من المثقفين حيث وجدت قبولًا بل وامتزاجًا ببعض فروع الثقافة الإِسلامية -على الرغم مما صاحب ذلك من مصائب وأخطار- وشيوع المناظرة والجدل. فلقد كانت بغداد -وهي موطن ومنشأ القاضي عبد الوهاب- من أكبر المراكز الثقافية والفكرية سواء من نجب فيها من العلماء الأعلام، أو لجأ إليها من طلاب العلم الذين جاءوا ينهلون من علومها ومواردها وليستفيدوا من تراثها الثقافي بمختلف فروعه. لقد حظيت هذه الفترة بحركة علمية واسعة شملت كل العلوم: الفقه وعلوم القرآن والحديث واللغة والأدب والفلسفة والكلام والفلك والرياضيات والطب والصيدلة والجراحة والفيزياء والجغرافيا. فلا غرابة - إذن أن تنعكس هذه النهضة الفكرية الشاملة على نفسي القاضي عبد الوهاب الذي كان يلم بشتى أنواع العلوم والفنون كما سنعرف ذلك في ترجمته إن شاء الله. ... • الحالة الدينية (1): في هذه الفترة تميزت الحياة الدينية بتوسع الحركة العقدية، وتعدد الفرق واشتداد التنافس والنزاع بينها، وكانت الدولة تتدخل في الشؤون العقائدية،   (1) انظر الكامل: 7/ 355، البداية والنهاية: 11/ 380، 12/ 3303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومثال ذلك مسائل الخلاف بين أهل السُّنَّة والمعتزلة، كما كانت تقوم بتولية القضاه وغير ذلك، كما قام أساتذة المدارس الفقهية بوضع أسسها وتدوين فقه أئمتها إلا أنه بنهاية القرن الرابع ركدت حركة الاجتهاد حتى أصبح الفقيه لا يستطيع الاجتهاد إلا في المسائل الفرعية، كما كثرت المناظرات والردود بين أرباب المذاهب وأصحابها. ويلخص لنا شيخ الإِسلام ابن تيمية الوضع الإجمالي في هذه الفترة تلخيصًا دقيقًا بقوله: " ... وفي دولة "بني بويه" ونحوهم الأمر بالعكس، فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة: قوم منهم زنادقة، وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة، وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم، فحصل في أهل الإِسلام والسُّنَّة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإِسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثير .. " (1). ...   (1) مجموع الفتاوي - لابن تيمية: 4/ 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 المبحث الثاني: القاضي عبد الوهاب (1) • اسمه ونسبه : هو أبو محمَّد عبد الوهاب بن عليّ بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون ابن أمير العرب مالك بن طرق التغلبي البغدادي العراقي المالكي.   (1) مصادر ترجمته: ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك - للقاضي عياض: 7/ 220. الديباج المذهب- لابن فرحون: 2/ 26. شجرة النور الزكية- للمخلوف ص 103. تاريخ بغداد- للخطيب البغدادى: 11/ 31. تاريخ قضاه الأندلس- للنباهي ص 40. تبيين كذب المفترى- لابن عساكر: ص 249. البداية والنهاية- لابن كثير: 13/ 33. الذخيرة في محاسن الجزيرة- لابن بسام: 4/ 515. سير أعلام النبلاء- للذهبي: 17/ 429. العبر- للذهبي: 3/ 140. شذرات الذهب- لابن العماد: 3/ 223. طبقات الفقهاء- للشيرازي ص 168. وفيات الأعيان- لابن خلكان: 3/ 220. فوات الوفيات- لابن شاكر الكبتي: 2/ 419. النجوم الزاهرة- للأتابكي: 4/ 276. مرآة الجنان- لليافعي: 3/ 41. معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان- للدباغ: 3/ 134. حسن الحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة- للسيوطى: 1/ 314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 • مولده : ولد ببغداد سنة 362 هـ. قال ابن العماد: " .. كانت ولادته ببغداد يوم الخميس سابع شوال سنة اثنتين وستين وثلثمائة" (1). ... • نشأته : نشأ القاضي عبد الوهاب في دار علم وفقه وأدب وفضل، فإن أباه عليّ بن نصر (ت 391 هـ) من أعيان الشهود المُعدِّلين ببغداد. وكان أخوه أبو الحسن محمَّد بن عليّ بن نصر (ت 432 هـ) أديبًا فاضلًا، صنَّف كتاب "المفاوضة" للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور بن أبي طاهر بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بوية (ت 437 هـ)، وجمع في هذا الكتاب ما شاهده، وهو من الكتب الممتعة في ثلاثين كراسة، وله رسائل (2). ولم نظفر بشيء عن نشأته وتربيته وتعلمه -فيما اطلعنا عليه من مصادر- وأصحاب التراجم يغفلون هذا الجانب وعذرهم في ذلك: إن نشاة العلماء تتلخص في أخذ العلم وتحصيله كغيره من أترابهم ثم لا يظهر تمايزهم إلا عند مبلغهم مبلغ الرجال. وما نعرفه عن القاضي عبد الوهاب أنه نشأ وعاش عيشة صعبة، فقد عزَّ قوته وضاق به الحال، ولقد ضن بدينه ومرؤته أن يمتهن ويبيع ذلك في أسواق الخلفاء وبلاط الأمراء، كما كان يفعل ذلك بعض العلماء .. ؟! ...   (1) انظر: شذرات الذهب: 3/ 223، الوفيات: 3/ 222. (2) انظر الوفيات: 3/ 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 • شيوخه : قيل للقاضي عبد الوهاب: مع من تفقهت؟، قال: صحبت الأبهري وتفقهت مع أبي الحسن بن القصار وأبي القاسم بن الجلاب، والذي فتح أفواهنا وجعلنا نتكلم القاضي أبو بكر بن الطيب (1)، يقصد الباقلاني. فقد أخذ عن هؤلاء وغيرهم من العلماء والشيوخ وفيما يلي تعريف لكل منهم: 1 - أبو بكر الأبهري (2): محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن صالح التميمي الأبهري، شيخ المالكية، نزيل بغداد وعالمها، ازداد وانتشار المذهب عنه في البلاد، كان ثقة مأمونًا زاهدًا ورعًا، انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي، أخذ عنه القاضي عبد الوهاب فقه المذهب، ومن شيوخه أبو القاسم البغوي والباغندي وعبد الله بن زيدان البجلي -ومن تلاميذه الدارقطني و ابن الجلاب وأبو بكر البرقاني (ت 375 هـ). 2 - العسكري (3): أبو عبد الله الحسين بن محمَّد بن عبيد بن مخلد العسكري البغدادي الدقاق: كان ثقة أمينًا، حدث عن محمَّد بن يحيى المروزي، وأبي العباس بن مسروق ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة وجماعة، وروى عنه: أبو القاسم الأزهري، والحسن بن الخلال وغيرهما. (ت 375 هـ). 3 - ابن سبنك (4): القاضي أبو القاسم عمر بن محمَّد بن إبراهيم بن محمَّد بن خالد بن سبنك البجلي البغدادي: من ذرية جرير بن عبد الله. قال الخطيب: كان ثقة، سمع   (1) الديباج المذهب: 2/ 26. (2) الديباج المذهب: 2/ 206، شذرات الذهب: 34/ 85، تاريخ بغداد: 5/ 461. (3) شذرات الذهب: 3/ 85، سير أعلام النبلاء: 16/ 317. (4) سير أعلام النبلاء: 16/ 378، شذرات الذهب: 3/ 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 محمَّد بن حبان والباغندي، وأخذ عنه القاضي عبد الوهاب وأبو القاسم التنوخي وآخرون. (ت 376 هـ). 4 - ابن الجلاب (1): أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله بن الجلاب: شيخ المالكية، كان أفقه المالكية في زمانه، له كتاب "التفريع" مشهور، أخذ عن الأبهري وأخذ عنه العلم القاضي عبد الوهاب، وأبو الحسن الطائفي البصري وغالب المحاربي من أهل غرناطة (ت 378 هـ). 5 - ابن شاهين (2): عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن أزداذ البغدادي: الواعظ، كان ثقة مأمونًا، صنَّف ما لم يصنفه أحد، سمع أبا بكر الباغندي، وأبا القاسم البغوي وأبا بكر بن أبي داود وغيرهم، وحدث عنه أبو بكر الوراق وأبو أحمد الجوهري والخلال وغيرهم (ت 385 هـ). 6 - مخلص (3): أبو ظاهر محمَّد بن عبد الرحمن بن العباس بن عبد الرحمن بن زكريا البغدادي: المخلص، كان ثقة، سمع من أبي القاسم البغوي، وأحمد بن سليمان الطوسي، وأبي عمر محمَّد بن يوسف القاضي، وأخذ عنه أبو محمَّد الخلال، وأبو سعد السمان، وعبد العزيز القطان وغيرهم (ت 393 هـ). 7 - ابن القصار (4): أبو الحسن عليّ بن عمر بن أحمد بن القصار البغدادي: شيخ المالكية، كان أصوليًّا نظَّارًا، له كتاب في مسائل الخلاف لا يعرف أحسن منه، اختصره   (1) الديباج المذهب: 1/ 461، سير أعلام النبلاء: 16/ 383. (2) تاريخ بغداد: 11/ 265، شذرات الذهب: 3/ 117. (3) سير أعلام النبلاء: 16/ 478، شذرات الذهب: 3/ 144. (4) الديباج المذهب: 2/ 100، سير أعلام النبلاء: 17/ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 القاضي عبد الوهاب، ولقد كان ابن القصار قرينًا للقاضي عبد الوهاب يأخذ هذا عن ذاك، حدَّث عن عليّ بن الفضل التسوري وغيرهما، روي عنه: أبو ذر الحافظ، وأبو الحسن بن المهتدى بالله (ت 398 هـ). 8 - الباقلاني (1): أبو بكر محمَّد بن الطيب بن محمَّد بن جعفر بن قاسم: مقدم الأصوليين، كان إمامًا بارعًا، صنَّف في الرّد على الرافضة والمعتزلة وغيرهما من الطوائف، إليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، سمع من القطيعي وابن ماشا وغيرهما، حدَّث عنه أبو ذر، وأخذ عنه القاضي عبد الوهاب كثيرًا في فن الأصول وعلم الكلام -وهو الذي فتح أفواههم وجعلهم يتكلمون كما قال القاضي عبد الوهاب (ت 403 هـ). 9 - ابن الصلت المجبر (2): أبو الحسن أحمد بن موسى بن القاسم بن الصلت المُجبر العبدري البغدادي: سمع من أبي إسحاق بن عبد الصمد الهاشمي، وأحمد بن عبد الله وكيل أبي صحرة، والقاضي المحاملي، وحدَّث عنه عبيد الله الأزهري، وعبد الباقي الأنصاري وغيرهما (ت 405هـ). 10 - ابن شاذان (3): أبو عليّ الحسن بن أبي بكر بن إبراهيم بن شاذان البغدادي البزاز الأصولي: كان ثقة، صحيح السماع، صدوقًا. (425 هـ). ...   (1) الديباج المذهب: 2/ 228، تاريخ بغداد: 5/ 379، شذرات الذهب: 3/ 168. (2) سير أعلام النبلاء: 17/ 186، شذرات الذهب: 3/ 174. (3) شذرات الذهب: 3/ 229، تاريخ بغداد: 7/ 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 • خروجه من العراق ورحلته إلى مصر : اختلفت الآراء في سبب خروج القاضي عبد الوهاب من بلده وموطنه العراق، فأكثر المصادر تقول: بأنه خرج من العراق لضيق حاله وللإفلاس الذي لحق به، ففي يوم توديعه للعراق شيَّعه يوم فصل عنها من أكابرها وأصحاب محابرها جملة موفورة وطوائف كثيرة، وأنه قال لهم عندما وقفهم للتوديع وعزَّ عليهم في الرجوع: والله يا أهل بغداد، لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت ببلدكم بلوغ آمنية، والخبر عندهم يومئذ ثلاثمائة رطل بمثقال (1). وقال لهم أيضًا: .. ولقد ترك أبي جملة دنانير ودارًا أنفقتها كلها على صعاليك ممن كان ينهض بالطلب عندي، فنكس كل واحد منهم رأسه، ثم أمرهم بالانصراف فانصرفوا وأنشد: لا تطلبن من المجبوب أولادا ... ولا الشراب لتسقي منه واردا ومن يروم من الأرذال مكرمة ... كمن يؤتد في الأتبان أوتادا (2) ومما ارتجله أيضًا يومئذ هذه الأبيات (3): سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني السلام المضاعف لعمرك ما فارقتها قاليا لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت عليَّ برحبها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف فكانت كخِلِّ كنت أهوى وصاله ... وتنأى أخلاقه وتخالف وقيل أن سبب خروجه من بغداد كلام نقل عنه: أنه قاله في الإِمام الشافعي وطُلب لأجله فعجل بالفرار منها خائفًا على نفسه (4).   (1) الذخيرة في محاسن الجزيرة: 4/ 516. (2) ترتيب المدارك: 7/ 223. (3) ترتيب المدارك والوفيات: 3/ 225، تاريخ قضاة الأندلس ص 41. (4) ترتيب المدارك: 7/ 224، تاريخ قضاة الأندلس ص 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفي طريقه إلى مصر مرّ على دمشق فاجتاز في وجهته تلك بمعرة النعمان وبها يومئذ أبو العلاء أحمد بن سليمان (1) فضيفه وقال فيه: والمالكي ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النآي والسفر إذا تفقه أحيا مالكًا جدلًا ... وينشر الملك الضليل إن شعرا (2) والملك الضليل هو امرؤ القيس وكفى بها شهادة لشاعرية هذا الفقيه من أبي العلاء فيلسوف الشعراء (3). ولما وصل إلى مصر تولى القضاء، فحمل لواءها وملأ أرضها وسماها واستتبع سادتها وكبراءها، وتناهت إليه الرغائب وانثالت في يديه الرغائب (4)، وكانت نيته المواصلة إلى المغرب (5)، فأكرمه أهل المغرب ورفعوا من قدره وشأنه وحصل له هناك حال من الدنيا، فممن أكرمه الإمام أبي محمد أبي زيد القيرواني، فقد ذكر أنه بعث إلى القاضي عبد الوهاب بألف دينار عينًا، فلما بلغته قال: هذا رجل وجبت على مكافأته فشرح الرسالة (6). وبالنظر إلى سنة وفاة الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد (ت 386 هـ)، نقول: لعل هذه الصلة كانت ببغداد أو من أبناء الشيخ الذين خاطبوا القاضي عبد الوهاب، وانعقدت بينه وبينهم صلة بسبب شرحه تآليف أبيهم، ووصلوه بمال يرضه واستدعوه للدخول إلى المغرب فكتب إليهم.   (1) أبو العلاء المعري: هو أحمد بن عبد الله بن سليمان، ولد بمعرة النعمان وهي قرية تقع في الجنوب الغربي من مدينة حلب، له نظم "لزوم ما لا يلزم"، و"الهمزة والردف"، توفي سنة 449 هـ. (وفيات الأعيان: 1/ 113، وسير علام النبلاء: 18/ 23). (2) الذخيرة: 4/ 516، سير أعلام النبلاء: 17/ 429. (3) انظر: أدب الفقهاء - عبد الله كنون ص 36. (4) الديباج المذهب: 2/ 26، الوفيات: 2/ 219، الذخيرة: 4/ 516. (5) ترتيب المدارك: 7/ 225. (6) معلم الإيمان: 3/ 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ويلاحظ أن القاضي عبد الوهاب بعد رحيله عن بغداد تأثر كثيرًا من ابتعاده عنها وبدى منه ندم عظيم، ويظهر ذلك من خلال أشعاره التي كتبها في ذلك، ومنها قوله (1): أنا في الغربة أبكي ... ما بكيت عين غريب لم أكن يوم خروجي ... من بلادي بالمصيب نجيا لي ولتركي ... وطنًا فيه حبيبي وقال (2): قطعت الأرض شهري ربيع ... إلى مصر وعدت إلى العراق فقال لي الحبيب وقد رآني ... سبوقًا للمضمرة العتاق ركبت على البراق؟ فقلت: كلا ... ولكني ركبت على اشتياقي وقال يتشوق إلى بغداد (3) في قصيدة طويلة نختار منها: خليلي في بغداد هل أنتما ليا ... على العهد مثلي أدم غدًا العهد باليا وهل أنا مذكور بخير لديكما ... إذا ما جرى ذكره بمن كان نائيا وهل ذرفت عند النوى مقلتاكما ... عليَّ كما أمسى وأصبح باكيا وكم قائل لو كان ودك صادقًا ... لبغداد لم ترحل، فكان جوابيا يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمعسرين المراميا وما هجروا أوطانهم عن ملالة ... ولكن حذارا من شمات الأعاديا وقال وهو يبكي على بغداد (4): أتبكي على بغداد وهي قريبة ... فكيف إذا ما ازددت عنها غدا بعدًا   (1) الذخيرة في محاسن الجزيرة: 4/ 525. (2) المصدر السابق: 5/ 528. (3) المصدر السابق: 4/ 527. (4) المصدر السابق: 4/ 522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 لعمرك ما فارقت بغداد عن قِلي ... لها إن وجدنا للفراق بها بدًا إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت ... من الشوق أو كادت تموت بها وجدا أنا ذاك الصديق لكن قلبي ... عند قرب الديار ليس بقلب ما انتفعنا بقربكم ثم لا لو ... ـم عليكم وإنما الذنب ذنبي أنا في خطبة وأسأل ربي ... في خلاصي من شرها ثم حسبي لقد خاطب فقهاء القيروان في الوصول إليها فرغبه في ذلك أبو عمران الفاسي وكسره عنه أبو بكر بن عبد الرحمن (1). ويجب أن نذكر أنه رحل إلى مكة لأداء فريضه الحج، وفي أثناء تأديته لهذه الفريضة حصلت بينه وبين المنتصر بالله حاكم مصر وقتئذٍ مراسلة فيما يلي نصها (2): إلى المنتصر بالله صاحب مصر: حصن الله المؤمنين من الشيطان بجنن الطاعة ودثرهم من قر وسواسه بسرابيل القناعة، ووهبهم من نعمه مددًا ومن توفيقه رشدًا، وصيَّرهم إلى منهج الإِسلام وسبيله الأقوم وجعلهم من الآمنين فيما هم عليه موقوفون وزيَّنهم بالتثبيت فيما عنه مسؤولون: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (3). كتابي إليك من الجب بإزاء مصرك وفناء برك بعد أن كانت بغداد لي الوطن والألفة والسكن، ولما كنت على مذهب صحيح ومتجر ربيح كثرت عليَّ الخوارج، وشق علي الماء ارتقاء المناهج {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4)، فأتيت مكة -حرسها الله- لكي أقضي فرض الحج من   (1) ترتيب المدارك: 7/ 226. (2) الذخيرة: 4/ 520. (3) سورة فصلت، الآية: 46. (4) سورة الحج، الآية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عج وثج أسأل الله تعالى القبول وكيف وإنما يتقبل الله من المتقين، وقد كنت عندي ذا سُنَّة ودين محبا في الله تعالى وفي النبيين وفي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والمهديين، فورد الناطقون وأتى المخبرون، بخبر ما أنت عليه فذكروا أنك مدحض لمذهب مالك، موّعد لصاحبه بأليم المهالك هيهات هيهات: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (1)، فأبيت القبول على أمر لم يصح بيانه لكثرة الكذب في الدنيا، وإذ لا يحل لمسلم أن يموت طوعًا فأردت الكشف عن ذلك بكتاب منك، والسلام على من اتبع الهدى. جواب المستنصر بالله: حرس الله مهجتك وطول مدتك، وقدم أمير المؤمنين إلى المنية قبلك وخصه بها دونك، ورد كتابك المكرم وأتى خطابك المعظم يفصح البكم وينزل العصم، وهبت عليه رياح البلاغة فنمقته، ووكفت عليه سحائب البراءة فرققته، فيا له من خط بهي ولفظ شهي تذكر فيه حسن ظنونك بنا وتثبت مآثرنا، فلما أن عرست بإزائها، ورد من فسخ عليك، فخذ بظاهرها ما كان عندك ورد ودع لربك علم ذات الصدور والسلام (2). ... • فضائله وأخلاقه ومكانته العلمية وأقوال العلماء فيه : لقد كان القاضي عبد الوهاب عابدًا زاهدًا متأدبًا ثقة كثير الحفظ، وكان حسن النظر جيِّد العبارة، فقيهًا متفننًا باهرًا أديبًا، من أعيان علماء الإِسلام، سما قدره وشاع في الأفق ذكره، قال ابن بسام: "كان أبو محمَّد في وقته بقية الناس ولسان أصحاب القياس، وهو أحد من صرَّف وجوه المذهب المالكي بين لسان الكناني ونظر اليوناني فقدَّر أصوله وحرَّر فصوله وقرر جمله وتفاصيله، ونهج فيه سبيلًا كانت قبله طامسة المنار دارسة الآثار, وكان أكثر الفقهاء -ممن لعله- كان أقرب سندًا وأرحب أمدًا قليل مادة البيان كليل شباة اللسان، قلما يصل في كتبه   (1) سورة الزمر، الآية: 30 - 31. (2) الذخيرة: 4/ 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 غير مسائل يلقفها ولا يثقفها ويبوبها ولا يرتبها، فهي متداخلة النظام غير مستوفاة الأقسام، وكلهم قد قلد أجر ما اجتهد وجزاء ما نوى واعتقد" (1). ولقد كان أحد أركان المذهب المالكي، من الذين أسسوا المذهب وأصلوا له فهو أحد أئمة المالكية ومصنفيهم، وإليه انتهت رئاسة المذهب (2). قال الحنطيب البغدادي فيه: "لم نلق من المالكيين أفقه منه" (3). ألَّف في المذهب والخلاف والأصول تآليف بديعة مفيدة (4)، كما أصبحت لآرائه أهمية خاصة في المذهب حتى جعلت هذة الآراء دليل ترجيح ومذهبًا متبعًا, فمما جاء في مقدمات ابن رشد: " ... وقد اختلف في صريحه -أي الطلاق- ما هو على ثلاثة أقوال: أحدها: أن صريحه لفظ الطلاق خاصة وأن كناياته ما عدا ذلك مثل قوله: خلية وبرية وحبلك على غاربك، وما أشبه ذلك وهو مذهب عبد الوهاب ... " (5). ولقد ذكر بأن سبب انتشار المذهب المالكي في مصر ثانية -بعد أن درس- هو القاضي عبد الوهاب (6). ولقد تفقه عليه مجموعة كبيرة من العلماء الذين ذاع صيتهم في الآفاق والذين سيأتي ذكرهم. وكان القاضي أبو بكر الباقلاني يعجبه حفظ أبي عمران الفاسي القيرواني (7)   (1) الذخيرة- لابن بسام: 4/ 515. (2) شذرات الذهب: 3/ 223. (3) تاريخ بغداد: 11/ 30. (4) تاريخ قضاة الأندلس ص 41، وسوف يأتي ذكر جميع مؤلفاته. (5) المقدمات: 1/ 578. (6) انتصار الفقير المسالك- للراعي ص 307. (7) أبو عمران الفاسي: أبو عمران موسى بن عيسى بن أبي الحجاج الغفجومي، سكن القيروان، وحصلت له بها رئاسة العلم، رحل إلى المشرق، فدرس الأصول عند أبي بكر الباقلاني، أخذ عنه الناس من المغرب والمشرق، توفي سنة 430 هـ (الديباج المذهب: 2/ 377). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ويقول: " .... لو اجتمع في مدرستي هو وعبد الوهاب -صاحب المعونة- لاجتمع علم مالك: أبو عمران يحفظه وعبد الوهاب ينصره"، وقال عنهما: "لو رآكما مالك لسر بكما" (1). وقال الخطيب البغدادي فيه: كأن حسن النظر، جيِّد العبارة (2). ونقل المقري عن ابن بسام قوله: "بلغني عن ابن حزم أنه كان يقول لو لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب إلا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم ... " (3)، وهذه شهادة كبيرة من ابن حزم للقاضي عبد الوهاب قبل أن تكون لأبي الوليد الباجي. كما قال فيه ابن فرحون: "القاضي أبو محمَّد: أحد أئمة المذهب كان حسن النظر، نظارًا للمذهب، ثقة، حُجَّة، نسيج وحده وفريد عصره" (4). وقال صاحب كتاب "النجوم الزاهرة": " .. وكان شيخ المالكية في عصره وعالمهم" (5). وقال ابن القيم عنه: " .. القاضي عبد الوهاب إمام المالكية بالعراق من كبار أهل السُّنَّة -رحمهم الله تعالى-" (6). ولقد كان القاضي عبد الوهاب منكبًا على العلم: طلبًا وتعليمًا وتأليفًا، مقبلًا عليه منشغلًا به، لا يسعه غيره ولا يعرج على غيره. ... فقد حكي عنه أنه لما أن دخل مصر وتأهل بها وقعد مع زوجته سنين ثم   (1) الديباج المذهب: 2/ 338، ترتيب المدارك: 7/ 246. (2) ترتيب المدارك: 7/ 246. (3) نفع الطيب من غصن الأندلس الرطيب: 2/ 69. (4) الديباج المذهب: 2/ 26. (5) النجوم الزاهرة: 4/ 276. (6) اجتماع الجيوش الإِسلامية ص 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 مات -رحمها الله تعالى- أراد أهلها أن يزوجوها، فقالت لهم: إذا عزمتم فزوجوني على أني بِكْرٌ. فقالوا لها: كيف؟ وقد أقمت سنين معه. فقالت: أول ليلة دخل عليَّ صلَّى ركعتين وجلس ينظر في كتبه، ولم يرفع رأسه، ثم كذلك في سائر أيامه، فقمت يومًا ولبست وتزينت ولعبت بين يديه، فرفع رأسه ونظر إليَّ وتبسم وأخذ القلم الذي بيده فجره على وجهي وأفسد به زينتي ثم أكب رأسه على كتبه لم يرفعه بعدّ ذلك حتى انتقل إلى ربه -عَزَّ وجَلَّ-. فمن كانت له همة سنية فلينسج على منواله ... " (1). ... • القاضي عبد الوهاب فقيهًا وأصوليًّا: برع القاضي عبد الوهاب في الفقه والأصول، لذا كانت جلّ كتاباته ومؤلفاته تدور حوله هذين الفنين من العلوم فقط. وذلك لأنه اجتمع للقاضي عبد الوهاب أمران: التمكن من الفقه المالكي تمكنًا عديم النظر مع سمعة التفكير، وانضاف إلى ذلك سيلان قلمه في تحريره، فبلغ رتبة ممتازة في الغوص الفقهي وسعة التحليل في إبداء النظر الثاقب في التحريرات الفقهية والتدقيقات العلمية (2). مما أعط لكتبه وزنًا خاصًّا سواء في داخل المذهب المالكي أو في عموم الفقه الإِسلامي: فإن أكثر الفقهاء ومفسري القرآن وشراح الحديث ينقلون عنه ويستدلون بآرائه وأقواله ومن هؤلاء نذكر: ابن رشد (ت 520)، والباجي (474 هـ)، والقرافي (684 هـ)، وابن   (1) المدخل- لابن الحاج: 2/ 180. (2) انظر مقدمة: تحقيق كتاب المعلم: 1/ 35 - 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فرحون (799 هـ)، والقرطبي (671 هـ)، والحافظ ابن حجر (852 هـ)، والسيوطي (911 هـ) وغيرهم. وقد وصل القاضي عبد الوهاب في الفقه إلى درجة مرموقة حتى عده السيوطي من الفقهاء المجتهدين (1) في المذهب. هذا في الفقه، أما في الأصول فقد سجل عصر القاضي عبد الوهاب تقدم هذا العلم بخاصة وتفوقه إذ تهيئا له من الأعلام المتخصصين فيه العدد الكبير أمثال الباقلاني والقاضي عبد الوهاب والدبوسي أبو زيد وأبو الحسين البصري وإمام الحرمين الجويني وأبو حامد الغزالي وغيرهم، مما أوجد نشاطًا أصوليًّا، لا يضارعه نشاط وما زالت المؤلفات الأصولية في العصور المتأخرة عاله على إنتاج هؤلاء العلماء في هذه الفترة فأصبحت المصدر والمورد فكرًا ومضمونًا (2). والقاضي عبد الوهاب حلقة وصل بين كبار علماء الأصول كالباقلاني وابن القصار اللذين درس عليهما واستفاد منهما استفادة جليلة في هذا الفن -وهما غنيان عن التعريف وعن ذكر براعتهما في هذا العلم- وبين العلماء اللاحقين كالشيرازي (476 هـ)، والباجي والقرافي والزركشي والسيوطي وغيرهم. فالشيرازي أخذ عنه وقال: "سمعت كلامه في النظر" (3)، وهو شيخ الباجي الذي محمد القاضي من المحققين في هذا العلم (4)، وأما القرافي فإن كتابيه شرح تنقيح الفصول ونفائس الأصول -من مصادرها الأساسية والتي ينقل عنها باستمرار كتب القاضي عبد الوهاب الأصولية كالإفادة والتلخيص (5) وغيرهما، وكذلك الزركشي في كتابه البحر المحيط فإنه ينقل عن مجموعة كتب   (1) حسن المحاضرة: 1/ 314، والاجتهاد ص 194. (2) الفكر الأصولي- عبد الوهاب أبو سليمان ص 168. (3) الطبقات ص 163. (4) أحكام الفصول في أحكام الأصول ص 78. (5) انظر: شرح تنقيح الفصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 القاضي عبد الوهاب الأصولية ونذكر منها "المفاخر" و "الملخص" و "الإفادة" وغيرها (1)، أما السيوطي فإن كتابه "الاجتهاد" أكثر فيه من النقل عن آراء وتوجيهات القاضي عبد الوهاب في باب الاجتهاد من هذا الفن. ... • توليه القضاء : من أهم الأعمال التي قام بها القاضي عبد الوهاب في حياته توليه القضاء في مناطق كثيرة من العراق ومصر. فقد كان أبو محمَّد قاضيًا في بادرايا (2)، وباكسايا (3)، وهما بلدتان من أعمال العراق (4). وذكر صاحب الذخيرة (5) أنه ولي القضاء بمدينة أسعرد (6)، وقال القاضي عياض (7) أنه ولي قضاء الدينور (8).   (1) انظر: البحر المحيط: 1/ 8. (2) بادرايا (ياء بين الألفين): طسوج بالنهروان وهي بلدة بقرب باكسايا بين البندنيجين ونواحي واسط، يقال: إنها أول قرية جُمع منها الحطب لنار إبراهيم (معجم البلدان: 1/ 316). (3) باكسايا (بضم الكاف وبين الألفين ياء): بلدة قرب البندنيجين وبادرايا بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي في أقصى النهروان (معجم البلدان: 1/ 327). (4) انظر ترتيب المدارك: 7/ 220، تاريخ بغداد: 11/ 31، البداية والنهاية: 12/ 33. (5) الذخيرة: 4/ 517، الوفيات:/ 222. (6) أسعرد: وهي بلدة إلى الجنوب من ميا فارقين (انظر تقويم البلدان لأبي الغداء صاحب حماة ص 289). (7) ترتيب المدارك: 7/ 220، تاريخ قضاه الأندلس ص 40. (8) الدينور: مدينة من أعمال الجبل قرب ميسين، وبين الدينور وهمذان نيف وعشرون فرسخًا وأهلها أجود طبعًا، وبها الثمار والزرع الكثيرة. (معجم البلدان: 2/ 545). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولقد كان قاضيًا في مصر حين توفي بها (1). ... • تلاميذه : 1 - ابن عمروس (2): محمَّد بن عبيد الله بن أحمد بن عمروس البزاز البغدادي، شيخ المالكية، إليه انتهت الفتوى ببغداد، كان من كبار المقرئين، فقيهًا أصوليًّا صالحًا، أخذ عن القاضيين بن القصار وعبد الوهاب، وسمع أبا حفص بن شاهين، وروى عنه الخطيب البغدادي، ودرس عليه القاضي أبو الوليد الباجي (ت 452 هـ). 2 - الخطيب البغدادي (3): أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب البغدادي، خاتمة الحُفَّاظ، وصاحب التصانيف الكبيرة، سمع من أبي الفضل التميمي وأبي العلاء الوراق وغيرهم، قال الخطيب البغدادي عن القاضي عبد الوهاب: ..... كتبت عنه وكان ثقة (4) (ت 463 هـ). 3 - عبد الحق بن هارون (5): أبو محمَّد عبد الحق بن هارون السهمي الصقلي، شيخ المالكية، ناظر بمكة المكرمة أبا المعالي إمام الحرمين وباحثه، موصوف بالذكاء وحسن التصنيف، تفقه بشيوخ القيروان كأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي عمران الفاسي ولقي   (1) الديباج المذهب: 2/ 26، شجرة النور الزكية ص103. (2) الديباج المذهب: 2/ 238، شذرات الذهب: 3/ 290، سير أعلام النبلاء: 18/ 73. (3) سير أعلام النبلاء: 18/ 270، تذكرة الحفاظ: 3/ 1135. (4) تاريخ بغداد: 11/ 31. (5) الديباج المذهب: 2/ 56، شجرة النور الزكية ص 116، سير أعلام النبلاء: 18/ 301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 القاضي عبد الوهاب في الحج، له كتاب "النكت والفروق لمسائل المدونة"، و"التهذيب الطالب" وغيرهما (ت 466 هـ). 4 - أبو الفضل الدمشقي (1): أبو الفضل مسلم بن عليّ بن عبد الله بن محمَّد بن حسين الدمشقي، يعرف بغلام عبد الوهاب، اشتهر به لطول صحبته وخدمته، له مؤلف مشهور في الفروق الفقهية، وآخذ مادته من كتاب "الفروق في مسائل الفقه" للقاضي عبد الوهاب شيخه: كما صرح بذلك في مقدمة كتابه حيث قال: " .. وقد كان القاضي -يقصد عبد الوهاب- رحمه الله تعالى- حدثني أنه عمل كتابًا وسماه "بالجموع والفروق"، وأنه تلف له ولم يعمل غيره، وذكر أيضًا أصحابه فروقًا مفترقة يصعب حفظها على من رامها، وتشتد علي من طلبها لأنهم لم يقصدوا إلى إفرادها، بل أوردوها في تضاعيف الكتب، وأنا أثبت لك من ذلك ما يسهل عليك تناوله ويقرب فهمه ... " (2). 5 - أبو العباس بن قبيس (3): أبو العباس أحمد بن منصور بن محمَّد بن قبيس الغساني الدمشقي، سمع من الغندجاني وأبو الحسن الواحدي والعكبري وغيرهم، يروي كثيرًا عن القاضي عبد الوهاب. 6 - أبو إسحاق الشيرازي (4): أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشيرازي، سمع البيضاوي والزجاجي وأبو حاتم القزويني وغيرهم، وحدث عنه الخطيب البغدادي، وأبو الوليد الباجي والكرخي وغيرهم، اشتهرت تصانيفه في الدنيا كالمهذب واللمع   (1) ترتيب المدارك: 4/ 765. (2) الفروق الفقهية- لأبي الفضل الدمشقي ص 61 - 62. (3) ترتيب المدارك: 4/ 765، سير أعلام النبلاء: 18/ 347. (4) شذرات الذهب: 3/ 349، سير أعلام النبلاء: 18/ 452. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والملخص في أصول الفقه، ولعله أخذ تسمية كتابه "المعونة في الجدل" من اسم هذا المصنف "المعونة على مذهب عالم المدينة" لشيخه القاضي عبد الوهاب. قال أبو إسحاق الشيرازي في تعريف القاضي عبد الوهاب: " .. أدركته وسمعت كلامه في النظر" (1) (ت 476 هـ). وغيرهم من التلاميذ من أئمة المالكية في المشرق والمغرب وأهل الأندلس منهم القاضي محمَّد بن الشماخ الغافقي وصاحبه مهدي بن يوسف (2). 7 - أما القاضي ابن الشماخ الغافقي فهو: أبو عبد الله محمّد بن الحبيب من أهل العلم والفضل، حمل عن القاضي عبد الوهاب جميع كتبه وأخذ عنه أهل الأندلس بعد رحلته المشرقية، كتب القاضي عبد الوهاب، وهكذا يكون له الفضل في نشر المؤلفات العراقية -المالكية- بالأندلس والمغرب (3). أما المهدي بن يوسف فلم أقف على ترجمة له. ... • آثاره العلمية ومؤلفاته : للقاضي عبد الوهاب كتب كثيرة في أكثر الفنون لكنه برع وبرز في تآليف الأصول والفقه المذهبي والخلاف، ومما ذكره المترجمون له ما يلي: 1 - التلقين: وهو من المختصرات التي يدور عليها مذهب مالك، ومع صغر حجمه يعد من أجود المختصرات، ومن خيار الكتب وأكثرها فائدة (4)، ولقد حُقق هذا   (1) طبقات الفقهاء ص 163. (2) ترتيب المدارك: 7/ 221، تاريخ قضاه الأندلس ص 41، الديباج المذهب: 2/ 26. (3) ترتيب المدارك: 8/ 165، المعيار المعرب: 10/ 60. (4) انظر الديباج المذهب: 2/ 26، فوات الوفيات: 2/ 420، سير أعلام النبلاء: 17/ 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الكتاب بجامعتنا أم القُرى من الطالب محمَّد ثالث سعيد الغاني سنة 1405 هـ -1406هـ. 2 - المعين على كتاب التلقين: وهو شرح من القاضي عبد الوهاب لمختصره التلقين لكنه لم يتمه (1)، وتوجد نسخه من هذا الكتاب في خزانة القرويين تحت رقم 355. 3 - شرط المدونة: بدأ القاضي عبد الوهاب بشرح المدونة، لكنه لم يتمه أيضًا (2). 4 - النصرة لمذهب الإِمام دار الهجرة: وهو من أعظم ما ألَّف القاضي عبد الوهاب، وكان هذا الكتاب في مائة جزء، فوقع الكتاب بخطه بيد بعض قضاة الشافعية، فألقاه في النيل (3) قبل أن يكتب له الانتشار. 5 - الممهد في شرط مختصر أبي محمَّد بن أبي زيد القيرواني: وهو شرح لمختصر المدونة الذي ألفه الشيخ ابن أبي زيد القيرواني صنع فيه نحو نصفه (4). ويوجد الجزء الخامس من هذا الشرح العظيم في مركز المخطوطات بمعهد البحث العلمي بجامعة أُم القرى وهو تحت رقم (48 فقه مالكي)، ويحتوي هذا الجزء على الأبواب التالية: الجعالة، القراض، المساقاة، الشركة، الوديعة، الوكالات، العصبة، الشهادات، الدعاوي، الإقرار، الرهن، العارية، الحجر، التفليس،   (1) انظر ترتيب المدارك: 7/ 222، تاريخ قضاة الأندلس ص 41. (2) انظر ترتيب المدارك: 7/ 222، الديباج المذهب: 2/ 28. (3) انظر: شجرة النور الزكية ص 104، انتصار الفقير السالك. (4) انظر ترتيب المدارك: 7/ 222، شجرة النور الزكية ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الضمان، الحوالة، الصلح، إحياء الموات، اللقيط، اللقطة، الغصب، الاستحقاق، الهبات، الصدقات، الأحباس، الوقف، الشفعة، القسمة، الوصية. 6 - شرح رسالة ابن أبي زيد: ولقد سبق وأن ذكرنا سبب وقصة تأليفه شرح الرسالة، ولقد قيل بأنه أول شارح لها، وسلك في شرحه مسلك الإسهاب والإطناب في نحو ألف ورقة، ولقد بيعت أول نسخة من هذا الشرح بمائة مثقال ذهبًا (1)، ولقد قال شعرًا حسنًا في مدحه للرسالة هذا نصه: رساله علم صاغها العلم النهد ... قد اجتمعت فيها الفرائض والزهد أصول أضاءت بالهدى فكأنما ... بدى لعيون الناظرين بها الرشد وفي صدرها علم الديانة واضحًا ... وآداب خير الخلق ليس لها ند لقد أم بانيها السداد فذكره ... بها خالد ما حج واعتمر الوفد ويوجد من هذا الشرح جزء مخطوط بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 625 ق (2). 7 - المعونة على مذهب عالم المدينة: وسوف يأتي الحديث مفردًا لهذا الكتاب الذي ألَّفه كمدخل لشرحيه السابقين. 8 - عيون المسائل (3): وهو في الفقه، وقد ذكره ابن فرحون ونقل عنه في كتابه اللطيف "درة الغواص في محاضرة الخواص" (4).   (1) انظر ترتيب المدارك: 7/ 222، الديباج المذهب: 2/ 28، معالم الإيمان: 3/ 112. (2) انظر مقدمة تحقيق الرسالة ص 43. (3) انظر ترتيب المدارك: 7/ 222، الديباج المذهب: 2/ 28، شجرة النور الزكية ص 104، إيضاح المكنون: 2/ 134. (4) درة الغواص في محاضرة الخواص ص 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ورأيت في فهرس مخطوطات خزانة القرويين (1) كتاب "عيون المجالس" للقاضي عبد الوهاب أبو محمَّد بن نصر البغدادي تحت رقم (1143)، لعله يكون هو أو يكون كتابا آخر له. 9 - اختصار عيون المجالس (2): وأظنه اختصار للكتاب السابق. 10 - اختصار عيون الأدلة: وهو اختصار لكتاب عيون الأدلة للقاضي ابن القصار، ولدى صورة للجزء الأخير من هذا الكتاب أوله كتاب "الظهار"، وينتهي بكتاب "الوصايا". مصور من خزانة القرويين ورقمه (80/ 291). قال القاضي عبد الوهاب في آخر الكتاب: "وقد نقلت لفظ القاضي رحمه الله حرفًا وحرفًا إلا في بعض المسائل فاختصرت في نقلها بعض الاختصار، وفي بعض المسائل قدمت وأخرت ولم نغير المعنى وهو قليل، وقد تركت فصولًا ومسائل لوقوع الاختلاف فيها، وعدد هذه المسائل ألف وأربعمائة وأربعون مسألة والحمد لله رب العالمين ... " (3). 11 - النظائر في الفقه: وهو في خزانة القرويين (4) تحت رقم (2/ 382)، ولم أجد في ترجمة القاضي عبد الوهاب نسبة ذلك الكتاب إليه، وإن ثبتت نسبته إليه، فإنه يعتبر من أول ما ألف عند المالكية في هذا الفن.   (1) فهرس مخطوطات خزانة القرويين: 3/ 249. (2) الأعلام: 4/ 184. (3) اختصار عيون الأدلة: 138/ أ. (4) فهرس خزانة القرويين: 1/ 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 12 - الأدلة في مسائل الخلاف (1): وينقل القرافي كثيرًا عن هذا الكتاب في كتابه "الذخيرة" (2). 13 - الإشراف على مسائل الخلاف (3): وهو كتاب في الفقه الموازن، مطبوع طبعة قديمة بمكتبة الإرادة بتونس في جزءين كبيرين. 14 - أوائل الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء المِلَّة (4): وهو في الفقه المقارن أيضًا. 15 - غرر المحاضرة ورؤوس مسائل المناظرة (5): وتوجد نسخة من هذا الكتاب مخطوطة في دار الكتب الوطنية بمدريد في أسبانيا تحت رقم (60) (6) .. 16 - شرح فصول الأحكام وبيان ما مضى به العمل عند الفقهاء والحكام (7): وهو في خزانة القرويين تحت رقم (1/ 382). وتوجد نسخة منه أيضًا بمكتبة الملك عبد العزيز بجدة - تحت رقم 110 فقه مالكي، وللباجي كتاب مطبوع بهذا الاسم.   (1) انظر: شجرة النور الزكية ص 104، فوات الوفيات: 2/ 420. (2) انظر: مقدمة الجزء الأول، المحقق ص 21 من كتاب "الذخيرة". (3) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222، تاريخ قضاة الأندلس ص 41. (4) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222، تاريخ قضاة الأندلس/ ص 41، شجرة النور الزكية ص 104. (5) انظر: الأعلام: 4/ 184. (6) ذكر ذلك بروكلمان في ملحق (1/ 660). (7) انظر: الأعلام: 4/ 184، فهرس خزانة القرويين: 1/ 375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 17 - الرد على المزني (1): وقد ذكره ونقل عنه شيخ الإِسلام ابن تيمية في كتابه "منهاج السُّنَّة النبوية" (2). 18 - الجوهرة في المذاهب العشرة (3). 19 - البروق في مسائل الفقه: ولعله الفروق في مسائل الفقه كما ذكر ذلك ابن فرحون في ديباجه (4)، ويعد هذا أول كتاب مالكي يؤلف في فن الفروق الفقهية، حيث لا يعلم ولم يصلنا من ألف من هذا الفن قبل القاضي عبد الوهاب (5) من المالكية. 20 - الإفادة (6): وهو في أصول الفقه يكثر ذكره القرافي في كتابه شرح تنقيح الفصول. 21 - التلخيص في أصول الفقه أيضًا (7): ويطلق عليه أيضًا "الملخص"، ويكثر النقل عنه القرافي والزركشي في كتابيهما، شرح تنقيح الفصول والبحر المحيط. 22 - المفاخر (8): وهو في أصول الفقه كذلك، ولعله نفسه كتاب" الأجوبة الفاخرة في أصول الفقه" الذي اعتمده الزركشي في تأليف كتابه "البحر المحيط" (9).   (1) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222. (2) منهاج السُّنَّة النبوية: 5/ 216. (3) انظر: هدية العارفين: 1/ 637. (4) انظر: الديباج المذهب: 2/ 28، شجرة النور الزكية ص 104. (5) انظر: مقدمة تحقيق كتاب "الفروق" - للونشريسي ص 52، (تحقيق حمزة أبو فارس). (6) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222، الديباج المذهب: 2/ 28. (7) انظر المصادر السابقة. (8) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222. (9) البحر المحيط: 1/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 23 - المقدمات في أصول الفقه: ولم أجد من ذكره ضمن ترجمة القاضي عبد الوهاب، وإنما نقل عنه وذكره كثيرًا السيوطي في كتابه "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"، ولعله يكون مقدمة لكتاب من كتبه الفقهية؟! فمما نقله "مقدمة هذا الكتاب"، حيث قال القاضي عبد الوهاب في أول كتابه "المقدمات في أصول الفقه": الحمد لله الذي شرع وكلف، وبين ووقف، وفرض وألزم، وأوجب وحتم، وحلل وحرم، وندب وأرشد، ووعد وأوعد، ونهى وأمر، وأباح وحظر، وأعذر وأنذر، ونصب لنا الأدلة والإعلام على ما شرع لنا من أحكام وفصل الحلال من الحرام والقرب من الآثام، وحض على النظر فيها والتفكر والاعتبار والتدبر، فقال جلَّ ثناؤه: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} (1)، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (2)، وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (3)، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4)، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (5)، وقال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (6). والتفقه من التفهم والتبين ولا يكون ذلك إلا بالنظر في الأدلة واستيفاء الحُجَّة دون التقليد، فإنه لا يثمر علمًا ولا يفضي إلى معرفة، وقد جاء النص بذم من أخلد إلى تقليد الآباء والرؤساء، واتباع السادة والكبراء تاركًا بذلك ما ألزمه من   (1) سورة الحشر، الآية: 2. (2) سورة النساء، الآية: 82. (3) سورة العنكبوت، الآية: 43. (4) سورة ص، الآية: 29. (5) سورة النساء، الآية: 83. (6) سورة التوبة، الآية: 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 النظر والاستدلال وفرض عليه من الاعتبار والاجتهاد، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (1). وقال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (2) في نظائر من الآيات تنبيه على خطر التقليد (3). 24 - وله تقييد على الأحكام الخمسة: "ضمن مجموع من ص 246 إلى 348 في خزانة تطوان برقم 826" (4). 25 - المروزي في الأصول (5): 26 - وله مؤلف في العقيدة: ذكره السكوني في كتابه "عيون المناظرات" حيث قال: " .. وقد ذكر القاضي عبد الوهاب في عقيدته أن مالكًا رحمه الله صنف عقيدة وأعطاها لابن وهب فكانت عنده" (6). ولعله يكون مقدمة عقدية لكتاب من كتبه على طريقة ابن أبي زيد القيرواني في كتابه "الرسالة". ...   (1) سورة البقرة، الآية: 170. (2) سورة الزخرف، الآية: 22. (3) انظر: كتاب "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) ص 107 - 109. (4) أفادني بهذه المعلومة الأستاذ عبد الرحمن الشعلان الذي أطلع عليها في زيارته للمغرب. (5) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222. (6) عيون المناظرات- للسكوني ص 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 • شعره : للقاضي عبد الوهاب شعر يروق العيون ويفوق المنثور والموزون، فهو صاحب البيتين المشهورين (1): بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيق أصبحت فيها مهانًا أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق ومما ينسب إليه (2): وقائله لو كان ودك صادقًا ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمى النوي بالمقترين المراميا وما هجروا أوطانهم عن ملالة ... ولا كن حذارا من شمات الأعاديا وقال (3). متى يصل العطاش إلى ارتواء ... إذا سقت البحار من الركايا ومن يثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا وإن ترفع الوضعاء يوما ... على الرفعاء من إحدى الرزايا إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا ومن شعره أيضًا (4): طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرًا ونلت من الزمان ونال مني ... فكان مناله حلوًا ومرًّا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... فلو أني قنعت لكنت حرًّا   (1) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222، الديباج المذهب: 2/ 28، الوفيات ص 222. (2) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222، تاريخ قضاة الأندلس ص 41، الوفيات ص 220. (3) انظر: الوفيات ص 221، شجرة النور الزكية ص 103. (4) انظر: الديباج المذهب: 2/ 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وأنشد في المسكرات أبياتًا يرد فيها على ما أشيع أنها تزيد في الشجاعة والمسرة وقوة النفس والميل إلى البطش فقال (1): زعم المدامة شاربوها أنها ... تنفي الهموم وتصرف الغما صدقوا سرت بعقولهم فتوهموا ... أن السرور لهم بها تما سلبتهم أديانهم وعقولهم ... أرأيت عادم ذين مغتما ولما نظم المعري البيت الذي شكك به على الشريعة في الفرق بين الدية والقطع في السرقة وهو: يد خمس مئين بمسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار أجاب القاضي عبد الوهاب المالكي -رضي الله عنه- بقوله: وقايه النفس أغلاها، وأرخصها ... وقاية المال فافهم حكمة الباري وهو جواب بديع معناه أن اليد لو كانت تودي بما تقطع فيه أو بما يقاربه لكثرت الجنايات على الأطراف لسهولة الغرامة فغلظ ذلك حفظًا لها .. " (2). أقول: وأيضًا لو لم تقطع الأيدي في ربع دينار أو ثلاثة دراهم، بل قطعت في قيمة ديتها وهو خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم لكثرت الجنايات على الأموال دون هذا القدر، فسبحان الحليم الخبير. ... • عقيدته : كان القاضي عبد الوهاب من أهل السُّنَّة، ولقد شهد بذلك ابن القيم وأستاذه شيخ الإِسلام ابن تيمية، فقد قال عنه ابن القيم: "قول القاضي عبد الوهاب   (1) ذكر هذه الأبيات القرافي في كتابه "الفروق"- الفرق الأربعون: 1/ 217. (2) من كتاب "القواعد" لأبي بكر بن محمَّد بن عبد المؤمن المعروف بتقي الدين الحضي (ت 829 هـ)، مخطوط، الورقة 19، وقد حققه الأستاذ عبد الرحمن الشعلان بجامعة الإِمام بن سعود الإِسلامية عام 1404هـ- 1405 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 إمام المالكية بالعراق من كبار أهل السُّنَّة -رحمهم الله تعالى- صرح بأن الله سبحانه استوى على عرشه بذاته نقله شيخ الإِسلام عنه في غير موضع من كتبه ونقله عنه القرطبي في شرح الأسماء الحسنى" (1). وقال ابن تيمية في ذلك: " .. قال أبو بكر محمَّد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها برسالة "الإيماء إلى مسألة الاستواء" لما ذكر اختلاف المتأخرين في الاستواء، وذكر أقوالاً متعددة قول الطبري أبي جعفر محمَّد بن جرير صاحب التفسير، وأبي محمَّد بن زيد، والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه، قال وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن -يعني الأشعري- نصًّا وهو أنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه بذاته، قال: وأطلقوا القول في بعض الأماكن "فوق" عرشه، قال أبو بكر الحضرمي وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكن في مكانه ولا يكون فيه ولا مماسة ... " اهـ (2). ... • وفاته : إقامة القاضي عبد الوهاب بمصر لم تطل، فقد مات بعد مقدمة إليها بقليل. وكان ذلك سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة (422 هـ)، وأكثر المؤرخين على أنه مات في شهر شعبان (3)، وقيل: إن وفاته كانت ليلة الاثنين الرابع عشر من صفر (4).   (1) اجتماع الجيوش الإِسلامية على غزو المعطلة والجهمية- لابن قيم الجوزية ص 58. (2) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية -أو نقص تأسيس الجهمية- لأبي العباس شيخ الإِسلام أحمد بن تيمية: 2/ 333. (3) تاريخ بغداد: 11/ 32، ترتيب المدارك: 7/ 226، تاريخ قضاة الأندلس ص 42 شجرة النور الزكية ص 104. (4) شذرات الذهب: 3/ 224، مرآة الجنان: 3/ 41، سير أعلام النبلاء: 17/ 429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وسبب وفاته أنه مرض من أكلة اشتهاها فذكر أنه كان يتقلب ويقول: لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا (1). ودفن بالقرافة وقبره قريب من قبر الإِمام الشافعي وابن القاسم وأشهب (2)، وقيل: إن سنه كان حين مات ثلاثًا وسبعين سنة (3)، والراجح أنه مات وعمره ستون عامًا (4). وقد قال عند احتضاره للأمير الذي أعانه على مطالبه: " ... جزاؤك عندي أن أشكرك عند ربي بعد موتي" (5). ...   (1) ترتيب المدارك: 7/ 227. (2) شذرات الذهب: 3/ 224، شجرة النور الزكية ص 104. (3) ترتيب المدارك: 7/ 227. (4) انظر: تاريخ بغداد: 11/ 32، تاريخ قضاة الأندلس ص 42، ترتيب المدارك: 7/ 226، شذرات الذهب: 3/ 224، سير أعلام النبلاء: 17/ 429، انظر الوفيات - لابن قنفد ص 233 - 234. (5) الوفيات- لابن قنفد القسنطيني ص 233 - 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الفصل الثاني كتاب "المعونة" على مذهب عالم المدينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الفصل الثاني دراسة عن كتاب "المعونة"، ويشتمل على مقدمة ومبحثين: • مقدمة: لمحة موجزة عن تاريخ المذهب المالكي في العراق- مميزات مدرسة المالكية بالعراق. المبحث الأول: كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". أولًا: توثيق كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة. ثانيًا: سبب تأليف الكتاب. ثالثًا: قيمة كتاب "المعونة" العلمية. رابعًا: مكانة كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". خامسًا: مصادر كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". سادسًا: محتويات كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". سابعًا: أسلوب ومنهج كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". ثامنًا: منهجه في الاستدلال على الفروع الفقهية. تاسعًا: شروح كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". عاشرًا: نقد كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المبحث الثاني: القواعد الأصولية، والفقهية، والمسائل المستدل فيها بعمل أهل المدينة من خلال كتاب "المعونة". أولًا: القواعد الأصولية التي احتواها كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". ثانيًا: القواعد الفقهية التي احتواها كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة". ثالثًا: المسائل الفقهية التي استدل فيها القاضي عبد الوهاب بعمل أهل المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 مقدمة • لمحة عن تاريخ المذهب المالكي في العراق: أسس المذهب المالكي الإِمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الذي ولد بالمدينة المنورة عام 93 هـ، وعاش بها، أخذ العلم عن ربيعة الرأي (ت 136 هـ)، والزهري (124 هـ)، ونافع (ت 117 هـ)، وابن هرمز (ت 148 هـ)، وغيرهم. اشتهر بالورع والتقوى، كما اشتهر بالضبط والعدالة، قال الشافعي: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن عليّ في علم الله من مالك بن أنس" (1)، حاز الإمامة في الفقه والحديث، وقد خدم العلم خدمة عظيمة بتأليفه كتاب "الموطأ". ولقد بُنِيَ مذهبه على أصول هي: القرآن والسُّنَّة والإجماع والقياس وعمل أهل المدينة، وسد الذرائع والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف (2).   (1) انظر في ترجمة الإمام مالك: الانتقاء -لابن عبد البر ص 8، الديباج المذهب: 1/ 11، ترتيب المدارك: 1/ 102، شجرة النور الزكية ص 52، شذرات الذهب: 2/ 12 - 15، سير أعلام النبلاء: 8/ 48. (2) في أصوله مذهب مالك راجع المصادر التالية: شرح تنقيح الفصول ص 445. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإِسلامي 1/ 383، 385، مالك- لأبي زهرة ص 376. الفتح المبين في طبقات الأصوليين: 1/ 117. تاريخ التشريع الإِسلامي- للخضري ص 148، ترتيب المدارك: 1/ 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وكان له عدد كبير من التلاميذ والأصحاب انتشروا في شتى بلاد العالَم الإِسلامي في مصر وإفريقيا والأندلس والعراق. ففي مصر كابن القاسم (191 هـ)، وأشهب (204 هـ)، وفي إفريقيا أسد بن الفرات (214 هـ)، وفي الأندلس يحيى بن يحيى الليثي (224 هـ). أما في العراق فقد نشر مذهبه من أتباعه: 1 - عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري (186 هـ). 2 - عبد الله بن مسلمة بن قعنب التميمي الحارثي (220 هـ). فعن هؤلاء العلماء بدأ انتشار المذهب المالكي في العراق وتفقه عليهم جماعة من كبار المالكية مثل: أحمد بن المعذل بن غيلان بن الحكم، وهو من أصحاب ابن الماجشون (214 هـ)، ومحمد بن مسلمة (216 هـ)، وعنه أخذ أولاد بني حماد، وبنو حماد أسرة علم وغنى، أصلها من فارس تحولت إلى بغداد، وكانت قريبة إلى الخليفة المأمون، وكانت هذه العلاقة سببًا لزيادة انتشار المذهب المالكي في بغداد، وأشهر علماء هذه الأسرة هو القاضي إسماعيل بن حماد (282 هـ)، صاحب كتاب "المبسوطة" الذي ذاع صيته في العراق وخارجها تولى القضاء، وكان هو المؤسس الحقيقي لمدرسة المالكية ببغداد، فقد ساهم بالقسط الأوفر في انتشار وازدهار المذهب هناك (1). ثم جاء بعده إبراهيم بن حماد بن إسحاق (323 هـ)، والقاضي عمرو أبو الفرج الليثي البغدادي (330 هـ)، صاحب كتاب "اللمع في أصول الفقه"، وهما من أساتذة أبي بكر الأبهري (395 هـ)، الذي بذل كل ما في وسعه لتدريس ونشر المذهب المالكي ومواصلة الطريق الذي ابتدأه العلماء السابقون له، فلقد كان للأبهري ولابن الجلاب (378 هـ)، وابن القصار (398 هـ)، والباقلاني (403 هـ)، وآخرهم شيخنا القاضي عبد الوهاب الذي تتلمذ وأخذ   (1) انظر ترجمته في: الديباج المذهب: 1/ 282، سير أعلام النبلاء: 13/ 340، شذرات الذهب: 2/ 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 المذهب عنهم فلقد كان لهم الفضل في تقويم وتثبيت وتأصيل أركان المذهب المالكي في العراق، كما ساهموا وغيرهم من العلماء في الحجاز ومصر وإفريقيا والمغرب والأندلس في حمل راية المذهب وتعزيزه بعلمهم وبمؤلفاتهم حتى قيل: " .. لولا الشيخان والمحمدان والقاضيان لذهب المذهب المالكي، فالشيخان ابن أبي زيد وأبو بكر الأبهري، والمحمدان محمَّد بن سحنون ومحمد بن المواز والقاضيان أبو محمَّد عبد الوهاب وأبو الحسن بن القصار البغداديان" (1) والأخوان: ابن الماجشون ومطرف والقرينان: أشهب، وابن نافع. لكن ما حل القرن الخامس حتى استفحل النزاع بين المذاهب الفقهية: ولما قويت شوكة الشافعية في العراق شنوا حربًا على كل المذاهب الأخرى فتقربوا إلى الخليفة بواسطة رئيسهم أبي حامد الإسفراييني (406 هـ) لإزاحة المالكية من المناصب العامة (2). ولعل هذا من الأسباب التي جعلت آخر علماء المالكية الكبار ببغداد وهو شيخنا القاضي عبد الوهاب يضطر إلى الهجرة من بغداد إلى مصر وهو ما لقيه من الشافعية من عنت وحرج (3). ومن هنا بدأ المذهب المالكي يضعف في العراق ولم يظهر بها إلا نادرا بعد أن انتقلت الريادة إلى الشافعية والحنابلة والحنفية (4). ...   (1) انظر: ترتيب المدارك: 1/ 53، الفكر السامي، محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإِسلامي ص 20 - 21، الديباج المذهب: 1/ 65 - 81. (2) شذرات الذهب: 3/ 178، سير أعلام النبلاء: 17/ 195. (3) انظر: ترتيب المدارك: 7/ 222. (4) ترتيب المدارك: 1/ 53، ومحاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإِسلامي ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 • مميزات مدرسة المالكية بالعراق (1): امتاز علماء المذهب المالكي بالعراق عن غيرهم من المغاربة والمصريين بسعة الاطلاع على علماء ومؤلفات وكتب المذاهب الأخرى والاقتباس من طرقها وأساليبها، كما أنهم أشاعوا قواعد المذهب على غرار الأصوليين الأحناف والشافعية، وكانوا بذلك هم السباقون، ودرسوا المذهب المالكي بالمقارنة مع المذاهب الأخرى ويتضح هذا مما خلفوه من تراث فقهي مثل كتاب "عيون الأدلة" لابن القصار، والممهد والنصرة والإشراف -وهي ثلاثة كتب للقاضي عبد الوهاب- كما اعتمدت مدرسة العراق في دراسة الفقه على الفقه الفرضي والتقديري، وتوسعوا في العمل بالرأي والقياس في تقرير الأحكام، ولقد اختلف هذا عن منهج المغاربة الذي كان يعتمد على نقل النصوص والتحقق من نسبتها إلى السابقين، كما ازدهر فن القواعد الفقهية في العراق على أيدي الأحناف والشافعية والمالكية، ومنهم القاضي عبد الوهاب -كما سوف نلحظ ذلك من خلال حصرنا لمجموع القواعد المذكورة في هذا الكتاب- ولم يعتن المغاربة والمصريون من المالكية به إلا بعد عصر القاضي عبد الوهاب. وتميزت طريقتهم في دراسة المدونة السحنونية عن طريقة نظرائهم من فقهاء إفريقية المالكيين، وقد تحدث المقري (758 هـ) عن الطريقتين وسماهما الاصطلاحين وقال (2): " ... أهل العراق جعلوا في مصطلحهم مسائل المدونة كالأساس، وبنوا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات، ومناقشة الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل وتحرير "الدلائل" على رسم الجدلين وأهل النظر من الأصوليين، وأما الاصطلاح القروي فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه   (1) انظر: مقدمة تحقيق كتاب "التفريع" (1/ 95 - 96) للتحقيق حسين الدهماني. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإِسلامي: 2/ 102. (2) مقدمة تحقيق كتاب "الفروق الفقهية" -لأبي الفضل الدمشتي ص 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاف المقالات، مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار, وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع في السماع وافق ذلك عوامل الإعراب أو خالفها (1). ... • علاقة المالكية بالعراق بنظرائهم في المغرب والأندلس (2): لكن بعد ظهور طريقة العراق ومدرسته، بدأ العلماء في المغرب في تطوير منهجهم، وذلك بمزج أسلوبهم مع أسلوب أهل العراق في تفريع المسائل بالفرض والتقدير. وكان هذا طبيعيًّا للعلاقة الوطيدة التي نشأت بين أعلام المدرسة المالكية بالعراق وبين أعلام المدارس المالكية الأخرى. فهم يتبادلون الأجازات العلمية والكتب العلمية الفقهية، ويجرون الحوارات في المسائل والنوازل، ويثيرون النقاش تارة بصفة مباشرة، وتارة بواسطة المكاتبة أو التأليف، ومن ذلك الحوار العلمي الذي دار في قضية إثبات الكرامات، ومناقشة ابن أبي زيد في موضوعها، وقد أسهم فيه أبو بكر الباقلاني بتأليف (3). وقد وجد تلاميذ من المغرب والأندلس للعراقيين أمثال الأبهري والقاضيان: عبد الوهاب، وابن القصار. كما اهتم العراقيون بشرح مؤلفات المغاربة كما رأينا شروح القاضي عبد الوهاب لمؤلفات الشيخ ابن أبي زيد القيرواني. ...   (1) أزهار الرياض: 3/ 22. (2) انظر: مقدمة تحقيق الفروق الفقهية -للمحققان: أبو الأجفان وأبو فارس ص 23 - 25. (3) ترتيب المدارك: 6/ 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 المبحث الأول كتاب "المعونة" على مذهب عالم المدينة • توثيق كتاب "المعونة" : إن جل المترجمين للقاضي عبد الوهاب والذين تعرضوا لكتاب "المعونة" إنما ينسبونه للقاضي عبد الوهاب ولم ينسبه أحد إلى غيره، فالإجماع إذًا حاصل على نسبة كتاب "المعونة" إلى مؤلفه القاضي عبد الوهاب (1). كما أن كثرة النقول عن "المعونة" توثق لنا الكتاب ونسبته إلى مؤلفه، فكبار فقهاء المالكية يكثرون النَّقل عنه كابن رشد وابن فرحون والقرافي والحطاب والونشريسي وغيرهم من أئمة المالكية، ودائمًا تكون هذه النقول مصدرة في كتب المذهب بقول مؤلفيها، كما قال القاضي عبد الوهاب في المعونة، وأحيانًا يجعلون ما ينقلونه سببًا للترجيح في المسائل الخلافية (2). أما اسم الكتاب فكذلك أجمع المترجمون على أن اسمه: "المعونة على مذهب عالم المدينة". وهذا ما وجدته مكتوبًا على أول صفحات نسخ المخطوط الثلاث.   (1) انظر الكتب التالية التي ذكرت كتاب "المعونة": ترتيب المدارك 7/ 222، الفهرست - لابن النديم ص ()، الديباج المذهب: 2/ 27، الوفيات: 3/ 219، تاريخ قضاه الأندلس ص 41، شجرة النور الزكية ص 104، الوفيات- لابن قنفدة القسنطيني ص 233، الفكر السامي في تاريخ الققه الإِسلامي: 2/ 204. (2) راجع فصل مكانة كتاب "المعونة"، حيث ذكرنا فيه نماذج لبعض الكتب التي نقلت عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وقال القاضي عياض: "كتاب المعونة لدرس مذهب عالم المدينة" (1). وبعضهم يطلق عليه: "المعونة" فقط. وهناك من أخطأ وقال: "المعونة في شرح الرسالة" (2)، والصحيح أن "المعونة" كتاب مستقل، وشرح الرسالة كتاب آخر مستقل أيضًا، فلعل واو العطف انقلبت إلى حرف الجر "في"، فبدلًا من أن تُقرأ "المعونة وشرح الرسالة" صارت "المعونة في شرح الرسالة". والله أعلم. ... • سبب تأليفه الكتاب : من مقدمة الكتاب نستطيع معرفة السبب الذي جعل القاضي عبد الوهاب يؤلف كتابه "المعونة". فهو قد ألف كتابين قبله هما: الأول: شرح لرسالة الإِمام أبو محمَّد بن أبي زيد القيرواني، والثاني: كتابه "الممهد"، وهو شرح لمختصر المدونة وهو من تأليف الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد القيرواني أيضًا، والكتابان يحتويان على بسط الأدلة والحجاج وعلى إشباع الكلام في مسائل الخلاف، وكثرة المسائل والتفريعات واختلاف الوجوه والروايات. فذكر أحد طلابه تعذر حفظ وضبط ذلك على المبتديء، فطلب من شيخه القاضي عبد الوهاب عمل مختصر يكون سهل المحمل قريب المأخذ والحفظ، يقتصر فيه على رؤوس المسائل، فأجابه القاضي إلى ذلك، وكذلك ليكون كتاب "المعونة" مدخلًا إلى ذينك الكتابين: "شرح الرسالة"، و "الممهد".   (1) ترتيب المدارك: 7/ 222. (2) كما قال ذلك صاحب كشف الظنون: 2/ 743، وصاحب هدية العارفين: 1/ 637، وفي معجم المؤلفين: 6/ 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ويضاف إلى ما ذكره المصنف في المقدمة، فإن الكتاب يعتبر دعامة للفقه المالكي من حيث التدليل والتوجيه والتعليل، وهذا المعنى يستنبط من تسميته "المعونة على مذهب عالم المدينة"، ومن مادته التي اشتمل عليها الكتاب. ... • قيمة كتاب "المعونة" العلمية : لهذا الكتاب قيمة علمية كبيرة: فهو يعد مرجعًا مهمًّا في الفقه المالكي المدلل لأنه يمتاز بشموله على معظم المسائل والأحكام الفقهية في عبارة موجزة سهلة واحتواؤه الاستدلالات على فروع ومسائل المذهب المالكي -فقد شق على طلبة العلم البحث على أدلة لمسائل وفروع المذهب المالكي. فالكتاب يحتوي على ألفين وسبعمائة وسبعة وستين (2767) فصل، ومعظم الفصول يحتوي كل منها على عدد كبير من المسائل ولكل مسألة دليلها. والاعتماد في الاستدلال على الكتاب والسُّنَّة وأخبار السَلَف والقياس والإجماع، وهذا يدل على براعة القاضي عبد الوهاب الفائقة، وعلى ملكته الفقهية الشاملة، وإحاطته بكتاب الله وسُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حفظًا وفهمًا. احتواء الكتاب على أزيد من ألف حديث وأثر، ومعظم هذه الأحاديث صحيح كما سوف يأتي بيان ذلك. احتواء الكتاب على أقوال مالك - رحمه الله - وأقوال كبار علماء المذهب المالكي، وعلاوة على جمعه لأراء وأقوال المذهب المالكي، فإنه يشير إلى مذهب المخالفين من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم من الفقهاء مثل: داود وطاووس والحسن البصري ومحمد بن سيرين وقتادة والأوزاعي ومجاهد وربيعة وعثمان البتي والطبري وسفيان بن عيينة ... احتواء الكتاب على عدد كبير من القواعد الأصولية والفقهية والتي سوف يأتي ذكرها وحصرها, ولذلك يكون القاضي عبد الوهاب أول المشاركين في تأسيس قواعد فقهية للمذهب المالكي كما سبق الإشارة إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وكذلك كون هذا الكتاب مدخلًا لمن أراد الوقوف على شرحي المؤلف لمتني "الرسالة" و"المختصر" لابن أبي زيد كما صرح بذلك القاضي عبد الوهاب في مقدمة هذا الكتاب. وإن كل هذه المميزات جعلت لكتاب "المعونة" قيمة علمية كبيرة، فكانت الحاجة ماسة لتحقيقه وإخراجه إلى النور ليستفاد منه وليقف طلبة العلم على هذا الكنز العظيم من تراثنا الفقهي. ... • مكانة كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة" : لقد كانت "للمعونة" مكانة عظيمة بين كتب المذهب المالكي: وتظهر هذه المكانة في تأثيره فيمن جاء بعده، فلا يخلو كتاب من مؤلفات المتأخرين إلا ويذكره وينقل عنه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظم هذا الكتاب وفوائده الجمة وعلى قيمته العلمية التي سبق الإشارة إليها. وفيما يلي ذكر ونماذج لبعض الكتب التي اعتمدت كتاب "المعونة" في النقل عنه، وأما الكتب التي نقلت آراء القاضي عبد الوهاب جملة، فهي كثيرة جدًّا لا يسعنا حصرها ولا داعي لذكرها: 1 - فتاوي ابن رشد: لأبي الوليد محمَّد بن أحمد بن أحمد بن رشد -الجد- القرطبي المالكي (ت520هـ)، فمما جاء في الجزء الأول قوله: " .. قال عبد الوهاب في المعونة: إن ذلك لبقائها على النجاسة وذلك بعيد، إلا أن يريد ببقائها على حكم النجاسة في الأكل خاصة، فيكون لذلك وجه وهو القياس على رفع النجاسة من الثوب بما عدا الماء من المائعات لزوال العين وبقاء الحكم في الصلاة خاصة" (1).   (1) فتاوي ابن رشد: 1/ 434. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 2 - المقدمات الممهدات: لابن رشد -الجد- كذلك. فقد نقل عن المعونة قوله: "وقد ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الجامع من المعونة أنه قال: الحمام بيت لا يستر فيه لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخله إلا بمئزر ... " (1). وجاء في موضع آخر له: " ... وروي عنه أنه مرّ به حمار قد كوي في وجهه فعاب ذلك، حكى ذلك عبد الوهاب في المعونة" (2). 3 - البيان والتحصيل: لابن رشد -الجد- أيضًا. ذكر المعونة في الأجزاء والصفحات التالية: (4/ 366، 12/ 199، 201، 14/ 17، 148، 301، 384، 15/ 436، 16/ 290، 291). 4 - الفروق: لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت 684 هـ). قال القرافي: " .. وعن التاسع أنه يحكم فيه بالعلم نفيًا للتسلسل لأنه يحتاج إلى بينة تشهد بالجرح أو التعديل وتحتاج البينة بينة أخرى إلا أن يقبل بعلمه بخلاف صورة النزاع مع أن القاضي قال في المعونة: قد قيل هذا ليس حكمًا وإلا يتمكن غيره من نقضه بل لغيره ترك شهادته وتفسيقه، وإذا لم يكن حكمًا لا يقاس عليها .. " (3). وفي موضع آخر من الكتاب نفسه (3/ 152). 5 - تبصرة الحكام: لأبي إسحاق إبراهيم عليّ بن فرحون (ت 799 هـ).   (1) المقدمات: 4363. (2) المصدر السابق: 3/ 472. (3) الفروق: 4/ 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قال ابن فرحون: " .. ورجح القاضي عبد الوهاب قول أشهب في المعونة بأن الراهن رضي بأمانته" (1). وقال في موضع آخر: "وفي المعونة للقاضي عبد الوهاب إذا كان لرجل على رجل من بينه فطالب المدعي كان للمدعي عليه أن يمنعه حتى يحضر الوثيقة وتسقط شهادة الشهود منها" (2). 6 - إرشاد اللبيب إلى مقاصد حديث الحبيب: لمؤلفه محمَّد بن أحمد بن علي بن غازي (ت 919 هـ). فلقد جاء فيه: " .. ولا خلاف عند أهل المذهب أنه لا فرق بين الأموال والفروج، ولذلك أطلق القاضي عبد الوهاب في المعونة .. " (3). 7 - مواهب الجليل: لأبي عبد الله محمَّد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب (ت 954 هـ) المعونة أحد الكتب التي اعتمد عليها الحطاب في شرحه لمختصر خليل فلقد جاء في مقدمة الكتاب: " .. وقد عد القاضي عياض في المدارك بالترجيح مذهب مالك وبيان الحُجَّة في وجوب تقليده، ورجح ذلك من طريق النقل والعقل والاعتبار فلينظر ذلك فيه، وذكر القاضي عبد الوهاب في آخر المعونة شيئًا من ذلك .. " (4). وقال أيضًا في موضع آخر: " .. وصرح القاضي في المعونة بأنه إذا فقد شرط منها لا يسمى متمتعًا قال: لأن أصل التمتع الجمع بين العُمْرة والحج في سفر واحد .. " (5).   (1) تبصرة الحكام: 2/ 60. (2) نفس المصدر: 2/ 224. (3) إرشاد اللبيب إلى مقاصد حديث الحبيب ص 23. (4) مواهب الجليل: 1/ 26. (5) المصدر نفسه: 3/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والمواضع التي نقل فيها عن المعونة كثيرة جدًّا ولا يمكن ذكرها كلها في هذا المختصر. 8 - التاج والإكليل: ذكر المعونة في أكثر من موضع نذكر منها: 5/ 228، 229. * وممن نقلوا عن المعونة - أيضًا -: 9 - أبو الوليد الباجي (474 هـ) في كتابه "المنتقي" (1/ 41، 4/ 22، 140، 5/ 203، 479). 10 - العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي (837 هـ) في شرحه للرسالة. انظر الأجزاء والصفحات التالية: 2/ 125، 2/ 202، 2/ 376 وغيرها. 11 - والعلامة أحمد بن محمَّد البرنسي الفاسي المعروف بزروق (899 هـ) في شرحه للرسالة. انظر على سبيل المثال: 2/ 375. 12 - وأبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت 914 هـ) في كتابه "المعيار المعرب" في الأجزاء والصفحات التالية: 1/ 248، 171، 2/ 60، 109، 5/ 5، 376. 13 - وأبو عليّ الحسن بن رحال المعداني (ت 1140 هـ) في كتابه "كشف القناع عن تضمين الصناع" في الصفحة 76. ... • مصادر الكتاب : لم يذكر القاضي عبد الوهاب في كتابه "المعونة" سوى ثلاث كتب هي: 1 - الموطأ- للإمام مالك. 2 - المدونة. 3 - والمختصر الكبير- لمحمد بن عبد الحكم وهو من الكتب المعتمدة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فقهاء المالكية بالعراق، فقد قال الأبهري: " .. قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة .. " (1). ولقد اعتمد القاضي عبد الوهاب في كتابه على إمام المذهب بالدرجة الأولى، فجعل أقواله هي أساس نقله، ثم على أكبر أصحابه وتلاميذه ومن جاء بعدهم، وفيما يلي ذكر لأهم الأعلام الذين نقل عنهم القاضي عبد الوهاب في كتابه "المعونة": - ابن القاسم (191 هـ). - ابن نافع (186 هـ). - ابن وهب (197 هـ). - المغيرة (188 هـ). - أشهب (204 هـ). - عبد الملك بن الماجسون (214 هـ). - محمد بن مسلمة (216 هـ). - مطرف (220 هـ). - ابن حبيب (238 هـ). - سحنون (240 هـ). - ابن عبد الحكم (268 هـ). - ابن المواز (269 هـ). - إسماعيل بن إسحق (282 هـ). - ابن بكير (305 هـ).   (1) ترتيب المدارك: 6/ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 - أبو الفرج (331 هـ). - الأبهري (375 هـ). - ابن الجلاب (378 هـ). ... • محتويات كتاب "المعونة" : "المعونة" كتاب جامع لفروع ومسائل الفقه المالكي من عبادات ومعاملات وجنايات وأقضية مع ذكر الأدلة لكل هذه الفروع والمسائل، كما أنه يشير إلى رأي المخالفين مجردًا عن دليلهم: وقد احتوى "المعونة" على (2767) فصل، وكل فصل يحتوي على عدد كبير من الفروع والمسائل، وفيما يلي ذكر لأسماء الكتب التي وردت في النسخة المعتمدة: 1 - كتاب الطهارة. 2 - كتاب الصلاة. 3 - كتاب الزكاة. 4 - كتاب الصيام. 5 - كتاب الاعتكاف. 6 - كتاب المناسك. 7 - كتاب الجهاد. 8 - كتاب الأيمان والنذور. 9 - كتاب الأضاحي. 10 - كتاب الذبائح. 11 - كتاب النكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 12 - كتاب البيوع. 13 - كتاب الإجارات. 14 - كتاب القراض. 15 - كتاب المساقاة وكراء الأرض والمزارعة. 16 - كتاب الشركة. 17 - كتاب الرهون. 18 - كتاب الحجر. 19 - كتاب الصلح. 20 - كتاب الحوالة. 21 - كتاب الوكالة. 22 - كتاب الإقرار. 23 - كتاب اللقطة. 24 - كتاب الشفعة. 25 - كتاب القسمة. 26 - كتاب الجراح. 27 - كتاب الحدود. 28 - كتاب القطع. 29 - كتاب العتق. 30 - كتاب المكاتب. 31 - كتاب المدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 32 - كتاب الأقضية والشهادات والدعاوي والبينات وما يتعلق بذلك. 33 - كتاب الحبس والوقف والصدقة والعمرى والرقبى. 34 - كتاب الوصية. 35 - كتاب المواريث. 36 - كتاب الجامع. ... • أسلوب ومنهج كتاب "المعونة" : سلك القاضي عبد الوهاب طريقة مثلى في تأليف كتاب "المعونة" , فقد استوعب معظم أبواب ومسائل الفقه، وشمل الكتاب الأقوال الصحيحة المشهورة في المذهب المالكي، وكان ذلك في تبويب وترتيب بديع، وبعبارة رصينة وأسلوب علمي سهل، بإيجاز غير مخل دقيق ومضبوط يعين القاريء على الفهم دون غموض أو تردد. والكتاب وإن كان مختصرًا كما صرح بذلك القاضي عبد الوهاب في مقدمة الكتاب وفي مواضع أخرى منه، إلا أنه يعطي تنبيهات وقواعد يحصر بها الفروع الكثيرة فيغني ذلك عن الإسهاب والتطوير، فقد قال في أكثر من موضع: " .. وفي قدر ما ذكرناه تنبيه على تفريع هذا الباب" (ص 663). ويقول أيضًا: " ... وعلى هذا تجري مسائل الباب .. ". ويقول: " ... وحصر هذا الباب: أن كل سلعة جاز أن تباع مشاهدة وتحصرها الصفة إذا غابت عن العين، فإن السلم فيها جائز". وقال أيضًا: " .. وقد نبهنا بقدر ما ذكرناه على ما أهملناه". وفي كتاب الفرائض قال في أصول المسائل بعد أن أجمل أحكامها: " ... ولا يحتمل المختصر بسط هذا الباب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 كما أنه يجمل الأحكام في قواعد يسهل حفظها والوقوف على فروع الباب كلها، فمما قاله: " .. وقاعدة هذا الباب: أن من المبيع ما يقصد مبلغه دون أعيان آحاده، وذلك كالحنطة والشعير والثمر والزبيب والجوز واللوز وسائر الفواكه والبقول، فما هذه سبيله يجوز بيعه جزافًا .. ". ويقول القاضي عبد الوهاب: "وعقد هذا الباب: أنه إن تغير به فهو نجس قليلًا أو كثيرًا ... " (ص 179). وجملة القواعد الفقهية التي سنذكرها مجملة تدل على هذا المعنى، كما أن للقاضي عبد الوهاب طريقة خاصة في استنباط الأحكام والفوائد من الأحاديث التي يستدل بها، فبعد أن يذكر نص الحديث يبدأ في ذكر مسائل يذكر فيها الأحكام والفوائد المنتقاه من الحديث، ومثال ذلك: فمما جاء في باب التصرية قوله: " .. ودليلنا على أنها عيب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر". ففيه أدلة: أحدها: أنه نهى عنه، فدل على أنها تدليس. والثاني: أنه أثبت للمبتاع الخيار. والثالث: أنه أوجب عليه إذا ردها صاعًا من تمر. وفيه دليل على أن اللبن يأخذ قسطًا من الثمن .. وهكذا طريقته في استنباط الأحكام من الآيات والأحاديث التي يستدل بها. أما منهجه في عرض المسائل فهو يأتي بجملة أحكام الباب مختصرة وموجزة، ثم يعقد فصولًا تفصيلية مستقلة لفروع ومسائل ذلك الباب، يدلل لها ويذكر شروطها وما يتعلق بها من أحكام وتدليل وتفريع .. فمثلًا يذكر في كتاب القطع شروط قطع يد السارق وشروط وأوصاف السارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 التي يستوجب بها القطع، ومقدار نصاب السرقة، وبيان الحرز، وغيرها ... ، فإذا انتهى من عرض هذه الأحكام العامة المجملة، بدأ يبسطها في فصول: فيعقد فصلًا لدليل القطع من الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس. ثم يذكر فصلًا في وجوب القطع. ثم فصلًا آخر في دليل شروط النصاب. ثم فصلًا في الدليل على مقدار النصاب. ثم فصلًا في تعليل هذا المقدار من النصاب في الذهب والفضة. ثم فصلًا في تقويم العروض بالذهب والفضة. ثم فصلًا في تعليل اشتراط الحرز. ثم فصلًا في تعليل تسوية أحكام السرقة بين الرجل والمرأة. وهكذا على هذا المنوال يسير في عرض المسائل الفقهية في جميع أبواب الكتاب. وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أن للقاضي مصطلح في نسبة القول أو الأقوال الإمام مالك حيث يقول: وعنه في ذلك روايتان مثلًا، فالمراد "بعنه" الإِمام مالك رحمه الله. ... • منهجه في الاستدلال : لقد اتبع القاضي عبد الوهاب طريقة حسنة في تدليله على الأحكام، فهو بعد أن يذكر الحكم في المسألة يبدأ في التدليل عليها أولًا من الكتاب، فيذكر الآيات ووجه الاستدلال منها، ثم الأحاديث النبوية والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ويشير إلى الإجماع إذا لم يكن هناك خلاف في المسألة، ثم يستدل بالقياس، ويستعمل أحيانا بعض الأدلة الشرعية الأخرى كإجماع أهل المدينة , أو سد الذرائع أو المصالح وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك: فصل: وأما وجوب الوضوء من النوم فالأصل فيه قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6]، قيل فيه: إذا قمتم من المضاجع، وقوله صلى الله عليه وسلم: "العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ"، وقوله: "لكن من بول أو غائط أو نوم"، ولأن الغالب منه أن الاستثقال فيه يؤدي إلى خروج الحدث، فأجرى غالبه مجرى يقينه، ولذلك علله صلى الله عليه وسلم حين قال: "فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله"، ولأن النائم يخرج منه الريح غالبًا، ثم هو حال انتباهه لا يدري ما كان منه فنحن متى سوغنا له الصلاة بوضوء قبل النوم مع كوننا على غير ثقة من بقاء طهارته تلك كنا قد سوغنا له الصلاة محدثًا، فكان الاحتياط أن يلزمه الوضوء ليصلي على ثقة من طهارته وارتفاع الحدث. * ومثال آخر: فصل: إذا ثبت أن الكفارة تجب بالعود فهي ثلاثة أنواع: إعتاق وصيام وإطعام، وهي على الترتيب دون التخيير، والأصل في هذه الجملة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ... } إلى قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}، وكذلك في حديث أوس بن الصلت وسلمة بن صخر، ولا خلاف فيه. * ومثال أخير: فصل: وإنما قلنا: إن حد المحصن الرجم لقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، وقوله صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الله عليه وسلم: "واغدو يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، وما روي من رجمه صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامدية، وفي حديث رضي الله عنه لولا أن يقال عمر زاد في كتاب الله لكتبت: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، وروي الرجم عن عمر وعثمان وعليّ رضوان الله عليهم قولًا وفعلًا، ولا خلاف فيه ولا يلتفت إلى ما يحكي من الخوارج من نفيه. ... • شروح كتاب المعونة : لم أقف على شرح لكتاب "المعونة"، لكني وقفت في ترجمة: مجد الدين البليسي (779 هـ) على أنه ألف حاشية على المعونة. فمما قاله ابن العماد: " ... وفيها مجد الدين محمَّد بن محمَّد بن إبراهيم البليسي الإسكندراني الأصل موقع الحكم سمع من الواني والمزي وغيرهما، وتفقه بالمجد الزنكلوني وأخذ عن ابن هشام، وعني بالحساب، فكان رأسًا فيه وفي الشروط، وإليه انتهت معرفة السجلات وكان يوقع عن المالكية وينوب عن الحنفية، ومن مصنفاته حاشية على المعونة وشرحه للوسيلة، عاش ستين عامًا" (1). ... • نقد كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة" : إن هذا الكتاب يعتبر نموذجًا فريدًا في التأليف الفقهي عند المالكية، لكن لم يمنع ذلك من وجود ما يدعو إلى الملاحظات -القليلة- التي جمعتها -حول هذا المؤلف العظيم، وفيما يلي ذكر لهذه الملاحظات مع ضرب الأمثلة لها:   (1) شذرات الذهب: 6/ 260 - 263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 1 - وأولى هذه الملاحظات: الاحتجاج بالحديث الضعيف: فقد جاء في قواعد المقري ما يلي: "قاعدة 121: حذر الناصحون من أحاديث الفقهاء وتحميلات الشيوخ وتخريجات المتفقهين وإجماعات المحدثين، وقال بعضهم: احذر أحاديث عبد الوهاب والغزالي وإجماعات ابن عبد البر، واتفاقات ابن رشد، واحتمالات الباجي واختلافات اللخمي .. وقال لي العلامة أبو موسى بن الإِمام: قال لي جلال الدين القزويني: ما أحسن فقه قاضيكم لولا ما يحتاج به من الحديث الضعيف. فقلت: شيخكم أكثر احتجاجًا به .. يعنيان أبا محمَّد وأبا حامد" (1). والذي ثبت لي من خلال تخريجي لأحاديث الكتاب: أن نسبة الضعيف فيها قليلة جدًّا إذا ما قورنت بالأحاديث الصحيحة المستشهد بها من الصحيحين أو السنن الصحيحة. 2 - استدلاله ببعض الأحاديث في غير موضعها: ومثاله: في استدلاله على نهي عن حلق الشارب لقوله: " ... وأما حلقه فمنهي عنه، هذا مذهب أكثر أهل العلم، وعلماء المدينة، ومروي عن جمهور الصحابة، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى استحبابه، وإنما قلنا ذلك لقوله (صلى الله عليه وسلم): "ليس منا من حلق". والاستدلال بهذا الخبر في هذه المسألة في غير ما ورد فيه، وذلك لأنه وارد في النياحة كما نبه إليه الحافظ ابن حجر (2).   (1) القواعد- للمقري: 1/ 349 - 351 (تحقيق الدكتور أحمد بن عبد الله بن حميد). (2) فتح الباري: 10/ 348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 3 - كثرة ذكره للأحاديث بالمعنى وتغييره للألفاظ، مما أرهقنا في تخريجها: ومثاله: ذكره حديث: "خير الأضحية الكبش" والحديث في الترمذي بلفظ: "نعمة الأضحية الكبش". وذكره حديث: "حق المسلم على المسلم ثلاث"، والحديث في الصحيحين بلفظ: "حق المسلم على المسلم ست". 4 - ذكره لفصل "جواز الشرب قائمًا"، وكرره ثانية مع تغيير طفيف في الاستدلال وفي التعبير. 5 - توسعه في بعض الأبواب والفصول واختصار بعضها الآخر، فقد توسع كثيرًا في باب الشهادات مثلًا -واختصر أبواب كتاب النكاح والطلاق والبيوع .. 6 - التعريفات الأصولية التي ذكرها في كتاب "الجامع" وهو آخر كتب "المعونة"، وقد كان في حق التصنيف أن يكون الابتداء أولى له من الخاتمة، ولكن عذره فيه لما صرح به: هو أن تجدد هذا الرأي بعد خروج نسخ من الكتاب فكره إفسادها بالاختلاف. ... مقارنة بين كتاب "المعونة" وكتاب "الذخيرة" الفصل الثاني: في حكمها: في الجواهر، قال القاضيان ابن القصار وعبد الوهاب: المذهب كله على وجوب الإزالة، وإنما الخلاف في إعادة من صلى بها بناء على كونها شرطًا في الصلاة أم لا. وقال المازري: وقع الاتفاق على تأثيم المصلي بها، ومعنى قول بعض العلماء: إنها سُنَّة أن حكمها علم بالسُّنَّة، وقال القاضي أيضًا في شرح الرسالة وجماعة: هي سُنَّة والخلاف في إعادة من صلى بها مبني على الخلاف فيمن ترك السنن متعمدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 واللخمي وغيره من المتأخرين المغاربة يقولون: في المذهب ثلاثة أقوال: الوجوب: وهو رواية ابن وهب لإلزامه الإعادة بعد الوقت ناسيًا أو عامدًا. والاستحباب لأشهب لاستحبابه الإعادة في الوقت عامدًا أو ناسيًا. والوجوب مع الذكر والقدرة دون النسيان والعجز وهو ظاهر الكتاب لإيجابه الإعادة على غير المعذور بعد الوقت وأمر المعذور بالإعادة في الوقت (انتهى من الصفحة 186 من كتاب الذخيرة). أما في "المعونة"، فقد قال القاضي عبد الوهاب في نفس الموضوع: فصل: [حكم إزالة النجاسة]: اختلف أصحابنا في إزالة النجاسة هل في واجبة وجوب السنن المؤكدة أو وجوب الفرائض: وفائدة ذلك تتصور في منع تعمد الصلاة بها مع القدرة على إزالتها، وإذا قيل: إنها سُنَّة مؤكدة فلأن الاتفاق حاصل على جواز الصلاة مع اليسير من جنسها كدم البراغيث وغيره. وعند أبي حنيفة بقدر الدرهم من سائر النجاسات، ولو كانت فرضًا لم تجز الصلاة مع الشيء منها كالطهارة من الحدث، وإذا قيل: إنها فريضة فللإجماع على منع تعمد الصلاة بها، وذلك يفيد كونها فرضًا كالطهارة من الحدث، فإذا ثبت هذا فعلى القول بأنها سُنَّة يأثم ولا إعادة عليه، وعلى القول الآخر بأنها فريضة لا يجزيه وعليه الإعادة. فصل: وعلى كلا الوجهين إن صلى بها ناسيًا أو ذاكرًا، ولكن لا يقدر على إزالتها فصلاتها جائزة لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم، فلم فرغ قال لهم: "لما خلعتم نعالكم" فقالوا: رأيناك خلعتها، فقال: "إن جبريل أخبرني أن فيها قذرًا وروي نجسًا"، ولم يعد الصلاة ولا أمرهم بإعادتها ولا قطعها، بل مضى عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقال القرافي في موضع آخر: من الثامثة: القهقهة لا توجب الوضوء خلافًا لأبي حنيفة لأنها لا توجبه خارج الصلاة فلا توجبه داخلها قياسًا على العطاس والسعال، أو نقول لو أوجبته داخل الصلاة لأوجبته خارج الصلاح قياسًا على الريح. وأما ما يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي بأصحابه فدخل رجل في بصره سوء فتردى في حفيرة كانت في المسجد فضحك طوائف منهم، فلما قضى -عليه الصلاة والسلام- أمر كل من كان منهم ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة. فقال عبد الحق: لا يصح من أحاديث هذا الباب شيء ولو سلمنا صحتها فهي قضية عين يحتمل أن بعضهم خرج منه ريح فأراد -عليه الصلاة والسلام- ستره بذلك (انتهى من الصفحة 230 من كتاب الذخيرة). وأما في المعونة فقد قال القاضي عبد الوهاب: فصل: [الوضوء من القهقهة]: ولا وضوء من القهقهة في صلاة ولا غيرها خلافًا لأبي حنيفة لأن كل ما لم يكن حدثًا في غير الصلاة لم يكن حدثًا في أصل الصلاة كالكلام، ولأنها صلاة شرعية فلم تنتقض بالقهقهة أصله صلاة الجنازة. فمن خلال هذه المقارنة السريعة نلاحظ أن كتاب الذخيرة يمتاز بتفصيل أكثر المراد في المذهب في بعض الأحكام وزيادة أدلة ومناقشة لأقوال وآراء المخالفين، وهذا شأن المتأخرين الذين استفادوا مما خلفه المتقدمين وزادوا عليه ونقحوه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 المبحت الثاني (أ) القواعد والمسائل الأصولية المذكورة في كتاب "المعونة" : * إجماع أهل المدينة لا يعارض بأحاديث الآحاد، وهو أولى من خبر الآحاد. * النهي يدل على فساد المنهي عنه. * الشرط لا يتأخر عن المشروط. * الأمر يدل على الوجوب. *الظاهر لاستغراق الجنس. * الألفاظ إذا أطلقت ولها معهود في الشرع حملت عليه. * الطريق الذي به تعلم العلل وهو: وجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها. * إذا اجتمع الحظر والإباحة في شخص غلب عليه حكم الحظر. * الحديث إذا ورد فيه زيادة تردها الأصول كانت الأصول أولى. * إطلاق الأمر يدل على الفور. * في صحة القياس وثبوت التعليل. * العِلَّة إذا عادت لمخالفة أصلها وجب فسادها. * ما بعد الغاية يخالف ما قبلها. * الاجتهاد مع وجود النص لا فائدة منه. * إطلاق الكلام محمول على المتعارف. * والإطلاق في العقود محمول على العرف. * الأمر إذا صدر بعد الحظر حمل على الإباحة دون الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 * الإطلاق يقتضي العموم. * إذا اجتمع المانع والمبيح غلب المنع. * أصول مالك تدل على أن أقل الجمع ثلاثة. * معنى الوجوب. * معنى الندب. * معنى الحظر. * معنى الكراهة. * معنى الصحة. * معنى الرخصة. ... (ب) القواعد الفقهية المذكورة في كتاب "المعونة" : * المغسولات نقلًا لما انفردت عن المغسولات فرضًا، فكذلك الممسوحات نفلًا يجب أن تنفرد عن الممسوحات فرضًا. * نية الأضعف لا تنوب عن نية الأقوى. * ظهور المبدل يبطل حكم البدل. * الرخص لا تتعدى بها مواضعها. * كل أمر فرق بين قليله وكثيره، واحتيج إلى فاصل بينهما لم يرد الشرع به، فالمرجوع فيه إلى العرف: كالعمل في الصلاة وغيرها. * كل كل من لم تجز إمامته لم يعتد بإذنه. * كل من لم يجز أن يكون حاكمًا لنفسه لم يكن إمامًا في الصلاة: كالمجنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 * كل من صحت صلاته خلف الصف إذا كان معه غيره صحت صلاته إذا انفرد أصله المرأة. * الخطبة في الأصول في العبادات لا تكون إلا مقارنة لصلاة: كخطبة العيدين والجمعة. * أن الأصل أن لا يفعل في الميت شيء إلا بشرع. * حقوق الله مقدمة لا يجوز تركها ولا التراضي بإسقاطها. * العين إذا تعلق بها حقان: أحدهما بعوض، والآخر بدون عوض كان ما يتعلق بالعوض مقدمًا على الآخر: كالدين والزكاة والوصية. * كل زكاة لزمت الكبير لزمت الصغير. * كل حق تعلق بما نقل منه إلى غيره بشرط عدم المنقول فلا يجوز الانتقال إليه مع وجوده. * كل حق تعلق بغير مال فإن الوجوب يتعلق على مالكه اعتبارًا بسائر الأصول. * الحكم الذي يثبت في البدن لا يقبل في الشهادة عليه واحد أصله النكاح. * كل ما لا يكون الصائم صائمًا إلا بوجوده، فلا يصح الصوم بعد مضي جزء من اليوم عريًا منه أصله الإمساك والنية. * كل يوم لا يصلي فيه صلاة العيد فإن صومه يصح أصله سائر الأيام. * الضرورة لا تعتبر بالاختيار. * الإمساك أحد ركني الصوم فكان تركه سهوًا في إفساده كتركه عمدًا أصله النية. * كل معنى لم يكره أول النهار لم يكره آخره كالمضمضة، وإن أول النهار مساوٍ لآخره في شروط الصحة، فكذلك في الندب والإباحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 * إن الكفارة متعلقة بالهتك وانتفاء العذر. * كل فعل يفسد الصوم ويوجب القضاء يتعلق به الكفارة، وكل ما لا يوجب القضاء لا يتعلق به الكفارة كالرِّدَّة. * أداء العبادة أفضل من تأخيرها. * القربة لا بد لها من نية. * كل عبادة شرط فيها رمان فأقله ما يستغرقه وقته كالصلاة. * الفرق بين أن يعقد النكاح في اعتكافه وبين الإحرام أن الطيب ممنوع في الإحرام، وليس كذلك الاعتكاف "فروق فقهية". * ما ضاد العبادة أفسدها. * كل عبادة تعلق فرضها بالبدن مع القدرة لم تنتقل إلى غيره مع العجز كالصلاة والصوم. * كل فعل من أفعال الحج لزم في موضع يؤثر الدم في تركه، فإن العود إليه بعد فوته لا يسقط الدم عنه: كالمبيت بمزدلفة. * كل عبادة كان لها إحلال لم يصح الدخول فيها إلا بإحرام: كالصلاة. * من مُنع فعل شيء منع من المعونة عليه. * كل عبادتين لا تتداخلان فالجمع بينهما غير جائز. * العبادة التي لا نقض فيها ولا تحتاج إلى جبران أفضل مما خالفها. * ترك السُّنَّة مع العذر جائز. * إذا فات المتبوع سقطت توابعه. * ليس في الأصول عبادة تفتح تطوعًا ثم تنقلب فرضًا. * مراعاة العامة أولى من مراعاة الواحد والاثنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 * الكلام إنما يتعلق به حكم إذا كان مقصودًا. * النية والنطق طريقان لمعرفة المراد وثبوت أحكام الخطاب. * الضرورات تسقط معها أحكام الاختيار. * ترك السنن ناسيًا لا يبطل العبادة. * كل جنس جاز نكاح نسائهم جاز أكل ذبائحهم، وكل ما لا ينكح نسائهم فلا يؤكل ذبائحهم. * كل أمر احتيج فيه إلى اختبار وتعرف ولم يرد توقيف بتحديد أمده وجب الرجوع فيه إلى العرف. * كل ذكر كان عصبه في الميراث كان عصبه في عقد النكاح. * كل نقص منع وجوب صلاة الجمعة وتقلد الحكم منع ولاية عقد النكاح. * إجازة ما تقدم بطلانه لا يصح. * كل عدد جاز للحر أن يجمع بينه جاز للعبد. * المعقود به إذا كان فاسدًا وجب فساد العقد. * لما كان النكاح طريقه المواصلة والمكارمة دون المعاتبة والمكايسة جاز فيه من التسامح ما لم يجز في البيوع. * اليمين في الأصل متوجهة على أقوى المتداعبين سببًا. * إن الدعوتين إذا تعارضتا وإحداهما يقتضي رفع العقد أو إثبات خيار فيه، فالقول قول مدعي الصحة والاستقرار. * للبائع أن يمنع إقباض السلعة حتى يقبض الثمن. * كل نكاح غير جائز فيجب فسخه. * الدخول لا يصحح العقد الفاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 * السبب إذا منع الخطبة في بعض الأحوال جاز أن يؤثر في إيجاب الفرقة. * من استعجل الشيء قبل وقته عوقب بحرمانه. * ملك استباحة البضع لا يقع فيه اشتراك. * كل جنس تؤكل ذبائحهم جازت مناكحتهم. * كل جنس جاز نكاح حرائرهم جاز وطيء إمائهم بالملك. * كل عقد لو وقع في الإِسلام لكان باطلًا كذلك إذا وقع في الكفر. * كل تحريم تعلق بالوطيء الحلال تعلق بالوطيء الحرام. * كمال الملك ونقصانه معتبر بالملك لا بغيره. * لا يجوز لشخص أن يملك نكاحًا لا يملك الطلاق فيه. * كل من يحد إذا وجد لفظ القذف منه فإنه إذا طلق نفذ طلاقه. * إذا وجد سبيل إلى اليقين كان أولى من الظن والعمل على ظاهره لا يعرف صدقه. * كل زمان يمنع الوطء لإيقاع عباده فيه، فإن ذلك الوطء يوجب استئنافه. * الشيء الواحد إذا كان علمًا على حكم لم يجز أن يكون علمًا على ضده. * كل طعام ابتيع فلم يقبض، فلا يجوز أن يقع عليه عقدًا آخر حتى يقبض سواء كان ذلك من مبتاعه أو ممن صار إليه غير مبتاعه. * إن من المبيع ما يقصد مبلغه دون أعيان آحاده. * أن كل سلعة جاز أن تباع مشاهده وتحصرها الصفة إذا غابت عن العين، فإن السلم فيها جائز. * كل ما جاز أن يكون في الذِّمَّة ثمنًا جاز أن يكون مثمونًا. * الأصول موضوعة على الغالب على أن القليل تابع للكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 * المعروف يجوز فيه ما لا يجوز في غيره. * كل جنس فيه الربا إذا بيع بمثله فلا يجوز أن يباع مع أحد الجنسين غيره أو معهما جميعها، وسواء كان الغير مما فيه الربا أو ما لا ربا فيه. * أن يسير الغرر لا يمنع صحة البيع، وأن ما تدعو الحاجة إليه منه معفو عنه، وأن الذي يمنع ما زاد على ذلك. * كل من جاز سلمه جاز بيعه للأعيان. * كل من صح أن يؤكل في البيع صح أن يليه بنفسه. * من ورث شيئًا ورثه بحقوقه. * كل ما يتعذر معه الرد فإنه إتلاف. * الخراج بالضمان. * كل حكم لزم في رقبة الأم فإن الولد يتبعها فيه. * الاتفاق لا مزيه له على الاختلاف في الحكم بفساد العقد ما لم يفارق الاختلاف حكم حاكم. * حكم الأكثر في حكم الجميع وإن القليل لا حكم له. * الأعواض في المنافع يقوم العرف فيها مقام الشرط. * كل منفعة ملك إباحتها للعين بغير عوض وملك منفعة إياها فإن المعاوضة عليها جائزة. * أن شبهة كل أصل مردودة إلى صحيحه. * الربح تابع للأصل. * الأصول موضوعة على أن القول قول الغارم مع يمينه. * أن الضررين إذا تقابلا، فالأول أولى بالمراعاة لفضل السبق. * أن سائر المتلفات تُقوَّم حال الإتلاف في المواضع التي يتعلق به الضمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 * البينات مترتبة في الأصول على حسب الأشياء المشهود فيها، فيجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها. * من وهب ما لا يملك لم تصح هبته. * الحد يدرأ بالشبهة. * إن كل حكم تعلق على الذهب والورق اعتبر فيه نصاب من الذهب، وجب أن يعتبر فيه نصاب من الورق أصله الزكاة. * الجنايات التي تستحق بها تناول الأعضاء يجب على الجماعة إذا اشتركوا فيها ما يجب على المنفرد. * إن حرز كل شيء على ما جرت العادة. * الكفار لا يؤخذون بحقوق الله تعالى. * إن الإنسان يملك من إسقاط حق نفسه بألا يتعدى إلى إسقاط حق غيره. * كل من استنيب في شيء يتأتى منه فعل ذلك الشيء، فإنه يصح إنابته فيه إلا أن يقوم دليل من جهة الشرع يمنعه. * كل من ردت شهادته لفسق قُبلت عند زوال فسقه. * الأصول موضوعة على أنه لا يحكم للمدعي على سبب واحد: وإنما يحكم بسببين كالشاهدين والشاهد واليمين. * كل جنس قبلت منه شهادة في شيء على انفراد كفى منه شخصان أصله الرجال. * كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها غير مقبولة. * بدل الشيء يقوم مقامه. * كل ما جاز بيعه جازت هبته. * إن كل عدد زاد على الواحدة ممن فرضها النصف ففرضه الثلثان: كالبنات والابنتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 * إن أصول الفرائض مبنية على أنه لا يجوز أن يرث الأبعد من الولد ويسقط الأقرب. * كل حجب انحصر بعدد استوى فيه الاثنان والثلاثة أصله حجب الأم عن الثلث إلى السدس. * الأصل في المواريث أن العصبة أولى بما يبقى. ... (جـ) المسائل التي استدل لها القاضي عبد الوهاب بعمل أهل المدينة (1): * صفة الآذان. * عدد ركعات التراويح. * مقدار الصاع. * الزكاة في الفواكه والبقول والخضروات. * متى تقطع التلبية. * استثناء كيل معلوم في بيع الجزاف. * عهدة الرقيق. * العمل بالقافة. * دية المرأة. * الوقوف والأحباس. ...   (1) يعد القاضي عبد الوهاب من أوائل العلماء الذين تكلموا عن أصل: عمل أهل المدينة، وتقسيمه وكونه حُجَّة، كما سوف يأتي في كتاب "الجامع"، وأن الذين جاءوا من بعده كلهم عالة على ما قاله في ذلك، مثل القاضي عياض، والباجي وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 القسم الثاني التحقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وصف نسخ المخطوط لقد حصلت على أربع نسخ مخطوطة لكتاب "المعونة لمذهب عالم المدينة": نسختان كاملتان تقريبًا، وثالثة إلى كتاب الزكاة -أي وكأنها تحتوي على سفر واحد من خمسة أسفار، والرابعة بها سقط كبير رقم أنها كاملة. 1 - نسخة خزانة القرويين بفاس ورقمها (777): وهو جزء ضخم بخط أندلسي جيِّد مكتوب بالسواك، متلاش، بأوراقه الأولى تمزق وتنقيع، من تحبيس السلطان سيد محمَّد بن عبد الله بتاريخ جمادي الثانية عام 1175 هـ (1). وهذه النسخة كاملة ليس بها سقط داخل المخطوط، لكن عيبها أن بها تمزقًا وطمسًا في الصفحات الثلاث الأولى، والصفحة الأخيرة. وهي تتألف من اثنتين وستين ومائة ورقة (162)، ومسطرتها من ثلاثين إلى اثنين وثلاثين سطرًا. وقد كتب في بداية هذه النسخة كتاب "المعونة على مذهب عالم المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة"؟ تصنيف القاضي أبي محمَّد بن علي ابن نصر المالكي، وقد رمزت لها بحرف (ق). ... 2 - نسخة المدينة المنورة: وهي موجودة بمكتبة الملك عبد العزيز ضمن وقف سيدنا عثمان -رضي الله عنه- برقم (158).   (1) انظر فهرس مخطوطات القرويين: 2/ 413 - 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وهي نسخة مكتوبة بخط مغربي واضح لكنها ليست كاملة، فلقد وجدت بها سقطًا كبيرًا فيما بين الصفحات. كما أن من بداية النسخة يبدأ ترقيم صفحاتها من الورقة الثانية عشرة (12). وهي تتألف من اثنتين وسبعين ومائة ورقة (172)، ومسطرتها ثلاثة وثلاثون سطرًا. وقد كتب في أول النسخة كتاب "المعونة على مذهب عالِم المدينة، للإمام القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي رحمه الله رحمة واسعة". وقد رمزت لها بحرف (م). ... 3 - نسخة الأسكوريال: وهي موجودة بمكتبة الأسكوريال في مدريد بأسبانيا تحت رقم (1196). وهي نسخة مكتوبة بخط أندلسي واضح، لكن يوجد منها سفر واحد فقط عدد أوراقه ثمانية وعشرون ومائة ورقة (128)، ومسطرتها خمسة عشر (15) سطرًا فقط. وقد كتب في صفحاتها الأولى ما يلي: كتاب المعونة لعبد الوهاب القاضي. السفر الأول من كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس أبي عامر الأصبحي إمام دار الهجرة، تصنيف القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب بن عليّ بن نصر بن أحمد البغدادي، وهذا السفر ينتهي إلى آخر باب الزكاة. ولقد استفدت من هذه النسخة -والتي سافرت من أجلها أكثر من مرة إلى أسبانيا- في إكمال النقص الموجود في أول النسختين السابقتين. وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أنني استفدت من النسخ الثلاث في إخراج النص على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 النحو التالي، لهذا فلم اعتبر نسخة هي الأصل دون غيرها، وإنما اعتمدت طريقة النص المختار حتى أصل -قدر المستطاع- إلى نص المؤلف، وذلك لأنني لم أقف على تاريخ نسخ الكتاب علي أي من النسخ الثلاث. وقد رمزت لها بحرف (س). ... 4 - نسخة الخزانة العامة بالرباط: وهي نسخة تحصلت عليها عن طريق الباحث "عبد المحسن الريس" الذي يحضر رسالة الدكتوراة عن آراء القاضي عبد الوهاب الأصولية، وكنت على وشك الانتهاء من التحقيق، لكن رغم ذلك فلقد قابلت هذه النسخة من المخطوط مع باقي النسخ، وأثبت فروق النسخ في التحقيق، علمًا بأنه يوجد سقط كبير في هذه النسخة من بدايتها وفي وسطها أيضًا. وقد رمزت لها بحرف (ر). وهي تقع في 138 ورقة، ومسطرتها 30، تبدأ بصلاة الخوف وما قبلها كلها ساقط وعلى آخره تاريخ نسخها 20 شوال سنة 1287 هـ. ... منهجي في تحقيق الكتاب 1 - نسخ الكتاب وإخراج نصه سليمة بالرسم الإملائي العصري، وتحقيق النص تحقيقًا يجعله قريبًا من الصورة التي وضعه عليها المؤلف - رحمه الله. 2 - إثبات فروق النسخ المختلفة بالهامش. 3 - ترقيم الآيات القرآنية وبيان مكانها من سور القرآن الكريم. 4 - تخريج الأحاديث والآثار, ولقد اتبعت الطريقة التالية في التخريج: إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وجدت الحديث في الصحيحين أو في أحدهما فأكتفي بهما ولا أتبعه في كتب السنن والمسانيد الأخرى. أما إذا كان الحديث في السنن أو المسانيد فإني أخرجه منها مع الإشارة إلى أقوال علماء الحديث في درجة الحديث ما أمكن ذلك. ولقد كان تخريجي لهذه الأحاديث بأن أذكر الكتاب، ثم الباب المترجم له، ثم أعقبها بذكر الجزء والصفحة من الكتاب. 5 - توثيق المنقول والمسائل الفقهية الموجودة بالنص من مصادرها، وفيما يلي ذكر للكتب التي اعتمدت عليها في كل مذهب مع ملاحظة أن الاعتماد كان على أمهات الكتب المؤلفة قبل عصر القاضي عبد الوهاب أو المعاصرة له، وفي أحيان قليلة جدًّا اضطر إلى الاستشهاد ببعض الكتب المتأخرة. ففي المذهب المالكي اعتمدت على: 1 - المدوّنة- برواية سحنون. 2 - الموطأ- للإمام مالك (175 هـ). 3 - الرسالة- لابن أبي زيد (385 هـ). 4 - التفريع- لابن الجلاب (378 هـ). 5 - الكافي- لابن عبد البر (463 هـ). 6 - المقدمات- لابن رشد (520 هـ). والذخيرة في بعض الأحيان من الجزء المطبوع منها، وهي للقرافي (684 هـ) ومواهب الجليل- للحطاب (954 هـ)، ومعه "التاج والإكليل" للمواق، والفواكه الدواني- للنفراوي (1125 هـ)، حاشية الدسوقي- مع الشرح الكبير. وعند الحنفية: 1 - مختصر الطحاوي- لأبي جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي (321 هـ). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 2 - مختصر القدوري- لأبي الحسين أحمد بن محمَّد القدوري (428 هـ). مع ملاحظة أنني اعتمدت النسخة التي هي مع شرح الهداية المسمى باللباب للميداني (1298 هـ). وفي بعض الأحيان النادرة جدًّا أرجع إلى المبسوط للسرخسي (ت 490 هـ)، وتحفة الفقهاء- للسمرقندي (539 هـ)، وبدائع الصنائع- للكاساني (587 هـ)، وفتح القدير- للكمال ابن الهمام (861 هـ)، وحاشية ابن عابدين (1252 هـ). وعند الشافعية: - الأم: للإمام محمَّد بن إدريس الشافعي (204هـ). - مختصر المزني: لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني (264 هـ). - الإقناع- للماوردي (450 هـ). - المهذب- للشيرازي (476 هـ). - روضة الطالبين- للنووي (676 هـ). وعند الحنابلة اعتمدت على: - مسائل الإِمام أحمد- برواية ابنه عبد الله. - مسائل الإِمام أحمد- برواية ابنه صالح. - ومختصر الخرقي (334 هـ). - والمغني لابن قدامة (620 هـ)، في بعض الأحيان. أما المسائل الظاهرية: فقد اعتمدت فيها على محلي ابن حزم الظاهري (456 هـ). وعلى الكتب التي تذكر آراء الإِمام داود كالمغني والمجموع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وأخيرًا فإن مسائل الإجماع والمسائل التي لا خلاف فيها، فقد اعتمدت في توثيقها على الكتب التالية: 1 - الإجماع- لابن المنذر (318 هـ). 2 - مراتب الإجماع- لابن حزم (456 هـ). 3 - المحلي- لابن حزم (456 هـ). 4 - بداية المجتهد- لابن رشد (595 هـ). 5 - المجموع- للنووي (676 هـ). 6 - شرح مسلم- للنووي أيضًا (676 هـ). 7 - المغني- لابن قدامة (620 هـ). 8 - فتح الباري- لابن حجر (852 هـ). 9 - نيل الأوطار- للشوكاني (1150 هـ). ... 6 - شرح الألفاظ الغريبة والمصطلحات الفقهية من الكتب التالية: * حدود- ابن عرفة (803 هـ) مع شرح الرصاع عليها المطبوعة معًا، فإن كان تعريفي من حدود ابن عرفة أشرت إلى حدود ابن عرفه، وإن كان من شرح الرصاع، فإني أذكر شرح الرصاع مع ذكر الصفحة والجزء. * غرر المقالة في شرح غريب الرسالة - لأبي عبد الله محمَّد بن منصور المغراوي (هـ). * الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي القيرواني - لأحمد بن غنيم النفراوي (1125هـ). * المصباح المنير- للفيومي (770 هـ). * معجم مقاييس اللغة- لأحمد بن فارس بن زكريا (395 هـ). * الصحاح- للجوهري. * المغرب- للمطرزي (616 هـ). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وحاولت -قدر استطاعتي- أن تكون التعاريف مختصرة أبدأها بالتعريف اللغوي، ثم أثني بالتعريف الاصطلاحي في عبارات- موجزة ومختصرة. 7 - التعليق على بعض المسائل الفقهية التي تحتاج إلى ذلك، مثل أن يذكر مخالفته لقوم فأذكرهم، أو أنه يرجع ويعتمد رأيًا ضعيفًا في المذهب، فأذكره في اختصار شديد. 8 - التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في نص الكتاب تعريفًا موجزًا ومختصرًا مع الإحالة إلى المصادر ليرجع إليها من أراد التفصيل، ولم أترجم للمشاهير من الأعلام كالخلفاء الأربعة وكبار الصحابة والأئمة الأربعة .. ولقد حاولت قدر المستطاع عدم إثقال الهوامش بالتعليق على الأمور الواضحة سواء كانت لغوية أو فقهية أو في تخريج الأحاديث أو غيرها. وأخيرًا، وحتى يستكمل التحقيق جوانبه الفنية لحقت الكتاب فهارس تشمل على: 1 - فهرس للآيات القرآنية الكريمة. 2 - فهرس للأحاديث. 3 - فهرس للآثار. 4 - فهرس للأعلام. 5 - فهرس للكتب. 6 - فهرس للأشعار. 7 - فهرس للمصطلحات الفقهية وغيرها. 8 - فهرس للأماكن والبلدان. 9 - فهرس تفصيلي للمسائل الفقهية. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل .. المحقق *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 رموز ومصطلحات ق: نسخة المخطوط من خزانة القرويين. م: نسخة المخطوط من مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة. س: نسخة المخطوط مكتبة الأسكوريال. ر: نسخة الخزانة العامة بالرباط. []: ما بين معقوفتين تدل على كل ما أضفته من عندي: من سقط أو عناوين الفصول والأبواب، وترقيم لوحات المخطوط الموجود بالجانب الأيسر من صفحات هذه الرسالة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 صور المخطوط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الورقة الأولى من نسخة القرويين بفاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الورقة الثانية من نسخة القرويين بفاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الورقة الأخيرة من نسخة القرويين بفاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الورقة الأولى من نسخة المدينة المنورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الورقة الثانية من نسخة المدينة المنورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الورقة الأولى من نسخة الأسكوريال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الورقة الأولى من نسخة الأمانة العامة بالرباط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المعونة على مذهب عالم المدينة "الإمام مالك بن أنس" تأليف القاضي عبد الوهاب البغدادي (422 هـ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي رحمه الله: اللَّهم إنا نحمدك بجميع محامدك ونثني عليك بجلالك وكرمك، نسألك العصمة والسلامة من كل ضلالة وبدعة وحيرة وشبهة، ونرغب إليك في كل ما أزلف لديك وقرب من رضوانك وبعد من سخطك وأنت السميع القريب اللطيف المجيب وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلواته على محمَّد خاتم النبيين وآله الطيبين وصحابته [وأزواجه وذريته] (1) وسلامه وتشريفه وإكرامه. أما بعد: يا أخي حفظك الله وحفظ عليك دينك وأمانتك وخواتيم عملك وجعلك ممن يقصدون بعلمهم رحمته وطلب ما عنده، فإنك ذكرتنا وقوفك على شرحنا كتاب "الرسالة" لأبي محمَّد عبد الله بن أبي زيد رحمة الله عليه، وما رأيته منطويًا عليه من [بسط] (2) الأدلة والحجاج وإشباع الكلام في مسائل الخلاف، وعلى الكتاب المترجم "بالممهد" (3)، وما حواه من المسائل والتفريعات واختلاف الوجوه والروايات، وذكرت بعد حفظ ذلك على الشادي (4)، وتعذر ضبطه على المبتدئ، وسألتنا تجديد نية في عمل مختصر لك [سهل] (5) المحل قريب المأخذ يقتصر فيه على ما لا [بد منه] (6)، ولا   (1) مطموسة وتم إكمال النقص من كتاب "التلقين". (2) مطموسة في (ق)، و (س). (3) سبق الحديث عن هذين الكتابين في الدراسة. (4) الشادي: تقال لمن أخذ طرفًا من العلم أو الأدب، واستدل به على البعض الآخر (الصباح المنير: 1/ 307). (5) بياض في (ق)، و (س)، وأكملناه حسب ما اقتضاه السياق. (6) بياض في (ق)، (س)، وأكملناه حسب ما اقتضاه السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 عناء عنه ليسهل على المتلقن مأخذه ويقرب على المبتدئ [تفقهه] (1) وحفظه، وليكون إلى ذينك الكتابين (2) مدخلًا، والتي يحفظ ما أودعناه فيهما وموصلًا، فأجبتك إلى مسألتك وأسعفتك لطلبك مستخيرًا الله سبحانه في ذلك راغبًا إليه في النفع به والمعونة عليه، وهو جل اسمه ولي الإجابة ومبلغ الطلبة ثمنه وعونه وهو حسبي ونعم الوكيل. ...   (1) غير واضحة في (ق)، و (س). (2) يقصد: "شرح الرسالة"، و"الممهد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 كتاب (1) الطهارة (2) [1 - الوضوء من الحدث]: الوضوء (3) من الحدث فريضة (4) واجبة لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} (5) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور (6)، ولا تتم صلاة أحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى" (7)، وقوله عليه السلام لما توضأ   (1) الكتاب في اللغة: الجمع، وفي الاصطلاح: اسم لجنس من الأحكام ونحوها تشتمل على أنواع مختلفة: كالطهارة مشتملة على المياه والوضوء والغسل والتيمم وإزالة النجاسة وغيرها، (انظر معجم مقاييس اللغة: 5/ 158، المصباح المنير ص 524، المطلع ص5). (2) الطهارة في اللغة: النزاهة والنظافة، وفي الاصطلاح: صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة به (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 12). (3) الوضوء لغة: الحسن والنظافة، وفي الاصطلاح: هو تطهير أعضاء مخصوصة بالماء ويرتفع عنها الحدث لاستباحة العبادة الممنوعة (المصباح المنير ص 663، شرح الرصاع على حدود ابن عرفة ص 32). (4) الفريضة: الأمر الذي يثاب على فعله ويترتب العقاب على تركه، وقال القاضي عبد الوهاب: هو تحريم الترك، وقوله: "فريضة واجبة" قصد به الترادف على معنى التوكيد، والفرض والواجب عند المالكية سواء إلا في باب الحج (المقدمات: 1/ 63، والجامع من هذا الكتاب). (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) أخرجه مسلم في الطهارة، باب: وجود الطهارة للصلاة: 1/ 204. (7) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود: 1/ 526، وابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء على ما أمر الله تعالى: 1/ 156، والترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، وقال: حسن: 2/ 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 مرة مرة: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (1)، ولا خلاف في ذلك (2). فصل (3) [2 - حكم السواك]: والسواك (4) مندوب (5) إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لكم تدخلون عليّ قلحًا استاكوا" (6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أُمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (7)، ولأنه من النظافة وهي مندوب إليها. فصل [3 - الرد على من قال بالوجوب]: وليس بواجب (8) خلافًا لمن حكي عنه (9) وجوبه لقوله صلى الله عليه وسلم:   (1) أخرجه الدارقطني: 1/ 79، والبيهقي: 1/ 86، والحاكم: 1/ 150، وقد تفرد به المسيب بن واضح وهو ضعيف، وقال عبد الحق في أحكامه: هذا الطريق من أحسن طرق هذا الحديث (نصب الراية: 1/ 28). (2) الإجماع، لابن المنذر (31)، المحلي- لابن حزم: 1/ 94. (3) الفصل: هو الحجز بين الشيئين، فهو يحجز بين أجناس المسائل وأنواعها (معجم مقاييس اللغة: 4/ 505). (4) السواك: هو اسم عود الأراك الذي يتسوك به (المصباح المنير ص 297). (5) المندوب: ما تتعلق الفضيلة بفعله ولا يتعلق العقاب بتركه (قاله القاضي عبد الوهاب في الجامع من هذا الكتاب). (6) أخرجه البيهقي: 1/ 36، وقال: حديث مختلف في إسناده، والقلح: صفرة تعلو الأسنان ووسخ يركبها (المغرب ص 391). (7) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: السواك يوم الجمع: 1/ 24، ومسلم في الطهارة، باب: السواك (1/ 220). (8) انظر: الموطأ (1/ 65)، الرسالة لابن أبي زيد القيراني ص 94، الكافي- لابن عبد البر ص 23. (9) ممن قال بوجوبه: إسحاق وداود، وقالوا: لأنه مأمور به والأمر يقتضى الوجوب (المغني لابن قدامة: 1/ 95). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 "ثلاثة كتبت عليّ ولم تكتب عليكم: فذكر السواك" (1)، ولأن المقصود منه إزالة الرائحة عن الفم فأشبه غسل الفم من الغمر. مسألة [4 - حكم النية في الطهارة من الأحداث]: والنية (2) شرط (3) في طهارات الأحداث كلها خلافًا لأبي حنيفة (4) إذ يزعم أنها غير واجبة في الوضوء والغسل، ودليلنا قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (5)، فهو من الصلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامريء ما نوى" (6)، ولأنها طهارة عن حدث كالتيمم، ولأنها عبادة متقرب بها كالصلاة والصيام. فصل [5 - محل النية وصفتها]: ومحل النية: القلب، وصفتها: أن يقصد بقلبه ما يريده بفعله وليس عليه نطق بلسانه، ويلزم المتوضيء أن ينوي بوضوئه الطهر من الحدث، ومعنى ذلك استباحة كل فعل كان الحدث مانعًا منه، فإن نوى استباحة فعل بعينه فالأفعال على ضربين: منها ما يجوز فعله مع الحدث، ومنها ما لا يجوز إلا مع ارتفاع   (1) أخرجه الطبراني في معجمه بلفظ: "ثلاث من أخلاق المرسلين"، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا، والدارقطني في الأفراد مرفوعًا (نصب الراية: 2/ 470). (2) هي القصد وعزم القلب على أمر من الأمور (المصباح المنير ص 632، الفواكه الدواني: 1/ 144). (3) أي أنها من فروضه (انظر: المدونة: 1/ 36، التفريع- لابن الجلاب 1/ 92، الكافي ص 19). والشرط في اللغة: إلزام الشيء، وفي الإصلاح: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم (الفروق للقرافي: 2/ 62). (4) انظر: مختصر الطحاوي (17). (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي: 1/ 2، ومسلم في الإمارة، باب: "إنما الأعمال بالنيات" (3/ 1515). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 حكمه، فالأول مثل القراءة ظاهرًا (1)، ودخول المسجد وكتابة العلم ودرسه، كل هذا يجوز مع الحدث الأصغر، فإن نواه بوضوئه فلا يجزئه [للصلاة] (2) ولا غيرها، مما لا يجوز إلا بطهارة وحكم حدثه باق، والثاني مثل الصلوات على اختلاف أنواعها من فرض ونفل، ومثل مس المصحف والطواف، فإن كان نوى بوضوئه استباحة بعض هذه الأفعال جاز له فعل سائرها، وكان حكم حدثه زائلًا. فصل [6 - حكم التسمية على الوضوء]: التسمية على الوضوء غير واجبة (3)، خلافًا لأحمد بن حنبل (4) لقوله جَلَّ وعَزَّ: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (5)، ولم يذكر التسمية، وكذلك الأخبار التي رويناها، ولأنه قول باللسان فلم يجب في الوضوء كالتسبيح، ولأنها طهارة شرعية كالتيمم وغسل الميت. فصل [7 - استحباب غسل يد المتوضيء وغيره قبل إدخالها في الإناء]: ويستحب (6) لكل مريد الوضوء طاهر اليدين بائل أو متغوط أو جنب أو حائض أو قياس لذكره أو ملامس لزوجته أو قائم من نومه: أن يغسل يده قبل إدخالها في إناء وضوئه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في إناء وضوئه فإنه لا يدري أين باتت يده   (1) أي على ظاهر القلب. (2) في (ق)، و (س): بياض، ووضعناه حيث اقتضاه السياق. (3) انظر الرسالة (94)، المقدمات الممهدات: 1/ 83، الكافي ص 23. (4) انظر مسائل الإمام أحمد بن حنبل -رواية ابنه عبد الله- (35)، المغني: 1/ 103. (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) الاستحباب: هو ما كان في فعله ثواب، ولم يكن في تركه عقاب (المقدمات الممهدات لابن رشد: 1/ 64). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 منه" (1)، وهذا المعنى قائم في سائر من ذكرناه، لأنه كما أن النائم لا يسلم ما يمس بيده من أعراق البدن وأوساخه وكذلك المتيقظ (2)، لا يمكنه الاحتراز من إدخالها في أنفه أو حكه بدنه، وإنما نص على النائم وإن المعنى فيه أوجد منه في غيره. فصل [8 - نفي وجوبه ودليله]: وليس بواجب (3) أيضًا خلافًا لأحمد (4) وداود (5)، حين أوجباه على القائم من نومه، للظاهر والخبر، والمقصود بهما بيان ما يلزم القائم إلى الصلاة فعله مع خلوه مما تنازعناه، ولأنها طهارة شرعية كالغسل، ولأنه عضو من البدن كغيرء من الأعضاء، ولأن النوم إن كان حدثًا فهو كالبول، وإن كان سببًا للحدث فهو كاللمس، وكذلك لا يوجب غسل اليد قبل إدخالها الإناء وكذلك النوم، ولأنهم يفرقون بين نوم الليل والنهار فيوجبونه من نوم الليل دون نوم النهار، وذلك خلاف الأصول.   (1) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: الاستجمار وترًا (1/ 48)، ومسلم في الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضيء وغيره يده (1/ 233). (2) في (س): المتنبه. (3) انظر: التفريع: 1/ 189، الرسالة (ص 94)، الكافي (ص 23). (4) في إحدى رواياته (المغني: 1/ 98)، إذا قام من نوم الليل. (5) انظر: المغني: 1/ 97، المحلي: 1/ 281، المجموع: 1/ 398. وداود: هو الإمام داود بن عليّ بن خلف الأصبهاني الكوفي البغدادي الشهير بداود الظاهري، أخذ عن أبي ثور وإسحق بن راهويه، وحدث عنه ابنه أبو بكر وزكريا الساجي ويوسف بن يعقوب الدراوردي وغيرهم، ت 270 هـ (انظر: تذكرة الحفاظ: 2/ 87، سير أعلام النبلاء: 13/ 98). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مسألة [9 - حكم المضمضمة والاستنشاق في الوضوء]: المضمضة (1)، والاستنشاق (2) سنتان (3)، لأمره صلى الله عليه وسلم بهما وفعله لهما، وليستا بواجبتين (4) في الوضوء خلافًا لأحمد (5) وغيره، لقوله جل وعز: {فاغسلوا وجوهكم} (6)، والاسم لا ينطلق على الباطن، ولقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله" (7)، ولأنها طهارة من حدث كالغسل، ولأنه باطن في أصل الخلقة كذا داخل العينين والصماخين (8). فصل [10 - حكم المضمضة والاستنتشاق في الغُسل]: وكذلك فليستا بواجبتين في الغسل (9) خلافًا لأبي حنيفة (10) لما ذكرناه، ولأنه غسل واجب فلم يلزم فيه إيصال الماء إلى داخل الفم والأنف كغسل الميت، ولأنها طهارة عن حدث كالوضوء.   (1) المضمضة: هي إدخال الماء فاه فيخضحضه ويمجه ثلاثا (حدود ابن عرفة -المطبوع مع شرح الرصاع ص 34). (2) الاسنتشاق: جذب الماء بأنفه ونثره بنفسه ويده على أنفه (حدود ابن عرفة -المطبوع مع شرح الرصاع ص34). (3) السُّنَّة: ما داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله، أو ما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله واقترن بأمره ما يدل على أن مراده به الندب (المقدمات: 1/ 64)، وقال القاضي عبد الوهاب: المسنون في الشرع في أعلى مراتب المندوب (الجامع من هذا الكتاب). (4) انظر: المدونة: 1/ 15، الرسالة ص 93، التفريع: 1/ 191. (5) مسائل الإمام أحمد (ص 24). (6) سورة المائدة، الآية: 6. (7) هو نفسه الحديث الذي سبق تخريجه في الصفحة 117. (8) الصماخ: هو الثقب الذي تدخل فيه رأس الإِصبع إلى الأذن (حاشية الدسوقي: 1/ 98). (9) انظر: المدونة: 1/ 15، التفريع: 1/ 191، الكافي ص 23. (10) انظر: مختصر الطحاوي (ص 19). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فصل [11 - حكم ترك المضمضة والاستنشاق في الطهارة]: وإذا ثبت أنهما سنتان فتركهما غير مفسد للطهارة لا سهوًا ولا عمدًا (1)، لأن حكم الحدث يرتفع مع عدمها إلا أنه لا ينبغي تعمد تركهما، فمتى تركهما ناسيًا أتى بهما ما لم يصل ليؤدي الصلاة على الوجه الأفضل، وإن صلى لم يعد لأن وقتها قد مضى بانقضاء الصلاة، والسنن لا تعاد إذا انقضت أوقاتها (2). فصل [12 - غسل الوجهين واليدين في الوضوء]: غُسل الوجه واليدين إلى المرفقين من فرائض الوضوء (3) للظاهر والخبر والإجماع (4). فصل [13 - غسل المرفقين مع اليدين]: وغسل المرفقين مع اليدين واجب (5) خلافًا لمن نفى وجوبه (6)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه (7)، ولأنه حد لعضو مغسول كالكعبين.   (1) انظر: المدونة: 1/ 15، التفريع: 1/ 19، الكافي ص 23. (2) سوف نلاحظ كثيرًا ذكر مثل هذه القواعد التي يستدل بها القاضي عبد الوهاب. (3) انظر: المدونة: 1/ 15، التفريع: 1/ 189 - 190، الرسالة ص 95، الكافي ص 21. (4) انظر: مراتب الإجماع- لابن حزم ص 18 - 19، المجموع: 1/ 413، 427، المغني: 1/ 114، 122، فتح الباري: 1/ 234، نيل الأوطار: 1/ 142. (5) انظر: الرسالة ص 95، الكافي ص 21. (6) حكى نفى وجوبه عن ابن داود وزفر (المغني: 1/ 122). (7) أخرجه الدارقطني: 1/ 83، والبيهقي: 1/ 56 من حديث القاسم بن محمَّد وهو متروك عند أبي حاتم، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وكذا ضعفه أحمد وابن معين وانفرد ابن حبان بذكره في الثقات، وقد صرح بضعف هذا الحديث ابن الجوزي والمنذري وابن الصلاح والنووي وغيرهم. (تلخيص الحبير: 1/ 75). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فصل [14 - مسح جميع الرأس]: ومسح جميع الرأس واجب (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2) لقوله جَلَّ وعَزَّ: {وامسحوا برؤوسكم} (3)، والاسم للجملة فيجب استيفاؤها، ولأنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيده فأقبل بهما وأدبر (4)، وأفعاله على الوجوب، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء، فلم يجز الاقتصار من تطهيره علي أقل ما يقع عليه الاسم أو فلم يتحدد بالربع كسائر الأعضاء، ولأنه عضو أطلق النص فيه فوجب إيعابه كالوجوه. فصل [15 - كيفية إيعاب مسح الرأس]: وكيف ما أوعبه (5) أجزأه إلا أن اختياره فيه: أن يأخذ الماء بيديه ثم يرسله أو بأحدهما ثم يضعه في الأخرى ثم يبدأ بمقدمة رأسه إلى مؤخره ثم يردهما إلى حيث بدأ؛ لأن ذلك صفة فعله صلى الله عليه وسلم (6)، والمرأة والرجل يستويان في ذلك لعموم الظاهر، واعتبارًا بتساويهما في سائر الأعضاء. فصل [16 - مسح الأذنين]: ويمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك (7)،   (1) انظر: المدونة: 1/ 16، الرسالة ص 96، التفريع: 1/ 190. (2) مختصر الطحاوي ص 18، مختصر المزني ص 3. (3) سورة المائدة، الآية: 6. (4) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: مسح الرأس كله: 1/ 54، ومسلم في الطهارة، باب: صفة الوضوء: 1/ 204. (5) قوله: أوعبه: يعني أعمه حتى لم يترك منه شيئًا (غرر المقالة في شرح غريب الرسالة ص 96). (6) راجع الحديث السابق في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم. (7) انظر ما أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1/ 89، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء أن مسح الرأس مرة: 1/ 49: "أنه صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بإبهامه"، وقال الترمذي: حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ويستحب له تجديد الماء لهما (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) للخبر (3) الذي روي في ذلك، ولأن المغسولات نفلًا لما انفردت عن المغسولات فرضًا، فكذلك الممسوحات نفلًا يجب أن تنفرد عن الممسوحات فرضًا. فصل [17 - المسح على العمامة والخمار]: ولا يجوز المسح على عمامة ولا خمار (4) بدلًا عن الرأس خلافًا لأحمد (5) وداود (6)، لقوله جل وعز: {وامسحوا برؤوسكم} (7)، وهذا يوجب مباشرة العضو، ولأنه عضو غير منصوص على حده فأشبه الوجه، ولأن فرض البدل لا يكون كفرض المبدل. مسألة [18 - غسل الرجلين]: وفرض الرجلين الغُسل (8) خلافًا لمن ذهب إلى أنه المسح (9) لقوله تعالى: {وأرجلكم} (10) بالنصب وهو عطف على الغسل، وقوله صلى الله عليه   (1) انظر: المدونة: 1/ 16، الرسالة ص 96، التفريع: 1/ 190، الكافي ص 23. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 18. (3) أن عبد الله بن زيد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فأخذ لأذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذه لرأسه، أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 151. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين (نصب الراية: 1/ 22). (4) انظر: المدونة: 1/ 16، الموطأ: 1/ 35، التفريع: 1/ 191، الكافي ص 23. والعمامة -معروفة- وهي ما يلفه الرجل على رأسه. (انظر المصباح المنير 430)، أما الخمار فهو: ثوب تغطي به المرأة رأسها (المصباح المنير 181). (5) انظر: مسائل الإِمام أحمد (30). (6) انظر: المحلي: 2/ 81، المجموع: 1/ 447. (7) سورة المائدة، الآية: 6. (8) انظر: الرسالة ص 97، المقدمات: 1/ 87. (9) حكي المسح عن ابن عباس وأنس والشعبي وابن جرير (انظر مصنف عبد الرزاق: 1/ 19، كنز العمال: 9/ 433، المغني: 1/ 133). (10) سورة المائدة، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وسلم: "فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من أظفار رجليه" (1)، وذلك يفيد أن فرضهما الغسل، ولأنه عضو منصوص على حده كاليدين. فصل [19 - حكم أقطع الرجلين في الوضوء]: ويغسل أقطع الرجلين موضع القطع لبقائه محل الغرض، ولا يلزم أقطع اليدين من المرفقين (2) غسل موضع القطع؛ لأن المرفقين يدخلان في القطع فلا يبقى شيء من محل الغرض والقطع في الرجلين من تحت الكعبين (3)، فبعض محل الغرض باق فلزمه غسله، فإن اتفق أن يكون بقي شيء من المرفقين غسل موضع القطع (4). مسألة [20 - ترتيب الوضوء]: وترتيب الوضوء مستحب غير مستحق (5) خلافًا للشافعي (6) حين يوجبه لقوله جل وعز: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم .... } (7) الآية وموضوع الواو الاشتراك دون الترتيب، واسم الغسل ينتظم (8) من رتب ومن لم يرتب، ولأنها طهارة شرعية كالغسل، ولأنه تقديم وتأخير في الوضوء فلم يمنع صحته كتقديم اليسرى على اليمنى، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء فصحت الطهارة [مع التبدئة به] (9) كالوجه.   (1) أخرجه مالك في الطهارة، باب: جامع الوضوء: 1/ 31، والنسائي في الطهارة، باب: مسح الأذنين مع الرأس: 1/ 64، وابن ماجه في الطهارة، باب: ثواب الطهور: 1/ 104. (2) المرفق: هو موصل العضد بالساعد (المغرب ص 194). (3) الكعب: هو العظم الناشز من جانب القدم (المغرب ص 409). (4) راجع هذه المسألة في المدونة: 1/ 26. (5) راجع هذه المسألة في المدونة: 1/ 26. (6) انظر: المدونة: 1/ 14، التفريع: 1/ 192، الكافي ص 21. (7) انظر: الأم: 1/ 30، مختصر المزني ص 3. (8) هذه الكلمة غير واضحة في (ق)، و (س). (9) بياض في (ق)، و (س)، وأكمل النقص من "الإشراف": 1/ 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فصل [21 - دليل استحباب ترتيب الوضوء]: إذا ثبت أنه ليس بفرض فإنما استحببناه لفعل رسول - صلى الله عليه وسلم - له (1)، ومداومته عليه وعمل السلف من بعده به، ولأن الأُمة مجمعة (2) على أنه مطلوب في الوضوء وأن فعله أفضل وأولى من تركه، واختلافهم في مباح الطهارة بتركه لا يخرجه عن تعلق الفضيلة به. فصل [22 - صفة الوضوء]: والاختيار في صفته: أن يبدأ بعد النية بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء، ثم بالمضمضة والاستنشاق، ثم بغسل الوجه، ثم بيمنى يديه ثم يسراهما، ثم بالمسح بالرأس، ثم بالأذنين، ثم يغسل يمنى رجليه ثم يسرهما، وإنما اخترنا ذلك على هذه الصفة أنها الصفة التي نقلت الصحابة رضوان الله عليهم أنها كانت صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - (3) وإنما خلصنا بذلك تقديم النية، وإن كان تقديمها فرضًا لئلا يظن ظان أنها من حيث كانت من فروض الوضوء جاز أن تقدم وتؤخر كسائر الأعضاء المفروضة، فبينا أنها بخلاف غيرها، وأن تقديمها فرض، وإنما لا تتناول الماضي المنقضي، وإنما قلنا إنه يقدم غسل يده لأن الخبر بذلك ورد بقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يغمس يده حتى يغسلها" (4) وكذلك روى من وصف وضوئه صلى الله عليه وسلم (5) رواية وحكاية وباقيه قد ذكرناه.   (1) انظر: الأحاديث السابق ذكرها. (2) انظر: المحلي: 2/ 93 - 95، المجموع: 1/ 485، المغني 1/ 136. (3) انظر: حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الذي وصف فيه وضوءه صلى الله عليه وسلم، وقد سبق تخريج الحديث في الصفحة (125). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (121). (5) انظر: حديث: "أنه مسح رأسه بيديه ... " في الصفحة (124). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مسألة [23 - حكم من مسح رأسه ثم حلق شعره]: ومن مسح رأسه ثم حلق شعره فلا إعادة عليه (1) خلافًا لعبد العزيز بن أبي سلمة (2) لقوله جل وعز: {وامسحوا برؤوسكم} (3)، وهذا قد فعل، ولأنه عضو زال حكم الحديث بتطهيره فزواله لا يوجب إعادة تطهيره كسائر الأعضاء، ويفارق المسح على الخف أنه إذا خاف غسل رجليه لأن المسح على الخف بدل ومسح (4) شعر الرأس أصل وطهور المبدل يبطل حكم البدل. فصل [24 - حكم الموالاة في الوضوء]: وإذا تعمد تفريق وضوئه حتى طال وتفاحش استأنف ولم يجزه البناء عليه (5) خلافًا لأبي حنيفة (6)، والشافعي (7)، لقوله جل وعز: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (8)، والأمر المطلق على الفور، ولأنها عبادة تبطل بالحدث فكان للتفريق تأثير في إبطالها كالصلاة، ولأنها عبادة ذات أركان يتقدم الصلاة لها فلم يجز تفريقها كالأذان. فصل [25 - تفريق الوضوء مع العذر]: وتفريقه مع العذر غير مفسد له (9)، إلا أن العذر ضربان: نسيان وعجز   (1) انظر: الذخيرة: 1/ 259. (2) عبد العزيز بن أبي سلمة هو: أبو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون التيمي المدني، الفقيه الإمام الحدث حدث عن الزهري وغيره، وعنه أبو نعيم، توفي ببغداد سنة 164 هـ (تذكرة الحُفَّاظ: 11/ 222). (3) سورة المائدة، الآية: 6. (4) غير واضحة في (ق)، و (س). (5) انظر: المدونة: 1/ 15، التفريع: 1/ 192، الكافي ص 20. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 18. (7) انظر الأم: 1/ 30، مختصر المزني ص 3. (8) سورة المائدة، الآية: 6. (9) انظر: المدونة: 1/ 15، التفريع: 1/ 191، الكافي ص 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الماء عن قدر الكفاية، وفي النسيان يبني طال أم لم يطل صلى أم لم يصل، وفي عجز الماء [يبنى] (1)، ما لم يطل لأن الناسي لا صنع له في نسيانه، ومن عجز الماء عن قدر كفايته [لم يلزمه استعماله] (2) للتحرز (3) بإعداد قدر الكفاية، وفي حد الطول المعتبر في ذلك روايتان: إحداهما الرجوع إلى العرف في القرب أو التفاحش، والأخرى ما لم يجف وضوؤه، فوجه الأولى أن كل أمر فرق بين قليله وكثيره، واحتيج إلى فاصل بينهما لم يرد الشرع به فالمرجوع فيه إلى العرف كالعمل في الصلاة وغيره، ووجه الثانية أن ما لم يجف وضوءه لم يخرج عن حد التقارب لأنه لو تباعد لم يبق على رطوبته، وحكم الغسل والوضوء في ذلك واحد. مسألة [26 - الفرض في عدد تطهير الأعضاء]: الفرض تطهير الأعضاء مرة، والفضل في تكرار مغسولها مرتين وثلاثًا، ولا فضيلة في تكرار الممسوح كله، ولا فيما زاد على الثلاث من مغسوله (4)، فأما الدليل على وجوب المرة، فلأن بحصولها يكون فاعلًا وبعدمها يخرج عن وقوع الاسم عليه، فإذا ثبت أن عليه أن يغسل أعضاءه لقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} (5) الآية، وبالأخبار (6)، والإجماع (7)، وكان أقل ما يتناوله الاسم مرة، وفي انتفائها انتفاء الاسم فوجب فعلها، وكذلك روي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (8).   (1) بياض في (ق)، و (س). (2) طمس في (ق)، و (س) وأكمل النقص من الإشراف: 1/ 35. (3) العبارة هكذا موجودة في (س)، وفي (ق) مطموسة. (4) انظر: المدونة: 1/ 2، الرسالة (98)، التفريع: 1/ 190، الكافي ص 21. (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) التي سبق ذكرها. (7) انظر: مراتب الإجماع -لابن حزم ص 19، شرح مسلم- للنووي: 2/ 213، المغني: 1/ 139، فتح الباري: 1/ 188. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (118). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فصل [27 - الزيادة على المرة في غسل أعضاء الوضوء]: وأما الدليل على أن ما زاد عليها فضيلة فقوله صلى الله عليه وسلم لما توضأ مرتين: "من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين" (1)، وقوله -لما توضأ ثلاثًا- "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء أبي إبراهيم" (2)، بيَّن حكم الأعداد ومراتبها في الفرض والكمال، فجعل حكم الواحدة الفرض وما زاد عليها، فحكمه حكم (3) الفضل. فصل [28 - الزيادة على التثليث في الوضوء]: وأما الدليل على أن ما زاد على الثلاث فلا فضيلة فيه لقوله في الثالثة: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ووضوء أبي إبراهيم" (4)، ونسبته إياه إليه عليه السلام وإلى الأنبياء قبله يفيد أنه الغاية في بابه، وروي: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثًا ومن زاد فقد أساء وظلم" (5). فصل [29 - تكرار مسح الرأس]: فأما الدليل على أنه لا فضيلة في تكرار مسح الرأس ثلاثًا خلافًا للشافعي (6)،   (1) و (2) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (117). (3) سقطت من (ق). (4) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (117). (5) الحديث الوارد بهذه العبارة: "ومن زاد فقد أساء وظلم"، روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء فآراه الوضوء ثلاثًا ثم قال: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء" أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الوضوء ثلاثًا: 1/ 30، والنسائي في الطهارة، باب: الاعتداء في الوضوء:1/ 75، وابن ماجه في الطهارة، باب: القصد في الوضوء: 1/ 146. والحديث صحيح عند من يصحح حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لصحة الإسناد إلى عمرو (نصب الراية: 1/ 29، تلخيص الحبير: 1/ 83). وكما يلاحظ فإن الحديث ليس فيه الوضوء مرة ومرتين. (6) انظر: الأم: 1/ 26، مختصر المزني (ص 2). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم غسل أعضاءه كلها ثلاثًا ومسح برأسه مرة" (1)، والذي روي: "أنه صلى الله عليه وسلم مسح ثلاثًا" (2)، محتمل للتكرار من غير تجديد ماء، ولأنه مسح في الوضوء كالمسح على الخفين والجبائر، ولأنه مسح أوجبه الحدث كالتيمم، وبذلك فارق الاستجمار، ولأن موضع المسح التخفيف فلا يجوز أن يكون من سنته ما يخرجه عن موضوعه والتكرار تغليظ. فصل [30 - الغسل من الجنابة]: الغسل من الجنابة فريضة لقوله تعالى: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} (3)، وقوله: {حتى تغتسلوا} (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء" (5)، وقوله -وسئل عن المرأة تحتلم هل عليها الغُسل- فقال: "نعم إذا رأت الماء" (6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة" (7)، وذلك معلوم من دين الأُمة ضرورة.   (1) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1/ 82، والنسائي في الطهارة، باب: غسل الوجه: 1/ 58، وابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في مسح الرأس: 1/ 150، والترمذي في الطهارة، باب: وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الهيثمي: إسناده حسن. (2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1/ 81، والدارقطني: 1/ 91، والبيهقي: 1/ 63، وفيه عبد الرحمن بن وردان. قال أبو حاتم: ما به بأس، وقال ابن معين: صالح ووثقه ابن حبان (تلخيص الحبير: 1/ 84). (3) سورة المائدة، الآية: 6. (4) سورة النساء، الآية: 43. (5) أخرجه مسلم في الحيض، باب: "إنما الماء من الماء": 1/ 269. (6) أخرجه البخاري في الغسل، باب: إذا احتلمت المرأة: 1/ 74، ومسلم في الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها: 1/ 250. (7) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: في الغسل من الجنابة: 1/ 173، وابن ماجه في الطهارة، باب: تحت كل شعرة جنابة: 1/ 196، والترمذي في الطهارة، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فصل [31 - سقوط الوضوء]: فهذا أحدث الجنب أو أجنب المحدث لم يلزمه وضوء مع غُسله لقوله تعالى: {حتى تغتسلوا} (1)، ولم يوجب غير الغُسل، ولأن الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر بدليل أن المحدثين المتساويين يتداخلان، فالأصغر بأن يدخل في الأكبر أولى (2). فصل [32 - صفة الغُسل]: والفرض على الجنب تعميم ظاهر بدنه بالغُسل (3)، ويستحب (4) له أن يبدأ بغسل يديه، ثم يتنظف من أذى إن كان به، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل أصول شعره بالماء، ثم يوالي الصب عليه، وإنما اخترنا ذلك لأنها صفة غسله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة (5)، وأُم سلمة (6) رضي الله عنهما، وكل من وصف غُسله، وإن لم يغتسل على هذه الصفة وعم بدنه أجزأه. فضل [33 - صفة اغتسال المرأة من الحيض]: وصفة اغتسال المرأة من الحيض كصفة اغتسالها من الجنابة، فإن كان شعرها منسدلًا أمرَّت يديها عليه، وإن كان معقوصًا لم تنقضه ولكن تحفن الماء عليه   = باب: ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة، قال أبو داود: فيه الحارث بن وجيه، حديث منكر وهو ضعيف. (1) سورة النساء، الآية: 43. (2) انظر: الرسالة (ص 99)، التفريع: 1/ 197. (3) انظر: المدونة: 1/ 33، الذخيرة: 1/ 309. (4) انظر الرسالة (ص 99)، التفريع: 1/ 194، الكافي ص 24 - 25. (5) أخرجه البخاري في الغُسل، باب: الوضوء قبل الغسل: 1/ 68، ومسلم في الحيض، باب: صفة غُسل الجنابة: 1/ 253، ومالك: 1/ 44. (6) أخرجه مسلم في الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1/ 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وتضغثه (1) بيديها مع كل حفنه، وذلك روي في تعليمه صلى الله عليه وسلم أُم سلمة الغسل لما قالت له انقض شعري في الغُسل فقال: "إنما يكفيك أن تحثي الماء عليه وتفضيه على جسدك فإذا بك طهرت" (2). فصل [34 - إلزام الدلك على المغتسل]: ويلزمه إمرار يديه على بدنه في الغُسل وأعضائه في الوضوء، فإن اقتصر على مجرد الانغماس (3) أو صب الماء فلا يجزيه (4) خلافًا لأبي حنيفة (5)، والشافعي (6) لأن عليه إيصال (7) الماء إلى بدنه على وجه يسمى غُسلًا لا غمسًا وذلك يقتضي صفة زائدة على إيصال (8) الماء، لأن أهل اللغة قد فرقوا بين الغسل والغمس، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "وادلكي جسدك بيديك" (9) والأمر على الوجوب. فصل [35 - ما يكره من الماء في الغُسل]: ويكره (10) للجنب أن يغتسل في الأبار الصغار القليلة الماء (11)، وفي الماء   (1) الضغث -بالفتح-: الخلط، ومعنى تضغثه يعني تداخله الماء (غرر المقالة ص 99). (2) أخرجه مسلم في الحيض، باب: حكم ضفائر المغتسل: 1/ 255، بلفظ قرب منه. (3) الاغتماس في (م). (4) انظر الرسالة (ص 100)، التفريع: 1/ 194، الكافي ص 25. (5) انظر: مختصر الطحاوي (ص 19). (6) انظر: الأم: 1/ 40، مختصر المزني (ص 5). (7) و (8) اتصال في (م). (9) ذكره ابن حزم في المحلي (2/ 45)، وأعله وهو غريب جدًّا (مسالك الدلالة ص 26). (10) المكروه ضد المستحب وهو ما كان في تركه ثواب، ولم يكن في فعله عقاب (المقدمات: 1/ 64، والجامع من هذا الكتاب). (11) أما إن كانت كبيرة كثيرة الماء، فلا بأس به (التفريع: 1/ 195). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الدائم، فإن فعل أجزأه (1)، وإنما كرهنا له ذلك لجواز أن يكون قد بقى على فرجه نجاسة فتحل في الماء الدائم، ولأنه يصير مستعملًا واستعمال الماء المستعمل في الطهارة مكروه (2). فصل [36 - قدر الماء الذي تحصل معه الكفاية في الوضوء والغُسل]: وليس في قدر ما تحصل معه الكفاية في الوضوء والغسل من الماء حد مضروب (3)، وإنما هو موكول إلى حال المستعمل من رفقه وخوفه، والأصل (4) فيه قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} (5) الآية، وقوله تعالى: {حتى تغتسلوا} (6)، فأطلق، وكذلك الأخبار إلا أنه يستحب في الجملة الاقتصاد دون الإسراف لأنها صفة فعله صلى الله عليه وسلم (7). ...   (1) انظر: التفريع: 1/ 195، الكافي ص 25. (2) وهو لا يجوز مطلقًا عند الحنفية والشافعية، ويجوز مطلقًا عند أبي ثور والظاهرية (بداية المجتهد: 1/ 20). (3) انظر: الرسالة (ص 88)، الكافي (ص 25). (4) أي والدليل فيه. (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) سورة النساء، الآية: 43. (7) فقد كان صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد: أخرجه البخاري في الوضوء، باب: الوضوء بالمد: 1/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 باب (1): المسح على الخفين (2) المسح على الخفين جائز في السفر لثبوت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، والسلف قولًا وفعلًا، وعنه (4) في جوازه للمقيم روايتان (5): إحداهما المنع والأخرى الجواز، فوجه المنع أن تجويزه في السفر للضرورة التي تختص المسافر من خوف انفكاكه عن الرفقة متى تشاغل بخلعهما كل وقت أداء الطهارة، وذلك معدوم في الحضر، ولأن السفر يختص بأشياء من الرخص لا تجوز في الحضر كالقصر والفطر وغيرهما وكذلك المسح، ووجه الجواز -وهو النظر- قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يمسح المسافر والمقيم على خفيه" (6)، وقوله: "إذا أدخلت رجليك في الخفين وأنت طاهر فامسح عليهما وصل فيهما ما لم تخعلهما أو تصبك جنابة" (7) و"لأنه صلي الله عليه وسلم مسح على الخفين في الحضر" (8)، ولأنه   (1) أي هذا باب ويطلق على الصنف، ومجموعة الأبواب تؤلف الكتاب وتحت الباب فصول (الفواكه الدواني: 1/ 108). (2) الخف لغة: شيء يخالف الثقل والرزانة، أما الخف فمنه، وهو لابسه لأن الماشي يخف (معجم مقاييس اللغة: 2/ 154). (3) مثل حديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه البخاري في الوضوء، باب: المسح على الخفين : 1/ 59، ومسلم في الطهارة، باب: المسح على الخفين: 1/ 229. (4) يقصد عن الإمام مالك. (5) انظر المدونة: 1/ 45، الكافي ص 26. (6) هذا الحديث بهذا النص لم أجده، لكن روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يومًا وليلة .. أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي: 1/ 114، ونقل البيهقي أن الشافعي صححه (تلخيص الحبير: 1/ 153). (7) أخرج الدارقطني (1/ 203)، والحاكم (1/ 181) حديثًا قريبًا منه في المعنى، وقال الحاكم: على شرط مسلم. (8) هذا في حديث بلال الذي أخرجه البيهقي (1/ 275). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 مسح في طهارة الحدث فاستوى فيه الحاضر والمسافر كالمسح على العصائب والجبائر. فصل [1 - جواز المسح على الخفين للنساء]: والرجال والنساء فيه سواء لما روي أنه: "صلى الله عليه وسلم: أرخص في المسح على الخفين" (1)، وأطلق، ولأنه مسح في طهارة الحدث كسائر الطهارات. فصل [2 - توقيت المسح على الخفين]: وليس فيه توقيت بمدة من الزمان لا في السفر ولا في الحضر (2)، خلافًا لأبي حنيفة (3)، والشافعي (4)، لقوله: "إذا أدخلت رجليك في الخفين وأنت طاهر فامسح عليهما وصل فيهما ما لم تنزعهما أو تصبك جنابة" (5)، فأطلق ولم يؤقت، وفي حديث أبي بن عمارة (6): "امسح ما بدا لك" (7)، واعتبارًا بالمسح على الجبائر والعصائب (8) بعِلَّة أنه رخص فيه للضرورة.   (1) حديث أبي بكرة أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في توقيت في المسح: 1/ 184، ونقل الترمذي في العلل عن البخاري أنه قال: حديث حسن. (2) انظر المدونة: 1/ 45، التفريع: 1/ 199. (3) انظر: مختصر الطحاوي (ص 21). (4) انظر: الأُم: 1/ 34، مختصر المزني ص 9. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) في (م): أبي عمارة وهو تصحيف. (7) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: توقيت في المسح: 1/ 109، وابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في المسح بغير توقيت: 1/ 185، وهذا الحديث فيه مقال، قال الإِمام أحمد: حديث أبي بن عمارة ليس بمعروف الإسناد. (نصب الراية: 1/ 178). (8) العصائب سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فصل [3 - استحباب خلع الخفين كل جمعة]: إذا ثبت أنه لا توقيت فيه فيستحب خلعه كل جمعة ليغتسل (1) لها (2)، والغسل لا يكون فيه مسح على كل حال، وكذلك في حديث عقبة بن عامر لما سأله عمر رضي الله عنه: منذ كم لم تخعلهما، فقال: منذ الجُمعة إلى الجُمعة، فقال: أصبت السُّنَّة (3). فصل [4 - شروط المسح على الخفين]: والشرط الذي يجوز معه المسح: أن يبتديء لبسهما بعد كمال الطهارة، فإن لبسهما أو أحدهما وقد بقي عليه شيء من وضوء فليس له المسح (4)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه إن غسل أعضاءه وإحدى رجليه ثم أدخلها الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف فإنه يجوز له المسح (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" (6)، ولأنه لبس ابتديء قبل كمال الطهارة فلم يجز المسح فيهما دليله (7) إذا لبسهما قبل غُسل الرجلين. فصل [5 - متى ينتقض المسح على الخفين]: إذا مسح عليهما على الشرط الجائز فلا ينقض المسح إلا بخلعهما أو ما يؤدي إلى خلعهما وهو الجنابة والحيض والنفاس (8)، والذي يدل على أن خلعهما   (1) في (م): ليغسل. (2) انظر: المدونة: 1/ 45، الكافي ص 26. (3) أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 181، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (4) انظر: الرسالة (105)، التفريع: 1/ 199، الكافي ص 26. (5) انظر: مختصر الطحاوي (ص 21)، ترتيب الصنائع (1/ 100). (6) سبقت الإشارة إلى هذا الحديث في الصفحة (135) حديث المغيرة .. (7) أي دليله من جهة القياس كما لو لبس الخفين في حالة الوضوء قبل غسل الرجلين فإنه لا يعتمد بوضوئه، كذلك إذا لبسهما قاصدًا المسح عليهما قبل كمال الطهارة. (8) انظر: المدونة: 1/ 45، الكافي ص 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ينقض المسح خلافًا لداود (1)، قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم تخعلهما أو تصبك جنابة" (2)، ولأنه مسح يفعل بدلًا من غسل، فظهور أصله يبطل حكمه كالجبائر، وإذا ثبت أن خلعهما يبطل المسح، فكذلك ما يلزم معه خلعهما لأنه يحتاج إلى الغُسل وذلك غير جائز فيه. فصل [6 - حكم المسح على الجوربين غير المجلدين]: ولا يجوز المسح على الجوربين غير المجلدين (3)، خلافًا لمن أجازه (4)، لقوله تعالى: {وأرجلكم إلى الكعبين} (5)، فعم كل حائل، ولأنه لا يمكن متابعة المشي فيهما كما لو لف على رجليه خرقة. فصل [7 - حكم المسح على الجرموقين والجوربين المجلدين]: وعنه في الجرموقين (6) روايتان (7)، فوجه الجواز ما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم أرخص في المسح على الخفين" (8)، فعم، ولأنه خف يمكن متابعة المشي فيه، فأشبه أن يلي رِجْلَ الماسح، ووجه المنع أنه ملبوس تحته ممسوح فلم يجز المسح عليه كالعمامة، ولأنه مسح نائب عن غُسل فلم يجز على ما يواريه كالقفافيز في التيمم، وفي الجوربين المجلدين أيضًا روايتان.   (1) المحلي: 2/ 137. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (135). (3) انظر: المدونة: 1/ 44، التفريع: 1/ 199، الكافي (ص 27). (4) قال بجوازه الإمام أحمد. (انظر مسائل الإمام أحمد: 33، ومختصر الخرقي ص20). (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) الجرموق: خف غليظ لا ساق له (الفواكه الدواني: 1/ 160)، وهو يلبس فوق الخف. (7) انظر: المدونة: 1/ 44. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (136). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فصل [8 - صفة المسح على الخفين]: وصفة المسح على الخفين (1): أن يأخذ الماء بيديه ثم يرسله ثم يضع يدًا تحت الخف ويدًا فوقه ويبلغ بيده السفلى إلى الكعبين حد الغُسل (2)، وإنما قلنا: إنه يرسل الماء ويقتصر على البلل الباقي على اليدين؛ لأن ذلك صفة المسح في كل ممسوح، وإن شاء غمس يديه في الماء ورفعهما مبلولتين لأن الغرض حاصل في الحالين، وإنما اخترنا مسح الأعلى والأسفل خلافًا لأبي حنيفة (3)، قوله: أن الأسفل ليس بمحل للمسح أصلًا، لما رواه المغيرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح أعلى الخف وأسفله" (4)، ولأنه موضع من الخف يحاذي المغسول من القدم فوجب أن يكون محلًا للمسح أعلى الخفين (5). فصل [9 - في ترك المسح على أسفل الخف وأعلاه]: وإذا ثبت أن الاختيار مسح الأعلى والأسفل فإن ترك الأسفل واقتصر على الأعلى كره له ذلك واستحببنا له الإعادة في الوقت، وإن اقتصر على الأسفل فلا يجزيه (6)، والأصل فيه قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو كان الدين يؤخذ قياسًا لكان باطن الخف أولى بالمسح، من ظاهره، ولكن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهره" (7)، ولأن باطن الخف في حكم النعل وظاهره   (1) في (م): الخف. (2) انظر: المدونة: 1/ 43، الرسالة (ص 105)، التفريع: 1/ 199. (3) انظر: مختصر الطحاوي (ص 22)، مختصر القدوري: 1/ 37. (4) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: كيف المسح: 1/ 116، وابن ماجه في الطهارة، باب: في مسح أعلى الخف وأسفله:1/ 183، والترمذي في الطهارة، باب: في المسح على الخفين أعلاه وأسفله، وقال الترمذي: حديث معلول: 1/ 162. (5) في (م): الخف. (6) انظر: المدونة: 1/ 43، التفريع: 1/ 199، الكافي: 27. (7) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: كيف المسح: 1/ 114، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح (تلخيص الحبير: 1/ 160). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 في حكم الخف بدليل أن المحرم تلزمه الفدية بلبس الخف ولا يلزمه بلبس النعل، وقد ثبت أنه لو لبس خفًا ليس له ظهر قدم وله أسفل قدم أنه لا فدية عليه (1)، ولو لبس خفًا ليس له ظهر قدم وله أسفل قدم لما لزمته الفدية، فهذا ثبت ذلك كان الموضع الذي هو في حكم الخف هو الذي يتعلق به حكم الجواز دون حكم الموضع الذي هو في حكم النعل، والله أعلم. ...   (1) في (م): لما لزمته الفدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 باب: "المسح على العصائب والجبائر" (1) المسح على العصائب (2) والجبائر (3) جائز (4)، إذا خيف الضرر بنزعهما ومباشرة العضو بالماء، لما روي في حديث عليّ رضي الله عنه أنه قال: "انكسرت إحدى زندي فأمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمسح على الجبائر" (5)، ولأن ضررهما أعظم من ضرر المسح على الخفين للحاجة إلى استدامة لبسهما والخوف على العضو من إصابة الماء. فصل [1 - عدم اشتراط الطهارة في المسح على الجبائر والعصائب]: وليس من شرطهما أن تشد على طهارة (6)، بخلاف المسح على الخفين لأن الخبر مطلق غير مقيد، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم سأل ولا استقصى، ولأن سببهما غير موقوف على اختيار من يوجد به بخلاف الخف.   (1) عنوان الباب من (م). (2) العصائب: من العصب، وهو الشد ومنه عصابة الرأس لما يشد به (المصباح المنير: 2/ 413، الفواكه الدواني: 1/ 163). (3) الجبائر: وهي أخشاب أو نحوها تربط على الكسر ونحوه (المصباح المنير: 1/ 89، الفواكه الدواني: 1/ 163). (4) انظر: المدونة: 1/ 25، التفريع: 1/ 202، الكافي ص 27، وقوله: جائز بمعنى المشروع لا بالمعنى المقابل للمكروه والحرام. (5) أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب: المسح على الجبائر: 1/ 215، وفيه عمرو ابن خالد وهو متروك (نصب الراية: 1/ 186). (6) انظر: التفريع: 1/ 215، الكافي ص 28، وخالف في ذلك بعض العلماء، منهم الشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فصل [2 - لا إعادة على من صلى بالمسح على الجبائر والعصائب]: ولا إعادة على من صلى بالمسح عليهما (1) خلافًا للشافعي (2)، لأنه يطهر بطهارة مثله كالتيمم، ولأنه حائل يجوز المسح عليه كالخفين. ...   (1) انظر: الذخيرة: 1/ 319. (2) انظر: مختصر المزني (ص 7)، المذهب: 1/ 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 باب: التيمم التيمم (1): جائز عند عدم الماء، والأصل فيه قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج" (3)، ولا خلاف في ذلك في السفر (4). فصل [1 - التيمم في الحضر]: وأما في الحضر فيجوز عندنا إذا عدم الوصول إليه (5)، خلافًا لأبي حنيفة (6) حين منعه لغير المحبوس والمريض، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (7)، فعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصعيد الطيب وضوء المسلمين ولو لم يجدوا الماء عشر حجج" (8)، ولأنه عادم للماء كالمسافر.   (1) التيمم في اللغة: القصد، ونقل في عرف الفقهاء إلى مسح الوجه واليدين بشيء من الصعيد (غرر المقالة ص101، المغرب ص 28). (2) سورة المائدة، الآية: 6. (3) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الجنب يتيمم: 1/ 236، والنسائي في الطهارة، باب: الصلوات بتيمم واحد: 1/ 139، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء في التيمم للجنب ... وقال: حسن صحيح (1/ 212). (4) حكى الإجماع صاحب المغني: 1/ 233، المجموع: 2/ 224. (5) انظر: المدونة: 1/ 47، الرسالة (ص 102)، التفريع: 1/ 201. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 20، مختصر القدوري: 1/ 30. (7) سورة المائدة، الآية: 6. (8) سبق تخريج الحديث قريبًا مع وجود اختلاف يسير في اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فصل [2 - لا إعادة على من تيمم في الحضر]: ولا إعادة عليه (1) خلافًا للشافعي (2)؛ لأنها صلاة لزم آداؤها بالتيمم فوجب أن يسقط فرضها كصلاة المسافر. فصل [3 - تيمم المريض]: والمرض مؤثر في جواز التيمم بغير خلاف (3) إذا خيف منه التلف باستعمال الماء، فأما إذا خيف من زيادة المرض فيجوز عندنا التيمم معه (4) خلافًا للشافعي (5)، لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وإن كنتم مرضى} (6) فعم، ولأن حرمة النفس أعظم من حرمة المال، وقد ثبت أنه لو وجد الماء بما يلحقه ضرر في ماله لم يلزمه شراؤه، فكان بأن يسقط عنه استعمال لضرر في بدنه أولى، واعتبارًا بخوف التلف، ولأنها طهارة جوزت لضرورة، فلم يفترق الحكم فيها بين خوف التلف وزيادة المرض أصله المسح على الجبائر. فصل [4 - التيمم للمحدث والجنب]: لا خلاف في جواز التيمم للمحدث، فأما الجنب فيجوز له التيمم عندنا (7)، وحكي عن عمر (8)، وابن مسعود (9) منعه، ودليلنا قوله تعالى: {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا} (10)، فعم كل ملامس، وقوله صلى الله عليه   (1) انظر: المدونة: 1/ 47، الرسالة ص 102، التفريع: 1/ 203. (2) انظر: المذهب: 1/ 43. (3) انظر: المغني: 1/ 257، المجموع: 2/ 213. (4) انظر: التفريع: 1/ 202، الكافي ص 28، الذخيرة: 1/ 339. (5) انظر: الأم: 1/ 42، المجموع: 2/ 314. (6) سورة المائدة، الآية: 6. (7) انظر: المدونة: 1/ 48، الرسالة ص 104، الكافي ص 28. (8) و (9) مصنف ابن أبي شيبة: 1/ 157، المغني: 1/ 257. (10) سورة المائدة، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وسلم لعمار: "وإنما يكفيك هكذا وهكذا" (1)، ووصف له التيمم، ولأنه محدث عادم للماء فأشبه الحدث الأصغر. فصل [5 - أعضاء التيمم]: التيمم يفعل في عضوين وهما: الوجه واليدان فقط لقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" (3)، وفي حديث عمَّار: "إنما يكفيك ضربة لوجهك ويديك" (4). فصل [6 - صفة التيمم]: والفرض للوجه (5) إيعابه، للظاهر (6)، والخبر (7)، ولأنها طهارة من حدث كالوضوء، فأما اليدان فقيل: إلى المرفقين، وقيل: إن تيمم إلى الكوعين (8) أجزاه (9)، فوجه الأول قوله عَزَّ وجَلَّ: {وأيديكم} (10)،   (1) أخرجه البخاري في التيمم، باب: التيمم ضربة (1/ 91)، ومسلم في الحيض، باب: التيمم (1/ 280). (2) سورة المائدة، الآية: 6. (3) أخرجه الدارقطني (1/ 181)، والحاكم في المستدرك (1/ 180)، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الدارقطني: رجاله كلهم ثقات (نصب الراية 1/ 151). (4) أخرجه البخاري في التيمم، باب: التيمم ضربة (1/ 91)، ومسلم في الحيض، باب: التيمم (1/ 281). (5) في (م): في الوجه. (6) من قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم} وهو أن الوجه يستوعب الجميع؛ لأنه لا يقال لمن مسح خديه فقط أنه مسح وجهه. (7) للأخبار التي سبق ذكرها قريبًا. (8) الكوع: هو طرف الزند مما يلي الإبهام (معجم مقاييس اللغة: 5/ 147). (9) انظر: المدونة (1/ 47)، التفريع (1/ 202)، الكافي (ص 29). (10) سورة المائدة، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 واسم اليد يقتضي إلى المناكب، وقوله صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" (1)، ولأنه بدل يفعل في محل مبدله، فكان في الاستيعاب كمبدله أصله الوجه. ووجه رواية الكوعيين: قوله عَزَّ وجَلَّ: {وأيديكم} (2)، واسم اليد الأخص به إلى الكوع، ولأن الأخذ بأوائل الأسماء واجب، والاسم يقع على الكوع، وفي حديث عمار: "إنما يكفيك ضربة لوجهك وكفيك" (3)، ولأنه حكم علق على مطلق اسم اليد، فوجب أن يقتصر به على الكوعين كالقطع، ولأنها طهارة عن حدث فوجب أن يكون مقدار فرض اليدين فيها قدرًا يختص به أصله سائر طهارات الأحداث. فصل [7 - النية في التيمم]: والنية في التيمم واجبة، وينوي الجنب والمحدث به استباحة الصلاة دون رفع الحدث، فإن نوى الجنب استباحة الصلاة من الحدث الأصغر، ففيها روايتان (4) إحداهما: أنه لا يجزيه (5) لأنه أضعف من الغُسل، ولا تنوب نية الأضعف عن نية الأقوى، والأخرى أنه يجزيه لأنهما حدثان موجبهما واحد وهو التيمم، فإذا نوى أحدهما أجزأه عن الآخر كالمحدث ببول ونوم (6) ينوي بوضوئه أحدهما. فصل [8 - التيمم للمجدور والمحصوب]: المجدور (7) والمحصوب (8) إذا خافا التلف أو زيادة المرض جاز لهما التيمم لما   (1) سبق تخريج الحديث. (2) سورة المائدة، الآية: 6. (3) سبق تخريج الحديث. (4) انظر: الكافي (ص 29)، الذخيرة (1/ 351). (5) في (م): لا يجوز. (6) في (ق)، و (م): يبول وينوم. (7) المجدور: من به الجدري وهي قروح تنفط عن الجلد ممتلئة ماء ثم تنفخ (المصباح المنير: 1/ 93). (8) المحصوب: من الحصبة وهي بثرة تخرج بالجسد (معجم مقاييس اللغة: 2/ 70). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قدمناه، وكذلك كل من به عِلَّة يخاف معها الضرر باستعمال الماء، وللجنب الصحيح إذا خاف التلف أو المرض من شدة البرد أن يتيمم لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (1)، وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} (2). فصل [9 - المريض الذي لا يجد من يناوله الماء]: والمريض إذا قدر على استعمال الماء ولم يجد من يناوله إياه تيمم لأنه كالعادم، وكذلك الخائف من لصوص أو سباع (متى خرج إليه) (3)، ويستحب لهما الإعادة في الوقت إذا زالت أعذارهما بخلاف المريض الذي يخاف الضرر لأن عذرهما أضعف، ولإمكان أن يكون الأمر بخلاف ما يظنه الخائف ولتفريط المريض بتركه بإعداد من يناوله الماء إذا أراده أو من يقر به منه. فصل [10 - إذا وجد الماء بثمن]: وإذا وجد الماء بثمن مثله أو ما يقاربه لزمه شراؤه إذا قدر عليه (4)؛ لأن القدرة على ثمن الشيء كالقدرة على الشيء نفسه أصله الرقبة في الكفارة أنه لا يجوز له الصوم مع كونها في الملك أو ثمنها، وإن وجده غالبًا متفاحش الغلاء لم يلزمه وعدل إلى التيمم. فصل [11 - العادم للماء]: العادمون للماء ثلاثة: منهم من يدخل الوقت عليه وهو راج له يغلب على ظنه وصوله إليه في الوقت (5)، فيستحب له تأخير التيمم ليجمع بين الوقت والطهارة الكاملة لأن مراعاة كمال الطهارة أولى من مراعاة فضيلة أول الوقت،   (1) سورة الحج، الآية: 78. (2) سورة النساء، الآية: 29. (3) ما بين القوسين سقط من (ق). (4) انظر: المدونة: (1/ 50)، التفريع (1/ 201)، الكافي (ص 28). (5) في الوقت سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ومنهم من يغلب على ظنه أنه لا يجده حتى يخرج الوقت فيستحب له أن يقدم التيمم لأن في تأخيره فوت الأمرين، ومنهم من هو بين الخوف والرجاء لا يغلب على ظنه أحد الأمرين فيتيمم وسط الوقت لأنه لم تبلغ فيه قوة الرجاء أن يؤخره ولا ضعفه أن يقدمه فاستحب له الوسط (1). فصل [12 - المتيمم يجد الماء في الوقت]: إذا تيمم ثم وجد الماء في الوقت فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يجده قبل الشروع في الصلاة أو بعد الشروع فيها أو بعد الفراغ منها، فإن وجده قبل الشروع فيها بطل تيممه ولزمه استعماله لقوله صلى الله عليه وسلم: "التراب كافيك ما لم تجد الماء" (2)، وهذا واجد، وقوله: "إذا وجدت الماء فأمسه جلدك" (3)، وإن وجده حال تشاغله بالصلاة مضى عليها (4) خلافًا لأبي حنيفة (5)، لأنه حال لا يلزمه فيها طلبه كبعد الفراغ، وإن وجده بعد الفراغ، فكذلك أيضًا خلافًا لطاوس (6)؛ لأنها صلاة أديت بطهر صحيح، فلم يلزم إعادتها أصلًا إذا أديت بالوضوء أو إذا وجد الماء بعد الوقت.   (1) انظر: المدونة: 1/ 47، المقدمات: 1/ 121، الكافي ص 28. (2) أخرجه البخاري في التيمم: 1/ 91. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (24)، وهو جزه من حديث: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ... ". (4) انظر: المدونة: 1/ 50، التفريع: 1/ 203، الكافي ص 30. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 21، مختصر القدوري: 1/ 32. (6) انظر: المحلي: 2/ 169، وقال به أيضًا سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي. وطاوس: هو أبو عبد الرحمن الفارسي، اليمني الجندي الحافظ، عالِم اليمن، سمع من زيد وعائشة وأبي هريرة، روي عنه: عطاء، ومجاهد، وخلق سواهما (ت 106 هـ) (شذرات الذهب: 1/ 133، سير أعلام النبلاء: 5/ 38). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فصل [13 - وجوب طلب الماء]: وعليه أن يطلب الماء (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله عَزَّ وجَلَّ: {فلم تجدوا ماء} (3)، وهذا يفيد وجوب الطلب (4)، ولأنه بدل مرتب فلم يجز الانتقال إليه إلا بعد طلب البدل وإعوازه (5)، كالصوم في الكفارة. فصل [14 - التيمم قبل دخول الوقت]: ولا يجوز التيمم قبل دخول الوقت (6) خلافًا لأبي حنيفة (7)، لقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة اغسلوا} إلى قوله: {فتيمموا} (8)، وذلك لا يكون إلا بعد دخول الوقت، ولأنه تيمم لفرضه مع الاستغناء عنه فأشبه حال وجود الماء. فصل [15 - الجمع بين فرضين بتيمم واحد]: ولا يجوز الجمع بين صلاتين فرض بتيمم واحد (9)؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما يبيح الصلاة فلم يستبح به إلا أقل ما يكن فيه، ولو أبيح ذلك لأدى إلى سقوط الطلب أو تقديم التيمم على الوقت.   (1) انظر: المقدمات: 1/ 118. (2) انظر: تحفة الفقهاء- للسمرقندي: 2/ 38. (3) سورة المائدة، الآية: 6. (4) لأنه لا يقال: لم يجد إلا بعد الطلب، والله سبحانه رتب جواز التيمم على عدم وجدان الماء، فدل على أن البحث عنه والطالب له مأمور به. (5) أعوانه في (ق)، والأعواز: أعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه، والإعواز: الفقر (الصحاح: 3/ 888). (6) انظر: التفريع: 1/ 203، الكافي ص 30. (7) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 46. (8) سورة المائدة، الآية: 6. (9) انظر: المدونة: 1/ 52، الرسالة ص 102، التفريع: 1/ 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فصل [16 - الجمع بين نوافل أو فوائت كثيرة بتيمم واحد]: ويجوز أن يجمع بين نوافل كثيرة (بتيمم واحد) (1) في فور واحد ما لم يقطعه أو يطل به (2)؛ لأنه غير مختص بوقت، ولأن جنسه يجري مجرى الصلاة الواحدة، فإذا خرج عن فوره أو طال استأنف له تيممًا، لأن ذلك يجري مجرى الفراغ من المكتوبة، فيحتاج إلى تيمم لاستئناف أخرى، فأما الجمع بين الفوائت ففيه خلاف بين أصحابنا (3): فمن أجازه جعلها جنسًا كالنفل، ومن منعه اعتبره بالفرائض الحاضرة. فصل [17 - ما يتيمم عليه]: الصعيد الذي يتيمم به: هو الأرض وجميع أنواعها من تراب وجص (4) ورمل وحجارة وصخر وغير ذلك (5)، (خلافًا للشافعي (6) في قوله: هو التراب لا غير ذلك) (7)، والدليل عليه قوله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} (8)، قال أهل اللغة: الصعيد وجه الأرض كان عليها تراب أو لم يكن (9)، قال الزجاج: لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك (10)، وقوله صلى الله عليه وسلم:   (1) ما بين القوسين سقط من (م). (2) انظر التفريع: 1/ 203، الكافي ص 30. (3) انظر: المدونة: 1/ 52، الرسالة ص 102. (4) الجص: ما يبنى به وهو معرب (الصحاح: 3/ 1032). (5) انظر: المدونة: 1/ 50، الرسالة ص 102، التفريع: 1/ 202. (6) انظر: الأم: 1/ 50، المهذب: 1/ 32. (7) ما بين قوسين سقط من (ق). (8) سورة المائدة، الآية: 6. (9) معجم مقاييس اللغة: 3/ 287، الصحاح: 2/ 498. (10) معجم مقاييس اللغة: 3/ 287. والزجاج: هو إسحاق إبراهيم بن محمَّد بن السرى الزجاج البغدادي: نحوي زمانه، لزم المبرد، صنف كتاب "معاني القرآن" (ت 311 هـ). (شذرات الذهب: 2/ 259، سير أعلام النبلاء: 14/ 360). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 "جعلت لي الارض مسجدًا وطهورًا" (1)، ولأنه نوع من أنواع الأرض كالتراب. فصل [18 - إمامة المتيمم للمتوضئين]: ويكره أن يؤم المتيمم المتوضئين، فإن فعل أجزاهم (2)، أما كراهتنا فلأن المتيمم أخفض حالًا من المتوضيء لنقص طهارته وسبيل الإِمام أن يكون مساويًا للمأموم أو أعلى، وأما جوازه فلأن كل من جاز له أن يؤم المتيممين جاز له أن يؤم المتوضئين كالمتوضيء. فصل [19 - وجود الماء دون الكفاية]: ومن وجد من الماء دون كفاية تيمم ولم يلزمه استعماله (3) خلافًا للشافعي (4)، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (5)، فألزم التيمم عند سقوط استعمال الماء، (فلما كان التيمم واجبًا) (6) في هذا الموضع دل على أن استعمال بعض الماء غير واجب، ولأنه بدل عن مبدل والجمع بينهما لا يجب كما لو وجد بعض الرقبة لم يلزمه إعتاقها والصوم. ...   (1) أخرجه البخاري في التيمم: 1/ 86، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة: 1/ 370. (2) انظر المدونة: 1/ 52، الكافي ص 47. (3) انظر: مواهب الجليل- للحطاب: 1/ 333. (4) في أحد قوليه (الأم: 1/ 49). (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) ما بين القوسين سقط من (م)، و (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 باب: الوضوء الوضوء يجب بثلاثة أنواع: أحدها ما يخرج من السبيلين من غائط (1) وريح وبول ومذي (2) وودي (3)، وهذا ما لا خلاف فيه (4)، الثاني: النوم وما في معناه من زوال العقل بإغماء أو سكر أو جنون، والثالث: الملامسة للذة وما في معناه من مس الذكر. فصل [1 - خروج البول والمذي على وجه السلس]: وإذا كان خروج (5) البول والمذي على وجه السلس (6) والاستنكاح (7) فلا وضوء فيه (8)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (9)، لما روي أن عمران بن حصين (10)   (1) الغائط: المطمئن من الأرض الواسع، والرجل إذا أراد أن يقضي الحاجة أتى الغائط فقضى حاجته، فكني به عن العذرة (الصحاح: 3/ 1147). (2) المذي: الماء الأبيض الرقيق الذي يخرج عند اللذة عند الملاعبة والتذكار (الرسالة ص 82). (3) الودي: ماء أبيض خائر يخرج بأثر البول (الرسالة ص 83). (4) انظر: الإجماع- لابن المنذر (ص 31)، المغني: 1/ 168. (5) في (ق): خرج. (6) السلس: هو استرسال البول وعدم استمساكه لحدوث مرض بصاحبه. (المصباح المنير: 1/ 284). (7) الاستنكاح: شك يلازم المرء عند كل صلاة وطهارة، ويطرأ ذلك في اليوم مرة أو مرتين (مواهب الجليل: 1/ 301). (8) انظر: المدونة: 1/ 10، التفريع: 1/ 196. (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 18، الأم: 1/ 18. (10) في (ق)، و (س): رجلًا. وعمران بن حصين: هو أبو نجد بن حصين الخزاعي الصحابي الجليل الفقيه، المحدث، ولي قضاء البصرة، حدث عنه زرارة، ومحمد ابن سيرين (ت 52 هـ) (انظر تذكرة الحُفَّاظ: 1/ 29). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قال: يا رسول الله، إن بي الناصور (1) يسيل مني، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فسال من قرنك إلى قدمك فلا وضوء عليك" (2)، ولأن خروجه على وجه السلس فأشبه أن يخرج في الصلاة. فصل [2 - الخارج من السبيلين مما ليس بمعتاد]: وما خرج من السبيلين مما ليس بمعتاد كالحصى والدود والدم فلا وضوء فيه (3) خلافًا لهما (4)، لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (5)، والاسم (6) ينطلق على الحدث المعتاد، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" (7)، ولأنه نوع من غير أنواع الأحداث المعتادة، دليله إذا خرج من غير السبيلين. فصل [3 - وجوب الوضوء من النوم]: وأما وجوب الوضوء من النوم فالأصل فيه قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (8)، قيل فيه: إذا قمتم من المضاجع (9)، وقوله صلى الله   (1) في (ق): الثاسور، والناصور -بالصاد المهملة-: قرحة غائرة قلما تندمل (المغرب ص 453). (2) أخرجه البيهقي: 1/ 357، وفيه عبد الملك بن مهران وهو مجهول. (3) انظر: المدونة: 1/ 10، التفريع: 1/ 196، الكافي ص 10. (4) لهما يقصد أبا حنيفة والشافعي (انظر: مختصر الطحاوي ص 18، الأم: 1/ 17). (5) سورة المائدة، الآية: 6. (6) الاسم: سقطت من (م). (7) أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب: لا وضوء إلا من حدث: 2/ 172، والترمذي في الطهارة، باب: في الوضوء من الريح: 1/ 109، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (8) سورة المائدة، الآية: 6. (9) قاله السدي وزيد بن أسلم معنى الآية: {إذا قمتم إلى الصلاة} يريد من المضاجع يعني النوم (جامع البيان- للطبري: 6/ 112). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عليه وسلم: "العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ" (1)، وقوله: "لكن من بول أو غائط أو نوم" (2)، ولأن الغالب منه أن الاستثقال فيه يؤدي إلى خروج الحدث فأجرى غالبه مجرى يقينه، ولذلك علله صلى الله عليه وسلم حين قال: "فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" (3)، (ولأن النائم يخرج منه الريح غالبًا، ثم هو حال انتباهه لا يدري ما كان منه فنحن متى سوغنا له الصلاة بوضوء قبل النوم مع كوننا على غير ثقة من بقاء طهارته تلك كنا قد سوغنا له الصلاة محدثًا فكان الاحتياط أن يلزمه الوضوء ليصلي على ثقة من طهارته وارتفاع الحدث) (4). فصل [4 - وجوب الوضوء بزوال العقل]: فأما زوال العقل بالإغماء (5)، والجنون والسكر، فإنما أوجب الوضوء لأنه أدخل في هذا المعنى من النوم لأن النوم يزول بالانتباه وقليل الإيقاظ، وهذه الأشياء أبعد منه عن الإفاقة، فكانت أولى بوجوب الوضوء منه.   (1) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الوضوء من النوم: 1/ 140، وابن ماجه في الطهارة، باب: الوضوء من النوم: 1/ 161، والحديث معلول بضعف الوضين وتدليس بقية (نصب الراية: 1/ 45). والسه: حلقة الدبر، والوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة والكيس ونحوها، فجعل اليقظة للإست كالوكاء للقربة، فما دام الإنسان يقظًا فطهارته باقية كما أن الماء يبقى في القربة ما بقي الوكاء (النهاية في غريب الحديث: 2/ 429). (2) أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب: الوضوء من النوم: 1/ 161، والنسائي في الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين للمسافر: 1/ 71، والترمذي في الطهارة، باب: المسح على الخفين للمسافر والمقيم: 1/ 159، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (3) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الوضوء من النوم: 1/ 140، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء من النوم: 1/ 111، قال أبو داود: هو حديث منكر. (4) ما بين قوسين سقط من (ق). (5) الإغماء: ضعف القوى لغلبة الداء، يقال: غمى عليه، فهو مغمي عليه (المغرب ص 346). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فصل [5 - الملامسة والقُبْلة]: فأما الملامسة والقُبلة وما في بابها فتؤثر في وجوب الوضوء (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (3)، فعم، ولأنه لمس يحرم الربيبة فأشبه التقاء الختانين. فصل [6 - شروط وجوب الوضوء]: ومن شرط وجوب الوضوء باللمس أن تقارنه اللذة، فإن عريت منه لم يجب فيه الوضوء (4)، خلافًا للشافعي (5) في إيجابه الوضوء مع اللذة وعدمها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: "كان يقبل ويلمس ثم يصلي ولا يتوضأ" (6)، وقد ثبت أنه لا يجوز حمله على اللذة، فلم يبق إلا أن يكون لغير لذة، ولأنه لمس لا لذة فيه فأشبه مس الرجل الرجل. فصل [7 - اللمس المقارن للذة]: وإن وجدت اللذة فلا فرق بين الحائل وعدمه خلافًا للشافعي (7)؛ لأنه لمس قارنته الشهوة كالملامسة.   (1) انظر: المدونة: 1/ 13، التفريع: 1/ 196، الكافي ص 11. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 19، تحفة الفقهاء: 2/ 22. (3) سورة المائدة، الآية: 6. (4) انظر: المدونة: 1/ 13، التفريع: 1/ 196، الكافي ص 11 - 12. (5) انظر: الأم: 1/ 15، مختصر المزني ص 3. (6) حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ" أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الوضوء من القبلة: 1/ 123، وابن ماجه في الطهارة، باب: الوضوء من القبلة: 1/ 168، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء في ترك الوضوء من القبلة: 1/ 133، وهذا الحديث فيه مقال، قال الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء (راجع نصب الراية: 1/ 72 - 76). أما حديث اللمس: فعن عائشة قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي .. " أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة على الفراش: 1/ 101، ومسلم في الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي: 1/ 367. (7) ويشترط عدم وجود الحائل، انظر: الأم: 1/ 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فصل [8 - مس الذكر]: ومس الذكر مؤثر في وجوب الوضوء (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من مس ذكره فليتوضأ" (3)، ولأنه لمس يفضي إلى خروج المذي فأشبه مس الفرج بالفرج. فصل [9 - صفة مس الذكر]: اختلف أصحابنا في صفة المراعاة فيه (4): فمنهم من يقول: أن الاعتبار فيه أن يكون ببطن الكف دون غيره ولا اعتبار اللذة، ومنهم من يقول: أن الاعتبار فيه باللذة كلمس (5) النساء، فوجه الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ" (6)، والإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف، ووجه الأخرى أنه لمس باليد يؤثر في نقض الوضوء، فكان الاعتبار فيه باللذة كمس النساء (7).   (1) انظر: المدونة: 1/ 9، التفريع: 1/ 196. (2) انظر: مختصر الطحاوي (19)، مختصر القدوري: 1/ 11 - 12. (3) أخرجه مالك في كتاب الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر: 1/ 42، وأبو داود في الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر: 1/ 125، والنسائي في الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر: 1/ 83، وابن ماجه في الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر: 1/ 161، والترمذي في الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر: 1/ 126، وصححه، وقال الحاكم: على شرط الشيخين: 1/ 136. (4) انظر المدونة: 1/ 8، التفريع 1/ 196. (5) في (ق): كمس. (6) أخرجه البيهقي: 1/ 134، والحاكم: 1/ 138، وقال: هذا حديث صحيح وشاهده الحديث المشهور. (7) في (ق): كلمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فصل [10 - مس الأنثيين]: ولا وضوء من مس الأنثيين (1) خلافًا لعروة بن الزبير (2)، ولا من مس الدبر (3) خلافًا للشافعي (4)؛ لأنها مواضع من البدن لا لذة في مسها فأشبهت سائر الأعضاء. فصل [1 - مس المرأة فرجها]: وفي تخريج مس المرأة فرجها خلاف على وجهين: أحدهما ألا وضوء فيه لأن الخبر ورد في الذكر دون غيره، والثاني أن فيه الوضوء مع اللذة والإلطاف لأنه شخص ملتذ بمس فرجه كالرجل. فصل [12 - ما لا يوجب الوضوء مما خرج من غير السبيلين]: ولا وضوء مما يخرج من غير السبيلين من قيئ أو رعاف أو غيره (5)، خلافًا لأبي (6)، لأنه خارج من غير المخرج المعتاد للحديث، فأشبه الدود الخارج من الجرح (7)، ولأن كل خارج لم ينقض قليله الوضوء، فكذلك كثيره، أصله الدموع عكسه البول.   (1) انظر: التفريع: 1/ 196، والأنثيين: الخصيتيين (المغرب ص 29). (2) عروة بن الزبير: ابن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصى ابن كلاب: ابن حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته صفية، الإمام، عالم المدينة، أحد الفقهاء السبعة (ت 93 هـ) (سير أعلام النبلاء: 4/ 421، شذرات الذهب: 1/ 103). (3) انظر: المدونة: 1/ 8، التفريع: 1/ 196. (4) انظر: الأم: 1/ 19، مختصر المزني: 1/ 3. (5) انظر: المدونة: 1/ 18، التفريع: 1/ 196، والقيئ: الطعام المقذوف (المصباح المنير: 1/ 522)، والرعاف: خروج الدم من الأنف (المصباح المنير: 1/ 230). (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 18. (7) في (م): المخرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فصل [13 - الوضوء من القهقهة]: ولا وضوء من القهقهة في صلاة ولا غيرها (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)؛ لأن كل ما لم يكن حدثًا في غير الصلاة لم يكن حدثًا في أصل الصلاة كالكلام، ولأنها صلاة شرعية فلم تتناقض بالقهقهة أصله صلاة الجنازة (3). فصل [14 - الوضوء مما مسته النار]: ولا وضوء مما مسته النار خلافًا لبعض المتقدمين (4)، لأنّه صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ" (5)، ولما روى: "أن آخر الأمرين كان منه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار" (6). فصل [15 - الوضوء من كل لحوم الإبل]: ولا وضوء من آكل لحوم الإبل (7) خلافًا لأحمد (8) وداود (9)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوضأ من طعام أحله الله عَزَّ وجَلَّ" (10)، ولأنه مأكول فأشبه الخبز.   (1) انظر: التفريع: 1/ 196، الكافي ص 13. (2) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 24. (3) في (م): الجنائز. (4) منهم ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو طلحة وأبو موسى وأبو هريرة وأنس وعمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وغيرهم (المغني: 1/ 191). (5) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق: 1/ 59، ومسلم في الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار: 1/ 273. (6) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: في ترك الوضوء مما مست النار: 1/ 233، والنسائي في الطهارة، باب: ترك الوضوء مما غيرت النار: 1/ 90، والحديث مضطرب المتن كما قال ابن أبي حاتم في العلل: 1/ 64. (7) انظر: مواهب الجليل: 1/ 302. (8) انظر: مسائل الإمام أحمد ص 17، مختصر الخرقي ص 18. (9) انظر: المحلي: 1/ 327. (10) أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء: 5/ 781. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فصل [16 - غسل اليد والفم من أكل اللحم واللبن]: ويستحب غسل اليد والفم من أكل اللحم واللبن (1)، ولأنه صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا فمضمض وقال: "إنَّ له دسمًا" (2)، ولأنه مقصود به النظافة وإزالة الرائحة من الفم كالسواك. فصل [17 - ما يوجب الغسل]: ويوجب الغسل شيئان: أحدهما المني (3)، ودم الحيض والنفاس والولد، والثاني: الإيلاج في قبل أو دبر (4)، فأما المني فالأصل فيه قوله تعالى: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} (5)، وقوله عَزَّ وجَلَّ: {وإن كنتم جنبًا فاطهروا} (6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء" (7)، وقوله: "من رأت ذلك منكن فلتغتسل" (8)، وأما دم الحيض والنفاس والولد فيذكر فيما بعد. فصل [18 - الإيلاج دون الإنزال]: وأما الإيلاج في القبل إذا عرى من الإنزال فإنه يوجب الغُسل (9)، خلافًا لداود (10)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب   (1) انظر: المدونة: 1/ 4، مواهب الجليل: 1/ 302. (2) أخرجه البخاري في الطهارة، باب: هل يمضمض من اللبن: 1/ 60، ومسلم في الحيض، باب: نسخ الوضوء مما مست النار 1/ 274. (3) المني: هو الماء الدافق الذي يخرج عند اللذة الكبرى بالجماع (الرسالة ص 84). (4) انظر: المدونة: 1/ 33 - 34، التفريع: 1/ 197، الرسالة ص 99. (5) سورة النساء، الآية: 43. (6) سورة المائدة، الآية: 6. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة رقم (131). (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (131). (9) انظر المدونة: 1/ 33، التفريع: 1/ 197، الكافي ص 13. (10) انظر: المحلي: 2/ 8، المغني: 1/ 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الغُسل" (1)، وفي حديث آخر: "أنزل أو لم ينزل" (2)، ولأنه حكم يجب بالإنزال، فوجب أن يجب بالإيلاج، وإن لم يكن إنزال كالحد والمهر. فصل [19 - الإيلاج في الدبر]: وإذا أولج في دبر لزم (3) الغُسل، وإن لم ينزل لأنه فرج يتعلق به الحد فأشبه القبل. فصل [20 - حيض الجنب أو جنب الحائض]: إذا حاضت الجنب أو أجنبت الحائض، فلا غسل عليها حتى تطهر، فإذا طهرت كفاها غُسل واحد (4) خلافًا لداود (5)، لأنّهما حدثان ترادفا موجبهما واحد فناب عنهما طهر واحد كما لو كانا من جنس واحد كالجنابتين. فصل [21 - وجوب الغُسل على من أسلم]: إذا أسلم الكافر فعليه الغُسل (6) لأنه صلى الله عليه وسلم أمر غيلان (7)، وثمامة (8) حين أسلما بالغُسل (9)، ولأنه جنب فلزمه الاغتسال للجنابة.   (1) أخرجه الترمذي في الطهارة، باب: إذا التقى الختانان وجب الغسل: 1/ 180، وقال: حديث صحيح، وابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان: 1/ 199. (2) أخرجه مسلم في الحيض، باب: نسخ "الماء من الماء"، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين: 1/ 271. (3) في (ق): وجب. (4) انظر: المدونة: 1/ 32 - 33، التفريع: 1/ 197. (5) انظر: المحلي: 2/ 64. (6) انظر: المدونة: 1/ 40، التفريع: 1/ 197، الكافي ص 14. (7) غيلان: هو غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، أسلم بعد فتح الطائف، وكان أحد وجوه الطائف (الإصابة في تمييز الصحابة: 3/ 189). (8) ثمامة: هو ثمامة بن أثال النعمان بن سلمة بن عتيبة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة ابن الدؤل بن حنيفة الحنفي أبو أمامة اليمامي (الإصابة: 1/ 203). (9) حديث غيلان لم أجده، أما حدث ثمامة فقد أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الاغتسال إذا أسلم: 1/ 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فصل [22 - حكم لبث الجنب في المسجد]: ولا يجوز للجنب اللبث في المسجد (1) خلافًا لداود (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض" (3)، ولأنه شخص يلزمه الغُسل كالكافر. فصل [23 - حكم الجنب يجتاز المسجد]: ولا يجوز له الاجتياز فيه (4) خلافًا للشافعي (5) للخبر (6)، ولأنه نوع من الكون فيه كاللبث. فصل [24 - منع المحدث من مس المصحف]: ولا يجوز لمحدث حدثًا أعلى أو أدنى (7) مس المصحف خلافًا لداود (8)، لقوله عَزَّ وجَلَّ: {لا يمسه إلا المطهرون} (9)، والنهي على الحظر (10)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" (11)، والمراد ما كتب فيه.   (1) انظر: المدونة: 1/ 37. (2) انظر: المجموع: 2/ 173 - 174. (3) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الجنب يدخل المسجد: 1/ 159، وابن ماجه في الطهارة، باب: اجتناب الحائض المسجد: 1/ 212، وصحَّحه ابن خزيمة وحسَّنه ابن القطان (انظر تلخيص الحبير: 1/ 140). (4) ولمالك رأي آخر في جوازه (المدونة: 1/ 37). (5) انظر: الأم: 1/ 54، مختصر المزني ص 19. (6) للحديث المذكور آنفًا. (7) الأدنى: هو حدث الوضوء والأعلى هو الجنابة والحيض والنفاس (التفريع: 1/ 212). (8) انظر: المجموع: 2/ 372. (9) سورة الواقعة، الآية: 79. (10) هذا عند مالك وأصحابه (انظر شرح تنقيح الفصول ص 168). (11) أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 199 مرسلًا، والدارقطني: 1/ 117، وصحَّحه، وقال ابن عبد البر: أنه أشبه المتواتر لتلقي الناس به بالقبول (الدراية: 1/ 87). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فصل [25 - الصبيان يمسكون الألواح والمصاحف]: ويجوز إمساك الصبيان الألواح والمصاحف (1) على غير وضوء للضرورة إلى تعليمهم والمشقة اللاحقة في أخذهم بالتطهير في كل وقت مع قصورهم عن حد التكليف. فصل [26 - الجنب يقرأ القرآن]: ولا يجوز للجنب أن يقرأ (2) خلافًا لداود (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ جنب ولا حائض شيئًا من القرآن" (4)، وقول عليّ رضي الله عنه (5): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن (6) إلا الجنابة"، ولأنه لما منع من الدخول إلى المسجد كان بأن يمنع قراءة القرآن أولى. فصل [27 - قراءة الآيات اليسيرة من الجنب]: ويجوز أن يقرأ الآيات اليسيرة على وجه التعوذ (7) خلافًا لأبي حنيفة   (1) انظر: التفريع: 1/ 212، والألواح: هي الصفيحة من خشب يكتب عليها القرآن (المصباح المنير: 2/ 560). (2) انظر: التفريع: 1/ 212. (3) المغني: 1/ 144، المحلي: 1/ 105، المجموع: 1/ 172. (4) أخرجه الترمذي في الطهارة، باب: الجنب والحائض أنهما لا يقرأن القرآن: 1/ 236، وابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة: 1/ 195، وفي الحديث إسماعيل بن عياش ضعفه أحمد والبخاري وغيرهما. (نصب الراية: 1/ 195). (5) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: في الجنب يقرأ القرآن: 1/ 155، وابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة: 1/ 195، والنسائي في الطهارة، باب: حجب الجنب من قراءة القرآن: 1/ 118، والترمذي في الطهارة، باب: في الرجل يقرأ على كل حال ما لم يكن جنبًا، وقال: حديث حسن صحيح: 1/ 273 - 274. (6) في (ق): سوى. (7) انظر: التفريع: 1/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والشافعي (1)، لأن حكم اليسير مخالف حكم الكثير، ألا ترى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو" (2)، ثم كتب إليهم: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله} (3) الآيات، ولأن الإنسان يتعوذ بذكر الله تعالى فيحتاج إليه للتعوذ، فكان ما يحتاج إليه من ذلك مستثنى من المنع. فصل [28 - حكم قراءة الحائض]: وفي قراءة الحائض روايتان (4): فوجه المنع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقرأ جنب ولا حائض شيئًا من القرآن" (5)، ولأنه حدث موجب للغسل كالجنابة، ووجه الجواز فلأنها غير قادرة على رفع حدثها وتطول مدتها فكانت معذورة بذلك للمشقة التي تلحقها كالمحدث. فصل [29 - في المنع من استقبال القبلة للغائط والبول]: ولا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها بالغائط والبول في الصحاري (6)، خلافًا لداود (7)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبلوا القِبْلة ولا تستدبروها   (1) انظر: مختصر الطحاوي (18)، الأم: 1/ 5، المجموع: 1/ 171. (2) أخرجه البخاري في الجهاد والسير، باب: السفر بالمصاحف إلى أرض العدو: 4/ 95، ومسلم في الإمارة، باب: النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار: 1/ 1490). (3) سورة آل عمران، الآية: 64، وتخريج الحديث: أخرجه البخاري في التفسير، باب: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله": 5/ 167. (4) انظر: التفريع: 1/ 206. (5) تقدم تخريج الحديث قريبًا. (6) انظر: المدونة: 1/ 7، التفريع: 1/ 212، والصحاري: أي الأفضية. (7) انظر: المجموع: 2/ 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بغائط ولا بول" (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن شرقوا أو غربوا" (2). فصل [30 - جواز ذلك في الدور والأبنية]: ويجوز ذلك في الدور والأبنية (3) خلافًا لأبي حنيفة (4)، لما روى ابن عمر رضي الله عنه: "أنه صلى الله عليه وسلم كان في بيت حفصة مستدبر الكعبة مستقبل بيت المقدس" (5)، ولأن الأبنية قد تضيق فلا يمكن إلا على هذه الصفة ففي منع ذلك مشقة. فصل [31 - حكم الجماع مستقبلًا القبْلة]: وفي الجِماع مستقبلًا القبلة روايتان (6): قال ابن القاسم (7): لا بأس به، وقال ابن حبيب (8): يكره، فوجه قول ابن القاسم أن النهي ورد في الحدث   (1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: قِبْلة أهل المدينة: 1/ 103، ومسلم في الطهارة، باب: الاستطابة: 1/ 224. (2) هو جزء من الحديث السابق. (3) انظر: المدونة: 1/ 7، التفريع: 1/ 212. (4) انظر: حاشية ابن عابدين: 1/ 342. (5) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: من تبرز على لبنتين: 1/ 45، ومسلم في الطهارة، باب: الاستطابة: 1/ 224. (6) في (ق): خلاف، وفي هذه المسألة (انظر المدونة: 1/ 7). (7) ابن القاسم: هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، الإِمام الفقيه المالكي ركن المذاهب، وقد صحب الإِمام مالك عشرين عامًا، وله سماع منه عشرون كتابًا (ت 191 هـ) (الديباج: 1/ 456، تهذيب التهذيب: 1/ 465). (8) ابن حبيب: هو أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان السلمي الأندلسي، سمع ابن الماجشون وأصبغ، كان حافظًا للفقه المالكي، ألف كتبًا كثيرة حسانًا في الفقه والأدب والتاريخ منها "الواضحة" (ت 238 هـ) (الديباج: 2/ 8). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 دون غيره فوجب قصره عليه، ولأن الجماع مفارق للحديث لأنّه يتعلق به حكم الندب في بعض الأحوال، ووجه قول ابن حبيب لأنّه يتعلق بكشف العورة فأمر بالاستتار فيه فكان كالحدث، ولأن المعنى في معنى الاستقبال بالحدث لتعظيم القبلة وإجلال حرمتها، وذلك يقتضي تساوي هذه الأمور في المنع. فصل [32 - حكم إزالة النجاسة]: اختلف أصحابنا في إزالة النجاسة هل هي واجبة وجوب السنن المؤكدة، أو وجوب الفرائض (1)، وفائدة ذلك تتصور في منع (2) تعمد الصلاة بها مع القدرة على إزالتها، وإذا قيل: إنها سُنَّة مؤكدة فلأن الاتفاق حاصل على جواز الصلاة مع اليسير من جنسها كدم البراغيث وغيره (3)، وعند أبي حنيفة بقدر الدرهم من سائر النجاسات (4)، ولو كانت فرضًا لم تجز الصلاة مع شيء منها كالطهارة من الحدث، وإذا قيل: إنها فريضة فللإجماع على منع تعمد الصلاة بها (5) وذلك يفيد كونها فرضًا كالطهارة من الحدث، فإذا ثبت هذا فعلى القول بأنها سُنَّة يأثم ولا إعادة عليه، وعلى القول الآخر بأنها فريضة لا يجزيه وعليه الإعادة. فصل [32 - الصلاة بالنجاسة ناسيًا أو ذاكرًا مع عدم القدرة على إزالتها]: وعلى كلا الوجهين إن صلى بها ناسيًا أو ذاكرًا، ولكن لا يقدر على إزالتها فصلاته جائزة (6)، لما روي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم، فلما فرغ قال لهم: "لم خلعتم نعالكم؟ "، فقالوا: رأيناك   (1) انظر: المدونة: 1/ 22، الرسالة ص 88، التفريع: 1/ 198، الكافي ص 18. (2) في (ق): فيمن. (3) انظر: المدونة: 1/ 23، الكافي ص 18. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 31، مختصر القدوري: 1/ 52. (5) انظر: المغني: 2/ 63. (6) انظر: المدونة: 1/ 23، الكافي ص 18 - 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 خلعتها، فقال: "إن جبريل أخبرني أن فيها قذرًا" (1)، وروي: "نجسًا" (2) ولم يعد الصلاة ولا أمرهم بإعادتها ولا قطعها بل مضى عليها. فصل [34 - عدم جواز الصلاة بشيء من النجاسة]: كل نجاسة سوى الدم فإنه لا يصلى بشيء منها كالبول والغائط والمذي وسائر النجاسات (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4) في تجويز الصلاة بقدر الدرهم، لأنها نجاسة يمكن الاحتراز من جنسها (5) كالزائد على قدر الدرهم. فصل [35 - الصلاة بيسير من الدم]: وأما الدم فيجوز الصلاة بيسيره، فإن كثر وتفاحش لم يجز (6)، لأن الدم مخفف في الأصل، إنما حرم مسفوحه فكان أخف من سائر النجاسات، ولأن أكل اللحم وفيه اليسير من الدم جائز، وكذلك قالت عائشة - رضي الله عنه -: ولولا أن الله قال: {أو دمًا مسفوحًا} (7) لتتبع الناس ما في العروق" (8). فصل [36 - الصلاة بدم الحيض]: لا خلاف عندنا أن كل دم عدا دم الحيض تجوز الصلاة مع يسيره، وأما دم   (1) أخرجه أبو داود في الصلاة في النعل: 1/ 425، وابن خزيمة: 1/ 348، والحاكم في المستدرك: 1/ 260، وصحَّحه على شرط مسلم ووافقه الذهبي (تلخيص الحبير: 1/ 278). (2) روي: "خبثا" وليس "نجسًا" كما ذكر المؤلف، وقد أخرجه أبو داود كذلك: 1/ 425. (3) انظر: المدونة: 1/ 23، التفريع: 1/ 205، الكافي ص 18. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص31، مختصر القدوري: 1/ 52. (5) في (ق): منها. (6) انظر: المدونة: 1/ 22. (7) سورة الأنعام، الآية: 145. (8) انظر: جامع البيان - للطبري: 8/ 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الحيض ففيه روايتان (1): إحداهما: أن حكمه حكم سائر الدماء، والأخرى: أن قليله وكثيره سواء لا تجوز الصلاة بشيء منه بخلاف سائر الدماء، فوجه الأولى هو أنه دم فأشبه سائر الدماء، ووجه الثانية أن دم الحيض مغلظ أمره بخلاف غيره لأنه خارج من فرج فكان كالبول والمذي. فصل [37 - الثوب الذي عليه بول الصبي والصبية]: ويغسل الثوب من بول الصبي والصبية (2) خلافًا للشافعي (3) في قوله: لا يغسل من بول الصبي؛ لأنه بول آدمي كبول الأنثى، والحديث المروي في التفريق بينهما (4). قال مالك: ليس بالمتواطأ عليه (5). فصل [38 - حكم أبوال وأرواث الحيوان]: لا خلاف أن أبوال ما يحرم أكله وأرواثه (6) نجسة، وأما ما يؤكل لحمه فعندنا أبوالها وأرواثها طاهرة (7)، وقال أبو حنيفة والشافعي (8) نجسة، فدليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أُكل لحمه فلا بأس ببوله" (9)، و"لأنه صلى الله   (1) انظر: المدونة: 1/ 22، التفريع: 1/ 205، الكافي ص 18. (2) انظر: المدونة: 1/ 27، الكافي ص 18. (3) انظر: الأم: 1/ 55. (4) الحديث هو: "يغسل بول الجارية ويرش بول الصبي" أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم: 1/ 175، وأبو داود في الطهارة باب: بول الصبي يصيب الثوب: 1/ 262، والحاكم: 1/ 166، وقال: صحيح الإسناد. (5) لم أعثر على من ذكر هذا القول عن مالك؟ (انظر فتح الباري: 1/ 325، التمهيد: 9/ 110). (6) الروث: الخارج من كل حافر (المغرب ص 200، المصباح المنير: 1/ 242). (7) انظر: المدونة: 1/ 4، 21، الكافي ص 19. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 31، الأم: 1/ 93، مختصر المزني ص 19. (9) أخرجه الدارقطني: 1/ 128، مرة عن يحيى بن العلاء قال فيه أحمد: كذاب، وأخرجه أخرى عن سوار بن مصعب، قال عنه ابن معين: متروك الحديث. (نصب الراية: 1/ 125). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عليه وسلم أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها" (1)، وقوله: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" (2)، ثم "طاف بالبيت على بعير" (3)، فدل أن بوله غير نجس وإلا لم تكن لتعرض المسجد لما نهي عن مثله، ولأنه مائع أباح الشرع شربه كاللبن. فصل [39 - نجس المني]: والمني نجس (4) خلافًا للشافعي (5)؛ لأنه مائع خارج من السبيل فأشبه البول، ولأنه مائع يوجب البلوغ كدم الحيض، ولأنه يجري في مجرى البول ولو كان طاهرًا في الأصل لوجب أن ينجس لجريه في مجرى نجس. فصل [40 - غسل المني رطبه ويابسه]: ويغسل رطبه ويابسه (6) خلافًا لأبي حنيفة (7)، لقول عائشة رضي الله عنها: "كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصلاة ونقع الماء على ثوبه" (8)، ولأنه نجس فكان كسائر النجاسات.   (1) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: استعمال إبل الصدقة: 1/ 137، ومسلم في القسامة، باب: حكم المحاربين: 3/ 1296. (2) أخرجه ابن ماجه في المساجد والجماعات، باب: ما يكره في المساجد: 1/ 247، وإسناده ضعيف (نصب الراية: 2/ 492). (3) "طوافه صلى الله عليه وسلم على بعير" أخرج هذا الحديث البخاري في الحج، باب: استلام الركن بالمحجن: 2/ 162، ومسلم في الحج، باب: جواز الطواف على بعير: 2/ 926. (4) انظر: المدونة: 1/ 25، الكافي ص 18. (5) انظر: الأم: 1/ 55، مختصر المزني ص 18. (6) انظر: الكافي ص 18. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 31. (8) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: غسل المني وفركه: 1/ 63، ومسلم في الطهارة، باب: حكم المني: 1/ 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فصل [41 - الشك في موضع النجاسة من الثوب]: وإذا تيقن إصابة النجاسة لثوبه وشك في موضعه غسله كله؛ لأنه ليس بعضه أولى من بعض، ولا أمارة يتميز له ما أصابه من الموضع الذي لم يصبه، فوجب غسل جميعه لأنه لا يصل إلى غُسل ما أصابه إلا بذلك، كما يلزم إمساك جزء من الليل إذا لم يمكن تمييز النهار مثله؛ لأنه لا يصل إلى استيفاء النهار إلا بذلك وإن علم الجهة من الثوب وشك في موضع الإصابة منها لم يكن عليه غسل باقيه، وإن شك هل أصابه شيء أم لا نضحه استحبابًا لجواز أن يكون أصابه ولم يلزمه لأن الشك لا يلزم به طهارة (1). فصل [42 - ما يزيل النجاسة]: لا يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء المطلق (2) عن الثياب والأبدان (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) لقوله صلى الله عليه وسلم: "في دم الحيض حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء وصلي فيه" (5)، ولأنه (6) لا يرفع النجاسة عن نفسه فلم يرفعها عن غيره، ألا ترى أن الماء لما صح أن يدفع النجاسة عن نفسه صح أن يدفعها عن غيره.   (1) انظر: المدونة: 1/ 23 - 24، الكافي ص 18. (2) الماء المطلق: هو الماء الذي لم يتغير أحد أوصافه بما ينفك عنه (شرح حدود ابن عرفة ص 28، المقدمات: 1/ 86). (3) انظر: المدونة: 1/ 23، الكافي ص 19. (4) انظر: مختصر الطحاوي: 1/ 15 - 16. (5) أخرجه البخاري في الطهارة، باب: غسل الدم: 1/ 62، ومسلم في الطهارة، باب: نجاسة الدم وكيفية غسله: 1/ 240، ومعنى "حتيه: أي حكية وتقشره، (النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 1/ 337)، ومعنى اقرصيه: أي تقطعه بأطراف الأصابع مع الماء ليتحلل (النووي على شرح مسلم: 3/ 199). (6) الضمير يعود على الحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فصل [43 - السيف يصيبه الدم]: السيف إذا أصابه الدم أجزأه مسحه عن غسله لأنَّه صقيل لا يقبل النجاسة لأنها لا تتخلله (1)، ولأن به ضرورة إلى ذلك لئلا يفسد متى غسل (2). فصل [44 - إزالة النجاسة من الخف والنعل]: ويغسل الخف والنعل من العذرة والبول، فأما من أرواث الدواب، ففيه روايتان (3): إحداهما أنه يغسل والأخرى أنه يمسح، فوجه قوله: أنه يغسل اعتبارًا بالثياب والحصر، ووجه قوله: أنه يمسح فلأن غسله إفساد له فسومح فيه (4)، مع كون الأرواث مكروهة عندنا غير نجسة. ...   (1) في (ق): لا يتخلله. (2) في (ق): غسله. (3) الروايتان معًا لابن القاسم (وانظر المدونة: 1/ 21، التفريع: 1/ 20). (4) في (ق)، و (م): بياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 باب الاستنجاء (1) ويستنجي من البول والغائط لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن" (2)، وقوله: "لا يكتفين أحدكم بدون ثلاثة أحجار" (3). فصل [1 - الاستنجاء من الريح]: ولا يستنجي من الريح لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من استنجى من الريح" (4)، ولأنها ليست جسمًا يعلق ولا أثر لها. فصل [2 - الجمع بين الأحجار والماء في التطهير]: والأفضل الجمع بين الأحجار والماء (5)، لأن الأحجار تراد للتجفيف والماء يزيل الأثر ويطهر الموضع، فإن لم يكن ذلك فالماء أفضل، فإن اقتصر على الأحجار أجزاه لما رويناه (6) ما لم يَعْدُ المخرج أو ما لا بد منه، فإن عداه لم   (1) الاستنجاء: غسل موضع الخبث بالماء (حدود ابن عرفة ص 35، الفواكه الدواني: 1/ 128). (2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الاستنجاء بالأحجار: 1/ 37، والنسائي في الطهارة، باب: الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة: 1/ 38، وأخرجه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح. (انظر: نصب الراية: 1/ 215). (3) أخرجه مسلم في الطهارة، باب: الاستطابة: 1/ 224 بلفظ: "نهانا صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار". (4) أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء: 1/ 196، وابن عساكر في تاريخ دمشق: 5/ 173 وهو ضعيف. (5) انظر: المدونة: 1/ 8، الرسالة ص 91، التفريع: 1/ 20. (6) انظر: الأحاديث التي سبق ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 يجز فيه إلا الماء، وإن الموضع مخصوص بذلك دون سائر البدن والرخص لا تتعدى بها مواضعها. فصل [3 - الحجر الواحد في الاستنجاء]: وإذا أنقى بحجر واحد أجزاه (1) خلافًا للشافعي (2) في قوله: لا بد من ثلاثة أحجار، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر" (3)، وأقله واحد، ولأنه استنجاء فلم يلزم فيه سوى الإنقاء كالماء، ولأن الإنقاء قد وجد فأشبه إذا أتى بالثلاثة. فصل [4 - كراهية الاستنجاء بالعظام]: ويكره الاستنجاء بالعظام (4) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أما العظم فزاد إخوانكم من الجن (5)، فإن فعل أجزاه خلافًا للشافعي (6)، لأن النهي عن ذلك لتعلق حق الغير وهو كونه طعامًا له، وذلك لا يقتضي الفساد. فصل [5 - كراهية الاستنجاء باليمين]: ويكره الاستنجاء باليمين إلا من عذر (7)، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن   (1) انظر: التفريع: 1/ 211، الكافي ص 17. (2) انظر: الأم: 1/ 22، مختصر المزني ص 3. (3) أخرجه البخاري في الوضوه، باب: الاستنثار في الوضوء: 1/ 48، ومسلم في الطهارة: 1/ 212 بلفظ: "إذا استجمر أحدكم فليستجمر وترًا". (4) انظر: التفريع: 1/ 211، الكافي ص 17. (5) أخرجه البخاري في المناقب، باب: ذكر الجن: 4/ 241، ومسلم في الاستطابة: 1/ 224. (6) انظر: الأم: 1/ 22، مختصر المزني ص 3. (7) انظر: الكافي ص 17، الذخيرة: 1/ 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ذلك (1)، وروي أن يده اليمنى صلى الله عليه وسلم كانت لطعامه وشرابه واليسرى لما يكون من أذى (2)، فأما مع العذر فجائز للضرورة إليه. ...   (1) أخرجه البخاري في الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين: 1/ 47، ومسلم في الطهارة، الباب نفسه: 1/ 225. (2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء: 1/ 23، والطبراني من حديث عائشة وهو منقطع، وله شاهد من حديث حفصة، قال النووي: إسناده جيد. (تلخيص الحبير: 1/ 111). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 باب في طهارة الماء أصل الماء الطهارة والتطهير (1) على اختلاف صفاته وأماكنه: من سماء أو أرض أو بئر أو بحر أو عذب أو مالح، كان مائعًا في أصله أو ذائبًا بعد جموده، لقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} (2)، وقوله: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} (3)، وقوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا} (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء" (5)، وروي: "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" (6)، وقوله في بول الأعرابي: "صبوا عليه ذنوبًا من ماء" (7) في نظائر لهذه الأخبار. فصل [1 - حكم ماء البحر]: ولا خلاف في الجملة التي ذكرناها إلا في ماء البحر (8)، فذكر عن بعض   (1) يعني طاهر في نفسه ومطهر لغيره. (2) سورة الفرقان، الآية: 48. (3) سورة الأنفال، الآية: 11. (4) سورة المائدة، الآية: 6. (5) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: ما جاء في بئر بضاعة: 1/ 55، والنسائي في المياه، باب: ذكر بئر بضاعة: 1/ 141، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء: 1/ 95، وقال: حديث حسن. (6) أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب: الحياض: 1/ 174، والحديث ضعيف لأن فيه رشيد بن سعد جرحه النسائي وابن حبان وأبو حاتم (نصب الراية: 1/ 94). (7) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد: 1/ 16، ومسلم في الطهارة، باب: وجوب غسل البول: 1/ 236، والذنوب: الدلو العظيمة (المصباح: 1/ 210). (8) انظر الرسالة ص 87، المقدمات: 1/ 86، المغني: 1/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الصحابة منع التطهير به (1)، والجمهور على أنه مطهر طاهر لعموم الظواهر التي ذكرناها، ولقوله صلى الله عليه وسلم وسئل عن التطهر بمائه: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (2)، واعتبارًا بسائر المياه. فصل [2 - الماء المطلق]: المياه ضربان: مطلق ومضاف، فالمطلق هو ما لم يتغير أحد أوصافه بما يخالطه مما ينفك عنه غالبًا مما ليس بقرار له ولا حادث عنه، والمضاف هو ما تغير بما وصفناه من ذلك المتغير بالزعفران (3)، والعصفر (4) والخل واللبن وغيره، فأما المتغير بالطين، ففي القسم الأول لأنه قراره ولا ينفك عنه غالبًا، وكذلك الطحلب (5) لأنه متولد عنه عن طول مكثه، وكذلك تغييره بالحمأة (6) وما أشبهها، ثم بعد هذا على ضربين: طاهر ونجس وذلك يرجع إلى صفة ما تغير به (7)، فإن كان طاهرًا سلبه حكم التطهير فقط، وكان طاهرًا غير مطهر كسائر المائعات، وإن كان نجسًا سلبه الصفتين جميعًا. فصل [3 - الماء المضاف]: قد بينا أن ما خالطه الزعفران والعصفر وغيَّر ذلك أوصافه، فإنه يخرجه عن   (1) حكي عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة (مصنف ابن أبي شيبة: 1، 131/ المغني: 1/ 8). (2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر: 1/ 64، والنسائي في الطهارة، باب: ماء البحر: 1/ 44، وابن ماجه في الطهارة، باب: الوضوء بماء البحر: 1/ 136، والترمذي في الطهارة، باب: ما جاء في ماء البحر أنه طهور، وقال: حديث حسن صحيح: 1/ 101. (3) الزعفران: معروف، وزعفرت الثوب: صبغه به (الصحاح: 3/ 670). (4) العصفر: صبغ (الصحاح: 3/ 750). (5) الطحلب: شيء أخضر لزج يخلق في الماء ويعلوه (الصحاح: 1/ 171، المصباح المنير ص 369). (6) الحمأة: طين أسود (المصباح المنير ص 153). (7) في (م): يغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 إطلاقه ويشبه التطهير (1)، وعند أبي حنيفة (2) أنه على إطلاقه وأن التطهير جائز به إلا أن يكون عن طبخ فلا يجوز، ودليلنا أنه تغير بما ليس بقرار له ولا متولد عنه، بل بما ينفك عن مخالطته غالبًا، فأشبه إذا تغير بنجاسة أو بطبخ. فصل [4 - الماء المتغير بالنجاسة]: فأما ما تغير بالنجاسة فإنه نجس لا خلاف فيه (3)، وما لم يتغير طاهر إذا كان كثيرًا وإن كان يسيرًا فمكروه (4) إلا أنه في الحكم طاهر مطهر، ولا حد في ذلك سوى التغيير، وقال أبو حنيفة كل ماء حلته النجاسة نجس إلا أن يكون من الكثرة بحيث يعلم أن النجاسة لم تصل إلى جميعه، واعتبار ذلك عنده بأن لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الآخر (5)، ودليلنا قول الله عَزَّ وجَلَّ: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} (6)، فعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء إلا ما غيَّر أحد أوصافه لونه أو طعمه أو ريحه" (7)، (وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث بئر بضاعة: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" (8)) (9)، ولأنه لم يتغير من نجس كما لو لم تضطرب جنباته، ولأن هذا يؤدي إلى تنجيس المياه كلها لأننا نعلم أن البحار والأنهار لا تنفك من وقوع النجاسة فيها، فإذا كان ذلك الموضع نجس يجب تنجيس ما جاوره ويمتد ذلك إلى جميعه وذلك فاسد.   (1) انظر: الرسالة ص 87، الكافي ص 15، إذا غير أحد أوصافه. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 15، مختصر القدوري: 1/ 19: ما دام باقيًا على وقته وسيلًا منه. (3) انظر: الرسالة ص 88، المقدمات: 1/ 86، الذخيرة: 1/ 163، الكافي ص 15. (4) انظر: الرسالة ص 88، التفريغ: 1/ 216، الذخيرة: 1/ 164. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 16، مختصر القدوري: 1/ 21. (6) سورة الأنفال، الآية: 11. (7) و (8) سبق تخريج الحديثين في الصفحة (174). (9) ما بين قوسين سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فصل [5 - الاعتبار في القلتين بتغير الماء]: ووافقنا الشافعي في القلتين (1) فصاعدًا أن الاعتبار في ذلك بالتغير، وخلافنا (2) فيما قصر عنهما فقال: ينجس بنفس مخالطة النجاسة له تغير أو لم يتغير، وقدرهما عنده خمسمائة رطل بالعراقي على ضرب من التقريب (3)، ودليلنا ما قدمناه (4)، ولأنه لم يتغير من النجاسة كالقلتين، ولأنه مخالط لما لم يغلب عليه فلم ينقله عن حكمه أصله الطاهرات، ولأن كل ما لم ينقل الماء من حكمه إذا كان قدره قلتين، فكذلك إذا قصر عنهما أصله سائر الأشياء المخالطة له وما يستعمل فيه. فصل [6 - الماء المستعمل]: والماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر (5)، خلافًا لأبي يوسف (6) إذ يقول: أنه نجس، لعموم الظواهر، ولأنه ماء لاقى جسمًا طاهرًا فلم ينجسه كما لو استعمل في تبرد أو تنظف.   (1) القلتين: واحدتهما قله وهي الجرة سميت بذلك لأن الرجل العظيم يقلها بيديه أي يرفعها وهي تسع فرق، والفرق يسع أربعة أصواع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - (المصباح المنير ص 514، المطلع ص 7). (2) كذا في (ق) والصواب: وخالفنا، لمقابلة وافقنا في أول الكلام. (3) انظر الكافي ص 15، الذخيرة: 1/ 163، الأم: 1/ 4 - 5، مختصر المزني (9). (4) وهو عموم النصوص من الكتاب والسُّنَّة. (5) انظر: المدونة: 1/ 4، الذخيرة: 1/ 165، الكافي ص 16. (6) انظر مختصر الطحاوي ص 16، وأبو يوسف: هو يعقوب بن إبراهيم بن صبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، صاحب الإمام أبو حنيفة وتلميذه كان فقيهًا من حُفَّاظ الحديث، وهو أول من دعي قاضي القضاة، حدث عنه أحمد بن حنبل وأسد بن الفرات وغيرهما (ت 182 هـ) (أخبار القضاة: 3/ 253، سير أعلام النبلاء: 8/ 535). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فصل [7]: والتطهير به مكروه غير محظور (1)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2) في قولهما إنه كسائر المائعات، لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا} (3)، والطهور الطاهر المطهر، وقوله: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} (4)، فعم كل أحواله، وروي أن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسلت في جفنة فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها أو ليتوضأ، فقالت: إني كنت جنبًا فقال: "إن الماء لا يجنب" (5)، وروي: "لا جنابة عليه"، ولأن أوصافه باقية كالذي لم يستعمل. فصل [8 - الوضوء بنبيذ التمر]: ولا يجوز الوضوء بنبيذ التمر (6) خلافًا لأبي حنيفة (7)، لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (8)، فلم يجعل بين الماء والصعيد واسطة والمخالف يجعل بينهما واسطة وهي النبيذ، ولأنه مائع لا يجوز الوضوء به حضرًا فلم يجز سفرًا كسائر المائعات عكسه الماء لما جاز التطهير بجميع أنواعه حضرًا جاز التطهر به سفرًا.   (1) انظر: المدونة: 1/ 4، الكافي ص 16. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 16، المجموع: 1/ 203. (3) سورة الفرقان، الآية: 48. (4) سورة الأنفال، الآية: 11. (5) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: الماء لا يجنب: 1/ 55، والنسائي في المياه: 1/ 141، وابن ماجه في الطهارة، باب: الرخصة بفضل وضوء المرأة: 1/ 132، والترمذي في الطهارة، باب: الرخصة في فضل طهور المرأة، وقال: حسن صحيح: 1/ 94، في رواية النسائي: "لا ينجسه شيء". (6) انظر: المدونة: 1/ 4، الكافي ص 15. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 15. (8) سورة المائدة، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فصل [9 - إذا وقع في الماء ما لا نفس له سائله]: ما لا نفس له سائلة كالذباب والصرار (1)، إذا مات في الماء لم ينجسه (2) خلافًا للشافعي (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فاملقوه، فإن في إحدى جناحه دواء وفي الآخر داء، وإنه يقدم الداء ويؤخر الدواء" (4). وهذا يدل على أنه لا ينجسه وإلا كان أمرًا بإضاعة المال، والإجماع من الأُمة. في سائر الأعصار على جواز أكل النحل الذي تموت فيه الدود (5). فصل [10]: فإذا ثبت أنه لا ينجس ما مات فيه: فإن مات في ماء نظر، فإن لم يغيره فالماء مطلق على أصله قبل موته فيه، فإن غيره سلبه التطهير وجعله مضافًا (6) كسائر الأشياء الطاهرة (7). فصل [11 - إذا مات في الماء حيوان]: أما ما له نفس سائله إذا مات في الماء: فإن كان من دواب البر فعقد الباب فيه (8): أنه إن تغير فهو نجس قليلها كان أو كثيرًا لا يحل شربه ولا بيعه ولا   (1) الصرار: طائر يطير بالليل ويقفز ويطير والناس تظنه الجندب، والجندب يكون في البراري (المصباحُ المنير: 338). (2) انظر: المدونة ص 48، الكافي ص 16. (3) في أحد قوليه (انظر الأم: 1/ 5، مختصر المزني ص 8). (4) أخرجه البخاري في الطب، باب: إذا وقع الذباب في الإناء: 7/ 33، بدون لفظة: "وأنه يقدم الداء ويؤخر الدواء"، وأخرجه بهذا اللفظ ابن ماجه في الطب، باب: يقع الذباب في الإناء: 2/ 1159. (5) انظر: المغني: 1/ 43، المجموع: 1/ 1882. (6) أي لم يكن مطلقًا. (7) انظر: المدونة: 1/ 4، الذخيرة: 1/ 162، الكافي ص 16. (8) عقد الباب: أي ما يجمع الباب من أحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 استعماله في طهارة ولا أكل شيء عجن به، وإن لم يتغير فهو في الحكم طاهر مطهر إلا أنه يكره استعماله إذا كان قليلًا أو كانت البئر صغيرة، ويستحب أن يطرح (1) منها بقدر ما تطيب به النفس ليس في ذلك حد، وإنما هو على حسب كثرة الماء وقلته وصغر البئر وكبرها (2). فصل [12 - موت دواب الماء في الماء]: وأما دواب الماء التي لا تعيش إلا فيه كالسمك والسرطان والسلحفاة، وغير ذلك فإنه طاهر في عينه لا ينجس إذا مات، ولا ينجس ما مات فيه تغير أو لم يتغير إلا أنه إن غير الماء منع الوضوء به من جهة الإضافة فقط (3)، والأصل في هذه الجملة قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (4)، ولأنه لا يحتاج إلى ذكاة فلم تلحقه نجاسة كسائر الطعام والشراب. فصل [13 - سؤر الكلب]: الكلب طاهر وسؤره مكروه، وفي الحكم أنه طاهر مطهر (5) (خلافًا للشافعي (6) في قوله: إن الكلب نجس ودليلنا) (7) لأنه حي فأشبه الحيوان، ولأن كل حي نجسًا بعد الموت، فإن الحياة علة لطهارته كسائر الحيوان، ويدل على طهارة سؤره قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (8)، ولم يأمر بغسله، وقوله صلى الله عليه وسلم وسئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع فقال: "لها ما حملت في بطونها ولكم ما بقي شرابًا   (1) في (م): ينزح. (2) انظر: المدونة: 1/ 4، المقدمات: 1/ 93، الذخيرة: 1/ 171، الكافي 16. (3) انظر: المقدمات: 1/ 93، الكافي ص 16. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (175). (5) انظر: المدونة: 1/ 605، التفريغ: 1/ 214. (6) انظر: الأم: 1/ 6، مختصر المزني ص 1. (7) ما بين قوسين سقط من (ق). (8) سورة المائدة، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وطهورًا" (1)، ويدل على أن غسل الإناء منه تعبد (2)، فنقول: لأنه غسل مقيد بعدد فأشبه الوضوء. فصل [14 - غسل الآنية إذا ولغ فيها الكلب]: إذا ثبت أنه طاهر، فإذا ولغ (3) الكلب في الإناء غسل سبعًا للخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات" (4) وذلك تعبد عندنا لا لنجاسته، ولا يختلف المذهب أن الإناء يغسل من ولوغه إذا كان فيه ماء، فأما إذا كان فيه لبن أو خل أو غسل، ففي غسله روايتان (5): فإذا قلنا: إنه يغسل فلعموم الخبر وقياسًا على الماء، وإذا قلنا: إنه لا يغسل فلأن الغسل من ولوغه تعبد لا تعرف عِلَّته فلا يقاس عليه والخبر وارد في الماء، فلا يجوز تعديه، ولأن الماء يخف أمره لكثرته، وعدم التشاح فيه، ولأنه لا خطر لثمنه وسائر الأطعمة والأشربة بخلافه. فصل [15 - سؤر النصراني والسباع]: ويكره الوضوء بسؤر النصراني (6)؛ لأنه لا يتوقى النجاسات من الخمر وأكل الخنزير، وكذلك سؤر كل حيوان لا يتوقى النجاسات كالدجاج المخلاة (7)، وسائر السباع وكل هذا كراهية وليس بتحريم. ...   (1) أخرجه ابن ماجه في الطهارة، باب: الحياض: 1/ 173، بلفظ: "لها ما حملت في بطونها ولنا ما غير طهور" وهو معلول بعبد الرحمن بن زيد ضعيف لا يحتج بأمثاله (نصب الراية: 1/ 136). (2) التعبد: معناه أنَّا لا نعلم مصلحته، لا أنه ليس فيه مصلحة (الذخيرة: 1/ 63). (3) في (ق): أولغ. (4) أخرجه مسلم في الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب: 1/ 234. (5) روي ابن القاسم عن الإمام مالك نفي غسله، وروي ابن وهب عنه إثباته (انظر المدونة: 1/ 5، التفريغ: 1/ 14). (6) انظر: الذخيرة: 1/ 179، والحكم يشمل جميع المشركين. (7) الدجاج المخلاة: يعني بها الدجاج المرسل الذي يجوب الشوارع فيأكل القذرة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 باب الدماء الدماء التي تزجيها الرحم ثلاثة: دم حيض (1)، ودم نفاس (2)، ودم عِلَّة وفساد وهو الاستحاضة (3)، فأما دم الحيض والنفاس فيمنعان وجوب الصلاة وصحة فعلها ويمنعان صحة الصوم دون وجوبه، وفائدة (الفرق بينهما) (4) أنهما إذا زالا لزم قضاء الصوم ولم يلزم قضاء الصلاة، ويمنعان الجماع في الفرج وما دونه، ويمنعان الطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف. فصل [1] وفي منعهما قراءة القرآن خلاف فيه (5). فصل [2 - الدليل على منع وجوب الصلاة على الحائض والنفساء]: فأما منعهما وجوب الصلاة (6) فلما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها   (1) الحيض: دم يلقيه الرحم إذا بلغت المرأة (حدود ابن عرفة- مع شرح الرصاع ص 39). (2) النفاس: دم إلقاء حمل (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص41). (3) الاستحاضة: استمرار الدم بعد تجاوز أيام الحيض (المغرب ص 135 - حدود ابن عرفة 40). (4) في (ق): ذلك. (5) فقد روى ابن القاسم وابن عبد الحكم عن الإمام مالك جواز قراءتها، وروى أشهب منعها (انظر التفريع: 1/ 206). (6) انظر: المدونة: 1/ 55 - 56، التفريغ: 1/ 206، الرسالة ص86، الكافي ص 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (1)، ولأن ذلك إجماع (2). فصل [3 - الدليل على منع الحائض فعل الصلاة]: وأما منعها من صحة فعلها (3) فلقوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة أيام أقرائك" (4)، وقوله: "إذا كان فامسكي عن الصلاة" (5)، ولأنهما يمنعان رفع الحدث فمنعا الأداء، ولا خلاف أيضًا في ذلك. فصل [4 - الدليل على منع أداء الصوم للحائض والنفساء لا الوجوب]: فأما منعهما فعل الصوم فلا خلاف فيه (6)، وكذلك لا خلاف أنهما لا يمنعان (وجوبه) (7)، وإن منعا أداءه (8)، ويدل (على ذلك) (9) حديث عائشة   (1) أخرجه البخاري في الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة: 1/ 83، ومسلم في الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة: 1/ 265. (2) انظر: الإجماع ص 37، شرح مسلم - للنووي: 2/ 3298، بداية المجتهد: 1/ 54، المجموع: 2/ 318، فتح الباري: 1/ 65. (3) انظر: المقدمات: 1/ 135، الذخيرة ص 374، الكافي ص 31. (4) أخرجه أبو داود في الحيض، باب: من قال: تغتسل من طهر إلى طهر: 1/ 209، وابن ماجة في الحيض، باب: المستحاضة التي عدت أيام أقرائها: 1/ 204، والترمذي في الحيض، باب: ما جاء أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وقال: هذا حديث تفرد به شريك عن أبي اليقظان، وقال ابن حجر: إن إسناده ضعيف (تلخيص الحبير: 1/ 170). (5) أخرجه مسلم في الحيض، باب: المستحاضة وغسلها وصلاتها: 1/ 262، بلفظ: "فإذا أقبلت الحيض فدعي الصلاة"، وهو بلفظ المصنف عند أبي داود في الطهارة، باب: من قال: إذا قبلت الحيضة تدع الصلاة: 1/ 197. (6) انظر: الإجماع ص 37، المغني: 1/ 308. (7) في (ق)، و (م): مطموسة. (8) أي أنه لا يصح معهما الصيام من غير إسقاط وجوبه. (9) في (ق): عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 رضي الله عنها: أنها قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (1)، والفرق بينهما لحوق المشقة في قضاء الصلاة لتكرارها وكون ذلك مؤديًا إلى فوات ما يجب في المستأنف إلا بالمداومة إلى أن يفرغ من الماضي، والصوم بخلافه لأنه غير متكرر ولا يؤدي إلى ضيق أو حرج. فصل [5 - الدليل على منع الجماع في الفرج للحائض والنفساء]: وأما منعهما من الجماع في الفرج فلقوله عَزَّ وجَلَّ: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} (2)، والأخبار متظاهرة بذلك، ولا خلاف فيه (3). فصل [6]: فأما الوطء فيما دون الفرج (4)، فممنوع عندنا، خلافًا (5) لأصبغ (6) وغيره لقوله: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (7) فعم، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (183)، ووجه الدلالة منه من باب اللزوم، أي إذا أمر بقضاء الصوم دل على أنها كانت ممنوعة من صومه، وقد أخرج البخاري في الحيض، باب: ترك الحائض الصوم عنه صلى الله عليه وسلم: "أليست إحداكن إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي ... ": 1/ 78. (2) سورة البقرة، الآية: 222. (3) انظر: المغني: 1/ 333، المجموع: 2/ 274. (4) في (م): دونه. (5) انظر: المدونة: 1/ 57، التفريغ: 1/ 209، الذخيرة: 1/ 376. (6) هو قول أصبغ وابن حبيب (المقدمات: 1/ 136، الذخيرة: 1/ 376)، وأصبغ هو: أبو عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع القرشي الأموي المصري، كان فقيه بلده له تفسير غريب الموطأ، وسماع عن ابن القاسم وآداب القضاء (ت 225 هـ) (انظر الديباج: 1/ 299، الشذرات: 2/ 56). (7) سورة البقرة، الآية: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 سئل عما يحل للرجل من امرأته إذا حاضت فقال: "ما فوق الإزار (1) وليس له ما دونه" (2)، ولأنه وطء مقصود في العادة كالوطء في الفرج. فصل [7 - عدم جواز الوطء بعد الطهر وقبل الغُسل]: ولا يجوز وطؤها بعد انقضاء الدم وقبل الغُسل (3)، خلافًا لمن أجازه (4)، لقوله تعالى: {فإذا تطهرن فآتوهن} (5) معناه: فإذا فعلن التطهير، وانقطاع الدم الذي به تطهر، ليس من فعلها، ولأنها حائض انقطع دمها فأشبه انقطاعه قبل العشرة الأيام (6) ولم يمر بها وقت الصلاة. فصل [8]: والاستمتاع بها فوق الإزار جائز (7) لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "شدي عليك إزارك ثم عودي إلى مضجعك" (8)، وقوله:   (1) في (م): إزارها. (2) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب: ما جاء في المذي: 1/ 146، بلفظ: "ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل"، وقال: ليس بالقوي، وفي إسناده بقية (تلخيص الحبير: 1/ 167). (3) انظر: الموطأ: 1/ 58، التفريغ: 1/ 209 الكافي ص 31. (4) أجازه أبو حنيفة إن انقطع الدم لأكثر الحيض وإن انقطع لدون ذلك لم يبح وطؤها حتى تغتسل (مختصر الطحاوي ص 22). (5) سورة البقرة، الآية: 222. (6) في (م): عشرة أيام. (7) انظر: المدونة: 1/ 57، التفريغ: 1/ 209، الكافي ص 31. (8) أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 58، هو مرسل، وقد روي حديث بمعناه في الصحيحين. (انظر: صحيح البخاري في الحيض، باب: مباشرة الحائض: 1/ 78، ومسلم في الحيض، باب: مباشرة الحائض فوق الإزار: 1/ 242). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 "للرجل من الحائض ما فوق الإزار وليس له ما دونه" (1)، ولأن المنع من الفرج وما دونه لأجل ملاقاة الأذى وذلك مأمون فيما فوق الإزار. فصل [9 - دليل منع الحائض والنفساء من الطواف]: وأما منعهما الطواف (2) فلأمرين: أحدهما: منعهما من دخول المسجد، وقد دللنا عليه فيما تقدم، والآخر أن الطواف لا يصح إلا بطهارة، وأما منعهما مس المصحف وقراءة القرآن، فقد ذكرناه فيما تقدم. فصل [10 - دليل منع الحائض والنفساء من الاعتكاف]. وأما منعهما الاعتكاف (3): فلأنهما يمنعان شرطين من شروطه وهما: دخول المسجد وصحة الصوم، ولا يمنعان وجوبه لأنهما لو نذرتاه في حال الحيض والنفاس أنهما يفعلانه بعد الطهر للزمهما إذا طهرتا، فأما إن نذرتا أن تعتكفا حال الحيض والنفاس فلا يلزمهما سواء نذرتاه في المدة أو قبله، لأن ذلك نذر معصية كما لو نذر إنسان صوم يوم النحر والفطر، فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين أن ينذر اعتكاف ليلة، لم قلتم على قول بعض أصحابكم يلزمه يوم وليلة؟ فإن كان الليل لا يصح فيه الصوم، كذلك يجب أن يكون زمان الحيض والنفاس، قلنا: لا يجب ذلك والفرق بينهما واضح وهو: أن الليل زمان الاعتكاف على وجه ألا ترى أنه يحرم عليه في ليلة ما يحرم عليه في نهاره، ولو فعل في ليله ما يفسد اعتكافه لبطل اعتكافه إلا أنه لا يصح إفراده لأنه تبع لنهاره، كما أن حال خروجه من المسجد يكون معتكفًا تبعًا لحال حصوله فيه فإذا كان كذلك فلم ينذر معصية، وألزمناه يومًا وليلة؛ لأن إيجاب التبع للمتبوع لأنه مشروط به، كما لو نذر صلاة لكان قد أوجب على نفسه التطهر لها وزمان الحيض بخلافه لأنه ليس بزمان للاعتكاف على وجه لا تبعًا ولا غيره، ألا ترى أنه إذا طرأ على الاعتكاف قطعه وإذا طرأ عليه الليل لم يقطعه والله أعلم.   (1) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (185). (2) انظر: المقدمات: 1/ 135، الكافي ص 33. (3) انظر: المقدمات: 1/ 136، الكافي ص 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فصل [11]: وجميع ما ذكرناه من الظواهر وإن كان النص (1) فيها متناولًا للحيض وحده، فإن النفاس ملحق به بالإجماع (2)؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما في هذه الأحكام، أو بالقياس وهو أنه دم خارج من الفرج لا يكون إلا مع البلوغ. فصل [12 - أقل الحيض]: وأقل الحيض لا حد له (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4) في قوله: ثلاثة أيام، والشافعي (5) في قول: إنه يوم وليلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الحيض فإنه دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضيء وصلي" (6)، فلم يعلقه (7) بأكثر من وجوده ورؤيته، ولأن المبتدأة (8) تترك الصلاة برؤية الدم بالإجماع (9). فلولا أنه حيض وإلا لم تؤمر به بإضاعتها والتغرير بها، ولأنه دم يسقط فرض الصلاة، فلم يكن لأقله حد مخصوص كالنفاس.   (1) في (ق): النقص. (2) انظر: المغني: 1/ 337. (3) انظر: التفريع: 1/ 206، الكافي ص 31. (4) انظر: مختصر الطحاوي: 22 - 23. (5) انظر: الأم: 1/ 64، مختصر المزني ص 11. (6) أخرجه أبو داود في الطهارة في باب: من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة: 1/ 197، والنسائي في الطهارة، باب: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة: 1/ 102، والحاكم: 1/ 174، وقال: على شرط مسلم. (7) كونه صلى الله عليه وسلم علق حكم الصلاة بوجود دم لم ينازع فيه أحد، فالاستدلال حينئذ خارج عن موضع النزاع وإن الأئمة يقولون بموجبه، وإنما المطلوب إثبات أن الحديث يبين أقل الحيض أو أكثره، وهذا الحديث لم يتطرق لذلك فلا شاهد فيه. (8) المبتدأة: هي التي لم يتقدم لها حيض قبل ذلك، وكانت في سن تحيض أمثالها فيه (الفواكه الدواني: 1/ 117). (9) انظر: المغني: 1/ 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فصل [13 - أكثر الحيض]: وأكثره خمسة عشر يومًا (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2) قوله: أنه عشر أيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فامسكي عن الصلاة" (3)، فوجب استدامة ذلك ما لم يمنعه دليل، وقوله صلى الله عليه وسلم: "تمكث إحداكن نصف عمرها لا تصلي"، وروي: "شطر عمرها" (4)، فسوى بين ما تفعل فيه الصلاة وبين ما تتركها (5)، وذلك يقتضي أن يكون أكثر من عشرة أيام، ويفرض الكلام في أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، فإن لم يسلم مخالفنا دللنا عليه في موضعه، وإن سلم بنينا مسألتنا عليه، فقلنا: أن كل أيام من أيام الدم أبقت (6)، لأقل الطهر وقتا من الشهر جاز أن يكون حيضًا كالعشرة وما دونها. فصل [14 - أقل النفاس]: ولا حد لأقل النفاس (7)، خلافًا لأبي يوسف إذ يقول: أقله أحد عشر يومًا (8)، لأن ذلك تقدير يرجع إلى دعوى ولا فصل بين مدعيها وبين مقابله لخلافهما؛ لأن الرجوع في ذلك إلى الوجود وقد وجد كثير من النساء بنفس الساعة والدفعة (9).   (1) انظر: المدونة: 1/ 54، التفريع: 1/ 206، الكافي ص 31. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 22. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (187). (4) قال الحافظ ابن حجر: لا أصل له بهذا اللفظ، وقال البيهقي في المعرفة: هذا الحديث يذكر بعض فقهائنا، وقد طلبته كثيرًا فلم أجد له إسنادًا (تلخيص الحبير: 1/ 164)، وأخرجه ابن حبان في سننه بلفظ: " .... فإنها تمكث شطر عمرها لا تصل". (5) في (س): تتركه. (6) أبقت سقطت من (ق)، و (م). (7) انظر: المدونة: 1/ 59، التفريع: 1/ 207، الكافي ص 31. (8) انظر: بدائع الصنائع: 1/ 173. (9) الدفعة: يعني الدفقة (المصباح المنير ص 196). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فصل [15 - أكثر النفاس]: وفي أكثره روايتان (1): إحداهما أن الرجوع فيه إلى العادة وما يعلم النساء أنه أقصى ما تجلسه المرأة، والثانية أنه ستون يومًا وهذه أولى لأن ذلك قد وجد عادة مستمرة في النساء فيجب الحكم بكونه نفاسًا. فصل [16 - أقل الطهر]: فأما أقل الطهر الفاصل بين الحيضين: فقيل: ما يعلم أنه يكون طهرًا من غير تحديد، وقيل: خمسة، وقيل: ثمانية، وقيل: عشرة، وقيل: خمسة عشر يومًا، وعليه متأخرو أصحابنا البغداديين (2)، فوجه نفي التحديد: أن كل أمر وجب تحديده ولم يرد نص به وجب الرجوع فيه إلى العرف، وكل ما قيل في ذلك يرجع إلى دعوى فلم يجب قبولها، ورُجع إلى العادة، ولذلك نظائر: منها العمل في الصلاة، والقبض في البيع، والحرز في القطع وغيره، وقد أمر الله تعالى بالرجوع إلى النساء، وجعلهن مُومَّنات فيما يخبرن به عن نفوسهن من ذلك (3) فقال: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} (4)، وأما التحديد بالخمسة فذكر أحمد بن المعذل (5) عن عبد الملك (6) أنه معلوم   (1) انظر: المدونة: 1/ 58، التفريع: 1/ 207، الرسالة ص 86. (2) انظر: الرسالة ص 86، التفريع: 1/ 206، الكافي ص 31. (3) وذلك أن الرجوع إلى العرف والعادة مبني على أقوال النساء وما اعتدن من ذلك في شأن الحيض وقولهن يجب الرجوع إليه. (4) سورة البقرة، الآية: 228. (5) أحمد بن المعذل: ابن غيلان بن حكم، شيخ المالكية بالعراق، أبو العباس العبدي البصري، شيخ إسماعيل القاضي، كان من بحور الفقه صاحب تصانيف وفصاحة وبيان تفقه بعبد الملك بن الماجشون ومحمد بن مسلمة (الشذرات: 2/ 95، السير: 11/ 519). (6) عبد الملك: هو أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة بن الماجشون القرشي من أصحاب مالك، أُخذت عنه الفتوى، أخذ عنه ابن حبيب وسحنون له: سماعاته، وكتاب في الفقه وغيرها (ت 212 هـ) (الديباج: 2/ 6). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 بالتجربة وأنه قد وجد عادة مستمرة، وأما الثمانية والعشرة فما نحفظ عن من قال بهما شيئًا يمكن أن يعتمد ويعول عليه، وأما تحديده بخمسة عشر فلأن أقل الطهر يجب أن يكون في مقابلة أكثر الحيض، تجري العادة بقلة أحدهما مع كثرة الآخر لأن الله تعالى جعل عدة المطلقة التي تحيض ثلاثة أقراء (1)، وجعل عدتها إذا كانت يائسة (2) ثلاثة أشهر (3)، فأعلمنا أن بدل كل قرء شهر ولا يصح إلا أن يكون أقيم مقام أقل الطهر وأكثر الحيض. فصل [17 - أكثر الطهر]: ولا حد لأكثر الطهر لاختلاف العادات (4) وتفاوتها، وكذلك الاستحاضة لا حد لأقلها ولأكثرها ولا خلاف في ذلك (5). فصل [18 - المبتدأة]: والحُيِّض على ضربين: مبتدأة ومعتادة (6)، فالمبتدأة تترك الصلاة برؤية أول دم تراه، ثم إن دام بها إلى أيام لداتها (7)، وانقطع، فذلك آخره فلتغتسل عند انقطاعه ولتصلي، فإن زاد على أيام لذاتها، ففيه ثلاث روايات (8): إحداها   (1) في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء} [البقرة: 228]. (2) في (م): مؤسسة. (3) في قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} [الطلاق: 4]. (4) في (ق): العادة. (5) انظر الذخيرة: 1/ 373، المقدمات: 1/ 126، الكافي ص 30. (6) في (م): معتداه، وهي: التي لها أيام معلومة يأتيها فيها الحيض (الفواكه الدواني: 1/ 117). (7) لداتها: جمع لدة وهي التي ولدت معها في عام واحد (الذخيرة: 1/ 381). (8) انظر: المدونة: 1/ 55 - 56، التفريع: 1/ 207، الرسالة ص 86، الكافي ص 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أنها تجلس بذلك القدر فقط، ثم تكون مستحاضة، والثانية أنها تستطهر (1) عليه بثلاثة أيام، ثم تكون مستحاضة، (والثالثة أنها تجلس ما دام الدم بها إلى أن تبلغ خمسة عشر يومًا، فإن زادت كانت مستحاضة) (2)، فوجه الأولى هو أن أمر الحيض مجتهد فيه فلما أمكن أن تكون حائضًا أقل الحيض وأكثره وما بينهما وجهل أمرهما لم يكن الحكم ببعض ذلك بأولى من الحكم بغيره، فكان أولى الأُمور ردها إلى عادة لداتها وأقرانها؛ لأن الأغلب تناسب طباعهن إذ ليس ما هو وأولى منه، ووجه الاستظهار قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء الحارثية: "اقعدي أيامك التي كنت تقعدين واستظهري بثلاثة أيام ثم اغتسلي وصلي" (3)، فإذا ثبت ذلك في المعتادة قسنا عليها المبتدأة بعلة أنها حائض أشكل عليها مدة أكثر حيضها، ولأنه مائع خارج من البدن أشكل أمره فطلب التمييز بينه وبين غيره، فجاز أن يعتبر بثلاثة أيام كلبن التصرية، ووجه الثالثة أن كل دم خرج من الفرج في زمن فالحيض (4) أولى به لأنه لما أمكن أن يكون الحيض منتقلًا من زيادة إلى نقصان ومن نقصان إلى زيادة وجب أن يحكم له بالظاهر وهو أنه حيض لبقاء زمانه ولا مانع منه. فصل [19 - المعتادة]: فأما المعتادة ففيها روايتان (5): إحداهما الاستظهار على أيام عادتها بثلاثة أيام والأخرى الجلوس ما دام الدم بها إلى أقصى مدة الحيض وقد ذكرنا وجوهها.   (1) استطهرت: أي تحريت وأخذت بالاحتياط، والاستظهار طلب الطهارة (المصباح المنير: 2/ 388). (2) ما بين قوسين مطموس في (ق)، و (م). (3) أخرجه البيهقي: 1/ 33، وفيه حرام بن عثمان ضعيف لا تقوم بمثله حُجَّة ولفظه: "امكثي ثلاثًا". (4) فالحيض أسقطت من (ق)، و (م). (5) انظر: المدونة: 1/ 58، التفريع: 1/ 207، الكافي ص 32 - 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فصل [20 المستحاضة]: فإذا تمادى الدم بعد الأيام المحكوم بكونها حائضًا فيها، والمبتدأة والمعتادة سواء (1)، فإنما تكون مستحاضة فتغتسل وتصلي وتصوم وتوطأ ويحكم لها بحكم الطاهر، ثم لا تزال كذلك إلى أن تنقضي مدة أقل الطهر على ما بيناه من الاختلاف، فإذا مضت نُظر، فإن كان الدم قد انقطع قبلها ثم رأت الدم بعد مضيها فذلك حيض مستأنف، لأن مضي المدة الفاصلة بين الدمين يوجب كون الدم الثاني حيضًا، وإن اتصل الدم بعد مضي مدة أقل الطهر نظر: فإن كان متغيرًا إلى صفة دم الحيض حكم بأنها حائض من وقت تغيره سواء كان تغيره عند تقضي أقل الطهر بلا فصل أو بعده، وإن لم يتغير فالاستحاضة ثابتة فتصلي أبدًا حتى يوجد التغيير، ولا يعتبر بتغيره قبل مضي مدة أقل الطهر أو بقائه على لونه، وإنما يعتبر بالتمييز بعد المدة على ما وصفناه (2). فصل [21 - اتصال وانقطاع أيام الحيض والنفاس]: وأيام الحيض والنفاس قد تتصل وقد تنقطع، فإذا اتصلت فالحكم ثابت لها، وإذا انقطعت فرأت الدم يومًا والطهر يومًا أو رأت الدم يومين والطهر يومًا أو يومين: فإنها تترك الصلاة في أيام الدم وتغتسل عند انقطاعه وتصلي وتصوم ثم تُلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها ولا تحتسبها طهرًا في عدة ولا استبراء، فإذا كمل لها من أيام الدم مدتها المعتبرة على الاختلاف الذي بيّناه اغتسلت وصلت وكانت مستحاضة إلى أن يتغير الدم عليها تغيرًا تعلم أنه دم حيض (3) على ما قدمناه.   (1) سواء: سقطت من (ق). (2) انظر: المدونة: 1/ 56، التفريع: 1/ 208، الكافي ص 33. (3) في (م): حيضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فصل [22 - هل تحيض الحامل]: الحامل تحيض (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة" (3) فعم، ولأنها رأت الدم في أيامها المعتادة فصح أن تكون حائضًا كالحائل (4)، ولأنه دم يمنع الصلاة والصوم فصح وجوده مع الحمل كالنفاس؛ لأن أبا حنيفة يقول: إذا وضعت ولدًا وبقى [في بطنها ولد آخر] (5)، ورأت في خلال الوضعين دمًا، فإنه نفاس، ولأن العوارض التي تمنع الحيض لا تمنعه جملة كالمرض والرضاع، وبذلك فارق الإياس لأنه خلقة وليس بعارض، ولأنه قد ثبت أن الحائض تحمل فصح أن الحامل تحيض. فصل [23 - استمرار الدم بالحامل]: اختلف عنه إذا تطابق (6) الدم بها هل تستظهر أم لا، فعنه فيه روايتان (7): إحداهما أنها تستظهر اعتبارًا بالحائل، والأخرى لا تستظهر لأن أمرها ضعف من أمر غيرها لأن حيضها مختلف فيه وثبوته من طريق الاجتهاد فضعف أمرها عن الحائل، والله أعلم.   (1) انظر: المدونة: 1/ 59، التفريع: 1/ 208. (2) انظر: مختصر القدوري: 1/ 47 - 48. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (187)، وهذا الحديث ليس فيه دلالة، والحديث سبق لبيان حكم الصلاة أيام الحيض، وأما الحامل تحيض فلا شاهد فيه على الإطلاق، وقد جاءت السنة بخلاف هذا وهو قوله صلي الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضه" أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب: وطء السبايا: 2/ 614، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود الحيض علمًا على براءة الرحم. (4) الحائل: التي لا حمل بها (التفريع: 1/ 208). (5) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ وأكمل النقص من السياق. (6) في الإشراف هكذا ولعلها تمادى أو استمر. (7) انظر: المدونة: 1/ 58 - 59، التفريع: 1/ 207، الكافي ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فصل [24 - حكم الصفرة والكدرة]: والصفرة (1) والكدرة (2) حكمهما حكم الدم، فهما في أيام الحيض حيض وفي أيام النفاس نفاس، وفي أيام الاستحاضة استحاضة، والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها: "كنا نعد الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيضًا" (3)، ولأنها صفة للدم كالحمرة والسواد. فصل [25 - علامات طهر الحائض]: وللطهر علامتان (4): الجفوف (5) والقصة البيضاء (6)، وكل واحد منهما يكون علامة لطهر من جرت عادتها به، وإن رأته غير من جرت عادتها به كان طهرًا لها أيضًا لإمكان انتقال العادة على اختلاف بين أصحابنا [في ذلك] (7)، (8). ...   (1) الصفرة: لون للدم دون الحمرة يشبه الصديد وتعلوه صفرة (الفواكه الدواني: 1/ 16). (2) الكُدرة -بضم الكاف- وهو الدم الكدري الذي يشبه غسالة اللحم (الفواكه الدواني: 1/ 116). (3) قال النووي: لا نعلم من رواه بهذا اللفظ، وأخرجه البيهقي: 1/ 337، وقال: روي بإسناد ضعيف (تلخيص الحبير: 1/ 170). (4) انظر: المدونة: 1/ 55، الرسالة ص 85، الكافي ص 31. (5) الجفوف: وهي أن تدخل المرأة خرقة في فرجها، فتخرج جافة ليس عليها شيء من أنواع الدم (انظر: المدونة: 1/ 51، والفواكه الدواني: 1/ 115 - 116). (6) القصة البيضاء: أي الماء الأبيض الذي يخرج آخر الحيض كالجير لأن القصة مأخوذة من القص وهو الجير (انظر الفواكه الدواني: 1/ 115). (7) ما بين معقوفتين مطموسة في (ق)، و (م). (8) في ق: تم كتاب الوضوء بحمد الله -يتلوه كتاب الصلاة إن شاء الله بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمَّد وآله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 كتاب الصلاة (1) الصلوات المفروضات ابتداء بالشرع خمس وهي: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء الآخرة، والصبح، فأما الجمعة فإنها بدل من الظهر ولها باب مفرد، وهذه الصلوات فرائض على الأعيان (2)، لا خلاف بين الأُمة (3) في ذلك، فهي متعلقة بمواقيت لا يجوز تقديمها عليها ولا تأخيرها عنها، ونحن نبين ذلك إن شاء الله. فصل [1 - وقت صلاة الظهر]: أما الظهر: فأول وقتها الذي لا يجور قبله زوال الشمس (4)، والأصل فيه قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (5)، ودلوكها ميلها للزوال، وحديث جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليهما الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، وقال: "الوقت بين هذين" (6)، فدل أن ما قبله ليس بوقت لها.   (1) الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح: قربة فعلية ذات إحرام وسلام أو سجود فقط (حدود ابن عرفة- مع شرح الرصاع ص 43). (2) يعني تعلق الفرض بكل عين ولا يكفي البعض (شرح تنقيح الفصول ص 155). (3) انظر: مراتب الإجماع ص 24، 25، المجموع: 3/ 4، 51، المغني: 1/ 369، المحلي: 2/ 308. (4) انظر: المدونة: 1/ 60، التفريع: 1/ 219، الرسالة ص 108. (5) سورة الإسراء، الآية: 78. (6) أخرجه النسائي في الصلاة، باب: أول وقت العشاء: 1/ 211 أو الترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة: 1/ 281، وقال الترمذي: قال محمد (يعني البخاري): حديث جابر أصح شيء في المواقيت، والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد: 1/ 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فصل [2 - معرفة الزوال]: ومعرفة الزوال: هو أن يدير دائرة صحيحة في مكان (1) مستوٍ من الأرض ويقيم في وسطها عودًا مستويًا فتراه أول النهار طويلًا خارجًا من الدائرة، ثم لا يزال في نقصان كل ما قرب من الزوال إلى أن ينتهي إلى حد يقف عنده (2)، ثم يعد في الطول فذلك هو علامة الزوال. فصل [3 - تأخير الظهر عن الزوال في مساجد الجماعات]: ويستحب أن يؤخر عن الزوال في مساجد الجماعات إلى أن يكون الفيء (3) ذراعًا (4)، خلافًا للشافعي (5)، لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري بذلك (6)، ولأن في ذلك فضيلة أدائها في الجماعة لأنها صلاة تدرك الناس متشاغلين بمعايشهم ومتصرفاتهم غير متأهبين، فلو صليت في أول الوقت لفاتتهم فضيلة الجماعة فاستحب تأخيرها قليلًا ليدرك فضلها. فصل [4 - أخر وقت الظهر المختار]: وآخر وقتها المختار: إذا كان الظل مثله والاعتبار بالمثل من زيادته بعد تناهي نقصانه لا من أصله (7)، وقد قال أبو حنيفة (8): آخره إذا كان الظل مثليه، دليلنا حديث جبريل أنه صلى بالنبي صلى الله عليهما الظهر في اليوم الأول حين   (1) مكان: سقطت من (م). (2) في (م): عليه. (3) الفيء: الظل (المصباح المنير ص 486). (4) انظر: المدونة: 1/ 60، الرسالة ص 109، التفريع: 1/ 220. (5) انظر: الأم: 1/ 72 - 73، مختصر المزني ص 13. (6) انظر: مصنف عبد الرزاق: 1/ 531، مصنف ابن أبي شيبة: 1/ 49. (7) انظر: المدونة: 1/ 60، التفريع: 1/ 219، الرسالة ص 109. (8) فيما رواه عنه أبو يوسف، أما ما رواه الحسن بن زياد وغيره عن أبي حنيفة، أن الظل إذا صار مثله خرج وقت الظهر (مختصر الطحاوي ص 23). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان الظل مثله ثم قال: "الوقت بين هذين" (1)، ولأنها صلاة تجمع إلى ما بعدها فكان وقتها أقصر من الذي يليها كالمغرب. فصل [5 - آخر وقت الظهر وأول وقت العصر]: إذا كان الظل مثله فهو آخر وقت الظهر، وهو بعينه أول وقت العصر، وهو وقت مشترك بينهما، فهذا زاد على المثل زيادة بيَّنة خرج وقت الظهر، وانفرد العصر بالوقت (2)، وقال الشافعي (3): لا يتداخل الوقتان، ودليلنا حديث جبريل أنه صلي بالنبي عليهما الظهر في اليوم الثاني حين كان الظل مثله لوقت العصر بالأمس (4)، فدل على ما قلناه. فصل [6 - آخر وقت العصر]: وآخر وقت العصر: إذا كان الظل مثليه (5) لحديث جبريل (6) أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه، ولأنها صلاة حد الظل أولها، فوجب أن يحد به آخرها كالظهر. فصل [7 - وقت المغرب]: ووقت المغرب: غيبوبة الشمس؛ لأن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليهما في اليومين جميعًا حين أفطر الصائم (7)، ولا خلاف في ذلك (8).   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) انظر: المدونة: 1/ 60، التفريع: 1/ 219، الرسالة ص 11. (3) انظر: الأم: 1/ 71، مختصر المزني: 11. (4) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة: 1/ 282، وقال: حديث حسن صحيح. (5) انظر: التفريع: 1/ 219، المقدمات ص 148، الكافي ص 34. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) سبق تخريج الحديث قريبا. (8) انظر الإجماع ص 38، الاستذكار- لابن عبد البر: 1/ 42، المغني: 1/ 381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فصل [8 - في أن وقت المغرب واحد]: ووقتها واحد (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2)، للخبر الذي رويناه (3)، ولأنها صلاة مفروضة من الخمس، فوجب أن يكون وقتها كجنس عددها من شفع أو وتر كسائر الصلوات. فصل [9 - وقت العشاء]: ووقت العشاء الآخرة: مغيب الشفق لحديث جبريل أنه صلاها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول حين غاب الشفق، ولا خلاف في ذلك (4). فصل [10 - معنى الشفق]: والشفق الحمرة (5)، خلافًا لأبي حنيفة (6) في قوله: إنه البياض، لحديث جبريل أنه صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق (7)، والاسم ينطلق على الأمرين، فيجب حمله على أسبقهما وهو الحمرة، وفي حديث جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالسائل له العشاء الآخرة قبل مغيب الشفق" (8)، وقد ثبت أنه ليس المراد بذلك الحمرة، فثبت أنه قبل مغيب (9)   (1) انظر: المدونة: 1/ 60، التفريع: 1/ 219، الرسالة ص 111. (2) انظر: مختصر الطحاوي: 23. (3) لحديث جبريل الذي سبق ذكره. (4) انظر: المغني: 1/ 382، المجموع: 3/ 41. (5) الشفق: هي الحمرة التي تكون بعد مغيب الشمس (التفريع: 1/ 219، الرسالة ص 111). (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 23. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) سبق تخريج الحديث. (9) مغيب: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 البياض، وذكر عن الخليل بن أحمد (1)، وابن أويس (2)، وغيرهما: أن البياض لا يغيب إلى طلوع الفجر. فصل [11 - آخر وقت العشاء]: وآخر وقتها ثلث الليل الأول (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) في قوله: إنه نصف الليل، لحديث جبريل أنه صلى به -عليهما الصلاة والسلام- العشاء الآخرة في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل ثم قال: "الوقت بين هذين"، وكذلك في حديث جابر (5). فصل [12 - تأخير العشاء في مساجد الجماعات]: ويستحب في مساجد الجماعات تأخيرها ما لم يضر بالناس (6)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أُمتي لأخرت هذه الصلاة إلى ثلث الليل" وروي: "إلى شطر الليل" (7).   (1) الخليل بن أحمد: هو الخليل بن أحمد بن تميم الفراهيدي الأزدي اليحمدي، أبو عبد الرحمن من أئمة اللغة والأدب وواضع علم العروض وهو أستاذ سيبويه، له كتاب العين في اللغة (ت 170 هـ) (وفيات الأعيان: 1/ 172). (2) ابن أويس: هو الإمام الحُجَّة، أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري الأويسي المديني، حدث عن عبد العزيز بن الماجشون ومالك وابن لهيعة، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي وأبو زرعة، وثقه أبو داود وغيره، بقى إلى سنة 220 هـ (سير أعلام النبلاء: 10/ 389). (3) انظر: المدونة: 1/ 61، التفريع: 1/ 219، الرسالة ص 111، الكافي ص 35. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 23، تحفة الفقهاء: 2/ 102، حيث ورد: أن آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر. (5) سبق تخريج الحديثين في الصفحة (195). (6) انظر: التفريع: 1/ 220 - الرسالة ص 111، الكافي ص 34. (7) أخرجه ابن ماجه في الصلاة، باب: وقت صلاة العشاء: 1/ 226، الترمذي في الصلاة، باب: تأخير العشاء الآخرة: 1/ 311، وقال: حديث حسن صحيح، وفي هذه الرويات شك في ثلث الليل أو نصفه، وأخرجه الحاكم: 1/ 146، عن أبي هريرة وفيه إلى "نصف الليل" من غير شك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وروي أنه صلى الله عليه وسلم أخرها ليلة حتى نام الناس، فنودي فخرج فقال: "لولا سقم السقيم وضعف الضعيف لأخرتها إلى هذا الوقت" (1)، ثم مدحهم فقال: "ما أحد ينتظرها غيركم" (2). فصل [13 - وقت صلاة الفجر]: ووقت صلاة الفجر: طلوع الفجر الثاني (3) وهو الضياء المعترض في الأُفق المذاهب فيه عرضاً يبتديء من المشرق معترضًا حتى يعم الأُفق، وذلك لحديث جبريل عليه السلام أنه صلى به صلى الله عليه وسلم الفجر في اليوم الأول حين طلع الفجر، وفي اليوم الثاني حين أسفر (4)، وأما الفجر الأول الذي يسمى الكاذب، فليس بوقت لها لأنه في الليل ولا يحرم الطعام ولا الشراب على الصائم. فصل [14 - آخر وقت الفجر]: ووقتها ممتد ما لم تطلع الشمس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ووقت الصبح ما لم تطلع الشمس" (5)، وفي حديث جبريل عليه السلام أنه صلى به في اليوم الثاني حين أسفر ثم قال: "الوقت بين هذين" (6).   (1) إلى هذا الوقت: سقطت من (م). (2) أخرجه النسائي في الصلاة، باب: آخر وقت العشاء: 1/ 215، وابن ماجه في الصلاة، باب: وقت العشاء: 1/ 226، وأبو داود في الصلاة، باب: في وقت العشاء: 1/ 293، وقد تفرد أبو داود بالمدح الوارد في الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: "ولم تصلها أُمه قبلكم" .. وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح (تلخيص الحبير: 1/ 176). (3) انظر: التفريع: 1/ 219، الرسالة ص 108، الكافي ص 35. (4) سبق تخريج الحديث. (5) أخرجه مسلم في المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس: 1/ 427. (6) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فصل [15 - التغليس بالفجر]: والتغليس (1) بها أفضل من الإسفار (2) في الحضر والسفر (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4) في قوله: إن الأسفار (5) بها أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم وسئل عن أفضل الأعمال فقال: "الصلاة لأول وقتها" (6)، وروت عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس" (7)، ولأنها صلاة مفروضة مؤقتة (8) غير مقصورة في السفر فكان تقديمها أفضل كالمغرب، ولأن من أصلنا أنه يؤذن لها قبل وقتها، وفائدة ذلك إدراك فضيلة التغليس بها ولا فائدة له سواه. ...   (1) التغليس: اختلاط ضياء الصباح بظلمة الليل (الفواكه الدواني ص 165). (2) الأسفار: هو الظهور (غرر المقالة ص 108). (3) انظر: المدونة: 1/ 61، التفريع: 1/ 220 - 221، الرسالة ص 108. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 24. (5) في (م): الإصباح. (6) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها: 1/ 134، ومسلم في الإيمان باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال: 1/ 89 - 90. (7) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: وقت الفجر: 1/ 144، ومسلم في المساجد، باب: استحباب التكبير بالصبح: 1/ 445. (8) هذه العبارة غير واضحة في جميع النسخ. ولعلها موفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 باب الأذان (1) والإقامة (2) الأذان والإقامة سنتان غير واجبتان (3)، خلافًا لداود (4) إذ يقول بوجوب الأذان في الجماعة، لأنه نداء بالصلاة فأشبه الإقامة، واعتبارًا بحال الانفراد. فصل [1 - الأذان في الجماعة الراتبة دون الانفراد]: وسُنَّة الأذان في الجماعة الراتبة دون الانفراد وما يتفق من الجمع من غير قصر، وسُنَّة الإقامة في الجمع والانفراد (5)، وذلك بأن الأذان إعلام بوجوب الصلاة ودعاء إليها وإنذار لمن يريد المجيئ إليها وهذا يختص بالجماعة، لأن المفرد غير مريد لإعلام غيره فلم يلزمه، والإقامة بخلافه لأنها أهبة للصلاة ليس المقصود بها الإعلام فكانت سُنَّة لكل مصل لنفسه (6). فصل [2 - صفة الأذان والإقامة]: الأذان في غير الصبح سبع عشرة كلمة (7) وحكاية لفظه: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إلَه إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول   (1) الأذان: الإعلام، وفي الشرع: قربة بذكر مخصوص في وقت مخصوص لإعلام وقتها (حدود ابن عرفة- مع شرح الرصاع ص 55). (2) الإقامة: هي ألفاظ مخصوصة تذكر على وجه مخصوص عند الشروع في الصلاة المفروضة ذات الركوع والسجود (الفواكه الدواني: 1/ 171). (3) انظر التفريع: 1/ 221، وجاء في رسالة ابن أبي زيد: والأذان واجب في المساجد والجماعات الراتبة (الرسالة ص 112). (4) انظر: المجموع: 3/ 89. (5) انظر: المدونة: 1/ 64 - 65، التفريع: 1/ 221، الكافي ص 37. (6) في (م): في نفسه. (7) انظر: المدونة: 1/ 62، التفريع: 1/ 222، الرسالة ص 112، الكافي ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم ترجع (1) بأرفع من صوتك فتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ويزيد في نداء الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، ولفظ الإقامة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والخلاف فيهما (2) في خمسة مواضع: أحدها في التكبير أول الأذان، والثاني في الترجيع (3)، والثالث في التثويب (4) والرابع في إيتار الإقامة، والخامس في قوله: قد قامت الصلاة، وما سوى ذلك من ألفاظهما لا خلاف فيه. فصل [3 - تثنية التكبير في الأذان]: فأما التكبير في أول الأذان، فإنه عندنا مرتان (5)، وقال أبو حنيفة والشافعي (6) أربع مرات، ودليلنا: روى ابن وهب (7)،   (1) أن يذكر الشهادتين مرتين يخفض بهما صوته ثم يعيدهما رافعًا بهما صوته. (2) أي في ما بين الأذان والإقامة. (3) الترجيع: وهو أن يأتي بالشهادتين خافضًا بهما صوته ثم يرجعهما رافعًا بهما صوته (الفواكه الدواني: 1/ 172). (4) التثويب: هو قول المؤذن في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم (الفواكه الدواني: 1/ 173). (5) انظر: المدونة: 1/ 61، الموطأ: 1/ 71، الرسالة ص 112، التفريع: 1/ 222، الكافي ص 38. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 24، تحفة الفقهاء، الأم: 1/ 84، مختصر المزني ص 12. (7) ابن وهب: هو عبد الله بن وهب بن مسلم مولى ريحانة عبد الرحمن بن زيد بن أنس الفهري، روي عن مالك والليث وابن عيينة، روي عنه: سحنون، وأصبغ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 عن عثمان بن الحكم الجذامي (1) عن ابن جريج (2) قال: حدثني [غير واحد من آل أبي محذورة أن أبا محذورة قال] (3): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمني الأذان: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله .. " الحديث (4)، قال عطاء (5): وما عُلِّمت تأذين [من مضى] (6) يخالف   = وأحمد بن صالح المصري، صنف: "الموطأ الكبير" (ت 197 هـ) في مصر (المدارك: 1/ 421 - 431، شجرة النور الزكية ص 60). (1) عثمان بن الحكم: الجذامي المصري من أصحاب مالك وهو أول من دخل علم مالك مصر، روي عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ويونس بن زيد، وروي عنه: أبو زرارة الليث بن عاصم، وابن وهب وآخرون، قال ابن حجر: صدوق له أوهام (ت 163 هـ) (ترتيب المدارك: 1/ 309). (2) ابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، أبو الوليد المكي، أصله رومي، عن حكيمة بنت رقيقة، وعطاء بن أبي رباح، وزيد بن أسلم، روي عنه: الأوزاعي، والليث، وابن وهب، ثقة، فقيه، فاضل، كان يدلس ويرسل (التقريب: 1/ 520). (3) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، وأكمل النقص من نص المدونة: 1/ 6. وأبو محذورة: أوس بن معير بن لوذان بن ربيعة بن سعد بن حج، وقيل: اسمه سمير بن عمير مؤذن المسجد الحرام، وصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حدث عنه ابنه عبد الملك وزوجته وابن أبي مليكة وابن محيرين وآخرون (ت 59 هـ) (طبقات ابن سعد: 5/ 450، السير: 3/ 117). (4) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: صفة الأذان: 1/ 287، عن أبي محذورة بسند آخر، أما السند الذي أورده به الحديث المصنف فهو في المدونة: 1/ 61، وهو ضعيف لأن فيه عثمان بن الحكم الجذامي وهو صدوق له أوهام (تخريج الأحاديث الواردة في المدونة- للدرديري: 1/ 361). (5) عطاء: هو عطاء بن يسار أبو محمَّد المدني مولى ميمونة، روى عن ابن عباس، وأبي أسلم، وبكير بن عبد الله بن الأشج، قال يحيى بن معين: ثقة (ت 94 هـ) (التقريب: 2/ 23). (6) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ فأكلمته من المدونة: 1/ 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 تأذينهم اليوم (1)، ورواه عمار بن سعد القرظي (2) عن أبيه: أن هذا الأذان أذان بلال الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به (3)، قال موسى بن هارون (4): وأذان بلال وسعد القرظي واحد، وهو أذان أهل المدينة، ولأن ذلك إجماع أهل المدينة ونقل خلفهم عن سلفهم (5)، فلا يعارض بأحاديث الآحاد (6)، ولأنه أحد طرفي الأذان فكان مساويًا للإقامة فيه، أصله لا إله إلا الله، ولأنه نداء بالصلاة كالإقامة. فصل [4 - الترجيع في الأذان]: وأما الترجيع فمن سُنَّته (7)، خلافًا لأبي حنيفة (8)، لحديث أبي محذورة رضي الله عنه الذي رويناه وفيه: "ثم ترجع فترفع صوتك" فيقول: أشهد أن   (1) نقل قول عطاء هذا ابن جريج (المدونة: 1/ 62). (2) عمار بن سعد القرظي: بن عابد المؤذن المعروف أبوه سعد القرظ، ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره ابن منده في الصحابة، وقال: له رؤية وأنكر ذلك أبو نعيم (التهذيب: 7/ 41). (3) حديث بلال أخرجه البخاري في الأذان، باب: الإقامة: 1/ 89، ومسلم في الصلاة، باب: الأمر بشفع الإقامة: 1/ 286، وحديث بلال يخالف ما ذهب إليه المصنف، فإن بلالًا كان يؤذن بالتكبير أربعًا فيكون الحديث حُجَّة على المؤلف وليس له .. (4) موسى بن هارون: هو الإمام الحافظ، محدث العراق: أبو عمران البزار، سمع من أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وابن أبي شيبة، وعنه أبو سهل بن زياد، وأبو القاسم الطبراني، صنف الكتب واشتهر اسمه (ت 294 هـ) (تاريخ بغداد: 13/ 5، السير: 12/ 1116). (5) حكي إجماع أهل المدينة في الموطأ: 1/ 71، الاستذكار: 2/ 102، المنتقى: 1/ 134، البيان والتحصيل: 1/ 435. (6) الخبر الواحد أو أحاديث الآحاد: هو خبر العدل الواحد -أو العدول- المفيد للظن، وعرف أيضًا: هو خبر لم ينته إلى التواتر (شرح تنقيح الفصول ص 356، مختصر ابن الحاجب: 2/ 55). (7) انظر: المدونة: 1/ 62، التفريع: 1/ 222، الرسالة ص 112. (8) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لا إله إلا الله، ومثله في حديث سعد القرظي في صفة أذان بلال (1)، ويعضده نقل أهل المدينة المتواتر وعملهم به المتصل. فصل [5 - التثويب في أذان الصبح]: فأما الصلاة خير من النوم، فمن سُنَّة أذان الصبح (2)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم لبلال: "اجعلها في أذانك" (4)، وفي حديث أبي محذورة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان، وفيه: "فإن كنت في صلاة الصبح فقل الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم" (5)، ويعضده عمل أهل المدينة المتصل (6). فصل [6 - إيتار الإقامة]: فأما إيتار الإقامة فخلافًا (7) لأبي حنيفة (8)؛ لأنه يذهب على أنها شفع كالأذان، ودليلنا: ما رواه عمار بن سعد عن أبيه قال: "أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة" (9).   (1) سبق تخريج الحديثين في الصفحة 205. (2) وهو ما يعرف بالتثويب، وعبر عنها القاضي عبد الوهاب في الإشراف بالتنويم: 1/ 67. (3) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 110، الأم: 1/ 85، مختصر المزني ص 12. (4) أخرجه الطبراني بهذا اللفظ في معجمه الكبير، نصب الراية: 1/ 264. (5) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب: في الترجيع في الأذان: 1/ 366، مختصرًا، وقال: حديث أبي محذورة في الأذان صحيح، وأبو داود في الصلاة، باب: كيف الأذان: 1/ 340. (6) انظر: الموطأ: 1/ 72. (7) انظر: المدونة: 1/ 62، التفريع: 1/ 222، الرسالة ص 112. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 25، تحفة الفقهاء: 2/ 110. (9) أخرجه البخاري في الأذان مثنى مثنى: 1/ 150، ومسلم في الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة: 1/ 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وروي مسلم عن ابن عمر قال: "كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين والإقامة مرة مرة" (1)، وروي سعد القرظي: أن رسول الله أمر بلالًا بالأذان ثم قال: والإقامة واحدة واحدة (2)، وقال إبراهيم بن عبد العزيز بن أبي محذورة: أدركت جدي وأبي وأهلي يقيمون فرادى (3)، وكان ذلك نقل أهل المدينة وعملهم المتصل. فصل [7 - في قوله: قد قامت الصلاة مرة واحدة]: فأما اختياره في قوله: قد قامت الصلاة مرة واحدة (4) خلافًا للشافعي (5)، فلما رواه سعد القرظي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالًا بالإقامة واحدة، ويقول: قد قامت الصلاة مرة واحدة (6)، وهذا نص، ومثله حديث أبي محذورة (7)، ولأنه نقل أهل المدينة خلف عن سلف، ولأنه لفظ يختص بالإقامة، فوجب أن يكون على أصلها في الإيتار، كما أن الصلاة خير من النوم لما كان لفظًا يختص الأذان كان على أصل الأذان في الإشفاع.   (1) لم أجده في مسلم، فقد أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: الإقامة: 1/ 350، النسائي في الأذان، باب: كيف الإقامة: 2/ 18، وأبو عوانة وابن خزيمة والدارقطني وأبي حبان والحاكم والبيهقي، وقال ابن الجوزي: وهذا إسناد صحيح (تلخيص الحبير: 1/ 196). (2) أخرجه ابن ماجه في الأذان، باب: إفراد الإقامة: 1/ 241، إسناده ضعيف لضعف أولاد سعد، ومعناه في صحيح البخاري وقد سبق تخريجه. (3) أخرجه الدارقطني: 1/ 236، 237. (4) انظر: المدونة: 1/ 62، التفريع: 1/ 222، الرسالة ص 113. (5) انظر: الأم: 1/ 83، مختصر المزني ص 12. (6) الحديث بهذا اللفظ لم أعثر عليه، وهو في سنن أبي داود في الصلاة في باب: الإقامة: 1/ 349، بلفظ: "أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. (7) سبق تخريج الحديث أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فصل [8 - جواز الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها]: ولا [يجوز] (1) أن يؤذن لصلاة قبل وقتها إلا الصبح وحدها (2) خلافًا لأبي حنيفة (3) في منعه الأذان للصبح قبل وقتها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أن بلالًا يؤذن بليل"، وروي: لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال فإنه يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" (4)، وفي حديث زياد بن [الحارث الصُدائي] (5) قال: لما كان أول أذان الصبح، أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله، فجعل ينظر إلى ناحية [المشرق] (6) إلى الفجر فيقول: لا، حتى إذا طلع الفجر أمرني بالإقامة" (7)، ولأن من سنتها التغليس بها، وذلك يقتضي تقديم أذانها وسائر شروطها [قبل] (8) وقتها ليتمكن من أدائها مع أول الوقت.   (1) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. ولعلها لا يجزيء. (2) انظر: المدونة: 1/ 64، التفريع: 1/ 221، الرسالة ص 112، الكافي ص 37. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 25. (4) أخرجه البخاري في الأذان، باب: الأذان قبل الفجر: 1/ 153، ومسلم في الصيام، باب: بيان الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر: 2/ 768. (5) ما بين معقوفين مطموس في جميع النسخ. وزيادة بن الحارث الصدائي: هو الذي كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فسار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولزم غرزه ونزل زياد بن الحارث مصر، وروي عنه المصريون (طبقات ابن سعد: 7/ 503). (6) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (7) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: الرجل يؤذن ويقيم الآخر: 1/ 352، وابن ماجه في الأذان، باب: السُّنَّة في الأذان: 1/ 237، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء أن من أذن فهو يقيم: 1/ 383، وقال: حديث زياد إنما نعرفه من حديث الإفريقي وهو ضعيف عند أهل الحديث. (8) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فصل [9 - الأذان لغير صلاة الفجر]: فأما سائر الصلوات فلا يؤذن لها إلا بعد دخول وقتها (1)، لأن ذلك هو الأصل، ولأن ذلك هو إعلام بوجوب الصلاة ودعاء إليها، وذلك إنما يكون بعد دخول الوقت، وأما الصبح فإنها تدرك الناس [غير متهيئين لها فاحتيج إلى الأذان لها قبل وقتها] (2)، ليتأهب الناس لها لاستدراك فضيلة التغليس بها وسائر الصلوات بخلافها لأنها تدرك الناس متصرفين في معايشهم وأشغالهم فلا يحتاجون إلى أكثر من الإعلام بوجوبها. 10 - مسائل الأذان (3). لا بأس باستدارة المؤذن عن يمينه وشماله (4)، إذا أراد [الإسماع] (5) لأن الأذان إعلام للغائب والحاضر ويحتاج في إعلام الغائب أكثر مما يحتاج إليه في إعلام الحاضر، ويكره التطريب والتلحين فيه، ويمثل ما يكره: من التشبيه بالأغاني وما ينبغي تنزيه أذكار القرب عنه، وله رفع الصوت به، ووضع الأصابع في أذنيه لأن ذلك عون له على التبليغ، والتوجه إلى القِبْلة أحب إلينا، وله أن يؤذن كيف تيسر عليه ولا يتكلم في أذانه ولا يقطعه بغيره لأن الغرض به الإعلام بالصلاة [ .... ] (6) على نفسه، وأداه على نظامه، فإذا تخلله ما ليس منه من كلام، أو رد سلام زال الغرض به واختلط على   (1) انظر المدونة: 1/ 64، التفريع: 1/ 2221، الرسالة ص 112. (2) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، وأكمل النقص من كتاب الإشراف للمصنف. (3) يراجع في هذه المجموعة من المسائل التي تتعلق بالأذان المراجع التالية: المدونة: 1/ 61 - 65، والتفريع: 1/ 221 - 222، الكافي ص 38. (4) أنكر الإِمام مالك - رحمه الله - استدارة المؤذن، وروي جوازه إذا أراد الإسماع (المدونة: 1/ 62). (5) ما بين قوسين مطموسة في جميع النسخ. (6) ما بين قوسين مطموسة في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 سامعه وظن أنه ليس بالأذان المأمور به، ويجوز اتخاذ الأعمى مؤذنًا لأن ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أعمى (1)، ولأنه لما جازت إمامته فالأذان بالجواز أولى، ولأن الغرض من الأذان الإعلام والتبليغ وذلك متأت منه كتأتيه من البصير، ولا بأس بأذان مؤذن (2)، وإقامة غيره، ولأنه لما جاز أن يؤذن واحد ويؤم غيره جاز أن يؤذن ويقيم غيره، وأذان المحدث جائز والأفضل أن يكون طاهرًا لأنه دعاء إلى الصلاة فيجب أن يكون الداعي إليها على صفة من يمكنه أن يصلي، فإن أذَّن على غير طهور جاز لأن الإخلال بالفضيلة لا يمنع الجواز، والإقامة بخلاف الأذان لأنها متصلة بالصلاة غير متراخية عنها، وأذان الراكب جائز، وفي إقامته راكبًا روايتان (3): إحداهما الجواز اعتبارًا بالأذان، والأخرى الكراهية لأن ذلك يؤدي إلى التراخي بينها وبين الصلاة لتشاغله بنزوله ومشيه إلى الموضع الذي يريد الصلاة فيه، ولا أذان على مسافر لأنه لا جماعة عليه، ولا على النساء لأنهن لسن من أهل الجماعة، وإن أقمن فحسن لأن الإقامة آكد من الأذان لأنه قد خوطب بها من [يؤم، وكل من لم تجز إمامته لم يعتد بأذانه] (4). فصل [1 - مستمع الأذان يقول مثل ما يقول المؤذن]: ومن سمع المؤذن فيستحب له أن يقول مثل (5) ما يقول، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول" (6)، وينتهي بالتحكية إلى   (1) كما ثبت في الحديث التي ذكرت قريبًا. (2) وهذا ما قاله المصنف يخالف ما جاء في السُّنَّة من حديث الحارث الصدائي الذي سبق ذكره في الصفحة السابقة. (3) انظر: المدونة: 1/ 64، التفريع: 1/ 221، الكافي ص 3. (4) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ وأكمل النقص من الإشراف: 1/ 70. (5) انظر: المدونة: 1/ 3. (6) أخرجه البخاري في الأذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي: 1/ 152، ومسلم في الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن: 1/ 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 آخر التشهد (1)، لأن ذلك ذكر وتهليل وتكبير، فجاز للسامع بل يندب إلى أن يقول كقول المؤذن، وقوله: حي على الصلاة دعاء إلى الصلاة والسامع ليس بداع إليها فلم يكن لحكايته المؤذن في ذلك معنى، ولا أذان لشيء من النوافل (2) لأنه لم يرو عن النبي أنه أذن له فيها ولا أقيم، ولأن الأذان إعلام بوجوب الصلاة والنوافل غير واجبة، والإقامة في ذلك متابعة للأذان والله أعلم. ...   (1) وهذا هو المشهور في المذهب، وفي مقابل المشهور أن المطلوب أن يحاكيه في جميع الأذان، قاله ابن حبيب، ورواه ابن شعبان عن مالك واختاره المازري (مواهب الجليل: 1/ 442). (2) انظر: التفريع: 1/ 122، الكافي ص 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 باب: [أحكام القِبْلة والصلاة] وعلى المعاين للقِبْلة استقبالها لقوله تعالى: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} (1)، وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (2)، وإن كان غائبًا عنها ففرضه الاجتهاد في طلبها بالأدلة المنصوبة عليها، فإن صلى بغير اجتهاد فلا تجزيه، وإن عميت عليه الأدلة لزمه أن يصلي إلى حيث يغلب على ظنه أن القِبْلة في تلك الجهة، فإن غلبه ظنه أنها في جهة من الجهات فصلى إليها ثم بان له أنه استدبرها فلا إعادة عليه واجبة (3)، خلافًا للمغيرة (4)، والشافعي (5)، لقوله تعالى: {فأين ما تولوا فثم وجه الله} (6)، فمفهوم هذا: أن الإجزاء يحصل على أي وجه وقع الاستقبال من الجهات، وروي عامر ابن ربيعة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة ظلماء ذات ريح ومطر، فحضرت الصلاة فصلى كل رجل منا على حيال وجهة لغير القبْلة، فلما أصبحنا سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مضت صلاتكم"، ونزلت هذه الآية: {فأين ما تولوا فثم وجه الله} (7)، (8)، وروى عطاء عن جابر قال: بعث رسول   (1) و (2) سورة البقرة، الآية: 144. (3) انظر: المدونة: 1/ 92، التفريع: 1/ 261، الكافي ص 38. (4) المغيرة: بن عبد الرحمن المخزومي، الإمام الفقيه، أحد من دارت عليه الفتوى بالمدينة بعد مالك سمع أباه وهشام بن عروة، وأبا الزناد ومالكًا، وعنه أخذ جماعة خرَّج له البخاري، ولد سنة 134 هـ، وتوفي سنة 188 هـ (شجرة النور الزكية ص56). (5) انظر: الأم: 1/ 94، مختصر المزني ص 13. (6) و (7) سورة البقرة، الآية: 115. (8) أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: من يصلي لغير القِبْلة وهو لا يعلم: 1/ 326، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي لغير القِبْلة في الغم: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الله - صلى الله عليه وسلم - سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة ولم نعرف القبْلة فقالت طائفة منا: القِبْلة ها هنا قِبَل الشمال، وقالت طائفة: ها هنا قِبَل الجنوب، فلما أصبحوا إذا تلك الخطوط لغير القِبْلة {فأتينا} (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) فأنزل الله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} (3)، وفي حديث آخر قال: "أحسنتم ولم يأمرنا بالإعادة" (4)، ولأنه [أدى] (5) الصلاة على الوجه الذي فرض عليه من الاجتهاد في طلب جهة القِبْلة مع عدم التوصل إلى ذلك يقينًا فأجزاه كما لو أصابها. فصل [1 - استحباب الإعادة في الوقت لمن صلى إلى غير قِبْلة]: إذا ثبت أنه لا تلزمه الإعادة فيستحب له أن يعيد في الوقت (6) ليستدرك فضيلة الوقت لجواز أن يكون [قصر] (7) في اجتهاده [وصلى] (8) فيه، ولبقاء الوقت من التأثير والحرمة ما ليس له مع الفوات. فصل [2 - النية في الصلاة]: ويلزم المصلي أن يعتقد الصلاة وينوي الدخول فيها بقلبه، وليس عليه نطق   = 2/ 176، وفيه أشعث السمان يضعف في الحديث، والحديث ليس فيه ما ذكره المصنف: "مضت صلاتكم"، وهي في الدارقطني: 1/ 271، بلفظ: "قد أجزأت صلاتكم". (1) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، وأكمل النقص من نص الحديث. (2) أخرجه الدراقطني: 1/ 271، الحاكم: 1/ 206، البيهقي: 2/ 10، والحديث تفرد به محمَّد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العرزوني عن عطاء، وهما ضعيفان. (3) سورة البقرة، الآية: 115. (4) أخرجه البيهقي: 2/ 11. (5) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (6) انظر: المدونة: 1/ 92، التفريع: 1/ 261. (7) و (8) ما بين المعقوفتين مطموسة في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بلسانه (1)، وذلك لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (2)، والإخلاص هو القصد إليه بالعمل، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لامريء ما نوى" (3)، ولأنها قربة، فلا بد فيها من نية كسائر القرب، وإذا ثبت ذلك فيجب أن تكون النية مقارنة لابتدائها غير متأخرة عليها أو متقدمة عليها إلا أن يستصحبها ذكر إن تقدمت إلى ابتدائها. فصل [3 - تكبيرة الإحرام]: والدخول فيها بتكبيرة الإحرام، ولفظها الله أكبر لا يجزيه غيره (4)، خلافًا لأبي حنيفة (5) إذ يقول: أنه يجزيه أن يحرم بقوله: الله أجل، والله أعظم، لقوله عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (6)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "تحريمهما التكبير" (7)، وقوله: "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله" إلى قوله: "ثم يستقبل القِبْلة فيقول: الله أكبر" (8)، ولأنه لفظ عرا عن التكبير مع القدرة عليه فلم يصح [انعقاد الصلاة به كقوله: يا مالك يوم الحساب] (9)، ولأنه ركن من أركان الصلاة، فوجب أن يكون متعينًا كالركوع والسجود.   (1) انظر: التفريع: 1/ 226، الكافي ص 39. (2) سورة البينة، الآية: 5. (3) سبق تخريج هذا الحديث. (4) انظر: المدونة: 1/ 66، الرسالة ص 114، الكافي ص 39. (5) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 123. (6) أخرجه البخاري في الأذان، باب: الأذان للمسافرين: 1/ 155. (7) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: تحريم الصلاة، و1/ 411، وابن ماجه في الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور: 1/ 101، والترمذي في الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور: 1/ 8 - 9. وقال: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده: / 123، 129. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (2) مع اختلاف يسير في اللفظ. (9) ما بين معقوفتين في جميع النسخ وأتممناه من كتاب الإشراف: 1/ 73 للمصنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فصل [4]: ولا يجزيه أن يقوم بقوله: الله الأكبر (1)، خلافًا للشافعي (2)، لما ذكرناه، ولأنه غير بِنْيَة قوله: الله أكبر، فلم يجز أصله قوله: الله الكبير. فصل [5 - رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وفي الرفع من وعند الركوع]: ويرفع يديه عند تكبيرة الإحرام (3)، لما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه" (4)، وفي رفعهما عند الركوع والرفع منه روايتان (5): فوجه اختياره ما روي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه عند الافتتاح وحين يركع وحين يرفع رأسه من الركوع" (6)، ووجه الآخر أن قوله صلى الله عليه وسلم: "كان يرفع يديه مرة واحدة ثم لا يعود لرفعها بعد" (7)، ولأنه تكبير موضوع للانتقال من ركن إلى ركن كتكبير السجود. فصل [6 - في صفة رفع اليدين]: ويرفعها حذو منكبيه ودون ذلك (8)، خلافًا للشافعي (9)، لما روي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه" (10).   (1) انظر: المقدمات: 1/ 70، الكافي ص 39. (2) انظر: الأم: 1/ 100، مختصر المزني ص 14. (3) انظر: المدونة: 1/ 71، التفريع: 1/ 336، الرسالة ص 114. (4) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: رفع اليدين في التكبيرة الأولى: 1/ 179، ومسلم في باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين: 1/ 292. (5) انظر: المدونة: 1/ 71، التفريع: 1/ 226، الكافي ص 43. (6) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام: 1/ 301. (7) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: من لم يذكر الرفع عند الركوع: 1/ 478، والترمذي في الصلاة، باب: رفع اليدين عند الركوع، وقال: حديث حسن: 2/ 40. (8) انظر: المدونة: 1/ 71، الرسالة ص 114، الكافي ص43. (9) انظر: الأم: 1/ 103، مختصر المزني ص 14. (10) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فصل [7 - دعاء الاستفتاح]: ويقرأ عقيب التكبير، ولا يفصل بينهما بتوجيه ولا تسبيح (1)، خلافًا للشافعي (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يكبر ثم يقول" (3)، وقوله للذي علمه: "كبر ثم اقرأ" (4)، وفي حديث أبيّ: "أنه صلى الله عليه وسلم قال له: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأه الحمد لله رب العالمين" (5) ولم يذكر توجيهًا ولا تسبيحًا. فصل [8 - الواجب من القراءة في الصلاة]: والواجب من القراءة متعين وهو: فاتحة الكتاب لا يجزيه غيره (6)، خلافًا لأبي حنيفة (7) في قوله: أي شيء قرأ من القرآن أجزاه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" (8)، وقوله: "لا صلاة [لمن لم يقرأ بأم القرآن" (9)] (10)، ولأن أركان الصلاة أقوال وأفعال، فلما كانت الأفعال متعينة فكذلك الأقوال.   (1) التوجيه: أن يقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا .. والتسبيح: أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك لا إله غيرك (المدونة: 1/ 66). (2) انظر: الأم: 1/ 6، مختصر المزني ص 14. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (2). (4) أخرجه البخاري في الأذان، باب: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين لا يتم ركوعه بالإعادة: 1/ 192، ومسلم في الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة: 1/ 298. (5) أخرجه البخاري في التفسير، باب: ما جاء في فاتحة الكتاب: 5/ 146، ومالك في الموطأ: 1/ 83، وحديث أبيّ الذي أورده المصنف لا شاهد فيه على ما استدل به. (6) انظر: المدونة: 1/ 69، التفريع: 1/ 226، الكافي ص 40. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 28. (8) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم: 1/ 184، ومسلم في الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة: 1/ 295. (9) أخرجه عبد الرازق: 2/ 93، والدارمي: 1/ 183، بهذا اللفظ، ويشهد حديث الصحيحين السابق له. (10) ما بين معقوفتين سقط من (ق)، ومطموسة في باقي النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فصل [9 - عدم قراءة البسملة في الصلاة وأنها ليست آية من الفاتحة]: ولا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم سرًّا ولا جهرًا (1)، وليست من الحمد ولا من كل سورة إلا من النمل في قوله: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} (2)، وقال الشافعي: هي من الحمد ولا تجزي الصلاة إلا بها، وله قولان في أنها من كل سورة (3)، ودليلنا أنها لو كانت من الحمد لكان -عليه الصلاة والسلام- بيَّن ذلك بيانًا مستفيضًا على عادته في بيان القرآن، ولو فعل ذلك لانقطع العذر ولم يقع خلافه كسائر آياتها، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها له ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين" (4) الخبر، ففيه دليلان، أحدهما: أنه بيَّن كيفية قسمة السورة [فبدأ بالحمد لله] (5)، فلو كانت التسمية منها لبديء بها، الأخرى: أنه بيَّن أن القسمة بالآيات"، وفي إثبات التسمية إبطال لهذا المعنى، وفي حديث أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". وفي خبر آخر: "كانوا لا يقرؤن بسم الله الرحمن الرحيم" (6)، وفي حديث عبد الله ابن مغفل أنه قال لابنه: إياك والحدث، فإني صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعثمان فلم يكن أحد منهم يقرؤها (7).   (1) انظر: المدونة: 1/ 68، الرسالة ص 114، الكافي ص 40. (2) سورة النمل، الآية: 30. (3) انظر: الأم: 1/ 107. (4) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة: 1/ 296، ومالك: 1/ 84. (5) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (6) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: حُجَّة من قال: لا يجهر بالبسملة: 1/ 299. (7) أخرجه النسائي في الافتتاح، باب: ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم: 2/ 104، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: افتتاح القراءة: 1/ 267، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال: حديث حسن: 2/ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فصل [10 - الإسرار والجهر في الصلوات]: والصوات الراتبة (1) من الفرائض في هذا والنوافل في هيئة من الإسرار والجهر على ثلاثة أوجه: منها ما يجهر بالقراءة في جميعها، ومنها ما يسر في جميعها، ومنها ما يجهر في بعضها ويسر في بعضها، فالأول هو الصبح والجمعة هذا من الفرائض، وصلاة العيدين والاستسقاء والوتر من السنن، والثاني: هو الظهر والعصر من الفرائض وركعتي الفجر وصلاة الكسوف من النوافل، والثالث: هو المغرب والعشاء الآخرة، فالجهر في الركعتين الأوليين منها، وباقيها يسر فيها، وكل هذا مما تناقلته الأُمة بالعمل وعضده الإجماع (2) فأغني عن زيادة عليه. فصل [11 - في تطويل القراءة في بعض الصلوات]: ويستحب إطالة القراءة في الصبح والظهر بطوال [المفصل] (3)، وتخفيفها في العصر والمغرب، وتوسطها في العشاء الآخر (4)، [وهذا] (5) أيضًا مما نقلته الأُمة بالعمل. فصل [12 - التأمين بعد الفراغ من قراءة الفاتحة]: ويستحب للمأموم والمنفرد إذا فرغا من قراءة أم القرآن التأمين (6)، لما روي   (1) الصلاة الراتبة: أي ما لها وقت مرتب. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 27 - 28، الرسالة ص 122 - 124، مختصر المزني ص 15، مختصر الخرقي ص 27، ومراتب الإجماع ص 33، والمجموع: 3/ 355، فتح الباري: 2/ 182. (3) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، وتم إكمال النقص من التلقين ص 75. (4) انظر: التفريع: 1/ 227، الرسالة ص 122 - 123، الكافي ص 40 - 41. (5) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، وتم إكمال النقص على حسب ما اقتضاه السياق. (6) انظر: التفريع: 1/ 227، الرسالة ص 114، الكافي ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أنه صلى الله عليه وسلم: "كان إذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: "آمين" (1)، وقوله: "إذا قال الإِمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين" [فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه] (2) " (3). فصل [13 - تأمين الإمام]: وفي الإمام روايتان (4): إحداهما لا يؤمن وهي الظاهر، والأخرى أنه يؤمن، فوجه الأولى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين" (5)، فلو كان التأمين من سُنَّته لقال: إذا قال: آمين، فقولوا، ولأن الإمام داع والمأموم مستمع؛ لأن هذا هو سبيل الدعاء أن يكون المؤمن غير الداعي، ووجه الثانية قوله: "إذا أمن الإِمام فآمنوا" (6)، ولأنه ذكر سن للمأموم فكان مسنونًا للإمام كسائر الأذكار المسنونة، ولأنه فصل فاستحب له التأمين كالمنفرد والمأموم. فصل [14 - قراءة السورة مع أم القرآن]: قراءة سورة مع أم القران سُنَّة في الركعتين الأوليين من كل صلاة رباعية أو ثلاثية، وفي كلتا ركعتي الفجر (7)، لأن النقل ورد بذلك عنه عليه الصلاة   (1) أخرجه البخاري في الأذان، باب: جهر المأموم بالتأمين: 1/ 190، مسلم في الصلاة، باب: التسميع والتحميد: 1/ 307. (2) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، وأكمل النقص من نص الحديث. (3) أخرجه البخاري في الأذان، باب: جهر الإمام بالتأمين: 1/ 190، ومسلم في الصلاة، باب: التسميع والتحميد: 1/ 307. (4) انظر: التفريع: 1/ 227 - 228، الرسالة ص 114 - 115، الكافي ص 43. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) أخرجه البخاري في الأذان، باب: جهر الإمام بالتأمين: 1/ 190، ومسلم في الصلاة، باب: في التسميع والتحميد والتأمين: 1/ 307. (7) انظر: المدونة: 1/ 69، التفريع: 1/ 227، الرسالة ص 114 - 116، المقدمات: 1/ 163، الكافي ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 والسلام، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (1)، وروى أبو هريرة قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أنه (2) لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد" (3). فصل [15 - الركوع والسجود]: والركوع والسجود من أركان الصلاة (4)، لقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "واركع حتى تطمئن راكعًا" إلى قوله: "فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك" (6)، وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (7)، ولا خلاف في ذلك (8). فصل [16 - الاعتدال في الركوع والسجود]: والاعتدال فيهما واجب (9)، خلافًا لأبي حنيفة (10)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اعتدلوا في السجود" (11)، وقوله: "اركع حتى تطمئن راكعًا" (12)   (1) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (214). (2) في (ق): أن لا أنادي: وهو خطأ. (3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: من ترك القراءة في صلاته: 1/ 512، من طريق جعفر بن ميمون، وأخرجه الحاكم: 1/ 239، وقال جعفر بن ميمون من ثقات البصريين، وصحَّحه الذهبي (نصب الراية: 1/ 367). (4) انظر: المدونة: 1/ 72، الرسالة ص 117، المقدمات: 1/ 158. (5) سورة الحج، الآية: 77. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (215). (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (214). (8) انظر: مراتب الإجماع ص 26، المجموع: 3/ 363، 393، المغني: 1/ 495، 514، نيل الأوطار: 2/ 265. (9) انظر: الرسالة ص 116 - 17، التفريع: 1/ 243، الكافي ص 43. (10) انظر تحفة الفقهاء 2/ 96. (11) أخرجه البخاري في الأذان، باب: لا يفترش ذراعيه في السجود: 1/ 300، ومسلم في الصلاة، باب: الاعتدال في السجود: 1/ 355. (12) حديث المسيء صلاته سبق تخريجه في الصفحة (215). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وفي حديث أبي حميد: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتدل في ركوعه" (1)، ولأنه ركن مستحق مقصود، فكان شرطه الطمأنينة والاعتقال كالقيام والجلسة الأخيرة. فصل [17 - التكبير في الركوع والسجود والرفع منه]: ويكبر عند الشروع في الركوع والسجود والرفع من السجود لما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع" (2)، [وهذا كله] (3) منقول بالعمل (4). فصل [18 - التسميع والتحميد في الرفع من الركوع]: فأما رفع رأسه من الركوع فالإمام يقول: سمع الله لمن حمده، والمأموم يقول: اللهم ربنا ولك الحمد، والمنفرد يقولهما (5)، والأصل في أن الإمام لا يقولها ما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده" (6)، وإنما قلنا: إن المأموم يقول: اللهم ربنا ولك الحمد لقوله: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به .. إلى قوله: فإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك" (7)، وإنما قلنا: إن الإمام يقتصر على قول سمع الله   (1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: افتتاح الصلاة: 1/ 468، والترمذي في الصلاة، باب: وصف الصلاة: 2/ 468، وقال: حديث حسن صحيح. (2) أخرجه النسائي في الصلاة، باب: التكبير للسجود: 2/ 161، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في التكبير من الركوع والسجود: حسن صحيح: 2/ 35. (3) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، وأكمل النقص على حسب ما يقتضيه السياق. (4) انظر: المدونة: 1/ 73، الموطأ: 1/ 76 - 77، الكافي ص 43. (5) انظر: المدونة: 1/ 72، التفريع: 1/ 228، الرسالة ص117. (6) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع من الركوع: 1/ 346. (7) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (219). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 لمن حمده من غير أن يقول: اللهم ربنا ولك الحمد لأن المأموم يقتصر على أن يقول: اللهم ربنا ولك الحمد ولا يقول: سمع الله لمن حمده، لقوله: "إذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد" (1)، ولم يقل: فقولوا سمع الله لمن حمده، ولأنه ميَّز بين ما يقوله الإِمام، وما يقوله المأموم، وجعل سمع الله لمن حمده في حيز ما يقوله الإِمام، وجعل اللهم ربنا ولك الحمد في حيز ما يقول المأموم، فدل على اختصاص كل واحد منهما بما أضيف إليه، ولأن قول الإمام سمع الله لمن حمده دعاء، وقول المأموم ربنا ولك الحمد تأمين وقد بيَّنا أن من سبيل الدعاء أن يدعوا واحد ويؤمن غيره. فصل [19 - حكم التسبيح في الركوع والسجود، وتمكين الجبهة والأنف في السجود]: والتسبيح (2) في الركوع والسجود غير واجب (3)، خلافًا لأحمد (4)، وداود (5)، لقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع" (6)، ولم يقل فسبح، وقال: "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم اجلس" (7)، ولم يأمر بتسبيح، وفي آخر الخبر: "فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك" (8) وهو في موضع تعليم، ولأنه نوع من التسبيح فأشبه الدعاء في ما زاد على الثلاثة، [ولأنه ركن في الصلاة فلم يجب فيه تسبيح كالقيام] (9)، ويمكِّن جبهته وأنفه   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (216). (2) التسبيح في الركوع: أن يقول: "سبحان ربي العظيم وبحمده"، وأما في السجود فأن يقول: "سبحان ربي الأعلى وبحمده". (3) انظر: التفريع: 1/ 244، الرسالة ص 117 - 18، الكافي ص 43. (4) انظر: مسائل الإمام أحمد ص 74، مختصر الخرقي ص 26، 29. (5) انظر: المجموع: 3/ 386. (6): (8) هذا جزء من حديث المسيء صلاته، سبق تخريجه في الصفحة (215). (9) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ، فأكمل النقص من الإشراف: 1/ 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 من الأرض في سجوده، فإن سجد على أنفه دون جبهته فلا يجزيه، وإن سجد على جبهته دون أنفه أعاد في الوقت استحبابًا، وإنما قلنا: إن سجوده على الأنف لا يجزيه من الجبهة (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ويمكِّن وجهه"، وفي رواية: "جبهته من الأرض في سجوده" (3)، ولأنه موضع من الوجه فلم ينسب السجود عليه عن الجبهة أصله الذقن، وإنما استحببنا أن يعيد في الوقت لأن في الحديث تمكين الوجه ولا يحصل ذلك على الاستيعاب، ويؤدي الصلاة على الوجه الجائز بالإجماع. فصل (4) [20]: فصل [21 - حكم التشهدان]: التشهدان جميعًا سُنَّتان (5)، خلافًا للشافعي في إيجابه الآخر منهما (6)، ولغيره في إيجابه إياهما (7)؛ لأنه ذكر في تضاعيف الصلاة ليس من جنس المعجز (8)، فلم يكن فرضًا أصله الدعاء والتسبيح، ولأنه تشهد فأشبه الأول،   (1) انظر: المدونة: 1/ 73، الرسالة ص 117، الكافي ص 41. (2) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 135. (3) هذا حديث المسيء صلاته، سبق تخريجه في الصفحة (215)، ورواية: "جبهته من الأرض في سجوده" أخرجها ابن حبان في صحيحه: 3/ 275. (4) هذا الفصل مطموس كاملًا، ولعله فصل صفة الجلوس للتشهد. (5) انظر: الرسالة ص 19 - 120، التفريع: 1/ 228، الكافي ص 42. (6) انظر: الأم: 1/ 117 - 118، الإقناع- للماوردي ص 42. (7) ممن قال بوجوبه الإمام أحمد وعمر وابنه وأبو مسعود البدري (مختصر الخرقي ص 28، والمغني: 1/ 540). (8) كالقرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ولأنه ذكر يختص به القعود، [فلم يكن فرضًا] (1)، فأشبه التشهد الأول، ولأنه غير متعين الألفاظ فلم يكن واجبًا لأن الأركان الواجبة في الصلاة متعينة الألفاظ (2). فصل [22 - ألفاظ التشهد]: والاختيار عندنا من ألفاظه تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو: التحيات لله (3) الزاكيات لله الطيبات (4) الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله" (5)، وإنما اخترنا ذلك لأن عمر علمه الناس على المنبر فلم ينكر عليه أحد وهو إمام، ولأن ألفاظه متفق على نقله وثبوتها. فصل [23 - حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -]: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست بشرط في صحة الصلاة (6)، خلافًا للشافعي (7)، لقوله: "فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك" (8)، ولم يذكر ما   (1) ما بين معقوفتين مطموسة من جميع النسخ وأكمل النقص من الإشراف: 1/ 84. (2) كالتحريم والتسليم والقراءة. (3) التحيات لله: أي كل أنواع الثناء، والتعظيم له عَزَّ وجَلَّ (الفواكه الدواني: 1/ 187). (4) الزاكيات يعني ناميات الأعمال يقال: زكى عمله إذا نما. والطيبات: أي ما طاب من القول والأعمال (غرر المقالة ص 120، والموطأ ص 90). (5) أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 90، والبيهقي: 2/ 144، والحاكم: 1/ 266، وإسناده صحيح (نصب الراية: 1/ 422)، وزيادة: "وحده لا شريك له .. " واردة من حديث عائشة وهو في الموطأ أيضًا: 1/ 91. (6) انظر: التفريع: 1/ 288. (7) انظر: الأم: 1/ 118، المهذب: 1/ 79. (8) حديث المسيء صلاته سبق تخريجه في الصفحة (215). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 تنازعناه، ولانه ذكرٌ أخص في تضاعيف الصلاة في غير القرآن فلم يكن واجبًا أصله اللَّهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، واعتبارًا بالصلاة على غيره من الأنبياء، ولأنه نوع من الدعاء فأشبه سائر الدعاء، ولأن من أصلنا أن التشهد غير واجب فنقول ذكر يختص به القعود قبل التحليل فأشبه التشهد الأول. فصل [24 - التسليم في الصلاة]: التسليم الأول فرض لا تتم الصلاة إلا به (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله: "وتحليلها التسليم" (3)، وهذا خارج مخرج البيان فيقتضي ألا يقع التحليل إلا به، وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (4)، ورأيناه قد سلم في الصلاة، ولأنه أحد طرفي الصلاة فوجب أن يكون نطقًا كالتحريم، ولأن الدخول في الصلاة لما كان بلفظ معين فالخروج منها مثله، ولأنه ركن في الصلاة فكان متعينًا كالركوع والسجود، وأن ما يضاد العبادة فلا [يصح] (5) به حكم لها كالأكل في الصوم والوطء في الحج. فصل [25]: التسليمة الثانية ليست بفرض (6)، خلافًا لأحمد بن حنبل (7) في قوله إن التسليمتين فرض، لقوله: "وتحليلها التسليم" (7)، وذلك يقتضي أقل ما يقع عليه الاسم، وروت عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم   (1) انظر التفريع: 1/ 343، الرسالة ص 122، الكافي ص 42. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 29 - 30، تحفة الفقهاء: 2/ 138. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (214). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (214). (5) ما بين معقوفتين مطموسة، ولعله ما أثبتناه. (6) انظر: الرسالة ص 122، المقدمات: 1/ 164، الكافي ص 42 - 43. (7) انظر: مسائل الإمام أحمد ص 83، مختصر الخرقي ص 27، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 واحدة تلقاء وجهه" (1)، ولأنه أحد طرفي الصلاة، فكان الغرض منه واحدة كالتحريمة. فصل [26]: والاختيار للإمام والمنفرد الاقتصار على تسليمة واحدة (2)، خلافًا للشافعي (3)، روى أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يسلمون تسليمة واحدة" (4)، ولأن الثانية لا يقع بها تحليل ولا رد على سلام والسلام لا يراد إلا لأحد هذين الوجهين. فصل [27]: وأما المأموم فيستحب له أن يأتي بتسليمة ثانية يردها على إمامة (5)، لما روى الحسن عن سلمة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن ترد السلام على الإمام" (6)، ولأن الإمام قد جمع بتسليمه أمرين: التحليل والسلام على المأمومين فاحتاجوا إلى الرد عليه، وروي عن ابن عمر مثله (7). فصل [28 - تعيين لفظ التسليم]: ولا يجوز من لفظ السلام إلا قوله: السلام عليكم، فإن نكَّر ونوَّن فلا   (1) أخرجه ابن ماجه في الصلاة، باب: من سلم تسليمة واحدة: 1/ 297، الترمذي في الصلاة، باب: التسليم في الصلاة: 2/ 91، والحاكم: 1/ 23، وقال: على شرط الشيخين، وقال النووي: هو حديث ضعيف ولا يقبل تصحيح الحاكم له (نصب الراية: 1/ 423). (2) انظر: التفريع: 1/ 271، والرسالة ص 122، الكافي ص 24 - 43. (3) انظر: الأم: 1/ 121، مختصر المزني ص 15. (4) قال الزيلعي: أخرجه البيهقي في المعرفة (نصب الراية: 1/ 434)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 2/ 146). (5) انظر الرسالة ص 122، التفريع: 1/ 271، الكافي ص 43. (6) أخرجه البيهقي: 2/ 181. (7) أورده البيهقي في سننه: 2/ 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 يجزيه (1)، خلافًا لبعض الشافعية (2)، لقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (3)، والنقل متواتر بأنه كان يقول: "السلام عليكم" (4)، ولأنه نطق واجب في الصلاة، فكان معينًا كتكبيرة الإحرام. ...   (1) انظر المدونة: 1/ 65 - 66، التفريع: 1/ 271، الكافي ص 42. (2) انظر روضة الطالبين- للنووي: 1/ 267. (3) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (215). (4) كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في المساجد: 1/ 409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 باب [ستر العورة] اختلف أصحابنا في ستر العورة: هل هو شرط في صحة الصلاة أم لا؟ (1) فإذا قلنا: إنه شرط فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" (2)، وقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (3)، ولأن كل ما كان واجبًا في غير الصلاة تأكد وجوبه في الصلاة، وإذا قلنا بالوجه الآخر فلأن [هيأة] (4) الصلاة من حقها بأن يتعلق [وجوبها] (5) بالصلاة، فيجب بوجوبها ويسقط بسقوطها كالطهارة وغيرها، فلما اتفقنا على أن وجوب ستر العورة لا يقف على الصلاة، بل يجب في كل حال أن يستر عن أعين الناس دل على أنها ليست من شرط صحة الصلاة. فصل [1 - عورة الحرة]: الحرة جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين، فيجب عليها ستر جميعه إلا قدر ما ذكرناه (6)، والدليل عليه قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر   (1) انظر المقدمات: 1/ 161 - 162، الكافي ص63. (2) أخرجه ابن ماجه في الحيض، باب: إذا حاضت المرأة -لم تصل إلا بخمار: 1/ 215، وأبو داود في الصلاة، باب: المرأة تصلي بغير خمار: 1/ 421، والترمذي في الصلاة، باب: لا يقبل الله صلاة الحائض إلا بخمار: 2/ 215، وقال: حديث حسن، والحديث ليس فيه دلالة على ستر العورة وإنما يدل على وجوب ستر الرأس للمرأة، وفيه دليل من باب التنبيه على ستر سائر الجسد للمرأة فقط. (3) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (215). (4) و (5) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ وأكملت النقص من دلالة السياق، ومن كتاب الإشراف: 1/ 89. (6) انظر: المدونة: 1/ 94، الرسالة ص 89 - 90، التفريع: 1/ 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 منها} (1) قيل: الوجه والكفان، وروي أن أم سلمة سألت النبي عليه الصلاة والسلام: أتصلي المرأة في درع وخمار (2) ليس عليها إزار قال: "إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها"، وهو في الموطأ موقوف على أُم سلمة (3)، وروي نحوه عن عائشة رضي الله عنها (4). فصل [2 - عورة الرجل]: وأما عورة الرجل فمن سرته إلى ركبته (5)، ومن أصحابنا من يقول: هو من فوق العانة إلى الركبة (6)، والفخذان من العورة (7)، خلافًا لمن قال: أن العورة السؤتان فقط (8)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زوج أحدكم عبده فلا ينظر ما بين سرته إلى ركبتيه"، وفي بعض الطرق: "فإن ما بين السرة إلى   (1) سورة النور، الآية: 31. (2) الدرع: القميص الذي يسلك في العنق، والخمار: ثوب تغطي به المرأة رأسها (المصباح المنير ص 180، 192). (3) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 915، وأبو داود في الصلاة، باب: كم تصلي المرأة: 1/ 429، والحاكم: 1/ 250، وقال: أنه على شرط البخاري، وقال ابن الجوزي: هذا الحديث فيه مقال (نصب الراية: 1/ 299). وأم سلمة: هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بنت عم خالد بن الوليد من المهاجرات الأول، كانت آخر من مات من أُمهات المؤمنين، لها جملة أحاديث (ت 61 هـ) (شذرات الذهب: 1/ 69، سير أعلام النبلاء: 2/ 201). (4) المصنف لعبد الرزاق: 3/ 128 - 129، مصنف ابن أبي شيبة: 2/ 224 - 225. (5) التفريع: 1/ 240، الكافي ص 63. (6) انظر: الذخيرة: 1/ 480، مواهب الجليل: 1/ 498 - 499. (7) انظر: التفريع: 1/ 240. (8) هذا ما قاله داود: أن الفخذ ليس بعورة (المجموع: 3/ 175). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الركبة عورة" (1)، وقوله لعليّ رضي الله عنه: "لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" (2)، وفي حديث عبد الله بن جرهد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "غط فخذك فإن الفخذ عورة" (3). فصل [3 - عورة الأَمة]: فأما الأَمة فعورتها مثل عورة الرجل (4)، بدليل جواز تقليبها عند الشراء ورؤية شعرها وذراعيها، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضرب الإماء، إذا لبسن الإزار، ويقول: "لا تتشبهن بالحرائر"، وقال: لابنه ألم أخبر أن جاريتك خرجت في الإزار تشبهت بالحرائر ولو لقيتها لأوجعتها ضربًا (5). فصل [4 - الصلاة في ثوب واحد]: الصلاة في الثوب الواحد إذا ستر العورة جائز (6)، لأنه صلى الله عليه وسلم   (1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة: 1/ 334 عن سوار ابن داود الصيرفي، قال فيه: يحيى بن معين ثقة، أما طريق: "فإن ما بين السرة إلى الركبة عورة"، فقد أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه أحرم بن حوشب وهو ضعيف (انظر نصب الراية: 1/ 298، ومجمع الزوائد: 2/ 56). (2) أخرجه أبو داود في الحمام، باب: النهي عن التعري: 4/ 303، وابن ماجه في الجنائز، باب: ما جاء في غُسل الميت: 1/ 469، وقال أبو داود: حديث فيه نكارة وأخرجه الحاكم وسكت عنه (نصب الراية: 4/ 244). (3) أخرجه أبو داود في الحمام، باب: النهي عن التعري: 4/ 303، والترمذي في الاستئذان، باب: ما جاء أن الفخذ عورة: 5/ 102، وقال: حديث حسن وما أرى إسناده بمتصل. (4) انظر: التفريع: 1/ 240، الكافي ص 63. (5) أخرجه البيهقي: 2/ 26، والوارد في الخبر أن عمر ضربهن على الاختمار وليس على لبس الإزار. (6) انظر: التفريع: 1/ 240، الرسالة ص 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 كان يصلي في الثوب الواحد" (1)، وقال لما سُئل عنه: "أَوَ لِكُلكُّم ثوبان" (2) إذا ثبت هذا فيكره أن يصلي عاري الكتفين من رداء أو ما يقوم مقامه في الجماعة (3)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي إلا برداء (4)، ويكره السراويل (5) وحده لأنَّه من زي الأعاجم، والأفضل في الثوب الواحد في القميص لا يعري به الكتف، فإن لم يكن فالمئزر أفضل من السراويل. فصل [5 - تغطية الأنف في الصلاة]: ولا يغطى في الصلاة أنفه (6)، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقوله: "خط كخط الشيطان" (7)، ولأنه ضرب من سوء الأدب وترك التوقير للصلاة. فصل [6 - اتقاء الحر والبرد بثوب المصلي]: ويجوز أن يتقي بثوبه الحر والبرد وأذى الأرض (8) لما روي: "أنه صلى الله   (1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة في القميص: 2/ 61، ومسلم في الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد: 1/ 368. (2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة في القميص: 1/ 96، ومسلم في الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد: 1/ 367. (3) انظر: التفريع: 1/ 242. (4) لم أقف على حديث بلفظ رداء، لكن كما قال البيهقي: أن الأحاديث الصحيحة التي رويناها في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوب واحد متوشحًا المراد به الرداء أو ما يشبه الرداء والله أعلم (2/ 240)، وأخرج مسلم حديث أبي سعيد قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي في ثوب متوشحًا به (في الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد: 1/ 368). (5) انظر: المدونة: 1/ 90، التفريع: 1/ 242. (6) انظر الرسالة ص 129. (7) الحديث قال فيه صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم وثوبه على أنفه، فإن ذلك خطم الشيطان"، وليس خط كم ذكر المصنف، وقد أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه ابن لهيعة وفيه كلام (انظر: مجمع الزوائد: 2/ 86)، ومعنى خطم: هو المنقار من كل طائر، ومن كل دابة مقدم الأنف والفم (المصباح المنير: 1/ 174). (8) انظر: التفريع: 1/ 242 - 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 عليه وسلم كان يصلي في كم له يتقي بفضوله حر الأرض وبردها" (1) ولأن شدة الحر والبرد متى كلف المصلي مباشرته بيده يمنع الخشوع وأداء الصلاة على ما يجب لها. فصل [7 - كفت الشعر والثوب في الصلاة]: كفت الشعر (2) والثوب له حالان (3): حال يكره فيها، وحال يباح، فأما حال الإباحة فأن يكون فعل ذلك لغير الصلاة لعمل كان يعمله، فشمر كمه أو ذيله أو كفت شعره لعمله الذي يربأه ثم أدركته الصلاة، فهذا يجوز له أن يصلي على هذه الحال لأنه لم يقصد بذلك الصلاة فينسب إلى التكبر وترك الخشوع، وحال الكراهة أنه يكون قاصدًا بذلك الصلاة، وأن يصون ثوبه وشعره أن يصيب بهما الأرض، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا يكفت شعرًا ولا ثوبًا" (4)، فأخبر أن النهي عن ذلك [هو] (5) إذا قصد به الصلاة، ولأن فيه ضربًا من التجبر وترك الخشوع. ...   (1) هذا الحديث لم أجده من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أخرج البخاري في كتاب الصلاة، باب: في الثياب، باب: السجود على الثوب: 1/ 101، ومسلم في المساجد، باب: استحباب تقديم الظهر في أول الوقت: 1/ 432 عن أنس قال: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود. (2) يكفت: يعني يضم (الصحاح: 1/ 263). (3) انظر: المدونة: 1/ 95، التفريع: 1/ 243. (4) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: السجود على سبعة أعظم: 1/ 197، ومسلم في الصلاة، باب: أعضاء السجود: 1/ 354. (5) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل على حسب السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 باب [السهو في الصلاة] السهو (1) في الصلاة ضربان: سهو نقصان وله سجدتان أكثر أم قل تؤخران على حاله إلى آخر الصلاة مع النقصان يؤتي بها قبل السلام وفي الزيادة بعده (2)، فإن اجتمعا -ولا يخلوا أن يكونا من أحد الضربين أو من كليهما- فإن كان من أحدهما مثل أن يزيد في الصلاة زيادتين أو ينقص منها سجد للكثير مثل سجوده للقليل، وإن كان زيادة ونقصًا، لم يزد على سجدتين لكن يغلب النقصان فيسجد له قبل السلام. وإنما فرقنا بين النقصان والزيادة لتفريق رسول الله عليه الصلاة والسلام بينهما، ففي حديث ابن بحينه: "أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين فقام الناس معه، فما بلغ آخر الصلاة وانتظر تسليمه سجد سجدتين قبل السلام ثم سلم" (3)، وفي حديث أبي هريرة: "أنه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين فقال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: كل ذلك لم يكن، فقال: "أحقًّا ما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، فأتم ما بقى من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم (4). ومن جهة المعنى: فلأن سجود النقصان جبران للنقص الواقع في الصلاة   (1) السهو: في اللغة يدل على الغفلة والسكون، ويفارق الناس لأن الناس إذا ذكرته تذكر والساهي بخلافه يتذكر بأدنى مذكر (الفواكه الدواني: 1/ 219، المصباح المنير ص 293). (2) انظر: التفريع: 1/ 244، الرسالة ص 129، الكافي ص 56. (3) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: من لم ير التشهد الأول واجبًا: 1/ 201، ومسلم في المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود: 1/ 399. (4) أخرجه البخاري في السهو: 2/ 66، ومسلم في المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود: 1/ 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وسبيل الجبران للنقص في العبادة أن يكون فيها لا بعدها، وسجود الزيادة ترغيم للشيطان وشكر لله تعالى على إتمام الصلاة وإكمالها (1)، فلم يكن فيه المعنى المقتضى لوقوعه قبل التسليم، ولأنه لما زاد في الصلاة ما سهى بفعله لم يجز أن [يكون] (2) فيها السجود لأنها لا تحتمل زيادتين، وليس كذلك النقصان لأنه لما نقص منها جاز أن يكون السجود فيها جابر (3) للمتروك. فصل [1 - أدلة تأخير السجود إلى آخر الصلاة وألا يزيد على سجدتين]: وإنما قلنا: أنه لا يسجدهما عقيب السهو، بل يؤخرها إلى آخر الصلاة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل (4)، ولأنهما لجميع السهو فأخر إلى آخر الصلاة لجواز أن يتبع السهو سهو آخر فيكون السجود لجميعه، وإنما قلنا: أنه لا يزيد على سجدتين، وإن أكثر السهو لقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل سهو سجدتان" (5)، واتفق على أن المراد بذلك جنس السهو، ولأن الأصل في السجود الذي يفعل بسبب السهو اقتضى أن يكون عقيب سببه كسجود التلاوة ألا أنَّه جعل سجود السهو مؤخرًا إلى آخر الصلاة، لهذا المعنى وهو أنه لجميع جنسه، إذ قد يمكن أن يسهو ثانيًا ألا ترى أن سجود التلاوة لما كان لكل سجدة تقرأ سجود يخصها أُتِيَ به عقيب سببه. فصل [2 - اجتماع الزيادة والنقصان في الصلاة]: وإنما قلنا: أنه إذا اجتمع زيادة ونقصان سجد لهما قبل السلام (6)، فلأنه لا   (1) كما جاء ذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في المساجد: 1/ 400. (2) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل النقص على حسب ما يقتضيه السياق. (3) في جميع النسخ جائز وهي جابر كما أثبتناه. (4) كما جاء في الأحاديث التي سبقت. (5) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: من نسي أن يتشهد وهو جالس: 1/ 630، وابن ماجه في الصلاة، باب: فيمن سجدها بعد السلام: 1/ 385، وأحمد: 5/ 280، وفيه إسماعيل بن عياش وليس بالقوي إذا روي عن غير الشاميين (انظر نصب الراية: 1/ 167). (6) انظر: المدونة: 1/ 130، التفريع: 1/ 244، الرسالة ص 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 يخلو من ثلاثة أحوال: إما ألا يسجد أصلًا وذلك غير جائز بالاتفاق، أو أن في سجد أربع سجدات، وذلك غير جائز لأنه خلاف للأصول، أو أن يغلب أحدها فكان النقصان أولى بالتغليب لأنه جبران وسجود الزيادة شكر وإرغام للشيطان، ولا يجوز أن يؤتى بسجود الشكر على [ترك صلاة] (1) ناقصة ولا أن يرغم الشيطان بترك الصلاة ناقصة غير مكتملة، فلذلك وجب تغليب النقصان. فصل [4 - التكبير في سجدتي السهو]: ويكبر في سجدتي السهو (2) حال ابتدائهما والقيام منهما؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك (3)، ولأن الشروع في كل السجود بتكبير، فكذلك الرفع منه اعتبارًا بسجود الصلاة وسجود التلاوة. فصل [4 - التشهد لسجدتي السهو بعد السلام]: "فإذا كانت بعد التسليم تشهد لهما" (4)؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك (5) ولأن من سبيل السلام أن يكون عقيب تشهد ألا ترى أن سلام التحليل لا يكون إلا عقيب تشهد أو لا ترى أنه إذا فرغ من تشهده ثم قام ونسي السلام، فإنه يرجع إذا كان قريبًا فيعيد التشهد ثم يسلم، ولا يكتفي بالتشهد الأول لتراخيه عن السلام. فصل [5 - هل يتشهد للسجدتين التي قبل السلام؟]: وأما السجدتان قبل السلام ففيهما روايتان (6): إحداهما أنه يتشهد لهما،   (1) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل من السياق. (2) انظر: المدونة: 1/ 128، التفريع: 1/ 250. (3) في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح (انظر مجمع الزوائد: 2/ 155). (4) انظر: المدونة: 1/ 128، الرسالة ص 129. (5) لم أعثر على من أورد ذلك. (6) انظر: الرسالة ص 129، التفريع: 1/ 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 والآخر أنه لا يتشهد لهما، فوجه قوله: إنه يتشهد لهما ما روى عمران بن حصين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سهى فسجد سجدتين ثم تشهد وسلم" (1)، ولأنه سجود عن سهو فأشبه الذي بعد السلام، ولأن السلام يقتضي أن يكون عقيب تشهد اعتبارًا بالصلاة التي لا سهو فيها، والتشهد الذي أتي به قد تخلل بينه وبين السلام سجود السهو فيجب أن يستأنف غيره ليقع السلام عقيبه، ووجه كونه لا يتشهد له أنه يكتفي في ذلك بالتشهد الأول لأنه لم يفصل بينه وبين السجود بسلام، ولأن الركعة الواحدة لا يتشهد فيها تشهدين. فصل [6]: ويسلم من اللتين بعد السلام (2)، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم منهما" (3)، فأما اللتان قبل السلام فإن السلام من الصلاة يغني عن تجديد سلام لهما. فصل [7 - في كيفية التسليم من سجدتي السهو]: وفي كيفية التسليم منها روايتان (4): إحداهما أنه يجهر به كالتسليم من الصلاة ووجهها أنه يسلم عقيب تشهد، فأشبه التسليم من الصلاة، والأخرى أنه يخفيه اعتبارًا بصلاة الجنائز، ولأنها صلاة لا ركوع فيها. فصل [8 - من ترك سجود السهو الذي هو بعد السلام]: إذا ترك السجود بعد السلام ناسيًا سجد متى ذكر ولم يُعِد الصلاة لتركه، والذي قبل السلام يأتي به ما دام عن قرب وفي مجلسه، فإِن تباعدا وانتقض وضوءه أعاد (5). والفرق بينهما أن الذي بعد السلام ليس من الصلاة، وما   (1) أخرجه مسلم في المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود: 1/ 405. (2) انظر: المدونة: 1/ 128، الرسالة ص 129. (3) كما جاء في الأحاديث التي ذكرت سابقًا. (4) انظر: الكافي ص43، 60، مواهب الجليل للخطاب مع التاج والإكليل للمواق: 2/ 21. (5) انظر: المدونة: 1/ 129، التفريع: 1/ 25، الرسالة ص 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 يفعل بعد العبادة لا تفسد بتركه، والذي قبل السلام هو في نفس العبادة قبل التحلل منها فجاز أن يبطل بتركه، ولأن سجود الزيادة شكر لله وترغيم للشيطان على تمام الصلاة فهو يتضمن صحتها وانتفاء الفساد عنها، وسجود النقصان جبران للنقص الواقع فيها، فجاز أن يفسد بتركه. فصل [9 - حكم إعادة الصلاة عمن ترك جميع السجود]: وقد اختلف عنه هل تعاد الصلاة عمن ترك جميع السجود للنقصان أو بعضه، فعنه في ذلك روايتان (1): إحداهما أن ذلك حكم جميع السهو (2)، والآخر أنها تعاد من ترك السجود لنقص الأفعال دون الأقوال، فوجه الأولى هو أنه جبران للنقص الواقع في الصلاة فأشبه [النقص] (3) عن الأفعال، ووجه الثانية هو أن حكم الأفعال آكد من حكم الأقوال بدلالة أن الإمام يحمل على المأموم من أركان الأقوال وهو القراءة، ولا يحمل عنه شيئًا من أركان الأفعال. فصل [10 - أنواع المتروك من الصلاة وما يسجد له منها]: المتروك من الصلاة أربعة أنواع: فرض، وسُنَّة، وفضيلة، وهيئة: فالمفروض لا يجزيه سجود السهود ولا يجزى مَن تركه إلا الإتيان به، وذلك كتكبيرة الإحرام والقراءة بأُم القرآن والركوع والسجود وغيرها من فرائض الصلاة، والهيئات كرفع اليدين وصفة الجلوس وما أشبهه، وكذلك الفضائل الداخلة على الصلاة، وليست من أصل بنيتها كالقنوت وسجود التلاوة، لا يسجد للسهو منها، والمسنون مثل سورة مع أُم القرآن في الركعتين الأوليين والإسرار والجهر في مواضعها والتكبيرات غير الافتتاح وما أشبه ذلك [من السنن] (4) هو الذي يسجد له (5).   (1) انظر: المدونة: 1/ 129، التفريع: 1/ 250، الكافي ص 59. (2) أي حكم من ترك أي نوع من السهو في إعادته الصلاة. (3) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (4) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل النقص من السياق. (5) راجع في هذه الجملة عن الأحكام: المدونة: 1/ 128 - 134، والتفريع: 1/ 243 - 244، الرسالة ص 129 - 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 فصل [11 - إذا لم يدر كم صلى]: إذا لم يدر كم صلى، له حالاتان (1): حال يستنكحه الشكوك ويغلب عليه ولا يصح له معها يقين، فهذا ضرب من ضروب الوسواس فينبغي أن يلهى عنه ولا يلتفت إليه، ويستحب له أن يسجد بعد السلام لأنه إلى الزيادة أقرب، وحال يقل شكه أو يكثر إلى حد يمكن معه معرفة اليقين ولا ينتهي إلى أن يحصل يقين، فهذا إذا شك بني على يقينه وسجد بعد السلام ولا يرجع إلى غالب الظن ولا تخمين، خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فليلغ الشك وليس على اليقين، فهذا استيقن التمام سجد سجدتين" (3)، ولأن أمر الصلاة مبني على الاحتياط، والاحتياط هو البناء على اليقين دون غالب الظن والتخمين. فصل [12 - من نسي تكبيرة الإحرام]: إذا نسي تكبيرة الإحرام في صلاته أعاد سواء أكان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا (4) فإن ذكر وهو في الصلاة: فإن كان لم يكبر للركوع ابتدأ الصلاة، وإن كان إمامًا [أعلم] (5) من خلفه بالذي لأجله فعل ذلك لئلا يخلط عليهم، فإن كبر للركوع فإن كان إمامًا أو منفردًا فحاله في ذلك كحاله قبل أن يكبر للركوع، وإن كان مأمومًا نظر: فإن أمكنه أن يرفع رأسه فيكبر للإحرام ويلحق الركعة مع الإمام فعل، وإن غلب على ظنه أنه إن فعل ذلك فاتته الركعة استحببنا له أن يمضي مع الإمام ثم يعيد الصلاة، وإن اختار أن يقطع ويبتديء فذلك له.   (1) انظر: المدونة: 1/ 128، التفريع: 1/ 250 - 251، الرسالة ص 131، الكافي ص 60. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 230، مختصر القدوري- مع شرحه اللباب: 1/ 98. (3) أخرجه مسلم في المساجد، باب: السهو في الصلاة: 1/ 400. (4) انظر التفريع: 1/ 246، الكافي ص 390. (5) ما بين معقوفتين مطموسة من جميع النسخ وأكمل النقص بما يقتضيه السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ووجه استحبابنا له ذلك أن من أهل العلم من يذهب إلى أن تكبيرة الركوع تنوب عن تكبيرة الإحرام فلم نأمره بالخروج من صلاة يختلف أهل العلم في انعقادها، وكان ذلك مخالفًا لحاله قبل أن يكبر للركوع، ولأن أحد لا يقول: أن الصلاة منعقدة به بغير تكبيرة، وهذا للمأموم لأنه قد عقد صلاته بصلاة إمامه، فأما إن كان إمامًا أو منفردًا فلا يوجد هذا المعنى فيهما. فصل [13 - سهو المأموم]: إذا سهى المأموم لم يسجد وحمله الإمام عنه (1)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن" (2)، والضامن يقتضي مضمونًا وذلك هو القراءة وسجود السهو، ولأنه لما ألزمه أن يسجد في سهو الإمام، وإن لم يكن منه سهو جاز أن لا يسجد في سهو بأن يتحمله عنه الإمام. فصل [14 - المسبوق يسهو إمامه]: إذا فاته بعض الصلاة مع الإِمام، وكان الإمام قد سها فينظر: فإن كان سجوده قبل السلام سجد معه لوجوب اتباعه، وإن كان بعده انتظر إلى أن يفرغ من قضاء ما عليه، ثم يسجد لأن عليه أن يتبع الإمام على حد ما يفعل الإمام، والإمام أتى بهذا السجود بعد فراغه من الصلاة، فكذلك يفعل المأموم. فصل [15 - الكلام في الصلاة]: الكلام عامدًا لا لإصلاح الصلاة يبطلها من غير خلاف (3)، فأما الكلام   (1) انظر: التفريع: 1/ 248، المقدمات: 1/ 198. (2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: وما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت: 1/ 356، الترمذي في الصلاة، باب: ما جاء أن الإِمام ضامن: 1/ 402، وفي سندهما اضطراب، ولكن رواه أحمد: 2/ 419، بسند روي له مسلم بنفس ذلك السند نحوًا من أربعة عشر حديثًا (نصب الراية: 2/ 58). (3) انظر: الإجماع ص 40، المجموع: 4/ 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 سهوًا فلا يبطلها (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله: "رفع عن أُمتي الخطأ والنسيان" (3)، ولأنه كلام أتى به سهوًا [أشبه] (4) أن يقول السلام عليكم. فصل [16 - الكلام لمصلحة الصلاة]: وإذا لم ينتبه إمامه إلا بالكلام فتكلم لم تبطل صلاته (5)، خلافًا للشافعي وأبي حنيفة (6)، لقوله: "أحقًّا ما يقول ذو اليدين" (7)، وكذلك كلام ذي اليدين، ولأن الحاجة داعية إليه لمصلحة الصلاة فأشبه قوله سبحان الله. ...   (1) انظر: المدونة: 1/ 127، التفريع: 1/ 260، الرسالة ص 131، الكافي ص 66. (2) انظر: مختصر القدوري: 1/ 85. (3) الحديث بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا" أخرجه ابن ماجه في الطلاق، باب: الطلاق المكره والناس: 1/ 659، وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين (نصب الراية: 2/ 64). (4) ما بين معقوفتين مطموسة وأكمل النقص من السياق. (5) انظر: المدونة: 1/ 126، التفريع: 1/ 260، الكافي ص 66. (6) انظر: المبسوط: 1/ 170 - 171، الأم: 1/ 124. (7) حديث ذي اليدين الذي سبق تخريجه ص 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 باب [القنوت في صلاة الصبح، والصلاة النافلة] والقنوت فضيلة (1) في صلاة الصبح (2)، خلافًا لأبي حنيفة (3)، "لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يقنت في صلاة الفجر" (4)، وقال أنس: ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت فيها حتى فارق الدنيا (5)، ولأن أكابر الصحابة فعلوه بعده مثل: أبي بكر، وعمر، وعليّ، وأبي موسى (6)، وابن عباس (7) والبراء بن عازب (8)، وغيرهم (9).   (1) الفضيلة: مأخوذة من الفضل وهو في الفعل استحقاق الثواب عليه (انظر الجامع من هذا الكتاب)، والقنوت: الدعاء (المصباح: 1/ 516). (2) المدونة: 1/ 100، التفريع: 1/ 166، الرسالة ص 118، الكافي ص 44. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 28، مختصر القدوري: 1/ 77. (4) أخرجه البزار والطبراني وابن أبي شيبة والطحاوي: فيه أبو حمزة القصبة، وهو فاحش الخطأ، ويشهد له حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين (نصب الراية: 2/ 123). (5) أخرجه أحمد: 3/ 162، والدراقطني: 2/ 39، والبيهقي: 2/ 201، وصحَّحه الحاكم، وأقره البيهقي على ذلك (نصب الراية: 2/ 131). (6) أبو موسى: هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، الإمام الكبير صاحب رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الفقيه المقري، أقرأ أهل البصرة وأفقههم في الدين، استعمله النبي -عليه الصلاة والسلام- على اليمن مع معاذ وولى أمرة الكوفة والبصرة (ت 42) (شذرات الذهب: 1/ 29، سير أعلام النبلاء: 2/ 380). (7) ابن عباس: هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الصحابي القرشي، حدث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وعن عمر وعلي ومعاذ وغيرهم، حبر الأُمة وفقيه العصر وإمام التفسير (ت 81 هـ) (تذكرة الحُفَّاظ: 1/ 37، سير أعلام النبلاء: 3/ 331). (8) البراء بن عازب: وابن الحارث أبو عمارة الأنصاري الحارثي المدني، نزيل الكوفة، الفقيه الكبير من أعيان الصحابة، روى حديثًا كثيرًا، (ت 72 هـ) (شذرات الذهب: 1/ 77، سير أعلام النبلاء: 3/ 194). (9) أخرج هذه الآثار: البيهقي: 2/ 201 - 206، ابن أبي شيبة: 2/ 311 - 312، عبد الرزاق: 1/ 108 - 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فصل [1 - موضع القنوت]: وموضعه الركعة الثانية (1)، وكذلك فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام (2) وهو مخير إن شاء قبل الركوع، وإن شاء بعده؛ لأن كل ذلك قد روي عن الصدر الأول، وروي عن عمر (3) وعثمان، وعليّ (4)، وقيل: إنما فعله عمر ليدرك الصلاة من يتأخر مجيئه إليها. فصل [2 - تحية المسجد]: ومن دخل المسجد ركع قبل أن يجلس لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" (5). فصل [3 - الصلاة في أوقات النهي]: لا تصلي نافلة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا بعد الفجر حتى تطلع (6)، لقوله عليه السلام: "لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها" (7)، ولأنه "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الفجر حتى تطلع" (8)، وقيل: إنها تطلع وتغرب بين قرني الشيطان.   (1) انظر: الرسالة ص 118، الكافي ص 44. (2) عن أبي هريرة: "أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قنت في الركعة الآخرة من الفجر" أخرجه البخاري في التفسير، باب: "ليس لك من الأمر شيء": 5/ 171، ومسلم في المساجد: 1/ 467. (3) لم أجده عن عمر، لكن ثبت هذا عن عثمان، كما أخرجه البيهقي: 2/ 209، وعبد الرزاق: 3/ 109. (4) أخرج هذه الآثار البيهقي: 2/ 208 - 209، ابن أبي شيبة: 3/ 312 - 313. (5) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: وإذا دخل المسجد فليركع ركعتين: 1/ 537، ومسلم في صلاة المسافرين: 1/ 495. (6) انظر: الرسالة ص 126، الكافي ص 36 - 37. (7) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها: 1/ 568. (8) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترفع الشمس: 1/ 145، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها: 1/ 566. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فصل [4 - الصلاة التي لها سبب في أوقات النهي]: لا خلاف في منع ذلك فيما لا سبب له، فأما فيما له سبب مثل أن يدخل المسجد فيريد تحيته أو ما أشبه ذلك فسبيله في المنع عندنا سبيل ما لا سبب له، واختلف في صلاة الكسوف وسجود القرآن (1)، وقال الشافعي: كل نافلة لها سبب مثل تحية المسجد وقضاء فائته جائز فعلها في الأوقات المنهي عنها (2)، ودليلنا قوله: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" (3) فعم، ولأنها صلاة نفل فأشبهت ما لا سبب له. فصل [5 - قضاء الفوائت في الأوقات المنهي عنها]: وتقضي الفوائت من الفرائض في الأوقات المنهي عنها (4)، خلافًا لأبي حنيفة (5)، لقوله: "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها" (6)، ولأنها صلاة فرض فأشبهت عصر يومه أو فجره. فصل [6 - من صلى ركعتي الفجر في بيته ثم دخل المسجد]: إذا صلى ركعتي الفجر فى بيته ثم دخل المسجد فقيل: يركع تحية المسجد، وقيل: يجلس ولا يركع (7)، فوجه الأول: قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد   (1) انظر: التفريع: 1/ 236 - 270، الرسالة ص 126. (2) انظر: الأم: 1/ 150، مختصر المزنى ص 19. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) انظر: المدونة: 1/ 123، الرسالة ص 131. (5) يجوز عند أبي حنيفة ذلك لكن مع الكراهة (انظر مختصر القدوري: 1/ 89، تحفة الفقهاء: 2/ 105). (6) أخرجه البخاري فى المواقيت، باب: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكر: 1/ 148، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: قضاء الصلاة الفائتة: 1/ 477. (7) انظر: الرسالة ص 126، الكافي ص 37، 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فلا يجلس حتى يركع ركعتين" (1)، ولأنه داخل إلى المسجد [لأداء] (2) صلاة الفجر وأشبه إذا لم [يصل] (3)، ووجه الثاني في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر" (4). فصل [7 - صلاة الوتر]: الوتر (5) سُنَّة مؤكدة (6)، خلافًا لأبي حنيفة (7) في قوله: إنها واجبة وليست بفرض ولا سُنَّة، لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما سأله عن الإسلام: "خمس صلوات في اليوم والليلة" (8)، ولو كانت الوتر واجبة لكان يقول ستًّا، وقال: هل عليَّ غيرهن، قال: "إلا أن تتطوع" (9)، وذلك ينفي وجوب ما عدا الخمس، وقوله: "أمرت بالوتر وهو لكم سُنَّة" (10) ولأنه صلى الله عليه وسلم صلاها على الراحلة" (11)، ولو كانت   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا ص 243. (2) و (3) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ وأكمل النقص من السياق. (4) أخرجه البخاري في التهجد، باب: الركعتين قبل العصر: 2/ 54، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر: 1/ 500. (5) الوتر: هو الفرد (غرر المقالة ص 124). (6) انظر: المدونة: 1/ 122، التفريع: 1/ 267، الرسالة ص 124 - 125، وقوله: سُنَّة مؤكدة، أي أنه آكد النوافل كلها وهو يأتي في الأفضلية بعد صلاة الفرض، وقيل: ترد الشهادة من دوام على ترك المندوبات المؤكدة كالوتر .. (مواهب الجليل: 2/ 75). (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 29، مختصر القدوري: 1/ 75، وتحفة الفقهاء: 2/ 154. (8) و (9) أخرجه البخاري في الإيمان باب: الزكاة من الإسلام: 1/ 16، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام: 1/ 40. (10) أخرجه أحمد: 1/ 231، والحاكم: 1/ 300، والدارقطني: 2/ 21 بلفظ: قريب منه، وقد سكت الحاكم عنه (نصب الراية: 2/ 115). (11) أخرجه البخاري في الوتر، باب: الوتر على الدابة: 2/ 14، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الصلاة على الدابة: 1/ 487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 واجبة لم يفعل ذلك، ولأنها صلاة ليست من سُنَّتها الأذان بوجه فلم تكن واجبة على الأعيان ابتداء أصله سائر النوافل، ولأن كل صلاة لم تكن فرضًا لم تكن واجبة بأصل الشرع كركعتي الفجر. فصل [8 - في صفة صلاة الوتر]: صفة الوتر: أن يأتي بركعة قبلها شفع منفصل منها، وليس لما قبلها من الفعل حد، وأقله ركعتان، ولا يوتر بركعة منفردة عن شفع قبلها (1)، وإنما قلنا: أن ركعة منفصلة (2) خلافًا لأبي حنيفة (3) في قوله: ثلاث ركعات، لقوله صلي الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" (4)، فنص على أن الوتر ركعة وروت عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة" (5)، ومتى قلنا أنه يوتر بثلاث ركعات لا يفصل بينهما بواحدة، ولا نفل قبلها لم يكن ذلك وترًا، وهذا هو الدليل على الشافعي في أن له يوتر بركعة لا نفل قبلها (6)، ويدل عليه قوله: "فإذا خفت الصبح فواحدة توتر لك ما قد صليت" (7)، فجعل من شرط استحقاقها اسم الوتر تقدم صلاة قبلها تكون وترًا لها.   (1) انظر: التفريع: 1/ 267، الكافي ص 75. (2) انظر: المدونة: 1/ 121، التفريع: 1/ 267، والرسالة ص 125. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 28، مختصر القدوري: 1/ 76. (4) أخرجه البخاري في الوتر، باب: ما جاء في الوتر: 2/ 12، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل: 1/ 508. (5) أخرجه البخاري في التهجد، باب: كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 2/ 45، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل: 1/ 508. (6) انظر: الأم: 1/ 140. (7) سبق تخريج هذا الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فصل [9 - ما يقرأ في الشفع والوتر]: المستحب في قراءة الشفع: {سبح اسم ربك الأعلى} فى الأولى، و {قل يا أيها الكافرون} في الثانية، وفي الوتر الإخلاص والمعوذتان (1)، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام: "كان يقرأ بذلك فيها" (2). فصل [10 - صفة القراءة في الوتر]: القراءة في الوتر جهرًا (3)، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر فيه بالقراءة (4)، ولأنه لو لم يكن يجهر لما تعلموا ما كان يقرأ به، لأن إخبارهم بذلك كان عن سماع ومشاهدة. فصل [11 - حكم دعاء القنوت]: دعاء القنوت غير مسنون في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان، ففيه روايتان (5)، وإنما قلنا: أنه ليس بمسنون لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس على أبي (6)، فصلى بهم عشرين ليلة ولم يقنت في النصف الأول،   (1) انظر: التفريع: 1/ 268، الرسالة ص 125. (2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: ما يقرأ في الوتر: 2/ 133، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما يقرأ في الوتر: 1/ 371، والترمذي في الوتر، باب: ما يقرأ في الوتر: 2/ 133، وقال: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين: 1/ 305. (3) انظر: الرسالة ص 124، الكافي ص 75. (4) كما جاء في الحديث السابق الذي وصف قراءته صلى الله عليه وسلم في الوتر. (5) انظر: المدونة: 1/ 195، التفريع: 1/ 266. (6) أبي بن كعب: ابن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو منذر الأنصاري المدني سيد القراء، جمع القرآن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان رأسًا في العلم والعمل، حدث عنه بنوه وأنس بن مالك وابن عباس (ت 30 هـ) (الشذرات: 1/ 32، السير: 1/ 389). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وتخلف في منزله العشرة الأخيرة، فقوموا مكانه معاذًا (1)، فصلي بهم بقية الشهر (2)، فدل ذلك على أن ترك القنوت في النصف الأول إجماع، وإلا كانوا ينكرون على أبي تركه، ووجه قوله: إنه مسنون في النصف الآخر: ما رويناه من حديث معاذ، ووجه قوله: إنه ليس بمسنون اعتباره بالنصف الأول، ولأن زمان رمضان لا يؤثر في زيادة الأدعية المسنونة في الصلاة. فصل [12 - من طلع عليه الفجر ولم يوتر]: من طلع الفجر عليه ولم يوتر فليوتر ما لم يصل الفجر، فإن صلاها فلا يوتر (3)، لأنَّه ما لم يصل الفجر يكون [وقته] (4) متصلًا بما هو وتر له، فإذا صلى الفجر فقد حال بينه وبين صلاة من غير جنسه ففات وقته. فصل [13 - فضيلة ركعتي الفجر]: لا خلاف في فضيلة ركعتي الفجر (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها" (6)، وندبه صلى الله عليه وسلم إليها ومداومته عليها [وترغيبه] (7) فيهما.   (1) معاذ بن جبل: ابن عمروس بن أوس بن عائد بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي بن سعد بن عليّ بن أسد الخزرجي المدني، وهو ممن جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله عدة أحاديث وبعثه صلى عليه عليه وسلم إلى اليمن (ت 18 هـ) (شذرات الذهب: 1/ 29، السير: 1/ 443). (2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: القنوت في الوتر: 1/ 136، وهو منقطع (نصب الراية: 2/ 126). (3) المدونة: 1/ 119 - 120، التفريع: 1/ 267. (4) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (5) انظر: المدونة: 1/ 118، التفريع: 1/ 268، الرسالة ص 126. (6) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي الفجر: 1/ 501. (7) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فصل [14 - حكم ركعتي الفجر]: اختلف أصحابنا هل هما سُنَّة أم لا (1)؟ فقال أصبغ وابن عبد الحكم: ليستا بسُنَّة فهما من الرغائب (2)، وقال أشهب: أنها سُنَّة، فوجه الأول: أن السُّنَّة ما صلاه النبي -عليه الصلاة والسلام- في جماعة وما قصر عن ذلك ولم يداوم عليه فهو من الرغائب وركعتي الفجر لم يصلهما في جماعة، ألا ترى أنه لما صلى العيدين كانت من السُّنَّة، ووجه قول أشهب (3): إن السُّنَّة عبارة عما تأكد من النوافل وترتب وتقدر، وألا يكن موكولًا إلى اختيار المصلي، وهذه صفة ركعتي الفجر لأنّها مقدرة من النوافل بركعتين لا زيادة عليهما ومرتبة قبل الفرض، فإن أخرهما عنه لم يكونا ركعتي الفجر، وسائر النوافل بخلاف ذلك. فصل [15 - إذا لم يصل ركعتي الفجر وأقيمت الصلاة]: إذا دخل المسجد ولم يركع ركعتي الفجر فأقيمت الصلاة، فإنه يخرج من المسجد فيصليها ثم يعود فيصلي معهم إن طمع أن يدرك الصلاة (4)، وإنما قلنا: أنه لا يصليها في المسجد لقوله: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" (5)، ولأن في ذلك خلافًا على الإِمام، وإنما قلنا: أنه يخرج فيصليهما لتأكدهما، ولأنه يمكن أن يجمع بين السُّنَّة والفرض.   (1) انظر: الكافي ص 73 - 74، المقدمات: 1/ 166 - 167. (2) الرغيبة: هي ما داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله بصفة النوافل أو رغب فيه بقوله: من فعل كذا فله كذا، (المقدمات: 1/ 64). وعرفها القاضي عبد الوهاب بقوله: هي بدل ما يدعو إلى العمل ليناله الفاعل (الجامع من هذا الكتاب). (3) المثبت في المخطوط أصبغ والصحيح ما أثبتناه. (4) انظر: المدونة: 1/ 118، التفريع: 1/ 268، وهذا مخالف لنص الحديث: "فلا صلاة إلا المكتوبة". (5) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن ... : 1/ 493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فصل [16 - إذا دخل الصبح ولم يوتر]: إذا [دخل] (1) الصبح ولم يوتر فإنه يوتر ثم يصلي ركعتي الفجر، فإن ضاق الوقت عن الجمع بينهما صلى الوتر ثم صلى الفجر وترك الركعتين (2)، لأن الوتر أقوى منهما وآكد، فإذا تزاحما قدم الآكد على الأضعف. فصل [17 - تأخير الوتر]: الأفضل تأخير الوتر لفضيلة قيام الليل وكثرة الصلاة إلا لمن يكون الغالب عليه ألا ينتبه، فالأفضل له أن يوتر ثم ينام (3)، [لأن النوم] (4) قبل الوتر تغرير بالوتر، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سأل أبا بكر فقال: كيف توتر؟ فقال: أصلي ثم أوتر قبل أن أنام، وسأل عمر، فقال: متى توتر؟ فقال: قبل أن أنام أصلي ثم أنام ثم أقوم فأصلي وأوتر، فقال لأبي بكر: أخذت بالحزم، وقال لعمر: أخذت بالقوة (5). فصل [18 - جواز التنفل على الراحلة]: ويجوز التنفل على الراحلة في مسافة سفر القصر حيث ما توجهت به (6)، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وكان يوتر على البعير (7)، فجاز ذلك   (1) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل النقص من السياق. (2) انظر: المدونة: 1/ 119، التفريع: 1/ 267. (3) انظر: التفريع: 1/ 267، الرسالة ص 125. (4) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل النقص من السياق. (5) أخرجه البيهقي: 3/ 36، وأخرجه الطبراني في الكبير، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام (مجمع الزوائد: 2/ 248)، ولفظه: "أنه قال لأبي بكر: حذر كيس، وقال لعمر: قوي معان". (6) انظر: المدونة: 1/ 120، الرسالة ص 135. (7) أخرجه البخاري في الوتر، باب: الوتر على الدابة: 2/ 14، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت: 1/ 487، ومالك الموطأ: 1/ 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 إلى القِبْلة وغيرها للضرورة والحاجة إلى التنفل، ولا يقدر على استقبال القِبْلة مع السير على الدابة، ولا يباح ذلك فيما قصر عن سفر القصر، خلافًا للشافعي، لأنه معنى تعلق [بالسفر] (1)، فلم يكن لما دون سفر القصر تأثير فيه اعتبارًا بالقصر والفطر. ...   (1) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل النقص على حسب السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 باب: [في الإمامة] ويقدم في الإمامة كل من كان أفضل (1)، لأنه صلى الله عليه وسلم [اعتبر] (2) ذلك، فقال: "أئمتكم شفعاؤكم" (3)، وقال: "يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنًّا" (4). فصل [1 - تزاحم الفقيه والقاريء على الإمامة]: والفقيه أولى من القارئ (5)، وهذا إذا كان كل واحد منهما يصلح أن يكون إمامًا، وذلك لأن الفقيه أعرف بحكم ما ينوبه من الحوادث في الصلاة والحاجة إلى ذلك آكد وأمس منها إلى معرفة القراءة، فذلك كان أولى. فصل [2 - إمامة المرأة]: لا تكون المرأة إمامًا في فرض ولا نافلة لا لرجل ولا لنساء (6)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أخروهن حيث أخرهن الله" (7)، وقوله: "إنكن ناقصات عقل ودين" (8)، ولأن كل من لم يصح أن يكون حاكمًا لنقصه لم يكن إمامًا   (1) انظر: المدونة: 1/ 84، التفريع: 1/ 223، الرسالة ص 127. (2) ما بين معقوفتين مطموسة، وأكمل النقص على حساب السياق. (3) لم أجده بهذا اللفظ، ورواه البيهقي: 3/ 90 بلفظ: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم"، وقال: إسناد هذا الحديث ضعيف. (4) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: من أحق بالإمامة: 1/ 465. (5) انظر: التفريع: 1/ 223، الرسالة ص 127. (6) انظر: المدونة: 1/ 85، التفريع: 1/ 223. (7) حديث غريب مرفوعًا، وهو في مصنف عبد الرزاق: 3/ 149، موقوف على ابن مسعود (نصب الراية: 2/ 36). (8) أخرجه أحمد في مسنده: 2/ 374، وله شاهد فيما رواه البخاري في صحيحه في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 في الصلاة كالمجنون، ولأنها ناقصة بالأنوثية فلم تجز إمامتها بالنساء، كما لم تجز بالرجال. فصل [3 - إمامة الأُمي للقاريء]: والأُمي (1) لا يجوز أن يكون إمامًا للقاريء (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله (3)، وهذا يمتنع في الأُمي، ولأن القراءة ركن من أركان الصلاة وتسقط عن المأموم بتحمل الإِمام إياها عنه، فلو قلنا: إن الأُمي يصح أن يكون إمامًا للقاريء لأدى ذلك إلى أحد أمرين ممنوعين: إما أن نقول: أن القراءة قد سقطت عنه فيجب من هذا جواز صلاته بغير قراءة مع قدرته عليها وذلك باطل، أو أن نقول: أنها تلزمه فيجيء منه نقص أصلٍ آخر وهو أن الائتمام لا يسقط القراءة، وإذا كان كذلك وجب منع ما أدى إليه، ولأن الأُمي إذا وجد قارئًا منع أن يصلي منفردًا، فكان بالمنع من أن يكون إمامًا أولى. فصل [4 - اختلاف نية الإِمام والمأموم]: اختلاف نية الإِمام والمأموم تؤثر في منع الائتمام به (4)، فإن كان الإِمام متنفلًا لم يجز أن يصلي خلفه مفترض، ويجوز أن يأتم المتنفل بالمفترض، وإذا كانا [في صلاة فرض] (5)، والفرضان مختلفان لم يجز أن يأتم به، وقال الشافعي في كل ذلك: أن الائتمام به جائز (6)، ودليلنا قوله صلى الله عليه   = الحيض، باب: ترك الحائض الصوم: 1/ 405، في قوله صلى الله عليه وسلم: " .. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم، قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها". (1) الأُمي: في كلام العرب الذي لا يحسن الكتابة (المصباح المنير: 23). (2) انظر: المدونة: 1/ 84، التفريع: 1/ 223. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) انظر: التفريع: 1/ 223، الكافي ص 47. (5) ما بين معقوفتين مطموسة وتم إكمال النقص بما يقتضيه السياق. (6) انظر: الأم: 1/ 172 - 173، مختصر المزني ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وسلم: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" (1) فعم، ولأن الائتمام يوجب للمصلي أحكامًا لم تكن له في الانفراد من سقوط القراءة وسجود السهو ولزومه في سهو الإِمام وغير ذلك، فيجب أن يتفقا في النية في تلك الصلاة ليصح تحمل الإِمام عنه، ولا يلزم عليه المتنفل خلف المفترض لأن النفل متسامح فيه. فصل [5 - انتظار الإِمام لمن يريد الدخول معه في الصلاة]: إذا سمع الإِمام خطى إنسان يريد أن يدخل معه في الصلاة يكره له انتظاره لأن في ذلك إضرارًا بمن خلفه بالإطالة عليهم، ومراعاة من معه أولى من مراعاة من يتوقع أن يدخل معه، ولأن في ذلك زيادة عمل في الصلاة لأجل آدمي، ولا يلزم عليه صلاة الخوف لأنها مبنية في الابتداء على مراعاة الجماعة وانتظارهم. فصل [6 - مقامات المأمومين مع الإِمام]: مقامات المأمومين مع الإِمام سبعة: أحدها: أن يكون المأموم رجلًا واحد، فهذا يستحب له أن يقف على يمين الإِمام (2)، لحديث ابن عباس قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي فتوضأ وقمت عن يساره فأدارني عن يمينه" (3). والثاني: أن يكون رجلًا فأكثر، فهذا يستحب أن يكون خلفه (4)، لأن ذلك هو الذي مضي عليه العمل منه صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه بعده، وحكي عن ابن مسعود في الاثنين إن صح: يستحب لهما أن يقف أحدهما عن يمين   (1) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة 221 في الهامش رقم 7. (2) انظر: المدونة: 1/ 86، التفريع: 1/ 224، الرسالة ص 127. (3) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: يقوم عن يمين الإمام: 1/ 171. (4) انظر: المدونة: 1/ 86، التفريع: 1/ 224، الرسالة ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الإِمام، والآخر عن شماله والإمام في الوسط (1)، ودليلنا حديث أنس: "أن أُم مليكة دعت رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته فأكل" ثم قال: "قوموا فلأصلي بكم"، فقام وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز خلفنا" (2)، ولأنه جمع فأشبه الثلاث. والثالث: أن يكون رجل وصبي فينظر، فإن كان الصبي عاقلًا قد بلغ إلى حيث يؤمن أن يتركه ويمضي، فهذا حكمه حكم الرجل، فيقف هو والرجل خلف الإِمام (3)، والدليل عليه حديث أنس الذي رويناه، وإن كان صغيرًا لا يؤمن منه ذهابه وبقاء الرجل خلف الإِمام وحده، فإن مقام الرجل عن يمين الإِمام كالواحد. والرابع: أن تكون وحدها، فهذه تقف خلف الإِمام (4)، لقوله: "أخروهن حيث أخرهن الله" (5)، وقوله: "خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" (6)، فإن صلت إلى جنبه لم تبطل صلاته ولا صلاتها (7)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: تبطل صلاة الإمام إلا في صلاة مختلفة (8)، وذلك لأنه موقف للمأموم [] (9)، فلم تبطل به صلاة الإِمام كوقوفه في وسط الصف واعتبارًا بصلاة الجنازة.   (1) مصنف عبد الرزاق: 2/ 409. (2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة على الحصير: 1/ 101، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: جواز الجماعة في النافلة: 1/ 457. (3) انظر: المدونة: 1/ 86، الرسالة ص 128. (4) انظر: المدونة: 1/ 86، التفريع: 1/ 224. (5) سبق تخريج الأثر قريبًا. (6) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها .. : 1/ 326. (7) انظر: المدونة: 1/ 102، التفريع: 1/ 244. (8) انظر: مختصر القدوري: 1/ 81، تحفة الفقهاء: 2/ 228. (9) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 والخامس: أن يكون رجلًا وامرأة فيقف الرجل على يمين الإِمام والمرأة خلفهما (1)، وذلك لما روى أنس: "أن النبي عليه السلام أمَّهُ وامرأة معهم فجعله عن يمينه، والمرأة من خلف" (2)، ولأنه رجل واحد وكان مقامه عن يمين الإِمام، كما لو لم تكن امرأة. والسادس: أن يكون رجلان فأكثر وامرأة واحدة أو جماع نساء فيقف الرجال خلف الإِمام والنساء خلف صف الرجال (3)، وذلكم لقوله: "ليلني منكم ذووا الأحلام والنهي" (4)، وقوله: "أخروهن حيث أخرهن الله" (5)، وفي حديث أنس أنه قال: صففت أنا واليتيم وراءه وقامت أم مليكة والعجوز من ورائنا (6)، ولأنه لما وجب أن تقف خلفه مع الرجل الواحد إذا كان إلى جنبه، وكذلك يجب أن تقوم خلف صف الرجال. والسابع: أن تكون نساء وحدهن فمقامهن خلف الإِمام صفًا واحدًا، وفي هذا القدر كفاية في الشبه على ما [بيناه] (7). فصل [7 - صلاة المنفرد خلف الصف]: ومن لم يجد مدخلًا في الصف صلى منفردًا خلف الصف (8)، خلافًا لأحمد (9) في قوله: أن صلاته باطلة، لأن كل من صحت صلاته خلف الصف إذا كان معه غيره صحت صلاته إذا انفرد أصله المرأة.   (1) انظر: المدونة: 1/ 86، التفريع: 1/ 224، الرسالة ص 127 - 128. (2) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: جواز الجماعة في النافلة: 1/ 458. (3) انظر: التفريع: 1/ 224، الرسالة ص 127. (4) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها: 1/ 323. (5) سبق تخريج الحديث. (6) سبق تخريج الحديث. (7) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ وأكمل النقص من السياق. (8) انظر: المدونة: 1/ 102، التفريع: 1/ 260. (9) انظر: مسائل الإِمام أحمد ص 115، مختصر الخرقى: 1/ 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فصل [8 - جذب المنفرد إليه رجلًا]: ولا يجبذ إليه رجلًا (1)، خلافًا للشافعي (2)، لأن ذلك يوقع خللًا في الصف وذلك ممنوع. ...   (1) انظر: المدونة: 1/ 102، التفريع: 1/ 260. (2) وهناك رأي آخر له: يقول: لا يجذب إلى نفسه أحدًا (روضة الطالبين: 1/ 360). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 باب [في صلاة الجماعة] صلاة الجماعة في غير الجمعة مندوب إليها متأكدة الفضيلة (1)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة" (2)، وقوله: "لقد هممت أن آمر بنار تضرم فأحرق بيوت قوم يتخلفون عن الجماعة" (3)، وذلك يدل على شدة تأكيدها، وإذا ثبت ذلك فليست بشرط في صحة الأداء، خلافًا لمن ذهب إلى وجوبها (4) على الأعيان أو الكفايات، لأنه صلى الله عليه وسلم لما فاضل بينهما وبين الانفراد جعل حظها الفضيلة دون الآخر، ولأنها صلاة تفعل جماعة وفرادى فلم تكن الجماعة من شرط صحتها كالنوافل. فصل [1 - إعادة الصلاة جماعة لمن صلى وحده]: ويستحب للمصلي وحده أن يعيدها في الجماعة (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جئت فصلِّ مع الناس وإن كنت قد صليت" (6)، وليحوز فضيلة الجماعة.   (1) انظر: المدونة: 1/ 88 - 89، الرسالة ص 127. (2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة: 1/ 198، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل صلاة الجماعة: 1/ 459. (3) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: وجوب صلاة الجماعة: 1/ 158. (4) ذهب إلى ذلك الإِمام أحمد وداود. (مسائل الإِمام أحمد ص 106، المغني: 2/ 177، المجموع: 4/ 121، المحلي: 4/ 265). (5) انظر: المدونة: 1/ 87، التفريع: 1/ 263، الرسالة ص 127. (6) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: فيمن صلى في بيته ثم أدرك الجماعة يصلي معهم: 100/ 388، وقال النووي في الخلاصة: إسناده ضعيف (نصب الراية: 2/ 150). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فصل [2 - عدم إعادة صلاة المغرب جماعة لمن صلاها منفردًا]: ولا يعيد المغرب وحدها (1)، خلافًا للمغيرة (2)، والشافعي (3)، لأنها وتر فلا تعاد، ولأنه يكون متنفلًا بثلاث ركعات وذلك خارج عن جنس أعداد النفل. فصل [3 - من صلى جماعة لم يعد في جماعة أخرى]: ومن صلى في جماعة لم يعد في أكثر منها (4)، خلافًا للشافعي (5)، لأنه لا فضل لجماعة على جماعة، وتُكره إعادة الجماعة في المساجد التي لها أئمة مرتبون (6)، لما روي أبو هلال (7) عن الحسن (8) قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلوا المسجد قد صُلِّيَ فيه صلوا أفرادًا (9)، ولأن ذلك يؤدي إلى تشتيت الكلمة، ووقوع العداوة، ولأن فيه تطرقًا لأهل البدع إلى مخالفة الأئمة وانفرادهم بالصلاة، ويجوز ذلك في مساجد الصحاري والمواضع التي ليست لها أئمة راتبة للأمن مما ذكرنا. ...   (1) انظر: المدونة: 1/ 87، التفريع: 1/ 163، الرسالة ص 127. (2) انظر الكافي ص 51. (3) انظر روضة الطالبين: 1/ 343، المجموع: 4/ 122. (4) انظر: المدونة: 1/ 89، التفريع: 1/ 263، الرسالة ص 127. (5) انظر: روضة الطالبين: 1/ 344. (6) انظر: المدونة: 1/ 89، التفريع: 1/ 262، الرسالة ص 128. (7) أبو هلال: محمَّد بن سليم أبو هلال الراسبي البصري، قيل: كان مكفوفًا وهو صدوق فيه لين من السادسة، مات في آخر سنة سبع وستين بعد المائة، وقيل قبل ذلك (تقريب التهذيب ص 481). (8) الحسن البصري: ابن أبي الحسن السيار أبو سعيد مولى زيد بن ثابت الأنصاري، ثقة، فقيه، فاضل مشهور، وكان يرسل كثيرًا ويدلس، وهو أهل الطبقة الثالثة، رأى عثمان وطلحة (ت 110 هـ) (تقريب التهذيب ص 160، شذرات الذهب: 1/ 136). (9) أخرجه الشافعي في الأم: 1/ 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 باب [الجمع بين الصلاتين] الجمع بين الصلاتين جائز في السفر يجمع بينهما في وقت أيهما شاء إذا جدَّ به السير (1)، والاستحباب في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، هذا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء (2)، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الجمع إلا بعرفة والمزدلفة (3)، دليلنا حديث معاذ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء" (4)، وحديث ابن عمر: "كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا عجل به أمر جمع بين هاتين الصلاتين" (5)، واعتبارًا بسفر الحج. فصل [1 - الجمع في طويل السفر وقصيره]: ويجوز ذلك في طويل السفر وقصيره (6)، خلافًا للشافعي (7)، حين يقول: لا يجوز في السفر القصير؛ لأنه سفر مباح فأشبه ما تقصر في مثله الصلاة،   (1) جدَّ به السير: إذا عظم وتعب منه (المصباح المنير ص92). (2) انظر: المدونة: 1/ 111، التفريع: 1/ 261 - 262، الرسالة ص132. (3) معنى الجمع عند أبي حنيفة: أن يصلي الأولى منهما وهي الظهر أو المغرب في آخر وقتها، ثم يدخل وقت الأخرى منهما فليصليها وهي العصر والعشاء (مختصر الطحاوي ص33 - 34). (4) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر: 1/ 450. (5) أخرجه البخاري في التقصير، باب: يؤذن ويقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء بلفظ: "إذا عجل به السير": 2/ 139، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر: 1/ 488. (6) الفواكه الدواني: 1/ 274. (7) انظر: الأم: 1/ 185 - 187، الإقناع ص 48 - 49، في أحد قوليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لأن كل رخصة تعلقت بالصلاة جازت في الحضر لعذر، جازت في قصر السفر وطويله كسائر الرخص. فصل [2 - الجمع في الحضر]: ويجوز الجمع في الحضر لعذر المطر (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2)، لحديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء لغير خوف ولا سفر (3)، قال مالك: أرى ذلك في المطر (4). فصل [3]: وذلك في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر (5)، خلافًا للشافعي (6)، لأن الجمع رخصة لتعجيل الناس في انقلابهم إلى بيوتهم، وهذا في الليل لأن النهار لا بد لهم من الانتشار والتشاغل بمعايشهم والأُمور التي لا يقطعهم المطر عنها، فلم يكن للجمع فائدة فيما له أريد، والخبر محمول على أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها، لأن آخر وقت الظهر هو عندنا أول وقت العصر بغير فصل على ما ذكرناه (7).   (1) انظر: المدونة: 1/ 110، التفريع: 1/ 262، الرسالة ص 132. (2) انظر: المبسوط: 1/ 149. (3) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر: 1/ 454. (4) الموطأ: 1/ 144. (5) انظر: المدونة: 1/ 101، التفريع: 1/ 261 - 262. (6) انظر: مختصر المزني ص 25، الإقناع ص 48 - 49، روضة الطالبين: 1/ 400. (7) انظر: المدونة: 1/ 110، التفريع: 1/ 262، الرسالة ص 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فصل [4 - الجمع لغير المطر]: والجمع جائز مع انقطاع المطر وبقاء الطين والظلمة (1)، خلافًا للشافعي (2) لأن المشقة التي لأجلها جمع بينهما حال المطر باقية مع انقطاعه وبقاء الوحل فجاز الجمع. ...   (1) انظر: المدونة: 1/ 110، التفريع: 1/ 262، الرسالة ص 132. (2) انظر: الإقناع ص 49، روضة الطالبين 1/ 400، الأم: 1/ 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 باب [قضاء فوائت المغمى عليه] ولا يقضي مغمى عليه ما فاته من الصلاة حال إغمائه (1)، وقال أبو حنيفة: يقضي الخمس فما دون (2)، ودليلنا قوله: "رفع القلم عن ثلاث .. فذكر المغلوب حتى يفيق" (3)، ولأنها صلوات فاتت بالإغماء فلم يلزم قضاؤها كما لو زاد على الخمس، ولأنه عذر يسقط قضاء الصلاة فيما زاد على اليوم والليلة، فكذلك فيما دونها أصله الحيض. فصل [1 - أوقات الضرورة والتضييق]: قد ذكرنا في أول الكتاب أوقات التوسعة والاختيار (4)، ونحن نذكر الآن أوقات الضرورة والتضيق: فهي للحائض تطهر، والمغمى عليه يفيق، والصبي يبلغ، والكافر يسلم، والناسي يذكر، والمريض يخاف أن يغلب على عقله، والمسافر يجد به السير، فمن أدرك من هؤلاء وقت جميع الصلاة أو ما يصلي فيه ركعة منها لزمه أن يصليها، ومن أدرك مقدار أقل من ركعة، لم يدركها وكانت فائتة (5)، وشرح هذه الأوقات هو: أن عقيب الزوال بمقدار أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر يختص الطهر لا يشاركها العصر فيه بوجه، ثم ما بعد   (1) انظر: المدونة: 1/ 92، التفريع: 1/ 257، الرسالة ص 132. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 24، مختصر القدوري: 1/ 101. (3) أخرجه أبو داود في الحدود، باب: في المجنون يسرق: 4/ 558، والنسائي في الطلاق، باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج: 6/ 127، وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المعتوه: 1/ 28، والترمذي في الحدود، باب: ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد، وقال: حسن غريب: 4/ 24. (4) انظر: الصفحات التالية: 195 - 199. (5) راجع في جملة هذه الأحكام وما بعدها المراجع التالية: المدونة: 1/ 93، التفريع: 1/ 256 - 257، الرسالة ص 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ذلك إلى قبل الغروب بخمس ركعات مشترك بين الظهر والعصر ووقت لهما جميعًا، فإذا صار قبل المغيب بأربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر اختصت العصر بالوقت ولا يشاركها الظهر فيه بوجه. وبيان ذلك: أن الحائض إذا طهرت وقد بقي من النهار قدر ثمان ركعات صلت الظهر والعصر لأنها قد أدركت وقتهما، وكذلك إن بقي عليها سبع ركعات أو ست أو خمس، فإن بقي أقل من خمس: صلت العصر ولم تصل الظهر لأن وقتها قد فات، لأنا قد بيَّنا أن قبل المغيب بقدر أربع ركعات وقت للعصر لا يُشركها الظهر فيه بوجه، فإذا لم تدرك من وقت الظهر شيئًا لم يلزمها أن تصليها سواء أدركت أربع ركعات قبل المغيب فقط أو أربعًا وبعض الخامسة من الوقت المشترك، فإنه لا يلزمها إلا العصر، لأن ذلك القدر من وقت الظهر لا معتبر بإدراكه لأن الاعتبار بإدراك ركعة، فما زاد عليها على ما بينا، وكذلك حكم المغرب والعشاء الآخرة لأن ما بعد المغرب بقدر ثلاث ركعات للمغرب خاصة لا يشركها العشاء فيه بوجه، وما بعد ذلك إلى ما قبل الفجر بأربع ركعات مشترك بينها وبين العشاء الآخرة، فإذا صار قبل الفجر بأربع ركعات اختص الوقت بالعشاء الآخرة، واختلف في الحائض إذا طهرت قبل الفجر بأربع ركعات. قال مالك: تصلي المغرب والعشاء لأنها إذا فرغت من المغرب بقيت لها ركعة للعشاء (1)، وقال عبد الملك ومحمد بن مسلمة (2): تصلي العشاء ولا تصلي المغرب (3) لأن وقتها قد فات لأن ما قبل الفجر بأربع ركعات يختص العشاء الآخرة، ولا اعتبار بإدراك ركعة منها بعد المغرب، لأن المغرب حينئذ   (1) انظر: التفريع: 1/ 257، الرسالة ص 133. (2) محمَّد بن مسلمة: ابن محمَّد بن هشام أبو عبد الله، من أصحاب مالك، أفقه فقهاء المدينة بعد مالك، أخذ عنه أحمد بن المعذل وغيره وجده هشام كان أميرًا بالمدينة (ت 206 هـ). (انظر: الديباج المذهب: 1/ 226، شجرة النور الزكية ص 56). (3) انظر: التفريع: 1/ 256، الرسالة ص 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تصلي في وقت غيرها، وبهذا فارقت إدراك خمس ركعات، لأن الظهر تصلي في وقتها ووقت العصر والمغرب، ها هنا تصلي بعد فوات وقتها. وهذا الحكم مستمر في الحائض تطهر، والطاهر تحيض والمغمى عليه يفيق، والكافر يسلم، والصبي يبلغ، والناسي يذكر. يبين ذلك أن المرأة إذا أخرت الظهر والعصر إلى أن بقي عليها من النهار قدر خمس ركعات ثم حاضت فلا قضاء عليها إذا طهرت لأنها حاضت في وقتها، فإن حاضت وقد بقي عليها قدر أربع ركعات قضت الظهر لأنها حاضت بعد فوات وقتها وتعلقها بذمتها. وكذلك حكم الليل (1)، وكذلك الناسي إذا نسي صلاتي الظهر والعصر وهو حاضر فذكرهما في السفر، وقد بقي عليه وقت سافر من النهار قدر ثلاث ركعات، فإنه يصليها صلاة سفر لإدراكه وقتها [وهو مسافر] (2)، وإن ذكرهما وقد بقي عليه حين سافر دون ذلك قضى الظهر حضرية لتعلقها بذمته والعصر سفرية لبقاء وقتها، ولو نسيها في سفر فذكرهما في حضر وقد بقي من وقتها حين قدومه خمس ركعات صلاهما حضريتين لبقاء وقتهما، فإن ذكرهما وقدومه لدون ذلك صلى الظهر سفرية لفوات وقتها والعصر حضرية لبقاء وقتها، أما المريض إذا خاف أن يغلب على عقله فله أن يقرب العصر إلى الظهر في أول وقت الظهر، وكذلك المغرب والعشاء، وكذلك المسافر إذا جدَّ به السير فله أن يقرب كالمريض لأنهما من أهل الضرورات. فصل [2 - إدراك الصلاة ودليله]: وأما قولنا: إنه لا يكون مدركًا للصلاة إلا بأن يدرك من وقتها قدر ركعة فأكثر (3) خلافًا لأبي حنيفة (4)، والشافعي (5) في قولهما أنه يكون مدركًا لها   (1) انظر: التفريع: 1/ 256، الرسالة ص 133. (2) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ، وأكمل النقص بما يقتضيه السياق. (3) انظر: المدونة: 1/ 93، التفريع: 1/ 220. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 24، المبسوط: 1/ 154 - 155. (5) الشافعي في أحد قوليه (انظر مختصر المزني 12، روضة الطالبين: 1/ 189). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 بإدراك جزء من الوقت ولو بقدر تكبيرة الإحرام، فدليله قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" (1)، فعلق كونه مدركًا للصلاة بإدراك ركعة، فدل أنه لا يكون مدركًا لها بأقل من ذلك، ولأنه مدرك لمقدار أقل من ركعة دليله الجمعة. فصل [3 - من أدرك ركعة قبل الغروب أدرك العصر وفاته الظهر]: فأما قولنا: إنه إذا أدرك ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر وفاتته الظهر (2)، خلافًا للشافعي في قوله: إنه يكون مدركًا للصلاتين (3)، ودليلنا قوله: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (4) فأخبر عما يدرك بإدراكه ركعة من تلك الصلاة، فدل على أنه لا يكون مدركًا لغيرها، وسئل معاذ عن الحائض تطهر قبل غروب الشمس فقال: تصلي العصر هكذا، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نعلم نساءنا" (5)، ولأن ما قبل غروب الشمس بمقدار أربع ركعات يختص العصر لا يشاركها فيه الظهر بوجه للحاضر، فإن سلموا ذلك ثبت أن الظهر يفوت لمن لم يدرك إلا وقت العصر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يفوت وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى" (6)، ولقوله: "وقت الظهر ما لم يدخل وقت العصر" (7)، وإن لم يسلموه دللنا   (1) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: من أدرك العصر ركعة: 1/ 139، ومسلم في المساجد، باب: من أدرك ركعة من الصلاة: 1/ 424. (2) انظر: التفريع: 1/ 220، الرسالة ص 133. (3) انظر: مختصر المزني ص 11، المجموع: 3/ 68 - 69. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) أخرجه الدارقطني: 1/ 222، وقال عنه: لم يروه غير محمَّد بن سعيد وهو متروك، الحديث. (6) وهو من قول ابن عباس: أخرجه ابن أبي شيبة: 1/ 5. (7) أخرجه مسلم في المساجد، باب: أوقات الصلوات الخمس: 1/ 426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 عليه بالاتفاق على أن لها وقتًا يخصها وأقله ما يستغرق فعلها، ولأنه لو كان بكونه مدركًا لركعة من الوقت الآخر من العصر مدركًا للظهر والعصر، لكان إذا أغمي عليه بعد الزوال بقدر ركعة يلزمه قضاء الظهر والعصر لكونه مدركًا لوقتها وذلك خلاف قولهم. إذا ثبت ما ذكرناه، فالاعتبار فيمن ذكرناه بالوقت الذي يعتبر منه إدراكهما قدر خمس ركعات تختلف، فمنهم من يعتبر بأن يدرك ذلك بعد فراغه من غسله أو وضوئه وما يصلحه من الأمر اللازم له، وهذا في الحائض تطهر والصبي يبلغ فلو طهرت الحائض وبلغ الصبي لقدر خمس ركعات، فإلى أن تطهر وتلبس وبقي عليه قدر ركعة كان عليه العصر دون الظهر، ولو لم يبق من الوقت شيء لم يكن عليه شيء ولا ينظر إلى ما يبقى عليها من وقت انقطاع الدم أو البلوغ، فأما النصراني يسلم فقال ابن القاسم: يعتبر له الإدراك من وقت إسلامه لا من فراغه من أمره (1)، وقال غيره: يعتبر بفراغه من طهارته وستر عورته كما يعتبر ذلك في المريض، لأن بإسلامه قد سقطت المؤاخذة عنه بما كان منه حال كفره. وحكم المغمى عليه عند مالك حكم الحائض والصبي (2)، وأجراه أبو حنيفة مجرى النصراني يسلم (3)، في أن الاعتبار بالباقي من الوقت حين الإفاقة والإِسلام، وقول مالك أصح وأرجح، لأنا إن سوينا بين النصراني وبين الحائض كان المغمى عليه معتبرًا بهما، وإن فرقنا بينهما كان المغمى عليه أشبه بالحائض منه بالنصراني لأنه لا صنع له في إغمائه في ترك الصلاة فيه، والله أعلم.   (1) انظر: المدونة: 1/ 92، التفريع: 1/ 257. (2) انظر: المدونة: 1/ 92، التفريع: 1/ 257. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 24، مختصر القدوري: 1/ 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 باب [- في صلاة المسافر] وللسفر تأثير في جواز قصر الصلاة فيه لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" (2)، ولا خلاف في ذلك (3). فصل [1 - الصلوات التي تقصر]: والصلوات المقصورة هي الرباعية، وقصرها إلى نصفين، وما كان منها يسر القراءة فيه أسرت في الباقي منه، وما كان يجهر في نصفه الأول دون الآخر، فإنه يجهر فيما يصليه، والذي يقصر هو ما يسر فيه، مثل العشاء الآخرة فيصليها مقصورة ركعتين يجهر بالقراءة في كليهما، والمغرب والصبح لا يدخلان في القصر ولا خلاف في هذا (4). فصل [2 - حكم القصر]: اختلف أصحابنا في القصر، هل هو فرض للمسافر أو سُنَّة (5): فذهب أكثرهم إلى أن فرضه التخيير بين القصر والإتمام إلا أن القصر أفضل وهو سنته، وهذا نص مالك -في رواية ابن وهب-: أن القصر سُنَّة المسافر (6)، وذهب آخرون إلى أن القصر فرضه، وهو قول جماعة من البغداديين (7)، ووجه القصر أنه صلى الله عليه وسلم كان   (1) سورة النساء، الآية: 101. (2) أخرجه أبو داود في الصيام، باب: اختيار الفطر: 2/ 797، والنسائي في الصيام باب: وضع الصيام على المسافر: 1/ 149، وابن ماجه في الصيام، باب: الإفطار للحامل والمرضع: 5331، والترمذي في الصوم، باب: الرخصة في الإفطار للحبلى، وقال: حديث حسن: 3/ 94. (3) انظر الإجماع لابن المنذر ص 42، المغني: 2/ 255. (4) انظر الإجماع ص 43، المغني: 2/ 267. (5) انظر: التفريع: 1/ 258، الكافي ص 67 - 68. (6) انظر: التفريع: 1/ 258، الكافي ص 67 - 68. (7) وهو يشير إلى الرواية المرجوحة من مذهب مالك، وهي أن القصر واجب، وقد أخذ به جماعة من البغداديين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 يقصر في السفر ولم يتم (1)، ولأن كل صلاة فرض ردت إلى ركعتين، فذلك هو الواجب فيها، أصله الجمعة، والدليل للقول: أنه سُنَّة قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (2)، وهذا عبارة المباح دون الفرض، وقال أنس: كنا نسافر مع النبي -عليه الصلاة والسلام- فمنا المقصر ومنا المتمم، فلا يعيب بعضنا على بعض (3)، ولأن أصحابنا هؤلاء قد أجازوا للمسافر أن يصلي خلف المقيم ويتم الصلاة، فلو كان فرضه القصر ما جاز له الإتمام، كما أن الحاضر لما كان فرضه الإتمام لم يكن له أن يقصر خلف مسافر. فصل [3 - هل للسفر الذي يقصر فيه حد معلوم؟]: والسفر الذي يقصر فيه محدود (4)، خلافًا لداود (5) في قوله: إن القصر في السفر الطويل والقصير، لان الأصل الإتمام والقصر رخصة لأجل المشقة، وسفر الفرسخين والثلاثة لا مشقة فيه، فكان كالطواف في سكك (6) المدينة، ولأنه إجماع الصحابة لأنهم اختلفوا في حد السفر الذي يقصر الصلاة فيه ولم يختلفوا في وجوب أصل التحديد (7).   (1) وهذا معلوم من سيرته لمن تتبع الأحاديث والأخبار في أسفاره صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 464): وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أتم الرباعية في سفره البتة ... ولكن يدل على أن هذا مجرد فعل منه صلى الله عليه وسلم لا يدل على وجوب القصر غايته أنه سُنَّة. (2) سورة النساء، الآية: 101. (3) أخرجه البيهقي: 3/ 154، وفيه عمران التغلبي مختلف فيه، قال ابن دقيق العيد: لا يحتج بحديثه وذكره ابن حبان في الثقات. (4) انظر: المدونة: 1/ 114، التفريع: / 258، الرسالة ص 139. (5) انظر: المحلي: 5/ 3 - 34، المجموع: 4/ 215. (6) السكة: الزقاق، أو الطريق المصطفة من النخل (المصباح المنير ص 282). (7) انظر: المغني: 2/ 256 - 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فصل [4 - حد السفر الذي يقصر فيه]: والظاهر من المذهب أنه ثمانية وأربعون ميلًا (1)، وقال أبو حنيفة: ثلاثة أيام (2)، ودليلنا قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} فعم (3)، ولم يخص، ولأنها مسافة تلحق المشقة في قطعها غالبًا فجاز القصر فيها، أصله مسافة الثلاثة أيام. فصل [5 - شروط القصر]: ولا يجوز القصر إلا إذا فارق بلده ولم يقابله شيء منه (4)، خلافًا لبعض المتقدمين (5) في قوله: أنه يقصر إذا نوى السفر وإن كان ببلده، لقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (6)، والضرب في الأرض لا يكون بالنية، وإنما يكون بالفعل، ولأنه إذا كان مسافرًا لم يصر مقيمًا، كذلك إذا كان مقيمًا لا يكون مسافرًا بمجرد النية. فصل [6 - متى يبدأ القصر]: وفي المسافة التي يقصر ببلوغه إليها روايتان (7): إحداهما أن يفارق بيوت بلده ولا يحاذيه ولا عن يمينه وشماله شيء منها، والآخر أن يكون من المصر على   (1) انظر: المدونة: 1/ 114، التفريع: 1/ 258، الرسالة ص 129، والميل بالكسر -عند العرب: مقدار مدى البصر من الأرض وهو أربعة آلاف ذراع (المصباح المنير ص 588). (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 33، مختصر القدوري: 1/ 105. (3) أراد بالعموم الإطلاق، لأن قوله: {ضَرَبْتُمْ} مطلقة لم تقيد بمسافة ولا مكان ولا زمان، فاقتضى هذا الظاهر جواز القصر في جميع السفر. (4) انظر: المدونة: 1/ 112، التفريع: 1/ 258، الرسالة ص 129. (5) وهو قول عطاء وسليمان بن موسى أنهما أباحا القصر في البلد لمن نوى السفر وغيرهم (المغني: 2/ 260). (6) سورة النساء، الآية: 101. (7) انظر: المدونة: 1/ 112، التفريع: 1/ 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ثلاثة أميال، فوجه الأولى أنه مفارق لبيوت بلده فأشبه إذا بلغ مسافة ثلاثة أميال، ووجه الثانية: أن ما دون الثلاثة أميال في حكم البلد، بدليل وجوب النزول منه إلى المصر للجمعة فكان في الحكم كمن لم يفارق البلد. فصل [7 - انتهاء القصر]: ويقصر حتى يدنوا راجعًا وينتهي إلى حيث جاز له القصر في ابتداء سفره (1)، لأنه ما لم يبلغ ذلك فهو مسافر، فإذا بلغ صار حاضرًا فلم يجز له القصر. فصل [8 - الاستمرار في القصر]: وله أن يستمر في القصر وإن أقام ببعض البلاد يومًا أو يومين أو ثلاثة أيام بعزم الإقامة أو بغير عزم، فأما إن أقام أربعة أيام فأكثر، فإن كان بعزيمة لم يجز له القصر، وإن كان بغير عزيمة ونيته أن يقيم ما دام حاجته كافية يومًا أو يومين أو أكثر فله أن يقصر (2)، وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة خمسة عشر يومًا صار مقيمًا وإن نوى إقامة دونها لم يكن مقيمًا (3)، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا" (4)، وقد علم أن المقام بمكة إذ ذاك كانت تحرم على المهاجر، فلما استثنى الثلاثة دل على أنها ليست بإقامة وإن ما زاد عليها إقامة. فصل [9 - القصر أفضل من الإتمام]: والقصر أفضل من الإتمام (5)، خلافًا للشافعي (6)، لأن أكثر الروايات عنه   (1) انظر: المدونة: 1/ 114، الرسالة ص 139. (2) انظر: المدونة: 1/ 114 - 115، التفريع: 1/ 258 - 259، الرسالة ص 139. (3) انظر: مختصر القدوري: 1/ 106. (4) أخرجه مسلم في الحج، باب: جواز الإقامة بمكة للمهاجر: 1/ 986، وأخرجه البخاري بلفظ قريب منه في مناقب الأنصار، باب: إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ص 664 - 267. (5) انظر: المدونة: 1/ 115، التفريع: 1/ 258. (6) انظر: الأم: 1/ 179، الإقناع ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 صلى الله عليه أنه كان يقصر (1)، ولقوله: "خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا" (2)، ولأن القصر متفق على جوازه والإتمام مختلف فيه، فكان ما اتفق عليه أولى بالفضيلة. فصل [10 - ابتداء القصر من حين العزم على السفر]: ومن عزم على سفر بريدين (3)، فلما [بلغ] (4) إليهما عزم على تمام الأربعة البرد لم يقصر لأنه لم يحصل منه عزم على الحد الذي تقصر فيه الصلاة لأن [ .......... ] (5) منفرد بعزمه، ولكن يقصر في رجوعه لأنه عازم على سفر المسافة التي تقصر فيها (6). فصل [11 - من صلى صلاة سفر ثم عزم على الإقامة]: إذا صلى المسافر في سفره صلاة سفر، ثم عزم على الإقامة فلا إعادة عليه (7) لأنها أديت على ما لزم من فعلها فلم يجب إعادتها بتغير حال المصلي بعد قضائها، كالمريض يصلي جالسًا ثم يصح بعد الفراغ، والعادم للماء يصلي بالتيمم ثم يصيبه بعد الفراغ. فصل [12 - من غير نيته من قصر إلى إقامة في الصلاة]: وإن افتتحها بنية القصر ثم عزم على الإقامة قبل الفراغ منها جعلها نافلة إن كان قد صلى منها ركعة ثم استأنف صلاة مقيم، لأنه إن لم يفعل ذلك حصل منه أن المقيم يصلي صلاة مقصورة، أو يبني على صلاة سفر ونقل النية مكروه، فإن أتمها أجزاه (8).   (1) كما سبق بيانه ص 267 - 268. (2) أخرجه الشافعي عن سعيد بن المسيب مرسلًا (الأم: 1/ 179)، وأبو حاتم في العلل (الهداية: 3/ 345). (3) البريد في اللغة: الرسول، ثم استعمل في المسافة التي يقطعها وهي اثنا عشر ميلًا (المصباح المنير ص 43). (4) و (5) ما بين معقوفتين مطموسة. (6) انظر: المدونة: 1/ 113، التفريع: 1/ 258. (7) انظر: التفريع: 1/ 259، الكافي ص 67 - 68. (8) انظر: المدونة: 1/ 116، التفريع: 1/ 259، الكافي ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 باب [في قضاء الفوائت] الترتيب في قضاء الفوائت (1) واجب بالذكر ساقط بالنسيان في الخمس فدونهن، ولا يُستحق فيما زاد عليهن، فإذا كان المتروك صلاة واحدة أو اثنتين إلى خمس فذكرها وقد حضر وقت صلاة أتى بالفوائت، وإن فات وقت الحاضرة (2)، خلافًا للشافعي في قوله: إن الترتيب في القضاء (3) غير واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" (4)، وقوله: "لا صلاة لمن عليه صلاة" (5)، ولأنه صلى الله عليه وسلم حبس يوم الخندق حتى فاتته الظهر والعصر والمغرب، فلما نزل صلاها على الترتيب (6). فصل [1 - البدء بالفائتة وإن خيف فوت الحاضرة]: وإنما قلنا: أنه يبدأ بالفائتة وإن خاف فوات الحاضرة خلافًا لأبي حنيفة (7)،   (1) المقصود بالفوائت: الصلوات التي فات وقتها ولم يصلها. (2) انظر: المدونة: 1/ 123، التفريع: 1/ 253، الكافي ص 55. (3) انظر: الأم: 1/ 78، مختصر المزني ص 20. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (243). (5) ذكره ابن الجوزي في العلل بإسناده عن إبراهيم الحربي، قال: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: لا أعرف هذا، وقال الشيخ: في الإِمام ما عرفنا أصلًا (نصب الراية: 2/ 166). (6) أخرج النسائي في الصلاة، باب: كيف يقضي الفائت من الصلاة: 1/ 239، الترمذي في الصلاة، باب: ما جاء الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ: 1/ 337، وهو منقطع لكنه يعتضد بأحاديث أخرى صحيحة. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وابن وهب (1)، ومحمد بن عبد الحكم (2)، لقوله: "صلى الله عليه وسلم: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" (3)، ولأن كل ترتيب وجب مع سعة الوقت وجب مع ضيقه، أصله الأركان. فصل [2 - من دخل في الحاضرة ثم ذكر الفائتة]: إن دخل في الحاضرة ثم ذكر الفائتة بطلت عليه وعلى من خلفه، وقيل: تبطل عليه ولا تبطل على من خلفه كالحدث (4)، فوجه الأول: أن الترتيب هو نفس [الصلاة] (5) أو شرط لا يتصور انقطاعه عنها، فكان متعديًا إلى فساد صلاة المأموم اعتبارًا بنسيان تكبيرة الإحرام والقراءة، ويفارق نسيان الطهارة لأنها ذكر منفصل عن الصلاة غير مرتبط بفعلها، ووجه الثاني: اعتباره بالحدث بعلة أنه معنى يفسد الصلاة، أو ذكرها قبل الدخول فيها لم يجز ابتداؤها معه فلم تتعد إلى صلاة المأموم. فصل [3 - من نسي الصبح ثم ذكرها عند الغروب بعد أن صلى الظهر والعصر]: ومن نسي الصبح ثم صلى بعدها الظهر والعصر ثم ذكرها عند الغروب أتى بالصبح (6)، لأنها قد تعلقت بذمته واستحببنا له إعادة الظهر والعصر لأجل الترتيب، فإن لم يفعل فلا شيء عليه لأن الترتيب مشترط بالذكر ساقط بالنسيان   (1) انظر: الكافي ص 53 - 54. (2) محمَّد بن عبد الحكم: هو أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم، سمع من أبيه وأشهب وابن القاسم وابن وهب، وروي عنه: أبو بكر النيسابوري وأبو حاتم الرازي وأبو جعفر الطبري، كان فقيه مصر من آثاره: أحكام القرآن (ت 282 هـ) (ترتيب المدارك: 3/ 62). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (243). (4) انظر: المدونة: 1/ 122 - 125، التفريع: 1/ 253، الكافي ص 55. (5) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (6) انظر: المدونة: 1/ 123 - 124، التفريع: 1/ 253، الكافي ص 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وإن ذكرها بعد فوات وقت ما صلى بعد نسيانها أتى بالمنسية وحدها ولم يعد ما فات وقته بعدها لأنه أداها وقت وجوبها من غير أن يكون على علم بأن عليه صلاة قبلها. فصل [4 - صفة قضاء المنسيات]: ويقضي المنسيات على الصفة التي يؤديها من فروضها وسننها من أركان الأفعال والأقوال (1)، كقوله صلى الله عليه وسلم: "فليصلها إذا ذكرها" (2)، وهذا إشارة إلى الصلاة المتروكة، ولأن القضاء في معنى الأداء لا فرق بينهما إلا أن أحدهما يفعل مع بقاء الوقت والآخر بعد فواته، ولأنه لو كان يأتي بها على خلاف تلك الصفة لكان مستأنفًا لصلاة أخرى ولم يكن قاضيًا، ولأنه فعل لصلاة يسقطه فرضها، فوجب أن تكون على ما تلزمه في الأصل دليله الأداء. فصل [5 - من نسي صلاة ولم يدر أي صلاة هي]: إذا نسي صلاة واحدة ولم يدر أي الصلاة هي، صلى خمس صلوات ليكون مسقطًا للفرض عن ذمته بيقين، لأنه إن صلى دون الخمس جاز أن يكون المتروك هي المنسية، فإن عرفها ولم يذكر من أي يوم هي لم يضر ذلك وأتى بها ناويًا بها أنها التي عليه، فإن نسي صلاتين متواليتين من يوم وليلة لا يدري الليل قبل النهار أم النهار قبل الليل صلى ست صلوات يبدأ بأي الصلوات شاء، ثم يسدس بالتي بدأها، ويختار له البداية بالظهر استحبابًا، وذلك أنه إن كان نسي الظهر والعصر فقد أتى بها مرتين وما بعدها لغو، وكذلك إن كان الذي نسي العصر والمغرب أو المغرب والعشاء أو العشاء والفجر أو الفجر والظهر (3)،   (1) انظر: المدونة: 1/ 123، التفريع: 1/ 254، الرسالة ص 131. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (243). (3) انظر في جملة هذه الأحكام: التفريع: 1/ 255، المقدمات: 1/ 204 - 205، الكافي ص 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وإنما قلنا: يعيد التي بدأ بها [حتى] (1) تكون المنتهية هي التي صلاها آخرًا مع التي بدأ بها فيكون قدم الآخرة على الأولى، فإن نسي ثلاثًا مرتبات على الشرط الذي ذكرناه قضي سبعًا يسدس بالأولى ويسبع بالثانية، وإن كان المنسيات أربعًا قضى ثمان صلوات يسدس بالأولى ويسبع بالثانية ويثمن بالثالثة، وإن كن المنسيات خمسًا صلى تسعًا على هذا الترتيب، وإنما قلنا: أنه يختار له البداية بالظهر لأنها أول الصلاة صلاها جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بيان المواقيت (2). ...   (1) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ. (2) انظر الحديث في الصفحة 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 باب [المشي إلى الفرج في الصلاة] لا بأس بالمشي إلى الفرج في الصلاة، ومن افتتح الصلاة ثم رأى فرجة بين يديه أو إلى جنبه مشى إليها إن كانت قريبة، وكذلك بعد ركعة أو ركعتين (1)، وأقل ما فيه أن تسوية الصفوف وسد الخلل مأمور به مندوب إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "راموا الصفوف .. ، اعدلوا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري" (2)، وكذلك ينبغي أن تضم الصفوف، فإن كان بعضها ناقصًا جعل الصف [الذي به نقصان] (3) في المؤخر (4). فصل [1 - القهقهة في الصلاة]: ومن قهقه في الصلاة أعادها (5) لأن الضحك مفسد للصلاة لأنه من جنس الكلام وهو أغلظ منه إذا لم يجز في الصلاة شيء منه على وجه، ولا وضوء على الضاحك في صلاته (6) اعتبارًا بالضحك في غير صلاته، ولأن ما ينقض الطهارة لا يختلف حكمه إذا وجد في الصلاة أو خارجها كسائر الأحداث،   (1) انظر: التفريع: 1/ 260، الكافي ص 66. (2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها: 1/ 176، وأقرب منه للدلالة على تسوية الصفوف وسد الخلل ما أخرجه أبو داود عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل .. " في كتاب الصلاة، باب: تسوية الصفوف: 10/ 433. (3) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (4) وهو يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود فيما رواه أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر" 1/ 435. (5) انظر: المدونة: 1/ 98، التفريع: 1/ 260، الرسالة ص 132. (6) انظر: التفريع: 1/ 196، الرسالة ص 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والتبسم غير مفسد للصلاة (1)، لأنه يسير لا يمكن الاحتراز منه، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قهقه في الصلاة أعادها" (2)، فدل أن ما دون ذلك لا تعاد منه، وقيل: يسجد له لأنه سير من جنس الكلام لا يمكن التحرز منه، وقال ابن عبد الحكم: يسجد له بعد السلام لأنه زيادة، وقال أشهب (3): قبله (4) لأنه نقص للخشوع، وقول ابن عبد الحكم أصح لأن الاعتبار بنقص الأفعال والأقوال دون الاعتدال. فصل [2 - متى يقوم المسبوق لقضاء ما فاته]: ومن أدرك بعض صلاة الإِمام لم يقم للقضاء إلا بعد فراغ الإِمام من الصلاة (5) لأن وقت القضاء هو بعد الفراغ من الإدراك ولوجوب اتباع الإِمام. فصل [3 - ما يدرك من الصلاة]: وما أدرك من الصلاة فهو آخرها وما فاته فهو أولها، هذا هو المشهور (6)، وروي ابن نافع (7): أن ما أدرك أولهما وما يقضيه آخرها، وفائدة (8) ذلك أن   (1) انظر: المدونة: 1/ 98، التفريع: 1/ 260، الرسالة ص 132. (2) أخرجه الدارقطني: 1/ 164، والطبراني في الكبير من طرق مختلفة لا تخلو من مقال لها (يراجع نصب الراية: 1/ 47 - 54). (3) أشهب: ابن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي العامري الجعدي، روي عن مالك والليث وغيرهما، وروي عنه: الحارث بن مسكين، وسحنون بن سعيد، انتهت إليه رئاسة المذهب بعد وفاة ابن القاسم (ت 203 هـ) (الديباج: 1/ 307، ترتيب المدارك: 2/ 447). (4) انظر: التفريع: 1/ 260. (5) انظر: المدونة: 1/ 95، التفريع: 1/ 261. (6) انظر: المدونة: 1/ 96، التفريع: 1/ 261. (7) ابن نافع: أبو محمَّد عبد الله بن نافع مولى بني مخزوم، المعروف بالصائغ من أصحاب مالك، وهو أحد أئمة الفتوى بالمدينة له تفسير في الموطأ وروايته في المدونة نفيسة (ت 186 هـ) بالمدينة (ترتيب المدارك: 3/ 128، الديباج: 1/ 409). (8) أي وفائدة الخلاف في هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 على الرواية الأولى يأتي بالقضاء كما أتى به الإِمام: إن فاتته ركعة واحدة قضاها بأم القرآن وسورة وجهر فيها إن كانت مما يجهر فيه، وإن فاتته ركعتان قضى كل واحدة بأُم القرآن وسورة وإن فاتته ثلاث ركعات قضى الثالثة بأم القرآن وحدها سرًّا، وعلى رواية ابن نافع يأتي بالقضاء، كما أتى الإِمام بآخر الصلاة، فوجه الرواية المشهورة قوله صلى الله عليه وسلم: "ما فاتكم فاقضوا" (1)، والذي فاته أول الصلاة والقضاء هو أن يأتي بمثل المقضي، ولأنه لو أدرك أول صلاة الإِمام لكانت أول صلاته، فإذا أدرك آخرها وجب أن يكون آخر صلاته، ولأنه فعل مع الإِمام آخر صلاة الإِمام، فكان ذلك آخر صلاة لنفسه، أصله إذا أدرك جميع الصلاة، ووجه الآخر قوله: "وما فاتكم فأتموا" (2)، والإتمام هو أن يأتي ببقية الشيء اعتبارًا بالمفرد، ولأنه لو كان ما يقضيه أول صلاته لوجب إذا أدرك الإِمام في الركعة الآخرة من المغرب ألا يقعد للتشهد في الركعتين التي يقضيها مرتين. فصل [4 - النافلة في السفينة]: ولا يتنفل في السفينة إلا إلى القِبْلة إذا أمكنه بخلاف الراكب (3)، فإن لم يتمكن جاز (4). ...   (1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: السعي إلى الصلاة: 1/ 386، والنسائي في الإقامة، باب: السعي إلى الصلاة: 2/ 88، وأحمد: 2/ 270، وصحَّحه ابن حبان. (2) أخرجه البخاري في الأذان، باب: لا يُسعى إلى الصلاة: 1/ 156، ومسلم في المساجد، باب: استحباب إتيان الصلاة بوقار: 1/ 420. (3) يعني الراكب على الدابة لا يمكنه التوجه إلى القِبْلة حال السير. (4) انظر: المدونة: 1/ 117 - 118، التفريع: 1/ 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 باب [كيفية صلاة العاجز] والمريض إذا عجز عن القيام صلى جالسًا متربعًا يركع ويسجد إن قدر وإلا أومأ (1)، ويثني رجله إن قدر وإن لم يقدر أومأ متربعًا (2)، وإن عجز اضطجع (3) على جنبه الأيمن واستقبل القِبْلة، فإن لم يقدر فعلى ظهره ولا يسقط عنه ما يقدر عليه لعجزه عن غيره (4). وإذا قلنا: إنه إذا عجز عن القيام صلى جالسًا لقوله عَزَّ وجَلَّ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (5)، وقال ابن مسعود وغيره: نزلت في المريض لا يقدر على القيام، رخص له أن يصلي قاعدًا أو قائمًا (6)، "ولأنه صلى الله عليه وسلم صلى جالسًا وصلى على شقه الأيمن" (7)، وكذلك في مرضه الذي مات فيه، وروي عن عمران بن حصين قال: كان بي الناصور (8) فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع   (1) أومأ: يقال: أومأت إليه: أشرت (الصحاح: 1/ 82). (2) التربع: هو الجلوس المعروف لأن صاحب هذه الجلسة قد ربع نفسه كما يربع الشيء إذا جعل أربعًا والأربع هنا الساقان والفخذان، ربَّعها بمعنى أدخل بعضها تحت بعض (المطلع ص 85). (3) اضطجع: أي وضع جنبه بالأرض (الصحاح: 1/ 1248). (4) انظر: المدونة: 1/ 79077، التفريع: 1/ 264، الرسالة ص 134. (5) سورة النساء، الآية: 103. (6) انظر: تفسير القرطبي: 5/ 374. (7) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس ... : 1/ 311. (8) الناصور: عِلَّة تحدث في البدن من المقعدة وغيرها بمادة خبيثة الفم يعسر برؤها (المصباح المنير ص 608). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فعلى جنبك" (1)، وإنما اخترنا له أن يثني رجليه للسجود لأنه إذا قدر على شيء من بنية الصلاة حال الصحة لم تسقط عنه للعجز عما لا يقدر عليه، وإنما قلنا متربعًا ليفصل بين قعوده الذي هو بدل من القيام وبين قعوده الأصلي للتشهد، وإذا احتاج إلى الفصل فليس في هيئة الجلوس أشد تمكنًا ووقارًا من التربع، وإنما قلنا: يكون سجوده أخفض من ركوعه لأنه صلى الله عليه وسلم عاد مريضًا فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال: "صلِّ بالأرض إن استطعت وإلا فأوميء إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك" (2)، ولأن السجود لما كان في الفعل أخفض من الركوع، فكذلك في بدله الذي هو الإيماء، وإنما قلنا: إنه إذا عجز عن القعود اضطجع على جنبه الأيمن لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنبك (3) "، ولأن التيامن من مندوب الله في الشرع وسائر وجوه القرب، فإن لم يقدر فعلى ظهره مستقبل القِبْلة لأنه لا يمكن غيره، وقاله ابن المواز (4): على جنبه الأيسر، ووجهه أن التوجيه على الجنب أقرب إلى الاستقبال من أن يكون على الظهر. ...   (1) أخرجه البخاري في تقصير الصلاة، باب: من لم يطق الصلاة قاعدًا صلى على جنبه: 2/ 41. (2) أخرجه البزار والبيهقي في المعرفة وأبو يعلى الموصلي في مسنده، وقال الهيثمي في الزوائد (2/ 151): رجال البزار رجال الصحيح، وأخرجه الطبراني في معجمه (انظر نصب الراية: 2/ 175). (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) ابن المواز: أبو عبد الله محمَّد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني تفقه بابن الماجشون وابن عبد الحكم، له كتاب مشهور بـ "الموازية"، روي عنه: ابن قيس، وابن أبي مطر، والقاضي أبو الحسن الإسكندراني. (ت 269 هـ) (ترتيب المدارك: 4/ 167، الديباج: 2/ 166). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 باب [الحدث في الصلاة] ومن أحدث (1) في صلاته بطلت ولزمه استئنافها، ولم يجز له البناء عليها كان عمدًا أو سهوًا أو غلبة (2)، فأما العمد فلا خلاف، ذاكرًا للصلاة أو ناسيًا، وأما الغلبة فخلافًا لأبي حنيفة (3) في قوله: إنه يبني، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ينفخ بين فخذي أحدكم في الصلاة حتى يخيل إليه أنه قد أحدث فلا تنصرفوا" (4)، وروي: "فلا يخرج من صلاته حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (5)، ولأنه حدث وجد في خلال الصلاة فأشبه العمد. فصل [1 - الرعاف في الصلاة]: ومن رعف (6) في الصلاة خرج فغسل في أقرب المواضع إليه ثم [بنى] (7) إن كان قد عقد ركعة بسجدتيها، وهذا إذا كان الدم كثيرًا، فإن كان يسيرًا يمكنه قتله بأصابعه مضى في الصلاة (8)، وقال الشافعي: إذا خرج فغسل الدم ابتدأ الصلاة (9)، ودليلنا أن ذلك مروي عن عليّ وابن عباس وابن عمر (10) ولا   (1) الحدث: هو الخارج المعتاد من المخرج المعتاد في الصحة من ريح وغائط وبول ومذي وودي ومني بغير لذة معتادة (الشرح الصغير: 1/ 49). (2) انظر: المدونة: 1/ 101، الموطأ: 1/ 39، الرسالة ص 135، الكافي ص 52. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 32، مختصر القدوري: 1/ 84. (4) و (5) أخرجه البخاري في الوضوء، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن: 1/ 43، ومسلم في الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة .. : 1/ 276. (6) الرعاف: أصل الرعاف السبق، فسمي الدم السابق -الخارج- من الأنف رعافًا (غرر المقالة ص 135). (7) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ، وتم إكمال النص من السياق. (8) انظر: المدونة: 1/ 41، التفريع: 1/ 265، الرسالة 135. (9) انظر: الإقناع ص 45. (10) انظر: الموطأ: 1/ 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 مخالف لهم، ولأن الضرورة تدعو إليه بدليل جواز الصلاة مع يسير الدم يجده [في ثوبه ....... ] (1)، وإنما شرطنا أن يكون في أقرب المواضع إليه لأن ما زاد عليه عمل متعمد في الصلاة مستغنى عنه، وذلك مفسد لها، ولأن البناء على الرعاف وليس بقياس، ولا يجوز منه إلا قدر ما اتفق عليه ودعت الضرورة إليه، وإنما شرطنا أن يكون قد صلى ركعة بسجدتيها لأن ما دون ذلك لا حكم له في البناء والإدراك. فصل [2 - حكم ما إذا كان الراعف منفردًا]: واختلف في الراعف وحده فقيل: يبني، وقيل: يبتديء (2)، فإذا قلنا: يبني فاعتبارًا بالمأموم، وإذا قلنا: يبتديء فلأن المأموم مضطر إلى ذلك لاتباع الإِمام ولحوق الفرض في الجماعة، والمنفرد بخلافه. فصل [3 - رجوع الراعف طمعًا في إدراك الصلاة]: وإنما يرجع إذا طمع أنه يدرك مع الإِمام بقية الصلاة ليتم الصلاة على الوجه الذي ابتدأها من الجماعة، وإن لم يطمع في إدراكها أتمها في موضع غسل الدم أو في أقرب المواضع إليه، ليسلم من أن يزيد في الصلاة عملًا من غير حاجة، هذا في غير الجمعة، فأما في الجمعة فلا بد من عوده إلى الجامع أدرك الإِمام أو لم يدركه، ولأنها لا تكون إلا في المسجد أو ما هو في حكمه، فلذلك رجع إليه لأجل موافقة الإِمام (3). فصل [4 - من دام به الرعاف]: ومن دام به الرعاف فلم ينقطع أومأ إلى السجود وأتى بالقيام والركوع (4)، لأن هذا عذر سوغ معه الإيماء كعذر المريض.   (1) ما بين معقوفتين مطموسة في جميع النسخ. (2) انظر: المدونة: 1/ 42، 43، المقدمات: 1/ 105، فلقد ذهب ابن حبيب إلى أنه لا يبني الفذ، وقال محمَّد بن مسلمة: يبنى. (3) انظر في جملة هذه الأحكام: المدونة: 1/ 41 - 43، التفريع: 1/ 265 - 266، الرسالة ص 135. (4) انظر: التفريع: 1/ 265، المقدمات: 1/ 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 باب [مواضع سجود القرآن] عزائم (1) سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل (2) منها شيء وتفصيلها: الأولى: خاتمة الأعراف: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (3)، وهذه لا اختلاف فيها (4)، والثانية: في الرعد قوله: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (5)، والثالثة: في النحل عند قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6)، والرابعة: في بني إسرائيل عند قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (7)، والخامسة في مريم عند قوله: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (8)، والسادسة: أول الحج عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (9)، فأما آخرها عند قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (10)، فليست بعزيمة (11)، خلافًا للشافعي (12)، لأن هذا هو السجود الذي من يقين الصلاة، وذلك لا يقتضي أن يسجد له سجود تلاوة كقوله: {اسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (13)، والسابعة في   (1) العزائم: الأوامر وعزائم السجود: ما أمر بالسجود فيها (المصباح ص 408). (2) المفصل: من الحجرات أو سورة ق أو الزخرف أو من الشورى أو الجاثية أو النجم أقوال، وسمي بذلك لكثرة فواصله، وقيل: لأنه محكم كله (تنوير المقالة: 2/ 388). (3) سورة الأعراف، الآية: 206. (4) المغني: 1/ 619. (5) سورة الرعد، الآية: 15. (6) سورة النحل، الآية: 50. (7) سورة الإسراء، الآية: 109. (8) سورة مريم، الآية: 58. (9) سورة الحج، الآية: 18. (10) سورة الحج، الآية: 77. (11) انظر: التفريع: 1/ 270، الرسالة ص 137. (12) الأم: 1/ 133، 138. (13) سورة آل عمران، الآية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الفرقان عند قوله: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (1)، والثامنة في النمل وأصحابنا سموها الهدهد عند قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2)، وقال الشافعي (3) عند قوله {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (4)، وما قلناه أولى لأنه عند تمام الكلام من غير قطع له، والتاسعة في سجدة لقمان عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (5) والعاشرة في (سورة ص) عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (6)، وبعض أصحابنا (7)، يقول عند قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} (8)، وقال الشافعي (9): هي سجدة شكر وليست بعزيمة، ودليلنا ما روي أبو سعيد (10): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ ص وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه" (11) والحادية عشرة في حم السجدة عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (12)، وعند الشافعي (13): {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (14)، والذي قلناه أحسن عند تمام   (1) سورة الفرقان، الآية: 60. (2) سورة النمل، الآية: 26. (3) انظر: الأم: 1/ 134. (4) سورة النمل، الآية: 25. (5) سورة السجدة، الآية: 15. (6) سورة ص، الآية: 24. (7) انظر الخرشي على خليل: 1/ 351. (8) سورة ص، الآية: 25. (9) انظر: الأم: 1/ 134. (10) أبو سعيد: هو سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، أبو سعيد الخدري له ولأبيه صحبة، وروى الكثير، مات بالمدينة سنة 63 هـ (تقريب التهذيب ص 232). (11) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: السجود في: 2/ 124، الحاكم: 2/ 432 وصحَّحه وقال: على شرط الشيخين. (12) سورة فصلت، الآية: 37. (13) انظر: المهذب: 1/ 85. (14) سورة فصلت، الآية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الكلام، وقد ورد ذلك مرفوعًا (1)، هذه جملة العزائم وقد ذكرنا أنه ليس في المفصل شيء من العزائم (2)، وروي ابن وهب عن مالك أنه يسجد فيها (3)، وهو قول أبي حنيفة والشافعي (4)، وهي في: والنجم، والقمر، والقلم، ودليلنا: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في "والنجم" بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها" (5). فصل [1 - قراءة آية السجود في أوقات النهي]: واختلف عنه إذا قرأها في الأوقات المنهي عن التنفل فيها: فعنه فيها روايتان (6): إحداهما أنه يسجد لأنها متأكدة على سائر النفل، والآخر أنه لا يسجد، لأنها نفل فأشبه سائر النوافل. فصل [2 - شرط سجود التلاوة]: ومن شرطها الطهارة (7)، لأنها من جملة الصلوات الشرعية، ويكبر لها (8) لما رواه ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد (9)   (1) فلقد كان عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهم يسجدون عند قوله: "تعبدون" انظر المحلي: 5/ 108، الجامع لأحكام القرآن - القرطبي: 15/ 264. (2) انظر: الموطأ: 1/ 207، المدونة: 1/ 105، الرسالة ص 137، التفريع: 15/ 264. (3) انظر: التفريع: 1/ 270. (4) انظر: مختصر القدوري: 1/ 102، الأم: 1/ 133. (5) أخرجه البيهقي: 2/ 313، والحديث يدور على الحارث بن عبيد أبي قدامة الأيادي البصري، وقد ضعفه يحيى بن معين. (6) انظر: المدونة: 1/ 105، الرسالة ص 138، وفيهما: أنه يسجدها من قرأها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر الشمس. (7) و (8) انظر: المدونة: 1/ 106، التفريع: 1/ 270، الرسالة. (9) أخرجه البخاري في سجود القرآن، باب: من سجد سجود القاريء: 2/ 23، ومسلم في المساجد، باب: سجود التلاوة: 1/ 405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ولأنه سجود شرعي فكان في أوله وفي الرفع منه كسجود الصلاة، ولا يحتاج إلى سلام منها، السلام تحليل ولا إحرام لها ألا ترى أن الطواف لما لم يحتج إلى إحرام لم يحتج إلى تحليل. فصل [3 - سجود التلاوة في النفل والفرض]: ويسجدها من قرأها في صلاة نفل أو فرض (1)، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدها في الصلاة المكتوبة والنافلة، وليس بواجب لا في صلاة ولا غيرها خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن السجود فيها واجب (2) على القارئ والمستمع في الصلاة وغيرها لإجماع الصحابة وهو: "أن عمر رضي الله عنه قرأ سجدة على المنبر فنزل وسجد وسجد الناس معه ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء" (3)، وذلك بحضرة الصحابة من المهاجرين والأنصار فلم ينكر عليه أحد، ولأن السجود ركن في الصلاة فلم يجب منفردًا، أصله القعود للتشهد الآخر. فصل [4 - مواضع الصلاة]: ولا يصلي في معاطن (4) الإبل، ويصلي في مراح الغنم (5) والبقر (6)، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -[عن الصلاة] (7) في معاطن الإبل، وإباحته إياها في   (1) تنظر: المدونة: 1/ 105 - 106، التفريع: 1/ 270، الرسالة ص 138. (2) انظر: مختصر الطحاوي: 1/ 103. (3) أخرجه البخاري في سجود القرآن، باب: من رأى أن الله عَزَّ وجَلَّ لم يوجب السجود: 20/ 34. (4) معاطن الإبل: مواضعها الذي تنتحي إليه إذا شربت الشربة الأولى فتبرك فيه (المصباح المنير ص 417). (5) مراح الغنم: وهي مرابض الغنم. (6) انظر: المدونة: 1/ 90، التفريع: 1/ 266 - 267، الرسالة ص 89. (7) ما بين معقوفتين أضفناه لضرورة ذلك في استقامة لفظ ومعنى الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 مراح الغنم (1)، وتكره الصلاة في معاطن الإبل لمعان: منها، ما روي أنها خلقت من جن، ولا ينبغي أن يصلي بحيث يكون الشيطان، ومنها أنه كان يستتر بها عند البراز (2)، ومنها: أن نفورها بخلاف نفور الغنم والبقر، ومنها: أن الأغلب عليها الوسخ والزفورة (3)، والبقر والغنم بخلافها، وتكره الصلاة في المجزرة (4) للنهي عنه، ولأن النجاسة ظاهرة فيها، وتكره الصلاة على قارعة الطريق، للتبذل، ولأنها لا تخلو من الأبوال وما يجب تنزيه الصلاة عنه، والحمَّام، وإن كان فيه موضع طاهر جازت الصلاة فيه، ويكره تعمدها داخله، وتكره الصلاة في البِيَع (5) والكنائس (6) لأنها مأوى للشياطين ومحل للكفر، والحضور فيها مكروه في الجملة فضلًا عن الصلاة، ولأنها لا تخلوا من نجاسة لعلمنا بأنهم يدينون بشرب الخمر وأكل الخنزير، وتكره الصلاة في المقبرة الجديدة في الجملة للنهي، ويجوز إن عفت، وإن كانت عتيقة وفيها نبش فلا يجوز إلا أن يجعل فوقها حصير يحول بينه وبينها، وهذا في مقابر المسلمين، وأما في مقبرة المشركين فتكره الصلاة فيها جملة بغير تفصيل، وتكره الصلاة داخل الكعبة عند مالك (7) لأنه يستدبر بعض البيت، والأولى أن يصلي بحيث يكون جملة البيت تجاهه لا يستدبر شيء منه، ويجوز فيه النفل، لاختلاف   (1) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل: 2/ 180 - 181، وقال عنه: حديث حسن صحيح. (2) البراز: الصحراء البارزة ثم كني به عن النجو كما كني بالغائط، فقيل: تبرز كما بل تغوط (المصباح المنير ص 44). (3) الزفورة: من الزفير وهو اغتراق النفس للشدة وهو أول صوت الحمار (الصحاح 2/ 670). (4) في جملة هذه الأحكام (انظر المدونة: 1/ 90 - 91، التفريع: 1/ 267، الرسالة ص 89). (5) البيع: جمع بيعة وهي معبد اليهود. (6) الكنائس: هي متعبد اليهود وتطلق على متعبد النصارى (المصباح المنير ص 542). (7) انظر: المدونة: 1/ 91، التفريع: 1/ 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الناس في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فيه، ولأن التنفل قد سمح فيه ما لم يسامح في الفرض، ولا تجوز عند أصبغ وقوم من أصحابنا البغداديين (1)، وهو النظر (2)، لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (3)، فكلفنا استقباله، فيجب الامتثال وذلك لا يمكن إلا إذا كنا خارجه، لأن استقبالنا إياه ونحن فيه لا قدرة لنا عليه، لأنا لو أردنا أن نتركه ولا نستقبله لم يمكن فلم يدخل تحت التكليف، وإذا كان ذلك لم يكن هو الاستقبال المأمور به. فصل [5 - قيام رمضان]: وقيام رمضان مرغب فيه (4) لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (5)، ولأنه صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه ثم لم يخرج، فقال: ما منعني إلا أني خفت أن يفرض عليكم" (6). فصل [6 - عدد ركعات القيام]: وقدره عندنا ست وثلاثون ركعة (7) خلافًا للشافعي في قوله: إنه عشرون (8)   (1) انظر: المدونة: 1/ 91، التفريع: 1/ 261، الكافي ص 39. (2) أي قول أصبغ هو الذي يوافق القياس ويؤيده النظر. (3) سورة البقرة، الآية: 144. (4) انظر: المدونة: 1/ 193، الرسالة ص 162. (5) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان: 1/ 14، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان: 1/ 523. (6) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: 1/ 524. (7) انظر: المدونة: 1/ 193، التفريع: 1/ 268، وفي الرسالة: أن قدره عشرون (162). (8) انظر: مختصر المزني ص 21، الإقناع ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ولأن ذلك عمل أهل المدينة المتصل، وقد قال نافع (1): لم أدرك الناس إلا وهم يقومون بتسع وثلاثين يوترون منها بثلاث (2). فصل [7 - الصلاة بين الأشفاع]: ولا بأس بالصلاة بين الأشفاع (3): وهي حال جلوس الإِمام للاستراحة، لأنه ليس في ذلك خلاف على الإِمام، فإن كان الإِمام يصلي الصلاة ولا يقطعها للاستراحة لم يجز للمأموم أن يصلي في خلالها لأن في ذلك خلافًا على الإِمام. فصل [8 - وقت القيام]: والقيام بعد صلاة العشاء وقبل الوتر، فمن دخل المسجد وقد صليت العشاء وشرع في القيام فإنه يبدأ بالعشاء (4)، لأنه يصلي معهم القيام من بعدها، ولا يضره أن يصلي المكتوبة والإمام يصلي التراويح لأنه ليس في ذلك خلاف عليه، لأن الفرض آكد من النفل، فإذا فرغ دخل معهم فصلى ما لحق. فصل [9 - صلاة النافلة قائمًا أو قاعدًا]: ويجوز أن يتنفل الإنسان قائمًا وقاعدًا (5)، لأنها غير مستحقة فيه، فلم يلزمه في أدائها ما يلزمه في المكتوبة، ويستحب إذا صلاها قاعدًا أن يتربع موضع [جلوسه] (6)، لأنه أشد تمكنًا وأزيد في وقار الصلاة كما استحببنا ذلك   (1) نافع: هو أبو عبد الله نافع بن سرجسي الديلمي المدني، مولى عبد الملك بن عمر روي عن مولاه وأبي هريرة وعائشة، وعنه: بنوه، والزهري، ومالك، والليث، وأصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، (ت 117 هـ) (التقريب: 559). (2) انظر: المدونة: 1/ 194. (3) انظر: المدونة: 1/ 195، التفريع: 1/ 269. (4) انظر: التفريع: 1/ 269. (5) انظر: المدونة: 1/ 79، التفريع: 1/ 264. (6) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 للمريض، وكذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، والسلف، فإذا أراد السجود تهيأ بهيئة السجود كالمريض سواء، ويستحب له إذا دنى ركوعه أن يقوم فيقرأ بنحو ثلاثين آية وشبهها ثم يركع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، ولأنه إذا فعل ذلك كان كمن صلى الصلاة من أولها قائمًا، وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. فصل [10 - من افتتح الصلاة جالسًا ثم قام، ومن افتتحها قائمًا ثم جلس]: إذا افتتحها جالسًا ثم أراد القيام جاز له، فإن افتتحها قائمًا ثم أراد إتمامها جالسًا، قال ابن القاسم: له ذلك، وقال غيره: ليس له ذلك (2)، وجه قول ابن القاسم: أنها غير مستحقة عليه إلا على ما يخف عليه، فلو لم يجز له استدامتها إلا على القيام لكانت كالفرض، ولأن المعنى الذي ساغ له افتتاحها جالسًا مع القدرة على القيام كونها نفلًا غير مستحقة عليه، وهذا موجود في الاستدامة، ووجه قول غيره: إنه إذا افتتحها قائمًا صار الأداء على هذه الصفة واجبًا عليه كوجوب أصلها، فلا تسقط إلا من عذر. فإذا ثبت ذلك لم يكن له تركه وإن كان في الأصل غير واجب إلا أنه قد صار واجبًا بالتزامه له كأصلها، وليس كذلك إذا افتتحها جالسًا ثم قام لأنه قد زاد. فصل [11 - التنفل مثنى مثنى]: والتنفل مثنى مثنى ليلًا ونهارًا (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4)، في قوله: إنه في النهار مخير بين ركعتين ركعتين أو أربع أربع أو ست أو ثمان بتسليمة واحدة، ومَنَعَ الزيادة لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى" (5)،   (1) في الحديث الذي رويناه سابقًا في الصفحة (280). (2) انظر: المدونة: 1/ 80. (3) انظر: التفريع: 1/ 263، الرسالة ص 125. (4) انظر: مختصر القدوري: 1/ 91 - 92. (5) أخرجه البخاري في الوتر، باب: ما جاء في الوتر: 2/ 12، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى: 1/ 516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 فقصرها على هذا القدر، فدل على نفي ما زاد عليه، ولأنه عدد زائد على عدد الفرائض فأشبه ما زاد على الثمان. فصل [12 - الجهر في النافلة ليلًا]: يجوز الجهر في النافلة ليلًا، واختلف في ذلك نهارًا، فقيل: جائز، وقيل: مكروه (1)، فوجه الجواز [التوسع] (2) للتنفل، فجاز أن تؤدي فيه سرًّا وجهرًا كالليل، ولأنها صفة لأداء القراءة تجوز في الفرض، فجازت في النفل على الإطلاق أصله [إلا .... ] (3). هذا في النفل المبتدأ، فأما في السنن المرتبة المؤقتة فإنها مستقرة على ما ورد به الشرع فيها من إسرار أو جهر، ووجه الكراهة أن النفل تابع للفرض والقراءة في فرائض النهار سرًّا، فكذلك في نفله، ولأن زمان الفرائض لما انقسم إلى جهر وإخفات فكذلك زمان النفل. فصل [13 - الإمامة في النافلة]: الإمامة جائزة في النافلة (4)، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أم فيها (5)، وكذلك السلف بعده، ولأن الإمامة جائزة في السنن الراتبة، فكذلك في النوافل. فصل [14 - الدعاء في الصلاة]: والدعاء جائز في جميع الصلاة إلا في الركوع (6)، والأفضل الاجتهاد فيه في السجود، وإنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه   (1) انظر: التفريع: 1/ 263، الرسالة ص 124 - 125. (2) و (3) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ، وأكمل النقص من السياق. (4) انظر: المدونة: 1/ 96، التفريع: 1/ 263. (5) فقد صلى -صلى الله عليه وسلم- بحذيفة مرة، وبابن عباس مرة، وبأنس مرة واليتيم مرة، وأمَّ أصحابه في بيت عتبان مرة، وأمهم في ليالي رمضان ثلاثًا، وكل هذه الأخبار صحاح جياد (انظر المغني: ت 2/ 567، نيل الأوطار: 3/ 58). (6) انظر: التفريع: 1/ 266، الكافي ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فقمن أن يستجاب لكم" (1)، وروي "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدًا فاجتهدوا في الدعاء" (2). فصل [15 - الدعاء بكل ما يحتاج إليه]: ويجوز أن يدعو لكل ما يحتاج إليه، وكل أمر يجوز أن يدعو به خارج الصلاة (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4) في قوله: إنه لا يدعو إلا بألفاظ القرآن وما قاربها، لما روي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في صلاته فيقول: "اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة" (5)، "اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" (6)، ولقوله: "وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء" (7)، فلم يفرق، ولأن كل دعاء جاز أن يدعى به خارج الصلاة جاز أن يدعى به فيها، أصله: ما ورد به القرآن (8). فصل [16 - استخلاف الإِمام]: وإذا أصاب الإِمامَ حدثٌ في صلاته استخلف من يتم بهم (9)، لأنه لم يتعمد الفساد، وإنما كان بغلبة فلم يتعمد الفساد إلى صلاة من خلفه، ولزمه   (1) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: 1/ 348، ومعنى قمن: جدير وحقيق. (2) أخرجه مسلم في الصلاة: 1/ 350. (3) انظر: التفريع: 1/ 266، الكافي ص 44. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 27. (5) أخرجه البخاري في تفسير القرآن، باب: تفسير آل عمران: 5/ 171، ومسلم في المساجد، باب: استحباب القنوت: 1/ 467. (6) أخرجه مسلم في المساجد، باب: استحباب القنوت: 1/ 746. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) أي من عموم الدعاء وإطلاقه. (9) انظر: المدونة: 1/ 135، التفريع: 1/ 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الاستخلاف لتعذر الائتمام من جهته، فإن فعل وإلا قدموا لأنفسهم ليتموا الصلاة على ما دخلوه عليه فيها من الجماعة، فإن لم يفعلوا وصلوا أفرادًا جاز إلا في الجمعة (1)، وإن تقدم رجل منهم ابتداء فأتم بهم جاز لأن ذلك من مصلحة الصلاة كما لو قدموه. فصل [17 - الإِمام يصلي من غير طهارة]: ومن أم غير متطهر فإن كان ساهيًا لم يلزم من خلفه إعادة، وإن كان عامدًا لزمتهم الإعادة إذا علموا (2)، وقال أبو حنيفة: تلزمهم الإعادة في الموضعين (3) وقال الشافعي: لا إعادة عليهم في الموضعين (4)، فدليلنا على أنه لا إعادة عليهم إذا كان ساهيًا ما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم كبر ساهيًا في صلاة من الصلوات ثم أشار بيده أن امكثوا ثم رجع وعليه أثر ماء" (5)، ولم يأمرهم بالإعادة، ولأن بطلان طهارة الإِمام على غير التعمد لا يوجب بطلان صلاة المأموم أصله: إذا سبقه الحدث. فصل [18 - دليل لزوم الإعادة على من صلى منهم غير متطهر عامدًا]: ودليلنا على لزوم الإعادة لهم في العمد: أنه فاسق بذلك الفعل فلم يجز الائتمام به، والأصل فيه أن الائتمام يسقط به ركن عن المأموم هو شرط في صحة الصلاة (6) في حال الانفراد فيسقط عنه بفعل الإِمام، وذلك ما لا يصل إليه المأموم إلا بغالب الظن والبناء على الظاهر، والعلم بفسقه يمنع ذلك،   (1) لأنه لا بد فيها من الجماعة. (2) انظر: الكافي ص 52. (3) انظر: مختصر القدوري: 1/ 83. (4) الأم: 1/ 167. (5) أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط من حديث عليّ رضي الله عنه، ومدار طرقه على ابن لهيعة وفيه كلام، وروي عن أنس، أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 2/ 71 - 72). (6) يعني الطهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فيجب منع الائتمام به، فأما الإِمام فتلزمه الإعادة في الموضعين لأنه مصلّ على غير طهر. فصل [19 - قيام الإِمام بعد سلامه]: ويستحب للإمام أن يقوم بعد سلامه (1)، لما روي صهيب (2) رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يجلس إلا قدر ما يقول: اللَّهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (3)، وروي نحوه عن جملة من الصحابة منهم: أبو بكر وعمر وعليّ (4)، ومن أصحابنا من يقول: أن هذا في الصلوات التي يتبعها نافلة دون ما لا يتنفل بعده، والله أعلم. فصل [20 - المرور بين يدي المصلي]: ولا يمر أحد بين يدي مصلّ (5)، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقوله: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له" (6) وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان" (7).   (1) التفريع: 1/ 271، الرسالة ص 128. (2) صهيب: بن سنان أبو يحيى الرومي، أصله من النمر، يقال: كان اسمه عبد الملك، وصهيب لقب، صحابي شهير. مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين في خلافة عليّ، وقيل قبل ذلك (التقريب ص 278). (3) أخرجه مسلم في المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة: 1/ 414، والحديث عن ثوبان وليس عن صهيب. (4) انظر: عبد الرزاق: 2/ 242، 243، البيهقي: 2/ 182. (5) انظر: المدونة: 1/ 109، التفريع: 1/ 230. (6) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: إثم المار بين يدي المصلي: 1/ 129، ومسلم في الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي (1/ 363). (7) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي: 1/ 362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فصل [21 - دفع المار بين يدي المصلي]: ويدفع المصلي من نفسه ما يمر بين يديه من دابة أو إنسان دفعًا خفيفًا لا يشغله عن صلاته (1)، للحديث الذي رويناه، فإن أبي تركه (2)، ولا يتناول أحد من أحد شيئًا بين يدي المصلي لأن ذلك في معنى المرور (3). فصل [22 - قطع الصلاة]: ولا يقطع الصلاة مرور شيء بين يدي المصلي (4)، خلافًا لمن قال يقطعها الحائض والحمار والكلب الأسود (5)، لأن المرور بين يديه لا يوجب قطع الصلاة كمرور الطاهر وغيره من الحيوان. فصل [23 - الصلاة إلى السترة]: ويستحب له أن يصلي في المواضع التي لا يأمن مرور الناس بين يديه فيها إلى سترة (6)، لأنه صلى الله عليه وسلم كان تركز له العنزة (7) فيصلي إليها [ولأنه يحتاج إليها] (8)، حتى يأمن ذلك، وأقل ما يجزي قدر عظم الذراع في جلة   (1) انظر: التفريع: 1/ 230، الكافي ص 45. (2) وهذا مخالف لما رواه المؤلف من أنه يدرؤه ما استطاع أي يدفعه بكل وسيلة حتى قال: فإن أبي فليقاتله. (3) انظر: المدونة: 1/ 109، الكافي ص 45. (4) انظر: المدونة: 1/ 109، الكافي ص 45. (5) المشهور عن الإِمام أحمد أن الكلب الأسود يقطع الصلاة (مسائل الإِمام أحمد ص 102). وفي رواية أخرى عنه أنه يقطعها الكلب الأسود والمرأة والحمار (المغني: 1/ 250). (6) انظر: المدونة: 1/ 108، التفريع: 1/ 230. (7) العنزة: بالتحريك أطول من العصا وأقصر من الرمح (الصحاح: 3/ 887). والحديث أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الصلاة إلى العنزة، ومسلم في الصلاة، باب: سترة المصلي: 1/ 358. (8) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الرمح ونحوه، لأن ذلك مروي عنه صلى الله عليه وسلم (1)، وروي مؤخرة الرحل (2)، لأن ما دون ذلك لا يقع به استتاره للطافته وصغره، ولهذا قلنا: أنه لا يخط بين يديه خطأ لأنه لا يتبين للمجتاز إذ لا شخص له يحول بين المار والمصلي. فصل [24 - الصلاة إلى البيت دون سترة]: ولا يحتاج المصلي إلى البيت إلى سترة بينه وبين الطائفين (3)، لأن الطواف صلاة فهو كمصلي بين يديه صف يصلون، ولأن البيت [مثابة للجميع] (4)، فليس لأحد المصليين أولى بالمنع من الآخر. فصل [25 - سترة الإِمام لمن خلفه]: وإذا نصب الإمام سترة كانت له ولمن خلفه (5)، لأن المار يعلم أنهم في صلاة فيمتنع من المرور، لأنه لا يكاد يقع ذلك بين الإِمام والصف وإنما يقع بين يدي المصلي إلى الفضاء. فصل [26 - الصلاة إلى الحِلق والنيام]: ويكره أن يصلي إلى الحلق والنيام (6)، لأن الحلق يشغلون قلبه بحديثهم، والنائم ربما بدت منه عورة أو حدث، وقد روي: "ولا أصلي إلى نائم ولا محدث" (7).   (1) في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عمر في الصلاة، باب: سترة المصلي: 1/ 358 - 359. (2) مؤخرة الرحل: الرحل ما يوضع على البعير ليركب عليه مؤخرة الرحل مختلفة في الطول والقصر، فتارة تكون ذراعًا وتارة تكون أقل (نيل الأوطار: 3/ 3). (3) انظر: التفريع: 1/ 230. (4) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ. (5) انظر: التفريع: 10/ 230. (6) انظر: التفريع: 1/ 230، الكافي - لابن عبد البر ص 45. (7) أخرجه البيهقي: 2/ 279، وقال: هذا أحسن ما روي في هذا الباب وهو مرسل، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فصل [27 - استتار الرجل بالمرأة والصبي وغيرهما]: ويكره استتار الرجل بالمرأة، لأنه يتذكر منها ما يفسد صلاته أو يشغل قلبه إلا أن يكون ممن يأمن ذلك منها، ولا بأس به بالصبي إن كان يثبت ولم [يتحرك] (1)، بحيث لا يؤمن أن يتركه، وكذلك الاستتار بالبعير جائز وبالبقرة والشاة، ولا ينبغي ذلك في الخيل والبغال والحمير لأجل انعزالها (2). ...   = ورواه هشام بن زياد أبو المقدم عن محمَّد بن كعب وهو متروك، وأخرج أبو داود حديث قريب منه بلفظ: "لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث" في الصلاة، باب: الصلاة إلى المتحدثين والنيام: 1/ 445، وأخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: من صلى بينه وبين القبلة شيء: 1/ 308. (1) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ وأكمل النقص من السياق. (2) انظر في جملة هذه الأحكام: المدونة: 1/ 108، التفريع: 1/ 229 - 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 باب [صلاة الجمعة] والجمعة (1) فرض على الأعيان (2)، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة على من سمع النداء" (4)، وقوله: "من تركها ثلاثة متوالية طبع الله على قلبه" (5)، للإجماع ممن يعتمد على قوله (6). فصل [1 - وقت الجمعة]: ووقتها بعد الزوال (7)، خلافًا لمن أجازها قبله (8)، لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (9)، "ولأنه صلى الله عليه وسلم: كان يصليها إذا زالت الشمس" (10)، وعلى ذلك مضى السلف، ولأنها ظهر فأشبهت الظهر   (1) صلاة الجمعة: سميت الجمعة لأنها سبب لاجتماع الناس فيها فكأنها جامعة لهم، وشرعًا: هي ركعتان تمنعان وجوب الظهر على رأي أو تسقطها على آخر (غرر المقالة ص 141 - الرصاع على ابن عرفة ص 98). (2) انظر: المدونة: 1/ 142، التفريع: 1/ 230، الرسالة ص 141. (3) سورة الجمعة، الآية: 9. (4) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: من تجب عليه الجمعة: 1/ 630، في إسناده محمَّد بن سعيد الطائفي وفيه مقال، وذكر له البيهقي شاهدًا بإسناد جيد (3/ 173). (5) أخرجه النسائي في الجمعة، باب: التشديد في التخلف عن الجمعة: 3/ 73، وقال الهيثمي: رواه أحمد: 3/ 332، وإسناده حسن (2/ 195). (6) انظر: الإجماع ص 41، المغني: 2/ 295. (7) انظر: المدونة: 1/ 149، التفريع: 1/ 230، الرسالة ص 141. (8) أجازها قبل الزوال الإِمام أحمد (انظر مسائل الإِمام محمد ص 225). (9) سورة الإسراء، الآية: 78، ومعنى دلوك الشمس أي زوالها عن الاستواء. (10) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: وقت الجمعة إذا زالت الشمس: 1/ 217، ومسلم في الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس: 2/ 589. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 في كل يوم، ويدل على أنها هي الظهر أن كل واحدة منهما تسقط بالأخرى وتنوب منابها إذا أديت على شرائطها. فصل [2 - المشي إلى الجمعة]: والمشي إليها أفضل من الركوب (1)، "لأنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي إليها" (2)، ولقوله: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، فذكر"، "وكثرة الخطا إلى المساجد" (3)، ولأن الفضيلة في الطاعات بكثرة المشاق (4)، وهذا للقادر على المشي من غير ضرورة تلحقه، فأما إن منعه طين أو مطر أو بُعد مكان أو كان شيخًا كبيرًا أو مريضًا فله أن يركب. فصل [3 - شروط وجوب الجمعة]: وشروط الجمعة خمسة (5): إمام ومسجد وجماعة وخطبة وموضع استيطان وإقامة، وإنما قلنا أن الإمام من شرطها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه (6)، ولأن النداء من سنتها والنداء لا يكون إلا للجماعة والإمام من وصف الجماعة.   (1) انظر: التفريع: 1/ 230، مواهب الجليل: 2/ 169. (2) الحديث ورد في صلاة العيد أنه كان لا يأتها إلا ماشيًا، أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: في الخروج إلى العيد ماشيًا: 1/ 411، أحمد: 2/ 138، أما خروجه إلى الجمعة ماشيًا فلم يرد، وجاء في مصنف ابن أبي شيبة عن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الركوب إلى الجمعة والعيدين: 2/ 137. (3) أخرجه مسلم في الطهارة، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره: 1/ 219. (4) إن لم تكن المشاق مقصودة بالذات، وإنما حصلت تبعًا للفعل، والمشقة نفسها ليست مطلوبة في الشرع إلا عند المعتزلة. (5) انظر: المدونة: 1/ 139 - 142، التفريع: 1/ 230، الرسالة ص 141 - 142. (6) هذه الأحاديث مأخوذة من الاستقراء، وعدم ورود خلافها، وهذا أمر اتفاقي ليس له مخالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فصل [4 - دليل اشتراط المسجد في صلاة الجمعة]: وإنما شرطنا المسجد لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها في المسجد (1)، ولم يصلها إلا فيه وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (2). فصل [5 - اشتراط الجماعة في الجمعة ولا حد في عددهم معتبر]: وإنما شرطنا الجماعة لأن الإِمام يتضمنها، وليس لعددهم حد إلا أن يكونوا جمعًا يمكنهم الثواء (3) في موضع واحد وتتقرى بهم قرية. فصل [6 - شروط وجوب الجمعة مطلق العدد وأن يكونوا بالمصر أو القرية]: وإنما شرطنا العدد ومنعنا إقامتها بالواحد والاثنين وشبهها، لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عدد"، ولأن من شرطها المصر أو القرية لأجل الجمع. فصل [7 - ليس للجمعة عدد معين لا تصح إلا به]: وإنما لم نقل أن من شرطها الأربعين وأجزناها بما دون ذلك من العدد إذا كانوا بحيث وصفنا، خلافًا للشافعي (4) في قوله: إنها لا تقام بأقل من أربعين، لقوله: "الجمعة على من سمع النداء" (5)، وقوله: "الجمعة واجبة في كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة" (6)، وروي أن أسعد بن زرارة (7) صلاها   (1) هذه الأحاديث مأخوذة من الاستقراء وعدم ورود خلافها، وهذا أمر اتفاقي ليس له مخالف. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (215). (3) الثواء: قال ابن فارس: الثاء والواو والباء كلمة واحدة صحيحة تدل على الإقامة (معجم مقاييس اللغة: 1/ 393). (4) انظر الأم: 1/ 190، مختصر المزني ص 26، الإقناع ص 51. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) أخرجه الدارقطني: 2/ 7، والحديث مع ضعف رواته منقطع أيضًا (انظر تلخيص الحبير: 2/ 57). (7) والحديث جاء في أسعد بن زرارة وهو: أسعد بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 بالمدينة في بضعة عشر رجلًا حين بايع النبي - صلى الله عليه وسلم -" (1)، "وصلاها أنس بالبحرين لما بعثه صلى الله عليه وسلم باثنى عشر رجلًا" (2)، ولأن ما دون الأربعين جماعة يمكنهم الثواء وتتقري بهم قرية فكانوا كأربعين لمن شرط الأربعين، ولا تنفصل من زيادة خمسة أو ستة أو نقصانه عنها. فصل [8 - دليل اشتراط الخطبة في الجمعة]: وإنما شرطنا الخطبة خلافًا لعبد الملك (3) وداود (4)، لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها بخطبة (5)، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (6)، ولأنها في الكتاب مجملة وبينها بفعله فوجب اعتبار جميعه، وقال تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (7)، فذمهم على ترك الإنصات إليه، فدل ذلك على كونها شرطًا. فصل [9 - دليل اشتراط الاستيطان في الجمعة]: وإنما شرطنا الاستيطان للاتفاق على أنها لا تجب على أهل البوادي والمسافرين والذين لا قرار لهم ولا وطن (8).   = ابن مالك بن النجار لقيب بن النجار من كبراء الصحابة، وتوفي والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبني مسجده قبل بدر (انظر الإصابة: 1/ 50، طبقات ابن أسعد: 30/ 608). (1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: الجمعة في القرى: 1/ 645، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: في فرض الجمعة: 1/ 343، وسنده حسن، وحسَّنه الحافظ في التلخيص: 2/ 56، والعدد الوارد في الحديث أربعون رجلًا. (2) لم أعثر على تخريج لهذا الخبر. (3) بداية المجتهد- مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 3/ 273. (4) المجموع: 4/ 385، 394. (5) هذا مأخوذ من الاستقراء من الأحاديث الكثيرة، ومنها حديث جابر بن سمرة، قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائمًا ويجلس بين الخطبتين ويقرأ آيات ويذكر الناس (أخرجه مسلم في الجمعة، باب: ذكر الخطبتين: 2/ 589). (6) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (215). (7) سورة الجمعة، الآية: 11. (8) الإجماع ص 41، المغني: 1/ 329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فصل [10 - وجوب الجمعة على أهل القرى والأمصار]: وإنما سوينا بين المصر والقرى الصغار والكبار في وجوب الجمعة على أهلها إذا كانت القرية من البنيان واجتماع الناس فيها على صفة يمكن الإقامة والاستيطان فيها، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنها لا تجب على أهل القرى ولا تجب إلا في مصر (1)، لقوله عليه السلام: "الجمعة على كل مسلم" (2)، وروي: "الجمعه في كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة" (3)، والمقصود من هذا ضرب المثل أن صغرها لا يمنع إقامة الجمعة بها، وروي ابن عباس: "أن أول جمعة جمعت في الإِسلام بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قرية يقال لها جواثًا من قرى البحرين" (4)، ولأنها إقامة صلاة فلم يكن من شرطها المصر كسائر الصلاوات، واعتبارًا بالمصر بعلة أنه موضع بني للإقامة والاستيطان، وكون أهله عددًا ينعقد بهم الجمعة. فصل [11 - وجوب الجمعة على من كان خارجًا عن المصر على ثلاثة أميال] ويجب على كل من كان خارجًا عن المصر السعي إليها إذا كان من المصر على ثلاثة أميال أو ما قاربها (5)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يلزم من كان خارجًا من المصر المجيء إليها، قربت مسافته أو بعدت (6)، لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (7) فعم، وقوله صلى   (1) مختصر الطحاوي ص 35، مختصر القدوري: 1/ 109 - 110. (2) أخرجه النسائي في الجمعة، باب: التشديد في التخلف عن الجمعة: 3/ 73، بلفظ: "رواح الجمعة واجب على كل محتلم" وإسناده صحيح (نصب الراية: 2/ 198). (3) سبق تخريجه قريبًا (300). (4) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: في القرى والمدن: 1/ 215. (5) انظر: المدونة: 1/ 142، التفريع: 1/ 230، الرسالة ص 141. (6) النظر: مختصر الطحاوي ص 35، مختصر القدوري: 1/ 109. (7) سورة الجمعة، الآية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الله عليه وسلم: "الجمعة على من سمع النداء" (1)، ولأنه صحيح لو كان في المسجد لزمته الجمعة فوجب إذا كان على مسافة من المصر بحيث يسمع منها النداء أن تلزمه، أصله إذا كان في البلد لأنها مسافة يسمع منها نداء الجمعة بالمصر فلزم أهلها السعي إليها فهو من جملة من كان بأطراف المصر. فصل [12 - دليل التحديد بثلاثة أميال]: وإنما حددنا بثلاثة أميال وما قاربها، خلافًا للشافعي وغيره ممن زاد في ذلك أو نقص (2)، لأن تلك عادة ما يسمع منه النداء إذا كانت الرياح ساكتة والأصوات هادئة، وكان المؤذن صيِّتًا وذلك معلوم بالتجربة والعادة ممَّن جربه وامتحنه، وقد روي في بعض الأحاديث: "الجمعة على من كان من المصر على ثلاثة أميال" (3) ولأن أهل العوالي كانوا يشهدون الجمعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره، وهم بالعوالي على ثلاثة أميال (4). فصل [13 - الاعتبار بثلاثة أميال ولا مراعاة لمن زاد عن ذلك]: إذا ثبت ذلك فالاعتبار بأن يكون بينه وبين موضع النداء من المصر هذه المسافة، ولا يراعي أن يكون بينه وبين طرف المصر ثلاثة أميال إذا كان بين طرف المصر وبين موضع النداء مسافة أخرى، لأن ذلك يوجب السعي إلى الجمعة من خمسة أميال و [أكثر] (5)، وذلك غير واجب.   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) انظر: الأم: 1/ 192، مختصر المزني ص 26، الإقناع ص 51. (3) الأحاديث الواردة في هذا مرفوعة، فعن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه كان شهد الجمعة في الطائف وهو في قرية يقال لها: الوهط على رأس ثلاثة أميال (ابن أبي شيبة: 2/ 104)، وعن عكرمة قال: تؤتي الجمعة من أربع فراسخ (ابن أبي شيبة: 2/ 102). (4) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: من أين تؤتي الجمعة: 1/ 217، ومسلم في الجمعة، باب: وجوب غسل الجمعة: 2/ 581. (5) ما بين معقوفتين مطموس في جميع النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فصل [14 - عدم وجوب الجمعة على العبد]: ولا تجب الجمعة على عبد (1) خلافًا لداود (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة فذكر العبد المملوك" (3) وهي عبادة علقت (4) بموضع مخصوص يتعلق بقطع مسافة كالحج، ولأنه ذو نقص في نفسه، مؤثر في قبول شهادته، كالمرأة ولا يلزم عليه الفاسق (5) لنقصه في فعله لا في نفسه. فصل [15 - إمامة العبد في الجمعة]: اختلف في إمامته في الجمعة (6)، فقال ابن القاسم: لا تجوز، وقال أشهب: تجوز ولابن القاسم أن كل من تلزمه الجمعة لنقص في نفسه لم يصح أن يكون إمامًا فيها، أصله المرأة والصبي، ولأشهب أن كل من جاز أن يكون إمامًا للرجال في غير الجمعة من الفروض جاز أن يكون لهم إمامًا في الجمعة أصله الحرة، وإنما قلنا في الفروض احترازًا من الصبي. فصل [16 - عدم وجوب الجمعة على المرأة والصبي والمريض والمسافر]: ولا جمعة على المرأة ولا على الصبي، لقوله: "الجمعة على كل مسلم إلا أربعة العبد والمرأة والصبي والمريض" (7)، ولأن الصبي ناقص عن بلوغ التكليف فلا تلزمه عبادات الأبدان، فأما المريض فإن كان مرضه لا يمنعه السعي فالجمعة عليه، وإن كان مانعًا له منها سقطت الجمعة عنه، وأما المسافر فلا جمعة عليه،   (1) انظر: المدونة: 1/ 147، التفريع: 1/ 230، الرسالة ص 142. (2) انظر: المحلي: 5/ 73، المجموع: 4/ 353. (3) سبق تخريج الحديث ص 301. (4) في (ق): إضافات. (5) في (ق): القياس ص 159. (6) انظر: المدونة: 1/ 146، الكافي ص 46. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 لأنه لا جماعة عليه لأن من شرطها الإقامة ومن حضرها من هؤلاء أجزأتهم عن فرضهم (1). فصل [17 - إذن السلطان لصحة الجمعة]: وليس من شرط وجوب الجمعة ولا من شرط صحتها ولاية من السلطان (2)، خلافًا لأبي حنيفة (3)، لقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (4) فعم، ولم يشترط إذن السلطان، ولأن السلطان لا يكون شرطًا في وجوب الصلوات اعتبارًا بسائر الصلوات. فصل [18 - الخطبة بوضوء]: الأفضل أن يخطب على وضوء، لأن ذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف بعده، ولأنها آكد من الأذان لأنها شرط في صحة الجمعة، والأذان ليس بشرط فإذا استحب ذلك في الأذان ففي الخطبة أولى، وإن أذن وخطب محدثًا كره له ذلك وجاز (5)، خلافًا للشافعي (6) في أحد قوليه (7)، ولأنه ذكر للصلاة يتقدم عليها فلم يكن من شرطه الطهارة كالأذان والشهادتين. فصل [19 - الاقتصار على التهليل والتسبيح في الخطبة]: إذا اقتصر على التهليل والتسبيح (8)، قال ابن عبد الحكم: يجزيه من   (1) في جملة هذه الأحكام، انظر: المدونة: 1/ 143، التفريع: 1/ 230، الرسالة: 1/ 14 - 142، الكافي ص 69. (2) انظر: المدونة: 1/ 142، التفريع: 1/ 231، الكافي ص70. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 31، مختصر القدوري: 1/ 110. (4) سورة الجمعة، الآية: 9. (5) انظر: المدونة: 1/ 142، التفريع: 1/ 231. (6) انظر: المدونة: 1/ 144، التفريع: 1/ 231. (7) انظر: المهذب: 1/ 111، والمجموع: 4/ 387. (8) التهليل: أن يقول: لا إله إلا الله، والتسبيح: أن يقول: سبحان الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الخطبة، وقال ابن القاسم: لا يجزيه إلا أن يأتي بما يكون عند العرب خطبة، فلابن عبد الحكم (1) أنه أتى بلفظ فيه تعظيم لله وتكبير فأجزاه من الخطبة، أصله إذا طال ووصله بأمثال أو ضم إليه موعظة، ولابن القاسم أنه إن لم يقع عليه اسم خطبة لم يجزه لقيام الدليل على اشتراط الاسم (2). فصل [20 - صفة الخطبة]: صفة الخطبة: أن يكون فيها كلام منظوم، يحمد الله تعالى فيه ويصلي على نبيه ويأتي بموعظة، فإن اقتصر على بعض ذلك أجزاه بعد أن يأتي بما يقع عليه الاسم (3)، وقال الشافعي (4): لا بد فيها من هذه الأصناف، ومعه شيء من القرآن، فإن أخل به فلا يجزيه، ودليلنا أنه أتى بما يقع عليه الاسم فأشبه إذا ضم إليه الموعظة والقراءة. فصل [21 - الجلوس في الخطبة]: السُّنَّة في الخطبة أن يجلس في أولها ووسطها (5)، "لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل (6) "، فإن وصل ذلك ولم يجلس فقد ترك السنة وأجزاه،   (1) أي الدليل لابن عبد الحكم، وانظر في هذه المسألة المدونة: 1/ 149، التفريع: 1/ 231. (2) واسم الخطبة عند العرب هو جمع كلام اختلف ألفاظه ومعانيه، ومجرد الذكر لا يسمى خطبة (لسان العرب: 1/ 348). (3) انظر المدونة: 1/ 149، التفريع: 1/ 231. (4) انظر الأم: 1/ 201، الإقناع ص 51. (5) انظر: المدونة: 1/ 140، الرسالة ص 141، الكافي ص 71. (6) الحديث أخرجه أبو داود في المراسيل ذكره الزيلعي: 2/ 197، وفيه جلستين، وفي الصحيحين عن ابن عمر كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ثم يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن، البخاري في الجمعة، باب: الخطبة قائمًا، ومسلم في الجمعة، باب: الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة: 2/ 589. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 خلافًا للشافعي (1)، لأنه إذا أتى بما يسمى خطبة فأشبه أن يأتي بها على الوجه الذي يتفق عليه. فصل [22 - تعدد الأذان للجمعة]: للجمعة أذانان (2)، إحداهما عند الزوال، والآخر عند جلوس الإِمام على المنبر، وهذا الثاني آكد من الأول لأنه الذي كان يفعل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الذي يؤتى به عند الزوال، ففي أيام عثمان رضي الله عنه لأن الناس كثروا (3) واحتاج إلى زيادة في إعلامهم، ويؤذن لها على المنار لأنه كذلك كان يفعل في عهده عليه الصلاة والسلام، فأما أذانهم جميعًا بين يدي الإِمام وهو على المنبر، فإنه محدّث أُنشيء في زمان بعض بني أُمية، ويأخذ الإِمام في الخطبة بعد الفراغ من الأذان الذي يؤتي به وهو على المنبر. فصل [23 - منع البيع عند النداء الأخير]: ويمنع الناس بعد جلوس الإِمام على المنبر وأخذ المؤذنين في الأذان من البيع (4) والأصل فيه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (5)، ولا خلاف في ذلك (6)، فإن باع بعض من تلزمه الجمعة في ذلك الوقت فسخ البيع على الظاهر (7) من المذهب، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (8)، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه (9)،   (1) انظر: الأم: 1/ 199، والإقناع: 1/ 51، بحيث يقول: إن الجلسة واجبة كان صلى الله عليه وسلم يجلسها. (2) انظر: التفريع: 1/ 230، الرسالة ص 141، الكافي ص 70 - 71. (3) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الأذان يوم الجمعة: 1/ 219. (4) انظر: المدونة: 1/ 144، التفريع: 1/ 233، الرسالة ص 141. (5) سورة الجمعة، الآية: 9. (6) انظر: المحلي: 5/ 116 - 117، المجموع: 4/ 368. (7) انظر: المدونة: 1/ 143، التفريع: 6/ 232. (8) المختصر القدوري: 2/ 30، الأم: 1/ 195. (9) وهذه قاعدة أصولية معروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ولأنه عقد منع لأجل حق الله تعالى والتشاغل بعبادة لا يصلح قضاؤها فأشبه النكاح في العدة. فصل [24 - عدم التنفل والإمام يخطب]: إذا دخل والإمام في الخطبة جلس ولم يركع (1)، خلافًا للشافعي (2)، لقوله: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" (3)، فنبه بذلك على أن ما كان أكثر منه أولى بالمنع، ولأنها صلاة افتتحت والإمام يخطب فيجب منعها، أصله إذا كان جالسًا، ولأن في ذلك ذريعة إلى التشاغل عن الإِمام والتهاون لخطبته وترك الإنصات له. فصل [25 - الإنصات للخطبة]: والإنصات له واجب (4)، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (5)، قيل ذلك في الخطبة (6)، ولقوله: "إذا قلت لصاحبك انصت والإمام يخطب فقد لغوت" (7)، هذا تنبيه على منع كل تشاغل عن الإنصات من حديث أو صلاة أو قراءة أو أي شيء كان. فصل [26 - عدم سلام الإِمام إذا صعد المنبر]: ولا يسلم إذا صعد على المنبر (8)، خلافًا للشافعي (9)، ولأنه لم يرد في   (1) انظر: التفريع: 1/ 232. (2) انظر: الأم: 1/ 197، المجموع: 4/ 429. (3) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة: 1/ 224، ومسلم في الجمعة، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة: 2/ 583. (4) انظر: المدونة: 1/ 138 - 139، الرسالة: 142. (5) سورة الأعراف، آية: 204. (6) انظر: تفسير الطبري: 9/ 165. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) انظر: المدونة: 1/ 140. (9) انظر: الأم: 1/ 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 شيء من الروايات الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسلم، وإنما هو شيء محدث، ولأن صعوده على المنبر تشاغل بافتتاح عبادة وليس في العبادات ما سن فيه سلام الإِمام على من أمه، ولأنه ذكر يتقدم للصلاة فأشبه الأذان ولأنها خطبة كالثانية. فصل [27 - صفة القراءة في الجمعة والسورة التي يستحب قراءتها وبما تدرك]: والقراءة في الجمعة جهرًا (1)، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر فيها بالقراءة (2)، ولأنها صلاة بخطبة، وكل صلاة بخطبة فالقراءة فيها جهرًا، ويستحب في الأولى بسورة الجمعة (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4) في قوله: إن الجمعة وغيرها سواء، "لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في صلاة الجمعة" ويداوم (5) عليها، ولأنها تشتمل على أشياء من أحكام الجمعة: من وجوب صلاتها والسعي والمبادرة إلى فعلها وترك ما يشغل عنها من البيع نصًّا وتنبيهًا وأحكام الخطبة ووجوب الإنصات، فكانت أولى من غيرها، وأما الثانية فقد روي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ إذا جاءك المنافقون" (6)، وروي: "هل أتاك حديث الغاشية" (7)، وروي: "سبح اسم ربك الأعلى" (8)، وكل ذلك واسع. ومن أدرك مع الإِمام ركعة من الجمعة ضم إليها أخرى، لأنه بإدراكه ركعة منها مدرك لها، وإن أدركه بعد رفع رأسه من الركعة الثانية فقد فاتته، فيصلي   (1) انظر: الرسالة ص 142، الكافي ص 71. (2) وهذا معروف بالاستقراء والأحاديث الآتية التي تذكر ما كان يقرأه صلى الله عليه وسلم من السور في هذه الصلاة. (3) انظر الرسالة ص 142، الكافي ص 71. (4) انظر: مختصر القدوري: 1/ 111. (5) أخرجه مسلم في الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الجمعة: 2/ 597. (6) هو نفسه الحديث السابق. (7) و (8) أخرجهما مسلم في الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الجمعة: 2/ 598. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ظهرًا أربعًا (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2) في قوله: أنه يصلي جمعة لقوله: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها" (3)، فدل أن ما دونها لا يقع به الإدراك، وروي أيضًا في الجمعة (4)، وإن أدركهم في التشهد صلى أربعًا، ولأنه أدركه بعد رفعه من الركوع فأشبه إدراكه بعد قعوده قدر التشهد. فصل [28 - من صلى الظهر في بيته يوم الجمعة قبل صلاة الإِمام]: من صلى الظهر يوم الجمعة في بيته قبل صلاة الإِمام فلا يجزؤه (5)، لأن فرض الوقت الجمعة فلا تسقط إلا بفعلها، يدل عليه قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة حق واجب على كل مسلم" (7)، وكذلك لو صلاها في وقت أو سعى إلى الجمعة لأدركها أو ركعة منها، وإن كان في وقت لو مضى إليها لم يدرك منها ركعة أجزاه لأنه لا يقدر حينئذ على فعلها. فصل [29 - فيمن فاتته الجمعة لا يصليها ظهرًا جماعة]: من فاتته الجمعة ضربان: معذور يظهر عذره مثل المرضى، والمُحبسين ومن أشبههم: وهؤلاء يجوز لهم أن يصلوا الظهر في جماعة لأنهم على الأصل وظاهر العذر، ومنهم من لم يظهر عذره فيكره له أن يصلي الظهر في جماعة (8)   (1) انظر: المدونة: 1/ 138، التفريع: 1/ 232. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 35، مختصر القدوري: 1/ 113. (3) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: من أدرك من الصلاة ركعة: 1/ 145، ومسلم في المساجد، باب: من أدرك ركعة من الصلاة .. : 1/ 423. (4) أخرجه ابن ماجه في الإقامة، باب: أدرك ركعة من الجمعة: 1/ 356، وهو صحيح. (5) انظر: التفريع: 1/ 233، الكافي ص 72. (6) سورة الجمعة، الآية: 9. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) انظر: المدونة: 1/ 148، التفريع: 1/ 232 - 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 خلافًا للشافعي (1)، ولأن في ذلك نظرًا لأهل البدع أن يتركوا الجمعة ويصلوا الظهر خلف من يعتقدون إمامته وجواز الصلاة خلفه ويُظهرون أن الصلاة فاتتهم. فصل [30 - من أصابه حدث]: من أصابه حدث يوم الجمعة لم يلزمه استئذان الإِمام في الخروج لطهارته (2) لأن استئذان الإِمام إنما يجب فيما إليه منعه والإذن فيه، وهذا مما لا يجوز له منعه لو أراده، فكان كاستئذان في خلع عمامته أو نعله أو غير ذلك مما لا إذن له به، وقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (3) وارد في غير هذا. فصل [31 - إذا اتفق عيد وجُمعة]: إذا اتفق عيد وجمعة لم يسقط أحدهما الآخر (4)، خلافًا لمن قال: أن حضور العيد يكفي عن الجمعة (5)، لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الجمعة على كل مسلم" (7)، ولأن شرائط الجمعة موجودة فلزم أداؤها أصله إذا لم يكن يوم عيد لأن صلاة العيد سُنَّة فلم تسقط فرضًا أصله الكسوف، ولأن الجمعة آكد من العيد لأنها فرض فإذا لم يسقط الأضعف كان الأضعف أولى بأن لا يسقط الأكبر.   (1) انظر: الأم: 1/ 190، مختصر المزني ص 27. (2) المدونة: 1/ 145. (3) سورة النور، الآية: 62. (4) انظر: المدونة: 1/ 142. (5) قاله الإِمام أحمد، انظر الإنصاف- للمراودي: 4032. (6) سورة الجمعة، الآية: 9. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فصل [32 - في عدم انعقاد جمعتان في مصر واحد]: لا تنعقد جمعتان في مصر واحد (1)، خلافًا لمن أجازه (2)، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجزها إلا في موضع واحد، ولو جازت في أكثر منه لبينه قولًا وفعلًا، ولأنه مصر انعقدت فيه الجمعة فلم تنعقد فيه أخرى كالثالثة والرابعة. فصل [33 - غسل الجمعة]: غُسل الجمعة سُنَّة مؤكدة (3)، لقوله: "من جاء الجمعة فليغتسل" (4)، وقوله: "غُسل الجمعة واجب على كل محتلم" (5)، وليس بواجب لزوم وحتم، خلافًا لمن ذهب إلى ذلك (6)، لقوله: "من جاء الجمعة فتوضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغُسل أفضل" (7)، ولأنها صلاة شرعية فلم يكن من شرطها غُسل زائد على رفع الحدث كسائر الصلوات. فصل [34 - اتصال الغُسل بالرواح]: ومن سُنَّته أنه يكون واصلًا بالرواح (8)، فإن تراخا عنه تراخيًا شديدًا لم   (1) انظر: التفريع: 1/ 233، الكافي ص 71. (2) أجازه أبو حنيفة ومحمد (انظر: مختصر الطحاوي ص 35). (3) انظر: المدونة: 1/ 136، التفريع: 1/ 233، الرسالة ص 142. (4) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: فضل الغُسل يوم الجمعة: 1/ 212، ومسلم في الجمعة، باب: وجوب غسل الجمعة: 2/ 579. (5) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة: 1/ 122، ومسلم في الجمعة، باب: وجوب غسل الجمعة: 2/ 580. (6) في رواية عن الإمام أحمد أنه واجب (المغني: 2/ 346). (7) أخرجه النسائي في الجمعة، باب: الرُخصة في ترك الغُسل يوم الجمعة: 3/ 77، الترمذي في الصلاة، باب: الوضوء يوم الجمعة، وقال: حديث حسن: 2/ 369. (8) انظر: المدونة: 1/ 136، التفريع: 1/ 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يكن الغُسل المأمور به، خلافًا لابن وهب وسائر الفقهاء (1)، لقوله: "إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل" (2)، والشرط لا يتأخر عن المشروط، ولأن الغرض طيب البدن وزوال روائح المهن التي كان يتأذى بها، ومتى تأخر الرواح عنه زال هذا المعنى والله أعلم. ...   (1) انظر المجموع: 4/ 804، المغني: 1/ 347. (2) أخرجه البخاري في الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة: 1/ 212، ومسلم في باب وجوب غسل الجمعة: 2/ 580. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 باب: [صلاة الخوف] وصلاة الخوف بأذان وإقامة، لأنها صلاة تؤدي في جماعة كسائر الصلوات (1). فصل [1 - صفة صلاة الخوف]: صلاة الخوف هي الصلاة المكتوبة، يحضر وقتها والمسلمون محاربون لعدوهم، ولا يخلو ذلك أن تكون في حضر أو سفر، فإن كانوا في سفر صلاها الإِمام بهم مقصورة، يصلي بكل طائفة ركعة على ما نبينه، وإن كانوا في حضر صلَّى بهم تامة بكل طائفة ركعتان، فإن كانت من الصلوات التي لا تقصر: فإن كانت الصبح صلى بكل طائفة ركعة، وإن كانت المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة. والوجه فيها أن يقسم الإِمام العسكر فرقتين، يصلي بإحداهما وتقيم الأخرى بإزاء العدو، فيصلي بالطائفة التي معه ركعة إن كانوا في سفر، أو ركعتين إن كانوا في حضر، ثم تتم الطائفة التي معه ما بقي عليها وتسلم وتنصرف. وفي السفر يقوم إلى الثانية وينتظر مجيء الثانية قائمًا، وفي الحضر إذا خرج من التشهد في الركعة الثانية فيها روايتان: إحداهما: أنه يشير إليهم بالفراغ ليتموا، فإذا بدأت الطائفة الأخرى قام وصلى بهم. والأخرى: أنه يقوم إلى الثالثة فيعلم الناس فراغه فيتمون لأنفسهم، ثم إذا جاءت الطائفة الأخرى أتم بقية الصلاة، فإذا فرغ من تشهده ففيهما روايتان: إحداهما، أنه يشير إليهم فيتمون، والأُخرى أنه يسلم ثم يتمون بعد سلامه،   (1) انظر: المدونة: 1/ 129، التفريع: 1/ 237، الرسالة ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وفي المغرب روايتان: إحداهما، أنه يشير إليهم بعد فراغه من تشهد الركعة الثانية، والأُخرى أنه يقوم إلى الركعة الثالثة فينتظر الفرقة الأخرى (1). فصل [2 - ترجيح هذه الصفة من صلاة الخوف]: وإنما قلنا: إن صلاة الخوف على هذه الصفة خلافًا لأبي حنيفة (2) في قوله: أن الإِمام يصلي بالطائفة الأولى ركعة بسجدتيها ثم تنصرف فتقف بإزاء العدو، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الركعة الثانية ويتشهد ويسلم، ثم تنصرف هذه الطائفة وتقف بإزاء العدو وتعود الطائفة الأُولى فيقضون لأنفسهم ركعة وسجدتين وحدانًا وتتشهد وتسلم ثم تنصرف وتقف بإزاء العدو، وتأتي الأخرى فتقضي كذلك، لأنا روينا صلاة الخوف من طريق صالح بن خوات (3)، عن سهل بن أبي حثمة (4) على الصفة التي ذكرناها (5)، وهم صاروا إلى أخبار رووها، فالكلام بيننا في ترجيح الأخبار، فوجدنا أخبارنا أولى بالمصير إليها لأمور منها: أنها أكثر عددًا لأنها مروية عن ثلاثة من الصحابة (6)، وسائر ما رووه مروي عن   (1) في جملة أحكام صلاة الخوف انظر: المدونة: 1/ 149 - 150، التفريع: 1/ 237 - 238، الرسالة ص 143. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 38، مختصر القدوري: 1/ 123 - 124. (3) صالح بن خوات: هو صالح بن خوات بن جبير النعمان الأنصاري المدني، روي عن أبيه وخاله وسهل بن أبي حثمة، روي عنه ابنه خوات ويزيد بن رمان والقاسم بن محمَّد، عدله النسائي ووثقه ابن حبان (التهذيب: 4/ 387). (4) سهل بن أبي حثمة: بن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني، صحابي صغير، ولد سنة ثلاث من الهجرة، وله أحاديث، مات في خلافة معاوية (تقريب التهذيب: 257). (5) أخرج الحديث البخاري في المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع: 5/ 52 - 53، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف: 1/ 575، ومالك: 1/ 183، وهذا حديث صالح بن خوات المسند، أما حديث سهل الموقوف في الموطأ: 1/ 183، فقد روي مسندًا في البخاري ومسلم في نفس الصفحات المذكورة سابقًا. (6) الصحابة هم: خوات وسهل بن أبي حثمة وعبد الله بن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 واحد إلا حديث ابن مسعود (1)، وهو حديث مختلف عليه فيه (2)، ولأن ظاهر القرآن معنا: وهو قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} (3)، فأفردهم بالسجود، فاقتضى ذلك أن يسجدوا لأنفسهم سجودًا ينفردون به لا يشركهم فيه الإِمام مع كون الإِمام في الصلاة لقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (4)، وهذا لا يمكن إلا على ما نقوله: أن كل طائفة تصلي ما بقي عليها حال صلاة الإِمام، وعلى قول أبي حنيفة لا تصح، لأن القضاء عنده لا يكون إلا بعد فراغ الإِمام من الصلاة لكلتا الطائفتين (5). قال أحمد بن المعذل: ولأن ما قلناه أحوط لأن انصراف الطائفة الأولى التي قد صلت مع الإِمام ركعة إلى مكان الطائفة الواقعة بإزاء العدو، وإنما هو للحفظ والحراسة، فيجب أن تكون تقف في مكانها وهي فارغة لما قصدت له غير مشتغلة بمراعاة ما سواه، لأن ذلك أمكن في التحرز وأشبه بالمعنى الذي استدعيت له، ولأنهم ربما احتاجوا في التحفظ إلى كلام وصياح وغير ذلك من العمل الذي يبطل الصلاة بكثرته، فيزول ما بني عليه أمر صلاة الخوف من التحفظ للصلاة.   (1) أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود: مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيره ويقال: اسمه عامر، كوفي ثقة من كبار الثالثة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، مات بعد سنة ثمانين (تقريب التهذيب: 656). (2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: يصلي بكل طائفة ركعة: 2/ 37، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1/ 311، البيهقي: 3/ 261، والدارقطني: 2/ 61، وقال البيهقي: وهذا الحديث مرسل أبو عبيدة لم يدرك أباه وخصيف الجزري ليس بالقوي: 3/ 261. (3) سورة النساء، الآية: 102. (4) سورة النساء، الآية: 102. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 38، مختصر القدوري: 1/ 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فصل [3 - الإِمام ينتظر الطائفة الثانية إذا فرغوا سلم بهم]: وإنما قلنا: إن الإِمام ينتظرهم، فإذا فرغوا سلم بهم، وهو قول الشافعي (1) فوجهه قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (2)، وهذا يفيد جميع صلاتهم، وأنه يؤدي إلى التسوية بين الطائفتين في الفضيلة فكان أولى، ولأن الخبر بذلك مسند (3)، والخبر الآخر موقوف على صحابي (4)، وهو سهل بن أبي حثمة، فإذا قلنا: أنه لا يسلم بهم (5)، وهو الظاهر من المذهب فلأن تغيير صلاة الخوف إنما جاز للضرورة فإذا استوت الحال حملناها على الأصل، ولا فضل (6) بين سلام الإِمام قبلهم وبين انتظاره إياهم في باب الضرورة، ولأن انتظاره إياهم زيادة عمل في الصلاة غير محتاج إليه لأجل الخوف وذلك مكروه، ويفارق قيامه من الركعتين، لأن ذلك لانتظار الطائفة الأخرى، وذلك محتاج إليه في صلاة الخوف، ولأن المأمومين لا يقفون على فراغه من التشهد إلا بإشارة منه أو التفات أو غير ذلك مما يشعرهم به، وذلك زيادة عمل فكان التسليم أولى به (7)، ولأنه قد لا يصل إلى العلم بفراغهم جميعهم من تلك الركعة لاختلافهم في القضاء من السرعة والإبطاء، فلا يخلوا أن يسلم بهم على حسب ما يغلب على ظنه من فراغهم، فتفوت الفضيلة بعض الطائفة أو أن ينتظرهم ما يعلم بالعادة أن جميعهم قد فرغوا، فذلك زيادة في صلاته غير محتاج إليها، لأن الطائفة الأولى لما كان ابتداؤها في القضاء بعد انفصاله عن الركعة الأولى، فيجب أن تكون كذلك الطائفة الأخرى، وهذا لا يمكن إلا بعد سلامه لأنه ما لم يسلم فهو في الصلاة.   (1) الأم: 1/ 211، الإقناع ص 57. (2) سورة النساء، الآية: 102. (3) وهو خبر صالح بن خوات، وقد سبق تخريجه ص 315. (4) وقد سبق تخريجه ص315. (5) أي يسلم قبلهم. (6) في (ق): ألا. (7) به: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فصل [4 - صفة صلاة الخوف في صلاة المغرب]: وإنما قلنا في المغرب: يصلي بالطائفة الأولى ركعتين (1) خلافًا لما قال بعض الشافعية (2) أنه يجيء على قوله أنه يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، لأن صلاة الخوف مبنية على التخفيف للتحرز والتحفظ من العدو، وما ذكرناه أقرب إلى المقصود لأنه إذا صلى بالأولى ركعتين وقف لانتظار قضاء ركعة، فكان أولى وقوفه لانتظار قضاء ركعتين، ولأن صلاة الخوف مبنية على المساواة، فإذا لم يمكن انقسام الركعة كان صلاته إياها بالأولى أولى لأن أول الصلاة أكمل من آخرها، ألا ترى أنه يقرأ في الأوليين بالحمد وسورة جهرًا، وفي الثانية سرًّا بالحمد، فعلم أن الثانية في حكم أول الصلاة. فصل [5]: ووجه قوله: أن إذا فرغ من تشهده أشار إليهم فقاموا للقضاء هو أن صلاة الخوف مبنية على المساواة وانتظاره إياهم في الجلوس أقرب إلى المساواة لأنهم يدركونه في أول قيامه، ووجه قوله: إنه ينتظرهم قائمًا ما قاله عبد الملك (3) أنه لا غاية لقعوده ولا أمارة يعلمون بها فراغه من تشهده وأوان قيامهم لقضاء ما عليهم لا يمكن إلا بأن يشير إليهم، وذلك زيادة عمل في الصلاة مستغنى عنه فكان انتظاره إياهم قائمًا أولى. فصل [6 - صلاة الخوف في وقتنا هذا]: صلاة الخوف جائزة في هذا الوقت، خلافًا لأبي يوسف في قوله: إنها ما أجيزت إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (4)، لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ   (1) انظر: المدونة: 1/ 149، التفريع: 1/ 237، الرسالة ص 143. (2) انظر: الأم: 1/ 213، مختصر المزني ص 29. (3) انظر الكافي ص 72. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 38، المغني: 1/ 400، وفي تحفة الفقهاء: 2/ 177، هو من رأي الحسن بن زياد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الصَّلَاةَ} (1)، والأصل أنا مساوون له في الأحكام إلا ما قام الدليل على خصوصه، ولقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (2)، وهذا عام في صلاة الخوف وغيرها، ولأن الصحابة قد صلوها بعده وأفتوا بجوازها (3)، ولأنه عذر يغير نية الصلاة، فكان حكمنا فيه حكمه كالسفر والمرض، ولأن المعنى الذي له أجيزت صلاة الخوف حراسة المسلمين والتحرز من العدو وهذا لا يختص بزمان دون زمان. فصل [7 - إذا اشتد الخوف]: إذا اشتد خوفهم فلم يقدروا على أن يصلوا جماعة صلوا على حسب طاقتهم ركبانًا ورجالة ومشاء وإيماء لأنهم لا يقدرون على غير ذلك (4)، والله أعلم. ...   (1) سورة النساء، الآية: 102. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (214). (3) فقد صلى بها أبو موسى الأشعري بأصبهان، وكذلك صلاها عليّ بن أبي طالب وسهل بن أبي حثمة علمهم صلاة الخوف، وعن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها رضي الله عنهم جميعًا (انظر البيهقي: 3/ 252). (4) انظر: التفريع: 1/ 338، الرسالة ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 باب: صلاة العيدين صلاة العيدين (1) سُنَّة مؤكدة (2)، خلافًا لمن قال: أنها فرض على الكفاية (3)، لأنها صلاة تشتمل على ركوع وسجود، وليست بفرض على الأعيان، فلم تكن فرضًا على الكفاية كسائر النوافل، ولأنها ذات ركوع وسجود، وليس من سنتها الأذان بوجه كالاستسقاء. فصل [1 - الدليل على أنها سُنَّة مؤكدة]: وإنما قلنا: أنها سُنَّة مؤكدة لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها وجمع لها وأمر بها وحض عليها وخطب فيها (4)، فوجب بذلك كونها سُنَّة مؤكدة. فصل [2 - ما جاء في الاغتسال لصلاة العيد]: الغُسل لها مستحب (5) لأنه يوم عيد فاستحب فيه الغُسل كالجمعة، ولأن ذلك مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (6) وعن السلف، ويجوز أن يغتسل لها قبل الفجر   (1) صلاة العيدين: العيد مشتق من العود وهو الرجوع والتكرر لأنه متكرر في أوقاته (مواهب الجليل 2/ 189). (2) انظر: المدونة: 1/ 154 - 156، التفريع: 1/ 233، الرسالة ص 144. (3) قاله بعض أصحاب الشافعي (انظر: المجموع: 5/ 3، المغني: 2/ 367). (4) فعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وأخرجه البخاري في العيدين، باب: المشي إلى العيد بغير أذان ولا إقامة: 2/ 5، ومسلم في صلاة العيدين: 2/ 604، وحديث ابن عمر أنه كان صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة أخرجه البخاري في العيدين، باب: الخطبة بعد العيد: 2/ 5، ومسلم في العيدين، باب: صلاة العيدين: 2/ 605. (5) انظر: المدونة: 1/ 154، التفريع: 1/ 234، الرسالة ص 145. (6) انظر: الحديث الآتي فيه ندبه صلى الله عليه وسلم للغُسل لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 بخلاف الجمعة، والفرق بينهما أن وقت صلاة العيد غدوة (1)، فيقرب من وقت الاغتسال وصلاة الجمعة بعد الزوال فلو أجَزْنَا الاغتسال لها قبل الفجر لبعد ما بينه وبين الصلاة وزال معنى تعليقه بالرواح. فصل [3 - الزينة والطيب في العيدين]: ويستحب فيها الزينة والطيب (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه" (3)، فندب إلى ذلك في الجمعة، وعلله بأنه عيد فكان كل عيد كذلك، وقال معاذ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا غدونا إلى المصلى أن نلبس أجود ما نقدر عليه من الثياب (4)، ولأن في ذلك زينة للإسلام وجمالًا للشرع وإعظامًا وإرهابًا للعدو. فصل [4 - الأكل قبل الغدو في الفطر وفي الأضحى بعده]: يستحب في الفطر الأكل قبل الغدو إلى المصلى، وفي الأضحى الأكل بعد الغدو من المصلى (5)، "لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل ولا يطعم في الأضحى حتى يرجع" (6)، وإنما هما يومان للمساكين   (1) غدوة: وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس (المصباح المنير، مادة "غدًا" ص 443). (2) انظر: التفريع: 1/ 234، الرسالة ص 145، الكافي ص 78. (3) أخرجه البيهقي: 3/ 243، وأخرجه الطبراني في الأوسط والصغير ورجاله ثقات (مجمع الزوائد: 2/ 176). (4) أخرجه الحاكم: 4/ 230، وقال: لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمت للحديث بالصحة. (5) انظر المدونة: 1/ 156، الكافي ص 77. (6) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب: في الأكل يوم الفطر قبل الخروج، وقال عنه: حديث غريب: 2/ 426، وابن ماجه في الصيام، باب: الأكل يوم الفطر: 1/ 558، الحاكم: 1/ 294، وصحَّحه ابن القطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 حق في ماله وينسب إليهما، فكان أكله مصاحبًا لإيصاله إليهم، فلما كان في الفطر يخرج الزكاة قبل الغدو، وكان أكله في ذلك الوقت، وفي الأضحى لما كان لا يضحي إلا بعد الرجوع كان أكله في ذلك الوقت. ويستحب المشي إليهما لما ذكرناه في الجمعة، والنزول إليهما من ثلاثة أميال لأنها صلاة عيد أمر بالسعي إليها موجب تقدير ذلك لمن هو خارج المصر بثلاثة أميال كالجمعة. فصل [5 - الرجوع من غير الطريق التي ذهب منها]: يستحب أن يرجع من غير الطريق الذي غدا منها: "لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" (1)، وقد ذكر فيه فوائد أكثرها دعاوي فارغة (2)، وليس إلا للاقتداء فقط. فصل [6 - وقت صلاة العيدين]: ووقت صلاة العيدين إذا أشرقت الشمس (3)، "لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها في ذلك الوقت" (4)، وغدو المصلِّي إلى المصلَّى بحسب قرب منزله وبعده. فصل [7 - إظهار التكبير في المشي والجلوس في العيدين]: يظهر الغادي إلى المصلَّى التكبير في ممشاه وفي جلوسه في العيدين (5)، لأن ذلك من عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف بعده، وخالفنا أبو حنيفة، وقال: لا يكبر في   (1) أخرجه البخاري في العيدين، باب: من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد: 21/ 11. (2) حكى هذا النص الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 2/ 473. (3) المذهب على أن وقتها من حل النافلة بارتفاع الشمس عن الأفق قيد ريح لا قبله، فتكره بعد الشروق (الشرح الصغير: 1/ 175). (4) أخرج ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: وقت صلاة العيدين: 1/ 418. (5) انظر: المدونة: 1/ 154، التفريع: 1/ 234، الرسالة ص 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 يوم الفطر في ممشاه ولا في جلوسه (1)، ودليلنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخرج يوم الفطر فيكبر حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير (2)، ولأنه يوم يصلي فيه صلاة عيد فأشبه يوم الأضحى. فصل [8 - التكبير يوم الفطر دون ليلته]: يكبر يوم الفطر دون ليلته خلافًا للشافعي (3)، لأنه ذِكْر يختص استحبابه بالعيد فكانت البداية به يوم العيد دون ليلته كالتكبير في الصلوات يوم العيد، ولا يلزمه التكبير خلف الصلوات لأنه ليس بمختص بالعيد لأنه يقع في أيام التشريق. فصل [9 - صلاة العيد في المصلى]: الاختيار أن يصلي في المصلى دون المسجد الجامع (4)، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها في المصلى (5)، ولأنها صلاة عيد فوجب أن يكون لها موضع مختص بها منسوب إليها كالجمعة. فصل [10 - صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة]: ولا أذان فيها ولا إقامة (6)، لما روي ابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة (7)   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 38، مختصر القدوري: 1/ 115، وفيه: ويكبر في الفطر سرًّا، وفي المصلى جهرًا. (2) أخرجه البيهقي: 3/ 279، والدارقطني: 2/ 44، والحاكم: 1/ 298، وفيه موسى بن محمَّد بن عطاء منكر الحديث ضعيف. (3) انظر: الأم: 1/ 231، مختصر المزني ص 30. (4) انظر: المدونة: 1/ 156، التفريع: 1/ 233. (5) كما جاء في أحاديث العيدين: فعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى. أخرجه البخاري في العيدين، باب: الخروج إلى المصلى بغير منبر: 2/ 4. (6) انظر: التفريع: 1/ 234، الرسالة ص 144. (7) جابر بن سمرة: بن جنابة السوائي صحابي ابن صحابي، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة سبعين (تقريب التهذيب: 136). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاها بغير أذان ولا إقامة (1)، ولأنها صلاة نفل كسائر النوافل. فصل [11 - صفة صلاة العيدين]: وصلاة العيدين ركعتان كسائر الصلوات لا فرق بينهما وبين غيرها من الصلاة إلا زوائد التكبير، فيكبر في الأولى بعد تكبيرة الإحرام ستًّا وفي الآخرة بعد تكبيرة القيام خمسًا (2)، كما روت عائشة رضي الله عنها وأبي واقد (3)، وعمرو بن عوف (4) وابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في العيدين سبعًا في الأول قبل القراءة وستًّا في الآخرة قبل القراءة" (5). فصل [12 - القراءة في صلاة العيد]: والقراءة فيها جهرًا بسبح والغاشية (6)، ونحوها "لأنه عليه الصلاة والسلام   (1) أما رواية ابن عمر فلم أعثر عليها، إلا أن الحديث متفق عليه من رواية ابن عباس وجابر، فقد أخرجه: البخاري في العيدين، باب: المشي إلى العيد بغير أذان ولا إقامة: 2/ 5، ومسلم في صلاة العيدين، باب: صلاة العيدين: 2/ 604. (2) انظر: المدونة: 1/ 154 - 156، التفريع: 1/ 233 - 234، الرسالة ص 144 - 145. (3) أبو واقد الليثي: صحابي، قيل: اسمه الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: اسمه عوف بن الحارث، مات سنة ثمان وستين وهو ابن خمس وثمانين على الصحيح (تقريب التهذيب: 682). (4) عمرو بن عوف: الأنصاري حليف بني عامر بن لؤي بدري، ويقال له: عمير، مات في خلافة عمر (تقريب التهذيب: 425). (5) أما حديث عائشة فأخرجه أبو داود في الصلاة، باب: التكبير في العيدين: 1/ 681، وهو حديث تفرد به ابن لهيعة واختلف عليه، وأما حديث أبي واقد فأخرجه الطبراني في التكبير وذكره ابن أبي حاتم في العلل (مجمع الزوائد: 2/ 104). وحديث عمرو بن عوف فقد أخرجه الترمذي في العيدين، باب: التكبير في العيدين، وقال: حديث حسن: 2/ 476، وأما أثر ابن عمر فقد أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: التكبير في العيدين: 1/ 680 مرفوعًا. (6) انظر: المدونة: 1/ 155، التفريع: 1/ 234، الرسالة ص 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 كان يقرأ فيهما بسبح والغاشية ويجهر بها" (1)، ولأن كل صلاة بخطبة فالقراءة فيها جهرًا كالجمعة والاستسقاء. فصل [13 - الخطبة بعد صلاة العيد]: والخطبة فيها بعد الصلاة (2)، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ فيها بالصلاة قبل الخطبة (3)، وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم (4)، وقد ذكر فيه خلاف (5) انقطع بتعذر الإجماع بعده. فصل [14 - هل يجلس الإِمام في خطبة العيد إذا صعد المنبر؟]: وإذا صعد المنبر ففي جلوسه روايتان (6): فإذا قلنا: أنه يجلس فاعتبارًا بالجمعة لأن من سنة الخطبة الجلوس قبلها، ولأن كل جلوس في الخطبة سن في الجمعة سن في خطبة العيد أصله الجلوس بين الخطبتين، ولأن في الجلوس استراحة من تعب الصعود والانتظار للناس أن يأخذوا مجالسهم، وإذا قلنا: يخطب ولا يجلس فلأنه لا معنى يقتضي جلوسه لأنه يجلس في الجمعة انتظارًا للفراغ من الأذان، وهذا معدوم في خطبة العيد. فصل [15 - التكبير أثناء الخطبة في العيدين]: ويكبر في أضعاف (7) خطبته في العيدين جميعًا، لأن ذلك مروي عن السلف،   (1) أخرجه مسلم في الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الجمعة: 2/ 598. (2) انظر: المدونة: 1/ 155، الرسالة ص 144. (3) أخرجه البخاري في العيدين، باب: الخطبة بعد العيد: 2/ 5، ومسلم في صلاة العيدين، باب: صلاة العيدين: 2/ 605. (4) نفسه الحديث السابق، وما أخرجه البيهقي: 3/ 296، وعبد الرزاق: 3/ 280، 281، وابن أبي شيبة: 2/ 69، 70. (5) روي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما أخرا الصلاة وقدما الخطبة لئلا يفترق الناس قبل الخطبة (عبد الرزاق: 3/ 283، 284، بداية المجتهد: 4/ 238). (6) انظر: المدونة: 1/ 155، الرسالة ص 144. (7) أضعاف: أي أثناء وخلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ويكبر الناس بتكبير الإِمام (1)، وقال المغيرة: لا يكبرون بتكبيره وينصتون له، فوجه قول مالك: أنه مروي عن ابن عباس (2)، ولا مخالف له، ولأن التكبير في هذا اليوم مشروع الكافة، فإذا كبر الإِمام كان ذلك منه استدعاء له من الناس، ووجه قول مغيرة إن شروع الإِمام في الخطبة يقطع الكلام جملة أصله ما عدي التكبير. فصل [16 - صلاة النافلة في مصلى العيد]: ولا يصلي في المصلَّى قبلها ولا بعدها سوى صلاة العيد (3)، لأنه موضع لا يتكرر فيه الصلاة فلم يكن موضعًا للنافلة ألا ترى أن سائر المساجد لما تكررت الصلاة فيها (4) كانت موضعًا للنافلة، ولأنه لما بني لصلاة العيد وحدها وجب أن يختص لما بني له، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى العيد في المصلَّى فلم يصل قبلها ولا بعدها. فصل [17 - التكبير أيام التشريق]: ويكبر خلف الصلوات (5) يبدأ عقيب الظهر من يوم النحر ويقطع عقيب الصبح رابع النحر، وجملته خمسة عشر صلاة (6)، وإنما اخترنا ذلك لأن الناس في هذا تبع لأهل مِنَى، وأول صلاة يكبر الناس عقيبها بمِنَى صلاة الظهر وآخر صلاة يصلونها صلاة الصبح من اليوم الرابع لأنهم ينفرون بعد الزوال.   (1) انظر: المدونة: 1/ 156، التفريع: 1/ 234، الرسالة ص 144. (2) وروي عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة (انظر: البيهقي: 3/ 299 - 300). (3) انظر: المدونة: 1/ 156، التفريع: 1/ 234، الكافي ص 77. (4) فيها: سقطت من (ق). (5) هذا التكبير في أيام التشريق. (6) انظر: المدونة: 1/ 156 - 157، التفريع: 1/ 235، الرسالة ص 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فصل [18 - لفظ التكبير]: وللتكبير لفظان (1) إن شاء قال: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وإن شاء قال: الله أكبر، الله أكبر، لأن الشرع لم يخص ذلك بلفظ معين ولا بقدر مؤقت، وهذان اللفظان مرويان عن السلف (2) فأيما قاله جاز والله أعلم. ...   (1) انظر: المدونة: 1/ 157، التفريع: 1/ 235، الرسالة ص 145. (2) عن ابن عمر وابن عباس وجابر وسلمان والحسن البصري وعطاء وغيرهم (انظر البيهقي: 3/ 313 - 314). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 باب: صلاة الكسوف وصلاة كسوف الشمس (1) سُنَّة مؤكدة (2)، لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها وجمع لها وأمر بها وحض عليها فقال: "إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" (3). فصل [1 - مكان صلاة الكسوف]: وتصلي في المسجد دون المصلى (4)، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المصلى، وإنما صلاها في المسجد (5)، وكذلك السلف بعده، وليس فيها أذان ولا إقامة (6) لأنه لم يؤذن له فيها صلى الله عليه وسلم ولم يُقَم، ولأنها سُنَّة ولا أذان للسنن. فصل [2 - صفة صلاة الكسوف]: وصفتها (7) أن يكبر للإحرام، ثم يقرأ بأُم القرآن، وسورة طويلة ويستحب   (1) الكسوف: هو ظلمة أو ذهاب بعض النيرين الشمس والقمر، وقيل: الخسوف ذهاب الكل والكسوف ذهاب البعض، وقيل: الكسوف للشمس والخسوف للقمر (المصباح المنير ص 534، شرح المواق على مختصر خليل: 2/ 199). (2) انظر: المدونة: 1/ 151، التفريع: 1/ 235، الرسالة ص 146. (3) أخرجه البخاري في الكسوف، باب: هل يقول: كسفت الشمس ... : 2/ 26، ومسلم في الكسوف، باب: صلاة الكسوف: 2/ 619. (4) انظر: التفريع: 1/ 235، الرسالة ص 146، الكافي ص 79. (5) أخرجه البخاري في الكسوف، باب: الصلاة في كسوف الشمس: 2/ 24، ومسلم في باب: صلاة الكسوف: 2/ 619. (6) انظر: التفريع: 1/ 235، الرسالة ص 146، الكافي ص 79. (7) في صفة صلاة الكسوف، انظر: المدونة: 1/ 151 - 152، التفريع: 1/ 235 - 236، الرسالة ص 1 - 1247، الكافي ص 79، 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 تطويلها ما أمكن ولم يضر بمن خلفه إن كان إمامًا، والقراءة في جميعها سرًّا، ثم يركع ركوعا طويلًا قريبًا من طول قراءته، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقرأ بأُم القرآن عند مالك، ويقرأ بعدها سورة طويلة دون التي قبلها، وعند محمَّد بن مسلمة يقرأ السورة ولا يقرأ أُم القرآن (1)، فإذا فرغ من القراءة ركع وأطال نحوًا من قراءته، ثم رفع ثم سجد سجدتين، فقيل: كسجود سائر الصلوات، وقيل: تطويلها كتطويل الركوع، ثم يقوم: قائمًا فيأتي بالركعة الثانية على مثل صفة الركعة الأولى ويتشهد ويسلم، وإنما اخترنا ذلك، خلافًا لأبي حنيفة (2) في قوله: أنها ركعتين كسائر الصلوات لحديث عائشة وابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بخسوف الشمس، فقام قيامًا طويلًا نحوًا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا ثم رفع، فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم فعل في الركعة الأُخرى مثل ذلك (3)، وهذا إنما قلنا بالخبر لأن القياس لا يوجبه. فصل [3 - أدلة صفة صلاة الكسوف]: وإنما اخترنا تطويل القراءة لما روي في الحديث أنه بنحو من سورة البقرة (4)، وفي الثاني بنحو سورة آل عمران (5)، وإنما قلنا: أنه يسر القراءة في الصلاة   (1) انظر: الكافي ص 79 - 80. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 39، مختصر القدوري: 1/ 119. (3) حديث عائشة أخرجه البخاري في الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف: 2/ 24، ومسلم في الكسوف، باب: صلاة الكسوف: 2/ 618، أما حديث ابن عباس فقد أخرجه البخاري في الكسوف، باب: صلاة الكسوف جماعة: 2/ 27، ومسلم في الكسوف، باب: ما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف: 2/ 626. (4) أخرجه البخاري في الكسوف، باب: صلاة الكسوف جماعة: 1/ 27، ومسلم في الكسوف، باب: ما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف: 2/ 626. (5) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: القراءة في صلاة الكسوف: 1/ 701، والبيهقي: 3/ 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كلها لما روي في الحديث أنه قرأ بنحو من سورة البقرة (1)، وهذا يدل على أنه أسر، وقال ابن عباس: كنت وراءه فلم أسمع منه حرفًا (2)، وفي حديث سمرة بن جندب قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا (3). ووجه القول بإعادة أُم الكتاب بعد الرفع الأول من الركعة الأولى أنها قراءة يتعقبها ركوع فكان فيها قراءة أُم القرآن في سائر الصلوات، ولأنها قراءة مستأنفة من أصل بنية الصلاة فوجب أن يتقدمها أُم الكتاب اعتبارًا بالركوع الأول، ووجه القول بأنها لا تعاد أنها ركعة واحدة لأن الركوعين في حكم ركوع واحد وكذلك القراءتان في حكم قراءة واحدة، فإذا ثبت ذلك فالركعة الواحدة لا يقرأ فيها بأم القرآن إلا مرة واحدة اعتبارًا بسائر الصلوات. ووجه القول بأنه لا يطيل السجود أن هذه الصلاة لما خالفت بنية سائر الصلوات وجب أن يقتصر فيها على قدر ما ورد به الخبر، وليس في الأخبار إلا تطويل القراءة والركوع دون السجود فلم يتعد إلى غيره. ووجه القول الآخر هو أن السجود من حقه أن يكون بمثابة (4) الركوع في اللبث اعتبارًا بسائر الصلوات. فصل [4 - وقت صلاة الكسوف]: في وقتها ثلاث روايات (5):   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) أخرجه أحمد: 1/ 350، والطبراني في الكبير وأبو نعيم (مجمع الزوائد: 2/ 207). (3) أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: صلاة الكسوف: 1/ 402، الترمذي في الصلاة، باب: صلاة الكسوف: 2/ 451، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين: 1/ 330. (4) في (م): يشابه. (5) انظر: المدونة: 1/ 151، التفريع ص 236، الكافي ص 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 إحداها: أنها تصلي في كل الأوقات، ووَجهها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" (1)، فعم ولم يخص ولأنها لما خالفت سائر النوافل في البنية جاز أن يتأكد فعلها في الوقت. والثانية: أنها لا تصلى بعد العصر ووجهها نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولم يخص، ولأنها صلاة نفل فكانت ممنوعة بعد العصر كسائر النوافل. والثالثة: أنها تصلي ما لم تزل الشمس ووجهها أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في هذا الوقت (2)، ولأنها صلاة نفل يتعقبها ذكر وعظه (3)، فكان وقتها ما لم تزل الشمس أصله صلاة العيدين والاستسقاء. فصل [5 - تذكير ووعظ الناس بعد الفراغ من الصلاة]: إذا فرغ الإِمام من الصلاة ذكَّر الناس ووعظهم من غير خطبة مرتبة (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لأنه لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم خطب لها، ولأن من سُنَّة كل صلاة بخطبة أن يجهر فيها بالقراءة، وصلاة الكسوف يسر فيها القراءة، فدل أنه لا خطبة فيها. فصل [6 - لا يصلي جماعة لخسوف القمر]: ولا يجمع لخسوف القمر ويصلي الناس لنفوسهم أفرادًا كسائر النوافل (6)   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) لم أعثر على تخريج هذا الخبر. (3) في (م): موعظة. (4) انظر: التفريع: 1/ 236، الرسالة ص 147، الكافي ص 80. (5) في كتب الأحناف ليس في الكسوف خطبة (مختصر القدوري: 1/ 120، مختصر الطحاوي ص 39، تحفة الفقهاء: 2/ 183، أما عند الشافعية فهي ثابتة (الأم: 1/ 245، الإقناع ص 55). (6) انظر: المدونة: 1/ 152، التفريع: 8/ 237، الرسالة ص 147، الكافي ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 خلافًا للشافعي في قوله: إن من سنتها أن يجمع لها (1)، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في جماعة ولا دعا إلى ذلك، ولأنها تكون ليلًا في وقت تلحق المشقة في الاجتماع لها، وبهذا فارقت كسوف الشمس. فصل [7 - بم تدرك صلاة الكسوف؟]: ومن أدرك من صلاة كسوف الشمس الركوع الثاني من الركعة الأولى، فقد أدرك الصلاة ولا يقضي شيئًا (2)، وفوات الركوع الأول كفوات القراءة ولو فاتته القراءة الأولى بأسرها والركوع الأول من الركعة الثانية كان مدركًا للثانية بإدراك الثاني منها وقضى الركعة الأولى بركوعها دون ما فاته من الثانية. ...   (1) انظر: الأم: 1/ 242، مختصر المزني، الإقناع ص 55. (2) انظر: المدونة: 1/ 152، التفريع ص 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 باب: صلاة الاستسقاء صلاة الاستسقاء (1) سُنَّة (2)، فإذا تأخر المطر واحتيج إليه خرج الإِمام بالناس إلى المصلى متواضعين متخشعين، فيصلي بهم صلاة الاستسقاء، وهي ركعتان كسائر الصلوات يكبر فيها تكبيرة واحدة للإحرام، ثم يقرأ بأم القرآن وسورة مثل الأعلى والليل ونحوهما جهرًا، فإذا سلم صعد على المنبر متوكئًا على قوس أو عصى كالجمعة والعيدين، ويجلس إذا أخذ الناس مجالسهم قام وخطب وأكثر من الاستغفار في خطبته، ثم يجلس ثم يقوم فيخطب، فإذا فرغ استقبل القِبْلة وحول رداءه، فجعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه، وليس عليه تنكيسه، ثم يستسقي الله تعالى ويدعوه بما تيسر له والناس جلوس فإذا تم (3) ينزل وينصرف (4). وقال أصبغ: إذا شرف على فراغه من الخطبة الآخرة حول وجهه إلى القِبْلة على غير ما وصفناه، فإذا فرغ من الدعاء عاد بوجهه إلى الناس فأتم بهم الخطبة ثم نزل ولا يكبر فيها سوى تكبيرة الإحرام وتكبير الخفض والرفع المعتاد في سائر الصلوات، ولا أذان فيها ولا إقامة ولا بأس بتكرار الخروج (5) إذا احتيج إليه.   (1) الاستسقاء: في كلام العرب الاستدعاء وهو طلب السقي (غرر المقالة ص 148، ومواهب الجليل: 2/ 205). (2) انظر: المدونة: 1/ 153، التفريع: 1/ 239، الرسالة ص 148. (3) فإذا تم: سقطت من (ق). (4) انظر في صفة صلاة الاستسقاء: المدونة: 1/ 153 - 154، التفريع: 1/ 239، الرسالة ص 148، الكافي ص 80، 81. (5) أي بتكرار الخروج إلى المصلى لأن من سُنَّته إقامتها أن تكون في الجبانة لتسع الناس كصلاة العيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ولا يمنع المتجالات من النساء (1) الخروج وليس على الناس صيام قبل الاستسقاء ولا يمنع من أراد ذلك. فصل [1 - دليل سنية الاستسقاء]: وإنما قلنا صلاة الاستسقاء سُنَّة، خلافًا لما يحكى عن أبي حنيفة أنها بدعة (2) لما روي معمر (3) عن الزهرى (4) عن عباد بن تميم (5) عن عمِّه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيها وحول رداءة فدعى واستسسقى واستقبل القِبْلة" (6)، ورواه ابن عباس (7)، وأبو هريرة (8)، وأنس (9)،   (1) وهن اللائي لا إرب للرجال فيهن. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 39، مختصر القدوري: 1/ 120. (3) معمر: بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري نزيل اليمن ثقة، ثبت فاضل من كبار السابعة (ت 154 هـ) (تقريب التهذيب ص 541). (4) الزهري: هو محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري: الفقيه، الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه وهو من رؤوس الطبقة الرابعة (ت 125 هـ) (تقريب التهذيب ص 506، تذكرة الحُفَّاظ: 1/ 180). (5) عباد بن تميم: بن غزية الأنصاري المازني المدني، ثقة من الثالثة، وقد قيل: إن له رؤية (تقريب التهذيب ص 289). (6) أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب: الجهر بالقراءة في الاستسقاء: 2/ 20. (7) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: الاستسقاء: 1/ 689، والنسائي في الاستسقاء، باب: الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها: 3/ 126، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء: 1/ 403، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء: 2/ 445، وقال: حديث حسن صحيح. (8) أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء: 1/ 403، وأحمد: 2/ 3266، وسنده ضعيف لضعف النعمان بن راشد. (9) أخرجه البخاري في الاستسقاء، باب: الاستسقاء على المنبر: 2/ 17 - 18، ومسلم في الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء: 2/ 612. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وجابر (1)، ولأن الخطبة في الأصول في العبادات لا تكون إلا مقارنة لصلاة كخطبة العيدين والجمعة. فصل [2 - الدليل على خروجهم متواضعين متخشعين]: وإنما قلنا: إنهم يخرجون متواضعين متخشعين لما رواه ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في الاستسقاء متواضعًا متخشعًا متضرعًا متبذلًا وصلى ركعتين" (2)، ولأنها صلاة تفعل عند المحل والجدب طلبًا للفرج وزوال الشدة وسؤالًا للغيث والرحمة، فيجب أن يكون ذلك بتضرع وخشوع وتواضع وخضوع، لأن ذلك شأن الداعي السائل والراغب الطالب، وتفارق صلاة العيد لأن الغرض بها إظهار الشرع والإبانة على جماله والفخر به على المشركين. فصل [3 - الدليل على أن لا أذان ولا إقامة في الاستسقاء]: وإنما قلنا: أنه لا أذان فيها ولا إقامة لأنه لم ينقل أنه أُذِّن فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أقيم، ولأنها صلاة مسنونة كالعيدين والخسوف. فصل [4 - دليل التكبير في الاستسقاء]: وإنما قلنا: أنه يكبر فيها تكبيرة الإحرام فقط، ولا يزيد على تكبير سائر الصلوات خلافًا للشافعي في قوله: إنه يكبر سبعًا في الأولى وخمسًا في الثانية (3)، لما روي: أنه صلى الله عليه وسلم استسقى فصلى ركعتين وكبر واحدة (4)، وهذا نص، ولأنها صلاة في غير عيد فلم يزد في تكبيرها كسائر الصلوات، ولأنها صلاة لم توضع لأجل نسك كالجمعة.   (1) حديث جابر أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن محمَّد بن محمَّد بن إبراهيم الحارث التميمي وهو ضعيف (مجمع الزوائد: 2/ 216). (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) انظر: الأم: 1/ 249، مختصر المزني ص 33، الإقناع ص 55. (4) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه مجاشع بن عمرو، قال ابن معين: قد رأيته أحد الكذابين (مجمع الزوائد: 2/ 216). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فصل [5 - دليل الجهر بالقراءة فيها]: وإنما قلنا: أنه يجهر بالقراءة فيها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -كذلك فعل (1)، ولأنها صلاة ذات خطبة لنفسها كالجمعة والعيدين. فصل [6 - دليل تقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء]: وإنما قلنا: أنه يقدم الصلاة على الخطبة، خلافًا لما يحكي عن ابن الزبير (2) إن صح (3)، لأن ذلك هو المنقول عن (النبي - صلى الله عليه وسلم -) (4)، ولأنها صلاة مسنونة بخطبة فكانت الخطبة بعدها كالعيدين. فصل [7 - الدليل على أن الإِمام يخطب متوكئًا على قوس أو عصي]: وإنما قلنا: إن الإِمام يخطب متوكئًا على قوس أو عصى لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك في الجمعة والعيدين (5)، والمعنى فيه أن الإِمام يطول قيامه فيحتاج إلى استراحة واعتماد، أو خوف من أن يأخذه الدوار وما لا يؤمن معه سقوط وبالاعتماد يأمن ذلك. فصل [8 - دليل تحويل رداء الإِمام]: وإنما قلنا: إن الإِمام يُحوِّل رداءه خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن ذلك ليس من   (1) كما جاء في حديث البخاري الذي سبق. (2) ابن الزبير: هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، وأبو جنيب كان أول مولود في الإِسلام بالمدينة من المهاجرين، ولي الخلافة تسع سنين إلى أن قتل في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين (تقريب التهذيب: 303). (3) روي ذلك عنه، وعن عمر، وأبان بن عثمان، وهشام بن إسماعيل وغيرهم (انظر المجموع: 5/ 85، المغني: 2/ 433). (4) ما بين قوسين سقط من (ق)، وأما تقديم الصلاة على الخطبة فأخرجه ابن ماجه وغيره من حديث أبي هريرة الذي سبق. (5) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: يخطب على قوس: 1/ 658، وإسناده حسن (تلخيص الحبير: 2/ 65). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 السنة (1)، لأنه صلى الله عليه وسلم حوَّل رداءه فجعل يمينه على شماله وما على شماله على يمينه (2)، وقيل: إنما فعل ذلك تفاؤلًا ورجاء لانقلاب حالهم عن الشدة إلى الرخاء وعن الجدب (3) إلى الخصب فثبت كون ذلك سنة لفعله له. فصل [9 - الدليل على أن التنكيس ليس سُنَّة]: وإنما قلنا: إن التنكيس ليس بسنة، لأنه لم يرو من فعله، والقدر الذي روي تحويل الرداء فلا يقاس عليه غيره. فصل [10 - الدليل في تحويل وجه الإِمام إلى القِبْلة]: وإنما قلنا: إنه يُحوِّل وجهه إلى القِبْلة بعد الفراغ فيدعوا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل (4)، ووجه قول مالك إنه يفعل ذلك بعد الفراغ من الخطبة الثانية هو أنه لا يجوز له قطع الخطبة شيء يتشاغل به عن أمور تلك العبادة سواها اعتبارًا بالعيدين والجمعة، لأنه ليس له قطعها لصلاة ولا أذان ولا لغير ذلك بل من سنتها الاتصال والانتظام، ولأنها إحدى خطبتي الاستسقاء، فوجب ألا تقطع لما سواها كالأولى. ووجه قول أصبغ هو أن السُّنَّة في الاستسقاء خطبتان لا زيادة عليهما، فإذا أتى بالدعاء بعدهما كان ذلك زيادة على الخطبتين لأن الدعاء حينئذ منفرد له حكم نفسه، فإذا أتى به في تضاعيفهما لم يكن له حكم نفسه، بل كان نقصًا (5) لهما والله أعلم.   (1) مختصر الطحاوي ص 40، مختصر القدوري: 1/ 121. (2) سبق تخريج الحديث في أول باب الاستسقاء. (3) الجدب: هو انقطاع المطر ويبس الأرض (المصباح المنير ص 92)، وبخلافه الخصب. (4) سبق تخريج الحديث في أول باب الاستسقاء. (5) في (م): بعضًا لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فصل [11 - الدليل على تكرار الخروج للاستسقاء]: وإنما قلنا: لا بأس بتكرار الخروج لأن الخروج إنما احتيج إليه لتأخر المطر والحاجة إليه والرجاء من الله تعالى إجابة الدعاء بالغياث، وما دامت الحاجة قائمة، فالمعنى موجود، وقد روي: "أن الله يحب الملحين في الدعاء" (1).33359468 فصل [12 - الدليل على [عدم] منع النساء المتجالات من الخروج للاستسقاء]: وإنما قلنا: إنه لا يمنع النساء المتجالات من الخروج لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (2)، وليس ذلك بمقصور على المساجد وحدها بل أراد الصلاة في مواضعها، ولأن بهن حاجة إلى ذلك كالرجال، ولأن الدعاء يشترك فيه الناس كلهم والكل مندوبون إليه، وبخلاف ذلك المرأة الشابة والمخوف عليها أو منها الفتنة للجمال فكانت صيانتها في منع الخروج أولى. فصل [13 - الصيام قبل الاستسقاء]: فأما الصيام قبل الاستسقاء، فلم يرد شرع به، فإن فعل كان ذلك جائزًا لأنه قربة وفعل خير، وكل ما زاد الإنسان في فعل القرب فأكثر منها كان أقرب له إلى الإجابة وأدى إلى إجابة طلبه والله أعلم. تم كتاب الصلاة والحمد لله رب العالمين ...   (1) أخرجه الطبراني وأبو الشيخ والقضاعي من حديث بقية عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعًا (المقاصد الحسنة ص 114). (2) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد: 1/ 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 كتاب الجنائز باب: صفة غسل الميت (1) صفة غسل الميت كصفة غسل الجنابة (2)، والغرض به التنظيف وإزالة الأذى عنه على الميسور، ويستحب أن يكون وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر، على ما يحتاج إليه في اجتهاد الغاسل، بماء وسدر (3) وأن يكون في الآخرة كافورًا (4) ويستر عورته وينزع ثيابه، ولا يفضي بيده إلى عورته إلا وعليها خرقة إلا أن يكون هناك مما يحتاج إلى مباشرته بيده، ويعصر بطنه عصرًا رقيقًا إن احتيج إلى ذلك، ولا يقلم له ظفر ولا يحلق له شعر. فصل [1 -] فصل غسل الميت ومواراته والصلاة عليه (5): وإنما قلنا: إن الغرض به التنظيف من غير حد سوى أن المستحب فيه الوتر لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابنته: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" (6)، فوكله إلى اجتهادهن وإلى ما يرين من الحاجة إلى التنظيف.   (1) ذكر الباب سقط من (ق). (2) انظر: المدونة: 1/ 167، التفريع: 1/ 370، الرسالة ص 149، الكافي ص 82 - 83. (3) السدر: هو النبات اللين له رائحة ذكية، وقيل: السدر النبق وورقه غسول (غرر المقالة ص 149). (4) الكافور: نوع من الطيب (الصحاح: 2/ 808). (5) عنوان هذا الفصل من (م). (6) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: غُسل الميت ووضوئه: 2/ 73، ومسلم في الجنائز، باب: غُسيل الميت: 2/ 647. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وإنما قلنا: يكون بستر عورته لأنه لما وجب سترها وهو حي فكذلك بعد الموت، لأن حرمته باقية كهي في حال الحياة، وروي أن محمَّد بن سيرين (1) غسل أنس بن مالك، فلما بلغ إلى عورته قال لأهله: أنتم أحق دونكم فاغسلوها (2)، فجعل الذي غسلها على يده خرقة وجعل على عورته ثوبًا ثم غسل عورته من تحت الثياب. وإنما قلنا: ينزع ثيابه خلافًا للشافعي (3) في قوله: إنه يغسل في القميص، لأن ذلك أمكن في غسله وأبلغ في تنظيفه وأعون لغاسله على ما يريده من ذلك. وإنما قلنا: إنه إن احتاج إلى مباشرة عورته بيده فعل، فلأن تلك حال ضرورة، والضرورات تنقل الأصول عن بابها، وتغير موجباتها للحاجة إلى إزالة ما تدعو الضرورة إلى إزالته. وإنما قلنا: إنه يعصر بطنه عصرًا رقيقًا، فلأنه لا يؤمن أن يخرج منه شيء فيلطخ أكفانه وتنتهك بذلك صيانته ويزول المعنى المطلوب بتكرار غسله من المبالغة في تنظيفه، وقد روي ذلك عن السلف. وإنما قلنا: لا يقلم له ظفر ولا يحلق له شعر خلافًا للشافعي في استحبابه لذلك (4)، ولأحمد بن حنبل في قوله: بحلق عانته وتقليم أظفاره (5)، لأن الأصل ألا يفعل في الميت شيء إلا بشرع، ولم يرد شرع بذلك، ولأنه إزالة شيء متصل به خلقة بدنة فأشبه الختان.   (1) محمَّد بن سيرين: أبو بكر محمَّد بن سيرين البصري مولى أنس بن مالك، إمام وقته بالبصرة، وكان فقيهًا غزير العلم ثقة ثبتًا علامة في التعبير رأسًا في الورع (ت 110 هـ) (انظر تذكرة الحُفَّاظ: 1/ 781). (2) أخرجه الطبراني في الكبير (مجمع الزوائد: 5/ 21). (3) انظر: الأم: 1/ 281، المهذب: 1/ 128. (4) انظر: مختصر المزني ص 36. (5) انظر: مسائل الإمام أحمد ص 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فصل [2 - جواز أن يغسل كل من الزوجين صاحبه]: ويغسل كل واحد من الزوج صاحبه، فأما غسل المرأة زوجها فلا خلاف فيه (1)، والأصل فيه: "أن أبا بكر رضي الله عنه أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس" (2)، "وغسلت أبا موسى الأشعري امرأته" (3)، وقالت عائشة رضي الله عنها: "لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرناه ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أزواجه" (4)، ولم ينكر عليها أحد ذلك، ولأن الغسل لما كان فيه اطلاع على العورة والبدن والمغايب (5) لم يكن بذلك أحد أولى من الزوجة. فصل [3 - الرجل يغسل زوجته]: إنما قلنا: إن للرجل أن يغسل زوجته خلافًا لأبي حنيفة (6)، لأن عليًّا غسل فاطمة رضي الله عنهما (7)، ولم ينكر لذلك أحد، ولأن زوال الزوجية بالموت لا يمنع أن يغسل الحي منهما الميت أصله إذا مات الزوج، ولأن كل معنى لم يحرم نظر الزوجة إلى الزوج لم يحرم نظره إليها اعتبارًا بالأصول كلها كالمرض (8)، وغيره.   (1) انظر: الإجماع ص 46، المغني: 2/ 436، المحلي: 5/ 256، نيل الأوطار: 4/ 27. (2) البيهقي: 3/ 297، وأسماء بنت عميس هذه: أسماء بنت عميس بن معبد بن الحارث، أم عبد الله بن جعفر من المهاجرات الأول، تزوج بها عليّ بن أبي طالب بعد أن مات زوجها أبو بكر الصِّدِّيق، ولقد عاشت بعد عليّ (انظر: الاستيعاب: 4/ 1784، والإصابة: 12/ 116). (3) البيهقي: 3/ 397. (4) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب: في ستر الميت عند غسله: 3/ 196، وابن ماجه في الجنائز، باب: ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها: 1/ 470، والحاكم في المستدرك: 3/ 59، وقال: صحيح على شرط مسلم. (5) في (م): المغابن وهي الأرفاغ والآباط (المصباح المنير ص 442). (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 41. (7) البيهقي: 3/ 396. (8) في (م): كالمريض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فصل [4 - الرجل يغسل أَمته]: ويغسل الرجل أَمته ومدبرته وأم ولده وكل من يستبيحه إلى حين الموت (1) فهي بمنزلة الزوجة، والعِلَّة ما ذكرناه من جواز الاطلاع على العورة حين الموت. فصل [5 - نهي الرجل أن يغسل مبتوتته]: ولا يجوز أن يُغَسِّل الرجل مبتوتته منه وإن ماتت في عدتها، ولا تغسله هي إن مات (2)، لأن العصمة منقطعة بينهما في الحياة كالأجانب، ولأنه لما لم يجز لأحدهما الاطلاع على عورة الآخر في الحياة فكذلك بعد الموت، لأن عِلَّة جواز ذلك في الموت هو استدامة جوازه حال الحياة إلى الموت. فصل [6 - غسل الرجل مطلقته الرجعية]: وعنه في المطلقة الرجعية روايتان (3): إحداهما أن أحدهما يغسل الآخر إذا مات في العدة، والأخرى أنه لا يغسله، فوجه الجواز أن أحكام الزوجية باقية بينهما إلى الموت بدليل لحوق الإيلاء والظهار والنفقة وثبوت التوارث فكانت كالمرتجعة، ووجه المنع فلأن الاستمتاع بها والنظر إليها كان محرمًا في الحياة، فكذلك بعد الموت لأن عِلَّة جواز ذلك في الموت استدامة جوازه في حال الحياة ولم يحصل ما يزيل المنع من الارتجاع فأشبه المبتوتة. فصل [7 - غسل ذوي المحارم والأجانب]: ويجوز أن تغسل المرأة ذوي محارمها من الرجال من وراء ثوب إذا لم يكن معهم من يغسلهم من الرجال، وكذلك الرجل يغسل ذوات محارمه من النساء إذا لم يحضر من النساء من يغسلهن (4)، لأن نظر بعضهم إلى أبدان بعض جائز، ألا ترى أن السفر جائز معهم، فأما الأجنبية إذا ماتت في سفر ولم   (1) و (2) انظر: المدونة: 1/ 167، التفريع: 1/ 371، الكافي ص 82 - 83. (3) انظر: المدونة: 1/ 167، التفريع: 1/ 371، الكافي ص 82. (4) انظر: المدونة 1/ 167 - 168، التفريع: 1/ 371 - 382، الرسالة ص 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يحضرها إلا رجال أجانب، فإن من حضرها من الرجال ييممها يمسح وجهها وكفيها، والرجل إذا مات ولم يحضره إلا نساء أجانب يممنه: فمسحن وجهه ويديه إلى المرفقين (1)، لأن ما زاد على كف المرأة إلى الذراع عورة فليس للأجنبي الاطلاع عليه، وبدن الرجل ليس بعورة فجاز أن يبلغن بالتيمم غايته، وإنما قلنا: أن كل واحد من هؤلاء يُيَّمم لأن التيمم قد جعل في الشرع بدلًا من الغسل عند تعذره، فلما تعذر الغُسل في هذا الموضع لتحريم النظر إلى بدن الأجنبي قام التيمم مقامه. فصل [8 - استحباب الاغتسال لمن غسل ميتًا]: ويستحب لمن غسل ميِّتًا أن يغتسل لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غسل ميتًا فليغتسل" (2)، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا أن يغتسل لما غسل أباه (3)، والمعنى في ذلك أن الغاسل ربما خاف أن ينتضح عليه من الماء الذي يصيب بدن الميت فقطعه ذلك عن الانبساط والمبالغة فيه، فإذا علم أنه يغتسل زال عنه ذلك. فصل [9 - الكافر لا يغسل]: ومن مات له نسيب كافر أب أو غيره فلا يغسله ولا يلي شيئًا من أمره (4) إلا أن لا يكون من أهل دينه من يكفيه ذلك فيواريه، لأن الغُسل تابع للصلاة فلما لم يصل عليه لقطع (5) الولاية بينهما لم يغسله، ولأن غسل الميت تطهير له والكافر ليس من أهل التطهير.   (1) انظر: المدونة: 1/ 168، التفريع: 1/ 372، الرسالة ص 150. (2) أخرجه الترمذي في الجنائز، باب: ما جاء الغُسل من غسل الميت: 3/ 219، وقال حديث حسن، وصحَّحه ابن حزم في المحلي: 2/ 32، وابن حبان والذهبي (الهداية تخريج أحاديث بداية المجتهد: 1/ 422). (3) أخرجه البيهقي: 1/ 304، والحديث فيه ناجيه بن كعب الأسدي لم تثبت عدالته عند صاحبي الصحيح. (4) المدونة: 1/ 168، التفريع: 1/ 370، الرسالة ص 151. (5) في (ق): لتقطيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 باب: كفن الميت وحنوطه ومؤونة الدفن (1) والكفن والحنوط (2) ومؤنة الدفن من رأس المال (3) لأن ستر الميت وكفنه وصيانته حق لله تعالى، وحقوق الله مقدمة لا يجوز تركها ولا التراض بإسقاطها، ألا ترى أن الميت لو وصى بألا يكفن وأن يدفن عريانًا لم يكن له ذلك، فإنه لو لم يخلف كفنا لوجب على المسلمين تكفينه، ولأن حرمته كحرمة الحي، فلما لم يجز أن ينزع من الحي كسوته التي لا بد منها فكذلك من الميت، ولأن الميت مالك لقدر الكفن والحنوط من ماله بدليل أنه لا يجوز له منعه منه، ولأن ما يتعلق بحاجته بعد موته كحاجته في حياته، فلما كان في حاجته أولى الناس بماله فيما يحتاج إليه فكذلك بعد موته. فصل [1 - إذا كان الكفن مرتهنًا]: فإن كان الكفن مرهونًا فالمرتهن أولى لأنه بحيازته إياه قد صار حقه سابقًا لحال الميت لتعلق العوض به (4)، والعين إذا تعلق بها حقان: أحدهما بعوض، والآخر بغير عوض كان ما يتعلق بالعوض مقدمًا على الآخر، كالدين والزكاة والوصية. فصل [2 - القدر المطلوب من الثياب للكفن]: وليس في الكفن حد لأن الغرض به ستر الميت وصيانته، ويستحب الوتر (5)   (1) التعريف من (م). (2) الحنوط: كل ما يطيب له الميت من مسك وصندل وعنبر وكافور وغير ذلك مما يذر عليه تطييبًا له وتجفيفًا لرطوبته (المصباح المنير ص 154). (3) انظر: التفريع: 1/ 372، الكافي ص 83. (4) انظر: التفريع: 1/ 372، الكافي ص 83. (5) انظر: التفريع: 1/ 372، الرسالة ص 150، الكافي ص 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في وتر وهو ثلاثة أثواب (1)، وكفن ابن عمر ابنًا له في خمسة أثواب (2). فصل [3 - جواز الكفن اللبيس]: ويجوز في الكفن اللبِّيس (3)، لأن أبا بكر رضي الله عنه أمر أن يكفن في ثوب من ثيابه التي يلبسها وقال: الحي أحق بالجديد، وإنما هو للمهنة والصديد (4)، ولأن الغرض ستر الميت وصيانته دون المفاخرة والزينة. فصل [4 - البياض في الكفن]: البياض في الكفن أحب إلينا من غيره (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير ثيابكم البياض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم" (6)، ولأنه لما كان هو المستحب من اللباس في الدنيا، فكذلك بعد الموت. فصل [5 - تحنيط الميت بالمسك والعنبر]: ويحنط بالمسك والعنبر، وكل طيب يجوز التطيب به للحي، فيجوز أن يحنط به الميت (7)، وذلك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنط بالمسك" (8)، وحنط عمر   (1) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن: 2/ 75، ومسلم في الجنائز، باب: في كفن الميت: 2/ 649. (2) أخرجه عبد الرزاق: 3/ 424. (3) انظر: التفريع: 1/ 372، الرسالة ص 150، الموطأ: 1/ 223. (4) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: موت يوم الاثنين: 2/ 106. (5) انظر: التفريع: 1/ 372، الرسالة ص 150، الكافي ص 83. (6) أخرجه أبو داود في اللباس، باب: في البياض: 4/ 51، وابن ماجه في اللباس، باب: في البياض: 2/ 1181، والترمذي في الجنائز، باب: ما يستحب من الأكفان: 3/ 310، وقال: حسن صحيح. (7) انظر: المدونة: 1/ 168، التفريع: 1/ 372، الرسالة ص 151، الكافي ص 84. (8) أخرجه ابن أبي شيبة: 3/ 56، والحاكم: 1/ 361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 رضي الله عنه بالكافور (1)، ووصى عليّ رضي الله عنه أن يجعل في حنوطه مسك وقال: وهو فضل حنوط النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، ويستحب أن يجعل الحنوط في مفارقه ومفاصله ومواضع سجوده، لأن هذه المواضع أشرف ما في جسده، وقد قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (3)، وقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (4). ...   (1) ابن أبي شيبة: 3/ 257. (2) البيهقي: 3/ 406. (3) سورة الفتح، الآية: 29. (4) سورة طه، الآية: 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 باب: وقت الصلاة على الجنائز (1) والصلاة على الجنائز جائز في كل وقت إلا عند طلوع الشمس، وعند غروبها (2)، لأنها لما لم يكن لها وقت راتب كأوقات الفرائض المرتبة جازت في جميع الأوقات، وكرهت عند طلوع الشمس وغروبها لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها في هذين الوقتين بنهيه عن الصلوات فيهما عمومًا (3)، ويجوز أن يصلي عليها بعد العصر ما لم تصفر الشمس لأنها آكد من النفل لكونها من خير الفروض، وإن لم تكن على الأعيان، وهذا إذا أمن تغيرها، فإن خيف ذلك صلى عليها أي وقت كان، لأن النهي مضمَّن بالسلامة والأمن من هتك الحرمة، فإذا لم يؤمن ذلك زال المنع، ولأنه لو منع ذلك مع الخوف لم يخل من أحد أمرين: إما أن يدفن بغير صلاة وذلك ممنوع، أو أن ينتظر به ذهاب هذه الأوقات فيؤدي إلى هتك الحرمة، وذلك ممنوع أيضًا فلم يبق إلا ما قلناه. فصل [1 - حكم الصلاة على الجنائز]: والصلاة على الجنائز من فروض الكفايات (4)، خلافًا لأصبغ وغيره في قوله: أنها سُنَّة (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا على موتاكم" (6) وقوله:   (1) عنوان الباب من (م). (2) انظر: المدونة: 1/ 171، التفريع: 1/ 367، الكافي ص 84. (3) سبق ذكر النهي عن الصلاة في هذين الوقتين مع تخريج حديثه. (4) في التفريع قال مالك والصلاة على الجنائز واجبة (1/ 367). (5) انظر: المقدمات: 1/ 234. (6) لم أعثر على تخريج لهذا الخبر بهذا اللفظ، لكن في الدارقطني: 2/ 57 بلفظ: "صلوا على كل ميت"، وفي البخاري: "صلوا على صاحبكم" في الجنائز، باب: سنة الصلاة على الجنائز: 2/ 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" (1)، وقوله: "حق المسلم على المسلم ثلاث فذكر: ويصلي عليه إذا مات" (2)، ولأن ذلك متعلق بالموالاة وحرمة (3) الدين. فصل [2 - التكبير في صلاة الجنازة]: والتكبير فيها أربع (4)، "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على النجاشي فكبر أربعًا" (5) وروي: "أنه صلى على قبر مسكينة فكبر أربعًا" (6)، وصلى عليّ رضي الله عنه على يزيد بن المكلف فكبر أربعًا (7)، ولأن التكبير في صلاة الجنازة أقيم مقام الركعات في الصلوات، فجعل عدده كأكثر أعداد الركعات وهو أربع. فصل [3 - إحرام وتحليل صلاة الجنازة]: ولها إحرام وتحليل، فالإحرام هو التكبيرة الأولى والتحليل هو السلام (8)،   (1) أخرجه الدارقطني: 2/ 56، وأعله ابن الجوزي بمحمد بن الفضل، قال النسائي: متروك، وقال أحمد: حديثه يشبه حديث أهل الكذب، وقال ابن معين: كان كذابًا (نصب الراية: 2/ 28). (2) لم أعثر على حديث بلفظ ثلاث، وهو في الصحيحين بلفظ: "حق المسلم على خمس بينها اتباع الجنائز"، البخاري في أوائل الجنائز: 2/ 70، ومسلم في السلام، باب: حق المسلم على المسلم: 4/ 1704. (3) في (م): معرفة. (4) انظر: المدونة: 1/ 160، التفريع: 1/ 367، الرسالة ص 153. (5) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: التكبير على الجنازة أربعًا: 2/ 91، ومسلم في الجنائز، باب التكبير على الجنازة: 2/ 656. (6) أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 227 مرسلًا، وقد جاء معناه موصولًا عن أبي هريرة أخرجه البخاري في الصلاة، باب: كنس المسجد والتقاط الخرق والقذف والعيدان: 1/ 188، ومسلم في الجنائز، باب: الصلاة على القبر: 2/ 658. (7) ابن أبي شيبة: 3/ 300، البيهقي: 3/ 410. (8) انظر: المدونة: 1/ 160، 170، التفريع: 1/ 367، الرسالة ص 153 - 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 والأصل فيه أن كل صلاة افتتحت بالتكبير افتتاح تحريم ختمت بالتسليم، كالفرائض والنوافل، والسلام فيها واحدة، لأنه سلام تحليل كسائر الصلوات إلا أن المأموم لا يزيد على واحدة لأنه ليس فيها رد بخلاف الصلوات هو تحليل فقط، ويستحب إخفاءه لأن ذلك هو المنقول عن السلف. فصل [4 - قراءة القرآن في صلاة الجنازة]: لا يقرأ فيها شيء من القرآن (1)، خلافًا للشافعي في قوله: إنه لا بد أن يقرأ فيها بأُم القرآن (2)، لأن كل صلاة لا ركوع فيها لم يكن من سنتها قراءة أصله الطواف، ولأنه ركن من أركان الصلاة منفرد فلم يكن فيه قراءة أصله سجود التلاوة. فصل [5 - عدم ترك الصلاة على الميت]: ولا تترك الصلاة على أحد ممن يصلي إلى القِبْلة (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا على موتاكم" (4)، وقوله: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" (5)، ولأن الصلاة متعلقة بحرمة الدين، وذلك يستوي فيه جميع أهل الملة. فصل [6 - الصلاة على العدل والفاسق والباغي وصاحب الكبيرة وغيرهم]: إذا ثبت ذلك فلا فرق بين العدل والفاسق والباغي وصاحب الكبيرة والمقتولين في حد وقود، إلا أنه يكره للإمام وأهل الفضل أن يصلوا على البغاة وأهل البدع، وللإمام خاصة ألا يصلي على من قتله في حد (6)، لأن الله تعالى نهى   (1) انظر: التفريع: 1/ 367، الرسالة ص 154. (2) انظر: الأم: 1/ 271، مختصر المزني ص 38. (3) انظر: التفريع: 1/ 367، الرسالة ص 156. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 161 - 166، والتفريع: 1/ 367 - 370، الرسالة ص 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المناققين (1) تأديبًا لهم وردعًا، فكان ذلك أصلًا في كل من كان على غير الطريق من فساد الاعتقاد، فإن الإِمام وأهل الفضل يجب ألا يصلوا عليه، ويصلي عليه سائر الناس. فأما من قتله الإِمام في حد فلأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز (2)، والغامدية (2) لما رجمهما، وكذلك الأئمة بعده لم يصلوا على من أقاموا عليهم الحدود بل تركوهم مع أهليهم، ويصلي عليهم سائر الناس، ولأنا قد بيَّنا أن في ذلك ردعًا لهم وإبانة عن نقصهم ليكون ذلك زجرًا لغيرهم ممن سلك طرائقهم. فصل [7]: ومن جلده الإِمام في حد فمات من الضرب فإنه يُصلَّى عليه بخلاف المرجوم (3) لأنه قصد قتل المرجوم ولم يقصد قتل المجلود، وإنما مات من مرض وهو الوجع من الضرب. فصل [8 - الصلاة على السقط إذا استهل صارخًا]: ولا يصلي على سقط (4) إلا أن يستهل صارخًا، تحرك أو لم يتحرك (5)،   (1) في قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} سورة التوبة، الآية: 84. (2) حديث ماعز أخرجه البخاري في الحدود، باب: هل يقول الإمام: لعلك لمست: 3/ 1319، أما حديث الغامدية، ففي صحيح مسلم في الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا: 3/ 1323، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية بعد رجمها كما جاء في الحديث. (3) انظر: المدونة: 1/ 161، التفريع: 1/ 367، الكافي ص 86 - 87. (4) السقط: هو الولد ذكرًا كان أو أُنثى يسقط قبل تمامه وهو مستبين الخلق (المصباح المنير: 280). (5) انظر: المدونة 1/ 162، التفريع: 1/ 368، الرسالة ص 158، الكافي ص 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (1)، لأن الصلاة إنما هي على من علمت حياته قبل موته، وأمارة الحياة هي الصياح أو ما يقوم مقامه من طول المكث إذا طالت به مدة يعلم أنه لو لم يكن حيًّا لم يبق إليها، ولا معتبر بالحركة لأنها لا تدل على الحياة، لأن المقتول يتحرك وليس بحي، ولأنه قد كان متحركًا قبل وضعه ولم يحكم بحياته، وروي: "إذا استهل المولود صارخًا غسل وصلى عليه ووجبت ديته وميراثه" (2). فصل [9 - عدم الصلاة على الشهداء]: والشهيد المقتول في سبيل الله لا يغسل ولا يصلي عليه، ويدفن بثيابه إذا مات أو انفذت مقاتله في المعترك (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4)، لما روى جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ويسأل أيهما أكثر أخذًا للقرآن فيقدمه في اللحد، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلهم" (5)، وروي: "أنه لم يصل على أحد من الشهداء إلا حمزة" (6)   (1) هذه المسألة مجمع عليها على أنه لا يصلي على سقط إلا أن يستهل صارخًا (الإجماع ص 46، المغني: 2/ 522)، أما الحركة فلم أجد من اعتبرها من الأحناف ولا الشافعية (مختصر الطحاوي ص 41، مختصر القدوري: 1/ 132، مختصر المزني ص 37). (2) أخرجه ابن ماجه في الفرائض، باب: إذا استهل المولود يرث: 2/ 919، والحاكم: 4/ 349، وقال: على شرط الشيخين. وحديث: ابن ماجه ليس فيه لفظ الغُسل ووجوب الدية، وأخرجه بهذا اللفظ ابن عدي عن ابن عباس (نصب الراية: 2/ 78). (3) انظر: المدونة: 1/ 165، التفريع: 1/ 238، الرسالة ص 151. (4) في قوله: ينزع عنه الحشو والجلد والفرو والسلاح والقلنسوة (مختصر الطحاوي ص 41)، ويصلي عليه. (5) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد: 2/ 93. (6) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب: الشهيد بغسل: 3/ 500، وأخرجه الدارقطني وأحمد والحاكم: 1/ 365، وذكره عبد الحق في أحكامه والحديث فيه أسامة بن زيد الليثي وهو ليّن (انظر نصب الراية: 2/ 310). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ولأن الغُسل متعلق بالصلاة فإذا كان الشهيد لا يغسل ثبت أنه لا يصلي عليه، ولأنه مستغن بفضل الشهادة عن الصلاة بقوله: أنا شهيد على هؤلاء. فصل [101 - الصلاة على من جرح في المعركة ثم عاش بعدها]: فأما إن حمل من المعترك جريحًا فبقي زمانًا أو أيامًا، ثم مات فإنه يغسل ويصلى عليه (1)، لأن الخبر ورد فيمن قتل في المعترك، ولأنه إذا حمل وعاش أمكن أن يكون مات من سبب طرأ عليه فلم يكن حكمه حكم من مات في المعترك، ولأن الذي فاضت نفسه في المعترك له منزلة لا يدانيه فيها غيره لأنه فارق الدنيا على نصرة الدين (2) والتوحيد، وذلك أشرف المقامات فلم يحتج إلى شفاعة المصلين، وهذا هو الفرق بين الشهيد في سبيل الله وبين سائر الشهداء من الغريق والطعين والهديم (3) والحامل ومن قتل دون ماله ومن ذكر معهم (4). فصل [11 - السبي يموت قبل أن يتلفظ بالشهادتين]: ومن مات من السبي (5) قبل أن يتلفظ بالشهادتين فلا يغسل ولا يصلى عليه (6) لأنه مات على أصل الكفر، لأنه لم يثبت له الإسلام لا من جهة الاعتقاد ولا الحكم، لأنه لم يكن سوى سبيه، والسبي لا يزول عنه حكم الكفر، وإن قالها ابتداء غسل وكفن وصلى عليه، وكذلك إن قالها عن تلقين إذا كان طوعًا من غير   (1) انظر: المدونة: 1/ 166، التفريع: 1/ 368، الكافي ص 85. (2) نصرة الدين سقط من (ق). (3) الطعين هو المطعون، والهديم: الذي يموت تحت الهدم. (4) الذين ذكرهم في الحديث: "الشهداء سبعة سوى القتيل في سبيل الله المطعون شهيد والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد" أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 234. (5) السبي: والسباء الأسر، وقد سبيت العدو سبيًا وسباء إذا أسرته (الصحاح: 6/ 2371). (6) انظر: المدونة: 1/ 161، التفريع: 1/ 368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 إكراه، لأن الظاهر إجابته إلى الإسلام وتدينه به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على من قال لا إله إلا الله" (1)، فعم ولم يفرق. فصل [12 - فيمن يصلي على الميت]: والإمام أولى بالصلاة على الميت من عصبته (2)، لأن طريقها الولاية وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤم الرجل في سلطانه ولا بيته إلا بإذنه" (3)، ولأن الحسين (4) رضوان الله عليه قدم سعيد بن العاص (5)، وكان الأمير فصلى على الحسن (6) رضي الله عنه وقال: أنت الأمير ولولا السنة ما قدمتك (7)، ولأنها صلاة تفعل في الاجتماع فكانت إلى الأئمة كالجمعة والعيدين، ولسان السلطان لما كان مقدمًا على صاحب الدار كان مقدمًا على الولي. وإذا كان بموضع لا سلطان فيه فالحق للأولياء، فأولاهم بذلك أقواهم تعصيبًا وأحقهم الابن ثم ابن الابن ثم الأب ثم ولده، وهم الأخوة ثم ولد ولده وهم بنو الإخوة، ثم الجد ثم ولده وهم العمومة، ثم ولدهم وهم بنو العمومة، فإنما قدمنا الإخوة وبنيهم على الجد، لأن الولاية يطلب فيها محض التعصيب وتعصيب الإخوة أمحض تعصيب، لا يشوبه ولادة ولا يأخذون بالفرض بحال.   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) انظر: المدونة: 1/ 169، التفريع: 1/ 369، الكافي ص 83. (3) أخرجه مسلم في المساجد، باب: من أحق بالإمامة: 1/ 465. (4) الحسين: بن عليّ بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله المدني، سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استشهد يوم عاشوراء سنة 61 هـ (تقريب التهذيب: 167). (5) سعيد بن العاص: بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، قتل أبوه ببدر وكان لسعيد عند موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين ولي إمرة الكوفة وإمرة المدينة المنورة لمعاوية (ت 58 هـ) (تقريب التهذيب: 237). (6) الحسن بن عليّ بن أبي طالب، سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صحبه وحفظ عنه"، مات شهيدًا بالسم سنة 49 هـ، (تقريب التهذيب: 162). (7) البيهقي: 4/ 28 - 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 فصل [13 - ولاية الزوج في الصلاة على الميت]: ولا ولاية للزوج لأنه ليس من قرابتها (1)، إلا أن يكون ابن عمها فيصلي بالتعصيب لا بالزوجية، ولأن العصمة منقطعة بينه وبينها فكان كالأجنبي، ويفارق الغسل لأنه يتعلق بمسها والنظر إلى بدنها وللزوج من التخصيص بذلك والاطلاع عليه ما ليس للأولياء فكان أولى منهم. فصل [14 - ترتيب الجنائز]: وإذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء قرب إلى الإمام جنائز الرجال ثم بعدها جنائز النساء، فإن كان معهما جنائز صبيان جعلت بعد جنائز الرجال وبعدها جنائز النساء، وإن كان معهم خناثًا جعلت جنائزهم بعد الصبيان ثم النساء بعد الجميع (2). وإنما قلنا ذلك لأن من يلي الإمام يجب أن يكون مقدمًا أو مؤخرًا حسب حرمته، وذلك أن المصلين خلف الإمام يترتبون على هذه السبيل: فيكون صفوف الرجال أقرب إلى الإمام ثم صفوف النساء بعده، فكذلك في هذا الموضوع يجب أن يكون الأفضل من يلي الإمام، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ليلني منكم ذوو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (3)، فجعل الرتبة في القرب منه والبعد بحسب الحرمة والجنس. وإذا ثبت ذلك جعلت جنائز الرجال ما يلي الإمام لأنهم أعلى حرمة (4) من النساء، ثم الصبيان لأنهم من جنس المذكور، والتذكير في الجملة أفضل من التأنيث، ثم النساء بعد الصبيان.   (1) انظر: المدونة: 1/ 169، التفريع: 1/ 369، الكافي ص 83. (2) انظر: المدونة: 1/ 164، التفريع: 1/ 399، الرسالة ص 156. (3) سبق تخريج الحديث. (4) أي أنهم أعلى المراتب (انظر المقدمات: 1/ 235). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وإن كانت معهم خناثًا جعلت جنائزهم بعد الصبيان ثم النساء بعد الكل لأنه لما أشكل أمرهم كانوا أقرب إلى الرجال من الإناث المقطوع بأنوثتهن. فصل [15 - المسبوق في صلاة الجنائز]: ومن فاته بعض التكبير قضى ما فاته، ودعا بين التكبيرات (1)، إن لم يخف رفع الجنازة قبل فراغه، وإن خاف أن ترفع عن سرعة قضاه قضاء نسقًا (2)، لأنه إذا خاف ذلك لم يمكنه أن يدعوا، لأنه إن تشاغل بالدعاء حصل منه أن يكون مصليًا عليها بعد رفعها وذلك غير جائز، وإذا أمن ذلك دعي بين التكبيرات كما كان لو أدركها من أولها لزوال الضرورة. فصل [16 - تكبيرة المسبوق لوقته أو مع الإمام]: وإذا سبقه الإمام بتكبيرة أو تكبيرتين وجاء والإمام يدعوا ففيها روايتان (3): إحداهما أنه يكبر لوقته، والأخرى أنه لا يكبر وينتظر تكبيرة الإمام ثم يكبر هو لإحرامه، فوجه الأولى اعتبارًا بسائر الصلوات أنه إذا فاتة بعض الصلاة أحرم حين يدخل ولم ينتظر فعل الإمام، ووجه الثانية أن التكبيرات كالركعات، فلما كان لفوات بعضها تشاغل بما أدرك دون قضاء ما فات كذلك هاهنا. فصل [17 - إعادة الصلاة على الميت]: لا تعاد الصلاة على الميت قبل الدفن ولا بعده (4) خلافًا للشافعي (5)، لأن الفرض قد سقط بالصلاة الأولى، فما زاد عليه تنفل، وذلك غير جائز على الميت، ولأنه حكم وجب فيه بالموت، فإذا سقط الفرض فيه لم يعد كالغُسل.   (1) انظر: المدونة: 1/ 163، التفريع: 1/ 370، الكافي ص 84. (2) نسقًا: أي يعطف التكبير بعضه على بعض. (3) انظر: المدونة: 1/ 163، التفريع: 1/ 270، الكافي ص 84. (4) انظر: المدونة: 1/ 164، الرسالة ص 156. (5) انظر: الأم: 1/ 276، مختصر المزني ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 فصل [18 - الصلاة على القبر]: ولا يصلي على قبر إلا أن يكون دفن قبل أن يصلي عليه (1)، لأنه لو جاز ذلك لكان أولى من فعل به ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لفضله ورجاء البركة بالصلاة عليه، ولأن الدفن لو لم يمنع إعادة الصلاة لم يكن لذلك غاية ينقطع إليها. فأما إذا دفن (2) بغير صلاة فتلك حال ضرورة لأن الفرض لم يسقط فيه، وكذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسكينة لما (3) دفنت من غير أن يعلم من دفنها. فصل [19 - الصلاة على بعض الجسد]: إذا وجد أكثر الجسد صلى عليه (4)، لان حكم الأكثر حكم الكل، ولا يصلي على العضو كاليد والرِجل خلافًا للشافعي (5)، اعتبارًا بالسن والشعر، ولأن الصلاة على الميت لا تعاد ويمكن أن يوجد أكثر البدن فتعاد الصلاة. وأظن أن من أصحابنا من يقول يصلي عليه (6)، ويُنْوِي به الميت وهو قول عبد العزيز بن الماجشون (7)، ووجه اعتباره بالكثير بعلة أن تعذر الجملة لا يمنع ذلك في البعض.   (1) انظر: المدونة: 1/ 164، الرسالة ص 156. (2) في (ق): أدفن. (3) في (م): التي. (4) انظر: المدونة: 1/ 163، الرسالة ص 156، الكافي ص 86. (5) انظر: الأم: 1/ 268. (6) أشار إليه صاحبا الرسالة ص 156، والكافي ص 86. (7) عبد العزيز بن الماجشون: هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ميمون وقيل: دينار، الإمام المفتي الكبير أبو عبد الله، والد المفتي عبد الملك بن الماجشون، صاحب مالك، سكن ببغداد، وحدث عن الزهري وابن المنكدر، وحدث عنه الليث ووكيع وابن وهب (ت 164 هـ) (تذكرة الحُفَّاظ: 1/ 222، سير أعلام النبلاء: 7/ 309). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فصل [20 - في دفن الميت]: ويجعل الميت في قبره على جنبه الأيمن القِبْلة (1) لقوله: "أشرف المجالس ما استقبل به القِبْلة" (2)، "ولأنها حال يحتاج فيها من القربة إلى نهاية الممكن، وقد روي عن السلف أنهم أمروا أن يفعل ذلك بهم عند احتضارهم، ولأن الميت كان يعظم هذه الجهة في حياته فيجب أن يوجه إليها بعد وفاته، فإن لم يقدر على ذلك جعلت رجلاه في القِبْلة واستقبلها بوجهه كالمريض يوجه للصلاة، وقيل: في المريض إذا لم يتمكن من توجيهه على الجانب الأيمن فعلى الأيسر، فإن لم يقدر جعلت رجلاه في القِبْلة فيجب أن يكون كذلك في الدفن. فصل [21]: وليس لمن ينزل القبر لتولي الدفن عدد معلوم (3)، وإنما هو على حسب الحاجة، فقد يكون الميت عظيم الجثة ثقيلها فيحتاج إلى جماعة يتناولونه من النعش إلى اللحد، وقد يكون خفيفًا يكفيه الواحد، وفي الجملة فلا ينبغي أن يزاد على قدر الحاجة كما لا ينبغي أن ينقص عنها. فصل [22 - اللحد والشق]: واللحد (4) أفضل من الشق إلا لضرورة (5) لقوله صلى الله عليه وسلم:   (1) انظر: التفريع: 1/ 373، الرسالة ص 151. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 4/ 270، عن أبي المقدام هشام بن زياد وسكت عنه وتعقبه الذهبي وقال: هشام بن زياد متروك (نصب الراية: 3/ 62 - 63). (3) انظر: التفريع: 1/ 373. (4) اللحد: ما حفر في عرض القبر يعني في ناحية القِبْلة، وأما الشق ففي وسط القبر (غرر المقالة ص 152). (5) انظر: الرسالة ص 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 "اللحد لنا والشق لغيرنا" (1)، "وأُلْحِدَ له صلى الله عليه وسلم (2)، وكذلك السلف بعده وعليه عمل الأمة. فصل [23 - النهي عن تجصيص القبر]: وينهى عن تجصيص القبور وبنيانها (3)، "لنهيه صلى الله عليه وسلم عن تقصيص (4) القبور" (5). والقصة الجص، ولأن ذلك من زينة الدنيا وتفاخرها والميت غير محتاج إليه والله أعلم. ...   (1) أخرجه أبو داود في الجنائز، باب: في اللحد: 3/ 544، والنسائي في الجنائز باب: اللحد والشق: 4/ 66، وابن ماجه في الجنائز، باب: ما جاء في استحباب اللحد: 1/ 496، والترمذي في الجنائز، باب: ما جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللحد لنا والشق لغيرنا"، وقال: حسن غريب من هذا الوجه: 3/ 354. (2) أخرجه مسلم في الجنائز، باب: النهي عن تجصيص القبر: 2/ 677. (3) انظر: المدونة: 1/ 170، التفريع: 1/ 373، الرسالة ص 151. (4) تقصيص سقطت من (ق)، التقصيص هو التجصيص (لسان العرب: 7/ 76). (5) أخرجه مسلم في الجنائز، باب: النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه: 2/ 667. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 كتاب الزكاة الزكاة (1) واجبة في الجملة (2) لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} (3)، وقوله: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} (4)، وقوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} (5)، وقوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (6)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس: فذكر، وإيتاء الزكاة" (7)، وقوله: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم" (8)، وحديث أبي بكر رضوان الله عليه مع أهل الرِّدَّة وقتاله إياهم على منع الزكاة وقوله: "لو منعوني عقالًا مما كانوا يدفعونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لجاهدتهم عليه" (9). ولا خلاف في وجوبها في الجملة (10).   (1) الزكاة لغة: النمو وهو الزيادة، وفي الشرع قال ابن عرفة: الزكاة اسم جزء من المال شرطه لمستحقه ببلوغ المال نصابًا (غرر المقالة ص 165، حدود ابن عرفة ص 71). (2) انظر: التفريع: 1/ 273. (3) سورة البقرة، الآية: 43. (4) سورة فصلت، الآية: 7. (5) سورة الأنعام، الآية: 141. (6) سورة البقرة، الآية: 267. (7) أخرجه البخاري في الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "بني الإسلام .. " 1/ 8 ومسلم في الإيمان، باب: أركان الإسلام .. : 1/ 45. (8) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: وجوب الزكاة: 2/ 108، ومسلم في الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين: 1/ 50. (9) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: وجوب الزكاة: 2/ 108، ومسلم في الإيمان باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله: 1/ 52. (10) انظر: الإجماع ص 46، المغني: 2/ 572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فصل [1 - أنواع زكاة الأموال]: والزكاة الواجبة في الأموال على ضربين: زكاة عين وزكاة قيمة (1)، فأما زكاة العين فهي من ثلاثة أنواع، وهي: العين: الذهب والفضة. والحرث: وهو ما أنبتت الأرض من الزرع والثمار من المقتات. والماشية: وهي الإبل والبقر والغنم. ولا تجب زكاة عين فيما عدا ذلك من الأنواع الثلاثة. فصل [2 - شروط زكاة العين]: فأما زكاة العين فمن شروطها النصاب (2) والحول (3) إلا أن يكون من معدن (4)، فلا يعتبر فيه الحول على ما نذكره، وأما النصاب فهو في الذهب عشرون دينارًا لا تجب الزكاة في أقل منها إلا أن يكون نقصانًا يسيرًا تجوز فيه جواز التامة (5) فلا يمنع الوجوب. فإذا بلغت عشرين ففيها ربع العشر وهو نصف دينار، وهو في الفضه. مائتا درهم، لا تجب في أقل منها إلا أن يكون نقصانًا يسيرًا على ما ذكرناه، فإذا كانت مائتين فقيها ربع العشر وهو خمسة دراهم (6)، والدليل على هذه الجملة قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق (7) من الورق صدقة" (8)، وقوله: "هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما وليس عليك شيء   (1) انظر: المدونة: 1/ 208، وما بعدها، التفريع: 1/ 273، الرسالة ص 165. (2) النصاب: هو القدر المعتبر لوجوب الزكاة (المصباح المنير ص 606). (3) الحول: مضي عام على المال (المصباح المنير ص 156). (4) المراد هنا المعدن الذي خلقه الله في الأرض. (5) ومعناه: النقصان الذي يجري ويجوز بجواز الوازنة، وهو الذي لا يتشاح الناس في مثله عادة (انظر: التفريع: 1/ 273، والتلقين: 1/ 128). (6) انظر: المدونة: 1/ 208 - 209، التفريع: 1/ 73، الرسالة ص 166. (7) أواق في اللغة: الثقل وفي الشرع: الأوقية هي أربعون درهمًا. (معجم مقاييس اللغة 1/ 157، الرسالة، 166). (8) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الورق: 2/ 121، ومسلم في الزكاة: 2/ 673. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حتى يكون لك مائتا درهم، فإذا كان لك مائتا درهم ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء حتى تكون لك عشرون دينارًا ففيها نصف دينار" (1). فصل [3 - زكاة ما زاد على النصاب]: ما زاد على النصاب ففيه بحسابه قل أم كثر (2) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لا شيء في الزائد حتى يكون أربعين درهمًا فيكون منها درهم ولا فيما زاد على العشرين حتى يكون أربعة دنانير (3) لقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" (4) فعم، وقوله: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" (5) فمفهومه وجوب الزكاة فيها وفيما زاد عليها ولأنها زيادة على نصاب في ذهب أو ورق يمكن إخراج ربع عشرها، دليلها الأربعون درهما والأربعة دنانير، ولأن الأربعة دنانير زيادة على النصاب فلم يجز أن يكون حدًّا وما دونها عفوًا، أصله الستة ولأنه نوع مال يجب على متلفه مثله فلم يكن فيه عفو بعد الوجوب كالحبوب. فصل [4 - دليل اعتبار الحول]: فأما اعتبار الحول (6) فلقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (7)، وروي عن أبي بكر (8)، وابن عمر (9)، وبه عملت الأمة والسلف، ولا خلاف فيه (10).   (1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: في زكاة السائمة: 2/ 228، قال ابن القطان: إسناده صحيح وكلهم ثقات (نصب الراية: 2/ 366). (2) انظر: المدونة: 1/ 209، التفريع: 1/ 273، الرسالة ص 166، الكافي ص 90. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 47، مختصر القدوري: 1/ 146. (4) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: زكاة الغنم: 2/ 123. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) انظر: المدونة: 1/ 209، التفريغ: 1/ 275، الرسالة ص 165، الكافي ص 91. (7) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة السائمة: 2/ 100 عن الحارث الأعور ضعفه الجمهور، وأخرجه ابن ماجه في الزكاة، باب: من استفاد مالًا: 1/ 571، والحديث رواه الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا: 3/ 25. (8) البيهقي: 4/ 103. (9) البيهقي: 4/ 103. (10) انظر: الإجماع ص 49، المغني: 2/ 625. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فصل [5 - لا أثر في فروق جنس الذهب وجنس الفضة]: ولا فرق بين أنواع الجنس من ذلك من كونه جيدًا أو رديئًا (1)، أو كون الذهب أحمر أو أصفر، ولا بين أنواع صفاته من التبر (2) والنقار (3)، والمضروب (4)، والصحاح (5)، والغلة (6)، والمصوغ (7)، والمكسور (8)، إلا أن يكون حليًّا للبس على الوجه المباح على ما سنذكره (9). والأصل في هذه الجملة قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} (10)، يعني يؤدون زكاتها، وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" (11)، فقيل: أن الرقة اسم للورق خاصة، وقيل: الذهب والورق، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" (12)، ولا خلاف في ذلك (13). فصل [6 - الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة]: ويجمع بين الذهب والفضة في الزكاة، فإذا كان معه من كل واحد منهما دون   (1) الرديء: هو الذهب الذي خلط بما يردئه (انظر مواهب الجليل: 2/ 294). (2) التبر: هو ما كان من الذهب غير مضروب (الصحاح: 2/ 600). (3) النقار: مفرد نقر وهو القطعة المذابة من الفضة، وقبل الذوب هي تبر (المصباح المنير ص 621). (4) المضروب: ما صنع على هيئة النقود المستعملة (لسان العرب: 2/ 31). (5) الصحاح: هي التي تعتبر بالعدد وعكسها المكسورة (الصحاح: 1/ 381). (6) الغلة: ما نتج زيادة بتحريك الأصل بالمبيع والشراء. (7) المصوغ: الذي صنع حلي للزينة (الصحاح: 4/ 1324). (8) المكسور: هي التي تعتبر بالوزن. (9) انظر: المدونة: 1/ 209، المقدمات: 1/ 288، الكافي ص 89. (10) سورة التوبة، الآية: 34. (11) و (12) سبق تخريج الحديثين قريبًا. (13) انظر: المحلي: 5/ 401، المغني: 3/ 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 النصاب، وأحدهما إذا ضم عدل بالآخر، كان في معنى من معه نصاب كامل من أحدهما فعليه الزكاة (1)، وقال الشافعي: لا يجمع بينهما (2)، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" (3) فعم، ولأنهما متفقان في المقصود منهما في كونهما أصولًا للأثمان وقيمًا للمتلفات، فكان المالك لأحدهما كالمالك للآخر، ولأنه لو كان معه مائة درهم وعرض يساوي مائة درهم لضمه إلى المائة وزكى الجميع إذا كان مديرًا (4)، وأدنى أحوال الذهب أن يكون كالعرض، ولأنه مال يجب فيه ربع عشره، فلزم ضمه إلى ما معه أصله إذا كان من جنسه. فصل [7 - تقويم الذهب بالفضة أو بالعكس]: ووجه التعديل بينهما أن يقام المثقال بإزاء عشرة دراهم، فإذا حصل من الجميع ما يكون به في معنى المالك المئتين أو للعشرين دينارًا لزمته الزكاة (5)، مثاله: أن يكون معه مائة درهم وعشرة دنانير، أو خمسة عشر دينارًا وخمسون درهمًا، فإن قومت المائة بالذهب كان في معنى المالك لعشرين دينارًا، وإن قومت العشرة الدنانير بالدراهم كانت في معنى مئة درهم، فأما إذا ضمها إلى المائة كان المالك للمائتين، ولو كان معه مائة درهم وتسعة دنانير وتسعة دنانير تساوي مائة درهم لم يضمها إليها لأن ذلك أكثر من المثقال بعشرة دراهم. فصل [8 - وجه إخراج الزكاة عن النوعين المجموعين]: ويخرج عن كل واحد من النوعين منه، فإن أراد أن يخرج عن أحدهما من   (1) انظر: المدونة: 1/ 208، التفريع: 1/ 274، الرسالة ص 166. (2) انظر: الأم: 2/ 40، مختصر المزني ص 49. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) مديرًا: مصطلح عند المالكية يعنون به أن العين تدار وتعرض للبيع لا للادخار أو الاقتناء. (5) انظر: المدونة: 1/ 208، التفريع 1/ 274، الرسالة ص 166، الكافي ص 90 - 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 االآخر جاز له ذلك ولا يكون ذلك فيه قيمة، وإنما يكون بدلًا أن أحدهما في معنى الآخر فيما له إيراد يقوم مقامه وينوب منابه. فصل [9 - كيفية إخراج الزكاة من المضمونين]: واختلف أصحابنا في كيفية الإخراج على ثلاثة أوجه (1): فقيل بالقيمة: قلت أم كثرت وهذا قول ابن المواز. وقيل: ما لم ينقص عن المثقال بعشرة دراهم فإن نقص لم ينقص منه وإن زاد أخرج الزائد لأن الغرض بذلك الاحتياط. وقيل: بالتعديل على حساب المثقال بعشرة دراهم ذكره الشيخ أبو بكر (2) عن بعض أصحابنا. فوجه الأول فلأنه معاوضة في حق الغير، فكانت بالقيمة أصله سائر المعاوضات. ووجه الثاني أن الأصل إخراج النوع من نوعه، وإنما سومح في أن يخرج عن أحدهما من الآخر، فيجب أن تكون المسامحة على وجه لا يدخل الضرر على المساكين، فإذا عاد بنقصانه عن القيمة الشرعية لم ينقص ورجع به إلى أصله وإن زاد لزم إخراج الزائد. ووجه الثالث: هو أن الإخراج في هذا الموضع فرع لأصل الضم وإيجاب الجميع، فإذا كان أصل الجميع هو بالتعديل، فكلذلك الإخراج والله أعلم.   (1) انظر: المدونة: 1/ 208 - 209، التفريع: 1/ 274 - 275، الرسالة ص 166، الكافي ص 89. (2) أبو بكر الأبهري: محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمي الأبهري، شيخ المالكية بالعراق في عصره، أخذ عن أبي الفرج، وابن كثير حدث عنه الدارقطني وأثنى عليه، جمع بين القراءات وعلو الإسناد والفقه الجيد، (ت 375 هـ) (سير أعلام النبلاء: 16/ 331، تاريخ بغداد: 5/ 462). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 فصل [10 - النقصان اليسير في النصاب]: إذا كان النصاب ناقصًا نقصانًا يسيرًا لا يؤثر ويجري مجرى الوازن (1) في العادة والعرف جازت المسامحة به ووجبت فيه الزكاة، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" (3)، ولأن ذلك إذا كان غير مؤثر في العادة كان حكمه كحكم ما لم ينقص، ولأن ما هذه سبيله لا اعتبار به في باب تعلق الأحكام بل يكون عفوًا كاختلاف المكاييل ونقصان العشر حبات والعشرين حبَّة في الأوسق مما لا ينضبط في الكيل (4). فصل [11 - إذا أضيف إلى المال مال يكمل به النصاب فالحول من كمال النصاب]: وإذا كان معه مال يقصر عن النصاب فأفاد إليه فائدة تم بها نصابًا ضم الأول إلى الثانية وزكى الجميع لحول الثانية (5)، هذا إذا كانت الفائدة من غير ربح الأول وذلك لأن الحول لا يثبت للمال إلا بأن يكون نصابًا أو مسندًا إلى نصاب وهذا معدوم في مسألتنا، فوجب استئناف الحول من يوم أفاد الآخرة لأن من ذلك الوقت ثبت للمال حكم الحول بكمال النصاب. فصل [12 - إذا كان الأول نصابًا والثاني دون النصاب]: فإن كانت الأولى نصابًا والثانية دون النصاب زكى الأولى لحولها ولم يضم الثانية إليها بخلاف ما نقوله في الماشية (6) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه يضم   (1) معناه النقص اليسير في جميع الموازين كالحبتين وما جرى عادة الناس أن يتسامحوا فيه في البيعات وغيرها. (انظر: التفريع: 1/ 273). (2) تحفة الفقهاء: 2/ 264 - 266، الإقناع ص 64 - 65. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) في (ق): الكل. (5) و (6) انظر: المدونة: 1/ 209، التفريع: 1/ 274، الرسالة ص 167، الكافي ص 92 - 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الفائدة إلى الأصل إذا كان نصابًا كما يفعل ذلك في الماشية (1) لقوله: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (2)، ولأنها فائدة من غير أصل المال الذي عنده فيما زكاته ربع عشره، فلم يضم إلى الأولى أصله إذا كان الأول دون النصاب وبذلك فارق الماشية. فصل [13 - الربح يضم إلى الأصل ويزكى بحول الأصل]: وربح المال مضموم إلى أصله معتبر بحوله كان الأصل نصابًا أو دونه إذا تم نصابًا بربحه أو بنتاجه إن كان ماشية لأنه ربح مال تجب في عينه الزكاة، فكان حكمه في الحول حكم أصله كما لو كان الأصل نصابًا (3). فصل [14 - إخراج الزكاة قبل وجوبها]: ولا يجوز إخراج الزكاة قبل وجوبها (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5) لقوله: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (6)، لأنه تقديم الزكاة على يعض شروط وجوبها كما لو قدمها على النصاب، ولأنه تقديم الزكاة على وقت وجوبها كما لو قدمها لحولين أو ثلاثة، ولأنها أحد الأركان التي بني الإسلام عليها فتقديمها على وقت وجوبها لا يسقط الفرض، أصله الصوم والحج. فصل [15 - هلاك الزكاة بعد إخراجها وقبل إيصالها إلى الفقراء]: إذا أخرج الزكاة حين وجبت عليه من غير تفريط فهلكت قبل أن يوصلها إلى الفقراء لم يضمن، وكذلك إن وجبت عليه، فهلك المال قبل إمكان الإخراج لم   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 49، مختصر القدوري: 1/ 145. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) انظر: المدونة: 1/ 209 - 210، التفريع: 1/ 274، الرسالة ص 167. (4) في (م): ولا يجب. (5) انظر: المدونة: 1/ 243، التفريع: 1/ 275، الكافي ص 100. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يضمن (1) خلافًا لمن ضمنه في الوجه الأول (2) لأن الزكاة متعلقة بالعين دون الذِّمَّة، ولا تنتقل إلى الذمة إلا بتفريط، ولأن إخراجها موكول إلى أمانته فهو مؤتمن عليها، فكان كالساعي تتلف الزكاة بيده لأن يده يد أمانة ولأنا قد اتفقنا على أن المال لو هلك بعد حلول الحول، وقبل إمكان الأداء لم يلزمه شيء فكان تلف الزكاة بعد إفرادها من المال وقبل وصولها إلى الفقراء إذا لم يكن بتفريط كتلفها مع جملة المال. فصل [16 - تأخير إخراج الزكاة عن وقت وجوبها]: إذا أخر إخراج الزكاة عن وقت وجوبها قادرًا على إخراجها تعلقت بذمته ولم تسقط عنه بتلف ماله (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه لا يضمنها (4) لأنه حبس الزكاة بعد وجوبها وقدرته على أدائها فوجب أن يضمنها، أصله إذا طالبه فلم يفعل، ولأنه عاص بتأخيرها، لأنها واجبة على الفور فإذا أخرها ضمنها وتعلقت بذمته. فصل [17 - من ابتاع نصابًا حال عليه الحول بسلعة فباعها بربح]: إذا حال الحول على نصاب عنده فلم يخرج زكاته حتى ابتاع به سلعة فباعها بربح فإنه يزكي المال الأول ولا يزكي الربح، لأن الربح لم يحل عليه الحول ولا يكون تابعًا لأصله (5) لأنه إنما يبيعه قبل تقرر الوجوب في الأصل، فلم يصح أن يتبعه ربح معدوم في ذلك الوقت ووجد في ثاني حال، وإذا ثبت ذلك وجب   (1) انظر: المدونة: 1/ 294، التفريع: 1/ 275، الكافي ص 100. (2) هذا القول هو أحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد (الأم: 1/ 52، الإقناع ص 69، مسائل الإمام أحمد ص 155، مختصر الخرقي ص 46). (3) انظر: التفريع: 1/ 275، الكافي ص 99 - 100. (4) انظر: مختصر المقدوري: 1/ 146. (5) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 209 - 210، التفريع: 1/ 274 - 275، الكافي ص 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 أن يزكي المال الأول ثم يزكيه للعام الثاني مع ربحه سواء ما أخرج عنه الزكاة للعام الأول، لأن الحول قد حال عليهما فصادفهما الوجوب. فصل [18 - زكاة الدين]: الدين مسقط للزكاة عن مقدار ما قابله من العين دون الحرث والماشية، ثم ينظر فيما زاد على ذلك، فإن كان نصابًا زكاة، فإن قصر عن النصاب فلا زكاة فيه، مثاله: أن يكون معه ثلثمائة درهم ولا دين عليه فيكون عليها زكاتها سبعة دراهم ونصف، فإذا كان عليه دين مائة درهم أقام بإزائه من الثلثمائة مائة ثم زكى عن مائتين، وإن كان أصل ما معه مائتين أقام منها بإزاء الدين مائة ثم لا زكاة عليه في الباقي، وكذلك لو كان عليه خمسة دراهم لم يترك الباقي لأنه يقصر عن النصاب، وسواء كان الدين من جنس العين أو من غير جنسها (1)، وكل هذا خلافًا للشافعي في قوله: أن الدين لا تأثير له في إسقاط الزكاة عن العين (2)، لما روى أصحابنا عن عمير بن عمران (3) عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان للرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه" (4) ولأن الدين قد أخذ عوضه والزكاة لم يؤخذ عوضها فكان الدين مقدمًا على الزكاة كما قدم على الميراث. فصل [19 - الفرق بين العين والماشية والحرث في تأثير الدين في إسقاط الزكاة]: والفرق بين العين والماشية والحرث من وجهين: أحدهما أن زكاة الحرث   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 234، التفريع: 1/ 276، الرسالة ص 167، الكافي ص 94 - 95. (2) انظر: الأم: 1/ 51، مختصر المزني ص 51 - 52. (3) عمير بن عمران الحنفي البصري، في حديثه وهم وغلط (لسان الميزان: 4/ 1725). (4) هذا الحديث عن عمير بن عمران وهو يحدث بالبواطيل (الكامل في ضعفاء الرجال: 5/ 1725). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 والماشية إلى الإمام، فلو قبل قول أربابها أن عليهم ديونًا لأدى ذلك إلى ترك إخراج الزكاة فحُسم الباب بمنعه، وليس كذلك الذهب والفضة لأن زكاتها موكولة إلى أربابها، والثاني: أن الحرث والماشية، أموال ظاهرة وليس كذلك الذهب والفضة لأنها تخفى وتبطن. فصل [20 - الجمع بين أداء الزكاة والدين]: وإن كان عنده من العروض ما فيه وفاء بدينه جعل الدين في العروض وزكى ما في يديه من العين إن كان نصابًا، وإن كان دينه أكثر من عروضه أقام من العروض بإزاء قيمتها من الدين ثم ضم إلى ذلك مما في يديه من العين ما يقوم بتمام دينه ثم زكى الباقي إن كان نصابًا (1)، وكل هذا خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن الدين يجعل في العين ولا يجعل في العروض ويسقط الزكاة (2)، ودليلنا إذا جعلنا الدين بإزاء العروض أمكن الجمع بين أداء الزكاة والدين فكان أولى من إسقاط أحدهما بالآخر أصله إذا كان معه من العين ما يفي بدينه ويفضل معه نصاب، ولأن العروض نوع من المال مأمون، فجاز أن يفعل في الدين أصله العين (3). فصل [21 - العروض المقومة بإزاء الدين]: والعروض التي يقيمها بإزاء الدين هي ما يستغنى عنه غالبًا ويباع عليه في دينه دون ما لا مندوحة له عنه من ثيابه التي تستر عورته وما لا بد له (4) منه من لباس وحصير وغطاء (5) وما جرى مجرى ذلك، وكذلك كسوة جمعته التي لا يبلغ   (1) انظر: المدونة: 1/ 234، التفريع: 1/ 276، الكافي ص 94 - 95. (2) انظر: مختصر القدوري: 1/ 137، تحفة الفقهاء: 2/ 274 - 275. (3) في الإشراف (1/ 182): ولأن العروض نوع من المال مأمون، فجاز أن يجعل في الدين ويزكى العين .. (4) له: سقطت من (ق). (5) في (ق): عصارة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ثمنها ذلك المبلغ، وكذلك منزله إذا كان قريبًا للثمن وكان ذا عيال (1) ولم يكن له خطر وبال، فهذا لا يحسب في دينه ويحسب ما عداه (2). فصل [22 - جعل الدين في كتابة المكاتب]: وإذا كان عليه دين وله مكاتب جعل الدين في كتابته وأدى الزكاة عن عينه (3) لأن الكتابة في معنى المال لأنه يبيعها إذا أراد ويؤدي الدين منها، وإن كان له مدبر فاختلف أصحابنا فمنهم من قال: يجعل الدين في قيمة رقبته (4) لأنه لو قتل لوجبت قيمته قيمة (5) عبد، ومنهم من قال: في قيمة خدمته لأن السيد لا يملك منه إلا الخدمة، وإن كان له دين على ثقة مليء غير منكر جعل دينه فيه وأخرج الزكاة من عينه. فصل [23 - زكاة مال الدائن]: الدين لا تجب فيه الزكاة وإن أقام سنين حتى يقبض (6) خلافًا للشافعي (7) لأن الله أوجب زكاة المال منه لا من غيره عنه ولا سبيل إلى ذلك إلا بقبضه، ولأن الدية ومال الكتابة لا زكاة فيهما، وإن أقاما سنين وكذلك الدين على معسر لأن ذلك في الذمة، فكذلك سائر الديون. فصل [24 - أقسام الديون]: الديون على ثلاثة أضرب (8):   (1) ذاعنا في (ق). (2) انظر: المدونة: 1/ 234، التفريع: 1/ 276، الكافي ص 95. (3) انظر: المدونة: 1/ 234 - 235، التفريع: 1/ 276. (4) هذا في قول ابن القاسم (التفريع: 1/ 276). (5) لفظ قيمة سقط من (ق). (6) انظر: التفريع: 1/ 278، الرسالة: 1/ 276. (7) انظر: الأم: 2/ 51، الإقناع ص 69. (8) انظر: المدونة: 1/ 234، التفريع: 1/ 276 - 277، الرسالة ص 167، الكافي ص 93 - 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 منها ما كان أصله في يده عينًا ثم يصير دينًا، وذلك مثل أن يكون مع رجل ألف درهم فيقرضها من رجل أو يبتاع بها عرضًا ويبيعه من رجل بدين فيقيم ذلك في ذمة المقترض أو المشتري سنة أو سنين عدة، فهذا إذا قبضه زكاة ساعة قبضه لسنة واحدة. ومنها ما يكون ابتداؤه فائدة إما بميراث أو هبة أو صدقة أو أرش جناية أو دية أو مهر أو ثمن سلعة كانت لقنية (1)، فهذا إذا قبض استقبل له الحول. ودين المدين، وهذا له حكم نذكره فيما بعد. والفرق بين القسم الأول والثاني أن الأول كان قد حصل معه عينًا في طرفي الحول ولا اعتبار بكونه دينًا في تضاعيفه، وفي الثاني لم يحصل له عينًا إلا دفعة واحدة فلم يجر حكم الزكاة فيه. فصل [25 - أقسام العروض وما يجب الزكاة فيها]: والعروض (2) على ضربين (3): منها ما لا تجب الزكاة فيه بوجه وهو ما أريد للقنية ولم يرد للتجارة، وذلك كالثياب للبس والخيل للركوب والرقيق للخدمة، وكل ما عدا الذهب والفضة والحرث والماشية، ولا خلاف في هذا (4)، ومنها ما يراد به التجارة، فتجب الزكاة في قيمته (5) خلافًا لداود (6)، لما رواه   (1) القنية: هي أن يشتري السلعة كي يملكها ينتفع بها لا للتجارة (الصحاح: 6/ 2467). (2) هي الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا تكون حيوانًا ولا عقارًا (المصباح المنير ص 404، والفواكه الدواني: 1/ 339). (3) انظر: المدونة: 1/ 230 - 231، التفريع: 1/ 280، الرسالة ص 166 - 167، الكافي ص 97 - 98. (4) انظر: الإجماع ص 51، المغني: 3/ 30. (5) انظر: التفريع: 1/ 280، الرسالة ص 167، الكافي ص 98. (6) انظر: المجموع: 6/ 44، المحلي: 5/ 347 - 356، المغني: 3/ 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أبو ذر (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أد زكاة البر" (2)، ولأن في إسقاط الزكاة عنه ذريعة إلى سقوط الزكاة في أكثر الأموال لأن كل من خاف أن يؤدي الزكاة ابتاع بالعين عرضًا فتسقط الزكاة عنه. فصل [26 - الزكاة في العروض التي هي للتجارة]: وإذا اشترى العروض بنية التجارة ثبت الحكم فيه. فإذا باعه بعد حول أو أحوال زكاة لسنة واحدة إن كان أصله عينًا، وإن كان ملكها عروضًا بميراث أو هبة أو غير ذلك، فمكثت عنده حولًا أو أحوالًا، ثم باعها، فإنه يستأنف الحول من يوم باعها، وحكمها حكم الدين، وهذا الذي ذكرناه، هو لمن يعرف حول ما يبيعه. فأما المدير فإنه يزكي في كل سنة، وصفة المدير مثل سائر التجارة الذين يديرون البيع والشراء والتجارة، فلا ينضبط لهم حول ما يبيعونه أو يشترونه. فالوجه فيمن هذه صفته أن يجعل لنفسه شهرًا معلومًا من السنة لزكاته، فينظر ما معه من العين وما عنده من العروض فيقومه ويضمه إلى عينه، وكذلك ما له من دين، فإذا عرف جميع ذلك، نظر فإن كان عليه دين أسقط بمقداره من الجملة وزكى الباقي إن كان نصابًا، وإن لم يكن عليه دين زكى ما معه. والدليل على هذه الجملة أنا لو لم نفعل ذلك لكان لا بد من أحد أمرين: إما   (1) أبو ذر: جندب بن جنادة الغفاري، وقيل: جندب بن سكن أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم، كان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، روي عنه: ابن عباس، وأنس وغيرهم، كان رأسًا في الزهد (سير أعلام النبلاء: 2/ 46، طبقات ابن سعد: 4/ 219). (2) أخرجه ابن أبي شيبة: 3/ 213، والسيوطي في الدر المنثور: 3/ 233، وعن أبي ذر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقتها .. أخرجه أحمد: 5/ 179، والترمذي في العلل المفرد، والدارقطني: 2/ 101، والبيهقي: 4/ 174، والحاكم: 1/ 338، وأحد سنديه عنده على شرط الصحيح (الهداية في تخريج أحاديث بداية المجتهد: 5/ 35). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أن لا يؤدي أصلًا زكاة أو أن يكلف ضبط حول لكل عرض عنده، ففي الأول ذريعة لإسقاط الزكاة، وفي الثاني تكليف ما لا يقدر عليه ولا يجد سبيلًا إليه فلم يبق إلا ما قلناه (1). فصل [27 - قبض الدين دون النصاب]: إذا قبض من دينه دون النصاب فلا زكاة عليه (2)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن قبض أربعين درهمًا أخرج درهمًا (3)، ولغيره في قوله: يزكى القليل والكثير، لأن ملكه قاصر عن نصاب فأشبه من ملك في الابتداء أقل من نصاب ولأنا قد بينا أن الدين لا تلزم فيه الزكاة حتى يقبض، ودليلنا عليه أنه لا يجب أن يخرج عن المال من غيره، فلو أوجبنا عليه إذا قبض عشرة دنانير أن يزكي عنها لجاز أن لا يقبض غيرها فيؤدي ذلك إلى أن الزكاة تجب عليه فيما دون النصاب. فصل [28 - في تكلمة النصاب من الدين أو غيره]: فإن (4) كان عنده مال، فدخل عليه الحول يتم (5) معه ما قبضه من دينه إذا ضم إليه نصابًا ضمه إليه وزكى الجميع (6)، لأنه مالك لنصاب قد حال عليه الحول، حصل عينًا في يده طرفي الحول فأشبه ما يحول عليه الحول وهو في يده (7)، وكذلك يضم إليه ما خرج له من معدن. فإذا ثبت هذا فلا يخلو ما يقبضه من دينه أن يكون نصابًا أو دونه، فإن كان   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 230 - 233، التفريع: 1/ 280، الرسالة ص 167. (2) انظر: التفريع: 1/ 278، الرسالة ص 167، الكافي ص 94. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 51. (4) في (م): فإذا. (5) في (م): فتم. (6) انظر: التفريع: 1/ 276، 278، الكافي ص 94. (7) في (م): يديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 نصابًا زكاة ثم يزكى ما يقبضه من بعد من قليل أو كثير، وإن كان دون النصاب فلا يخلو أن يكون عنده ما يتم به نصاب، أو لا يكون عنده فإن لم يكن عنده لم تكن عليه زكاة فيما قبضه للعِلَّة التي ذكرناها، وإن قبض بعد تمام النصاب زكى جميع النصاب أنفق الأول أو بقى عنده (1)، على اختلاف بين أصحابنا (2) في إنفاقه وضياعه أو بقائه (3). ثم زكى ما يقبضه من بعد من قليل أو كثير، فإن كان عنده ما يتم به ما قبضه نصابًا قد حال عليه الحول زكى الجميع، ثم زكى ما يقبضه من بعد من قليل أو كثير. وحكم ما يقبض من ثمن العروض للتجارة حكم ما يقبض من الدين في اعتبار النصاب وما يتم به إن كان المقبوض دونه. فصل [29 - لا زكاة على العروض إذا بيع بعضها ببعض]: وإذا كان يبيع العرض بالعرض ولا ينض له (4) من ثمن ذلك عين فلا زكاة عليه ولا تقويم (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6)، لأن زكاة القيمة متابعة لزكاة العين، فلو أوجبنا الزكاة لكان لا يخلو أن يخرج من جنس العروض وهذا خلاف الأصول، أو أن يخرج عنها عينًا فيجب أن ينض لها ثمن فيخرج منه، وكذلك فلا قيمة على المدير إذا كان لا يبيع ولا يشتري إلا بالعروض (7)، لأنه يقوم ما عنده من العروض فتجعل القيمة كالثمن فتكون متابعة له.   (1) عنده سقطت من (ق). (2) انظر: التفريع: 1/ 278، المقدمات: 1/ 305. (3) في (م): إنفاقه. (4) أي لا يحصل (المصباح المنير ص 610). (5) انظر: التفريع: 1/ 280، الرسالة ص 166، 167. (6) انظر: مختصر القدوري: 1/ 148، الأم: 2/ 47. (7) انظر: التفريع: 1/ 280، الرسالة ص 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فصل [30 - اللؤلؤ والجوهر والطيب: زكاته في قيمته إذا كان مدارًا]: اللؤلؤ والجوهر وأنواع الطيب من المسك والعنبر والكافور كل هذا عروض، وحكمه حكم سائر العروض (1)، لا زكاة في عينه وإنما الزكاة في قيمته، ويختلف حكمه في الإدارة وغير الإدارة على ما ذكرناه في العروض، ولا خمس فيه، لأن الخمس لا يكون إلا فيما أخذ عن الكفار، أو من معدن على صفة تذكر فيما بعد (2). فصل [31 - اشتراط الحرية لوجوب الزكاة]: ولا تجب الزكاة إلا على مالك تام الملك وهم الأحرار، ولا زكاة على عبد ولا مدبر (3)، ولا أم ولد (4)، لأن العبد وإن كنا نقول: أنه يملك فإن ملكه ناقص غير مستقر، بدليل أن لسيده انتزاع ماله ولا مانع يمنعه من ذلك، وأنه ليس له أن يتصرف فيه لحق السيد، وحكم المكاتب في ذلك حكم العبد لأنه على حكم الرق ألا ترى أنه لا تجوز له الهبة ولا التصرف ولا يعاقل. فصل [32 - الإسلام شرط لوجوب الزكاة]: ولا يؤخذ النصراني بزكاة شيء من ماله لا من عينه ولا ماشيته ولا حرثه لأنا عاهدناهم على ألا نأخذهم بفروع الدين ما داموا مقيمين على كفرهم كما لا نأخذهم بالصلاة والصوم والحج، فإذا أسلم النصراني وأعتق العبد، فالزكاة عليهما إذا حال الحول على المال الذي في أيديهما من يوم الإسلام والعتق، لأن من ذلك الوقت حصل شرط الوجوب (5).   (1) انظر: المدونة 1/ 251 - 252، التفريع: 1/ 278 - 279. (2) تذكر فيما بعد: سقطت من (م). (3) المدبر: هو أن يقول الرجل لعبده: أنت حر عن دبر مني. (4) أم ولد: هي الحر حملها من وطء مالكها عليه جبرًا. (5) انظر: المدونة: 1/ 213، الرسالة ص 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فصل [33 - زكاة الفوائد]: الفوائد كلها لا زكاة فيها إلا أن يحول عليها الحول من يوم أفيدت (1) أو قبضت بعد تقدم الملك على ما ذكرناه من التفصيل (2)، وذلك مثل ما يملكه الإنسان بميراث أو هبة أو صدقة أو استغلال أرض أو مسكن أو إجارة عبد أو نجوم مكاتب (3)، أو أرش جناية أو دية وما أشبه ذلك، فأما ربح المال فحكمه حكم أصله على ما بيناه. فصل [34 - زكاة الحلي والحلية]: تجب الزكاة في أواني الذهب والفضة، لأن اقتنائها محرم، وكذلك في حلية اللجم والسروج والدوي والمداوي والسكاكين، لأنه غير مأذون فيه، فأما الحلي المباح للرجال فهو في ثلاثة أشياء وهي حلية المصحف (4) والسيف والخاتم. وحلي النساء المتخذ للبس والاستعمال فما كان من هذا اللبس والتجمل فلا زكاة فيه (5) خلافًا لأبي حنيفة (6) لأنه مال قصد به الاقتناء وترك التنمي على وجه مباح، فلم تجب فيه الزكاة اعتبارًا بعروض القنية، ولأن المعتبر في وجوب الزكاة هو النماء لأنها تجب بوجوده (7) وتسقط بعدمه، ألا ترى أن ما لا تجب في عينه زكاة إذا قصد به التنمي وطلب الفضل وجبت الزكاة لطلب النماء، فيجب أن يكون ما تجب في عينة الزكاة إذا عدل به عن طلب النماء على وجه مباح أن تسقط الزكاة فيه.   (1) من (ق): أفيد. (2) انظر: المدونة: 1/ 222، التفريع: 1/ 275، الرسالة ص 167 - 168. (3) نجوم مكاتب: معناه أقساطه. (4) حلية المصحف وحلية السيف: أي ما يزين به المصحف والسيف (المصباح المنير ص 149). (5) انظر: المدونة: 1/ 211 - 212، التفريع: 1/ 280 - 281، الرسالة ص 167. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 49، مختصر القدوري: 1/ 148. (7) في (م): لوجوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 فصل [35 - زكاة الحلي المعد لغير الاستعمال واللبس]: فأما الحلي المباح اتخاذه واستعماله إذا أريد لغير الاستعمال واللبس ففيه الزكاة (1) مثل أن يتخذ للتجارة أو للدخر (2)، والإعداد للحاجة إلى بيعه لأن المؤثر في سقوط الزكاة إعداده للبُّس فقط، وأما المتخذ للكراء فعند مالك لا زكاة فيه، وعند محمد بن مسلمة أن فيه الزكاة (3)، ووجه قول مالك: إنه حبس عينه عن طلب النماء والزيادة، فأشبه حلي اللبس (4)، ووجه وجوب الزكاة فيه أن النماء موجود منه وهو مرصد له كحلي التجارة. فصل [36 - الزكاة في مال الصغير]: والزكاة واجبة في مال الصغير كوجوبها في مال الكبير (5) خلافًا لأبي حنيفة حين أسقطها في ناضه (6) وماشيته (7)، لقوله صلى الله عليه وسلم (8): "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" (9) فعم، ولأن كل زكاة لزمت الكبير لزمت الصغير كزكاة الحرث والفطر، ولأنه مسلم حر تام الملك فأشبه الكبير. ...   (1) انظر: المدونة: 1/ 211، التفريع: 1/ 280. (2) في (ق): للدخور. (3) انظر: التفريع: 1/ 280، المقدمات: 1/ 294. (4) في (ر): حلي السيف. (5) انظر: المدونة: 1/ 213، الرسالة ص 167. (6) ناضه: أي في ذهبه وفي فضته (مختصر الطحاوي ص 45). (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 45، مختصر القدوري: 1/ 137. (8) صلى الله عليه وسلم سقطت من (ق). (9) سبق تخريج الحديث في أول كتاب الزكاة في الصفحة (359). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 باب: زكاة معادن الذهب والفضة وفي معادن الذهب والفضة الزكاة إذا خرج منها نصاب (1)، فإن كان دون النصاب، لا شيء فيه إلا أن يخرج بعد ذلك تمام النصاب من نيله (2) فتكون فيه الزكاة، أو يكون عنده مال قد حال عليه الحول إذا ضمه إلى ما خرج من المعدن كان نصابًا، ثم يزكي ما خرج بعد ذلك من قليل أو كثير ما دام ذلك النيل قائمًا فإن انقطع وظهر نيل لم يُبْنَ ما خرج منه على ما خرج من الأول، وكان للثاني حكم نفسه. ولا حول في زكاة المعدن بل يزكي لوقته كالزرع، ولا يرده دين بخلاف العين من غير المعدن، وفي الندرة (3) الخارجة بغير مؤنة ولا كلفة الخمس، وقيل: الزكاة كغيرها. والركاز: دفن الجاهلية، وفيه الخمس في قليله وكثيره، وذلك في ذهبه وورقه، فأما عروضه وجواهره ففيه روايتان: إحداهما أنه يخمس والأخرى أنه لا يخمس (4). فصل [1 - دليل الفرق بين المعدن والركاز]: وإنما فرقنا بين المعدن والركاز في الصفة والحكم خلافًا لأبي حنيفة في قوله أن   (1) انظر: المدونة: 1/ 246، التفريع: 1/ 278، الرسالة ص 168. (2) نيل: العرق الذي في المعدن (الفواكه الدواني: 1/ 345) وهو ما يعرف الآن بالمنجم. (3) الندرة: هي المعدن الخالص الذي لا يحتاج إلى تصفية وتخليص من الشوائب عند إخراجه من مكانه كأن يخرج خالصًا مصفى. قال خليل: وفي ندرته الخمس (مواهب الجليل: 2/ 339). (4) انظر: المدونة: 1/ 249، التفريع: 1/ 279، الرسالة ص 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 المعدن هو الركاز (1)، وأن فيه الخمس لقوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس" (2)، ففرق بين اسميهما، فثبت أن أحدهما غير الآخر، ولأن الركاز مأخوذ من أركاز الشيء وهو دفنه (3) ومنه: "أنه صلى الله عليه وسلم كانت تركز له العنزة فيصلي إليها" (4) والمعدن عروق أنبتها الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض فلم تكن ركازًا لأنها بغير وضع آدمي. فصل [2 - الدليل على أن في المعدن الزكاة]: وإنما قلنا: أن فيها الزكاة لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع بلال بن الحارث (5) المعادن القبلية من ناحية الفرع (6) فلا تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم، ولأنه مستفاد من الأرض بكلفة ومؤونة لم يتقدم عليه ملك، فكان الواجب فيه الزكاة دون الخمس كالزرع. فصل [3 - دليل اعتبار النصاب في المعدن]: وإنما اعتبرنا فيه النصاب، لأن كل ما وجبت فيه الزكاة، فلا بد من اعتبار النصاب فيه كسائر الأموال، وإنما قلنا: أن يبنى النيل بعضه على بعض، لأن   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 49، تحفة الفقهاء: 2/ 327. (2) أخرجه البخاري في الديات، باب: العجماء جبار: 8/ 47، ومسلم في الحدود، باب: جرح العجماء والمعدن جبار: 3/ 1334. (3) الركاز: من ركزت الرمح، أي غرزته في الأرض، والركاز دفين الجاهلية كأنه ركز في الأرض ركزًا (الصحاح: 3/ 880). (4) أخرجه مسلم في الصلاة، باب: سترة المصلي: 1/ 359. (5) بلال بن الحارث: المزني أبو عبد الرحمن المدني، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمر وعن ابن مسعود، وعنه ابنه الحارث، وعلقمة، وعمرو بن عوف، وكان أول من قدم من مزينه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ت سنة 60 هـ) (تهذيب التهذيب: 1/ 501 - 502). (6) أخرجه الحاكم: 3/ 517، وقال: صحيح ولم يخرجاه، والبيهقي: 4/ 152، وأخرجه مالك مرسلًا: 1/ 248، والقبلية منسوبة إلى قبل وهي ناحية من ساحل البحر والفرع موضع بين نخلة والمدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 حكمه حكم واحد، كالنوع الواحد، وكالدين الواحد إذا قبض أولًا، ولم يجب ذلك في (1) بناء نيل على نيل، لأنه كمعدن آخر فله حكم نفسه، وإنما قلنا: إنه إذا كان عنده مال قد حال عليه الحول زكاة معه، فلأن شرط وجوب الزكاة قد وجد فيهما، فوجب ضم أحدهما إلى الآخر. فصل [4 - دليل عدم مراعاة الحول في المعدن]: إنما لم يراع (2) الحول فيه خلافًا لأحد قولي الشافعي (3) لأنه مال مستفاد من الأرض، تجب فيه الزكاة فلم يعتبر فيه حول كالزرع، ولهذه العلة قلنا: إنه لا يرده دين بخلاف العين. فصل [5 - وجه إيجاب الزكاة في الندرة]: ووجه إيجاب الزكاة في الندرة فلأنه نوع مال تجب فيه الزكاة، فلم يجب فيه الخمس لقلة المؤونة كغير المعدن، ووجه قوله: إن فيها الخمس: لما لم يكن في أحدهما كلفة ولا مشقة ولا كبير مؤونة كانت كالوضع ابتداء، فوجب فيها الخمس كالركاز، والزكاة أقيس، وإنما قلنا: إن في الركاز الخمس لما رويناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس" (4)، ولأنه من أموال الكفار فكان فيه الخمس دون الزكاة كالغنائم. فصل [6]: وإنما قلنا: إن الخمس في قليله وكثيره من غير مراعاة نصاب، لأن النصاب يعتبر في الزكاة دون الخمس، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس" (5) ولم يخص، واعتبارًا بالغنائم.   (1) في: سقطت من (ق). (2) في (م): تراع. (3) انظر: مختصر المزني ص 53، الإقناع ص 66. (4) و (5) سبق تخريج الحديث قريبًا ص 379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فصل [7 - التعليل لعدم إيجاب الزكاة في الركاز إذا كانت عروضًا وإيجاب الخمس فيها]: وجه قوله: إنه لا شيء عليه في عروضه وجوهره (1)، هو أنه لما شبه بالغنائم، وكان في الأصل أن حكم العرض في الغنائم أخف من حال العين بدليل أنه يجوز أخذ اليسير منه بغير إذن الإمام، وأنه قد يتركه الجيش لكثرته ولا يتركون الذهب والفضة كان بما (2) هو مشبه به أولى بالتخفيف، ووجه إيجاب الخمس فيه عموم قوله: "وفي الركاز الخمس" (3)، ولأنه ركاز فأشبه الذهب والفضة وهذا هو الصحيح. فصل [8 - المدفون من أموال المسلمين]: ما وجد مدفونًا من أموال المسلمين فهي لقطة تعرف كما تعرف اللقطة عامًا، ثم يتصرف فيه واجده إن اختار شرط الضمان لصاحبه والله أعلم، ويعتبر الحول في جميع الزكاة إلا الحرث والمعدن فلا يعتبر فيه الحول ويعتبر النصاب في جميع الزكاة. ...   (1) جوهر الشيء: كل شيء خلقت عليه جبلته (المصباح المنير ص 113). (2) في (م): ما. (3) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 باب: [زكاة الإبل] والحول معتبر في زكاة المواشي وكذلك النصاب، ولا زكاة فيما دون الخمس من الإبل (1): فإذا كانت خمسًا ففيها شاة، ثم لا شيء فيها إلى تسع، فإذا كانت عشرًا فيها شاتان إلى أربع عشرة، فإذا كانت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه، فإذا كانت عشرين ففيها أربع شياه. ثم يؤول قبض الغنم منها ويؤخذ عنها من جنسها، ولا شيء فيما زاد على العشرين إلى أربع وعشرين، فإذا كانت خمسًا وعشرين ففيه بنت مخاض (2): وهي التي لها سنتان، فإن لم توجد في المال فابن لبون (3) ذكر: وهو الذي له ثلاث سنين، إلى خمس وثلاثين فهذا كانت ستًّا وثلاثين ففيها بنت لبون، إلى خمس وأربعين، فإذا كانت ستًّا وأربعون ففيها حقة، إلى ستين وهي التي لها أربع سنين قد استحقت أن يركبها الفحل وأن يحمل عليها الحمل. فإذا كانت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمسة (4) وسبعين، والجذعة (5): التي لها خمس سنين وليس في صدقة الإبل سن زائدة على الجذعة، فإذا (6) كانت ستًّا وسبعين، ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا كانت إحدى وتسعين،   (1) في جملة أحكام زكاة الإبل انظر: المدونة: 1/ 263، التفريع: 1/ 281، الرسالة ص 169. (2) بنت مخاض: سميت بتلك لأن أمه قد ضربها الفحل فحملت ولحقت بالمخاض وهن الحوامل (المصباح المنير ص 566، الفواكه الدواني: 1/ 351). (3) ابن لبون: سمي بذلك لأن أمه ولدت غيره فصار لها لبن (المصباح المنير ص 548 الفواكه الدواني: 1/ 351). (4) في (م): خمس. (5) الجذعة: سمت جذعة لأنها أبدت أسنانها (الصحاح: 1/ 437). (6) في (م): فإن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ففيها حقتان إلى مائة وعشرين، فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون. ففي الثلاثين ومائة: حقة وابنتا لبون، وفيما زاد على المائة وعشرين (1) مما دون العشر خلاف، فعن مالك رحمه الله (2) روايتان (3): إحداهما: أن الفرض يتغير بزيادة الواحد إلى تخير الساعي بين الحقتين وبين الثلاث بنات لبون، وهذه رواية ابن القاسم وابن عبد الحكم. والأخرى: أن الفرض لا يتغير إلى ثلاثين ومائة، وهذه رواية أشهب وعبد الملك بن الماجشون. وعند ابن القاسم من رأيه (4) أن الفرض يتغير بزيادة الواحد (5) إلى ثلاث بنات لبون قطعًا من غير تخيير. والشاة المأخوذة في أول صدقة الإبل من غالب أغنام البلد من الضأن والمعز. وإذا وجب في المال أحد سِنَّين فوُجدا (6) جميعًا أخذ الساعي أيهما شاء، وإن عدما أخذ رب المال بأيهما شاء إلا أن لا يقدر إلا على أحدهما، فلا يأخذه إلا بما يقدر عليه، وإن وجد أحدهما أخذه ولم يطالبه بغيره، وهذا فيما يستويان فيه كالمائتين من الإبل فيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، والحكم فيها على ما ذكرناه، فأما السنَّان إذا كان أحدهما مرتبًا على صاحبه مثل ابنة مخاض أو ابن لبون ذكر، فإنهما (7) إن كانا في المال أخذ ابنة مخاض، إن عدمت منه ووجد ابن لبون ذكر (8) أخذه فإن عدما جميعًا (9) كان له أخذه بابنة مخاض دون ابن لبون.   (1) في (م): العشرين. (2) رحمه الله سقطت من (ق). (3) انظر: التفريع: 1/ 282. (4) من رأيه سقطت من (ق). (5) في (م): الواحدة. (6) في (م): ووجدا. (7) في (م): فإنه. (8) ذكر سقطت من (م). (9) جميعًا سقطت (م) (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فصل [1 - وجه اعتبار الحل في صدقة الماشية]: وإنما اعتبرنا الحول في صدقة الماشية لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (1)، ولأن الحول إنما وضع في المال الذي لا يتكامل نماؤه دفعة واحدة، ترفيهًا لأرباب الأموال ليؤدوا الزكاة بعد إمهالهم مدة يتكامل فيها نماؤها، وهذا يستوي فيه العين والماشية وبذلك فارقا (2) الحرث. فصل [2]: وإنما أوجبنا الزكاة فيها على الترتيب الذي ذكرناه من النصب والأسنان لتواتر الأخبار من طريق عمرو بن حزم (3)، وابن عمر (4)، وأنس (5)، على المعنى الذي رويناه (6).   (1) سبق تخريج الحديث (361). (2) في (ق): فارق. (3) أخرجه عبد الرزاق: 4/ 4، وهو مرسل وقد وصله أبو داود والترمذي وابن ماجه كما سوف يأتي، والبيهقي: 4/ 88، وابن حبان ص 203، والدارقطني: 2/ 116 من طرق وفيها مقال. وعمر بن حزم: ابن زيد بن لوذان الأنصاري صحابي مشهور شهد الخندق فما بعدها، وكان عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - على نجران بعد الخمسين (تقريب التهذيب: 420). (4) حديث ابن عمر أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: في زكاة السائمة: 2/ 225، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الإبل: 1/ 573 - 574، والترمذي في الزكاة، باب: في زكاة الإبل والغنم: 3/ 17، وقال: حديث حسن، وأخرجه الحاكم: 1/ 392. (5) وحديث أنس أخرجه البخاري مفرقًا، في الزكاة، باب: العرض في الزكاة وغيره من الأبواب: 2/ 122، وفي الشركة، باب: ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية: 3/ 110، وفي الحيل، باب: في الزكاة: 8/ 60. (6) في (ر): رويناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فصل (1) [3]: وإنما قلنا: إن أول النصاب خمس لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذود (2) من الإبل صدقة" (3)، ولا خلاف في ذلك (4). فصل [4 - دليل انقطاع فريضة الغنم في زكاة الإبل حين تبلغ أربعًا وعشرون]: وإنما قلنا: أن فريضة الغنم تنقطع في أربع وعشرين لقوله صلى الله عليه وسلم: "في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم في كل خمس شاة" (5)، فقصر وجوب الغنم على هذا القدر، وإنما قلنا: إن في خمس وعشرين بنت مخاض، خلافًا لما حكي عن عليّ بن أبي طالب (6) رضي الله عنه: أن فيها خمس شياه (7)، للأخبار المروية من طريق عمرو بن حزم وابن عمر وأنس وفيها أن في خمس وعشرين بنت مخاض، وهذا نص ولأنه ليس في أصول زكاة الماشية اتصال فرضين من غير تخلل وقص (8) بينهما على أن الرواية بذلك عن عليّ بن أبي طالب (9) رضي الله عنه ضعيفه غير ثابتة، وإنما قلنا: إنه يأخذ منها   (1) فصل سقط من (م). (2) الذود من الإبل، قال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: ما بين الثلاث إلى العشر (ذود) وكذا قال الفارابي، وهي خمس من الإبل على الرواية المشهورة عند الجمهور (الفواكه الدواني: 1/ 350، المصباح المنير ص 211). (3) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: زكاة الورق: 2/ 121، ومسلم في أوائل كتاب الزكاة: 2/ 673. (4) انظر: الإجماع ص 46، المغني: 2/ 575. (5) هو نفسه حديث أنس الذي أخرجه البخاري وقد ذكرناه قريبًا ص 229. (6) بن أبي طالب سقطت من (م). (7) البيهقي: 4/ 92. (8) الوقص: هو ما بين الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شيء فيه (الفواكه الدواني: 1/ 354). (9) بن أبي طالب سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ابن لبون ذكر إذا لم يكن فيه بنت مخاض لأن ذلك في الأحاديث التي رويناها، ففي حديث عمرو بن حزم: "فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيه بنت مخاض فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر" (1)، وكذلك في حديث أبي بكر الذي كتبه (2) لأنس (3). فصل [5 - الالتزام بما ورد من تحديد الأسنان]: ولا يجوز أن يأخذ سوى هذه الأسنان (4) خلافًا لأبي حنيفة (5)، لأن النص على ابن لبون قصر الأخذ عليه وبقى ما عداه، ولأن ذلك يكون على طريقة القيمة وذلك غير جائز عندنا. فصل [6 - الدليل في عدم أخذ ابن لبون مع وجود بنت مخاض]: وإنما قلنا: أنه لا يجوز أخذ ابن لبون مع وجود بنت مخاض في المال خلافًا لأبي حنيفة (6)، لحديث عمرو بن حزم وحديث أنس وفيهما: "فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر" وفي بعضها: "فإن لم يكن فيه بنت مخاض فابن لبون ذكر" (7)، فشرط في جواز أخذه عدم ابنة مخاض، فدل على منعه مع وجودها، ولأن كل حق تعلق بما نقل منه إلى غيره بشرط عدم المنقول عنه فلا يجوز الانتقال إليه مع وجود أصله (8) اعتبارًا بالكفارات. فصل [7]: وإنما قلنا: أنه إذا عدما من المال لم يكن للساعي أن يأخذه إلا بابنة مخاض   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) في (ق): كتب. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) انظر الرسالة ص 171. (5) انظر مختصر القدوري: 1/ 144. (6) هذا الرأي قاله أبو يوسف (انظر مختصر الطحاوي ص 43). (7) سبق تخريج الحديثين قريبًا. (8) في (ق): مع وجوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 لأن عدمهما بمنزلة وجودهما، أنه ليس لأحدهما مزية عن على الآخر، فلما لم يكن له أن يأخذ ابن لبون مع وجودهما في المال، فكذلك مع عدمهما، ولأن الخبر شرط فيه عدم ابنة مخاض وحدها فدل أن عدمهما بخلاف ذلك. فصل [8 - توجيه الأقوال الواردة في زكاة المواشي]: وما زاد على خمس وعشرين إلى مائة وعشرين لا خلاف فيه (1) أنه على الترتيب الذي ذكرناه، وبذلك وردت الأخبار. ووجه قوله: إن الفرض يتغير بالزيادة على مائة وعشرين في الواحدة وما دون العشرة (2) إلى تخير الساعي قوله صلى الله عليه وسلم: "فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون" (3)، فأطلق الزيادة ولم يفصلها، فوجب الأخذ بأول زيادة، ولأن الوقص لا يلي وقصًا، فلو اعتبرنا بعد المائة وعشرين عشرًا أخرى (4)، لكنا قد اعتبرنا وقصًا يعد وقص متصلًا به، وذلك خلاف الأصول ووجه رواية عبد الملك قوله: "فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون" (5) وظاهر هذا يوجب أن يكون في جميع المال، ولا يمكن ذلك إلا بزيادة العشرة (6). وقوله في حديث ابن عمر: "فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون" (7)، والكثرة لا تكون بزيادة الواحدة، ولأن أصول الزكاة: أن كل زيادة غيرت فرضًا كانت داخلة فيه (8)، فلو قلنا: إن الفرض يتغير بواحدة أو اثنين لكان في ذلك   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 43، الرسالة ص 169، الإقناع ص 61، مختصر الخرقي ص 43. (2) في (م): العشر. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. (4) أخرى سقطت من (م). (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (384). (6) في (م): العشر. (7) سبق تخريج الحديث (ص 384). (8) فيه سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 مخالفة للخبر وإيجاب لبنت لبون في كل أربعين وثلث، وإن قلنا: إن الفرض يتغير بها ألا يدخل فيه كان في ذلك مخالفة الأصول. فصل [9]: ووجه قول ابن القاسم: إن الفرض يتغير بالواحدة إلى ثلاث بنات لبون من غير تخيير، وهو قول الشافعي (1) قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب (2): "فهذا (3) كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون" (4) وهذا نص، ووجه التخير: قوله صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار: "فما زاد ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون" (5)، فإن اعتبرنا تغير الحكم بزيادة الواحدة ورجعنا إلى الحساب كان فيه إما ثلاث بنات لبون لثلاث أربعينات أو حقتان لخمسين، فلذلك كان الساعي مخيرًا. فصل [10 - فما زاد على العشرين ومائة]: وإنما قلنا: إنَّ ما زاد على العشرين ومائة ففيه بحساب كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون، وأن فريضة الغنم لا تعاد، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن الفريضة تعاد (6) كأولها فتكون (7) في كل خمس (8) شاة إلى أربع وعشرين   (1) انظر: الأم: 1/ 5، 6، مختصر المزني ص 40. (2) ابن شهاب: محمد بن سلم بن عبيد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو بكر الفقيه، الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه، من رؤوس الطبقة الرابعة (ت 125 هـ) (انظر تقريب التهذيب ص 506). (3) في (م): فإن. (4) أخرجه أبو داود في الزكاة السائمة: 2/ 227، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الإبل: 1/ 574، والترمذي في الزكاة، باب: زكاة الإبل والغنم، وقال: حديث حسن: 3/ 17. (5) انظر: تخريج الأخبار التي وردت في أول كتاب الزكاة في الصفحة 384. (6) انظر: مختصر القدوري: 1/ 140. (7) في (م): فيكون. (8) في (ق) و (م): خمسين وهو غلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فيكون فيها بنت مخاض ثم في كل خمسين ومائة ثلاث حقاق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فما زاد ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة" (1)، فلا يخلوا أن يكون أراد في كل أربعين وفي كل خمسين زائدًا على المائة والعشرين دون المائة والعشرين، فهذا يوجب أن يكون في مائة وستين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وسبعين ثلاث حقاق، وهذا خرق الإجماع، أو أن يكون أراد في الجمع في الزيادة والزائد (2) على معنى، فبحساب أن في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، فهذا قولنا، وخلاف قول أبي حنيفة لأنه يقول في مائة وثلاثين حقتان وشاتان، لأن أصل الزكاة أن يؤخذ من جنس المال إلا للضرورة، والغنم المأخوذة في أول زكاة الإبل للضرورة وهي قلة المال وضعفه عن (3) احتمال المواساة، فهذا زاد على مائة وعشرين فقد كثر وصار محتملًا للمواساة فلم يكن لعودة الغنم موضع. فصل [11 - في نوع الغنم المأخوذ في صدقة الإبل]: وإنما قلنا: إن الغنم المأخوذة في صدقة الإبل من غالب أغنام البلد لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "في خمس من الإبل شاة" (4)، فأطلق ولم يعين فوجب الرجوع إلى العرف، ولأنه لا بد من أن يكلف الأعلى أو الأدنى، وفي تكليفة الأعلى إضرار به، وفي تكليفه الأدنى إضرار بالفقراء، فكان العدل ما قلناه. وإنما قلنا: إنه إذا وجد السنَّين في المال كان مخيرًا لأن كل واحد منهما محل للوجوب، وإنما هو غير في الأخذ لا في إلزام رب المال وإجباره على أحدهما. ...   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. (2) في (م): المزيد. (3) في (م): على. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 باب: في زكاة البقر (1) ولا زكاة في البقر حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع (2) -جذع أو جذعة وسنّهُ سنتان- إلى أربعين ثم فيها مسنة (3) -ولا يؤخذ إلا أنثى وسنها أربع سنين- ثم ما زاد على ذلك، ففي كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة (4). فصل [1 -]: وإنما قلنا ذلك لما روي في حديث عمرو بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة وفي كل أربعين باقورة بقرة" (5) وفي حديث معاذ: "أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة" (6).   (1) التعريف ساقط من (ق). (2) تبيع هو ابن سنة دخل في الثانية، وسمي بذلك لأنه يتبع أمه في المرعى (الفواكه الدواني: 1/ 353، والمصباح المنير ص 72). (3) مسنة: وسميت بذلك لتكامل أسنانها وطلوع الثنية (المصباح المنير ص 292، والفواكه الدواني: 1/ 353). (4) في جملة أحكام زكاة البقر انظر: المدونة: 1/ 266 - 267، التفريع: 1/ 284 الرسالة ص 170. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (ص 384). (6) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة السائمة: 2/ 235، والنسائي في الزكاة باب: سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلًا: 5/ 17، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة البقر: 1/ 577، والترمذي في الزكاة، باب: زكاة البقر: 1/ 2019، وقال: حديث حسن، وقد رواه بعضهم مرسلًا، وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 398، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (نصب الراية: 2/ 346). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فصل [2 - فيما زاد على الأربعين في زكاة البقر]: ولا شيء في الزيادة على الأربعين حتى يبلغ ستين، فيكون فيها تبيعان، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن في الخمسين مسنة وربع مسنة (1)، لقول معاذ: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا آخذ شيئًا من الأوقاص" (2)، ولأنها زيادة على نصاب في ماشية يجب في عينها الزكاة فلم يتغير الفرض إلى كسر، أصله الإبل والغنم، ولأنه زيادة على نصاب في صدقة البقر، فوجب أن لا ينتقل منه إلى كسر، كالعشرة الزائدة على الثلاثين، ولسان أصول الزكوات مبنية على أخذ الجنس من جنسه، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الغنم في أول صدقة الإبل لضعف المال عن احتمال المواساة فيه ولو كان للأجزاء والكسور مدخل في زكاة الماشية لأوجبه، ولم يعدل إلى إيجاب شيء من غير الجنس. فصل [3 -]: وإنما قلنا: إن التبيع يجوز أن يكون ذكرًا أو أُنثى لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم: "وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة" (3) وكذلك في حديث معاذ (4)، وإنما قلنا: [إن الواجب في الإبل الإناث] (5) فكذلك المسنة لا تكون إلا أنثى لقوله: "وفي كل أربعين مسنة" (6)، ولأن الأصل أخذ الإناث.   (1) وقد اختلفت الرواية عنه، فروي أبو يوسف: أن ما زاد عليها ففيه من الزكاة بحساب ذلك، وروي أسد بن عمرو وغير عنه أنه قال: لا شيء في الزيادة حتى يكون البقر ستين (انظر مختصر الطحاوي ص 44، مختصر القدوري: 1/ 141). (2) أخرجه البزار والدارقطني: 2/ 99، والبيهقي: 4/ 98، والحديث رواه الحفاظ عن الحكم بن طاوس مرسلًا ولم يتابع بقية عن المسعودي على هذا أحد، وروي من طريق الحسن بن عمارة وهو متروك (انظر نصب الراية: 2/ 248). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) مطموسة من جميع النسخ. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 باب: زكاة الغنم (1) ولا زكاة في الغنم فيما دون أربعين، فإذا كانت أربعين ففيها شاة، إلى مائة وعشرين، فإذا كانت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، إلى مائتي وشاة، فإذا كان مائتي شاة ففيها ثلاث شياه، إلى ثلثمائة، ثم ما زاد على ذلك، ففي كل مائة شاة، ففي ثلثمائة وتسع وتسمعين ثلاث شياه، وفي الأربع مائة أربع شياه (2). فصل [1 - دليل زكاة الغنم]: وإنما قلنا ذلك لتواتر الأخبار على الصفة التي ذكرناها في حديث عمرو بن حزم، وأنس، وابن عمر (3) وغيرهم، ولا خلاف في جملة ذلك (4). فصل [2 - في ضم أنواع الجنس الواحد]: ويضم الضأن (5) إلى المعز (6) في الزكاة، والجواميس (7) إلى البقر والبخت (8)   (1) التعريف سقط من ... (2) في جملة أحكام زكاة الغنم انظر: المدونة: 1/ 267 - 268، التفريع: 1/ 283، الرسالة ص 170. (3) سبق تخريج هذه الأحاديث في الصفحة (384). (4) انظر: الإجماع ص 46، 47، المغني: 2/ 596. (5) الضأن: هي ذوات الصوف من الغنم وسميت بذلك لبياضه (المصباح المنير ص 365، غرر المقالة ص 170). (6) المعز: هي ذوات الشعر من الغنم واشتقاقه من المعزاء، وهي الأرض التي لا نبات فيها (المصباح المنير ص 575، غرر المقالة ص 170). (7) الجواميس: نوع من البقر مشتق من الجمود لأنه ليس فيه لين البقر (المصباح المنير ص 108، غرر المقالة ص 170). (8) البخت: هي الإبل الخراسانية (غرر المقالة ص 170). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 إلى العراب (1)، لأن الجنس والاسم يجمع ذلك كله فقد دخل في عموم قوله: "في كل خمس من الإبل شاة" (2)، وقوله: "في كل ثلاثين باقورة تبيع وفي كل أربعين شاة شاة" (3). فصل [3 - في ضم الصغار إلى الكبار في الزكاة]: وتضم سخال (4) الغنم إلى أمهاتها في الزكاة، وكذلك عجاجيل (5) البقر وفصلان (6) الإبل (7)، خلافًا لداود في قوله: لا زكاة في الصغار (8) لقوله صلى الله عليه سلم: "في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم" (9) فعم، وكذلك قوله: "في أربعين من الغنم شاة" (10)، والاسم يقع على الكبار والصغار، وروي: "وتعد صغارها وكبارها" (11)، وروي ذلك عن عمر   (1) العراب: نوع من الإبل العربية الحسان (غرر المقالة ص 170، المصباح المنير ص 401). (2) و (3) سبق تخريج الحديثين قريبًا. (4) السخال: سخلة، وتطلق على أولاد الضأن والمعز ساعة تولد (المصباح المنير ص 269، الفواكه الدواني: 1/ 355). (5) العجاجيل: جمع عِجَّول وهو ولد البقرة ما دام له شهر وبعده ينتقل عنه الاسم والأُنثى عجلة (المصباح المنير ص 394). (6) الفصلان: جمع فصيل، وهو ولد الناقة لأنه يفصل عن أُمه، وهو ما دون ابن مخاض (الفواكه الدواني: 1/ 355، والمصباح المنير ص 474). (7) انظر: المدونة: 1/ 68، التفريع: 1/ 285، الرسالة ص 171. (8) انظر: المجموع: 5/ 338. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. (10) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. (11) لم أعثر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وعلي (1)، ولا مخالف لهما (2)، ولأنه نماء (3) حادث من مال تجب في جنسه الزكاة فأشبه ربح المال. فصل [4]: وسواء كانت الأمهات نصابًا أو دونه إذا أكملت نصابًا بالصغار خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4) في قولهما: إن السخال لا تضم إلى ما دون النصاب من الأمهات لقوله: "في أربعين من الغنم شاة" (5)، وهذه يقع عليها اسم غنم، وفي حديث عمرو: "تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي على كتفه ولا تأخذها (6) " (7)، ولم يخص، ولأنه نتاج حادث عن حيوان تجب في عينه الزكاة، فكان حكمه حكم ما لم يزل مع أمهاتها، أصله إذا كانت الأمهات نصابًا. فصل [5 - وجوب الزكاة إذا ماتت الأمهات وكانت الصغار نصابًا]: إذا ماتت الأمهات وبقيت السخال وجبت الزكاة فيها إذا كانت نصابًا (8) خلافًا لمن منعه (9)، لأنه إذا ثبت أنه حكمها حكم الأُمهات في باب الحول صارت كثمانين من الغنم يموت منها أربعون ويحول الحول على الباقي ففيه   (1) البيهقي: 4/ 100، 101. (2) في (ق): ولا خلاف لهم. (3) نماء سقطت من (م). (4) انظر: مختصر القدوري: 1/ 144، مختصر المزني ص 43. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (384). (6) في (م): على كفه ولا يأخذها. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (384). (8) انظر: المدونة: 1/ 168، التفريع: 1/ 285. (9) وهو رأي أبي حنيفة (انظر مختصر الطحاوي ص 45، مختصر القدوري: 1/ 144). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الزكاة، ولا يراعى بقاء الأُمهات، لأن السخال متساوية لها إلا (1) على وجه البيع. فصل [6 - السنن المأخوذ في الزكاة]: والسن المأخوذ في الصدقة الجذعة والثنية (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذ الجذعة والثنية" (3) ثم الماشية على ضربين: كرائم (4) ولوائم. فالكرائم لا تؤخذ إلا عن رضا أرباب الأموال، وذلك كالمواخض (5)، واللوابن (6) والربى (7) والأكولة (8) وكرائم الفحول، والأصل في منعها قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وكرائم أموالهم" (9)، وما روى أن عمر مر عليه بغنم من الصدقة، فرأى فيها شاة حاملًا، ذات ضرع عظيم، فقال: ما أعطى هذه الشاة أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات (10) المسلمين (11)، فإن طاع بها أهلها (12) أخذت لأنها أعلاها عليهم، ويدل عليه   (1) في (م): لا. (2) انظر: المدونة: 1/ 268، التفريع: 1/ 285، الرسالة ص 170 - 171. (3) أخرجه البيهقي: 4/ 100. (4) كرائم الأموال: نفائسها وخيارها (المصباح المنير ص 531)، واللوائم عكسها. (5) المواخض: جمع الماخض وهي الحامل التي دنت ولادتها (المصباح المنير: 565). (6) اللوابن: جمع اللبون وهي التي تحبس في البيت للبن (المصباح المنير ص 548). (7) الربى: هي التي وضعت حديثًا والتي تربي ولدها (الرسالة ص 171، والمطلع ص 127). (8) الأكولة: هي التي تسمن للذبح (المصباح المنير ص 18). (9) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة: 2/ 125. (10) حزرات بتقديم الزاي على الراء - هي الخيار كأن المصدق يحزر فيعمل رأيه فيأخذ الخيار (الصحاح: 2/ 56). (11) أخرجه مالك: 1/ 265. (12) في (م): أربابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 قوله للذي أعطى ناقة سمينة مكان بنت مخاض: "ذلك الذي عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله وقبلناها منك" (1). اللوائم أدنى الماشية كالصغار والهرمة والمعيبة، وذات العوار (2) فلا تؤخذ نظرًا للمساكين (3)، والأصل في منعها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج في الصدقة تيس (4) ولا هرمة ولا ذات عوار" (5)، وروي: "ولا الدرنة ولا ذات عيب ولا المريضة ولا اللئيمة ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره" (6). فصل [7 - إذا كانت الماشية صغارًا أو معيبة أخذ الساعي سن الوسط]: وإذا كانت الإبل فصلانًا أو البقر عجاجيل، أو الغنم سخالًا، لم يجز للساعي أخذ واحدة منها، وكلف ربها أن يأتي بالسن الوسط الجائز أخذه في الزكاة، وكذلك إن كانت مراضًا أو معيبة (7) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (8) في قولهما: أنه يأخذ منها شاة ولا يكلف ربها شاة كبيرة ولا صحيحة لقوله صلى الله عليه وسلم في زكاة البقر: "في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة" (9)   (1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة السائمة: 2/ 241، وأحمد: 5/ 142 الحاكم في المستدرك: 1/ 399، 400، وصحَّحه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (2) ذات العوار: التي بها عيب العور. (3) أي في صالح المساكين. (4) التيس: هو ذكر المعز الصغير (المصباح المنير ص 79، الفواكه الدواني: 1/ 355). (5) جاء هذا في كتاب أبي بكر لأنس رضي الله عنهما والذي سبق تخريجه في الصفحة (384)، أخرجه البخاري في الزكاة، باب: لا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق: 2/ 124. (6) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: في زكاة السائمة: 2/ 240، والدرنة: الجرباء. (7) انظر: المدونة: 1/ 268، التفريع: 1/ 284، الرسالة ص 171. (8) انظر: مختصر الطحاوي: 1/ 144، مختصر المزني: 42. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وقوله: "في أربعين من الغنم شاة" (1)، وفي حديث عمر أنه قال: "تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي على كتفه (2)، ولا تأخذها" (3)، ولأن الزكاة موضوعة على العدل بين الفقراء وأرباب الأموال، فلما كنا لا نأخذ من إبله إذا كانت حوامل أو لوابن بل نكلفه السنن الوسط، فكذلك إذا كانت كلها صغارًا أو معيبة لأن في أخذها كذلك إضرارًا بالفقراء، كما أن في الأخذ منها إذا كانت من الكرائم (4) إضرارًا بأرباب الأموال. فصل [8 - وجوب الزكاة في العوامل]: وتجب الزكاة في العوامل (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6) لقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" (7) مفهومه وجوب الصدقة في الخمس عمومًا (8) وقوله: "في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم ففي كل خمس شاة" (9) فعم، ولأن اختلاف الصفات عليها كاختلاف الأسنان، وإذا كان اختلاف الأسنان لا يؤثر في الزكاة كذلك اختلاف الصفات. فصل [9 - ما ملكه من الماشية نصابًا أو دونه حادثًا ضمه إلى جنسه وزكى الجميع لحول القديم]: إذا استفاد نصابًا أو دونه من الماشية -وعنده نصاب من جنسه-، ضم إليه ما   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (384). (2) في (م): كفه. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) في (م): كرائم. (5) العوامل: هي التي ترعى مدة وتترك أخرى، أو تعلف في حين وترعى في آخر، وقيل: هي تستعمل في الحرث والحمل والسقي (التفريع: 1/ 289). (6) انظر: مختصر القدوري: 1/ 145، مختصر المزني ص 45. (7) سبق تخريجه في الصفحة (384). (8) أي الدلالة فيه من عموم المفهوم. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 استفاده، وزكى الجميع لحول الأولى (1) سواء أفادها بشراء أو هبة أو ميراث، فإن كان الذي عنده قل من نصاب لم يضم الفائدة إليه إلا أن تكون ولادة على ما قدمناه (2). وقال الشافعي: إذا لم تكن الفائدة نتاجًا استقبل به حولًا كاملًا (3)، ودليلنا أن الزكاة موضوعة على النظر لأرباب الأموال والفقراء، فإذا لحق أحد الفريقين رفق أو تثقيل نظر للفريق الآخر بمثله، وقد ثبت أنه إذا كان عنده أقل من نصاب ثم أفاد إليه نصابًا أو دونه أنه لا يزكيه لحول الأصل بل الحول الذي يحول على الفائدة، وفي ذلك رفق بأرباب الأموال، لأن الأصل قد يكون عنده لعشرة أشهر، ثم يستفيد الفائدة قبل الحول بشهر أو أقل فيستقبل بالجميع حولًا من يوم الفائدة، فيكون قد زكى بعد حول وأكثر الثاني، فكان في ذلك رفق به، فيجب بإزائه أن ينظر للفقراء وهو أن يكون إذا أفادها إلى نصاب قد أقام عنده أكثر من حول أن يزكي الفائدة بحول الأصل، لأن الساعي لا يجيء إلا مرة واحدة في الحول فيشق عليه تمييز الماشية، فجعل له أن يزكيها على ما يجدها عليه، فلو قلنا: إنه يستقبل بها حولًا من يوم أفاد الفائدة لكان يزكي أيضًا بعد قريب من حولين، فكان في ذلك حيف على الفقراء، وصرف النظر في الرفق والترفيه إلى أرباب الأموال، وذلك غير جائز، فوجب أن ينظر للفقراء في هذا الوجه كما نظر لأرباب الأموال فأشبه (4) ذلك الخلطة في أنها تارة تخفف وتارة تغلظ، وقد قاسه أصحابنا على فائدة النتاج ولكن لا يؤثر على أصلنا، لأن النتاج لا يراعي فيها (5) أن يكون الأصل نصابًا، ويمكن أن يقال: إن النتاج أقوى من الفائدة لغيره، لأنه من المال فكان عين المال لا يمتنع إلحاق غيره به في   (1) في (م): الأول. (2) انظر: المدونة: 1/ 274 - 275، التفريع: 1/ 285. (3) انظر: مختصر المزني ص 542، المجموع: 5/ 328 - 389. (4) في (م): وأشبه. (5) في (م): فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 النصاب، وإن انفرد النتاج لقوة التسوية (1) بين النصاب ودونه، وتفارق العين لما ذكرناه من تعلق زكاة الماشية بالساعي ومشقة التمييز عليه. فصل [10 - زكاة الخلطاء]: للخلطة (2) تأثير في الزكاة وهو أن الخليطين يزكيان زكاة المالك الواحد (3)، وقال أبو حنيفة: لا تأثير لها أصلًا (4)، ودليلنا قوله: "وما كان من خليطين فإنهما يترادان بالسوية" (5)، فأثبت للخلطة حكمًا زائدًا على الانفراد، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة" (6)، فدل ذلك على أن للاجتماع والافتراق تأثيرًا في الزكاة لولا ذلك لم يكن للخشية معنى، ولأن لخفة المؤونة وثقلها تأثيرًا في الزكاة في تخفيفها وتثقيلها اعتبارًا بالسيح (7) والنضح (8)، وهذا موجود في الخلطة، فوجب أن يكون لها تأثير في ذلك. فصل [11 - شروط تأثير الخلطة]: ولا تؤثر الخلطة إلا إذا كان لكل واحد من الخليطين نصاب، فإن كان جميع المال نصابًا، ولكل مالك دون النصاب أو لبعضهم دونه فلا تأثير   (1) في (م): لقوته بالتسوية. (2) الخلطة -بضم الخاء-: الشركة، وهي اجتماع نصابي نوع فعم مالكين فأكثر فيما يجب تزكيتها ما على ملك واحد (الفواكه الدواني: 1/ 345). (3) انظر: المدونة: 1/ 277 - 279، التفريع: 1/ 286، الرسالة ص 171. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 44. (5) أخرجه البخاري، باب: ما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية: 2/ 123. (6) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع: 2/ 122. (7) السيح: الماء الجاري (المصباح المنير ص 299). (8) النضح: هو البل بالماء والرش (المصباح المنير ص 609). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 للخلطة (1) خلافًا للشافعي (2) لقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" (3) فعم، ولأن قصور الملك عن النصاب مسقط للزكاة أصله المنفرد، ولأنه ممن لا يخاطب بالزكاة إذا انفرد، فإذا خالط من هو مخاطب بالزكاة لم يلزمه لمخالطته زكاة كالعبد والذمي، ولأن تأثير خفة المؤونة وتثقيلها هو في تغيير حكم الزكاة من تثقيل إلى تخفيف، أو تخفيف إلى التثقيل لا إلى ابتداء إيجاب أصله السيح والنضح. فصل (4) [12 - صفات الخلطة المؤثرة]: وصفات الخلطة المؤثرة هي الراعي والفحل (5) والدلو (6) والمسرح (7) والمبيت، وقد اختلف أصحابنا في المراعي (8) منها، فمنهم من يقول: إذا اجتمعا على صفتين منها فما زاد كانا خليطين أيهما كانت، ومنهم من يقول: إن الاعتبار في ذلك الاجتماع في المرعى والراعي، ومنهم من يقول: الراعي وحده، وإذا قلنا: أن الاعتبار بأكثر من وصف واحد فلقوله: "والخليطان ما اجتمعا في الدلو والمراح والراعي والفحل" (9)، فقد ثبت أنه لا يراعي جميع هذه الأوصاف، ولم يقم دليل على وصف واحد فلم يبق إلا ما قلناه، ولأن الخلطة إنما أثرت لتأثيرها في تخفيف المؤونة، ولذلك لا يكون بالوصف الواحد فوجب مراعاة وصف زائد عليه.   (1) انظر: المدونة: 1/ 279، التفريع: 1/ 286. (2) مختصر المزني ص 43. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة 385. (4) الفصل ساقط من (م). (5) الفحل: هو الذكر من الحيوان (المصباح المنير ص 463). (6) الدلو: معناه السقي. ومعنى اللفظ أن يسقى الجميع بدلو واحد. (7) المسرح: هو المرعى (المطلع ص 127). (8) انظر: التفريع: 1/ 286. (9) أخرجه الدارقطني: 2/ 104، والبيهقي: 4/ 106، من رواية ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن السائب، وابن لهيعة ضعيف (تلخيص الحبير: 2/ 155). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ووجه القول بأن المراعي هو الاجتماع في المرعى قوله: "وما كانا من خليطين" (1)، فالاسم يحصل بوصف واحد، وقوله بعد ذلك: "والخلطاء ما اجتمعوا في الدلو والمراح" (2)، المراد به الغالب من أحوالهم لا أن ذلك شرط، ولأن الخلطة معنى يعتبر به حكم الزكاة، فوجب أن يتعلق على أقل ما يتناوله الاسم الصحيح أصله الزيادة على مائة وعشرين. ووجه القول بأن المراعاة في ذلك الاجتماع على راع واحد وهو أن ما يعتبر (3) حكمه بالإجماع والانفراد كان المعتبر بالذي يحصل به الجمع، ويكون المجتمع تابعًا كالإمامة في الصلاة لما كانت الصلاة تختلف بالانفراد والاجتماع روعي في ذلك الإمام، فكان الراعي كالإمام في الكفاية به وحده. فصل [13 - صفة تأثير الخلطة في التخفيف]: وصفة تأثير الخلطة في التخفيف هو أن يكون مائة وعشرون من الغنم بين ثلاثة لكل واحد أربعون، فيكون عليهم في الانفراد ثلاث شياه، وفي الاختلاط واحدة، وصفة تأثيرها في التثقيل أن يكون لاثنين مائتان وشاة، فلأحدهما مائة وللآخر مائة وشاة، فيكون عليهما في الانفراد شاتان وفي الخلطة ثلاث. فصل [14 - الخلطة أجل الهروب من الزكاة]: فإذا ثبت هذا فلا يجوز للمنفردين أن يختلطا ولا للمختلطين أن ينفردا قاصدين بالاختلاط والانفراد تخفيف الزكاة، وصفة ذلك ما ذكرنا من اختلاط الثلاثة المنفردين كل واحد بأربعين ليسقط عنهم شاتان، وانفراد المختلطين بمائتي شاة وشاة ليسقط عنهم بالانفراد شاة، والأصل في ذلك "نهيه صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين مفترق أو يفرق بين مجتمع خشية الصدقة (4)؛ لأن في ذلك   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) في (م): يغير. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 إضرار بالفقراء وذريعة إلى إسقاط حقوقهم قصدًا إلى نقص ما أوجبه الله إكماله لهم. فصل [15 -]: إذا ثبت المنع من ذلك فمتى فعل لم يؤثر في حكم الزكاة وأخذ أصحاب الماشية بما كانوا عليه من قبل (1) خلافًا لمن أبى ذلك، لقوله: "ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" (2)، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولأن في ذلك ذريعة إلى إسقاط حقوق الفقراء لأنه لا يشاء من تجب عليه شاة إلا وجد خلطة تسقط عنه ثلثيها ويبقى عليه ثلثتيهما. فصل [16 - فيمن بدل عينه بعين أخرى يبنى على حول الأولى]: وكذلك (3) قلنا: أن من أبدل عينه بعين مثلها أو إبله مثلها أو بقرة ببقرة وغنمه بغنم، فإن ذلك لا يسقط الزكاة عنه وإنه يبنى على حول الأولى (4) خلافًا (5) لأبي حنيفة (6) في قوله في الماشية، وللشافعي في الجميع (7)، والأصل ما قلناه من الذريعة إلى سقوط الزكاة، وذلك أن من ملك أربعين من الغنم فتركها حتى قبل الحول بالشيء اليسير أبدلها بمثلها، فإن التهمة تقوى في قصده الفرار من الصدقة لا لغرض سواه، لأن الجنس واحد والفرض واحد لا يتفاوت الاختلاف (8) فيه، فلم يبق ما يحمل أمره عليه إلا الفرار من الصدقة ولأن ملكه   (1) انظر: المدونة: 1/ 279 - 280، التفريع: 1/ 288 - 289. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) في (م): لذلك. (4) في (م): الأول. (5) انظر: المدونة: 1/ 272 - 273، التفريع: 1/ 285. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 45. (7) انظر: مختصر المزني ص 46. (8) في (م): يتقارب الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 زال عن العين إلى مثلها وجنسها وما يقوم مقام نوعها أو يقاربه، فكان كالعين الأولى للاتفاق في الجنس والفرض، ولأن أبا حنيفة يوافقنا في من كان معه عشرون دينارًا، فابتاع بها سلعة في بعض الحول ثم باعها في آخر الحول بعشرين دينارًا أن عليه الزكاة، فكذلك يجب أن يكون حكمه إذا باعها بمثلها. فصل [17 - إذا أبدل ماشيته بخلافها]: إذا أبدل ماشيته بخلافها ففيها روايتان (1): أحدهما: أنه كإبدالها بجنسها فيبنى الثانية على حول الأولى، والثانية أنه يستأنف حولًا للثانية، فوجه الأولى أنه أبدل ماشية تجب فيها الزكاة بماشية تجب فيها الزكاة، فوجب أن يبني (2) الثانية على حول الأولى (3) أصله إذا أبدلها بجنسها، والنكتة في ذلك قوة التهمة بالفرار من الصدقة ولا يلزم عليه العين بالماشية لأن العين جنس والماشية جنس والأغراض فيها متباينة لأن العين تراد للتصرف فيها بالشراء والبيع، إذ لا يستغنى أحد عنها، والماشية تراد للدر (4) والنسل والنماء، وهذا المعنى يستوي فيه الجنس والأجناس وتبيين ذلك أن الخلطة ثبتت في الماضية بين المختلطين ولا تثبت في العين على أن في بيعها بالعين خلافًا أيضًا، ووجه الثانية أن لإبداله (5)، وجهًا يحمل عليه بسوى الفرار من الصدقة وهو اختلاف الأغراض وتباين المنافع فضعفت التهمة، فإذا ضعفت حمل الأمر على ظاهره، وكان كإبداله الذهب والفضة بإبل أو غنم والله أعلم. فصل [18 - عدم قصد الفرار من الصدقة بالجمع والتفريق]: فأما إذا لم يقصد بالجمع والتفريق الفرار من الصدقة، فإن ذلك جائز، ويزكيها الساعي على ما يجدها عليه من اختلاط أو انفراد، ويقبل قولها أربابها   (1) انظر: المدونة: 1/ 273، التفريع: 1/ 285. (2) في (م): تبنى. (3) في (م): الأول. (4) الدر: اللبن. (5) في (م): لا بد لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فيها (1)، وإنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" (2)، فقيد المنع بالفرار، فدل أنه إذا لم يقصد به ذلك، فإنه جائز، ولأن لهم في ذلك رفقًا ومعونة وأداؤه إلى تخفيف الزكاة مرة كإبداله إلى تثقيلها مرة أخرى، فكان مباحًا كسائر التصرف، وإنما قلنا: إن الساعي يقبل قول أرباب الماشية، ويحمل الأمر على ظاهره؛ لأن عمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسعاته كذلك كانوا يفعلون، ولأن الظاهر أنهم يفعلون ذلك للارتفاق والترفه بالاجتماع على الراعي والمرعى، فأما قصد الفرار من كثرة الزكاة فأمر يبطن ويخالف الظاهر، فوجب أن لا يترك الظاهر ويصار إلى خلافه إلا بأمارة تقوي (3) التهمة في قصده. فصل [19 - إذا خاف الساعي وجود قصد الفرار من الصدقة]: إذا خاف الساعي أن يكون قصد الفرار من الصدقة أو أن يكون يستر عنه بعض ماشيته بنقصها من النصاب حمل الأمر على الظاهر من الصدق، وإن أراد استحلافه على ذلك نظر، فإن كان ذلك الإنسان على ظاهر الأمانة والديانة والصدق ولم يعرف منه إدغال ولا كذب ولا خيانة في معاملة، فليس له استحلافه لأن ظاهر حاله ينفي التهمة عنه، ووجب حمله على أداء الأمانة دون خفرها (4)، وإن كان المعروف منه خلاف ذلك من قلة مراعاة الدين ومحبة توفير المال من وجهه وغير وجهه، وما يجري عليه معاملته بين الناس من خيانة أو ترك (5) نصفه فإنه يستحلفه (6)؛ لأن في ذلك توصلًا إلى استيفاء حقوق الفقراء   (1) انظر: المدونة: 1/ 279، التفريع: 1/ 289. (2) سبق تخريج الحديث. (3) في (م): بالإمارة يقوى. (4) خفرها: بمعنى أخفاها، ويقال: أخفرت الرجل إذا انقضت عهده (معجم مقاييس اللغة: 2/ 203). (5) أو ترك: سقطت من (م). (6) انظر: المدونة: 1/ 282، التفريع: 1/ 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 إذ قد يجوز أن يكون كتم حقوقهم فيرتدع عن اليمين، ولأن الزكاة حق في مال (1) يستحقه آدمي فجاز إحلاف جاحده إذا عدمت البينة كحقوق الآدميين، فأما إذا كان الفعل مما يقوي التهمة فيه ويكون قبول قول ربه فيه ذريعة إلى إسقاط الزكاة، فإنه يعمل فيه على ما يؤدي إلى استيفاء الزكاة ولا يقبل قول أربابها، وكذلك إذا كان الإنسان معروفًا باللدد (2) ومنع الزكاة والهرب بماشيته، فإنه يزكي ما يجد في يده ولا يلتفت إلى ما يدعيه لقوة الإمارة الدالة على كذبه. فصل [20 - اجتهاد ساعي الزكاة]: إذا كانت الماشية نصابًا وهي بين خليطين لكل واحد منهما دون النصاب، فأخذ الساعي منهما الزكاة لزمهما، وصار كحكم الحاكم بما فيه خلاف (3)، وإن كانت كلها دون النصاب فأخذ الساعي منها شاة، فذلك ظلم منه لأنه خلاف النص والإجماع ولا يلزم من لم يؤخذ منه ردها على المأخوذ منه، لأن الظلم لا يجب التراد فيه (4). فصل [21 - في الأوقاص بين الخلطاء]: الأوقاص على المنفرد لا شيء فيها، وهي ما بين السنين من العدد، فأما بين الخلطاء فتخرج على روايتين (5): إحداهما: وجوب الزكاة فيها، والأخرى سقوطها، وفائدة ذلك في خليطين لهما أربعة عشرة من الإبل لأحدهما خمس وللآخر تسع، فعليهما شاتان، وفي كيفية وجوبها روايتان: إحداهما أن على كل واحد منهما شاة كاملة، وهذا يوجب أن لا شيء في الأوقاص لأن كل شاة   (1) في (ق): مالك. (2) اللدد: هو شدة الخصومة (معجم مقاييس اللغة: 5/ 203). (3) أي أن أخذ الساعي لذلك كحكم الحاكم في مسائل الاجتهاد لا ينقض ولا يرد (التفريع: 1/ 290). (4) انظر: المدونة ص 280، التفريع: 1/ 288 - 290، الرسالة ص 171. (5) انظر في جملة هذه الأحكام: المدونة: 1/ 278 - 279، التفريع: 1/ 287 - 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 في مقابلة الخمس والأربع عفو، والأخرى أن الشاتين يترادان بينهما على أربعة عشر سهمًا، فيلزم صاحب الخمسة خمسة أجزاء، وصاحب التسع تسعة أجزاء من أربعة عشر، ويمكن أن يقال: أن هذا الاختلاف في صفة الإخراج لا يوجب كون الزكاة في الأوقاص لكنه من مضمون (1) الشركة لقوله صلى الله عليه وسلم (2): "وما كان من خليطين فإنهما يترادان بالسوية" (3)، فوجه القول بوجوب الزكاة في الأوقاص على الوجه الذي ذكرناه قوله: "في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم" (4)، وهذا يوجب أن الغنم تؤخذ من الأربع وعشرين ومتى قلنا: أن الأوقاص لا شيء فيها أوجب (5) أن تكون مأخوذة من العشرين وأن تكون الأربع عفوًا، وقوله: "وما كان من خليطين فإنهما يترادان بالسوية" (6) وهذا يفيد تعليق الزكاة بجميع المال، ووجه القول الآخر -وهو الصحيح- قوله: "ليس فيما دون الخمس ذود صدقة" (7) فعم، وروي: "ليس في الأوقاص شيء" (8)، ولأنه وقص قصر قدره عن نصاب فلم يتعلق به وجوب، أصله الأربع من الإبل المبتدأة. فصل [22 - تأثير الخلطة فيما عدا الماشية]: لا تأثير للخلطة فيما عدا الماشية من الأموال (9) لقوله: "وما كان من خليطين فإنهما يترادان بالسوية" (10)، فخص بذلك الماشية، ولأن صفات   (1) في (م): مهموز. (2) صلى الله عليه وسلم سقطت من (م). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (399). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (384). (5) في (م): وجب. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (399). (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (390). (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (391). (9) انظر: المدونة: 1/ 285، التفريع: 1/ 289. (10) سبق تخريج الحديث في الصفحة (399). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الخلطة لا تتصور في غير الماشية، فلم يلحق غيرها بها، ولأن الخلطة يرتفق بها الملاك مع بقاء الأعيان على الانفراد والتمييز، وذلك غير ممكن في العين والزرع. فصل [23 - الزكاة في الخيل]: لا زكاة في الخيل (1) خلافًا لأبي حنيفة في إيجابه الزكاة في إناثها (2) لقوله: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" (3)، وقوله: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" (4)، وقوله: "ليس في الجبهة ولا في الكسعة ولا النخت صدقة" (5)، قال أهل اللغة: الجبهة الخيل (6)، والكسعة الحمير (7)، والنخت الرقيق ولأنه حيوان يقتنى للزينة والركوب كالحمير والبغال، ولأنه حيوان لا يجزي في الضحايا والهدايا كالدجاج والفراخ والوحش، ولأنه حيوان يسهم له كالذكور، ولأنه جنس لا زكاة في ذكوره، فلم يجب في إناثه كالرقيق والبغال عكسه الإبل والبقر (8).   (1) انظر: التفريع: 1/ 289، المقدمات: 1/ 323. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 46، ويقول الأحناف: أن الزكاة تجب في الخيل السائمة إذا كانت ذكورًا وإناثًا متخذة للنسل. (3) أخرجه البيهقي: 4/ 18، عن بقية: حدثه أبو معاذ عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وأبو معاذ متروك الحديث لا يحتج به (نصب الراية: 2/ 357) وعند ابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الخيل والرقيق: 1/ 579 بلفظ: "تجوزت لكم عن صدقة .... ". (4) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ليس على المسلم في فرسه صدقة: 2/ 127، ومسلم في الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه: 2/ 675. (5) هو نفسه حديث البيهقي السابق. (6) انظر: معجم مقاييس اللغة: 1/ 503. (7) الصحاح: 3/ 1276. (8) هنا قياس عكس: فلما وجبت الزكاة في إناث الإبل والبقر وجبت في ذكورها، فكذلك الخيل لما لم تجب الزكاة في ذكورهم لم تجب في إناثها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فصل [24 - شرط مجييء الساعي]: مجيء الساعي شرط في وجوب الزكاة في الجملة (1) خلافًا لمن لم يعتبره (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم" (3)، فأضاف ذلك إلى نفسه ولأنه كان ينفر عماله وسعاته إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم، وقال لمعاذ: "خذ الصدقة من أغنيائهم فردها في فقرائهم" (4)، ولأن أبا بكر رضي الله عنه قاتل أهل الرِّدِّة على امتناعهم من أداء الزكاة إليه (5)، ولأنه معنى لو تلف المال قبله لم يلزمه ضمانه فوجب أن يتعلق الوجوب به كالحول. فصل [25 - تحقيق القول في شرط مجيء الساعي]: وتحقيق القول في ذلك: أن الزكاة في الماشية تجب بالنصاب والحول وإمكان أدائها إلى الإمام بشرط أنه إن تعذر ذلك في كل سنة كان أمرها مراعًا، فإن جاء الساعي فوجدها على الحال التي كانت عليها أخذ منها الواجب الذي كان له فيها كل سنة، وإن وجدها قد تلفت أو أتلفها المالك بوجه مباح لا يقصد به الفرار من الزكاة لم يضمن، والأصل فيه أن وجوبها لم يتقرر لعدم شرط من شروطه، فكان مجيء الساعي كالخلطة في أنه تارة يخفف وتارة يغلظ، وذلك للضرورة، فإنه لا يجيء في السنة إلا مرة واحدة ولا يتكرر مجيئه، فجعل له أن يزكي المال على ما يجده عليه (6)، وكذلك إذا تأخر عن مال سنين، ثم جاء زكاه لتلك السنين على ما يجده عليه والله أعلم.   (1) انظر: المدونة: 1/ 281 - 282. (2) لم يعتبر ذلك الشافعي وأحمد والحسن بن صالح وإسحق وأبو ثور وابن المنذر (انظر المغني: 2/ 682). (3) سبق تخريج الحديث في أول كتاب الزكاة في الصفحة (359). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (390). (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (359). (6) في (م): ما لا يجده عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 باب: في زكاة الحبوب والثمار وغيرها وما أنبتته الأرض من الأقوات وما يجري مجراها من الثمار والحبوب المأكولة المدخرة، ففيه زكاة ولا زكاة فيما أنبتته من غير المأكول لا (1) فيما لا يقتات ويدخر من المأكولات كالفواكه والبقول وما يجري مجراها (2)، والأصل في وجوب الزكاة في الحرث والثمار قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (3) وقوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت (5) السماء العشر وما سقي بالنضح ففيه نصف العشر" (6). فصل [1 - أنواع الثمار التي تجب فيها الزكاة]: وتجب الزكاة في الثمار في ثلاثة أنواع: وهي التمر والزبيب والزيتون، فأما التمر والزبيب فلا خلاف في وجوب الزكاة فيهما (7)، ويدلس عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم: "يخرص مثل النخل ويؤخذ زكاته زبيبًا كما تؤخذ زكاة التمر تمرًا" (8).   (1) لا: سقطت من (م). (2) في جملة أحكام زكاة الحبوب والثمار انظر: المدونة: 1/ 283، 284، التفريع: 1/ 290 - 292، الرسالة ص 165 - 167. (3) سورة الأنعام، الآية: 141. (4) سورة البقرة، الآية: 267. (5) في (م): سقته. (6) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: العشر فيما سقي من ماء السماء: 2/ 133، ومسلم في الزكاة: 2/ 675. (7) انظر: الإجماع ص 47، المغني: 2/ 691، المجموع: 5/ 307. (8) أخرجه النسائي في الزكاة، باب: شراء الصدقة: 5/ 82، وابن ماجه في الزكاة، باب: خرص النخل والعنب: 1/ 582، والترمذي في الزكاة، باب: ما جاء في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فصل [2 - دليل وجوب الزكاة في الزيتون]: وإنما قلنا: إن الزكاة تجب في الزيتون إذا بلغ كيلة خمسة أوسق (1)، خلافًا للشافعي (2) بقوله: "فيما سقت السماء العشر" (3) فعم، ولأنه حب يقتات زيته غالبًا فأشبه السمسم، ولأن الزكاة تجب في الحمص واللوبياء وأنواع القطاني (4) والزيتون أعم منفعة في باب الأقوات، فكان أولى بوجوب الزكاة، فإذا ثبت أن فيه الزكاة فإنها تؤخذ من زيته لأن الأداء هو مما ينتهي إليه، فإذا صار إلى حد يقتات كما تؤخذ الرطب والعنب بعد أن يصير أقواتًا، فإن بيع حبًّا فقيل: يخرج من ثمنه، وقيل: من زيت مثله، فمن أصحابنا من جعل إخراج الزكاة من ثمنه رواية في أخذ القيم في الزكوات، ومنهم من علله بأن الإخراج من عينها قد فات ببيتها، وهذا هو الصحيح متى قلنا بإخراج الزكاة من الثمن، وإذا لم نقل ذلك أخرج من زيته مثله وهو النظر، وكذلك الحكم في الثمر الذي لا يثمر والعنب الذي لا يتزبب إنه يتوخى كم يخرج منه إن لو (5) كان مما يثمر أو يتزبب فيخرج منه ذلك القدر. فصل [3 - إخراج القيم في الزكاة]: ولا يجوز إخراج القيم في الزكاة خلافًا لأبي حنيفة لقوله صلى الله عليه   = الخرص: 2/ 36، ومداره على سعيد بن المسيب عن عتاب، قال أبو داود: لم يسمع منه، وقال: أن نافع لم يدركه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (تلخيص الحبير: 2/ 171). (1) انظر: المدونة: 1/ 284 - 285، التفريع: 1/ 290. (2) مختصر المزني ص 48، الإقناع ص 64. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) القطاني: جمع القطنية -بكسر القاف- اسم جامع للحبوب التي تطبخ، وذلك مثل العدس والحمص والباقلاء واللوبياء والأرز وغيرها (المصباح المنير ص 509، الصحاح: 6/ 218). (5) في (ق): اللو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وسلم (1): "خذ الإبل من الإبل والبقر من البقر والغنم من الغم والحب من الحب" (2)، ففيه دليلان: أحدهما: أن تعيينه ما يأخذ من كل جنس يمنع التخيير بينه وبين غيره، والثاني أن سياقة الجميع على أخذ الجنس من الجنس تنبيه على كون المنصوص مستحقًا، وفي (3) قوله: "في أربعين من الغنم شاة وفي خمس من الإبل شاة" (4)، وقوله: "في خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر" (5)، ففيه أدلة: أحدهما: أنه عيَّن بنت مخاض فلم يجز غيرها، والثاني: أن الشرط يقتضي أن لا يخرج ابن لبون مع وجود بنت مخاض وعندهم يجوز، وفي ذلك إسقاطًا الخبر، والثالث: أنه عين ما يخرج عند عدمها ولو كان إخراج القيمة جائزًا، لكان لا معنى للتعيين، وكذلك نصه في زكاة الفطر على التمر والشعير، ولأنه عوض عن الواجب المنصوص في الزكاة على وجه القيمة فأشبه السكنى، ولأن الزكاة حق تخرج على وجه الطهر كالرقبة في الكفارة، فلو تصدق بقيمة العبد لم يجزه، ولأنه لو أخرج في زكاة الفطر نصف صاع من غير قوت بلده قيمته قيمة صاع من قوت بلده لم يجزه لأنه إخراج زكاة بقيمة كذلك في مسألتنا، ولأن ذلك في معنى شراء الصدقة فليس له التصرف في ملك من لا ولاية عليه. فصل [4 - أنواع الحبوب التي تجب فيها الزكاة]: والحبوب التي تجب فيها الزكاة: كل مقتات مدخر وما جرى مجراه (6) من   (1) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (2) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: صدقة الزرع: 2/ 254، وابن ماجه في الزكاة، باب: ما تجب فيه الزكاة: 1/ 580، وصحَّحه الحاكم على شرط البخاري، ومسلم إن صح سماع عطاء من معاذ، وقال البزار: لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ (تلخيص الحبير: 2/ 170). (3) في: سقطت من (ق). (4) و (5) سبق تخريج الحديثين في صفحة (384). (6) انظر: المدونة: 1/ 283 - 288، التفريع: 1/ 290، الرسالة ص 165 - 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الحنطة (1)، والشعير (2)، والسلت (3)، والأرز والذرة والدخن (4) والباقلاء والحمص والسمسم واللوبيا والعدس والترمس والجلبان (5)، والبسيلة (6)، وحب الفجل وما قارب معانيها؛ لأن هذه الأشياء مقتاتة مدخرة وبعضها متخذ لمعنى القوت وما جرى مجراه وبها قوام عيش الناس غالبًا في أقواتهم وإدامهم. فصل [5 - ما يضم من الحبوب والتمر والزيتون إلى بعضها وما لا يضم]: وهذه الحبوب والثمار على ضربين: منها ما هو صنف بنفسه لا يضم إليه إلا ما كان من أنواع جنسه، وذلك كالتمر إنه جنس لا يضم إليه غيره من زبيب أو زيتون أو حنطة أو غيرها، ويضم أنواع (7) بعضها إلى بعض كالبرني (8) والمعقلي (9)، والطبرزي (10)، والآزاد (11)، والدقل (12) هذا أنواعه عندنا   (1) الحنطة: هي القمح والبر (المصباح المنير ص 154). (2) الشعير: حب معروف. (3) السلت -بضم السين وتشديدها-: قيل: ضرب من الشعير ليس له قشر، وقيل: حب بين الحنطة والشعير ولا قشر له كقشر الشعير فهو كالحنطة في ملاسته وكالشعير في طبعه وبرودته (المصباح المنير ص 284). (4) الدخن: حب صغير معروف عشبي من النجيليات (المعجم الوسيط: 1/ 276). (5) الجلبان: نبات عشبي من فصيلة القطنيات (المعجم الوسيط: 1/ 128). (6) البسيلة: بقل من فصيلة القطنيات له حب كالترمس يؤكل أخضر ويطبخ يابسًا (لسان العرب: 11/ 54). (7) في (م): أنواعه. (8) البرني: نوع من أجود التمر (المصباح المنير ص 45). (9) المعقلي: نوع من التمر بالبصرة ينسب إلى معقل بن يسار المزني (المصباح المنير ص 423). (10) الطبرزي: هو السكر الأبلوج وبه سمي نوع من التمر لحلاوته (المصباح المنير ص 368). (11) الآزاد: نوع من أجود التمر (المصباح المنير ص 13). (12) الدقل: أردأ التمر (المصباح المنير ص 197). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ببغداد والعراق، وعند أهل الحجاز ومصر البرنى والعجوة (1) والصيحاني (2) وغير ذلك، وكذلك الزبيب صنف واحد لا يضم إليه غيره ويضم أنواعه كالرازقي (3) والطائفي والخراساني والأسود، والضرب الآخر ما يضم إلى غيره ويكون معه كالجنس، وذلك هو الحنطة والشعير والسلت فقط لا يضم حب إلى غيره سوى هذه الأصناف الثلاثة لأنها في معنى الصنف الواحد على ما سنذكره، فأما القطاني وهي الحمص والعدس والفول واللوبيا والترمس والجلبان والبسيلة وما أشبهها، فإنها صنف واحد يجمع بينها في الزكاة (4)، وقد قال في البيوع: إنها أصناف يجوز التفاضل بينها (5) إلا الحمص واللوبيا والجلبان والبسلة فمن (6) أصحابنا من خرج هذا رواية أخرى في الزكاة، ومنهم من قال: في الزكاة صنف وفي البيوع أصناف. فصل [6 - لا يضم الصنف إلى غيره]: إنما قلنا: إنه لا يضم صنف إلى غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (7)، وقد علمنا أنه لم يرد بذلك من كل شيء، فوجب حمله على الصنف الواحد، ولأنه لا خلاف أنه لا يضم صنف إلى صنف   (1) العجوة: ضرب من أجود التمر بالمدينة (المعجم الوسيط: 2/ 587). (2) الصيحاني: تمر معروف بالمدينة، ويقال: كان كبش اسمه صيحان شد بنخله فنسبت إليه (المصباح المنير ص 353). (3) الرازقي: ضرب من العنب -عنب الطائف- أبيض طويل الحب (المعجم الوسيط: 1/ 342). (4) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 288، التفريع: 1/ 291 - 292، الرسالة ص 165 - 166. (5) يقصد بقوله: وقد قال في البيوع: الإمام مالك (المدونة: 3/ 179). (6) في (م): فإن. (7) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: زكاة الورق، ومسلم في الزكاة، باب: ما فيه الزكاة من الأموال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 إذا لم يكن في وقته، فكذلك إذا كان في وقته، وكان من غير صنفه ولا خلاف في ذلك (1). فصل [7 - دليل ضم أنواع الصنف الواحد بعضها إلى بعض]: وإنما قلنا: إن أنواع الصنف يضم بعضها إلى بغض لأن الصنف قد جمعها، ولأن المنفعة واحدة لا تكاد تختلف فيها، فكان كالضأن والمعز والبخت والغراب والبقر والجواميس، وكذلك الزبيب والقشمش (2). فصل [8 - في كون الشعير والحنطة والسلت في حكم الجنس الواحد]: وإنما قلنا: إن الشعير والحنطة والسلت في حكم الجنس الواحد، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، لقوله: "فيما سقت السماء العشر" (4) فعم، ولأن الحنطة والشعير والسلت يجتمعون (5) في المنبت والمحصد ولا يكاد أحدها ينفك من الآخر مع تقارب المنافع، فجرت مجرى العلس (6) والحنطة، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالزبيب والقشمس والجواميس والبقر. فصل [9 - نصاب الحرث]: ولا زكاة في شيء من الحرث حتى تبلغ خمسة أوسق (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)   (1) انظر: الإجماع ص 47، المغني: 2/ 730 - 731. (2) القشمش: ضرب من الزبيب، صغير الحب جدًّا، وقيل: إنه ثمر ما ينبت من النوى (التفريع: 2/ 126). (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 47، مختصر المزني ص 48. (4) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: العشر فيما سقى من السماء: 2/ 123. (5) في (م): يجتمع. (6) العلس -بفتح العين واللام-: جنس من الحنطة (المطلع ص 130). (7) انظر: المدونة: 1/ 283 - 284، التفريع: 1/ 290، الرسالة ص 165. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 46، مختصر القدوري: 1/ 150، وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء في ذلك حتى يبلغ خمسة أوسق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 في قوله: إن الزكاة واجبة في قليله وكثيره من غير نصاب يعتبر، لقوله صلى الله عليه وسلم (1): "ليس فيما دونه خمسة أوسق صدقة" (2)، ولأنه مال تجب الزكاة في عينه، واعتبر فيه النصاب كالعين والماشية، ولأنه حق يجب في المال ينسب إليه يصرف مصروف الزكوات فوجب أن يكون معتبرًا بحد لا يجب فيما قصر عنه أصله ربع العشر المأخوذ من الذهب والورق، ولأن الزكاة طريقها المواساة، فوضع النصاب ليبلع المال حدًّا محتملا له، وفي القول بأنه يلزم في العشر سنبلات سنبلة خروج عن الأصول، فوجب حمل هذا النوع من الأموال على باقي جنسه من الذهب والفضة والماشية. فصل [10 - قدر النصاب]: والخمسة الأوسق (3) هي ثلاث مائة صاع (4) وهي ألف ومائتا مد، والصاع أربعة أمداد وهو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، والوسق ستون صاعًا والجملة ألف وستمائة رطل بالبغدادي (5)، وعند أبي حنيفة أن الصاع ثمانية أرطال بالبغدادي (6)، ودليلنا نقل أهل المدينة خلفًا عن سلف (7)، وقرنًا بعد قرن أن صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرناه نقلوا ذلك نقلًا يتساوى أطرافه وهم من امتناع الكذب والغلط على مثل عددهم، ومن امتناع التواطي والتشاعر (8) والتراسل   (1) صلى الله عليه وسلم سقطت من (ق). (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) الوسق في اللغة: كلمة تدل على ضم الشيء بعضه إلى بعض (غرر المقالة ص 165). (4) الصاع: مكيال معروف وقدره أهل الحجاز بأربعة أمداد، وقدره أهل العراق بثمانية أرطال (المعجم الوسيط: 1/ 528). (5) انظر: التفريع: 1/ 290 - 291، الرسالة ص 165. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 19. (7) ذُكر نقل أهل المدينة في: ترتيب المدارك: 1/ 48، أعلام الموقعين: 2/ 374، المحلي: 5/ 246. (8) التشاعر: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 بينهم بصفة من يلزم العلم بنقل خبرهم، فكان نقلهم لذلك بمثابة نقل قبره ومنبره صلى الله عليه وسلم في لزوم العلم به، وكان أولى من أخبار الآحاد وغيرها، ولذلك رجع أبو يوسف عن قول أبي حنيفة في الصاع إلى قول صاحبنا لما ناظره بحضرة الرشيد (1)، فقال مالك رحمه الله (2): هذا صاع (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا ينقله الخلف عن السَلَف، واستدعى أهل الأسواق فكلهم أخبر بذلك فرجع يعقوب عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب إمام دار الهجرة (4)، فكان هذا من أقوى حجه عليهم. فصل [11 - فيما زاد على الخمسة أوسق]: فإن زاد على الخمسة أوسق ففيه بحسابه لقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (5)، فمفهومه وجوبها في الخمسة وفيما زاد عليها، وقوله: "فيما سقت السماء العشر" (6)، ولأنها زيادة على نصاب في مال ينسب ما يخرج منه إلى العشر، فكانت في القليل والكثير وكزكاة الإبل. فصل [12 - لا حول في زكاة الحرث]: ولا حول في زكاة الحرث (7)، والفرق بينها وبين زكاة العين والماشية أن   (1) الرشيد: الخليفة أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله ابن محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد، وروي عن أبيه وجده ومبارك بن فضالة، روي عنه: ابنه المأمون وغيره (توفي سنة 193 هـ) (انظر سير أعلام النبلاء: 9/ 286، شذرات الذهب: 1/ 334). (2) رحمه الله: سقطت من (ق). (3) صاع: سقطت من (ق)، و (م). (4) القصة مشهورة، ذكرها البيهقي: 4/ 171، وفتح الباري: 11/ 598، وقد ذكر رجوع أبي يوسف أبو عبيد في الأموال ص 463. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (413). (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (415). (7) انظر الرسالة ص 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الحرث وضع ترفيهًا لأرباب الأموال ورفقًا بهم ليمهلوا في أموالهم مدة تنمي بالتصرف وتزيد بالتقلب، وذلك غير محتاج إليه في الزرع لأنه متكامل ببلوغه متناهي النماء بإطعامه، فلم يحتج إلى ضرب مدة مع الاستغناء عنه، يبين ذلك أن قصور المال عن حد يحتمل المواساة لما كان يمنع الزكاة انتظر به بلوغه إلى ما يحتمل ذلك، ثم كانت زكاة الحرث مشاركة كزكاة (1) العين والماشية في الحاجة إلى ذلك فاعتبر منها. فصل [13 - الواجب فيما سقى سيحًا ونضحًا]: والواجب فيها معتبر بالسقي فما سقي سيحًا أو بعلًا (2)، فيه العشر وما سقي نضحًا ففيه نصف العشر (3)، وإنما قلنا ذلك لما روي في حديث عمرو بن حزم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء العشر أو كان بعلًا ففيه العشر وما سقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر" (4)، وروي: "فيما سقت الأنهار والعيون والسماء العشر وما سقي بالسانية (5) والنضح والغرب (6) نصف العشر" (7)، هذه الألفاظ لم ترو في خبر واحد، وإنما جمعتها من عدة أخبار ولأن المؤونة إذا كثرت قلت الزكاة، وإذا قلت كثرت الزكاة اعتبارًا بالأصول. فصل [14 - نصاب ما اختلف سقيه بالسيح والنضح]: وإن اختلف سقيه بالسيح والنضح فخرجه أصحابه على روايتين (8): إحداهما   (1) في (م): الزكاة. (2) البعل: هو ما سقته السماء، وقال الأصمعي: البعل ما يشرب بعروقه من غير سقي ولا سماء (المصباح المنير ص 55). (3) انظر: المدونة: 1/ 283، التفريع: 1/ 291. (4) سبق تخريج الحديث في أول كتاب الزكاة. (5) السانية: البعير يستقى عليه من البئر (المصباح المنير ص 292). (6) الغرب: الدلو العظيمة يستقى بها على السانية (المصباح المنير ص 444). (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) انظر: التفريع: 1/ 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 أن الأقل تابع للأكثر، والأخرى أنه يؤخذ من كل واحد (1) بحسابه، والروايتان بناء على بيع أصل الحائط وتأبير بعض الثمرة، وقيل: ينظر إلى الذي جييء من الزرع فيكون الحكم له ويكون الآخر تبعًا لا حكم له: فإذا قلنا: إن الحكم للأكثر فلأن غالب الأصول أن الأقل تابع للأكثر كالضأن والمعز إذا اجتمعا في الزكاة والغنم المأخوذ في صدقة الإبل وغير ذلك فكذلك في مسألتنا، وإذا قلنا: إنه يؤخذ من كل واحد بحساب سقيه فلقوله صلى الله عليه وسلم (2): "فيما سقت السماء أو كان بعلًا العشر وما سقى بالسانية ففيه نصف العشر" (3) وهذا عام، ولأنه زرع سقي سقيًا له تأثير في الزكاة فكان المأخوذ منه معتبرًا بسقيه، أصله إذا كان كثيرًا وكان سقيًا واحدًا، وإذا قلنا: إن المعتبر بما جيء به الزرع فلأن الغرض بالسقي كمال الزرع وانتهاؤه إلى حيث ينتفع به، وهذا لا يوجد إلا في الآخر الذي بفواته يفوت هذا المعنى، ولأن الأصول شاهدة لما قلناه كالرجل يداين قومًا في سقي زرع والنفقة عليه، ثم يفلس إنه يبدأ بآخرهم نفقة، فالذي جيئ الزرع بنفقته وسقيه كذلك في هذا الموضع. فصل [15 - نصاب ما استوى سقياه]: وإذا استوى سقياه أخذ منه ثلاثة أرباع العشر لعموم الخبر، ولأنه لا يكون الاعتبار بأحدهما أولى من الآخر، ولأنه ليس هناك ما يوجب الترجيح والتبع (4). فصل [16 - الزكاة تؤخذ من النوع الواحد جيدًا أو رديئًا]: لا يخلو التمر الصنف والحبوب المضموم بعضها إلى بعض (5) أن يكون نوعًا   (1) واحد سقطت من (ق). (2) صلى الله عليه وسلم سقطت من (ق). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (415). (4) انظر: التفريع: 1/ 291. (5) في (ر): لا يخلو التمر أن يكون نوعًا واحدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 واحدًا أو مختلفًا، فإن كان نوعًا واحدًا إما جيدًا أو رديئًا أخذت منه الزكاة لأن الوجوب متعلق به والأخذ تابع للوجوب، وقال عبد الملك (1): إذا كان رديئًا كله لم يؤخذ منه وكلف صاحبه أن يخرج من غيره واعتبره بالماشية أن صاحب السخال إذا كان له أربعون سخلة يكلف أن يأتي بالسن الوسط كذلك هذه، والفرق على قول مالك بالثمار والماشية في جواز الأخذ من صنف الثمر كان رفيعًا أو دنيًا من غير أن يكلف صاحبه سواه ومنع ذلك في الماشية وأخذ صاحبها بهذا (2) السنن الوسط (3) إلا أن يتطوع بالأعلى؛ لأن عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يأخذون الجذعة والثنية ويأخذون عشر الثمار ما وجدوا منها، وكذلك ربع العشر من كل صنف العين جيدها ورديئها، ولأن الماشية تساق وتسير بنفسها من غير تكلف لحملها، فلو أجزنا المعيبة والمريضة والعرجاء والسخلة لاحتيج إلى تكلف أجرة لمن يحملها ولأدى ذلك إلى استهلاك العمل لقيمتها أو بعضها، وليس كذلك الثمار والحبوب لأنه لا بد من حمله فاستوى جيده ورديئه، ولأن الماشية تؤخذ في البوادي غالبًا، وبحيث يكون ثمنها قدرًا لو أريد بيعها وليس كذلك الثمار لأنها توجد بالمصر أو بقرية من السواد والقرى، وحيث (4) تكون أسواقها والمبالغة في أثمانها والتقارب فيه والأول أصح (5)، وإن كان ذلك الصنف من الثمار مختلفًا فلا يخلوا من ثلاثة أحوال: إما أن يكون نوعين متساويين مثل أن يكون نصفه جيدًا ونصفه رديئًا، وهذا يؤخذ من كل صنف بقدره لأنه ليس الآخذ من إحداهما بأولى من الأخرى، أو يكون نوعين أحدهما الأكثر، والآخر الأقل، وتتخرج فيها روايتان: إحداهما: أن يؤخذ من أكثر ويكون الأقل تابعًا له والآخر أنه من كل واحد بقدره؛ أو أن يكون ثلاثة أنواع جيدًا ورديئًا   (1) انظر: التفريع: 1/ 292. (2) في (م): بشراء. (3) في (م): الحضر. (4) في (ق): من السواد والقرى يوجد من يبتاعها. (5) في (ق)، و (م): أوضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ووسطًا، ففيه روايتان: إحداهما: أنه يؤخذ من الوسط، والآخر: أنه يؤخذ من كل واحد بقدره، وإذا قلنا: إنه يؤخذ من الوسط فلأنه يشق على الساعي أن يعشر كل نخلة، ولأنه معتبر بالمواشي أنه لا يؤخذ من أعلاها ولا من أدناها، وإنما يؤخذ الوسط من السنن، فكذلك الثمرة، وإذا (1) قلنا: يؤخذ من كل واحد (2) بقدره، فلأن الوجوب لما كان جاريًا على الجميع أخذ من كل صنف بقدره اعتبارًا به إذا انفرد (3). فصل [17 - وقت وجوب زكاة الحبوب والثمار]: الزكاة (4) تجب في الثمار بطيبها وبدو صلاحها (5)، وفي الحبوب بيبسها وإفراكها (6)، لأن ما قبل ذلك يكون علفًا لا طعامًا، ألا ترى أن بيعها بالطعام قبل الإطعام جائز إلى أجل إذا قطعت، وأن التفاضل غير ممنوع في الجنس منها، فإذا أطعمت تعلقت بها أحكام الطعام (7). فصل [18 - من باع ثمرة قد بدى صلاحها]: إذا باع ثمرة قد بدى صلاحها، فالزكاة على البائع لأنه باعها بعد تقرر وجوب الزكاة فيها، فإن قبض المشتري الثمرة وأفلس البائع اتبعه المصرف بزكاتها ولم يطالب المشتري لأن البائع لما باع الثمرة تعلق الوجوب بذمته، كما لو أكلها، والمشتري لم يتعلق بذمته شيء فلم يطالب، وقال أشهب: تؤخذ الزكاة   (1) في (م): إنما. (2) في (م): ثمرة. (3) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 283، التفريع: 1/ 291 - 292. (4) لفظ الزكاة سقط من (م). (5) بدو الصلاح: أي ظهوره (الفواكه الدواني: 1/ 334). (6) إفراكها: المراد بالإفراك أن يبلغ حدًّا يستغنى معه عن السقي، وذهاب الرطوبة وعدم النقص (مواهب الجليل: 2/ 287). (7) انظر: المدونة: 1/ 288، التفريع: 1/ 292، الكافي ص 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 من المشتري ويرجع به على البائع ووجه هذا (1): أن البائع باع حقه وحق المساكين فنفذ بيعه في حق نفسه ولم ينفذ في حق غيره كالبائع ملكه وملك غيره، والفرق على قول أشهب (2) بين يسار البائع وإعساره أن في يساره يتعلق الوجوب بذمته فله أن يؤديه (3) من حيث شاء، ولا ضرر على المساكين في مطالبته وليس كذلك مع الإعسار لأن ذمته معيبة (4)، فلو رجع عليه في الزكاة لم يحصل للمساكين منه شيء، فلذلك عدل إلى الثمرة؛ وإن باعها مع الأصل (5) قبل بدو الصلاح (6)، فلا زكاة على المشتري كما لو باع عبدًا بعد طلوع الفجر من يوم الفطر، لكانت الزكاة على البائع لأن الوجوب صادفه وهو في ملكه ولو باعه قبل طلوع الفجر أو غروب الشمس، لكانت الزكاة على المشتري لأن الوجوب صادفه وهو في ملكه كذلك في مسألتنا (7)؛ وإن باعها بشرط القطع فلا زكاة على واحد منها، فإن أخرها المشتري حتى طالبت بطل البيع وكانت الزكاة على البائع لأنها على ملكه، وكذلك لو باعها بشرط التبقية وكذلك حكم الهبة إن كانت بعد بدو الصلاح فالزكاة على الواهب وإن كانت قبله، فعلى الموهوب له وكذلك في (8) موت المالك بعد بدو الصلاح أن الزكاة واجبة فيه وإن كان (9) في حصة كل وارث أقل من النصاب لأن الوجوب تقرر في ملك الميت   (1) في (م): ووجهه. (2) في (م) و (ر): ابن القاسم وهو خطأ. (3) في (م): يؤدي. (4) في (م): و (ر): معينة. (5) في (ق): الأصول. (6) في (م): صلاحها. (7) انظر: المدونة: 1/ 287، التفريع: 1/ 292، الكافي ص 101. (8) في: سقطت من (م). (9) في (م): كانت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 قبل انتقاله إلى الورثة؛ وإن مات قبل بدو الصلاح فلا زكاة (1) على الورثة إلا على من ملك منهم نصابًا لأن الوجوب تقرر بعد ملكهم (2). فصل [19 - في خرص النخل والعنب]: ويخرص (3) النخل والكرم إذا بدى صلاحهما فلا يخرص من الثمار سواهما (4)، فإن بلغ ما يخرص نصابًا ضمن أصله حصة الفقراء منه وخلي بينهم وبينه إن شاؤوا أكلوا أو باعوا، وإن شاؤوا تركوا ولم يضمنوا وإن قصر عن قدر النصاب فلا شيء عليهم، وإن أصاب الثمر جائحة بعد خرصها لم يضمن أربابها إلا أن يبقى بعد الجائحة نصاب كامل فتكون فيه الزكاة، وإذا زاد الخرص أخرجت الزكاة من الزيادة استحبابًا لا إيجابًا، وإن نقص عن الخرص لم تنقص الزكاة، وفي تخفيف الخرص للأكل والعرية روايتان: إحداهما الإثبات، والأخرى المنع. فصل [20 - دليل خرص النخل والعنب]: وإنما قلنا: يخرص النخل والكرم خلافًا لأبي حنيفة (5) لما روي عتاب بن أسيد (6): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7) أمر أن يخرص العنب كما تخرص النخل   (1) في (م): زيادة. (2) انظر: المدونة: 1/ 287، الموطأ: 1/ 271، التفريع: 1/ 292، 293، الكافي ص 101. (3) الخرص: هو الحزر والتقدير لثمرتها ولا يمكن إلا عند طيبها، والخرص -بالكسر- الشيء المقدر. (4) انظر: المدونة: 1/ 284، التفريع: 1/ 293، الكافي ص 102. (5) لأبي حنيفة: سقطت من (ق). (6) عتاب بن أسيد: بن أبي العيص بن أمية الأموي المكي له صحبة، وكان أمير مكة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مات يوم موت أبو بكر الصِّدِّيق، وقيل: أنه كان عاملًا على مكة لعمر سنة إحدى وعشرين (تقريب التهذيب: 380). (7) في (م): النبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وتؤخذ صدقة النخل ثمرًا (1)؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله ابن رواحة (2) إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر ثم يقول: "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي" (3)، ولأن في ذلك نظر لأرباب الأموال والفقراء، ولأن العادة جارية بأن هاتين الثمرتين تؤكلان رطبتين، فلو منعنا الخرص لكنا بين أمرين: إما أن يمنع أربابها أكلها، وفي ذلك إضرار بهم أو منعهم من [التصرف فيها] (4) على الوجه المأذون فيه من التفكه واتخاذ العصير والخل وغير ذلك من ضروب المنافع التي إن أخروها إلى الجفاف بطلت عليهم أو أن يؤذن لهم في التصرف فيها أو أن (5) يطلقوا في تناولها قبل معرفة حق الفقراء، وفي ذلك إضرار في الفقراء لأنا لا نعرف حقوقهم ولا نرجع في ذلك إلى أرباب الأموال للعلم بتسرع أكثرهم إلى تناولها وقلة مراعاتهم حقوق الفقراء، فلم يبق إلا الخرص. فصل [21 - الخرص في النخل والعنب دون غيرها]: وإنما قصرنا الخرص على النخل والكرم دون غيرهما (6) للإجماع (7)، ولأن العادة مختصة بهما في أكلهما حال رطوبتهما دون غيرهما، وكذلك ما فيهما من المنافع حال الرطوبة لا يوجد فيما عداهما، لأن غيرهما من الثمار إنما يحصل   (1) حديث عتاب سبق تخريجه. (2) عبد الله بن رواحة: بن ثعلبة بن امريء القيس الخزرجي الأنصاري الشاعر، أحد السابقين، شهد بدرًا، واستشهد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان (تقريب التهذيب: 203). (3) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: متى يخرص التمر: 2/ 260، والحديث فيه جهالة، وأخرجه عبد الرزاق والدارقطني: 2/ 1234، وأرسله معمر ومالك وعقيل (تلخيص الحبير: 2/ 172). (4) مطموس في جميع النسخ، وأتممت النقص على حسب ما يقتضيه السياق. (5) في (م): و. (6) في (ق): غيرها. (7) انظر: المغني: 2/ 710، المحلي: 5/ 385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الانتفاع به بعد (1) اليبس والجفاف، فلم تدعنا ضرورة إلى خرصه كما دعت إلى ذلك في مسألتنا، ولأن خرص سائر الثمار غير ممكن كإمكان ذلك في النخل والكرم، ولأن الرطب والعنب يظهران فيتمكن الخارص من خرصهما، إذ ليس شيء يمنع من رؤيتهما ولا يحول بينه وبينهما، وليس كذلك ما عداهما من الزرع والثمار لأنه إما مغيب في بيته (2) وسنبله أو كامن في ورقة ومستتر في أكمامه (3) وذلك كله (4) مانع من خرصه وحائل دون حرزه، فبان الفرق بين الموضعين. فصل [22 - الخرص يكون بعد بدو الصلاح]: وإنما قلنا: إنهما يخرصان بعد بدو الصلاح لحديث عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة الأنصاري (5) إلى يهود خيبر (6) ليخرص النخل حين تطيب قبل أن يؤكل منه" (7)، ولأن ذلك وقت وجوب الزكاة، فأما قبله فلا حق للفقراء فيها فلم يجب خرصها، ولأن الخرص إنما يراد لمعرفة حق (8) الفقراء وحفظه عليهم، وذلك يقتضي أن يكون هناك حق قد وجب فيجب خرصه. فصل [23 - التخلية بين الثمرة وأهلها بعد الخرص]: وإنما قلنا: إنه إذا خرصها خلي بينها وبين أهلها، فلأن الخرص إنما وضع ليعرف مقدار حق الفقراء منها، فإذا عرف ذلك لم يبق ما يمنع أهلها منها ومن   (1) بعد: سقطت من (ق). (2) في (م): نبته. (3) الأكمام جمع - كم -بالكسر -: وعاء الطلع وغطاء النور (المصباح المنير ص 541). (4) كله: سقطت من (م). (5) الأنصاري: سقطت من (م) و (ر). (6) خيبر: سقطت من (ق) و (ر). (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) في (ق): حقوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 تصرفهم فيها، وإنما قلنا: إن الثمرة إذا أجيحت فلا شيء على أربابها فلأنها في أيديهم أمانة لأنهم بنفس الخرص لا يضمنوها لأن الخرص لم يوضع للضمان، وإنما أريد لإباحة التصرف إذا عرف قدر حقوق الفقراء، فإن (1) تصرفوا فيها تعلقت الزكاة في ذمتهم بالتصرف، فإن تركوها كانت أمانة فلم يضمنوا" (2) جوائح السماء وكانوا شركاء للفقراء، فإن بقى بعد الجائحة نصاب كامل أخذت منه (3) لأن ما تلف كأنه لم يكن وصار كأنه لم يوجد سوى هذا القدر. فصل [24 - إذا زاد الخرص]: وإنما قلنا: إن الخير إذا زاد لم يلزم الزكاة فيه لأنه حكم قد نفذ، فلم ينقض من بعد، وكذلك إذا نقص لم ينقص الزكاة (4) لمثل ذلك، ووجه تخفيف الخرص للعرية والوصية ما روي: "خففوا الخرص فإن في المال العرية والوصية" (5)، ولأن الزكاة مواساة فكانت مواساة بالتخفيف (6) أولى منها بالتثقيل، ووجه المنع قوله: "فيما سقت السماء العشر" (7)، ولأنه بعض ثمرة فأشبه ما زاد على هذا القدر أن النصاب في الماشية لا يترك فيه عفو كذلك الحرث. فصل [25 - حكم الزكاة في الفواكه والبقول والخضروات]: ولا زكاة في الفواكه والبقول (8) والخضروات كالتفاح والبطيخ والكمثرى والقثاء   (1) في (م): فإذا. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) في (م): كامل أخذ منها. (4) ما بين قوسين سقط من (م). (5) هذا من قول عمر بن الخطاب، وقد رواه مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (انظر البيهقي: 4/ 124). (6) بالتخفيف سقطت من (م). (7) سبق تخريج الحديث. (8) البقول: كل نبات اخضرت له الأرض (المصباح المنير ص 58). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 والخيار والباذنجان، وما أشبه ذلك، وكذلك ما يدخر نادرًا للتفكه لا على وجه الاقتيات من يابس الفواكه (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) في إيجابه الزكاة في ذلك كله (3)، لأن أهل المدينة نقلوا نقلًا متواترًا خلف عن سلف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ من الخضر والبقول شيئًا، ولا أحد من الخلفاء بعده (4)، وقد كانت تزرع في أيامهم، فلو كان فيها زكاة لأخذوها منها، ولأنه نبت لا يقتات فأشبه الحشيش والجزر (5) والجوز واللوز والجلوز (6)، وإن يبس أو أدخر فليس بأصل قوت ولا مما يؤخذ للمعاش، وكذلك ادخار الخوخ والمشمس، وإنما هو على وجه التفكه والتداوي لا للقوت. فصل [26 - الزكاة فيما ليس بمأكول]: ولا زكاة في قرطم (7) ولا قطن ولا قصب ولا كولان (8) ولا حشيش ولا غير ذلك، لأن ذلك ليس بمأكول والزكاة لا تجب في المأكول الذي ليس بقوت فضلًا عما ليس بمأكول ولا زكاة في عسل (9)، خلافًا (10) لأبي حنيفة (11) في   (1) انظر: المدونة: 1/ 252، التفريع: 1/ 294، الرسالة ص 166. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 46، مختصر القدوري من شرح الميداني: 1/ 151. (3) كله سقطت من (ق). (4) نقل عمل أهل المدينة: الاستذكار: 1/ 154، المنتقى: 2/ 171، ترتيب المدارك: 1/ 48. (5) الجزر: سقطت من (ق). (6) الجلوز: البندق (لسان العرب: 5/ 322). (7) القِرطم: بكسر القاف - وهو حب العصفر (المصباح المنير ص 498). (8) كولان: الأسل وهو نبات ذو أغصان كثيرة شائكة الأطراف تصنع منه الحصر والحبال تتخذ منه الغرابيل في العراق (انظر لسان العرب: 11/ 14، والمعجم الوسيط: 2/ 85). (9) في (م): العسل. (10) انظر: المدونة: 1/ 253، التفريع: 1/ 294، الرسالة ص 165 - 166. (11) انظر: مختصر الطحاوي ص 47، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 1/ 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 قوله: إن الزكاة تلزم فيه إذا كان في أرض العشر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منه زكاة وقد كان في أيامه، ولأنه طعام يخرج من حيوان فأشبه اللبن ولأنه مأكول لم تنبته الأرض فأشبه اللحم. فصل [27 - فيما يجب في أرض الخراج]: ويجب العشر في أرض الخراج وغيرها (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2) في قوله: أن العشر والخراج لا يجتمعان، لقوله: "فيما سقت السماء العشر" (3)، واعتبارًا بأرض الصلح، ولأن طريقهما مختلف لأن العشر زكاة والخراج كراء الأرض، فلم يمنع العشر كمن اكترى (4) أرضًا وزرعها. فصل [28 - زرع العبد أو المكاتب]: وإذا زرع العبد أو المكاتب فلا عشر عليهما (5) خلافًا لمن أوجبه (6)؛ لأن ملكهما غير تام والزكاة لا تجب إلا على من يملك ملكًا تامًّا، وكذلك النصراني لا عشر عليه لأنه لا يخاطب بفروع الشريعة مع الإقامة على كفره، وقد ذكرنا ذلك في زكاة الماشية والعين وبالله التوفيق (7). فصل [29 - في زكاة من استأجر أرضًا وزرعها]: إذا استأجر أرضًا فزرعها، فالزكاة على صاحب الزرع دون صاحب الأرض (8) خلافًا لأبي حنيفة (9) في قوله: إنها تجب على صاحب الأرض،   (1) انظر: المدونة: 1/ 286 - 287، الكافي ص 219 - 220. (2) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 1/ 152. (3) سبق تخريج الحديث. (4) في (م): كمن يكتري. (5) انظر: المدونة: 1/ 287، الكافي ص 220. (6) أوجبه أبو حنيفة (مختصر الطحاوي ص 46، تحفة الفقهاء: 2/ 322 - 323). (7) بالله التوفيق سقطت من (ق). (8) انظر: المدونة: 1/ 286، الكافي ص 103. (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 46، تحفة الفقهاء: 2/ 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 لأنه حق يصرف في الأصناف المسمين في آية الصدقات، فكان المخاطب به المالك دون غيره كزكاة المال ولأنه حر مسلم خرج له نصاب زرع يجب في جنسه الزكاة وجب أن يلزمه العشر فيه أصله إذا كانت (1) الأرض في ملكه، ولأن كل حق تعلق بغير المال، فإن الوجوب يتعلق على مالكه (2) اعتبارًا بسائر الأصول والله أعلم (3). ...   (1) في (م): كان. (2) في (م): مالكها. (3) والله أعلم سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 باب زكاة الفطر (1) وزكاة الفطر (2) واجبة (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4)، لما رواه ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير عن كل حر أو عبد ذكر أو أُنثى من المسلمين" (5)، وقوله في صدقة الفطر: "أدوا صاعًا من قمح أو تمر" (6)، والأمر على الوجوب، ولأنها زكاة في المال كسائر الزكوات. فصل [1 - في قدر زكاة الفطر]: وقدرها صاع بالمدني (7) من كل ما يخرج فيها (8)، خلافًا لأبي حنيفة في   (1) العنوان سقط من (ق). (2) زكاة الفطر: هي إعطاء مسلم فقير لقوت يوم الفطر صاعًا من غالب القوت أو جزأه المسمى للجزء المقصور وجوبه عليه (حدود ابن عرفة - مع شرح الرصاع عليها ص 78). (3) انظر: الموطأ: 1/ 283، التفريع: 1/ 294، الرسالة ص 172، الكافي: 1/ 111. (4) إذ يقول أبو حنيفة: إنها واجبة وليست مفروضة (مختصر الطحاوي ص 51، مختصر القدوري: 1/ 158). (5) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر: 2/ 138، ومسلم في الزكاة، باب: زكاة الفطر: 2/ 677. (6) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: من روى نصف صاع من قمح: 2/ 270، وأحمد: 5/ 432، والبيهقي: 4/ 167 من طرق عن الزهري إلا أنهم اختلفوا عليه فيه (انظر نصب الراية: 2/ 408 - 410). (7) قوله: صاع بالمدني، أي المكيال المنسوب إلى أهل المدينة وهو أربعة أمداد بالمد المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (التفريع: 1/ 295). (8) انظر: التفريع: 1/ 295، الرسالة ص 172، الكافي ص 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 قوله: إنه يخرج نصف صاع من بر ويخرج مما عداه صاعًا كاملًا (1) لقوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر:، أدوا صاعًا من تمر أو قمح" (2)، وفي حديث المبارك بن فضالة (3) عن أيوب (4) عن نافع عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من تمر أو صاعًا من بر" (5)، وفي حديث أبي سعيد: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من تمرًا أو صاعًا من شعير أو صاعًا من أقط (6) أو صاعًا من زبيب، فقيل له: أو مدَّين من قمح (7)، فقال: تلك قيمة معاوية لا أقبلها" (8)، ولأنه قوت يخرج في صدقة الفطر كالشعير والتمر. فصل [2 - وقت وجوب زكاة الفطر]: وعنه في وقت وجوبها روايتان (9): إحداهما غروب الشمس من آخر ليلة من رمضان، والأخرى بطلوع الفجر يوم الفطر، وجماعة من أصحابنا يقولون   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 51، مختصر القدوري: 1/ 160. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) المبارك بن فضالة -بفتح الفاء وتخفيف المعجمة-: أبو فضالة البصري، صدوق يدلس سوي من السادسة، توفي سنة مائة وست وستين على الصحيح (تقريب التهذيب ص 519). (4) أيوب بن أبي تميمة: السختياتي أبو بكر البصري، رأى أنس بن مالك، وروى عن عمرو سلمة وحميد بن هلال وآخرين، كان ثقة كثير العلم حُجَّة عدلًا (ت 131 هـ) (الجرح والتعديل: 2/ 255). (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) أقط: يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل (المصباح المنير ص 17). (7) قمح: سقطت من (ق). (8) أخرجه البخارى في الزكاة، باب: الصدقة قبل العيد: 2/ 14، ومسلم في الزكاة، باب: الزكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير: 2/ 678. (9) انظر: الموطأ: 1/ 285، المدونة: 1/ 289، التفريع: 1/ 295، الرسالة ص 172، الكافي ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 بطلوع الشمس، فوجه قوله بغروب الشمس ما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان" (1)، فأضاف الفطر إلى رمضان وحققته بغروب الشمس، ولأن من ولد بعد مغيب الشمس فلم يدرك شيئًا من رمضان لم يلزم إخراج الفطر عنه كمن ولد بعد الفجر، ووجه قوله (2): إنها تجب بطلوع الفجر ما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان" (3) فأطلق، وإطلاق ذلك لا يفهم منه إلا يوم الفطر، ولأنه حق في مال يخرج يوم عيد على طريق المواساة، فوجب أن يتعلق بطلوع الفجر أصله الأضحية، ووجه قول من قال (4): إنها تجب بطلوع الشمس أنه نسك مضاف (5) إلى العيد، فكان وقته طلوع الشمس كالصلاة، وفائدة هذا الخلاف فيمن اشترى عبدًا أو ولد له ولد أو تزوج امرأة قبل غروب الشمس ثم باع العبد أو طلق الزوجة بعد وجوب نفقتها عليه أو مات الولد قبل طلوع الفجر: فإن قلنا: إن الزكاة تجب بغروب الشمس، فالزكاة عن الزوجة والعبد والولد عليه، لأن وقت الوجوب صادفهم في ملكه، وإن قلنا بطلوع الفجر لم يلزمه شيء لأن وقت الوجوب لم يصادفهم عنده، وكذلك لو ملك العبد بعد غروب الشمس أو ولد له مولود، فعلى رواية الغروب زكاة الفطر على البائع ولا زكاة على المولود لأنه طرأ بعد تقدم الوجوب، وعلى رواية الطلوع تجب على المشتري وعلي أبي المولود لأن وقت الوجوب صادفهم في ملكه. فصل (6) [3 - متى يستحب إخراجها]: ويستحب إخراجها قبل الغدو إلى المصلى (7) لما روى (8) ابن عمر: "أنه   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) في (م): القول. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) في (م): قوله. (5) في (م): يضاف. (6) فصل سقطت من (م). (7) انظر: المدونة: 1/ 289، التفريع: 1/ 295، الكافي ص 111. (8) في (م): رواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 صلى الله عليه وسلم أمر بإعطاء صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى" (1)، وقوله: "اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" (2)، وليأكل منها الفقراء قبل غدوهم، كما يستحب للإنسان أن يأكل قبل غدوه، وقيل: إن ذلك تأويل قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} (3) أنه أخرج (4) زكاة الفطر وغدى إلى العيد (5). فصل [4 - فيمن أخرجها قبل يوم الفطر وليلته]: ولا يجوز إخراجها قبل يوم الفطر أو ليلته على حسب اختلاف الروايات (6) لأن ذلك تقديم إخراجها على وقت الوجوب، وذلك غير جائز، وتأويل قول بعض (7) أصحابنا: إنه إن أخرجها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين أجزاه أن يخرجها إلى الذي يحفظها ويحرسها وتجمع عنده إلى يوم العيد لأن تلك كانت عادتهم بالمدينة، ومن حمل هذا القول على ظاهره في جواز الإخراج على الإطلاق، فذلك مناقضة منه (8) يلزمه عليه جواز إخراجها من أول الشهر، وقبل دخوله أيضًا من حيث لا انفصال (9) له عنه.   (1) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة قبل العيد: 2/ 139، ومسلم في الزكاة، باب: الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة: 2/ 679. (2) أخرجه البخاري (2/ 153) بلفظ: "اغنوهم في هذا اليوم" عن أبي معشر، وأعله ابن عدي في الكامل بأبي معشر (نصب الراية: 2/ 432). (3) سورة الأعلى، الآيتين: 14، 15. (4) في (م): إخراج. (5) رُوِي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر رضي الله عنهما (انظر تفسير الطبري: 30/ 156، الجامع لأحكام القرآن: 20/ 21). (6) في (م): الرواية. (7) بعض سقطت من (ق). (8) منه سقطت من (ق). (9) في (م): انتقال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 مسألة [5 - عمن تجب زكاة الفطر؟]: وتجب على كل واجد سبيلًا إليها من الرجال والنساء والأحرار والعبيد والكبار والصغار والحاضرة والبادية (1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا صدقة الفطر" (2)، وهذا خطاب عام، وقول ابن عمر: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان على الناس" (3) فعم، وقوله في حديث آخر: "عن كل ذكر أو أنثى صغير أو كبير غني أو فقير أو مملوك" (4). فصل [6 - وجوب زكاة الفطر على من ملك صاعًا]: ومن كان عنده صاع لا يلحقه ضرر بإخراجه من إفساد (5) معاشه أو جوعه أو جوع عياله أو دين يصرف فيه فعليه أن يخرجه ولا اعتبار بكونه مالكًا لنصاب من المال (6) خلافًا لأبي حنيفة (7)، فأما الوجوب فلقوله: "أدوا صدقة الفطر" (8) وروي: "أنه فرض الفطر ولم يعتبر نصابًا" (9)، ولأنه واجد لمقدارها قادر على أدائها من غير ضرر يلحقه كالواجب للنصاب، وأما سقوط الوجوب إذا لحقه ضرر فلأنه يحوجه إخراجها إلى الطلب، وذلك مناقض لوجوبها لأن الغرض به الاستغناء عن الطلب.   (1) انظر: المدونة: 1/ 289، الموطأ: 1/ 283، التفريع: 1/ 295، الرسالة ص 172، الكافي ص 111 - 112. (2) أخرجه الدارقطني: 2/ 141، والبيهقي: 4/ 161، وفي إسناده ضعف وإرسال، وأخرجه الشافعي مرسلًا (تلخيص الحبير: 2/ 184). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (429). (4) هو حديث ابن عمر الذي سبق تخريجه في أول باب زكاة الفطر. (5) في (م): فساد. (6) انظر: المدونة: 1/ 289، التفريع: 1/ 295. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 51، مختصر القدوري: 1/ 158. (8) سبق تخريج الحديث قريبًا. (9) لم أعثر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 فصل [7 - الفقير الذي دفعت إليه زكاة الفطر يخرجها إذا فضل له له منها شيئًا]: يستحب للفقير إذا دفعت إليه (1) زكاة الفطر وفضل عن قوته وقوت عياله صاع أن يخرجه (2) من غير إيجاب لأن غناه طرأ بعد تقدم (3) الوجوب. فصل [8 - إخراج الزكاة عمن تلزم نفقتهم]: ويلزم (4) الإنسان عن نفسه وعن غيره ممن تلزمه نفقته (5) خلافًا لداود (6) في قوله: لا يلزمه إلا عن نفسه وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم (7): "أدوا زكاة الفطر عمن تمونون" (8)، ولأنها طهرة تجري مجرى المؤونة فأشبهت سائر النفقات، ويلزمه عن ولده الصغير إذا لم يكن له مال، فإن كان له مال أخرج عنه من ماله، ويلزمه عن ولده الكبير إذا بلغ فقيرًا زمنًا (9)، وعن أبويه الفقيرين المسلمين وعن عبيده المسلمين كانوا للتجارة أو للقنية وعن أمهات أولاده ومدبريه ومعتقيه إلى أجل، وفي مكاتبيه روايتان (10)، فإذا قلنا: تلزمه فبالرق   (1) في (م): إذا كان فيما دفع إليه من. (2) انظر المدونة: 1/ 289، التفريع: 1/ 295. (3) تقدم: سقطت من (م). (4) في (م): يلزمه. (5) انظر: المدونة: 1/ 289 - 292، التفريع: 1/ 295 - 296، الرسالة ص 172، الكافي ص 111. (6) انظر: المحلي: 6/ 194. (7) صلى الله عليه وسلم سقطت من (ق). (8) سبق تخريج الحديث قريبًا. (9) زمنًا: من باب تعب وهو مرض يدوم زمانًا طويلًا (المصباح المنير ص 256). (10) انظر: المدونة: 1/ 289، التفريع: 1/ 296، الكافي ص 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 مع كونه من أهل الطهارة (1)، وإذا قلنا: لا تلزمه فلأنها تابعة للنفقة، فلما لم تلزمه النفقة على مكاتبيه لم تلزمه الفطرة عنهم. فصل [9 - إخراج زكاة الفطر عن زوجته]: إذا لزمته النفقة على زوجته (2) المسلمة لزمه إخراج الفطرة عنها موسرة كانت أو معسرة (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) لقوله: "عمن تموتون" (5) فعم، ولأنها من أهل الطهرة، فوجب أن تلزمه فطرتها من تلزمه تفقتها إذا كان قادرًا عليها (6) أصله الولد الصغير، ولأن الفطرة متابعة للمؤونة فيمن هو من أهل الطهرة فيجب أن تلزمه بدلالة أن العبيد لما لزمت سادتهم نفقاتهم لزمتهم الفطرة عنهم، وإذا ثبت أنه تلزمه عن زوجته فتلزمه عن خادم من خدمها لأن نفقتها مستحقة عليه. فصل [10 - إخراج زكاة الفطر عن عبيده الكفار]: ولا يلزمه إخراجها عن عبيده الكفار (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)، لحديث ابن عمر: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" (9)، فقيَّده بالإسلام فدل على اعتباره في الوجوب، وروى ابن عباس قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطرة طهرة للصائم من   (1) لعله يقصد أنه يدخل فيمن خوطب بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}. (2) في (م): زوجه، وفي (ر): عن الزوجة. (3) انظر: المدونة: 1/ 292، التفريع: 1/ 295، الكافي ص 111 - 112. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 51، مختصر القدوري: 1/ 159. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) عليها: سقطت من (م). (7) انظر: المدونة: 1/ 290، التفريع: 1/ 195. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 51، مختصر القدوري: 1/ 159. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة (433). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 اللغو والرفث وطعمًا للمساكين" (1)، فأخبر عن عِلَّة فرضها والغرض المراد به وأنه يختص المسلمين فانتفى وجوبه عن الكفار، ولأنها طهرة فلا تخرج إلا عمن هو من أهلها وإلا تناقض المقصود بالإخراج، ولأنه حق في مال طريقه القربة فلم تجب على العبد الكافر كالأضحية (2)، وحكم الأبوين والزوجة حكم العبد. فصل [11 - إخراج زكاة الفطر عن عبيد عبيده]: ولا شيء عليه في عبيد عبيده لأنهم ليسوا عبيدًا له (3)، وإنما يملكهم بالانتزاع ولا على ساداتهم أن يخرجوا عنهم لأن ملك العبيد غير مستقر ولا يلزمهم أن يخرجوا عن أنفسهم لأن نفقاتهم على غيرهم. فصل [12 - زكاة فطر العبد بين شريكين]: والعبد بين شريكين أو شركاء يلزمهم إخراج الفطرة عنه (4) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه لا شيء على ساداته (5) لما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر من رمضان على كل حر وعبد" (6) فعم، وقال: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" (7)، ولأنه حق يتبع النفقة، فلما كانت لازمة لجميعهم فكذلك الفطرة، ولأنه من أهل الطهرة يلزم من يملكه مؤونته فلزمته فطرته أصله المالك الواحد.   (1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة الفطر: 2/ 262، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الفطر: 1/ 585، والحاكم ()، وقال: على شرط البخاري (نصب الراية 2/ 411). (2) في (م): أصله الأضحية. (3) انظر: المدونة: 1/ 293، الكافي ص 112 - 113. (4) انظر: المدونة: 1/ 289، التفريع: 1/ 296، الكافي ص 112. (5) انظر: مختصر القدوري: 1/ 159. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (429). (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (433). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فصل [13 - إخراج كل شريك بقدر ما يملك]: إذا ثبت أن على ملاكه (1) إخراج الفطرة عنه فيلزم (2) كل واحد أن يخرج بقدر ما يملك منه لأنها مؤونة فأشبهت النفقة، ولأن الخدمة ومنافعه لما كانت بينهم متوزعة على قدر الملك فكذلك الزكاة. فصل [14 - في العبد نصفه حر على من تكون فطرته]: وفي العبد الذي نصفه (3) حر خلاف، روي عن مالك أن (4) على السيد بقدر ماله فيه من الملك ولا شيء على العبد في نصيبه الحر، وروي عنه أن على السيد بقدر نصيبه، وعلى العبد بقدر حريته وهو قول محمد بن مسلمة، وروي عنه أن على السيد إخراج جميع الصاع ولا شيء على العبد وهو قول عبد الملك، وعند أبي حنيفة لا شيء على العبد ولا على السيد (5)، ودليلنا عليه ما قدمناه في العبد بين الشريكين، ولأنه ملك لجزء من العبد فأشبه ملك الجميع، ولأنه حق يجب لله تعالى (6) على مالك جميع العبد عن العبد فوجب أن تلزم لمالك بعضه بقدر ملكه كزكاة التجارة؛ فإذا ثبت هذا فوجه القول بأن على السيد بقدر ملكه ولا شيء على العبد لأن أحكام الرق أغلب عليه من أحكام الحرية بدلالة منع شهادته وميراثه ونقصان طلاقه وحدِّه (7)، وسقوط الحج عنه فكذلك في الزكاة، ولأنه ناقض الملك لأن كمال الملك لا يكون مع بقاء شيء من الرق فأشبه العبد، ولأن كل من لم يخاطبه بجميع الزكاة عن نفسه لمعنى يمنع وجوب البعض، فكذلك في البعض أصله العبد الغني، ووجه القول بأن على العبد   (1) في (م): مالكه. (2) في (م): فيلزمه. (3) انظر المدونة: 1/ 289، التفريع: 1/ 296، الكافي ص 112. (4) أن: سقطت من (م). (5) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 1/ 159. (6) تعالى: سقطت من (ق)، و (ر). (7) في (م): حدوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 بقدر ما فيه من الحرية اعتباره بالعبد بين شريكين بعلة أنهما يتقاسمان الخدمة والمنافع المستحقة بالملك، فكذلك حكمه (1) في زكاة الفطر ولأن الفطرة متابعة للنفقة، فلما كانت النفقة عليهما كذلك الفطرة بينهما؛ ووجه القول بأن جميع الفطرة على السيد أنه محبوس عليه بالرق كالذي يستغرقه الرق. فصل [15 - لزوم الفطرة عن العبد المرهون والمبيع بالخيار وغيرهما ... ]: وتلزم الفطرة عن العبد المرهون والمبيع بالخيار للبائع والمبتاع والمبيع بيعًا فاسدًا قبل رده والأمة تباع على المواضعة قبل خروجها والعبد إذا قتل وحبس للقود على ساداتهم لأنهم على ملكهم لم يزل بجميع ما ذكرناه، وفي البيع الفاسد يرد إلى البيع الصحيح، إلى أن يحكم برده كالنفقة (2). فصل [16 - المعتبر فيما يخرج في زكاة الفطر]: الاعتبار فيما يخرج في زكاة الفطر بغالب قوت البلد الذي هو به، فمن أي أصناف الأقوات كان أخرجه حنطة أو شعيرًا أو سلتًا أو تمرًا أو أرزًا أو ذرة أو دخنًا (3) أو زبيبًا أو أقطًا أو أي شيء كان، وإنما قلنا: إنه يخرج هذه الأجناس لما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير" (4)، وروي: "أدوا صاعًا من قمح أو تمر" (5)، وفي حديث أبي سعيد: "كنا نخرج زكاة الفطر إذا كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط" (6)، وإنما قلنا: إن الاعتبار بغالب قوت أهل البلد لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن   (1) في (م): حكمهما. (2) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 289 - 293، الكافي ص 112 - 113. (3) الدخن -بضم الدال-: حب معروف. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (429). (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (429). (6) سبق تخريِج الحديث في الصفحة (430). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الطلب في هذا اليوم" (1)، وهم لا يستغنون عن الطلب إلا بوجود قوتهم المألوف لهم، فإذا ثبت ذلك فإن كان يقتات قوت أهل البلد أخرج منه وإن كان يقتات أعلى منه استحببنا له أن يخرج مما يأكله ليواسي الفقراء فيما يختاره (2) لنفسه، فإن لم يفعل جاز وكان عليه إخراج غالب قوت أهل البلد، وإن كان يقتات أدنى منه نظر فإن كان لعُدم أجزاه أن يخرج منه لأنه لا يقدر على غيره، وإن كان لشح أخرج من غالب قوت بلده، والله أعلم. ...   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (432). (2) في (م)، و (ر): مما اختاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 باب: أصناف الذين تجب لهم الصدقات (1) والأصناف الذين يجب صرف الصدقة لهم هم الأصناف الذين تضمنتهم آية الصدقات (2) لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} (3)، ولا يجوز صرفها إلى غيرهم ولأنها جهة صرف (4) الصدقة، كما لا تجوز الصلاة إلى جهة سوى جهة الكعبة لأنها جهة الصلاة ولا خلاف في هذا (5). فصل [1 - قسمة الزكاة على اجتهاد الإمام]: وقسمتها على الاجتهاد من الإمام وعلى ما يراه من الحاجة زاد على الثمن أم (6) نقص عنه استغرق جميع الأصناف أو بعضهم أو صنفًا واحدًا منهم (7) خلافًا للشافعي (8) في قوله: لا يجوز الاقتصار على بعض الأصناف السبعة ويلزم تفريقها في جميعهم، لأنه حق يتكرر في المال كل حول فلم يجب اعتبار الأصناف فيه كالجزية، ولأنه لما لم يتعين عليه فرض في آحاد الصنف، بل جاز أن يقتصر على الواحد والاثنين والثلاثة، كذلك لا يتعين في جميع الأصناف لأن آحاد الصنف محل للصدقة كالجملة، ولأنه صنف منصوص عليه في الصدقة،   (1) عنوان فصل من (م). (2) انظر: المدونة: 1/ 253، التفريع: 1/ 297، الكافي ص 114 - 115. (3) سورة التوبة، الآية: 60. (4) في (ق): صروف. (5) انظر: الإجماع ص 51، المغني: 2/ 665. (6) في (م): أو. (7) انظر: المدونة: 1/ 253، التفريع: 1/ 298، الكافي ص 115. (8) انظر: الأم: 1/ 71، الإقناع ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 فجاز صرف جميعها إليه، وأن يأخذ بحسب الاجتهاد كالعامل والمؤلفة والمقصود من الظاهر (1) الأخبار عن محلها الذي توضع فيه دون التمليك (2) وتحديد المأخوذ. فصل [2 - معنى الفقير والمسكين]: الفقير هو الذي يجد الشيء اليسير الذي لا يكفيه، والمسكين أحوج منه لأنه الذي لا يملك شيئًا (3) أصلًا خلافًا للشافعي (4) في قوله: إن المسكين هو الذي معه ما لا يكفيه وأن الفقير هو الذي لا شيء له أصلًا، وإنما قلنا: إن المسكين أحوج من الفقير لأن الاسمين مأخوذان من العُدم وانتفاء الأملاك إلا أن المسكنة عبارة عما زاد على ذلك وهو شدة الحاجة التي يكسب صاحبها الخضوع والاستكانة، فلذلك قلنا: إنه أحوج من الفقير ويوضح ذلك قوله عَزَّ وجَلَّ: {أو مسكينًا ذا متربة} (5) يريد أن الحاجة بلغت به إلى أن لصق بالتراب من غير حائل بينه وبينه، وما يذكرونه من قوله تعالى (6): {وأما السفينة فكانت لمساكين} (7) مقابل بما ورد من تسمية الواجد لليسير بأنه فقير وهو قول الشاعر (8): أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد (9)   (1) أي من ظاهر آية التصديق. (2) في (م): المليك. (3) انظر: التفريع: 1/ 297، الكافي ص 114. (4) انظر: الأم: 1/ 71، الإقناع ص 70. (5) سورة البلد، الآية: 16. (6) تعالى: سقطت من (ق). (7) سورة الكهف، الآية: 79. (8) في (ر): وهو قول الشافعي، وهو خطأ إذ البيت للراعي النميري، وهو في ديوانه ص 55. (9) السبد: يقولون: ما له سبد ولا لبد أي لا قليل ولا كثير (الصحاح: 2/ 483). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والظاهر وارد على سبيل الرحمة والتعطف، ومن متأخري أصحابنا من يقول: إن الفقير والمسكين اسمان لمعنى واحد (1)، ووجه ذلك أنهم (2) في ظاهر الاستعمال هكذا؛ لأن الناس لا يفرقون بين القول فقير ومسكين وما قلناه أولى وأصح، لأن الأصل في اختلاف الأسماء أنه لاختلاف المعاني. فصل [3 - العاملون عليها]: العاملون عليها جباتها وسعاتها يدفع إليهم الإمام من الصدقة أجرة معلومة بقدر عملهم. فصل [4 - المؤلفة قلوبهم]: المؤلفة قلوبهم كان في صدر الإسلام قوم ممن يظهر الإسلام يُدفع إليهم شيء من الصدقة لينكف غيرهم بانكفافهم، وقال قوم من أصحابنا: قوم مسلمون يرى أن يستألفهم ليقوى الإسلام في قلوبهم ويبالغوا في النصيحة للمسلمين (2) والأول أقوى وأوضح، وقد سقطت الحاجة إليهم بحمد الله في هذا الوقت، فإن دعت الحاجة إليهم في بعض الأوقات جاز أن يرد سهمهم (3). فصل [5 - الرقاب]: وقوله عَزَّ وجَلَّ: {وفي الرقاب} (4) في فك الرقاب (5)، وهو أن يشتري الإمام رقابًا من أموال الصدقات فيعتقهم عن المسلمين ويكون الولاء للمسلمين (6) خلافًا لقول من زعم أنهم المكاتبون (7)؛ لأن قوله: {وفي الرقاب} (8)   (1) انظر: التفريع: 1/ 297، الكافي ص 114. (2) انظر: التاج والإكليل - للمواق: 2/ 350. (3) انظر: المدونة: 1/ 254، التفريع: 1/ 298، الكافي ص 15. (4) سورة التوبة، الآية: 60. (5) الرقاب: العبيد. (6) انظر: المدونة: 1/ 257، التفريع: 1/ 298، الكافي ص 114. (7) وهو قول أصحاب أبي حنيفة (انظر الطحاوي ص 52)، وأصحاب الشافعي (انظر الإقناع ص 71). (8) سورة التوبة، الآية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 يقتضى رقبة كاملة، ولأن ما صرف فيه من أموال الزكاة يقتضي أن لا يكون للغني فيه نفع وإذا دفع (1) إلى مكاتب جاز أن يعجز ويرق وتبطل كتابته فيصير المال للسيد، ولأنه لا يخلوا أن يعطى المكاتب لنفسه، وذلك غير جائز لأنه عبد لسيده والغني لا يجوز دفع الصدقة إليه، ولأن الولاء يثبت (2) لسيد المكاتب ولا يحصل النفع للمسلمين. فصل [6 - الغارمون]: الغارمون هم الذين أدانوا (3) في غير سفه ولا فساد لا يجدون وفاء ولا قضاء أو يكون معهم أموال هي بإزاء ديونهم، فيعطون ما يقضون به ديونهم، فإن لم يكن لهم أموال، وكان عليهم ديون فهم فقراء وغارمون فيعطون بالوصفين. فصل [7 - في سبيل الله]: وفي سبيل الله الغزو والجهاد يدفع من الصدقة إلى المجاهدين ما ينفقونه في غزوهم أغنياء كانوا أو فقراء ويشتري الإمام من بعض الصدقة خيلًا وسلاحًا وينفره لمن يغزو، وحكي عن أحمد بن حنبل: أن في سبيل الله يعني الحاج (4)، ودليلنا: أن كل موضع ذكر فيه سبيل الله، فالمراد به الغزو والجهاد فكذلك ها هنا ولأن دفع الصدقات إلى الأصناف يكون على أحد وجهين: إما لحاجتنا إليهم كالعاملين والمؤلفة أو لحاجتهم إلينا كالفقراء والغارمين والوصفان معدومان في الحاج لأنا لا نحتاج إليه ولا هو محتاج إلينا والغازي نحن محتاجون إليه. فصل [8 - ابن السبيل]: ابن السبيل الغريب المنقطع به يدفع إليه من الصدقة بقدر كفايته، وإن كان غنيًّا ببلده ولا يلزمه رده إذا صار إلى بلده ولا إخراجه في وجوه الصدقة.   (1) في (م): وقع. (2) في (م): ثبت. (3) أدانوا: هو الرجل إذا استقرض. (4) انظر: مسائل الإمام أحمد ص 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فصل [9 - في نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر]: إذا وجد المستحقون للزكاة في البلد الذي فيه المال والمالك لم يجز نقلها إلى غيره إلا أنه إذا نقلها ودفعها إلى فقراء غير بلده مضى ذلك وأجزاه، وكذلك لو بلغ الإمام أن ببعض البلدان حاجة شديدة وقحطًا عظيمًا جاز له نقل شيء من الصدقة والمستحقة لغيره إليه (1) خلافًا للشافعي (2)، لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين} (3) فعم، ولأن المقصود من الصدقة سد الخلة (4) ودفع الحاجة عن هؤلاء الأصناف، وذلك لا يختص بموضع دون موضع، ولأنه لو حصل في البلد فقراء من غير أهله لجاز صرف الصدقة إليهم، فدل أن الاعتبار بوجود الفقراء وأهل الصفات دون مواضعهم، ولأنها صدقة صرفها الله إلى الجنس المستحق للزكاة كما لو فرقها في بلده. فصل [10 - صرف الزكاة إلى ذمي]: لا يجوز صرف زكاة الفطر ولا غيرها من الزكوات إلى ذمي (5) خلافًا لأبي حنيفة (6)، لقوله صلى الله عليه وسلم (7): "خذ الصدقة من أغنيائهم وردها في فقرائهم" (8)، وهذه الإضافة لا بد لها من اختصاص، وقد ثبت أنه لم يرد   (1) انظر: المدونة: 1/ 245، التفريع: 1/ 275، الكافي ص 115. (2) انظر: الإقناع ص 71. (3) سورة التوبة، الآية: 60. (4) الخلة -بفتح الخاء واللام-: الفقر والحاجة، والخلة -بفتح الخاء-: ما خلاء من النبت (المصباح المنير ص 181). (5) انظر: المدونة: 1/ 256، التفريع: 1/ 298. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 52، وفي مختصر القدوري: "لا يجوز أن يدفع الزكاة إلى ذمي" (1/ 155). (7) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (8) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 القبيلة ولا البلد فعلم أن المراد به الدين، واعتبارًا بسائر الزكوات وبالوثنيين، ولأنه ليس من أهل الطهرة كالمرتد. فصل [11 - من اجتهد ودفع الزكاة إلى غني]: إذا اجتهد فدفع الصدقة إلى غني وعنده أنه فقير فلا يجزيه (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، وبعض أصحابنا لقوله تعالى (3): {إنما الصدقات للفقراء} (3) الآية فأخبر عن محلها، فهذا صرفت لغيره كان الأمر باقيًا عليه، وقوله: "فأردها في فقرائهم" (4)، ولأنها لم تصل إلى الفقراء فأشبه أن يعلم، ولأن تكفين الميت وعمارة القناطر والجسور أولى وأحق من دفعها إلى غني، فإذا كان متى دفعها في هذه الأشياء لا تجزيه كان بأن لا يجزي ذلك في الغني أولى، واعتبارًا به إذا اجتهد ثم بان له أنه دفعها إلى زنديق أو مرتد، وهذا إذا أولِيَ تفريقه ابن بنفسه، فأما إن وَلِيَ ذلك الإمام فإنه يجزيه ولا شيء عليه ولا على الإمام. فصل [12 - من دفع الزكاة إلى من تلزمه نفقتهم]: لا يجوز دفعها إلى من يلزم رب المال نفقته لأنهم أغنياء بما يأخذونه، ويجوز دفعها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم، ويكره له دفع جميعها إليهم، فإن فعل جاز، ويستحب أن يولي تفريقها غيره ليسلم من الهوى والميل ومحبة المحمدة والشكر (5). ...   (1) انظر: التفريع: 1/ 298 - 299، الكافي ص 115 - 116. (2) تعالى: سقطت من (ق). (3) سورة التوبة، الآية: 60. (4) سبق تخريج الحديث. (5) انظر: المدونة: 1/ 156، التفريع: 1/ 298 - 299، الكافي ص 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 باب: أخذ الجزية من أهل الذِّمَّة (1) والجزية (2) واجبة على من نقره في بلادنا من الكفار وتعقد له الذِّمَّة علينا (3)، والأصل في وجوبها قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (4) ولأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشًا يقول لأمرائه: "أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن أجابوك فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا فادعهم إلى الجزية" (5). فصل [1 - ممن تؤخذ الجزية؟]: وتؤخذ من الرجال الأحرار البالغين ولا تؤخذ من النساء ولا الصبيان ولا العبد (6) لقوله عَزَّ وجَلَّ (7): {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله .. إلى قوله: حتى يعطوا الجزية} (8)، وذلك في الرجال الأحرار، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تجري الجزية إلا على من جرت عليه المواسي" (9)، وقوله (10).   (1) العنوان من (م). (2) الجزية: ما يؤخذ من أهل الذِّمَّة (المصباح المنير ص 100). (3) انظر: المدونة: 1/ 241 - 242، التفريع: 1/ 364، الرسالة ص 168. (4) سورة التوبة، الآية: 29. (5) أخرجه البخاري في أوائل الزكاة: 2/ 108، ومسلم في الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين: 1/ 50. (6) انظر: المدونة: 1/ 242، التفريع: 1/ 364، الرسالة ص 168. (7) عَزَّ وجَلَّ سقطت من (م). (8) سورة التوبة، الآية: 29. (9) موقوف على عمر، أخرجه البيهقي من طريق زيد بن أسلم عن أبيه (تلخيص الحبير: 2/ 123). (10) في (م): قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارًا" (1)، ولا خلاف أنها لا تجب على الصبيان فكذلك النساء (2)، لأن النساء والصبيان ممن (3) لا يجري عليهم السيف بدليل أنه لو ظهر عليهم بالمحاربة في الجهاد لم يقتلوا، وهذا هو المعنى الذي أوجب أخذ الجزية من الرجال وهو رفع السيف عنهم وإقرارهم في بلادنا، وكذلك العبيد هم آلة ونوع من الأموال كالخيل وغيرها. فصل (4) [2 - ما يؤخذ من تجار أهل الحرب والذِّمَّة (5)]: ولا يمنع أهل الذِّمَّة من التقلب في التجارات والتشاغل بالصنائع والتعرض للمكاسب لأنه لم نعقد لهم الذِّمَّة على أن نمنعهم من التكسب والتصرف في معاشهم التي يحيون ويؤدون الجزية من فضلها (6). فصل [3 - لا عشر على تجارات أهل الذِّمَّة]: وإذا اتجروا في البلد أقروا على المقام فيه لم تعرض لهم ولم نطالبهم بعشر ولا غيره، لأن عقد الذِّمَّة لهم يقتضي إباحة التصرف في موضع إقامتهم وما يكون في حكمه من البلدان (7). فصل [4 - إذا اتجر أهل الذِّمَّة إلى غير البلد الذي هم به]: وإن اتجروا إلى غير البلد الذي به من أقاليم الإسلام وآفاقه أخذ منهم العشر   (1) أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: في زكاة السائمة (2/ 234)، والنسائي في الزكاة، باب: زكاة البقر (5/ 17)، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة (1/ 576)، والترمذي في الزكاة، باب: ما جاء في زكاة البقر: 3/ 20، وقال: حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين (نصب الراية: 3/ 446). (2) انظر: الإجماع ص 71، المغني: 8/ 507. (3) في (ق): قال. (4) في (م): و (ر): باب. (5) العنوان من (م). (6) و (7) انظر: التفريع: 1/ 364، الرسالة ص 168، الكافي ص 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 بعد أن يحصل لهم غرضهم الذي أرادوه من بيع وشراء (1)، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى" (2)، ولأنه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ من القبط العشر (3)، ومضى عليه الأئمة بعده ولم يخالف عليه، ولأنه عقد الذِّمَّة لم يوجب لهم التقلب في بلادنا وأقاليمنا، فإذا تصرفوا فيها كان لهم حكم يزيد على تصرفهم في بلادهم. فصل [5 - الجزية على المجوس]: لا خلاف أن الجزية تؤخذ من اليهود والنصارى، فأما المجوس فإنها تؤخذ منهم (4) لأنهم (5) أجروا مجرى أهل الكتاب، والأصل فيه ما روي عبد الرحمن بن عوف (6): أنه صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (7)، وروي: "أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر" (8) وليسوا بأهل كتاب، خلافًا للشافعي (9) لقوله: "سنوا بهم سُنَّة أهل الكتاب"   (1) انظر: التفريع: 1/ 365، الرسالة ص 168، الكافي ص 218. (2) أخرجه البيهقي: 9/ 211. (3) أخرجه البيهقي: 9/ 210. (4) وهو أمر مجمع عليه أيضًا (انظر: الإجماع ص 71، بداية المجتهد: 1/ 376، فتح الباري: 6/ 97، نيل الأوطار: 8/ 57). (5) في (م): بأنهم. (6) عبد الرحمن بن عوف: بن عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري أحد العشرة، أسلم قديمًا ومناقبه شهيرة، مات سنة اثنين وثلاثين، وقيل غير ذلك (تقريب التهذيب ص 348). (7) أخرجه البزار في مسنده والدارقطني، وقال البزار: هذا حديث قد رواه جماعة عن جعفر عن أبيه لم يقولوا عن جده، وجده هو عليّ بن الحسين، وهو مرسل، وروي في الموطأ، قال ابن عبد البر: حديث منقطع (نصب الراية: 3/ 429). (8) أخرجه البخاري في الجزية، باب: الجزية والموادعة: 4/ 62. (9) فقد قال الشافعي: إنهم أهل الكتاب (انظر مختصر المزني ص 277). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 فدل أنه لا كتاب لهم ولأن الروم كانت إذا غلبت الفرس فرح هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه (1) لأنهم أهل كتاب، وإذا غلبت الفرس فرح المشركون من قريش لأنهم لا كتاب لهم، وقال حذيفة (2): لولا أن أصحابي أخذوا الجزية من المجوس لم أخذها منهم لأنهم ليسوا أهل كتاب. فصل [6 - الجزية على جميع الكفار]: وتؤخذ الجزية من جميع الكفار من أهل الكتاب والمجوس والصابئة (3) وعبدة الأوثان والثيران وغيرهم إلا المرتد والزنديق (4) خلافًا للشافعي (5) في قوله: أنها لا تؤخذ إلا (6) من أهل الكتاب والمجوس، لأنه كافر معلن بكفره لم يتحرم بحرمة الإسلام فأشبه الكتابي؛ والعرب والعجم وبنوا تغلب (7) وغيرهم في ذلك سواء (8)، خلافًا للشافعي (9) لقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} (10) الآية، ولأن الشرك قد شملهم فلا اعتبار بأنسابهم.   (1) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن، باب: من سورة الروم: 5/ 230، وقال: هذا حديث حسن غريب، وأخرجه أحمد: 1/ 304. (2) حذيفة: ابن اليمان العبسي، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، أبوه صحابي أيضًا، استشهد بأُحُد، ومات حذيفة في أول خلافة عليّ سنة ست وثلاثين (تقريب التهذيب ص 154، الشذرات: 1/ 32). (3) الصابئة: لقب يطلق على طائفة من الكفار يقال: إنها تعبد الكواكب في الباطن، وتنسب إلى النصرانية في الظاهر. (4) انظر: المدونة: 1/ 241، التفريع: 1/ 363، الرسالة ص 168. (5) انظر: مختصر المزني ص 277. (6) إلا: سقطت من (م). (7) بنو تغلب: نسبة إلى تغلب وهي قبيلة معروفة، وهي تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن قصي بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (الأنساب: 3/ 57). (8) انظر: المدونة: 1/ 241، الكافي ص 217 - 218. (9) انظر: مختصر المزني ص 278. (10) سورة التوبة، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فصل [7 - فيمن أسلم من أهل الذِّمَّة]: ومن أسلم من أهل الذِّمَّة قبل تمام الحول أو بعده أو بعد أحوال لم يؤخذ بما بقي عليه من جزية (1) خلافًا للشافعي (2)، لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (3)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الإسلام يجب ما قبله" (4)، ولأنه مأخوذ منه على وجه الصغار والإذلال بشرط الإقامة على الكفر، فإذا زال الكفر بالإسلام وجب زواله لأن إذلال المسلم وإصغاره غير جائز. فصل [8 - في قدر الجزية على أهل الذهب وأهل الورق]: وقدرها على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهمًا (5)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6)؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرضها على (7) هذا المقدار على أهل الذِّمَّة بحضرة الصحابة (8)، ولم ينكر عليه أحد، بل استجابوا له وصوبوا رأيه، وإن كان فيهم من يضعف عنه خفف عنهم منه (9) لأنه على الاجتهاد. فصل [9 - تؤخذ الجزية ممن حصل لهم غرض من تقلبهم في بلادنا]: وإنما قلنا: إنه لا يؤخذ منهم إلا بعد أن يحصل لهم الغرض الذي يريدونه لأن الآخذ إنما هو لانتفاعهم بالتقلب في بلادنا (10) والتجارة فيها، فإذا لم ينتفعوا   (1) انظر: المدونة: 1/ 242، التفريع: 1/ 363. (2) انظر: الإقناع ص 180. (3) سورة الأنفال، الآية: 38. (4) أخرجه أحمد: 4/ 199، والطبراني ورجالهما ثقات (مجمع الزوائد: 9/ 354). (5) انظر: المدونة: 1/ 240 - 241، التفريع: 1/ 363، الرسالة ص 168. (6) انظر: مختصر القدوري: 4/ 143، مختصر المزني ص 277. (7) على سقطت من (ق). (8) البيهقي: 9/ 195. (9) منه سقطت من (م). (10) في (م)، و (ر): بلاد المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 كان ما يؤخذ منهم للمشي والسعي فقط، ولأن المأخوذ هو منسوب إلى بيعهم لا إلى رؤوس أموالهم، وذلك يوجب ألا يؤخذ إلا بعد بيعهم. فصل [10 - إذا دخلوا مرارًا لبلادنا في السنة الواحدة]: وإذا اختلفوا مرار في السنة أخذ منهم العشر في كل مرة (1)، خلافًا للشافعي وغيره (2) في قولهم: إنه يؤخذ منهم مرة في السنة لأن الانتفاع حاصل لهم في المرة الثانية والثالثة كحصوله في الأولى، فوجب أن يؤخذ منهم مرة كل مرة انتفعوا بالسعي فيها, ولأن المعنى في أخذ العشر لتبسطهم في بلاد الإِسلام وانتفاعهم بالتجارات وحفظ الطرق لهم وحراسة أموالهم، وذلك محتاج إليه في كل مرة، فوجب أن يتكرر المأخوذ بتكرار اختلافهم ويفارق الجزية لأنها مقدرة بخفر الذِّمَّة (3) والإقامة في دارنا فلذلك يقدر وقت أخذها. فصل [11 - الجزية نصف العشر لما يحمل إلى الحرمين]: ويؤخذ منهم مما حملوا إلى الحرمين مما بالناس حاجة إليه من القوت وما يجرى مجراه نصف العشر (4) ليحصل لأهل الحرمين ارتفاق منهم وليكثر (5) الحمل إليهم إذا علموا أن المؤنة تخفف عنهم ويرغبوا في الحمل. فصل [12 - فيما يؤخذ من تجار دار الحرب]: ويؤخذ من تجار الحرب ما يوخذ من تجار أهل الذِّمَّة لا يزاد عليهم (6) لأنهم كفار أخذ لهم الأمان في تقلبهم بالتجارة في بلاد الإِسلام كأهل الذِّمَّة، وقيل:   (1) انظر: التفريع: 1/ 364، الرسالة ص 168، الكافي ص 218. (2) وقاله أيضًا الحنابلة (انظر مختصر المزني ص 277، المغني: 8/ 519). (3) في (م): لحقن الدم. (4) انظر: التفريع: 1/ 365، الرسالة ص 168، الكافي ص 218. (5) في (م): وليكثروا. (6) انظر: التفريع: 1/ 364، الرسالة ص 168، الكافي ص 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أن العشر غير مقدر وأن (1) التقدير للإمام، ووجهه أنه لا حاجة بنا إلى تصرفهم في بلادنا وليس لهم ذمة توجب إباحتهم ذلك، فوجب أن يكون الأمر فيه إلى الإِمام على ما يراه من المصلحة، والله أعلم. تم كتاب الزكاة (يتلوه كتاب الصيام) (2) ...   (1) في (م): لأن. (2) ما بين قوسين سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 كتاب الصيام (1) (قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب) (2): صوم شهر رمضان فريضة واجبة على الأعيان (3) لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإِسلام على خمس: فذكر صوم رمضان" (5)، وقوله للذي سأله عن الإِسلام: "وصوم رمضان" (6)، ولأنه إجماع (7). فصل [1 - العلم بدخول شهر رمضان]: وللعلم بدخوله ثلاثة طرق وهي: الرؤية، والشهادة، فإن لم يصل إلى واحد منهما فإكمال عدة شعبان (8). فأما الرؤية فالأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" (9)،   (1) الصيام لغة: الإمساك، وشرعًا: الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، وما يقوم مقامهما مخالفة للهوى في طاعة المولى في جميع أجزاء النهار بنية قبل الفجر أو معه إن أمكن فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد. (معجم مقاييس اللغة: 3/ 323، الشرح الصغير: 1/ 224). (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) انظر: المدونة: 1/ 174، التفريع: 1/ 301، الرسالة ص 159. (4) سورة البقرة، الآية: 185. (5) سبق تخريج الحديث. (6) سبق تخريج الحديث. (7) انظر المغني: 3/ 85، بداية المجتهد: 5/ 126. (8) انظر: المدونة: 1/ 174، التفريع: 1/ 301 - 302، الرسالة ص 159، الكافي ص 19 - 120. (9) أخرجه البخاري في الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وقوله: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه" (1)، ولأن الرؤية محققة مقطوع عليها وما عداها (2) مظنون، فإذا وجب الصوم بالمظنون كان بالمتحقق أولى. فصل [2 - الشهادة وإكمال العدة في ثبوت هلال رمضان]: الأصل في الشهادة ولزوم الصوم بها ورود الأخبار (3) وإجماع الأُمة عليه (4)، وإذا ثبت أنها طريق للعلم بدخول الشهر فأقل ما يجزيء منها شهادة رجلين مسلمين حرين عدلين، ولا يُقبل فيها النساء بانفرادهن (5)، ولا مع الرجال ولا العبيد ولا عدل واحد ولا اعتبار بكون السماء مصحية أو متغيمة ولا بالنقل الخاص أو (6) المستفيض. فإن لم يصل إلى الشهادة على الشرط الذي وصفناها أكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا، ثم صام ولا يلتفت إلى قول المنجمين: أهل الحساب والعدد (7). فصل [3 - وجه عدم قبول شهادة النساء في رؤية هلال رمضان]: وإنما قلنا: إنه لا يقبل فيها النساء على وجه لأنه حكم يثبت في البدن يطلع عليه الرجال غالبًا فلم يقبل فيه شهادة النساء كالطلاق والعتاق والقتل (8)   = الهلال ... " (2/ 229)، ومسلم في الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (2/ 759). (1) أخرجه البخاري ومسلم في نفس الأبواب والصفحات السابقة. (2) ما عداها: سقطت من (م). (3) سيأتي ذكر الأخبار التي وردت بالشهادة في رؤية هلال رمضان. (4) حكي الإجماع ابن رشد في بداية المجتهد: 5/ 132، المجموع: 6/ 307، 311، 313. (5) في (م): لانفرادهن. (6) أو سقطت من (م). (7) في جملة أحكام الشهادة انظر: المدونة: 1/ 174 - 175، التفريع: 1/ 301 - 302، الرسالة ص 159، الكافي ص 120. (8) والقتل: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 والحدود، ولأن شهادة النساء تقبل مع الرجال فيما طريقه المال أو المقصود منه المال وبانفرادهن فيما لا يطلع عليه الرجال غالبًا من عيوب النساء ومسألتنا خارجة عن هذين. فصل (1) [4 - من أدلة شروط قبول الشهادة على هلال رمضان]: وإنما قلنا: لا يقبل غير (2) الأحرار لأن شهادة غير العدول غير مقبولة، والحرية من شروط العدالة كالإسلام، وإنما لم نفرق بين أن تكون السماء مصحية أو متغيمة خلافًا لأبي حنيفة (3) في قوله: إن كانت مصحية لم تقبل فيه إلا شهادة العدد المستفيض خبرهم، وإن كانت متغيمة قبلت فيه شهادة واحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا" (4) ولم يفرق، ولأنه قد حصل بشهادة عدلين، فوجب قبولهما كما لو كانت متغيمة ولأنه معنى يثبت بالشهادة فلا يتعلق شرط الاستفاضة فيه بالصحو (5) والغيم كسائر الأشياء المشهود فيها. فصل [5 - شهادة الواحد على رؤية الهلال]: وإنما قلنا: لا تقبل شهادة الواحد خلافًا للشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم (6): "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا" (7)، فشرط العدد في   (1) الفصل: سقطت من (م). (2) في (م): إلا. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 56، مختصر القدوري: 1/ 163 - 164. (4) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: شهادة رجلين على رؤية هلال شوال: 2/ 752 والنسائي في الصيام، باب: قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان: 4/ 107، وأحمد: 4/ 321. (5) في (ق): الصحي. (6) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 الشهر (1) فثبت وجوبه، ولأنه حكم يثبت في البدن فلم يقبل في الشهادة عليه واحد أصله النكاح والطلاق ولأنها شهادة على رؤية الهلال كالفطر. وإنما قلنا: إن مع عدم الرؤية والشهادة يجب كمال العدد لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن حال دونه غمام فأتموا العدة ثلاثين" (2)، وقوله: "فإن غم عليكم فأقدروا له" (3)، ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه إلا بأن يثبت (4) دخول رمضان من طريق مثله وليس إلا الرؤية والشهادة. فصل [6 - قول أهل النجوم والعدد في هلال رمضان]: وإنما قلنا: إنه لا اعتبار بقول أهل النجوم والعدد لقوله: "من صدق كاهنًا أو منجمًا فقد كفر بما أنزل على محمَّد" (5)، ولأنهم يثبتون ذلك من طريق يخالفون في صحته ولا يسلم لهم ثبوته، ولأن صاحب الشرع قصر ذلك على الرؤية والشهادة وإكمال العدة فلم يجز إثبات زيادة عليه. فصل [7 - النية في الصيام]: النية شرط في صحة كل صوم من فرض ونفل وقضاء ونذر معين أو مستحق في الذِّمَّة (6) خلافًا لزفر في قوله: إن رمضان غير محتاج إلى نية (7)، لقوله   (1) في (م): الشهود. (2) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: من قال: فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين (2/ 745)، والنسائي في الصيام، باب: ذكر الاختلاف على عمرو بن دينار في حديث ابن عباس فيه (4/ 109)، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له (3/ 72)، وقال: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (453). (4) في (م): ثبت. (5) أخرجه الترمذي في باب: كراهية إتيان الحائض: 1/ 242 بلفظ: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا، فقد كفر بما أنزل على محمَّد"، قال أبو عيسى: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة. (6) انظر: المدونة: 1/ 183، 188، التفريع: 1/ 303، الرسالة ص 159. (7) اللباب في شرح مختصر القدوري: 1/ 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" (1) الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" (2) فعم، ولأنه صوم شرعي فأشبه سائر الصيام. فصل [8 - نية الصيام بعد الفجر]: ولا تجزيء النية بعد الفجر لشيء من أنواع الصيام (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) في إجازته ذلك فيما يتعلق بوقت معين كصوم رمضان والنذر المؤقت، وللشافعي (5) إجازته ذلك (6) في النفل دون الفرض، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" (7) فعم، ولأنه صوم شرعي فأشبه النذر والقضاء والنفل، ولأنها عبادة من شرطها النية، فوجب ألا يتأخر عن بعض زمانها أصله الصلاة والحج، ولأنها نية ابتدأت بعد مضي جزء من النهار أصله بعد الزوال، ولأن كل ما لا يكون الصائم صائم إلا بوجوده فلا يصح الصوم بعد مضي جزء من اليوم عريًا منه أصله الإمساك، ولأن النية أحد ركني الصيام فاختصت بإحدى جنسي الزمان أصله الإمساك, وعلى الشافعي خاصة أن النهار لو كان زمانًا تصح فيه نية لصيام النفل لصحت فيه نية الفرض   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (119). (2) أخرجه أبو داود في الصيام، باب: النية في الصيام: 2/ 823، والنسائي في الصيام، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة: 4/ 166، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في فرض الصوم من الليل (1/ 542)، والترمذي في الصوم، باب: لا صيام لمن لم يعزم من الليل: 3/ 108، وأخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين (نصب الراية: 2/ 423). (3) انظر: التفريع: 1/ 303، الرسالة ص 159. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 53، مختصر القدوري: 1/ 163. (5) انظر: الأم: 2/ 95، مختصر المزني ص 56. (6) ما بين قوسين سقط من (م). (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 اعتبارًا بالليل، ولأنها عبادة من شرطها النية، فلم يختلف فرضها ونفلها في وقت النية أصله الصلاة. فصل [9 - من نوى لجميع شهر رمضان]: إذا نوى لجميع شهر رمضان من أول ليلة أجزاه (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - (3): "إنما لامريء ما نوى" (4)، ولأنه نية لصوم في زمان يصلح جنسه لنية الصوم لا يتخلل النية والعمل المنوي زمان نهار فطر فأشبه إذا نوى اليوم الأول من ليلته وقت المغرب أو (5) العشاء الآخرة. فصل [10 - من رأى هلال رمضان وحده]: إذا ترآى الناس هلال رمضان فرآه رجل واحد لزمه صومه في نفسه لأنه لما لزمه بإخبار غيره عن رؤيته وهي مظنونه له كان بتيقنه أولى ولا خلاف في ذلك، وإذا ثبت هذا فإن كان ممن يسمع الإِمام قوله، فعليه أن يخبر الإِمام بذلك لأنه حق لله تعالى فيلزمه (6) أداؤه، ولعل غيره أن يكون قد رآه فتكمل الشهادة، وإن كان فاسقًا أو عبدًا أو امرأة أو غيرها لا تعرف عدالته فليس عليه أن يعلم الإِمام لأنه يضع من نفسه بغير فائدة بل يصوم لنفسه (7).   (1) انظر: التفريع: 1/ 303، الرسالة ص 159. (2) مختصر الطحاوي ص 53، مختصر المزني ص 56. (3) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (119). (5) في (ق): و. (6) في (م): فلزمه. (7) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 174 - 175، التفريع: 1/ 301، الكافي ص 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فصل [11 - إذا تعمد الإفطار في اليوم الذي رأى الهلال في ليلته وحده]: وإذا (1) تعمد الإفطار في اليوم الذي رأى الهلال في ليلته وحده فعليه القضاء والكفارة ولا اعتبار في ذلك بحكم الإِمام بوجوب صيام ذلك اليوم (2)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا كفارة عليه إذا لم يحكم الإِمام بصومه (3) لأنَّه هاتك لحرمة يوم عليه يقينًا من رمضان بالفطر فيه، فلزمته الكفارة أصله اليوم الثالث، ولأنه لزمته الكفارة بفطرة مع حكم الحاكم بوجوبه كان بأن يلزمه برؤية نفسه أولى، ولأنه حكم يلزمه بالفطر في رمضان، فلم يكن لحكم الإِمام اعتبارًا فيه أصله القضاء. فصل [12 - في يوم الشك]: وإذا لم ير الهلال في اليوم التاسع والعشرين من شعبان والسماء مصحية أو متغيمة، فإن الغد محكوم عليه بأنه من شعبان، فإن كان هناك غير كان يوم شك لإمكان أن يكون الغيم هو المانع من الرؤية (4)، والمستحب أن يصبح الإنسان ممسكًا عن الطعام لجواز أن يثبت أن اليوم من رمضان بشهادة فيسلم من أن يكون قد أكل في رمضان، وإن كان القضاء لازمًا له على هذه الصفة. ويكره أن ينوي صومه تطوعًا تعمدًا (5) عند بعض أصحابنا، ويجوز عند مالك (6) إذا لم يقصد به استقبال رمضان، وكذلك يجوز إذا وافق صومًا كان يصومه، ولا يجوز أن ينوي بصومه أنه من رمضان على طريق الاحتياط، فإن   (1) في (م): إن. (2) انظر: المدونة: 1/ 174، التفريع: 1/ 301. (3) انظر: اللباب في شرح مختصر القدوري: 1/ 163. (4) انظر: المدونة: 1/ 182، الرسالة ص 159، الكافي ص 120. (5) تعمدًا: سقطت من (م). (6) في (م): عبد الملك وهو كذلك عنده وكرهه ابن مسلمة (انظر شرح زروق على الرسالة: 1/ 294). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 كان منه فقد أداه، وإن لم يكن منه كان تطوعًا، فإن (1) صامه على ذلك، فلا يجزؤه متى ثبت أنه من رمضان وعليه قضاؤه (2). فصل [13 - في صحة صوم يوم الشك تطوعًا]: وإنما قلنا: إن صومه يصح تطوعًا (3) خلافًا لمن قال: إنه لا يصح على وجه (4) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتقدمن أحدكم صوم رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يكون صوم كان (5) يصومه فليصم ذلك اليوم" (6) فعم، ولأنه يوم من شعبان فأشبه ما قبله. فصل [14 - وجه من أجاز صوم يوم الشك ومن كرهه]: وإنما أجزنا أن يصام تطوعًا للخبر الذي رويناه، والقياس، ولأنه من شعبان فصح صومه أصله إذا وافق صومًا كان يصومه، ولسان كل يوم لم يكره أن يتطوع لصومه على وجه لم يكره أن يتطوع به على وجه الابتداء، أصله سائر الأيام، ووجه الكراهة (7) وهو قول محمَّد بن مسلمة والشافعي (8): "أنه صلى الله   (1) في (م): فإنه إن. (2) انظر: المدونة: 1/ 182، التفريع: 1/ 304، الرسالة ص 159، الكافي ص 120. (3) انظر: المدونة: 1/ 182، التفريع: 1/ 304، الرسالة ص 160، الكافي ص 120. (4) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 343. (5) كان: سقطت من (ق). (6) أخرجه البخاري في الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم أو بيومين: 2/ 230، ومسلم في الصيام، باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين: 2/ 762. (7) في (م): الكراهية. (8) انظر: مختصر المزني ص 56، الإقناع ص 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 عليه وسلم نهى عن صيام يوم الشك" (1) فعم، ولأن عمارًا (2) امتنع أن يصومه (3)، وقال: "من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" (4). فصل [15 - النهي على أن يصام إن كان من رمضان وإن لم يكن متطوعًا]: وإنما منعنا (5) أن يصام على أنه إن كان من رمضان كان إذا، فإن لم يكن منه كان تطوعًا خلافًا لأبي حنيفة (6)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (7)، ولأنه لو شك في طلوع الفجر فصلى ركعتين ينوي بهما صلاة الصبح إن كان الفجر قد طلع والتطوع إن لم يكن طلع ثم يثبت أنه صلاهما بعد الفجر لم يجزؤه ذلك، فكذلك صوم يوم الشك. فصل [16 - إذا ثبت الشهادة بدخول رمضان يوم الشك]: وإذا ثبت الشهادة في يوم الشك برؤية الهلال عشية الأمس، فقد ثبت كون ذلك اليوم من رمضان فلا يخلوا الناس من أربعة أحوال (8):   (1) أخرجه ابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في صيام يوم الشك: 1/ 527، وفي الزوائد وإسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف عبد الله بن سعد المقبري. (2) عمار بن ياسر: بن عامر بن مالك العنبسي أبو اليقظان مولى بني مخزوم، صحابي جليل، مشهور من السابقين الأولين بدري، قتل مع عليّ بصفين سنة سبع وثلاثين (تقريب التهذيب ص 408). (3) أن يصومه: سقطت من (ق). (4) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: كراهية صوم يوم الشك: 2/ 749، والنسائي في الصيام، باب: صيام يوم الشك: 4/ 126، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في صيام يوم الشك: 1/ 527، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في كراهية صوم يوم الشك: 3/ 70، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (5) في (م): امتناع. (6) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 343. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (453). (8) انظر: المدونة: 1/ 183 - 184، التفريع: 1/ 302، الرسالة ص 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 إما أن يكون منهم من أكل ومن لم يكل ولم ينو صومًا، أو من لم يأكل وقد نوى التطوع أو غيره من الصيام سوى رمضان، أو من لم يأكل ونوى بصومه الاحتياط فكلهم لا يجزؤه وعليهم قضاؤه. فأما من كان منهم أكل فلأنه لم يمسك ولم ينو فلا يجزؤه، وعليه أن يكف بقية يومه عن الأكل لأنه لو علم أن اليوم من رمضان لم يكن له أن يأكل، وكل من هذه سبيله فعليه أن يكف إذا عرفه (1). وأما من لم يأكل ولم ينو فعليه إمساك اليوم لما ذكرناه، وعليه قضاء ذلك اليوم خلافًا لعبد الملك بن الماجشون وأحمد بن المعذل في قولهما: أنه يجزؤه صومه ولا قضاء عليه، وإنما قلنا ذلك لأنه لم ينو من الليل ولأنه (2) لم يعلم به فيعتقد الصوم ولا يصح الصوم بغير نية من الليل ولا تكفيه نية الإِسلام دون تعيينها وقصد الزمان بها, ولأنه لم ينو هذا الصوم من ليلته فأشبه إذا نواه تطوعًا. وأما من نوى تطوعًا فلا يجزؤه أيضًا لأمرين: أحدهما أن نية رمضان به لم تحصل، والآخر (3) أن رمضان عينه مستحقة لنفسه ولا يصام عن غيره على وجه. وأما من صامه على الشك والاحتياط فقد ذكرناه. فصل [17 - الشهادة في آخر يوم من رمضان]: وإن ثبتت الشهادة في آخر يوم من رمضان أنهم أهلوا الهلال عشية أمسه، فإن الناس يفطرون لوقتهم (4) لأنه ثبت أن اليوم يوم الفطر وصومه غير جائز فهو كالليل وكأوقات الحيض.   (1) في (ق): عذره. (2) لأنه: سقطت من (م). (3) في (ق): الأخرى. (4) انظر: التفريع: 1/ 302، الكافي ص 119 - 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 فصل [18 - هل تصلي صلاة العيد إذا رؤى الهلال في يومه؟]: فأما صلاة العيد فينظر، فإن كان قبل الزوال صليت وإن كان بعده لم تصل لا في بقية اليوم ولا من الغد (1)، وإنما قلنا: إنها تصلي إذا كان قبل الزوال لأن وقتها باق لأنَّه ما بين ضحوة إلى الزوال، وإنما قلنا: أنه إذا كان بعد الزوال لم يصلوا للإجماع على ذلك (2)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها ولا أحد من الأئمة بعده بعد الزوال، وإن قلنا: لا تصلي من الغد (3) خلافًا للشافعي وأحمد (4) لأنه غير يوم عيد (5)، فلم يقض فيه صلاة العيد كالثالث والرابع، ولأنها صلاة مسنونة، فخروج وقتها مسقط لها كالوتر والكسوف، ولأنها لما لم تصل بعد الزوال، وهو إلى وقتها أقرب كانت بأن لا تصلي من الغد أولى لأنَّه من وقتها أبعد. فصل [19 - إذا رؤي الهلال آخر يوم من شعبان أو من رمضان نهارًا]: وإذا رؤى الهلال آخر يوم من شعبان أو من رمضان فهو لغده دون يومه سواء كان قبل الزوال أو بعده، فإن كأنه هلال رمضان لم يكف الناس عن الأكل (6)، لأن اليوم من شعبان، وإن كان هلال شوال مضوا على صومهم؛ لأن اليوم من رمضان، وفرق أبو يوسف بين أن يرى قبل الزوال أو بعده، فجعل رؤيته قبل الزوال لليوم وبعده للغد (7)، ورأيت نحوه لابن حبيب (8)، ودليلنا قول عمر   (1) انظر: التفريع: 1/ 302، الكافي ص 119 - 120. (2) انظر: المغني: 2/ 391 - 392، فتح الباري: 2/ 366، نيل الأوطار: 3/ 293. (3) انظر: التفريع: 1/ 302، الكافي ص 78. (4) انظر: مختصر المزني ص 58، مسائل الإِمام أحمد ص 178. (5) في (م): العيد. (6) انظر: التفريع: 1/ 301، الكافي ص 120. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 56. (8) ذكره الحطاب في مواهبه نقلًا عن مختصر الواضحة: 2/ 392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 رضي الله عنه: "إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تصوموا ولا تفطروا إلا أن يشهد رجلان أنهما أهلاه بالأمس" (1)، ولأن رؤيته يوم الثلاثين لا يوجب أن يكون ليومه أصله إذا رئي بعد الزوال. ...   (1) أخرجه ابن أبي شيبة: 1/ 127، وعبد الرزاق: 4/ 163، البيهقي: 4/ 313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 باب: الصوم الشرعي الصوم الشرعي: هو إمساك جميع النهار بنية قبل الفجر أو معه فيما عدى زمان الحيض والنفاس والإغماء والجنون، والأيام التي يصلي فيها صلاة العيد (1). فصل [1 - أدلة الصوم الشرعي]: وإنما قلنا: إنه إمساك جميع أجزاء (2) النهار لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ... } إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (3)، فألزمنا الإمساك مع طلوع الفجر ثم أمرنا (4) بإتمامه إلى الليل. وإنما قلنا بنية لما قدمناه من الدلالة على أن النية شرط في جميع الصيام فوجب أن تكون قبل أن يستحق الوقت للصيام أو مع أوله ليكون الشروع في ذلك مقارنًا لها أو متقدمًا عليها, ولا يجوز تأخيرها عن الفجر. وإنما شرطنا أن يكون فيما على زمان الحيض والنفاس للاتفاق على أن الحيض والنفاس يمنعان أداء الصوم، وقد مضى ذلك في كتاب الحيض (5). وإنما شرطنا أن يكون في حال لا يقارنها إغماء ولا جنون لأنهما يؤثران في منع الأداء على ما سنذكره (6)، وإنما شرطنا أن يكون في أيام لا يصلي فيها العيد احترازًا من أيام العيد لأنّ صومها لا يصح بمثابة الليل.   (1) انظر: المدونة: 1/ 191 - 193، التفريع: 1/ 305 - 306، الرسالة ص 159 - 161. (2) أجزاء: سقطت من (ق)، و (م). (3) سورة البقرة، الآية: 187. (4) في (م): أمر. (5) تقدم. (6) في (ق): ما نذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 فصل [2 - في جواز صيام أيام التشريق للمتمتع]: ويجوز للمتمتع صوم أيام التشريق (1) خلافًا لأبي حنيقة والشافعي (2) لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (3) فعم، وروى ابن عمر: "أنه صلى الله عليه وسلم رخص للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم أيام العشر أن يصوم أيام التشريق" (4) وهذا كالنص، ولأن كل يوم لا يصلي فيه صلاة العيد، فإن صومه يصح أصله سائر الأيام. فصل [3 - صيام أيام التشريق تطوعًا]: ويكره التطوع بصيامها لقوله صلى الله عليه وسلم (5): "إنها أيام أكل وشرب وبعال" (6)، فأجراها مجرى يوم العيد ولا يجوز اعتبار ذلك بالمتمتع لأن الضرورة لا تعتبر بالاختبار. فصل [4 - فيما يجب الإمساك عنه]: والذي يجب الإمساك عنه ويحكم بالفطر متى انخرم شيء منه هو الأكل والشرب وإيصال شيء يتطعم إلى الخلق من أي المنافذ كان: من مدخل الطعام والشراب أو العين أو الأذن أو الأنف أو ما ينحدر من الدماغ بعد وصوله من بعض هذه المنافذ، فمتى وصل شيء من ذلك إلى حلقه، فإنه يفطر مثل أن بالغ   (1) انظر: المدونة: 1/ 187، التفريع: 1/ 304، الكافي ص 127. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 66، الأم: 2/ 189 - 190. (3) سورة البقرة، الآية: 196. (4) أخرجه الدارقطني (2/ 186) من طريق يحيى بن سلام، وقال: ليس بالقوي، وأصله في صحيح البخاري من حديث عروة عن عائشة، ومن حديث سالم عن أبيه، وهذا في حكم المرفوع (تلخيص الحبير: 2/ 196). (5) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (6) بعال: يقال: باعل الرجل امرأته بعالًا إذا لاعبها (المصباح المنير ص 56). أخرجه مسلم في الصيام، باب: تحريم صوم أيام التشريق: 2/ 800. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 في الاستنشاق فيصل الماء إلى حلقه أو يستسعط (1) بدهن أو يصبه في صماخه أو يكتحل بكحل حاد فيجد طعم ذلك في حلقه. واختلف فيمن بلغ ما لا يغذى (2) ولا يماع في الجوف كالحصى والدرهم وما أشبهه، فقيل: أنه بمثابة الطعام والشراب في وقوع الفطر به، وقيل: لا يقع الفطر به (3). واختلف في الحقنة والصحيح أنها لا تفطر (4) ولا يفطر ما لا يمكن الاحتراز منه كغبار الدقيق والتراب، وما بين الأسنان الذي يترك مع الريق (5) وما أشبه ذلك. ومما يلزم الإمساك عنه الإيلاج في قبل أو دبر، فمتى حصل وقع الفطر من غير مراعاة الإنزال، وكذلك إنزال الماء الدافق كان بوطء دون الفرج أو عن قبلة أو جسة أو عبث بيد أو مداومة نظر أو فكرة أو تذكر وما أشبه ذلك من الأسباب الداعية له. ولا يفطر باحتلام ولا بما يرهقه ابتداء من الإنزال من غير سبب استدعى به (6) إن أمكن وجود ذلك، ومما يفسد الصوم الحيض والنفاس والردة وترك النية من الليل والإغماء والجنون قبل طلوع الفجر إذا داما به إلى بعد طلوعه، وكذلك السكر فهذا جمهور ما في هذا الباب (7).   (1) في (م) يتسعط، والسعوط: فيما يصب في الأنف (المصباح المنير ص 277). (2) في (م): يتغذى. (3) انظر: التفريع: 1/ 308، الكافي ص 126 - 127. (4) انظر: التفريع: 1/ 308، الكافي ص 126، والمراد بالحقنة: حقنة الشرج. (5) في (م): الأكل. (6) في (م): استدعاه. (7) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 184 - 186، التفريع: 1/ 305 - 309، الرسالة ص 160 - 162، الكافي ص 126 - 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فصل [5 - أدلة الإمساك عن الأكل والشرب]: وإنما قلنا: إن الإمساك يجب بجميع النهار (1) عن الأكل والشرب لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ... } إلى قوله: {إِلَى اللَّيْلِ} (2) فأمرنا بالإمساك عن ذلك عند طلوع الفجر إلى دخوله الليل، ولقوله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء: "من أكل فليمسك" (3) والإجماع على ذلك (4)، وإنما قلنا: إن وصول الطعام إلى الحلق من أي المنافذ كان يفطر لاتفاقهم على أن وصوله من مدخل الطعام أو الشراب يفطر، والعِلَّة فيه وصول طعمه إلى الحلق، فكانت سائر المنافذ بمنزلته والاتفاق على منع الصائم من ذلك، ولو كان الفطر لا يقع به لم يكن للمنع منه معنى، وكذلك الإفطار بما لا يغذى ولا يماع كالحصى (5) وغيره من الجامدات ولا معنى لمن منع ذلك من أصحابنا (6) لقوله (7): أنه لو كان ذلك يفطر لكان في عمده الكفارة لأنّا كذلك نقول. فصل [6 - الدليل على أن الإيلاج يفسد الصوم]: وإنما قلنا: إن الإيلاج يفسد الصوم للإجماع على ذلك (8)، ولأمره صلى الله عليه وسلم السائل عمن وقع على أهله في نهار رمضان بالقضاء والكفارة من غير استفصال هل أنزل أو لم ينزل (9).   (1) بجميع النهار: سقطت من (ق) و (ر). (2) سورة البقرة، الآية: 187. (3) أخرجه البخاري في الصيام، باب: صيام يوم عاشوراء: 2/ 251. (4) انظر: المجموع: 3/ 47، المغني: 3/ 102. (5) في (م): كالحصاة. (6) فقد قال المتأخرون من المالكيين: أن القضاء في مزدرد الحصاة عامدًا (انظر الكافي ص 126 - 127). (7) في (م): بقوله. (8) انظر: المجموع: 6/ 347، المغني: 3/ 120. (9) أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء يتصدق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 فصل [8 - فيما زاد على التقاء الختانين ومغيب الحشفة]: وإنما لم نراع ما زاد على التقاء الختانين ومغيب الحشفة لأن ذلك غير مراعى في سائر الأحكام المتعلقة بالإيلاج من الغسل والحد والحصانة وكمال المهر والإحلال، فكذلك في وقوع الفطر به. وإنما قلنا: إن الإنزال عن أسباب اللذة مؤثر في إفساد الصوم للاتفاق على أن الإنزال في الجملة له تأثير في إفساد الصوم وأن وقوعه لا عن سبب من الصائم يستدعيه به لا يفسده كالاحتلام، فلم يبق إلا أن يكون مستدعى (1) بوجه من وجوه اللذة. فصل [9 - دليل أن الاحتلام لا يفسد الصوم]: وإنما قلنا في الاحتلام: إنه لا يفسد الصيام لما روي: "ثلاث لا يفطرن الصائم فذكر الاحتلام" (2)، والإجماع على أن المراعي في ذلك سبب يكون من الفطر، وأما الحيض والنفاس فقد ذكرناه في باب الحيض. فصل [10 - الدليل على أن الردة تفسد الصوم]: وأما الردة فلقوله عَزَّ وجَلَّ: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (3) فعم، ولأن من شرط الصوم التقرب بفعله والردة تنافي ذلك. فصل [11 - الدليل على أن الإغماء والجنون يمنعان صحة الصوم]: وإنما قلنا: إن الإغماء والجنون يمنع صحة الصوم لقوله صلى الله عليه وسلم:   = عليه فليكفر: 2/ 236، ومسلم في الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ... (2/ 781 - 782). (1) في (م): مستدعيًا. (2) أخرجه الترمذي في الصوم، باب: الصائم يخرعه القيء: 3/ 97، وقال: حديث غير محفوظ، وأخرجه ابن حبان في كتاب الضعفاء، وأخرجه البزار في مسنده من طريق آخر، وقال وهذا من أحسنها إسنادًا (نصب الراية: 2/ 46 - 447). (3) سورة الزمر، الآية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 "رفع القلم عن ثلاثة فذكر: المجنون" (1)، ورفع القلم عبارة عن نفي تعلق الأحكام بفعله، ولأنه معنى ينافي التكليف لا يغلب وقوعه، فخرج من وجد به عن أن يكون من أهل النية. فصل [12 - قضاء المجنون والمغمى عليه ما فاتهما من شهر رمضان]: وإذا أفاق المجنون والمغمى (2) بعد مضي الشهر قضى ما فاته (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) والشافعي، وسواء بلغ مطبقًا أو عرض له ذلك بعد بلوغه، ولأنه مسلم عرض له ما منع انعقاد صومه فلزمه قضاؤه عند زواله كالحيض. ...   (1) سبق تخريج الحديث. (2) والمغمى: يقطت من (ق). (3) انظر: المدونة: 1/ 185، التفريع: 1/ 309، الرسالة ص 162. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 55، مختصر القدوري: 1/ 172، وفيه: إذا أفاق في بعض رمضان قضى ما مضى منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 باب: فيمن أكل أو شرب أو خرم الإمساك ناسيًا وهو صائم (1) ومن أكل أو شرب أو خرم الإمساك المأمور به سهوًا، فقد أفسد صومه وعليه القضاء في الفرض (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3) لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (4) وهذا غير متمم، ولأنه مكلف حصل آكلًا في نهار رمضان كالعامد، ولأن السهو نوع من الأعذار (5)، فلم يمنع إفساد الصوم بوقوع ما منع منه في عمده (6) أصله المرض، ولأن الإمساك أحد ركني الصوم فكان تركه سهوًا في إفساده كتركه عمدًا أصله النية. فصل [1 - تعجيل الإفطار وتأخير السحور]: ويستحب تعجيل الإفطار وتأخير السحور (7) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" (8)، وروي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يتسحر ثم يقول إلى صلاة الغداة، قال أنس (9): كان بين ذلك قدر   (1) عنوان الفصل في (م). (2) انظر: المدونة: 1/ 185، التفريع: 1/ 305، الرسالة ص 161، الكافي ص 125. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 54، الإقناع ص 75. (4) سورة البقرة، الآية: 187. (5) في (ق): ولأن الشهر نوع من الأعداد. (6) في (ق): في غيره. (7) انظر: الموطأ: 1/ 288 - 289، الرسالة ص 160. (8) أخرجه البخاري في الصوم، باب: تعجيل الإفطار: 2/ 241، ومسلم في الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه: 2/ 771. (9) أنس: بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرمي، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدمه عشر سنين، مشهور، مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (تقريب التهذيب ص 115). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 خمسين آية (1)، وفي بعض الحديث أن من عمل النبوة تعجيل الإفطار وتأخير السحور (2). فصل [2 - فيمن أفطر قبل الغروب أو تسحر بعد طلوع الفجر]: ومن غلب ظنه غروب الشمس فأفطر أو بقاء الليل فتسحر ثم بان له أنه أكل نهارًا فليس بصائم وعليه القضاء في الفرض خلاف النذر المعين (3) خلافًا لداود (4) لقوله تعالى (5): {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ... (6) .. إلى قوله: إِلَى اللَّيْلِ} (7)، وهذا لم يتممه، ولأنه أكل في نهار رمضان مع التكليف كالعامد، ولأن خطأ الوقت في الصوم مثله في الصلاة، ولو صلى المغرب وعنده أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لزمه القضاء، وكذلك إذا أفطر وعنده أنها قد غربت وبان له أنها لم تغرب. فصل [3 - من ذرعه القيئ وهو صائم]: ومن ذرعه القيئ لم يفسد صومه ولا قضاء عليه (8) لقوله صلى الله عليه   (1) أخرجه البخاري في الصوم، باب: قدر كم بين السحور وصلاة الفجر: 2/ 32، ومسلم في الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه: 2/ 771. (2) أخرجه الطيالسي والطبراني في الكبير بسند: رجاله رجال الصحيح بلفظ: "إنا معشر الأنبياء أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا .. " (انظر: مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة ص 107). (3) انظر: المدونة: 1/ 172، الرسالة ص 161. (4) انظر: المحلي: 6/ 329، المجموع: 6/ 348. (5) تعالى: سقطت من (ق). (6) من الفجر: سقطت من (ق). (7) سورة البقرة، الآية: 187. (8) انظر: المدونة: 1/ 179، التفريع 10/ 307، الرسالة ص 160، الكافي ص 127). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وسلم: "من ذرعه (1) القيء فلا قضاء عليه" (2)، وقوله: "ثلاث لا يفطرن الصائم: فذكر القيئ" (3)، ولأنه خارج من البدن من غير مخرج الحيض، فإذا كان بغير صنع من الصائم ولا استدعاء لم يفسد الصوم أصله الاحتلام. فصل [4 - فيمن استقى عامدًا]: وإن استقى فمن أصحابنا من يقول: إن القضاء واجب، ومنهم من قول: مستحب (4)، موجه الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن استقى فعليه القضاء" (5)، ولأن الغالب منه عود شيء مما يخرج من حلقه إلى جوفه، وذلك مفطر له للغالب على اليقين، ووجه نفيه فلأنه خارج من الفم كالبصاق ولأنه لما افترق الحكم بين غلبته وعمده دل على أنه لا يقع به الفطر، وهذا يدخل عليه الإنزال لأن الحكم يفترق بين غلبته بالاحتلام وبين عمده والقول في الكفارة مبني على هذا الاختلاف. فصل [5 - الحجامة في الصوم]: الحجامة (6) لا تفطر (7) خلافًا لأحمد (8)، "لأنه صلى الله عليه وسلم   (1) من ذرعه القيئ: أي سبقه وغلبه في الخروج (المطلع ص 148). (2) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: الصائم يستقيء عمدًا: 2/ 310، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء فيمن استقاء عمدًا: 3/ 98، وقال عنه: حديث حسن غريب. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) انظر: المدونة: 1/ 179، التفريع: 1/ 307، الرسالة ص 160، الكافي ص 126. (5) هو جزء من حديث: "من ذرعه القيئ .. " الذي سبق قريبًا. (6) الحِجامة: هي مص الدم بالمحجم. (7) انظر: الموطأ: 1/ 299، التفريع: 1/ 307. (8) انظر: مسائل الإِمام أحمد ص 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 احتجم وهو صائم" (1)، وقال: "ثلاث لا يفطرن فذكر الحجامة" (2)، ولأنها في معنى الجراحة كالفصاد (3). فصل [6 -]: إذا ثبت أنها لا تفطر فإنها مكروهة لأن الغالب منها لحوق الضعف، فربما أدى إلى الفطر، وقد روي هذا المعنى عن عليّ وابن عباس (4)، وجماعة من الصحابة. فصل [7 - السواك للصائم]: السواك جائز للصائم في الجملة (5) لقوله صلى الله عليه وسلم (6): "خير خصال الصائم السواك" (7)، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله ويداوم عليه (8)، وأول النهار وآخره سواء في إباحته خلافًا للشافعي في كراهيته له آخر النهار (9)؛ لأن كل معنى لم يكره أول النهار لم يكره آخره كالمضمضة، ولأن أول النهار مساو لآخره في شروط الصحة، فكذلك في الندب والإباحة.   (1) أخرجه البخاري في الصوم، باب: الحجامة والقيئ للصائم: 2/ 237. (2) سبق تخريج الحديث. (3) الفصاد: قطع العرق (الصحاح: 2/ 519). (4) انظر: مصنف ابن أبي شيبة: 1/ 125، شرح معاني الآثار- للطحاوي: 2/ 100. (5) انظر: المدونة: 1/ 180، التفريع: 1/ 308. (6) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (7) أخرجه ابن ماجه في الصيام في باب السواك والكحل للصائم: 1/ 536، وفي إسناده حجالة وهو ضعيف، لكن له شاهد من حديث عامر بن ربيعة في البخاري وأبو داود والترمذي. (8) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: السواك للصائم: 2/ 768، والترمذي في الصوم، باب: ما جاء في السواك للصائم: 3/ 104، وقال: حديث حسن. (9) انظر: مختصر المزني ص 59، الإقناع ص 790. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 فصل [8 - الأسباب التي يفطر بها الصائم]: الأسباب التي يفطر بها الصائم ضربان: منها ما هو من فعله، ومنها ما ليس من فعله. فالذي ليس من فعله لا كفارة فيه أصلًا، وذلك الحيض والنفاس والإغماء والجنون والإكراه مثل أن يمسك ويوجر (1) الماء أو تمسك المرأة وتجامع كرهًا وما أشبه ذلك، ولسنا نريد بقولنا: إنه يفطر الصائم أنه طرأ على صوم صحيح فيفسده، وإنما نريد لا يصح الصوم معها بأن تقارن ابتداؤه تارة فتمنع انعقاده وتطرأ عليه بعد انعقاده فتمنع (2) استدامته، فكل هذا لا كفارة فيه إلا في المجامعة مكرهة، فإن الكفارة على مكرهها دونها (3). والذي هو من فعله نوعان: نوع يعذر به، ونوع لا يعذر به لا كفارة فيه (4) أصلًا، وذلك كالأكل والجِماع سهوًا أو لسفر أو لمرض أو لإكراه أو ضرورة عطش (5) أو لجوع يخاف معه (6) التلف أو حدوث مرض أو خطأ الوقت أو بضرب من التأويل يعذر فيه بجهل كمسافر مقدارًا لا تقصر الصلاة في مثله أو قادم قبل طلوع الفجر ظانًّا أن من لم يقدم من أول الليل فلا صوم له أو ما أشبه ذلك سوى متعجل الفطر من أجل عذر يتوقعه من مرض أو حيض أو سفر فعليه الكفارة، وخالف عبد الملك في المفطر عازمًا على السفر فقال: إن مضى لسفره فلا كفارة عليه وإن قعد فعليه الكفارة (7).   (1) يوجر: أي يصب في حلقه (المصباح المنير ص 648). (2) في (م): يمنع. (3) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 175، 186، التفريع: 1/ 304 - 308، الرسالة ص 160 - 162. (4) في (ر): لا كفارة له. (5) في (م): السفر أو المرض أو الإكراه أو لضرورة عطش. (6) في (م): منه. (7) انظر: التفريع: 1/ 304، الكافي ص 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ومن الأعذار الذي لا كفارة معها: الفطر لخوف على حمل أو ولد أو لإفناء وهرم، والذي نريده (1) بالكفارة في هذا الموضع هو الكفارة العظمى، فهؤلاء لا كفارة عليهم، وإنما قلنا ذلك لأن الكفارة متعلقة بالهتك وانتفاء العذر، وذلك يتضمن كونه من فعلتهم ومنعهم من إيقاعه، فكل هذا معلوم في النوعين معًا. فصل [9 - الفعل الذي لا يعذر معه الصائم في فطره]: والنوع الذي لا يعذر معه ينقسم قسمين: منه ما يقصد به هتك حرمة الصوم، ومنه ما يقصد به هتك شيء يجر إلى هتك حرمة الصوم، وهذا كالردة التي ليس الصوم مقصود بها، وإنما يقصد هتك حرمة الإِسلام فيجر إلى الصوم فلا كفارة فيه. والقسم الآخر ما يقصد به هتك حرمة الصوم نفسه بالإفساد، فهذا النوع تلزم (2) به الكفارة من غير اعتبار بما به يقع الفطر من جماع أو أكل أو شرب أو ترك نية عمدًا أو تعمد إنزال عن فعل منهي عنه من استمناء أو وطء دون الفرج أو قبلة أو لمس لشهوة أو استدامة نظر أو غير ذلك إذا قارن جميع ما ذكرناه الإنزال، وإن شئت فصلت بين هذا القسم وبين الردة: بأن كل فعل يفسد الصوم ويُوجب القضاء تتعلق به الكفارة وكل ما لا يوجب القضاء لا تتعلق به الكفارة وهو الردة (3). فصل [10 - الدليل على أن المجامع عامدًا عليه الكفارة]: وإنما قلنا إن المجامع عمدًا في الفرج عليه الكفارة للحديث المروي في ذلك (4)، وإنما قلنا: إنه لا اعتبار بما به يقع الفطر إذا وجد الهتك خلافًا للشافعي   (1) في (ق): يزيله. (2) في (م): يلزم. (3) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 175 - 178، التفريع: 1/ 305، الرسالة ص 161، الكافي ص 124 - 125. (4) سبق ذكر الحديث في الصفحة (468). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 في قصره ذلك على الجماع في الفرج (1) لما روي: أن رجلًا أفطر رمضان، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يكفر ولم يستفصل (2)، واعتبارًا بالجِماع بعلة وجوب الهتك بما يوجب القضاء. فصل [11 - الكفارة على المرتد]: وإنما قلنا: لا كفارة على المرتد؛ لأن الكفارة متضمنة بالقضاء، فإذا لم يجب القضاء لم تجب الكفارة، ولأنه لا يخلو أن يقيم على ردته أو يعود إلى الإِسلام: فإن أقام على الردة فالكافر لا يخاطب بفروع الشريعة (3) مع الإقامة على كفره، وإن عاد إلى الإِسلام سقط عنه كل ما كان قبل توبته اعتبارًا بالكافر الأصلي. فصل [12 - أنواع الكفارة]: والكفارة ثلاثة أنواع (4): إعتاق (5)، وصيام، وإطعام. والإعتاق (6): هو تحرير رقبة مؤمنة ليس فيها عقد من عقود العتق ولا يكون مستحقًا بجهة أخرى. والصيام: أن يصوم شهرين متتابعين.   (1) انظر: الأم: 4/ 98 - 100، مختصر المزني ص 56، الإقناع ص 75. (2) ذكره مالك في الموطأ: 1/ 296، وأخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء (2/ 235)، ومسلم في الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (2/ 780). (3) وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهي رواية عن الإمام أحمد، وأن المرتد يجب عليه قضاء ما فاته أثناء ردته إذا عاد إلى الإِسلام (المستصفى: 1/ 90، روضة الناظر: 1/ 145). (4) انظر: المدونة: 1/ 391 - 392، التفريع: 1/ 306 - 307، الرسالة ص 161، الكافي ص 124. (5) في (م): عتاق. (6) في (م): فالعتاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 والإطعام لستين مسكينا مدًّا بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في هذه الجملة حديث الأعرابي الذي قال: وقعت على أهلي في رمضان "فأمره رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم - أن يكفر بعتق رقبة أو بصيام شهرين متتابعين أو بإطعام (2) ستين مسكينًا" (3)، ولا خلاف أنها هذه الأنواع (4). فصل [13 - كفارة الفطر على التخيير]: وهي على التخيير (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6) لما روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر السائل أن يكفر بعتق رقبة أو بصيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا (7)، وأو موضوعها التخيير، ولأنها كفارة وجبت من (8) غير عمد ولا إتلاف، فكانت على التخيير أصله كفارة اليمين. فصل [14 - الإطعام مختار في كفارة الفطر]: والاختيار عند مالك رحمه الله (9) الإطعام (10) لأنه أعم نفعًا؛ لأن العتق يخص المعين والصيام لا منفعة فيه لغير الصائم والإطعام يسقط الفرض ويعم نفعه جماعة المساكين. فصل [15 - المريض يفطر]: وإنما قلنا: إن للمريض أن يفطر لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى   (1) رسول الله: سقطت من (ق). (2) في (م): إطعام. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (468). (4) انظر: المغني: 3/ 127، 129، شرح مسلم- للنووي: 5/ 93. (5) انظر: المدونة: 1/ 192، التفريع: 1/ 307، الرسالة ص 161. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 54، الأم: 2/ 98. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (468). (8) في (م): عن. (9) رحمه الله سقطت من (ق). (10) انظر: التفريع: 1/ 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1)، ولأنه لما جاز الفطر لمشقة السفر التي قد تكون، وقد لا تكون فلأن يجوز له ذلك في المرض أولى، ولا خلاف في ذلك (2)، وكذلك إذا خاف حدوث المرضى جاز له الفطر، كما يجوز له التيمم متى خاف المرض باستعمال الماء. فصل [16 - الحامل تفطر]: وإنما قلنا: إن الحامل إذا خافت على حملها أفطرت ولا إطعام عليها (3) خلافًا للشافعي (4)، وعبد الملك؛ لأنها مفطرة بعذر كالمريض، ولأن عذرها أبلغ من عذر مخطيء الوقت، فإذا لم يجب عليه إطعام، فالحامل أولى، ولأن خوفها على ولدها وربما تعدى إليها، فكان كخوفها على نفسها. فصل [17 - الفطر للمرضع]: وفي المرضع روايتان (5): فوجه الوجوب أنها مفطرة من أجل غيرها لا من أجل نفسها، فضعف عذرها عن الحامل، ووجه نفي الوجوب فلأنها مسوغ لها الفطر كالمريض. فصل [18 - الشيخ الهرم يفطر ولا يطعم]: وإنا قلنا: إن الشيخ الهرم لا يلزمه الصوم لأنه يضعف عنه ويؤدي إلى تلفه، وذلك مسقط للتكليف عنه، وإنما قلنا: لا إطعام عليه (6) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (7) , لأنه مسوغ له الفطر كالمريض.   (1) سورة البقرة، الآية: 184. (2) انظر: المغني: 3/ 134، المجموع: 2/ 368. (3) انظر: المدونة: 1/ 186، التفريع: 1/ 310. (4) انظر: مختصر المزني ص 57، الإقناع ص 78. (5) انظر: المدونة: 1/ 186، التفريع: 1/ 310، الرسالة ص 160. (6) انظر: المدونة: 1/ 186، التفريع: 1/ 310، الرسالة ص 160. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 54، مختصر المزني ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فصل [19 - المرأة تطاوع زوجها بالجِماع في رمضان]: وإذا طاوعت المرأة بالجماع فعليها الكفارة (1) خلافًا للشافعي (2)؛ لأن كل فطر على وجه الهتك، فإنه يوجب الكفارة كفطر الرجل، ولأنها شخص مفطر على وجه الهتك كالرجل. فصل [20 - عدم تحمل الرجل كفارة زوجته]: ولا يتحملها عنها الرجل (3)، خلافًا للشافعي (4) في بعض أقاويله لأن الفطر بالهتك يلزم الكفارة به للمفطر من غير تحمل عنه أصله الرجل. فصل [21 - فيمن أفطر يومين]: وإذا أفطر يومين فعليه كفارتان سواء كفَّر عن اليوم الأول أم لا (5)، خلافًا لأبي حنيفة (6)؛ لأنه هتك لحرمة الصوم بالفطر فيه كاليوم الأول، ولأن تأخير الكفارة عن اليوم الأول لا يوجب سقوطها في اليوم الثاني أصله في السنتين، ولأنه حكم لزم بالفطر فأشبه القضاء. فصل [22 - الواطيء سهوًا في رمضان]: ولا كفارة على الواطيء سهوًا (7) خلافًا لأحمد بن حنبل (8)، لقوله صلى   (1) انظر: المدونة: 1/ 191، التفريع: 1/ 306. (2) انظر: الأم: 2/ 100. (3) انظر: المدونة: 1/ 191، التفريع: 1/ 306. (4) انظر: الأم: 2/ 100. (5) انظر: التفريع: 1/ 307. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 54. (7) انظر: المدونة: 1/ 186، التفريع: 1/ 305، وهناك رواية عند أصحاب مالك القضاء والكفارة. (8) انظر: مسائل الإِمام أحمد ص 191 - 192، مختصر الخرقي ص 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الله عليه وسلم (1): "رفع عن أُمتي الخطأ والنسيان" (2)، ولأنه خرم الإمساك سهوًا كالأكل، ولأن الكفارة تتعلق بالهتك دون العذر كالمريض .. فصل [23 - من أصبح جنبًا فصام]: ومن أصبح جنبًا فصام أجزأه (3)، خلافًا لبعضهم (4)، فلأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك (5)، ولأنه حدث فبقى تطهيره لا يمنع الصوم كالحدث الأصغر. فصل [24 - الحائض تطهر ليلًا وتؤخر الغُسل حتى طلوع الفجر]: وإذا طهرت الحائض ليلًا فأخرت الغُسل حتى طلع الفجر صامت إن كانت نوت وأجزاها سواء فرطت بالتأخير أو لم تفرط (6)، خلافًا لعبد الملك ومحمد ابن مسلمة (7)؛ لأنها محدثة زال حدثها قبل الفجر ولم يبق عليها سوى التطهير كالجنب، ولأن وجوب الغسل لا ينافي صحة الصوم كالغسل من الجنابة. فصل [25 - فيمن أفطر في غير رمضان]: لا تلزم العظمى (8) في إفطار ما على رمضان (9) خلافًا لما يحكى عن   (1) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (2) سبق تخريج الحديث. (3) انظر: المدونة: 1/ 184، التفريع: 1/ 309، الرسالة ص 161. (4) يحكى عن أبي هريرة والحسن بن صالح منعه (أخرجه البخاري: 2/ 231، وصحيح مسلم: 2/ 780، البيهقي: 4/ 214). (5) أخرجه البخاري في الصوم، باب: الصائم يصبح جنبًا: 2/ 232، ومسلم في الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب: 2/ 779، 780. (6) انظر: المدونة: 1/ 184، الرسالة ص 161. (7) انظر: التفريع: 1/ 309. (8) أي لا تلزم الكفارة العظمى، هي الإعتاق أو صوم شهرين أو إطعام ستين مسكينًا. (9) انظر: الرسالة ص 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 قتادة (1) أن في قضائه الكفارة (2) لأن الكفارة واجبة لهتك حرمة الزمان واعتبارًا بالنفل والنذر. فصل [26 - زمن قضاء رمضان]: قضاء رمضان موسع إلى دخول رمضان من السنة الآتية، فإن دخل ولم يقضه نظر: فإن كان بعذر فلا إطعام عليه ولا شيء سوى القضاء، وإن كان لغير عذر لزمه مع القضاء بعدد الأيام أمداد عن كل يوم مد (3) خلافًا لأبي حنيفة لقوله: لا إطعام عليه (4)، لقول عائشة أم المؤمنين (5) رضي الله عنها: "إن كان ليكون عليَّ صوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه حتى يدخل شعبان" (6)، فأبانت بذلك أن وقت القضاء ما بين الرمضانين، فإذا آخره عن هذا الوقت فقد آخره عن وقته المجعول له، فأشبه إذا أخر صوم رمضان عن وقته (7). فصل [27 - جواز الفطر للمسافر]: ومن سافر سفرًا مباحًا تقصر الصلاة في مثله فهو بالخيار إن شاء صام رمضان وإن شاء أفطر (8) لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ   (1) قتادة: قتادة بن دعامة السدوسي البصري، تابعي إمام، ثقة حُجَّة، من أحفظ أهل زمانه للحديث وأعلمهم بالقرآن والفقه واللغة والأنساب، وهو رأس الطبقة الرابعة، توفي سنة ست أو سبع أو ثمان عشرة ومائة (انظر طبقات ابن سعد: 7/ 229، تقريب التهذيب ص 453). (2) انظر: المغني: 3/ 125. (3) انظر: الموطأ: 1/ 303 - 308، التفريع: 1/ 310 - 311، الرسالة ص 161. (4) انظر: مختصر القدوري: 1/ 170. (5) أم المؤمنين: سقطت من (ق). (6) أخرجه البخاري في الصوم، باب: متى يقضي قضاء رمضان: 2/ 239، ومسلم في الصيام، باب: قضاء رمضان في شعبان: 2/ 802. (7) عن وقته: سقطت من (ق). (8) انظر: المدونة: 1/ 180، التفريع: 1/ 304، الرسالة ص 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 أيامٍ أُخَر} (1)، معناه فأفطر، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" (2)، وقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي (3)، وكان كثير الصيام "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" (4)، وقال أنس: "نسافر مع رسول الله في رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" (5). فصل [28 - صحة صوم المسافر]: وإنما قلنا: إن صومه يصح خلافًا لبعض من لا يعتد بخلافه (6) للأخبار التي رويناها, ولأن السفر حال يصح فيها صوم غير رمضان أصله الحضر، ولأن رخصة الفطر كرخصة القصر ولو أتم الصلاة لأجزاه فكذلك إذا صام. فصل [29 - قضاء ما أفطره المسافر]: وإنما قلنا: أن عليه القضاء لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (7)، ولأنه عذر أبيح معه الإفطار كالمرض، وإنما قلنا: إنه مقصور على مدة للاتفاق على   (1) سورة البقرة، الآية: 184. (2) سبق تخريج الحديث في قصر الصلاة ص 267. (3) حمزة بن عمرو الأسلمي: أبو صالح أو أبو محمَّد المدني، صحابي جليل، مات سنة إحدى وستين وله إحدى وسبعون، وقيل: ثمانون (انظر تقريب التهذيب ص 180). (4) أخرجه البخاري في الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار: 2/ 237، ومسلم في الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر: 2/ 789. (5) أخرجه البخاري في الصوم، باب: لم يعب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضهم بعضًا في الصوم والإفطار: 2/ 238، ومسلم في الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية: 2/ 787. (6) أهل الظاهر يقولون بأن فرضه أيام أُخَرَ ولا يجزيه صومه (المحلي: 2/ 64، بداية المجتهد: 5/ 164). (7) سورة البقرة، الآية: 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 تساويهما في ذلك، ولأنه أحد الأركان الخمسة، للسفر تأثير في تخفيضه، فوجب أن يكون مسافته ثمانية وأربعون ميلًا كالصلاة. فصل [30 - الصوم أفضل من الفطر في السفر]: إذا ثبت أنه غير فالصوم أفضل (1) خلافًا للشافعي (2)، والفرق بينه وبين القصر أنه إذا قصر، فقد أدى العبادة وبرئت ذمته منها، وإذا أفطر فهي متعلقة بذمته وأداء العبادة أفضل من تأخيرها. فصل [31 - إذا أقام المسافر في أضعاف سفره]: إذا أقام (3) المسافر في أضعاف سفره بموضع عازمًا على الإقامة أربعة أيام لزمه الصوم خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لا يلزمه ذلك إلا إذا نوى إقامة خمسة عشر يومًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا" (4)، فجعل إقامة الثلاث (5) في حكم السفر، فكان الاعتبار بزيادة عليها وأقل ذلك ما يتعلق به حكم الصيام، وهو يوم وهو أقل ما يستغرقه من الزمان. فصل [32 - إذا بدأ الإقامة في بعض يوم]: وإن دخل في بعض يوم، قال ابن القاسم: ألغاه، وحسب من غده، وقال غيره: يراعى إقامة عشرين صلاة من وقت عزمه على الإقامة (6)، فلابن القاسم أن العبادة المتعلقة بعدد أيام تحسب قبل طلوع الفجر، ويلغى ما كان بعد طلوعه كالعدة بالشهور والأسبوع في العقيقة، ولغيره أن الاعتبار   (1) انظر: المدونة: 1/ 180، التفريع: 1/ 304، الرسالة ص 161. (2) انظر: الإقناع ص 77. (3) في (ق): قام. (4) أخرجه مسلم في الحج، باب: جوار الإقامة بمكة للمهاجر .. : 2/ 986. (5) في (م): الثلاثة. (6) انظر: المدونة: 1/ 181، التفريع: 1/ 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 بالأربعة أيام جميعها (1) لعشرين صلاة وتلفيقها يوجد فيها هذا المعنى، فكان بمنزلة كمالها. فصل [33 - من أفطر في صيام التطوع]: ومن تطوع بالصوم لزمه إتمامه إذا كان حاضرًا ولم يجز له الخروج منه إلا لعذر، فإن أفطر لغير عذر لزمه القضاء (2) خلافًا للشافعي (3) لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (4)، ولأنها عبادة مقصودة لنفسها كالحج والعُمرة، فأما القضاء فلما روي: أن عائشة وحفصة (5) رضي الله عنهما (6) أصبحتا صائمتين متطوعتين فيه فأُهدي لهما طعام فأفطرتا عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "اقضيا يوما مكانه" (7). وإن أفطره من عذر لمرض أو عطش أو شدة جوع أو إكراه أو سهو أو خطأ وقت فلا قضاء عليه لأنه التزمه مع القدرة على إتمامه، فإذا قطعه عليه قاطع بغير صنعه ولا اختياره فلا شيء عليه. فصل [34 - من تطوع بالصوم في السفر أو الحضر ثم سافر فأفطر]: إذا تطوع في السفر أو صام في الحضر ثم سافر في بقية يومه، فأفطر ففيها   (1) في (م): جميعها. (2) انظر: المدونة: 1/ 183، التفريع: 1/ 303، الرسالة ص 160. (3) انظر: الأم: 2/ 103، مختصر المزني ص 59. (4) سورة المائدة، الآية: 1. (5) حفصة: حفصة بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث، وماتت سنة خمس وأربعين (انظر: تقريب التهذيب ص 745). (6) رضي الله عنهما: سقطت من (ق). (7) أخرجه أبو داود في الصوم، باب: من رأى عليه القضاء: 2/ 836، والترمذي في الصوم، باب: إيجاب القضاء عليه: 3/ 112، وأخرجه مالك في الموطأ: 1/ 306 مرسلًا، واتفق الحفاظ على ضعفه موصولًا (انظر الهداية تخريج أحاديث بداية المجتهد: 5/ 239 - 243). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 روايتان (1): إحداهما وجوب القضاء عليه والأخرى سقوطه، فوجه الأولى أنه أفطر مختارًا مع إمكان الإتمام كالحاضر، ووجه الثانية أن كل معنى جاز معه الإفطار في رمضان سقط به القضاء في التطوع أصله المرض. فصل [35 - من نذر معينًا فمرض]: إذا نذر يومًا معينًا فمرضه فلا قضاء عليه لأنه التزم صومًا عينه، فإذا فات فلا قضاء عليه وإن صومه مع فواته غير ممكن، وكذلك إذا حاضت فإن أفطر متعمدًا فعليه قضاؤه، ولأنه مستحق عليه، فإذا تركه استحق البدل عليه اعتبارًا برمضان والسفر ليس بعذر اعتبارًا بقطع التتابع، وقيل: في المرض يقضي والأول أصح (2). فصل [36 - إذا حاضت في صيام الشهرين أو أكل ناسيًا]: إذا حاضت في صيام الشهرين أو أكل ناسيًا أو مخطئًا للوقت لم يقطع تتابعه لأنَّه أمر غالب كالحيض (3)، وإنما قلنا: إن الحيض لا يقطعه لأنه لا يكون لها سبيل إلى الخلاص منه، وإن مرض فأفطر لم يقطع التتابع (خلافًا للشافعي (4) لأنه عذر لا يمكنه دفعه كالحيض) (5)، وإن سافر فأفطره انقطع تتابعه (6) لأنه يقدر معه على الصوم فلم يكن عذرًا في قطع التتابع. فصل [37 - من أفطر في رمضان بعذر ثم زال عذره]: ومن أفطر في رمضان بعذره ثم زال عذره في بقية يومه فذلك على ضربين (7):   (1) انظر: التفريع: 1/ 304، الرسالة ص 160، الكافي ص 130. (2) انظر: المدونة: 1/ 189، التفريع: 1/ 306، الرسالة ص 161. (3) انظر: التفريع: 1/ 310. (4) انظر: الأم: 1/ 103. (5) ما بين قوسين سقط من (ق). (6) في (م): التتابع. (7) في (م): وجهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 إن كان عذره يبيح (1) الفطر مع العلم بأن اليوم من رمضان لم يلزمه إتمام الإمساك كالحائض والمريض والمسافر إذا زالت أعذارهم في بقية يومهم، وإن كان عذرًا يسوغ الفطر معه بشرط عدم العلم بأن الوقت مستحق صومه، فإن زوال العذر موجب للإمساك (2)، وذلك كخطأ العدة والوقت بالإفطار قبل الغروب أو بالسحر (3) بعد الطلوع مع الاجتهاد والظن لبقاء الليل وخروج النهار والأكل سهوًا وما أشبه ذلك (4). فصل [38 - في صيام الدهر]: سرد الصوم (5) جائز إذا أفطر الأيام المنهى عن صيامها (6) لقوله تعالى (7): {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} (8)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عَزَّ وجَلَّ: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به" (9)، ولأن جماعة من الصحابة قد فعلوا ذلك (10)، ولأنه من عبادات الأبدان المبتدأة فجاز سرده في أوقات جوازه كالصلاة والله أعلم. (تم كتاب الصيام يتلوه كتاب الاعتكاف: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمَّد) (11).   (1) يبيح: مطموسة في (ق) و (م). (2) انظر: التفريع: 1/ 305، الكافي ص 123. (3) في (م): بالتسحير. (4) في (م): وما أشبهه. (5) سرد الصوم: هو ما يعرف بصيام الدهر. (6) انظر: الكافي ص 129. (7) تعالى: سقطت من (ق). (8) سورة البقرة، الآية: 184. (9) أخرجه مسلم في الصيام، باب: فضل الصيام: 2/ 806. (10) ممن فعلوا ذلك: عمر بن الخطاب وعبد الله ابنه، وعائشة رضي الله عنهم (البيهقي: 4/ 301). (11) ما بين القوسين: سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 كتاب الاعتكاف (1) الأصل في جوازه قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه وقال له: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف: "أوف بنذرك" (3)، ولأنه فعله هو (4) والسلف بعده والإجماع على ذلك (5). فصل [1 - تعريف الاعتكاف الشرعي]: والاعتكاف الشرعي هو المقام في المسجد مع الصوم والنية، وإنما قلنا: إنه المقام في المسجد لأن الاعتكاف هو الملازمة والعكوف والثبوت واللزوم، ومنه قوله تعالى: {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (6) أي ملازمون لعبادتها. فصل [2 - اشتراط المسجد في الاعتكاف]: وإنما قلنا: إن من شرطه المسجد (7) لقوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} (8)، فدل على أن المسجد من شرطه، وإلا لم يكن لتخصيصه من   (1) الاعتكاف: سوف يأتي تعريفه من المصنف. (2) سورة البقرة، الآية: 187. (3) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم: 2/ 260، ومسلم في الإيمان, باب: نذر الكافر وما يفعل به إذا أسلم: 3/ 1277. (4) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر: 2/ 255، ومسلم في الاعتكاف، باب: اعتكاف: العشر الأواخر .. : 2/ 830. (5) انظر: الإجماع ص 52، والمغني: 3/ 183. (6) سورة الأنبياء، الآية: 52. (7) انظر: المدونة: 1/ 196، التفريع: 1/ 312، الرسالة ص 163، الكافي ص 131. (8) سورة البقرة، الآية: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 سائر الأماكن مع النهي عن المباشرة في جميعه معنى، ولأنه صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد ولم يعتكف في غيره (1)، ولأنه إجماع (2). فصل [3 - المرأة والرجل سواء في الاعتكاف]: وإنما قلنا: إن المرأة والرجل فيه سواء (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) في قوله: إن المرأة تعتكف في مسجد بيتها, للظاهر وهو عام، ولأنه شخص معتكف كالرجل ولأن كل شرط للاعتكاف لزم الرجل لزم في حق المرأة كالصوم. فصل [4 - اشتراط النية في الاعتكاف]: وإنما قلنا: إن النية من شرطه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" (5)، ولأنها عبادة متقرب بها والقربة لا بد لها من نية. فصل [5 - عدم جواز خروج المعتكف من المسجد]: ولا يجوز له الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو لأمر يضطره (6) إلى الخروج من حاجته إلى شراء طعامه (7)، والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (8)، وروي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف لا يخرج إلا لحاجة الإنسان" (9)، ولأن الحاجة لا بد من الخروج لها، فكانت بخلاف غيره، وكذلك شراء الطعام.   (1) في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: لا يدخل البيت ولا لحاجة: 2/ 256، ومسلم في الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها: 1/ 244. (2) انظر: المغني: 3/ 187، فتح الباري: 4/ 219. (3) انظر: التفريع: 1/ 313، الكافي ص 132. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 58. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (119). (6) في (ق): يضره. (7) انظر: المدونة: 1/ 197 - 198، التفريع: 1/ 313، الرسالة ص 164. (8) سورة البقرة، الآية: 187. (9) سبق تخريج الحديث قريبًا (489). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 ولا يجوز له الخروج لعيادة مريض ولا لصلاة على جنازة ولا لتشاغل بشيء من أموره سوى ما ذكرناه, لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك (1)، ولأن المسجد من شرطه فلم يجز له مفارقته كالصيام. فصل [6 - عدم جواز اشتراط الخروج من الاعتكاف]: ولا يجوز له أن يشترط في الاعتكاف جواز الخروج منه لضرورة إن نزلت به سوى ما ذكرناه (2) خلافًا للشافعي (3)؛ لأنه شرط ما ينافي موجب الاعتكاف كما لو شرط ترك الصوم، ولأنها عبادة اشترط فيها خلاف موجب عقدها المطلق ونقيضه، فلم يصح كالصلاة والصيام. فصل [7 - في اشتراط الصيام في الاعتكاف]: وإنما قلنا: إن الصيام من شرطه (4)، خلافًا للشافعي (5)، لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ... إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (6)، فنهى عن المباشرة في الاعتكاف وقصر المخاطبة به على الصائمين، فدل على كون الصيام شرطًا فيه، "ولأنه صلى الله عليه وسلم اعتكف صائمًا" (7)، فكان ذلك بيانًا له، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "أوف بنذرك وصم" (8)، ولأنه   (1) كما جاء في أحاديث اعتكافه صلى الله عليه وسلم التي ذكرت والتي سوف يأتي ذكرها. (2) انظر: المدونة: 1/ 198، التفريع: 313، الرسالة ص 164. (3) انظر: الأم: 2/ 105، الإقناع ص 82. (4) انظر: المدونة: 1/ 195، التفريع: 1/ 313، الرسالة ص 163. (5) انظر: الأم: 2/ 107، الإقناع ص 81. (6) سورة البقرة، الآية: 187. (7) أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشرة الأواخر: 2/ 255، ومسلم في الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان: 2/ 830. (8) سبق تخريج الحديث بلفظ: "أوف بنذرك"، أما بهذا اللفظ فقد أخرجه أبو داود في الصوم، باب: المعتكف يعود المريض: 1/ 576، وقد ضعفه البيهقي: 4/ 316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 لبث في مكان مخصوص، فلم يكن قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو قربة في نفسه كالوقوف بعرفة. فصل [8 - أقل ما يصح فيه الاعتكاف من الأيام]: وأقل ما يصح الاعتكاف في يوم واحد (1) لأن الصيام لا يمكن في أقل منه، وكل عبادة شرط فيها زمان فأقله ما يستغرقه وقته كالصلاة والاختيار أن لا ينقص من عشرة أيام لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقص منها (2). فصل [9 - الصيام للاعتكاف]: وليس من شرط الاعتكاف أن يصوم للاعتكاف إلا أن يجعله شرطًا (3) لأنه صلى الله عليه وسلم اعتكف في رمضان، وهو واجب لغير الاعتكاف، ولأن من حقه ألا يكون إلا في الصوم سواء كان له أو لغيره كما أن الصلاة لا تكون إلا بطهارة من الحدث لها أو لغيرها. فصل [10 - الاعتكاف في المسجد]: والاعتكاف جائز في مسجد (4) لعموم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (5)، فإن كان أيامًا تتخلها الجمعة لم يجز له الاعتكاف إلا في الجامع لا لأجل أن الاعتكاف لا يصح في غيره من المساجد، لكن لأنه (6) لا بد له من   (1) انظر: التفريع: 1/ 312 - 313، الرسالة ص 163. (2) كما روى في حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرًا من شوال الذي أخرجه البخاري في الاعتكاف، باب: اعتكاف النساء: 2/ 255. (3) يعني ليس من شرط الصيام في الاعتكاف أن يكون صومًا له، ولكن من شرط الاعتكاف أن لا يصح إلا مع وجود الصيام (انظر المدونة: 1/ 196، التفريع: 1/ 313). (4) انظر: المدونة: 1/ 203، التفريع: 1/ 313، الكافي ص 131. (5) سورة البقرة، الآية: 187. (6) لأنّه سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الخروج إلى المسجد فيبطل اعتكافه أو يتركه (1)، وذلك غير جائز لأنها أولى من الاعتكاف فلم يبق إلا ما قلناه. فصل [11 - فيمن خرج من معتكفه إلى الجمعة]: وإذا (2) خرج إلى الجمعة بطل اعتكافه عند مالك رحمه الله، وقال عبد الملك: لا يبطل (3)، فوجه قول مالك: إنه خرج من المسجد مختارًا فيما كان يمكنه ألا يخرج فأشبه (4) خروجه لعيادة مريض، ووجه قول عبد الملك: إن الجمعة أمر يضطره إلى الخروج لا يجوز له الإقامة في المسجد معه كحاجة الإنسان. فصل [12 - متى يبدأ ويدخل في الاعتكاف]: ويستحب لمن يريد الاعتكاف أن يدخل إلى معتكفه قبل غروب الشمس من أول ليلة من اعتكافه ليستوي في اليوم بليلته، فإن دخل بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر في وقت ينوي فيه الصوم (5) أجزاه لأن الليل كله وقت لنية الصيام، فأي (6) وقت نوى فيه أجزاه. فصل [13 - في انصراف المعتكف في آخر رمضان]: ويستحب لمن اعتكف آخر رمضان أن لا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد مع المسلمين (7) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل (8)، ولأنه إذا رجع إلى أهله   (1) في (م): تركها. (2) في (م): فإن. (3) انظر: المدونة: 1/ 203، التفريع: 1/ 313، الكافي ص 131. (4) في (م): فأمكن. (5) انظر: المدونة: 1/ 196، الرسالة ص 164، الكافي ص 131. (6) في (ق): فإنه. (7) انظر: المدونة: 1/ 196، 205، الرسالة ص 164، الكافي ص 131. (8) قال الإمام مالك: بلغني عن بعض أهل الفضل الذين مضوا أنهم لا يرجعون حتى يشهدوا العيد مع الناس (انظر: الموطأ: 1/ 315، المدونة: 1/ 205). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 لم يترفه بالعذر الذي يحصل عندهم إلى وقت خروجه لصلاة العيد، فإن لم يفعل جاز إذا انصرف بعد غروب الشمس لزوال مدة الاعتكاف. فصل [14 - المتكف يعقد النكاح]: وللمعتكف أن يعقد النكاح لنفسه ولغيره (1)، والفرق بينه وبين الإحرام أن الطيب ممنوع في الإحرام وهو من دواعي الوطء (2)، فكان النكاح أولى بالمنع وليس كذلك الاعتكاف. فصل [15 - خروج المعتكف من المسجد لمرضه]: وإذا مرض المعتكف خرج من المسجد، فإن عجز (3) عن الصوم، فله الفطر ويبطل اعتكافه (4)؛ لأن المرض عذر يبيح الفطر والخروج من المسجد لأن إقامته في المسجد تضربه لحاجته إلى العلاج وغيره مما لا يجوز في المسجد. وكذلك الحائض تخرج من المسجد ويبطل اعتكافها (5)، فأما خروجها من المسجد فلأن الحيض يمنع الإقامة فيه، وأما بطلان الاعتكاف فلأن من شرطه الصيام على ما بيناه والحيض ينافيه، وإذا صح المريض وطهرت الحائض، وقد بقي عليهما شيء من اعتكافهما يوم فما زاد عادا فتمماه وصاما فيه ووصلاه بما قبل المرض والحيض، ولم يجز لهما تأخيره فإن أخراه ابتدءا الاعتكاف. فصل [17 - الاعتكاف يقتضي التتابع في أيامه]: الاعتكاف يقتضي بإطلاقه التتابع، فمن نذر أن يعتكف عشرة أيام نذرًا مطلقًا   (1) انظر: الموطأ: 1/ 318، التفريع: 1/ 314، الرسالة ص 164، الكافي ص 132. (2) في (ق) و (ر): النكاح. (3) في (م): ضعف. (4) انظر: المدونة: 1/ 196، الرسالة ص 163، الكافي ص 132. (5) انظر: المدونة 1/ 196، التفريع: 1/ 313، الرسالة ص 163 - 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 لزمه أن يتابعهما (1)، والأصل فيه أنها عبادة واجبة، وهي على الفور ومنع التراخي إلا أن يقوم دليل، ولأن الاعتكاف لما كان ليلًا ونهارًا، وكان حكم ليله كحكم نهاره في الامتناع من الوطء والمباشرة وسائر الأفعال المنافية للاعتكاف كان حكم الأيام العدة حكم اليوم الواحد. فصل [17 - قضاء الاعتكاف]: ومن قطع اعتكافه مرض أو حيض لزمه قضاء ما ترك الاعتكاف فيه (2)، وإن كانت أيامًا معينة بخلاف الصوم المعين اعتبارًا بالحج والعُمرة، ولأنها عبادة لها تعلق بالمسجد تحرم فيه المباشرة فصح قضاؤهما. فصل [18 - ما يجوز فعله لمن خرج من المسجد]: ومن أجزنا له الخروج من المسجد إما لمرض أو لحيض أو لحاجة الإنسان، فهو في حكم من هو في المسجد فلا يجوز له (3) أن يفعل ما كان ممنوعًا منه في الاعتكاف مما لا يتقضيه عذره، فمتى فعل ذلك أفسد الاعتكاف واستأنفه، وكذلك في اجتناب ما يجتنبه في النهار (4). فصل [19 - ما لا يجوز فعله للمعتكف]: ولا يجوز للمعتكف أن يطأ ولا يُقَبِّل ولا يباشر ليلًا ولا نهارًا، فإن فعل ذلك بطل اعتكافه (5)، والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (6)، ولأنها عبادة من شرطها التتابع لم تجب بدلًا عن إتلاف نفس   (1) انظر: المدونة: 1/ 202، التفريع: 1/ 313، الرسالة ص 163 - 164. (2) انظر: المدونة: 1/ 200، التفريع: 1/ 313، الكافي ص 132. (3) له سقطت من (م). (4) انظر: المدونة: 1/ 198 - 202، التفريع: 1/ 314، الرسالة ص 163 - 164. (5) انظر: المدونة: 1/ 197، التفريع: 1/ 314، الكافي ص 132. (6) سورة البقرة، الآية: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 ولا هتك حرمة فأفسدها الجماع كالحج وصوم الظهار وما عدى الجماع من الاستمتاع معتبر به. ويفسده أيضًا ركوب شيء من الكبائر كشرب الخمر والزنا واللواط والالتذاذ بما دونه؛ لأن الاعتكاف هو نهاية الطاعة والمبالغة لذلك حتى أنه يكره فيه (1) التشاغل عن التعبد بتدريس العلم أو المشي لصلاة على الجنازة إلى غير موضعه من المسجد لئلا يقطع ذلك العذر من الوقت بغير ما قصد له من العبادة وركوب الكبائر ينافي هذا، وما ضاد العبادة أفسدها والله أعلم. (تم كتاب الاعتكاف والحمد لله) (2) ...   (1) في (ق): فيها. (2) ما بين قوسين سقط من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 كتاب المناسك (1) بسم الله الرحمن الرحيم (2): الحج (3) فرض على مستطيعه من أحرار المكلفين (4) لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (5)، وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (6)، قيل: معناه من لم ير الحج واجبًا (7)، وقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (8)، وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} (9)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإِسلام على خمس: فذكر الحج" (10)، وقوله للذي يسأله عن الإِسلام: "وحج البيت" (11)، وقوله: "حجوا قبل أن لا تحجوا" (12)،   (1) في (م): كتاب المناسك في الحج. (2) بسم الله الرحمن الرحيم: سقطت من (م). (3) الحج: لغة القصد، واصطلاحًا: عبادة يلزمها الوقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحِجَّة (غرر المقالة ص 173، حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 99). (4) انظر: التفريع: 1/ 315، الرسالة. (5) و (6) سورة آل عمران، الآية: 97. (7) انظر: تفسير الطبري: 4/ 19، رواه عن الحسن. (8) سورة البقرة، الآية: 196. (9) سورة الحج، الآية: 27. (10) سبق تخريج الحديث ص 359. (11) سبق تخريج الحديث. (12) أخرجه البيهقي: 4/ 341، والحاكم 1/ 448، وروي بلفظ: "من أراد الحج فليتعجل" أخرجه الإمام أحمد: 1/ 214، وابن ماجه: 2/ 962، وأبو داود: 1/ 402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وقوله: "إن الله فرض عليكم الحج" (1)، ولإجماع الأُمة عليه من غير خلاف (2). فصل [1 - وجوب الحج مرة في العُمر]: ووجوبه مرة في العمر غير متكرر (3) لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (4)، وذلك يفيد أقل ما يتناوله الاسم، وروي أنه صلى الله عليه سُئل عند نزول هذه الآية فقيل: الحج كل عام فقال: "الحج مرة، ولو قلت: نعم لوجبت" (5). فصل [2 - شروط وجوب وأداء الحج]: شروط وجوبه وأدائه ستة (6): وهي البلوغ والعقل والحرية والإِسلام والاستطاعة وإمكان المسير (7)، فأما العقل والبلوغ، فلقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة فذكر: الصبيّ حتى يبلغ، والمغلوب حتى يفيق" (8)، ولأنه من عبادات الأبدان كالصلاة والصوم (9).   (1) أخرجه مسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر: 2/ 975. (2) انظر: المجموع: 7/ 7، المغني: 3/ 217. (3) انظر: الرسالة ص 173، الرسالة ص 133. (4) سورة آل عمران، الآية: 97. (5) أخرجه مسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر: 2/ 975. (6) في شروط وجوب الحج، انظر: المدونة: 1/ 295، التفريع: 1/ 315، الكافي ص 173. (7) في (م): السير. (8) سبق تخريج الحديث. (9) في (م): كالصيام والصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 فصل [3 - دليل شرط الحرية في الحج]: وأما الحرية فلقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد حج ثم أعتق (1) فعليه أن يحج" (2)، ولأن العبد منافعه مملوكة عليه فلا يستحق على السيد منها إلا قدر ما ورد به الشرع. فصل [4 - دليل شرط الإِسلام في الحج]: وأما الإِسلام فإن قلنا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة مع الإقامة على كفرهم بشرط أن يسلموا فيفعلوا كان الإِسلام شرطًا في الأداء، وإن قلنا: إن الوجوب لا يتوجه عليه إلا بعد إسلامهم (3) كان شرطًا في الوجوب. فصل [5 - في إمكان المسير]: وأما إمكان المسير، فمن أحكام الاستطاعة (4)، وهو مختلف باختلاف عادات (5) الناس في الأوقات، فإن كان في الطريق عدو قد تحقق طلبه للنفوس والغارات والقطع لا يكاد ينفع معه بذل مال إلا ما يشق ويعظم أو (6) لا يؤمن غدره (7) لتكرر ذلك منه، فإن الحج يسقط معه لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (8)، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (9)، ولأن   (1) في (م): عتق. (2) أخرجه البيهقي: 4/ 325، والحاكم، وابن خزيمة وقال: الصحيح أنه موقوف ورواه الثوري عن شعبة موقوفًا (تلخيص الحبير: 2/ 220). (3) في (م): الإِسلام. (4) الاستطاعة: سقطت من (ق). (5) في (ر): عادة. (6) في (م): و. (7) في (م): عذره. (8) سورة البقرة، الآية: 195. (9) سورة النساء، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 المحصور بعدو له أن يتحلل من الإحرام بالحج، فكان بأن لا يلزمه قبل الدخول فيه أولى، وهل ذلك مانع من الوجوب أو الأداء محتمل، والأقوى أن يكون مانعًا من الأداء. وأما إن علم من حال العدو أنه يطلب شيئًا من المال لا يجحف بالناس ولا يشق ولا يؤثر قدره، وأنه إذا بذل له مكن الناس من الحج ولم يغدر بهم، فإن الحج يلزم معه خلافًا لمن منع ذلك من أصحابنا (1)، لأن ما يبذل له حينئذ يجري مجرى بعض النفقات والمؤن والضرائب التي لا يسقط معها فرض الحج ولا يؤثر في ذلك كونه جورًا وظلمًا. فصل [6 - دليل شرط الاستطاعة في الحج]: فأما الاستطاعة فإنها شرط في الوجوب لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (2)، وهي عندنا القدرة على الوصول إلى البيت، وفعل المناسك بكل ما أمكن ذلك معه من قوة ومشي ومال، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الناس وقدرهم، فمن كانت عادته المشي وسلوك الطريق بنفسه من غير حاجة إلى راحلة لزمه الحج إذا وجد الزاد ولم يقف وجوبه على وجود الراحلة، فإن كانت عادته المسألة واستماحة الناس لزمه الحج، وإن عدم الزاد في الحال جرى على عادته في التماسه، وإن كان ممن لا يسأل ولا يقدر على الوصول إلى البيت إلا براحلة لم يلزمه الحج إلا بوجودها، وكل هذا خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3) في قولهم: إن الاستطاعة الزاد والراحلة بمجموعهما؛ لأن الله تعالى قال:   (1) قال الخطاب في مواهبه: "والذي قاله القاضي في المعونة حسن فلا يسقط عن الموسر دينار من ماله وضرر ذلك يحتمل، وممن قال بسقوط الحج بغير المجحف أبو عمران الفاسي، ذكره في شرح الرسالة، ونقله ابن فرحون والتادلي وغيرهما والله أعلم" (1/ 495 - 496). (2) سورة آل عمران، الآية: 97. (3) انظر: مختصر القدوري: 1/ 178، الأم: 2/ 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) فعم، والمال والقدر بالبدن (2) تحصل بهما الاستطاعة، يقال: فلان مستطيع بماله وبنفسه، ولأنه قادر على الحج من غير خروج من عادة، ولا بد له كالواجد للراحلة، واعتبارًا بأهل الحرم بعلة تمكنه من الوصول إلى البيت، وفعل المناسك من غير مشقة فادحة، والحديث بيان لمن كانت استطاعته الزاد والراحلة وهو غالب الناس، وأن السائل سائل عن حال نفسه. فصل [7 - المعضوب الذي لا يستمسك على الراحلة]: والمعضوب الذي لا يستمسك على الراحلة غير مستطيع للحج ولا يلزمه أن يحج عنه غيره من ماله (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (5)، معناه أن يحجوا البيت، فأخبر عن صفة التكليف وهو أن يفعله بنفسه فانتفى بذلك وجوبه على خلاف هذه الصفة، ولأن كل عبادة على البدن لم تدخلها النية مع القدرة لم تدخلها مع العجز كالصلاة، ولأن كل عبادة تعلق فرضها بالبدن مع القدرة لم تنتقل إلى غيره مع العجز كالصلاة والصوم. فصل [8 - المرأة تجد الصحبة المأمونة وليس لها محرم]: وإذا وجدت المرأة صحبة مأمونة لزمها الحج وليس المحرم من الاستطاعة (6) خلافًا لأبي حنيفة (7)، لأنه سفر مفروض كالهجرة، ولأن وجود من تأمنه وتسكن إليه من النساء يقوم مقام (8) المحرم.   (1) سورة آل عمران، الآية: 97. (2) والقدر بالبدن: سقطت من (م). (3) انظر: التفريع: 1/ 315، الكافي ص 133، المقدمات: 1/ 380 - 381. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 59، الأم: 2/ 113. (5) سورة آل عمران، الآية: 97. (6) انظر: الموطأ: 1/ 425، 426. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 59. (8) في (ق): مع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فصل [- في حكم العُمرة]: والعمرة (1) سنة مؤكدة وليست بفريضة (2) خلافًا للشافعي (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم وسئل عن الحج أفريضة هو؟ فقال: "نعم"، قيل: والعمرة؟ قال: "لا ولأن تعتمر خير لك (4) " (5)، وقوله: "الحج جهاد والعمرة تطوع" (6)، وقوله: "من مشى إلى مكتوبه فهي كحجة، ومن مشى إلى تطوع فهي كعمرة تامة" (7)، ولأنه نسك ليس له وقت معين فلم يكن فرضًا أصله طواف القدوم، ولأن فرائض الأبدان المتعلقة بمكان مخصوص يتعلق بزمان معين، فلما لم يكن للعمرة زمن معين انتفى بذلك كونها فرضا. فصل [10 - دليل سنية العمرة وأنها مرة في العمر]: وإنما قلنا: إنها سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "والعمرة تطوع ولأن تعتمر خير لك" (8)، وقوله للأقرع (9)، وقد سأله: أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟   (1) العمرة لغة: الزيادة، واصطلاحًا: عبادة يلزمها طواف وسعي في إحرام جمع فيه بين حل وحرم (غرر المقالة ص 173، الرصاع ص 106). (2) انظر: المدونة: 1/ 299 - 300، والموطأ: 1/ 347، التفريع: 1/ 352، الرسالة ص 182. (3) انظر: الأم: 1/ 132، مختصر المزني ص 63، الإقناع ص 84. (4) لك: سقطت من (ق). (5) أخرجه الترمذي في الحج، باب: ما جاء في العمرة أواجبة أم لا؟ (3/ 270)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحافظ ابن حجر: رواه الترمذي من رواية الحجاج بن أرطأة عن محمَّد بن المنكدر والحجاج ضعيف (تلخيص الحبير: 2/ 226) والحديث فيه السؤال عن العمرة فقط. (6) أخرجه ابن ماجه في المناسك، باب: العمرة: 2/ 995، وفيه عمر بن قيس متكلم فيه، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف (تلخيص الحبير: 2/ 227، نصب الراية: 3/ 150). (7) أخرجه الطبراني مرفوعًا (تلخيص الحبير: 2/ 227). (8) سبق تخريج الحديث قريبًا. (9) الأقرع بن حابس: بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 فقال: (للأبد) (1)، ولأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر وأصحابه وأزواجه (2) وسنتها مرة في العمر للحديث الذي رويناه، ولأن مشقتها كمشقة الحج فكانت في حكمه. فصل [11 - من مات ولم يحج]: ومن مات قبل أن يحج لم يلزم الحج عنه من رأس ماله ولا من ثلثه إلا أن يوصي بذلك، فيكون في ثلثه (3)، وقال الشافعي: يلزم الحج عنه من رأس ماله وصى بذلك أم لم يوصي (4)، ودليلنا قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (5)، معناه أن يحجوا، وذلك ممتنع بعد الموت، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا" (6)، فلو لزم الحج عنه من ماله لم يغلظ هذا التغليظ، ولأنها عبادة على البدن، فلم يلزم أداؤها عنه في المال كالصلاة، ولأنها عبادة تدخلها الكفارات (7) فلم تلزم بعد الموت أصله الصيام (8).   = ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، كان في وفد بني تميم الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الطبقات الكبرى: 7/ 37). (1) حديث الأقرع ورد في الحج، وقد أخرجه أبو داود في المناسك، باب: فرض الحج: 2/ 345، والنسائي في مناسك الحج، باب: وجوب الحج: 5/ 83، وابن ماجه في المناسك، باب: فرض الحج: 2/ 963، وأصله في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (تلخيص الحبير: 2/ 220). (2) وهذا معلوم بتواتر الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وأزواجه. (3) انظر: المدونة: 1/ 360 , التفريع: 1/ 317، الكافي ص 166. (4) انظر: الأم: 2/ 115، الإقناع ص 83. (5) سورة آل عمران، الآية: 97. (6) ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال العقيلي والدارقطني: لا يصح فيه شيء (تلخيص الحبير: 2/ 222). (7) في (م): الكفارة. (8) في (م): كالصيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 فصل [12 - كراهية الحج عن الغير قبل أن يحج عن نفسه]: يكره أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه (1)؛ لأن الفرض أولى من النيابة عن الغير، كما يكره أن يتطوع بأداء الزكاة عن غيره قبل أن يخرج الزكاة عن نفسه، ولقوله صلى الله عليه وسلم للذي سمعه يحرم عن غيره: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (2). فصل [13 - فإذا أحرم عن غيره قبل أن يحج عن نفسه]: فإن أحرم عن غيره كان عن من أحرم عنه، ثم يحج بعد ذلك عن نفسه (3) خلافًا للشافعي في قوله: إنها تنقلب عنه فتكون له دون من أحرم عنه (4)، لقوله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك (5)؟، قالت: نعم (6)، ولم يشترط أن تكون قد حجت عن نفسها. ولأن كل فعل صحت النيابة فيه بعد سقوطه عن النائب صحت مع بقائه عليه أصله قضاء (7) الدين، ولأنه قصد الحج عن غيره فصح ذلك أصله إذا صح عن   (1) انظر: المدونة: 1/ 360، التفريع: 1/ 315 - 316، الكافي ص 133. (2) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: الرجل يحج عن غيره: 2/ 403، وابن ماجه في المناسك، باب: الحج عن الميت: 2/ 969، وابن الجارود والطحاوي، وصحَّحه ابن حبان والبيهقي، وروي مرفوعًا وموقوفًا، وقد علله بعضهم، لكن في الجملة الحديث صحيح، كما قال ابن حبان والبيهقي وعبد الحق وابن القطان وغيرهم (انظر نصب الراية: 3/ 54، والهداية في تخريج أحاديث بداية المجتهد: 5/ 275 - 279). (3) انظر: التفريع: 1/ 316، الكافي ص 133. (4) انظر: الأم: 2/ 123، 127، 128. (5) ذلك سقطت من (م). (6) أخرجه البخاري في الحج، باب: حج المرأة عن الرجل: 2/ 218، ومسلم في الحج عن العاجز: 2/ 973. (7) في (م): إذا قضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 نفسه، ولأن بقاء الفرض عليه لا يمنعه أن يفعله ما ليس بفرض أصله إذا صام تطوعًا وعليه قضاء رمضان، ولأنه من أهل الإحرام في الجملة، فإذا قصد بالإحرام أن يكون عن غيره فلم (1) ينقلب عن نفسه أصله إذا كان قد حج، ولأنه أحرم ينوي به عن شخص فوجب أن يكون عمن نواه أصله إذا نواه عن نفسه، ولأن كل إحرام انعقد على صفة لم ينقلب إلى غيرها أصله إذا عقده عن نفسه على صفة لم ينقلب إلى غيرها. فصل [14 - فيمن يتطوع بالحج قبل أداء الفرض]: يكره أن يتطوع بالحج قبل أداء الفرض، فإن فعل كان على ما نواه ولم ينقلب عن فرضه (2) خلافًا للشافعي (3)، وإنما كرهناه لأن أداء الفرض أولى من التطوع كما لو تطوع بالصلاة قبل الفرض مع ضيق الوقت، وإنما قلنا: إنها لا تنقلب فرضًا لأنها عبادة نوى بها التطوع فلم تنقلب فرضًا كالصلاة والصوم. فصل [15 - الإجارة على الحج]: تصح الإجارة على الحج (4) خلافًا لأبي حنيفة (5) لأنها عبادة تتعلق بالمال يصح النيابة به فيها فصح أخذ الأجرة كأداء الزكاة (6) وتفريقها, ولأنه لما صحت النيابة فيها بغير أجر جازت بأجر كالكفارات والنذور قياسًا على أخذ الأجرة (7) على القضاء وبناء المساجد والقناطر.   (1) في (م): لم. (2) انظر: التفريع: 1/ 316، الكافي ص 116. (3) انظر: الأم: 1/ 127 - 128، مختصر المزني ص 65. (4) انظر: المدونة: 1/ 360، التفريع: 1/ 316. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 59. (6) الزكاة: سقطت من (ق) و (م)، وأكمل النقص من (ر). (7) في (ق): الإجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فصل [16 - في أن الحج على الفور]: والحج على الفور (1) لا يجوز تأخيره للقادر عليه إلا من عذر (2)، وقال الشافعي: هو على التراخي (3)، فإن شاء فعله، وإن شاء تركه طول عمره بشرط العزم على أدائه من غير وقت معين ولا إثم عليه إن مات ولم يفعله، فينتقل الكلام إلى الأصل في الأوامر المطلقة هل هي على الفور أم (4) التراخي (5)؟ ودليلنا أنها على الفور أن الأمر اقتضى إيقاع الفعل، وكان الفعل لا بد له من زمان يقع فيه ولا ذكر له في اللفظ بتقديم ولا تأخير، وكانت الأفعال تختلف أحكامها باختلاف أوقاتها، فيكون الفعل في وقت طاعة وفي غيره معصية لم يثبت له وقت إلا بدليل. وأجمعوا على أنه إذا وقع في الوقت الأول، فقد أوقع في وقته فلم يثبت ما عداه وقتًا له إلا بدليل، ولأن الأمر لما اقتضى الإيقاع ولم يكن للترك ذكر وجب فعله عقيب الأمر، ولأن تأخيره لو جاز لم يخل أن يكون إلى غاية أو لا إلى غاية: فإن كان فذلك توقيت له، وخلاف التراخي، وإن كان لا إلى غاية لم يخل المكلف إذا مات قبل الفعل أن يكون آثمًا أو غير آثم. وفي القول بأنه آثم وجوب الجمع بين جواز الترك والمعصية به، وأن يحظر الله تعالى ترك الفعل في وقت لا بينه للمكلف وذلك غير صحيح. وفي القول بأنه غير آثم إخراج الفعل عن الوجوب إلى الندب؛ لأن الندب   (1) الفور: هو نبع وجرى، وعند الفقهاء على الفور: على الوقت الحاضر الذي لا تأخير فيه (المصباح المنير ص 482). (2) انظر: التفريع: 1/ 315، الكافي ص 133، المقدمات: 1/ 381. (3) انظر: مختصر المزني ص 62، الإقناع ص 82. (4) في (م): أو. (5) هذه قاعدة أصولية مختلف فيه انظر: مختصر ابن الحاجب: 2/ 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 هو الذي يكون للمكلف تركه إلى غير غاية ثم لا يأثم إذا مات قبل أن يفعله (1) ولا يعصمهم (2) من هذا إثبات العزم على الإيقاع في المستقبل لأن في ذلك إيجابًا لما لم يوجبه الأمر وإسقاط ما أوجبه من الفعل، ولأن أهل اللغة يستحسنون ذم العبد إذا أمره سيده، فتركه وتراخى فيه ولا يلومون السيد على ذمه وضربه ويعللونه بتراخيه وينسبونه إلى الونى (3)، والتقصير وذلك يدل على أنه عندهم على الفور، ودليلنا على نفس المسألة قوله صلى الله عليه وسلم: "حجوا قبل أن لا تحجوا" (4)، وقوله: "من أمكنه أن يحج ثم مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا" (5)، ولأن الاستطاعة موجودة فوجب أن يلزمه (6) الأداء كما لو غلب على ظنه تعذر الإمكان بعد عامه. ...   (1) في (م): فعاله. (2) في (م): لا يفهم. (3) وفي: ضعف وفتر (المصباح المنير ص 673). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (497). (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (503). (6) في (م): يلزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 باب: [مواقيت الحج] وللحج ميقاتان (1): ميقات زمان، وميقات مكان، فميقات الزمن أشهر (2) الحج، وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة قيل: جميعه، وقيل: بعضه (3)، والأصل فيه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (4)، ولأن المتمتع يلزمه الهدي لإتيانه بالعُمرة في أشهر الحج. فصل [1 - الإحرام بالحج في أشهر الحج]: إذا ثبت ذلك فالأفضل أن يحرم بالحج في أشهره لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل، ولأن فائدة التوقيت منع تجاوزها والتقدم عليها، فإن أحرم به قبلها لزمه ولم ينقلب إحرامه إلى العُمرة (5) خلافًا للشافعي في قوله: أنه يصير محرمًا بعمرة ولا يلزمه الحج (6)، لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (7)، وليس يخلو أن يكون أراد القسمة وأن نصف الأشهر للحج ونصفها لسائر المعاملات، وذلك ليس يقول لأحد أو أن يكون أراد الاشتراك فذلك ما نقوله، ولأن كل زمان صح فيه الإحرام بالعُمرة صح فيه الإحرام بالحج كأشهر الحج، ولأنه نسك يشتمل على إحرام وطواف وسعي،   (1) في مواقيت الحج انظر: المدونة: 1/ 398 - 319، التفريع: 1/ 318 - 319، الرسالة ص 174، الكافي ص 147. (2) في (م): شهور. (3) انظر: التفريع: 1/ 345. (4) سورة البقرة، الآية: 189. (5) انظر: التفريع: 1/ 354، الكافي ص 134. (6) انظر: مختصر المزني ص 63، الإقناع ص 85. (7) سورة البقرة، الآية: 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 فجاز (1) الإحرام به في رجب أو شعبان كالعُمرة، ولأن الإحرام ركن يشترط فيه الحج والعُمرة، فجاز أن يفعل في غير أشهر الحج أصله طواف الإفاضة ولا يلزم عليه الوقوف لأنه مختص بالحج. فصل [2 - الإحرام بالحج في غير أشهره ولا ينقلب عمرة]: والدليل على أنه لا ينقلب عمرة قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لأمريء ما نوى" (2)، وهذا لم ينو العُمرة فلم تكن له، ولأنه أحرم بالحج، فلم ينقلب عمرة أصله إذا أحرم في أشهر الحج، ولأنها عبادة تشتمل على طواف وسعي، فإذا أحرم بها لم يصح انعقادها عن عبادة أخرى كالعُمرة. فصل [3 - مواقيت المكان للحج]: وأما مواقيت المكان فهي أربعة مواقيت منقسمة على جهات الحرم (3): فميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة (4)، وميقات أهل المدينة ذو الحليفة (5)، وأهل نجد من قرن (6)، وأهل اليمن يلملم (7)، وأهل العراق   (1) وفي الأصل: فلزم. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (119). (3) انظر: الموطأ: 1/ 330، التفريع: 1/ 318 - 319، الرسالة ص 174، والصحيح أن المواقيت المكانية خمس كما جاء في التلقين للقاضي عبد الوهاب (1/ 190). (4) الجحفة -بضم الحاء المهملة وسكون الحاء المهملة-: وهي قرية بينها وبين مكة خمس مراحل (معجم البلدان: 2/ 111). (5) ذو الحليفة -بضم الحاء وفتح اللام والفاء: بينها وبين المدينة المنورة ستة أميال، وهي تعرف الآن بآبار علي (معجم البلدان: 2/ 295). (6) قرن المنازل -بفتح القاف وسكون الراء-: جبل صغير بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان (معجم البلدان: 4/ 332). (7) يلملم: بفتح المثناة وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة (معجم البلدان: 5/ 441). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وخراسان والمشرق ذات عرق (1)، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن وأهل اليمن من يلملم" (2)، وفي حديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وأهل العراق من ذات عرق" (3)، وقيل: إنه من توقيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه (4). فصل [4 - فيمن يمر على هذه المواقيت لمن يريد الإحرام أو دخول مكة]: ومن مر على هذه المواقيت يريد الإحرام أو دخول مكة لزمه الإحرام منها كان من أهلها أو من غير أهلها (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "هن لهم ولكل آت آتي عليهن من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة" (6) ولأنه ميقات للحج، فإذا مر به مريد الإحرام جاز أن يلزمه ويمنع من تأخيره عنه أصله إذا كان من أهله. فصل [5 - تأخير الإحرام عن هذه المواقيت]: وإذا ثبت هذا فلا يجوز لأحد مر على ميقات من هذه المواقيت يريد الإحرام تأخيره عنه إلا أهل الشام ومصر إذا مروا بذي الحليفة، فإن لهم أن يؤخروا الإحرام لأنهم يمرون على ميقاتهم وهو الجحفة، وليس ذلك لغيره ممن يمر بذي   (1) ذات عرق -بكسر العين المهملة-: قرية خربت على مرحلتين من مكة (معجم البلدان: 4/ 107). (2) أخرجه البخاري في الحج، باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة: 2/ 132، ومسلم في الحج، باب: مواقيت الحج والعُمرة: 2/ 838. (3) أخرجه ابن ماجه في المناسك، باب: مواقيت أهل الآفاق: 2/ 973، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي ولا يحتج بحديثه (نصب الراية: 3/ 12). (4) أخرجه البخاري في الحج، باب: ذات عرق لأهل العراق: 3/ 389. (5) انظر: المدونة: 1/ 303، التفريع ص 318 - 319، الرسالة ص 174، الكافي ص 148. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الحليفة (1) لأنها لا يتعداها إلى ميقات أهل بلده فلزمه الإحرام من موضعه، فأما إذا (2) مر به لحاجة لا يريد الإحرام ثم تجددت له نية الإحرام، فإنه يحرم من موضعه ولا يرجع إلى الميقات لأن وجوب الإحرام من المواقيت هو على المارين (3) بها لا المتأخرين دونها (4). فصل [6 - أحوال المرور بالميقات]: فإذا ثبت هذا فلا يخلوا المار بالميقات من ثلاثة أحوال: إما أن يكون مريد الحج أو العمرة، أو أن يكون يريد دخول مكة لحاجة لا لحج ولا لعمرة، أو أن يكون له حاجة فيها دون مكة، فإن كان يريد الحج والعُمرة، فلا يجوز له أن يجاوزه إلا محرمًا لأنه صلى الله عليه وسلم وقَّت المواقيت لمريد الإحرام فيجب الإحرام منها (5)، وقوله: "هن لهم ولكل آت آتي عليهن من غير أهلهن" (6)، ولأنه لو جاز له تعديلها إلى ما بعدها لم ينفع التوقيت بها شيئًا وكانت كغيرها (7) من البقاع. فصل [7 - من جاوز الميقات حلالًا]: فإن ثبت، فإن تعدّاها غير محرم نظر: فإن كان لم يحرم عاد فأحرم ولا شيء عليه، لأنَّه لم يخل بنسك من مناسك الحج ولا أدخل نقصًا على إحرامه فإن أحرم مضى على وجهه ولم يرجع إلى الميقات وعليه دم رجع أو لم يرجع (8).   (1) انظر: التفريع: 1/ 319، الرسالة ص 174، الكافي ص 148. (2) في (م): فإذا. (3) في (م): المار. (4) في (م): أو المتأخر دونها. (5) انظر: المدونة: 1/ 303، التفريع: 1/ 319، الكافي ص 148. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا ص (510). (7) في (ق): غيرها. (8) انظر المدونة: 1/ 303، التفريع: 1/ 319، الكافي ص 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 فصل [8 - فيمن جاوز الميقات حلالًا ثم أحرم]: وإنما قلنا: إنه لا يرجع لأن رجوعه لا يفيد شيئًا لأن النقص قد دخل على إحرامه لإيقاعه (1) إياه بعد الميقات ورجوعه لا يزيل ذلك النقص. فصل [9 - في الدليل على من جاوز الميقات حلال وأحرم بعده أن عليه الدم]: وإنما قلنا: إن عليه الدم لنقصه نسكًا من المناسك, لأن عليه أن يحرم من الميقات، فإذا ترك الإحرام منه إلى ما بعده، فقد أدخل النقص فوجب جبره بدم. فصل [10 - في أن رجوعه بعد إحرامه لا يسقط الدم]: وإنما قلنا: إن رجوعه بعد إحرامه لا يسقط الدم عنه خلافًا للشافعي (2)، لأن الدم إنما وجب للنقص وليس النقص تجاوزه الميقات على انفراده، وإنما هو إحرامه بعده، وهذا لا يقدر على إزالته لأنه لا يتمكن من حله بعد عقده فلم يسقط الدم عنه، ولأنه معنى لا يزيل النقص الواقع في إحرامه، فلم يسقط الدم عنه أصله إذا أتى ببعض أفعال الحج من الطواف والسعي، ثم عاد إلى الميقات، فإن الدم لا يسقط عنه بالاتفاق، ولأنه ترك الإحرام من الميقات إلى ما بعد الميقات مريدًا له فأشبه أن يتمادى ولا يرجع، ولأن كل (3) فعل من أفعال الحج لزم في موضع يؤثر الدم في تركه، فإن العود إليه بعد فوته لا يسقط الدم عنه كالمبيت بالمزدلفة. فصل [11 - فيمن مر بالميقات يريد دخول مكة]: وأما إن مر بالميقات يريد دخول مكة فلا يخلو من أمرين (4): إما أن يكون   (1) في (م) و (ر): بإيقاعه. (2) انظر: الأم: 2/ 138. (3) كل سقطت من (ق). (4) انظر: المدونة: 1/ 303، التفريع: 1/ 319، الكافي ص 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ممن يكثر ترداده إلى مكة في ذهابه ومجيئه كأهلها والمقيمين بها الذين يخرجون للاحتطاب والمعايش، فهذا له أن يتجاوزه غير محرم لأن في إلزامه الإحرام بالميقات مشقة وكلفة وقطعًا له عن معاشه، فلم يلزمه ذلك، أو أن يكون ممن يقل دخوله إليها كأهل الآفاق الذين إنما يقصدونها لحاجة أو تجارة أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز له تجاوز الميقات إلا محرمًا (لأنه لا يجوز لأحد دخول إلا محرمًا) (1) إلا من (2) ذكرناه. فصل [12 - فيمن جاوز الميقات حلالًا أمر بالعودة إليه]: فإذا ثبت هذا (3)، فمتى تجاوزه غير محرم أمر بالعودة (4) إليه فيحرم منه ولا دم عليه، فإن تفادى وأحرم، ففيها (5) روايتان (6): إحداهما وجوب الدم عليه، والأخرى سقوطه عنه، فوجه الوجوب فلأنه جاوزه مخاطبًا بالإحرام فيه فإذا أحرم بعده لزمه الدم أصله إذا كان يريد الحج والعمرة، ووجه إسقاطه فلأنه جاوزه غير مريد لحج ولا لعمرة، فأشبه إذا جاوزه لحاجة، فأما إن جاوزة لحاجة دون مكة فقد ذكرنا حكمه. فصل [13 - فيمن كان منزله بين الميقات وبين مكة]: ومن كان منزله بين الميقات وبين مكة أحرم من منزله، ولم يكن عليه الرجوع إلى الميقات، فإن جاوز منزله فأحرم فعليه دم (7). وإنما قلنا: أنه يحرم من منزله، فلقوله صلى الله عليه وسلم: "هن لهم   (1) ما بين قوسين سقط من (ق). (2) في (ق): ما. (3) هذا: سقطت من (ق). (4) في (م): بالعود. (5) في (م): فيها. (6) انظر: المدونة: 1/ 303، التفريع: 1/ 319، الكافي ص 148. (7) انظر: التفريع: 1/ 319، الكافي ص 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 ولكل آت أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعُمرة" (1)، ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة، ولأن الميقات وضع لمن بعد منزله عن الحرم، فأما من كان بقرب (2) منه، فمنزله ميقاته. وإما قلنا: أنه ليس عليه أن يرجع لأن منزله ميقاته فلا معنى لرجوعه (3) إلى غير ميقاته. وإنما قلنا: أنه إن جاوزه فعليه دم لأنَّه مجاوز لميقاته محرم بعده، فقد أدخل النقص على إحرامه كأهل الآفاق إذا أحرموا بعد مجاوزة مواقيتهم. فصل [14 - فيمن دخل إلى مكة لا يكون إلا محرمًا]: لا يجوز أن يدخل مكة إلا محرمًا (4) لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فهي حرام إلى يوم القيامة" (5)، وهي حرام من كل وجه إلا ما قام دليله، وقوله: "أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي" (6)، ولأنها محل لفعل الحج مع كونها حرمًا، فكان لها مزية على غيرها. فصل [15 - فيمن دخل مكة غير محرم]: وإن دخلها غير محرم أساء ولا شيء عليه؛ لأن دخول محل الفرض لا يوجب الدخول في الفرض أصله (7) الدخول إلى مِنَى وعرفة والمسجد الجامع يوم الجمعة.   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (510). (2) في (م): بالقرب. (3) في (م): الرجوع. (4) انظر: المدونة: 1/ 303، التفريع: 1/ 320. (5) أخرجه مسلم في الحج، باب: فضل المدينة: 2/ 991. (6) أخرجه البخاري في اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة: 3/ 94، ومسلم في الحج, باب: تحريم مكة: 2/ 986. (7) في (م): أهلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 فصل [16 - تقديم الإحرام عن الميقات]: الاختيار أن يحرم من الميقات، فإن قدمه عليه كره له وجاز (1) خلافًا للشافعي (2) لأنه صلى الله عليه وسلم حج واعتمر عمرًا، فلم ينقل أنه أحرم قبل الميقات، فلو كان فيه فضيلة لبيَّنه أو فعله، ولأنه أحد نوعي المواقيت فكره التقديم (3) بالإحرام عليه كميقات الزمان. فصل [17 - الإحرام بالعُمرة من الحرم]: ولا يجوز الإحرام بالعُمرة من الحرم ويخرج من كان بالحرم، وأراد الإحرام بها إلى أدنى الحل (4)؛ لأن الإحرام من حقه أن يجمع فيه بأن الحل والحرم كالحج، والعُمرة لا تعلق لها بالحل، فإذا أحرم بها من الحرم لم يمكنه الجمع بينهما، فإن أحرم بها من الحرم خرج إلى الحل ثم عاد فطاف فسعى. فصل [18 - القارن يحرم من مكة]: واختلف أصحابنا في القارن (5): فقال ابن القاسم لا يجوز له الإحرام من مكة، وقال سحنون وغيره: يجوز، فلابن القاسم أنه محرم بعمرة، فوجب أن يكون من الحل أصله إذا انفرد ولا يجوز أن يقال بأن يقال بأنه محرم بحج (6) فجاز أن يكون من مكة كالمفرد (7)؛ لأن ذلك يؤدي إلى نقض الأصل (8) الذي هو الحاجة في الإحرام بالعُمرة إلى الجمع بين الحل والحرم، ولأن تقدير القرآن   (1) انظر: الفواكه الدواني: 1/ 363، مواهب الجليل: 3/ 18. (2) انظر: الأم: 3/ 139. (3) في (م): التقدم. (4) انظر: المدونة: 1/ 302، التفريع: 1/ 319. (5) انظر: المدونة: 1/ 303، التفريع: 1/ 319، الكافي ص 151. (6) في (م): بالحج. (7) في (ق) و (ر): كالمنفرد. (8) الأصل: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 دخول الحج على العمرة وتغليب حكمها عند فعل الإحرام، ولغيره أن الذي لأجله أريد الإحرام بالعمرة من الحل: أن يجمع في الإحرام بين الحل والحرم، وهذا يوجد مع القران لأنه لا بد للقارن من الخروج إلى الحل للوقوف والرمي. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 باب: أركان الحج (1) وأركان الحج أربعة (2) وهي: الإحرام والوقوف والطواف والسعي. فأما الإحرام فالأصل فيه فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره به (3) , لأن كل عبادة لها إحلال لم يصح الدخول فيها إلا بإحرام كالصلاة، وذلك إجماع (4). فأما الوقوف فلقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" (5)، وقوله: "من وقف بعرفة فقد تم حجه، ومن فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج" (6)، ولا خلاف في ذلك (7). وأما الطواف فالأصل فيه قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (8)،   (1) عنوان الباب من (م). (2) في أركان الحج انظر: المدونة: 1/ 295 وما بعدها، التفريع: 1/ 320، وما بعدها، الرسالة ص 175 - 179، المقدمات: 1/ 402. (3) كما جاء في أحاديث المواقيت السابقة، وفي صفة حجه صلى الله عليه وسلم. (4) انظر: المجموع: 7/ 206، المغني: 3/ 266. (5) أخرجه أبو داود في الحج من لم يدرك عرفة: 2/ 486، والنسائي في المناسك، باب: فرض الوقوف بعرفة: 2/ 206، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليله جمع: 2/ 1003، والترمذي في الحج، باب: ما جاء من أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج: 3/ 237، وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (نصب الراية: 3/ 92). (6) أخرجه الدارقطني وفيه يحيى بن عيسى النهشلي، قال النسائي فيه: ليس بالقوي (نصب الراية: 3/ 145). (7) انظر: الإجماع ص 64، المغني: 3/ 410. (8) سورة الحج، الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 ولأنه صلى الله عليه وسلم طاف وقال: "خذوا عني مناسككم" (1)، ولا خلاف أيضًا فيه (2). وأما السعي فمن فروض الحج (3) عندنا خلافًا لأبي حنيفة (4) , لأنه صلى الله عليه وسلم سعى وقال: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" (5)، ففيه أدلة: أحدها أنه فعله، وقال: "خذوا عني مناسككم"، والأخرى أمره به بقوله: "اسعوا"، والثالث: إخباره بأنه مكتوب علينا, ولأنه ركن في العُمرة فكذلك في الحج أصله الطواف، ولأن كل نسك يؤتي به في الحج والعُمرة على هيئة واحدة، فإن الدم لا ينوب منابه كالإحرام ولا يدخل عليه الخلاف لأنه يؤتي به بعد الفراغ من العُمرة. فصل [1 - رمي جمرة العقبة]: وليس من أركانه رمي جمرة العقبة خلافًا لعبد الملك (6)؛ لأنه نسك بمِنَى، فلم يكن وجوبه وجوب الأركان كالمبيت والحلاق، ولأنه رمي كسائر الجمار، ولأنه نسك يفعل بغير مكة بعد الإحرام لا يتعلق فوات (7) الحج بفواته كالمبيت بمزدلفة.   (1) أخرجه مسلم في الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر: 2/ 932. (2) انظر: المجموع: 8/ 166، المغني: 3/ 440. (3) انظر: الموطأ: 1/ 374، التفريع: 1/ 338، الرسالة ص 176، المقدمات: 1/ 402. (4) انظر: مختصر القدوري: 1/ 186 - 187، تحفة الفقهاء: 2/ 381. (5) أخرجه أحمد: 6/ 422، والحاكم: 4/ 70، والبيهقي: 5/ 97، والدارقطني: 2/ 256، والطبراني والشافعي وابن عدي، وفيه ضعف (نصب الراية: 3/ 55 - 56). (6) انظر: المقدمات: 1/ 402. (7) في (ق): فوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 فصل [2 - الاغتسال لأركان الحج كلها]: ويستحب أن يغتسل لأركان الحج كلها (1)، أما الإحرام "فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اغتسل له" (2)، وكذلك الصحابة ويستحب للطاهر والحائض؛ لأنه أريد به التنظف للعادة، ولأمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه (3) أن يأمر أسماء بالاغتسال وكانت نفساء (4). وأما الوقوف، فإنه (5) صلى الله عليه وسلم اغتسل له (6)، واعتبارًا بالإحرام بعلة كونه ركنًا، وكذلك الطواف والسعي إلا أنه يكفيه لهما غسل واحد لأن أحدهما مرتبط بالآخر وتابع له. ويستحب الغسل لدخول مكة لأن الصحابة رضي الله عنهم فعلت ذلك (7). فصل [3 - في مريد الإحرام]: ومن أراد الإحرام بدأ بالاغتسال ثم ركع ركعتين وأحرم على أثرهما ويستحب   (1) انظر: المدونة: 1/ 295، التفريع: 1/ 320، الرسالة ص 175، المقدمات: 1/ 402. (2) أخرجه الترمذي في الحج، باب: ما جاء في الاغتسال عند الإحرام: 3/ 192، وقال: حسن غريب. (3) رضي الله عنه: سقطت من (م). (4) أخرجه مسلم في الحج، باب: إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام: 2/ 869. (5) في (م): فلأنه. (6) روي غسل عرفة عن ابن عمر (الموطأ: 1/ 322)، وعن ابن مسعود وعبد الرحمن بن يزيد (مجمع الزوائد: 3/ 256). (7) فقد روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارًا، ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله أخرجه البخاري في الحج، باب: الاغتسال عند دخول الكعبة: 2/ 154، ومسلم: الحج استحباب دخول مكة من الثنايا العليا: 20/ 919. وروي: الغسل عن عليّ بن أبي طالب وعائشة (البيهقي: 5/ 71). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 له أن يحرم على أثر نافلة دون مكتوبة، فإن لم يقدر على ذلك لضيق الوقت أو لكونه وقتًا يكره فيه التنفل انتظر إمكانه إن قدر، فإن لم يقدر أحرم على أثر مكتوبة، وذلك أفضل من الإحرام بغيرها (1)، فإن لم يقدر لإعجال أو خوف فوات وأحرم بغير صلاة فلا شيء عليه ولو أحرم ابتداء بغير صلاة قادرًا على أن يصلي، ثم يحرم كره له ذلك ولا شيء عليه (2). وإنما اخترنا له ذلك؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل (3)، واخترنا له التنفل لأنه زيادة مقصودة لأجل الإحرام، وقلنا: أنه ينتظر الإمكان لئلا يعرى الإحرام من فضيلة الصلاة مع القدرة عليها. وإنما قلنا: أنه إن أحرم عقيب مكتوبة جاز؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم عقيب صلاة، فقيل: نافلة، وقيل: مكتوبة، ولأن الإحرام عقيب المكتوبة لا يعرى من صلاة، فكان أفضل من الإخلال بها جملة. وإنما قلنا: أنه إذا أحرم بغير صلاة أصلًا، فلا شيء عليه؛ لأن ذلك مستحب غير واجب لأنه ليس في الأصول عبادة يقف صحة فعلها على صلاة قبلها. فصل [4 - تجرد المحرم عن المخيط]: ويتجرد بعد غسله من مخيط الثياب لأنه ممنوع من لبسها في الإحرام، فلا بد من تقديم ذلك ليصادف إحرامه هيئته المبينة له، وهذا للرجل دون المرأة (4).   (1) في (م): بغير صلاة. (2) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 295، التفريع: 1/ 321، الرسالة ص 174 - 175. (3) لما رواه ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل في دبر الصلاة" أخرجه أبو داود في المناسك، باب: وقت الإحرام (2/ 373)، مطولًا، والترمذي في الحج، باب: ما جاء متى أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - (3/ 182)، وقال: حسن غريب، والنسائي في المناسك، باب: العمل في الإهلال: 5/ 126، والحاكم: 1/ 451 مطولًا. (4) انظر: المدونة: 1/ 295، الموطأ: 1/ 231 - 232، التفريع: 1/ 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 فصل [5 - الإهلال بالتلبية بعد ركوب الراحلة]: وإذا فرغ من صلاته ركب راحلته وأهل بالتلبية (1) لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل (2)، ويستحب له تأخير الإحرام حتى يستوي على الراحلة خلافًا لأبي حنيفة في قوله أنه يحرم عقيب الركوع (3)؛ لأن في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته، ولأن الدخول في العبادة يجب أن يكون عند الشروع في فعلها لا قبله. فصل [6 - يبدأ بالإهلال إذا استوى على الراحلة]: ويهل إذا استوى على الراحلة ولا ينتظر أن تنبعث به خلافًا للشافعي في قوله: أنه يحرم إذا انبعثت به راحلته (4)، لأن في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته، ولأنه استوت به (5) راحلته، فأشبه إذا انبعثت به؛ وإن كان ماشيًا، فإذا أخذ في مشيه لأن ذلك كاستوائه على الراحلة. فصل [7 - لفظ التلبية]: ولفظ التلبية (6): "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" لأن ذلك منقول عنه صلى الله عليه وسلم (7)   (1) انظر المدونة: 1/ 295، الموطأ: 1/ 231 - 232، التفريع: 1/ 321. (2) أخرجه البخاري في الحج، باب: قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (2/ 140)، ومسلم في الحج، باب: الإهلال من حيث تنبعث: 2/ 845. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 62، مختصر القدوري: 1/ 181. (4) انظر مختصر المزني ص 65، الإقناع ص 85. (5) ولأنه استوت به: سقطت من (م). (6) انظر: التفريع: 1/ 321، الرسالة ص 174. (7) أخرجه البخاري في الحج، باب: التلبية: 2/ 147، ومسلم في الحج، باب: التلبية وصفتها: 2/ 842، وذكره مالك في الموطأ: 1/ 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 بهذا اللفظ، فإن زاد عليها زيادة ابن عمر جاز ولفظها: "لبيك لبيك وسعديك والخير بيدك والرغباء إليك والعمل" (1). فصل [8 - أقل ما يكفي من التلبية]: ويكفي منها مرة واحدة لأنَّه أقل ما يتناوله الاسم وما زاد على ذلك مستحب، فإن أخل بها جملة فعليه الدم لأنها من شعائر الحج وواجبات نسكه، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج العج والثج" (2)، ولأمره بها وحضه عليها وفعله لها، وقال: "خذوا عني مناسككم" (3)، وقال: "من ترك من نسكه شيئًا (4) فعليه دم" (5). فصل [9 - رفع الصوت بالتلبية]: ويستحب رفع الصوت بها للرجال (6)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل -عليه السلام- فأمرني أن أمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال" (7) ويكره ذلك للنساء خيفة الفتنة، ولأن الإخفات أستر لهن.   (1) أخرجه البخاري في الحج، باب: التلبية: 2/ 147، ومسلم في الحج, باب: التلبية وصفتها: 2/ 842، وذكره مالك في الموطأ: 1/ 332. (2) أخرجه ابن ماجه في المناسك، باب: التلبية (2/ 925) , والترمذي في الحج، باب: ما جاء في فضل التلبية والنحر (3/ 189)، وقال: حديث غريب، وفيه إبراهيم ابن يزيد الخوزي وهو ليس بالقوي، وصحَّحه الحاكم: 1/ 451 (نصب الراية: 3/ 33). (3) سبق تخريج الحديث. (4) في (ق): شيء. (5) أخرجه مالك موقوفًا على ابن عباس: 1/ 419، والشافعي وابن حزم مرفوعًا، والحديث معلول براويان مجهولان فيه (تلخيص الحبير: 2/ 229). (6) انظر: التفريع: 1/ 322، الكافي ص 138. (7) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: كيف التلبية: 3/ 405، والنسائي في المناسك، باب: رفع الصوت بالإهلال: 5/ 125، وابن ماجه في المناسك، باب: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 فصل [10 - في انعقاد الإحرام]: والإحرام هو الاعتقاد بالقلب للدخول في الحج والعمرة ولا يفتقر إلى تلبية في انعقاده (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه لا ينعقد إلا بنطق أو بسوق هدي مع النية (2)؛ لأنها عبادة لا يجب الذكر في آخرها أو أثنائها (3)، فلم يجب في ابتدائها كالصيام عكسه الصلاة، وللاتفاق على أنه إذا قلد الهدى وأشعره ولم يلب أن إحرامه يصح، فلو كان للنطق من شرط صحة الدخول فيها لم يقم غيره مقامه. فصل [11 - النية لما يريده بإحرامه]: والنية مغنية عن التسمية، فإن سمي ما يريده بإحرامه من حج أو عمرة جاز (4) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك (5) على حسب اختلاف الروايات عنه من إفراد أو قران (6). فصل [12 - التلبية أدبار الصلوات]: ويستحب التلبية عند أدبار الصلوات لأنها أوقات يستحب الذكر فيها، وعند كل شرف, لأن ذلك مروي عن الصحابة (7)، ويكره له الإكثار منها حتى   = رفع الصوت بالإهلال: 5/ 125، وابن ماجه في المناسك، باب: رفع الصوت بالتلبية: 2/ 925، والترمذي في الحج، باب: ما جاء في رفع الصوت بالتلبية: 3/ 191، وقال: حديث صحيح، وذكره مالك في الموطأ: 1/ 334. (1) انظر: المدونة: 1/ 295، 1/ 321، الرسالة ص 175. (2) انظر: مختصر القدوري: 1/ 181. (3) في (م): إثباتها. (4) انظر: المدونة: 1/ 295، الرسالة ص 175، التفريع: 1/ 320. (5) أخرجه البخاري في الحج، باب: التمتع والقران والإفراد بالحج: 2/ 151، ومسلم في الحج، باب: بيان وجوه الإحرام: 2/ 870. (6) في (م): وإقران. (7) أخرجه الشافعي وابن أبي شيبة عن ابن سابط (انظر مسالك الدلالة ص 138). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 يخرج إلى الإلحاح (1)، لأن ذلك سرف وخروج عما يتعلق بالندب، ويكره أن يلبي في طواف أو سعي لأنه (2) حال يستحب فيها الدعاء، وروي عن الصحابة مثل ذلك (3). فصل [13 - متى تقطع التلبية]: ويستحب قطع التلبية بعد الزوال من يوم عرفة (4)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: أنها تقطع عند رمي جمرة العقبة (5)؛ لأن ما قلناه إجماع الصحابة، وروي عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وعائشة (6) رضي الله عنهم أجمعين (7)، وذكر مالك أنه إجماع أهل المدينة (8)، ولأن التلبية إجابة للنداء بالحج الذي دعي إليه، فهذا انتهى إليه فقد أتى بما لزمه فلا معنى لاستدامتها فيما زاد. ...   (1) انظر: الموطأ: 1/ 334، التفريع: 1/ 322، الرسالة ص 175. (2) في (ق): لأنهما. (3) فقد كان عبد الله بن عمر يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ... ، أخرجه البخاري في باب: الاغتسال عند دخول مكة: 2/ 154، ومسلم في الحج، باب: استحباب المبيت بطوى: 2/ 919، والموطأ: 1/ 338. (4) انظر: الموطأ: 1/ 339، التفريع: 1/ 322، الرسالة ص 175. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 65، الأم: 2/ 221. (6) انظر: في ذلك الموطأ: 1/ 338 - 339، المجموع: 8/ 149. (7) أجمعين: سقطت من (م). (8) انظر: الموطأ: 1/ 338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 باب الإحرام (1) إحرام الرجل في وجهه ورأسه ولا يجوز له تغطيتهما بشيء من اللباس أصلًا (2)، فإن غطى رأسه فأكفه وانتفع بتغطيته افتدي من غير خلاف، والأصل فيه نهيه صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس (3)، واتصال العمل بذلك، فأما الوجه فقال: لا يجوز تغطيته، وقال ابن القاسم: لا فدية في تغطيته، ومن أصحابنا من يقول: أنه يُخرّج على روايتين (4)، وقال الشافعي: ليس عليه كشف وجهه في الإحرام (5)، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "المحرم أشعث أغبر" (6)، فجعل من وصفه ذلك فاقتضى نفي كل ما أخرجه عن هذا المعنى والوجه أخص بذلك من سائر الأعضاء واعتبارًا بالمرأة. فأما الفدية فوجه وجوبها هو: أن العبادات إذا تعلقت بالوجه لم يفترق فيها حكم الرجل والمرأة كغير الإحرام، ولأنه عضو لزم كشفه في الإحرام فتعلقت (7) الفدية به كالرأس، ووجه سقوطها أنه عضو يلزم المرأة كشفه، فلم يلزم الرجل فدية بتغطيته كاليدين، ولأنه عضو فرضه في الطهارة الغسل كالرجلين.   (1) عنوان الباب من (م). (2) في إحرام الرجل انظر: المدونة: 1/ 296، التفريع: 1/ 322، الرسالة ص 180. (3) أخرجه البخاري في الحج، باب: ما يلبس المحرم من الثياب: 2/ 145، ومسلم في الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عُمرة .. : 2/ 832. (4) انظر: التفريع: 1/ 322. (5) انظر: مختصر المزني ص 66. (6) أخرجه أحمد: 2/ 224. (7) في (م): فعلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 فصل [1 - إحرام المرأة]: وإحرام المرأة في وجهها وكفيها (1)، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إحرام المرأة في وجهها" (2)، ونهيه النساء عن لبس النقاب في الإحرام (3)، فإذا ثبت ذلك فلا يجوز لها تغطيته ببرقع ولا نقاب ولا سترة بوجه إلا أن يكون هناك جمال يخاف به الفتنة، فيجوز لها أن تسدل الثوب عليه ليستر بقدر ما يزول عنها ما يخاف من نظر من ينظر إليها، ومتى غطت زيادة على ذلك بنقاب أو برقع فانتفعت بتغطيته افتدت. وأما اليدان فيلزمها كشفهما (4) إلى الكوعين ولا يجوز لها لبس القفازين (خلافًا لأبي حنيفة (5) لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس القفازين (6)) (7)، ولأنه عضو ليس بعورة منها، فوجب أن يتعلق به حكم الإحرام في باب التغطية أصله الوجه. فصل [2 - ما يمنع المحرم من لبسه]: والرجل ممنوع من لبس المخيط كله، فلا يجوز له لبس قميص ولا سراويل ولا جبة ولا قباء (8)، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: "لا   (1) انظر: المدونة: 1/ 296، التفريع: 1/ 323، الرسالة ص 180. (2) أخرجه البيهقي: 5/ 47، وهو عند الدارقطني موقوف (نصب الراية: 3/ 37). (3) أخرجه البخاري بلفظ: "ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين" في الحج، باب: ما ينتهي عن الطيب للمحرم: 2/. (4) في (ق) كشفها. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 86، تحفة الفقهاء: 2/ 414. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا ص 525. (7) ما بين قوسين سقط من (م). (8) قباء: القباء ممدود، وقيل: فارسي معرب، وهو من قبوت إذا ضممت وهو ثوب ضيق من ثياب المعجم (المطلع ص 171 - 172). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 يلبس القميص ولا السراويلات ولا البرانس ولا العمائم" (1)، وأما المحرمة فيجوز لها لبس ذلك كله لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس القفازين والنقاب وقال: "لتلبسن بعد ذلك ما أحبت (2) من قميص أو سراويل أو خفين" (3) لأن ما عدى الوجه والكفين من جسدها (4) عورة، وليس عليها كشف عورتها بل لا يجوز ذلك لها. فصل [3 - فيمن احتاج إلى لبس المخيط من المحرمين]: وإن احتاج الرجل إلى لبس المخيط من سراويل أو قميص لبسه وافتدى (5)، خلافًا للشافعي في إسقاطه الفدية بلبس السراويل (6)؛ لأنه محرم ممنوع من لبس المخيط، فإذا لبسه لزمته الفدية، أصله إذا لبسها (7) مع وجود المئزر لأن كل ما لو لبسه مع عدم العذر لزمته الفدية، فكذلك مع العذر أصله القميص. فصل [4 - لبس الخفين للمحرم]: ولا يجوز للمحرم أن يلبس الخفين لا التامين ولا المقطوعين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين (8)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يلبسن القميص ولا العمائم ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيلبس الخفين وليقطعهما   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا (ص 525). (2) في (م): أحبته. (3) هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه أبو داود في المناسك، باب: ما يلبس المحرم: 2/ 412، وأحمد: 2/ 22، والبيهقي: 5/ 47، والحاكم: 1/ 486، وقال: صحيح على شرط مسلم. (4) في (م): بدنها. (5) انظر: التفريع: 1/ 323، الرسالة ص 180، الكافي ص 153. (6) انظر: الأم: 1/ 145. (7) في (ق): لبسه. (8) انظر: التفريع: 1/ 323، الرسالة ص 181، الكافي ص 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 أسفل من الكعبين" (1)، وإذا وجد النعلين لم يكن له لبس الخفين خلافًا لبعضهم لأن الخبر مشروط بعدم النعلين. فصل [5 - فيمن لبس خفين تامين]: وإن عدم النعلين فلبس الخفين تامين، فعليه الفدية (2) خلافًا لأحمد (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم (4): "إلا أن لا يجد نعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" (5)، ففيه دليلان: أحدهما أن الأمر بالقطع على الوجوب، والآخر استثنى من حظر لبسا على صفة وهي القطع، فما عداه على أصل المنع، ولأنها حال إحرام للرجل فلم يجز فيها لبس الخف التام مع القدرة على قطعه كحال وجود النعلين. فصل [6 - فيما إذا أدخل المحرم كتفيه في القباء]: إذا أدخل كتفيه في القباء فعليه الفدية (6) خلافًا لأبي حنيفة (7)؛ لأنه لبس مخيطًا على الوجه الذي يلبس مثله في العادة كالقميص. فصل [7 - الألوان التي يجوز الإحرام بها]: كل الألوان جائز الإحرام فيها (8) ما لم يكن طيبًا (9) إلا أن البياض   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (525). (2) انظر: التفريع: 1/ 323 - 324، الرسالة ص 180، الكافي ص 153. (3) انظر: مختصر الخرقي ص 56. (4) صلى الله عليه وسلم سقطت من (ق). (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (ص 525). (6) انظر: التفريع: 1/ 323، الكافي ص 153. (7) مختصر القدوري - وشرح اللباب: 1/ 182. (8) في (م): به. (9) في (ق): طيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 أفضل (1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير ثيابكم البياض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم" (2). فصل [8 - حلق الشعر للمحرم]: ويمنع المحرمون من إلقاء التفث (3) وهو حلق الشعر وقص الأظافر وقتل القمل (4)، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (5)، وقوله تعالى (6): {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (7)، فأباح ذلك بعد التحلل، وقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة (8): "أتؤذيك هوام رأسك"؟ قال: نعم، فأمره بالحلاق والفدية (9). فصل [9 - الزينة في الإحرام]: الزينة ممنوعة في الإحرام كالكحل للنساء ولبس الحلي وغيره، واختلف   (1) انظر: المدونة: 1/ 296، والتفريع: 1/ 322، وورد فيهما كراهية المعصفر والمزعفر، والتي لم يشر إليها المصنف. (2) سبق تخريج الحديث ص 345. (3) التفث: إذا ترك الأدهان والاستحداد فعلاه الوسخ (المصباح المنير ص 75). (4) انظر: المدونة: 1/ 329، التفريع: 1/ 324، الرسالة ص 180، الكافي ص 153. (5) سورة البقرة، الآية: 196. (6) تعالى: سقطت من (ق). (7) سورة الحج، الآية: 22. (8) كعب بن عجرة: الأنصاري المدني أبو محمَّد صحابي مشهور، مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون (تقريب التهذيب ص 461). (9) أخرجه البخاري في المحصر، باب: قوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ} (2/ 208)، ومسلم في الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها: 2/ 860 - 861. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 أصحابنا (1) هل هو منع حظر أو كراهة (2)؟، فإن قلنا: أنه منع حظر كان فيه الفدية، وإن قلنا: أنه منع كراهة (3) فلا فدية فيه (4)، ووجه الحظر أنها عبادة تمنع الطيب والنكاح، فمنعت الزينة كالعدة ووجه الكراهة أنها عبادة إحرام وإحلال كالصلاة. فصل [10 - حك المحرم رأسه وجلده]: يجوز للمحرم حك رأسه وجلده (5)، ويرفق في حك رأسه لئلا يقتل القمل لأن شعر الرأس يستكن (6) فيه القمل، وله أن يحك جلده حكًّا شديدًا لأنه يأمن ذلك فيه غالبًا. فصل [11 - الطيب في الإحرام]: الطيب ممنوع في الإحرام قليله أو كثيره منع حظر تجب الفدية بتناوله ولا خلاف في ذلك (7)، والأصل فيه: أنها عبادة تمنع النكاح فمنعت (الطيب كالعدة ولا فدية في شمه ما لم يكن إتلاف والعصفر ليس من) (8) الطيب لأنه من الريحان وليس في العادة (9) التطيب به، فإن كثر جدًّا وكان ممن ينتقض، فمن أصحابنا من يوجب به الفدية ويجعله زينة ومقارنًا للطيب (10).   (1) انظر: المدونة: 1/ 342، التفريع: 1/ 324، الرسالة ص 180. (2) و (3) في (م): كراهية. (4) فيه: سقطت من (ق). (5) انظر: التفريع: 1/ 325، الكافي ص 153 - 154. (6) في (ق): تسكن. (7) الإجماع ص 55، المجموع: 7/ 225، 271، المغني: 3/ 322. (8) ما بين قوسين: سقط من (م). (9) في (ق): العبادة. (10) انظر: الكافي ص 153، الشرح الصغير: 2/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 فصل [12 - أكل المحرم ما فيه طيب]: ويجوز للمحرم أكل ما فيه طيب قد طبخته النار زعفرانًا كان أو غيره كالخبيص (1)، والخشكنان (2)؛ لأنه بالطبخ قد خرج عن أن يكون طيبًا وصار في حكم المأكولات، ولأنه في حال تناوله متلف بغلبة الطعام عليه واستهلاكه فيه. فصل [13 - إذا خلط الطيب بطعام]: إذا (3) خلط الطيب بطعام أو شراب على جهته من غير أن تمسه النار أو طيب به طعام، فتناوله المحرم ففيها روايتان (4): إحداهما وجوب الفدية لأنه تناول طيبًا على جهته كما لو تطيب به، والآخر أنه لا فدية عليه لأنه مستهلك فيه والحكم للغلبة. فصل [14 - اغتسال المحرم]: يجوز أن يغتسل المحرم تبردًا (5)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك (6)، وكذلك الصحابة (7)، ويحرك شعر رأسه بيديه (8)، ولأن الغسل ليس بطيب ولا زينة ولا إلقاء تفث وكل ما عدى ذلك، فجائز للمحرم.   (1) الخبيص: في اللغة الخليط، وهو طعام معروف. (2) الخشكنان: خبز تصنع من خالص دقيق الحنطة، وتملأ بالسكر واللوز أو الفستق (المعجم الوسيط: 1/ 236). (3) إذا: سقطت من (م). (4) التفريع: 1/ 326 - 327. (5) انظر: المدونة: 1/ 343، الموطأ: 1/ 323، الكافي ص 152. (6) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب: الاغتسال للمحرم: 2/ 215، ومسلم في الحج، باب: جواز غسل المحرم بدنه ورأسه: 2/ 864. (7) روي عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن زيد وغيرهم (انظر الموطأ: 1/ 323، البيهقي: 5/ 63). (8) في (م): بيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 فصل [15 - الفدية]: والفدية في الطيب وإلقاء التفث، ولبس المخيط ثلاثة أنواع: إطعام ستة مساكين مدين مدين لكل مسكين، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة وهي على التخيير دون الترتيب (1)، والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2)، وفي حديث كعب بن عجرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أتؤذيك هوام رأسك؟ " قال: نعم، قال: "أحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مُدَّيْن مُدَّيْن لكل مسكين أو أنسك بشاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك (3) " (4). فصل [16 - مكان إخراج الفدية]: وليس لشيء منها مكان مخصوص (5) أي موضع فعله جاز (6) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن النسك لا يكون إلا بمكة (7)، وللشافعي في قوله: أن النسك والإطعام لا يكونان إلا بمكة (8)، لقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (9) فأطلق، وفي حديث كعب بن عجرة أنه (صلى الله عليه وسلم) (10) قال له: "صم ثلاثة أيام أو أطعم أو أنسك بشاة" (11) ولم يقيد ولأنه نوع من فدية الأذى، فجاز بمكة وغيرها كالصوم.   (1) انظر: المدونة: 1/ 345، التفريع: 1/ 335، الرسالة ص 180. (2) سورة البقرة، الآية: 196. (3) في (م): أجزأك. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) انظر: التفريع: 1/ 326، الرسالة ص 180، الكافي ص 154. (6) في (م): أجزأه. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 70. (8) انظر: مختصر المزني ص 71. (9) سورة البقرة، الآية: 196. (10) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (م). (11) سبق الحديث في الصفحة (529). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 باب: من قتل صيدًا وهو محرم أو ذبحه أو صاده يحرم قتل الصيد وذبحه واصطياده على المحرم في الحل والحرم ويحرم في الحرم على المحرم والحلال (1)، والأصل في منعه للمحرم قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2)، وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (3)، وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لحم الصيد لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" (5) ولا خلاف في ذلك (6). وجميع ما ذكرناه دال على منعه في الحرم لأن قوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (7) يتضمن حرمة الإحرام وحرمة الحرم، وقوله صلى الله عليه وسلم في مكة: "لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها" (8)، فإذا ثبت هذا فالحرم حرمان: حرم   (1) انظر: المدونة: 1/ 327 - 36، التفريع: 1/ 327، الرسالة ص 182. (2) سورة المائدة، الآية: 95. (3) سورة المائدة، الآية: 2. (4) سورة المائدة، الآية: 96. (5) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم: 2/ 428، والنسائي في المناسك، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد: 5/ 146، والترمذي في الحج، باب: ما جاء في أكل الصيد للمحرم: 3/ 204، وقال: والمطلب بن حنطب لا نعرف له سماعًا من جابر، أخرجه أحمد: 3/ 362، والحاكم: 1/ 452، وقال: صحيح على شرط الشيخين. (6) انظر: الإجماع ص 58، المجموع: 7/ 298، المغني: 3/ 506. (7) سورة المائدة، الآية: 95. (8) أخرجه البخاري في الحج، باب: فضل الحرم: 2/ 157، ومسلم في الحج، باب: تحريم مكة وصيدها .. : 2/ 986. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 مكة، وحرم المدينة، فإن قتل صيدًا في مكة فعليه الجزاء، وإن قتله في حرم المدينة فلا جزاء عليه، وقال داود: لا يتعلق الجزاء بحرمة الحرم أصلًا (1)، ودليلنا قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (2)، والاسم ينطلق على المحرم (3)، والحرام بالإحرام وبالمكان، ولأن كل ما كسبه اسم محرم أثر في وجوب الجزاء أصله الإحرام. فصل [1 - قتل الصيد في حرم المدينة]: وأما حرم المدينة فلا جزاء عليه عند مالك (4)، وقال ابن أبي ذئب (5): عليه الجزاء، فوجه قول مالك رحمه الله (6) قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه قد صاد في حرم المدينة فأوجعوه ضربًا واسلبوه ثيابه" (7)، فلو كان فيه الجزاء لأمر به، ولأنه غير محل للمناسك فلم يتعلق بقتل الصيد فيه الجزاء (8)، أصله الحل، ووجه إيجابه الجزاء قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم المدينة بمثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها" (9)، ولأنه حرم يمنع الاصطياد فيه   (1) انظر: المجموع: 7/ 457. (2) سورة المائدة، الآية: 95. (3) في (م): الحرم. (4) انظر: التفريع: 1/ 231. (5) ابن أبي ذئب: محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري، أبو الحارث المدني: ثقة، فقيه فاضل من السابعة، مات سنة 158 هـ (تقريب التهذيب: 493). (6) رحمة الله: سقطت من (م). (7) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: في تحريم المدينة: 2/ 532، والبيهقي: 5/ 199، والحاكم وصحَّحه: 2/ 486، وأخرجه مسلم بلفظ قريب منه من حديث عامر ابن سعد بن أبي وقاص في الحج، باب: فضل المدينة .. : 2/ 993. (8) في (م): جزاء. (9) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 فتعلق الجزاء به كحرم مكة، وهذا القول أقيس عندي على أصولنا، لا سيما مع قول أصحابنا إن المدينة أفضل من مكة، وأن الصلاة في مسجدها (1) أفضل من الصلاة بالمسجد الحرام، وسنذكر ذلك في موضعه من كتاب الجامع إن شاء الله. فصل [2 - في كون العمد والسهو في الإتلاف سواء]: وعمد الإتلاف وسهوه سواء في وجوب الجزاء (2) خلافًا لداود (3) في قوله: أن قتل الصيد خطأ لا شيء فيه، لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} (4)، فأوجب الجزاء على متعمد قتله ولم يفرق بين أن يكون ذاكرًا للإحرام أم ناسيًا، وقوله صلى الله عليه وسلم (5) في الضبع: "هو صيد وفيها كبش إذا أصابها المحرم" (6)، ولأنه متلف للصيد في حال الإحرام أو الحرم، فأشبه العامد. فصل [3 - في قطع شجر الحرم]: ولا جزاء في قطع الشجر (7) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (8)؛ لأن إتلاف الشجر الذي لا ملك عليه لآمدي لا غرم على متلفه في الأصول، ولأن كونه من شجر الحرم لا يقتضي ضمان الجزاء اعتبارًا بما فيه منفعة للناس، ولأنه نوع من   (1) في (م): بها. (2) انظر: الموطأ: 1/ 420، التفريع: 1/ 331. (3) انظر: المحلي: 7/ 323، المغني: 3/ 505. (4) سورة المائدة، الآية: 95. (5) صلى الله عليه وسلم: سقطت من (ق). (6) أخرجه أبو داود في الأطعمة، باب: أكل الضبع: 4/ 159، والنسائي في الحج، باب: ما لا يقتله المحرم: 5/ 150، وابن ماجه في المناسك، باب: جزاء الصيد يصيبه المحرم: 2/ 1032، والترمذي في الحج، باب: ما جاء في الضبع يصيبها المحرم: 3/ 207، وقال: حسن صحيح. (7) انظر: المدونة: 1/ 339، التفريع: 1/ 331. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 69، الأم: 2/ 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 النبت كالخشب والثمار، ولأنه يتلف حيوانًا ولا شيئًا من الحيوان فلم يلزمه جزاء كسائر الجمادات (1)، وقياسًا على المحرم يقطع الشجر في الحل لأن ما لزم الحلال جزاؤه في الحرم لزم المحرم مثله في الحل، فلو كان في قطع شجره (2) جزاء للزم المحرم ذلك في الحل. فصل [4 - أكل لحم الصيد الذي يصيده الحلال]: أكل لحم الصيد الذي يصيده الحل الذي الحل جائز للمحرم إذا لم يصد من أجله ولا من أجل محرم سواه (3)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يؤكل وإيجابه الجزاء عليه بأكله (4)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لحم الصيد لكم حلال وأنتم محرمون ما لم تصيدوه أو يصد لكم" (5)، ولأنه إذا صيد لهم كانوا كالراضين بقتله فلزمهم الجزاء، وإذا لم يصد لهم فلا جزاء عليهم لأنهم لم يتلفوه ولا أتلف من أجلهم. فصل [5 - فيمن كل من صَيْدٍ صِيْدَ من أجله]: وإن أكل (6) من صيد صيد من أجله فعليه فيه الجزاء (7) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (8)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم تصيدوه أو يصد لكم" (9)، ولأنه إتلاف ممنوع منه لأجل رضاه به، فكان عليه الجزاء أصله إذا أتلفه بنفسه،   (1) في (ق): الجامدات. (2) في (م): الشجر. (3) انظر: التفريع: 1/ 327 - 328. (4) انظر: مختصر القدوري: 1/ 216 - 217. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (533). (6) في (م): كان. (7) في (م): الحق. (8) انظر: مختصر القدوري: 1/ 216، الأم: 1/ 208. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة (533). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 ولأن الوكيل كفعل الموكل في الحكم، ولأن في ذلك ذريعة إلى استباحة الاصطياد فوجب حسم الباب. فصل [6 - من قتل صيدًا وأكله؟]: ومن قتل صيدًا فأكله فعليه جزاء واحد (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: عليه الجزاء وضمان قيمة ما أكل (2) لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} (3)، فلم يوجب سواه، ولأن الإتلاف بعد القتل لا يوجب جزاء آخر كما لو قتله وأحرقه. فصل [7 - لا يذبح المحرم الصيد]: ولا يصح من المحرم تذكية الصيد (4) خلافًا للشافعي (5) لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (6)، والقتل في الشرع عبارة عن الإتلاف الذي لا يبيح الأكل والذكاة عبارة عن ما يبيحه، ولأنه ذبح محرم لحق الله لمعنى في نفس الذابح فأشبه ذبح المجوسي، ولأن كل معنى أوجب تحريم أكل المذبوح على ذابحه أوجبه على غيره أصله ذبح المجوسي، ولأن كل صيد حظر على صائده لحق الله فلا تصح تذكيته له أصله الخنزير. فصل [8 - ذبح الصيد المملوك في الحرم]: وللحلال أن يذبح صيدًا مملوكًا في الحرم ولا جزاء عليه (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)؛ لأنه لما جاز له إمساكه والتصرف فيه وهو حلال في الحرم، جاز له   (1) انظر: التفريع: 1/ 328. (2) مختصر القدوري: 1/ 216. (3) سورة المائدة، الآية: 98. (4) انظر: التفريع: 1/ 328. (5) انظر: الإقناع ص 91. (6) سورة المائدة، الآية: 95. (7) انظر: الكافي ص 155. (8) انظر: مختصر القدوري: 1/ 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ذبحه كالنعم (1)، ولأن كل من جاز له تملك صيد بالشراء والهبة جاز له ذبحه كالحلال إذا كان في الحل، ولأنه لو منع ذلك لفسد لحم الصيد، فأدى إلى أنهم لا يأكلونه إلا متغيرًا، والفرق بين حرمة الموضع وحرمة الإحرام لأن الإحرام لا يدوم وحرمة الموضع دائمة فافترقا فيما يحرم في الإحرام كالنكاح والوطء؛ لأن حرمة الإحرام تمنع منها وحرمة الموضع لا تمنعه. فصل [9 - المحرم يدل على صيد لمن يقتله أو يصيده]: ولا يجوز لمحرم أن يدل على صيد لمن يقتله أو يصيده (2)؛ لأن ذلك يجري مجرى المعاونة على قتله، ومن منع فعل شيء منع المعونة عليه، ولأنه لما حرم عليه قتل الآدمي حرم عليه أن يدل عليه كذلك الصيد. فصل [10 - فيمن دل على صيد فصاده]: وإن فعل أثم ولا جزاء عليه (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} (5)، فعلق وجوب الجزاء بالقتل المباشر، فدل على انتفائه بغيره، ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل على عبد غيره، ولأنه لم يكن منه قتل لا بمباشرة ولا بسبب أثَّر في نفسي المقتول كالدال على قتل الآدمي، ولأنه ممنوع من إتلاف الصيد (6) لحرمة توجب منع اصطياده، فإذا دل عليه لم يلزمه جزاء (7) أصله الحل الذي الحرم إذا دل على صيد في الحرم.   (1) في (ق): كالغنم. (2) انظر: الكافي ص 155. (3) انظر: الكافي ص 155. (4) انظر: مختصر القدوري ص 21. (5) سورة المائدة، الآية: 98. (6) في (م): صيد. (7) في (م): الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 فصل [11 - اشتراك محرمين في قتل صيد]: إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد، فعلى كل واحد جزاء كامل (1) خلافًا للشافعي في قوله: أنه على جميعهم جزاء واحد (2)، لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (3)، وهذا خطاب لكل قاتل في نفسه، ولأنه محرم أتلف صيدًا ممنوعًا من إتلافه كالمنفرد، ولأنه اشتراك في قتل نفس تجب الكفارة بقتلها، فكانت الكفارة بعدد القاتلين كالآدمي ولأنه معنى تتصف (4) به الجماعة، والآحاد لو انفرد كل واحد به لزمته كفارة كاملة فكذلك إذا أشرك فيه كالجماعة إذا اشتركت في الحلف على شيء واحد، فإن على كل واحد كفارة كاملة، ولأن الجزاء طريقة الكفارة لا الدية لقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} (5)، ولأنه حق لله يجب (بإتلاف نفس للصوم مدخل فيه، فكان على كل واحد كفارة كقتل الآدمي، ولأنه من المحظورات فكان الواجب) (6)، بإتلافه كفارة كحلق الرأس والطيب. فصل [12 - قتل المحرم صيدًا لغيره]: إذا قتل المحرم صيدًا لغيره فعليه القيمة مع الجزاء (7)، خلافًا لمن أسقط عنه الجزاء، لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} (8) فعم، ولأنه ممنوع من قتله لحرمة الإحرام فعليه الجزاء كالذي ليس بمملوك.   (1) المدونة: 1/ 330، الموطأ: 1/ 240، الكافي ص 156. (2) الأم: 2/ 207، مختصر المزني ص 72. (3) سورة المائدة، الآية: 95. (4) في (ق): تختص. (5) سورة المائدة، الآية: 95. (6) ما بين قوسين سقط من (م). (7) المدونة: 1/ 332، الكافي ص 155. (8) سورة المائدة، الآية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 فصل [13 - جزاء الصيد]: لا يخلوا الصيد الذي يقتله المحرم أن يكون مما له مثل من النعم أو أن يكون مما لا مثل له: فإن كان له مثل وشبه (1) من النعم فجزاؤه ذلك المثل كالنعامة المشبهة للبدنة وحمار الوحش المشبه للبقرة وغير ذلك مما نذكر مفصلًا، فهذا النوع من الصيد يجب فيه ما يقرب شبهه به من النعم (2)، وإن كان مما لا مثل له كالأرنب واليربوع (3)، وغير ذلك ففيه حكومة، ووجوب إخراج المثل غير متحتم، فإن شاء القاتل أخرجه، وإن شاء أخرج قيمته طعامًا ويخرج قيمة الصيد المقتول لا قيمة المثل، ويقوم نفس الصيد المقتول بالطعام دون تقويمه بالدراهم وتقويم الدراهم بالطعام، فإن شاء صام بدلًا من الطعام مكان كل مد أو كسره يومًا بالغًا ما بلغ. ولا يجوز أن يلي ذلك بنفسه دون التحكيم عليه لذوي عدل سواه يحكمان عليه بعد تخييره ما يريده (4) من ذلك من غير أن يجبراه على غير إرادته، فإذا اختار ما يحكمان به عليه ثم حكما به، فقد انحتم وجوبه وسقط ما بعد (5) خياره، وأصل الجزاء على التخيير دون الترتيب ويلزم التحكيم في كل وقت، وفيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم تحكم فيه، والواجب فيه هدي كامل يسوقه من الحل إلى الحرم ولا يأكل منه ويطعم لمساكين الحرم دون غيرهم، ومحله مني إن وقف به بعرفة وإن فاته ذلك نحوه بمكة (6).   (1) في (م) شبيه. (2) في (ق): الغنم وهو خطأ. (3) اليربوع: دويبة نحو الفأرة لكن ذنبه وأذناه أطول منها، ورجلاه أطول من يديه (المصباح المنير ص 216). (4) في (م): يريد. (5) ما بعد: سقطت من (ق). (6) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 327 - 345، التفريع: 1/ 328، 329، الرسالة ص 182، الكافي ص 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 فصل [14 - في أن ماله مثل النعم مضمون بمثله]: وإنما قلنا: أن ماله مثل من النعم مضمون (بمثله خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه مضمون) (1) بالقيمة (2) لقوله عَزَّ وجَلَّ (3): {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (4)، ففيه أدلة: أحدهما: أن إطلاق المماثلة يقتضي الخلقة والصورة والجنس، فلما قيده بأن يكون من النعم علم بأنه أراد الخلقة من هذا النوع دون غيره. والثاني: قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (5)، وهذه الكناية عائدة إلى الجزاء وهو المثل من النعم ولا ذكر للقيمة للظاهر. والثالث: قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (6)، فأوجب أن يكون نفس الشيء المحكوم به هديًا بالغ الكعبة، وهذا لا يمكن في القيمة دون أن تبدل (7)، وإنما يصح في المثل، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الضيع صيد وفيها كبش إذا أصابها المحرم" (8)، ففيه أدلة: أحدهما: أنه عين الواجب فيها وهو الكبش، وعند المخالف أن الواجب القيمة من غير تعيين. والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم جعل فيها جزاء مقدرًا وعندهم لا يتقدر، لأنه يزيد وينقص باختلاف القيم. والثالث: أنه أوجب كبشًا وعندهم يجب تارة كبشًا، وتارة دونه، وتارة أكثر منه بحسب اختلاف القيمة، ولأنه إجماع الصحابة روي عن عمر وعثمان   (1) ما بين قوسين: سقط من (م). (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 70، مختصر القدوري 1/ 211 - 212. (3) في (م): تعالى. (4): (6) سورة المائدة، الآية: 95. (7) دون أن تبدل: سقطت من (م). (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (535). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وعليّ وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن مسعود وعائشة (1) رضي الله عنهم أجمعين ولا مخالف لهم (2)، ولأنه حيوان يخرج في كفارة، فوجب أن لا يكون على وجه القيمة كإعتاق الرقبة. فصل [15 - ما لا مثال له من الصيد]: وإنما قلنا: أن ما لا مثال له فيه حكومة: وهي وجوب قيمة لحمه لأن هذه سبيل سائر المتلفات أن المراعي فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره، ولأن الناس قائلان (3): فمعتبر للقيمة في جميع الصيد ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم، فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له. فصل [16 - كفارة قتل الصيد على التخيير]: وإنما قلنا: إن كفارة قتل الصيد على التخيير دون الترتيب خلافًا لما يحكيه بعض أهل الخلاف عن ابن عباس وغيره (4) من كونها على الترتيب لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ... إلى قوله: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} (5)، أو عدل ذلك صيامًا أو موضوعة للتخيير إذا وردت لغير الشك مثل الأمر أو إباحة جنس، ولأن الصيغة ها هنا كهي في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (6)، معلوم أن مفهومها في ذلك الموضع التخيير فكذلك ها هنا (7) في مسألتنا, ولأنه حق لزم بإتلاف صيد كان ممنوعًا لحرمة الإحرام، فوجب أن يكون على التخيير أصله كفارة الأذى.   (1) أخرج منه الآثار: البيهقي: 5/ 181 - 182، والشافعي في الأم: 2/ 190. (2) انظر: المغني: 3/ 509 - 510، المحلي: 7/ 339، فتح الباري: 3/ 421، المجموع: 7/ 411 , 419. (3) في (م): رجلان. (4) وعن الثوري والشعبي (انظر: المحلي: 7/ 221، المغني: 3/ 519، 521). (5) سورة المائدة، الآية: 95. (6) سورة البقرة، الآية: 196. (7) ها هنا: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فصل [17 - قصر كفارة قتل الصيد على الثلاثة أنواع فقط]: وإنما قلنا: إنها مقصورة على هذه الأنواع الثلاثة، وهي المثل من النعم فيما له مثل منه أو الإطعام أو الصيام أو القيمة فيما لا مثل له لأن النص ورد بحصرها على ذلك دون زيادة عليه، واعتبارًا بفدية الأذى بعلة ما قدمناه. فصل [18 - التحكيم فيما يخرجه عما قتل من النعم]: وإنما قلنا: إنه ليس (1) له إخراج شيء من ذلك بنفسه دون التحكيم فيه لورود النص باشتراط التحكيم لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2)، ولا خلاف في ذلك (3). فصل [19 - التحكيم يكون من اثنين]: وإنما قلنا: إنه لا يكتفي بأقل من اثنين لقوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4)، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما (5) ليحكم معه على رجل قتل ظبيًا وهو محرم (6)، وكذلك دعى كعبًا (7) في قصة أخرى (8)، ولأنه عدد مشترط بالنص في ما يتعلق بالتحكيم كالحكمين في   (1) في (م): يجوز وهو خطأ. (2) سورة المائدة، الآية: 95. (3) انظر: المغني: 1/ 511 - 512، المجموع: 7/ 411، المحلي: 3297، فتح الباري: 3/ 421. (4) سورة المائدة، الآية: 95. (5) رضي الله عنهما: سقطت من (ق). (6) انظر: البيهقي: 5/ 181 - 182. (7) كعب: بن مانع، يكنى أبا إسحاق، ويعرف بكعب الأحبار، وهو من حمير من آل ذي رعين، وذكر أبو الدرداء كعبًا فقال: إن عند ابن الحميرية لعلمًا كثيرًا (طبقات ابن سعد 7/ 445). (8) عبد الرزاق: 4/ 432، والموطأ: 1/ 352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 النشوز، ولأنه عدد منصوص عليه فيما يتعلق بتكفير لزم لنقص في الإحرام كالصيام وعدد المساكين في فدية الأذى. فصل [20 - القاتل ليس أحد الحكمين]: وإنما قلنا: إنه لا يكون القاتل أحد الحكمين (1) خلافًا للشافعي (2)، لقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3)، فخاطب (4)، بذلك من يلزمه التحكيم فاقتضى أن يكون الحكمان غير المحكوم عليه كما قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (5)، فاقتضى أن يكون الشاهد غير المشهود عليه، ولأن حكم الإنسان على نفسه غير متصور، ولأن الحكم كما يقتضي حاكمًا فيقتضي (6) محكومًا عليه غيره كاقتضائه محكومًا له غيره، ولأن الجزاء بدل للمتلف فلم يرجع فيه إلى أمانة المتلف كتقويم المتلفات. فصل [21 - تخيير الحاكمين للقاتل في نوع الجزاء]: وإنما قلنا: إنهما يخبرانه لورود النص بذلك، وإنما ينحتم عليه النوع الذي يكفر به بعد اختياره وحكمهما عليه بما يختاره. فصل [22 - تقويم الصيد بالطعام]: وإنما قلنا: إن اختار التكفير بالإطعام قوَّم الصيد نفسه بالطعام لا المثل خلافًا للشافعي في قوله: أن يقوم المثل (7) لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ   (1) انظر: التفريع: 1/ 2328، الرسالة ص 182. (2) في أصح قوليه (انظر المهذب: 1/ 216). (3) سورة المائدة، الآية: 95. (4) في (م): يخاطب. (5) سورة الطلاق، الآية: 65. (6) في (م): فاقتضى. (7) انظر: الأم: 2/ 185، مختصر المزني ص 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 النَّعَمِ .. إلى قوله: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} (1)، وظاهره يقتضي أن يكون الإطعام جزاء عن المقتول معتبرًا به دون المثل، ولأن المتلف هو الصيد دون المثل فوجب أن يكون هو المقوم كسائر المتلفات، ولأن الإطعام بدل (2) عن نفس المتلف، فوجب أن يكون معتبرًا به لا بغيره أصله المثل من النعم، ولأنه طعام مخرج في جزاء الصيد فوجب أن يكون معتبرًا بقيمة الصيد كالذي لا مثل له. فصيل [23 - تقويم الصيد بالطعام دون الدراهم]: وإنما اخترنا أن يقوَّم الصيد دون أن يقوم بالدراهم لأن الطعام بدل عن (3) الصيد فوجب أن يقع التقويم به، وإنما يقوم بالدراهم إذا كانت هي المأخوذة في القيمة هذا هو المختار، فإن لم يفعل وقوم الصيد دراهم ثم قومت طعامًا جاز لأن ذلك يؤول إلى معرفة القيمة من الطعام. فصل [24 - التقويم يكون في موضع القتل]: ويقوم بالطعام في الموضع الذي قتل (4) فيه إن كان هناك طعام يقوم بغالب طعام ذلك المكان إلا أن يكون موضعًا لا طعام فيه ولا قيمة، فيعدل إلى أقرب المواضع إليه لأنه لا يوصل إلى معرفة قيمته بأكثر من ذلك. فصل [25 - في كون الإطعام مدًّا لكل مسكين]: وإنما قلنا: إنه يطعم لكل مسكين مدًّا مدًّا اعتبارًا بسائر الكفارات أنه لا يزاد فيها على مد، وفدية الأذى ليست بكفارة، وإنما هي فدية وعلى أنها مخصوصة بتقدير الصيام فيها بالأيام مع التخيير في جميعها. فصل [36 - الصيام عن كل مد يومًا]: وإنما قلنا: إنه إن اختار الصوم صام عن كل مد يومًا خلافًا لأبي حنيفة في   (1) سورة المائدة، الآية: 95. (2) في (م): الطعام بذل. (3) في (م): من. (4) قتل: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 قوله: إنه يصوم عن كل مدين (1) يومًا (2) اعتبارًا بكفارة الفطر في رمضان، لأنه صيام بدل عن طعام (3)، فوجب لحرمة عبادة ولا يدخل عليه كفارة الظهار لأنه ليس لحرمة (4) عبادة ولا فدية الأذى لأنه جعل فيه مكان أربعة أمداد يومًا، وذلك غير معتبر ها هنا. فصل [27 - جبر كسر المد بصوم يوم كامل]: وإنما قلنا: إنه يجبر كسر المد بصوم يوم كامل لأن إسقاط الصوم غير جائز وتبعيضه غير ممكن فلم يبق إلا جبره بالإكمال كالأيْمَان في القسامة. فصل [28 - لزوم التحكيم فيما حكم فيه الصحابة وفيما لم تحكم]: وإنما قلنا: إن التحكيم يلزم فيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم تحكم خلافًا للشافعي في قوله: أنه يكتفي فيما حكمت فيه الصحابة بما تقدم الحكم به (5) لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ .. إلى قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (6) فعم من الجهتين، ولأنه صيد لزم بقتله الجزاء فلا بد من التحكيم فيه أصله ما لم تمض فيه حكومة. فصل [29 - الهدي الواجب في الجزاء]: وإنما قلنا: إن الواجب فيه هدي لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (7)، ولا بد أن يساق من الحل إلى الحرم -أعني الهدي- خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن اشتراه من الحرم ونحوه أجزاه (8)؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق هديه   (1) في (م): مد وهو خطأ. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 71، مختصر القدوري: 1/ 212. (3) في (م): الطعام. (4) في (م): بحرمة. (5) انظر: مختصر المزني ص 71. (6) سورة المائدة، الآية: 95. (7) سورة المائدة، الآية: 95. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 70 - 71، الأم: 2/ 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 من الحل إلى الحرم (1)، وكان فعله بيانًا للمناسك، ولأنه لو اشتراه في الحل ونحره هناك لم يجزه لأنه لم يجمع له الحل والحرم، وكذلك إذا أفرده بالحرم لا يجزيه، فإن وقف به بعرفة نحوه بمِنَى، وإن لم يقف به نحوه بمكة؛ لأن النحر في الحج لا يكون إلا بأحد هذين الموضعين: إما مِنَى، أو مكة، فإذا (2) لم يكن يوجد فيه شرط النحر كان النحر بمكة. فصل [30 - أمثال الصيد]: فأما تفصيل أمثال الصيد من النعم: ففي النعامة بدنة، وبذلك حكمت الصحابة لأنها (3) أشبه شيء بها من بهيمة الأنعام، وفي حمار الوحش والإبل بقرة لأنها أقرب شبهًا به من الإبل والغنم. وفي الغزال شاة لأنها أشبه به من الإبل والبقر وعلى هذا تجري مسائله (4). وفي حمام مكة شاة وفي حمام الحرم شاة، واختلف فيه، فقيل: هذا، وقيل: حكومة (5)، وفي حمام الحل حكومة، وفي بيض النعامه عُشر ثمن البدنة، وفي بيض الطير عُشر ثمن ما يجب في أمه، وفي سائر الطير والوحش مما لا مثل له الاجتهاد كالأرنب واليربوع والصقر والبازي (6)، والسمان (7)،   (1) أما كونه صلى الله عليه وسلم ساق هديه من الحل إلى الحرم، فمعلوم بالضرورة أنه حج من المدينة واعتمر منها وأصحب معه الهدي منها (الهداية في تخريج أحاديث بداية المجتهد: 5/ 481)، وقد جاء في صحيح البخاري: "أنّه صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية، فلما كان بذي حليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم" (كتاب الحج، باب: إشعار البدن: 2/ 182). (2) في (م): فإن لم. (3) في (م): لأنه. (4) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 334 - 335، التفريع: 1/ 338، الكافي ص 157. (5) انظر: المدونة: 1/ 335، التفريع: 1/ 348، الكافي ص 157. (6) البازي: ضرب من الصقور يستخدم في الصيد (المعجم الوسيط: 1/ 76). (7) السمان: طائر معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 والدراج (1)، وغير ذلك، ويجب في صغار الصيد الذي ليس له مثل من النعم (2)، مثل ما يجب في كباره. فصل [31 - حمام مكة]: وإنما قلنا: في حمام مكة شاة لحكم الصحابة بذلك (3)، وإنما قلنا: فصلنا في حمام الحرم والحل لحرمة الحرم وكثرة الحمام بمكة وتأكيد (4) حرمتها. وإما قلنا: إن في بيض النعامة عُشر من البدنة خلافًا للشافعي (5) في قوله: أن الواجب فيه قيمة البيضة، لحكم الصحابة بذلك، واعتبارًا بالجنين أن فيه عُشر ما يجب في أمه. وإنما قلنا: إن فيما سوى ذلك الاجتهاد لأنه لا مثل له من النعم فلم يبق إلا الاجتهاد. فصل [32 - في صغار الصيد]: وإنما قلنا: إن في صغار الصيد من المثل من النعم مثل ما في كباره خلافًا للشافعي في قوله (6) أن في النعامة الكبيرة بدنة وفي الصغيرة فصيلًا، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخله عجلًا، لقوله تعالى (7): {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (8)، فلو تركنا هذا لقلنا في الصغر والكبر والصورة، فلما قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (9)، اقتضي ما يتناوله اسم الهدي نحو الإطلاق، وذلك   (1) الدراج: ضرب من الطير (الصحاح: 1/ 314). (2) مثل من النعم: سقطت من (م). (3) انظر: البيهقي: 5/ 205 - 206، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وابن عباس وابن المسيب رضي الله عنهم جميعًا. (4) في (م): تأبيد. (5) انظر: الأم: 2/ 191. (6) انظر: الأم: 2/ 190، مختصر المزني ص 95. (7) في (م): عَزَّ وجَلَّ. (8) و (9) سورة المائدة، الآية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 يقتضي الهدي التام لأمرين: أحدهما: أن الصحابة قالت: الهدي بدنة أو بقرة وأدناه شاة (1)، فعمت جنس الهدي فلم يبق هدي إلا ما هذا وصفه. والآخر أن من قال لله عليَّ هدي لزمه هدي تام لا صغير ولأنه حيوان مخرج باسم الكفارة، فلم يختلف باختلاف أصله الرقبة في كفارة القتل والظِهار، ولأنه دم وجب لمعنى محظور في الإحرام، فوجب أن يكون دمًا تامًّا كاملًا أصله نسك الأذى، ولأنه دم لا يجوز نحره في غير الحرم فلم يجز فيه الصغير أصله دم المتعة والقِران. فصل [33 - ما يجوز للمحرم قتله]: وللمحرم قتل الحية والعقرب والفأرة والزنبور (2) من غير خلاف (3)، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: فذكر الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور" (4)، وفي حديث ابن مسعود قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة عرفة (5)، فخرجت حية فقال: "اقتلوا، اقتلوا" فسبقتنا (6). فصل [34 - قتل السباع العادية المبتدئة بالضرر]: وله عندنا قتل السباع العادية المبتدئة بالضرر من الوحش والطير مثل: الأسد   (1) قاله ابن عباس: ما استيسر من الهدي جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم أخرجه البخاري في الحج، باب: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج: 2/ 180. (2) الزنبور: حشرة أليمة اللسع (المعجم الوسيط: 1/ 402). (3) انظر: المجموع: 7/ 341، المغني: 3/ 341. (4) أخرجه البخاري في الحج، باب: ما يقتل المحرم من الدواب: 2/ 123، ومسلم في الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب: 2/ 858. (5) عرفة: سقطت من (ق). (6) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب: 2/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 والذئب والنمر والفهد والكلب العقور وما أشبهها ولا جزاء عليه (1)، ومن الطير: الغراب والحدأة (2). ووافقنا أبو حنيفة في الذئب والكلب العقور، ويخالفنا في السبع والفهد والنمر وغيرها من السباع، فقال: لا يقتل شيئًا من ذلك، وإن قتله فداه (3). وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه من الصيد فلا فدية فيه إلا في السبع وهو المتولد بين الذئب والضبع (4)، فدليلنا على أبي حنيفة ما رواه (5) أبو سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: ما يقتل المحرم؟ فذكر: الحية والعقرب والفويسقة والكلب العقور والحدأة والسبع العادي، وقوله: "خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح فذكر الكلب العقور" (6)، واسمه يعم الأسد وغيره، ولأنه لما أبيح قتل الكلب العقور والذئب وسقط الجزاء فيه للضرر الواقع منه (7)، وابتداؤه بالعدو والفرس، وكان الأسد أدخل في هذه المعاني من كل ما عداه وضرره أشد كان بإباحة القتل أولى، ولأن بما فيه من الصيد لا يضمن إلا بأحد وجهين: إما بمثله في الخلقة أو بكمال قيمته، وكل ذلك معدوم في السبع لأن المخالف لا يراعى المثل في الخلقة ولا يوجب فيه كمال القيمة لأنه يقول: إن زادت قيمته على قيمة شاة لم يجب كمالها، فدل على أنه لا يضمن بالقتل. ودليلنا على وجوب الجزاء في الصقر والبازي والثعلب وكل متوحش لا يؤكل لحمه خلافًا للشافعي (8)، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ   (1) انظر: المدونة: 1/ 334 - 335، التفريع: 1/ 324، الرسالة ص 180. (2) الحدأة -مهموز مثل عِنَبَة-: طائر خبيث (المصباح المنير ص 125). (3) انظر: مختصر القدوري: 1/ 214 - 215. (4) انظر: الأم: 1/ 208 - 209. (5) في (م): روى. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) في (م): عنه. (8) انظر: الأم: 1/ 208 - 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 حرمًا} (1)، وقوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) فعم، ولأنه حيوان بري ممتنع لا يبتديء بالضرر غالبًا، فكان مضمونًا بالجزاء أصله الضبع (3). ...   (1) سورة المائدة، الآية: 96. (2) سورة المائدة، الآية: 95. (3) في (م): السبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 باب: أضرب الحج الإحرام على ثلاثة أخرجه: إفراد (1) وتمتع (2) وقِران (3): فالإفراد: هو أن يحرم بالحج على انفراده من غير إضافة العُمرة إليه، أو بالعُمرة على انفرادها من غير أن يجمع بينها وبين الحج في عقد الإحرام ويعرى من صفة التمتع، (ولا يبين وصفه على الحقيقة إلا بعد أن يتبين صفة القِران والتمتع) (4)، فيعلم أن الإفراد هو ما يعرى عن صفاتهما. فأما القِران: فعلى وجهين: أحدهما أن يبتديء الإحرام بالعُمرة والحج معا في حال واحد ينوي بقلبه ويعتقد أنه داخل فيهما: مقدمًا للعُمرة في نيته من غير اعتبار بلفظه، فهذا يكون قارنًا إذا فعل ذلك بالنية والعقد دون الفعل لأن فعله (5) لا يزيد على فعل المُفرِد في الطواف والسعي والفدية وجزاء الصيد، ولا يؤثر قرانه في زيادة على فعل المفرد، وإنما يؤثر في المفرد يكون فعله للحج وحده، والقِران يكون فعله للعبادتين، ويلزمه الهدي لقرانه إذا لم يكن مقيمًا بمكة متوطنًا (6) على ما سنذكره.   (1) إفراد الحج: هو أن يحرم بنية الحج فقط (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 106). (2) التمتع: هو إحرام من أتم ركن عمرته، ولو بآخر شرط في أشهر الحج لحج عامه (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 106 - 107). (3) القِران: هو الإحرام بنية العُمرة والحج (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 106). (4) ما بين قوسين سقط من (ق). (5) في (م): الفعل. (6) في (م): مستوطنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 والضرب الآخر: أن يبتديء الإحرام بالعُمرة (1) مفردًا ثم يضف الحج إليها، ومعنى ذلك أن يجدد اعتقادًا أنه قد شرك (2) بينها وبين الحج في ذلك الإحرام، فهنا يكون قارنًا كالمبتديء بعقد الإحرام لهما. واختلف أصحابنا في الوقت الذي يكون له ذلك فيه (3): فقيل ذلك له ما لم يشرع في الطواف، فإن شرع فيه ولو شوطًا واحدًا، فقد فاته القِران، وقيل: ما لم يطف ويركع ويكره له (4) بعد الطواف وقبل الركوع، فإن فعل لزمه، فأما بعد الركوع فقد فاته -دخل في السعي أو لم يدخل- وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العُمرة من طواف أو سعي، واتفق على أنه إذا فرغ من السعي وبقى عليه الحلاق فقد فاته القِران، وإذا (5) قرن بعد الفوات على الاختلاف فيه، وقد بقى عليه من عمل العُمرة، فقد اختلف في لزوم الحج له بعد فراغه من العُمرة وتحلله: فقيل يلزمه الحج مبتدئًا بالإحرام، وقيل: لا يلزمه، وتحرير القول في صفته: أن يشرك غير المكي بين العُمرة والحج في إحرام واحد مقدمًا للعمرة عقدًا أو إردافًا على الاختلاف الذي ذكرناه في وقته، هذا على (6) قول مالك وأكثر أصحابنا، وأما عبد الملك فعنده أن القارن من أهل مكة عليه دم القِران، فلا معنى لاشتراط كونه من غير أهل مكة على قوله (7)، ولسنا نريد باشتراطنا أن يكون غير مكي أن المكي إذا قرن على الصفة التي ذكرناها لم يكن قارنًا، لأن ذلك رفع الوجوب (8)، وإنما نريد أنه ليس له حكم القارن في وجوب الدم بالقِران -هذا الكلام في صفة القِران-.   (1) العُمرة: سقطت من (ق). (2) في (م): أشرك. (3) انظر: التفريع: 1/ 335، الرسالة ص 181، الكافي ص 149 - 151. (4) في (ق): ذلك. (5) في (م): فإن. (6) على: سقطت من (ق). (7) في (ق): على قولنا. (8) في (م): دفع الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 فأما التمتع: فأصله الذي أخذ (1) منه الجمع بين العُمرة والحج في سفر واحد فسمي ذلك متمتعًا لإسقاط أحد السفرين وتمتعه بذلك، وله شروط ستة: أحدها: ما ذكرناه أن يجمع بين العُمرة والحج في سفر واحد لأنه إن عاد إلى بلده بعد تحلله من عمرته أو مثل بلده في المسافة ثم سافر بالحج من عامه لم يكن بمتمتع لأنه لم يتمتع بإسقاط أحد السفرين. والثاني: أن يكون ذلك في عام واحد، فإن حلَّ من العُمرة فأقام إلى قابل ثم حج فليس بمتمتع، وإن كان السفر واحدًا. والثالث: أن يفعل العُمرة أو شيئًا منها في أشهر الحج، فلو حل منها قبل دخول شوال ثم أنشأ الإحرام بالحج من عامه في سفره ذلك لم يكن متمتعًا وليس من شرطه أن يبتديء الإحرام بالعُمرة في أشهر الحج بأن يكون متمتعًا -وإن أحرم بها قبل أشهر الحج (2) إذ أتمها في أشهره-. والرابع: أن يقدم العُمرة على الحج، فإن قدم الحج ثم أحرم بالعُمرة بعد فراغه منه في عامه (3) ذلك فليس بتمتع. والخامس: أن ينشيء الإحرام بالحج بعد فراغه من العُمرة وإحلاله منها، فإن كان بخلاف ذلك كان قارنًا على ما قدمناه (4) من بيان الأرداف (5)، ولم يكن متمتعًا. والسادس: أن يكون وطنه غير مكة من سائر الآفاق من الحرم أو الحل، فإن كان من مكة نفسها فليس بمتمتع، هذا جملة القول في حصر شروطه، فإذا ثبت   (1) في (ق): أوخذ. (2) في (ق): أشهره. (3) في (م): في سفره. (4) في (م): ما بيناه. (5) الإرداف: هو أن يحرم بالعُمرة ويدخل عليها الحج قبل الطواف (مواهب الجليل: 2/ 310)، ويعني به أن العُمرة لا ترتدف على الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 بما ذكرناه بيان صفة القِران والتمتع (1)، فالإفراد هو الإحرام العاري عن صفاتهما (2)، ونحن ندل على جميع ذلك (3). فصل [1 - حصر الإحرام في هذه الأقسام الثلاثة]: وإنما حصرنا قسمة (4) الإحرام على هذه الأقسام الثلاثة، لأنه لا يتوهم خلوه من أحدها ولا يتصور وقوعه على وجه زائد عليها ولا ورود (5) شرع بذلك كاف في الاستدلال عليه. فصل [2 - دليل القِران]: وإنما قلنا: إن القِران جائز لفعل الصحابة (6) والسلف له، وإجماعهم على جوازه من غير خلاف بينهم فيه (7). فصل [3 - الجمع بين العُمرة والحج في القِران]: وإنما قلنا: إنه يجمع بين العُمرة والحج في إحرام واحد، لأن ذلك فائدة وصفه بأنه قِران، ولأنه لو أفرد كل واحد منهما بإحرام لم يكن قارنًا، وكان لكل عبادة حكم نفسها في استغنائها عن الأخرى. فصل [4 - القارن لا يزيد على فعل المفرد]: وإنما قلنا: إنه لا يزيد على فعل المفرد خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن عليه   (1) في (م): المتمتع. (2) أي ما عرى من صفة التمتع والقِران. (3) في جملة أحكام الإحرام بأنواعه الثلاث انظر: المدونة: 1/ 312 - 318، التفريع: 1/ 335 - 336، الرسالة ص 181، الكافي ص 149 - 151. (4) في (ر): صفة. (5) في (م): ورد. (6) وهذا معلوم بالتواتر عنهم. (7) انظر: شرح المسلم - للنووي: 5/ 250، المغني: 3/ 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 طوافين وسعيين (1) لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك" (2)، وروي إسماعيل بن إسحاق (3) (يجزيك) (4)، وهذا نص لأن عند أبي حنيفة لا يقع به إجزاء ولا كفاية، ولأنه نسك يؤتي به في الحج والعُمرة معًا، فوجب أن يكتفي القارن منه بواحد أصله الحلاق، ولأن العُمرة لو كانت لا تدخل في أفعال الحج لم يجز الجمع بينهما لأن كل عبادتين لا تتداخلان، فالجمع بينهما غير جائز كالصلاتين والحجتين، فلما أجاز الجمع بينهما علمنا أنهما تتداخلان كالطهارة. فصل [5 - جزاء ما يقتله القارن من الصيد]: وإنما قلنا: إنه إذا قتل صيدًا كفاه جزاء واحد، وكذلك فدية واحدة في التطيب واللباس والحلق وغيره من ممنوعات الإحرام، وهدي واحد للفساد خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن عليه في كل ذلك جزائين وفديتين (5). والأدلة ها هنا مفروضة في جزاء الصيد وما عداه يلحق به بالإجماع على أنه لا فرق بينهما لقوله تعالى (6): {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} (7)، فأوجب على قاتل الصيد جزاء واحد، ولم يفرق بين أن يكون قارنًا أو مفردًا، ولأنهما   (1) انظر: مختصر الطحاوي 60 - 61، مختصر القدوري: 1/ 196 - 197. (2) أخرجه مسلم في الحج، باب: بيان وجوه الإحرام: 2/ 879. (3) إسماعيل بن إسحاق: هو أبو اسحق إسماعيل بن حماد، تفقه بابن المعذل، وسمع من ابن أبي أويس ألف المبسوط، وأحكام القرآن وغيرها (ت 282 هـ، بغداد (ترتيب المدارك: 4/ 278، الديباج: 1/ 349). (4) والحديث أخرجه مسلم في الحج، باب: بيان وجوه الإحرام: 2/ 880، بلفظ: "يجزي عنك". (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 71. (6) تعالى: سقطت من (ق). (7) سورة المائدة، الآية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 حرمتان لو انفردت كل واحدة منهما بقتل الصيد فيها للزمه الجزاء لها (1)، فإذا اجتمعتا كفاه لها جزاء واحدًا أصله المحرم إذا قتل صيدًا في الحرم، ولأنه إحرام واحد (2)، قتل فيه صيدًا واحدًا فلزم فيه جزاء واحد كإحرام المفرد. فصل [6 - متى يتحقق القِران؟]: وإنما قلنا: إنه يكون على الوجهين اللذين (3) ذكرناهما؛ لأن ذلك مروي عن السلف على هذا الوجه دون غيره فقصرناه لذلك عليه، ووجه القول بأن ذلك له ما لم يشرع في بعض الطواف، فإن شرع في شيء منه فقد فاته القِران إن كان شروعه فيه على وجه يستحق إتمامه على ذلك الوجه، فليس له نقله إلى غيره لأن في ذلك نقصًا لما أوجبه على نفسه ونقصًا مما ألزم (4) نفسه إكماله، وذلك غير جائز، ويفارق الطواف الإحرام لأن الإحرام ابتداء يراد لما بعده، فإذا لم يشرع في مقصوده وسمع له أن يقصر إرادته به على أحدهما أو عليهما. فصل [7 - هل يصح القِران إذا تم الإرداف بعد الطواف؟]: ووجه القول بأن ذلك له ما لم يكمل طوافه وركوعه، فلأن الطواف ما لم يكمل فلم يتقرر حكمه ولم يأت بركن من أركان العمرة فلم يمنعه ذلك من إضافة الحج إليها، فإذا فرغ من الطواف (لم يكن له ذلك لأن السعي قد لزمه عقيبه على الوجه الذي فعل عليه الطواف) (5)، فليس له نقله إلى غيره، فأما إذا طاف ولم يركع فيكره له ذلك لأن الركوع لاتصاله بالطواف ومنع تراخيه عنه وتبعه له كأنه جزء منه.   (1) في (م): لهما. (2) واحد: سقطت من (ق). (3) في (ق): الذين. (4) لما لزم: في (م). (5) ما بين قوسين سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 وليس كذلك السعي لأنه وإن جمع هذه الأمور، فله حكم في نفسه (1) في الوجوب وكونه ركنًا فهو في هذا المعنى مساوٍ للطواف غير تابع، فإن فعل لزمه لأن الطواف قائم بنفسه في الحقيقة عدا الركوع بخلاف بعض أشواطه، ووجه القول بأن له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من بعض الطواف أو السعي هو أنه أردف الحج على عُمرة قد أحرم بها ولم يتحلل منها، فكان قارنًا أصله إذا أردفه قبل الطواف. فصل [8 - هل يلزمه الحج إذا وقع الإرداف على وجه غير جائز؟]: فإذا قيل (2): تلزمه حجة بعد الفوات، فلأنه أردف حجًّا على عُمرة ولم يتحلل منها فتضمنه هذا الإرداف نسكين (3): أحدهما: الحج على نفسه، والآخر: تداخل العملين، فلما لم يصح تداخل العملين بطل الأرداف (4)، ولم يبطل الإيجاب لأن بطلان غرضه لا يوجب بُطلان أصله ألا ترى أن من أحرم لحج ثم فاته لم يجز أن يسقط عنه عمل العُمرة لفوات غرضه، وإذا قلنا: أنه لا يلزم فلأنه أردف إحدى العبادتين على الأخرى على وجه لا يصح له، فلم يلزمه حكم يفعله أصله إذا أردف حجًّا على حج أو عمرة على عمرة أو عمرة على حج. فصل [9 - إرداف العُمرة على الحج]: وإنما قلنا: إنه إذا أردف عُمرة على حج، فإنه لا يلزمه ولا يكون قارنًا لأنه لا يستفيد بهذا الإرداف زيادة فعل إذ لا يفيد هذا الإرداف شيئًا لم يكن عليه بالإحرام (5) الأول، فلم يكن له معنى.   (1) في: سقطت في (م). (2) في (م): قلنا. (3) في (ق) و (ر). شيئين. (4) في (ف): الترادف. (5) في (م): الإحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 فصل [10 - إرداف حج على حج]: وإنما قلنا: إنه إذا أردف حجًّا على حج أو أحرم بحجتين معًا، فلا يلزمه خلافًا لأبي حنيفة (1) للمعنى الذي ذكرناه، وهو أنه لا يستفيد به شيئًا ولا يتسع الوقت لأدائهما فعلًا فلم يلزم، ومتى فعل ذلك كان محرمًا بواحدة منهما (2). فصل [11 - القارن من أهل مكة لا دم عليه]: ووجه قول مالك: إن القارن من أهل مكة لا دم عليه لأنه لم يلزمه في الأصل سفران، فيسقط أحدهما فيلزمه الدم لذلك، وهذا المعنى هو الأصل في لزوم الدم على القارن، ووجه قول عبد الملك: أنه قد أسقط أحد العملين أتى بأحدهما وهذا يستوي فيه المكي وغيره، وبذلك فارق المتمتع (3) لأن ما له وجب الدم على غير المكي معدوم في المكي وهو تمتعه بإسقاط أحد السفرين. فصل [12 - المتمتع يجمع بين العُمرة والحج في سفر واحد]: وإنما شرطنا في المتمتع أن يجمع بين العُمرة والحج في سفر واحد؛ لأن ذلك هو المعنى الذي له سمي متمتعًا، وهو تمتعه بإسقاط أحد السفرين لأنه كان عليه في الأصل أن ينشيء سفرًا للحج وسفرًا للعُمرة، فلما جمع بينهما في سفر واحد ترفه بذلك، وتمتع بإسقاط أحدهما فلزمه الدم بذلك. فصل [13 - المعتمر يرجع إلى أفقه ثم يحج من عامه]: وإنما قلنا: إنه إذا رجع إلى أفقه أو مثله في البعد ثم حج من عامه، فليس بمتمتع خلافًا لما يحكي عن الحسن (4) لأن ما قلناه مروي عن ابن عمر (5)، ولا   (1) شرح فتح القدير: 2/ 290. (2) منهما: سقطت من (م). (3) في (ق): التمتع. (4) واختاره ابن المنذر كذلك: المغني: 3/ 471. (5) وروي كذلك عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إذا اعتمر في أشهر الحج، ثم قام فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع"، مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 54، المحلى: 7/ 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 مخالف له، ولأنه لم يحصل منه تمتع لأنه قد أتى بالسفرين على ما كان عليه في الأصل، ومجرد فعل العُمرة في أشهر الحج لا يكون تمتعًا إلا إذا كان تابعًا للترفه بالسفر. فصل [14 - وجه اشتراط رجوعه إلى أفقه أو إلى مثله في البعد]: وإنما راعينا في الرجوع أن يكون إلى أفقه أو إلى مثله في البعد خلافًا للشافعي في قوله: إنه إذا رجع إلى الميقات وأحرم بالحج لم يكن متمتعًا (1)؛ لأن التمتع هو الترفه بإسقاط أحد السفرين، فيجب أن يعتبر موضع السفر، فإن وجد مترفًا فيه بإسقاط أحدهما، فقد وجد فيه معنى التمتع (وقد علمنا أن البغدادي إذا أحرم بالعُمرة في أشهر الحج وحل منها ثم خرج إلى ذات عرق أو إلى الطائف أو غيرها ثم أحرم فلم يزل عنه الترفه والتمتع) (2)؛ لأنه قد جمع بين العُمرة والحج في سفر واحد، وإن هذا القدر لا تأثير له في المشقة عندما كان عليه في الأصل فصح ما قلناه. فصل [15 - التمتع بحج من عامه الذي اعتمر فيه]: وإنما شرطنا أن يحج من عامه لأن ذلك (مبني على أن يجمع بين العُمرة والحج في أشهر الحج، فهذا لا يكون إلا إذا كان في عام واحد لأنه إذا كان في عامين لم يكن معتمرًا في أشهر الحج الذي أتى به. فصل [16 - المتمتع يأتي بالعُمرة في أشهر الحج]: وإنما شرطنا أن يأتي بالعُمرة في أشهر الحج لأن ذلك) (3) معنى التمتع، ولأن أصل الرخصة به تعلقت وهي إيقاع العُمرة في أشهر الحج الذي هو أولى بها لأن العرب كانت ترى ذلك تجوزًا، ولذلك راجعوه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يحلوا بعمرة (4) وإن ثبت ذلك تعلق وجوب الدم بهذه الرخصة.   (1) انظر: المهذب: 1/ 201. (2) و (3) ما بين قوسين: سقطت من (ق). (4) فقد قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟، فقال: "افعلوا ما أمرتكم به = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 فصل [17 - ابتداء الإحرام للعُمرة]: وإنما لم يشترط (1) أن يبتديء الإحرام بها في أشهر الحج خلافًا للشافعي في أحد قوليه, لأن فعل العُمرة في أشهر الحج حاصل منه، كما لو ابتدأ الإحرام بهما في أشهر الحج، ولأن الغرض ليس هو استيفاء جميع عملها، وإنما هو عمل غير الحج في أشهره سواء كان جميع العبادة أو بعضها. فصل [18 - تقديم العُمرة على الحج للمتمتع]: وإنما شرطنا أن يقدم العُمرة على الحج لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ (1)} (2)، فيبدأ بالعُمرة في الفعل، ولأن من شرط التمتع أن يجمع بينهما في أشهر الحج، وذلك يتضمن تقدم العُمرة لأن فراغه من الحج هو بتقضي (3) شهره (4) إن قلنا: إن أشهر الحج تنقضي بعد العشر، وإن قلنا: إنها إلى آخر ذي الحجة فلأن الرُخصة تعلقت بأن يأتي بالعُمرة في أشهر الحج في الوقت الذي هو أولى أن يحرم فيه بالحج، وهذا لا يتصور بعد الفراغ فلذلك قلنا: أنه لا بد من تقديمها على الحج. فصل [19 - الإحلال من العُمرة ثم إنشاء إحرام الحج]: وإنما شرطنا أن يحل منها ثم ينشيء إحرامًا بالحج لوجوب الفصل بين صفة التمتع والقِران وليس ذلك إلا بالفصل بين الإحرام بهما؛ لأنه إن أحرم بهما معًا أو أردف الحج على العُمرة صار قارنًا وزال الفصل بينهما.   = فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به، أخرجه البخاري في الحج، باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: 2/ 171، ومسلم في الحج، باب: بيان وجوه الإحرام ... إلخ (2/ 883). (1) إلى الحج: سقطت من (ق). (2) سورة البقرة، الآية: 196. (3) في (م): يقتضي. (4) في (م): أشهر الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 فصل [20 - المتمتع من غير أهل مكة]: وإنما (1) شرطنا أن يكون من غير أهل مكة لقوله تعالى: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2)، وهذا نص، ولأن التمتع مأخوذ من الترفه بإسقاط أحد السفرين، وذلك لا يتصور إلا في غير المكي. فصل [21 - في حاضري المسجد الحرام]: وإنما قلنا: إن حاضري المسجد الحرام هم: أهل مكة نفسها دون من عداهم خلافًا لأبي حنيفة (في قوله: من كان دون المواقيت إلى مكة (3)، وللشافعي في قوله: إنهم من كان من الحرم على مسافة لا يقتصر فيها الصلاة (4) ولغيرهما) (5) في قوله: أنهم أهل الحرم (6)، لقوله تعالى: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (7)، وحاضر الشيء لا يحتاج إلى تكلف مسير إليه من قطع مسافة للحصول فيه، وذلك مقصور على أهل مكة فقط، ولأن كل موضع ليس بمكة فأهله لا يوصفون بأنهم حاضروا المسجد الحرام كالمدينة والعراق. فصل [22 - حكم التمتع]: وإنما قلنا: إن التمتع جائز لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (8)، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم تمتعوا وقرنوا   (1) في (م): إذا. (2) سورة البقرة، الآية: 196. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 60. (4) انظر: المجموع: 7/ 162. (5) ما بين قوسين سقط من (ق). (6) حكاه ابن أبي شيبة عن طاوس قال: ليس حاضري المسجد الحرام إلا أهل الحرام (مصنف ابن أبي شيبة: 4/ 84). (7) و (8) سورة البقرة، الآية: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 وأفردوا (1)، واختلف في حج النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الظاهر أنه أفرد (2). فصل [23 - في تمتع المكي]: ويجوز للمكي (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: ليس له ذلك (4) لعموم الظاهر, ولأن كل من جاز له الإفراد جاز له التمتع والقِران أصله غير المكي وقد دَلَّلنا (5) أنه لا دم عليه خلافًا لأبي حنيفة. فصل [24 - أفضل أنواع الإحرام]: فإذا ثبت ما ذكرناه فالإفراد أفضل من التمتع والقران والتمتع أفضل من القِران (6)، وإنما قلنا: إن الإفراد أفضل من الأمرين خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنهما أفضل منه (7)، وللشافعي في قوله: إن التمتع أفضل من الإفراد (8)، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد بالحج (9)، ورواية عائشة رضي الله عنها (10) أرجح من   (1) كما جاء في حديث عائشة: "فأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بحج وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعُمرة والحج وأهل ناس بعمرة وكنت فيمن أهل عُمرة" أخرجه مسلم في الحج، باب: بيان وجوه الإحرام: 2/ 871، والبخاري في الحج، باب: التمتع والقِران والإفراد بالحج، ومالك في الموطأ: 1/ 335. (2) انظر: حديث عائشة الذي سبق ذكره. (3) انظر: المدونة: 1/ 300، التفريع: 1/ 348، الرسالة ص 181، الكافي ص149. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 60 - 61، مختصر القدوري: 1/ 200 - 201. (5) في (ق): دليلنا. (6) انظر: التفريع: 1/ 335, الرسالة ص 181. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 61، مختصر القدوري: 1/ 196 - 198. (8) انظر: مختصر المزني ص 63 - 64، الإقناع ص 83. (9) سبق تخريج الحديث قريبًا. (10) رضي الله عنها: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 رواية غيرها, ولأن الأفضل أن يؤتي بالعبادة منفردة بنفسها من غير خلط لها بغيرها, ولأن القِران والتمتع يتضمنان من الرخص ما يوجب النقص والجبران من إيقاع العُمرة في أشهر الحج والترفه بإسقاط أحد السفرين وجعل الفعلين (1) واحدًا، وكل ذلك نقص يوجب جبرانًا، والعبادة التي لا نقص فيها ولا تحتاج إلى جبران (أفضل مما خالفها. فصل [25 - دم التمتع والقِران جبران]: وإنما قلنا: إن الدم الواجب بالتمتع والقِران جبران) (2)، لأنّه دم يختص وجوبه بالإحرام فوجب أن يكون لنقص وجبران أصله دم الجزاء ونسك الأذى، ولأنه دم يجب بترك الميقات، وكان كالدم على من جاوز الميقات. فصل [26 - وجه أن التمتع أفضل من القِران]: وإنما قلنا: إن التمتع أفضل من القِران لأنه يأتي بالعملين على تمامهما, ولأن المعاني الموجبة للدم في القِران أكثر منها في التمتع، وكل ما قل ما يقتضي النقص كان العمل أفضل. فصل [27 - في أن الدم واجب بالتمتع والقِران]: إذا ثبت ما ذكرناه أن التمتع والقِران نقص في الإحرام، فالدم واجب بها (3) لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4)، (وقالت عائشة رضي الله عنها: أهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر وكن متمتعات (5).   (1) في (ر): العملين. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) انظر: المدونة: 1/ 300 - 301، التفريع: 1/ 348، الرسالة ص 181. (4) سورة البقرة، الآية: 196. (5) أخرجه البخاري في الحج، باب: ذبح الرجل البقر عن نسائه: 2/ 185، ومسلم في الحج، باب: الاشتراك في الهدي: 2/ 956. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 فصل [28 - الجمع في الهدي بين الحل والحرم]: وهذا الدم هدي لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1)) (2)، ولا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم (3) خلافًا للشافعي (4)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ساق هديه من الحل إلى الحرم فوقف به بعرفة ثم أدخله الحرم ونحره (5) وقال: "خذوا عني مناسككم" (6)، ولأن اسم الهدي مأخوذ من الهدية والإهداء، فيجب أن يهدي من غير الحرم إلى الحرم، ولأن المحرم لما كان يجمع في إحرامه بين الحل والحرم، فكذلك في هديه لأن الهدي محل كما أن الإحرام له محل. فصل [29 - في نحر الهدي قبل يوم النحر]: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقِران قبل يوم النحر (7) خلافًا للشافعي (8) لقوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} (9)، وقد ثبت أن الحلاق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لا يبلغ محله إلا يوم النحر والظاهر لاستغراق الجنس، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عُمرة" (10)، ولو كان النحر   (1) سورة البقرة، الآية: 196. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) انظر: التفريع: 1/ 336، الرسالة ص 181. (4) انظر: الأم: 2/ 184، المهذب: 1/ 236. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 547. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (517). (7) انظر: التفريع: 1/ 334، بداية المجتهد: 5/ 481. (8) انظر: مختصر المزني ص 74. (9) سورة البقرة، الآية: 196. (10) أخرجه البخاري في الحج، باب: التمتع والإقران: 2/ 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 جائزًا قبل يوم النحر لم يتأسف على ذلك لأنه وقت لا يتحلل فيه كما قبل الإحرام. فصل [30 - فيمن لم يجد الهدي]: وإن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع لورود النص (1) بذلك، ووقت الصوم من بعد الإحرام بالحج إلى يوم عرفة (2) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن يصوم عقيب إحرامه العُمرة (3)، لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (4)، ومن لم يحرم بالحج فليس بمتمتع، ولأن قوله في الحج يقتضي أن يكون بعد التلبس بالحج، ولأنه صوم علق وجوبه بشرط فلم يجز تقديمه قبل وجود (5) شرطه أصله الكفارة، ولأنه جبران للتمتع كالهدي. فصل [31 - صوم أيام مِنَى]: فإن فاته ذلك كله صام أيام منَى، وقد ذكرناه في كتاب الصوم، وإن فاته صوم أيام مِنَى صام بعدها قضاء (6)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يصومها ويستقر الهدي في ذمته (7) لأنه صوم واجب فجاز أن يفعل أداء وقضاء أصله صوم رمضان وكفارة الظِهار، ولأن الصوم معنى يسقط به ما لزم بتمتعه فلم يمتنع فعله بعد خروج وقته أصله الهدي، لأنه لو أخره عن وقته للزمه نحره بعد الوقت.   (1) في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [سورة البقرة، الآية: 196]. (2) انظر: التفريع: 1/ 334، الرسالة ص 181. (3) انظر: مختصر القدوري: 1/ 197. (4) سورة البقرة، الآية: 196. (5) في (م): وجوب. (6) انظر: التفريع: 1/ 334، الرسالة ص 181. (7) مختصر القدوري: 1: / 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 فصل [32 - من عدم الهدي ثم وجده بعد صيام يوم أو يومين]: وإذا عدم الهدي فصام يومًا أو يومين ثم وجده استحببنا له أن يهدي، فإن مضى على صومه جاز (1) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن يهدي إذا وجده قبل الفراغ من الثلاثة وأنه يمضي على صومه إذا وجده في صوم السبعة (2)؛ لأنه بدل تلبس به عند عدم المبدل مقصود في نفسه، فلم يلزمه الخروج منه بوجود المبدل اعتبارًا بوجوده بعد الدخول (في صوم السبعة وتقييده احترازًا من وجود المتيمم الماء قبل الدخول في) (3) الصلاة. فصل [33 - ابتداء صوم السبعة في الطريق]: ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (4) وذلك عندنا رخصة، فإن صامها في الطريق أجزاه (5)، خلافًا للشافعي في أحد قوليه (6)، لقوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (7)، فوجب تعليقه بأول الرجوعين، ولأن إضمار الرجوع إلى الحج أولى لأنه منطوق به، ولأنه فرع من أفعال الحج كما لو رجع إلى أهله. فصل [34 - فيمن ساق هديًا في عُمرته فأراد أن يجعله عن قِرانه]: إذا ساق في العُمرة هديًا تطوعًا، ثم أحرم بالحج، فأراد أن يجعله عن قِرانه، فقد اختلف قوله فيه (8)، والصحيح أنه لا يجزيه لأنه قد وجب بالتقليد والإشعار ولم يبق فيه إلا النحر فلم ينقل عن أصله.   (1) ذكره ابن وهب عن مالك قال: إذا دخل في الصوم ثم وجد هديًا فأحب إليَّ أن يهدي (الجامع لأحكام القرآن: 2/ 401). (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 60. (3) ما بين قوسين: سقط من (م). (4) سورة البقرة، الآية: 196. (5) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 2/ 401. (6) انظر: المهذب: 1/ 209. (7) سورة البقرة، الآية: 196. (8) انظر: المدونة: 1/ 316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 باب: [في الدخول إلى مكة] يستحب للداخل إلى مكة محرمًا أن يدخل من كداء (1) الثنية التي بأعلى مكة، وأن يخرج منها (2) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل في دخوله وخروجه (3). مسألة [1 - البداية بالمسجد واستلام الحجر لداخل مكة]: إذا دخل مكة بدأ بالمسجد فيستلم الحجر بفيه إن قدر، فإن لم يقدر وضع يده عليه ثم وضعها على فيه من غير تقبيل (4)، وإنما قلنا ذلك لما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل مكة لم يلو ولم يعرج دون المسجد" (5). وإنما استحببنا البداية بالشروع في الطواف على كل شيء لأنه تحية للبيت كما أن الركوع قبل الجلوس تحية لسائر المساجد (6)، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل (7)، وإنما قلنا: يبدأ باستلام الحجر لما روى جابر وابن عمر: "أنه صلى   (1) كداء -بالفتح والمد-: بأعلى مكة عند المحصب دار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكدي -بضم الكاف وتنوين الدال-: بأسفل مكة عند ذي طوى، وكدي -مصغرًا فإنما هو لمن خرج من مكة إلى اليمن (معجم البلدان: 4/ 439). (2) انظر: التفريع: 1/ 337، الرسالة ص 175، المقدمات: 1/ 391 - 393، أما خروجه فلقد كان من الثنيا السفلى كما في الصحيحين. (3) أخرجه البخاري في الحج، باب: من أين يخرج من مكة: 2/ 154، ومسلم في الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنيا العليا: 2/ 918. (4) انظر: التفريع: 1/ 337، الرسالة ص 175. (5) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: الأبواب والفلق: 1/ 120. (6) في (م): تحية المسجد. (7) فقد قالت عائشة رضي الله عنها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت"، أخرجه البخاري في الحج، باب: من طاف بالبيت إذا قدم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 الله عليه وسلم بدأ بالحجر فاستلمه" (1)، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال: "إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك" (2). وإنما قلنا: إنه إذا لم يقدر وضع يده عليه (ثم وضعها على فيه ليكون ذلك عوضًا من التقبيل، ولأنه روي ذلك عن جماعة من الصحابة (3). فصل [2 - بداية الطواف من الركن الأسود]: يبدأ بالطواف من الركن الأسود والبيت على يساره فيطوف سبعة أشواط، الثلاثة الأولى منها خبب (4) والأربعة مشي، وكل ما مر بالركن الأسود قبله إن قدر وإلا وضع يده عليه) (5)، على ما ذكرناه، ولا يستلم اليماني ولكن يضع يده عليه ثم يضعها على فيه، فإن طاف منكسًا (6) فلا يجزيه. فصل [3 - دليل بداية الطواف من الركن الأسود]: وإنما قلنا: يبدأ الطواف من الركن الأسود لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل به فاستلم الركن ثم رمل (7).   = مكة: 2/ 162، ومسلم في الحج، باب: ما يلزمه من طاف بالبيت وسعى: 2/ 906 - 907. (1) أخرجه الحاكم: 1/ 455، من حديث أبي جعفر عن جابر وله شاهد من حديث ابن عمر الذي في الصحيحين (تلخيص الحبير: 2/ 246). (2) أخرجه البخاري في الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود: 2/ 160، ومسلم في الحج في باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود: 2/ 925. (3) روي عن ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده، أخرجه مسلم في الحج، باب: استحباب استلام الركنين .. : 2/ 924. (4) خبب: هو ضرب من العَدْو وهو خطو فسيح دون العنق (المصباح المنير ص 162). (5) ما بين قوسين: سقطت من (م). (6) طاف منكسًا: وهو أن يطوف والبيت على يمينه. (7) انظر حديث حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه جابر، والذي أخرجه مسلم في الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 2/ 886 - 892. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 فصل [4 - في كون البيت على يسار الطائف]: وإنما قلنا: إنه يطوف والبيت على يساره لأن رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل (2)، فإن طاف (3) منكسًا فلا يجزيه خلافًا (4) لأبي حنيفة (5)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طاف والبيت على يساره غير منكوس، وقال: "خذوا عني مناسككم" (6)، ولأنه نسك مبني على الحركة والتكرار، فلم يجز منكسًا كالسعي. فصل [5 - عدد أشواط الطواف]: وإنما قلنا: إنه يطوف سبعة أشواط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل (7)، وهذا مما نقلته الأمة بالعمل، ولأنه نسك مبني على الحركة والتكرار، فكان سبعًا كالسعي. فصل [6 - فيمن ترك شيئًا من أشواط الطواف]: وإذا ترك شيئًا من أشواطه فلا يجزيه ولا ينوب عنه الدم (8) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه إذا ترك أكثرها لم يجزه، وإن ترك أقلها ثلاثة فدونها أجزاه وجبره بالدم (9)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم طاف سبعًا رمل ثلاثًا ومشى   (1) في (م): النبي. (2) كما جاء في حديث جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا ... " (أخرجه مسلم وقد سبق). (3) في (م): فإن كان. (4) في (ق): خلافًا للشافعي ولأبي حنيفة وهو خطأ، إذ الخلاف لأبي حنيفة فقط. (5) انظر: تبيين الحقائق مع حاشية الشلبي: 2/ 17، والمغني: 3/ 383. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (517). (7) انظر: حديث جابر في صفة حجة صلى الله عليه وسلم والذي سبق تخريجه قريبًا. (8) انظر: التفريع: 1/ 337. (9) انظر: مختصر القدوري: 1/ 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 أربعًا (1)، وقال (خذوا عني مناسككم) (2)، ولأنه نقص من الأشواط السبعة كما لو اقتصر على ثلاثة. فصل [7 - الرمل في الثلاثة الأولى]: وإنما قلنا: إن الثلاثة الأولى خبب والباقية مشي لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل (3)، وروي مثله عن أبي بكر وابن مسعود وغيرهم (4). وذكر ابن عباس السبب في ذلك فقال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فقال المشركون: أنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرًّا، فاطلع الله تعالى نبيه على ذلك فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ولم يأمرهم بالأشواط كلها إبقاء عليهم، فلما رأوهم قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم إن الحمَّى نهكتهم هؤلاء أجلد منا" (5). وإنما قلنا: إنه يستلم الحجر كما مر به، لما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في طوافه كما مر على الركن" (6). فصل [8 - الطهارة في الطواف]: ولا يجزيء الطواف إلا بطهارة (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)، لقوله صلى الله   (1) انظر: حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، والذي سبق تخريجه قريبًا. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (517). (3) انظر: حديث جابر الذي سبق تخريجه في الصفحة (570). (4) انظر: البيهقي: 5/ 82 - 83. (5) أخرجه البخاري في الحج كيف كان بدء الرمل: 2/ 161، ومسلم في الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعُمرة: 2/ 921. (6) أخرجه الحاكم في مستدركه: 1/ 456، وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي على تصحيحه. (7) انظر: التفريع: 1/ 340، الكافي ص 139. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تبارك وتعالى (1) أباح فيه النطق" (2)، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يطوف توضأ ثم طاف (3)، وفي حديثها قالت: قدمت مكة فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (4)، وفي حديث صفية (5) أنها حاضت، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحابستنا هي"؟، قيل: أنها قد أفاضت، قال: "فلا إذن" (6) ولأنها عبادة مختصة بالبيت فلم تجز إلا بطهارة كالصلاة. فصل [9 - الطواف داخل الحجر]: ولا يجزيء الطواف داخل الحجر (7) خلافًا لأبي حنيفة (8) لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحجر من البيت" (9)، فإذا ثبت أنه من البيت لم يجزه أن   (1) تبارك وتعالى: سقطت من (م). (2) أخرجه الحاكم: 1/ 459، وصححه، وأخرجه الترمذي بلفظ قريب منه في الحج، باب: ما جاء في الكلام في الطواف: 3/ 293، وقد اختلف في رفعه أو وقفه (انظر نصب الراية: 3/ 57). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (568). (4) أخرجه البخاري في الحيض، باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف: 1/ 78، ومسلم في الحج، باب: وجوه الإحرام .. : 2/ 870. (5) صفية: بنت حيي بن أخطب الإسرائيلية، أم المؤمنين تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر، وماتت سنة ست وثلاثين، وقيل: في خلافة معاوية وهو الصحيح (تقريب التهذيب: 749). (6) أخرجه البخاري في الحج الزيارة يوم النحر: 2/ 189، ومسلم في الحج وجوب طواف الوداع: 2/ 963. (7) انظر: المدونة: 1/ 313، الكافي ص 139. (8) انظر: مختصر القدوري: 1/ 185، تبيين الحقائق: 2/ 17. (9) هو من قول ابن عباس (انظر البيهقي: 5/ 90، والحاكم: 1/ 460). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 يطوف فيه لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)، وذلك يقتضي استيفاء جميعه، ولأنه صلى الله عليه وسلم طاف خارج الحجر (2)، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" (3)، واعتبارًا بالطواف داخل البيت. فصل [10 - في صفة ركعتي الطواف والسعي]: إذا أتم الطواف ركع عند المقام ركعتين، وهما سُنَّة مؤكدة إن تركهما أتى بهما، فإن عاد إلى بلده فعليه دم، ثم يستلم الحجر بعد الركعتين إن قدر، ثم يخرج إلى الصفا والمروة (4) ترى البيت، فيكبر ويهلل ويدعوا ثم ينحدر ماشيًا حتى ينتهي إلى المروة، فإذا ظهر عليها فعل مثل ذلك حتى يستوي سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة، وذلك ثماني وقفات أربع على الصفا وأربع على المروة، فهذا صفة الطواف والسعي (5). فصل [11 - في حكم ركعتي الطواف]: وإنما قلنا: إنه إذا فرغ من الطواف ركع لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل (6)، وعندنا أن الركعتين سنة مؤكدة لا تترك (7) خلافًا للشافعي في قوله: إنهما مستحبتان وليستا بسنتين (8)، لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ   (1) سورة الحج، الآية: 29. (2) أخرجه الحاكم: 1/ 460، وقال: صحيح الإسناد، وهذا تكملة حديث ابن عباس السابق، حيث قال: الحجر من البيت لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف من ورائه، قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (517). (4) حتى: سقطت من (ق). (5) في صفة الطواف والسعي، انظر: المدونة: 1/ 312 - 314، التفريع: 1/ 337 - 338، الرسالة ص 175 - 177. (6) انظر: حديث جابر الذي سبق تخريجه في الصفحة (569). (7) المدونة: 1/ 313، التفريع: 1/ 337، الرسالة ص 176، الكافي ص 139. (8) انظر: المدونة: 1/ 178، المهذب: 1/ 230، وذلك في أحد قولي الشافعي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 مُصَلًّى} (1)، فروي جابر بن عبد الله: "أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (2) وصلى ركعتين" (3)، وروى: "أنه صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا فلما فرغ نزل وصلى خلف المقام" (4)، وهذا يدل على تأكدهما لما لم يصلهما على الراحلة، ولأن الطواف بالبيت من أركان الحج، فوجب أن يكون من توابعه ما هو واجب وجوب سنة كالوقوف بعرفة, لأن من توابعه المبيت بالمزدلفة. فصل [12 - في عودته إلى الركن بعد صلاة ركعتي الطواف]: وإنما قلنا: إنه يعود إلى الركن فيستلمه لما روي جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم طاف فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فركع، ثم عاد إلى البيت" (5). فصل [13 - الإتيان بالسعي عقيب الطواف]: وإنما قلنا: إنه يأتي بالسعي عقيب الطواف والركوع؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وأتى به على الصفة التي ذكرناها في سياق وحديث جابر (6). فصل [14 - في كون السعي ركنًا]: والسعي ركن لا ينوب عنه دم (7) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه واجب   (1) سورة البقرة، الآية: 125. (2) سورة البقرة، الآية: 125. (3) انظر: حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم الذي سبق إخراجه في الصفحة (394). (4) أخرجه البخاري في الحج، باب: استلام الركن بالمحجن: 2/ 162، ومسلم في الحج, باب: جواز الطواف على بعيره: 2/ 926. (5) سبق تخريج حديث جابر في الصفحة (569). (6) انظر: حديث جابر الذي سبق في الصفحة (569). (7) انظر: التفريع: 1/ 338 - 339، الرسالة ص 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وليس بركن فينوب عنه الدم (1)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سعى، وقال: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" (2)، ففيه أدلة: أحدها: أن فعله على الوجوب وقد أتى به بيانًا فقوله: "خذوا عني مناسككم" (3). والثاني: قوله: "اسعوا"، وهذا أمر فهو على وجوبه. والثالث: قوله: "فإن الله كتب عليكم السعي"، وهذا من أبلغ ما يدل (4) على فرضه، ولأنه مشي ذو عدو سبع كالطواف، ولأن كل ركن في العمرة، فإنه ركن في الحج كالطواف. ...   (1) مختصر القدوري: 1/ 209. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (517). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (517). (4) في (م): دليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 باب: [ذكر أعمال الحج] الطواف في الحج ثلاثة أطواف (1): طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الصدر (2)، وهو طواف الوداع، والسعي واحد يؤتي به عقيب طواف القدوم إلا أن يفوت فيؤتي به عقيب طواف الإفاضة، وطواف القدوم واجب وجوب السُّنَّة، وطواف الإفاضة فرض وطواف الوداع سُنَّة (3). وسُنَّة طواف القدوم لمن جاء قادمًا إلى مكة (4) من غيرها دون من كان بها، فإذا فرغ منه ومن السعي، فإن كان عليه في الوقت فضل خرج إلى مِنَى يوم التروية (5)، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مضى منها إلى عرفة وقطع التلبية بها بعد الزوال، فيجمع بها مع الإِمام الظهر والعصر ثم الوقوف، بحيث يقف الناس، والاستحباب أن يكون راكبًا، وبأي موضع شاء وقف سوى بطن عرنة (6)، ويقف إلى أن تغرب الشمس ثم يمضي إلى مزدلفة، (ولا بد من جزء من الليل، فإن فاته ذلك فقد فاته الحج، وإن وقف جزءًا من الليل من أوله أو آخره، فقد أدرك الحج وقف نهارًا أو لا، فإذا أتى مزدلفة) (7) جمع بها بين صلاتي المغرب والعشاء، ثم يبيت بها أي موضع شاء عدى بطن   (1) في (م) و (ر): أطوفة. (2) عن أعمال الحج انظر: المدونة: 1/ 312 - 317، التفريع 1/ 337 - 347، الرسالة ص 75 - 195. (3) في (م): مستحب. (4) إلى مكة: سقطت من (م). (5) يوم التروية: هو يوم قبل يوم عرفة, لأن الناس يتروون من مكة يوم التروية يتزودون قربًا من الماء (غرر المقالة ص 177). (6) بطن عرنة -بضم العين وفتح الراء والنون-: واد يقع في الجهة الغربية من عرفة. (7) ما بين قوسين سقط من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 محسر (1)، فإنه لا يبيت به، ويحرك دابته في المسير إذا انتهى إليه، ثم يمكث بها حتى يصلي الصبح، فإن لم يبت فعليه دم ثم يأتي المشعر الحرام فيقف به ويدعو، ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى مِنَى، وللإمام أن يقدم ضعفة أهله من مزدلفة إلى مِنَى ليلة (2) النحر. وإذا جاء مِنَى بدأ برمي جمرة العقبة راكبًا إن قدر فيرميها وحدها ثم ينحر هديًا إن كان معه، ثم يحلق أو يقصر والحلاق أفضل، وإن قَدَّم العلائي على النحر أو النحر على الرمي فلا شيء عليه، وإن قدَّمِ العلائي على الرمي فعليه دم، ثم يرجع إلى مكة فيطوف ويركع ثم يعود إلى مِنى. وأما المراهق (3) فيمضي على وجهه إلى عرفة فيفعل ما وصفناه، وإذا طاف للإفاضة سعى عقيبه ولا دم عليه لترك طواف القدوم وإن تركه غير المراهق فعليه دم. فصل [1 - في أن الطواف ثلاثة]: وإنما قلنا: إن الطواف ثلاثة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف بعده لم يأتوا بزيادة على ذلك إلا ما بينوا أنه تطوع مبتدأ لا تعلق له بفروض الحج ولا بسنته. فصل [2 - السعي عقيب الطواف]: وإنما قلنا: إنه يسعى عقيب طواف القدوم لما رويناه من فعله صلى الله عليه وسلم لذلك (4)، فإن فاته سعى عقيب طواف الإفاضة لأن السعي لا يكون إلا عقيب طواف، ولتقرر الإجماع على ذلك (5).   (1) بطن محسر -بكسر السين المهملة-: وهو واد بين مزدلفة وعرفة. (2) في (م): قبل. (3) المراهق: هو من قدم مكة في وقت ضيق يخشى إن اشتغل بالطواف أن يفوته الوقوف بعرفة قبل الفجر (انظر الكافي ص 141). (4) كما جاء في حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم الذي سبق تخريجه في الصفحة (569). (5) انظر: المجموع: 8/ 67، المغني: 3/ 390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 فصل [3 - حكم طواف القدوم]: وإنما قلنا: إن طواف القدوم مسنون، وربما عبر عنه أصحابنا بالواجب (1) لشدة تأكده (2) لفعله صلى الله عليه وسلم له (3)، ولأنه شرط في ركن من أركان الحج وهو السعي، فكان من متأكد السنن. فصل [4 - الخروج إلى مِنَى]: وإنما قلنا: إنه إذا فرغ من السعي خرج إلى مِنَى ليصلي بها يوم التروية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، رواه ابن عباس (4)، وجابر (5)، وأنس (6). فصل [5 - متى يقطع الحاج التلبية]: وإنما قلنا: إنه يقطع التلبية بعرفة بعد الزوال خلافًا للرواية الأخرى (7)، ولمن ذهب إليها (8)، وهي أنه يقطع عند جمرة العقبة، لإجماع الصحابة عليه، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن عمر وعائشة وسعد وجابر   (1) قال صاحب مواهب الجليل: واعلم أن طواف القدوم من أفعال الحج التي اختلفت عبارة أهل المذهب فيما بينهم: فمنهم من يعبر عنها بالوجوب، وبعضهم بالسنة والتحقيق أنها واجبة وليس بركن، ومما أطلق الوجوب عليه ابن عرفة وابن عبد السلام وأصحاب المؤلف: الأبهري، وابن الجلاب (3/ 82). (2) في (م): تأكيده. (3) كما جاء في حديث جابر الذي سبق. (4) أخرجه الترمذي في الحج، باب: ما جاء في الخروج إلى مِنَى المقام بها: 3/ 227 والحديث فيه إسماعيل بن مسلم تكلموا فيه من قبل حفظه. (5) سبق تخريجه في الصفحة (569). (6) أخرجه البخاري في الحج، باب: أين يصلي الظهر يوم التروية: 2/ 173. (7) انظر: التفريع: 1/ 322، الكافي ص 142. (8) ذهب إلى ذلك أصحاب الرأي والشافعية والحنابلة (المحلي: 7/ 178، المهذب: 1/ 235، المغني: 3/ 430). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وابن الزبير وأُم سلمة (1) رضي الله عنهم (2)، وذكر مالك أنه إجماع أهل دار الهجرة (3)، ولأن التلبية إجابة للنداء بالحج دعى إليه، فإذا انتهى إلى الموضع الذي دعى إليه، فقد انتهى إلى غاية ما أمر به، فلا معنى لاستدامتها. فصل [6 - في الجمع بين الظهر والعصر بعرفة]: وإنما قلنا: إنّه يجمع بعرفة بين الظهر والعصر لما روي جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك (4). فصل [7 - الوقوف يتلوا الصلاة]: وإنّما قلنا: إنه يتلوا ذلك بالوقوف لورود الرواية بذلك من حديث جابر (5)، وغيره، ولنقل الأُمة إياه بالعمل (6). فصل [8 - الوقوف بعرفة راكبًا]: وإنما استحببنا أن يقف راكبًا لأنه صلى الله عليه وسلم وقف راكبًا على راحلته القصواء (7)، ولأن الركوب أعون على الوقوف وأمكن له في الدعاء أروح من التعب. فصل [9 - الوقوف في أي موضع سوى بطن عرنة]: وإنما قلنا: أن يقف أي موضع شاء سوى بطن عرنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرفة" (8).   (1) انظر: في تخريج هذه الآثار: الموطأ: 1/ 328 - 329. (2) رضي الله عنهم: سقطت من (م). (3) انظر: الموطأ: 1/ 327 - 328. (4) و (5) سبق تخريجه في الصفحة (569). (6) انظر: المعني: 3/ 408. (7) كما جاء في حديث جابر الذي سبق تخريجه في الصفحة (569). (8) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: الصلاة بجمع: 2/ 478، وابن ماجه في المناسك، باب: المنزل بعرفات: 2/ 1002, والترمذي في الحج، باب: ما جاء أن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 فصل [10 - زمن الوقوف بعرفة]: وإنما قلنا: إنه يقف إلى الغروب لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل (1)، وإنما قلنا: إنه إن دفع قبل الغروب ولم يرجع فيقف جزءًا من الليل، فقد فاته الحج خلافًا، لأبي حنيفة والشافعي (2)، لما روي عليّ (3) وجابر (4)، وأسامة (5) أنه صلى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس، ففيه دليلان: أحدهما فعله، والآخر قوله: "خذوا عني مناسككم"، وروي عطاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك عرفة قبل الفجر فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل، فقد فاته الحج" (6)، ولأنه لم يقف بعرفة جزءًا من الليل، وكان كالواقف قبل الزوال، ولأن النهار لو كان وقتًا للوقوف لاستوى أوله وآخره كالليل.   = عرفة كلها موقف: 3/ 232، وقال: حسن صحيح، وأحمد: 5/ 82، والبيهقي: 5/ 239، والحاكم: 1/ 462، وغيرهم مع اختلاف في ألفاظ الحديث. (1) كما جاء في حديث جابر. (2) انظر: مختصر القدري: 1/ 209، المهذب: 1/ 233. (3) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: الدفعة من عرفة: 2/ 472، وابن ماجه في المناسك، باب: الموقف بعرفة: 2/ 1001، والترمذي في الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف: 3/ 232، وقال: حدث حسن صحيح. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (596). (5) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: الدفعة من عرفة: 2/ 473. وأسامة بن يزيد: بن حارثة بن شراحيل الكلبي، الأمير، أبو محمَّد، وأبو زيد، صحابي مشهور، مات سنة أربع وخمسين وهو ابن خمس وسبعين بالمدينة (تقريب التهذيب ص 98). (6) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة: 2/ 485، والنسائي في الحج، باب: فيمن لم يدرك الصبح .. : 5/ 214، وابن ماجه في الحج، باب: من أتى عرفة قبل الجمع: 2/ 1003، والترمذي في الحج، باب: ما جاء من أدرك الإِمام بجمع: 3/ 237، وأحمد: 4/ 335، والحاكم: 1/ 64، وقال: صحيح الإسناد، من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 فصل [11 - الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء بمزدلفة]: وإنما قلنا: إنه يمضي إلى مزدلفة فيجمع بها بين العشائين (1) , لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل، رواه جابر (2)، وأسامة (3) وغيرهما، وهذا الجمع عندنا سنة مؤكدة، فإن صلى المغرب في وقتها بعرفة والعشاء في وقتها، فقد ترك السنة والاختيار ويجزيه خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يجزيه (4)؛ لأنهما صلاتان سن الجمع بينهما في وقت إحداهما، فلم يمنع ترك الجمع بينهما جوازهما أصله الظهر والعصر بعرفة. فصل [12 - في المبيت بمزدلفة]: وإنما قلنا: إنه يبيت بها لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل (5)، وإنما قلنا: إنه يبيت أي موضع شاء منها إلا بطن محسر لقوله صلى الله عليه وسلم: "مزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر" (6). فصل [13 - حكم المبيت بمزدلفة]: والمبيت بالمزدلفة سنة يجب بتركها بغير عذر الدم (7)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لا شيء فيه (8)، ولأنه صلى الله عليه وسلم بات بها ولم يرخص في ترك ذلك إلا للضعفاء ورعاة الإبل (9)، فوجب كونه مسنونًا.   (1) أي بين صلاتي المغرب والعشاء. (2) و (3) سبق تخريج الحديثين. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 65، مختصر القدوري: 1/ 190. (5) كما جاء في حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (580). (7) انظر: التفريع: 1/ 342، الرسالة ص 178، الكافي ص 143 - 144. (8) انظر: مختصر القدوري: 1/ 210، وفيه: ومن ترك الوقوف بالمزدلفة فعليه دم. (9) أخرجه البخاري في الحج، باب: من قدم ضعفة أهل بليل: 2/ 177، ومسلم في الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة: 2/ 941. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 فصل [14 - الوقوف بالمشعر الحرام عند الإسفار]: وإنما قلنا: إنه يقف بالمشعر الحرام (1) فيدعوا ثم يدفع عند الإسفار لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (2)، وفي حديث جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فرقى واستقبل القِبْلة فحمد الله وكبره وهلله، ولم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا ثم دفع قبل طلوع الشمس" (3)، وفي حديث آخر أنه قال: "كان أهل الشرك يدفعون بعد طلوعها حيث تعتم بها رؤوس الجبال، وإنا ندفع قبل طلوعها هدينا مخالف هدي أهل الشرك والأوثان (4). فصل [15 - في تقديم دفع الضعفة من مزدلفة]: وإنما أجزنا للإمام تقديم ضعفة أهله، وكذلك رعاة الإبل لإرخاصه صلى الله عليه وسلم في ذلك (5)، ولأن فيه رفقًا بهم وتخفيفًا عنهم، وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن يكون هذا الإرخاص بشرط الدم، والظاهر خلافه. فصل [16 - رمي جمرة العقبة]: وإنما قلنا: إنه يأتي مِنَى فيرمى جمرة العقبة، لما روى جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم دفع من مزدلفة فذكر ... إلى أن قال: حتى أتى الجمرة عند   (1) المشعر الحرام: هو جبل بالمزدلفة سمي بذلك لأن الجاهلية كانت تشعر هداياه فيه. (2) سورة البقرة، الآية: 198. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (569). (4) أخرجه البيهقي: 5/ 125، والحاكم في المستدرك: 1/ 461، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين (انظر نصب الراية: 3/ 66). وبلفظ قريب منه أخرجه البخاري في الحج، باب: متى يدفع من الجمع: 2/ 179، بلفظ أن: "المشركين كانوا لا يغيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس". (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 الشجرة فرماها (1) بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، وكل حصاة منها كحصاة الخذف (2) " (3). فصل [17 - من أين ترمي الجمرة]: والمستحب أن يرميها من بطن الوادي ولا يرميها من فوقها, لما روي عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ثم قال: "والذي أنزلت عليه سورة البقرة لقد رأيته يرمي ببطن الوادي صلى الله عليه وسلم" (4) روي عن عبد الله بن مسعود (5) نحوه (6). فصل [18 - في نحر الهدي]: وإنما قلنا: ينحر هديًا إن كان معه بعد الرمي؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل رمى الجمرة ثم نحر البدن (7). فصل [19 - الحلاق بعد الإتمام]: وإنما قلنا: إنه إذا أتم حلق رأسه لأنه صلى الله عليه وسلم حلق بعد أن نحر، رواه ابن عباس قال لما رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة أتى بنسكه فنحره ثم دعى الحلاق فقال: "ابدأ بالشق الأيمن" (8).   (1) في (م): فرمى. (2) حصى الخذف: الحصى الصغر والخذف: الرمي بطرفي الإبهام والسبابة (المصباح المنير ص 165). (3) انظر: حديث جابر في صفة حجة صلى الله عليه وسلم. (4) أخرجه البخاري في الحج، باب: رمي الجمار من بطن الواد: 2/ 193، ومسلم في الحج، باب: رمي جمرة العقبة من بطن الوادي: 2/ 943. (5) ابن مسعود: سقطت من (م). (6) أخرجه البخاري في الحج، باب: رمي الجمار من بطن الوادي: 2/ 193. (7) كما جاء في حديث جابر. (8) أخرجه مسلم في الحج، باب: بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق: 2/ 947، والبخاري في الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان: 1/ 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 فصل [20 - في الحلاق]: الحلاق نسك يثاب فاعله خلافًا لأحد قولي الشافعي أنه مباح بعد حظر وليس بنسك (1) لقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} (2)، فوعدهم بدخولهم على هذه الصفة ممتنًا عليهم بها، فدل على تعلق الفضيلة بها، وقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين ثلاثًا"، قيل: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين" (3) وهذه المبالغة بتكرار الدعاء، فدل على الفضيلة، وقوله: "ليس على النساء حلاق وإنما عليهن التقصير" (4)، ولأنه قول عمر وابنه (5) ولا مخالف لهما. فصل [21 - في تقديم النحر على الرمي أو الحلاق على النحر]: وإنما قلنا: إنه إن قدم النحر على الرمي أو الحلاق على النحر جاز لما روى عبد الله بن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح فقال: "اذبح ولا حرج"، وجاءه آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر نحرت قبل أن أرمي، فقال: "إرم ولا حرج" (6). فصل [22 - فيمن حلق قبل الرمي]: وإنما قلنا: إنه إن حلق قبل الرمي فعليه دم (7) خلافًا للشافعي (8)، لقوله   (1) انظر: المجموع: 1538. (2) سورة الفتح , الآية: 27. (3) أخرجه البخاري في الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال: 2/ 188، ومسلم في الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير: 2/ 945. (4) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: الحلق والتقصير: 2/ 502، والدارقطني: 2/ 280، والطبراني وإسناده حسن، وقواه أبو حاتم في العلل، والبخاري في التاريخ, وأعله ابن القطان، ورد عليه ابن المواق، فأصاب (تلخيص الحبير: 2/ 261). (5) انظر: الموطأ: 1/ 396 - 3976. (6) أخرجه البخاري في الحج، باب: الفتيا على الدابة عند الجمرة: 2/ 190، ومسلم في الحج، باب: من حلق قبل النحر: 2/ 948. (7) انظر: التفريع: 1/ 343. (8) انظر: الأم: 2/ 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 عَزَّ وجَلَّ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1)، ولأنه صلى الله عليه وسلم رمى ثم نحر ثم حلق (2)، ولأنه حلق في إحرام منعقد لم يتحلل منه فأشبه قبل النحر (3). فصل [23 - في أفضلية الحلق]: وإنه شاء حلق وإن شاء قصر والحلاق أفضل للظاهر (4)، والخبر (5)، وسنة النساء التقصير لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على النساء حلاق وإنما على النساء التقصير" (6)، ولأنه شهرة فيهن، والسنة إيعاب الرأس وأكثره، لما روي: "من عقص أو لبد فعليه الحلاق" (7)، والمعنى فيه تعذر الاستيفاء مع العقص (8)، والتلبيد (9)، ولأنه حكم تعلق بالرأس في الشرع عبادة كالمسح. فصل [24 - في الإفاضة]: وإنما قلنا: إنه إذا فعل ذلك عاد إلى مكة فأفاض ثم عاد (10) إلى مِنَى لقوله عَزَّ وجَلَّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (11)، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) سورة البقرة، الآية: 196. (2) كما جاء في حديث ابن عباس الذي سبق قريبًا. (3) في (ق): فأشبه أن يحلق بعد الفجر. (4) ظاهر قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ}، وقوله: {وَلَا تَحْلِقُوا}. (5) الحديث الذي سبق والذي دعي فيه صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (583). (7) موقوف على عمر بن الخطاب أخرجه البيهقي: 5/ 135. (8) العقص: هو أن يلوي الشعر ويدخل أطرافه في أصوله (المصباح المنير ص 122). (9) التلبيد: هو أن يجعل في الرأس لزوقًا من صمغ ونحوه ليتلبد أي يتلصق فلا يقمل (المغرب ص 419). (10) في (ق): دعى. (11) سورة البقرة، الآية: 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 كذلك فعل، روى جابر أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثم ركب فأفاض إلى البيت (1)، وصلى بمكة الظهر" (2)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "ثم رجع إلى مِنَى فمكث بها ليالي أيام التشريق" (3). فصل [25 - في أن المراهق يترك طواف القدوم]: وإنما قلنا: إن المراهق يمضي إلى عرفة ويترك طواف القدوم؛ لأن ذلك عذر يسوغ له تركه متى تشاغل به خاف فوات الحج ولا دم عليه؛ لأن ترك السنة مع العذر جائز، وفي تركه لغير عذر الدم اعتبارًا بسائر السنن المؤكدة. فصل [26 - في رمي الجمار]: جملة ما يرمي من حصي الجمار يوم النحر وأيام مِنَى (4) سبعون حصاة منها جمرة العقبة يوم النحر بسبع، وفي أيام مِنَى كل يوم يرمي الثلاث بإحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع، هذا لمن لم يتعجل فإذا تعجل رمى تسعًا وأربعين وسقط عنه رمي اليوم الآخر وهو إحدى وعشرين حصاة. فصل [27 - متى ترمى الجمار أيام التشريق]: ولا يرمى الجمار أيام مِنَى إلا بعد الزوال (5)، خلافًا لأبي حنيفة في إجازته ذلك في ثالث أيام التشريق (6) لما روى جابر قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -   (1) في (م): للبيت. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (569). (3) أخرجه أبو داود في المناسك، باب: يبيت بمكة ليالي مِنَى: 2/ 490، والبيهقي: 5/ 148، والحاكم: 1/ 477، وقال: صحيح على شرط مسلم، وحسنه المنذري (نصب الراية: 3/ 84). (4) في (م): أيام التشريق. (5) انظر: المدونة: 1/ 324 - 325، التفريع: 1/ 344، الرسالة ص 179. (6) انظر: مختصر القدوري: 1/ 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 يرمي يوم النحر ضُحِّي، فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس" (1)، ورواه ابن عباس (2)، وعائشة (3)، واعتبارًا باليوم الأول والثاني. فصل [28 - استحباب الرمي يوم النحر راكبًا وأيام مِنَى ماشيًا]: المستحب أن يرمي يوم النحر راكبًا وأيام مِنَى ماشيًا , لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل (4)، ولا يقف عند جمرة العقبة ويقف عند الأولى والثانية، وكذلك في حديث عائشة (5)، وعبد الله بن عمر (6)، وروي عن عمر (7)، وابنه (8). فصل [29 - رمي السبع رمية واحدة]: ولا يجزيه أن يرمي السبع رمية واحدة (9) خلافًا لأبي حنيفة (10)،   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (569). (2) أخرجه الترمذي في الحج، باب: ما جاء في الرمي بعد زوال الشمس: 3/ 243، وقال: حديث حسن. (3) سبق تخريج حديث عائشة رضي الله عنها قريبًا (ص 586). (4) كما في حديث ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة يوم النحر راكبًا" أخرجه الترمذي في الحج، باب: ما جاء في رمي الجمار راكبًا وماشيًا: 3/ 233، وقال: حديث حسن، وروي عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبًا وراجعًا، أخرجه الترمذي في نفس الكتاب والباب 3/ 244 - 245، وقال: حديث حسن صحيح. (5) حديث عائشة: سبق تخريجه قريبًا (586). (6) أخرجه البخاري في الحج، باب: رفع اليدين عند جمرة الدنيا والوسطى: 2/ 194. (7) أثر عمر أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 406. (8) أثر ابن عمر أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 407. (9) انظر: المدونة: 1/ 325، التفريع: 1/ 344. (10) انظر: المبسوط: 4/ 67، بدائع الصنائع: 3/ 1168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 لأنه صلى الله عليه وسلم رماها سبع رميات، ولأن المستحق عليه أعداد الرمي به. فصل [30 - صفة التعجيل]: صفة التعجيل أن ينفر ثالث النحر بعد رميه ما لم تغلب الشمس، فهذا فعل ذلك سقط عنه رمي الغد والأصل فيه قوله تعالى (1): {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (2)، ولأنه صلى الله عليه وسلم رخص فيه لرعاة الإبل في البيتوتة (3) يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ليومين ثم ينفرون (4)، فإن غابت الشمس عليه قبل أن ينفر لزمه المبيت لدخول الوقت الذي ينفر عنه. فصل [31 - حكم طواف الوداع]: طواف الوداع مستحب (5) لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت" (6)، وروي عن عمر (7) وغيره. فصل [32 - عدم وجوب طواف الوداع]: وليس بواجب خلافًا لأبي حنيفة (8)، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث   (1) في (م): عَزَّ وجَلَّ. (2) سورة البقرة، الآية: 203. (3) أخرجه البخاري في الحج، باب: سقاية الحاج: 2/ 167، ومسلم في الحج، باب: وجوب المبيت بمِنَى: 2/ 953. (4) في (م) و (ر) ثم يرمون يوم النفر. (5) انظر: الموطأ: 1/ 370، التفريع: 1/ 356، الرسالة ص 179. (6) أخرجه في الحج، باب: طواف الوداع: 2/ 195، ومسلم في الحج، باب: وجوب طواف الوداع: 2/ 963. (7) سوف يأتي ذكر أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 369. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 66، مختصر القدوري: 1/ 193 - 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 صفية: "أحابستنا هي" (1)، قالوا: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذن، فلو كان واجبًا لكان يقف عليها كطواف الإفاضة، ولأنه طواف يفعل خارج الإحرام كالتطوع. فصل [33 - لا يجب الدم بترك طواف الوداع]: ولا يجب الدم بتركه خلافًا للشافعي (2)؛ لأن الحائض تتركه ولا دم عليها، ولأنه طواف خارج الإحرام كالتطوع. فصل [34 - هل يشرع طواف الوداع للمقيمين بمكة؟]: وليس بمسنون للمقيمين بمكة لأن الوداع يقتضي مفارقة الموضع، وذلك لا يوجد في أهل مكة، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا يصدرن أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت" (3)، فخاطب بذلك من يريد الانصراف. ...   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (572). (2) انظر: الأم: 2/ 180 - 181، الإقناع ص 88. (3) سبق تخريج هذا الأثر قريبًا ص 588. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 باب: [في الإحصار] ومن أحصر (1) بعذر فله التحلل (2)، وينحر هديًا إن كان معه وينصرف ولا هدي عليه سواء كان حاجًّا أو معتمرًا في الحرم وغيره (3)، "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك يوم الحديبية تحلل ونحر وانصرف" (4). فصل [1 - لا هدي على المحصر بعدو]: ولا هدي عليه لأجل تحلله (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6)؛ لأنه تحلل مأذون له فيه غير منسوب إلى تفريط ولا إدخال نقص، فلم يلزمه فيه هدي اعتبارًا به إذا أكمل حجه، ولأنه لما خفف بإجازة التحلل من إحرام قد عقده كان بأن يخفف عنه من إيجاب هدي أولى. فصل [2 - المحصر بعدو لا يقضي]: ولا قضاء عليه لما تحلل منه (7) خلافًا لأبي حنيفة (8) , لأنه ممنوع عن   (1) في (م): حصر، والإحصار في اللغة: المنع، وفي الاصطلاح: هو الممنوع من الحج بأي نوع امتنع إما بمرض أو بعدو أو بخطأ في العدد أو بغير ذلك (انظر بداية المجتهد: 5/ 433). (2) في (م): التحليل. (3) في الإحصار انظر: الموطأ: 1/ 360 - 361، التفريع: 1/ 351 - 352، الكافي ص 160. (4) أخرجه البخاري في الحج، باب: النحر قبل الحلق في الحصر: 2/ 207، ومسلم في الحج، باب: جواز التحلل بالإحصار: 2/ 903. (5) انظر: التفريع: 1/ 351، الكافي في فقه أهل المدينة - لابن عبد البر ص 161. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 71، الأم: 2/ 218. (7) انظر: الموطأ: 1/ 360، التفريع: 1/ 351. (8) مختصر الطحاوي ص 71، مختصر القدوري: 1/ 128 - 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 الوصول إلى فعل المناسك بيد غالبة فلم يلزمه قضاء أصله إحرام العبد بغير إذن سيده والمرأة بغير إذن زوجها على الصحيح من المذهب، ولا يلزم عليه للضرورة لأن ما يلزمه ليس بقضاء، بل هو الواجب عليه في الأصل، ولأنه صلى الله عليه وسلم تحلل هو وأصحابه ولم يأمر أحدًا منهم بالقضاء، ولا روي عنهم أنهم قضوا. فصل [3 - التحليل بعُمرة لمن أحصر بمرض ونحوه]: ومن أحصر بمرض أو بأي شيء سوى حصر العدو فلا يتحلل إلا بعمل (1) العُمْرة خلافًا لأبي حنيفة (2)؛ لأنه متلبس بالحج لم يصده عنه يد غالبة، فكان كمخطيء الوقت، ولأن كل من لا يستفد بتحلله تخلصًا من الأذى فلا يجوز له التحلل كالضال عن الطريق عكسه المحصور بعدو. فصل [4 - وجوب الدم على من أحصر بمرض]: وعليه دم لتحلله (3) لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4) معناه: فحللتم، ولا يجوز ذبحه إلا بمكة أو بمِنَى، خلافًا للشافعي في قوله: إنه ينحره حيث أحصر (5)، لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (6) فعم، ولأنه موضع تحلله يجب أن يكون محل هديه ألا ترى أن المحصور بعدو لما كان يحل حيث أحصر كان ذلك الموضع محل هدي إن كان ساقه.   (1) انظر: الموطأ: 1/ 361، التفريع: 1/ 352. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 71، مختصر القدوري: 1/ 218 - 219. (3) انظر: الموطأ: 1/ 361، التفريع: 1/ 352. (4) سورة البقرة، الآية: 196. (5) انظر: الأم: 2/ 219. (6) سورة الحج، الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 فصل [5 - ليس على من أحصر فعل بقية المناسك سوى العُمرة]: وليس عليه ولا على من فاته الحج رمي ولا فعل بقية المناسك سوى عمل العمرة فقط (1)، خلافًا للمزني (2)؛ لأن أعمالك الحج توابع للوقوف، فإذا فات المتبوع سقطت توابعه (3). ...   (1) انظر: التفريع: ص 3512، الكافي ص 161. (2) مختصر المزني ص 72 - 73، والمزني: هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني، تلميذ الشافعي، حدث عنه ابن خزيمة وأبو جعفر الطحاوي، كان زاهدًا عالمًا مجتهدًا مناظرًا محجاجًا، قال عنه الشافعي: المزني ناصر مذهبي (ت 264) (سير أعلام النبلاء: 12/ 492). (3) سقطت توابعه: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 باب: [الوطء في الإحرام] الوطء في الإحرام ممنوع لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} (1)، فإذا وطيء عامدًا في الفرج أفسد حجه وعمرته بلا خلاف (2)، وكذلك الناسي خلافًا للشافعي (3) لأنه وطء صادف إحرامًا منعقدًا كالعمد. فصل [1 - فساد الحج والعُمرة بالإنزال]: كل إنزال (4) عن نوع من الاستمتاع يفسد الحج والعُمْرة كالإنزال في الوطء دون الفرج أو مع القبلة أو اللمس أو غير ذلك (5)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6) لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ} (7)، ولأن الإنزال هو المقصود وهو أبلغ من الإيلاج، فإذا كان الإيلاج يفسده فالإنزال أولى، ولأنها عبادة يفسدها الوطء في الفرج، فالإنزال مع المباشرة يفسدها أصله الصوم. فصل [2 - إذا حصل ذلك قبل الوقوف أو بعده]: لا خلاف أن ذلك إن حصل قبل الوقوف، فإنه يفسد الحج، فأما بعده وقبل الرمي، فالظاهر أنه يفسده أيضًا، وبه قال الشافعي (8)، وقد قيل: لا يفسده وهو قول أبي حنيفة (9)، فإذا قلنا: يفسده، فالعِلَّة بقاء الإحرام وعدم التحلل   (1) سورة البقرة، الآية: 197. (2) انظر: المجموع: 7/ 493، المغني: 3/ 485. (3) انظر: المجموع: 7/ 294، وفيه: أن الناسي لا فدية عليه ولا يفسد نسكه. (4) المقصود بالإنزال هو إنزال المني. (5) انظر: التفريع: 1/ 349، الرسالة ص 180. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 67، الأم: 1/ 218. (7) سورة البقرة، الآية: 197. (8) انظر: التفريع: 1/ 349، الأم: 2/ 218، الإقناع ص 90. (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 67، مختصر القدوري: 1/ 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 كالوطء قبل الوقوف، وإذا قلنا: لا يفسده فالعِلَّة أمن الفوات كالوطيء بعد الرمي والطواف. فصل [3 - فيمن وطيء بعد الرمي وقبل الطواف]: وأما الوطء بعد الرمي وقبل طواف الإفاضة، فالظاهر من قول مالك رحمه الله (1): أنه لا يفسد، وعنه رواية: أنه يفسده (2)، فعلة الرواية الظاهرة أنه وطء في إحرام منحل كالوطء بعد التحلل الكامل، وعلة الرواية الأخرى أن كمال التحلل لم يحصل فحرمة الإحرام مبقاة كقبل الرمي. فصل [4 - إذا قلنا: لا يفسد حجه عليه الهدي والعُمرة]: إذا قلنا: إن حجه لا يفسد فعليه العمرة والهدي بعد أن يطوف (3) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4) في قولهما: لا عُمرة عليه, لأن ذلك مروي عن ابن عباس (5)، ولأن عليه أن يأتي بالطواف والسعي في إحرام لا وطء فيه. فصل [5 - المضي في الحج على من أفسده]: إذا أفسد حجه مضى عليه حتى يتمه ولم يخرج منه بالفساد، وكذلك العمرة (6) خلافًا لمن قال: أنه يرى قضاء ويستأنف إحرامًا جديدًا (7) , لأنه إجماع الصحابة (8)، ولأنه سبب يجب معه قضاء الحج فلم يخرج به من الإحرام أصله الفوات.   (1) رحمه الله: سقطت من (م). (2) و (3) انظر: التفريع: 1/ 249، الكافي ص 158 - 159. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 67، الإقناع ص 90. (5) أخرجه البيهقي: 5/ 171. (6) انظر: الموطأ: 1/ 381 - 383، التفريع: 1/ 349 - 350. (7) قاله داود (المغني: 3/ 365). (8) روي ذلك عن عمر وعليّ وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم ولا يعلم لهم مخالف (انظر: المجموع: 7/ 399، المغني: 3/ 365). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 فصل [6 - القضاء والهدي على من أفسد حجه]: وعليه القضاء والهدي في الفساد لأن ذلك إجماع السلف، ولأنه إن كان فرضًا فهو باق في الذمة لأن الفاسد في الذمة لا يبريء من الصحيح، وإن كان متطوعًا فقد لزمه بالدخول فيه. وأما الهدي فلأنه لما كان يلزم بترك شعيرة من شعائره كان بأن يلزم في النص بإفساده أولى، ولأن الفوات يجب به الهدي للتأخير، فكذلك الفساد، وكذلك روي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم (1). فصل [7 - التفريق بين الزوجين إذا أفسدا حجهما]: يفترق الزوجان إذا أفسدا حجهما وأرادا قضاء (2) خلافًا لأبي حنيفة (3)، ومن حيث يحرمان لا من حيث أفسداه خلافًا للشافعي (4) في قوله: من حيث أفسداه لأن ما قلناه مروي عن عثمان وعليّ وابن عباس (5)، ولأنهما يتذاكران ما كان منهما فيدعوهما ذلك إلى إفساده ثانية، وإنما لم يؤخراه عن وقت الإحرام إلى وقت الإصابة؛ لأن الذي أُمرا لأجله بالافتراق هو خوف الفساد ثانية، وليس آخر الإحرام بأولى بالاحتياط من أوله. فصل [8 - في تكرار الوطء]: ولا يجب بتكرار الوطء هدي (6) خلافًا لأبي حنيفة (7) لأنه وطء لم يفسد به الحج فلم يجب به هدي أصله إذا وطيء قبل التكفير.   (1) انظر: الموطأ: 1/ 382. (2) انظر: الموطأ: 1/ 382، التفريع: 1/ 350. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 67. (4) انظر: المجموع: 7/ 292 - 293. (5) الموطأ: 1/ 381 - 382. (6) انظر: الموطأ: 1/ 382، التفريع: 1/ 350. (7) يقول أبو حنيفة: إن كان ذلك في موطن واحد كان عليه دم واحد، وإن كان في مواطن كان عليه، لكل موطن دم (مختصر الطحاوي ص 67). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 فصل [9 - في حج الصغير]: الصغير له حج (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) لقوله صلى الله عليه وسلم وسألته المرأة ألهذا حج؟، قال: "نعم ولك أجر" (3)، ولأنه ممن له صلاة فكان له حج كالكبير. فصل [10 - ما زاد على نفقة الصغير]: وما زاد على نفقته في الحضر من مال الولي (4) خلافًا للشافعي (5)، وكذلك ما قتل من صيد أو ما يحتاج إليه من فدية, لأن الصبي لا حاجة به إلى الحج وليس من الإصلاح والحظ إلزامه نفقة فيما لا يحتاج إليه، وكذلك جزاء ما قتل من صيد لأن الولي سبب ذلك. فصل [11 - حكم الحج للعبد إذا أعتق والصبي يبلغ والكافر يسلم يدركون الوقوف]: العبد إذا أعتق والصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم، فأدرك كل واحد منهم الوقوف بعرفة جزءًا من الليل، فأحرم ووقف، فقد أدرك الحج، فإن دخل العبد في الإحرام حال رقه أو إحرام الولي بالصبي حال صغره ثم عتق (6) العبد وبلغ الصبي، وهما في الإحرام فإنهما يمضيان على ذلك الحج، ويكون تطوعًا على ما كانا عليه ولا ينقلب فرضًا (7)؛ لأنه ليس في الأصول عبادة تفتتح تطوعًا ثم تنقلب فرضًا كالصلاة والصوم، فإذا ثبت هذا فعليهما حجة الإِسلام لأنها باقية في الذمة لا تسقط بالتطوع.   (1) انظر: التفريع: 1/ 353. (2) انظر: تحفة الفقهاء: 2/ 383. (3) أخرجه مسلم في الحج، باب: صحة حج الصبي: 2/ 974. (4) انظر: التفريع: 1/ 353، الكافي ص 168. (5) انظر: مختصر المزني ص 70. (6) في (م): أعتق. (7) في جملة هذه الأحكام انظر: التفريع: 1/ 353، الكافي ص 168 - 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 فصل [12 - التقليد والإشعار]: ومن ساق بدنه قلدها (1) "لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلد بدنه وأشعرها" (2)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن الإشعار بدعة (3)، لما روي ابن عباس: "أنه صلى الله عليه وشلم أشعر بدنته من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها" (4)، والفائدة في التقليد والإشعار أن يعلم من رآه إذا ضل أنه هدي قد أوجب فلا يقدم عليه، وصفة الإشعار أن يشق في عرض سنامها في جانبه الأيسر، ويستحب له أن يسمي الله تعالى عند الإشعار كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - (5)، والاختيار نحر البدن قيامًا لأنه صلى الله عليه سلم نحرها قائمة (6)، فإن صعبت عقلها (7) ليتمكن من نحرها. فصل [13 - الأكل من الهدي]: ويؤكل من الهدي كله إلا من ثلاثة أنواع: جزاء الصيد ونسك الأذى ونذر المساكين (8) وما عدى ذلك من هدي التمتع والقِران ومجاوزة الميقات والفوات والإفساد وغير ذلك سوى ما ذكرناه فإنه يؤكل، ووافقنا أبو حنيفة في هدي   (1) التقليد: هو أن يعلق بعنق البعير قطعة من جلد ليعلم أنه هدي، فيكلف الناس عنه (المصباح المنير ص 512)، والإشعار: هو من حززت سنامها حتى يسيل الدم فيعلم أنها هدي المصباح المنير ص 315). (2) انظر: الموطأ: 1/ 379، التفريع: 1/ 332 - 333. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 73. (4) أخرجه مسلم في الحج، باب: تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام: 2/ 912. (5) رويت التسمية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أخرجه البيهقي: 5/ 232، الموطأ: 1/ 379. (6) أخرجه البخاري في الحج، باب: نحر الإبل مقيدة: 2/ 185، ومسلم في الحج، باب: نحر الإبل قيامًا مقيدة: 2/ 956. (7) في (م) و (ر): عقلت. (8) انظر: الموطأ: 1/ 381، التفريع ص 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 التمتع والقِران، وخالفنا في الواجب بحكم الإحرام (1)، ودليلنا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} (2)، وقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (3)، ولأنه هدي لم يسم للمساكين ولا يدخل فيه إلا طعام كالتطوع واعتبارًا بالضحايا والعقيقة. فصل [14 - عدم الأكل من جزاء الصيد]: وإنما قلنا لا تؤكل من جزاء الصيد لأن الله تعالى جعله للمساكين بقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} (4)، وكذلك نسك الأذى لقوله صلى الله عليه وسلم: "أو إطعام ستة مساكين" (5)، وما سماه هو للمساكين فقد نذره لهم فلا يجوز له الرجوع فيه. فصل [15 - ما عطب من هدي التطوع]: وما عطب من هدي التطوع قبل محله لم يجز له أكله لأنه قد يتهم أن يكون أعطبه ليأكل منه، فإن أكل منه أبدله (6)، لقوة التهمة فيما ذكرناه، وما عطب من واجب جاز أكله لأن عليه بدله فلا فائدة في منعه أكله. فصل [16 - نكاح المحرم]: لا ينكح المحرم ولا ينكح (7) خلافًا لأبي حنيفة (8) لقوله صلى الله عليه   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 72، مختصر القدوري: 1/ 223. (2) سورة الحج، الآية: 28. (3) سورة الحج، الآية: 36. (4) سورة المائدة، الآية: 95. (5) سبق تخريج الحديث. (6) انظر: الموطأ: 1/ 380 - 381، التفريع: 1/ 332. (7) انظر: الموطأ: 1/ 348. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وسلم (1): "لا ينكح المحرم ولا ينكح" (2)، ولأنها عبادة تمنع الطيب فمنعت عقد النكاح كالعدة، وله أن يراجع لأنه ليس بابتداء عقد وإنما هو استصلاح لما انثلم منه. فصل [17 - المعتمرة تحيض قبل أن تطوف]: المعتمرة إذا حاضت قبل أن تطوف، فإن كان في وقتها سعة: انتظرت أن تطهر وتتم العمرة ثم تنشيء إحرامًا بالحج، وإن ضاق وقتها وهي تريد الحج وتخاف الفوات أردفت الحج على العمرة وصارت قارنة وعليها الهدي ثم يستحب لها أن تستأنف عمرة (3) بعد الإحلال (4) كما فعل صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها (5). فصل [18 - يوم الحج الأكبر]: يوم الحج الأكبر يوم النحر (6) لأن فيه يقع التحلل ويفتتح الرمي، ولأن الوقوف الذي يتعلق إدراك الحج به هو بليلته المضافة إلى يومه، ولأن ما بعده تابع له. فصل [19 - أشهر الحج]: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة (7) لقوله تعالى: {أَشْهُرٌ   (1) صلى الله عليه وسلم: سقطت في (م). (2) أخرجه مسلم في النكاح، باب: تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبيته: 2/ 1030. (3) في (م): غيره. (4) انظر: الموطأ: 1/ 411 - 412، التفريع: 1/ 336. (5) أخرجه البخاري في الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء: 2/ 148، ومسلم في الحج، باب: بيان وجوه الإحرام: 2/ 870. (6) انظر: التفريع: 1/ 354. (7) انظر: التفريع: 1/ 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 مَعْلُومَاتٌ} (1)، وأقلها ثلاثة كاملة، ولأن كل شهر كان أوله من أشهر (2) الحج، فكذلك آخره أصله شوال، وفائدة ذلك تعلق الدم بتأخير طواف الإفاضة وبخروجه والله أعلم. ...   (1) سورة البقرة، الآية: 197. (2) في (م): شهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 كتاب الجهاد الأصل في الجهاد (1) قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2)، وقوله جل ذكره (3) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (4)، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (5)، وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (6)، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (7)، وهذا تأكيد يدل على قوة وجوبه، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (8)، وفيه أخبار كثيرة ترد في مسائل الباب الأول، ولا خلاف بين الأمة في وجوبه (9).   (1) الجهاد: أصله من الجهد وهو المشقة، واصطلاحًا هو: قتال مسلم كافرا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله أو حصوره له أو دخول أرضه له (غرر المقالة 189، حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع 139). (2) سورة التوبة، الآية: 29. (3) جل ذكره: سقطت من ق. (4) سورة البقرة، الآية: 216. (5) سورة التوبة، الآية: 123. (6) سورة التوبة، الآية: 41. (7) سورة التوبة، الآية: 38. (8) أخرجه البخاري في الجهاد باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام: 4/ 6، ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 51. (9) انظر مراتب الإجماع لابن حزم ص 119، بداية المجتهد: 6/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 فصل [1 - حكم الجهاد]: وهو من فروض الكفايات (1) دون الأعيان فمن قام به سقط به الفرض عن الباقين (2)، ووجه القيام به أن تحرس الثغور (3) وتعمر وتحفظ بالمنعة والعدد، ولا تجوز المهادنة إلا لضرورة تدعو إليها، والقتال واجب لا يعدل عنه إلا باجابة أهل الكفر إلى أحد أمرين: إما الدخول في الإِسلام أو بذل الجزية لنا في دارنا. وإنما قلنا ذلك لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (4)، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... } إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأمرائه: "اغزوا على اسم الله قاتلوا من كفر بالله ادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوا فأعلموهم أن لهم ما للمسلمين، فإن أبو فادعوهم إلى الجزية فإن أعطوها فاقبلوها منهم فان أبوا فاستعينوا الله على قتالهم" (6). وإنما شرطنا أن يكون في دارنا ليكون أخذها على وجه الذل والصغار ولئلا يكون (7) ذريعة إلى الإمهال ليتقووا على قتالنا. فصل [2 - اشتراط إذن الأبوين للاشتراك في الجهاد]: ومن منعه أبواه من الجهاد فليمتنع إلا أن يكون قد تعين الفرض عليه مثل أن يفجأ العدو فيحتاج إليه في الدفع عنها وكذلك إن كان أوجبه على نفسه في وقت   (1) في م: الكفاية. (2) انظر التفريع ص 1/ 357، الرسالة ص 189. (3) الثغور: الموضع الذي يقترب من العدو فيخاف أهله (غرر المقالة 191). (4) سورة التوبة، الآية: 5. (5) سورة التوبة، الآية: 29. (6) أخرجه مسلم في الجهاد باب تأمير الأمير الأمراء: 3/ 1356. (7) في م: يكونوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 بعينه (1)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان الغزو عند باب البيت فلا تذهب إلا أن يأذن أبواك" (2) ولأن طاعتهما من فروض الأعيان فهو أولى من فروض الكفايات، فأما إذا تعين عليه فلا يمتنع بمنعهما لأن منعهما له غير جائز لهما كمنعهما إياه من الصلاة والصوم الواجبين. فصل [3 - إحراق أرض العدو وعقر دوابهم وقطع أشجارهم]: ولا بأس بإحراق أرض العدو وزروعهم وعقر دوابهم وقطع أشجارهم وفعل كل ما ينكيهم ويضر بهم (3)، والأصل فيه قوله تعالى {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} (4)، وقوله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (5) ونزلت في قطعه - صلى الله عليه وسلم - نخل بني النضير (6)، وقوله في خيبر (7)، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} (8)، وهدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض خيبر (9)، وقطع بعض (10)، ولأن ذلك من التضييق عليهم وإضعاف أمرهم وتوهينه فليس بأكثر من إباحة قتلهم.   (1) انظر الرسالة ص 191، الكافي ص 206، المقدمات ص 1/ 351. (2) أخرجه الطبراني في الصغير ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني أسامة بن علي بن سعيد بن بشير وهو ثقه ثبت كما هو في تاريخ مصر (مجمع الزوائد 5/ 325). (3) انظر المدونة ص 1/ 371 - 372 التفريع ص 1/ 357. (4) سورة التوبة، الآية: 9. (5) سورة الحشر، الآية: 5. (6) أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب حرق الدور والنخيل 4/ 22، ومسلم في الجهاد باب جواز قطع أشجار الكفار 3/ 1365، وبنو النضير هم جماعة من اليهود سكنوا حصنا قريبا من المدينة فتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الأنساب للسمعاني 13/ 129). (7) خيبر: هي ناحية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام. (معجم البلدان 2/ 409). (8) سورة الحشر، الآية: 2. (9) أخرجه البخاري في الجهاد باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام والنبوة 4/ 2. (10) أخرجه البخاري في التفسير باب تفسير قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} 6/ 8 = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 فصل [4 - في تحريق النحل]: ويكره تحريق النحل وتفريقها لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تعذيب الحيوان إلا لمأكلة (1)، وروى عن علي رضي الله عنه أنه نهى عن ذلك (2)، ولأنها تنتقل إلى ديارنا كحمام الأبرحة ففي تركها استبقاء لها لمنفعة المسلمين، فإن اتفق أن يكون مجتمعة في موضع يكثر نفعهم بها ويؤثر فيهم إتلافها جاز ذلك لأنها ليست بأعظم حرمة من الخيل والأنعام التي تعرقب (3) أو توجًا (4) إذا عجز المسلمون عن سوقها. فصل [5 - الدعوة قبل القتال]: ولا يقاتل العدو إلا بعد أن يدعو إلا أن يعجلونا (5) لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوصي بذلك أمراءه فيقول: "إذا لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال (6): ادعهم إلى الدخول في الإِسلام فإن أجابوك إليه فاكفف عنهم" (7)، ولأنهم قد يجيبون إلى الإِسلام فيستغنى عن قتالهم وهذا مستحسن فيمن بلغتهم الدعوة فأما من يخاف أن تكون لم تبلغه أو أن يكون قد سمع بها ولا يدري ما هي فيجب أن يدعى وكل هذا إذا أمكنونا فإذا أعجلونا تركت وتشوغل بقتالهم لأن التوقف حينئذ تمكين للعدو من المسلمين وذلك عين المحظور (8).   = ومسلم في الجهاد باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها 3/ 1365. (1) قال الزيلعي غريب، وقد رواه ابن أبي شيبة أثرا لأبي بكر (نصب الراية 3/ 406 - 407). (2) روى البيهقي عن أبي بكر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما (أخرجهما سعيد ابن منصور، المغني 8/ 451). (3) تعرقب: هو قطع عصب موثق خلف الكعبين (المصباح المنير 405)، وتوجًا: إذا ضربت بسكين في أي موضع كان (المصباح المنير 650). (4) في م: أو تضرب أوسطها. (5) في م: يعجلوا. (6) في ق: حال. (7) أخرجه مسلم في الجهاد باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 3/ 1357. (8) انظر: المدونة ص 1/ 367 - 368، التفريع ص 1/ 357، الرسالة ص 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 فصل [6 - الغلول من الغنيمة]: ومن غلَّ (1) شيئًا من الغنيمة ولم يورده المقاسم ثم ظهر عليه عوقب ولم يقطع ولم يحرم سهمه (2)، وإنما قلنا إنه يعاقب أدبا له لأنّه أتى محرمًا وغصب المسلمين أموالهم وخانهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الغلول عار ونار وشنار على صاحبه" (3)، وروي أن رجلًا مات فدعى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه فامتنع وقال: "صلوا على صاحبكم فإنه قد غل" ففتشوا رحله فوجدوا فيه (4) خرزات (5) لا تساوي درهمين (6). فصل [7 - عدم قطع الغال]: إنما قلنا لا يقطع لأنه خائن وليس بسارق وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على خائن قطع" (7)، وقال: "من وجدتموه قد غل فأحرموه سهمه   (1) الغلول: لغة هو الخيانة (الصحاح 5/ 1784) وعرفا: هو أخذ ما لم يبح الانتفاع به من الغنيمة قبل حوزها (الرصاع على ابن عرفه 152). (2) انظر الموطأ: 1/ 457 - 460، التفريع: 1/ 357 - 358، الرسالة ص 190. (3) أخرجه مالك في الموطأ مرسلًا 2/ 458، ووصله النسائي في قسم الفيئ 7/ 119، وأخرجه ابن ماجة في الجهاد باب الغلول 2/ 950 - 95 وفي إسناده عيسى بن سنان اختلف فيه كلام ابن معين، قال لين الحديث وليس بالقوى قيل ضعيف وقيل لا بأس به وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات (مجمع الزوائد 5/ 340). (4) فيه: سقطت من ق. (5) خرزات: هو ما ينظم في السلك من الجزع والودع، الحب المثقوب من الزجاج ونحوه فصوص من الحجارة (الصحاح 3/ 876). (6) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في تعظيم الغلول 3/ 155، والنسائي في الجنائز باب الصلاة على من غل 4/ 52، وابن ماجة في الجهاد باب الغلول 2/ 950، ومالك في الموطأ 2/ 458. (7) أخرجه أبو داود في الحدود باب القطع في الخلسة والخيانة 4/ 552، وابن ماجة في الحدود باب الخائن والمنتهب والمختلس 2/ 864، والنسائي في قطع السارق باب ما لا قطع فيه 8/ 81، والترمذي في الحدود باب ما جاء في الخائن والمختلس والمنتهب 4/ 42 وقال حديث حسن صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 واحرقوا رحله" (1)، ومعلوم أن هذا على وجه التغليظ ولم يأمر بقطعه فلو كان القطع واجبًا لأمر به، فإن سرقها بعد حيازتها يذكر في باب السرقة. فصل [8 - الغال لا يحرم]: وإنما قلنا إنه لا يحرم سهمه خلافًا لقوم (2) لأنه قد استحق السهم بحضور سببه من القتال والحضور وغلوله لا يخرجه عن ذلك فلم يجب سهمه (3)، ولأنه ليس في الغلول إلا ركوب أمر محرم وذلك طارئ بعد استحقاق السهم فلا يؤثر فيه. فصل [9 - في الخمس]: وتخمس الغنيمة وسائر أنواعها من عين وعرض (4) ونهب وسلب (5) ولا يختص القاتلون بالأسلاب إلا أن يرى الإِمام أن يخصهم بها بوجه من الاجتهاد فيكون لهم حينئذ (6) وقال الشافعي الأسلاب غير مخمسة وهي للقاتلين دون غيرهم من أهل العسكر (7)، ودليلنا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (8) فأضاف الغنيمة إلى جماعة الغانمين واستثنى منها الخمس فدل على أن ما عداه لهم سلبا كان أو غيره، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدوا الخياط والمخيط" (9) فعم السلب وغيره، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الغنيمة   (1) أخرجه البيهقي 9/ 103 وضعفه، وأخرج أبو داود حديثا قريبا منه في اللفظ في الجهاد باب في عقوبة الغال 3/ 157. (2) جاء في المغنى: قال أبو بكر: في ذلك روايتان، وقال الأوزاعي: في الصبي يغل يحرم سهمه ولا يحرق متاعه (المغنى 8/ 472). (3) سهمه: سقطت من م ور. (4) في م: عوض. (5) السلب: هو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره. (6) انظر المدونة ص 1/ 386 - 390 التفريع ص 1/ 358، الرسالة ص 190. (7) انظر الأم ص 4/ 153 - 154، الإقناع ص 177. (8) سورة الأنفال، الآية: 41. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة (605). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 فقال: "لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش" قيل هل أحد أحق بها من أحد قال: "لا ولا السهم تستخرجه من جنب أخيك المسلم" (1)، ولأنه مال مغنوم عن المشركين في الحرب فلم يختص به بعض الجيش دون الباقين إلا بإذن الإِمام أصله ما عدى السلب واعتبارا به إذا قتله مُدْبِرًا. فصل [10 - الإِمام ينادي بالسلب]: وإنما قلنا إن للإمام أن ينادي بذلك إذا رأى ضعفاء من الجيش يرغبهم ويغريهم عن القتال وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك يوم حنين ونادي: "من قتل قتيلًا فله النفل" (2). فصل [11 - في النفل]: النفل (3) كله من الخمس سلبا كان أو غيره والنفل زيادة على السهم لمن ليس من أهل السهم يفعله الإِمام لرأي يراه ويخص به إنسانا بعينه لحراسة أو محاصرة أو تجسيس أو تخبرا وزيادة عناء أو حسن بلاء أو غير ذلك مما يؤديه اجتهاده إليه فيكون ذلك من الخمس لأن الأربعة الأخماس ملك للغانمين فلا يجوز له أن يهب ملك غيره (4)، والأصل فيه قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (5) فدل مفهومه أن الأربعة الأخماس للغانمين، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم" (6).   (1) أخرجه البيهقي: 9/ 62 بإسناد صحيح (مسالك الدلالة 169). (2) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب: 4/ 57 ومسلم في الجهاد والسير باب استحقاق القاتل لسلب القتيل: 3/ 1370. (3) النفل: ما يعطى الإمام من خمس الغنيمة لمستحقها لمصلحة (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع 151). (4) انظر الموطأ: 1/ 454 - 445، المدونة: 1/ 390 - 191، التفريع: 1/ 358. (5) سورة الأنفال: الآية: 41. (6) أخرجة أبو دواد في الجهاد باب الإِمام يستأثر بشيء من الفيء: 2/ 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 مسألة [12 - حكم ما غنم المسلمون من أموال المسلمين]: ما حصل في أيدي العدو من أموال المسلمين على وجه الإغارة فإن أسلم من حصل في يديه وهو معه فلا سبيل لمالكه من المسلمين عليه وهو ملك لمن أسلم عليه (1) خلافًا للشافعي في قوله: أنه على ملك المسلم يكون له بغير ثمن (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسلام يجب ما قبله" (3) ولأن للكفار شبه ملك على ما حازه من أموال المسلمين يدل عليه قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (4) فسماهم فقراء بعد هجرتهم وتركهم ديارهم وأموالهم، ولأنه لا خلاف أنهم لو استهلكوه حال شركهم ثم أسلموا لم يضمنوه، ولو أتلفه مسلم على صاحبه للزمه غرمه فدل ذلك على ثبوت شبهة ملك للمشرك. فصل [13 - المال يعود إلى المسلمين بالغنيمة]: فإذا ثبت هذا فإن عاد إلى المسلمين بالغنيمة في دار الحرب قبل إسلام من كان في يده فإن علم أنه ملك لمسلم لم يجز للجيش تملكه ولزم تركه إلى أن يأتي ربه، وإن لم يعلم أنه مال لمسلم (5) فللغانمين تملكه واقتسامه فإن أتى وأقام البينة على تملكه قبل قسمته فهو له بغير ثمن خلافًا لعمرو بن دينار (6) في قوله: أنه ملك لمن غنمه دون ربه (7)، وإن لم يعلم حتى قسم فصاحبه أولى به بالثمن فإن   (1) انظر المدونة: 1/ 378 - 379، التفريع: 1/ 358، الرسالة 190. (2) انظر مختصر المزني ص 273. (3) أخرجه أحمد: 4/ 199، وأبو عوانة والحاكم: 3/ 454 وصححه الألباني في إروائه 5/ 121 وقد سبق. (4) سورة الحشر: الآية: 8. (5) في ق: مسلم. (6) عمرو بن دينار: الإِمام أبو محمَّد الجمحي شيخ الحرم في زمانه سمع من ابن عباس وجابر وابن عمر وحدث عن ابن أبي مليكة وقتادة والزهري ثقة ثبت، ت 138 (انظر تقريب ص 421 وسير أعلام النبلاء: 5/ 30). (7) وقاله الزهري أيضًا (انظر المغني: 8/ 430). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 لم يبذل قيمته فليس له أخذه خلافًا للشافعي في قوله أنه له بغير ثمن قبل القسم وبعده (1). فصل [14 - إذا علم بملكه قبل قسمه]: وإنما قلنا إنه إذا علم به قبل القسم فهو لمالكه بغير ثمن لحديث ابن عباس قال: وجد رجل من المسلمين بعيرا له في المغنم قد كان أصابه المشركون فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن وجدته في المغنم فخذه وإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن" (2)، وحديث ابن عمر أنه ذهب فرس له فأخذها فظهر عليهم المسلمون فردت عليه في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، ولأنه على أصل ملكه (4) لم يزل عنه بقسم ولا بإسلام من هو في يديه وقد زالت شبهة الملك عمن كان يزيده بعوده إلى المغانم فكان ملكًا لصاحبه. وإنما شرطنا أن يعلم ذلك ببينة لأن الظاهر أنه من أموال الكفار وأنه بين المسلمين في جملة الغنائم ومدعيه يزعم أنه هو مستحق (5) له دونهم بأصل الملك وأنه لا يستحق قسمة فلا يقبل منه إلا ببينة. فصل [15 - إذا قسم ملكه لم يكن له إلا بالثمن]: وإنما قلنا إنه إذا قسم لم يكن له إلا بالثمن للحديث الذي رويناه وفيه: "فإن وجدته قد قسم فأنت أحق به بالثمن" (6) وهذا نص، ولأنه لما جاز أن يملك   (1) انظر مختصر المزني ص 273. (2) أخرجه الدارقطني: 4/ 114، والبيهقي: 5/ 111 عن الحسن بن عمارة وهو متروك وأخرجه الطبراني في معجمه، وأبو داود في مراسيله في حديث آخر (انظر نصب الراية: 3/ 434). (3) أخرجه البخاري في الجهاد باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم: 4/ 35. (4) في ق: ولأنه أصل ملك. (5) في م: أنه المستحق. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 المسلم على الكافر بالقهر والغلبة جاز أن يملك الكافر عليه بمثل ذلك، ولأن قسم الإِمام قد قطع حق صاحبها منها مع تقدم شبهة يد الكافر عليها, ولأن من حصلت يزيده بالقسم أخذها بحق سهمه (1) بحكم الإِمام فلو قلنا أنها تؤخذ منه بغير بذل لأدى ذلك إلى بطلان (2) حقه من الغنيمة لأن الإِمام لا يغرمه له ولا يقدر أن يرجع به على الغانمين. فصل [16 - إذا بذل الثمن كان أولى به]: وإنما قلنا إنه إذا بذل الثمن كان أولى به ممن حصل في يده لأنه مقدم عليه (3) بحرمة تقدم الملك ولأنه إذا أعطاه الثمن (4) صار الثمن كأنه هو المستحق وفي الحديث "فأنت أحق به بالثمن" (5). مسألة [17 - الأكل من الغنيمة]: ويجوز للعسكر أكل الطعام وذبح الماشية وأخذ العلوفات قبل القسم ولا يحاسبون به في الغنيمة (6) لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك (7)، ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر ذلك (8) عليهم ولا أحد من الأئمة بعده ولا أنهم تشاحوا في طعام ولا علوفة، ووصى أبو بكر الصديق (9) رضي الله عنه بذلك يزيد بن أبي   (1) في م: بغير سهمه. (2) في م: إبطال. (3) في م: عليهم. (4) الثمن: سقطت من م. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) انظر المدونة: 1/ 394، التفريع: 1/ 362، الرسالة ص 190. (7) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نصيب في المغازي العسل أو الفاكهة فنأكله ولا نرفعه، أخرجه البخاري في فرض الخمس باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب: 4/ 61، وأثر أبو بكر الذي سيأتي ذكره من المصنف. (8) ذلك سقطت من م. (9) الصديق: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 سفيان (1) قال: لا تذبحن شاة إلا لمأكلة (2) ولأن بالعسكر حاجة إلى ذلك لهم ولخيلهم ولو منعوا منه لضاق بهم ولاحتاجوا إلى (3) الشراء أو استعداد ما يكفيهم إلى آخر الحرب من دار الإِسلام وذلك باطل. فصل [18 - فيمن يسهم له في قسم الغنائم]: ومن مات واصلا (4) في أرض العدو وقبل القتال فلا سهم له ومن جاء بعد انقضاء الحرب فلا سهم له وإن حضر القتال فقاتل أو كثر أسهم له يعني إلى انقضاء الحرب أو قاتل ومات ويأخذ ورثته سهمه، وإن حضر مريضا لا يمكنه القتال متى انقضت فله سهمه (5). فصل [19 - فيمن مات قبل القتال]: وإنما قلنا من مات قبل القتال فلا سهم له لأنه لم يحصل منه قتال ولا حضور لسببه فيكثر ولا أثر فيه (6) يفعل أصلًا فكان بمنزله أن يموت في دار الإِسلام، ولأن القتال سبب الغنيمة دون الخروج لأنه قد يلقى العدو إذا خرج وقد لا يلقاه. فصل [20 - فيمن جاء بعد انقضاء الحرب]: وإنما قلنا إن من جاء بعد انقضاء الحرب فلا سهم له خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن المدد إذا جاء بعد تقضى الحرب والغنيمة لم تحمل إلى دار الإِسلام فإنه يسهم له وإن حملت إلى دار الإِسلام لم يسهم له (7)، لقوله تعالى:   (1) يزيد بن أبي سفيان: بن حرب الأموي أخو معاوية صحابيّ مشهور أمره عمر على دمشق متى مات بها سنة 18 هـ بالطاعون (انظر تقريب التهذيب ص 601، سير أعلام النبلاء: 1/ 328). (2) سبق تخريج الأثر في الصفحة 604. (3) في ق: تكليف. (4) في م: فاصلا. (5) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 391 - 394، التفريع: 1/ 360، الرسالة ص 190. (6) في م: منهم. (7) انظر مختصر الطحاوي ص 285، مختص القدوري: 4/ 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (1) فجعل بما في الغنيمة لمن غنمها ومن جاء بعد تقضى الحرب فلم يغنم شيئًا فلم يكن له، وروي (الغنيمة لمن شهد الوقيعة) (2) وأظن بعضهم رفعه، ولأنه لم يحضر الحرب ولم يحصل منه قتال (فأشبه إذا جاء بعد الغنيمة ولأن من جاء بعد انقضاء الحرب ولم يحصل منه قتال) (3) ولا معاونة عليها فأشبه من جاء بعد عودة الناس إلى دار الإسلام. فصل [21 - يسهم لمن شهد القتال قاتل أو لم يقاتل]: وإنما قلنا إن من شهد القتال فله سهمه قاتل أو لم يقاتل فلأنه حضر سبب الغنيمة وهو القتال، ولأنه ليس كل الجيش يقاتل لأن ذلك خلاف مصلحة الحرب لأنه يحتاج أن يكون بعضهم في الردء (4) وبعضهم يحفظون السواد وبعضهم في العلوفة على حسب ما يحتاج إليه في الحرب، فلو قلنا أنهم يقاتلون كلهم لم يستمر على ما بيناه، (ولو قلنا إنه لا يستحق إلا من قاتل لكان كل الجيش يقاتلون فيبطل التدبير) (5)، ولذلك قلنا أن المريض يسهم له لأنه قد شهد الوقعة (6) وحصل منه التكثير، وقيل في قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} (7)، أي كثروا (8).   (1) سورة الأنفال: الآية: 41. (2) أخرجه البيهقي: 9/ 50 - 51 مرفوعًا وموقوفًا وقال الصحيح إنه موقوف وأخرجه ابن أبي شيبة والطبراني وابن عدي من طريق بخترى بن مختار عن عبد الرحمن بن مسعود عن علي موقوفًا (تلخيص الحبير: 3/ 102). (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م: رداء. (5) ما بين قوسين سقط من م. (6) في م: قد حضر الوقيعة. (7) سورة آل عمران: الآية، 167. (8) انظر تفسير الطبري 7/ 380 قاله السدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 فصل [22 - سهم المقتول في أول الحرب]: وإنما قلنا إن له سهمه وإن قتل في أول الحرب لأنه قد استحقه بالقتال والحضور، فإن بقي كان له وإلا فلورثته لأنّه حق تركه فوجب أن يورث عنه. فصل [23 - السهام للأجراء والصناع في الحرب إذا لم يقاتلوا؟]: ولا يسهم للأجراء والصناع المتشاغلين باكتسابهم (1) خلافًا لمن قال: إنه يسهم لهم (2) لقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) ففرق بين حكميهما (4)، ولأنه لم يحصل منه المعنى الذي يستحق به السهم وهو القتال والتكثير والمعاونة لأنه إنما حضر لخدمة من استأجره أو لغرض من الأغراض (5) غير القتل فلم يستحق السهم. فصل [24 - الأجير يقاتل]: فأما من قاتل فله سهمه خلافًا لمن قال لا سهم (6) له أصلًا (7) لأنه ممن خوطب بالجهاد فإذا قاتل أسهم له كغير الأجير، ولأنه ليس في كونه أجيرا أكثر من أنه عوض على منافعه وذلك لا يمنع السهم له إذا قاتل كالذي يحج عن غيره (8) ومعه تجارة أو يؤاجر نفسه للخدمة لأن ذلك لا يمنع صحة الحج. فصل [25 - هل يسهم للعبد والمرأة والصبي؟]: ولا يسهم لعبد ولا امرأة ولا صبي لأن هؤلاء فرض الجهاد ساقط عنهم فلم   (1) انظر التفريع: 1/ 360، الرسالة ص 190. (2) في إحدى الروايتين عن أحمد: يسهم لهم (انظر المغني: 8/ 468 - 469). (3) سورة المزمل: الآية، 20. (4) في ق: حكمها. (5) من الأغراض: سقطت من ق. (6) في م: لا يسهم. (7) قاله أحمد (انظر المغني: 8/ 467). (8) عن غيره سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 يسهم لهم (1) ولا بأس أن يرضخ (2) للمعاونة الحاصلة منهم فأما الصبيّ المراهق إذا أطاق القتال فيسهم له عندنا (3) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4) لحديث سمرة ابن جندب (5) قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض عليه غلمان الأنصار فيلحق من أدرك منهم فعرضت عليه عامًا فألحق غلامًا وردني فقلت يا رسول الله: ألحقته ورددتني ولو صارعني لصرعته قال: فصارعني فصرعته فألحقني (6)، ولأنه قد وجد فيه ما يوجد في البالغ من القتال والمكابدة للعدو وهو من الجنس الذي يسهم له فكان كالبالغ. فصل [26 - سهم الفارس والفرس]: للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه (7) خلافًا لأبي حنيفة في قوله أن له سهمين (8) لما رواه ابن عمر (أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسهم للخيل للفرس سهمين وللفارس سهما) (9)، ورواه ابن عباس (10) وغيره، ولأن الفارس لما زيد على الراجل لكثرة مؤونته وكانت مؤونة الفرس أكثر من مؤونة فارسه فوجب أن يزاد له أيضًا بمثل ما له زيد فارسه على الراجل.   (1) انظر المدونة: 1/ 393، التفريع: 1/ 360، الرسالة ص 190. (2) يرضخ لهم: أن يعطيهم شيئًا ليس بالكثير (المصباح المنير 228). (3) انظر التفريع: 1/ 32، الرسالة ص 190. (4) انظر مختصر القدوري: 4/ 132، الإقناع ص 175. (5) سمرة بن جندب: بن هلال الفزاري حليف الأنصار صحابيّ مشهور له أحاديث مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين (انظر تقريب التهذيب ص 256، سير أعلام النبلاء: 3/ 183). (6) أخرجه البيهقي: 10/ 18 وأبو داود في المراسيل. (7) انظر المدونة: 1/ 391، التفريع: 1/ 360 - 361، الرسالة ص 190. (8) انظر مختصر الطحاوي ص 285، مختصر القدوري 4/ 131. (9) أخرجه البخاري في الجهاد باب سهام الفرس: 3/ 218، ومسلم في الجهاد باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين: 3/ 1383. (10) حديث ابن عباس أخرجه الطبراني وأبو يعلى (انطر مجمع الزوائد: 3/ 443) = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 فصل [27 - سهم الراجل]: وللراجل (1) سهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك أسهم له وأضعف للفارس والفرس، ولأن ذلك يوجب المساواة إلا أن يكون هناك معنى يقتضي الزيادة وليس ذلك بالفرس وقد ذكرناه. فصل [28 - فيمن كان له عدة أفراس]: وإذا كان له عدة أفراس لم يسهم إلا لواحد (2) خلافًا لأبي يوسف وغيره (3) في قوله: إنه يسهم لفرسين ولا يسهم لما زاد عليهما ولابن الجهم (4) من أصحابنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسهم إلا لواحد في حروبه كلها، وكذلك الأئمة بعده، ولأن العدو لا يمكن أن يقاتل إلا على فرس واحد وما زاد على ذلك رفاهة وزيادة لا يؤثر في زيادة السهمين كالذي معه زيادة سيوف أو رماح واعتبارا بالثالث والرابع. فصل [29 - الإسهام للهجن والبراذين]: والهجن (5) والبراذين (6) إن أجازها الإِمام أسهم لها (7) لأنها في جنس الخيل   = وقال الترمذي: روى الحديث عن ابن عباس وجمع من جارية، وابن عمرة عن أبيه ذكر ذلك الترمذي في سننه: 4/ 105. (1) انظر المدونة: 1/ 392، التفريع: 11/ 360. (2) انظر الموطأ: 1/ 457، التفريع: 1/ 360. (3) انظر مختصر الطحاوي ص 285، مختصر القدوري: 4/ 132. (4) ابن الجهم: أبو بكر محمَّد بن أحمد بن أحمد بن الجهم، سمع القاضي إسماعيل وروى عن إبراهيم بن حماد وعنه أبو بكر الأبهري وجماعة، ت 329 هـ، (شجرة النور الزكية 78 - 79). (5) الهجن: هي الإبل، والهجين ما كان أبوه عربي وأمه نبطية (الصحاح: 6/ 2216). (6) البراذين: جمع برذون: وهو فرس عظيم الخلقة غليظ الأعضاء (لسان العرب: 13/ 51). (7) انظر المدونة: 1/ 391، والتفريع: 1/ 361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 العتاق وتولدها، وإنما شرطنا إذن الإِمام لأن الإنتفاع بها يختلف بحسب المواضع فالهجن والبراذين تصلح للمواضع المتوعرة كالشعاب والجبال والعتاق (1) تصلح للمواضع التي يأتي فيها الكر والفر فكان ذلك متعلقا برأي الإِمام، والعتاق خيل العرب والهجن والبراذين خيل الفرس والروم. فصل [30 - الإسهام للبغل والحمار والبعير]: ولا يسهم لبغل ولا حمار ولا بعير (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "للفرس سهمان (3) " فخصه بالإسهام، ولأنه لم ينقل عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - أسهم لما سوي الخيل ولا الأئمة بعده، ولأنه لا يتأتى القتال عليها ولا تصلح للكر ولا للفر وإنما تصلح للحمولة. فصل [31 - في قسمة غنيمة السرية]: إذا خرجت سرية (4) من عسكر فغنمت بينهما وبين بقية العسكر، وإن خرجت من بلد لم يقسم لأهل البلد معهم (5)، والفرق بين الموضعين أنها إذا خرجت من جملة عسكر فبقية العسكر ردء لها وعون فبقوتهم وصلت إلى الإنفراد لأنه لو دهمها أمر لأمدها بقية العسكر ولولا أنهم خلفها لما أقدمت على التقدم والإنفراد، وليس كذلك إذا خرجت من بلد لأن أهل البلد ليسوا عونا لها حينئذ ولا ردءًا بدليل أنه لو دهمها أمر لم يصل أهل البلد إلى معونتها ولا انتفعت بهم بانقطاعهم عنها فإذا كان كذلك وجب انفرادها بما غنمت.   (1) العتاق: مفرده عتيق وهو الخيار من كل شيء، فرس عتيق: رائع كريم بين العتق (الصحاح: 4/ 1521). (2) الموطأ: 1/ 457، التفريع: 1/ 361. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) السرية: قطعت من الجيش، فهي تسري في خفية (المصباح المنير ص 275). (5) المدونة: 1/ 390، التفريع: 1/ 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 مسألة [32 - غنيمة أموال أهل الحرب]: ما غنم من أموال أهل الحرب على وجهين: منه مغنوم بقتال أو إيجاف (1) عليه بخيل أو ركاب فهذا يخمس فيكون خمسه للإمام وأربعة أخماسه للغانمين (2) والأصل فيه قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (3) فدل على أن أربعة أخماسه للغانمين، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس" (4) فدل أن الباقي لهم. ومنه مغنوم بغير إيجاف ولا حاجة إلى قتال وذلك هو ما ينجلي عنه أهله ويتركونه رهبة (5) وفزعا فهذا لا يقسم بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين وحكمه حكم الخمس من الغنيمة خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه يخمس (6) والأصل فيه قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} (7) فأخبر تعالى بأن استحقاقهم القسم لا يكون إلا بإيجافهم، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل علي بني النضير فزعوا وجعلوا ينقبون الحصون ويهربون وحاز هو - صلى الله عليه وسلم - الديار بما فيها فانتظر المسلمون القسم بينهم فنزلت هذه الآية (8).   (1) الإيجاف: التحريك والإيقاف والسير القتال، وقولهم ما حصل بإيجاف أي بأعمال الخيل والركاب في تحصيله (غرر المقالة ص 190). (2) انظر المدونة: 1/ 374 و 386 - 387، التفريع: 1/ 358، الرسالة ص 190. (3) سورة الأنفال: الآية، 41. (4) سبق تخريج الحديث ص 607. (5) في م: هيبة. (6) انظر مختصر القدوري: 4/ 136. (7) سورة الحشر: الآية، 6. (8) سبق تخريج الحديث ص 603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 فصل [33 - حكم الفيئ والخراج والجزية]: الفيئ (1) وخمس الغنيمة والخراج (2) والجزية (3) حكم كله واحد لا يخمس شيء منه بل يأخذ الإِمام من كفايته وعياله (4) بغير تقدير بل لو احتاج إلى جميعه لأخذه (5) ويصرف الباقي في مصالح المسلمين من بناء القناطر والمساجد وعمارة الثغور وأرزاق القضاة على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده، (ويعطى من قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يؤديه اجتهاده) (6)، وقال أبو حنيفة: يقسم خمس الغنيمة على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، قال وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سقط بموته (7) , وقال الشافعي يقسم خمسة أخماس (8): سهم للنبى - صلى الله عليه وسلم - ويصرف اليوم في مصالح المسلمين وسهم لذوي القربى غنيهم وفقيرهم، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل (9). وحكى عن طاوس وغيره زيادة سهم سادس وهو ما ينصرف إلى عمارة الكعبة (10)، فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس   (1) الفيئ: هو المأخوذ من مال كافر مما سوى الغنيمة وسوى المختص بأخذه المحدودين (حدود ابن عرفة وشرح الرصاع ص 148). (2) الخراج: وهو ما يحصل من غلة الأرض ولذلك أطلق على الجزية (المصباح المنير ص 166). (3) والجزية: ما ألزم الكافر من مال لأمنه باستقراره تحت حكم الإِسلام بصونه (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع 145). (4) في م: عماله. (5) في م: الكافي له أخذه. (6) ما بين قوسين سقط من ق. (7) انظر مختصر الطحاوي ص 284 - 285، ومختصر القدوري: 4/ 133. (8) أخماس: سقطت من م. (9) انظر مختصر المزني ص 270، الإقناع ص 179. (10) وقاله أبو العالية (انظر المغني: 6/ 406 - 407). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 مردود فيكم" (1)، ولم يقل أن خمس الخمس مردود فدل على أن ما زاد على قدر كفايته منه ينصرف في مصالح المسلمين، ولأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضوان الله عليهم قسموا الخمس (2) على الاجتهاد (3). وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما (4) كانا لا يعطيان من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الفقراء (5) وأن عمر بن الخطاب تلى قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ..} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (6) فقال: إنَّ (7) هذه الآية قد استوعبت الناس كلهم حتى الراعي بعدن (8). وروي أن عليا دخل على عمر رضي الله عنهما في المرض الذي مات فيه فأعطاه سهم ذوى القربى فقال على رضي الله عنه: أن بناء العام غنى عنه وبالناس (9) حاجة فاقسمه فيهم (10)، ولأنه نصيب من الخمس فجارٍ صرفه إلى الفقراء ومصالح المسلمين اعتبارا بما عدى خمسه عليه السلام، وأما عمارة الكعبة فلم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الأئمة أن لها سهما مقدرا فكانت كسائر المصالح إن احتيج إلى عمارتها أنفق عليها بقدر الحاجة.   (1) سبق تخريج الحديث ص 607. (2) في م: خمس الخمس. (3) انظر في تخريج هذه الآثار: البيهقي: 6/ 343، الأموال ص 335. (4) رضي الله عنهما: سقطت من ق. (5) أخرجه البيهقي: 6/ 296 - 302. (6) سورة الحشر: الآية، 6. (7) في م: أرى. (8) أخرجه البيهقي: 6/ 351، عبد الرزاق: 4/ 151. (9) في م: فأقسمه في الناس. (10) انظر عبد الرازق: 5/ 237 - 238، الطحاوي: 2/ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 مسألة [34 - في الأسارى]: الإِمام في الأسارى مخير بين أشياء (1): إما قتلهم أو استرقاقهم أو فدائهم أسارى إن كانوا في أيدي العدو من المسلمين، أو منَّ عليهم وأطلقهم بغير شيء، أو عقد ذمة على أداء الجزية في بلادنا فإذا لم يقتلهم فبأي وجه (2) رآه من هذه الوجوه فقد حصل لهم معه الأمان فلا يجوز بعده قتلهم. فصل [35 - جواز قتل الأسارى]: فأما جواز قتلهم فلا خلاف فيه (3) إلا ما يحكى عن بعض التابعين (4)، والأصل فيه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (5) قيل بالقتل الكثير (6)، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (7)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قتل جماعة من الأسارى منهم عقبة والنضر بن الحارث وغيرهما (8)، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في الفجاءة: وددت أني لم أحرقه وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيجا (9)، وقتل   (1) انظر المدونة: 1/ 374، التفريع: 1/ 361 - 362، الرسالة: 2/ 36. (2) وجه: سقطت من ق. (3) انظر بداية المجتهد: 6/ 10. (4) كان الحسن يكره قتل الأسير حكاه أشعت (انظر أحكام القرآن للقرطبي- 16/ 227). (5) سورة الأنفال: الآية، 67. (6) انظر تفسير الطبري: 10/ 42. (7) سورة التوبة: الآية 5. (8) أخرج هذا الحديث الطبراني والشافعي والبيهقي: 9/ 64 - 65، ابن أبي شيبة: 14/ 372 والدارقطني وأخرجه أبو داود في مراسيله وأبو عبيد في الأموال (انظر نصب الراية: 3/ 402، ومجمع الزوائد: 6/ 92). (9) الفجاءة: هو إياس عبد الله بن عبد ياليل -حرقه أبو بكر وهو مقموط لأنه زعم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 أبو موسى الأشعرى دهقان السوس (1) وكان أعطاه الأمان على جماعة لم يدخل نفسه فيهم وليس في ذلك خلاف يعتمد عليه. فصل [36 - في استرقاق الأسارى]: فأما جواز استرقاقهم فلأنهم جنس مشركون فجاز استرقاقهم إذا رآه الإِمام كالنساء والعبيد والصبيان، ولأنه ليس في كونهم رجالا بالغين إلا خيفة المقاتلة وذلك لا يمنع استرقاقهم كالصبيان إنه يخاف منهم المقاتلة بعد الكبر ثم لا يمنع ذلك استرقاقهم. فصل [37 - استبقاء الأسرى على أداء الجزية]: فأما جواز استبقائهم على أداء الجزية وكونهم أحرارا فاعتبارا، بمن جاءنا ابتداء وسأل عقد الذمة له، ولأن ذلك موجب الظاهر من قوله عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأمرائه: "فإن أبوا فادعهما إلى أداء الجزية (3) " (4)، ولأنهم لو بذلوا ذلك قبل القدرة عليهم لقبلناهم فكذلك بعدها. فصل [38 - المفاداة]: وأما جواز المن عليهم (5) أو المفاداة (6) بهم خلافًا لأبي حنيفة في منعه الأمرين (7)، فلقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (8)، وهذا نص ولأنه   = أنه أسلم فجهزه أبو بكر بجيش فلما سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله (انظر قصة الفجاءة في البداية والنهاية: 6/ 344). (1) لم أعثر على تخريج لهذا الأثر. (2) سورة التوبة: الآية، 29. (3) أداء الجزية: سقطت من م. (4) سبق تخريج الحديث ص 602. (5) المن: هو إطلاقهم من غير جزية (أحكام القرآن للقرطبي: 16/ 226). (6) المفاداة: وهو إطلاقهم بفدية يدفعونها. (7) انظر مختصر القدوري: 4/ 124. (8) سورة محمَّد: الآية، 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 - صلى الله عليه وسلم - إذ أراد قتل أبي عزة الشاعر لما أسر ببدر فقال له أطلقني فإني ذو عيال فأطلقه على أن لا يرجع إلى القتال فمضى إلى المشركين وقال سخرت من محمَّد ثم عاد فقاتل فأخذ فطلب أن يطلق فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلسع المؤمن من جحر مرتين" وقتله بيده (1) وسئل في ثمامه بن أثال (2) فمن عليه (3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان مطعم حيا فسألني في هؤلاء لأطلقتهم له" (4)، وأما المفاداة فلقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (5)، وبفعله - صلى الله عليه وسلم - بأسارى بدر أطلقهم على مال أخذه منهم (6)، وأطلق أسيرا من عقيل وفادى به رجلين من أصحابه كانا أسيرين من ثقيف (7). فصل [39 - الأمان]: وإنما قلنا إن كل ذلك يتضمن الأمان لأنه لا يفعل إلا مع الاستبقاء فلم يجز قتلهم من بعد لأنّه قد يكون غدرا، والغدر ممنوع غير جائز لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (8)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ينصب للغادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان" (9).   (1) الحديث بهذه القصة أخرجه البيهقي: 9/ 65 أما قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يلسع المؤمن من جحر مرتين" فقد أخرجه مسلم في الزهد والرقائق باب لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين: 4/ 2295. (2) وهو سيد أهل اليمامة. (3) أخرجه البخاري في المغازي باب وفد بن حنيفة وحديث ثمامة بن أثال: 5/ 117، ومسلم في الجهاد والسير باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه: 3/ 1442. (4) أخرجه البخاري في الجهاد باب من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأسارى: 4/ 53. (5) سورة محمَّد: الآية، 4. (6) أخرجه مسلم في الجهاد باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم: 3/ 1383 - 1385. (7) انظر المستدرك للحاكم 3/ 324. (8) سورة الأنفال: الآية، 58. (9) أخرجه البخاري في الجزية باب إثم الغادر للبر والفاجر: 4/ 71، ومسلم في الجهاد والسير باب تحريم الغدر: 3/ 1380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 فصل [40 - أمان المسلم]: أمان الحر المسلم العاقل البالغ لازم لا يجوز نقضه ذكرا كان أو أنثى (1)، وقال عبد الملك أمان من سوى أمير الجيش موقوف على إجازته: فإن رأى أن يمضيه وإلا رده (2)، وجه الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ويسعى بذمتهم أدناهم" (3) وهذا عام، لأن أم هانئ (4) أجارت رجلًا من المشركين يوم الفتح فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" (5) وكذلك العباس (6) مع أبي سفيان أجاره بغير أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه (7)، ووجه الثاني هو أنه لا يؤمن أن يكون في ذلك ضرر على المسلمين فكان موقوفًا على رأي الإِمام، ولأنهم لو رأوا استرقاق الأسارى أو المن عليهم وأباه الإِمام لكان ذلك إليه فكذلك الأمان، ولأن في ذلك افتياتا على الأئمة وتقدما عليهم وذلك غير جائز. فصل [41 - آمان العبد]: آمان العبد جائز أذن له سيده في القتال أو لم يأذن (8) خلافًا لأبي حنيفة في   (1) انظر المدونة: 1/ 400 - 401، الرسالة ص 190. (2) انظر الكافي ص 210، المقدمات: 1/ 368. (3) أخرجه النسائي في القسامة باب سقوط القود من المسلم للكافر: 8/ 21 وأبو داود في الديات باب أيقتل المسلم بالكافر: 4/ 666، وأحمد: 2/ 211 والحاكم مختصر: 2/ 141 وقال: في التنقيح سنده صحيح (نصب الراية: 4/ 335). (4) أم هانئ: بنت أبي طالب الهاشمية اسمها فاختة وقيل هند لها صحبة وأحاديث، ماتت في خلافة معاوية (انظر تقريب التهذيب ص 59). (5) أخرجه البخاري في الصلاة باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به: 1/ 94، ومسلم في صلاة المسافرين باب استحباب صلاة الضحى: 1/ 498. (6) العباس: بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله عليه وسلم - مشهور، مات سنة اثنين وثلاثين أو بعدها وهو ابن ثمان وثمانين (انظر تقريب التهذيب ص 293، سير أعلام النبلاء: 2/ 78). (7) لم أعثر على تخريج لهذا الخبر. (8) انظر المدونة: 1/ 400 - 401، الرسالة ص 190، الكافي ص 209 - 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 قوله أنه إن لم يأذن له لم يجز أمانه (1) لقوله: "ويسعى بذمتهم أدناهم" وروي "ويجير عليهم أدناهم" (2)، ولأن صحة الأمان لا يتعلق بالإذن في القتال كالحر إذا لم يأذن له الإِمام في القتال. فصل [42 - أمان الصبي]: والصبي إذا عقد الأمان جاز أمانه عند ابن القاسم (3) لأنه ممن يعقل الأمان كالبالغ. فصل [43 - قتل النساء والصبيان]: ولا يقتل النساء ولا الصبيان (4) لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (5)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء ولا الصبيان وقال: "لا تقتلوا طفلا أو امرأة" (6)، ولأنهم أموال ورقيق للمسلمين. فصل [44 - قتل الرهبان والشيوخ]: فأما الرهبان والشيوخ الهرماء (7) فلا يقتلوا إلا أن يكون في تبقيتهم ضرر على الإِسلام مثل أن يكونوا من ذوي الرأي والتدبير والمشورة فإن قتلهم جائز (8) وقال الشافعي يقتلون وإن لم يكن فيهم ضرر (9) ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تقتلوا شيخا   (1) انظر مختصر الطحاوي ص 292، مختصر القدوري: 4/ 126 - 127. (2) سبق تخريج الحديث قريبا. (3) انظر المدونة: 1/ 440. (4) انظر المدونة: 1/ 370، التفريع: 1/ 357، الرسالة ص 189. (5) سورة البقرة: الآية، 190. (6) أخرجه البخاري في الجهاد باب قتل النساء في الحرب: 4/ 21، ومسلم في الجهاد باب تأمير الأمراء: 3/ 1357. (7) في م: الهرم. (8) انظر المدونة: 1/ 370، الرسالة ص 189. (9) انظر مختصر المزني ص 272، الإقناع ص 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 فانيا" (1)، وقوله: "ولا تقتلوا أهل الصوامع" (2) وروي مثله عن أبي بكر الصديق (3) رضوان الله عليه (4) ولا مخالف له، ولأنه لا فضل فيهم للقتال ولا ضرر في تبقيتهم على المسلمين كالنساء والصبيان. فصل [45 - في الرهائن]: وإذا ارتهن المسلمون من المشركين رهائن فأسلموا وهم في أيدينا رددناهم ولم يجز لنا حبسهم (5) خلافًا لمن أبي ذلك لأن في منع ردهم غرر بهم وذلك غير جائز، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - صالح المشركين يوم الحديبية على أن من أتاه منهم رده إليهم ومن أتاهم منا لم يردوهم فكلمه عمر رضي الله عنه في ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم إلينا فرددناه جعل الله له مخرجا" (6)، ولأنا إذا لم نرد رهائنهم لم نؤمن غدرهم بالمسلمين لأنهم أيضًا يهتمون (7) بالرهائن ما داموا على دينهم، ومراعاة العامة أولى من رعاة الواحد والاثنين، وقد فعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع أبي رافع (8) لما جاءه رسولا لهم فأسلم فقال له: ارجع   (1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في دعاء المشركين: 3/ 86، والبيهقي: 9/ 90 من رواية خالد بن الفرز وهو مختلف فيه. (2) أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 386 وأحمد: 1/ 300، والبيهقي: 9/ 90 من حديث إبراهيم عن إسماعيل وإبراهيم هذا ضعيف. (3) الصديق: سقطت من ق. (4) البيهقي: 9/ 90. (5) انظر التفريع: 1/ 362. (6) أخرجه البخاري في الجهاد باب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 3/ 220، ومسلم في الجهاد باب صلح الحديبية: 2/ 1409. (7) في م ور: أنما يتهمون. (8) أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان للعباس وهبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - اختلف في اسمه قيل إبراهيم وقيل ثابت وقيل هرمز كان قبطيا توفي في خلافة عثمان وقيل في خلافة علي وهو الصواب (الاستيعاب: 4/ 1657). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 إليهم (1)، ورد أبا جندل (2) وأبا بصير (3) يمشيان في قيودهما وجاءاه مسلمين وقال: "سيجعل الله لكما فرجا ومخرجا" (4). فصل [46 - فيمن أسلم على وجه الصلح وله أرض]: ومن أسلم على وجه الصلح فأرضه ملك له لا يعترض عليه فيها كسائر أملاكه، ومن فتحت أرضه عنوة فهي مغنومة لا يكون أحق بها كسائر الأموال المغنومة عنهم (5)، فإن كانت عامرة ووجد الإِمام من يسكنها من المسلمين ويؤدى خراجها تركها وقفا للمسلمين ولم يقسمها كأرض السواد خلافا لمن يقول أنها تقسم (6) لإخبار الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... } إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (7) وبذلك احتج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أن هذه الآية مستوعبة لجميع المسلمين حتى الراعي بعدن (8)، وطولب بقسمتها فامتنع فلج به بلال فقال: اللهم اكفني بلالا وذوي بلال (9)، ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ذلك، وتلاه عثمان وعلي رضي الله عنهما على مثله (10)، ومع ذلك فإن رأي الإِمام في وقت من الأوقات قسمتها رأيا لم يمتنع أن   (1) أخرجه الحاكم: 3/ 598. (2) أبو جندل: العاص بن سهيل بن عبد شمس بن عبد ود الصحابي الجليل توفي شهيدا في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة (شذرات الذهب: 1/ 30، سير أعلام النبلاء: 1/ 193). (3) أبو بصير: اختلف في اسمه ونسبه، فقيل عبيد بن أسيد بن جارية، وقيل اسمه عتبه بن جارية بن أسيد، وقال ابن إسحاق أبو بصير: عتبه بن أسيد جارية، قصته عام الحديبية مشهورة (الأنساب: 4/ 1612). (4) أخرجه البخاري في الصلح مع المشركين: 3/ 168. (5) انظر: الفواكه الدواني: 1/ 418. (6) يقول ابن حزم بتقسيمها (انظر: المحلى: 7/ 344). (7) سورة الحشر: الآية، 7 - 10. (8) سبق تخريج الأثر. (9) انظر البيهقي: 6/ 351. (10) انظر عبد الرزاق: 5/ 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 يقال له ذلك فيما يفتحه من بعد، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غنم غنائم وأراضي لم ينقل أنه قسم منها إلا خيبر (1)، وهذا إجماع السلف والله أعلم. (تم كتاب الجهاد ولله الحمد) (2). ...   (1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة خيبر: 5/ 72. (2) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 كتاب الأيمان (1) والنذور (2) الحلف الجائز هو بالله وبصفات ذاته والحلف بغيره ممنوع كالحلف بالأنبياء والآباء أو بالكعبة أو ما أشبه ذلك من المخلوقات (3) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا إلا بالله ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" (4). فصل [1 - المحلوف به]: المحلوف به، ضربان: قديم ومحدث، فالقديم هو الله تعالى وصفات ذاته والكفارة تتعلق بهذا الضرب دون غيره، والمحدث ما عدى الباري وصفاته فلا كفارة في الحلف بشيء من ذلك (5). فصل [2 - في الحنث]: وإنما قلنا إن الحنث (6) في الحلف بالله تجب به الكفارة لقوله: {وَلَكِنْ   (1) الأيمان: بفتح الهمزة -جمع يمين، وهي لغة مأخوذة من اليمين العضو المعروف، واصطلاحًا اليمين قسم أو التزام مندوب غير مقصود به القربة أو ما يجب بإنشاء لا يفتقر لقبول معلق بأمر مقصود عدمه (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 126). (2) النذور: جمع نذر، وهو إيجاب امريء على نفسه لله تعالى أمرا وأخصه المأمور بأدائه التزام طاعة بنية قربة لا لامتناع من أمر (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 138). (3) انظر المدونة: 2/ 29 - 30، التفريع: 1/ 381، الرسالة ص 192. (4) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم: 7/ 221، ومسلم في الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله: 3/ 1267. (5) انظر المدونة: 2/ 31، التفريع: 1/ 381 - 382. (6) الحنث: إذا لم يف بموجب يمينه وحلفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (1) واتفق على أن اليمين بالله داخله في هذا (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" (3)، ولا خلاف في ذلك. فصل [3 - الحلف بأسمائه تعالى وصفاته]: وجميع أسمائه تعالى تتعلق بها الكفارة كالرحمن والرحيم والعزيز والسميع والعليم وما أشبه ذلك، وكذلك صفات ذاته كعلمه وقدرته وجلاله وعظمته وكبريائه وعزته وكلامه وعهده وميثاقة وكفالته وحقه وسائر صفات ذاته (4)، وإنما قلنا ذلك لأنها يمين بقديم غير مخلوق فكان كالحلف بالذات. فصل [4 - الحلف بالعهد]: فأما العهد (5) فالدليل على أنها يمين قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (6) وذلك يدل على أن العهد والميثاق والكفالة أيمان، ولأن عرف الناس جار بالحلف بهذه الأشياء وهي من صفات الذات. فصل [5 - في كون العهد والميثاق والكفالة يمين ولو أطلق]: ويكون يمينا وإن أطلق (7) خلافًا للشافعي (8)؛ لأنها صفة من صفات الذات فإطلاقها كتعينها أصله العلم والقدرة.   (1) سورة المائدة: الآية، 89. (2) تفسير الطبري: 7/ 13. (3) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور باب الكفارة قبل الحنث وبعده: 7/ 240، ومسلم في الأيمان باب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها: 3/ 1268. (4) انظر المدونة: 2/ 29 - 30، التفريع: 1/ 381 - 382. (5) وذلك بأن يقول: وعهد الله أو على عهد الله. (6) سورة النحل: الآية , 91. (7) أي يطلقها عن لفظ الجلالة وذلك بأن يقول على العهد, أو بالكفالة والميثاق. (8) انظر الأم 7/ 63, والإقناع 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 فصل [6 - فيمن قال على عهد الله وميثاقه وكفالته]: وإذا قال على عهد الله وميثاقه وكفالته: فإن أراد التكرار أو التأكيد فكفارة واحدة، وإن أراد الاستئناف فلكل واحد كفارة، وذمة الله في معنى عهده (1). فصل [7 - الحلف بأمانة الله]: وأمانة الله يمين تكفر لأنها من صفات الذات فإن أراد الأفعال التي بين العباد فلا كفارة وهذا التفسير لأشهب. فصل [8 - من قال: أقسم وأشهد وأحلف]: إذا قال: أقسم وأشهد وأحلف فإن أراد بالله فهي يمين وإن أراد غيره أو أطلق (2) لم تكن يمينًا تكفر (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنها أيمان أراد بها الله أو لم يرده (4) والشافعي في بعض أقاويله أنها ليست بأيمان أراد بها الله أو لم يرده (5)، فدليلنا على أبي حنيفة أن الإطلاق لا يتضمن محلوفا (6) به مخصوصا لأن القسم قد يكون بغير الله وكذلك الحلف فإذا ثبت ذلك فكان يمينا تعرف عن اسم الله وصفاته لفظا ونية وعرفًا فلا كفارة فيها كقوله والنبي والكعبة، ودليلنا على الشافعي أن القسم يمين لقوله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (7) ولا فرق عند أهل اللغة بين قولهم أقسمت وحلفت (8)، ومنه قوله تعالى {إِذْ أَقْسَمُوا   (1) انظر المدونة: 2/ 30، التفريع: 1/ 382. (2) في ق: وإن أراد غيره وأطلق. (3) انظر المدونة: 2/ 30، التفريع: 1/ 382. (4) انظر مختصر الطحاوي ص 305، مختصر القدوري: 4/ 6 و 7. (5) انظر مختصر المزني ص 290. (6) في م: مخلوقاته. (7) سورة الأنعام: الآية، 109. (8) قال صاحب الصحاح: حلف أي أقسم (4/ 1346). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (1)} (2) معناه حلفوا (3)، وقوله {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (4) يريد نحلف (5). فصل [9 - في قوله: أقسمت عليك]: إذا قال أقسمت عليك لتفعلن كذا (6): فإن أراد سؤاله فلا كفارة عليه وليست يمين، وإن أراد اليمين كان على ما قدمناه (7). فصل [10 - الحلف بما يفيد الخروج من الإِسلام إن لم يقع المحلوف عليه]: إذا قال أشركت بالله أو أكفر بالله أو هو يهودي أو نصراني أو بريء من الله أو من الإِسلام أو من النبي أو القرآن أو الكعبة أو ما أشبهه ذلك فكل هذا لا كفارة فيه (8)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن ذلك كله أيمان (9)؛ لأنها أيمان تعرت عن اسم الله وصفاته فلم يجب بالحنث فيها كفارة يمين أصله قوله والنبي والكعبة، ولأنه حلف بالبراءة ممن لا يجوز التبري منه كقوله هو بريء من الكعبة. فصل [11 - أقسام الأيمان]: الأيمان على ثلاثة أقسام لغو وغموس ومنعقدة: واللغو هو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه ثم يتبين له أنه بخلافه فهذا لا أثم فيه ولا كفارة.   (1) مصبحين: سقطت من ق. (2) سورة القلم: الآية، 17. (3) انظر تفسير الطبري: 29/ 29. (4) سورة المنافقون: الآية، 1. (5) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 18/ 122. (6) ولم يفعله (التفريع: 1/ 382). (7) انظر المدونة: 2/ 31 - 33، التفريع: 1/ 382. (8) انظر المدونة: 2/ 31 - 33، التفريع: 1/ 382. (9) انظر مختصر الطحاوي ص 305، مختصر القدوري: 4/ 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 والغموس هو أن يحلف على الماضي متعمدا للكذب فهذا أعظم إثما من أن تكون فيه كفارة. والمنعقدة هو الذي يجب بالحنث فيه الكفارة على ما سنذكره. فصل [12 - في لغو اليمين]: إنما قلنا إن اللغو ما وصفناه لأن من حلف على علمه أو غلبة ظنه ولم يوجد منه استخفافا بحرمة اليمين ولا جرأة ولا إقدام على التغرير بها لأنه علقها على وصف مراعى مطابقًا لها وهو عليه وغلبة ظنه ومطابقة له انعقادها على ذلك الوجه: فإن كان على ما حلف عليه فقد بر، وإن كان بخلاف ذلك فلا شيء عليه (1) لأن اليمين لم تنعقد لأنها وقعت محلولة. فصل [13 - في قوله: لا والله وبلى والله]: واختلف أصحابنا في قوله: لا والله وبلى والله وعلى سبق (2) اللسان: فقال ابن القاسم عن مالك ليس بلغو (3) لأن صفة اللغو ما ذكرناه، وقال إسماعيل بن إسحق وشيخنا أبو بكر الأبهري وغيرهما أنه من حيز اللغو لأنه لا يتأتى البر ولا الحنث فيه ولا يمكن الاحتراز منه. فصل [14 - اليمين الغموس]: وإنما قلنا إن الغموس لا كفارة فيها (4) خلافًا للشافعي (5)، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (6) وهذه محلولة غير منعقدة لأن المنعقدة ما أمكن حله إذا انعقد, لأن العقد في مقابلة الحل والماضي واقع على وجه واحد لا يمكن تغييره (7)، ولأنها يمين لا يتأتى فيها بر ولا حنث كاللغو، ولأن   (1) انظر المدونة: 2/ 28 - 29، التفريع: 1/ 382 - 383، الرسالة ص 192. (2) في م: على سير. (3) انظر المدونة: 2/ 28. (4) انظر المدونة: 2/ 28، التفريع: 1/ 382، الرسالة ص 192. (5) انظر الإقناع ص 189. (6) سورة المائدة: الآية، 89. (7) في ق: تغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 الكفارة معنى يرفع حكم اليمين فلم تتعلق بالحلف (1) على الماضي أصله الاستثناء، ولأن الحنث مخالفة الشيء المحلوف عليه لليمين وذلك يقتضي تقديم اليمين ليصح وصف الفعل إذا وقع بأنه حنث ومتى تأخرت عنه وقع عاريا من الحكم له بذلك فلا يصير محكوما له من بعد. فصل [15 - اليمين المنعقدة]: فأما المنعقد فهو ما تأتى البر والحنث فيه (2) وذلك هو الحلف على المستقبل وينقسم أربعة أقسام (3): أحدها أن يحلف لا فعلت، والثاني إن فعلت، والثالث لأفعلن، والرابع إن لم أفعل، فأما يمينه لا فعلت وإن فعلت فهو على بر لا يحنث إلا بأن يفعل ما حلف أن لا يفعله فتلزمه حينئذ الكفارة. فصل [16 - البر والحنث]: وإنما قلنا ذلك لأن الأيمان مترددة بين البر والحنث وترقبهما فالبر هو الموافقة مثل أن يحلف ليضربن عبده أو ليدخلن الدار فيفعل ذلك، والحنث بالمخالفة من أن يحلف أن لا يفعله فيفعله، وإذا ثبت ذلك فهذا إذا حلف أن لا يفعل هو وقت حلفه غير فاعل فهو على بر، وإنما الحنث مترقب فيما بعد فإن فعل حنث لأن المخالفة حينئذ وجدت منه فإن لم يفعل فهو على أصل البر وكذلك قوله: إن فعلت؛ فأما يمينه لأفعلن وإن لم أفعل فإنه على حنث يفعل فيبر، وإنما قلنا ذلك لأن المخالفة موجودة منه في الحال لأنه قال إن لم أضرب عبدي فهو في الحال غير ضارب فهذا حنث إذ الحنث ليس بكثر من المخالفة والبر مترقب فيما بعد: كالحالف لا فعلت لأن الموافقة موجودة والحنث مترقب فيما بعد، فإذا ثبت ذلك فإن الحنث لا يتحقق عليه إلا بأحد أمرين: إما بأن يأتي حال يستحيل معها فعل   (1) في ق: بالحنث. (2) البر: هو الموافقة لما حلف، والحنث: مخالفة الشيء المحلوف عليه لليمين. (3) انظر المدونة: 2/ 29، التفريع: 1/ 383، الرسالة ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 المحلوف مثل أن يحلف ليأكلن هذا الرغيف فيحترق أو يأكله غيره فحينئذ يتحقق الحنث لأنا نيأس من بره فها هنا تنحتم الكفارة عليه (1) أو النذر إن كان نذرًا. والآخر أن يكون ضرب أجلا مثل أن يقول: والله لأدخلن اليوم الدار فإن هذا على بر ما لم يتضيق الوقت فإذا خرج اليوم ولم يدخل حنث فإذا ثبت هذا فليس يفترق حكم الأفعال التي يحلف ليفعلنها أو إن لم يفعلها من كونها طاعة أو معصية في باب البر والحنث، وإنما يفترقان في أنه لا يؤمر بالبر في المعصية ويؤمر بالحنث لأن بره معصية مثاله: إذا احلف إن لم يشرب خمرا فيقال له أنت الآن على حنث وينبغي لك أن تكفر يمينك (2) لأن اليمين أو النذر لا يسقط عنك إلا أن تبر والبر حرام عليك واستدامة الحنث واجبه عليك لازمة لك فإن عصى وشرب الخمر فقد بر في يمينه بمعنى أنه وافقها ولم يحنث فسقط حكمها أصلًا وأثم بذلك الفعل لأنه في نفسه معصية سواء على يمين أو وقع منفردا. فأما أفعال البر فإنه مختر فيها وكذلك الإباحة مثل يمينه أو ليصومن يومًا أو أن لم يكلم فلانًا أو يدخل الدار فإنه مختر في ذلك شاء يفعل فعل وحكم اليمين والنذر واحد في هذا الكتاب (3). فصل [17 - الإستثناء في اليمين]: للإستثناء تأثير في حل اليمين ورفع موجبها، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف واستثنى رجع غير حانث" (4)، ولا خلاف في ذلك (5).   (1) عليه: سقطت من ق. (2) في ق: وينبغي له أن يكفر. (3) في ق: في هذا اليمين وهو خطأ. (4) أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور باب الإستثناء في اليمين: 3/ 576، والنسائي في الأيمان والنذور باب من حلف فاستثنى: 7/ 12 والترمذي في النذور والأيمان باب الإستثناء في اليمين: 4/ 91 وقال حديث حسن. (5) انظر المغني: 8/ 715، بداية المجتهد: 6/ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 فصل [18 - فيما يؤثر فيه الإستثناء]: فإذا ثبت ذلك فإنما يؤثر في اليمين بالله أو بصفاته أو بالنذر الذي لا مخرج له وهو كل موضع تدخله الكفارة، وما عدى ذلك من يمين بطلاق أو عتاق أو حج أو مشي أو صدقة أو غير ذلك فلا يؤثر الإستثناء فيه (1)، وهذا يرد في كتاب الطلاق (2). فصل [19 - في قوله: إن شاء الله]: لا يكون قوله: إن شاء الله استثناء إلا أن يقصد به الإستثناء ورفع اليمين ومنع عقدها (3)، فأما إن قصد التبرك أو التأكيد أو سبق على لسانه أو كانت عادته أن لا يذكر شياء ليفعله إلا ويقرنه بالمشيئة اعتقادا أن الأشياء لا تكون إلا بمشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ قصد التلفظ أو لم يقصد به شيئًا فإنه لا يكون استثناء، والأصل فيه أن الكلام إنما يتعلق به حكم إذا كان مقصودا, ولأنه معنى يرفع به حكم اليمين فاحتاج إلى نية الكفارة. فصل [20 - اتصال الاستثناء باليمين]: ومن حق الاستثناء أن يكون متصلا باليمين غير متراخ عنها (4) خلافًا لما يحكى عن ابن عباس من جوازه بعد حين (5) وعن غيره في اعتبار المجلس (6) لأن أهل اللغة لم يستعملوه إلا متصلًا ويستقبحونه متراخيا يبين ذلك أن القائل ضربت عبيدي إلا ميمونًا أن ميمونًا مضروب (7) إذ قاله متصلا فلو سكت ثم قال: بعد   (1) انظر المدونة: 2/ 33 - 34، التفريع: 1/ 383. (2) انظر الصفحة (844) من الكتاب. (3) انظر المدونة: 2/ 33، التفريع: 1/ 383. (4) انظر المدونة: 2/ 33 - 34، التفريع ص 383. (5) انظر تفسير القرطبي: 6/ 273، المغني: 8/ 716. (6) حكي هذا القول عن بعض أصحاب أحمد وعن الحسن وعطاء (انظر المغني ص 716). (7) في ق: منصوب عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 زمن طويل إلا ميمونًا لعدوه هاذيًا هذا هو المتعارف من خطابهم، ولأن الاستثناء لما كان لا يفيد بانفراده لتعلقه بما تقدم لم يحسن إفراده عنه كما لا يحسن الابتداء به، ولأنهم يجرونه مجرى الشرط والتقييد وخبر المبتدأ وكل ذلك يجب اتصاله بالكلام، ولأن ذلك يؤدي إلى أن لا يوثق أحد من أحد بوعد أو وعيد وأن يتوقف في الأوامر والنواهي والأخبار بجواز ورود الاستثناء عليها بعد تراخي الوقت وهذا على طريقة من منع تأخير البيان من أصحابنا هذا حجة المسألة (1) من طريق اللغة. فصل [21 - دليل وقوع الحنث]: فأما ما يدل على وقوع الحنث وأن إيراد الاستثناء متراخيًا لا يؤثر في سقوط الكفارة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" (2) موضع الدليل: أنه قصد بيان ما يخرج به عن اليمين فلو كان الاستثناء مخرج عنها لذكره لأنه أخف من الحنث ومن الكفار، ولأن ذلك يؤدي إلى أن لا يحنث أحد في يمين لأنه إذا أراد المخالفة استثنى وانحلت يمينه، ولا يجوز التعلق في ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لأغزون قريشا" ثم سكت ساعة ثم قال: "إن شاء الله" (3) لأن ذلك امتثال لأمر لله تعالى لأنه كان أْنْسِيَ أن يصله بالكلام ثم ذكر وهذا تأويل أبي عبيد (4)، وهذا إذا قطعه عن اليمين مختارا فأما إن انقطع عليه بسعال أو بسعال أو انقطع نفس أو تثاوب أو ما أشبة ذلك ثم وصله بيمينه فإنه يصح.   (1) المسألة سقطت من م. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (630). (3) أخرجه أبو داود في الأيمان باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت: 3/ 589، والبيهقي: 10/ 48، وابن حبان وأبو يعلى وابن عدي في الكامل والحديث مرسل (نصب الراية: 3/ 303). (4) انظر فتح الباري: 11/ 603. وأبو عبيد: هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي من كبار علماء الحديث والفقه والأدب، ثقة فاضل، ت 224 هـ بمكة (تقريب التهذيب ص 450، شذرات الذهب: 2/ 54). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 فإنما قلنا ذلك لأن هذا في حكم الواصل عن أهل اللغة والشرع لأنه كذلك في الشرط والتقييد فكذلك في الاستثناء ولأن مثل هذا لو تخلل بين قوله: لا إله وبين قوله: إلا الله لم يجعله كفرا وإن كان كفرا مع الاختيار كذلك ها هنا. فصل [22 - الاستثناء بالنطق فقط]: لا يكون الاستثناء إلا نطقًا فإن نواه أو عقده من غير نطق لم ينفعه (1) والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف فقال إن شاء الله رجع غير حانث" (2) وذلك يفيد النطق، لأنّه رفع لحكم اليمين كالكفارة ولو نوى أن عبده حر عن الكفارة لم يجز إلا أن يتلفظ به. فصل [23 - في عقد اليمين من غير نطق]: واختلف متأخرو أصحابنا في عقد اليمين من غير نطق فمنهم من قال: يصح ومنهم من قال: لا يصح بناء على عقد الطلاق بالقلب (3) فإن قلنا لا يصح فالباب واحد، وأن قلنا يصح فالفرق بين اليمين والاستثناء أن اليمين إيجاب وإلزام والاستثناء رفع وحل للوجوب وما طريقه الإلزام أغلط مما طريقه الإباحة والتحليل فجاز أن تنعقد اليمين بالقلب وأن لا ينعقد الاستثناء إلا باللفظ. فصل [24 - النية مع عقد اليمين]: ليس من شرطه أن ينوى (4) مع عقد اليمين لأن ذلك يوجب أن لا تحل (5) يمين ابتدئ عقدها دون نيته (6) وذلك باطل: فإذا ابتدأ غير ناوٍ ثم نوى قبل فراغه من اليمين جاز، وإن فرغ من التلفظ (7) بها ثم أتى به متصلا غير متراخ على   (1) انظر المدونة: 2/ 34، التفريع: 1/ 384. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 635. (3) انظر المدونة: 2/ 34، التفريع: 1/ 384. (4) في م: يكون. (5) في م: يتحلل. (6) دون نيته: سقطت من ق. (7) في م: اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 الحد الذي يأتي المواز لا يصح (1)، فوجه قول مالك عموم الخبر, واعتبارًا به لو نواه الفراغ بعلة الاتصال مع النية، ووجه قول ابن المواز أن اليمين فرغ منها عارية من الاستثناء فوروده بعدها لا يؤثر كالتراخي، والأول أصح. فصل [25 - حكم من حلف ألا يفعل شيئا ففعل بعضه أو أشياء ففعل واحدا]: إذا حلف ألا يفعل شيئًا ففعل بعضه أو أشياء ففعل واحد منها حنث (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)؛ لأن اليمين على الجملة يتعلق بها وبأبعادها كالحالف (4) ليفعلن، ولأن المنع في الجملة يفهم منه منع البعض أصله منع الغير. فصل [26 - إذا حلف على شيء بعينه]: إذا حلف على شيء بعينه لا ينتفع به (5) فقد قطع المن عنه تعلقت يمينه بكل ما في بابه (6) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما لا يحنث إلا بما حلف عليه وحده (7)؛ لأن من يمن غيره عليه (8) فيحلف مجيبًا له بأن يقول: والله لا شربت لك الماء فإنه يفهم منه أراد والله لا انتفعت بشيء من مالك أصلا ونصه على الماء تنبيه بالأدون (9) على جميع ما في بابه كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (10)، وإذا ثبت ذلك قلنا لأنه لفظ يفهم منه الامتناع من جملة الانتفاع فأشبه أن يتلفظ به.   (1) انظر المدونة: 2/ 33 - 34، التفريع: 1/ 383 - 384. (2) انظر المدونة: 2/ 36 - 38، التفريع: 1/ 384. (3) انظر مختصر الطحاوي ص 308، مختصر المزني ص 295. (4) في م: كالحلف. (5) في م: لا انتفع به. (6) انظر المدونة: 2/ 37 , 38، التفريع: 1/ 384 - 385. (7) انظر مختصر الطحاوي ص 308 - 309، مختصر المزني ص 295. (8) في م: من يمن عليه غيره، ومعنى ذلك أنه أقسم عليه يمين. (9) في م: بالأدنى. (10) سورة الإسراء: الآية، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 فصل [27 - من حلف على شيء ثم فعله ساهيًا]: ومن حلف لا أفعل شيئًا ففعله ساهيًا حنث (1) خلافًا للشافعي (2) لأنه حصل منه الفعل على وجه ينسب إليه وينفرد بإضافته إليه كالعامد، ويفارق المكره لأن الفعل لا ينسب إليه بل إلى من أكرهه، ألا ترى أنه لا يقال دخل فلان الدار وإنما يقال أُدخل. فصل [28 - الاعتبار في الأيمان]: الاعتبار في الأيمان بالنية فإن عدمت فالسبب الذي أثار اليمين ليستدل منه عليها فإن عدم (3) أجرى اللفظ على ما يقتضية عرف التخاطب (4) دون عرف الفعل في المحلوف عليه، فإن لم يكن عرف أجري على موضوعه (5) مثال ذلك: إذا حلف أن لا يأكل رأسًا فإن كانت له نية وإلا نظر في السبب فقصر على ما يقتضيه فإن كانت كل رأس ولا يراعى رؤوس الغنم أو الأبل أو البقر خلافًا لمن يراعي الاستعمال؛ لأن ذلك لا يؤثر في اللفظ لأنه (6) يختلف باختلاف العادات في البلاد، ألا ترى أن العرف في الخبز جار (7) في الحنطة في أغلب البلاد وسيما في البلاد الكبار المشار إليها، ثم لو حلف الخليفة في الملك العظيم لا آكل خبزًا حنث بأكل خبزًا الدخن، وكذلك لو حلف لا أكل لحمًا لحنث عندهم بأكل لحم الخنزير ولحم (8) بني آدم وإن لم يجر ذلك عرف استعمال، وفروع هذا الباب عظيمة لا يحتملها هذا المختصر.   (1) انظر الكافي ص 195. (2) انظر مختصر المزني ص 294 والمهذب: 2/ 137. (3) في م: عري. (4) في م: المخاطب. (5) انظر المدونة: 2/ 49 - 59، التفريع: 1/ 384. (6) في م: لا. (7) في م: جائز (8) لحم: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 فصل [29 - فيمن حرم على نفسه بعض ما يحل له سوى الزوجة]: إذا حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا أو أمة أو بعض ما يحل له سوى الزوجة فلا يحرم عليه ولا يؤثر ذلك القول شيئًا (1) خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه يلزمه كفارة يمين في المأكول والمشروب دون الملبوس والطيب (2) , لقوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (3)، ولأنه حرم على نفسه ما لا يصح فيه طلاق ولا عتاق فلم يكن للتحريم تأثير أصله اللباس والطيب. فصل [30 - إذا كرر اليمين]: إذا كرر اليمين فإن أراد الاستئناف فلكل يمين كفارة وإن أراد التأكيد فكفارة واحدة وإن أطلق حمل على التأكيد (4)، ولا يكون الاستئناف إلا بالقصد لأن الظاهر تأكيد والاستئناف إيجاب كفارة مبتدأة فلا تثبت إلا بالقصد (5). فصل [31 - كفارة اليمين]: كفارة اليمين أربعة أنواع: إطعام وكسوة وإعتاق وصيام وهي على التخيير بأيها شاء أن يكفر مع القدرة على الآخرين فعل إلا لصوم فإنه لا يجزيه إلا مع العجز عن هذه الأنواع الثلاثة. فأما الأطعام فهو أن يطعم عشرة مساكين مدا لكل مسكين بالمد الأصغر إن كان بالمدينة، وإن كان بغيرها من الأمصار فوسطها من الشبع وهو رطلان من الخبز بالبغدادي, وشيء من الإدام وإن اقتصر على مد أجزأه. والكسوة لكل إنسان قدر ما تجزيه (6) به الصلاة فللرجل ثوب وللمرأة ثوبان   (1) انظر الكافي ص 195. (2) مختصر القدوري: 4/ 9. (3) سورة المائدة: الآية، 87. (4) في ق: التكرار. (5) انظر المدونة: 2/ 37، التفريع: 1/ 384، الرسالة ص 194. (6) في م: يجزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 درع وخمار ولا يجزيه (1) أن يصرف الكسوة والإطعام إلا إلى العدد المشترك وهو العشرة ولا يجزيه إلا المؤمنون الأحرار، وله أن يطعم الصغير ولكن قدر ما يكفي الكبير. وأما الإعتاق فأن يحرر رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك ولا عقد عتق من تدبير أو كتابة أو استيلاد أو عتق إلى أجل أو من الأقارب وكل من يستحق عتقه بغير الكفارة سليمة غير معينة. وأما الصيام فثلاثة أيام يستحب له متابعتها، وتجزيه إن فرقها (2). فصل [32 - حصر الكفارة في الأنواع الأربعة]: وإنما حصرنا الكفارة على الأنواع الأربعة لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... } إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (3) فأخبر أن ذلك جملة الكفارة فلم يبق زائد عليها ولا خلاف في ذلك (4). فصل [33 - دليل التخيير في الكفارة]: وإنما قلنا إنه مخير في الأنواع الثلاثة لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ... } إلى قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (5) وأو موضوعها التخيير ولا خلاف في ذلك (6)، وإنما قلنا إن الصوم لا يجزوه مع القدرة على إحداهما (7) لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (8) فشرط في كونه كفارة أن يكون عاجزًا عن الأنواع الثلاثة، ولا خلاف في ذلك (9).   (1) في م: يجوز. (2) في جملة أحكام كفارة اليمين انظر: المدونة: 2/ 39 - 41، التفريع: 1/ 386، الرسالة ص 193. (3) سورة المائدة: الآية، 89. (4) انظر المغنى: 7/ 734، فتح الباري: 5/ 188. (5) سورة المائدة: الآية، 89. (6) انظر المغنى: 7/ 734، فتح الباري: 5/ 188. (7) في م: أحدهما. (8) سورة المائدة: الآية، 89. (9) انظر المغنى: 7/ 734، فتح الباري: 5/ 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 فصل [34 - دليل التقدير في الإطعام]: وإنما قدرنا الإطعام بالمد أو زيادة يسيرة (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله يخرج من البر نصف صاع ومن التمر والشعير صاعا (2) لقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (3) والوسط هو أغلب عادات (4) الناس وهو ما بين الأقل والأكثر، ولأنه إطعام (5) في كفارة كالفطر في رمضان، وإنما فرقنا بين المدينة وغيرها لضيق العيش بها وتعذر الأقوات فيها واتساعه في غيرها (6). فصل [35 - الدليل في تقدير الكسوة]: وإنما قدرنا الكسوة بما ذكرناه خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما يجزوه أقل ما يتناوله الاسم (7)، لقوله عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} (8) وإطلاق ذلك لا يفهم منه المنديل وحده أو المئزر وحده ولأنه مصروف إلى المسكين في الكفارة فوجب أن يكون مقدرًا كالإطعام وإذا الكسوة المطلقة تنصرف (9) إلى الشرعية وليس ما يتعلق به حكم (10) في الشرع إلا ما قلناه. فصل [36 - اشتراط العدد في الإطعام والكسوة]: وإنما قلنا إن العدد مشترط في الإطعام والكسوة خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه   (1) انظر التفريع: 1/ 386، الرسالة ص 193. (2) انظر مختصر الطحاوي ص 214، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 73. (3) سورة المائدة: الآية، 89. (4) في م: عادة. (5) في م: طعام. (6) في ق: غيره. (7) انظر مختصر الطحاوي ص 306، مختصر المزني ص 292. (8) سورة المائدة: الآية، 89. (9) في م: تصرف. (10) في م: حتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 يجزيه (1) صرف الإطعام والكسوة إلى مسكين واحد في عشرة أيام (2)، لقوله تعالى {أو إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (3) فأخبر أن الكفارة صرف الإطعام إلى هذا العدد لأنه تعالى جعل لكل مسكين جزاء من الطعام فلم يجز أن يستبد بجميعه، ولأنه دفع جميع الكفارة إلى مسكين واحد فلم تجزه كما لو دفعها (4) في اليوم الأول. فصل [37 - اشتراط كون المساكين مسلمين]: وإنما شرطنا أن يكونوا مسلمين خلافًا لأبي حنيفة في تجويزه دفعها إلى أهل الذمة (5)، اعتبارًا بزكاة المال، ولأنه ناقص بالكفر كالحربي، ولأن كل من لا يجوز دفع زكاة المال إليه فكذلك الكفارة كالمرتد. فصل [38 - اشترط كونهم أحرارا]: وإنما شرطنا أن يكونوا أحرارا لأن العبد ليس بمسكين لاستغنائه بمنفعة سيده وكذلك المكاتب خلافًا لأبي حنيفة (6) لأنه باق على حكم الرق كالمدبر. وإنما جوزنا إعطاءها للصغير لوجود الصفات المعتبرة فيه وهي كونه حرا مسلما مسكينا ويعطي ما يكفي الكبير وإلا كان ناقصًا (7) من المقدار. فصل [39 - اشتراط كون الرقبة مؤمنة]: وإنما اشترطنا في الإعتاق أن تكون الرقبة مؤمنة خلافًا لأبي حنيفة (8) لأنه تكفير بعتق فأشبه كفارة القتل واعتبارا بالمرتد والوثني.   (1) في م: يجزي. (2) انظر مختصر الطحاوي ص 214، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 73. (3) سورة المائدة: الآية، 89. (4) في ق: أدفعها. (5) انظر مختصر الطحاوي ص 213 - 214، تحفة الفقهاء: 1/ 342. (6) انظر المراجع السابقة. (7) في م: نقصانا. (8) انظر مختصر الطحاوي ص 123، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 وإنما منعنا أن يكون فيها شرك لقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) وبعض الرقبة ليس برقبة، ولأن التكفير إنما يكون بنوع دون الجمع بين البدل والمبدل. فصل [40 - أن لا يكون في الرقبة عقد عتق]: وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق لأن التحرير يقتضى ابتداء الإعتاق دون تخير عقد متقدم، ولأن عتق من فيه من عقود العتق مستحق على السيد (2) بغير الكفارة فأشبه أم الولد، وهذه علة جامعة لكل ما في هذا الباب. فصل [41 - في كون الرقبة سليمة]: وإنما قلنا سليمة خلافًا لداود في تجويزة إعتاق المعيبة (3)، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (4) والإطلاق يقتضى رقبة كاملة والقطعاء والعمياء ناقصة، ولأنه نقص في الرقبة كالنقص في الدين. فصل [42 - في كون الصيام ثلاثة أيام]: وإنما قلنا إن الصيام ثلاثة أيام لورود النص بذلك والإجماع عليه (5). وإنما استحببنا له أن يتابعها لأن ذلك أكمل وأفضل وأداءه (6) على الوجه الجائز بالإجماع. وإنما أجزنا له تفريقها خلافًا للشافعي في أحد قوليه (7) لأن الظاهر مطلق غير مقيد، ولأنه نوع دون عدد يكفر به اليمين فجاز تفريقه أصله الإطعام والكسوة.   (1) سورة المائدة: الآية، 89. (2) في ق: على السبب. (3) انظر المحلى: 8/ 452. (4) سورة المائدة: الآية، 89. (5) انظر المغنى: 8/ 752، فتح الباري: 5/ 188 ... و 11/ 503. (6) في ق: وكماله. (7) انظر مختصر المزني ص 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 فصل [43 - في تقديم الكفارة على الحنث]: وفي تقديم الكفارة على الحنث روايتان (1): إحداهما الجواز وهو قول الشافعي (2)، والأخرى المنع وهو قول أبي حنيفة (3)، فوجه الجواز قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" (4)، وروي "فيأت الذي خير وليكفر عن يمينه" (5) وذلك يفيد التخيير، ولأنه معنى لرفع حكم اليمين كالاستثناء، ولأن الكفارة أقوى من الاستثناء لأنه يؤتى بها متصله ومنفصلة والاستثناء لا يؤتى به إلا متصلا فإذا أثر الاستثناء قبل الحنث فالكفارة أولى، ولأنه كفر بعد العقد فأشبه أن يكفر بعد العقد والحنث ووجه المنع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأت الذي هو خير ثم كفر عن يمينك" (6) وهذا نص، ولأنه حق في مال تعلق بسبب فلم يجز تقديمه على سببه أصله الزكاة، ولأن الكفارات (7) في الأصول يجوز تقديمها على ما يوجبها اعتبارا بالظهار والقتل. فصل [44 - لا فصل بين الصيام وغيره في تقديم الكفارة على الحنث]: وإذا قلنا بالجواز فلا فصل بين الصيام وغيره (8)، خلافًا للشافعي (9)؛ لأنه أحد أنواع الكفارة فأشبه الإعتاق والإطعام.   (1) انظر المدونة: 2/ 38، التفريع: 1/ 387. (2) انظر مختصر المزني ص 291. (3) انظر مختصر الطحاوي ص 307، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 8. (4) أخرجه مسلم في الأيمان باب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرًا منها: 3/ 1272، ومالك: 2/ 478. (5) سبق تخريج الحديث 630. (6) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور باب قوله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 7/ 216، ومسلم في الأيمان باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها: 3/ 1273 - 1274. (7) في م: الكفارة. (8) انظر المدونة: 2/ 38، الكافي ص 198. (9) انظر مختصر المزني ص 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 باب [في النذر] النذر على ضربين (1) مجهول ومعلوم: فالمجهول هو الذي لا يبين مخرجه بنية ولا نطق مثل: أن يقول لله على النذر ولا يبين ما هو، فهذا يلزم فيه كفارة يمين، فإن سمى له مخرجًا ونوى به شيئًا. سقط اعتبار الكفارة (2) وصار الحكم للمخرج الذي سُمِّي له وهذا هو الضرب الثاني من النذر وهو المعلوم الذي قد سُمِّي مخرجه وبيَّن المراد به، ولا يخلوا مخرجه من أربعة أقسام: أما أن يكون طاعة وقربة كالصلاة والصوم والحج وسائر ما يتقرب به. أو أن يكون معصية كالقتل والزنا وشرب الخمر وغير ذلك. أو أن يكون مكروها كنذر ترك التنفل والتطوع. أو أن يكون مباحًا كنذر أكل بعض المباحات ولبس الثياب الفاخرة وغيرها والطيب والمشي في بعض الطرق وما أشبه ذلك، فالذي يلزم الوفاء به من هذا كله هو الطاعة والقربة دون ما عداها، فأما المعصية فيحرم الوفاء بها، وأما ترك التنفل فيكره الوفاء به، فأما المباح فلا يتعلق بنذره حكم أصلًا (3). نوع آخر والنذر ضربان: مطلق ومقيد. فالمطلق هو أن يكون مستقلا بنفسه غير معلق (4) بغيره إما بأن يتبين مخرجه أو لا يتبين مثل أن يقول لله على نذر ويسكت أو يقول هو كذا وكذا.   (1) في ق: على وجهين. (2) في م: اعتبارًا بالكفارة. (3) في جملة أحكام النذر هذه انظر: المدونة: 2/ 9 وما بعدها، التفريع: 1/ 375 - 376، الرسالة ص 193. (4) في ق: متعلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 والمقيد هو أن يعلقه بغيره ويجعله شرطًا فيه مثل أن يقول إن كان كذا وكذا فلا يلزمه النذر إلا بوجود ذلك الشرط، ثم ما يقيد به ينقسم إلى أربع أقسام كانقسام ما يحلف عليه وهو أن يقول لله عليَّ نذر صلاة أو صوم أو صدقة إن فعلت أو إن لم أفعل أو لأفعلن أو لا فعلت (1) وكذلك ما ليس من فعله كقوله إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي أو رزقني مالًا أو ما أشبه ذلك وكل هذا عندنا يلزم الوفاء به إذا وجد شرطه من غير اعتبار بشرطه أن يكون طاعة أو معصية أو مباحًا كاليمين سواء إلا إن متعلق النذر ينقسم إلى أربعة (2) أقسام كانقسامه في نفسه. منه ما يجب فعله مثل أن يعلق النذر بواجب كقوله: لله علي نذر إن صليت الظهر في وقتها وما أشبه ذلك فهذا يلزم الوفاء به ويلزم فعل الشرط فإن اجترأ وأثم وأخر الصلاة عن وقتها شيء عليه من نذره (3) لأنه لم يوجد شرطه. ومنه ما يحرم فعله كقوله لله علي نذر إن لم أشرب خمرًا فهذا لا يجوز فعله فإن شرب عصى وأثم وسقط عنه النذر. ومنه ما يكره الوفاء به كقوله لله علي النذر إن تنفلت الليلة بصلاة يقصد ذلك منع نفسه من فعلها لا شوقًا إليها (4) فهذا يكره له الوفاء به ويستحب له أن يتنفل ويكفر فإن لم يتنفل حتى خرجت الليلة فلا نذر عليه، ومنه ما يكون الوفاء به مباحًا مثل أن يعلق النذر بما لا يحرم عليه فعله كان طاعة أو مباحا كما ينذر فعل طاعة بشرط طاعة كقوله لله علي أن أحج السنة إن صمت غدا أو بشرط مباح كقوله إن كلمت زيدا فيكون مخيرًا في ذلك إن فعله لزمه النذر وإن لم يفعله لم يلزمه (5).   (1) في م: لفعلت. (2) أربعة: سقطت من م. (3) في ق: نذر. (4) لا شوقًا إليها: سقطت من م. (5) انظر: المدونة: 2/ 19، التفريع: 1/ 376 - 377، الرسالة ص 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 نوع آخر ولا يفترق الحكم (1) عندنا بأن يكون النذر (2) على وجه التبرر والرضا أو اللجاج (3) والغضب في جميع أحكامه، فأما التبرر والرضا فهو أن يكون على سبيل الشكر كقوله لله علي نذر إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي أو سلم مالي أو رزقني الحج أو ما أشبه ذلك، واللجاج أن يقصد منع نفسه من فعل سيئ ومعاقبتها بإلزام نفسه النذر كقوله لله علي نذر إن أكلت هذا الرغيف أو إن كلمت فلانًا أو بت في داري أو ما أشبه ذلك مما يقصد به غيظ نفسه والتشديد عليها فالحكم في ذلك كله سواء على ما بيناه (4). فصل [1 - النذر المجهول]: وإنما قلنا إن النذر المجهول ينعقد وتلزم فيه كفارة يمين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر كفارة اليمين" (5)، وروي "من نذر نذرًا لم يسمه فعليه كفارة يمين" (6)، ولأنه نذر مقصود به القربة فوجب أن يثبت حكمه كالمسمى؛ لأن معنى النذر الإيجاب وأدنى واجب مقدر كفارة يمين. فصل [2 - وجوب الوفاء بنذر الطاعة]: وإنما قلنا إن الوفاء بنذر الطاعة واجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطع الله فليطعه" (7)، ولأن القول أحد نوعي الإيجاب بالشرع كالفعل.   (1) في م: النذر. (2) النذر: سقطت من ق. (3) اللجاج: من لج وهو يدل على تردد الشيء بعضه على بعض وترديد الشيء (معجم مقاييس اللغة: 5/ 201). (4) انظر التفريع: 1/ 375 - 376، الرسالة ص 193. (5) أخرجه مسلم في النذر باب في كفارة النذور: 3/ 1265. (6) أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور باب من نذر لا يطيقه: 3/ 614. وابن ماجة في الكفارات باب من نذر نذرا ولم يسمه: 1/ 687، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن طلحة والحكم لم يسمعا من ابن مسعود (جميع الزوائد: 4/ 189). (7) أخرجه البخاري في الأيمان باب النذر في الطاعة: 7/ 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 فصل [3 - عدم الوفاء بنذر المعصية]: وإنما قلنا إن ما عداه لا يوفى به لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ومن نذر أن يعصيه (1) فلا يعصه" (2)، وحديث أبي إسرائيل (3) لما رآه رسول لله - صلى الله عليه وسلم - حافيًا قائمًا في الشمس فقال: "مروه فليستظل ولينتعل" (4)، ولأن الإيجاب فرع على الجواز فإن كان فعل العصيان غير جائز فهو على الوجوب أبعد، فأما المباح فلا يلزم لأن المقصود من النذر القربة والمباح لا قربة فيه. فصل [4 - إثبات حكم مخرج النذر بالنطق والنية]: وإنما قلنا إنه يثبت حكم مخرجه بالنية والنطق لأنهما طريقان لمعرفة المراد وثبوت أحكام الخطاب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "وإنما لامريء ما نوى" (5). فصل [5 - النذر المطلق]: وإنما قلنا إن النذر المطلق يلزم (6) حكمه خلافًا لبعض الشافعية (7)، لعموم الأخبار، واعتبارًا بالمقيد بعلة (8) أنه ألزم نفسه على وجه النذر ما يجب الوفاء بجنسه. فصل [6 - التسوية بين نذر اللجاج والتبرر]: وإنما سوينا بين نذر اللجاج والتبرر خلافًا للشافعي في قوله أن نذر اللجاج تجب به كفارة يمين (9)؛ لأن اختلاف الحال التي عقد عليها النذر لا يوجب   (1) في ق: أن يعصي الله. (2) هو جزء من الحديث الذي سبق. (3) أبو إسرائيل: رجل من قريش (هكذا جاء في فتح الباري: 11/ 590). (4) أخرجه البخاري في النذور باب النذر فيما لا يملك: 7/ 234. (5) سبق تخريج الحديث ص 119. (6) في م: يثبت. (7) انظر المجموع: 8/ 367. (8) في م: بعلمه. (9) انظر الإقناع ص 192 - 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 سقوط المنذور وإلزام غيره أصله حال التبرر، ولأنها قربة ألزمها نفسه على وجه النذر فإذا وجد شرطها لم يجز إسقاطهما كالحج. فصل [7 - التسوية بين شروط النذر]: وإنما سوينا بين شروط النذر لأن الإيجاب علق بوجوده وما كان كذلك فلا يراعى فيه صفة زائدة عليه كالطلاق والعتاق. فصل [8 - فيمن قال: مالي في سبيل الله]: ومن قال: مالي في سبيل الله أو هدي لزمه إخراج الثلث (1) خلافًا لمن قال: لا يلزمه شيء أصلا (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي لبابة (3) ونذر أن يختلع من جميع ماله: "يجزيك من ذلك الثلث" (4) واعتبارًا به إذا عين شيئًا من ماله، ولا يلزمه الكل خلافًا للشافعي، للخبر، ولأن المريض لما منع من إخراج كل ماله إنقاء على ورثته كان الحي أولى لحق نفسه. فصل [9 - ولا تجزيه كفارة يمين]: ولا تجزيه كفارة يمين (5) خلافًا لمن ذهب إلى ذلك (6) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يجزيك من ذلك الثلث" (7) فدل على أنه لا يجزيه دونه، ولأنه نذر إخراج مال كما لو عين.   (1) انظر المدونة: 2/ 24، التفريع: 1/ 380، الرسالة ص 194. (2) في إحدى الروايتين عن أحمد (انظر المغنى: 9/ 8). (3) أبو لبابة: الأنصارى، المدنى، اسمه بشير وقيل رفاعة بن عبد المنذر صحابى مشهور، وكان أحد النقباء وعاش إلى خلافة علي (تقريب التهذيب ص 669). (4) أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور باب فيمن نذر أن يتصدق بماله: 3/ 613، وأحمد: 3/ 452، ومالك: 2/ 481. (5) انظر التفريع: 1/ 380 - 381، الكافي ص 203. (6) قالته عائشة وجماعة من الصحابة والتابعين وروي عن الإمام أحمد (انظر المغنى: 9/ 7). (7) سبق تخريج الحديث قريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 مسألة [10 - فيمن نذر المشي إلى بيت الله]: إذا نذر المشي إلى بيت الله لزمه النذر فإن عَيَّن (1) حجا أو عمرة لزمه ما عينه وإن أطلق لزمه ما يختار منهما، ومنتهى المشي في الحج طواف الإفاضة وفي العمرة الفراغ من السعي فإن كان ضرورة وأراد الجمع في سفره بين فرضه ونذره مشي في عمرة ثم حج ويكون متمتعًا إن كانت عمرته في أشهر الحج، ولا يجوز له ترك المشي مع القدرة عليه والمشي من حيث حلف فإن عجز ركب ثم عاد قابلا فلفق مشيه وأهدى إن قدر وإلا فليهد ولا يعد، وكذلك العاجز عن المشي من أول مرة، وهذا (2) إذا كان ما ركب كثيرا فإن كان يسيرا أهدى ولا عود عليه وينتعل ناذر الحفاء ولا دم عليه (3). فصل [11 - دليل لزوم نذر المشي]: وإنما قلنا إن نذر المشي يلزم لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} (4) وفي حديث عقبة بن عامر (5) أن أخته نذرت أن تمشي إلى الكعبة فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لتمشي أو لتركب وتهدى" (6)، ولأنه قول ابن عمر (7) ولا مخالف له، وإنما قلنا إنه   (1) في ق: نذر. (2) في ق: كذلك. (3) انظر المدونة: 2/ 9 - 19، التفريع: 1/ 377 - 380، الرسالة ص 194 - 195. (4) سورة المائدة: الآية، 1. (5) عقبة بن عامر: الجهني صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان عالما فصيحًا فقيها فرضيًّا شاعرا كبير الشأن، مات سنة ثمان وخمسين (انظر شذرات الذهب: 1/ 64، سير أعلام النبلاء: 2/ 467). (6) أخرجه البخاري في جزاء الصيد باب من نذر المشي إلى الكعبة: 2/ 220، ومسلم في النذر باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة: 3/ 1264 بلفظ "لتمشي ولتركب" فقط، وبلفظ (وتهدى) أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور باب من رأى كفارة عليه إذا كان في معصية: 3/ 598، وإسناده صحيح على شرط البخاري (انظر تلخيص الحبير: 4/ 178). (7) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 473، والبيهقي: 10/ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 يمشي في حج أو عمرة لأن الألفاظ إذا أطلقت ولها معهود في الشرع حملت عليه، كما لو نذر صلاة أو صومًا والمعهود من المشي إلى بيت الله إنه لأحد هذين النسكين فوجب انصراف (1) النذر إليه. وإنما قلنا إنه إن عين أحدهما لزمه ما عينه لأن تعيينه قد أوجبه على نفسه كتعيين الصلاة والصوم، وإذا لم يعين كان مخيرا لأن التعيين لا يثبت إلا من جهته. وإنما قلنا يمشي في الحج إلى آخر طواف الإفاضة لأن نذره تناول المشي في جميع الحج فما دام في الإحرام فعليه المشي ولا يخرج منه إلا بطواف الإفاضة، وفي العمرة بالفراغ من السعى. وإنما قلنا في الضرورة إن له أن (2) يجعل مشيه في عمرة ليتم له غرضه من أداء الفرض والنذر (3) في سفر واحد. وإنما قلنا إنه يلزمه المشي مع القدرة عليه للظاهر (4) والخبر الذي رويناه (5). وإنما قلنا إن المشي من حيث حلف لأنه الموضع الذي تناوله الوجوب بالنذر دون غيره. وإنما قلنا إنه إن عجز ركب لأنه في الخبر (لتمشي أو لتركب ولتهدى) (6) ولأن النذر تناول المعنى إلى مكة على صفة وهي المشي فإذا عجز عن صفة الذهاب لم يسقط عنه أصله (7)، وإنما قلنا أنه يرجع من قابل إن أمكنه لأن المشي باق في ذمته لا يسقط عنه إلا بأدائه، وركوبه هو لتمام المناسك لا ليكون بدلا عن المشي.   (1) في م: صرف. (2) في ق: أنه. (3) في م: فرضه ونذره. (4) الظاهر من قوله تعالى: {أوفوا بالعقود}. (5) الذي ذكر قريبًا. (6) سبق تخريج الحديث. (7) في م: إلا بأدائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 وإنما قلنا إنه إذا عجز فلا يعود لأنه لا فائدة في عوده لأن العود إنما يراد ليكمل المشي، وإنما قلنا إن عليه الهدي خلافًا للشافعي (1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتمشي أو لتركب ولتهدي" (2) معناه إن عجزت، ولأنه إذا ألزم نفسه المشي فقد تعين عليه لزومه فصار كالتعيين بالشرع وما لزم بتركه الدم مع القدرة والعجز كالرمي إذا عجز منه. وإنما قلنا إن الركوب اليسير ينوب عنه الدم لأنه لا حكم له مع المشي المقصود وهو الأكثر، وإنما قلنا إن من نذر المشي حافيا انتعل لأن الحفاء لا قربة فيه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي إسرائيل (مروه فلينتعل) (3). فصل [12 - فيمن نذر المشي إلى مسجد رسول الله وإلى بيت المقدس]: ومن نذر المشي إلى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو إلى بيت المقدس للصلاة فيهما لزمه ذلك (4) خلافًا للشافعي (5) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد .. فذكر مسجده وبيت المقدس" (6)، ولأنهما مسجدان تضاعف الصلاة فيهما بألف كالمسجد (7) الحرام، ولا يلزم نذر المشي إلى غيرها للخبر، ولأن المعنى فيهما معدوم في غيرهما. فصل [13 - فيمن نذر ذبح ابنه]: ومن نذر ذبح ابنه في يمين أو على وجه القربة فعليه اهدي وإن نذره مجردا لا يقصد القربة فلا شيء عليه (8)، وإنما قلنا ذلك لأنه إذا نذره على وجه القربة فإنما   (1) انظر مختصر المزني ص 297. (2) سبق تخريج الحديث قريبا 652. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة 650. (4) انظر المدونة: 2/ 17، التفريع: 1/ 379، الرسالة ص 194. (5) انظر مختصر المزني ص 297. (6) أخرجه البخاري في فعل الصلاة: 2/ 56 ومسلم في الحج: 2/ 1042. (7) في م: في المسجد. (8) انظر المدونة: 2/ 27، الرسالة ص 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 أراد نذر الفداء عنه، لأن ذلك معهود في الشرع أن نحر الابن قد يكون على وجه القربة لأن إبراهيم عليه السلام تعبد بذلك، وصارت الأضحية أصلا في شرعنا تشبيها به فكان الناذر له على وجه القربة ناذرا للفداء عنه، وإن لم يرد القربة فلا شيء عليه لأنه نذر معصية مع التجريد. فصل [14 - فيمن نذر أن يهدي شيئًا من ماله]: ومن نذر أن يهدي شيئًا من ماله فإن كان مما يجوز أن يكون هديًا أهداه لأن أداء النذر مع الإمكان مستحق، وإن كان مما (1) لا يهدي مثله باعه واشترى به هديًا لأنه نذر أهداه فالكلام ينصرف إلى الوجه الذي يمكن إهداؤه عليه فإذا امتنع في عينه لزم في ثمنه (2) والله أعلم. * * *   (1) مما: سقطت من ق. (2) انظر المدونة: 2/ 21، التفريع: 1/ 380 - 381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 كتاب الأضاحي الأضحية (1) سنة مؤكدة (2)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت بالنحر وهو لكم سنة" (3)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى والأئمة بعده ولا خلاف في فضلتها" (4). فصل [1 - حكم الأضحية]: وليست بواجبة وجوب الفرائص ولا على ما يقول أصحاب أبي حنيفة أنها واجبة يجرح تاركها (5) زائدة (6) على وجوب السنن، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (7): "ثلاثة هي علي فرض ولكم تطوع: الوتر والأضحية والسواك" (8)، ولأنه ذبح لا يجب على المسافر فلم يجب على الحاضر كالعقيقة. فصل [2 - على من هي مسنونة]: وهي مسنونة لكل أحد إلا الحاج بمنى (9) لأن ما ينحر بمنى هو هدي لأنه من   (1) الأضحية: اسما ما تقرب بذكاته من جذع ضأن أو ثني سائر النعم سليمين من بين عيب مشروطًا بكونه في نهار عاشر ذي الحجة أو تالييه بعد صلاة إمام عيده له وقدر زمن ذبحه لغيره ولو تحريًا لغير حاضر (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 122). (2) انظر الموطأ: 2/ 487، التفريع: 1/ 389، الرسالة ص 183. (3) سبق تخريجه وهو حديث (ثلاثة هي علي فرض ولكم تطوع ..) ص 119. (4) انظر المعنى: 8/ 617، فتح الباري: 10/ 2، 3. (5) انظر مختصر الطحاوي ص 300 - 301، مختصر القدورى مع شرح الميدانى: 3/ 232. (6) في م: ولها مزية. (7) - صلى الله عليه وسلم -: سقطت من م. (8) سبق تخريج الحديث ص 119. (9) انظر المدونة: 2/ 5، التفريع: 1/ 389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 حقه أن يوقف بعرفة، ولأن الحاج بمنى لما لم يخاطبوا (1) أيضًا بصلاة العيد لأجل (2) حجهم فكذلك بالأضحية. فصل [3 - ما يجزيء في الأضحية]: لا تجوز الأضحية إلا من بهيمة الأنعام دون غيرها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بالغنم (3) وبيَّن ما يجزيء منها (4) فلم يذكر إلا الإبل والبقر والغنم، ولأنه ذبح متقرب به كالهدايا. فصل [4 - ما يجزيء من الأنعام وأفضلها في الأضحية]: وأفضلها الغنم ثم البقر ثم الإبل، والضأن أفضل من المعز، وفحول كل جنس أفضل من إناثه (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: أن الأفضل الإبل ثم البقر ثم الغنم (6)، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين (7)، وقوله: "خير الأضحية الكبش" (8)، ولأن المراعي طيب اللحم ورطوبته دون كثرته بدليل ما رويناه من تضحيته بالغنم وعدوله إليها عن الإبل والبقر ولأنه يختص بها أهل البيت دون الفقراء بخلاف الهدايا.   (1) في م: لم يخاطب. (2) في م: لسبب. (3) كما جاء في حديث الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين .. أخرجه البخاري في الأضاحي في باب التكبير عند الذبح: 6/ 238، ويسلم في الأضاحي باب استحباب الضحية: 3/ 1556. (4) في م: فيها. (5) انظر المدونة: 2/ 2، التفريع: 1/ 390، الرسالة ص 183. (6) انظر مختصر الطحاوي ص 301، مختصر المزني ص 284. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) أخرجه الترمذي في الأضاحي باب في الجذع من الضأن: 4/ 74، وابن ماجه في الأضاحي باب ما يستحب من الأضاحي: 2/ 1046 والحاكم: 4/ 228 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 فصل [5 - السن الجائزة في الأضحية]: والسن الجائز فيها الجذع من الضأن والثني مما سواه (1)، أما الجذع من الضأن فلا خلاف في جوازه يعتمد عليه (2)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن (3) وقوله: "ضحوا بجذاع الغنم" (4) فأما الجذع من غيره فلا يجوز لقوله لأبي بردة (5) وقال: ما عندي إلا جذع من المعز "يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك" (6)، وقوله: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" (7) فقصر الجذاع على جنس مخصوص وهو الضأن فكان ما عداه مبقى على الأصل، والجذع من الضأن ما له سته أشهر فما زاد، والثني من المعز ما له سنة وقد دخل في الثانية، والثني (8) من البقر ما له سنتان وقد دخل في الثالثة، ومن الإبل ما له ست سنين لأنه يلقى ثنيته.   (1) انظر التفريع: 1/ 390، الرسالة ص 183 - 184. (2) وقاله ابن عمر والزهرى لا يجزء الجذع لأنه لا يجزيء من غير الضأن فلا يجزيء منه كالحمل، وعن عطاء والأوزاعي فلا يجزء الجذع الضأن الأجناس (انظر المغنى: 8/ 623). (3) أخرجه مسلم في الأضاحي باب من الأضحية: 3/ 1555. (4) أخرجه أحمد: 2/ 152 وابن جرير الطبرى والبيهقي: 9/ 271 وابن ماجة في الأضاحي باب ما تجزئ من الأضاحي: 2/ 1048 - 1049 وبلفظ قريب منه الترمذي في الأضاحي باب ما جاء في الجذع من الضأن في الأضاحي: 4/ 74، وقال: غريب وقد روي موقوفًا (تلخيص الحبير: 4/ 139). (5) أبو بردة: هانئ بن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دهمان البلوى القضاعى الأنصارى من حلفاء الأوس وهو خال البراء بن عازب شهد العقبة وبدرا والمشاهد النبوية توفى سنة اثنين وأربعين (انظر سير أعلام النبلاء 2/ 35). (6) أخرجه البخارى في الأضاحى باب قوله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة ( ... الحديث: 6/ 736، ومسلم في الأضاحي باب وقتها: 3/ 1552). (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) الثنى: سقطت من ق ومن ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 فصل [6 - أيام الأضحى]: أيام الأضحي يوم النحر ويومان بعده ولا يضحي في اليوم الرابع (1)، خلافًا للشافعي (2)، لأنه إجماع الصحابة روي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس (3)، ولا مخالف لهم، وقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} (4) وأقل الأيام ثلاثة (5)، ولأنه ليس بمعلوم كالخامس، ولأنه لا يتعقبه مبيت بمنى فأشبه ما بعده. فصل [7 - في أفضلية التضحية يوم النحر]: الأفضل أن يضحي يوم النحر (6) لأنه - صلى الله عليه وسلم - (7) والأئمة بعده كانوا يضحون فيه، وعن علي رضوان الله عليه: النحر ثلاثة أيام أفضلها أولها (8)، ولأنه اليوم المقصود بذلك، وإليه ينسب النحر وما بعده في حكم التابع (9)، وقيل في تأويل قوله تعالى: {فصل لربك وانحر} (10) صلى العيد وانحر الأضحية (11).   (1) انظر التفريع: 1/ 389، الرسالة ص 184. (2) انظر مختصر المزني ص 185. (3) في تخريج هذه الآثار انظر: البيهقي: 9/ 297، الموطأ: 2/ 487 وانظر المغنى: 8/ 638. (4) سورة الحج: الآية، 28. (5) انظر الجامع لأحكام القرآن: 12/ 42، 43. (6) انظر المدونة: 2/ 302، التفريع: 1/ 389، الرسالة ص 184. (7) كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلي ثم ننحر" كما سيأتي. (8) البيهقي: 9/ 297. (9) في م: التبع. (10) سورة الكوثر: الآية، 2. (11) انظر تفسير الطبرى: 30/ 326 - 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 فصل [8 - الأيام المعلومات والأيام المعدودات]: يتعلق بأيام النحر ورابعها وصفان: معلوم ومعدود فيوم النحر معلوم غير معدود وأربعة معدود غير معلوم وما بينهما معدود، وفائدة وصفه في أنه معلوم جواز النحر فيه وبأنه معدود إيقاع الرمي فيه. وإنما قلنا إن يوم النحر معلوم لجواز النحر فيه، وإنما قلنا إنه ليس بمعدود لأن النفر لا يجوز في غده ومن حقه أن يكون في ثاني المعدودات. وإنما قلنا إن ثاني النحر وثالثه يجمع الوصفين لجواز النحر والرمي فيهما (1)، ولأن النفر جائز في اليوم الثالث، وقلنا إن رابع النحر معدود لجواز الرمي فيه، وقلنا إنه غير معلوم لامتناع النحر فيه. فصل [9 - عيوب الأضاحي]: لا يجوز الأضحية بالعمياء (2)، ولا العوراء البيِّن عورها ولا الشديدة المرض ولا العجفاء (3) التي ليس فيها نقي، ولا الشديدة الضلع (4) التي لا تلحق بالغنم، ولا المقطوعة الأذن، ولا السكاء، ولا يجوز الخرقاء والشرقاء (5) والعضباء؛ والنقي المخ، والخرقاء المقطوع بعض أذنها من أسفله، والكساء هي المخلوقة بغير أذن، والعضباء هي الناقصة الخلق (6)، وهذه العيوب قد ورد   (1) في م: فيه. (2) في ق: بالعمي. (3) العجفاء: التي لا شحم فيها لشدة هزالها، وقيل التي لا مخ في عظامها (الفواكه الدوانى: 1/ 391). (4) الضلع: هي العرجاء بحيث لا تلحق الغنم (الفواكه الدوانى: 1/ 391). (5) الشرقاء: إذا كانت الشاة مشقوقة الأذن باثنتين (المصباح المنير ص 311). (6) انظر المدونة: 2/ 302، التفريع: 1/ 391 - 392، الرسالة ص 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 النهي فيها من حديث علي (1) رضى الله عنه، البراء (2)، ونكتة هذا الباب أن كل عيب نقص اللحم أو أثر فيه أو كان مرضًا أو نقص من الخلقة فإنه يمنع الأضحية، وفي بعضها خلاف، وينبغى في الجملة أن يتقي العيب وتتوخي السلامة لأنه ذبح مقصود به القربة فوجب أن يكون مسلَّما مخلصا مما ينقصه ويكدره، لقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (3)، وقوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون} (4)، فأما العوراء فلا نعلم خلافًا في منع الأضحية بها (5)، وفي حديث علي والبراء أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن العوراء البين عورها، ولأنه ذهاب عضو منها فيه منفعة واستمتاع، وإذا لم تجز العوراء فالعمياء أولى أن لا تجوز، فأما المريضة البيِّن مرضها فكذلك في الحديث، ولأن المرض عيب يفسد اللحم ويضر بمن يأكله. والعجفاء التي لا شحم فيها ولا مخ في عظمها لشدة هزالها فقد ورد النهي عنها ولا منفعة فيها لأن المراعى في الأضحية إما كثرة اللحم ووفوره أو طيبه ورطوبته وكل ذلك معدوم في هذا الموضع، والعرجاء العرج الشديد (6) عيب   (1) أخرجه أبو داود في الضحايا باب ما يكره من الضحايا: 3/ 237 والنسائي في الضحايا باب المقابلة: 7/ 190، وابن ماجة في الأضاحي باب ما يكره أن يضمن به: 2/ 1050، والترمذي في الأضاحي باب ما يكره من الأضاحي: 4/ 73 وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم: 4/ 224 وقال إسناده صحيح. (2) أخرجه مالك: 2/ ن 482، وأبو داود في الضحايا باب ما يكره من الضحايا: 3/ 235، والنسائي في الضحايا باب ما نهى عنه من الأضاحي العوراء: 7/ 188 وابن ماجة في الأضاحي باب ما يكره أن يضحي به: 2/ 1050والترمذي في الأضاحي باب ماجة في الأضاحي: 4/ 72 وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم: 4/ 223 وقال صحيح الإسناد. (3) سورة آل عمران: الآية، 92. (4) سورة النحل: الآية، 62. (5) انظر المجموع: 8/ 320، المغنى 8/ 624، فتح البارى: 10/ 8. (6) في ق: العرجاء الشديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 مؤثر مستقبح عند الناس لنقص اللحم والرعي، وعند أبي حنيفة تجوز الأضحية بها دامت تمشي (1)، وما ذكرناه دلالة على فساد قوله، وفى الحديث: "العرجاء البين طلعها" (2)، والجماء (3) لا بأس بها لأن القرن لا منفعة فيه للأكل، وإنما منعناه إذا أدمى لأنه مرض، وروي " المقابلة والمدابرة" (4) وهو قطع الأذن والإلية، وفي قدر ما ذكرناه تنبيه على تفريع هذا الباب. فصل [10 - الاشتراك في ثمن الأضحية وفي لحمها]: لا يجوز الاشتراك في ثمن الأضحية ولا لحمها (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما أن البدنة تجزي عن سبعة وكذلك البقرة (6)، لأنه حيوان يضحي به فلم يجز إلا عن واحد كالشاة، ولأن كل وحد يصير مخرجا للحم بعض بدنة أو بقرة، وذلك لا يكون أضحية كما لو اشترى لحمًا، ولأن كل إنسان مخاطب بفعل ما يسمى أضحية وهذا الاسم ينطلق على الدم دون اللحم، ولأنه اشتراك في دم فوجب أن لا يجزى مريد القربة أصله إذا قصد بعضهم الإباحة على قول أبي حنيفة، أو ما زاد على السبعة أصله إذا قصد على قوله (7) وقول الشافعي.   (1) انظر مختصر الطحاوي ص 302، مختصر القدورى- مع شرح الميدانى: 3/ 234 - 235. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) الجماء: وهي التي لا قرن لها (الفواكه الدوانى: 1/ 392). (4) يشير به إلى حديث علي بن أبي طالب الذي قال فيه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحى بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء) الذي أخرجه الترمذي في الأضاحي: 4/ 73 وقال حديث حسن صحيح، كما أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ما يكره من الضحايا: 3/ 235، والنسائي في الضحايا باب المقابلة: 7/ 190، وابن ماجة في الأضاحي باب ما يكره أن يضحي: 2/ 105. (5) انظر المدونة: 2/ 3، التفريع: 1/ 391. (6) انظر مختصر الطحاوي ص 301، الإقناع ص 184. (7) على قوله: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 فصل [11 - التضحية بكبش عن الرجل وأهله]: وإن ضحى الرجل بكبش أو غيره عنه وعن أهل بيته جاز (1) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك (2)، وليست هذا بشركة في ملك اللحم وإنما المراد بذلك الشركة في الثواب والبركة. فصل [12 - الرجل يلي أضحيته بيده]: الاختيار أن يلي الرجل ذبح أضحيته بيده (3) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل (4)، ولأنها من عبادة الأبدان فاستحب أن يليها بنفسه كسائر عبادات الأبدان فإن كان له عذر جاز أن يستنيب غيره لأن الضرورات تسقط معها أحكام الاختيار. وإن استناب غيره من غير عذر كرهنا له ذلك وأجزناه لأن الأضحية طريقها المال وعبادات الأموال تصح فيها النيابة كتفريق الزكاة وغيرها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استناب عليًّا رضي الله عنه في نحر الهدايا (5) ولا فرق بينها (6) وبين الأضاحي.   (1) انظر المدونة: 2/ 3، التفريع: 1/ 390. (2) جاء في حديث ابن ماجة والحاكم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين أحدهما عن أمته والآخر عن محمد وآل محمد - صلى الله عليه وسلم - أخرجه ابن ماجه في الأضاحي باب أضاحي رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: 2/ 1043 - 1044 بسند جيد، والحاكم: 4/ 227 - 228. (3) انظر التفريع: 1/ 392، الرسالة ص 184. (4) أخرجه مسلم في الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 2/ 891: أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى يوم النحر جمرة العقبة ضحى ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ... (5) كما جاء في حديث مسلم السابق، وأخرجه بهذا اللفظ أحمد: 9/ 260، وقال الزيلعي سنده ضعيف (نصب الراية: 3/ 161). (6) في م: بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 فصل [13 - إذا استناب حرًّا مسلمًا في ذبح أضحيته]: إذا استناب حرا (1) مسلما أجزاه من غير خلاف (2) فإن استناب ذميا فلا يجزيه (3) عند مالك ويجزيه (4) عند أشهب وقيل أنه رواية عن مالك فإذا قلنا لا يجزيه فلأنه مشرك كالمجوسي، ولأن طريقها القربة المعلقة بالبدن فلا يجوز نيابة المشرك فيها كالحج وغيره، وإذا قلنا يجزيه فلأنه من أهل الذبح كالمسلم واعتبارًا بتوليته العتق وتفرقة (5) الزكاة ولحم الأضحية. فصل [14 - في تسمية الذابح على الأضحية]: يسمى الذابح على الأضحية ويكبر (6) لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل حين ذبح أضحيته (7) فإن نسي التسمية فلا شيء عليه وإن تعمد تركها لم تؤكل وذلك مذكور في الذبائح. فصل [15 - في وقت نحر الأضحية]: ووقت نحر الأضحية بعد الصلاة والخطبة (8) ولا يجوز لأحد أن يذبح قبل الإمام إذا كان الإمام ممن يظهر نحر أضحيته وينبغى له إحضارها المصلى ليقف الناس على وقت ذبحه فلا يتقدموا (9) عليه فإن لم يفعل توخي (10) الناس قدر   (1) حرا: سقطت من ق. (2) انظر المدونة: 2/ 5، التفريع: 1/ 392. (3) في م: لم يجزه. (4) في م: أجزاه. (5) في م: أجزاه. (6) انظر التفريع: 1/ 392، الرسالة ص 185. (7) أخرجه البخاري في الضحايا باب التكبير عند الذبح: 6/ 238 ومسلم في الأضاحي: 3/ 1552. (8) انظر المدونة: 2/ 2، التفريع: 1/ 390. (9) في م: يتقدم. (10) في م: تأخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 انصرافه وذبحه ثم ذبحوا بعد ذلك، ومن ذبح قبله متعمدًا أعاد فإن نحروا ثم بان لهم أنهم سبقوه أجزاهم، وكذلك من ذبح في قرية لا إمام فيها فتحرى ذبح من يليه من الأئمة فصادف ذبحه قبله (1)، ولا يجوز ذبح (2) الأضحية بليل. فصل [16 - في أن الأضحية لا تكون إلا بعد الصلاة]: وإنما قلنا إن الأضحية لا تكون إلا بعد الصلاة لأن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل: صلى ثم خطب ثم نحر ولقوله: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم ننحر فمن نحر قبل الصلاة فإنما تعجل لحمًا لأهله" (3)، ولأمره - صلى الله عليه وسلم - أبا برده بن نيار أن يعيد الذبح وكان ذبح قبل الصلاة (4). فصل [17 - إعادة الذبح لمن ذبح قبل الإمام]: وإنما قلنا إن المأموم لا يذبح حتى يذبح الإمام وأنه يعيد إن فعل خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لحديث أبا بردة بن نيار أنه ذبح أضحيته قبل أن يذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يعيد (6)، ولأنه ذبح قبل الإمام فأشبه إذا ذبح قبل الصلاة. فصل [18 - الإمام يحضر أضحية المصلى]: وإنما قلنا إن على الإمام أن يحضر أضحيته المصلى لأنه قد ثبت أن على الناس الاقتداء به فوجب أن يظهر أضحيته ليصل الناس إلى العلم بوقت ذبحه فإن لم يفعل نحروا على ما ذكرناه لأنهم لا يقدرون على أكثر من ذلك.   (1) في م: قبل ذبح الإمام. (2) ذبح سقط من م. (3) أخرجه البخاري في الأضاحي باب الأضحية: 6/ 234، ومسلم في الأضاحي باب وقتها: 3/ 1551. (4) أخرجه البخارى في الأضاحي باب من ذبح قبل الصلاة: 6/ 238، ومسلم في الأضاحي باب وقتها: 3/ 1552. (5) انظر مختصر الطحاوي ص 301، المهذب: 1/ 238، والمجموع: 8/ 303. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 وإنما قلنا إنه لا شيء عليهم إذا بان أنهم سبقوه فلأنهم يجتهدون فيما لا سبيل لهم إلى اليقين فيه كالاجتهاد في القبلة مع الغيمة، ولأن (1) من لا إمام عندهم تحروا ذبح أقرب الأئمة إليهم مخاطبون بالاقتداء بمن قرب دون من بعد. فصل [19 - عدم جواز النحر بالليل]: وإنما قلنا لا يجوز النحر بالليل خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)، لقوله تعالى: {ليذكروا اسم الله في أيام معلومات} (3)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح نهارًا (4)، ولأنها قربة تتعلق بالعيد تضاف إليه لا يجوز تقدم ما قبله فلم يجز أن يفعل ليلا كالصلاة، ويستجب (5) للرجل أن يأكل من لحم أضحيته لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا} (6)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فكلوا وادخروا" (7)، وليس بواجب (8) خلافا لقوم (9)، اعتبارًا بسائر الذبائح. فصل [20 - منع بيع شيء من الأضحية]: ولا يباع شيء من الأضحية من لحم أو جلد أو صوف أو غيره ولا يعوض عليه   (1) لأن سقطت من ق. (2) انظر مختصر الطحاوي ص 301، مختصر المزنى ص 285. (3) سورة الحج: الآية، 28. (4) كما جاء في الأحاديث التي رويت في هديه ونحره وأضحيته. (5) في ق وم ور يجب؟ (6) سورة الحج: الآية، 68. (7) أخرجه مسلم في الأضاحي باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحى: 3/ 1561. (8) انظر التفريع: 1/ 393، الرسالة ص 185. (9) في المغنى: وقال بعض أهل العلم: يجب الأكل منها (8/ 633). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 ولا يعطى أجرة لجازر ولا دابغ (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) في إجازته بيع جلدها بما سوى الدراهم مما يعار وينتفع به، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع أهب الضحايا (3)، وقال علي رضى الله عنه: أمرنى أن لا أعطى الجازر منها شيئا، وقال نحن نعطيه من عندنا (4)، ولأنه جزء من الأضحية كاللحم، ولأنها قد وجبت للمساكين وليس هو بوكيل لهم ولا قيم عليه كالزكاة. * * *   (1) انظر المدونة: 2/ 3 - 4، التفريع: 1/ 393، الرسالة ص (8/ 633). (2) انظر مختصر الطحاوي ص 302، مختصر القدورى- مع شرح الميدانى: 3/ 236. (3) أخرجه البيهقي: 9/ 294 عن عبد الله بن عياش. (4) أخرجه البخاري في الحج باب لا يعطى الجزار: 2/ 186. ومسلم في الحج باب في الصدقة بلحوم الهدايا: 2/ 954. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 باب العقيقة العقيقة (1) مسحبة (2) خلافًا لما يحكى عن أبي حنيفة أنها بدعة (3) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مع الغلام عقيقة فأهرقوا عنه دما" (4)، وقوله: "كل غلام مرتهن بعقيقته يعق عنه يوم سابعه ويسمى" (5)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا (6)، وليست بواجبة خلافًا لقوم (7)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في المال حق سوى الزكاة" (8)، وقوله وسئل عن العقيقة: "لا أحب العقوق ومن ولد له   (1) العقيقة: أصل العقيقة شعر المولود ثم اتسع في ذلك فسميت الشاة التي تذبح عليه عقيقة (غرر المقالة ص 183). (2) انظر الموطأ: 2/ 502، التفريع: 1/ 395، الرسالة ص 187. (3) انظر المغنى: 8/ 644. (4) أخرجه البخاري في العقيقة باب إماطة الأذى عن الصبي: 6/ 216. (5) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب العقيقة: 6/ 260، والنسائي في العقيقة باب متى يعق: 7/ 147، وابن ماجة في الذبائح باب العقيقة: 2/ 1056 والترمذي في الأضاحي باب العقيقة: 4/ 85 وقال حسن صحيح والحاكم: 4/ 237، وأحمد: 5/ 17. (6) أخرجه مالك: 2/ 501، وأبو داود في الأضاحي باب العقيقة: 3/ 261، والنسائي في العقيقة: 7/ 145 وصححه عبد الحق وابن دقيق العيد وسنده صحيح (تلخيص الحبير: 4/ 147). (7) قال بوجوبها: الحسن وداود (المغني: 8/ 644). (8) أخرجه ابن ماجة في الزكاة باب ما أدى زكاته ليس بكنز: 1/ 570، والطبراني وفيه أبو حمزة ميمون رواية عن الشعبى عن فاطمة بنت قيس وهو ضعيف والترمذى بلفظ (إن في المال حقًّا سوى الزكاة) في الزكاة باب ما جاء أن في المال حقًّا سوى الزكاة وقال إسناده ليس بذاك: 3/ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 فأحب أن ينسك عنه فليفعل" (1) فعلقه بمحبة فاعله، ولأنه طعام يفعل عند الولادة كالوليمة. فصل [1 - في العقيقة شاة عن الذكر والأنثى]: ويعق شاة عن الذكر والأنثى (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إنه يعق عن الغالم بشاتين وعن الأنثى بشاة (3)، لأنه - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا (4)، ولأنه ذبح متقرب به فلم يتفاضل الذكر والأنثى كالأضحية. فصل [3 - في الجمع بين اثنين في شاة واحدة]: ولا يجمع بين اثنين في شاة واحدة لأن العرض به إراقة (5) الدم والشركة فيه كأنه أخرج (6) لحما فلا يجوز كالأضحية (7). فصل [3 - في وقت العقيقة]: ووقتها يوم سابع الولادة (8) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: في العقيقة "يذبح عنه يوم سابعه" (9)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين رضوان الله عليهما (10) يوم سابعها (11)، فإن ولد الصبي قبل الفجر عد ذلك اليوم وإن ولد بعده ألغي   (1) أخرجه مالك: 2/ 500، وأبو داود في الأضاحي باب العقيقة: 3/ 262، والنسائي في العقيقة: 7/ 145، وأحمد: 2/ 182، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وسنده حسن. (2) انظر الموطأ: 2/ 502، التفريع: 1/ 395. الرسالة ص 187. (3) انظر مختصر المزنى ص 285. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) في م: هراقة. (6) في م: إخراج. (7) انظر المدونة: 2/ 9، التفريع: 1/ 395. (8) انظر المدونة: 2/ 9، التفريع: 1/ 395، الرسالة ص 187. (9) سبق تخريج الحديث قريبًا. (10) رضوان الله عليهما: سقطت من م. (11) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وحسب ما غده، لأنه لو حسب منه لم يكمل سبعة أيام على التمام، فإن فات السابع فقيل إلى السابع الثانى، وقيل قد فات بفوات السابع الأول وهذا أقيس لفوات الوقت المقدر له (1) بالنص كالأضحية ولذلك لا يعق عن كبير، والاستحباب أن يسمى يوم السابع وقت العقيقة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يعق عنه يوم سابعه ويحلق ويمسى" (2) وتذبح ضحوة اعتبارًا بالأضحية ولا يجوز بليل لأنه ذبح متقرب به كالضحايا والهدايا. فصل [4 - العمل في العقيقة]: ويؤكل منها كما يؤكل من الأضحية (3) وهي آكد منها ويتصدق لأن المقصد به القربة والتصدق الأصل والأكل تبع، وشأنها شأن الأضحية فيما يجوز منها ويمتنع من جنس وسن وسلامة من عيب ومنع من بيع لحمها وإهابها لأنه ذبح متقرب به يفعل عند حدوث سرور كالأضحية، ويجوز كسر عظامها لا أنه مسنون أو مستحب ولكن تكذيبا للجاهلية في تحرجهم من ذلك وتفصيلهم العظام من المفاصل وامتناعهم من كسرها. وحلق (4) رأس الصبى والتصدق بوزن شعره جائز حسن (5) لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك بالحسن والحسين رضى الله عنهما (6)، ولا يمس الصبى بشيء من دمها لأن ذلك ينجسه من غير فائدة ولا قربة بل يجب تجنبه إياه مخالفة لفعل الجاهلية،   (1) في ق: المقر. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) في جملة أحكام الأكل والعمل في العقيقة انظر: المدونة: 2/ 9، الموطأ: 2/ 500 - 502، التفريع: 1/ 395، الرسالة ص 187. (4) في م: حلاق. (5) حسن: سقطت من ق. (6) أخرجه مالك: 2/ 501، والترمذي في الأضاحي باب العقيقة بشاة: 4/ 99، وقال حسن غريب والحاكم: 4/ 237 من حديث فاطمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 وإن فعل بدل الدم خلوق (1) جاز لما روي عن بريدة (2) أنه قال كنا نفعل ذلك في الجاهلية فلما جاء الإسلام صرنا نحلق رأسه ونلطخه بزعفران بدلا من الدم (3)، وروي عن عائشة رضي الله عنها مثله (4). فصل [5 - في الختان]: الختان (5) سنة مؤكدة في الذكور والإناث (6) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عشر من الفطرة فذكر الختان" (7)، وروي: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" (8)، وقوله: "أشميه ولا تنهكيه فإنه أنضر للوجه وأحظى عند الزوج" (9).   (1) خلوق: ما يتخلق به من الطيب، قال بعض الفقهاء وهو مائع فيه (المصباح المنير ص 180). (2) في م: أبي هريرة وهو خطأ، وبريدة: بن الحصيب أبو سهل الأسلمى صحابى أسلم قبل بدر، مات سنة ثلاث وستين (انظر تقريب التهذيب ص 121، شذرات الذهب: 1/ 70). (3) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب في العقيقة: 3/ 263، والحاكم: 4/ 28 وصححه والبيهقي: 9/ 303. (4) أخرجه البيهقي: 9/ 303. (5) الختان: قطع الجلدة الساترة للحشفة بحيث ينكشف جميعها (الفواكه الدوانى: 1/ 408). (6) انظر: الرسالة ص 188. (7) أخرجه البخاري في اللباس باب قص الشارب: 7/ 56، ومسلم في الطهارة باب خصال الفطرة: 1/ 221 بلفظ الفطرة خمس: الختان .... ) (8) أخرجه أحمد: 5/ 75 من حديث حجاج بن أرطأة وهو مدلس وأخرجه الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعًا وضعفه. (9) أخرجه أبو داود في الأدب باب ما جاء في الختان: 5/ 421، والحاكم والطبرانى وأبو نعيم وأعمل الحديث محمد بن حسان وروي الحديث بطرق لا تسلم من الضعف (انظر تلخيص الحبير: 4/ 83). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 فصل [6 - حكم الختان]: وليس بواجب وجوب فرض خلافًا للشافعي (1) لأنه قطع شيء من البدن ابتداء كقطع السرة، ولأنه قطع مقصود به النظافة كقطع الظفر. * * * [تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله كتاب الصيد]   (1) انظر حاشية قليوبي وعميرة: 4/ 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 المعُونَةُ عَلى مَذهَب عَالم المَدِينَةِ "للإمام مالك بن أنس" تأليف القاضِي عبد الوهّاب البغدَادي 422 هـ تحقيق ودراسة حَميش عبد الحَقّ والكتاب في الأصل رسالة دكتوراة جَامِعَة أمّ القرى بمكة المكرّمَة الجزء الثَّاني الناشر المكتبة التجارية مكّة المكرّمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 المكتبة التجارية مصطفى أحمد الباز مكّة المكرّمَة: المركز الرّئيسي: 5749022 - فَاكس: 5745044 فرع النزهَة: 5459850 - فرع الجامِعَة: 5581584 - المستودع: 5372374 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 المعُونَةُ عَلى مَذهَب عَالم المَدِينَةِ "للإمام مالك بن أنس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 كتاب الصيد (1) الأصل فيه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشىء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} (2)، وقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا} (3)، وقوله: {وما علمتم من الجوارح .. إلى قوله: فكلوا مما أمسكن عليكم} (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ما ردت عليك قوسك" (5)، وقوله: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل" (6)، ولأنه إجماع (7). فصل [1 - الآلة التي يصاد بها]: والآلة التي يصاد بها ضربان: سلاح وجوارح، فأما السلاح فالاصطياد بجميع أنواعه (8) مباح من السيوف والسهام والرماح وغيرها، والأصل فيها (9) قوله تعالى: {ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} (10)   (1) الصيد: أخذ غير مقدور عليه من وحش طير أو بر أو حيوان بحر بقصد (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 114). (2) سورة المائدة، الآية: 94. (3) سورة المائدة، الآية: 2. (4) سورة المائدة، الآية: 4. (5) أخرجه أبو داود في الصيد، باب: في الصيد: 3/ 272، وأحمد: 4/ 195، وفيه ابن لهيعة، وقال في التنقيح: إسناده حسن (تلخيص الحبير: 4/ 136). (6) أخرجه البخاري في الذبح والصيد، باب: إذا وجد الصيد كلبًا آخر: 6/ 220، ومسلم في الصيد، باب: الكلاب المعلمة: 3/ 1529. (7) انظر: شرح مسلم - للنووي: 8/ 132، المغني: 8/ 539. (8) في (م): أنواعها. (9) في (ق): فيه. (10) سورة المائدة، الآية: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ما ردت عليك قوسك" (1)، وقوله في المعراض: "إذا خرق فكل" (2)، ولأن المذكى ضربان: مقدور عليه، وممتنع، فلما كان المقدور عليه يذكى بالسلاح فكذلك الممتنع، ولا خلاف في ذلك (3). فصل [2 - ما مات بقتل السهم]: وما مات بقتل السهم له جاز أكله (4) لقوله: "كل ما ردت عليك قوسك" (5) وقوله لأبي ثعلبة (6): "ذكيًا وغير ذكي" (7)، ولأن إرسال السهم كمباشر الذابح الذبح (8). فصل [3 - ما قتل بالمعراض]: ما قتل بالمعراض (9) أكل إن كان بحده، ولا يؤكل إن كان بعرضه (10)،   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب: صيد المعراض: 6/ 218، ومسلم في الصيد، باب: الصيد بالكلاب المعلمة: 3/ 1529. (3) انظر: المغني: 8/ 551، بداية المجتهد: 6/ 254 - 255. (4) انظر: المدونة: 1/ 423، التفريع: 1/ 398، الرسالة ص 187. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) أبو ثعلبة: الحشني، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: جرهم بن ناشم، وقيل: جرثوم، توفى سنة خمس وسبعين (انظر سير أعلام النبلاء: 2/ 571، شذرات الذهب: 1/ 82). (7) وهو جزء من حديث: "كل ما ردت عليك قوسك" الذي سبق تخريجه في الصفحة (679). (8) في (م): للذبح. (9) المعراض: هو سهم لا ريش له (المصباح المنير ص 403). (10) انظر: المدونة: 1/ 423، التفريع: 1/ 397 - 398، الرسالة ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 لقوله في حديث عدي (1): "إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله تعالى فخرق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل" (2)، والمعراض: خشبة غليظة في رأسها كالزج يلقيها الفارس على الصيد، فربما أصابته الحديدة فجرحته وأسالت دمه، فهذا يجوز أكله لأنه حينئذ كالسيف والرمح، وربما أصابته الخشبة فترضه أو تشدخه فيكون حينئذ (3)، وقيدًا كالمرمى بالبندقة والحجر، فلا يجوز أكله إلا أن يدرك ولم تنفذ مقاتله، فيذكى فإنه يؤكل، وإن بلغ إلى حيث لا ترجى له حياة لم تعمل الذكاة فيه. فصل [4 - ما قتلته الحبالة]: لا يؤكل ما قتلته الحبالة (4) وهي الشَرَك لأنه مقتول بغير ذكاة سهم لأن (5) الحبالة: أحبل تكون فيه مناجل توضع للصيد عند الماء، فإذا وردت علقت به فاضطرب، فربما أصابته المناجل التي فيها فلا يؤكل لأنه حينئذ مقدورة عليه (6) فذكاته بالذبح دون العقر. فصل [5 - في منع أكل ما قتله السهم المسموم]: لا يؤكل ما قتله السهم المسموم (7) وعللَّه مالك رحمه الله بعلتين: إحداهما أنه لا يعلم هل قتله السهم أم السم، والأخرى أن الخوف على من يأكله.   (1) عدي بن حاتم: بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي، أبو طريف، صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين (انظر: تقريب التهذيب ص 388، شذرات الذهب: 1/ 74). (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) حينئذ: سقطت من (ق) ومن (ر). (4) انظر: المدونة: 1/ 422، التفريع: 1/ 397. (5) لأن: سقطت من (ق). (6) في (م): فلا يؤكل حينئذ إلا أن يقدر عليه. (7) انظر: التفريع: 1/ 398، الرسالة ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 فصل [6 - ما صيد بالجوارح]: وأما الجوارح فكل جارح فَقَه التعليم من أي الجوارح كان من الكلاب والفهود والبزاة (1) والصقور والشواهين (2) وغيرها إذا كان معلمًا، فصيده جائز (3) خلافًا لمن ذهب إلى أنه لا يؤكل إلا صيد الكلاب دون البزاة وغيرها (4)، ولمن ذهب إلى أنه لا يؤكل ما صاده الكلب الأسود (5)، لقوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله} (6) يريد مصرين (7) إلى قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (8) فعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل" (9)، ولم يفرق بين البهيم وغيره، وقوله في حديث عدي بن حازم: "ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته، وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك" (10)، ولأنه جارح يفقه التعليم فجاز الاصطياد به كالكلب الذي ليس ببهيم.   (1) البزاة: مفردة البازي وهو معروف. (2) الشواهين: مفردة شاهين وهو جارح معروف. (3) انظر: المدونة: 1/ 414 - 416، التفريع: 1/ 398 - 399، الرسالة ص 187. (4) حكى عن ابن عمر ومجاهد: أنه لا يجوز الصيد إلا الكلب (انظر المغني: 8/ 545). (5) في (م): البهيم، ولقد ذهب إلى ذلك الإمام أحمد (انظر مختصر الخرقي ص 133). (6) سورة المائدة، الآية: 4. (7) انظر: الجامع لأحكام القرآن: 6/ 66، وفيه: معناه مصرين على الصيد كما تصرى الكلاب. (8) سورة المائدة، الآية: 4. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة (679). (10) أخرجه أبو داود في الصيد، باب: في الصيد: 3/ 271، والترمذي في الصيد، باب: ما جاء في صيد البراءة: 4/ 55، والبيهقي: 9/ 238، من رواية مجالد عن الشعبي، وتفرد مجالد بذكر الباز فيه وخالف الحفاظ (تلخيص الحبير: 4/ 136). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 فصل [7 - في اشتراط كون الجوارح معلمة]: وإنما اشترطنا أن تكون معلمة للظواهر والأخبار (1)، وصفة التعليم أن يطيعه إذا نبهه ويسترسل إذا أرسله ويسارع إذا أمره وينزجر إذا زجره، ويتكرر ذلك منه تكريرًا يعلم معه في العادة أنه قد فقه التعليم ولا حد في ذلك سوى ما ذكرناه. فصل [8 - عدم اشتراط ترك الأكل]: وليس من شرطه ترك الأكل (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، لقوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (4)، ولم يفرق، وفي حديث أبي ثعلبة: "وإن أكل فكل" (5)، ولأنه قتل إذا (6) لم يتعقبه أكل كان ذكاة، فكذلك إن تعقبه كالذبح، ولأنه أداة في تذكية الصيد، فإذا أنفذ عقره مقاتله لم يضره ما طرأ بعد ذلك أصله السهم، ولأنه جارح أبيح صيده كالبازي، ولأنه لو بادر بأخذه من فم الكلب عقيب قتله لجاز أكله، ولو كان ترك الأكل من (7) شرط التعليم لم يجز ذلك دون أن يتوقف لينظر هل يأكل أم لا. فصل [9 - فيما إذا أثر الجارح في الصيد]: لا خلاف أنه إذا أثر فيه بتخليب أو تنبيت جاز أكله لأن عقره ذكاة له، وإن أمسكه أو ضمه ولم يؤثر فيه فلا يجوز أكله (8)، لأن ذلك ليس بقتل له، فأما   (1) للظاهر من الآيات والأحاديث التي أوردها المصنف قريبًا. (2) انظر: المدونة: 1/ 414 - 415، التفريع: 1/ 399، الرسالة ص 187. (3) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 218، مختصر المزنى ص 281. (4) سورة المائدة، الآية: 4. (5) أخرجه الترمذي في الصيد، باب: صيد البزاة: 2/ 58، وأبو داود في الصيد، باب في الصيد: 3/ 273. (6) إذا: سقطت من (ق). (7) في (ق): دون. (8) انظر: المدونة: 1/ 413 - 416، التفريع: 1/ 399، الرسالة ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 إذا صدمه أو نطحه، فمات منه من غير جرح فعند ابن القاسم لا يؤكل وهو قول أبي حنيفة (1)، وعن أشهب يؤكل وهو أحد قولي الشافعي (2). فوجه قول ابن القاسم: إنه آلة للاصطياد، فإذا قتل الصيد بصادم (3) أو غيره، مما ليس بجرح لم يؤكل كالسهم، ولأنه حصل مقتولًا بغير جرح كما لو ضربه بالعصى، ووجه قول أشهب قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (4) يريد قتلن بإرسالكم ولم يفرق، وكذلك الخبر، ولأنه حصل مقتولًا بجارح مرسل عليه كما لو جرحه. فصل [10 - إذا أدرك الصيد والجوارح تنهشه]: إذا أدرك الصيد والجوارح تنهشه وتجرحه ولم تنفذ مقاتله وقدر على تخليصه منها فلا يأكله إلا بأن يذكيه (5)، لأنه صار مقدورًا عليه قبل أن تكون ذكاته العقر، وإن لم يقدر أن يذكيه حتى مات بجرحها جاز أكله، لأن فوات نفسه حصل قبل القدرة عليه، وكذلك إن خلصه جريحًا، فمات في الفور قبل أن يتمكن من تذكيته، فإن أكله جائز خلافًا لأبي حنيفة (6)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن قتل" (7)، ولأن الجارح عقره قبل القدرة على تذكيته (8)، فكان كما لو مات في يديه قبل القدرة   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 297، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 219. (2) انظر: مختصر المزني ص 281. (3) في (م): بصدم. (4) سورة المائدة، الآية: 4. (5) انظر: المدونة: 1/ 412 - 413، التفريع: 1/ 399، الرسالة ص 187. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 297، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 218 - 219. (7) سبق تخريج الحديث في الصفة (679). (8) في (م): عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 على تخليصه، وإن خلصه من الجارح قبل فوات نفسه أو نفاذ (1) مقاتله، فتركه حتى مات فلا يؤكل لتفريطه في تذكيته، وكذلك لو تشاغل بإخراج سكين يذبحه بها. فأما إذا أدركه في أفواه الجوارح، وقد أنفذت مقاتله فأكله جائز، لأن ذكاته قد تمت بقتلها له فليس بمحتاج (2) إلى تذكية أخرى، وكذلك القول فيه (3) إذا وجد والسهم فيه أنه إن كان السهم قد أنفذ مقاتله، فالذكاة قد تمت وإن كان لم ينفذ مقاتله لم يؤكل إلا بذكاة، فإن تركه حتى مات لم يؤكل لأنه قدر على تذكيته كأخذه من فم الجارح قبل إنفاذ مقاتله سواء. فصل [11 - في عقر الصيد غائبًا]: وليس من شرط تذكيته أن يعقره الجارح أو السهم، بحيث يشاهده، بل يؤكل إذا قتله غائبًا عن رؤيته ما لم يحصل منه تفريط في طلبه إذا غاب، فرأى فيه أثر كلبه أو سهمه، وسواء توارى عنه بعد أن رأى الجارح علق به أو قبل ذلك (4)، خلافًا للشافعي في أحد قوليه: إنه إذا قتله غائبًا عنه بعد أن رآه قد علق (5) به فلا يؤكل، وفي أحد قوليه (6): إنه إذا كان قبل مشاهدته متشبثًا به فلا يؤكل (7)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل" (8)، ولأن في اعتبار مشاهدته (9) عقره تكليف ومشقة تؤدي   (1) في (ق)، و (ر): إنفاذ. (2) في (م): يحتاج. (3) فيه: سقطت من (ق). (4) انظر: المدونة: 1/ 413 - 415، التفريع: 1/ 399، الرسالة ص 187. (5) في (م): تعلق. (6) في (م): وفي قوله. (7) انظر: مختصر المزني ص 281 - 282. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (679). (9) في (ق): المشاهدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 إلى سد باب جواز أكل الصيد إذا صاده (1) الجارح لأن الغزال أو الطائر لا يملك عدوه وسرعة طيرانه واختباره في المكامن (2) والغياض (3) والكهوف والمواضع التي لا يصل إليها إلا الجارح بحيلولة الحوائل، ولأنه إذا رآه وفيه سهمه أو بالقرب منه جارحه فالظاهر منه أنه ليس به إلا عقر ما أرسله عليه، فجاز أكله، ويفارق الميت لأن هوام الليل تنتشر فيه فلا يؤمن مشاركتها فيه. فصل [12 - إذا بات الجارح عنه]: إذا بات الجارح عنه والصيد ثم وجده من الغد مقتولًا (4) لم يأكله، واختلف في السهم، فقيل: إنه كالجارح، وقيل: بخلافه (5)، فأما منع ذلك في الجارح، فلما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإن بات (6) عنك فلا تأكله لا تدري، لعل كلبًا غير كلبك قتله" (7)، ولأن الليل مخالف للنهار لأن الهوام تظهر فيه وتنتشر فيجور أن تكون أعانت على قتله، وأما السهم فإذا (8) قلنا: إنه لا يؤكل الصيد إن بات عنه، فلما روي أن رجلًا أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظبيًا، فقال: إني رميته يا رسول الله، ثم اتبعته من الغد فوجدت سهمي فيه أعرفه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا آكله لا أدري أهوام الأرض قتلته ولو أعلم أن سهمك قتله لأكلته" (9)، وفي حديث آخر: "لو   (1) في (م): صيد صاده. (2) المكامن: مفرده مكمن، وهو من باب توارى واستخفى (المصباح المنير ص 54). (3) الغياض: مفرده الغيضة، وهي الشجر الملتف (المصباح المنير ص 459). (4) في (م): قد قتله. (5) انظر: المدونة: 1/ 413 - 414، التفريع: 1/ 399. (6) في (م): غاب. (7) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق: 4/ 460، والطبراني، وفيه ابن أبي المخارق وهو واه، وأخرجه أبو داود في مراسيله (انظر نصب الراية: 4/ 315). (8) في (م): فإنه إذا. (9) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 أعلم أنه لم يعين على حتفه (1) دواب المغار (2)، لأمرتك بأكله"، وهذا نص وتعليل. وإذا قلنا: يؤكل، فلما روي سعيد بن جبير (3) عن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله، إني أرمي الصيد فأطلبه فلا أجده إلا بعد ثلاثة (4)، فقال: إذا وجدت أثر سهمك ولم يؤكل منه السبع فكله" (5)، والفرق بين السهم والكلب أن السهم يوجد في موضع الإصابة، فإذا لم ير هناك أثرًا لغيره علم أن سهمه (6) قتله، وليس كذلك الجارح (7)، لأنه ليس لجرحه علامة يعرفه بها، فلا يأمن أن يكون قتله بغير جرحه. فصل [13 - إذا سقط الصيد في الماء أو وقع من أعلى جبل وقد جرحه السهم أو الكلب]: إذا سقط الصيد في الماء أو وقع من أعلى جبل وقد جرحه السهم أو الكلب، فإن كان لم ينفذ مقاتله فلا يأكله لأنه لا يتيقن أن موته بجرح السهم أو الكلب لإمكان أن يكون موته بالتردي أو بالماء، وإن كان قد أنفذ مقاتله جاز أكله (8) لأن التردي والغرق كانا بعد تمام الذكاة، وإذا تمت الذكاة لم يؤثر فيها ما طرأ بعدها، وكذلك الذبيحة مثل الصيد سواء.   (1) في (م): قتله. (2) في (م): الغار. (3) سعيد بن جبير: الأسدي مولاهم الكوفي ثقة ثبت، فقيه من الثالثة، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين (انظر: تقريب التهذيب ص 234، شذرات الذهب: 1/ 108). (4) في (م): ثالث. (5) حديث عدي سبق تخريجه في الصفحة (680). (6) في (م): السهم. (7) في (م): الكلب. (8) انظر: المدونة: 1/ 420 - 421، التفريع: 1/ 398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 وإذا أرسل كلبه على صيد بشركة كلب آخر نظر، فإن كان لصائد مسلم قد أرسله على شرائطه الجائزة كان الصيد بينهما لأنه لا مزية لأحدهما عن الآخر، فلا يكون أولى به منه إلا أن يعلم أن الأول أنفذ مقاتله قبل وصول الثاني إليه، فيكون أولى به، لأن الذكاة تمت به دون الثاني وهذا إذا كان الآخر أرسله على ذلك الصيد أو أرسله إرسالًا مطلقًا، فأما إن أرسله على غيره، فعدل إليه أو كان كلبًا مسترسلًا بنفسه أو لمجوسي فينظر، فإن أصابه بعد إنفاذ الأول مقاتله فهو ذكي بالأول ولا يضره الثاني كالتردي من جبل بعد الذكاة، وإن كان ذلك قبل إنفاذ المقاتل أو لم يعلم لم يؤكل خلافًا للشافعي (1) في إجازته (2) أكل ما شورك فيه على كل وجه، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي: "وإن شاركه كلب آخر فلا تأكله" (3)، ولأنه نوع من التذكية فمشاركته من لا تؤكل تذكيه لو انفرد يمنع الأكل أصله الذبح إذا اشترك فيه المسلم والمجوسي. فصل [14 - ما استرسل عليه كلب بغير إرسال]: لا يؤكل ما استرسل عليه الكلب بغير إرسال (4) لأن الإرسال شرط في جواز الأكل بدليل قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} (5)، ولا يكون ممسكًا علينا إلا بأن نرسله، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل" (6)، ولأن من شرط الذكاة النية فإرسال الصائد كنية (7) الذابح، ولأن التعليم شرط فلو لم يكن الإرسال شرطًا لم يكن للتعليم فائدة، ولأن الجارح آلة كالسهم.   (1) انظر: مختصر المزني ص 282. (2) في (م): إذ يرى. (3) سبق تخريج حديث عدي قريبًا. (4) انظر: المدونة: 1/ 415، التفريع: 1/ 399. (5) سورة المائدة، الآية: 4. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (679). (7) في (ق): كتذكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 فصل [15 - التسمية عند الإرسال]: ويسمى الله عز وجل (1) عند الإرسال (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل" (3)، ولأن العقر أحد نوعي الذكاة كالذبح. فصل [16 - إذا صاد صيدًا ثم أفلت فصاده غيره]: إذا صاد صيدًا ثم فلت: فصاده غيره، فإن كان عن قرب كاليومين والثلاثة فهو للمالك الأول، وإن كان بعد طول زمان ولحوق بالوحش فهو لمن صاده (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنه للأول على كل حال (5)، لأن الثاني صاده ممتنعًا مختلطًا بالوحش على صفة ما هي عليه من الإباحة، فكان له أصله الأول، ولأن ما أصله الإباحة إذا ملك ثم عاد إلى ما كان عليه كان للذي ملكه ثانيًا، أصله الماء في نهر إذا أخذ منه إنسان ثم أنصب من يده إلى النهر. * * *   (1) عز وجل: سقطت من (ق). (2) انظر: المدونة: 1/ 414، التفريع: 1/ 298. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (679). (4) انظر: المدونة: 1/ 411، التفريع: 1/ 400. (5) انظر: مختصر القدوري، مع شرح الميداني: 3/ 222 - 223، المهذب: 1/ 255 - 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 كتاب الذبائح (1) شرط الذكاة (2) بالذبح قطع الحلقوم (3)، والودجين (4)، فإن بقى شيء منها لم تتم الذكاة (5)، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أفرى الأوداج وذكر اسم الله عليه فكل" (6)، وقوله: "الذكاة في الحلق واللبة (7) " (8) ولأن الذبح ما لم يكمل في هذه المواقع جاز أن تعيش معه. فصل [1 - من شرط الذبح أن يكون في قطع واحد]: ومن شرطها أن يكون ذلك في قطع واحد، فإن قطع البعض، ثم رفع يده   (1) الذبائح: جمع ذبيحة وهي لقب لما يحرم بعض أفراده من الحيوان لعدم ذكاته أو سلبها عنه، وما يباح بها مقدورًا عليه (حدود ابن عرفة ص 117). (2) الذكاة: نحر وذبح وفعل ما يعجل الموت بنية في الجميع (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 121). (3) الحلقوم: بعد الفم وهو موضع النفس، وفيه شعب تتشعب منه مجرى الطعام والشراب (المصباح المنير ص 146). (4) الودجين: مفرده ودج وهو -بفتح الدال والكسر-: عرق الأخدع الذي يقطعه الذابح فلا يبقي معه حياة (المصباح المنير ص 652). (5) انظر: المدونة: / 427، التفريع: 1/ 401، الرسالة ص 185. (6) أخرج الطبراني بسند ضعيف بلفظ: "ما فرأ الأوداج .. " (نصب الراية: 4/ 186)، وهو في الصحيحين بلفظ: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا" البخاري في الذبائح والصيد، باب: إذا أصاب القوم غنيمه (6/ 232)، ومسلم في الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم: 3/ 1558. (7) اللبة: المنحر وهي موضع نحر البعير، وقال ابن قتيبة: من قال إنها النقرة في الحلق فقد غلظ (المصباح المنير ص 547). (8) أخرجه الدارقطني: 3/ 251، والبيهقي: 9/ 278، وسنده ضعيف، وأخرجه عبد الرزاق: 4/ 495 موقوقًا على ابن عباس وابن عمر (نصب الراية: 4/ 185). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 ثم أعادها فتممه لم تؤكل لأنا لا نأمن أن يكون التلف كان عن الأول، ولأنه إذا رفع يده صار لكل قطع حكم نفسه كما لو تراخى في القطعين (1). فصل [2 - في ترك الذبيحة حتى تبرد]: وينبغي أن يتركها حتى تبرد (2) لأنه صلى الله عليه وسلم كذلك فعل لما نحر الهدايا تركها حتى بردت ثم قال: "من شاء اقتطع" (3)، ولأن ذلك أخف عليها وأقل لإيلامها، وإن تمادى حتى قطع الرأس أو زلت (4) السكين بحدتها فأبانه (5)، لم يحرمها لأن شرائط الذكاة قد حصلت. فصل [3 - في كون الذكاة لا تخرج عن الحلق واللبة]: الذكاة لا تخرج عن الحلق واللبة، فالنحر في الإبل والذبح في الغنم والبقر، فإن نحرت البقر من غير ضرورة جاز أكلها (6)، وإنما قلنا ذلك لورود السنة به واتصال العمل من المسلمين في كل الأعصار به، أما الإبل فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحرها (7)، ولا يحفظ عن أحد فيها الذبح. وأما الغنم فإنه صلى الله عليه وسلم ذبحها (8) ولم يرو عن أحد أنه نحرها. وأما البقر، فإن المستحب فيها الذبح لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (9)، وإن نحرت جاز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نحر عن   (1) انظر: المدونة: 1/ 428، الرسالة ص 185. (2) انظر: المدونة: 1/ 428. (3) أخرجه الحاكم: 4/ 21، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (4) في (م): زالت. (5) فأبانه: سقطت من (م). (6) انظر: المدونة: 1/ 427 - 428، والتفريع: 1/ 402، الرسالة ص 185. (7) سبق تخريج حديث جابر في الهدي الذي أخرجه مسلم. (8) كذلك سبق تخريج حديث: "أنه ضحى بكبشين ذبحهما بيده". (9) سورة البقرة، الآية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 نسائه البقر (1)، وقيل: إن الفرق بين الإبل والغنم أن عنق البعير طويل، فيبعد خروج الدم من الجوف إلى موضع الذبح منه فيكون في ذلك تعذيبه، وزيادة ألم في خروج روحه، والنحر أسهل وأخف لأنه في آخر العنق فيكون متوسط بين الرأس وباقي البدن. وأما الشاة، فإن عنقها قصير ولا لبة لها، فلا يتمكن من نحرها إلا بما يقرب من جوفها، فكان الوجه فيها الذبح، فإذا ثبت هذا فإن ذُبِح بعير أو نُحرت شاة: فإن كان لضرورة جاز أكلها مثل أن تقع في بئر أو مضيق لا يوصل منه إلى موضع الذبح من الشاة أو النحر من البعير أو ما أشبه ذلك. وإنما أجزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الذكاة في الحلق واللبة" (2) فأطلق، ولأنه من الأنعام فجاز أن يستباح بالذبح أو النحر، فإن كان من غير ضرورة فاختلف فيه على وجهين: أحدهما: أنه لا يؤكل تحريما، والآخر: أنه يكره ولا يحرم، وزاد ابن بكير (3) وجهًا ثالثًا وهو أنه قال: يؤكل البعير إذا ذبح ولا تؤكل الشاة إذا نحرت (4)، فوجه التحريم هو أن من ذبح بعيرًا أو نحر شاة، فقد أتى بالذكاة على خلاف الوجه المأمور به في الشرع فأشبه من ذبح من القفا أو أبقى شيئًا من الأوداج. ووجه الكراهة (5) هو أن ذلك جائز مع الضرورة، فلولا أنه يكون ذكاة مع عدمها على وجه، وإلا لم يجز كالطعن في الفخذ، وأما ابن بكير فإنه فصل بينهما بأن قال: إن البعير له موضع الذبح، وإنما عُدل إلى النحر لأنه أقل   (1) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: الأضحية للمسافر والنساء: 6/ 235. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) ابن بكير: أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن بكير، التميمي البغدادي: تفقه بالقاضي إسماعيل، وعنه ابن الجهم والتسترى (ت 305 هـ) (شجرة النور الزكية ص 78). (4) انظر: المقدمات: 1/ 429. (5) في (م): الكراهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 لتعذيبه والشاة لا منحر لها لأن موضع لبتها يقرب من خاصرتها، فيكون كالطاعن في جوفها، وهذا تلزم عليه الضرورة. فصل [4 - ذكاة الجنين بذكاة أُمه]: إذا ذكيت البهيمة فخرج من جوفها جنين ميت كامل الخلق نابت الشعر كان ذكيًا بذكاتها (1) خلافًا لأبي حنيفة في منعه أكله (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين ذكاة أُمه" (3)، ولأن التذكية في الشرع بحسب القدرة والتمكين وتذكية الجنين لا يوصل إليها إلا بأن تذكى أمة فيذكى بذكاتها، ولأن الجنين المتصل بأُمه تابع لها في كل (4) الأحكام الثابتة لها، وكذلك في الذكاة، ولأن ما امتنع مفردًا من المأكول يذكى بذكاة أصله على وجه كسائر الأعضاء. فصل [5 - إذا لم يشعر الجنين أو نزل حيًّا]: وإنما شرطنا نبات الشعر خلافًا للشافعي (5)، لأن ذلك علامة نفخ الروح فيه لأن الروح (6) لا يكون إلا فيما قد تم خلقه، فأما ما لم ينزل ميتًا فإن ذكاة الأم لا تؤثر فيه وفي بعض الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أُمه إذا أشعر" (7). فصل [6 - في تحريم الميتة وما في معناها]: حرم الله تعالى الميتة وما في معناها من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة   (1) انظر: الموطأ: 2/ 490، التفريع: 1/ 402، الرسالة ص 185. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 298، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 228. (3) أخرجه أبو داود في الضحايا، باب: ما جاء في ذكاة الجنين: 2/ 34، وابن ماجه في الذبائح، باب: زكاة الجنين: 2/ 1067، والترمذي في الصيد، باب: في ذكاة الجنين: 4/ 60، وقال: حديث حسن، وأحمد: 3/ 39. (4) كل: سقطت من (م). (5) انظر الإقناع ص 184. (6) فيه لأن الروح: سقطت من (م). (7) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 490 موقوفًا على سعيد بن المسيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 وأكيلة السبع، واستثنى تعالى من التحريم ما ذكى، فدل على أن ما يذكي بعد حصول هذه الأشياء فإنه يؤكل (1)، والمنخنقة: ما تخنق بحبل أو ما في معناها، والموقوذة: التي تضرب بالخشب حتى تموت، والمتردية: التي تسقط من مكان عليّ (2) فتتلف، والنطيحة: ما نطحها (3) ذات القرن فتتلف أو تقارب التلف، وما أكل السبع: هو ما فرسه وهذا كله إذا أصابه ما ذكرناه فلا يخلوا من ثلاثة أحوال: إما أن تخرج روحه معه فيلحق بالميتة، لأن الميتة المحرمة هي ما تلف حتف أنفه مما يحتاج إلى ذكاة أو بوجه ليس بذكاة مثل ذبح المجوسي أو بغير آلة الذبح وكل (4) هذا موجود في مسألتنا. وإنما قلنا: إن ذلك كله (5) ميتة لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} (6)، وقال صلى الله عليه وسلم: "والذكاة في الحلق واللبة" (7)، فانتفى أن تكون ذكاة سواها، وقال: "ما أفرى (8) الأوداج وذكر اسم الله فكل" (9)، وهذا معدوم في مسألتنا. والثانية: أن يصيبها من (10) ذلك ما ينحتها ولا يصيب منها مقتلًا، ويمكن أن تبقى معه غالبًا سواء انتقض منها بعض البنية أو لم ينتقض، وذلك مثل أن يلحقها   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 1/ 434، والتفريع: 1/ 402 - 403، الرسالة ص 185 - 186. (2) في (م): عال. (3) في (م): ما تنطحها. (4) و (5) كل وكله: سقطت من (م). (6) سورة المائدة، الآية: 3. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (691). (8) في (ق): فرأ. (9) سبق تخريجه في الصفحة (691). (10) في (م): مثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 مرض أو كسر يد أو رجل أو ما أشبهه، فهذه تذكى وتؤكل، وإنما قلنا ذلك لقوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} (1)، فاستثنى ما استدركت تذكيته من التحريم، ولأن أشد ما في بابها أن تكون مريضة مثخنة، وذلك لا يمنع تذكيتها ما لم تبلغ حال النزع. والثالثة: أن يصيبها من ذلك ما لا تعيش معه مثل أن تنفذ مقاتلها (2) أو يخرج السبع حشوتها أو يرض دماغها أو ما أشبه ذلك مما لا يجوز أن تبقي معه، إما قطعًا أو غالبًا، فهذه لا تصح تذكيتها، والأصل فيه أن الذكاة تعمل في الحي دون الميت، وما هو في حكم الميت لا تعمل فيه، وهذه في حكم الميت لأن الحركة الباقية فيها مستعارة كحركة (3) المذبوحة، فلا تصح تذكيتها. فصل [7 - إذا وقع البعير أو البقرة أو الشاة في بئر ولم يقدر على تذكيته]: إذا وقع البعير أو البقر أو الشاة في بئر ولم يقدر على إخراجه ولا على تذكيته في حلقه أو لبته لم يؤكل بعقره في موضع من بدنه (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لأنه مما ذكاته النحر أو الذبح فلم يزل عن ذلك باختلاف حالاته أصله إذا هرب من يده (6)، واحتاج إلى أخذه أو صعب عليه، وكان وحده ولم يتمكن أن يعقله لينحره، ولأن (7) أكثر ما في بابه أن يخاف عليه التلف متى (8) تركه، وذلك لا يبيح استعجال تذكيته على غير وجهها المأذون فيه مع القدرة عليه   (1) سورة المائدة، الآية: 3. (2) في (ق): مقاتله. (3) في (م): كجرحه. (4) انظر: المدونة: 1/ 428، التفريع: 1/ 402. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 199، المهذب: 1/ 255. (6) من يده: سقطت من (م). (7) في (م): ولكن. (8) في (م): مع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 أصله إذا أخذها سبع ولم يعقرها، وخاف إن بقيت معه أن يعقرها، فبادر برميها فإنها لا تؤكل. فصل [8 - إذا توحش المتأنس]: الحيوان المتأنس كبهيمة الأنعام إذا توحش شيء منه ولحق بالوحش لم يؤكل إلا بذكاة المتأنس (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الذكاة في الحلق واللبة" (3)، وأشار إلى جملة الذكاة، ولأن توحشه لم ينقله عن أحكام المتأنس من سقوط الجزاء عن المحرم قتله، وجوازه في الضحايا والهدايا والعقيقة، فكذلك في الذكاة، فنقول: لأن الذكاة في الحلق واللبة من حكم المتأنس فلم يزل عنه بالتوحش أصله ما ذكرناه. فصل [9 - لا يؤكل المقدور عليه المتأنس طبعًا أو بعد توحش إلا بذكاة]: لا تؤكل الإنسية بما يؤكل به الصيد من إرسال السهام والجوارح سواء كان مما أصله التأنس كالأنعام والدجاج والفراخ أو مما أصله التوحش كالغزلان والأرانب ثم تأنس، وزال عنه الاستيحاش لأنه مقدور عليه، فلا يكون ذكاته العقر، وأما المتأنس طبعًا فقد بينا أن ذلك لا يبيحها، وإذا توحشت، فما دامت لم تتوحش فهي عن ذلك أبعد (4). فصل [10 - فيمن ضرب عنق بعير]: ومن ضرب عنق بعير فلا يأكله لأن ذلك قتل وليس بذكاة (5)، لأن الذكاة في الحلق واللبة، وهذا لم يذكه في حلقه ولا لبته.   (1) انظر: المدونة: 1/ 423 - 424، التفريع: 1/ 402، الرسالة ص 187. (2) انظر: مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 228، المهذب: 2/ 255. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (691). (4) انظر: المدونة: 1/ 423 - 424، التفريع: 1/ 402، الرسالة ص 187. (5) انظر: التفريع: 1/ 403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 فصل [11 - توجيه الذبيحة إلى القِبْلة]: يستحب للذابح أن يوجه ذبيحته إلى القِبْلة (1)، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك (2)، ولأنه إذا لم يكن بد من جهة يتوجه إليها كانت جهة القِبْلة أولى. فصل [12 - التسمية على الذبيحة]: والتسمية مسنونة (3) لأمره صلى الله عليه وسلم بها في الصيد (4)، ولا فرق بين ذلك وبين الذبح، ولأنه صلى الله عليه وسلم سمَّى حين ذبح أضحيته (5)، فإن تركها ناسيًا جاز لأن ترك السنن ناسيًا لا يبطل العبادة، وإن تعمد تركها قال مالك: لا تؤكل (6)، فمن أصحابنا من حمله على التحريم تغليظًا لئلا يستخف بالسنن، ومنهم من قال: هي شرط بالذكر ساقطة بالنسيان، ومنهم من حمله على الكراهة (7) لقوله صلى الله عليه وسلم: "الذكاة في الحلق واللبة" (8)، ولم يذكر التسمية، ولأنه قول باللسان فلم يكن شرطًا في إباحة الذبيحة كالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.   (1) انظر: المدونة: 1/ 428، التفريع: 1/ 401، الرسالة ص 185. (2) لم أعثر على تخريج لهذا الخبر، وإنما هو مروي عن بعض التابعين (مصنف عبد الرزاق: 4/ 489). (3) انظر: المدونة: 1/ 428 - 429، التفريع: 1/ 401، الرسالة ص 185. (4) كما جاء في أحاديث الصيد التي سبقت (انظر الصفحة 679). (5) كما جاء في حديث أنس قال: ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر .. أخرجه البخاري في الأضاحي، باب: التكبير عند الذبح: 6/ 238، ومسلم في الأضاحي، باب: استحباب الأضحية: 3/ 1556. (6) انظر: التفريع: 1/ 401، الكافي ص 179. (7) في (م): الكراهية. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (691). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 فصل [13 - في إراحة الذبيحة]: وينبغي للذابح أن يحد شفرته ويريح ذبيحته لورود الخبر بذلك (1)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" (2)، وهذا من إحسانها. * * *   (1) كما جاء في الجزء الأخير من الحديث الآتي حيث قال صلى الله عليه وسلم: "وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". (2) أخرجه مسلم في الذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح: 3/ 1548. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 باب: الأطعمة (1) صيد البحر كله حلال غير محتاج إلى ذكاة يجوز أكله ميتًا وبغير سبب طفي أو لم يطف على أي وجه تلف صاده مسلم أو مجوسي (2) خلافًا لأبي حنيفة في اعتباره أن يموت بسبب (3)، لقوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (4)، ففرق بين الصيد والطعام، فدل أن الطعام ما مات بنفسه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (5)، وفي حديث جابر (6): أن أبا عبيدة (7) أصاب حوتًا ميتًا فأكل أهل الجيش منه ثمان عشرة ليلة ثم أعلموا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله فهل معكم منها شيء" (8)، واعتبارًا بتلفه عن سبب بعلة أنه من صيد البحر.   (1) الأطعمة: جمع طعام، وهو ما يؤكل وما يشرب. (2) انظر: الموطأ: 2/ 494 - 495، التفريع: 1/ 405. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 299، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 231. (4) سورة المائدة، الآية: 96. (5) سبق تخريج الحديث. (6) جابر: بن عبد الله بن عمرو بن حزام أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن الأنصاري الصحابي من أهل بيعة الرضوان كان مفتي المدينة في زمانه، مات سنة ثمان وسبعين (انظر سير أعلام النبلاء: 3/ 189، وشذرات الذهب: 1/ 84). (7) أبو عبيدة: عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري، المكي أحد السابقين الأولين، أمين هذه الأمة ومناقبه، شهيره جمة، توفي سنة ثمان عشرة وله ثمان وخمسون سنة (انظر سير أعلام النبلاء: 1/ 5، شذرات الذهب: 1/ 29). (8) أخرجه البخاري في الحج إذا رأى المحرمون صيدًا 2/ 210، ومسلم في الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم: 2/ 852. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 فصل [1 - حكم ما له شبه في البر]: لا فصل بين ما له شبه في البر وبين ما لا شبه له في جواز أكله مثل كلب الماء وخنزيره وغير ذلك من أنواع صوره (1)، خلافًا للشافعي (2)، لعموم الظواهر، ولأنه من صيد البحر كالذي لا شبهة له. فصل [2 - في أكل الطير]: يؤكل الطير كله ما له مخلب وما لا مخلب له (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)، لقوله عَزَّ وجَلَّ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} (5) الآية، وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (6) ولأنه نوع من الطير فأشبه سائرها. فصل [3 - في أكل سباع الوحش]: يكره أكل سباع الوحش من غير تحريم (7) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن جميعها حرام (8)، والشافعي في قوله: حل الضبع والثعلب دون غيرهما (9) لعموم الظواهر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال ما أحله الله في القرآن، والحرام ما حرمه الله في القرآن وما سكت عنه فقد عفى عنه" (10)،   (1) انظر: المدونة: 1/ 419 - 420، التفريع: 1/ 405، الكافي ص 187. (2) انظر: المهذب: 1/ 250. (3) انظر: المدونة: 1/ 427، التفريع: 1/ 405، الكافي ص 186. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 299، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 229 الإقناع ص 183، المهذب: 1/ 248. (5) سورة الأنعام، الآية: 145. (6) سورة المائدة، الآية: 2. (7) انظر: المدونة: 1/ 426، التفريع: 1/ 406، الكافي ص 186. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 299، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 229. (9) انظر: المهذب: 1/ 247. (10) أخرجه البيهقي: 9/ 320، وقال: رواه سيف بن هارون عن التيمي عن أبي عثمان عن سلمان مرفوعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 ولأن كل حيوان يظهر جلده بذبحه فلا يحرم أكله كسائر الصيود عندنا مع أبي حنيفة لأنه يوافقنا في أن الذكاة تعمل في تطهير أهب جميع السباع، وعلى الشافعي لأنه نوع من السباع لا يكفر مستحله كالضبع والثعلب. فصل [4 - أكل الحمر الأهلية والبغال]: أكل الحمر الأهلية مغلظة الكراهة (1) عند مالك، ومن أصحابنا من يقول: هو حرام (2) وليس كالخنزير، فوجه مالك قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (3) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما سكت عنه فقد عفي عنه" (4)، ولأنه حيوان معد للركوب كالخيل، ووجه التحريم ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية (5)، وحكم البغال حكم الحمير. فصل [5 - في حكم أكل الخيل]: فأما الخيل فيكره أكلها (6) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: أنه مباح من غير كراهة (7)، لقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (8)، ففرق بينها وبين الأنعام، وأخبر عن المقصود منها وهو الركوب والتجميل (9) بخلاف المقصود من الأنعام، ولأنه ذو حافر، فجاز أن يتعلق المنع بأكله أصله الحمير والبغال،   (1) في (م): مغلظة الكراهية. (2) انظر: المدونة: 1/ 427، التفريع: 1/ 406. (3) سورة الأنعام، الآية: 145. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) أخرجه البخاري في الذبائح، باب: لحوم الخيل: 6/ 229، ومسلم في الذبائح، باب إباحة كل لحوم الخيل: 3/ 1548. (6) انظر: التفريع: 1/ 406، الكافي ص 187. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 299، المهذب: 1/ 246. (8) سورة النحل، الآية: 8. (9) في (م): التحمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 ولا يدخل عليه حمير الوحش لما قلنا (1) فجاز، ويمكن أن نحترز بأن نقول متأنس، ولأن الخيل محتاج إليها للجهاد عليها، ففي إباحة أكلها تطريق إلى انقطاع نسلها. فصل [6 - في حكم أكل الجراد]: الجراد عند مالك لا يؤكل إلا إذا مات بسبب، وقال محمد بن عبد الحكم: يؤكل وإن مات بغير سبب (2)، فوجه قول مالك: أنه من حيوان البر كسائر الحيوان، ووجه قول محمد قوله صلى الله عليه وسلم: "أُحلت لنا ميتتان فذكر: السمك والجراد" (3). فصل [7 - في الانتفاع بجلد الميتة]: في جلد الميتة إذا دبغ روايتان (4): إحداهما أنه نجس وأن الدباغ لا يعمل في تطهيره بوجه، والأخرى إنه يطهر بالدباغ وهي مخرجة على رواية ابن عبد الحكم في جواز بيعه بعد الدباغ إذا بين له وهو قول لابن وهب وأبي حنيفة والشافعي (5) فوجه الرواية الظاهرة قوله عَزَّ وجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء" (7)، ولأنه جزء من الميتة   (1) في (ق): لأنا قلنا. (2) انظر: المدونة: 1/ 419 - 420، الكافي ص 187. (3) أخرجه ابن ماجه في الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد (2/ 1073)، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، وأحمد: 2/ 97، والدارقطني: 4/ 271 - 272، والبيهقي: 9/ 257، وابن حبان في الضعفاء وقال في التنقيح: وهو موقوف في حكم المرفوع (انظر نصب الراية: 4/ 202). (4) انظر: الموطأ: 2/ 498، التفريع: 1/ 408، الرسالة ص 186، الكافي ص 188 - 189. (5) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 230 - 231، حاشية قليوبي وعميرة: 1/ 304. (6) سورة المائدة، الآية: 3. (7) أخرجه أبو داود في اللباس، باب: من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة (4/ 371) = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 نجس بالموت، فوجب أن تتأبد نجاسته كاللحم، ولأنه لما نجس بالموت استحال أن يطهر مع بقاء علة تنجسه، ووجه الأخرى قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" (1)، وسائر الأخبار الواردة في الدباغ، ولأنها نجاسة طرأت على جلده تعمل الذكاة في لحمه فوجب أن يطهر بالدباغ كجلد المذكى. فصل [8 - فيما يستعمل فيه جلد الميتة]: يجوز استعماله في اليابسات دون المائعات (2)، خلافًا لأحمد بن حنبل (3) لأن الأخبار تدل على ضرب من الإباحة، وقد ثبت أنه ليس المراد بها الطهارة، فلم يبق إلا نوع من الانتفاع، وإنما خصصنا اليابس لأنه لا يصل إليه شيء من النجاسة بخلاف الرطب. فصل [9 - عدم طهارة جلد الخنزير]: على الرواية الأخرى لا يطهر جلد الخنزير بحال خلافًا لأبي يوسف وداود (4) للظواهر، ولأن الدباغ يخلف الذكاة فيما تأتي الذكاة فيه ويمتنع فيما لا ذكاة فيه. فصل [10 - في الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ]: لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ (5) خلافًا لمن أجاز ذلك (6) لأنه نجس، وإنما شرط الدباغ في تطهيره أو في إباحة الانتفاع به، فإن خالفوا في   = والنسائي في الفرع والعتيرة، باب: ما يدبغ به جلود الميتة: 7/ 154، وابن ماجه في اللباس، باب: من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب: 2/ 1194، والترمذي في اللباس، باب: ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت: 4/ 194، وقال: حديث حسن. (1) أخرجه مسلم في الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ: 1/ 277. (2) انظر: التفريع: 1/ 408، الكافي ص 189. (3) انظر: مسائل الإمام أحمد ص 12، مختصر الخرقي ص 16. (4) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 231، المغني ص 66، المحلي: 153. (5) انظر: التفريع: 1/ 408، الرسالة ص 186، الكافي ص 188 - 189. (6) أجازه الزهري (انظر: المغني: 1/ 66). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 نجاسته قبل الدباغ دللنا عليه بالظواهر، وأنه جزء من الميتة كانت فيه حياة، فوجب أن ينجس بالموت كاللحم، فإن خالفونا (1) في إباحة الانتفاع به دللنا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما على أهلها لو أخذوا جلدها فدبغوه فانتفعوا به" (2)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت" (3). فصل [11 - في عظم الميتة وقرنها]: عظم الميتة وقرنها نجس (4) خلافًا لأبي حنيفة (5) لأنه جزء كانت فيه حياة كاللحم، ويدل على أنه كانت فيه حياة قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (6)، ولأن الإدراك يقع به كاللحم. فصل [12 - طهارة شعر الميتة وصوفها]: شعر الميتة وصوفها طاهر (7) خلافًا للشافعي (8) لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} (9) فعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس   (1) في (م): خالفوا. (2) أخرجه البخاري في الدباغ، باب: جلود الميتة: 6/ 231، ومسلم في الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ: 1/ 277. (3) أخرجه أبو داود في اللباس، باب: أهب الميتة: 4/ 368، وابن ماجه في اللباس باب: جلود الميتة إذا دبغت: 2/ 1194، والنسائي في الفرع، باب: الرخصة في الاستمتاع بجلود الميتة إذا دبغت: 7/ 155، وقال فيه: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن عائشة. (4) انظر: التفريع: 1/ 408، الكافي ص 189. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 17، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 1/ 24. (6) سورة يس، الآية: 79. (7) انظر: التفريع: 1/ 408، الرسالة ص 186، الكافي ص 189. (8) انظر: مختصر المزني: 1. (9) سورة النحل، الآية: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 بصوفها إذا غسل بالماء" (1)، ولأنه لا حياة فيه فاستحال أن ينجس بالموت، يبين ذلك أن الإدراك لا يقع به وأن أخذه جائر حال الحياة ولا يكون نجسًا بخلاف اللحم والجلد. فصل [13 - في شعر الخنزير]: لا فرق بين شعر الخنزير وغيره (2) لأن أكثر ما في الخنزير أن يكون ميتة (3). فصل [14 - في أكل ذبيحة أهل الكتاب]: يجوز أكل ذبيحة (4) أهل الكتاب (5)، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (6) فعم، ولأن كل جنس جاز نكاح نسائهم جاز أكل ذبائحهم كالمسلمين عكسه المجوس، وإن جاز أكل ذبائحهم جاز أكل سائر أطعمتهم. فأما إذا خيف منهم استعمال النجاسة كالخمر والخنزير وغير ذلك، فيجب اجتنابها إلا ما نشاهد منها سليما من إصابتها إياه. فصل [15 - طعام وذبائح المجوس]: طعام المجوس الذي لا يحتاج إلى ذكاة يجوز أكله ولا يؤكل ما ذكوه (7) لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (8)، فدل على أن غيرهم بخلافهم، ولأن كل من لا ينكح نساؤهم فلا يؤكل ذبائحهم كالمرتدين والوثنيين عكسهم أهل الكتاب.   (1) أخرجه الدارقطني عن أبي بكر الهذلي وهو متروك (انظر نصب الراية: 1/ 118). (2) في (م): وجلده. (3) انظر: التفريع: 1/ 408، الكافي ص 189. (4) في (م): ذبائح. (5) انظر: المدونة: 1/ 431 - 433، التفريع: 1/ 406، الرسالة ص 187. (6) سورة المائدة، الآية: 5. (7) انظر: المدونة: 1/ 48 - 419، التفريع: 1/ 406، الرسالة ص 187. (8) سورة المائدة، الآية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 فصل [16 - في شحوم اليهود]: شحوم اليهود المحرمة عليهم مكروهة عند مالك، وليست بمحرمة، وعند ابن القاسم وأشهب أنها حرام، وقيل: أنه مروي عن مالك (1)، وعند أبي حنيفة والشافعي أنها مباحة غير مكروهة، فوجه التحريم أنها ذكاة قصد مذكيها إلى محلّل، محرم في اعتقاده فوجب أن يبيح ما يعتقد تحليله دون ما يعتقد تحريمه أصله المسلم إذا ذبح الشاة، فإن التذكية تنصرف إلى اللحم دون الدم. ووجه الإباحة أن اليهودي يعتقد استباحة الشاة وإنما يعتقد تحريم بعض منها واعتقاده ذلك باطل عندنا، فكان كالمسلم يعتقد بالذبح إباحة اللحم دون الشحم، فإذا كان ذلك غير مؤثر فكذلك ها هنا، ووجه الكراهة أنه لما (2) لم يقصد اللحم بالتذكية، فأشبه الدم الذي لا يقصده المسلم بالتذكية، ولأن الأفضل أن يكون كلما يؤكل مقصود كاللحم. فصل [17 - ما ماتت فيه الفأرة من الطعام والشراب]: ما ماتت فيه الفأرة من الطعام والشراب ألقيت وما حولها إن كان جامدًا وأكل باقيه (3) إلا أن يطول مقامها فيه فيطرح جميعه، وأما المائع فيطرح كله (4)، وإنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم، وسئل عن فأرة وقعت في سمن: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فأريقوه" (5)، ولأنه إذا كان جامدًا لم تتعد النجاسة موضع وقوعها وما جاوره، ولم تسر إلى باقيه، وليس   (1) انظر: التفريع: 1/ 406، الرسالة ص 187، الكافي ص 187. (2) لما: سقطت من (ق). (3) في (م): باقيها. (4) انظر: الموطأ: 2/ 971، التفريع: 1/ 407، الرسالة ص 186 - 187. (5) أخرجه أبو داود في الأطعمة، باب: في الفأرة تقع في السمن: 4/ 181، وابن حبان في صحيحه، وأصله في صحيح البخاري ولفظه: "خذوها وما حولها وكلوا سمنكم" في الذبائح والصيد، باب: إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب (6/ 232). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 كذلك إذا كان مائعًا لأنها تنتشر فيه وتسري إلى باقيه، وكذلك إذا أطال مقامها في الجامد ذابت وتفرقت أجزاؤها وانتشرت إلى جميعه. فصل [18 - فيمن يضطر إلى أكل الميتة]: المضطر الخائف على نفسه التلف له أن يأكل الميتة للظاهر (1)، والإجماع (2)، وفي قدر ما يؤكل منه روايتان: إحداهما ما يسد به رمقه، والأخرى حتى يشبع (3). فوجه الأولى: أن الإباحة لحفظ (4) النفس، فإذا وجد لم تجز الزيادة عليه لأنه يخاف التلف اعتبارًا بالسبع (*). ووجه الثانية: عموم الظاهر، ولأن الضرورة حاصلة فيما دون التلف كحصولها مع خوفه، فجاز له أكلها، وله أن يتزود منها احتياطًا واستظهارًا لجواز أن يدوم به العدم، فإن استغنى عنها طرحها. * * *   (1) من قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام الآية: 119] وغيرها من الآيات. (2) المجموع: 9/ 39، المغني: 8/ 595، فتح الباري: 10/ 65. (3) انظر: الموطأ: 1/ 499، التفريع: 1/ 407، الرسالة ص 186. (4) في (م): تحفظ. (*) كذا والظاهر الصواب أنها (بالشبع). مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 باب: الأشربة (1) الخمر (2) مجمع (3) على تحريمها (4)، وورود القرآن والمتواتر من الأخبار بذلك، ووقوع العلم الضروري به من دين الأمة مغن عن زيادة عليه، فإذا ثبت ذلك فالمجمع عليه هو عصير العنب النيء الذي لم تمسه النار، فأما ما عداه فإن كل شراب أسكر كثيرة فقليله حرام نيئًا كان أو مطبوخًا من أي نوع كان من عنب أو زبيب أو تمر أو رطب (5) أو بسر أو دبس أو عسل أو ذرة أو شعير أو قمح (6) أو أي شيء كان (7)، هذه الجملة يوافقنا فيها الشافعي (8)، ولأبي حنيفة في ذلك تفصيل يطول شرحه إلا أنه يبيح في الجملة نبيذ التمر المسكر المطرب إذا شرب منه قدرًا لا يبلغ بشاربه السكر (9). فدليلنا من وجهين: أحدهما: إثباتنا ذلك كله خمرًا، والآخر الاستدلال على عين المسألة، فأما إثباتها خمرًا فله طريقان: الأخبار والقياس، فالأخبار ما   (1) الأشربة: القصد من هذا الباب بيان ما يجوز شربه وما يحرم. (2) الخمر: من الخمار الذي تغطى به المرأة رأسها (المغرب ص 154، المصباح المنير ص 181). (3) في (ق): مجموع. (4) انظر: شرح مسلم- للنووي: 7/ 243، المحلي: 8/ 230، فتح الباري: 10/ 33. (5) رطب: سقطت من (ق). (6) قمح: سقطت من (ق). (7) انظر: الموطأ: 2/ 844 - 848، التفريع: 1/ 410، الكافي ص 190 - 191. (8) انظر: مختصر المزني ص 266. (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 281، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 214 - 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 روي النعمان بن بشير (1): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من العنب خمرًا، وإن من الزبيب خمرًا، وان من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا، وإن من الشعير خمرًا وأنهاكم عن كل مسكر" (2)، وروي: أن أبا هريرة (3) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة، والعنبة" (4)، وروي ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام وكل مسكر خمر" (5)، وعند المخالف: أن نبيذ التمر لا يكون خمرًا على وجه أسكر، أو لم يسكر، وفي حديث أنس: أن الخمر لما حرمت قال أبو طلحة (6) قم إلى هذه الجرار فأكسرها (7)، وكان فيها شراب من بطيخ وتمر، فأما القياس، فلما علمنا أن العرب إنما سمت الخمر بهذا الاسم لوجود الإسكار والشدة المطربة، ولم يوافقونا على قصر ذلك على جنس ما توجد فيه دون غيره وجب   (1) النعمان بن بشير: بن سعد بن ثعلبة الأنصارى الخزرجي له ولأبويه صحبة، ثم سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قتل بحمص سنة خمس وستين، وله أربع وستون سنة (انظر تقريب التهذيب ص 563، شذرات الذهب: 1/ 72). (2) أخرجه أبو داود في الأشربة، باب: الخمر ما هي: 4/ 83، والترمذي في الأشربة، باب: ما جاء في الحبوب التي يتخذها الخمر: 4/ 297، وابن ماجه في الأشربة، باب: ما يكون منه الخمر: 2/ 1121، والدارقطني: 4/ 253، والبيهقي: 8/ 289، والحاكم: 4/ 148. (3) في (ق): أن أبا بكر، والصحيح أن الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنهما. (4) أخرجه مسلم في الأشربة، باب: بيان أن جميع ما ينتبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمي خمرًا (3/ 1573). (5) أخرجه مسلم في الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر: 3/ 1587. (6) أبو طلحة: هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد الخزرجي البخاري صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بني أخواله، وأحد أعيان البدريين، مات سنة أربع وثلاثين (انظر سير أعلام النبلاء: 2/ 27، شذرات الذهب: 1/ 40). (7) أخرجه الإمام مالك في الموطأ: 2/ 847، والبخاري في الأشربة، باب: نزل تحريم الخمر: 6/ 141، ومسلم في الأشربة، باب: تحريم الخمر: 3/ 1572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 إجراء العلة حيث وجدت، وعلمنا بأنها (1) علة بالطريق الذي به تعلم العلل، وهو وجود الحكم بوجودها وارتفاعه بارتفاعها؛ لأن العصير ما لم يشتد يسمى خمرًا، فإذا اشتد سمي بذلك، فإذا زالت الشدة زال الاسم فثبت ما قلناه، فأما الاستدلال على نفس المسألة بالنقل المستفيض روت عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام" (2) قال الراوي: البتع هو نبيذ العسل (3)، وروي ابن عمر وأبو موسى قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام" (4)، وروي جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" (5)، وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" (6)، ولأنه إجماع الصحابة (7)، ولأن عمر رضي الله عنه حد على شراب سأل عنه فقيل: أنه يسكر ولم ينكر عليه أحد، واعتبر السُكر   (1) في (م): بأنه. (2) أخرجه مسلم في الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر (3/ 1585)، والبخاري في الأشربة، باب: الخمر من العسل (6/ 242). (3) في (م): شراب العسل. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) أخرجه أبو داود في الأشربة، باب: النهي عن المسكر: 4/ 87، والنسائي في الأشربة، باب: تحريم كل شراب أسكر كثيره: 8/ 268، وابن ماجه في الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام: 2/ 1125، والترمذي في الأشربة، باب: ما أسكر قليله فكثيره حرام: 4/ 258، وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه أحمد: 3/ 343، وصحَّحه ابن حبان (انظر نصب الراية: 4/ 302). (6) أخرجه أبو داود في الأشربة، باب: ما أسكر كثيره فقليله حرام: 4/ 91، والترمذي في الأشربة، باب: ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام: 4/ 258، وقال: حديث حسن، والفرق: مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلًا، والجمع فرقان. (7) انظر: المحلي: 8/ 270، المغني: 8/ 303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 دون كونها خمرًا لأنه قال (1): وجدت من فلان ريح شراب زعم أنه الطلاء (2) وإني سائل عنه، فإن كان يسكر حددته (3)، ولم ينكر عليه أحد، ولأنه شراب يسكر كثيره، فوجب أن يحرم قليله كالخمر. فصل [11 - الحد على شارب المُسكِر]: إذا ثبت ما ذكرناه فعلى شاربه الحد اعتبارًا بالخمر ولا يراعى أأسكر القدر الذي شرب منه أو لم (4) يسكر، والحد فيه ثمانون (5)، خلافًا للشافعي في قوله أربعون (6)، لإجماع الصحابة عليه، وسؤال عمر رضي الله عنه وتعليل عليّ رضي الله عنه: بأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي، وإذا هذى افترى فيجلد حد المفتري (7)، ولم ينكر عليه ذلك أحد، وروي عن عمر وعثمان وعليّ وعبد الرحمن وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى (8)، ولأنه ليس في الأصول حد يقصر عن ثمانين، فكان ما قاله خلافًا للأصول (9). فصل [2 - في منع تملك المسلم خمرًا]: ولا يحل لمسلم أن يتملك خمرًا خلافًا لأبي حنيفة (10)، ولا شيئًا من المسكر   (1) في (م): قال: إني. (2) الطلاء: كل ما يطلى به من قطران أو نحوه، ويقال لكل ما خثر من الأشربة طلاء على التشبيه (المغرب ص 293). (3) أخرجه البخاري في الأشربة، باب: الباذق وما نهى عن كل مسكر من الأشربة: 6/ 244، ومالك: 2/ 842. (4) في (م): أم لم. (5) انظر: الموطأ: 1/ 842، الرسالة ص 243. (6) انظر: مختصر المزني ص 266، الإقناع ص 170. (7) أخرجه مالك: 2/ 842. (8) في تخريج هذه الآثار انظر: الموطأ: 2/ 842 - 843، البيهقي: 8/ 318 - 321، المغني: 8/ 307. (9) في (م): خلاف الأصول. (10) خلافًا لأبي حنيفة: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 فمن وجدت عنده أريقت عليه (1) للإجماع على إراقة الخمر، وحديث أبي سلمة (2) أنهم أراقوا ما كان عندهم (3)، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقتها (4)، فأما ظروفها فاختلف أصحابنا فقيل: يكسر جميعها وتشق تأديبًا له وردعًا عن أن يمسكها ثانية، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقتها وشق ظروف الخمر التي كانت لليتيم (5)، وقيل: يشق منها ويكسر ما أفسدته الخمر ونجسته مما لا ينتفع به إلا في الخمر، وما عدى ذلك من الظروف التي إذا غسلت زال عنها الخمر جملة فلا تشق لأنه لا فائدة في ذلك أكثر من إضاعة المال، وذلك منهي عنه. فصل [3 - الخمر إذا تخللت]: ومن عصى بإمساك الخمر حتى تخللت ولم يرقها جاز له أكلها ولا خلاف في ذلك (6)، وإن تعمد تخليلها كره له ذلك وجاز له أهلها (7)، (هذه الرواية الظاهرة، وعنه رواية أخرى أنه لا يجوز أكلها) (8) تغليظًا، وقول الشافعي: أنه لا يجوز أكلها إذا خللت لبقائها على النجاسة، ودليلنا للرواية الظاهرة: أن التنجيس والحظر إنما كان لأجل الشدة فإذا زالت (9) وجب زوالها، لأن الحكم يجب زواله بزوال علته، وإن شئت أن ترده إلى أصل، قلت: كما لو انقلبت   (1) انظر: الموطأ: 2/ 848، التفريع: 1/ 410، الكافي ص 191. (2) أبو سلمة: ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن كعب، أخو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة، شهد بدرًا، ومات بعدها بأشهر (انظر: سير أعلام النبلاء: 1/ 150). (3) لم أجد حديث أبي سلمة، ولعله حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم في المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر: 3/ 125. (4) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر: 3/ 1205. (5) هو الحديث السابق الذكر. (6) انظر: المغني: 8/ 330، فتح الباري: 10/ 535، المجموع: 2/ 584. (7) انظر: التفريع: 1/ 410 - 411، الكافي ص 190. (8) ما بين قوسين: سقطت من (م). (9) في (م): زال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 بنفسها، ولأنه مائع نجس لوجود معنى لو زال بغير صنع آدمي لظهر، فكذلك يجب أن يزول بفعل الآدمي أصله الماء إذا تغير من نجاسة ثم زال التغير (1). فصل [4 - في مؤاجرة الرجل نفسه أو داره أو غلامه في شيء من عمل الخمر]: لا يجوز أن يؤاجر الرجل نفسه ولا داره ولا غلامه ولا دابته في شيء من عمل الخمر (2)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن ذلك جائز تجب الأجرة فيه (3) لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (4)، وهذا منه لأنه عقد إجازة علي شيء (5) محظور فلم يجز، أصله إذا اكترى غلامًا ليتلوط (6) به أو امرأة ليزنى بها. فصل [5 - في فسخ عقود إجارة عمل الخمر إذا أدركت قبل الفوات]: إذا ثبت منع ذلك، فإذا أدرك قبل الفوات فسخ العقد، وإن لم يدرك حتى فات أخذت الأجرة فتصدق بها ولم تترك على واحد منهما (7) عقوبة للمستأجر، ولأن عمل المؤاجر لا يستحق عوضًا (8) عليه. فصل [6 - كراهية شرب الخليطين]: يكره شرب الخليطين من التمر والرطب أو الزبيب والعنب أو التمر والبسر (9)   (1) في (م): التغيير. (2) انظر: التفريع: 1/ 40، الكافي ص 190 - 191. (3) والمذهب أنه لا يجوز الاستئجار. (4) سورة المائدة، الآية: 2. (5) في (م): على فعل. (6) في (م): ليلوطه. (7) انظر: التفريع: 1/ 410، الكافي ص 191. (8) في (م): عملًا. (9) البسر: ما لم ينضج من تمر النخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 أو الزبيب والبسر أو البسر والرطب (1) للنهي عن ذلك (2)، والمعنى فيه: أنه إذا جمع بين نوعين من هذه الأنواع أسرعت الشدة إليها وبطل على جامعها ما أراد من الانتباذ المباح، فإن فعل ذلك أساء وينظر، فإن وجدت (3) الشدة المطربة حرمت وإلا جاز شربه ما لم يسكر وخلطها للنبيذ والخل سواء. فصل [7 - جواز شرب العصير]: شرب العصير جائز لا خلاف فيه أعلمه (4)؛ لأنه غير مسكر ولا مخمر، فهو كأكل العنب، وكذلك العقيد إذا طبخ طبخًا لا يسكر معه، وينبغي أن يطبخ حتى يذهب منه الثلثان لأن ذلك حد لجواز شربه أو أكله، ولكن لا يؤمن منه تبقى فيه قوة الشدة، والعقيد أن يطبخ رب العنب والتمر حتى يذهب أكثره ويثخر ثم يمزج بالماء ويشرب. فصل [8 - جواز الانتباذ في كل الأوعية]: والانتباذ في كل الأوعية جائز إلا الدباء والمزفت (5) لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ فيهما (6)، والدُباء القرع، والمزفت المطلي بالزفت والقار   (1) انظر: الموطأ: 2/ 844، التفريع: 1/ 410 - 411، الكافي ص 191. (2) ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى أن يُنبذ التمر والزبيب جميعًا، ونهى أن يُنبذ الرطب والبسر جميعًا" أخرجه البخاري في الأشربة، باب: من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرًا (6/ 245)، ومسلم في الأشربة، باب: كراهية انتباذ التمر والزبيب مخلوطين: 3/ 1574. (3) في (م): حدثت. (4) انظر: المحلي: 8/ 230، شرح مسلم: 8/ 219، فتح الباري: 10/ 29، 35، 38، المغني: 8/ 317 - 318. (5) انظر: الموطأ: 1/ 844، التفريع: 1/ 410، الكافي ص 191. (6) أخرجه مسلم في الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت: 3/ 1581، ومالك: 2/ 843. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 كالدنان (1) وغيرها، وإنما كره ذلك، لأن الشدة تسرع إليه، وإن سلم منها فلا بأس بشربه. فصل [9 - جواز شرب السوبية]: شرب السوبية جائز (2) لأنه لا يسكر، وذكروا أنه شراب يعمل بمصر يشبه الفقاع وليس بمعروف عندنا ببغداد ولا بسائر العراق، وعِلَّة المنع السكر، فإذا عدمت جاز شربه .. والله أعلم (3). * * *   (1) الزفت معروف، والقار هو المزفت. (2) انظر: التفريع: 1/ 411، المغني: 8/ 318. (3) والله أعلم: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب النكاح وأبوابه والطلاق وما يتعلق به (1) النكاح (2) مندوب إليه (3) لقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (4)، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا" (6) وقوله: "تزوجوا فإني مكاثر بكم الأُمم" (7)، وقوله: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (8)، وفيه أخبار كثيرة.   (1) في (م): كتاب النكاح فقط. (2) النكاح في اللغة: مأخوذ من الضم، وكذلك الدخول، وفي الاصطلاح قال ابن عرفة: النكاح عقد على مجرد متعة التلذذ بأدمية غير موجب قيمتها ببينة قبله غير عالم عاقدها حرمتها إن حرمها بالكتاب على المشهور أو الإجماع على الآخر (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 152، والفواكه الدواني للنفراوي: 2/ 2). (3) انظر: الكافي ص 229، المقدمات: 1/ 45 - 453. (4) سورة البقرة، الآية: 187. (5) سورة النور، الآية: 32. (6) أخرجه البيهقي: 7/ 78، وفيه محمد بن ثابت وهو ضعيف، وعن أنس صححه ابن حبان بلفظ: "تزوجوا الودود الولود .. " (انظر تلخيص الحبير: 3/ 116). (7) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء: 2/ 542، والنسائي في النكاح، باب: كراهية تزويج العقيم: 4/ 54، والحاكم: 2/ 162، وقال: صحيح الإسناد، وأحمد: 3/ 158، والبيهقي: 7/ 78. (8) أخرجه البخاري في النكاح، باب: الترغيب في الزواج: 6/ 117، ومسلم في النكاح، باب: استحباب النكاح: 2/ 1018. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 فصل [1 - في حكم النكاح]: وليس بواجب خلافًا لداود (1) اعتبارًا بنكاح الأَمة، ولأنه عقد معاوضة فلم يجب ابتداء بالشرع كالبيع، ولأن المقصود منه وهو الوطء غير واجب، فلم يكن هو واجبًا. فصل [2 - في تزويج الأب ابنته البكر الصغيرة]: وللأب إنكاح ابنته البكر الصغيرة من غير خلاف (2)، والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (3)، وقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} (4)، وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (5)، فجعل على التي لم تبلغ عدة، والعدة لا تجب إلا عن فراق في نكاح صحيح، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج عائشة رضي الله عنها وهي ابنة ست (6) وبني بها وهي ابنة تسع (7)، وروى: أنه صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه من عثمان رضي الله عنه ولم يستشرهما (8) ولا خلاف فيه.   (1) انظر: المغني: 6/ 446، نيل الأوطار: 6/ 117. (2) انظر: الإجماع ص 91، شرح مسلم: 6/ 148، المغني: 6/ 487، فتح الباري: 9/ 156، 12/ 269. (3) سورة النور، الآية: 32. (4) سورة القصص، الآية: 27. (5) سورة الطلاق، الآية: 4. (6) في (م): سبع. (7) أخرجه البخاري في النكاح، باب: إنكاح الرجل ولده الصغار: 6/ 134، ومسلم في النكاح باب: في تزويج الأب البكر الصغير: 2/ 1038. (8) لم أعثر على تخريج لهذا الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 فصل [3 - في تزويج الأب ابنته البكر الكبيرة]: وله إنكاح البكر، وإن بلغت جبرًا (1)، خلافًا لأبي حنيفة (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها" (3) فدل على أن غيرها بخلافها، ولأنه لا يفتقر في عقد نكاحها إلى نطقها مع القدرة عليه كالصغيرة، ولأن كل ولاية تثبت للأب على الصغيرة البكر لم تزل بمجرد البلوغ كالولاية في المال. فصل [4 - في استئذان البِكر الكبيرة]: إذا (4) ثبت ذلك فيستحب له استئذانها لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاوروا النساء في أبضاعهن" (5)، ولأن ذلك أطيب لقلبها من غير ضرر يلحقه فيه، وقيل: إنه ربما كان بها عيب لا يعلمه ولو علمه لم يزوجها (6)، فإذا استأذنها أعلمته به فتحرز منه (7). فصل [5 - في إجبار البكر المعنسة]: وعنه في المعنسة وهي التي قد علت بسنها (8)، وبرز وجهها وخبرت الأمور روايتان (9): إحداهما: بقاء إجباره عليها، والأخرى زواله عنها.   (1) انظر: الموطأ: 2/ 525، المدونة: 2/ 140 - 141، التفريع: 2/ 29، الرسالة ص 196. (2) أخرجه مختصر الطحاوي ص 172، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 8. (3) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: في الاستئمار: 2/ 573، والترمذي في النكاح، باب: إكراه اليتيمة، وقا4ل: حديث أبي هريرة حديث حسن (3/ 408). (4) في (م): فإذا. (5) أخرجه البيهقي: 7/ 123. (6) في (م): يتزوجها. (7) في (م): فتجوز. (8) في (م): سنًّا. (9) انظر: المدونة: 2/ 142 - 145، التفريع: 2/ 29، المقدمات: 1/ 475، الكافي ص 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 فوجه بقائه: اعتبارًا بغير المعنسة بعلة البكارة، ووجه زواله: أن المعنى الموجب للإجبار في الصغيرة التي لم تعنس فله خبرتها بالأمور وعدم معرفتها بمصالحها (وذلك منتف عن المعنسة لبروز وجهها ومعرفتها بمصالحها) (1)، فقام ذلك مقام الثيوبة في رفع الإجبار عنها. فصل [6 - في إجبار الثيب الكبيرة]: وليس للأب ولا غيره إجبار الثيب الكبيرة، ولا تزوج إلا برضاها لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها" (2)، وروي: الثيب مفسرًا، وقوله: "ليس للولي مع الثيب أمر" (3)، ولأنها قد خبرت أمرها وعرفت مصالح نفسها، وزال الحجر عنها في مالها، فوجب انتفاء الإجبار عنها، ولأن الإجبار لو لم يزل عنها لم تبق امرأة تزوج بإذنها ولا معنى لرفع الإجبار، وذلك باطل مع أنه لا خلاف فيه. فصل [7 - في إجبار الثيب الصغيرة]: وللأب إجبار الثيب الصغيرة على النكاح (4) خلافًا للشافعي (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها" (6)، فدل على أن ذات الأب بخلافها، ولأنها صغيرة كالبِكر، ولأن ولاية الأب ثابتة عليها في المال كالغلام، ولأن الثيوبة المزيلة للإجبار وهي التي يثبت معها الإذن كثيوبة البالغ، ولأن   (1) ما بين قوسين: سقط من (م). (2) أخرجه مسلم في النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح: 2/ 1037. ورواية: "الثيب" أخرجها مسلم كذلك في نفس الكتاب والباب والجزء والصفحة. (3) أخرجه أبو داود في النكاح في الثيب: 2/ 578، والنسائي في النكاح، باب: استئذان البِكر في نفسها: 6/ 70، وصححه ابن حبان وهو على شرط الصحيحين. (4) انظر: المدونة: 2/ 140 - 141، التفريع: 2/ 29، الكافي ص 231، المقدمات: 1/ 476 - 477. (5) انظر: مختصر المزني ص 164، الإقناع ص 134 - 136. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا ص 719. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 الثيوبة إحدى حالتي المرأة، فلم تنفك من جواز إنكاح الأب إياها أصله حال البكارة. فصل [- في وقت انقطاع إجبار الأب الثيب الصغيرة]: إذا ثبت أن له إجبارها فقد اختلف في وقت انقطاعه: فقيل: ما لم تحض، وقيل: إن البلوغ لا يقطع الإجبار (1)، فوجه الأول أنها إذا حاضت فقد صارت ممن لها إذن، والثيوبة إذا اجتمعت مع الإذن رفعت الإجبار أصله الثيب الكبيرة، ووجه الثاني: أن كل صغيرة ملك الأب إجبارها لم يسقط عنها ببلوغها كالبكر. فصل [9 - في الثيوبة التي ترفع الإجبار]: الثيوبة التي ترفع الإجبار هي الوطء في نكاح صحيح أو شبهة نكاح أو ملك أو شبهة ملك ولا يثبت بوطء زنا أو غصب على وجه (2)، خلافًا للشافعي، لأن رفع الإجبار بالثيوبة لزوال الحياء والانقباض الذي يكون في البكر، وهذا منتف عن المزني بها لأن الحياء يغلب عليها أشد من غلبته على البكر لقبح ما ركبته والعار الذي يلحقها، ويزيد فيها، فوجب بقاء الإجبار عليها، ولأن ذلك لما لم يرفع عنها ولاية المال، فكذلك إجبار النكاح. فصل [10 - إذا عادت البكر إلى الأب قبل أن تمس]: إذا عادت البكر إلى الأب قبل أن تمس بطلاق أو موت، فأظهر الروايتين (3) عنه أنه يعتبر طول إقامتها مع الزوج أو قصر المدة: فإن طالت إقامتها وبرز وجهها زال إجباره عنها، وإن كان ذلك بحدثان دخولها عليها ولم يطل لبثها ولو برز وجهها فإجباره باق عليها. وإنما قلنا ذلك لأن عودها إلى الأب إذا كان عن قرب، فإنها على الحال التي   (1) انظر: التفريع: 2/ 29، الكافي ص 231، المقدمات: 1/ 477. (2) انظر: المدونة: 2/ 140 - 141، التفريع: 1/ 29، الكافي ص 231. (3) انظر: المدونة: 2/ 141، الكافي ص 231 - 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 كانت عليها (1) عنده من قلة خبرتها بأمورها أو معرفتها بمصالحها لأنها لم يدخل بها فيثبت لها حكم الثيوبة ولا طال أمرها طولًا تخبر معه مواضع حظوظها وتعرف مصالحها فيقوم ذلك مقام الثيوبة، فكان الإجبار باق عليها، فإذا طالت إقامتها وبرز وجهها عدم هذا المعنى فيها وصارت في حكم الثيب فانقطع الإجبار عنها. وفي حد الطول روايتان: إحداهما أنه سنة، والأخرى لا حد فيها أكثر من العرف، فوجه اعتبار السنة أنها مدة جعلت في الشرع حدًّا لأمور تتعرف منها العنة (2)، والأدواء الثلاثة (3) في عهدة الرقيق، فكذلك ها هنا، ووجه نفي التحديد أن كل أمر احتيج فيه إلى اختبار وتعرف ولم يرد توقيف بتحديد مدة وجب الرجوع فيه إلى العرف كالخيار في البيوع، ويعرف إيناس الرشد باليتيم إذا بلغ، وفي مسألتنا التوقيف معدوم، فوجب الرجوع فيه إلى العرف. فصل [11 - العقد على الصغيرة لا يكون إلا من أبيها]: الصحيح من قوله: إنه لا يعقد على الصغيرة سوى أبيها (4) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن للأولياء أن يعقدوا عليها (5) لحديث ابن عمر أن عثمان بن مظعون (6)   (1) في (م): عليه. (2) العنة: يقال رجل عنين الذي لا يقدر على إتيان النساء أو لا يشتهي (المصباح المنير ص 433). (3) الأدواء: المرض والأدواء الثلاثة هي: الجنون، والجذام، والبرص (الفواكه الدواني: 2/ 106). (4) انظر: المدونة: 2/ 140، التفريع: 2/ 34، الرسالة ص 196 - 197، الكافي ص 232. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 173، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 10. (6) عثمان بن مظعون: ابن حبيب بن وهب بن حذافة، الجمحي، أبو السائب من سادة المهاجرين ومن أولياء الله المتقين، الذين فازوا بوفاتهم في حياة نبيهم، فصلى عليهم وهو أول من دفن بالبقيع (سير أعلام النبلاء: 1/ 153). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 توفي وترك ابنته وأوصى إلى أخيه قدامة إذا مت (1)، فتزوجها من عبد الله بن عمر فأراد فسخ النكاح، وإنكاح المغيرة بن شعبة فارتفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال قدامة: أنا عمها ووصى أبيها وما نقموا من عبد الله إلا أنه لا مال له، فقال صلى الله عليه وسلم: "هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها" (2)، ولأن كل من لا يملك التصرف في مالها بنفسه لم يملك إجبارها على النكاح كالأجنبي، ولأن كل من لم يكن له إجبارها بعد البلوغ لم يكن له إجبارها قبله كالخال عكسه الأب. فصل [12 - فيمن يجبر البكر من الأولياء]: ولا يجبر البكر أحد من الأولياء غير الأب صغيرة كانت أو كبيرة لا جد ولا غيره (3) خلافًا للشافعي في قوله: أن الجد يجبر كالأب (4)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها" (5)، ولأنه عصبة ويحجبه الأب فلم يملك الإجبار كالأخ، ولأنها ولاية تملك انتقالًا لا ابتداء، فلم يملك بها الإجبار كسائر الولايات (6). فصل [13 - إذا غاب الأب عن البكر]: إذا غاب الأب عن البكر غيبة قريبة أو كان يتردد في تجارة أو غيرها فليس لولي ولا الحاكم أن يزوجها إلا بتوكيل من الأب، فإن غاب غيبة طويلة منقطعة شديدة البُعد، فإن كانت حياته معلومة ومكانه معروفًا إلا أن استئذانه يتعذر وهي بالغ،   (1) إذا مت: سقطت من (ر). (2) قال الهيثمي: روي ابن ماجه طرفًا منه، ورواه أحمد: 2/ 130، ورجاله ثقات (مجمع الزوائد: 4/ 283). (3) انظر: المدونة: 2/ 2/ 140، التفريع: 2/ 29 - 31، الرسالة ص 196 - 197. (4) انظر: مختصر المزني ص 164 - 165، الإقناع ص 134. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) في (م): الولاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 فقد اختلف في جواز إنكاحها (1): فقال مالك: يزوجها الإمام إن رفعت ذلك إليه، وقال عبد الملك: لا يجوز إنكاحها على وجه مع حياة الأب، وقال ابن وهب: إن قطع عنها نفقته وأطال غيبته جاز إنكاحها برضاها، وإن كان يبعث إليها نفقة وهي في غنى وكفاية (2) لم يجز الإفتيات عليه ولم تزوج إلا برضاه (3). فوجه قول مالك: هو أن غيبة الأب إذا طالت وانقطعت أضر ذلك بها فجرى مجرى عضلها، ولو كان الأب حاضرًا وعضلها حتى علم أنه يقصد الإضرار بها لزوجها السلطان عليه، فكذلك مع طول الغيبة. ووجه قول عبد الملك: إن الولاية باقية للأب لا تسقط بغيبته، فلم يكن لغيره أن يزوجها، ولأنها بكر لها أب كالحاضر أو القريب الغيبة وليس بعاضل، ووجه قول ابن وهب: أن المراعي في ذلك إزالة الضرر عنها بدليل أنه لو كان حاضرًا وعضلها لزوجت عليه لإزالة الضرر وهذا موجود مع انقطاع النفقة ووجود (4) الحاجة وإذا لم يكن لها ضرورة لم تزوج لأنه ليس ها هنا ما يزيل ولاية الأب أو يسوغ الإفتيات عليه. فصل [14 - السلطان يزوج من غاب عنها أبوها]: إذا ثبت جواز إنكاحها: فقيل: لا يزوجها إلا السلطان وقيل: للأولياء أن يزوجوها برضاها (5)، فوجه الأول: أن إنكاحها مع بقاء الأب هو لإزالة الضرر عنها، فكان كالحكم على الأب، وذلك يختص به السلطان. ووجه الثاني: أن النكاح بالإذن لا يقف على ولي دون ولي في باب الجواز،   (1) انظر: المدونة: 2/ 144. (2) في (م): كفالة. (3) في (ق): إلا برضاها. (4) في (ق) و (ر): حضور. (5) انظر: المدونة: 2/ 144، الرسالة ص 196 - 197، الكافي ص 332 - 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 ولأنها بكر جاز تزويج غير الأب إياها، فجاز ذلك لسائر الأولياء أصله إذا مات. فصل [15 - انقطاع خبر الأب الغائب]: فأما إن انقطع خبره ولم تعلم حياته ولا موته جاز إنكاح الأولياء إياها برضاها، وقال عبد الملك: ليس لهم ذلك إلا بعد مضي أربع سنين من وقت فقده (1)، فوجه الأول أن الظاهر من أمره الموت فجاز إنكاحها لأن أحسن أحواله (2) أن يحمل أمره محمل العضل، فيجب إزالة الضرر عنها وعبد الملك نزلها منزلة امرأة المفقود من حيث كان الضرر يلحقها بانتظاره، فوجب وقف ذلك على ضرب الأجل له. فصل [16 - في إذن المزوجة]: إذن المزوجة على ضربين (3): إن كانت ثيبًا فبالقول، وإن كانت بكرًا فبالقول والصمات، وإنما فرقنا بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم في البكر: "فإذنها صماتها" (4) فخصها بذلك، وروي: "الثيب تعرب عن نفسها" (5)، ولأن أصل الإذن أنه لا يثبت إلا بالقول، وإنما خصت البكر بالصمات للخبر، ولأن الحياء يغلب عليها ولئلا تنسب متى (6) تسرعت إلى أن تقول: نعم قد رضيت أو   (1) انظر: المدونة: 2/ 144 - 145. (2) في (م): أحوالها. (3) انظر: المدونة: 2/ 141 - 142، التفريع: 2/ 34، الرسالة ص 196. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (719). (5) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: استئمار البكر والثيب (1/ 602)، رجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع، ومعناه في مسلم في النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح: 2/ 1036. (6) في (م): إذا ما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 قد رضيت أو قد أذنت أو لما أشبه ذلك إلى شدة الميل إلى الرجال وغلبة الشهوة عليها، فيكون ذلك مزهدًا فيها، والثيب قد زال هذا الاعتبار عنها ببروز وجهها ومعرفتها ما يراد فيها، فهذا ثبت هذا فينبغي أن تعلم البِكر إذا صمتت بأن ذلك يحمل على أنه إذن منها احتياطًا واستظهارًا لجواز أن تظن أنه لا يحمل منها على ذلك، وليس بشرط في صحة الإذن. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 باب: [اشتراط الولي في عقد النكاح] الولي (1) شرط في صحة (2) عقد النكاح، فلا يجوز لامرأة أن تزوج نفسها ولا غيرها على وجه (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (5)، وفي جواز ذلك لهن انتفاء العضل لزوال الحاجة إلى الأولياء، ولأن هذه الآية نزلت في شأن معقل بن يسار (6) لما عضل أخته فنُهِيَ عن ذلك (7)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" (8)، وقوله: "لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها" (9)، ولأنها ناقصة   (1) الولي: وهو من له على المرأة ملك أو أبوة أو تعصيب أو إيصاء أو كفالة أو سلطنة أو ذو إسلام (حدود ابن عرفة، الفواكه الدواني: 2/ 3). (2) صحة: سقطت من (م). (3) انظر: الموطأ: 2/ 525، المدونة: 2/ 140 - 144، التفريع: 2/ 31 - 32، الرسالة ص 196. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 171، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 8. (5) سورة البقرة، الآية: 232. (6) معقل بن يسار: المزني، صحابي، ممن بايع تحت الشجرة، كنيته أبو عليّ على المشهور، مات بعد الستين (تقريب التهذيب: 540). (7) أخرجه البخاري في التفسير، باب: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: 5/ 160. (8) أخرجه ابن ماجه في النكاح لا نكاح إلا بولي: 1/ 605، والدارقطني: 2/ 568، والبيهقي: 7/ 125، وابن حبان وصحَّحه ابن حزم وهو قوي بشواهده (انظر نصب الراية: / 1823). (9) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي: 1/ 606، والدارقطني: 3/ 227، والبيهقي: 7/ 110، وفي إسناده جميل بن الحسين العتقي متكلم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 بالأنوثية كالأمة، ولأنه عقد نكاح فوجب افتقاره إلى ولي العقد كالعقد على الصغيرة، ولأن الولي شرط في النكاح وحياطة للفروج (1)، لئلا تحمل المرأة شهوة النكاح ميلها إلى الرجال على التسرع إلى وضع نفسها في غير كفؤ فتلحق عارًا بأوليائها. فصل [1 - تزويج المرأة نفسها]: إذا ثبت ذلك فإن زوجت امرأة نفسها أو غيرها، فالنكاح فاسد لا يصح بوجه ويفسخ قبل الدخول وبعده (2)، لأن منع ذلك لحق (3) الله تعالى وفي كيفية فسخه (4) روايتان (5): إحداهما بطلاق (لأنه نكاح مختلف فيه، فاحتيط بأن يكون فسخه طلاقًا، والأخرى أنه فسخ بغير طلاق) (6)، ولأن المقام عليه لو أراده غير مسوغ لهما، فإن أدرك قبل الدخول وفسخ فلا مهر لأن النكاح الفاسد إذا فسخ قبل الدخول لم يجب به المهر، وإن لم يعلم إلا بعد الدخول لزم به المهر للاستمتاع، فإن كان قد سمى فالمسمى أولى من صداق المثل خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (7)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا العلائق قيل: وما العلائق؟ قال: ما تراضى عليه الأهلون" (8)، وروي: "فإن نكحت فلها   (1) في (م): على الزواج. (2) انظر: المدونة: 2/ 146 - 148، التفريع: 2/ 32، الكافي ص 234. (3) في (م): بحول. (4) في (م): وفي كيفية ذلك. (5) انظر: المدونة: 2/ 146 - 148، والتفريع: 2/ 32، الكافي ص 234. (6) ما بين قوسين سقط من (م). (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 186، ومذهب أبي حنيفة أنه إن سمى وجب المهر الذي سماه لأنه لا يرى الفسخ في هذه الحالة، مختصر المزني ص 166. (8) أخرجه الدارقطني: 3/ 244، والبيهقي: 7/ 239، والطبراني وهو معلول (انظر نصب الراية: 3/ 200). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 مهرها المسمى" (1)، ولأن المقصد من النكاح المواصلة والمكارمة دون المتاجرة والمغابنة بخلاف البيوع، فإن لم يكن هناك مهر مسمى فصداق المثل، وحكمه في وجوب العدة ولحوق النسب وتحريم المصاهرة حكم النكاح الصحيح، وفي التوارث قبل الفسخ خلاف مبني على ما قدمناه. فصل [2 - أقسام الولاية]: إذا ثبت ما ذكرناه من حاجة النكاح إلى ولي، فالولاية على ضربين (2): ولاية عامة، وولاية خاصة، فالعامة ولاية الدين والأصل في ثبوتها قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3)، وقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4)، وأما الخاصة فضربان: ولاية بالنسب، وولاية بالحكم، والولاية بالنسب مقدمة على الولاية بالحكم فإن استخلفت المرأة أجنبيًّا فزوجها مع القدرة على إحدى الولايتين ففيهما روايتان: إحداهما (5): أن ذلك غير جائز، والأخرى أنه ماضي إذا تزوجت كفؤًا. فوجه الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" (6)، فجعل الولاية عند عدم العصبة مقصورة على السلطان، فانتفى بذلك أن تكون لغيره ولاية مع وجوده، ولأن في إجازته ذريعة إلى   (1) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: في النكاح إلا بولي: 1/ 605، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا بولي: 3/ 407، وقال: حديث حسن. (2) انظر: التفريع: 2/ 31، الكافي ص 230 - 231، المقدمات: 1/ 472 - 473. (3) سورة التوبة، الآية: 71. (4) سورة المائدة، الآية: 51. (5) انظر: المدونة: 2/ 143 - 144، التفريع: 2/ 31، الرسالة ص 196، الكافي ص 233. (6) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: في الولي: 2/ 566، وابن ماجه في النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي: 1/ 605، والترمذي في النكاح والباب نفسه: 3/ 407، والحاكم: 2/ 168، وصحَّحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 الإفتيات على الأولياء وإسقاط حقهم من الولاية، وأن لا تشاء امرأة أن تعقد على نفسها مع امتناع وليها إلا وجدت سبيلًا إلى ذلك، فوجب فسخ ما هذا سبيله حياطة للفروج وحفظًا لحقوق الأولياء وحسمًا لباب الذريعة. ووجه الثانية: أن الولاية الخاصة لا تسقط العامة جملة، وإنما لها مزية عليها في التقديم، فإذا حصل العقد بالولاية العامة على وجه لو عقده الولي الخاص لم يزد عليه لم يكن في فسخه فائدة اعتبارًا بتقديم بعض العصبة على بعض هذا إذا كان لها ولي مناسب، وكانت دنية كالمعتقة والمسلمانية (1)، والتي لا عصبة لها، وكان كل أحد كفؤًا لها، فالخلاف أيضًا ثابت على ما قدمناه إلا أن الأظهر أن النكاح جائز لأنه ليس في ذلك إفتيات على ولي خاص ولا إسقاط لولاية عصبة. فصل [3 - الولاية بالنسب]: وأما الولاية بالنسب فهي للعصبة وللمولي (2)؛ لأنه أيضًا عصبة وللوصي إذا أوصى إليه الأب دون غيره من العصبات، وذووا الأرحام الذين لا تعصيب فيهم لا ولاية لهم كالأخوة للأم والجد أبي الأم والخال، ومن كان في معناهم لأنه لا ولاية لهم في القِصاص ولا لهم عصبة في الميراث، فكذلك في النكاح، والولاية بالنسب مرتبة (3) على قوة العصبات، فكل من قوي تعصيبه كان أولى به وأولى العصبة بالإنكاح الابن ثم ابن الابن ثم الأب ثم الأخ الشقيق ثم الأخ للأب ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ للأب ثم الجد ثم العم ثم ابن العم، فإذا لم يكن عصبة بنسب فالمولى من فوق.   (1) المسلمانية التي لا يرغب فيها من حسب ولا مال ولا جمال (مواهب الجليل: 3/ 431). (2) في جملة الأحكام الولاية بالنسب انظر: المدونة: 2/ 143 - 145، التفريع: 1/ 3 - 33، الرسالة ص 196، الكافي ص 231 - 233. (3) في (م): مترتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 فصل [4 - دليل ملك ولاية التزويج بالبنوة]: وإنما قلنا: البنوة يملك بها ولاية التزويج خلافًا للشافعي (1) لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة (2): "قم فزوج أمك" (3)، ولأن الولاية بالنسب مفتقرة إلى تعصيب ولا تعصيب أقوى من تعصيب الابن بدليل تقديمه في الولاء، وأن العصبة يسقطون معه في الميراث أو يصيرون كذوي الأرحام فثبت أن له ولاية في التزويج، ولأن البنوة (4) توجب ثبوت الولاية أصله إذا كان أبوه ابن عمها، ولأن كل ذكر كان عصبة في الميراث كان عصبة في عقد النكاح أصله [] (*)، ولأن كل حكم ثبت للابن من عمها ثبت للابن الذي ليس أبوه ابن عمها أصله الميراث. فصل [5 - في أولوية الابن من الأب في ولاية النكاح]: وإنما قلنا: إنه أولى من الأب لأن تعصيبة أقوى ما بيناه، وإنما أثبتنا أن ابن الابن وليًّا (5) لأن معنى الابن موجود فيه وهو التعصب بالولادة، ولأنه قائم مقام الابن في جميع الأحكام. فصل [6 - دليل ولاية الأب وتقديم الأخوة على الجد]: وإنما قلنا: إن الأب ولي للإجماع على ذلك (6)، ولقوله صلى الله عليه   (1) انظر: مختصر المزني ص 165، الإقناع ص 134. (2) عمر بن أبي سلمة: بن عبد الأسد المخزومي، ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، صحابي صغير، أمَّره عليّ على البحرين، مات سنة ثلاث وثمانين على الصحيح (تقريب التهذيب ص 413). (3) أخرجه النسائي في النكاح، باب: إنكاح الابن أمه: 6/ 66، وأحمد: 6/ 295 والحاكم وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي: 7/ 131. (4) في (م): البكورة. (*) كذا بياض. (5) وليًّا: سقطت من (م). (6) انظر: الإجماع ص 91، المغني: 6/ 456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها" (1)، فدل أن غيرها لا يحتاج الأب إلى استئمارها (2)، وولاية الإجبار أقوى من غيرها، ولأنه ولي المال والنظر في أمرها، فكذلك النكاح، وإنما قلنا: إن الأخوة وبنيهم مقدمون على الجد في ولاية النكاح بخلاف الميراث خلافًا للشافعي (3)؛ لأن تعصيبهم أقوى لأنهم يدلون بالبنوة والجد يدلي بالأبوة لأن الأخ يقول: أنا ابن أبيها، والجد يقول: أنا أبو أبيها، وقد بينا أن تعصيب البنوة أقوى من تعصيب الأبوة. وإنما قلنا: إن الأخ الشقيق مقدم على الأخ للأب لأنه يجمع تعصيبًا وقربًا، فكان أولى منه كالميراث، وإنما قلنا: إن الولاء يملك به ولاية النكاح لأنه يفيد التعصيب، ولأنه ملحق بالنسب ومشبه به، ولأن تعصيبه يورث به فكذلك يُملك به ولاية النكاح. فصل [7 - عند التشاجر يكون الأول مقدمًا]: وهذا إذا تشاحوا (4) فيكون الأول مقدمًا على غيره، وإذا لم يتشاحوا (5)، فمن عقد منهم جاز مع وجوب الآخر في غير البكر مع الأب والوصي خلافًا للشافعي في قوله: أنه لا ولاية للعصبة الذي هو أبعد مع الأقرب (6)؛ لأنه عصبة لا يملك الإجبار، فجاز أن يعقد عليها بإذنها كالأقرب، ولأن تأثير الأقرب تقديمه لا إسقاطه. فصل [8 - في ولاية الوصي]: وإنما أثبتنا الوصي (7) وليًّا في عقد النكاح إذا كان من جهة الأب خلافًا لأبي   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (719). (2) في (م): استئذانها. (3) انظر: مختصر المزني ص 165، الإقناع ص 134. (4) في (م): تشاجروا. (5) في (م): يتشاجروا. (6) الأم: انظر: مختصر المزني ص 165، الإقناع ص 135. (7) في (ق): الموصى، وفي (ر): وإنما شرطنا الوصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 حنيفة والشافعي (1)، لحديث قدامة بن مظعون لما زوج ابنة أخيه فقال: أنا عمها ووصي أبيها، فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليه (2)، ولأنها ولاية كانت ثابتة للأب على الصغيرة حال حياته، فكان له نقلها إلى من شاء بعد وفاته كولاية المال. فصل [9 - الوصي يزوج البكر البالغ]: إذا ثبت أن الوصي يكون وليًّا فإنه يزوج البكر البالغ بإذنها لأن أحدًا لا يقوم مقام الأب في الإجبار، وليس للأب أن يجعل للوصي (3) الإجبار، ولأن الأب إنما ملك ذلك لمعنى يرجع إليه لا يوجد في غيره، فإن كانت البكر صغيرة انتظر بلوغها ثم استأذنها إلا أن يكون الأب عيَّن له من يعقد عليها، فله أن يعقد عليها حال صغرها لأن ذلك الإجبار من الأب لأنه من اجتهاده والوصي كالوكيل. فصل [10 - في العقد على الصغير]: لا خلاف أن للأب أن يعقد على ابنه الصغير، وكذلك للولي عندنا غير الأب من وصي أو حاكم ولا خيار له إن بلغ إلا أن يطلق ابتداء ويلزمه نصف الصداق المسمى إن لم يكن دخل بعد البلوغ (4)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن للصبي الخيار إذا بلغ (5)، وللشافعي في قوله: ليس للولي إنكاحه صغيرًا (6) ودليلنا على جوازه أنه عقد معاوضة رآه الولي حظًّا، فجاز له فعله كالبيع والشراء ولأنه عقد معاوضة يجوز أن يليه الصغر بنفسه إذا بلغ (7)، فكان للولي   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 173، مختصر المزني ص 165. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (723). (3) في (ق): للموصي. (4) انظر: المدونة: 2/ 149 - 150، التفريع: 2/ 30 - 31، الكافي ص 235. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 173، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 10. (6) انظر مختصر المزني ص 165 - 166، المهذب: 2/ 40. (7) إذا بلغ: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 أن يعقده بحق النظر كالإجازة، ولأنه يلي على ماله فجاز أن يجبره على النكاح كالأب ولا يلزم على الشيء مما ذكرناه الصغيرة لأنها لا تجبر باجتهاد غير الأب، ودليلنا على أنه لا خيار له أنه نكاح عقده من يلي النظر في ماله كعقد الأب واعتبارًا بالبيع والإجارة. فصل [11 - في إجبار البالغ المولى عليه]: وفي إجبار المولى عليه (1) خلاف (2)، فعند عبد الملك بن الماجشون ليس للولي إجباره، وعند ابن حبيب له ذلك: وجه نفي الإجبار أن إنكاح الغلام طريقه الملاذ، فلم يكن له إجباره عليه كسائر الملاذ والشهوات، ولأن النكاح لا مصلحة له فيه من طريق المال لأنه يوجب عليه مهرًا ونفقة، وإنما المصلحة فيه من طريق الحاجة إليه، فإذا لم يحتج إليه لم يكن للولي إجباره عليه. ووجه إثباته اعتباره بالصغير، ولأنه عقد معاوضة كالبيع والشراء، ولأن الولاية تثبت عليه لنقصه عن معرفة حظه ومصالحه وذلك لا يخص (3) بعض مصالحه دون بعض ولو اعتبرنا رضاه لم تؤثر الولاية فيه شيئًا. فصل [12 - صداق زواج الابن الصغير]: إذا زوج الأب ابنه الصغير فإن سمى الأب الصداق عليه لزمه وكان دينًا عليه للمرأة، وإن أطلق ولم يسم على من الصداق (4) نظر، فإن كان للصبي مال فالصداق عليه (5)؛ لأن من حق عقود المعاوضات أن يكون العوض على من يملك المعوض عنه، كما لو اشترى ثوبًا أو عقارًا، وإن لم يكن له مال فالصداق   (1) المولى عليه: وهو السفيه المبذر لماله (التفريع: 2/ 56). (2) انظر: التفريع: 2/ 56، الكافي ص 233 - 234. (3) في (م): يختص. (4) على من الصداق: سقطت من (م). (5) انظر: المدونة: 2/ 149 - 150، التفريع: 2/ 31، الكافي ص 235 - 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 على الأب لأنه ليس من النظر أن يلزم الأب ذمة الابن دينًا لا يحتاج إليه، لأن الصبي لا يحتاج إلى التزويج، وإنما يجوز (1) ذلك للأب إذا رأى ذلك حظًّا ونظرًا، وهذا بالعاجل إلزام ذمته دينًا لا يقدر على أدائه في الحال ولا يدري أييسر من بعد أم يبقى على الإعسار (2) فيكون الصداق على الأب، وإن أيسر الابن من بعد لم ينتقل الوجوب إليه لأنه قد استقر على الأب، فإن أعسر الأب بعد بلوغ الابن وقبل دخوله بالمرأة، وقالت المرأة: لا أسلم نفسي إلا بعد قبض الصداق، قيل للابن: إن أردت فأدِّ الصداق وإلا فطلق ولا يلزمك شيء (3). ...   (1) في (م): جوز. (2) في (م): على إعساره. (3) شيء: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 باب: [خلع الأب على ولده الصغير] خلع الأب على ولده الصغير جائز عليه ذكرًا كان أو أنثى (1) خلافًا لأبي حنيفة في منعه ذلك في الموضعين (2)، وللشافعي في إجازته ذلك في الذكر ومنعه في الأُنثى (3)، فدليلنا أن الأب لما كان هو الناظر للابن والقائم بمصالحه وجاز أن تكون المصلحة في أن يطلق عليه بمال يأخذه له جاز ذلك له، ولأنه إخراج ملك عنه بعوض، فجاز إذا رآه حظًّا كالبيع، واعتبارًا بالصغير مع الشافعي، ودليلنا على جوازه في الصغيرة أن أبا حنيفة يوافقنا في أن له أن يعقد عليها بأقل من مهر مثلها إذا رأى ذلك حظًّا، ولا فرق بين ذلك وبين مسألتنا لأنه قد يكون الحظ لها في الفراق والأب غير متهم عليها. فصل [1 - إنكاح الأب البكر بأقل من صداق مثلها]: يجوز للأب إنكاح البكر بأقل من صداق مثلها إذا رآه حظًّا (4) خلافًا للشافعي (5) لأن المقصد من النكاح الألفة (6) والمواصلة دون المغابنة والمتاجرة والأب غير متهم عليها، فقد يرى من الحظ إنكاحها بأقل من مهر المثل لأنه يضعها مع من يحسن عشرتها ويعود عليها معه من النفع أضعاف ما ترك من تمام المهر، ولأنه قد ثبت من أصلنا أن للأب أن يعفو عن نصف صداق البكر إذا   (1) انظر: المدونة: 2/ 239، التفريع: 2/ 30. (2) انظر: شرح فتح القدير: 4/ 137، حاشية ابن عابدين: 3/ 458. (3) انظر: مختصر المزني ص 165. (4) انظر: المدونة: 2/ 142 - 143، التفريع: 2/ 51، الرسالة ص 196 - 197، الكافي ص 254. (5) انظر: مختصر المزني ص 183. (6) في (م): العفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 طلقت قبل الدخول لأنه قد يرى ذلك حظًّا، فكذلك في مسألتنا إذا طلقت البكر قبل الدخول فللأب العفو عن نصف الصداق الواجب لها خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (1)، لقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (2)، وهذه كناية الغائب وافتتاح الخطاب للمواجه (3)، فدل على أنه أراد غير الأزواج المواجهين، وليس إلا الأب، ولأن في حملها على الزوج تكرارًا لأنه قد ذكر عفوه لقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (4)، ولا وجه لذلك مع إمكان حملها على استئناف فائدة، ولأن قوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (5) يفيد أن تكون بيده في الحال التي يعفوا فيها عقدته (6) ولا يصلح حمله على الزوج إلا أن يضمر فيه الذي كان بيده وحمله على الأب غير محتاج إلى إضمار (7)، ولأنه تعالى قصد بيان العفو من كلا الطرفين من جهة النساء، ومن جهة الأزواج ومفصلًا من جهة النساء فأضاف العفو إلى من يلي نفسه منهن وهي الثيب، وإلى من يلي الأبكار وهو الآباء، ولأنهن أحد نوعي الزوجات، فتعلق الندب إلى العفو بجهتهن كالثيب، ولأنه ولي يملك الإجبار، فجاز له العفو عن صداقها أصله السيد في أمته. فصل [2 - في تزوج الولي وليته من نفسه]: يجوز للولي أن يزوج وليته من نفسه (8) خلافًا للشافعي (9) لقوله صلى الله   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 173، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 14 مختصر المزني ص 183. (2) سورة البقرة، الآية: 237. (3) في (م): للمواجهة. (4) سورة البقرة، الآية: 237. (5) سورة البقرة، الآية: 237. (6) في (ق): عقده. (7) في (م): الإضمار. (8) انظر: المدونة: 2/ 148 - 149، التفريع: 2/ 32، الكافي ص 234. (9) انظر: مختصر المزني ص 164 - 165، المهذب: 2/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" (1) فعم، ولأنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها (2)، ولأنه ولي كالإمام الأعلى، ولأنه عقد على امرأة يجوز للعاقد عليها تزويجها فأشبه عقده عليها كالأجنبي أو إذا عقد عليها الحاكم. فصل [3 - لا فرق أن تكون الولاية بنسب أو وصية أو ولاية حكم]: ولا فرق بين أن تكون ولايته عليها بنسب (3) أو وصية أو ولاء حكم (لأن كل هذا يثبت له به الولاء وينبغي له أن يشهد لها على رضاها احتياطًا) (4)، خيفة إنكارها لا أن ذلك شرطًا في صحة العقد، فإن لم يشهد واعترفت فالنكاح ثابت. فصل [4 - المرأة تأذن لأوليائها تزويجها من عينته أو ممن شاؤوا]: وللمرأة أن تأذن لجماعة أوليائها أن يزوجوها من واحد بعينه أو ممن شاؤوا (5) من يؤديهم الاجتهاد إليه أو من واحد غير معين من جملة جماعة بأعيانهم، ولكل واحد أن ينكح على انفراده من غير انتظار للآخر، فإن زوجها أحدهم (6) ثم علم الباقون ولم يكن فيهم من عقد لها على زوج فهي زوج (7) لمن زوجها الولي، وليس للباقين أن يعقدوا وإن لم يعلم الباقون حتى عقده واحد منهم نظر: فإن عرف أنه قد عقد عليها اثنان أو ثلاثة قبل الدخول بها نظر أيها سبق (8)،   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (727). (2) أخرجه البخاري في النكاح، باب: من جعل عتق الأمة صداقها: 6/ 121، ومسلم في النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها: 2/ 154. (3) في (م): بسبب. (4) ما بين قوسين سقط من (م)، ومن (ر). (5) انظر: المدونة: 2/ 143 - 145، التفريع: 2/ 35، الرسالة ص 197، الكافي ص 233 - 234. (6) في (م): واحد. (7) في (م): زوجة. (8) في (م): الأسبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 فإن عرف كان هو الزوج وبطل عقود الباقين، فإن أشكل ذلك فسخت العقود كلها وعقد لها عقد مستأنف على من شاءت منهم أو من غيرهم، وإن لم يعلم ذلك حتى دخل بها واحدا منهم ثبت العقد له وبطلت عقود الباقين كان الأول أو الآخر، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إنها تكون للأول دخل الثاني أو لم يدخل بها (1)؛ لأنه إجماع الصحابة، وروي ذلك عن عمر والحسن بن عليّ ومعاوية (2)، وقيل: إنه مروي عن عليّ (3) رضوان الله عليهم، ولا مخالف لهم، ولأن المرأة لما كانت مضطرة إلى إذن أوليائها في العقد عليها من حيث كانت لا يجوز لها أن تلي العقد على نفسها وثبت أنه لا يلزم أحدهم التوقف (4) عن العقد حتى ينظر هل عقد غيره أم لا؟ فكل واحد يعقد على من لا يتحقق أنه لا زوج لها بالشك في ذلك، ويجوز أن يكون لها زوج، وكذلك المتزوج يقدم على من يجوز أن تكون زوجة لغيره مع وجود زوجة لغيره مع وجود الإمارة المؤذنة بذلك وهو الإذن للولي الآخر في النكاح وإمكان أن يكون قد سبق منه عقد لغيره، والأصول مبنية على منع العقد على من يشك في أن لها زوجًا مع وجود الإمارة المجوزة لذلك، فلولا أن هذا النكاح يثبت له حكم وإلا لم يجز أن يباح للولي إيقاعه ولا للمتزوج استباحته ألا ترى أن نكاح المعتدة والمحرمة لما لم يكن له وجه يثبت معه لم يجز الإقدام عليه، وإذا ثبت ذلك لم يبق إلا ترجيحه بالوطء لأن أحدًا لم يرجحه بغيره. فصل [5 - في ولاية الفاسق]: تكره ولاية الفاسق إذا وجد ولي عدل فإن عقد جاز (5) خلافًا للشافعي (6)   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 174، الأم: 5/ 16 - 17. (2) انظر: عبد الرزاق: 6/ 233، والبيهقي: 7/ 141. (3) أخرجه البيهقي: 7/ 141. (4) في (م): التوقيف. (5) انظر: التفريع: 2/ 32 - 33. (6) انظر: الأم: 5/ 12 - 14، الإقناع ص 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 لأن الغرض من الولي الحظ للمزوجة (1)، وإيقاعها مع كفؤ والفاسق لا ينافي ذلك بل ربما أثر في زيادة الاحتياط والأنفة من العار، ولأنه عصبة حر مسلم يصح أن يعقد على نفسه، فجاز أن يعقد على وليته كالعدل. فصل [6 - في منع كون المسلم وليًّا للنصرانية]: لا يكون المسلم وليًّا للنصرانية (2) لقوله عَزَّ وجَلَّ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3)، ولأن الكفر نقص أبلغ من الرق لأن نقص الرق أصله الكفر، وإذا ثبت ذلك ولم تكن للعبد ولاية نكاح كان الكافر بذلك أولى، وللسيد المسلم أن يعقد على أمته الكافرة بالرق لا بالولاية كما يعقد عليها عقد الإجارة. فصل [7 - في كون الرق ينافي ولاية النكاح]: الرق ينافي ولاية النكاح (4) لأن العبد ناقص نقصًا أوجبه الكفر على ما بيناه، ولأن كل نقص منع وجوب صلاة الجمعة وتقلد الحكم منع ولاية عقد النكاح الأنوثية، ولا يكون العبد وليًّا على ابنته ولا غيرها، وحكم المكاتب والمدبر والمعتق بعضه أو إلى أجل حكم العبد القن في ذلك. فصل [8 - العبد لا يتزوج إلا بإذن سيده]: وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده وكذلك الأمة (5) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر" (6)، وهذا أبلغ شيء في   (1) في (م): للمتزوجة. (2) انظر: التفريع: 2/ 37، الكافي ص 232. (3) سورة المائدة، الآية: 51. (4) انظر: المدونة: 2/ 145، 148، التفريع: 2/ 35. (5) انظر: المدونة: 2/ 145، 153، التفريع: 2/ 36، الرسالة ص 199 - 200 الكافي ص 245. (6) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: في نكاح العبد بغير إذن سيده: 2/ 562، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده: 3/ 419، والحاكم: 2/ 194، وقال: صحيح الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 الحظر، ولأن تصرفهما مملوك عليهما للسيد، فلم يكن لهما إتلافه عليه، ولأن الأمة إذا كانت ممن يجوز للسيد وطئها فوطؤها حق له فليس لها منعه منه. فصل [9 - في إجبار السيد العبد والأمة على الزواج]: وللسيد أن يجبرهما على عقد النكاح خلافًا للشافعي (1) في العبد لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (2)، ولم يشترط رضاهم، ولأنه عقد على منفعة كالإجارة، ونقيس العبد على الأمة بعلة ثبوت الرق. فصل [10 - في عدم إجبار السيد على إنكاح عبده]: ولا يجبر السيد على إنكاح العبد إذا طلب ذلك خلافًا للشافعي (3)، لأنه مملوك كالأمة، ولأن القصد منه اللذة كاللباس والطيب، ولأنه عيب فيه كالأمة. فصل [11 - في إذن السيد بزواج العبد والأمة]: إذا ثبت أنه لا يجوز لعبد ولا أمة أن يتزوجا بغير إذن سيدهما، فإن أذن سيدهما جاز لأنه مختار لترك حقه، فللعبد أن يلي نكاح نفسه لأنه من أهل العقود، وإذا وكل من يزوج الأمة جاز لأنها ليست من أهل العقد على نفسها لنقصها بالأنوثية كالحرة، بل الأمة أولى لأنها ناقصة بالأنوثية والرق (4). فصل [12 - حكم العبد يتزوج بغير إذن سيده]: فإن تزوجا بغير إذن السيد: فأما العبد فالأمر فيه للسيد، فإن أجاز نكاحه جاز وإن رده انفسخ، وقال أبو الفرج (5): القياس لا يصح بوجه وهو قول   (1) انظر: الأم: 5/ 41، الإقناع ص 136. (2) سورة النور، الآية: 32. (3) انظر: الأم: 5/ 41، الإقناع ص 136. (4) انظر: المدونة: 2/ 161 - 162، التفريع: 2/ 35، 45، الرسالة ص 199 - 200. (5) أبو الفرج: عمرو بن محمد بن عمرو الليثي البغدادي، كان إمامًا في اللغة والفقه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 الشافعي (1)، ودليلنا أن العقد لا يمتنع وقوفه على الفسخ، وإنما يمتنع وقوفه على الإجازة كنكاح العنين والخصي (2) والحرة والعبد وغير ذلك، فكذلك نكاح العبد. فإذا ثبت ذلك، فإن أجازه السيد جاز لأنه قطع حقه من الفسخ، وإن رده فسخ كما لو عقد على نفسه عقد إجارة، فإن كلم السيد فيه فقال: لا أجيزه، ثم قال: من بعد قد أجزته: فإنه على وجهين إن أراد بقوله أولًا لا أجيزه، وإني قد فسخته فقد بطل ولا يلتفت إلى قوله من بعد قد أجزته لأن ما تقدم بطلانه لا يصح، وإن كان قوله من بعد (3) لا أجيزه على طريق الإنكار والإرهاب، وقصد التروية والفكر كأنه يجيب بذلك من سأله أن يجيزه ثم قال من بعد قد أجزته، فإنه يصح، فإذا ثبت ذلك فإن فسخ قبل الدخول فلا شيء للزوجة لأن النكاح الفاسد إذا فسخ قبل الدخول لم تستحق فيه بدلًا، وإن كان قد دخل بها ترك لها من الصداق ربع دينار لأن الاستمتاع لا يعري من بدل وأقله ما يكون مهرًا وترجع السيد بما فيه لأنه حق له ولا حجة لها لأنها هي التي أتلفت بضعها، والعقد على من تصرفه مملوك عليه، فإن كانت موسرة أخذ منها، وإن كانت معسرة كان في ذمتها، وتتبع هي العبد إذا عتق به لأنه غرها، وإن كان بين لها فلا اتباع لها، وكذلك إن فسخه عند سيده أو سلطان، وفسخه إن فسخ بطلاق لأنه ليس بغالب إذا لو أجاره السيد لجاز المقام عليه، وإذا جاز عقده فليس له فسخه بعد إجازته ولا أن يطلق عليه لأن صحته قد ثبتت والطلاق إلى من يملك منافع البضع، وله إن طلق أن يرتجع وإن كره السيد لأن الرجعة من   = له كتاب "الحاوي" في مذهب مالك و"اللمع" في أصول الفقه، (ت 331 هـ) (الديباج: 2/ 127، شجرة النور: 1/ 79). (1) انظر: الأم: 5/ 43 - 44، مختصر المزني ص 168. (2) العنين: الذي لا يقدر على إتيان النساء، ولقد سبق ذكره في العنة، والخصي: زوال الانثيين، (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 168). (3) من بعد سقطت من (ق) ومن (ر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 حقوق النكاح، ويساوي في ذلك كله تزويجه بأمة سيده أو بأجنبية، وإن زوجه من أمته ثم باعها فهما على نكاحهما قبل الدخول أو بعده لأن بقاء ملك السيد عليهما ليس بشرط في بقاء العبد، وليس للمبتاع أن يفسخ العقد كما لم يكن ذلك للسيد الأول ولكنه عيب إن رضي به، وإلا رده هذا الكلام في العبد (1). فصل [13 - في تزوج الأمة بغير إذن سيدها]: فأما الأمة إذا تزوجت بغير إذن سيدها، فإنه على وجهين: إن باشرت العقد بنفسها (2)، فالنكاح فاسد لا يصح ولا يلتفت إلى إجازة السيد لأن فساده في العقد لحق الله تعالى، فإن ردت أمرها إلى من يعقد عليها من الرجال ففيها روايتان: إحداهما أنه كعقدها على نفسها لأن غير السيد لا يزوج به السيد لأن السيد يزوج بالملك وغيره يعقد بالولاية، وذلك لا يوجد مع الملك، والأخرى أنه يجوز بإجازة السيد ويبطل برده لأن السيد لو أذن لهذا العاقد لجاز العقد كما لو أذن للعبد أن يعقد على نفسه لصح، فكان وقوعه من غير إذنه موقوفًا على إجازته ورده (3). فصل [14 - في عدد ما ينكحه العبد]: للعبد أن ينكح أربعًا (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (6) فعم، ولأن كل عدد جاز للحر أن   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 161 - 166، التفريع: 2/ 45، 57، الرسالة ص 199 - 200، الكافي ص 245 - 248. (2) في (م): على نفسها. (3) انظر: المدونة: 2/ 160 - 166، التفريع: 2/ 45، 57، الرسالة ص 199 - 200، الكافي ص 245 - 248. (4) انظر: المدونة: 2/ 163، الرسالة ص 199، الكافي ص 245. (5) انظر: مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 23، الأم: 5/ 41. (6) سورة النساء، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 يجمع بينه جاز للعبد كالاثنتين، ولأن من جاز له أن ينكح جاز أن ينكح أربعًا كالحر، ولأن النكاح طريقة الملاذ والشهوات، فكان العبد مساويًا فيه للحر كالأكل واللباس والطيب. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 باب: [الإشهاد على عقد النكاح] يصح عقد النكاح من غير إشهاد (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)؛ لأنه عقد من العقود فأشبه سائرها، ولأنه معنى يقصد به التوثق، فلم يكن شرطًا في انعقاد النكاح كالرهن والكفالة، ولأن كل من لم يحتج إلى حضوره في إيجاب أو قبول لم يكن حضوره شرطًا في عقد النكاح أصله الزوجة. فصل [1 - في أن الشهادة شرط في الكمال]: إذا ثبت أنه ليس بشرط في الصحة، فإنه شرط في الكمال والفضيلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (3)، وقد ثبت أنه لم يرد بذلك الصحة فلم يبق إلا نفي الكمال والفضيلة، ولأن الإعلان والإشهاد مستحبان في عقد النكاح فالإشهاد أولى، ولأن ذلك إجماع الصحابة (4) أعني أن للشهادة تأثيرًا فيه. فصل [2 - في إعلان النكاح]: يستحب الإعلان في النكاح والإشادة به ونشره (5) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا بالنكاح واضربوا عليه بالغربال" (6)، وروي: "أظهروا   (1) انظر: المدونة: 2/ 158، المقدمات: 1/ 479، الرسالة ص 196، الكافي ص 229، وعندهم أن الإشهاد يجب عند الدخول. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 72، الأم: 5/ 22. (3) سبق تخريج الحديث ص 727. (4) انظر: الموطأ: 2/ 235. (5) انظر: المدونة: 2/ 158 - 159، التفريع: 2/ 33 - 34، الكافي ص 229. (6) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: إعلان النكاح: 1/ 611، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في إعلان النكاح: 3/ 399، وقال: حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 النكاح" (1)، ولنهيه عن نكاح السر (2)، ولأن في إظهاره حفظًا للأنساب واحتياطًا من جحدها لأن الزوج قد ينكر النكاح وتكون المرأة حاملًا، فلا يكون لها سبيل إلى إثباته فيؤدي إلى إضاعة النسب، فإذا كان هناك إشهاد وإعلان لم يمكنه ذلك. فصل [3 - التواصي بكتمان النكاح]: وإذا تواصى بكتمان النكاح بطل العقد خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال" (4)، والتواصي بكتمانه ضد لذلك، وروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح السر (5)، ولأن التواصي بالكتمان من صفة الزنا، ففي إباحة عقد النكاح معه ذريعة إلى إضاعة الأنساب. فصل [4 - إذا دعت المرأة إلى أن تزوج من كفؤ]: إذا دعت المرأة إلى أن تزوج من كفؤ فليس لوليها الامتناع (6)، لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (7)، ولأن ذلك حق للنساء على الأولياء، كما أن منعهن من غير الكفاءة حق عليهن للأولياء، فإذا لم يكن ذلك لهن لأجل حق الأولياء فكذلك ليس للأولياء الامتناع من حقوقهن في إجابتهن إلى الأكفاء.   (1) رواية: "أظهروا النكاح" أخرجها ابن ماجه -التي سبقت- والبيهقي: 7/ 288، والحاكم: 2/ 183، وقال: صحيح الإسناد. (2) أخرجه أحمد: 4/ 77، قال الهيثمي: في سنده عبد الله بن ضميرة وهو ضعيف (مجمع الزوائد: 4/ 288). (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 171 - 172، الأم: 5/ 22. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) انظر: المدونة: 2/ 141 - 143، التفريع: 2/ 35، الرسالة ص 196 - 197. (7) سورة البقرة، الآية: 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 فصل [5 - امتناع الولي في تزويج المرأة من كفؤ]: فإن امتنع الولي زوجها الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" (1)، فجعلها مع اختلافهم في حكم من لا ولي له للحوق الضرر بها مع امتناعه، ولأن ذلك حق للولي ما لم يختر إبطاله فإذا اختار تركه انتقلت (2) الولاية إلى الإمام. فصل [6 - الكفاءة]: والكفاءة المعتبرة هي الدين دون النسب (3) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4) في اعتبارهما للنسب، لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (5)، فبين أن المساواة شاملة وأن المفاضلة عند الله هي بالدين والتقوى، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا آتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" (6)، فاعتبر الدين والأمانة دون النسب، وقوله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها فعليك بذات الدين تربت يداك" (7) فأخبر عن أغراض النكاح فأمر بذات الدين وجعله العمدة، وقد علمنا أنه لا يأمرنا بغير الكفاءة.   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا ص 729. (2) انتقلت: سقطت من (م). (3) الكفاءة: هي المماثلة والمقاربة (حدود ابن عرفة ص 163)، وانظر الرسالة ص 198 - 199، الكافي ص 230. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 170، الأم: 5/ 15. (5) سورة الحجرات، الآية: 13. (6) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: الكفاءة: 1/ 632، والترمذي، باب: إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه: 3/ 395، وقال: حسن غريب. (7) أخرجه البخاري في النكاح، باب: الأكفاء في الدين: 6/ 122، ومسلم في الرضاع، باب: استحباب نكاح ذات الدين: 2/ 1086. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 فصل [7 - إذا رضيت بغير كفؤ وأباه الأولياء]: فإن رضيت بغير كفؤ وأباه الأولياء لم يكن لها أن تنكح إلا برضاهم (1)، لأن ذلك حق لهم إذا كان وضعها نفسها في غير كفؤ يلحق العار بهم ولهم دفع العار عن أنفسهم، ولأن أصل الولاية إنما وضعت لهذا المعنى، وهو أن النساء لشهوتهن النكاح وشدة ميلهن إليه يضعن أنفسهن في الكفؤ وغير الكفؤ، فمنعهن من تولي العقد بأنفسهن، وجعل أمرهن إلى الأولياء في الحديث: "إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فأنكحوه" (2)، فدل على أنه لا يلزمهم مع عدمه. فصل [8 - إذا رضيت الزواج بغير كفؤ والأولياء كذلك]: وإن رضيت هي والأولياء بغير كفؤ جاز (3) خلافًا لمن حكي عنه أنه لا يجوز (4)؛ لأن الحق في ذلك لا يخرج عن المرأة والأولياء، فإذا حصل الرضا بتركه من جميعهم جاز لأن أحدًا لا يعترض عليه في ترك حقه ما لم يتعلق بذلك إسقاط حق (5) غيره. فصل [9 - إذا رضيت الزواج بعبد]: فإن رضيت الزواج بعبد جاز عند ابن القاسم، ولم يجز عند المغيرة وسحنون (6)، وهذا هو الصحيح، لأن الحرية من الكفاءة والعار يدخل على الأولياء بوضع وليتهم نفسها تحت عبد، فكان لهم منعها.   (1) انظر: المدونة: 2/ 143 - 144، التفريع: 2/ 35، الكافي ص 323 - 234. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) انظر: المدونة: 2/ 147 - 149، التفريع: 2/ 35. (4) حكي عن الإمام أحمد وسفيان بن عيينة (انظر: المغني: 6/ 480). (5) حق: سقطت من (ق). (6) انظر: الرسالة ص 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 فصل [10 - التوكيل في عقد النكاح]: التوكيل في عقد النكاح جائز (1)، لأنه عقد معاوضة، فجاز التوكيل فيه كسائر عقود المعاوضات، فإن سمي له امرأة بعينها وسمي صداقها جاز كتوكيله إياه على شراء سلعة بعينها بثمن معلوم فيجوز، وإن أطلق الوكالة جاز إذا زوجه من يشبه أن تكون من نسائه ولا يلزمه من لا تشبه أن تكون من نسائه لأن إطلاق الوكالة يقتضي نساء المثل كما يقتضي في البيع ثمن المثل (2). فصل [11 - إذن المرأة لوليها بعقد زواجها]: يجوز للمرأة أن تأذن لوليها في أن يزوجها، وله أن يخطب عليها، وإذا حضر كفؤ لها فهل يجوز له أن يزوجها منه قبل إعلامها بعينه أم لا ففيها روايتان (3): إحداهما: أن ذلك له لأن تفويضها إليه رضا باجتهاده، فقام بذلك مقام التعيين، والأخرى أن ذلك ليس له لاختلاف أغراض النساء في أعيان الرجال، وإن تساووا في الكفاءة، وعلى الروايتين معًا ليس له أن يزوجها من نفسه إلا من بعد أن يعلمها فتأذن له لأنه يتهم في تقديم حظه ومحاباة نفسه، ولأنها لو أرادت ذلك لذكرته له أو أشعرته به بخلاف الغير، لأن ذلك لا ينحصر فكان إمساكها عنه دلالة على أنها غير راضية به وعمن عداه غير دال على ذلك. * * *   (1) انظر: المدونة: 2/ 147، 157، التفريع: 2/ 35. (2) في (م): ثمن المتاع. (3) انظر: المدونة: 2/ 157 - 158، التفريع: 2/ 35، الكافي ص 234 - 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 باب: [الصداق] (1) لا يجوز نكاح بغير صداق (2) لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (3)، وقوله: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (4)، وقال صلى الله عليه وسلم للذي خطب المرأة: "هل معك ما تستحلها به" (5). فصل [1 - لا حد لأكثر الصداق]: لا حد لأكثر الصداق إجماعًا (6)، وأقله محدود عندنا خلافًا للشافعي (7) في قوله: لا حد له، لأنه عضو محرم تناوله لحق الله تعالى لا يستباح إلا بمال فوجب أن يكون ذلك المال مقدرًا (8) أصله قطع اليد في السرقة، ولأن المهر في النكاح حق الله تعالى، بدليل أنهما لو تراضيا على إسقاطه لم يجز، وحقوق الله تعالى في الأموال مقدرة كالزكاة والكفارات. فصل [2 - أقل الصداق]: إذا ثبت أنه مقدر فتقديره بربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق وما   (1) الصداق -فيه لغات، أكثرها فتح الصاد والثانية كسرها-: وهو مهر المرأة (الفواكه الدواني: 2/ 3). (2) في جملة أحكام الصداق انظر: المدونة: 2/ 170 وما بعدها، التفريع: 2/ 37، الرسالة ص 196، الكافي ص 249. (3) و (4) سورة النساء، الآية: 24. (5) أخرجه البخاري في النكاح، باب: السلطان ولي: 6/ 134، ومسلم في النكاح، باب: الصداق: 20/ 1041، ومالك: 2/ 526. (6) انظر: شرح مسلم- للنووي: 6/ 156، المغني: 6/ 681. (7) انظر: الأم 5/ 58 - 59، الإقناع ص 140 - 141. (8) في (م): لذلك المال مقدرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 يساوي أحدهما (1)، خلافًا لأبي حنيفة في تقديره بعشرة دراهم (2)، لأن كلا منا بناه (3) على ما يجب فيه القطع وقد ثبت عندنا بما نبينه في كتاب القطع (4) أن أقل ما يقطع فيه اليد ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق، فيجب كون ذلك أقل المهور. فصل [3 - إذا كان الصداق منفعة]: يستحب (5) أن يكون الصداق أعيانًا متملكه ويكره أن يكون منفعه من المنافع التي تتملك بالإجارة للاختلاف في جوازه، وإن عقد به جاز (6) خلافًا لمن منعه (7) لقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (8)، ولأنه أحد نوعي الأعواض في المبيعات، فجاز عقد النكاح به كالأعيان لأن المنافع في معنى المال. فصل [4 - فيما لا يجوز أن يكون مهرًا]: لا يجوز أن يكون المهر محرمًا لا يصلح (9) أن يملك كالخمر والخنزير، ولا غررًا كالعبد الآبق والجمل الشارد والجنين في بطن أمه والثمرة التي لم يبد صلاحها على التبقية وما أشبه ذلك، ولا خلاف في منع ابتداء العقد به، فإن وقع ففيه روايتان: إحداهما فساد العقد وفسخه قبل الدخول وبعده، والأخرى   (1) في (م): حدهما. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 184، ومختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 14. (3) في (ق): بناؤه. (4) انظر الصفحة (1106). (5) في (م): يجب. (6) انظر: المدونة: 2/ 170 - 171، التفريع: 2/ 37، الكافي ص 249. (7) قال أبو حنيفة: منافع الحر لا تكون صداقًا لأنها ليست مالًا (انظر بدائع الصنائع: 3/ 1429، المغني: 6/ 682). (8) سورة القصص، الآية: 27. (9) في (م): يصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 أن يفسخ قبل الدخول ويثبت بعده ويجب صداق المثل (1)، وعند أبي حنيفة والشافعي (2): أن العقد صحيح لا يفسد بفساد المهر، ويجب فيه صداق المثل ولا يفسخ، فإذا قلنا: أن العقد فاسد فوجهه قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (3)، فعلق الإحلال بشرط الابتغاء بالمال: والخمر والخنزير ليسا بمال لنا (4)، ولأنه عقد معاوضة فوجب أن يفسد بفساد العوض كالبيع، ولأن المقصود به إذا كان فاسدًا وجب فساد العقد أصله نكاح الشغار. ووجه التصحيح (5): أن عقد النكاح مفارق لعقد البيع في موضعه لأن سائر عقود المعاوضات العوض مقصود منها لأن طريقها المغابنة والمكايسة، وليس كذلك النكاح لأنه مبني على المواصلة والمكارمة دون العوض، ألا ترى أنهما إذا عقدا من غير تسمية صداق، فإن العقد جائز ولو سكتا عن ذكر العوض في البيع والإجارة لم يصح العقد، ويفارق نكاح الشغار لأنه يفسد لكون المقصود به بخلاف مسألتنا. فصل [5 - في تأويل قول مالك إنه يفسخ قبل الدخول]: إذا ثبت ما ذكرناه فقد اختلف أصحابنا في تأويل قول مالك إنه يفسخ قبل الدخول: فمنهم من حمله على الإيجاب تغليظًا وعقوبة لهما لئلا يعودا إلى مثل ذلك، ومنهم من حمله على الاستحباب احتياطًا وخروجًا من الخلاف، فإن وقع الدخول لم يفسخ لأن الصداق قد وجب فلا يؤخذ المعنى الذي لأجله يفسخ قبل الدخول.   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 170، التفريع: 2/ 37 - 41، الكافي ص 249. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 186 - 187، الأم: 5/ 47 - 57. (3) سورة النساء، الآية: 24. (4) لنا: سقطت من (ق). (5) في (م): الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 فصل [6 - فيمن تزوج امرأة على درهمين]: إذا تزوجها على درهمين، فاختلف أصحابنا (1): فعند ابن القاسم لا يفسخ النكاح ويجبر على أن يكمِّل الثلاثة دراهم ويمضي أو يفسخ إن لم يرضى، وعند غيره يفسخ وإن أكمل (2) المهر. فوجه قول ابن القاسم: إن المهر ليس بفاسد في عينه، وإنما منع العقد لقصور عن المقدار المعتبر فيه، ففارق الخمر والخنزير، ووجه الفسخ أنه عقد بما لا يستباح البضع (3) به كالخمر والخنزير. فصل [7 - استحباب دفع شيء من الصداق قبل الدخول]: يستحب لمن يتزوج أن يدفع شيئًا من الصداق قبل الدخول (4)، وأقله ربع دينار لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لما زوج فاطمة من عليّ - رضي الله عنهما - (5)، ولأن العوض في النكاح متأكد من الأعواض في سائر العقود لحرمة البضع، ولأن التراضي بإسقاطه غير جائز فوجب تأكيده عليها في التسليم، وإن لم يفعل جاز لأن تأخير القبض لا يخرجه عن الوجوب. وإنما استحببنا أن يكون أقل ما يقدم أقل ما يستباح به الفرج ليكون في معنى من يقدم على فرج قد ملك استباحته ملكًا منبرمًا لأنه لو اقتصر في المهر على ذلك القدر لجاز. فصل [8 - فسخ النكاح قبل الدخول]: كل فسخ يكون قبل الدخول تنفرد به المرأة فلا صداق لها معه، من ذلك الأمة   (1) انظر: المدونة: 2/ 173، التفريع: 2/ 38، الكافي ص 25. (2) في (م): كمل. (3) في (ق): الفرج. (4) انظر: المدونة: 2/ 170، التفريع: 2/ 38 - 39، الرسالة ص 196. (5) أخرجه البيهقي: 7/ 252، وأبو يعلى، والطبراني في الأوسط والكبير والبزار ورجال الطبراني رجال الصحيح (انظر مجمع الزوائد: 4/ 286). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 تعتق تحت العبد قبل الدخول فتختار نفسها، وكذلك لو ارتدت أو كانت أمة فباعها سيدها من زوجها أو لاعنها فالتعنت، ويفارق ذلك أن تختار نفسها بتمليكه أو تخييره فيجب لها نصف الصداق لأن الزوج هو السبب في الفسخ بتمليكه إياها (1) الفرقة، وكذلك لو أعسر بالصداق قبل الدخول أو جن فطلق عليه فلها نصف الصداق لأن ذلك من جهته، فكان كمن خيَّرها (2). والأصل في هذا الباب أن المرأة تملك الصداق بالعقد والتسمية ملكًا غير مستقر، وإنما يستقر بالموت أو بالدخول خلافًا للشافعي (3)، ولذلك (4) قلنا: إنه لو نمى في يدها أو نقص ثم طلقها كان النماء بينهما والنقصان عليهما، ولو تزوجها على شيء بعينه فتلف في يديه أو في يدها ثم طلقها قبل الدخول بها فلا شيء له عليها إذا كان تلفه بغير صنعها، ودليلنا أنه لو كان ملكها قد استقر عليه لم يجز أن يبطل بعد استقراره ولا أن يطرأ عليه ما يبطله كما لو دخل، وقد ثبت أنها لو ارتدت أو اختارت نفسها بالعتق قبل الدخول لمن تستحق شيئًا، أصله (5) لو طلقت قبل الدخول لملكت النصف دون الجميع، فدل ذلك على أن ملكها له غير مستقر، وأنه يستقر بالدخول أو الموت. فصل [9 - إذا اشترت بالصداق شيئًا من مصلحتها ثم طلقت قبل الدخول]: إذا قبضت الصداق فاشترت به شيئًا من مصلحتها أو مصلحة زوجها مما جرى العرف في موضعهما بأن تتجهز المرأة به لزوجها ثم طلقت قبل الدخول، فله نصف ما ابتاعته ولا يلزمها أن تغرم له نصفه عينًا، فلو طالبها بنصف ما ابتاعته   (1) في (م): بتمليكها إياه. (2) انظر: المدونة: 2/ 174 - 178، التفريع: 2/ 39 - 43، الرسالة ص 202، الكافي ص 251 - 253. (3) وقال الشافعي: إذا سمى فإنها تملكه بمجرد العقد ملكًا مستقرًا (انظر الأم: 5/ 60). (4) في (م): كذلك. (5) في (م)، و (ر) أصلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 فأرادت هي أن تتمسك به وتعطيه مثل نصف ما أعطاها عينًا لم يكن لها ذلك إلا برضاه، فإن كان الذي اشترته به شيئًا تختص هي بمنفعته، فإن عليها أن تغرم له نصف العين الذي أخذت منه (1)، وعند أبي حنيفة والشافعي يلزمها أن تغرم له نصف العين الذي أخذت منه على كل وجه (2)، ودليلنا أن العرف إذا كان جاريًا بأن المرأة تتجهز (3) للرجل، وأنه يلتمس ذلك وعليه مضت عادة أهل بلدهم وجب متى فعلته أن يكون عليها نصاب ما اشترته، لأنه على ذلك دخل فكأنها قد فعلته بأمره لأنه قد علم أنها تصرفه فيه، فإذا كان العرف جاريًا بذلك صار كأنه صرح فقال: قد أذنت لك أن تشتري بصداقك جهازًا، فإذا طلقها قبل الدخول لم يكن له إلا نصف ما اشترته به. ودليلنا على وجوب ما ذكرناه قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (4)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ صداق فاطمة - رضي الله عنها - فصرفه في جهازها من طيب وفراش ووسادتين على ما روي في الخبر (5) وفعله على الوجوب، ولأن عليًّا - رضي الله عنه - حكم بذلك في قضية ارتفع (6) إليه فيها: قضى على الأب بوجوب تجهيز ابنته، وقال للزوج لما طلق وطلب نصف ما دفعه وقال: أعطيت (7) دراهم وآخذ صوفًا وخرقًا فقال: أنت أضعت مالك (8)، ولم يخالف عليه أحد، فأما إذا صرفته في شيء تختص به مثل شراء عقار للتجارة (9)   (1) انظر: المدونة: 2/ 177 - 179، التفريع: 2/ 41، الكافي ص 252. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 188، الأم: 5/ 61 - 62. (3) في (ق): تجهز. (4) سورة الأعراف، الآية: 199. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (753). (6) في (م): ارتفعت. (7) في (م): أعطى. (8) أخرجه الإِمام مالك مختصرًا: 2/ 573. (9) للتجارة: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 أو تجارة أو غير ذلك فإنها تغرم (1) نصفه عينًا؛ لأنها انفردت بمنفعته دونه لأنه لم يدخل على ذلك، فكان كما لو قضت (2) به دينًا. فصل [10 - في صداق المثل]: صداق المثل: يراعى فيه حالها في جمالها ويسارها وأبوتها وأقرانها ممن يشبهها من عشيرتها وجيرانها كان من عصبتها أو من غير عصبتها (3) خلافًا للشافعي في مراعاته العصبة (4)؛ لأن صداق المثل يختلف ويقل ويكثر باختلاف ما ذكرناه في النساء من الجمال والمال والشرف، يدل عليه أن الإنسان يرغب في جمال المرأة فيبذل من الصداق أكثر مما يبذله للتي هي دونها في الجمال، وكذلك في (5) التي لها مال لارتفاقه بمالها وانتفاعه به، فيبذل لها أكثر مما يبذل للفقيرة، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون هذا هو المعتبر دون نساء العصبات، فإن لم يسلموا دللنا عليه (6) بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها فعليك بذات الدين تربت يداك" (7)، فأخبر أن الغرض الذي يقصد من المرأة وعليه يبذل الصداق هو هذه الأشياء، فدل على أن الاعتبار بها دون غيرها، ولأن نساء العصبة قد تختلف أحوالهن وحالها فيختلف الصداق باختلاف ذلك بحسب قلة الرغبة وكثرتها، فكان الاعتبار به دون ما لا يؤثر فيه. فصل [11 - إذا رضيت المرأة بأقل من صداق المثل]: إذا رضيت المرأة بأقل من صداق مثلها وهي ثيب لا حجر عليها جاز، ولم   (1) في (م): تصرف. (2) في (م): قبضت. (3) انظر: المدونة: 2/ 181 - 182، المقدمات: 1/ 476، الكافي ص 250. (4) انظر: الأم: 5/ 71 - 72، مختصر المزني ص 182. (5) في: سقطت من (ق). (6) في (ق): فإن لم يسلموه دليلنا. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (747). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 يكن للولي الامتناع من إنكاحها ولا اعتراض بالفسخ إن كان زَوَّجها ولي غيره (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قول: أن مهر المثل من الكفاءة (2)، لأن كل من لم يكن له الاعتراض عليها في جنس المهر لم يكن له الاعتراض في مبلغه أصله ابن الأخ مع وجود الأخ، ولأنها حرة رشيدة لها التصرف في بدل منافعها فواجب أن لا اعتراض عليها في مالها أصله إذا أجرت نفسها للخدمة بأقل من أجره مثلها. فصل [12 - نكاح الشغار]: نكاح الشغار (3) باطل (4) وصورته: أن يقول: زوجني ابنتك على أن أزوجك ابنتي، فيجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى من غير أن يذكرا مهرًا سواه، فهذا باطل يفسخ قبل الدخول وبعده، ولا يصح بوجه في المماليك ولا الأحرار نحو قوله: زوجني أمتك على أن أزوجك أمتي على أن لا صداق بيننا فهو كقوله في الحرائر: زوجني ابنتك على أن أزوجك ابنتي ولا مهر بينهما في أن العقد مفسوخ (5) في الجميع، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه يصح ويلزمه فيه مهر المثل (6)، لما رواه ابن عمر: "أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته ويزوجه الآخر ابنته ولا مهر بينهما" (7)   (1) انظر: التفريع: 2/ 50، الكافي ص 250 - 251، المقدمات: 1/ 476. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 184، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 13 - 14. (3) الشغار: من شغر الكلب إذا رفع رجليه ليبول (الصحاح: 3/ 700)، وفي الاصطلاح: هو خلو البضع من الصداق (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 175). (4) انظر: المدونة: 2/ 139 - 140، التفريع: 2/ 48، الرسالة ص 197، الكافي ص 237. (5) في (م).: فاسد. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 181، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 18. (7) أخرجه البخاري في النكاح، باب: الشغار: 6/ 126، ومسلم في النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه: 2/ 1034. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 فإن كان هذا التفسير مثله صلى الله عليه وسلم فهو غاية المراد، وإن كان من الصحابي فهو أولى من تفسير غيره، ولأنه ملك بضع ابنته لشخصين الرجل وابنته، وذلك يوجب فساد العقد لأن المهر يجب أن يكون ملكًا للمنكوحة فصار كما لو قال لرجلين: زوجت ابنتي لكل منكما، ولأنه عقد جعل فيه المعقود له معقودًا به فلم يصح أصله إذا قال لعبده زوجتك ابنتي على أن تكون رقبتك مهرًا، ولأنه عقد شرط فيه المعقود به لغير المعقود له فلم يصح أصله إذا قال: بعتك عبدي هذا على أن يكون ملكًا لزيد. فصل [13 - إذا سمي مهرًا لهما أو لأحدهما في نكاح الشغار]: فإن سمى مع ذلك مهرًا لهما أو لأحدهما صح النكاح في التي سمى لها المهر، ووجب صداق المثل؛ لأنه لم يعقد على ما لا يصح أن يكون مهرًا وإنما ضم إلى المهر ما لا يصح أن يكون عوضًا في العقد فوجب فساده والرجوع إلى صداق المثل. فصل [14 - في نكاح المتعة]: نكاح المتعة (1) باطل (2): وهو "العقد المؤقت بأجل" خلافًا للمبتدعة (3) لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه يوم خيبر (4)، وقيل: يوم حنين (5)، وفي حديث الربيع بن سبرة (6) عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن الله   (1) المتعة: اسم التمتع وهو أن يشارط المرأة شرطًا على شيء إلى أجل معلوم ويعطيها ذلك فيستحل بذلك فرجها ثم يخلى سبيلها من غير تزويج ولا طلاق (المصباح المنير ص 562). (2) انظر: المدونة: 2/ 159 - 160، التفريع: 2/ 48، الرسالة ص 197، الكافي ص 238. (3) قوله: المبتدعة يريد بذلك الشيعة الإمامية. (4) أخرجه البخاري في النكاح، باب: النهي عن نكاح المتعة: 6/ 129، ومسلم في النكاح، باب: نكاح المتعة: 2/ 1027. (5) أخرجه الطبراني وابن حبان وصححه (مجمع الزوائد: 4/ 264). (6) الربيع بن سبرة: بن معبد الجهني، المدني، ثقة من الثالثة (تقريب التهذيب ص 206). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 حرمها" (1)، ولأنه عقد معاوضة مؤبدة فلم يصح مؤقتًا أصله البيع، ولأن خصائص النكاح لا تثبت فيه مثل الظهار والطلاق والتوارث فلو كان صحيحًا لتعلقت به كسائر الأنكحة الصحيحة ولأنه يقف الوطء على مدة مقدرة كما لو استأجر امرأة ليطئها شهرًا. فصل [15 - في الخطبة على الخطبة في حالة عدم الركون]: الخطبة على خطبة الغير لها حالتان: حال تجوز فيها، وحال تمنع (2)، فأما حال الجواز فهي إذا لم تنعم (3) له وتركن إليه، بل ابتدأ الخطبة أو وعد وعدًا معلقًا من غير إجابة ولا ركون، فجاء غيره فخطب، فإن هذا لا يمنع؛ لأن الناس لو منعوا من أن يخطبوا من قد خطبت أو روسلت أو كلمت لشق عليهم وضاق وأدى إلى أن لا يخطب أحدًا امرأة إلا بعد أن يسأل ويبحث هل راسلها غيره أو ابتدأ خطبتها، وفي ذلك من الضيق والحرج ما يوضع عن الناس ولا يؤخذون به، وبمثله وردت السنة في حديث فاطمة بن قيس (4) لما جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمته أن أبا جهم (5) ومعاوية (6) خطباها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، ولكن انكحي أسامة بن زيد" (7)، فلم ينكر اجتماعهما عليها في الخطبة وخطب   (1) أخرجه مسلم في النكاح، باب: نكاح المتعة: 2/ 1026. (2) انظر: الموطأ: 2/ 523، الرسالة ص 197، الكافي ص 230. (3) أي أن تجاوب بنعم. (4) فاطمة بنت قيس: بن خالد الفهرية، أخت الضحاك، صحابية مشهورة، وكانت من المهاجرات الأول، وعاشت إلى خلافة معاوية (تقريب التهذيب ص 751). (5) أبو جهم بن حذيفة، القرشي، العدوي، كان علامة بالنسب، من مسلمة الفتح (سير أعلام النبلاء: 3/ 556). (6) معاوية بن أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن، الخليفة، صحابي أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، مات في رجب سنة ستين (تقريب التهذيب ص 537). (7) أخرجه مسلم في الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا يفقه بها: 2/ 1114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 عليها لآخر، ومثله حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما خطب امرأة لابنه عبد الله ولمروان (1) وغيره، ثم خطبها لنفسه معهم فقالت المرأة: أجاد أمير المؤمنين أم هازل؟ قال: بل جاد، فقالت: قد أنكحتك" (2)، فاستجاز عمر لنفسه أن يخطبها معهم لما لم يكن من جهتها إنعام لواحد منهم ولا إجابة ولا ركون ولا وعد لتقرير فدل على ما قلناه. فصل [16 - في الخطبة على الخطبة في حالة الركون]: الحالة الثانية: أن تنعم المرأة وتجيب وتركن إلى الخاطب ويتمهد (3) الأمر بينهما ويشترط كل واحد منهما على الآخر ما يريده ولم يبق إلا العقد أو قريب منه، فهذه الحال التي يمنع فيها أن يخطب الغير على خطبة من قد انتهى إليها (4) فمتى خطب وعقد له عليه فالعقد غير صحيح ويفسخ على الظاهر من المذهب (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6)، ولمن ذهب إلى خلافه من أصحابنا (7)، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يخطب الإنسان على خطبة أخيه (8)، والنهي يقتضي الفساد، ولأن هذا ذريعة إلى الإفساد على الناس وإدخال الأذى عليهم لأنه لا   (1) مروان بن الحكم: بن أبي العاص بن أمية، أبو عبد الملك الأموي المدني، ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، مات سنة 105 هـ (تقريب التهذيب ص 525). (2) عزاه ابن كثير إلى ابن عساكر (انظر البداية والنهاية: 8/ 257، المغني: 6/ 605). (3) في (ق): يتمادى. (4) في (ق): إليه. (5) انظر: الموطأ: 2/ 523، المقدمات: 1/ 481، بداية المجتهد: 6/ 351 - 353، الكافي ص 230. (6) انظر: بدائع الصنائع: 3/ 1410، المهذب: 2/ 47. (7) قال ابن عبد البر: وعن أصحاب مالك في هذا الباب آراء مختلفة واضطراب (الكافي ص 230). (8) أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه: 6/ 136، ومسلم في النكاح، باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه: 2/ 1032. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 يشاء أحد أن يفسد على غيره ويؤذيه إلا تركه يخطب ويبعث ويجتهد حتى إذا لم يبق إلا الفراغ جاء فأفسد عليه، فوجب حسم الباب بإبطال ما أدى إلي هذا من الفعل ليرتدع من يفعل ذلك على ألا يعود لمثله كما وجب مثله في التلقي (1) وغيره. فضل [17 - النكاح على صداق مجهول]: يجوز النكاح على عبد مطلق أو وصيفة مطلقة غير موصوفة ولا معينة، ويجب الوسط من رقيق ذلك البلد، وكذلك على جهاز بيت ويكون لها الوسط من جهاز أهل الحضر أو البادية إن كانت بدوية أو حضرية (2)، وقال محمَّد بن عبد الحكم: لا يجوز إلا على معلوم مقدور وهو قول الشافعي (3)، ودليلنا قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (4)، وقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (5) فعم، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تراضى عليه الأهلون" (6)، ولم يفرق، ولأن النكاح لما لم يكن المقصود منه المعاوضة المحضة، وإنما القصد به المكارمة والمواصلة دون العوض بدليل أنه لا يفسد بفساد العوض ولا بعدم ذكره في العقد بخلاف ما يكون المقصود منه العوض كالبياعات وغيرها مما يقصد به المكايسة والمتاجرة، جاز أن يسقط تعيينه (7)، وصفته: إذا كان هناك طريق يوصل إليه غيره كما جاز لهذا المعنى السكوت عن ذكره جملة عند العقد.   (1) يعني تلقي الركبان. (2) انظر: المدونة: 2/ 170 - 171، التفريع: 2/ 37 - 38، الكافي ص150 - 151. (3) انظر: الأم: 5/ 58 - 59، الإقناع ص 140 - 41. (4) سورة النساء، الآية: 24. (5) سورة البقرة، الآية: 237. (6) سبق تخريج الحديث ص 728. (7) في (م)، و (ر): بعينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 فصل [18 - اشتراط المنكح حباء على الخاطب]: إذا شرط المنكح حباء (1) على الخاطب، فإن كان في العقد وعليه وقع العقد، فهو لاحِقٌ بالصداق لأن العقد وقع عليه واستحل البضع بالصداق وبه، فإن طلقت قبل الدخول رجع الزوج بنصفه كالصداق، وإن كان ذلك بعد تمام العقد وانبرامه كأنه قال: زوجني على مائة دينار، فقال: قد زوجتك عليها، فقال: الخاطب قبلت، ثم قال له الولي من بعد فبماذا تحبوني؟ قال: بكذا وكذا، فهذا يكون للولي خاصة لا رجوع فيه للزوج ولا للمرأة (2)؛ لأن ذلك جعل من الزوج للوكيل أو هبة له مستأنفة لم يقع العقد عليها، وكذلك إن كانت الهبة للمرأة أو لبعض أهلها بعد استقرار النكاح غير مشترطة في العقد. فصل [19 - إذا تزوجها على صداق مسمى ثم زادها عليه]: فأما إن تزوجها على صداق مسمى ثم زادها في الصداق بعد تمام العقد وانبرامه ثم طلقها قبل الدخول رجع بنصف الزيادة كالصداق الأصلي، فإن مات قال ابن القاسم: لا شيء لها من الزيادة وجعلها (3)، كالعطية إذا مات المعطي قبل أن تقبض. وقال الشيخ أبو بكر وغيره من أصحابنا: القياس يجب أن لها الزيادة بالموت قالوا: لأنه لا يخلو أن تكون الزيادة حكمها حكم المهر أو الهبة التي لا تستقر إلا بالقبض، فإن كانت كالمهر (4) وجب استحقاقها بالموت كالمهر، وإن كانت كالهبة وجب أن لا يجب لها نصفها بالطلاق قبل الدخول لتأخر القبض، فلما وجب نصفها دل على أنها في حكم الصداق (5).   (1) الحباء -بالمد والكسر-: إذا أعطيته الشيء بغير عوض (المصباح المنير ص 120). (2) انظر: التفريع: 2/ 49 - 50، الكافي ص 251. (3) في (ق): جعله. (4) في (ق): مهرًا. (5) انظر: التفريع: 2/ 50، الكافي ص 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 فصل [20 - نكاح التفويض]: نكاح التفويض جائز (1) وصفته: أن يعقدا النكاح ولا يذكرا صداقًا، فالزوج بين ثلاثة (2) خيارات: إما أن يتراضيا على مهر يفرضانه أو يفرضه أحدهما ويرضي به الآخر فيجوز ذلك، أو أن يبذل المثل ويدخل ولا يعتبر رضاها ها هنا، أو أن يطلق ولا يلزمه صداق وليستحب له أن يمنع ومن مات منهما قبل الدخول والفرض (3)، فللآخر الميراث دون الصداق. فصل [21 - أدلة جواز نكاح التفويض]: وإنما قلنا: إن نكاح التفويض جائز لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (4) فأباح الطلاق مع عدم الفرض والمسيس، والطلاق المباح لا يكون إلا في نكاح صحيح ولا خلاف فيه، ولأن النكاح لما كان طريقه المواصلة والمكارمة دون المغابنة والمكايسة جاز فيه من التسامح ما لم يجز في البيوع، وإنما قلنا: أنهما إن تراضيا على شيء من بعد جاز وكان صداقًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدوا العلائق"، قيل: وما العلائق يا رسول الله؟ قال: "ما تراضى عليه الأهلون" (5)، ولأن الحق فيه لا يخرج عنهما فيما زاد على حق الله تعالى الذي لا يجوز تراضيهما على إسقاطه وهو أقل المهور، فما تراضيا (6) به من شيء يجوز أن يكون عوضًا جاز. فصل [22 - إذا لم يتراضيا على شيء مقدر في نكاح التفويض]: وإنما قلنا: إنهما إذا لم يتراضيا على شيء مقدر كان له أن يدخل بعد بذل   (1) انظر: المدونة: 2/ 180 - 181، التفريع: 2/ 51 - 52، الرسالة ص 200، الكافي ص 250. (2) في (م): بين ثلاث. (3) يعني أن فرض الصداق. (4) سورة البقرة، الآية: 236. (5) سبق تخريج الحديث ص 728. (6) في (م): رضيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 صداق المثل من غير اعتبار برضاها، وكذلك لو دخل بها ابتداء لأنه قد ملك الاستباحة بالعقد فليس عليه أكثر من بذل قيمة البضع، وإنما لم نعتبر (1) رضاها لأنها لما ملكته الاستباحة قبل التسمية كان ذلك رضا منها بفرضه أو بقيمة بضعها. فصل [23 - إن طلق قبل الدخول والتسمية]: وإنما قلنا: إنه إن طلق قبل الدخول والتسمية فلا مهر عليه، لأن المهر لا يستحق إلا بدخول أو بموت بعد تسمية وقد عدما، وأما المتعة فنذكرها (2) فيما بعد. فصل [24 - إيجاب التوارث إن حصل موت قبل الفرض في نكاح التفويض]: وإنما أوجبنا بينهما التوارث إن حصل موت قبل الفرض؛ لأن النكاح صحيح والتوارث واجب في العقد الصحيح، وإنما قلنا: لا يجب صداق المثل (3) بالموت (4) خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (5) أنه يجب لها مهر المثل، لأنها ماتت قبل الفرض والدخول، فلم تستحق مهر المثل أصله مع أبي حنيفة الكتابية، ومع الشافعي إذا طلقت قبل الدخول. فصل [35 - تزوجها على حكمه أو حكمها أو حكم فلان]: يجوز أن يتزوجها على حكمه أو حكمها أو حكم فلان (6) خلافًا لعبد الملك   (1) في (م): يعتبر. (2) في (م): فتذكر. (3) المثل: أسقطت من (م). (4) انظر: المدونة: 2/ 181، التفريع: 2/ 52، الكافي ص 230. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 184، مختصر المزني ص 181، وأبو حنيفة يقول: إذا مات الزوج عن امرأته التي لم يسمي لها مهرًا فلها مهر المثل مسلمة كانت أم كتابية. (6) انظر: التفريع: 2/ 52، الكافي ص 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 لأنه ليس في ذلك أكثر من تقدر الصداق في ثاني حال (1)، فهو في معنى التفويض. إذا ثبت جوازه نظر، فإن فرض من رد الحكم إليه منهما أو من غيرهم فرضيًّا به جاز ولزم، وإن لم يتراضيا به فالخيار إلى الزوج إن شاء فرض صداق مثلها ولزمها، وإن شاء طلق ولا مهر عليه كالتفويض هذا إذا تزوجها على حكمه أو حكم أجنبي. فأما إن لزوجها على حكمها، فلم يتراضيا على شيء فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إن بذل لها صداق المثل لزمها كالتفويض، وهو قول ابن عبد الحكم وأصبغ وأحد قولي ابن القاسم، ومنهم من قال: لا يلزمها الرضا بصداق المثل بخلاف التفويض وهو قول أشهب وقول ابن القاسم الآخر. ووجه القول بأن ذلك يلزمها اعتباره بنكاح التفويض بعلة أنه عقد سكت فيه عن العوض ليوقع فيما بعد ولتحكم الغير بعلة عدم الرضا بالحكم لو (2) علق بحكم فلان، ووجه القول بأنه لا يلزمه فلأن الحكم توجه إلى جهة (3) فلا يلزمها الرضا بحكم غيرها، كما لو علق بحكم فلان، ولأن تعليق الرضا بحكمها إنما هو احتراز من أن تلزم بما لم ترض به فلو كان ذلك يلزمها لم ينفعها اشتراطها شيئًا. فصل [26 - إذا أعتق أمته على أن تزوجه من نفسها]: إذا أعتق أمته على أن تزوجه من نفسها (4)، فإن أبت لم يلزمها ذلك (5) خلافًا لقوم (6) لأن الإجبار ساقط عنها بعدم الرق والولاية، فكان لها الخيار.   (1) حال: سقطت من (م). (2) في (م): الذي. (3) في (م): جهتها. (4) في (م): يزوجها نفسه. (5) انظر: المدونة: 2/ 179 - 188، التفريع: 2/ 38 - 39. (6) في أحد قولي الحنابلة (انظر المغني: 6/ 470). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 فصل [27 - من أعتق أمَة على أن يكون عتقها صداقها]: ومن أعتق أَمَته (1) على أن يكون عتقها صداقها لم يجز ذلك لأن الصداق إنما يكون صداقًا إذا قارن العقد أو صادف عقدًا آخر (2)، فأما تقدم عليه فلا يصح، والعتق ها هنا متقدم على العقد فلم يكن صداقًا. فصل [28 - إذا خالعها قبل الدخول على مال تدفعه إليه]: إذا خالعها (3) قبل الدخول على مال تدفعه إليه ولها عليه صداق مسمى، فإن سميا أنه من الصداق جاز وسقط ذلك القدر من صداقها (4)؛ لأنها قد أخذت عوضًا به وهو الطلاق الذي في مقابلته، وكان لها نصف الباقي لأنها على الأصل وجوب النصف لها، فإن نصا على أنه من عندها لزمها دفعه إليه من مالها، فلم يكن لها أن ترجع عليه بنصف الصداق لان دفع شيء من عندها يتضمن ترك حقها من الصداق، فإن لم يرض أن يطلقها إلا بشيء يأخذه منها، وأجابت إلى ذلك كانت عن شيء تأخذه منه أبعد، فإن سكتا فلا شيء لها من الصداق عند مالك وأكثر أصحابه، وقال أشهب: ترجع عليه بنصف الصداق، فوجه قول مالك: إن ظاهر سكوتها وإبهامها الخلع بمنزلة النص على أنه من عندها على ذلك هو الأصل ولا يصح إضافته إلى الصداق إلا بأن يعيناه نطقًا، وإذا كان كذلك تضمن سقوط حقها من الصداق كما لو نصت على أنه من عندها، ووجه قول أشهب إن الإبهام يقتضي تعلقه بالذمة ولا يفيد الإبراء من الصداق كالدين، وقول مالك أصح لأنها لو أرادت الرجوع بالنصف لم تلزم ذمتها شيء سواه.   (1) في (ق): أمة. (2) آخر: سقطت من (م). (3) الخلع: مأخوذ من الاختلاع وهو نزع الشيء عن الشيء، وهو في الاصطلاح: معاوضة عن البضع تملك به المرأة نفسها ويملك الزوج به العوض عليها ملكًا تامًّا (المقدمات: 1/ 558 - 559). (4) انظر: المدونة: 2/ 233 - 234، التفريع: 2/ 39 - 40، الكافي ص 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 فصل [29 - إذا وهبت له صداقها قبل القبض أو بعده]: ولو وهبت له صداقها قبل القبض أو بعده وهي جائزة الأمر ثم طلق قبل الدخول لم يرجع عليها بشيء (1) خلافًا للشافعي في قوله: إن له نصف قيمته (2)؛ لأن بهبتها الصداق له قد صار ملكًا له، فلو استحق عليها بدل النصف لكان قد حصل له البدل والمبدل وذلك خلاف الأصول. فصل [30 - امتناع تسليم المرأة نفسها حتى تقبض الصداق]: وللمرأة أن تمتنع من تسليم (نفسها حتى تقبض الصداق فإن سلمت نفسها ودخل بها وأرادت الامتناع من بعد حتى تقبض الصداق لم يكن لها ذلك خلافًا لأبي حنيفة (3)، لأنه تسليم) (4)، يستقر به البدل، فوجب أن يسقط حكم الامتناع كتسليم السلعة في البيع، ولأن تسليمها نفسها في الابتداء رضًا منها ببقاء المهر في ذمته وامتناعها بعد ذلك رجوع (5) فيما قد تركته. فصل [31 - إذا انضم إلى النكاح عقد بيع]: إذا انضم إلى النكاح عقد بيع قال مالك وابن القاسم: لا يجوز، وقال أشهب: يجوز، وقال عبد الملك: إذا بقي بعد طرح قيمة البيع مقدار ربع دينار فأكثر جاز (6)، وجه قول مالك: إن النكاح عقد مخصوص من سائر عقود المعاوضات بأحكام العوض لا يوجد في غيره من العقود، فوجب أن ينضم إليه عقد غيره كالصرف والقراض، ولأنه يجوز (7) أن يكون العوض في مقابلة البيع   (1) انظر: المدونة: 2/ 175 - 176، التفريع: 2/ 349 - 40. (2) انظر: الأم: 5/ 74، مختصر المزني ص 183، وقال: ففيها قولان: أحدهما يرجع عليها بنصفه، والآخر لا يرجع عليها شيء ملكه. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 188. (4) ما بين قوسين سقط من (م). (5) في (ق): رجوعها. (6) انظر: المدونة: 2/ 170. (7) في (م): لا يجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 فيعري البعض من عوض ويكون ذلك ذريعة إلى إباحة وإسقاط المهر واعتبارًا به إذا لم يبق قسط من العوض، ووجه قول أشهب: إنه ليس في ذلك أكثر من الجهالة بمقدار المهر، وذلك لا يمنع صحة العقد كما لو تزوجها على حكم زيد، ووجه قول عبد الملك: إن المنع خيفة أن يعرى النكاح من عوض، فإذا أمن ذلك جاز. فصل [32 - الاختلاف في قدر الصداق]: وإذا اختلفا في قدر الصداق نظر: فإن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا وبدئت باليمين (1)؛ لأنها أقوى سببًا؛ لأن الأصل معها: وهو أن منافع بضعها غير مملوكة عليها إلا بما تقر به أو يثبت ذلك (2) لمدعيه عليها، فإن حلفت قيل للزوج: إما أن تحلف ويسقط عنك الصداق الذي أدعته أو تكون بالخيار بين أن تدفع إليها ما حلفت عليه، فتدخل بها شاءت أو أبت وبين أن تطلق ولا يلزمك شيء أو أن تنكل فيلزمك ما حلفت عليه؛ لأنه قد اجتمع لها (3) سببان مؤثران في الحكم: يمينها ونكول الزوج، وهذا إن حلفت، فأما إن نكلت فيحلف الزوج ويكون له ما يدعيه، وإن كان بعد الدخول فالقول قول الزوج مع يمينه لقوة سببه بالتصرف فيما عقد عليه، ولأنها لما سلمت (4) نفسها من غير إشهاد عليه كان ذلك رضا منها بأمانته، فإن نكل حلفت فاستحقت ما ادعته وذلك مبني على اختلاف المتبايعين وهو مذكور في البيوع. فصل [33 - الاختلاف في قبض الصداق]: وإن اختلفا في قبض الصداق فالقول قولها في ذلك قبل الدخول، فأما بعده   (1) انظر: المدونة: 2/ 182 - 183، التفريع: 2/ 42 - 43، الرسالة ص 197 - 198، الكافي ص 253 - 254. (2) ذلك: سقطت من (م). (3) في (ق): له. (4) في (م): أسلمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 فينظر في البلد الذي هما فيه، فإن كان هناك عرف متقرر وغالب بدفع الصداق وأن الزوج لا يمكن من الدخول إلا بعد إيفائه: فالقول قول الزوج، وعلى هذا حمل أصحابنا إطلاق مالك رحمه الله الجواب في هذه المسألة (1)؛ لأن العرف كذلك كان عندهم بالمدينة إلا أن يكون معها ذكر حق فيكون القول قولها؛ لأن العرف معه بتبقية ذكر الحق في يدها؛ لأن العرف جار بأخذه منها بعد إيفائه الحق وإنها لا تسلمه إلا إذا استوفته، وإن كان موضعهما لا عرف فيه متقرر فالقول قولها، وقال أبو حنيفة والشافعي: القول قولها جملة بغير تفصيل (2)، فدليلنا قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} (3) فعم، ولأن اليمين في الأصل متوجهة على أقوى المتداعيين سببًا، والزوج في هذا الموضع أقوى سببًا لشهادة العرف له كما كان قبل الدخول القول قولها لقوة سببها عليه، وبالله التوفيق. * * *   (1) انظر: المدونة: 2/ 182، التفريع: 2/ 43، الكافي ص 253. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 185، الأم: 5/ 72. (3) سورة الأعراف، الآية: 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 باب: [عيوب النكاح] إذا وجد بالمرأة عيب يؤثر في المعنى المقصود بالنكاح ويمنع الالتذاذ واستيفاء الاستمتاع فالزوج بالخيار إذا علم بذلك قبل الدخول إن شاء ثبت على النكاح ودفع الصداق ودخل، وإن شاء فارق ولا صداق عليه (1)، وهذه العيوب أربعة وهي: الجنون، والجذام (2)، والبرص (3)، وداء الفرج وهو: القرن (4)، والرتق (5) وما في معناهما، وقال أبو حنيفة: لا ترد بشيء من ذلك (6)، ودليلنا ما روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج امرأة من بني بياضة (7)، فوجد بكشحها بياضًا فردها، وقال: "دلستم عليّ" (8)، ولأن ذلك مروي عن عمر وعليّ (9)   (1) انظر في عيوب النكاح: المدونة: 2/ 167 - 169، الرسالة ص 203، الكافي ص 258 - 259. (2) الجنون معروف والجذام: داء يقطع اللحم (المصباح المنير ص 94). (3) البرص: يكون أسودًا وأبيضًا وعلامته التفليس بأن يكون عليه قشر يشبه الفلوس (الفواكه الدواني: 2/ 40). (4) القرن: بفتح القاف وسكون الراء -هو خروج شيء بارز في الفرج يمنع الجماع (الفواكه الدواني: 2/ 40). (5) الرتق -بفتح الراء والتاء-: هو انسداد مسلك الفرج، بحيث لا يمكن الجماع معه (الفواكه الدواني: 2/ 40). (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 181، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 24 - 25. (7) الثابت في الحديث بني غفار. (8) أخرجه البيهقي: 7/ 214، وأحمد: 3/ 493، وأبو نعيم في الطب، وفيه اضطراب (تلخيص الحبير: 3/ 177). (9) أخرجه البيهقي: 7/ 214 - 215، والموطأ: 2/ 526، وأخرجه سعيد بن منصور (انظر تلخيص الحبير: 3/ 177). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 ولا مخالف لهما، وما يروي (1) عن ابن مسعود من قوله: لا ترد الحرة بعيب (2) محمول على ما عدى هذه العيوب، ولأن لا يسلك بها سبيل الأمة المبيعة، ولأنها عيوب تؤثر في استيفاء الاستمتاع المقصود وتنقص كمال اللذة فوجب أن يثبت معه الخيار إذا دخل على السلامة أصله الجب (3) والعنة، ولأنه عقد معاوضة فوجب أن يثبت فيه الخيار متى وجد الجنون في المعقود عليه كالبيع. فصل [1 - لزوم المهر إذا ثبت على النكاح]: إذا ثبت أنه بالخيار على النكاح لزمه المهر كاملًا لأن الفسخ حق له، فإذا رضي بالعيب فقد أسقط حقه من الفسخ ورضي ببذل الصداق فكان له ذلك، كالمبتاع إذا وجد بالمبيع عيبًا، فإن فارق قبل الدخول فلا صداق عليه، لأنه دخل على السلامة، وأن يبذل الصداق مع التمكين من الاستمتاع، فإذا لم يقدر على ذلك لم يلزمه، ولأن الفسخ ها هنا من قبل المرأة لأن العيب المانع من الاستمتاع من جهتها، وإذا كان الفسخ قبل الدخول من جهة (4) المرأة لم تستحق شيئًا من الصداق. فصل [2 - إذا لم يعلم الزوج بالعيب حتى دخل]: وإن لم يعلم بذلك حتى دخل فحق الخيار ثابت له؛ لأنه لم يوجد منه رضا به فلم يسقط خياره، ويدفع العوض من الاستمتاع لأنه لا يجوز أن يعري منه ثم ينظر فيمن غره فيرجع عليه بالمهر الذي سماه أو غيره مما يدفعه لأنه إن كان سمى مهرًا لزمه المسمى، وإن لم يكن سمى شيئًا فصداق المثل وإن كان الذي عقد له وليًّا يعلم منه أنه غره؛ وإن كان يعلم ذلك منها فدلسه عليه -مثل الأب في البكر أو الأخ- فإنه إذا أدى الصداق رجع عليه بجميعه، فإن كان ابن عم أو مولي أو   (1) في (م): وما يروونه. (2) أخرجه ابن أبي شيبة: 1/ 212. (3) الجب: هو قطع الذكر مع الأنثيين (الفواكه الدواني: 2/ 40). (4) جهة: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 من العشيرة أو السلطان أو من لا يظن به علم ذلك لم يرجع عليه، ويرجع به على المرأة نفسها ويترك لها ربع دينار أو ثلاثة دراهم، خلافًا للشافعي في قوله: لا رجوع له على الولي ولا على المرأة على كل وجه (1)، لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "أيما رجل نكح امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقها، وذلك لزوجها غرم على وليها"، ونحوه عن عليّ - رضي الله عنه - (2)، ولا مخالف لهما من الصحابة، ولأننا لو قلنا: إنه لا رجوع له عليها لألزمناه بذل العوض من غير أن يحصل له في مقابلته الاستمتاع الذي دخل عليه لأنه دخل على التأبيد لا على مرة واحدة. فصل [3 - في تركه قدر ربع دينار نظير الاستمتاع]: إنما قلنا: إنه يترك لها قدر ربع دينار لئلا يخلو الاستمتاع من بذل، ولا يجوز أن يستباح الفرج بعقد نكاح إلا بعوض، وإنما قلنا: إنه إذا رجع به على الولي رجع بجميعه ولم يترك له (3) شيئًا أصلًا لأن المرأة يحصل لها المهر كاملًا: لأن الولي إذا غرمه للزوج لم يرجع به عليها فليس في ذلك غرر، ولا بد للاستمتاع من عوض يحصل للمرأة. فصل [4 - العيب يكون بالرجل]: وللمرأة إذا وجدت ذلك بالرجل، من الخيار مثل ما للرجل (4)، لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (5)، ولأن لها حقًّا في الاستمتاع، فإذا وجدت مانعًا منه أو من كماله كان لها الخيار كالرجل واعتبارًا بالجب والعنة، واختلف عنه في البرص، والصحيح أن الرد يثبت لها معه اعتبارًا بالجذام، وهذا   (1) انظر: الأم: 5/ 84 - 85، الإقناع ص 138 - 139. (2) سبق تخريج الأثرين قريبًا. (3) في (م): لها. (4) انظر: المدونة: 2/ 169، التفريع: 2/ 47، الرسالة ص 205، الكافي ص 258. (5) سورة البقرة، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 إذا وجد به (1) قبل الدخول وبعده، فإن اختارت الفسخ قبل الدخول، فالمهر له لأن الفسخ من قبلها، وإن كان بعد الدخول فلها المهر كاملًا لاستمتاعه بها ولاستقراره لها بالدخول. فصل [5 - إذا تزوجا سليمين ثم حدث العيب]: إذا تزوجا سليمين ثم حدث لهما أو بأحدهما بعض هذه العيوب، فإن كان قبل الدخول نظر، فإن حدث بالمرأة فلا رد للزوج وهو بالخيار إن شاء دخل وكمل لها المهر، وإن شاء طلق ولزمه نصفه (2) خلافًا للشافعي (3)، في أحد قوليه: إنه يطلق ولا يلزمه شيء، لأنه عقد على منفعة مستدامة غير موفية تتناول معقودًا عليه (4) سليمًا حين العقد، فلم يكن حدوث عيب في المستأنف موجبًا له الخيار، ولأنه لم يكن هناك تدليس ويفارق الإجارة لأنها مؤقتة محصورة، وإن كان بها ذلك بعد الدخول فلها المهر كاملًا وحكمه معها كحكمه لو لم يحدث بها شيء، وإن كان حدث ذلك بالزوج، فإن كان قبل الدخول فلها الخيار، ويبق أن تقيم معه أو تفارقه ولا شيء لها لأن الفسخ من قبلها، وإن كان بعد الدخول فخيارها ثابت، وقد استحقت الصداق كله بالدخول، والفرق بينها وبين الزوج في إثبات الخيار لها ونفيه عن الزوج فيما يحدث بعد العقد أنها لا تقدر على رفع العقد، فلو لم يثبت (5) لها الخيار لأدى ذلك إلى استدامة الضرر بها، والزوج بيده رفع العقد فلم يكن له خيار. فصل [6 - العيوب التي لا ترد بها الزوجة]: ولا ترد إذا وجدت عمياء أو عوراء أو قطعاء أو سوداء أو محدودة أو ولد زنا   (1) في (م): وجدته. (2) في (م): النصف. (3) انظر: مختصر المزني ص 176، 178، الإقناع ص 138 - 139. (4) في (ق): عليها. (5) في (م): يكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 أو ما سوى العيوب الأربعة (1)، وما في معناها (2)؛ لأن كل هذه العيوب لا تمنع الاستمتاع ولا استيفاء المقصود بالعقد إلا أن يشترط السلامة فيكون له الرد ولا يلزم الولي إخباره بذلك ولا بأنها كانت (3) زنت أو قذفت، فحدت أو سرقت فقطعت؛ لأن كل ما لا يوجب له الرد لم يلزم الولي إخباره به كما لا يلزمه إخباره بأنها قد سافرت أو كان لها زوج قبله أو عدة أزواج، وما أشبه ذلك مما لا توجبه الولاية. * * *   (1) انظر: المدونة: 2/ 167 - 168، التفريع: 2/ 47، الكافي ص 259. (2) وما في معناها: سقطت من (ق). (3) كانت: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 باب: [العيوب التي توجد بالزوج خاصة] والعيوب التي توجد بالزوج خاصة تمنع الوطء وتوجب الخيار للزوجة أربعة وهي: الجب والخصاء والعنة والاعتراض، فالمجبوب هو المقطوع ذكره وأنثياه. والخصي هو المقطوع منه أحدهما، فإن كان مقطوعهما كان مجبوبًا، وقد يسمى خصيًّا أيضًا إلا أن اسم الجب أغلب عليه، والعنين هو الذي له ذكر شديد الصغر لا يمكنه الجِماع ولا يأتي منه انتشار يولج به لصغره. والمعترض هو الذي لا يقدر على وطء المرأة لعِلَّة تعترضه وهو بصفة من يمكنه الوطء، وربما كان قد وطيء قبل ذلك وربما اعترض عن امرأة ولم يعترض عن أخرى وأصحابنا يسمون هذا العنين تجوزًا (1)، وتشبيهًا بالعنين الذي وصفناه وكذلك من تقدم من الصحابة والتابعين وحقيقة اسمه المعترض كذلك زعم ابن حبيب. فهذا تزوجت المرأة على السلامة فوجدت به أحد هذه العيوب كان لها الخيار على الوصف الذي نذكره، أما المجبوب والخصي فلها الخيار بين أن تقيم معه أو تفارقه لعدم الاستمتاع منه؛ لأن لها حقًّا في الاستمتاع، فإذا عدم (2) منه لم تجبر على الرضا، والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3)، ولأنه لو آلى منها لكان لها توقفه وتطالبه مع الامتناع بالفراق مع قدرته على الوطء، فكان في الخصي والمجبوب أولى، ولأنه لما كان له الخيار مع الرتق والقرن لعدم الاستمتاع المقصود بعقد النكاح مع إمكان تخلصه منه بالطلاق كان بأن يكون لها الخيار في هذه المواضع أولى.   (1) انظر: حدود ابن عرفة - مع شرح الرصاع ص 169. (2) في (م): عدمته. (3) سورة البقرة، الآية: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 فصل [1 - الخصي يمكنه الوطء لكنه لا ينزل]: فإن كان الخصي قائم الذكر يمكنه أن يطأ إلا أنه لا ينزل فلها الخيار أيضًا لأن وطئه ناقص عن الكمال فكان لها الخيار، فإن ثبت المقام معه سقط خيارها، وكذلك إن أمكنته بعد علمها بعيبه من تقبيل ولمس أو تلذذ بمباشرة فلا خيار لها، وإن اختارت فراقه فلا صداق لها لأن الفراق من قبلها. فصل [2 - العنين يصح منه الوطء]: فأما العنين -ويريد به المعترض عن امرأته ويصح منه الوطء ويرتجي زوال الاعتراض عنه- فلزوجته الخيار بين أن تقيم معه أو تفارقه، وذلك بأن يُضرب له الأجل من يوم ترفعه إلى الحاكم: للحر سنة، وللعبد ستة أشهر، فإن أصاب في مدة هذا الأجل وإلا طلق عليه إن اختارت ذلك (1) خلافًا لداود في قوله: إنه لا يؤجل (2)؛ لأن ذلك إجماع الصحابة، وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود (3) وغيرهم - رضي الله عنهم -، ولا مخالف لهم واعتبارًا بالخصاء والجب. وإنما قلنا: إن الأجل سنة لما رويناه عن الصحابة، وللمعنى وهو أن الاعتراض مرض من الأمراض يرجى زواله ولا يتيقن لزومه، والمقصود بضرب الأجل إمهاله مدة يعالج نفسه فيها ويجتهد في زوال هذا العارض عنه، وليس كالجب والخصاء اللذين لا يرجى زوالهما، فوجب أن يكون المضروب له من المدة قدرًا من الزمان يتمكن فيه من ذلك، فكانت السنة أولى ما ضرب له لأن ذلك إن كان من مرض يؤثر فيه الزمان، فالسنة تجمع الفصول الأربعة، فلعله بالانتقال إلى زمان آخر يؤول عنه، ولأنها قد جعلت هذا في النكاح وغيره ولاختبار أمور يحتاج إلى اختبارها منها طول إقامة البِكر عند الزوج وعودها بكرًا وعهدة الرقيق في الأدواء الثلاثة وغير ذلك.   (1) انظر: المدونة: 2/ 194 - 196، التفريع: 2/ 47 - 48، الكافي ص 258. (2) انظر: المحلي: 11/ 269، المغني: 6/ 668. (3) البيهقي: 7/ 226 - 227، وعبد الرزاق: 6/ 253 - 255، المغني: 6/ 668. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 واختلف في أجل العبيد: (فقيل: سنة، وقيل: ستة أشهر) (1)، فوجه القول بأنه سنة اعتبارًا بالحر، ولأن الغرض بذلك اختباره في تأثير الأزمنة في مرضه، وذلك يستوي فيه الحر والعبد. ووجه القول بأنه ستة أشهر أنه يقربه من الفراق كأجل الإيلاء. فصل [3 - في الأجل الذي يضرب العنين]: وإنما قلنا: إن الأجل من يوم ترفعه (2) لا من يوم تزوجته أو علمت به بخلاف المولى، لأنه حق لها لا تستحقه (3) وهو مفتقر إلى اجتهاد الحاكم بخلاف المولى، ولأن المولى لا عذر له في أن يستأنف الأجل لأنه قصده الإضرار وللمعترض بخلافه لأنه يقول: إني معذور بترك العلاج لأني لم أعلم أنها ترافعني، فكنت أقدم الاجتهاد في ذلك. فصل [4 - في عدم الحكم بعنته بدعوى الزوجة]: ولا يحكم بعنته بدعواها إذا أنكر (4)، خلافًا لأحمد بن حنبل (5) لأن الأصل السلامة، ولأن الدعوتين إذا تعارضا وإحداهما يقتضي رفع العقد أو إثبات خيار فيه، فالقول قول مدعى الصحة والاستقرار، كدعوى المشتري عيبًا بالمبيع أو استحقاق الخيار، وكذلك إذا ضرب له الأجل وخلي بينه وبينها فادعى أنه وطيء فأنكرت، فالقول قوله مع يمينه إن كانت ثيبًا خلافًا للأوزاعي (6)، لأنها   (1) ما بين قوسين سقط من (م) ومن (ر). (2) في (م): ترافعه. (3) في (م): يستحق. (4) انظر: التفريع: 2/ 48، الكافي ص 258. (5) انظر: مسائل الإِمام أحمد ص 344 - 345، مختصر الخرقي ص 98 - 99. (6) الأوزاعي: أبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو بن محمَّد الأوزاعي، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، ولقد كان أفضل أهل زمانه، مات سنة 157 هـ (تذكرة الحفاظ: 1/ 179). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 مدعية عليه استحقاق الفراق وهو منكر (1)، ولأن ذلك موكل إلى أمانته، ولأنه لا يقدر على الإشهاد على وطئه إياها كما كان القول قولها في تداعيهما المسيس، فإن حلف فهي امرأته على حالها وإن نكل أحلفت فإن حلفت فرق بينهما إن شاءت لاجتماع شيئين مؤثرين في الحكم، وإن نكلت سقط حقها من الخيار هذا حكم الثيب، فأما البكر ففيها روايتان: إحداهما: أنها كالثيب لأن ادعاء المعترض كالوطء في الأجل موكول إلى أمانته كالثيب. والأخرى: أنه ينظر إليها النساء فإن قلن: نرى (2) أثر إصابة فالقول قوله، وإن قلن: أنها على حالها صدقت عليه، ووجهها أنا إذا وجدنا طريقًا يوصل إلى العلم بذلك يقينًا كان أولى من الرجوع إلى أمانته وما لا يعلم صدقه فيه وهو مما للنساء فيه مدخل، هذا كله إذا اعترض عنها ولم يطأها قبل الاعتراض، فأما لو وطئها قبل الاعتراض دفعة واحدة ثم اعترض عنها (3) فلا خيار لها. فصل [5 - انتهاء الأجل المضروب للعنين]: إذا حل الأجل وتقارى على عدم الوطء واختارت الفسخ، فإنه يؤمر بالطلاق، وله أن يوقع ما شاء، فإن امتنع الحاكم يفسخ نكاحه بطلاق (4) خلافًا للشافعي (5)، لأنه فسخ مجتهد فيه ليس بغالب كالفرقة بإعسار (6) الصداق والنفقة وتكون طلقة واحدة، لأن الغرض يتم بها فلا فائدة في الزيادة عليها، وتكون بائنة لأنه مطلق قبل الدخول ولا رجعة له لاعترافه بأنها لا تجب له وعليها العدة إذا خلى بها لأنها حق الله تعالى، فلا يقبل اتفاقهما على إسقاطها.   (1) في (م): متكرر. (2) في (ق): قد. (3) عنها: سقطت من (م) و (ر). (4) انظر: المدونة: 2/ 164، التفريع: 2/ 47 - 48، الكافي ص 258. (5) انظر: الأم: 5/ 40 - 41. (6) في (م): باعتبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 فصل [6 - تكميل الصداق على العنين]: وفي تكميل الصداق روايتان (1): إحداهما أنه يكمل، والأخرى إنه إن طال مقامه معها وتلذذه بها واستمتاعه بها استمتاع (2) مثله بما يمكنه كمل عليه، وإن كان بحدثان دخولها، ولم يطل أمرها معه لزمه نصفه، فوجه الإطلاق أنها فعلت ما يلزمها من التمكين فعجزه عن استيفاء حقه لا يسقط ما وجب لها، ووجه التفصيل أنه دخل على أن يستمتع بلا وطء فلا يجوز أن يكمل عليه الصداق من غير استيفائه كما لو حبس بمرض أو سجن، فإذا كانت إقامته وتلذذه منها، فقد استمتع بغاية ممكنة فأشبه السليم إذا وطيء. فصل [7 - إذا طلق عليه بالعنة]: إذا طلق عليه بالعنة ثم تزوجته بعد ذلك عالمة بعنته، فلها أن ترفعه وتضرب له الأجل ثانية ولا يقطع خيارها علمها بذلك بخلاف الخصي والمجبوب لأن الاعتراض مرض من الأمراض يرجى زواله، فإذا تزوجته أمكن أن يكون قد زال مرضه عنه، فلم يوجب ذلك رضاها به لا محالة، والجب والخصاء أمر ثابت غير زائل فلا يقدم عليه إلا مع الرضا به. * * *   (1) انظر: المدونة: 2/ 168 - 169، التفريع: 2/ 48، الكافي ص 258. (2) بها استمتاع: سقطت من (ق) ومن (ر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 باب: [في متعة الطلاق] ومتعة الطلاق (1) مستحبة غير مستحقة ولا يجبر عليها من أباها (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3) لأن الطلاق تأثيره الإسقاط دون الإيجاب بدليل سقوط نصف المهر المسمى قبل الدخول، ولأنه نوع من البينونة كالموت، ولأن الحقوق التي يتعلق وجوبها بالنكاح للمرأة لا بد أن تكون معتبرة بها وبالزوج كالمهر والنفقة، فأما بالرجل وحده فليس فيها. فصل [1 - لمن تكون متعة الطلاق]: وهي لكل مطلقة كانت مدخولًا بها أو غير مدخول بها إلا المطلقة المفروض لها قبل الدخول والملاعنة والمختلعة، وإنما قلنا: إنها لكل مطلقة لقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} (4) فعم، وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (5) ولم يخص، ولأنه ضرب من التسريح بالجميل والإحسان. فأما المطلقة التي قد فرض لها ولم يدخل بها، فإنه لما سقط نصف المهر المسمى لها بالطلاق وهو آكد من المتعة امتنع أن يجب لها شيء مستأنف.   (1) متعة الطلاق: هو ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه إياها (حدود ابن عرفة - مع شرح الرصاع ص 183). (2) انظر: الموطأ: 3/ 573، التفريع: 2/ 52، الكافي ص 254. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 194، المهذب: 2/ 164. (4) سورة البقرة، الآية: 236. (5) سورة البقرة، الآية: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 وأما الملاعنة فإنما (1) لم يكن لها متعة لأن تسريحها على غير الجميل بل على نهاية القبيح، ولأنها غير مطلقة، والمختلعة قد دفعت شيئًا عندها أو أسقطت واجبًا كان لها، فامتنع أن يلزم لها شيء مستأنف. * * *   (1) في (م): فإنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 باب: [النفقة على الأزواج في النكاح] والنفقة واجبة للزوجة بالعقد والتمكين من الاستمتاع (1)، والأصل في وجوبها قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2)، وقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تقول امرأتك أنفق عليّ أو طلقني" (4)، ولسان الزوجية عقد على منافع والنفقة في مقابلة استدامة تلك المنافع. فصل [1 - متى تجب النفقة]: ولا تجب النفقة إلا بالدخول أو بأن يدعى إليه، وأن يكون الزوج بالغًا، وهي ممن يستمتع بمثلها ويمكن وطؤها وإن لم تبلغ، ولا نفقة لناشز، وإنما شرطنا في وجوبها أن يدخل أو أن يدعى للبناء (5) لأنها في مقابلة التمكين من الاستمتاع بدليل أن الناشز لا نفقة لها، فإذا حصل الدخول فقد حصل ما هي عوض عليه، وكذلك التمكين منه لأنه إذا حصل (6) كان الامتناع من جهته فلا يلزم المرأة شيء منه، وإنما شرطنا أن يكون الزوج بالغًا خلافًا لأبي حنيفة، ولأحد قول الشافعي (7)، لأن الصغير لا يتأتى منه الاستمتاع الذي يعاوض   (1) انظر: المدونة: 2/ 192 - 193، التفريع: 2/ 53 - 54، الرسالة ص 200 - 209، الكافي ص 254 - 256. (2) سورة البقرة، الآية: 228. (3) سورة البقرة، الآية: 232. (4) أخرجه البيهقي: 7/ 471، وأحمد: 2/ 476، والدارقطني: 2/ 309، وقال الألباني: صحيح موقوفًا (إرواء الغليل: 7/ 240). (5) للبناء: سقطت من (م). (6) في (م): جعل. (7) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 91، مختصر المزني ص 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 عليه لصغره، وهي في مقابلته، وإنما شرطنا أن تكون ممن يوطأ مثلها خلافًا للشافعي في إسقاطه اعتبار ذلك في أحد قوليه، لأن الاستمتاع غير متأت منها فلم تستحق العوض عليه لقصورها عن بلوغه، وإنما قلنا: إنها إذا كانت تطيق الوطء لزمته النفقة عليها، وإن لم تكن بالغًا لأن المعنى الذي يعاوض به في النفقة موجود كالبالغ، وإنما قلنا: لا نفقة لناشز خلافًا لما يحكى من ابن عبد الحكم إن صح، لما بيناه في مقابلة التمكين من الاستمتاع دون ملكه، فإذا عدم التمكين لم تجب كالثمن والمثمن في البياعات. فصل [2 - المعتبر بالنفقة]: الاعتبار بالنفقة بحال الزوجين معًا فيفرض لها كفايتها على ما يرى من قدرها وقدر زوجها من اليسر والعسر وليست بمقدرة (1) خلافًا للشافعي (2) في قوله: إنها مقدرة لا اجتهاد للحاكم فيها ومعتبرة بحال الزوج وحده، فعلى الموسر مدان وعلى المتوسط مد ونصف وعلى المعسر مد لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3)، وذلك يقتضي مراعاة حالهما جميعًا، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند لما قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (4)، فردها إلى العلم بمقدار كفايتها ولم يقدر بحد، ولأن النفقة في مقابلة الاستمتاع، فلما وجب أن تبذل له من الاستمتاع قدر كفايته بالمعروف، فكذلك يلزمه بدل النفقة لها (5).   (1) في (م): مقدرة. (2) انظر: الأم: 5/ 106، 109، مختصر المزني ص 231، الإقناع ص 142. (3) سورة البقرة، الآية: 232. (4) أخرجه البخاري في النفقات، باب.: إذا لم ينفق الرجال، فللمرأة أن تأخذ بغير علمه: 6/ 193، ومسلم في الأقضية، باب: قضية هند: 3/ 1338. (5) لها: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 فصل [3 - إذا كان مثلها لا يكفيها خادم واحد]: إذا كان مثلها لا يكفيها خادم واحدة، وحاله تحمل لزمه أن يخدمها خدمة مثلها (1)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) ولأنه لما وجب إخدامها بالواحدة لحاجتها إليها كذلك إذا احتاجت إلى اثنتين. فصل [4 - إذا أعسر الزوج بالنفقة]: إذا أعسر بالنفقة ولم ترض المقام معه ضرب له أجل وتُلُوِّمَ في أمره فقيل: شهر، وقيل: الأيام اليسيرة الثلاثة ونحوها، فإن أنفق وإلا طلقت (4) عليه إلا أن تكون تزوجته فقيرًا تعلم أن لا مال له فلا يكن لها مفارقته بعسر (5)، وإنما قلنا: إنه يفارق بإعسار النفقة خلافًا لأبي حنيفة (6)، لقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (7)، وفي إمساكه إياها بغير إنفاق إضرار بها وتضيق عليها، وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (8)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تقول امرأتك أنفق عليّ أو طلقني" (9)، ولأن النفقة في مقابلة الاستمتاع، فلما كانت إذا نشزت لا نفقة لها لمنعها الاستمتاع كذلك   (1) انظر: التفريع: 2/ 55، الرسالة ص 409. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 223، الأم: 5/ 107، مختصر المزني ص 20 - 231. (3) سورة النساء، الآية: 19. (4) في (م): طلق. (5) انظر: المدونة: 2/ 193 - 194، التفريع: 2/ 55 - 56، الكافي ص 255 - 256. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 223، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 96. (7) سورة الطلاق، الآية: 6. (8) سورة البقرة، الآية: 229. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة (782). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 إذا لم تجب النفقة من جهته، فلها مفارقته، ولأنها لما كان مفارقته في الإيلاء والعنة وضررهما أيسر من ضرر النفقة، فكان في عدم النفقة أولى. فصل [5 - دليل ضرب الأجل للمعسر عن النفقة]: وإنما قلنا: يضرب له أجل ليتبين أمره ويصح إعساره لأنه لا يجوز أن يطلق عليه بإعسار المدة القريبة كاليوم واليومين، لأن ذلك لا يضر الإضرار الشديد، ولا يكاد يخلوا أحد منه، وإنما الذي يؤثر ما يستدام من ذلك (1)، واختلاف قوله في مدة الأجل يرجع إلى ما يختبر أمره فيه على ما يشاهد من حاله. فصل [6 - عدم مفارقة من تزوجت فقيرًا عالمة به]: وإنما قلنا: إنها إذا تزوجته فقيرًا تعلم بحاله فلا مفارقة لها لأنها راضية بعيبه، فقد أقدمت على بصيرة ومعرفة بحاله، كمشتري السلعة عالمًا بعيبها. فصل [7 - طلاق المعسر بالنفقة]: وطلاق المعسر بالنفقة إن كان بعد الدخول رجعي، فإن أيسر فله الرجعة، لأن الفرقة إنما كانت من أجل (2) الضرر، فإذا زال كانت الرجعة كما لو زال قبل الفرقة لم يكن لها المطالبة بالفرقة ورجعت معتبرة باليسر، فإن وجد منه صحت، وإن راجع معسرًا لم تصح، فإن كان قبل الدخول مثل أن يدعى إلى البناء فلا يبنى ولا يجد ما ينفق فالطلاق بائن (3). فصل [8 - الإعسار بالصداق]: الإعسار بالصداق أن يوجب لها الفرقة إذا طلبت بذلك بعد ضرب الأجل على حسب ما يرجى له من زوال الإعسار (4) خلافًا لأبي حنيفة (5)، لأن لها أن تمنع   (1) في (م): استدامة ذلك. (2) في (م): لأجل. (3) و (4) انظر المدونة: 2/ 192 - 194، التفريع: 2/ 55، الكافي ص 256. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 223، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 نفسها حتى تقبض الصداق، كما أن للبائع أن يمنع إقباض السلعة حتى يقبض الثمن، ففي منع المفارقة إضرار بها لأنها إما أن تلزم إضراره أو تسليم البضع إليه والرضا بذمته، وكل ذلك غير واجب، واعتبارًا بإعسار النفقة، ولأن تعذر الاستمتاع من جهته إذا أدى إلى الضرر وجب لها الخيار كالعنة والإيلاء. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 باب: [نكاح المريض المخوف عليه] المريض المخوف عليه لا يجوز له أن يتزوج (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2) لأنه محجور عليه في ماله أن يخرجه على غير عوض فيما لا حاجة به إليه لحق الورثة والنكاح يتضمن هذا المعنى لأنه يوجب المهر والنفقة ولا حاجة به إلى الوطء فيجب منعه منه، ويدل على ثبوت الحجر أنه ممنوع من الهبة والصدقة وما يفعله من ذلك يوقف على الثلث، ولأن طلاقه غير مانع من الميراث لأن فيه إخراج الوارث عن الميراث وفي تزويجه هذا المعنى. فصل [1 - في فسخ نكاح المريض المخوف عليه]: إذا ثبت أنه غير جائز فإنه (3) يفسخ إذا وقع لأن كل نكاح غير جائز فيجب فسخه، والظاهر من قوله: إنه يفسخ بطلاق لأنه مفتقر إلى اجتهاد ولقوله الخلاف فيه (4)، وسواء دخل أو لم يدخل لأن الدخول لا يصحح العقد الفاسد، فإن لم يدخل فسخ ولا شيء لها، وإن دخل فلها الصداق من ثلثه لفساد العقد، وإن لم يكن سمى لها، فلها صداق المثل لأنه قيمة البضع، وإن كان هناك مسمى نظر، فإن كان مثل صداق المثل أو أقل كان جميعه لها، وإن زاد عليه ففيه روايتان مبنيتان على وجوب التوارث إن مات قبل الفسخ: إحداهما أنه ليس لها إلا بقدر صداق المثل لأنا إن زدناها على ذلك لم تخل أن يكون وارثة أو غير وارثة، فإن كانت ترثه كان ذلك وصية لوارث، وإن كانت لا ترثه   (1) انظر: المدونة: 2/ 186، التفريع: 2/ 56، الرسالة ص 201، الكافي ص 248. (2) انظر: بدائع الصنائع: 2/ 1520، المهذب: 2/ 33، و 67. (3) في (م): فيجب. (4) لما جاء في المدونة قوله: قد اختلف فيه: 2/ 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 كان ذلك إخراج مال على غير عوض، والأخرى أن لها الجميع لأنها ليست بوارثة، فأكثر ما في هذا الباب أن يكون وصية لغير وارث. فصل [2 - في ثبوت المريض المخوف عليه على النكاح]: وفي ثبوته على النكاح إن صح روايتان مبنيتان على أصل هو فساده هل هو في عقده أم لمعنى غير عقده، فإذا كان فساده في عقده لم يصح الثبوت عليه، وإذا قلنا: أن فساده لحق الورثة صح بعد زوال المرض لزوال حقوقهم منه كنكاح العبد بغير إذن سيده وهذا اعتلال عبد الملك. فصل [3 - نكاح الأمة والكافرة]: واختلف في نكاحه الأَمة والكافرة (1)، فقال أبو مصعب (2): يجوز لأن الذي لأجله منعنا نكاح الحرة المسلمة أن فيه إدخال وارث على ورثته، وذلك معدوم ها هنا، وقال عبد الملك: لا يجوز لأن الأَمة قد تعتق والكافرة قد تسلم قبل الموت فيصيران من أهل الميراث. فصل [4 - في طلاق المريض المخوف عليه]: وطلاقه لا يمنع الميراث (3) خلافًا للشافعي (4)، لأنه مروي عن عمر وعثمان وعليّ وأبي بن كعب وابن الزبير (5) ولا مخالف لهم، ولأنه محجور عليه على ما ذكرناه لحقوق الورثة، وذلك يمنع أن يملك إزالتهم عما أوجب الحجر لهم. فصل [5 - ثبوت الميراث لمن طلقت في مرض الموت سواء مات في العدة أو بعدها]: وسواء مات في العدة أو بعد انقضائها خلافًا لأبي حنيفة (6)، لأن الميراث إنما   (1) انظر: المدونة: 2/ 186، التفريع: 2/ 56، الكافي ص 248. (2) أبو مصعب: أبو بكر القاسم بن الحرث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، روى عن مالك والزهري، وعنه البخاري ومسلم (ت 242 هـ) (تذكرة الحفاظ: 1/ 428، ترتيب المدارك: 3/ 347). (3) انظر: المدونة: 2/ 132 - 133، التفريع: 2/ 80 - 81، الرسالة ص 201. (4) انظر: الأم: 5/ 254، انظر: مختصر المزني ص 194 - 195. (5) أخرج هذه الآثار: الموطأ: 2/ 571، والبيهقي: 7/ 362 - 363، ابن أبي شيبة: 7/ 253، عبد الرزاق: 6/ 340. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 303، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 يثبت لها لأن الطلاق صادف سببه وهو ثبوت الحجر عليه من أجلها، فلا فرق بين بقاء العدة وزوالها لوجوب الميراث لها بحصول السبب (1) الذي هو الحجر. فصل [6 - في كون الطلاق قبل الدخول أو بعده]: وسواء كان الطلاق قبل الدخول أو بعده خلافًا لأبي حنيفة (2) لأنها مطلقة في المرض ثبت لها حق الحجر عليه، فإذا مات فيه ورثته مع سلامة الحال أصله المدخول بها. فصل [7 - ميراث المطلقة في المرض المخوف بعد أن تتزوج]: وترثه إن تزوجت خلافًا للشافعي في بعض أقاويله (3)، لأن الميراث إنما وجب لها بإخراجه إياها منه بعد ثبوت حق الحجر لها عليه، وهذا موجود مع (4) تزويجها، فلم يكن لاعتبار التزويج معنى كما لم يكن لاعتبار العدة معنى. فصل [8 - إذا صح من مرضه ثم مات]: وإذا صح من مرضه ثم مات فلا ترثه على أي وجه كان خلافًا لزفر، لأنه إذا صح فقد زال الحجر عنه فصار كمن طلق في الصحة. فصل [9 - إذا سألته الطلاق وهو مريض]: ولو سألته الطلاق وهو مريض فطلقها أو خالعها ورثته (5) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6)، لأن عثمان - رضي الله عنه - حكم بذلك في تماضر بنت الأصبع (7)   (1) في (م): سببه. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 203، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 52. (3) انظر: 5/ 254، مختصر المزني ص 195. (4) في (م): بعد. (5) انظر: الموطأ: 2/ 571 - 572، التفريع: 2/ 80 - 81، الكافي ص 270 - 271. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 303، مختصر المزني ص 195. (7) تماضر: بنت الأصبع، بن عمرو بن ثعلبة الكلبية. (الإصابة: 4/ 255). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 زوجة عبد الرحمن بن عوف، وكانت عنده على طلقة فسألته في شكوته الذي مات فيه (1) أن يطلقها تطليقة هي آخر طلاقها فورَّثها عثمان منه (2)، ولم ينكر ذلك عليه أحد، ولأنها مطلقة في المرض كالتي لم تأذن، ولأن الإنسان قد يضيق على زوجته حتى تسأله الخلع فحسم الباب بتوريثها، ولأن الإذن في إخراجها من الميراث بعد ثبوت سببه لا يؤثر كما لو قالت: لست أرثك. فصل [10 - إن ماتت المطلقة في المرض المخوف عليه]: وإن ماتت هي لم يرثها (3) لأنها لم تخرجه هي عن الميراث وليست محجورًا عليها لأجله فافترق بحكم موته وموتها. فصل [11 - عدة المطلقة التي مات في المرض المخوف]: وعدتها عدة طلاق لأنها قد بانت منه بالطلاق دون الموت، وإنما قطع المرض من أحكام المبتوتة انتفاء الإرث فقط. فصل [12 - نكاح المولي عليه]: ولا يجوز نكاح المولى عليه إلا بإذن وليه (4)، وهو السفيه المبذر لماله لأنه الناظر له والقائم بأمر مصالحه وهو غير عارف بحظوظه، فقد يفعل ما يكون عليه فيه ضرر في ماله وإضاعته فيزول معنى الحجر عليه، فإذا رأى له السداد جاز إذنه له، وإن تزوج بغير إذن فإن رآه حظًّا أمضاه وإن رآه عليه ضررًا فسخه، وكان فسخه طلاقًا، وإن تزوجها من بعد بقيت عنده على طلقتين، وإن فسخ قبل الدخول فلا شيء لها وبعده ينزع منها المطهر ويترك لها ربع دينار، ولا تتبعه بعد فك حجره بخلاف العبد لأن هذا محجور عليه لحق نفسه والعبد لحق سيده. ...   (1) أي في مرضه الذي مات فيه. (2) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 572، البيهقي: 7/ 363. (3) انظر: المدونة: 2/ 132، التفريع: 2/ 80، الكافي ص 271. (4) انظر: المدونة: 2/ 145 - 148، التفريع: 2/ 56، الكافي ص 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 باب: [المحرمات من النساء] كل امرأة يجوز في الجملة (1) العقد عليها إلا من كان فيها معنى يوجب تحريمها، والتحريم على ضربين: تحريم متأبد وتحريم غير متأبد (2)، فالتحريم الذي ليس بمتأبد يرجع إلى أمرين: أحدهما إلى صفة في المرأة يزول التحريم بزوالها، والأخرى إلى صفة في العقد، فأما الراجع إلى صفة في المرأة فمثل نكاح المعتدّة والمستبرأة، ومن عقد عليها للغير والمحرمة والأَمة للحر الذي يجد (3) الطول ولا يخشى العنت (4) دون العبد، والأَمة الكتابية للمسلم حرًّا كان أو عبدًا، والمرتدة والكافرة غير الكتابية من المجوس والوثنيات ونكاح الرجل أَمة نفسه أو ابنه أو عبده، وما في معناه تزويج المرأة بعبدها أو عبد ابنها، وأما تزويج الرجل أمة أبيه فجائز، وكذلك وطء حرائر الكتابيات بالعقد وأمائهن بالملك، فكل هذا إذا زالت صفة منعه جاز العقد ونحن نبينه. فصل [1 - العقد على المعتدة]: أما المعتدة فلا يجوز العقد عليها إجماعًا: والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (5)، وسواء كانت عدتها من طلاق أو وفاة.   (1) في الجملة: سقطت من (ق). (2) في جملة أحكام المحرمات من النكاح انظر: المدونة: 2/ 197 - 205، التفريع: 2/ 44، الرسالة ص 198 - 199، الكافي ص 239 - 241. (3) في (م): الواجد. (4) العنت: يعني الزنا، وأصله من كلمة عنوة إذا كانت صعبة المسلك (غرر المقالة ص 200). (5) سورة البقرة، الآية: 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 فصل [2 - التعريض بخطبة المعتدة]: ولا يجوز أن يخطب في عدتها بالتصريح ولا بأس بالتعريض لها (1)، وهو القول الذي يفهم منه إرادة نكاحها من فحواه (2)، أو لحنه (3)، أو ما ينضم إليه من دليل الخطبة (4)، وشاهدها نحو قوله: إني في عشيرتك (5) لراغب وعليك لحريص ومقارب هذا من القول، والأصل في هذه الجملة قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} (6) قيل في التفسير هو أن يقول: إني لك لمحب، وإني على القرب منك لحريص وإذا حللت فادنيني، وإن النساء لمن شأني هذا (7)، وما أشبهه فثبت بالظاهر منع التصريح وإباحة التعريض. فصل [3 - إذا خطب المعتدة صريحًا وتزوجها بعد العدة]: فإن خطبها صريحًا في العدة ثم تزوجها بعد العدة، ففيها روايتان (8): إحداهما استحباب الفراق، والأخرى إيجابه، فوجه الإيجاب قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (9)، والنهي يتقضي الفساد، ولأن السبب إذا منع   (1) انظر: التفريع: 2/ 59 - 60، الرسالة ص 203. (2) فحواه: وهو أن يكون المسكوت عنه موافقًا في الحكم للمذكور، ويكون أولى بالحكم من المنطوق (مختصر ابن الحاجب: 1722، وإرشاد الفحول ص 178). (3) لحنه: وهو أن يكون المسكوت عنه موافقًا في الحكم للمذكور ويكون مساويًا له (مختصر ابن الحاجب: 2/ 172، وإرشاد الفحول ص 178). (4) في (ق): الحال. (5) في (م): عشيرتك. (6) سورة البقرة، الآية: 235. (7) تفسير الطبري: 2/ 526 - 527. (8) انظر: الموطأ: 2/ 524، التفريع: 2/ 59 - 60، الرسالة ص 203، الكافي ص 236. (9) سورة البقرة، الآية: 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 الخطبة في بعض الأحوال جاز أن يؤثر في إيجاب الفراق كالخطبة على خطبة أخيه (1)، ووجه نفي الإيجاب أن الخطبة ليست بعقد، وإنما هي استدعاء والتماس فمنعها لا يوجب الفراق إذا وقع العقد على شروط سواها ولم يتعلق به إفساد على الغير كخطبة المحرمة ومواعدة المريضة، ووجه الإيجاب أن سبب العقد لما جرى مجراه في النهي عن إيقاعه في العدة جاز أن يؤثر في رفع العدة كما لو وقع العقد في العدة، ولأن ذلك كالردع لهما لئلا يعودا لمثله. فصل [4 - من تزوج امرأة في عدتها]: ومن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها في العدة فسخ نكاحه وتأبد عليه تحريمها (2)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، لقول عمر - رضي الله عنه -: "أيما امرأة نكحت في عدتها ثم دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لم ينكحها أبدًا" (4)، وروي عن عليّ - رضي الله عنه - مثله (5)، ولا مخالف لهما، ولأنه يتهم أن يكون استعجل الشيء قبل وقته فعوقبت بأن حرمت عليه كقاتل العمد، وهذا أصل يدعى على وجه الجملة دون التعليل، ولأنه دخل شبهة في النسب فتأبد التحريم عليه كالملاعن. فصل [5 - إذا تزوجها في العدة ودخل بها بعد العدة]: وإن تزوجها في العدة ودخل بها بعد العدة ففيها روايتان (6): إحداهما تأبيد التحريم، والأخري نفي التأبيد، فوجه إثباته (7) قول عمر - رضي الله عنه -: فإن   (1) في (ق): الغير. (2) انظر: التفريع: 2/ 59 - 60، الرسالة ص 203، الكافي ص 236. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 178، الأم: 5/ 37. (4) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 536. (5) مصنف عبد الرزاق: 6/ 208. (6) انظر: المدونة: 2/ 282، التفريع: 2/ 59 - 60، الكافي ص 236. (7) في (م): التأبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 دخل بها فلا ينكحها أبدًا (1)، ولم يفرق، ولأنه واطيء عن نكاح في عدد كالواطيء في العدة نفسها، ووجه نفيه أنه لم يطأ في العدة كالذي لم يطأ أصلًا، ولأنه لم يدخل شبهة في النسب وهذه علة التأبيد. فصل [6 - إذا لم يطأها في العدة ولا بعدها]: وإن لم يطأها (2) أصلًا في العدة ولا بعدها فسخ نكاحه، وفي تأبيد التحريم روايتان (3): فوجه نفيه وهو الظاهر أنه لم يوجد فيه معنى تأبيد التحريم وهو إدخال الشبهة في النسب، ولأن مجرد العقد الفاسد لا يتعلق به تحريم مؤبد ما لم يقارنه وطء أصله إذا كانت تحته امرأة فتزوج بنتها ولم يطأها، ووجه الثانية (4) اعتبارًا بالواطيء، ولأن منع ذلك حسم الباب. فصل [7 - نكاح المستبرأة]: وأما المستبرأة فإنها على ضربين: مستبرأة من وطء يلحق النسب فيه كالواطيء في نكاح فاسد أو شبهة نكاح أو ملك، فهذا لا يجوز العقد عليها إجماعًا (5)، ومستبرأة من وطء لا يلحق النسب فيه كالزنا، فهذا لا يجوز العقد عليها عندنا (6) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (7)، ويتضح الكلام في هذه المسألة في الحامل من زنا، فدليلنا قوله عَزَّ وجَلَّ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (8) فعم، ولأنه حمل لا يلحق بالعاقد، فكان مانعًا من العقد والوطء أصله إذا كان لاحقًا بالواطيء.   (1) الموطأ: 2/ 536. (2) في (م) و (ر): فإذا لم يطأ. (3) انظر: التفريع: 2/ 59 - 60، الكافي ص 236. (4) الثانية: سقطت من (م). (5) انظر: المحلي: 11/ 727. (6) انظر: التفريع: 2/ 60، الكافي ص 236 - 238. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 178، الإقناع ص 134. (8) سورة الطلاق، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 فصل [8 - في تزويج الزانية]: ويجوز تزويج الزانية إذا استبرأت من الزاني بها ومن غيره (1)، خلافًا لمن منع (2) ذلك لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) فعم، ولأنها خالية من الأسباب المانعة من نكاحها، فجاز العقد عليها كغير الزانية، ولأن الزنا ليس فيه أكثر من كونه كبيرة يعاقب عليها، وذلك لا يمنع إنكاحها كالسرقة وشرب الخمر والقتل، وإذا ثبت جوازه فابتداؤه مكروه لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} (4)، ولا بد أن يكون لهذا تأثير في المنع، وقوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليك بذات الدين تربت يداك" (6)، ولأن ذلك لا يؤمن معه فساد النسب، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "تخيروا لنطفكم" (7). فصل [9 - عدم انفساخ نكاح الزوجة]: ومن زنت امرأته لم ينفسخ (8) نكاحها (9) خلافًا لمن ذهب إلى ذلك (10)،   (1) انظر: التفريع: 2/ 60، الكافي ص 244. (2) وروي عن ابن مسعود والبراء بن عازب وعائشة: أنها لا تحل للزاني بحال (المغني 6/ 603). (3) سورة النساء، الآية: 3. (4) سورة النور، الآية: 3. (5) سورة النساء، الآية: 25. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (747). (7) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: الأكفاء: 1/ 633، وفي إسناده الحارث بن عمران المديني، حديثه هذا لا أصل له، وقال الزيلعي: روي عن حديث عائشة وأنس وعمر بن الخطاب من طرق عديدة كلها ضعيفة (نصب الراية: 3/ 197). (8) في (ق): يفسخ. (9) وهو قول عامة أهل العلم (انظر المغني: 6/ 603). (10) وقال جابر بن عبد الله: أن المرأة إذا زنت يفرق بينهما، وكذلك روي عن الحسن، وعن عليّ - رضي الله عنه - (المغني: 6/ 603). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 لما روي: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: "طلقها"، قال: إني أحبها، قال: "أمسكها" (1)، ولأن الزوج لو أقر بأنها زنت لم ينفسخ نكاحها منه، فكذلك إذا ثبت بغير إقراره اعتبارًا بسائر الأصول طردًا وعكسًا، وهو أن كل معنى لو أقر به الزوج لانفسخ نكاحه، فكذلك إذا ثبت بغير إقراره كالردة، وكونها أخته من الرضاعة، وكل معنى لو أقر به لم ينفسخ نكاحه، فكذلك إذا ثبت بغير إقراره كإصابتها القتل والسرقة. فصل [10 - منع نكاح المحرم وذات الزوج]: وقد ذكرنا في الحج منع نكاح المحرمة، فأما ذات الزوج فلا يجوز العقد عليها ما لم تبن منه لقوله تعالى عقيب ذكر المحرمات: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (2) ولأن ملك استباحة البضع لا يقع فيه اشتراك، ولا خلاف في ذلك. فصل [11 - نكاح الحر للأَمة]: فأما نكاح الأَمة للحر فلا يجوز إلا بشرطين: عدم الطول لنكاح الحرة وهو مهرها، والآخر خشية العنت (3)، فمتى عدما أو أحدهما لم يجز خلافًا لأبي حنيفة في إسقاطه خشية العنت (4) لقوله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا .. إلى قوله: .. ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (5) (فعلقه بشرطين،   (1) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء: 2/ 541، والنسائي في النكاح، باب: تزويج الزانية: 6/ 55، وأطلق النووي عليه الصحة، ولكن نقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء (تلخيص الحبير: 2/ 225). (2) سورة النساء، الآية: 23. (3) انظر: المدونة: 2/ 163، التفريع: 2/ 45، الرسالة ص 200، الكافي ص 244 - 245. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 178، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 23. (5) سورة النساء، الآية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 فدل على منعه مع عدمهما، وعند المخالف أن خشية العنت) (1)، لا اعتبار بها، ولأنه حر مستغن عن استرقاق ولده فأشبه من تحته حرة. فصل [12 - جواز نكاح الأمة للعبد مطلق]: ويجوز ذلك للعبد على الإطلاق لنقصه بالرق فلا عار عليه في استرقاق ولده، لأن ذلك ليس بأكثر من رق نفسه، والحر ممنوع منه لحرمته فليس له استرقاق ولده مع الاستغناء عنه. فصل [13 - الحر يجمع أربع مملوكات]: وللحر أن يجمع (2) بين أربع مملوكات إذا خشي العنت (3) خلافًا للشافعي (4) لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (5) فعم، ولأنهن جنس أبيح نكاحهن فجاز الجمع بين أربع منهن كالحرائر، ولأن الشرط إذا وجد استوى فيه الواحدة (6) والجماعة. فصل [14 - فيمن تزوج أمة ثم زال عنه شرط الإباحة]: ومن تزوج أمة على الشرط الجائز ثم زال شرط الإباحة وهي عنده لم ينفسخ نكاحها خلافًا لبعضهم (7)، لأن شرط المنع إذا لم يوجد تأبيد التحريم كان طرؤه على العقد الذي عقد معه غير مانع من استدامته، وإن منع ابتداؤه كالإحرام.   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) في (م): الجمع. (3) انظر: المدونة: 2/ 163، التفريع: 2/ 45، الرسالة ص 200. (4) انظر: الأم: 5/ 10 - 11. (5) سورة النساء، الآية: 25. (6) في (م): الواحد. (7) وهو قول المزني: أنه يفسد النكاح (انظر مختصر المزني ص 170، المغني: 6/ 599). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 فصل [15 - نكاح الأَمَة على الحرة]: إذا كانت عنده حرة فتزوج عليها أمة، فيها روايتان (1): إحداهما أن نكاح الأَمة باطل، والأخرى أنه صحيح وللحرة الخيار، فوجه القول بأنه باطل أن تكون الحرة من الطول لأن الطول إذا كان القدرة على صداق الحرة كان وجود الزوجية أولى بأن يكون طولًا، ووجه قوله إنه يصح هو أن الطول القدرة على صداق الحرة لأنه السعة في المال أو على حرة تكون بدلًا من الأَمة لا حرة متقدمة. فصل [16 - إذا قلنا: إن النكاح جائز فللحرة الخيار]: إذا ثبت ما ذكرناه: أن نكاح الأمة باطل فلا تفريع، وإن قلنا: إنه جائز فللحرة الخيار للنقص الداخل عليها بأن تكون ضرتها أمة، وفي أي شيء يكون لها الخيار، قال مالك: في أن تقيم معه أو تفارقه، وقال عبد الملك: في أن تقر نكاح الأمة أو تفسخه، فلمالك أن لها إزالة الضرر عن نفسها بما لا يضر بغيرها، فإما أقامت أو فارقت، ولا سبيل لها على نكاح الأمة لأن في ذلك إضرار بغيرها، ولعبد الملك أن الضرر الذي لحقها هو لكون الأمة ضرة لها أو داخلة عليها فلها أن تزيله، ومتى قلنا: إن لها الخيار في فسخ نكاح نفسها لم يكن ذلك خيارًا في إزالة الضرر، بل في زيادة منه. فصل [17 - نكاح الحرة على الأمة]: إذا تزوج أمة على الوجه المجوز له، فله أن يتزوج عليها حرة بلا خلاف (2)، وإن علمت الحرة فلا خيار لها وإن لم تعلم ففيها روايتان: إحداهما أن لها الخيار بين أن تقيم أو تفارق، والأخرى أنه لا خيار لها. فوجه قوله: لها الخيار فلرفع الضرر عنها يكون الأمة ضرة لها (3)، ووجه قوله: لا خيار لها فلأنها   (1) انظر: المدونة: 2/ 164، التفريع: 2/ 45، الكافي ص 245. (2) انظر: المدونة: 2/ 164، التفريع: 2/ 46، الكافي ص 245. (3) في (م): ضرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 فرطت في استعلام ذلك (1)، وكذلك لو كانت تحته أمتان فعلمت بواحدة ولم تعلم بالأخرى فإنه على روايتين: وكل هذا إذا كان الزوج حرًّا، فأما إن كان عبدًا فلا مقال لها رواية واحدة. فصل [18 - جواز نكاح حرائر أهل الكتاب]: نكاح حرائر أهل الكتاب ووطء إمائهن بالملك جائز (2) لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3)، (ولأن كل جنس تؤكل ذبائحهم جازت مناكحتهم كالمسلمين، فأما وطؤهن بالملك فلقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (4) فعم) (5)، ولأن كل جنس جاز نكاح حرائرهم جاز وطء إمائهم بالملك كالمسلمين، فإذا ثبت جوازه فإنه مكروه، ولأنه سكون إلى الكفار وركون إليهم، وقد قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (6)، ولأنه يتولى ولده من يشرب الخمر ويأكل الخنزير ولا يؤمن أن يحبب إليه ذلك وتنشؤه عليه فيألفه ويعتاده، ولأنها قد تهرب به إلى دار الحرب وهو صغير فيفسد دينه. فصل [19 - نكاح الأمة الكتابية]: وإنما قلنا: إن نكاح الأمة الكتابية غير جائز للمسلم جملة (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)، لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (9) فعم،   (1) في (م): في الاستعلام من ذلك. (2) انظر: المدونة: 2/ 164، التفريع: 2/ 45، الرسالة ص 200، الكافي ص 244. (3) سورة المائدة، الآية: 5. (4) سورة النساء، الآية: 36. (5) ما بين قوسين: سقط من (م). (6) سورة الروم، الآية: 21. (7) انظر: المدونة: 2/ 164، التفريع: 2/ 45، الرسالة ص 199، الكافي ص 243. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 178، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 7. (9) سورة البقرة، الآية: 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 وقوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (1)، فعلقه بشرط الإيمان ولأن ذلك يؤدي إلى أشياء ممنوعة لأن الأمة قد تكون ملكًا للكافر فإن قلنا: لا يجوز لمسلم نكاح أمة الكافر حصل منه تفريق بين أمة الكافر وأمة المسلم وأحد لم يفرق، وإن قلنا: يجوز فالولد الحادث إما أن يكون ملكًا لسيد الأمة، فذلك يوجب ابتداء ملك النصراني للمسلم، وذلك غير جائز، وإما أن لا يكون ملكًا له فذلك خلاف الأصول فلما أدى إلى هذا الفساد وجب منعه. فصل [20 - استواء الحر والعبد في ذلك]: وإنما استوى الحر والعبد في ذلك بخلاف الأمة المسلمة لاستوائهما في معنى المنع وهو أداؤه إلى ما بيناه من نقض الأصول. فصل [21 - منع نكاح المجوسيات]: وإنما منعنا نكاح المجوسيات وسائر المشركات سوى الكتابيات خلافًا لمن حكي عنه إباحته في المجوس (2)، لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (3)، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (4) فدل على منع غيرهن، ولأن كل جنس لا تؤكل ذبائحهم لا تجوز مناكحتهم كالوثنيين، ولأنهم ليسوا من أهل كتاب كأهل الأوثان، فأما المرتدة فلأن كل معنى إذا طرأ على النكاح أوجب فسخه، فإذا وجد في الابتداء منع العقد أصله الملك والرضاع.   (1) سورة النساء، الآية: 25. (2) قال ابن عبد البر: على هذا إجماع فقهاء الأمصار وجمهور العلماء وما خالفه فشذوذ لا يعد خلافًا ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس (المغني: 6/ 595). (3) سورة البقرة، الآية: 221. (4) سورة المائدة، الآية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 فصل [22 - نكاح الرجل أمة نفسه]: وإنما قلنا: إنه لا يصح أن يتزوج الرجل (1) أمة نفسه (2) لأنه يستبيح منافع البضع بملكه الرقبة، والتزويج إنما هو عقد معاوضة على استباحة منافع ليست بمملوكة فلم يصح ذلك في الملك كما لا يصح أن يستأجر أمته للخدمة لأنه يملك منافعها بملك الرقبة كذلك منافع بضعها. فصل [23 - تزوج الأب أمة ابنه]: وإنما قلنا: لا يصح أن يتزوج بأمة ابنه أو ابنته خلافًا لأبي حنيفة (3) لأن للأب شبهة في مال ابنه بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك" (4) ولوجوب نفقته عليه إذا احتاج، وسقوط القطع إذا سرق منه والحد إذا زنى بأمته، وإذا كان كذلك كان في معنى من يتزوج أمة نفسه فلم يجز. فصل [24 - الابن يتزوج أمة أبيه وأمه]: وإما قلنا: إن للابن أن يتزوج بأَمَة أبيه وأمَه لأنه لا شبهة له في ملكها كالأجانب، ولسان سائر الأحكام التي أثبتناها للأب في مال ابنه منتفية عن الابن في مال أبيه، ولأن كل أمة لو زنى بها لحد فإنه يجوز له أن يتزوجها أصله أَمَة الأخ. فصل [25 - التزوج بأمة عبده]: وإنما قلنا: لا يصح أن يتزوج أَمَة عبده لأنها في معنى أَمَته؛ لأن ملك عبده   (1) في (م) و (ر): الإنسان. (2) انظر: المدونة: 2/ 163، التفريع: 2/ 4 - 45. (3) انظر: تحفة الفقهاء: 1/ 130. (4) أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده: 2/ 769، قال البوصيري: إسناده صحيح، وصححه البزار وعبد الحق وابن القطان (انظر نصب الراية: 3/ 337). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 في حكم ملك نفسه (1) ألا تري أن له انتزاعها منه وأنه لا يحد بوطئها ولا يقطع في سرقتها، فكان ذلك آكد من ملك ابنه. فصل [26 - منع تزوج المرأة بعبدها]: وإنما قلنا: ليس لامرأة (2) أن تتزوج عبدها لأن منافع البضع يملكها الزوج على المرأة ولا تملكها المرأة عليه ألا ترى أن المعاوضة عليها يلزم الزوج دون المرأة، لأنه هو المقصود له عليها والمملَّك لها، فإذا ثبت ذلك استحال في العبد أن يملك منافع بضع سيدته لأن ملكها لرقبته يمنع أن يملك عليها منافع خدمتها، ولا يجوز أن تبيحه هي ذلك، لأنها ليست مالكة له على ما بيناه، ولأن ذلك يوجب تعارض الحقوق، ولأنه يملك بالتزويج منافع بضعها، وذلك يوجب أن تلزمها طاعته، وذلك له أي وقت طالب به، ويلزمها طاعته بالزوجية وتلزمه طاعتها بالرق وتلزمه النفقة عليها والكسوة (3) بالزوجية وتلزمها النفقة عليه بالملك، وفي ذلك تعارض الحقوق ولن (4) يكون أحدهما أولى من الآخر بها وذلك باطل. فصل [27 - تزوج المرأة عبد ابنها]: وإنما قلنا: إن ليس للمرأة أن تتزوج عبد ابنها لمثل ما له منعنا أن تتزوج عبد نفسها لأن ملك ابنها جار مجرى ملكها كملك الرجل لأَمَة ابنه. فصل [28 - إذا زالت أسباب التحريم عن المرأة جاز العقد عليها]: وإنما قلنا: إن هذه الأسباب إذا زالت عن المرأة جاز العقد عليها خلافًا لمن منع ذلك لأنها هي علة منعه، فإذا زالت لم يبق شيء يمنع لأجله. فالمعتدة إذا خرجت من عدتها جاز العقد عليها، وكذلك المحرمة إذا حلت.   (1) في (م): في حكم ماله. (2) في (م): للمرأة. (3) والكسوة: سقطت من (م). (4) في (م): لأن لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 والمستبرأة إذا زالت ريبتها وجلست المدة المضروبة لها، وكذلك من لها زوج إذا بانت منه جاز أن يعقد عليها غيره لزوال ملكه عن منافعها وواجد الطول للحرة إذا عدمه جاز له التزويج بالأَمَة، والأَمَة الكتابية إذا أعتقت جاز عقد المسلم عليها، والمرتدة إذا ثابت والمجوسية إذا أسلمت وسائر من ذكرناه. فصل [39 - في نكاح أهل الشرك]: نكاح أهل الشرك غير صحيح عندنا، وإنما يصححه (1) لهم الإِسلام ما لو ابتدؤوا عقده بعد الإِسلام لجاز، فأما لو ابتدؤوه في الإِسلام لم يجز فإنه لا يصح البقاء عليه كالعقد على ذوات المحارم والرضاع وغير ذلك (2)، وقال أبو حنيفة والشافعي (3): عقودهم صحيحة في الشرك، ودليلنا أنه قد ثبت أن صحة النكاح مفتقرة إلى شروط هي معدومة (4) في أنكحتهم منها الولي ورضا المرأة المنكوحة (5)، وأن لا يكون في عدة، وأنكحتهم خالية من هذا، فيجب فسادها لأن نكاح المسلم إذا عري من هذه الشروط كان فاسدًا فأنكحه أهل الشرك أولى لأنه نكاح عري من ولي ورضى المتزوجة، فكان فاسدًا كنكاح المسلم، ولأن كل عقد لو وقع في الإِسلام لكان باطلًا كذلك إذا وقع في الكفر أصله العقد على ذوات المحارم. فصل [30 - إذا أسلم الكافران]: وإذا أسلم الكافران فالزوجية ممن لو ابتدأ العقد عليها في الإِسلام، لكان له فإنهما يثبتان على نكاحهما لا خلاف فيه أعلمه (6)، لأن الإِسلام يصحح لهم   (1) في (ق)، و (ر): يصح. (2) انظر: المدونة: 3/ 211، الرسالة ص 200. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 178 - 179، مختصر المزني ص 172 - 173. (4) في (م): معدودة. (5) المرأة: سقطت من (ق)، وفي (م): سقطت المنكوحة. (6) ذكر ابن عبد البر أنه إجماع من أهل العلم، انظر: المغني: 6/ 615، نيل الأوطار: 6/ 163، المحلي: 2/ 1264، فتح الباري: 9/ 348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 أنكحتهم، فإن كانت ممن لو أراد ابتداء العقد عليها (1) في الإِسلام لم يجز له ذلك، فإن النكاح ينفسخ مثل نكاح ذوات المحارم والموطوءة في العدة وغير ذلك لأن أحسن أحواله أن ينزل منزلة المسلم، وسواء (2) كانا أسلما قبل الدخول أو بعده. فصل [31 - إذا أسلم أحد الزوجين]: فأما إن أسلم أحدهما فإن كان المسلم الزوج نظر: فإن كانا كتابيين ثبتا على نكاحهما كان قبل الدخول أو بعده لأنه لو أراد ابتداء العقد عليها (3) في الإِسلام لكان له ذلك، وإسلامه لا يفسخ العقد المتقدم بل يصححه، وإن كانا مجوسيين أو مشركين غير كتابيين عرض على المرأة الإسلام، فإن أسلمت عقيب إسلامه أو بعده بالشيء القريب ثبتا على نكاحهما (4) لأن أبا سفيان أسلم وأسلمت هند بعده فثبتا على نكاحهما (5)، ولأن إسلامها عقيبه أو بعده بالقريب جار مجرى إسلامهما معًا، وإن أبت أن تسلم فاختلف أصحابنا: فعند مالك أن النكاح ينفسخ ولا ينتظر به أن تخرج من العدة، وعند أشهب أن فسخه (6) موقوف على انقضاء العدة، فوجه قول مالك قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (7) ولأنه إما أن ينفسخ العقد (8) عقيب إبانتها على ما نقوله أو تبقى مستدامة، وذلك ممنوع، فأما اعتبار العدة فلا معنى له لأنه دعوى، ووجه قول أشهب اعتباره بإسلام الزوجة (9).   (1) عليها: سقطت من (ق). (2) في (م): كان. (3) في (م): عليهما. (4) انظر: المدونة: 2/ 212 - 215، التفريع: 2/ 63، الرسالة ص 200. (5) أخرجه البيهقي: 7/ 186. (6) في (م): الفسخ. (7) سورة الممتحنة، الآية: 10. (8) في (م) و (ر): النكاح. (9) في (م): الزوج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 فصل [32 - إذا أسلمت المرأة قبل الزوج]: إذا أسلمت المرأة قبل الزوج فسواء كانا كتابين أو صابئين (1) أو مجوسين، فإن كانا قبل الدخول فقد بانت منه ولا رجعة له عليها إن أسلم لأن إسلامه تنزل منزلة رجعته، والرجعة لا تكون إلا في مدخول بها (2)، وإن كان بعد الدخول وقف الأمر على العدة، فإن أسلم قبل خروجها ثبتا على نكاحها، وإن خرجت قبل إسلامه بانت منه، وإنما قلنا ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر جماعة على أنكحتهم وكان زوجاتهم (3) أسلمن قبل إسلامهم وأسلموا هم قبل خروجهن من العدة، منهم: أبو العاص (4) مع ابنته - صلى الله عليه وسلم - زينب (5)، وصفوان بن أمية (6) مع بنت الوليد بن المغيرة (7)، أم حكيم بنت الحارث (8) مع عكرمة بن   (1) صابئين: سقط من (م). (2) في (م): في عدة. (3) زوجاتهن. (4) أبو العاص: ابن الربيع العبشمي، أمه بنت خويلد، واختلف في اسمه، تزوج زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبرى بناته، وهي من خالته خديجة، مات في خلافة أبي بكر (الإصابة: 4/ 121). (5) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم: 2/ 675، وابن ماجه في النكاح، باب: الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر: 1/ 647، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما: 3/ 48، وقال: لا بأس بإسناده. (6) صفوان بن أمية: بن خلف بن وهب الجمحي، أمه صفية بنت معمر، مات بعد مقتل عثمان (الإصابة: 2/ 187). بنت الوليد بن المغيرة: ناجية بنت الوليد بن المغيرة زوج صفوان. (7) أخرجه مسلم في الفضائل، باب: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط فقال: لا 4/ 186، ومالك: 4/ 444). (8) أم حكيم بن الحارث: بن هشام بن المغيرة، المخزومية، زوج عكرمة، أسلمت في الفتح (الإصابة: 4/ 444). = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 أي جهل (1)، وغيرهم، وإنما قلنا ذلك لأن البينونة تقع بانقضاء العدة وعدم إسلامه، لأن إسلامه أقيم مقام ارتجاعه، فكان موقوفًا على العدة. ...   = وعكرمة: بن أبي جهل بن هشام المخزومي، صحابي، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، واستشهد بالشام في خلافة أبي بكر على الصحيح (تقريب التهذيب ص 296). (1) أخرجه ابن سعد في الطبقات، ومالك في الموطأ: 2/ 545، والإصابة: 2/ 187 (انظر نصب الراية: 3/ 312). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 باب: [ما يحرم الجمع بينه من النساء] ثم عدنا (1) إلى بقية التقسيم، فقلنا: فأما تحريم الراجع إلى صفة العقد فهو الجمع وذلك أن التحريم على أضرب: منه تحريم جمع، وذلك على ضربين: ضرب يرجع إلى الأعيان، وضرب يرجع إلى العدد. فأما الراجع إلى الأعيان فهو منع الجمع بين المرأة وأختها أو عمتها أو خالتها أو غير ذلك من ذوات محارمها وحصر ذلك أن كل امرأتين لو فرضنا كون كل واحدة منهما ذكرًا من الطرفين لم يجز له أن يتزوج الأخرى، فإن الجمع بينهما حرام، وكل امرأتين لو كانت كل واحدة منهما ذكرًا لجاز (2) له أن يتزوج الأخرى، فالجمع بينهما جائز، فالأول مثل نكاح الأختين والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، لأن كل واحدة منهما لو كانت ذكرًا لم يكن له التزوج (3) بالأخرى. والثاني: مثل الجمع بين المرأة وبنت عمها جائز (4) وبنت خالها وبنت خالتها جائز وما أشبه ذلك (5): والأصل في هذه الجملة قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (6)، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على عمتها أو   (1) في (م): ثم عمدنا. (2) في (م): لكان. (3) في (م): التزويج. (4) جائز: سقطت من (م). (5) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 199 - 206، التفريع: 2/ 63 - 64 الرسالة ص 198 - 199، الكافي ص 240 - 241. (6) سورة النساء، الآية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 خالتها (1)، فإذا ثبت ذلك، فهذا الجمع المحرم يقع على صفتين: إحداهما أن يجمع بينهما في عقد واحد، والأخرى في عقدين مفترقين، فإن جمع بينهما في عقد فنكاحهما فاسد لأنه قارنه ما منع انعقاده، وهو مشاركة الأخرى لها في العقد، فكان كمن عقد على صبية وامرأة (2) ترضعها، فإن العقد قد قارنه ما منع انعقاده فلم ينعقد، وإن وطئهما أو إحداهما فالفسخ واجب بغير طلاق وللموطوءة المهر عوضًا من الاستمتاع، وإن كان عقد على إحداهما ثم عقد على الأخرى، فعقد الأولى صحيح وعقد الثانية باطل دخل بها أو لم يدخل، ولها إن دخل بها المهر ولا يقر على نكاحها بوجه ما دامت الأولى عنده. وإنما قلنا: إن نكاح الأولى صحيح لأنه عقد عار مما يفسده، فلم يفسد بطروء عقد فاسد عليه، وإنما قلنا: إن نكاح الثانية فاسد لأنه جمع بينها وبين الأولى وهو صريح النهي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" (3). فصل [1 - الجمع بعقد النكاح، وبملك اليمين]: لا خلاف في منع هذا الجمع بعقد النكاح والأصل فيه الظاهر والخبر (4)، فأما بملك اليمين فعندنا أنه كالنكاح في المنع واختلف فيه في الصورة (5) الأولى فذهب قوم إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين، ودليلنا قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (6) فعم، ولأنه أحد نوعي (7) استباحة الفرج في الشرع   (1) أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها (6/ 128)، ومسلم في النكاح، باب: تحريرم الجماع بين المرأة وعمتها .. (2/ 1028). (2) في (م): أمَة. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) الظاهر من قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} والخبر "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها". (5) في (ر): الصداق، وفي (م): الصدر. (6) سورة النساء، الآية: 23. (7) نوعي: سقطت من (ق) و (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 كالنكاح، ولأن الذي له منع ذلك في النكاح خيفة العداوة والتباغض وأدَّى ذلك إلى قطع الأرحام، وهذا يستوي فيه العقد والملك. فصل [2 - فيمن أراد نكاح أخت امرأته]: فإذا ثبت ذلك فمن كان (1) عنده امرأة بنكاح أو ملك فأراد استباحة وطء أختها لم يجز له ذلك إلا بأن يحرم الأولى عليه بطلاق بائن إن كانت زوجة أو ببيع أو إعتاق أو كتابة أو هبة لمن لا يجوز له ارتجاعها منه إن كانت أمة أو ما أشبه ذلك من ضروب التحريم الذي لا يكون له حله بيده متى أراده. فصل [3 - في الجمع بين المرأة وامرأة أبيها]: ويجوز الجمع بين المرأة وبين امرأة أبيها خلافًا لبعضهم لأنهما أجنبيتان كامرأة عمها، ولا يراعى فيه أنه لو كانت ابنة الزوج ذكرًا لم يجز له التزويج بامرأة أبيه لأنه من الطرف الآخر لا يتصور. فصل [4 - في جمع أكثر من أربع نسوة]: فأما الضرب الآخر من الجمع وهو الراجع إلى العدد دون الأعيان، فهو عقد النكاح دون ملك اليمين وهو الزيادة على أربع نسوة، ولا خلاف في ذلك يعتمد عليه، والأصل فيه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}، فقصره على هذا العدد فدل على منع الزيادة عليه (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان لما أسلم وعنده عشر نسوة: "اختر أربعة وفارق سائرهن" (3)، وهذا كالمعلوم ضرورة من دين الأمة.   (1) كان: سقطت من (م). (2) عليه سقطت من (ق). (3) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة: 1/ 628، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة: 3/ 435، وابن حبان والحاكم: 2/ 193، وصححاه (انظر تلخيص الحبير: 3/ 168). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 فصل [5 - من بانت منه زوجته جاز له أن يتزوج كل من كان ممنوعًا من العقد عليها]: ومن بانت منه زوجته المدخول بها بخلع أو بطلاق ثلاث أو بفسخ أو بأي شيء كان مما يقع به البينونة مع بقائه جاز له أن يتزوج كل من كان ممنوعًا من العقد عليها قبل أن تبين منه، وإن كانت في العدة مثل أختها أو عمتها أو خالتها أو أربعة سواها (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) لأن كل جمع حرم على الزوج بعقد النكاح، فإن تحريمه يزول بالبينونة أصله إذا خرجت من العدة، وإذا طلقت قبل الدخول، ولأن كل امرأة لا يلحقها طلاقه جاز له التزويج بأختها كالأجنبية. فصل [6 - إذا أسلم المشرك وعنده أكثر من أربع]: إذا أسلم المشرك وعنده أكثر من أربع اختار منهن أربعًا، وفارق البواقي وسواء جمع (3) بينهن في عقد واحد أو في عقود متفرقة، وسواء اختار الأوائل أو الأواخر (4)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه ليس له أن يختار الأواخر ولا من جمع بينهن في عقد (5)، لما روي: أن غيلان أسلم وكان تحته عشر نسوة فأسلمن معه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعًا (6)، وعند المخالف ليس له الخيار لأن عقود الأوائل صحيحة وعقود الأواخر فاسدة، ولأنه لم يسأله هل عقد عليهن عقدًا واحدًا أو عقودًا مفترقة، وقال لفيروز الديلمي (7) لما أسلم وتحته   (1) انظر الرسالة ص 203 - 204، الكافي ص 241. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 177، تحفة الفقهاء: 1/ 126. (3) في (م): عقد. (4) انظر: المدونة: 2/ 218، الرسالة ص 201. (5) انظر: الطحاوي ص 180. (6) سبق تخريج الحديث. (7) فيروز الديلمي: اليماني، صحابي، قتل الأسود الذي ادعى النبوة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مات في زمن عثمان، وقيل: في زمن معاوية (تقريب التهذيب ص 4482). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 أختان: "اختر أيهما شئت" (1)، ولأن كل امرأة جاز له ابتداء العقد عليها في الإِسلام جاز له المقام معها على نكاح الشرك أصله الأوائل، ولأن أنكحتهم عندنا فاسدة وإنما تصح (2) لهم بالإِسلام عقودهم، ويعفى عما بنوها عليه من التحريم إذا كانت المرأة ممن يجوز ابتداء العقد عليها في الإِسلام، فلو منعنا التمسك بالأواخر لمنعناه بالأوائل. ...   (1) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع نساء أكثر من أربع أو أختان، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان: 3/ 427، وابن ماجه في النكاح، باب: الرجل يسلم وعنده أختان: 1/ 627، وقال الترمذي: حسن غريب، وأخرجه البيهقي: 7/ 184، وقال: إسناده صحيح وصححه ابن حبان. (2) في (م): تصحح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 باب: من التحريم والضرب الثاني من التحريم: وهو التحريم المتأبد، وهو تحريم الأعيان، وتفسيره أن التحريم يرجع إلى نفس المرأة وعينها فلا تحل بوجه ويفارق تحريم الجمع وغيره مما لا يتأبد، لأن ذلك إذا زال من العين (1) زال تحريمها وتحريم الأعيان على قسمين: أحدهما بنسب، والآخر بسبب (2)، فأما النسب فالمحرم به السبع المذكورات في القرآن وهن: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت. فالأم: اسم لكل أنثى لها عليك (3) ولادة، فكل أُنثى لها عليك ولادة فهي لك أم وهي محرمة عليك، فيدخل في ذلك الأم دنية والجدات من قبلها ومن الأب وإن علون. والبنت: اسم لكل أُنثى لك عليها ولادة (4)، فكانت مباشرة بالولادة أو نازلة فيدخل في ذلك ابنة الصلب لأن الاسم لها حقيقة بالمباشرة وبناتها وبناتهن وبنات الابن وبناتهن وإن نزلن. والأخت: لا تتعدى اسم درجتك وهي اسم لمن شاركتك في الانتساب وإلى من له عليك ولادة من أب أو أم أو منهما، فيدخل في ذلك الأخت الشقيقة وللأم وحدها وللأب وحده. والعمة: هي أخت أبيك وكل ذكر له عليك ولادة من الأجداد وآبائهم.   (1) أي إذا زال السبب زال تحريم المرأة. (2) في جملة الأحكام التالية انظر: التفريع: 2/ 70، الرسالة ص 198، الكافي ص 239 - 240. (3) عليك: سقطت من (م) ومن (ر). (4) في (م): أُنثى من ولادتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 والخالة: اسم لأخت أمك وأخت كل أُنثى لها عليك ولادة من الجدات وأمهاتهن. وبنات الأخ: اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو أبيها فكلهن حرام عليك. (وبنات الأخت: اسم لكل أنثى لأختك عليها ولادة من قبل أبيها أو أمها) (1)، فكلهن حرام عليك، فهؤلاء الأعيان السبع محرمات تحريم عين لا يبحن بوجه. نوع آخر: التحريم بسبب. أما السبب فضربان (2): رضاع، وصهر، ويتعلق بذلك ضرب طاريء يلحق بهن في الحكم وليس بأصل وهو (تحريم الملاعنة والموطوءة في العدة لأن هاتين قد حرمتا) (3) تحريم عين أيضًا لا يحللن بوجه. فأما الرضاع، فجاز مجرى النسب في التحريم، فكل محرمة بالنسب محرمة بالرضاع، فالأم محرمة كالأم من الولادة، وكذلك البنت من الرضاع وهي التي أرضعتها زوجتك لو أرضعت بلبنك فأنت أب لها كما أن زوجتك أم لها فتحرم عليك إن كانت ابنة كما يحرم على زوجتك إن كان ابنًا، وعلى هذا تجري مسائل هذا الباب، والأصل في وقوع التحريم به قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (4)، وقوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" (6).   (1) ما بين قوسين: سقط من (م). (2) انظر: المدونة: 1/ 200، التفريع: 2/ 70، الرسالة ص 198 - 199، الكافي ص 240. (3) ما بين قوسين سقطت من (م). (4) و (5) سورة النساء، الآية: 23. (6) أخرجه البخاري في الشهادات، باب: الشادة على الأنساب: 3/ 149، ومسلم في الرضاع، باب: ما يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة: 2/ 1068. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 فصل [1 - التحريم بالمصاهرة]: وأما الصهر وهو المناكحة فهو أربعة أعيان: زوجات الآباء والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (1)، وزوجات الأبناء: والأصل فيه قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (2)، وأمهات النساء: والأصل فيه قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (3)، وبنات النساء: والأصل فيه قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (4). والتحريم بالصهر على ضربين: تحريم بمجرد العقد الصحيح ومن غير حاجة إلى دخول وهو تحريم زوجات الآباء والأبناء وأمهات النساء. وتحريم لا يقع بمجرد العقد (5) دون مضامة الوطء أو ما يقوم مقامه من التقبيل واللمس واللذة وهو تحريم الربائب، فأما تحريم زوجات الآباء والأبناء بمجرد العقد فلا خلاف فيه، والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (6) فعم، وقوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} (7) ولم يخص. فصل [2 - في تحريم أمهات النساء بالعقد]: وإنما قلنا: إن أمهات النساء يحرمن بمجرد العقد خلافًا لما يحكى عن عليّ (8) - رضي الله عنه -، أنهن لا يحرمن إلا بالعقد والوطء لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ   (1) سورة النساء، الآية: 22. (2) سورة النساء، الآية: 23. (3) و (4) سورة النساء، الآية: 23. (5) في (م): العقود. (6) سورة النساء، الآية: 22. (7) سورة النساء، الآية: 23. (8) أخرجه عبد الرزاق: 6/ 278 - 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 نِسَائِكُمْ} (1) فأطلق، ولأن العقد معنى تصير به المرأة فراشًا، فوجب متى وجد أن تحرم معه الزوجة أصله الوطء. فصل [3 - في أن الربيبة تحرم بوطء الأم]: وإنما قلنا: إن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد دون وطء الأُم لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (2)، ولا خلاف في ذلك (3). فصل [4 - عدم اشتراط الحجر في تحريم الربيبة]: وليس من تحريم الربيبة أن تكون في حجر المتزوج بأُمها خلافًا لداود (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل نكح امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه بنتها" (5)، ولم يعتبر الحِجْر، ولأن الحِجْر لا تأثير له في التحريم اعتبارًا بسائر المحرمات، والظاهر خرج على تعريفهن بغالب أحوالهن. فصل [5 - في أن اللمس والقُبْلة يقومان مقام الوطء في التحريم]: وإنما قلنا: إن القُبْلة واللمس للذة يقومان مقام الوطء في التحريم خلافًا للشافعي (6)، لأنه استمتاع بمباشرة كالوطء، فأما النظر للذة ففيه اختلاف (7):   (1) سورة النساء، الآية: 22. (2) سورة النساء، الآية: 23. (3) انظر الإجماع ص 93 - 95، المغني: 6/ 569، فتح الباري: 9/ 158. (4) انظر: المغني: 6/ 569، بداية المجتهد: 4286 - 429. (5) أخرجه الترمذي في النكاح، باب: ما جاء فيمن يتزوج المرأة ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل يتزوج ابنتها أم لا؟ (3/ 425)، وقال: هذا حديث لا يصح من قبل إسناده، وأخرجه ابن جرير في التفسير، والبيهقي: 7/ 40. (6) انظر: الأم: 5/ 3 - 5، مختصر المزني ص 168 - 169. (7) في (م): ففيه احتمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 فوجه التحريم به أنه نوع من الاستمتاع باللذة كالقُبْلة، ووجه الكراهة فلأنه ليس بمباشرة كالالتذاذ (1) بالتفكر. فصل [6 - الموطوءة في العدة والملاعنة]: فأما الموطوءة في العدة فقد ذكرناها، والملاعنة ترد في باب اللعان. فصل [7 - الاستمتاع المعتبر في تحريم الصهر]: الاستمتاع المعتبر في تحريم الصهر ممن ذكرنا هو الحلال أو ما كان شبهة، فأما الزنا المحض ففيه روايتان (2): إحداهما أنه يثبت به حرمة المصاهرة، والأخرى أنه لا يثبت به، فوجه إثباتها قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) فعم، ولأن كل تحريم بالوطء الحرام أصله التحريم في الوطء بشبهة، ولأنه استمتاع كالحلال، ووجه نفيها أنه وطء يوجب الحد كاللواط، ولأن الزنا لا حرمة له في نفسه فلم ينشر الحرمة إلى غيره عكسه الحلال. ...   (1) في (م): كالتلذذ. (2) انظر: المدونة: 2/ 202، الرسالة ص 199، الكافي ص 244. (3) سورة النساء، الآية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 باب: [حق المقام عند الزوجة الجديدة] ومن تزوج بكرًا وله نساء سواها أقام عندها سبعًا، وإن تزوج ثيبًا أقام عندها ثلاثًا ثم استأنف القسم بينها وبين سائر نسائه، ولا يلزمه قضاء لهن (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "للبكر سبع وللثيب ثلاثة" (3) وقوله لأم سلمة (4) لما تزوجها: "ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعة عندك وسبعة عندهن، وإن شئت ثلاثة ودرت قالت ثلاث" (5) فأخبر أن الثلاث لا تقضي في حق الثيب، ولأن الزوجة الحديث تحتاج إلى زيادة في الإيناس والبسط لتزول حشمتها ويذهب انقباضها، وذلك يقتضي مدة من الزمان يمكن ذلك فيه، وكانت البكر إلى هذا أحوج من الثيب فزيد في ضرب المدة لها. فصل [1 - في كون السبع ليال حقًّا للطارئة على الزوج أو له]: وفي كون ذلك حقًّا للطارئة على الزوج أو حقًّا له على سائر أزواجه روايتان، وفائدة الخلاف أنه إذا كان حقًّا له كان له فعله وتركه، وإذا كان حقًّا لها لم يجز   (1) انظر: المدونة ص 197 - 198، التفريع: 2/ 65، الرسالة ص 203، الكافي ص 256. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 190، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 30. (3) أخرجه مسلم في الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف: 2/ 1083. (4) أم سلمة: هند بنت أبي أمية، المخزومية، أم المؤمنين، (ت 62 هـ) (تقريب التهذيب: 754). (5) أخرجه مسلم في نفس الكتاب، ونفس الباب: 2/ 1083، ومالك: 2/ 529. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 له تركه إلا بإذنها، فوجه القول الأول بأنه حق لها عليه ما روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "للبكر سبعًا وللثيب ثلاثًا" (1)، ولأن الغرض من ذلك إيناسها وبسطها وذهاب انقباضها وهذا حق لها، ووجه القول بأنه حق له أنه معنى يعود إلى الالتذاذ (2)، فكان حقًّا له غير مستحق عليه كعدم الوطء. فصل [2 - في القسم بين الحرة والأمَة]: وإذا كان له زوجتان حرة وأمَة، فعنه في القسم بينهما روايتان (3): إحداهما التسوية والأخرى المفاضلة ثلثان (4) للحرة وثلث (5) للأَمَة، فوجه التسوية اعتبارها بالحرة، والقسم من سائر حقوق الزوجية، ووجه المفاضلة فلمزية الحرة على الأمَة وزيادة حرمتها، ويلزم الرجل العدل بين نسائه في القسم في الصحة والمرض بحسب الإمكان من غير ميل ولا جور لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة شقه مائل" (7)، ولأن الزوجات يستوين في حقوق الزوجية فوجب أن تستحق كل واحدة منهن من العشرة والصحبة ما تستحقه الأخرى.   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) في (م): إلتذاذه. (3) انظر: المدونة: 2/ 199، التفريع: 2/ 67، الرسالة ص 200 - 203، الكافي ص 256 - 257. (4) في (م): ليلتان. (5) في (م): ليلة. (6) سورة النساء، الآية: 19. (7) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: في القسم بين النساء: 2/ 601، والنسائي في عشرة النساء، باب: ميل الرجل: 7/ 60، وابن ماجه في النكاح، باب: القسمة بين النساء: 1/ 633، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر: 3/ 447، وأحمد: 2/ 374، والبيهقي: 7/ 297، والحاكم: 2/ 186، وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث مرفوعًا إلا من حديث همام، وهمام ثقة حافظ: 3/ 447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 ومقدار القسم: يوم وليلة لأنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل (1)، وإذا أراد سفرًا، فإن كان فيهن من لا تصلح للسفر وفيهن من هي أرفق به وأطوع (2) لأمره كان ذلك عذرًا له في السفر بها وعذرًا عن الأخرى، وإن تساوين وتقاربن فإن كان سفر حج أو غزو أقرع بينهن فيسافر بمن خرج سهمها ثم لا يلزمه قضاء لمن لم يسافر بها بعد عوده (3) بل يستأنف القسم بينهن وفي سفر التجارة روايتان: إحداهما الإقراع، والأخرى نفيه، وثبوت الخيار له، وإنما قلنا: إنه يقرع بينهن لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل (4)، ولأنه ليست إحداهن أولى من الأخرى. ووجه اختصاص سفر الحج والغزو بذلك فلأنه (5) آكد لكون جنسه فرضًا، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقرع بينهن إلا فيهما، والقرعة اتباع، ووجه التسوية في سائر الأسفار اعتبارًا بسفر الحج والغزو وتساويهما في الحاجة والرفق. ...   (1) وهذا معلوم بالأخبار المتواترة عنه - صلى الله عليه وسلم -. (2) في (م): أمشي. (3) في (م): بعد غزوه. (4) أخرجه البخاري في الهبة، باب: هبة المرأة لغير زوجها: 3/ 135، ومسلم في التوبة، باب: في حديث الإفك: 4/ 210. (5) في (ر): فإنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 باب: [في امرأة المفقود] امرأة المفقود يضرب لها (1) أجل أربع سنين، فإن جاء فيها وإلا اعتدت وتزوجت، وصفة المفقود (2) الذي هذا حكمه أن يغيب الرجل عن امرأته، فيعمى خبره وينقطع أثره ولا يعلم موضعه ولا تدري حياته ولا موته، فامرأته مخيرة بين أن تقيم على ما هي عليه وبين أن تختار فراقه: فإن اختارت فراقه فوجه ذلك أن تأتي إلى الحاكم فتذكر له قصتها، فينظر في ذلك ويفحص عن أخباره ويسأل عنه في المواضع التي يظن أنه بها، ويسأل أهله أين سمعوه يذكر الخروج أو أين كانت عادته ويبحث عنه على حسب الإمكان والاجتهاد، فإذا لم يقف على خبر استأنف لها ضرب أجل مدته أربع سنين، فإن جاء في المدة أو علمت حياته، فهي زوجته على حالها ويبطل خيارها، وإن مضى الأجل ولم يوقف له على خبر اعتدت عدة الوفاء ولا ينفق في العدة من ماله، فإن جاء وهي في العدة فهي امرأته وإن نقضت (3) قبل العلم بخبره، فلها أن تتزوج من غير حاجة إلى استئذان الإِمام، فإن جاء قبل تزويجها فهي امرأته على ما ذكرناه وما مضى كأنه لم يكن، وإن جاء بعد أن نكحت ففيها روايتان: إحداهما أنه لا سبيل له عليها وقد بانت منه دخل الثاني بها أو لم يدخل، والأخرى أنه إذا كان لم يدخل بها، فهي للأول، وإن كان الثاني دخل بها فهي له ولا يحتاج في الحكم بفراقه إلى قضاء من حاكم، ثم ينظر فإن كان الأول قد دخل بها فلها الصداق كاملًا، وإن كان لم يدخل بها ففيها روايتان: إحداهما أن لها نصفه والأخرى أنه كله لها ولا شيء له، وإذا بانت من الثاني فأرادت العودة كانت على تطليقتين، وبعد ذلك الفراق طلقة.   (1) في (ق): يضرب له. (2) انظر: المدونة: 2/ 91 - 92، التفريع: 2/ 107 - 108، الرسالة ص 302. (3) في (م): انقطعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 فصل [1 - في أن الإِمام يسأل عن المفقود]: وإنما قلنا: إن الإِمام يسأل عن خبره ويبحث ليزول الضرر عن المرأة لأنه لا يجوز أن يبتديء ضرب الأجل لها قبل السؤال والبحث لجواز أن يكون حيًّا، فيعلم ذلك بالبحث عن خبره والسؤال عن أمره، وليس للإمام أن يفرق ابتداء بين رجل وامرأته. فصل [2 - في ضرب الأجل للمفقود]: وإنما قلنا: يضرب له الأجل لإجماع الصحابة على ذلك، روي عن عمر: أنه يضرب لها (1) أجل أربع سنين ثم يفرق بينهما، وروي مثله عن علي (2) - رضي الله عنه - (3)، وروي مثله عن جماعة من التابعين ولم يحفظ خلافًا عن أحد من الصدر الأول في ذلك، ولأنه لما كان الخيار ثابتًا لها في الفرقة مع العنة والإيلاء ولم يكن فيهما إلا فقد الوطء دون فقد العشرة والنفقة كان في مسألتنا الجامعة لفقد كل ذلك أولى بثبوت الخيار. فصل [3 - في مقدار الأجل المضروب للمفقود]: وإنما قلنا: إن الأجل أربع سنين لأن هذه الرواية بهذا القدر جاءت عن الصحابة ومن ذكرناه، ولأن الإجماع منحصر على أحد مذهبين إما أن تبقى أبدًا على ما هي عليه أو يضرب لها أجل هو هذا المقدار دون غيره، ولأن أصل ضرب الأجل هو الغالب من مدة الحمل وغالبه هذا المقدار. فصل [4 - في عدة امرأة المفقود بعد انقضاء الأجل]: وإنما قلنا: إنها تعتد بعد انقضاء الأجل (4) لأن أمره ينزل على الوفاة، لأن   (1) في (م): له. (2) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 575، الدارقطني: 2/ 421، البيهقي: 7/ 424 - 425، 445، وروي عن عثمان - رضي الله عنه - أيضًا. (3) - رضي الله عنه -: سقطت من (م). (4) في (م): عقد الأجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 ذلك هو الغالب من شأنه لأنه لو كان حيًّا لكان مع طوال (1) البحث وكثرة الفحص يعلم حاله، ولا يجوز لمحكوم لها بالمفارقة أن تتزوج إلا بعد العدة ولم ينزل أمره على الطلاق، ولا يوجب عليها عدة قبل الدخول احتياطًا للزوج الأول وللنسب ولم يجعل عليها عدة الطلاق بناء على الغالب. فصل [5 - لا ينفق عليها في العدة من ماله]: وإنما قلنا: لا ينفق عليها في العدة من ماله لأنها إنما تعتد على أنه قد حكم بموته ولا نفقة للمتوفي عنها، وذلك يخالف مدة الأجل لأنها في العدة على الزوجية. فصل [6 - عودة المفقود في المدة أو في العدة]: وإنما قلنا: إنه إن جاء زوجها في المدة أو في العدة، فهي امرأته فلأنه لم يحدث بينهما فرقة لأن المدة إنما ضربت لمجيئه والعدة إنما جعلت بشرط ثبوت وفاته ولم تثبت بتزويج فيكون الثاني أحق بها، فلذلك كانت باقية على زوجيته. فصل [7 - في زواج امرأة المفقود بغير انقضاء العدة]: وإنما قلنا: إن العدة إذا انقضت جاز لها التزويج لأن الخبر بذلك ورد عن عمر ابن الخطاب وعثمان (2) - رضي الله عنهما -، ولأن اعتدادها لو لم يفد (3) تزويجها لكان لا معنى له. فصل [8 - إذن الإِمام في زواج امرأة المفقود]: وإنما قلنا: إنها لا تحتاج في ذلك إلى إذن الإِمام لأن إذنه قد حصل بضرب الأجل، لأن فائدة حبسها عن التزويج قبل انقضائه زوال المنع بانقضائه.   (1) في (م): طول. (2) سبق تخريج الأثر قريبًا. (3) في (م): لم يبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 فصل [9 - إذا جاء المفقود بعد زواج امرأته]: وإنما قلنا: إن المفقود إذا جاء بعد دخول الثاني فلا مقال له لأنها قد بانت بالوطء وحكم الحاكم لأن اعتدادها حكم من الحاكم بالفراق عليه على الشرط الذي قدمناه إلا أن يجيئ قبل التزويج، فأما إذا جاء بعد التزويج وقبل الدخول ففيها روايتان (1): إحداهما أنها للمفقود والأخرى أنها للثاني، فوجه الأولى أنه عقد نكاح طرأ على عقد صحيح تقدمه بضرب سائغ من الاجتهاد، فوجب أن لا تمنع نفسها عن الأول إلا بأن يضامها دخول أصله نكاح الوليين، ووجه الثانية أنها نكحت بعد الاعتداد وضرب الأجل كما لو دخل بها. فصل [10 - عدم رجوع الزوج على امرأته بالصداق]: وإذا قلنا: لا يرجع عليها (2) بالصداق، فلأن أمره نزل على الوفاة، وإذا قلنا: يرجع عليها بنصف الصداق فلأنها فرقة تحسب طلاقًا (3) كفرقة غير المفقود. فصل [11 - في قسمة مال المفقود على الورثة]: ولا يقسم ماله بين ورثته إلا بأن يتيقن موته لأنه ضرر في تبقيته وهو مفارق للزوجة، فإن أتى عليه من الزمان: ما لا يعيش إلى مثله مُوت (4) بالتعمير وقسم ماله بين ورثته، واختلف قول (5) مالك وأصحابه في مدة التعمير، والظاهر أنه سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون (وقيل: مائة، والصحيح سبعون) (6) سنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعمار أمتي ما بين   (1) انظر: المدونة: 2/ 91، التفريع: 2/ 108، والكافي ص 260. (2) عليها: سقطت من (ق). (3) في (ق) و (ر): طلاقها. (4) أي: حكم عليه بالموت. (5) قول: سقطت من (م). (6) ما بين قوسين: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 الستين إلى السبعين، فأقلهم من يجاوز ذلك (1)، وهذا إخبار عما يتعلق به الحكم من الأعمار، وما زاد على ذلك فليس فيه دليل يتحرر لكل قول، وإنما هو على حسب ما يتغلب في الظن من طول المدة وقصرها. فصل [12 - المفقود في معترك القتال]: المفقود في معترك (2) القتال إذا لم يوقف له على خبر يجتهد الحاكم في أمره، فإن غلب على الظن هلاكه اعتدت امرأته وتزوجت ولا يحتاج إلى ضرب أجل لأن الأغلب من شأنه الهلاك (3). فصل [13 - بقاء زوجة الأسير]: الأسير بخلاف المفقود لا يجوز لامرأته أن تتزوج ولا يضرب لها معه أجل، لأن حياته معلومة وعذره في نفي (4) قصد المضارة ظاهر (5). ...   (1) أخرجه ابن ماجه في الزهد، باب: الأمل والأجل: 2/ 1425، والترمذي في الزهد، باب: ما جاء في فناء أعمار هذه الأُمة: 4/ 490، وقال: هذا حديث حسن غريب، والبيهقي: 3/ 370. (2) في (م): في معركة. (3) انظر: المدونة: 2/ 98 - 99، التفريع: 2/ 108 - 109، الكافي ص 261. (4) نفي: سقطت من (م) ومن (ر). (5) انظر المدونة: 2/ 98، التفريع: 2/ 108 - 109، الكافي ص 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 باب: في الطلاق الطلاق (1) على ضربين: رجعي، وبائن، فالرجعي من حقه أن يرد على مدخول بها، والبائن هو الذي لا رجعة فيه، وقد يكون في المدخول بها وفي التي لم يدخل بها، وجملته للحر ثلاث وللعبد تطليقتان وهو معتبر بالرجال دون النساء، فالحر يطلق ثلاثًا كانت زوجته حرة أو أَمَة، والعبد يطلق اثنتين كانت زوجته حرة أو أَمَة، والرجعة تثبت في الطلقة الواحدة للحر والعبد وفي الطلقتين للحر والثانية للعبد كالثالثة للحر (2) لا رجعة فيها، وتحرم بها عليه فلا تحل له إلا بعد زوج: أوقعها مجتمعات أو مفترقات ويمنع إيقاعها مجتمعة، ويقضي بذلك أن فعله ولكنه ينفذ ويلزم: وتحرم به فلا تحل بعقد نكاح ولا ملك يمين إلا بعد زوج يتزوجها تزويجًا صحيحًا نكاح رغبة قصد الاستباحة دون التحليل، فإن وقع الفساد في العقد أو التحريم في الوطء مثل أن يطأها محرمة أو صائمة أو حائض أو على وجه ممنوع لحق الله تعالى فلا يحلها، وإن شرطا في العقد أن يحلها دون قصد (3) استدامة نكاحها، فالعقد فاسد لا يقيمان عليه والاعتبار في ذلك بقصد الناكح دون المنكوحة ولا يحلها إلا وطء بعقد نكاح لا بملك يمين (4).   (1) الطلاق في اللغة: يدل على التخلية والإرسال، وفي الاصطلاح هو صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجته موجبًا تكررها مرتين للحر ومرة لذي رق حرمتها عليه قبل زوج (انظر: معجم مقاييس اللغة: 3/ 320، حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 184). (2) للحر: سقطت من (م). (3) قصد: سقطت من (م). (4) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 66، التفريع: 2/ 73 - 75، الرسالة ص 201 - 203، الكافي ص 262 - 264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 فصل [1 - فيما تثبت فيه الرجعة]: وإنما قلنا: إن الرجعة تثبت فيما دون الثلاث لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (1) يعني الارتجاع، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر لما طلق امرأته حائضًا: "مرة فليراجعها" (2)، ولا خلاف في ذلك (3). فصل [2 - الرجعة تكون في المدخول بها]: وإنما قلنا: إنها لا تكون إلا في مدخول بها لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (4) يعني في العدة وزجره عن الثلاث بقوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (5) يعني الندم، فيكون له سبيل إلى الارتجاع، ولأن الرجعة من حقها أن ينفرد (6) الزوج بها من غير مراعاة لرضا المرأة، وذلك لا يكون إلا في المدخول بها لأن غير المدخول بها لا عدة عليها فلا سبيل إلى ردها إلا بنكاح جديد، وذلك يفتقر إلى إذنها. فصل [3 - في جملة عدد الطلاق]: وإنما قلنا: إن جملة الطلاق ثلاث لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ... إلى قوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} (7)، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثالثة فقال: "أو تسريح بإحسان" (8)، وفي حديث ابن عمر قال: "أرأيت لو   (1) سورة البقرة، الآية: 228. (2) أخرجه البخاري في أوائل الطلاق: 6/ 163، ومسلم في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض: 2/ 1093. (3) انظر: المحلي: 11/ 621، المغني: 6/ 329، بداية المجتهد: 7/ 7، فتح الباري: 9/ 286 - 299. (4) سورة البقرة، الآية: 228. (5) سورة الطلاق، الآية: 1. (6) في (م): أن يتقرب. (7) سورة البقرة، الآية: 229. (8) أخرجه الدارقطني: 4/ 2، والبيهقي: 7/ 340، وقالا: أنه مرسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 طلقتها ثلاثًا قال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك" (1). ولا خلاف أن ما فوق الثلاث لا مدخل له في الطلاق (2). فصل [4 - في طلاق العبد وطلاق الحر للأَمَة]: وإنما قلنا: إن الاعتبار في الطلاق بالرجال، وإن طلاق العبد للحرة اثنتان والحر للأَمَة ثلاثًا خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن طلاق الحرة ثلاثًا كان زوجها حرًّا أو عبدًا، وطلاق الأمَة طلقتان إن كان زوجها حرًّا أو عبدًا (3)، لأنه معنى ذو عدد يوجب أن يكون كماله ونقصانه معتبرًا بمن يضاف إليه فعله أصله العدة، ولأن الطلاق ملك للرجل وكمال الملك ونقصانه معتبرًا بالمالك لا بغيره. فصل [5 - في تفريق الطلاق الثلاث]: لا خلاف في أن من فرق الطلاق الثلاث فإنه يلزمه ويدل عليه (4) قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ .. إلى قوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (5)، فأما إن أتى به (6) في كلمة واحدة فإنه عاص بذلك ويلزمه (7)، وإنما قلنا: يلزمه إن وقع خلافًا لمن منع إيقاعه جملة لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ .. إلى قوله: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (8) فندبنا إلى   (1) أخرجه مسلم في الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض: 2/ 1094. (2) انظر: الإجماع ص 100. فتح الباري: 9/ 299. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 218، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 48 - 49. (4) انظر: الإجماع ص 100 - 102، فتح الباري: 9/ 299. (5) سورة البقرة، الآية: 229. (6) في (م): بها. (7) انظر المدونة: 2/ 67 - 78، التفريع: 2/ 73، الرسالة ص 201، الكافي ص 262. (8) سورة الطلاق، الآية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 طلاق يملك الرجعة فيه لئلا يندم فلا يمكننا التلافي، هذا يتضمن الوقوع، وحديث ركانة (1): أنه طلق البتة فأحلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما نوى (2)، فدل على أن الثلاث تقع بالكلمة الواحدة، وحديث ابن عمر قلت: أرأيت يا رسول الله لو أني طلقتها ثلاثًا، أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: "كانت تبين منك وتكون معصية" (3)، واعتبارًا (4) بغير المدخول بها، ولأنه ملك أبيح إيقاعه مفترقًا فجاز مجتمعًا كإعتاق العبد. فصل [6 - في كون من طلق ثلاثًا عاصيًا]: وإنما قلنا: إنه يكون عاصيًا بذلك خلافًا للشافعي في قوله: أنه مباح (5) لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... إلى قوله: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (6)، فندبنا إلى الطلاق الرجعي ليكون للمطلق سبيلًا إلى تلافي ندم إن وقع منه ثم وصفه بما يقتضي الإثم فقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (7)، فدل على ما قلناه، وفي حديث ابن عمر قال: أرأيت لو طلقتها؟ قال: "إذن بانت منك وعصيت ربك" (8)، وروي عن محمود بن   (1) ركانة: ابن عبد يزيد بن هشام بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي، من مسلمة الفتح، ثم نزل بالمدينة، مات في أول خلافة معاوية (تقريب التهذيب ص 210). (2) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في البتة: 2/ 655، وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق البتة: 1/ 661، والترمذي في الطلاق واللعان، باب: ما جاء في الرجل يطلق امرأته البتة: 3/ 471، وقال: غريب، وقال أبو داود: هذا حديث صحيح، والحاكم: 2/ 199، وقال ابن عبد البر: ضعفوه. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا (ص 827). (4) في (ق): اعتبرت. (5) انظر: الأم: 5/ 180، مختصر المزني ص 191 - 192، الإقناع ص 148. (6) سورة الطلاق، الآية: 1. (7) سورة الطلاق، الآية: 1. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (827). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 لبيد (1) قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان ثم قال: "يلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" (2)، ولأنه إجماع الصحابة، وروي عن عمر وعثمان وعليّ وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وعمران بن حصين (3)، ولا مخالف عليهم فيه، ولأنه سبب يحرم البضع به فعله من غير حاجة، فكان ممنوعًا كالظهار ولا يدخل عليه الطلقة قبل الدخول ولا الثانية لأن ذلك من حاجته. فصل [7 - في كون لا رجعة في الطلاق الثلاث]: وإنما قلنا: لا رجعة في الطلاق الثلاث لأنه لم يبق له من الطلاق شيء، فالرجعة هي ردها إلى النكاح، فلا يجوز أن يملك نكاحًا لا يملك الطلاق فيه، وإنما قلنا: لا يحل له العقد عليها حتى تنكح زوجًا غيره لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4)، وللإجماع على ذلك (5). وإنما قلنا: إنما لا تحل بعقد ولا بملك لعموم الظاهر، ولأن الوطء بالملك تابع لعقد النكاح، إذ النكاح هو الأصل المقصود بالاستباحة، فإذا لم يجب بالنكاح لم يجب بالملك. فصل [8 - نكاح المحلل]: وإنما قلنا: إن نكاح المحلل لا يصح (6) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (7) لقوله   (1) محمود بن لبيد: بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي، أبو نعيم المدني، صحابي صغير، مات سنة ست وتسعين وله تسع وتسعون سنة (تقريب التهذيب ص 522). (2) أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ: 6/ 116. (3) أخرج هذه الآثار الموطأ: 2/ 550، البيهقي: 7/ 33 - 332. (4) سورة البقرة، الآية: 230. (5) انظر: الإجماع ص 102، فتح الباري: 9/ 306. (6) انظر: الموطأ: 2/ 531 - 532، التفريع: 2/ 61 - 62، الرسالة ص 198، الكافي ص 238 - 239. (7) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 58، الأم: 5/ 248 - 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله المحلل والمحلل له" (1)، وهذا يفيد حظره، ولأنه عقد معاوضة واقع على وجه يستحق عادة به اللعن، فوجب أن يكون فاسدًا أصله نكاح ذوات المحارم، وإذا ثبت أنه فاسد لم تحل للزوج الأول، وروي ابن عباس قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحلل فقال: "لا إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ" (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بالتيس؟ " قالوا: بلا، قال: "هو المحلل" (3)، ولأنه إجماع الصحابة، وروي عن عمر وعثمان وعليّ وابن عمر وابن عباس (4) ولا مخالف لهم. فصل [9 - في أن وطء الثاني شرط في عودها إلى الأول]: وإنما قلنا: إن وطء الثاني شرط في عودها إلى الأول لقوله - صلى الله عليه وسلم - للتي أرادت الرجوع إلى من طلقها ثلاثًا: "لا حتى تذوقي عسيلته" (5)، ولأن الغرض من ذلك عقوبته على ركوب المعصية وتعديه ما جعل له، وأن يعلم أنه متى لم يكن له سبيل إلى العود إلا على هذه الصفة وليس ذلك إلا في الوطء لأن مجرد العقد لا عقوبة فيه.   (1) أخرجه النسائي في الطلاق، باب: إحلال المطلقة ثلاثًا وما فيه من التغليظ: 6/ 121، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في المحلل له: 3/ 427، وقال: حسن صحيح، وأحمد: 1/ 448. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2/ 169، وقال: على شرط الشيخين. (3) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: المحلل والمحلل: 1/ 623، وفي إسناده مسرح بن هاعان يخطيء ويخالف. (4) انظر: الموطأ: 2/ 531، البيهقي: 7/ 208 - 209، عبد الرزاق: 6/ 265 - 269. (5) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: من أجاز طلاق الثلاث: 6/ 164، ومسلم في النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره: 2/ 1055. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 فصل [10 - وطء المطلقة ثلاثًا بالملك لا يحلها]: وإنما قلنا: إن وطأها بالملك لا يحلها للمطلق بملك ولا بعقد، خلافًا لمن أجازه (1) لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (2)، فشرط في ذلك النكاح، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا إلا نكاح رغبة" (3)، ولأن الوطء بالملك أضعف. فصل [11 - منع التحليل بالوطء الواقع على الوجه المحظور]: إنما قلنا: إن الوطء الواقع على وجه محظور لا يقع به التحليل خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)، لأنه شرط في إباحتها للأول لا يقوم غيره مقامه، فلم يقع الإباحة به متى فعل على وجه محرم في الشرع لحق الله تعالى أصله العقد. فصل [12 - التحليل بنكاح فاسد]: وإذا وطئها في نكاح فاسد لم تحل به خلافًا للشافعي في أحد قوليه (5) لقوله تعالى (6): {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (7)، وظاهر ذلك يفيد الصحيح، ولأنه وطء ولم يصادف سببًا مبيحًا كالوطء بالشبهة، ولأن الوطء بالملك أقوى من الوطء في النكاح الفاسد لأن الوطء بالملك مباح، وفي النكاح الفاسد محظور، وإذا لم تقع الإباحة به كانت بأن لا تقع بالفاسد أولى.   (1) جاء في المغني: أنه يحتمل أن يصح النكاح إذا لم يقصد العبد التحليل (المغني: 6/ 649). (2) سورة البقرة، الآية: 230. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (830). (4) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 58، الأم: 5/ 248 - 249. (5) انظر: الأم: 5/ 249، مختصر المزني ص 197. (6) في (م): عَزَّ وَجَلَّ. (7) سورة البقرة، الآية: 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 فصل [13 - في أن الاعتبار في النكاح بقصد الناكح دون المطلقة]: وإنما قلنا: إن الاعتبار بقصد الناكح دونها لأن العقد للناكح، وهي على استيفاء المنافع، فإذا لم يقصد هو الاستباحة لنفسه انتفى قصد (1) الاستباحة لغيره، فقد قصد التحليل للأول لا غير، ولأن قصد التحليل من غير من يملك الطلاق لا اعتبار به أصله الأجنبي. ...   (1) في: بقصده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 باب: [طلاق السنة وطلاق البدعة] والطلاق ضربان: طلاق سنة وطلاق بدعة، وفائدة وصفنا له أنه طلاق سنة أنه أوقع على الوجه الذي ندب المشرع إيقاعه، وفائدة وصفه بأنه للبدعة وقوعه على الوجه الذي منع الشرع إيقاعه عليه ويتعلق بذلك ضرب ثالث، وهو طلاق لا يوصف بأنه للسنة ولا للبدعة، وهو أن يكون جائزًا في كل الأحوال، فإذا ثبت هذا فالسنة والبدعة يرجعان إلى أمرين إلى الوقت والعدة: فأما الوقت فإن السنة فيه: أن تطلق المرأة التي تحيض في طهر لم تمس فيه وألا يكون تاليًا لحيض طلقت فيه، فأما العدد فإن يطلق واحدة ثم يتركها تمضي في العدة ثم لا يتبعها طلاقًا، ومتى انخرم من هذه الأوصاف شيء كان للبدعة دون السنة، فإن طلقها حائضًا أو نفساء أو في طهر قد مس فيه ثلاثًا أو اثنتين في كلمة واحدة أو مفترقة قاصدًا ذلك في ابتدائه أن يفرقه على عدد أقرائها، فكل ذلك للبدعة. وطلاق الحائض والنفساء محرم ويلزم إن وقع، فإن كان رجعيًّا أجبر على الارتجاع وإمساكها إلى أن تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق، ولا يطلق في الطهر المتعقب للحيض الذي طلق فيه، فإن فعل نفذ ولم يجبر على الارتجاع إن لم يرتجع حتى طهرت من الحيض المطلق فيه أجبر إلى أن تنقضي العدة عند ابن القاسم، ويقطع الإجبار عند أشهب لمجيء الطهر الثاني الذي أبيح الطلاق فيه، ويؤمر بالارتجاع إن طلق في طهر قد مس فيه ولا يجبر عليه، فأما الذي لا يوصف بأنه سنة ولا بدعة فطلاق الصغيرة واليائسة لأنه مباح إيقاعه أي وقت شاء، وهذا إذا رجع به إلى الوقت، فأما إن رجع به إلى العدد فلا تنفك مطلقة من أن يكون طلاقها لأحد الأمرين. وفي طلاق غير المدخول بها حائضًا روايتان: الجواز والمنع، فعلى رواية المنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 يوصف طلاقها في الطهر بأنه للسنة ولا يوصف بذلك على رواية الجواز، لأن الأوقات تتساوي فيه كالصغيرة واليائسة، ويطلق الحامل أي وقت شاء، وتلحق بالضرب الثالث، ويخرج في طلاقها حال حيضها روايتان بناء على التي لم يدخل بها (1). فصل [1 - طلاق السنة يكون في طهر]: وإنما شرطنا في كونه للسنة أن يكون في طهر لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2)، فندب تعالى إلى أن يوقع الطلاق في حال تعتد فيها وذلك حال الطهر، وفي حديث ابن عمر أنه طلق امرأته حائضًا فذكر عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" (3)، فأخبر أنها حال الطهر، ولأن طلاق الحائض محرم بإجماع (4)، وما كان محرمًا لا يكون للسنة. فصل [2 - في الطهر الذي لم يمسها فيه]: وإنما شرطنا أن يكون الطهر لم يمس فيه لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5)، وقرأها ابن عمر: "لقبل عدتهن" (6)، وفي حديث ابن عمر: "ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" (7)، ولأنه إذا وطئها في ذلك ثم طلقها   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 66 - 70، التفريع: 2/ 73 - 75، الرسالة ص 201 - 202، الكافي ص 262 - 264. (2) سورة الطلاق، الآية: 1. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). (4) انظر المحلي: 11/ 449، فتح الباري: 9/ 289، شرح مسلم: 6/ 247. (5) سورة الطلاق، الآية: 1. (6) روي ذلك عن ابن عباس (تفسير الطبري: 18/ 129). (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 ألبس عليها في العدة لأنها قد تحمل فتعتد بالوضع، وقد لا تحمل فتعتد بالإقراء فكره له ذلك، ولأنها قد تحمل فيلحقه (1) الندم. فصل [3 - طلاق السنة يكون في الطهر التالي للحيضة]: وإنما شرطنا أن يكون في طهر ثان دون الطهر التالي للحيضة التي طلقت فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك" (2)، ولأنا لما أجبرناه على الارتجاع نظرًا لها وجب (3) أن ينظر له أيضًا بأن يكون له حظ في الرجعة من الاستمتاع، فإذا حصل منه الاستمتاع في الطهر التالي للحيض لم يطلق فيه على ما بيناه ثم يتعقبه الحيض، فإذا طهرت منه جاز له الطلاق. فصل [4 - بدعة الجمع بين ثلاثة تطليقات]: وإنما شرطنا أن يطلق واحدة لأن الجمع بين ثلاث تطليقات أو اثنتين بدعة على ما بيناه، وإنما منعنا أن يتبعها طلاقًا آخر في العدة أو يقصد تفريقه على الإقراء، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن طلاق السنة أن يطلق ثلاثًا متفرقًا في كل قرء طلقة (4)، لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5)، وهذا طلاق لا يوجب عدة فكان ممنوعًا، ولأن كل طلاق لا يوجب عدة في المدخول بها، فإنه للبدعة أصله إذا أتى به قبل مجيئ القرء الثاني، ولأنه مطلق ثلاثًا من غير حاجة كالذي يطلق ثلاثًا في كلمة واحدة .. فصل [5 - في تحريم طلاق الحائض]: وإنما قلنا: إن طلاق الحائض محرم لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (6)،   (1) في (ق): يليها. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). (3) في (م): رغب. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 192 - 194، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 38 - 39. (5) و (6) سورة الطلاق، الآية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 وحال الحيض ليست حال عدة ولا طلاق للموقع فيه باتفاق، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر لما طلق امرأته: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" (1)، فأمر بارتجاعها على طريق العقوبة، وأخبر بأن حال الطهر هي حال العدة التي أمر بالطلاق فيها، ولأن فيه تطويلًا على المرأة في العدة وأذية لها ولا خلاف في ذلك. فصل [6 - لزوم طلاق البدعة]: وإنما قلنا: إنه محرم وللزم إن وقع رجعيًّا كان أو بائنًا خلافًا لمن قال: إنه لا ينفذ (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه -: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك (3)، وإن شاء طلق فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" (4)، وفي حديث آخر: "أفتعتد بها"؟ قال: "نعم"، وإن ابن عمر قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو طلقتها ثلاثًا؟ قال: إذن بانت منك وعصيتك ربك" (5)، (وفي هذه الأخبار أدلة: أحدها الأمر بالمراجعة ولا تكون إلا مع نفوذ الطلاق ووقوعه، والثاني قوله أفتعتد بها؟ قال: نعم، والثالث قول ابن عمر: أرأيت لو طلقتها ثلاثًا؟ يعني في الحيض قال: إذا بانت منك وعصيت ربك) (6)، وهذا نص، ولأنها حال زوجية كالطهر، ولأنه إزالة ملك بُني على التغليب والسِراية فلم يختص   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). (2) لم يخالف في وقوعه ونفوذه إلا أهل البدع والضلال وحكاه أبو نصر عن ابن علية وهشام بن الحكم والشيعة (انظر المغني: 7/ 100). (3) بعد ذلك: سقطت من (م). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (827). (6) ما بين قوسين سقط من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 وقوعه بزمان دون زمان كالعتق، ولأنها حال منع الطلاق فيها لحق المرأة فلم يمنع ذلك نفوذه إذا وقع كالطهر الذي مس فيه (1). فصل [7 - إجبار المطلق على الارتجاع]: وإنما قلنا: أنه إن كان رجعيًّا أجبر على الارتجاع خلافًا للشافعي وأبي حنيفة (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها حتى تطهر" (3)، وهذا على وجوبه، ولأنه لما طوّل عليها وأضر بها مع نهيه عن ذلك عوقب بالإجبار على الرجعة وردها إلى حال الزوجية ليزول الضرر عنها. فصل [8 - في عدم إجبار المطلق في طهر قد مس فيه على الرجعة]: وإنما قلنا: إن المطلق في طهر قد مس فيه لا يجبر على الرجعة لأنه مطلق للعدة فلا يوجد فيه التطويل على المرأة كما يوجد فيمن طلق حال الحيض. فصل [9 - في وجه قول ابن القاسم علي أنه يجبر على الارتجاع]: ووجه قول ابن القاسم: إنه إذا لم يراجع حتى طهرت من الحيض (4) الثاني بعد الذي طلقت فيه أنه يجبر على الارتجاع ما بقيت العدة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مره فليراجعها" (5) فأطلق، ولم يقيد، ولأن العدة باقية أصله ما لم تطهر الطهر الثاني، ووجه قول أشهب: إنما قد صارت إلى حال لو أراد ابتداء إيقاع الطلاق فيها لكان ذلك له فلا معنى للإجبار على الارتجاع مع إباحة الطلاق. فصل [10 - طلاق الصغيرة واليائسة أي وقت شاء]: وإنما قلنا: إنه يطلق الصغيرة واليائسة أي وقت شاء لأن أوقاتهما متساوية فيُؤمن   (1) في (ق): الذي ليس فيه. (2) مختصر الطحاوي ص 192، الأم: 5/ 181، مختصر المزني ص 191. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). (4) في (م): في حال الحيض. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 فيهما ما يخاف على الحائض والنفساء والطهر الذي قد مس فيه لأنهما إن كانت مدخولًا بهما، فقد قال تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1)، وهذا طلاق للعدة، وإن كانت غير مدخول بهما فقد قال تعالى (2): {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} (3) فأطلق، ولأنه ليس في ذلك تطويل في عدة ولا إلباس فجاز في كل وقت. فصل [11 - هل يوصف طلاق الصغيرة واليائسة بأنه للسنة أو للبدعة؟]: وإنما قلنا: إن طلاقهما لا يوصف بأنه للسنة ولا للبدعة من حيث الوقت لأن الوصف بذلك يتضمن كون المطلقة ممن يتأتى فيها الأمران، فيقع كل واحد منهما بدلًا من صاحبه، فأما من لا تختلف الأوقات عليها فلا حال لها للسنة ولا بدعة، فأما من حيث العدد فإنه يصح فيه لأنه إن طلق (4) واحدة كان للسنة، وإن جمع بين ثلاث أو اثنتين كان للبدعة على ما بيناه. فصل [12 - في طلاق غير المدخول بها حائضًا]: ووجه القول بأن طلاق غير المدخول بها حائضًا جائز أنها حال لا يلحقها ضرر بالطلاق فيها، فجاز ذلك اعتبارًا بحال الطهر، ووجه المنع أنه طلاق في الحيض فأشبه طلاق المدخول بها. فصل [13 - في طلاق الحامل والمستحاضة أي وقت شاء]: وإنما قلنا: يطلق الحامل أي وقت شاء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أو حاملًا قد استبان حملها" (5) فأطلق، ولأنها معتدة في الحال لأن عدتها وضع   (1) سورة الطلاق، الآية: 1. (2) تعالى: سقطت من (ق). (3) سورة البقرة، الآية: 236. (4) في (م): إذا طلق. (5) أخرجه مسلم في الطلاق، باب: تحريم طلاقًا الحائض: 2/ 1095. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 الحمل والتخريج في طلاقها حال حيضتها على ما ذكرناه، ويطلق المستحاضة أي وقت شاء لأنها مطلقة للعدة في طهر لم تمس فيه كالتي ليست بمستحاضة وعدتها سنة إذا لم تميز لأن الاستحاضة ريبة، فإن تحققت التمييز بين الوقتين اعتدت بالإقراء. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 باب: [طلاق الصغير والمجنون وغيرهما] ولا طلاق لمن لم يبلغ الحلم ولا لمجنون حال جنونه (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: فذكر الصبي حتى يحتلم (2)، والمجنون حتى يفيق (3)، ولأنه إزالة ملك كالعتق، ولأنه لا يصح نكاحه فلم يصح طلاقه اعتبارًا لأحد الطرفين بالآخر. فصل [1 - طلاق السكران]: طلاق السكران لازم (4) خلافًا لمن ذهب إلى نفيه (5)، لأن أحكام التكليف المتعلقة بالتغليظ جارية عليه كالقود إذا قتل، والحد إذا زنى أو قذف، ووجوب قضاء الصلاة فكذلك الطلاق، ولأن كل من يحد إذا أوجد لفظ القذف منه، فإنه إذا طلق نفذ طلاقه كالصاحي، ولأنه حال لا تمنع حد القذف فلم تمنع نفاذ الطلاق كحال الصحو، ولأن كل حال يلزمه قضاء الصلوات المتروكة وحد القذف فيها لزمه الطلاق الموقع فيها أصله الصحو (6).   (1) انظر: المدونة: 2/ 127، التفريع: 2/ 75، الرسالة ص 204، الكافي ص 262. (2) في (م): حتى يبلغ. (3) سبق تخريج الحديث ص 262. (4) انظر: المدونة: 2/ 127 - 129، التفريع: 2/ 75، الكافي ص 262. (5) وهو قول عثمان - رضي الله عنه -، ومذهب عمر بن عبد العزيز والقاسم وطاووس وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والعنبري وإسحاق وأبو ثور والمزني وأحد قولي أحمد (المغني: 7/ 115). (6) في (ق): الصحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 فصل [2 - طلاق المكره]: طلاق المكره غير واقع (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق في إغلاق" (4)، قال أبو عبيد (5): هو الإكراه، واعتبارًا به إذا أكره على الإقرار بالطلاق بعلة أنه لفظ لو عري من الإكراه لزم به الطلاق فلم يلزم مع الإكراه، ولأن كل حال لم يثبت معها حكم الإقرار بالطلاق لم يثبت معها حكم الإيقاع كالجنون والصغر. فصل [3 - في طلاق النائم والمبرسم والمريض الهاذي]: طلاق النائم والمبرسم (6) والهاذي في غمرة المرض لا يلزم لأنهم في معنى المغلوب بالجنون (7). فصل [4 - من تزوج ونسي وحلف بالطلاق]: ومن تزوج ثم نسي فحلف بالطلاق فحنث، فإن الطلاق يلزمه لأنه طلاق من مكلف صادف زوجية، فوجب نفوذه أصله العمد (8).   (1) انظر: المدونة: 2/ 129، التفريع: 2/ 75، الكافي ص 262. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 191، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 45. (3) سبق تخريج الحديث. (4) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: الطلاق على غيظ: 2/ 642، وابن ماجه في الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي: 1/ 660، والحاكم: 2/ 168، وقال: على شرط مسلم. (5) انظر: غريب الحديث - لأبي عبيد. (6) المبرسم: هو الرجل إذا أخذ البرسام -بالكسر- وهو داء معروف، وقيل: أنه ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والمعي ثم يتصل بالدماغ (- انظر المصباح المنير ص 42، المغرب ص 42). (7) انظر: المدونة: 2/ 127 - 129، التفريع: 2/ 75، الكافي ص 262. (8) انظر: المراجع السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 فصل [5 - في عقد الطلاق قبل الزواج]: عقد الطلاق قبل الزواج على ضربين: إن بقي معه ما لا يسد على نفسه طريق الإباحة (1) به صح ولزم ذلك نحو أن يعين بلدًا بعينه أو قبيلة بعينها أو امرأة بعينها أو نوعًا من النساء معينًا أو صفة مخصوصة منهن مثل أن يقول: كل امرأة يتزوجها من العراق أو من العجم، أو كل بكر أو كل سوداء أو كل من لها ولد أو ما أشبه ذلك، وكذلك إن عم أو خص أجلًا بعينه يبلغه عمره كالسنة وفي السنتين على حسب عمره وقت اليمين، فإن لم يبق لنفسه شيئًا، بل عم وسد طريق الإباحة بهذا النوع جملة لم ينفذ طلاقه ولم ينعقد يمينه، وكان له أن ينكح من غير حنث يلزمه (2). فصل [6 - في لزوم الطلاق مع التعيين]: وإنما قلنا: إذا عين يلزمه خلافًا للشافعي (3) في قوله: لا يلزمه على كل وجه (4)، لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (5)، ولأنه أضاف الطلاق إلى حال يملك فيها ابتداء إيقاعه، فصح ذلك اعتبارًا به إذا أضافه حال الملك، مثل أن يقول لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ولأنه معنى يصح مع الجهل والغرر، فجاز عقده بشريطة ملكه في ثاني حال أصله الوصية والنذر. فصل [7 - لا يلزم الطلاق إذا عمم]: وإنما قلنا: لا يلزم إذا عم خلافًا لأبي حنيفة (6) لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا   (1) في (م): الاستباحة. (2) انظر: المدونة: 2/ 126 - 127، التفريع: 2/ 83 - 86، الكافي ص 266 - 267. (3) انظر: الأم: 5/ 183 - 184، مختصر المزني ص 191 - 193، الإقناع ص 151. (4) في (م): على كل حال. (5) سورة المائدة، الآية: 1. (6) مختصر الطحاوي ص 198 - 199، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (1)، ولأنه سد على نفسه طريق استباحة البضع فوجب أن يلزمه لأن في ذلك تعريض نفسه للزنا وما أدى إلى ذلك فهو ممنوع (2)، أصله عدم الحر لمهر الحرة أنه يجوز معه نكاح الأَمَة لأنه لو لم يجز ذلك لأدى إلى التعرض للزنا كذلك في مسألتنا. فصل [8 - إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها]: إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها ودخل بها فلها المهر المسمى لا زيادة عليه (3)، وقال أبو حنيفة: لها مهر ونصف (4)، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يخلوا أن يكون بهذا الوطء زانيًا أو واطئًا بشبهة العقد الأول، ولا يجوز أن يكون زانيًا لأنه كان يجب أن يكون عليه الحد وليس ذلك بقول أحد، ولأن الحد والمهر لا يجتمعان عندهم، وإن كان واطئًا بشبهة العقد الأول لم يلزمه إلا مهر واحد اعتبارًا بسائر الأنكحة الفاسدة إذا وطء فيها. فصل [9 - تعليق الطلاق بصفة]: إذا علق الطلاق بصفة لم يقع إلا بوقوعها (5) كقوله: إذا دخلت الدار أو كلمت زيدًا أو لبست هذا الثوب أو ما أشبه ذلك مما يمكن أن يقع أو أن لا يقع إن علقه بأجل تنجز (6) في الحال وحصر هذا الباب: أن ما تعلق الطلاق بوقوعه على ثلاثة أضرب: منه ما يجوز أن يقع أو يجوز أن لا يقع ولا يغلب فيه (7) على أحد الأمرين كدخول الدار أو قدوم زيد، فهذا يقف طلاقه على حصوله من غير خلاف (8).   (1) سورة المائدة، الآية: 87. (2) في (م): فموضوع. (3) انظر: التفريع: 2/ 109، الكافي ص 266 - 267. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 203، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 46. (5) في (ر): ببلوغه. (6) في (ر): فينجز. (7) فيه: سقطت من (ق). (8) انظر: بداية المجتهد: 7/ 46 - 47، المغني: 7/ 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 ومنه ما لا بد من وقوعه كمجيئ الشهر والسنة، وهذا يتنجز عندنا (1) خلافًا للشافعي وأبي حنيفة (2)، لأن تأجيله يقتضي توقيت استباحة الوطء بمدة يحرم عند مجيئها، وذلك غير جائز اعتبارًا بنكاح المتعة. ومنه ما يغلب فيه الوقوع ويمكن أن يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجيئ الحيض والطهر، فهذا النوع فيه روايتان (3): إحداهما تنجز الطلاق الموقع فيه، والأخرى تأجيله، فوجه التنجيز اعتبار الغالب بالمتحقق لأن ذلك غالب الأصول كمنع المريض من أكثر من ثلث ماله إذا كان الغالب من مرضه الخوف وما أشبهه من نظائره، وكذلك الاستثقال في النوم إذا كان الغالب منه خروج الحدث أجرى مجرى التحقيق (4)، ووجه التأجيل اعتباره بما يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون كدخول الدار وكلام زيد. فصل [10 - في تعليق الطلاق بالمشيئة]: تعليق الطلاق بالمشيئة على ثلاثة أضرب (5): منه تعليق بمشيئة الله تعالى، فهذا لا ينفي وقوع الطلاق ولا يؤثر فيه أصلًا على أي وجه كان من إرادة الشرط به أو الاستثناء، ومنه تعليق بمشيئة من يصح منه مشيئته ويتوصل إليها كزيد وعمرو، ومشيئة المطلقة نفسها، وهذا يقع على وجود المشيئة المعلق بها، ومنه تعليق الطلاق بمن لا مشيئة له أو لا حكم لمشيئته كالحجر والجمادات أو الصبي والمجنون وغيره، فيه خلافًا قيل: يلزمه الطلاق، وقيل: لا يلزمه والصبي والمجنون يخرجان عن هذا. فصل [11 - في عدم تأثير قوله: إن شاء الله في الطلاق]: وإنما قلنا: إن قوله: إن شاء الله لا يؤثر في رفع الطلاق خلافًا لأبي حنيفة   (1) انظر: التفريع: 2/ 83 - 84، الكافي ص 266 - 267. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 198 - 199، الأم: 5/ 184. (3) انظر: المدونة: 2/ 116 - 119، التفريع: 2/ 84، الكافي ص 266. (4) في (م): المحقق. (5) انظر: المدونة: 2/ 122، التفريع: 2/ 81، الكافي ص 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 والشافعي (1)، لأنه لو أثر في ذلك لم يخل أن يكون تأثيره من حيث الشرط أو الاستثناء، فإن كان من حيث الشرط فلا يصح لأنه لا يخلوا أن يكون لنا سبيل إلى العلم بحصوله أو لا سبيل لنا إلى ذلك، فإن كان لنا سبيل إلى ذلك وقف الأمر عليه وليس هذا مذهبهم لأنهم لا يترقبون شيئًا ويقطعون بانتفاء الطلاق، ولأنه لا شيء يترقب، وإن كان لا سبيل لنا إلى العلم به فتعليق (2) الطلاق به هزل وعبث كقوله: أنت طالق إن كان الله (3) قد خلق اليوم في قعر البحر القلزم (4) حوتًا طوله كذا وكذا ذراعًا وغير ذلك مما لا سبيل إلى العلم به، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث هزلهن جد وجدهن جد: فذكر الطلاق" (5) وإن كان من حيث الاستثناء فلا يصح أيضًا لأن الاستثناء إنما يدخل على مستقبل الأفعال دون ماضيها وقوله: أنت طالق إيجاب في إيقاع (6) فلا مجال للاستثناء فيه لأن الاستثناء معنى يحل اليمين المنعقدة كالكفارة، وقد ثبت أنه لا مدخل للكفارة في الطلاق فكذلك الاستثناء، ولأن الكفارة أقوى لأنها تؤثر متصلة ومنفصلة والاستثناء لا يؤثر إلا متصلًا، فإذا لم تعمل الكفارة في الطلاق فالاستثناء أولى، ولأنه استثناء في طلاق يرفع جميعه في الحال والمآل، فوجب أن لا تعمل فيه كما لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا.   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 199، مختصر المزني ص 194. (2) في (م): فتعلق. (3) في (ق): إن شاء الله. (4) البحر القلزم: المكان الذي غرق فيه فرعون وآله وهو ما يعرف اليوم بالبحر الأحمر (معجم البلدان: 4/ 387). (5) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل: 2/ 643، وابن ماجه في الطلاق، باب: من طلق أو نكح: 1/ 658، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق: 3/ 490، وقال: حديث حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد: 2/ 198. (6) في (ق) و (ر): إيجاب وإيقاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 فصل [12 - إذا استثنى عددًا من الطلاق]: إذا استثنى عددًا من الطلاق فإن بقى منه شيء صح استثناؤه كقوله: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة أو إلا اثنتين، لأنه في الأول يطلق اثنتين وفي الثانية يطلق واحدة ولا فرق بين استثناء قليل من كثير أو كثير من قليل، وإن لم يبق شيئًا لم يصح وكان رجوعًا لا استثناء كقوله واحدة، أو إلا واحدة، أو اثنتين إلا اثنتين أو ثلاثًا إلا ثلاثًا، فإن قال: طالق أربعًا إلا ثلاثًا (لم يصح وكان رجوعًا وطلقت ثلاثًا لأن ما زاد على الثلاث لغو كأنه قال: ثلاثًا فيرد استثناء) (1) ثلاث على ثلاث فلا يصح (2). فصل [13 - في الاشتراط بمشيئة زيد]: وإنما قلنا: إن الاشتراط بمشيئة زيد يصح ممن تصح مشيئته ويتوصل إلى العلم بها فكان كسائر الشروط كقوله: إن دخلت الدار وما أشبهه. فصل [14 - القول في لزوم الطلاق في الحجر وغيره]: ووجه القول في الحجر وغيره: إن الطلاق يلزمه أنه هزل، ووجه نفي اللزوم عدم الشرط الذي علق الطلاق به، والأول أصح. فصل [15 - صريح الطلاق وكناياته]: الطلاق يقع بالنطق وبعمل الجارحة، وإن لم يقارنه نطق، وفي وقوعه بمجرد عقد القلب خلاف (3)، فأما النطق فضربان صريح وكناية: فالصريح: ما تضمن لفظ الطلاق على أي وجه كان كقوله (4): أنت طالق   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) في جملة هذه الأحكام انظر المدونة: 2/ 121 - 122، التفريع: 2/ 75، الكافي ص 268. (3) انظر: التفريع: 2/ 78، الكافي ص 265. (4) في (م): مثل قوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 وأنت الطلاق وأنت مطلقة، وقد طلقتك والطلاق بها لازم، وقد أوقعت عليك الطلاق، وأنا طالق منك وما أشبه ذلك مما ينطق فيه بالطلاق، وكل هذا صريح، فإن قرنه بذكر عدد وقع من العدد ما قرنه به واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا كذلك إن نواه به ولم ينطق به، وإن أطلق فقال: أنت طالق أنت طالق (1) أو مطلقة، وقال: لم أرد شيئًا، فالظاهر واحدة إلا أن يريد الثلاث. والكناية ضربان: كنايات ظاهرة وكنايات مجملة (2) غير ظاهرة، فالظاهرة هي ما جرى العرف بأن يطلق بها في اللغة والشرع مثل قوله: أنت خلية أو برية وبائن وبتة وبتله وحبلك على غاربك، وأنت حرام وأنت عليَّ كالميتة والدم ولحم الخنزير، وكذلك الفراق والسراح واعتدى، هذه الألفاظ إذا وردت على المدخول بها ابتداء أو عند سؤالها الطلاق كانت طلاقًا ثلاثًا ولا يقبل منه أنه لم يرد بها طلاق ولا أنه أراد ما دون الثلاث إلا في قوله: اعتدى إلا أن يكون على وجه الخلع فيقبل منه ما يدعيه من الطلاق أو يدعى أنه لم يرد طلاقًا أصلًا، وقد تقدمها كلام يصلح أن يكون جوابًا عنه على ما ادعاه، نحو أن يكون قد حبسها في دين له عليها فتسأله التخلية من حبسها فيقول أنه مخلاة أو قد خليتك، وكذلك إذا دفع إليها دنانير وقال: اعتدى وأراد الدنانير فيقبل منه، وكذلك لو قرن (3) الصريح بما يفيد هذا المثل أن تكون موثقة قدم (4) أو قيد فتقول: أنت طالق يريد من الوثاق فيقبل منه، فأما إن وردت هذه الألفاظ على غير مدخول بها، فإن قال: لم أرد بها شيئًا، فالظاهر أنها ثلاث، فإن ادعى في غير البتة أنه أراد دون الثلاث قبل منه، وفي البتة خلاف عنه وكذلك في الفراق والتخلية في الدخول بها. فأما الكنايات المحتملة فمثل قوله: اذهبي وانصرفي واخرجي واغربي، فهذا   (1) أنت طالق: سقطت من (م). (2) في (ر): محتملة. (3) في (ر): فرق. (4) قدم: سقطت من ق و (ر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 يقبل منه ما يدعيه أنه أراد به من طلاق وغيره من قليل العدد وكثيره، وضرب ثالث من النطق وهو ما (1) ليس من ألفاظ الطلاق ولا محتملاته مثل قوله: اسقني ماءًا وما أشبه ذلك، فإذا ادعى أنه أراد به الطلاق فقيل: يكون طلاقًا، وقيل: لا يكون طلاقًا، وأما العمل بالجارحة فنحو أن تسأله الطلاق فيشير إشارة يفهم منها إصابته إلى سؤالها، فإذا قال: أردت الطلاق قُبل منه، وكذلك إذا كتب الطلاق بيده وأراد به الطلاق كان طلاقًا، وإن لم يرد به الطلاق، وقال: أردت أن أنظر وأفكر، فذلك له ما لم ينفذ الكتاب (2)، فأما عقد الطلاق وإيقاعه بالقلب مجردًا من غير أن يقارنه بعض (3) ذلك، ففيه روايتان: إحداهما وقوعه، والأخرى إلا أن ينضم إليه لفظ وما في معناه (4). فصل [16 - فيما تضمن لفظ الطلاق]: وإنما قلنا: إن كل ما تضمن لفظ الطلاق كان صريحًا، لأن كل ما يراد به الطلاق من سائر الألفاظ التي يطلق بها، فهي عبارة عنه وكناية وليس الطلاق كناية عنها ألا ترى أنه إذا قيل له: ما الذي أردت بقولك: أنت خلية وبرية وبائن وحرام صح (5) أن يقول: عبرت به عن الطلاق، ولا يصح أن يقال: ما الذي أردت بقولك: أنت طالق، فيقول: أردت أنها خلية وبرية وبائن، لأن ذلك عكس ونقض الأصول. فصل [17 - في الكناية الظاهرة]: وإنما قلنا في الكناية الظاهرة: إنه إذا قال: لم أرد به الطلاق لم يقبل منه (6)   (1) ما: سقطت من (م). (2) في (ق): الطلاق. (3) في (و): في. (4) في جملة أحكام الطلاق الصريح والكناية وأقسامها انظر: الموطأ: 2/ 550 - 552، التفريع: 2/ 74، الرسالة ص 202، الكافي ص 264 - 265. (5) في (م): صلح. (6) وهذا على المشهور في المذهب (انظر الفواكه الدواني: 2/ 37). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 خلافًا للشافعي (1)، لأن عرف الشرع جار بأن النساء (2) يطلقون بها ابتداء أو جوابًا عن مسألة الطلاق، فلا يصدق فيما ينفيه العرف. وإنما قلنا: إنه لا يقبل منه أنه أراد دون الثلاث في المدخول بها خلافًا للشافعي (3)، لأن قوله: أنت حرام وبائن وبتة وبتلة وبرية إيقاع الطلاق بهذه الألفاظ كأنه قال: أنت طالق طلاقًا تحرمين به عليّ وتبينين به عني (4) وتنبت العصمة به بيني وبينك وأخلوا به من زوجتك ويبرأ أحدنا من الآخر، وهذا لا يكون في المدخول بها إلا ثلاثًا إلا على وجه الخلع، فإذا قال في غير الخلع: أردت به ما دون الثلاث كان كما لو قال: أنت طالق ثلاث، وقال: أردت واحدة، لأن الرجوع في الصفة كالرجوع في العدد، وكذلك قلنا في غير المدخول بها أنه يقبل منه لأنه يصح منه هذه المعاني لما دون الثلاث، وإن لم ينو ذلك، فالظاهر هو الثلاث في الجميع على ما بيناه لأنها ألفاظ مبنية للمبالغة في الفرقة. فصل [18 - في قوله: البتة]: ووجه قوله في البتة: إنه يقبل منه إرادته ما دون الثلاث في التي لم يدخل بها فلأن المعنى يحصل فيها وهو انبتات العصمة، ووجه القول: إنه لا يقبل منه لأن البتة كناية عن الطلاق (5) الثلاث فلا ينتفي بإرادته ما دونه. فصل [19 - في قوله: أنا منك طالق]: وإنما قلنا: إن قوله: أنا منك طالق يكون طلاقًا خلافًا لأبي حنيفة (6)، لأن   (1) انظر مختصر المزني ص 192 - 193، الإقناع ص 146. (2) في (م): الناس. (3) انظر: مختصر المزني ص 192، الإقناع ص 146. (4) في (ق): عليّ. (5) الطلاق: سقطت من (م). (6) انظر: تحفة الفقهاء: 1/ 188 - 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 كل لفظ إذا استعمل في الطلاق مضافًا إلى الزوجة كان طلاقًا، فكذلك إذا أضافه الزوج إلى نفسه أصله قوله: أنا منك بائن وأنا عليك حرام. فصل [20 - إذا قال: أنت طالق وأراد به ثلاثًا]: وإنما قلنا: إنه إذا قال: أنت طالق وأراد ثلاثًا، فإنه يكون ثلاثًا خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنها تكون واحدة (1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لامريء ما نوى" (2)، ولأن قوله: أنت طالق صيغة (3) محتملة للعدد قابلة له، واللفظ المحتمل للشيء إذا نوى به ما يحتمله كان كما نوى به اعتبارًا بقوله: أنت الطلاق ويبين احتماله للعدد أنه لو صرح به فيه لصح ولا يجوز أن يفسره بما لا يحتمله، ولأن كل لفظ بالطلاق لو صرح فيه (4) بالثلاث لصح استعماله فيه، فكذلك إذا أريد به أصله أنت بائن وأنت الطلاق. فصل [21 - في قوله: اعتدى]: وإنما جعلنا قوله: اعتدي ابتداء أنها (5) من الكنايات الظاهرة خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لو قال: أردت الطلاق لم يقبل منه (6)، لأنه الظاهر أنه كناية عن الطلاق وأمر بالاعتداد منه لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن بد من أحد أمرين: إما أن يكون مصروفًا إلى غيره، وذلك مفتقد (7) إلى شاهد حال أو سبب يدل عليه، أو يسقط فلا يكون له حكم، وذلك لا سبيل إليه في ألفاظ العقلاء التي لها مقاصد تصلح أن تراد بها فلم يبق إلا ما قلناه.   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 197، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 41. (2) سبق تخريج الحديث. (3) في (م): صفة. (4) في (م): نفيه. (5) ابتداء أنها: سقطت من (م). (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 195، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 41 - 42. (7) في (م): مفتقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 فصل [22 - الكنايات يقارنها شاهد حال]: وإنما قلنا: إن هذه الكنايات إذا قارنها شاهد حال يدل على أنه أراد بها ما يدعيه قبل قوله فيها؛ لأن العرف يشهد له حينئذ فليس في دعوى تكذيب له لأن الصريح أقوى من الكناية ولو ادعى في الصريح خلاف موضوعه في الشرع وهناك شاهد حال يصدقه قبلت دعواه فالكناية أولى. فصل [23 - الألفاظ التي لا يصلح أن تكون كناية عن الطلاق]: ووجه قوله في الألفاظ التي لا يصلح أن تكون كناية عن الطلاق أنها تكون طلاقًا بالقصد أنه لفظ قصد به الطلاق، فأشبه ما هو كناية (1)، ولأنه مبني على التغليب والاحتياط، ووجه الاتفاق على أنه لو ضربها (2) أو مسها بيده وقال: أردت الطلاق، أنه لا يكون طلاقًا لأنه لم يأت بصريح الطلاق ولا بكنايته، فكذلك ها هنا (3). فصل [24 - كتابة الطلاق باليد]: وإنما قلنا: إن كتابة الطلاق باليد تكون طلاقًا إذا نواه خلافًا للشافعي (4)، لأن الكتابة مواضعة يعبر بها عما في القلب، فجاز أن يقع بها الطلاق كاللفظ، وكذلك الإشارة التي يفهم منها الطلاق من الناحية الأُخرى. فصل [25 - الطلاق بالقلب]: فأما الطلاق بالقلب من غير نطق، فوجه إيقاعه أن اعتقاد القلب لما كان لا بد منه في وقف إيقاع الطلاق وكان حظ النطق إفهام الغير والتعبير عما في النفس عما جرى الخط والرمز وغير ذلك مما وضع للإخبار عما في النفس، وذلك غير   (1) في (م): من كنايات. (2) في (م): أضر بها. (3) في (م): هذا. (4) انظر: المهذب: 2/ 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 مشترط (1) في الإيقاع كان مجرد الاعتقاد كافيًا، ولأنه نوع تحرم به الزوجة فجاز أن يقع بالاعتقاد، وإن عرى من النطق أصله الكفر، فوجه نفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تنطق به أو تعمل به" (2)، ولأنه أحد طرفي العقد فكان نطقًا كالنكاح، ولأنه معنى يتعلق به تحريم الوطء فلم يقع بالاعتقاد كالبيع. فصل [26 - في طلاق التي لم يدخل بها بالواحدة والثلاث]: التي لم يدخل بها تبين بالواحدة لأنه لا رجعة له عليها لانتفاء العدة عنها، ويصح إيقاع الثلاث عليها بلفظ واحد (3) خلافًا لمن حكي عنه منعه (4)، ولأنها زوجته، فجاز أن يلحقها إيقاع الطلاق الثلاث في لفظ واحد كان كالمدخول بها، ولأنه إذا قال: أنت طالق ثلاثًا فذلك تفسير لمراده باللفظ الذي يصح (5) أن يراد به فلم يمتنع. فصل [27 - إيقاع الطلاق الثلاث عليها بثلاثة ألفاظ متناسقة]: ويصح أن يوقع الطلاق الثلاث عليها بثلاثة ألفاظ متناسقة متتابعة غير متراخية وذلك أن يقول: أنت طالق، أنت طالق (6)، أنت طالق، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (7)، لأن كل زوجة ملك إيقاع الطلاق الثلاث عليها في لفظ   (1) في (م): شرط. (2) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق: 6/ 169، ومسلم في الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس: 1/ 116 - 117. (3) انظر: التفريع: 2/ 109، الرسالة ص 202، الكافي ص 262. (4) انظر: المغني: 7/ 104. (5) في (م): يصلح. (6) انظر: التفريع: 2/ 81، الرسالة ص 201، الكافي ص 262. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 196، الأم: 5/ 182، مختصر المزني ص 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 واحد صح أن يوقعه بثلاثة ألفاظ: (كالمدخول بها ولأن المتناسق في حكم الواحد (1)) (2). فصل [28 - في التفريق بين ألفاظ الطلاق الثلاث]: ولا يقع إن فرق بين الألفاظ وحصل (3) التراخي بين كل لفظة إلا واحدة فقط لأن اللفظة (4) الثانية تقع عليها بعد البينونة واستقرار الفراق بالأولى فلا يؤثر، وبذلك فارق المتناسق لأن اللفظة الأولى لا يستقر حكمها إلا بالفراغ من الباقيتين. فصل [29 - في تطليق البعض]: الطلاق مبني على السراية والتغليب، فإذا طلق البعض يسري إلى الكل، وذلك على وجهين: أحدهما تبعيض الجزء لقوله: ربعك أو خمسك طالق، والآخر تعيين عضو كقوله: يدك أو رأسك أو رجلك أو فرجك طالق ولا يراعى فيه قلة الجزء وكثرته ولا عين العضو أو الشيء المعين منها مثل كونه يدًا أو رأسًا أو شعرًا أو سنًّا أو لحمًا أو عظمًا (5). فصل [30 - وقوع طلاق البعض]: وإنما قلنا: إنه إذا طلق البعض سرى إلى الكل خلافًا لمن قال: لا يقع طلاقًا أصلًا (6)، لأن الطلاق لما لم يصح تبعيضه لم يكن بد من أحد ثلاثة أمور: إما أن يقتصر بالتحريم على قدر ما يتناوله اللفظ وذلك ممتنع، أو أن يسقط فلا يكون له حكم، وذلك غير جائز لأنه يسقط التغليظ الذي هو موضوع الطلاق، (أو   (1) في (ر): المجموع. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) في (ق): يحصل. (4) في (ق) و (ر): الطلقة. (5) انظر: الكافي ص 267 - 268. (6) قال ذلك أصحاب الرأي (المحلي: 11/ 493، المغني: 7/ 246). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 لن يعلم الكل ويسرى فيه وذلك ما قلناه) (1)، ولأنه لفظ تحريم في الزوجة فلم يسقط حكمه كما لو عم، وإذا بطل ذلك لم تبق إلا السراية، ولأنه إذا اجتمع الحظر والإباحة في شخص غلب عليه حكم الحظر كالأَمة بين شريكين والمعتق بعضها والشاة يذبحها المسلم والمجوسي. فصل [31 - في طلاق عضو معين]: وإنما قلنا: إذا عين عضوًا منها طلقت أي عضو كان خلافًا لأبي حنيفة في اعتباره أن يكون مما يعبر به عن الجملة (2) كالرأس والفرج، لأنه بعض منها فأشبه الرأس والفرج، ولأن البعضية بالجزء لما عمت فكذلك بالأعضاء. فصل [32 - الشك في الطلاق وفي عدده]: إذا شك هل طلق أم لم يطلق فلا شيء عليه، فإن طلق وشك فيما أراد به هل أراد واحدة أم اثنتين أم ثلاثًا كانت ثلاثًا إن لم يتحقق مراده (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)، لأن التحريم متحقق، وإنما شك هل ترفعه الرجعة أم لا فحصل أنه شاك هل يمكنه رفع ذلك التحريم أم لا، فيجب أن يغلب التحريم كما لو شك في امرأتين يتيقن أن إحداهما أخته من الرضاعة ويشك في عينها فإنهما تحرمان عليه. فصل [33 - إذا قال: إحدى زوجاته طالق ولم يعينها]: إذا قال لإحدى زوجاته: أنت طالق ولم يعينها ففيها روايتان (5): إحداهما وقوع الطلاق على الجميع، والأخرى أنه يختار واحدة منهن، فوجه الأولى أنه   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 199، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 44 - 45. (3) انظر: المدونة: 2/ 119 - 210، التفريع: 2/ 86، الكافي ص 269. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 199، مختصر المزني ص 195. (5) انظر: المدونة: 2/ 121 - 122، الكافي ص 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 لو لم يطلق الجميع لم يخل إيقاعه على واحدة أن يكون ابتداء، وذلك (1) غير جائز لأنا نروم (2) تنفيذ (3) الطلاق الموقع دون شيء مبتدأ أو أن يكون بالقرعة فلا يصح (4) أيضًا لأنها لا (5) تدخل إلا فيما يتجزأ وينقسم، وذلك ممتنع في الطلاق، أو أن يتعين بتعيينه وذلك غير جائز لأن الطلاق إذا صدر من مكلف فلا بد له من محل يتعلق به، وفي اتفاقنا نفوذه على من يعينه في تأتي إخراجه عن محل يتعلق به، وفي اتفاقنا نفوذه على من يعينه في تأتي إخراجه عن محل ينفذ فيه وتبقيته في الذِّمَّة إلى أن يعين له محلًا وذلك جائز فلا يبقى إلا ما قلناه، ووجه الاختيار أنه إزالة ملك وقع مطلقًا غير معين، فكان للمالك تعيينه في كل من يصح أن يريده به أصله العتق. فصل [34 - إذا عين وشك في التي نسيها]: وأما إن عين وشك في التي نسيها فإن الكل يطلق عليه كما لو عرف عين من ذبح الشاة وشك هل هو مسلم أو مجوسي، ولأنه يحصل شاكًّا في كل واحدة منهن هل (6) تحل له أو هي حرام عليه كالشاك في امرأتين أيتهما أخته من الرضاعة مع تيقنه أنها إحداهما. فصل [35 - إذا شك في مراده بالطلاق]: وإذا شك في مراده بالطلاق هل أراد واحدة أو اثنتين أم ثلاثًا؟ فإن أبانها في العدة حلت له بعد زوج لأنه لا يخلو طلاقه الأول أن يكون واحدة أو اثنتين (7) أو ثلاثًا، فإن كان دون الثلاث صارت الثلاث مردفة بما فيه على ما تقدم   (1) في (م): وغير ذلك. (2) نروم: أي نريد. (3) في (ر): بتقييد. (4) في (ر): فلا يصلح. (5) في (ق): لم. (6) في: ولا. (7) اثنتين: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 منها، فكان كمبتديء إيقاعها، وإن كانت الأولى ثلاثًا فالثاني لغو، وتحل بعد زوج. فصل [36 - المسألة الدولابية]: فإن كانت غير مدخول بها أو كانت مدخولًا بها إلا أنها خرجت من العدة وهو على كل شكه (1)، فقد بينا أنها لا تحل له إلا بعد زوج بناء على أن الطلاق المشكوك فيه يكون ثلاثًا، فإذا تزوجت وبانت من ذلك الزوج ثم عادت إليه فطلقها فلا يخلو أن يطلقها ثلاثًا أو دونها، فإن طلقها ثلاثًا حلت له بعد زوج، وإن طلقها واحدة لم تحل له أيضًا (2) إلا بعد زوج لجواز أن يكون ذلك الطلاق المشكوك فيه كان اثنتين وقد كمل بهذه الواحدة ثلاثًا فأخذنا بالأغلظ تغليبًا للتحريم، فإذا تزوجت ثم عادت إليه بنكاح جديد وبينونة من ذلك الزوج فطلقها واحدة لم تحل له أيضًا إلا بعد زوج لجواز أن يكون الأول المشكوك فيه كان (3) واحدة، وقد تبعته طلقتان مفردتان فكمل ثلاثًا، إذا تزوجت ثم عادت إليه بعد ثلاثة أزواج فهل تعود عنده على الشك عنه، ففيه (4) روايتان (5): فوجه زوال الشك هو أنه قد تيقن (6) الطلاق الثلاث، فزال حكم الشك أصلًا إذا طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة، ووجه قوله: إنها لا تحل له إلا بعد زوج كلما طلقها واحدة ولو عادت بعد مائة زوج أنه إذا طلق الثلاثة وعادت إليه بعد زوج فتقدير الشك في الطلاق الأول ثابت غير زائل اعتباره كوجوبه قبل كمال الثلاث، وهذه المسألة التي يسميها أصحابنا الدولابية لأن المنع دائر معها كيف (7) ما دارت.   (1) في (م): على ملكه. (2) أيضًا: سقطت من (م). (3) في (م): كانت. (4) ففيه سقطت من (م). (5) انظر: المدونة: 2/ 119 - 220، التفريع: 2/ 86، الكافي ص 269. (6) بياض في (ق) و (م) وأكمل النقص من (ر). (7) في (ر): حيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 856 فصل [37 - إذا طلقها دون الثلاث ثم عادت]: إذا طلقها دون الثلاث ثم عادت إليه قبل أن تتزوج، فإنها تعود على ما بقى من الطلاق بلا خلاف، فإن تزوجت ثم عادت إليه فإنها تعود إليه كذلك عندنا (1) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنها تعود على طلاق مبتدأ وأن الزوج قد هدم ذلك الطلاق (2)، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (3) ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (4)، ولم يفرق بين أن يكون قد تخلل ذلك زوج أو لا، وأنه لم يستوف طلاق الملك فوجب عودها إليه على بقية الطلاق أصله إذا عادت قبل الزوج. فصل [38 - إذا حلف بالطلاق على شيء أنه لا يفعله]: إذا حلف بالطلاق على شيء أنه لا يفعله فطلقها ثم تزوجها، فإن اليمين تعود عليه ما بقى من الطلاق المحلوف عليه (5) خلافًا للشافعي في قوله الآخر (6): أن زوال النكاح الذي حلف فيه يسقط حكم اليمين، لأنها حال يملك فيها ابتداء إيقاع الطلاق المحلوف به فتعلق الحنث بها كالنكاح المحلوف فيه. فصل [39 - إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجها بعد زوج ..]: وإذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجها بعد زوج لم يحنث بعد فعله ولم تعد اليمين عليه (7) خلافًا للشافعي في قوله الآخر: أن اليمين تعود إليه (8)، لأن الطلاق   (1) انظر: التفريع: 2/ 78، الكافي ص 269. (2) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 58 - 59. (3) سور البقرة، الآية: 230. (4) سورة البقرة، الآية: 230. (5) انظر: التفريع: 2/ 78، الكافي ص 269. (6) انظر: المهذب: 2/ 99، 109. (7) انظر: التفريع: 2/ 78، الكافي ص 268 - 269. (8) انظر: مختصر المزني ص 197، المهذب: 2/ 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 المحلوف به قد زال فلم يبق لليمين مع حكم، أصله لو حلف بعتق عبده لا فعل شيئًا، فمات العبد قبل الفعل. فصل [40 - في الرجعة]: الأصل في ثبوت الرجعة (1) قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (2)، وقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} (3) قيل: هي الرجعة (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر: "مره فليراجعها" (5)، ولا خلاف في ذلك (6). فصل [41 - استحباب الإشهاد على الرجعة]: يستحب في الرجعة الإشهاد وليس بشرط (7) خلافًا للشافعي (8)، لأنها حق (9) من حقوق النكاح، كالظهار والإيلاء والقسم وغير ذلك من حقوقه، ولأنه معنى يبيح الوطء كشراء الأَمَة، ولأنه ليس بآكد من عقد النكاح، وقد بينا أن الإشهاد ليس بشرط فيه.   (1) الرجعة: هي رفع الزوج أو الحاكم حرمة المتعة بالزوجة لطلاقها (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 199). (2) سورة البقرة، الآية: 228. (3) سورة البقرة، الآية: 229. (4) تفسير الطبري: 2/ 456 - 459. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). (6) انظر: الإجماع ص 112، المحلي: 11/ 610، المغني: 7/ 278، فتح الباري: 9/ 286. (7) انظر: المدونة: 2/ 224، المحلي: 10/ 11، المغني: 7/ 278، فتح الباري: 9/ 286. (8) انظر: الأم: 5/ 244 - 245، مختصر المزني ص 196، الإقناع ص 153. (9) في (م): حقوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 فصل [42 - بم تصح به الرجعة؟]: لا خلاف أنها تصح بالقول وتصح عندنا بالوطء والقُبْلة وسائر الاستمتاع للذة إذا نوى به الرجعة (1) خلافًا للشافعي في قوله: إنها لا تكون إلا بالقول (2) لأن القول الذي يثبت به رد المرأة إلى العقد المبيح للوطء أو استصلاح ما يثلم منه يجوز أن يقوم الوطء مقامه أصله قول البائع قد اخترت رد هذه الأَمَة إلى ملكي، ولأنه تصوف لا يكون مباحًا إلا مع البقاء (3) على الملك المبيح له، فجاز أن يقع به الرد إلى الملك أصله القول، ولا تكون رجعة إلا مع القصد به إلى ذلك خلافًا لأبي حنيفة (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامريء ما نوى" (5)، ولأنه معنى مبيح للوطء فلم يصح إلا بنية كالتلفظ بعقد النكاح، ولأنه أحد الأنواع التي تثبت بها الرجعة كالقول. فصل [43 - من طلق امرأته ثم ارتجعها فلم تعلم حتى تزوجت]: ومن طلق امرأته ثم ارتجعها فلم تعلم حتى تزوجت، فإن دخل بها الثاني فلا سبيل للأول عليها، وإن لم يدخل بها ففيها روايتان: إحداهما أنها للأول، والثانية أنها للثاني (6)، فوجه الأولى أنها لم تفت بدخول من زوج، فوجب أن تكون لمرتجعها أصله إذا لم تتزوج، ولأن ذلك حكم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولا مخالف عليه حكم به في رجل يكنى أبا كنف وكان ارتجع وامرأته لا تعلم فتزوجت فأدركها والنساء يهدينها للثاني فكتب له عمر: أنه أحق بها إن كان الثاني   (1) انظر: المدونة: 2/ 224، التفريع: 2/ 75، الكافي ص 291 - 292. (2) الأم: 5/ 244 - 245، الإقناع ص 153. (3) في (ق): مع البناء. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 205 - 209، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 54. (5) سبق تخريج الحديث. (6) انظر: المدونة: 2/ 224 - 226، التفريع: 2/ 81، الكافي ص 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 لم يدخل بها (1)، ولأن هذه مبنية على الوليين وقد قدمناه، ووجه الثانية أن العقد للثاني حصل قبل علمها (2) برجعة الأول بتقصير من جهته، فوجب أن تكون للثاني كما دخل بها: ولا يدخل عليه الوليان لأن الأول لا ينسب إلى تقصير لأن الذي زوج الثاني غيره، فأما ما لم تتزوج فلا مراجعة بينه وبين غيره، وكذلك إسلام الكافر في عدة امرأته التي أسلمت إذا لم تعلم حتى تزوجت ففيها روايتان كمسألتنا. فصل [44 - تحريم المطلقة الرجعية ما لم يرتجعها]: المطلقة الرجعية محرمة ما لم يراجعها (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) لأنها جارية إلى بينونة أصله الكتابية إذا أسلمت بعد الدخول، ولأن الطلاق يوجب التحريم كالخلع واعتبارًا به قبل الدخول. فصل [45 - حكم العزل]: العزل (5) جائز في الجملة (6) إذا لم يتعلق به إسقاط حق الغير لقوله - صلى الله عليه وسلم - وسئل (7) العزل خوف الحمل: "لا عليكم إلا تفعلوا فإنه ما من نسمة قدر الله أن تكون إلا كانت" (8)، ولم ينههم، ولأنه ترك لإتمام الوطء، وذلك غير ممنوع كما لو نزع ولم ينزل أصلًا، فإذا ثبت ذلك فلا يجوز عن الحرة   (1) انظر: مصنف عبد الرزاق: 6/ 313، وابن أبي شيبة: 1/ 252. (2) في (م): علم. (3) انظر: المدونة: 2/ 224 - 226، التفريع: 2/ 76 - 177، الكافي ص 291 - 292. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 195، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 57. (5) العزل: وهو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج (فتح الباري: 9/ 305). (6) في جملة أحكام العزل انظر: الموطأ: 2/ 595 - 596، التفريع: 2/ 46، الكافي ص 257. (7) في (م): وسألوه. (8) أخرجه البخاري في النكاح، باب: العزل: 6/ 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 إلا بإذنها لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (1)، ولأن تركه حق لكل واحد من الزوجين لأنه من تمام الوطء فليس لأحدهما قطعه إلا باختيار الآخر، والحرة تختار لنفسها والأَمَة خيارها إلى سيدها لأن له (2) غرضًا في كثرة ولدها فليس للزوج قطعه عنه (3)، فأما أم الولد وسائر الإماء فلا حق لهن في الوطء، وذلك ينفي أن يكون لهن حق في إتمامه. فصل [46 - في فسخ النكاح]: فسخ النكاح على ضربين: فسخ بطلاق، وفسخ بغير طلاق، وفائدة الفرق هو أنه إذا كان طلاقًا نقص به من أعداد الطلاق، فإن ورد بعد تطليقتين لم تحل له إلا بعد زوج، وإذا لم يعد طلاقًا فله أن يتزوجها من غير حاجة إلى زوج لأن الثلاث لم تكمل وفي اعتبار التمييز بينهما روايتان (4): إحداهما بالخلاف القوي الظاهر دون الشاذ، فإن وجد ذلك في النكاح المفسوخ كان فسخه طلاقًا، فإن عدم كان فسخه (5) بغير طلاق. والأخرى: أن يراعى ما له ثبت الفسخ، فإن كان مما يمكن الثبوت معه، وإنما فسخ (6) لحق أحد الزوجين دون حق الله تعالى كان الفسخ طلاقًا، وإن كان مما لو أراد الزوجان أو أحدهما (7) الثبوت عليه لم يجز له، فالفسخ بغير   (1) حديث: "أنه نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يعزل من الحرة إلا بإذنها" أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: العزل: 1/ 620، وأحمد: 1/ 31، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف (إرواء الغليل: 7/ 70). (2) في (ق): لها. (3) في (ق): عنها. (4) انظر: المدونة: 2/ 154 - 157، التفريع: 2/ 48 - 49، الكافي ص 237 - 238. (5) في (م): فسخًا. (6) في (ق): الفسخ. (7) في (م): أو بعدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 طلاق، فوجه اعتبار الخلاف الاحتياط للفروج وإباحتها باليقين دون الشك وبقاء (1) الخلاف في زوال النكاح لا يحصل معه اليقين، فوجب أن يعتبر بالطلاق ليحصل هذا المعنى، ووجه الأخرى أن المراعي في ذلك الأمر الغالب الذي لا تمكن الإقامة على النكاح معه اعتبارًا بالرضاع والملك، فإذا ثبت هذا فالمسائل التي توجب فيها الفسخ تتفرع على هذا الخلاف: كالفسخ بتزويج المرأة نفسها والمحرم والشغار والمتعة وما أشبه ذلك من بابه يخرج على الروايتين، وفسخ النكاح بالعنة والجب والإعسار بالنفقة والمهر واختيار المعتقة نفسها والعيوب الأربعة والإيلاء وغير ذلك رواية واحدة أنه طلاق، والرضاع والملك ونكاح المرأة في العدة والفرقة باللعان وإسلام المرأة، وما أشبه ذلك رواية واحدة أنه فسخ، وفي الردة وغيرها خلاف في تخريجها. فصل [47 - إذا طلقها قبل الدخول ولها عليه مهر مسمى]: إذا طلقها قبل الدخول ولها عليه مهر مسمى، فإن كان حالًا أخذت النصف حالًا لأن الطلاق لا يمنع من ذلك، وإن كان مؤجلًا لم تستحق أخذ شيء إلى حلول الأجل لأن الطلاق لا يوجب (2) حلول الديون المؤجلة، لأن الموجب لذلك خراب الذمة بالموت أو عيبها بالفلس وذلك معدوم في الطلاق، وإن كان بعضه حالًا وبعضه مؤجلًا فلها نصف الحال معجلًا وتنتظر بنصفه المؤجل حلول الأجل (3) اعتبارًا بكون جميعه على أحد الصفتين (4). ...   (1) في (م): وبقي. (2) في (ق): يوجب. (3) في (م): أجله. (4) انظر: المدونة: 2/ 174، الكافي ص 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 باب: [في الشهادة على الطلاق] لا تقبل في الشهادة على الطلاق إلا الرجال لأنها شهادة على حكم يثبت في البدن مما يطلع عليه الرجال كالقتل ولا يقبل فيه شاهد ويمين، لأن ذلك مقصور على الأموال وحقوقها ولا يحلف في دعوى بمجردها (1)، لأن ذلك طريق إلى دعوى من تريد أذى زوجها (وفراقه وإعناته في كل وقت، فإن انضم إلى دعواها ما يقويها مثل شاهد) (2) واحد أو امرأتان حلف الزوج معها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ادعت المرأة طلاق زوجها فجاءت بشاهد عدل استحلف" (3)، لأن دعواها قد قويت بذلك فينظر، فإن حلف سقطت الدعوى لأن في الحديث: "فإن حلف بطلت شهادة الشاهد" (4)، وإن نكل ففيها روايتان: إحداهما: أنه يحكم عليه بالطلاق ولما روي في الحديث: "فإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر وجاز طلاقه" (5). والأخرى: أنه يحبس (6) حتى يحلف ووجهها (7): أن الشاهد والنكول أضعف من الشاهد واليمين، فلما لم يحكم بالطلاق بشاهد ويمين كان بأن لا   (1) انظر: المدونة: 2/ 134 - 137، التفريع: 2/ 105 - 107، الكافي ص 264. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) أخرجه البيهقي: 10/ 182، وهو موقوف على ابن عمر، وأخرجه الدارقطني: 4/ 64، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ادعت ... " إلى آخر الحديث. (4) هو جزء من الخبر السابق. (5) هو جزء من الخبر السابق. (6) في (م): أنه يجلس. (7) في (م): زوجها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 يحكم بالشاهد (1) والنكول أولى، والحديث إذا ورد فيه زيادة تردها الأصول كانت الأصول أولى. فصل [1 - اختلاف الشاهدين على الطلاق]: إذا اختلف الشاهد على الطلاق بالزمان والمكان لم يمنع ذلك قبول الشهادة لأن القول يتكرر ويعاد ويكون الحكم في الثاني أنه إعادة الأول لا استيناف كالإقرار بالمال، وبخلاف ذلك في الأفعال لأن كل فعل له حكم نفسه لا يكون تكرارًا للأول. فصل [2 - متى تبدأ عدة المطلقة]: وعدتها من يوم أخبر الآخر أنه سمع الطلاق فيه (2) لأن بشهادته تمت البينة ووقع الحكم والعدة تتعقب الطلاق المحكوم به لا تتقدم عليه. فصل [3 - إذا اختلف الشاهدان في عدد الطلاق]: فإن اختلف في العدد أحدهما بواحدة والآخر باثنتين أو أحدهما بثلاثة، والآخر باثنتين حكم بالأقل وأُحلف على الزيادة، فإن حلف بطل عنه وإن نكل كان على ما ذكرناه. ...   (1) في (ق): بالنساء. (2) انظر: المدونة: 2/ 227، التفريع: 2/ 114 - 116، الكافي ص 293 - 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 باب: [الخلوة لا توجب كمال الصداق] مجرد الخلوة لا يوجب كمال الصداق إذا لم يكن وطء (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (3)، ولأنه لم يحصل منه المسيس المقصود بالعقد كما لو لم يخل (4) بها. فصل [1 - ادعاء المرأة الوطء وإنكار الزوج له]: إذا حصلت الخلوة فادعت الوطء فأنكره الزوج، ففيها ثلاث روايات (5): إحداها: أن القول قولها جملة من غير تفصيل. والأخرى: أنه إن كان ذلك في منزلها فالقول قوله مع يمينه ما لم يكن دخول بناء، وإن كان في منزله، فالقول قولها مع يمينها. والثالثة: أنها إن كانت ثيبًا فالقول قولها مع يمينها، وإن كانت بكرًا نظر إليها النساء، فإن رأين أثر افتضاض صُدِّقت عليه، وإن لم يرين لم يكن لها إلا نصف الصداق. فوجه الأولى: أنها قد فعلت ما يلزمها من التسليم والتمكين من الاستمتاع فليست بمنسوبة إلى تفريط بترك التوثق بالإشهاد إذ لا يمكنها ذلك، فلو لم   (1) انظر: المدونة: 2/ 222، التفريع: 2/ 110، الكافي ص 251. (2) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 25، تحفة الفقهاء: 1/ 140. (3) سورة البقرة، الآية: 237. (4) في (م): لم يدخل. (5) انظر: المدونة: 2/ 222 - 224، التفريع: 2/ 110، الكافي ص 243 - 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 تصدق عليه لأدى إلى أن لا يثبت على أحد صداق بوطء إلا باعترافه، وفي ذلك إضاعة المهور وأعواض الاستمتاع. ووجه الثانية: أن النزاع في التداعي يرجع فيه إلى من يشهد له العرف من المتداعين، فالعرف جار بأن الرجل ينقبض في غير بيته إذا كان زائرًا غير مطمئن ولا ينبسط وأنه يستحي من اطلاع أهلها ومن هو في دارها، فكان القول قوله في أنه لم يطأ بشهادة العرف له، وبخلاف هذا إذا بني بها لأنه إذا توطن واطمأن في بيته أو بيت أهلها انبسط وزال الاستيحاش والانقباض عنه، فكان القول قولها: أنه وطئها، فكذلك إذا خلى بها في بيته فالقول قولها، لأن العرف يصير معها لأن الإنسان ينبسط في بيته ولا ينقبض والعادة إقدامه على الوطء، ولأنه لا يتوقف عنه فصدقت عليه. ووجه الثالثة: أنه إذا وجد سبيل إلى اليقين كان أولى من الظن والعمل على ظاهر لا يعرف صدقة، وذلك ممكن في البكر على ما ذكرناه من اختبارها بنظر النساء إليها، وجاز ذلك للضرورة كالعيوب، ولما لم يمكن في الثيب رجع إلى قولها، وكل من حكم بقوله فلا بد من يمينه. فصل [2 - وجوب العدة في اختلافهما على الوطء أو عدمه]: وكل هذا الاختلاف إنما هو في تكميل الصداق، فأما العدة فإنما تجب ولا تسقط باختلافهما لأنها حق لله فلا يقبل قولهما في إسقاطه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 باب: [الخيار للأَمَة إذا أعتقت وهي تحت عبد] والأَمَة إذا أعتقت وهي تحت (1) عبد، فلها الخيار (2) لحديث بريرة (3) لما أعتقت وكان زوجها عبدًا، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها الخيار (4)، ولأن حرمتها قد زادت على حرمته فلها أن ترضى به لأنها تقول: إنما لما رضيت أن يتزوجني عبد لما كنت أَمَة فأما وأنا حرة فلا أرضى فيكون ذلك لها. فصل [1 - إذا كانت الأَمَة تحت حر لا خيار لها]: ولا خيار لها تحت الحر خلافًا لأبي حنيفة (5)، لقول عائشة - رضي الله عنها -: خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، وكانت تحت عبد ولو كان زوجها حرًّا ما خيرها (6) ومثل هذا لا يكون إلا توقيفًا، ولأن ذلك معنى لا يثبت لها الخيار عند ابتدائه إذا وقع العقد مطلقًا لم يثبت لها إذا طرأ عليه، أصله إذا تزوجته أقطع اليدين لما لم يكن الخيار كذلك إذا طرأ القطع عليه، ولأن حرمتها ليست بزائدة على حرمته بخلاف العبد. فصل [2 - في كون الخيار طلاق]: واختيارها نفسها طلاق، لأنه ليس بغالب إذ المقام على النكاح جائز مع   (1) وهي سقطت من (م) ومن (ر). (2) انظر: التفريع: 2/ 103، الرسالة ص 204، الكافي ص 275. (3) بريرة: مولاة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما -، صحابية مشهورة، عاشت إلى خلافة يزيد بن معاوية (انظر: تقريب التهذيب ص 744، الإصابة: 12/ 157). (4) أخرجه البخاري في النكاح، باب: الحرة تحت العبد: 6/ 124، ومسلم في العتق، باب: أن الولاء لمن أعتق: 2/ 1142. (5) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 24. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 867 عتقها وتكون بائنًا لأنه خيار في زوال العصمة كالخلع ولو كانت الرجعة ثابتة لم يفد الخيار شيئًا ولو أعتق العبد لم يكن له سبيل عليها، لأن البينونة حلت قبل عتقه، وإن أمكنته أن يطأها أو يقبلها بطل خيارها (1)، لأن ذلك دلالة على رضاها به إلا أن يكون أكرهها فلا يبطل الخيار، وهذا إذا أمكنته عالمه بأنها أعتقت، فأما إن أمكنته من وطئها من قبل أن تعلم بعتقها فلا يسقط خيارها لأن ذلك لا يدل على رضاها بالثبوت معه، وإنما يدل على ذلك إذا كان بعد علمها به، وسواء كان قبل الدخول أو بعده لأنه - صلى الله عليه وسلم - خيرها ولم يفرق، ولأنه علله بملكها ببضعها (2)، واعتبارًا ببعد الدخول. وفي تطليقها نفسها زيادة على الواحدة روايتان: فوجه قوله: إن لها أن تطلق (3) ثلاثًا أنها ملكت ما كان للزوج يملك من أمرها، فكان لها (4) أن توقع ما كان له أن يوقعه، ووجه قوله: إنه ليس لها أكثر من الواحدة هو أن الغرض زوال العصمة، فإذا حصل بالواحدة فلا فائدة في الزيادة عليها. ...   (1) انظر: التفريع: 2/ 103 - 104، الرسالة ص 204، الكافي ص 275 - 276. (2) في (ق): لبعضها. (3) في (م): لها ذلك. (4) في (ق): له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 868 باب: [في الخلع] الخلع (1) جائز (2)، والأصل فيه قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (3)، وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (4)، وحديث حبيبة بنت سهل (5) لما شكت زوجها ثابت بن قيس (6) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: لا أنا ولا ثابت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتردين عليه حديقته" قالت: نعم، فأخذها منها وجلست في أهلها (7)، ولأن المرأة قد تكره زوجها مع قيامه بحقوقها ولا يمكنها من مطالبته بالفرقة لأن ذلك لا يلزمه إلا برضاه، فجاز أن تبذل له عوضًا على ذلك. فصل [1 - في الزيادة على الصداق في الخلع أو نقصانه]: ويجوز أن يخالعها على الصداق وأقل وأكثر، خلافًا لمن ذهب إلى منع الزيادة   (1) الخلع في اللغة: قال ابن فارس هو مزايلة الشيء الذي كان يشتمل به أو عليه (معجم مقاييس اللغة: 2/ 209)، وفي الاصطلاح هو: عقد معاوضة على البضع تملك المرأة نفسها ويملك به الزوج العوض (حدود ابن عرفة ص 180). (2) في جملة أحكام الخلع انظر: المدونة: 2/ 231، التفريع: 2/ 81 - 83، الرسالة ص 202، الكافي ص 276. (3) سورة البقرة، الآية: 229. (4) سورة النساء، الآية: 4. (5) حبيبة بنت سهل: بنت ثعلبة بن الحارث بن زيد بن ثعلبة الأنصارية، صحابية، اختلعت من ثابت بن قيس فتزوجها أبي بن كعب بعده (تقريب التهذيب ص 745). (6) ثابت بن قيس: بن شماس أنصاري، خزرجي، خطيب الأنصار من كبار الصحابة، بشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة واستشهد (تقريب التهذيب ص 133). (7) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: الخلع وكيف الطلاق فيه: 6/ 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 عليه (1) لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) فعم، ولأنه عوض مبذول في الخلع يجوز أن يكون مثله عوضًا في غير الخلع، فجاز أن يكون عوضًا في الخلع أصله مقدار الصداق. فصل [2 - في صحة الخلع مع الرضا وعدم الإضرار]: ويصح مع الرضا وعدم الإضرار خلافًا لقوم (3) لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (4) فعم، ولأنها معاوضة تجوز حال الخصومة فجازت مع التراضي كالبيع والإجارة. فصل [3 - إذا كان الإضرار من قبل الزوج]: وإن كان الإضرار من قبله نفذ الطلاق ورد ما أخذ منها (5) خلافًا للشافعي (6) في قوله: أنه لا يرد شيئًا، أما نفوذ الطلاق فلأنه قد ألزمه نفسه فلا سبيل إلى رفعه، وأما وجوب رد ما أخذه فلأنه كان مستحقًا عليه إزالة الأضرار (7) وما ألزم الإنسان إزالته بغير عوض لم يجز له أخذ العوض عليه. فصل [4 - في كون الخلع طلاق]: والخلع طلاق وليس بفسخ (8) خلافًا للشافعي (9) لأنه - صلى الله عليه وسلم -   (1) قال عطاء وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما أعطاها (المغني: 7/ 53). (2) سورة البقرة، الآية: 229. (3) في رواية للحنابلة وهو قول ابن المنذر وداود (انظر المغني: 7/ 54) أنه لا يجوز الخلع إلا عند الإضرار بها وعدم الرضا. (4) سورة النساء، الآية: 4. (5) في (م): ما أخذه. (6) انظر: الأم: 5/ 196 - 197، مختصر المزني ص 187. (7) في (م): الضرر. (8) انظر: التفريع: 2/ 81، الرسالة ص 202، الكافي ص 276. (9) انظر: الأم: 5/ 198 - 199، مختصر المزني ص 187، وهو أحد قولي الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 لما خلع بين حبيبة وثابت بن قيس فقال لها: "اعتدي" ثم التفت إليه فقال له: "هي واحدة" (1)، وهذا نص، ولأن كل فرقة يجوز الثبوت على النكاح مع الحال (2) الموجبة لها فإنه طلاق لا فسخ اعتبارًا بفرقة العنين والمولي عكسه الرضاع والملك، ولأن الزوج أخذ العوض على ما يملكه والذي يملكه الطلاق دون الفسخ لأنه لو قال: قد فسخت النكاح لم ينفسخ إذا لم يرد الطلاق. فصل [5 - منع الرجعة في الخلع]: ولا رجعة في الخلع (3) خلافًا لأبي ثور (4) لأن المرأة إنما تبذل العوض لإزالة الضرر عنها، وفي ثبوت الرجعة عليها تبقية الضرر، ولأن في إثبات الرجعة في الخلع جمعًا للزوج بين العوض والمعوض، وذلك ما لا سبيل إليه. فصل [6 - الخلع مع اشتراط الرجعة]: فإن بذلت له العوض وشرط الرجعة ففيها روايتان (5): إحداهما ثبوتها والأخرى سقوطها، فوجه ثبوتها أن العوض يكون في مقابلة ما يسقط من عدد الطلاق دون زوال العصمة لأنها لما أجابته إلى ذلك دل على أنها على هذا عاوضته، ووجه نفيها أنه طلاق بعوض فوجب أن تنتفي معه الرجعة أصله إذا طلق ولأنه شرط في العقد ما يمنع المقصود منه، فلم يثبت كما لو شرطت (6) في النكاح أن لا يطأ.   (1) سبق تخريج هذا الحديث قريبًا. (2) في (ق): الحلال. (3) انظر: المدونة: 2/ 232، التفريع: 2/ 83، الرسالة ص 202، الكافي ص 276. (4) انظر: التفريع: 2/ 83، الكافي ص 277. (5) انظر: التفريع: 2/ 83، الكافي ص 277. (6) في (ق): شرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 871 فصل [7 - عدم لحوق ما أردفه من الطلاق في عدة المختلعة]: ولا يلحقها ما أردفها في العدة خلافًا لأبي حنيفة (1)، لأنها فرقة لا رجعة فيها كالثلاث أو قبل الدخول، ولأن كل من يطلق باللفظ العام للنساء لم يطلق مع التعيين أصله بعد العدة. فصل [8 - نكاح المختلعة في العدة]: وله أن ينكحها في العدة برضاها لأن الماء له واعتبرنا رضاها لأنه نكاح وليس برجعة. فصل [9 - في نفقة المختلعة]: لا نفقة للمختلعة لأن طلاقها بائن كالمبتوتة، وإن كانت حاملًا لزمته النفقة للحمل (2) لأنها كالمبتوتة الحامل. فصل [10 - المخالعة على خمر أو خنزير]: إذا خالع عن خمر أو خنزير أو ما لا يصح للمسلم تملكه وقع الطلاق بائنًا (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه يقع رجعيًّا (4) لأنه طلاق أوقعه على وجه الخلع فكان بائنًا كما لو صح العوض. فصل [11 - في أنه لا رجوع عليها بشيء إذا رضي بما لا يصلح أن يعتاض به]: ولا يكون الرجوع بشيء خلافًا للشافعي في قوله: يستحق عليها مهر المثل (5) لأنه لما رضي بأن يعتاض ما لا يصح أن يكون عوضًا في حقها كان راضيًا بسقوط   (1) شرح فتح القدير: 3/ 21. (2) انظر: المدونة: 2/ 232، التفريع: 2/ 83، الكافي ص 298. (3) انظر: المدونة: 2/ 236، الكافي ص 277. (4) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 65، وتحفة الفقهاء: 1/ 201. (5) انظر: مختصر المزني ص 190، الإقناع ص 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 872 العوض، فلم يجب له بدل، ولأنه معنى يصح أن يوقع (1) بغير عوض (2) يفوت بنفس وقوعه لا يمكن الفسخ فيه، فإذا وقع بما لا يصح أن يكون بدلًا لم يستحق أن يكون لموقعه به (3) بدل أصله العتق. فصل [12 - في خلع المريضة]: خلع المريضة جائز إذا كان خلع مثلها واختلف فيه، فقيل: بقدر ميراث الزوج، وقيل: بالثلث، وإن زاد على قدر الميراث (4)، فوجه الأول أن ما زاد على قدر الميراث إقرار (5) لبعض الورثة بمال دون غيره فلم يجز، ووجه الثاني أن المريض مالك لثلث ما له، فجاز لها الخلع عليه كحال الصحة (6). فصل [13 - في عدم اعتبار صداق المثل في خلع المريضة]: ولا اعتبار بصداق المثل في ذلك خلافًا للشافعي (7)، لأنه ليس في مقابلته ما يقوم به وصداق المثل لا يعتبر إلا في هذا. فصل [14 - الخلع على الغرر]: يجوز الخلع على الغرر والمجهول كالآبق والشارد، فإن سلم أخذه وإلا فلا شيء له والطلاق ناقذ على كل حال (8)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في منعهما ذلك (9)، لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (10)   (1) في (م): أن يقع. (2) في (م): دليل، وفي (ر): بدل. (3) أن يكون لموقعه به: سقطت هذه العبارة من (م) ومن (ر). (4) انظر: المدونة: 2/ 241، الكافي ص 278. (5) في (م): إفراد. (6) في (ق): الصحيح. (7) انظر: مختصر المزني ص 189، الإقناع ص 152. (8) انظر: المدونة: 2/ 232، التفريع: 2/ 82، الكافي ص 177. (9) انظر: مختصر القدوري: 3/ 65 - 66، مختصر المزني ص 189. (10) سورة البقرة، الآية: 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 873 فعم، ولأنه يصح أن يملك بالهبة والوصية، فجاز أن يكون بدلًا في الخلع كسائر الأعيان. فصل [15 - إذا قصد إيقاع الخلع بغير عوض]: إذا قصد إيقاع الخلع بغير عوض كان خلعًا عند مالك، وقال أشهب: يكون طلاقًا رجعيًّا (1)، فوجه قول مالك: إنه طلاق قصد أن يكون خلعًا، فكان على ما قصده كالذي معه عوض، ولأن عدم حصول العوض في الخلع لا يخرج الطلاق عن لزومه على قصد موقعه إذا عاوض بخمر أو بخنزير، ووجه قول أشهب أن معنى الخلع بدل عوض على الطلاق، فإذا لم يقع عوض خرج عن معناه، ولأنه طلاق بغير عوض كالمبتدأ. ...   (1) انظر: التفريع: 2/ 83، الكافي ص 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 باب: [في الحكمين] إذا قبح (1) ما بين الزوجين وظهر الشقاق فإذا علم الإضرار من أحدهما أمر بإزالته، فإن أشكل ذلك بعث الحاكم حكمين: أحدهما من أهل الزوج والآخر من أهل المرأة عدلين فقيهين فينظران بينهما ويجتهدان في الإصلاح إن تمكنا، فإن لم يقدرا عليه ورأيا الصلاح في الفرقة فرقا بينهما، فإن رأيا أن يأخذا له شيئًا من مالها ليكون خلعًا فعلا، وكان ذلك لهما على طريق الحكم دون التوكيل وافق حكم (2) قاضي البلد أو خالفه، وإن لم يكن في أهلهما من يهتدي لذلك جاز أن يكونا أجنبيين (3). فصل [1 - في مشروعية الحكمين]: والأصل في الحكمين قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (4) الآية، وبعث عثمان بن عفان ابن عباس ومعاوية حكمين في قصة عقيل بن أبي طالب (5) وامرأته فاطمة بنت بن ربيعة (6) وقال علىّ - رضي الله عنه - للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا (7) جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما (8).   (1) يعني إذا ساء، وقد استعمل المصنف هذه العبارة في كتابه التلقين. (2) حكم: سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 2/ 294، التفريع: 2/ 87، الكافي ص 278. (4) سورة النساء، الآية: 35. (5) عقيل بن أبي طالب: الهاشمي، أخو عليّ وجعفر وكان الأسن، صحابي، عالم بالنسب، مات سنة ستين، وقيل: بعدها (تقريب التهذيب ص 396). (6) فاطمة بنت عتبة: بن ربيعة بن عبد شمس العبشمية، أخت هند أم معاوية، روت عنها أم محمَّد بن عجلان (الإصابة في تمييز الصحابة: 8/ 163). (7) أن تجمعا: سقطت من (ق). (8) أخرجها عبد الرزاق: 6/ 512 (تلخيص الحبير: 3/ 204). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 فصل [2 - للحكمين التفريق بينهما]: وإنما قلنا: إنهما إن رأيا أن يفرقا فرقًا لا على طريق التوكيل بل على وجه الحكم خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (1)، لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (2)، وذلك خطاب للأئمة والحكام دون الزوجين، ولأنه تعالى سماهما حكمين وذلك يفيد تعلق الحكم بينهما دون الوكالة، ولقول علي - رضي الله عنه - للحكمين: أتدريان ما عليكما إن رأيتما أن تصلحا أصلحتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما (3) ولم يشترط رضا الزوجين، ولأن للحاكم مدخلًا في إيقاع الفرقة بين الزوجين لإزالة الضرر كالإيلاء والإعسار بالنفقة والمهر وغير ذلك، وإنما أجزنا (4) لهما أن يأخذا له شيئًا من مالها، لأن الإصلاح موكول إلى اجتهادهما، فقد يريان الحظ في ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك في قصة حبيبة بنت سهل مع ثابت بن قيس (5)، وإن لم يكن ذلك على وجه التحكيم. فصل [3 - في كون الحكمين من الأهل]: وإنما استحببنا أن يكونا من أهلهما للنص على ذلك (6)، ولأن الأهل أخبر بالقصة وأعرف بطيها وأهدى إلى إصلاحها، فكانا أولى من الأجانب، ولأن الأهلية تبعث على المبالغة في النصيحة للتناهي في الإشفاق، وإنما قلنا: أنه يجوز أن يكونا أجنبيين إن لم يكن في الأهل من يقوم بذلك لأن الغرض ما ذكرناه وكونهما من الأهل أنجز للقصة وأبلغ في إصلاحها لا أن ذلك شرط لأنه ليس في الأصول حكم شرط في متوليه أن يكون من أهل المتحاكمين.   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 191، مختصر المزني ص 186. (2) سورة النساء، الآية: 35. (3) سبق تخريج الأثر قريبًا. (4) في (م): اخترنا. (5) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (869). (6) كما جاء في قوله تعالى: {حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 فصل [4 - عدم اشتراط موافقة رأي الحكمين رأي قاضي البلد]: وإنما قلنا: لا فرق بين أن يوافق رأي قاضي البلد أو يخالفه، لأن الاجتهاد مطلق لهما والأمر بفعل ما يريان الصلاح فيه متوجه إليهما وهما ممنوعان من تقليد غيرهما، فقد يوافق رأيهما مذهب قاضي البلد، وقد يخالفه فلم يكن بذلك اعتبار. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 877 باب: [في تمليك المرأة طلاقها] إذا ملَّك الرجل امرأته طلاقها جاز لأنه قد وكلها بذلك والتوكيل في الطلاق جائز، ولفظه أن يقول: قد ملكتك أمرك أو طلاقك أو أمرك بيدك أو ما أشبه هذه الألفاظ، ثم لا يخلو أن تجيب في المجلس أو تمسك فلا تجيب، فإن لم تجب وقد أمكنت من الجواب حتى افترقا ففيها روايتان (1): إحداهما بطلان تمليكها، والأخرى ثبوته وإنه لا يقطعه إلا إيقافها أو تمكينها إياه من نفسها، فوجه الأولى أنه إيجاب (2) يقتضي قبولًا، فإذا لم يحصل الجواب في الحال بطل كلفظ الإيجاب في البيع والنكاح، ووجه الثانية اعتباره بإعتاق الأمَة تحت العبد لأنه جعل طلاقها بيدها. فصل [1 - إجابة المرأة على تمليك الرجل لها]: وإن أجابت لم يخل أن يكون صريحًا بقبول أو رد أو مبهمًا، فإن كان مبهمًا لم يضرها إن قامت من المجلس ولم تفسره وأخذت بتفسيره فيما بعد، وإنما قلنا ذلك لأن الجواب قد حصل منها، وإن كان مجملًا فلم يجعل كعدمه، وإن كان مفسرًا عمل على ما يوجب (3) من قبول أو رد، وإنما قلنا ذلك لأنه قد جعل لها أن تملك فصار ذلك حقًّا لها، فكان لها استيفاؤه أو إسقاطه، فألفاظ القبول أن تقول: قد قبلت طلاقي أو قبلت نفسي أو طلقت نفسي أو ما أشبه ذلك، فهذا كله صريح في القضاء بالطلاق ثم ينظر، فإن كان في هذه الألفاظ التي تقضي بها ما لا يحتمل إلا الثلاث أو ما يحتمل الثلاث وما دونها فله مناكرتها إن ادعى أنه   (1) انظر: المدونة: 2/ 269 وما بعدها، التفريع: 2/ 87 - 80، الكافي ص 273 - 274. (2) في (م): جواب. (3) في (م): عمل ما يوجبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 878 لم يرد بالتمليك إلا واحدة، وإنما يكون له ذلك بثلاثة شروط وهي: أن يزعم أنه نوى ذلك عند التمليك، وأن يكون تمليكه إياها ابتداء طائعًا من غير شرط، وأن يناكر في الحال فمتى انخرم من هذه الشروط شيء لم تكن له المناكرة وجاز عليه ما قضته، وإنما شرطنا أن يكون نوى ما يدعيه عند التمليك لأن ظاهر تمليكه يوجب أنه ملَّكها جميع ما بيده، وإذا ادعى ما يخالف ذلك لم يقبل منه إلا أن يكون ذلك في الحال، وإنما قبلنا دعواه لأن الطلاق بيده فلا يخرج عنه إلا ما أقر أنه أراد تمليكها يحتمل ما قاله، وإنما شرطنا أن يكون ذلك في الحال لأن إمساكه عنها دلالة على رضاه بما قضت واعتراف منه لأنه لو كان بخلاف ذلك لبادر بالإنكار ولم يتوقف، وإنما شرطنا أن يكون تمليكه لها طوعًا لا عن شرط لأنه إذا كان شرط فالغرض منه تمليك ما تزول به العصمة لا نقصان عدد الطلاق وبقاء العصمة لا يحصل هذا، وذلك كالعوض في الخلع أن المقصود منه زوال العصمة، وإلا لم يستفد بالعوض شيئًا، وإذا كان ابتدأ فلم يستحق عليه في مقابلته ما يقتضي نوعًا منه دون غيره، وألفاظ الرد أن تقول: قد قبلت أمري أو قبلت ما ملكتني أو رضيت أمري أو ما أشبه هذا، فهذا يحتمل الأمر الذي هو البقاء على الزوجية والأمر الذي هو الفراق فأي الأمرين فسرت به مرادها قبل منها (1). فصل (2) [2 - في تخيير الزوجة]: والتخيير على ضربين: تخيير في أعداد الطلاق، وتخيير في النفس، فالأول مثل أن يقول: اختاريني أو اختاري طلقة أو طلقتين فيكون على ما قاله، ولا يكون لها اختيار زيادة على ما جعل لها، والثاني مثل أن يقول اختاريني أو اختاري نفسك، وذلك عندنا عبارة عن اختيار ما تنقطع به العصمة فلا يكون في المدخول بها بأقل من ثلاث، فإن اختارت كان ذلك لها لجعله ذلك إليها   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 269 - 27، التفريع: 2/ 88 - 89، الكافي ص 273 - 275. (2) في (م): باب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 وتمليكها إياه، وإن اختارت دون الثلاث لم يكن ذلك إبطالًا لحقها ولم يلزمه (1) طلاق أصلًا لا ما اختارته ولا ما جعله إليها، هذا قول مالك، وقال عبد الملك: إذا اختارت ما دون الثلاث كان ذلك اختيار منها للثلاث وتبين منه (2). فوجه قول مالك: أنها اختارت ما لم يجعل إليها اختياره دون ما جعل لها فلم تكن بذلك مختارة لما جعل لها اختياره أصله لو اختارت شيئًا يخالف ما هما فيه، فلا خلاف أن ذلك قطع لخيارها. ووجه قول عبد الملك: أن اختيار التبعيض فيما لا يتبعض اختيارًا له بكماله، فإذا ثبت هذا فإنما قلنا: أن الخيار في النفس يقتضي زوال العصمة لأن مفهومه اختيار البقاء على الزوجية أو الانفكاك عنها، لأن لفظه بنفي الاشتراك بينه وبينها (3)، فإذا اختارت واحدة أو اثنتين، فلم تختر نفسها لأنها قد أبقت له سبيلًا عليها ولم تختره لأنها قد ثلمت عقد الزوجية والتمليك بخلاف ذلك، لأنه تمليك لإيقاع طلاق مجمل لا يقتضي زوال عصمة ولا بقائها، فإن كان مدخولًا بها فقد ذكرنا حكمها، وإن كانت غير مدخول بها فقضت بالثلاث فله مناكرتها، لأن الغرض الذي هو زوال العصمة يحصل بالواحدة بخلاف المدخول بها. فصل [3 - المملكة والمخيرة ترد ما جعل إليها]: إذا ردَّت الممَّلكة والمخيرة ما جعل إليها، فهي على ما كانت من الزوجية ولا يلزمه شيء خلافًا لمن ذهب إلى (4) أنه يلزمه واحدة رجعية (5) لقول عائشة   (1) في (ق): يلزمها. (2) انظر: المدونة: 2/ 268، التفريع: 2/ 90، الكافي ص 272 - 273. (3) في (م): لأن لفظه بنفي الاشتراك إلا بينه وبينها. (4) إلى: سقطت من (م). (5) روي ذلك عن الحسن كما روي كذلك عن عليّ - رضي الله عنه - وانفرد بنقله عن أحمد إسحاق بن منصور (المغني: 7/ 150). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 - رضي الله عنه -: خيَّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه (1)، فلم يعد ذلك طلاقًا، ولأن قوله: اختاريني أو اختاري نفسك فائدته أن اختيارها لنفسها ضد اختيارها له، فإذا كان اختيارها نفسها فراقًا كان اختيارها له بقاء على الزوجية. ...   (1) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: من خير نساءه: 6/ 156، ومسلم في الطلاق، باب: بيان أن تخييره المرأة لا يكون طلاقًا: 2/ 1104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 باب: [في الإيلاء] الإيلاء في اللغة: الحلف، يقال: ألى يولي إيلاء وإلية (1)، والإيلاء الشرعي هو: الحلف بيمين (2) يلزم بالحنث فيها حكم على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر حرة كانت أو أَمَة مسلمة كانت أو كتابية (3)، فإن ترك الوطء بغير يمين غير مضار أو يمين لا يلزمه بها حكمًا أو حلف بيمين يلزمه الحنث فيها حكم، ولكن على ترك وطء أَمَة أو مدة أربعة أشهر، فدونها فليس ذلك بإيلاء شرعي، واليمين في الإيلاء أن يحلف بالله أو بصفة من صفات ذاته أو بنذر صلاة أو حج أو صوم أو مشي أو صدقة أو عتق أو بطلان غير المولي منها، فإن كان رجعيًّا لزمه وَفْيَه بالوطيء ويحنث بأول الإيلاج ينوي الارتجاع ويتم الوطء، وإن كان ثلاثًا عند مالك يلزمه الإيلاء ويمكن منها، فإذا ابتدأ الإيلاج نزع وحرمت عليه، فلم تحل له إلا بعد زوج. وعند عبد الملك لا يمكَّن وتطلق عليه ولا يلزمه إيلاء بيمين لا يلحقه ضرر (4) بالحنث فيها كقوله: والنبي والكعبة وما أشبه ذلك ويضرب للمولي أجلًا أربعة أشهر للحر وشهران للعبد من يوم حلف ويمكن فيه منها، فإن فاء وإلا وقف بعد انقضائها، فإما فاء وإما طلق: فإن فاء فهي امرأته وإن أبي فاختارت فراقه أمر بالفراق، فإن طلق وإلا طلق عليه، وله الرجعة إن فاء في العدة ويعتبر صحتها بالوطء، فإن وطيء فيها وإلا لم تصح وبانت منه بانقضاء العدة إلا أن يكون له   (1) انظر: لسان العرب: 14/ 40. (2) في (ق): اليمين. (3) وعرف الإيلاء ابن عرفة بقوله: حلف زوج على ترك وطء زوجته يوجب خيارها في طلاقه (حدود ابن عرفة ص 202). (4) في (م): ضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 عذر في امتناعه، ومن ترك الوطء مضارًا، وعرف ذلك منه وطالت المدة به كان حكمه حكم المولي، وقيل: يفرق بينهما من غير ضرب أجل، ولا إيلاء في ملك اليمين ولا تطلق عليه بمضي المدة إلا بأن يوقف فيمتنع فيكون الحكم على ما ذكرناه (1). فصل [1 - في أدلة شروط الإيلاء]: وإنما شرطنا في الإيلاء أن يترك الوطء بيمين لما بيناه من أن الإيلاء الحلف في اللغة، وقد قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (2)، وإنما شرطنا في الإيلاء أن يكون بيمين يلزمه بالحنث (3) فيها حكم لأن اليمين التي لا يتعلق بالحنث فيها حكم ولا ضرر ولا غرم ووجودها وعدمها سواء، فكان الحالف بها كالممتنع بغير يمين، ولا خلاف أن اليمين بالله وصفات ذاته يتعلق بها الإيلاء، وأما الحلف بغيرها فيلزم عندنا خلافًا للشافعي في قوله: إنه لا يكون موليًّا إلا إذا حلف بالله فقط (4) لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (5) فعم، ولأنه يمين يلحق الضرر بالحنث فيها أو يلزمه حكم بذلك كاليمين بالله. فصل [3 - اشتراط الحلف على ترك وطء زوجته في الإيلاء]: وإنما شرطنا: أن يحلف على ترك وطء زوجته لأن الإيلاء حلف على الامتناع من وطء من لها حق في الوطء مضارًا بذلك، والأَمَة لا حق لها في الوطء فلا يكون مضارًا بها إذا حلف على ترك وطئها، وإنما سوينا بين الزوجات في ذلك لتساويهن وإن لكلهن (6) حقًّا في الوطء.   (1) في جملة أحكام الإيلاء انظر: المدونة: 2/ 320 - 335، والتفريع: 2/ 91، 93، الرسالة ص 204، الكافي ص 279 - 282. (2) سورة البقرة، الآية: 226. (3) في (ق): بالحكم. (4) انظر: الأم: 5/ 265، مختصر المزني ص 198 - 199، الإقناع ص 155. (5) سورة البقرة، الآية: 226. (6) في (ق) و (ر): في أن لهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 فصل [3 - اعتبار الإيلاء بالحلف بغير الله وصفاته]: وإنما قلنا: إنه يكون موليًا بحلفه بطلاق غيرها لأنها يمين يلحقه (1) الضرر بالحنث فيها، ووجه قول مالك: إنه يكون موليًا إذا حلف بطلاقها ثلاثًا أنه حلف (2) على ترك وطئها بيمين يلزمه بالحنث فيه حكم كالحالف بطلاق غيرها، ولأنه معنى يحرم وطئها عليه فجاز إذا حلف به أن يكون موليًا أصله الظهار، ووجه قول عبد الملك ما احتج به له وهو قوله: إنه لا يمكنه الفيء إلا بالحنث ولا يصل إلى الحلال منه إلا بالحرام وذلك ممنوع، وإذا لم يمكن الفيء وجب الفراق ولا معنى مع ذلك لضرب الأجل لأن ما لم يراد مقتدر، فأما إذا كان الطلاق رجعيًّا فيصل إلى الفيء وعلى وجه جائز، فإن نوى الارتجاع مع الإيلاء فيكون جميع الوطء حلالًا. فصل [4 - في ضرب أجل أربعة أشهر للمولى]: وإنما قلنا: إنه يضرب له أجل (3) أربعة أشهر لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (4)، وإنما قلنا: إن أجل العبد شهران خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لأنه معنى يتعلق به حكم البينونة فوجب نقصانه فيه عن الحر أصله الطلاق. فصل [5 - بداية أجل الإيلاء]: وإنما قلنا: إن الأجل من يوم حلفه لأنه من ذلك الوقت صار موليًا ومعتقدًا الإضرار بالمرأة بالحلف على ترك حقها، وإنما قلنا: إنه يمكَّن منها في الأجل لأنه مضروب له فلا يمنع مما يؤدي إلى إزالة الضرر الذي هو مأخوذ بإزالته إلا أن هذا   (1) في (م): يلحقها. (2) في (م): حالف. (3) في (ق): لها أجلًا. (4) سورة البقرة، الآية: 226. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 207، الأم: 5/ 271، مختصر المزني ص 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 الفيىء لا توجبه عليه بعد انقضاء الأجل لأن الأجل مضروب له، فإن فاء في الأجل حنث وزال حكم الإيلاء عنه، وإن انقضى ولم يف طولب بذلك فيما بعد، وإنما لم نوجب عليه الفيىء في المدة وأخذناه به بعدها خلافًا لأبي بحنيفة في قوله: إن المدة مضروبة ليفيء فيها أو تبين منه بانقضائها (1)، لأنه حق له بدليل قوله تعالى (2): {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (3) فأضافها إلى المولي وجعلها حقًّا له وجعل الفيء حقًّا عليه للمرأة، وما كان حقًّا للإنسان فلا يكون محلًا لحق عليه بدليل أن الآجال في الديون لما كانت حقًّا لمن عليه الدين لم تكن محلًا للدين الذي عليه. فصل [6 - في أنها لا تطلق بعد مضي الأجل]: وإنما قلنا: لا تطلق بمضي الأجل خلافًا لأبي حنيفة (4) لقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا} (5) فجعل له الفيىء بعد المدة، وذلك يتضمن بقاء الزوجة، ولأنه تعالى جعل الفيىء والطلاق متعلقين لفعله لقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا ... وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} (6)، ولأنهما يمين بالله فلم يلزمه بها الطلاق أصله إذا حلف على أقل من أربعة أشهر، ولأنها مدة ضربت بالشرع لم يتقدمها فرقة فلم يكن مضيها بينونة أصله من العنة. فصل [7 - إذا مضى الأجل يؤخذ المولى بالفيئ أو الطلاق]: وإنما قلنا: إنه يؤخذ بعد مضي الأجل بالفيئ أو الطلاق لقوله تعالى: {فَإِنَّ   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 210، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 60. (2) تعالى: سقطت من (م). (3) سورة البقرة، الآية: 226. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 210، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 60، تحفة الفقهاء: 1/ 205 - 206. (5) سورة البقرة، الآية: 226. (6) سورة البقرة، الآيتين: 226 - 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} (1)، ولأنه مأخوذ بإزالة الضرر عنها، فإن فاؤوا فلا إزالة بالطلاق إذا طالبت به، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه، خلافًا للشافعي في قوله: أنه لا يطلق عليه ولكن يحبس ويضيق عليه حتى يطلق بنفسه (2)، لأنه طلاق مستحق عليه لإزالة الضرر، فجاز أن يليه الحاكم عند امتناعه منه أصله طلاق المعسر بالنفقة. فصل [8 - في أن طلاق المولى يكون رجعيًّا]: وإنما قلنا: إن الطلاق يكون رجعيًّا إن لم يطلق هو ثلاثًا أو يكمل به عدد الثلاث خلافًا لأبي ثور في قوله: أن الطلاق يقع بائنًا (3) لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} (4)، ولأنه طلاق مجرد صادف اعتدادًا قبل استيفاء العدد، فوجب أن يكون رجعيًّا أصله غير المولى. فصل [9 - في كون الرجعة معتبرة في الإيلاء]: وإنما قلنا: إن الرجعة لا تقع منبرمة لأن كل طلاق وقع لأجل ضرر، فالرجعة فيه معتبرة بزوال ذلك الضرر، فإن زال الضرر صحت وصار كطلاق المبتدأة، وإن لم يزل لم تصح لأنها لو صحت لم ينفع الطلاق شيئًا فاحتيج إلى أن يطلق عليه ثانيًا والطلاق الأول كاف. فصل [10 - فيما إذا لم تصح الرجعة]: وإنما قلنا: إن الرجعة إذا لم تصح بانت منه ولم يحتج إلى ضرب أجل ثان   (1) سورة البقرة، الآيتين: 226 - 227. (2) انظر: الأم: 5/ 271 - 272، مختصر المزني ص 199 - 200، الإقناع ص 156. (3) انظر: المغني: 7/ 331. (4) سورة البقرة، الآية: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 خلافًا للشافعي (1)، لأنها مدة ضربت لإزالة ضرر بترك الوطء فلم تضرب ثانية كأجل العنين (2). فصل [11 - فيمن ترك الوطء مضارًا دون يمين]: وإنما قلنا إذا ترك الوطء مضارًا وطال ذلك منه كان له حكم المولي، لأن الإضرار بها موجود لا طريق إلى إزالته إلا بضرب الأجل، فكان كالحالف، ووجه القول أنه لا يضرب له أجل وتطلق عليه، لأن الأجل للحالف وهذا غير حالف. فصل [12 - في تصديقه إذا كان له عذر في ترك الوطء]: وإنما قلنا: إنه يصدق إذا كان له عذر من مرض أو حبس أو غيره لأن الظاهر أن ترك الوطء لأجله، وإنما يحمل على الإضرار إذا لم يكن له ما يحمل عليه غيره وتصديق ذلك أن يكفر عن يمينه أو يلتزم ما يلتزمه الحانث، فإن لم يفعل عرف كذبه والله أعلم. ...   (1) انظر: الأم: 5/ 272 - 273، الإقناع ص 156. (2) في (م): العنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 باب: [الظهار] الظهار (1) محرم (2) لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (3)، ففيها على تحريمه أدلة: أحدها إكذابهم في تشبيههم الزوجة بالأم، والأخرى إخباره بأنه قول منكر وزور، والثالث إخباره بأنه تعالى يعفو ويغفر (4). فصل [1 - في حقيقة الظهار]: حقيقة (5) الظهار تشبيه المرأة المحللة له بظهر (6) من تحرم عليه، وصريحه أن يقول: أنت عليَّ كظهر أمي، وهو الذي ورد الظاهر به ثم يجري غيره مجراه في كونه ظهارًا، وتعلق الأحكام به فكان من تظاهر بمحرمة عليه على التأبيد بنسب أو رضاع أو مهر، فإنه مظاهر مثل أن يقول: أنت عليَّ كظهر أبي أو ابنتي أو أختي أو سائر ما يحرم عليه من القرابات من نسب أو رضاع أو امرأة أبيه   (1) الظهار: من الظهر إذا قال لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، وقيل: إنما خص ذلك بذكر الظهر لأن الظهر من الدابة موضع الركوب والمرأة مركوبة، وفي الاصطلاح: تشبيه زوج زوجه، أو ذي أمة حل وطؤه إياها بمحرم أو بظهر أجنبية في تمتعه بهما، والجزء كالكل والمعلق كالحاصل (انظر حدود ابن عرفة ص 205، المصباح المنير ص 388). (2) انظر: المدونة: 2/ 295، التفريع: 2/ 94 - 96، الرسالة ص 204، الكافي ص 282 - 284. (3) سورة المجادلة، الآية: 2. (4) في (ق): ويكفر، وفي (ر): يغفر عنهم. (5) في (ق): حقيق. (6) في (م): ظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 أو ابن أو أم أو أم زوجته أو بنتها وقد دخل بالأم، ولا فرق بين الظهر وغيره من الأعضاء ولا بين تشبيه الجملة بالجملة أو البعض بالبعض أو البعض بالجملة من أي الطرفين كان: والجملة بالجملة أن يقول: أنت عليّ كأمي أو مثل أمي، والبعض بالبعض مثل أن يقول: فرجك عليّ كظهر أمي وما أشبه ذلك. والبعض بالجملة أو الجملة بالبعض كقوله: أنت عليّ كظهر أمي أو فرجك عليّ كأمي، فأما التي لا تحرم بالتأبيد كالجارة وسائر الأجنبيات، فإنه ظهار عند مالك وطلاق عند عبد الملك، ويلزم الظهار فيمن تحل بالملك من أمته أو أم ولده (1). فصل [2 - لزوم الظهار في ذوات المحارم بالنسب والرضاع]: وإنما قلنا: إن الظهار في ذوات المحارم بالنسب والرضاع خلافًا للشافعي في أحد قوليه (2) فيما عدا الأمهات والجدات، لأن البنوة والأخوة نسب متأبد التحريم كالأمومة، وإنما سوينا بين الرضاع والصهر وبين النسب لأنه معنى يقتضي حرمة يوجب التحريم المؤبد كالنسب، وإنما سوينا بين الظهر وبين سائر الأعضاء في لحوق الظهار بتشبيهه بها خلافًا للشافعي في قوله: أن الظهار لا يلزم إلا في الظهر وحده (3)، ولأبي حنيفة في قوله: أنه يلزم في كل عضو يحرم النظر إليه (4)، لأنه عضو من ذات محرم منه شبَّه امرأته به كالظهر، وإنما لم نفرق بين التشبيه من أي الطرفين كان لأن المعنى حاصل وهو تشبيه الفرج المحلل بالفرج المحرم.   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 295 - 305، التفريع: 2/ 94 - 96، الرسالة ص 204، الكافي ص 382 - 384. (2) انظر: الأم: 5/ 277، مختصر المزني ص 203، الإقناع ص 156 - 157. (3) انظر: الأم: 5/ 278 - 279، مختصر المزني ص 203، وقال الماوردي: " ... أو كبطنها أو كظهر امرأة لم تحل له قط .. " الإقناع ص 156. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 212، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 فصل [3 - إذا قال: أنت عليّ كأمي أو كمثل أمي يكون مظاهرًا]: وإنما قلنا: إنه إذا قال: أنت عليَّ كأمي أو مثل أمي، فإنه ظهار نوى أو لم ينو، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: أنه إذا لم ينو الظهار حمل على البر والكرامة (1) لأنه إذا أطلق تشبيه امرأته بأمه فلم ينفك من تحريم به كالنص على الظهر. فأما الظهار من الأجنبية فوجه قول مالك في ثبوته إنه شبه امرأته بظهر محرمة عليه كالأم، ووجه كونه طلاقًا أن الظهار يتعلق بتحريم مؤبد، وذلك منتف في الأجنبية والتشبيه بها (2) يقتضي أن تحرم كتحريمها، وليس ذلك إلا برفع عقد الاستباحة وذلك لا يكون إلا بالطلاق. وإنما قلنا: إن الظهار يلزم في مالك اليمين خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (4) فعم، ولأنه فرج محلل له فصح ظهاره منه كالزوجة. فصل [4 - الظهار في الأجنبية]: يلزم عقد الظهار في الأجنبية بشرط التزويج عم أو خص بخلاف الطلاق الذي لا يلزم عمومه ويلزم خصوصه (5)، فأما لزومه بشرط العقد فلأنه معنى يحرم الوطء كالطلاق، وأما جواز عمومه فلأنه لا يسد على نفسه استباحة البضع بذلك الجنس بخلاف الطلاق.   (1) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 69، الأم: 5/ 279. (2) في (م): به. (3) مختصر الطحاوي ص 212، الأم: 5/ 276، الإقناع ص 157. (4) سورة المجادلة، الآية: 3. (5) في (ق): خصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 فصل [5 - متى تجب كفارة الظهار]: ولا تجب الكفارة بنفس التظهر دون العقد (1) خلافًا لما يحكى عن مجاهد (2) لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (3)، فعلق الوجوب بشرط زائد وهو العود، ولأن الظهار يمين فلا تجب الكفارة إلا بالمخالفة، والعود فيها هو الحنث كسائر الأيمان المخالفة هي الحنث. فصل [6 - معنى العود للمظاهر]: الظاهر من مذهبنا أن العود هو العزم على الوطء فقط، وقيل: العزم على الوطء والإمساك، وقيل: هو الوطء نفسه (4)، وقال الشافعي: هو أن يمكنه أن يطلق فلا يفعل (5)، وقال داود: هو تكرار القول وإعادته (6). ودليلنا أن العود هو المخالفة وذلك إنما يكون بالعزم على الوطء لأن الظهار إنما يقصد به تحريم الوطء دون العقد، فإذا حصل ذلك فقد وجدت المخالفة، ووجه القول بأنه الوطء أن مقتضى الظهار تحريم الوطء والعود هو الإقدام عليه دون العزم لأن الإقدام هو مخالفة الكف والامتناع.   (1) انظر: المدونة: 2/ 306 - 307، التفريع: 2/ 95، الرسالة ص 204، الكافي ص 284. (2) مجاهد: الإِمام أبو الحجاج المكي مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، روي عن ابن عباس وعن أبي هريرة وعائشة وغيرهم، وحدث عنه عكرمة وطاووس وعطاء، ثقة إمام في التفسير وفي العلم (ت 103 هـ) وله ثمانون (تقريب التهذيب ص 520، شذرات الذهب: 1/ 125). (3) سورة المجادلة، الآية: 3. (4) انظر: التفريع: 2/ 95، الكافي ص 285. (5) انظر: الأم: 5/ 279، الإقناع ص 156. (6) انظر: بداية المجتهد: 7/ 111، المغني: 7/ 353، نيل الأوطار: 6/ 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 ودليلنا على الشافعي قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} (1)، وثم للتراخي، فيجب أن يكون ذلك من صفات العود، وفي القول بأنه الإمساك عقيب الظهار إيجاب اتصاله به وذلك خلاف الظاهر، ولأن العود (2) لو كان هو الإمساك لم ينتف بالطلاق الرجعي لأنه (3) لا ينفي الإمساك. ودليلنا على داود أن العود هو بالمخالفة لأنه سبب وجود (4) الكفارة كالحنث في اليمين، ولأنها كفارة تتعلق بفعل من جهته فلم يفتقر إلى تكراره أصله كفارة القتل. فصل [7 - تحريم الوطء وجميع أنواع الاستمتاع بالظهار]: الظهار يحرم الوطء وجميع أنواع الاستمتاع: من الوطء فيما دون الفرج والقُبْلة واللمس للذة (5)، خلافًا للشافعي في قوله: إنه لا يحرم إلا الوطء فقط (6)، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (7) فعم، ولأنه استمتاع كالوطء. فصل [8 - كفارة الظهار]: إذا ثبت أن الكفارة تجب بالعود فهي ثلاثة أنواع: إعتاق وصيام وإطعام، وهي على الترتيب دون التخيير، والأصل في هذه الجملة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ .. إلى قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ   (1) سورة المجادلة، الآية: 3. (2) في (م): القول. (3) لأنه: سقطت من (م). (4) في (م): بوجوب. (5) انظر: المدونة: 2/ 304، التفريع: 2/ 95 - 96، الكافي ص 283. (6) انظر: مختصر المزني ص 202 - 203، المهذب: 2/ 114. (7) سورة المجادلة، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 سِتِّينَ مِسْكِينًا} (1)، وكذلك في حديث أوس بن الصامت (2) وسلمة بن صخر (3)) (4)، ولا خلاف فيه (5). فصل [9 - في الرقبة المعتقة في كفارة الظهار]: فأما الإعتاق فلا يجزي فيه إلا تحرير رقبة مؤمنة ليس فيها شرك (6) ولا عقد عتق من تدبير أو استيلاد أو كتابة أو قرابة تستحق العتق بنفس الملك، وقد دللنا على هذا كله في كفارة الأيمان (7) بما يغنى عن رده، ولا تجزيء إلا سليمة من العيوب ولا يجزي أقطع اليدين ولا أشلهما لأنه عيب يمنع نوعًا من المنفعة بكماله كالجنون ولا يجزيء أقطع واحدة خلافًا لأبي حنيفة (8)، لأنه عضو يقطع في السرقة، فكان فقده مانعًا من الإجزاء كاليدين، ولا يجزيء مقطوع الإبهامين من اليدين والرجلين، وكذلك الإبهام الواحدة لأن قوة الأصابع بالإبهام، فإذا   (1) سورة المجادلة، الآيتين: 3 - 4. (2) أوس بن الصامت: الأنصاري، الخزرجي، أخو عبادة بدري، وهو الذي ظاهر من امرأته قال ابن حبان: مات أيام عثمان وله خمس وثمانون (تقريب التهذيب 116). (3) سلمة بن صخر: بن سلمان بن الصمة الأنصاري الخزرجي، ويقال له: البياضي صحابي ظاهر من امرأته، قال البغوي: لا أعلم له مسندًا غيره (تقريب التهذيب 247). (4) أخرجه أبو داود في الظهار: 2/ 660، والترمذي في الطلاق، باب: كفارة الظهار: 3/ 503، وقال: حديث حسن، وابن ماجه في الطلاق، باب: الظهار: 1/ 665، والحاكم: 2/ 203، وقال: صحيح الإسناد. (5) انظر: الإجماع ص 106 - 107، بداية المجتهد: 7/ 117، المغني: 7/ 359، 362، 368. (6) في (ق): شيء. (7) انظر: الصفحة (641 - 642) من الكتاب. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 213، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 70 - 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 فقدت انحلت قوة بقية الأصابع وضعفت فأثر ذلك في ضعف التصرف ونقص (1) العمل، والأصبع الواحدة غير الإبهام مختلف فيه، فأما قطع الأنملة وطرف الأصبع، فإنه يسير لأنه لا يوقع نقصًا في المنافع بيِّنًا ولا يضر في منع التصرف إضرارًا شديدًا وأقطع الأذنين لا يجزيء لأنهما عضوان فيهما منفعة وهو حوش (2) الصوت إلى السمع ودفع الضرر عنه، ولأن في ذهابهما تشويهًا بالخلق. فصل [10 - إذا كان العبد أعمى لا يجزي]: ولا يجزيء الأعمى لأن بذهاب البصر يصير في حكم الزَمِن الذي لا تمكنه الحركة ولا التصرف، واختلف في الأعور فقال مالك: يجزي لأن العين الواحدة تقوم له مقام العينين أو قريبًا منهما، فكان كمن بعينيه ضعف، وقال عبد الملك: لا يجزيء لأنه فقد ما يجب به شطر الدية كأقطع اليد. واختلف في الأصم فإذا قيل: يجزئ فلأن ذهاب السمع لا يضر بالعمل ولا بالتصرف الإضرار الشديد، ولأن أكثر ما فيه صعوبة (3) فهمه بالكلام وذلك يوصل إليه بما يقوم مقامه من الإشارة، فهذا قيل: أنه لا يجزئ فلأنه نوع منفعة كاملة تضر بالعمل كالعمي وهو فرع النظر، والخرس يمنع الإجزاء (4) خلافًا للشافعي (5)، وإن كان معه صمم فهو أبين لأن فقد الكلام يجري مجرى فقد البصر واليد والرجل لأنه يضر بعمله وينقص تصرفه ويصعب إفهامه ونقل رغبة الناس فيه والمجنون لا يجزئ، لأن فقد العقل أعظم من فقد جميع ما ذكرناه في انقطاع التصرف والعمل.   (1) في (ق): تقطع. (2) في (ر): حسوس. (3) في (ق): معونة. (4) انظر: المدونة: 2/ 313 - 315، التفريع: 2/ 96 - 97، الرسالة ص 204. (5) انظر: الأم: 5/ 282، الإقناع ص 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 فصل [11 - في اشتراط التتابع في الصيام]: فأما اشتراطنا التتابع في الصيام فلقوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (1) وكذلك في حديث (2) أوس وسلمة بن صخر ولا خلاف فيه (3). فصل [12 - الإطعام في كفارة الظهار]: فأما الإطعام إذا لم يطق الصيام فله أن يطعم ستين مسكينًا مدًّا بمد هشام (4) وقد اختلف في مقداره، فقيل: مدان بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: أقل من مدين (5). فصل [13 - في عدد الإطعام]: وإنما شرطنا العدد للنص الوارد فيه والخبر، وقد ذكرناه في الأيمان (6)، وإنما شرطنا مد هشام لأن ذلك غالب الشبع في العادة، ولأنها كفارة تنتقل من صيام إلى إطعام أبهمت في الظاهر فوجب الزيادة فيها على مد اعتبارًا بكفارة الأذى. فصل [14 - منع الوطء قبل التكفير]: ولا يجوز أن يطأ (7) قبل التكفير (8) لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (9) فإن فعل فقد أثم ولا يلزمه أكثر من الكفارة خلافًا لمن حكي عنه أنه يلزمه   (1) سورة المجادلة، الآية: 4. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) انظر: الإجماع ص 107، بداية المجتهد: 7/ 117 المغني: 7/ 362. (4) مد هشام: وهو قدر مد وثلثين من أمداده - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: قدر مدين من أمداده - صلى الله عليه وسلم - (انظر الفواكه الدواني: 2/ 52). (5) انظر: المدونة: 2/ 309 - 310، التفريع: 2/ 96، الرسالة ص 204، الكافي ص285. (6) راجع الصفحة (641). (7) في (م): الإيلاء وهو خطأ. (8) انظر: المدونة: 2/ 304 - 305، التفريع: 2/ 95 - 96، الرسالة ص 204. (9) سورة المجادلة، الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 كفارة أخرى (1) لأنه وطيء بعد استقرار وجوب الكفارة عليه كالثاني والثالث. فصل [15 - عدم سقوط الكفارة عمن وطء قبل التكفير]: ولا تسقط الكفارة عنه (2) خلافًا لمن حكي عنه (3) لحديث أوس لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه وطيء امرأته فأمره بالكفارة (4)، ولأنه ليس في تقديم الوطء على الكفارة أكثر من ركوب الإثم والعود الموجب لها حاصل فلم يؤثر في سقوطها. فصل [16 - الوطء في خلال كفارة الصيام أو الإطعام]: ولا يجوز أن يطأ في خلال الصيام أو الإطعام ليلًا ولا نهارًا، فإن فعل استأنف (5)، خلافًا للشافعي (6)، لقوله عَزَّ وجَلَّ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (7)، وهذا الشرط عائد إلى الجملة والإبعاض، ولأن كل زمان يمتنع (8) الوطء لإيقاع عبادة فيه، فإن ذلك الوطء يوجب استئنافه ولا يختلف بزمان الليل والنهار أصله الحج والصلاة، ولأنه وطء في الزمان الذي حرم عليه الوطء فيه بفعل الصيام عن ظهاره كالوطء نهارًا.   (1) حكي عن عمرو بن العاص وقبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة: أن عليه كفارتين (المغني: 7/ 383). (2) انظر: المدونة: 2/ 304 - 305، التفريع: 2/ 95 - 96، الرسالة ص 204، الكافي ص 284 - 285. (3) قال صاحب المغني: حكي عن بعض الناس ولم يصرح عنهم (المغني: 7/ 383). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (893). (5) انظر: المدونة: 2/ 308 - 309، التفريع: 2/ 96، الرسالة ص 204، الكافي ص 285. (6) انظر: مختصر المزني ص 206، الإقناع ص 157. (7) سورة المجادلة، الآية: 3. (8) في (م): يمنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 896 فصل [17 - في كفارة العبد في الظهار]: وكفارة العبد مثل كفارة الحر إلا أنه لا يصح منه التكفير بالإعتاق أذن له سيده أو لم يأذن له ويكفر بالصيام، فإن عجز عنه كفر بالإطعام إذا أذن له سيده عند ابن القاسم، وإن منعه منه انتظر القدرة على الصيام، وعند غيره لا يجزيه (1)، وإنما قلنا: إن كفارته لا تنقص عن كفارة الحر لأنه لم يعتبر فيها الفضيلة وتأكد الحرمة كالطلاق والحدود واعتبارًا بكفارة الصيد واليمين، وإنما قلنا: إنه لا يصح أن يكفر بالعتق لأن الولاء لا يثبت له مع رقه ولا يرجع إليه إن عتق ولا يصح الإعتاق إلا لمن يثبت له الولاء، وإنما قلنا: إنه يكفر بالصيام لأنه عاجز عن الإعتاق فكان فرضه الصيام، ووجه تجويز الإطعام اعتباره بالحر، ولأنه يملكه من جميع وجوهه بخلاف الإعتاق، ووجه منعه فلأنه ليس من أهل الأملاك المستقرة فكان فرضه الصيام وبالله التوفيق (2). ...   (1) انظر: المدونة: 2/ 307، التفريع: 2/ 97، الكافي ص 286. (2) وبالله التوفيق: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 باب: [في اللعان] اللعان (1) ثابت بدليل الكتاب والسنة والإجماع (2)، فالكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ..} (3) الآيات، والسنة حديث العجلاني (4) لما قال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أنزل الله تعالى فيكما قرآنًا ولاعن صلى الله عليه وسلم بينهما (5)، وحديث هلال بن أمية (6) وشريك (7)) (8)، وفيه ضرب من المعنى وهو أن النسب يلحق بالفراش ولا يمكنه إقامة البينة وبه   (1) اللعان لغة: المباهلة (الصحاح: 6/ 2196). وفي الاصطلاح قال ابن عرفة: هو حلف الزوج على زنا زوجته أو نفي حملها اللازم له وحلافها على تكذيبه إن أوجب نكولها حدها بحكم قاض (انظر حدود ابن عرفة ص 210). (2) انظر الإجماع ص 107 بداية المجتهد: 7/ 127، شرح مسلم - للنووي: 6/ 315، فتح الباري: 9/ 362. (3) سورة النور، الآية: 6. (4) العجلاني: عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان الأنصاري، صحابي شهد أُحُدًا مات في خلافة معاوية، وقد جاوز المائة، وفي الصحيح حكاية ابن عباس قصة الملاعنة (تقريب التهذيب ص 285). (5) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: اللعان ومن طلق بعد اللعان: 6/ 177، ومسلم في اللعان: 2/ 1129، ومالك: 2/ 566 - 567. (6) هلال بن أمية: بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف الأنصاري الواقفي شهد بدرًا، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم (الإصابة 6/ 289). (7) شريك: بن سحماء وهي أمة، وأبيه عبدة بن متعب بن الجد بن عجلان البلوي، حليف الأنصار (الإصابة: 3/ 206). (8) الحديث أخرجه البخاري في الطلاق، باب: قول الإِمام اللهم بين: 6/ 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 898 ضرورة إلى نفي نسب ليس منه، فجعل له طريق إلى نفيه وهو اللعان، ولولا ذلك لم يكن له طريق إلى قطعة عنه ولفسدت الأنساب واختلط الصحيح منها بالفاسد. فصل [1 - فيما يكون اللعان]: واللعان بين كل زوجين حرين كانا أو عبدين أو أحدهما عدلين أو فاسقين (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن اللعان لا يثبت إلا من زوجين يكونان أو أحدهما من أهل الشهادة (2)، ودليلنا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (3) الآية وهذا عام، ولأن كل زوج صح قذفه صح لعانه أصله الحر، ولأن كل معنى صح أن يخرج به القذف من كان من أهل الشهادة صح أن يخرج به منه من ليس من أهلها أصله البينة، ولأن الضرورة إلى نفي النسب الذي ليس منه لما كان له قذف (زوجته جائزًا معها بخلاف الأجنبي الذي لا ضرورة به إلى قذف) (4) غيره أوجب ذلك اختلافهما في اللعان لاختلافهما في الضرورة الداعية إلى ما يوجبه وهذا يشترك فيه من كان من أهل الشهادة ومن ليس من أهلها. فصل [2 - في كون اللعان يمين]: اللعان عندنا يمين (5) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنها شهادة (6)، وفائدة الخلاف أنه يصح ممن تقبل شهادته ومن لا تقبل شهادته (7) لقوله - صلى الله عليه   (1) انظر: المدونة: 2/ 335 - 336، التفريع: 2/ 97، الرسالة ص 204، الكافي ص 286 - 287. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 215، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 74. (3) سورة النور، الآية: 6. (4) ما بين قوسين: سقط من (م). (5) انظر: التفريع: 2/ 99، الكافي ص 288 - 289. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 216، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 76، تحفة الفقهاء: 1/ 217. (7) شهادته: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 899 وسلم - في حديث هلال بن أمية إن جاءت به على نعت كذا وكذا، فهو لشريك فجاءت به على النعت المكروه، فقال - صلى الله عليه وسلم - "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (1)، ولأنه يخالف الشهادة في كثير من شروطها، منها دخول النساء فيه ولا مدخل لهن في الشهادة (2) على الزنا وتكرار ألفاظه ولعن الملتعن نفسه إن كان يشهد به بخلاف ما هو به وجوازه من الفاسقين وإن لم يكونا من أهل الشهادة وكذلك الأعمى. فصل [3 - فيما وضع له اللعان]: اللعان موضوع لرفع النسب وسقوط الحد في القذف، فإذا قذف الرجل امرأته بالزنا، فإن ادعي رؤية وحقق ذلك ووصفه كما يصف الشهود في الزنا فله أن يلاعن: (ويسقط الحد عن نفسه فإن اقتصر على مجرد قذفها من غير ادعاء وصفه (3) فقيل يلاعن) (4)، وقيل: يحد ولا يلاعن إن كانت ممن يحد قاذفها وهذا كله إن لم يطأها (5) بعد رؤيته، فأما إن زعم أنه وطئها (6) بعد ذلك حد ولم يلاعنها، وإذا لاعن لرؤية الزنا ثم أتت بولد ففيه روايتان: إحداهما سقوطه عنه والأخرى لحوقه به، وإذا التعن سقط الحد عنه ولزمها إسقاطه باللعان، فإن التعنت وإلا حدت. فصل [4 - اللعان يكون بالرؤية ويبدأ بالزوج]: وإنما قلنا: إنه يلاعن بالرؤية لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (7) الآية،   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (898). (2) في (م): الشهادات. (3) في (ر): رؤية. (4) ما بين قوسين سقط من (م). (5) في (ق): إذا لم يطأ. (6) في (ق): وطء. (7) سورة النور، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 900 ولأن الحد متوجه عليه إذا كانت ممن يحد قاذفها فله أن يخلص نفسه منه باللعان ولذلك بديء بالالتعان لأن الحد متوجه عليه بالظاهر وبذلك ورد النص، ولأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بهلال بن أمية في اللعان (1)، ولأن الزوج هو القاذف واللعان يخلصه من القذف فإن أتى به وإلا حد فوجب تبديته، والمرأة لم يكن من جهتها ما يلزمها به تخلص نفسها منه بالالتعان، فإذا ثبت ذلك فإن التعن (2) سقط الحد عنه، وإن نكل حد خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا يحد ويحبس حتى يلاعن (3) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: "البينة وإلا حد في ظهرك" (5)، ولأنه قاذف لحرة مسلمة عفيفة فلزمه الحد كالأجنبي، ولأنها حرة مسلمة عفيفة قذفها من لم يحقق قذفه، فوجب أن يحد لها كالأجنبي، ولأن قول الزوج يقبل عليها أكثر من قول الأجنبي، فكان بالحد أولى. فصل [5 - سقوط الحد بالتعانه]: وإنما قلنا: إنه إذا التعيين سقط الحد عنه لأن لعانه جعل بمنزلة إقامة البينة عليها فلما كانت البينة تسقط الحد عنه فكذلك اللعان. فصل [6 - الحد ينتقل إلى المرأة]: وإنما قلنا: إن الحد ينتقل إلى المرأة لما ذكرناه؛ لأن اللعان كالبينة ويدل عليه قوله تعالى عقيب ذكر لعان الزوج: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (898). (2) فإن التعيين: سقط من (م). (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 215، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 75. (4) سورة البقرة، الآية: 4. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (898). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 901 شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (1) يعني نفي (2) الحد لأنه معروف (3)، فإذا ثبت هذا فلها أن تخلص نفسها بالالتعان فإن التعنت سقط الحد عنها، وإن نكلت حديث إما بالرجم إن كانت محصنة أو بالجلد إن كانت بكرًا، وقال أبو حنيفة: لا حد عليها (4). ودليلنا قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (5) الآية، فذكر لعان الزوج ثم عقبه بالأخبار عما يسقط عنها العذاب المتوجه عليها بلعانه وهو أن يلتعن، فدل أن الحد قد لزمها بلعانه، وأن لها التخلص منه بأن تلتعن، ولأنه معنى يسمع في تحقيق القذف، فجاز أن يجب به الحد كالبينة. فصل [7 - صفة الرؤية في اللعان]: واختلف في وصفه الرؤية: فقيل: يجب أن يبين فيقول: رأيت فرجه يلج (6) في فرجها كما يلج المرود (7) في المكحلة كما يقول الشهود، وقيل: لا يحتاج إلى ذلك ويكفي ادعاء الرؤية فقط (8). فوجه الأولى أن لعانه تحصل به المعرة على المرأة ويلزمها الحد الذي هو الرجم أو الجلد ويخلصه من حد القذف (9) فغلظ عليه حتى إذا رأى أن الأيمن تلزمه   (1) سورة النور، الآية: 8. (2) نفي: سقطت من (م). (3) في (ق): معرف. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 215 - 216، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 75. (5) سورة النور، الآية: 8. (6) يلج: سقطت من (ق). (7) المرود: آلة معروفة. (8) انظر: المدونة: 2/ 340 - 342، التفريع: 2/ 98، الرسالة ص 204، الكافي ص 287 - 288. (9) في (م): الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 902 على تلك الصفة المتحققة (1) وعلى تفصيلها وأنه يلعن نفسه إن كان كاذبًا ردعه ذلك وزجره إن كان غير محقق، ولأن ذلك لما لزم في الشهادة كان بأن يلزم الزوج الذي تثبت الأحكام بقوله: ودعواه أولى. ووجه الثانية قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (2)، وظاهرة أن هذا القدر كاف ولأنه حالف على رؤيته كالواصف والفرق بينه وبين الشهود أن به ضرورة إلى القذف ولا ضرورة بهم. فصل [8 - وجه كل من قال: يلاعن بمجرد القذف، أو بالرؤية]: ووجه القول بأنه يلاعن بمجرد القذف من غير ادعاء رؤية لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (3) فعم، ولأنه قذف مضاف إلى الزوجة فجاز تحقيقه باللعان أصله مضاف إلى الرؤية، ووجه القول أنه يلاعن أن اللعان معنى يتخلص به عن حد القذف، فوجب أن يحتاج إلى رؤية أصله الشهادة، ولأن اللعان واقع على أفعال يدعيها وذلك يتضمن الشهادة واعتبارًا بالشهود. فصل [9 - في إقامة الحد عليه إذا اعترف أنه وطء بعد أن رآها تزني]: وإنما قلنا: إنه إذا اعترف أنه وطء بعد أن رآها تزني، فإنه يحد ولا يلاعن لأن اللعان لا يمكن أن ينفي به النسب مع اعترافه بالوطء وثبوت حكم الفراش ولا معنى (4) لإسقاط الحد لأن العادة تشهد (5) بكذبه؛ لأن الإنسان لا يطأ امرأته بعد أن يراها تزني فهذا ادعى ذلك فقد أكذب نفسه. فصل [10 - إذا ظهر حمل بعد التعانه]: وجه القول بأنه إذا ظهر حمل بعد التعانه بالرؤية فإنه لا يلحق به لأن أصل   (1) في (م): المحققة. (2) سورة النور، الآية: 8. (3) سورة النور، الآية: 6. (4) معنى: سقطت من (م). (5) شهد: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 903 اللعان لنفي النسب لأن الضرورة إلى ذلك تدعوا دون دعوى الزنا، وإنما تجري إلى الحد وإذا كان كذلك سقط الحد بلعانه وتضمن ذلك نفي حمل إن حدث وإن اعترف به بعد حد ولحق به. ووجه القول بأنه يلحق به هو أن الالتعان الماضي كان لإسقاط الحد لأنه لم يكن هناك (1) حمل يعلمه فيقصد نفيه، فإذا ظهر حمل احتاج في نفيه إلى لعان يخصه، فإن التعيين على الشرط الذي يلتعن في نفي النسب سقط عنه الحد وإلا لحق به. فصل [11 - إذا نفى حمل امرأته]: وإذا نفى حمل امرأته، فإن ادعى أنه استبرأها بعد وطئه ثم لم يطأها حتى ظهر الحمل بها فله أن يلاعنها، فإن قال لم (2) استبرئها، وهذا الحمل ليس مني فقيل له: أن يلاعن، وقيل: ليس له ذلك ويلحق به الولد ويحد، وفي قدر الاستبراء روايتان: إحداهما أنه بحيضة واحدة، والأخري أنه ثلاثة حيض، ولا يحتاج في الالتعان لنفي الحمل المجرد إلى قذف، وله أن يلاعنها حاملًا قبل وضعها، فإذا اعترف بالحمل ثم ادعى أنه رآها تزني ففيها ثلاث روايات: إحداها أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن، والثانية أنه لا (3) يلاعن وينتفي عنه الولد، فإن اعترف به من بعد حد، والثالثة أنه يلحق به الولد ويلاعن لنفي الحد (4). فصل [12 - اللعان في نفي النسب]: وإنما قلنا: إن له أن يلاعن في نفي النسب لأنه صلى الله عليه وسلم لاعن   (1) في (م): هنا لك. (2) في (م): لن.؟ (3) لا: سقطت من (ق). (4) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 38 - 340، التفريع: 2/ 98، الكافي ص 288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 904 بين المتلاعنين في ذلك (1)، ولأن به ضرورة إلى نفي نسب منه، وأصل اللعان الضرورة التي لا طريق إلى انتفائها إلا به، فلو لم يلاعن لم يكن له طريق إلى نفي نسب ليس منه. فصل [13 - الاستبراء في اللعان]: وإنما قلنا: لا بد من الاستبراء لأن الحمل لا ينتفي إلا بأن يعلم براءة الرحم من ماء الزوج، وذلك لا يكون إلا بالاستبراء؛ لأنه ما لم يستبريء يمكن أن الحمل من مائه، والقول الآخر فيه ضعف ووجهه أن ذلك موكول إلى أمانته فقبل قوله في النفي، وجعل له الالتعان لأنه لا يعلم أن الأمر على ما يدعيه إذا لم يدع الاستبراء. فصل [14 - في كون الاستبراء يكون بحيضة]: ووجه قوله: إنه حيضة فلأن الغرض العلم ببراءة الرحم، وذلك يحصل بالحيضة ولأنها حال ضرورة لأمر يخاف فواته ولا يستدرك والمواضع التي يراعي (2) فيها زيادة على ذلك فلحرمة الحرية، وذلك زائل مع الضرورات، ووجه اعتبار الثلاث اعتباره بما عدى اللعان. فصل [15 - في لعانه في نفي النسب المجرد عن القذف]: وإنما قلنا: إنه يلاعن في نفي الحمل المجرد من غير حاجة إلى قذف خلافًا لأصحاب الشافعي (3)؛ لأن ضرورته إلى نفي النسب موجودة، وهي أصل ما وضع له الحد ولا ضرورة له إلى القذف، ولأن الدعوى تتم مع عدمها، وكلما   (1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: تفسير سورة النور: 6/ 3، ومسلم في كتاب اللعان: 2/ 1129 - 1130. (2) في (ق): يراها. (3) انظر: مختصر المزني ص 212 - 213، الإقناع ص 158 - 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 905 صحت الدعوى مع فقده لم يكن وجوده شرطًا اعتبارًا بسائر ما لا تحتاج الدعوى إليه وقياسًا عليه إذا ضامَّه القذف (1). فصل [16 - في لعان الحامل]: وإنما قلنا: إنه يلاعنها حاملًا خلافًا لأبي حنيفة (2)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لاعن بين المتلاعنين في نفي الحمل قبل الوضع وقال: "إن جاءت به على نعت كذا فهو لزوجها وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك" (3)، فجاءت به على النعت المكروه، ولأنه نسب يجوز إسقاطه باللعان بعد الوضع فجاز قبله كالفراش. فصل [17 - انتفاء النسب بالتعان الزوج]: وينتفي النسب بالتعان الزوج وحده ولا يفتقر فيه إلى التعان المرأة (4) , لأن التعانها إنما هو لإكذاب الزوج وإثبات النسب منه وإسقاط الحد عنها, ولا يجوز أن يثبت الشيء بما ينفيه. فصل [18 - اللعان في النكاح الفاسد]: ويلتعن في النكاح الفاسد (5) خلافًا لأبي حنيفة (6) لأنه نكاح يثبت فيه النسب فلحق فيه اللعان أصله النكاح الصحيح. فصل [19 - فيمن اعترف بالحمل وادعى رؤية الزنا]: فأما إذا اعترف بالحمل ثم ادعى رؤية الزنا، فوجه قوله: إنه لا يلاعن أن أصل اللعان لنفي النسب ويتعلق به سقوط الحد ويجوز أن يجتمع مع ثبوت ما   (1) في (م): العزو. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 216، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 78. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (898). (4) انظر: المدونة: 2/ 341، التفريع: 2/ 98، الكافي ص 290. (5) انظر: التفريع: 2/ 97 - 98، الكافي ص 289. (6) انظر: تحفة الفقهاء: 1/ 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 906 يقصد به نفيه، فإذا ثبت ذلك لم يكن اللعان مفيدًا لإسقاط الولد ولم يكن له أن يلاعن، وإذا لم يكن له أن يلاعن لزمه أن يحد القذف ويلحق به الولد لثبوت الفراش. ووجه قوله: إنه يلاعن وينتفي النسب أن اللعان يجب للقذف ويجر إلى نفي النسب لأنه لا يجوز أن يقع اللعان وينتفي مقصوده ولا اعتباره بإقراره بالحمل لأن اللعان إذا ثبت ثم رجع عن بعض موجبه حد ولم يمنعه ذلك من أصل الالتعان، ووجه قوله: إنه يلحق به الولد ويلاعن لنفي الحد عنه أن اللعان موضوع في الأصل لأمرين: أحدهما سقوط الحد بالقذف، والآخر نفي النسب فلا يمتنع أن يلتعن لأحدهما مع عدم الآخر (1). فصل [20 - في صفة اللعان]: وصفة اللعان (2): يشهد الرجل أربع شهادات بالله: لقد زنت، ولقد رآها تزني، ورأى فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وإنه لمن الصادقين، فإن لم يصف كان الحد (3) على ما بيناه من الخلاف في نفي الحمل: لما هذا الحمل مني ولقد زنت إن ادعى زنا، وإن كان نفي حمل مجرد لم يحتج إلى ذلك، ويجب في الجملة أن يقع اليمين على تحقيق ما ادعى باللفظ الذي يقل فيه الاحتمال والاشتراك ثم يقول في الخامسة: وإلا فلعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تلتعن هي فتشهد أربع شهادات بالله بنقيض (4) ما شهد هو به ثم تخمس بأن تقول: وإلا فغضب الله عليها إن كان من الصادقين، ولا ينبغي أن تتعدي الألفاظ التي ورد النص بها, ولا أن يبدل بها غيرها لأن النص أوجب تعيين لفظ مخصوص كإيجاب عدد الشهادات.   (1) انظر: المدونة: 2/ 338 - 340، التفريع: 2/ 98 - 99، الكافي ص 290. (2) في وصف اللعان انظر: المدونة: 2/ 335 - 336، التفريع: 2/ 99 - 100، الكافي ص 288 - 289. (3) الحد: سقطت من (ق). (4) في (ق): بتنقيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 907 فصل [21 - وقوع الفرقة بالتعانهما جميعًا]: ولا تقع الفرقة إلا بالتعانهما جميعًا، فإن التعيين هو ونكلت سقط الحد عنه ورجمت إن كانت محصنة وإلا جلدت (1) لأن بلعانه قد حقق القذف عليها كالبينة والزوجية بينهما باقية ما لم تلعتن (2)، خلافًا للشافعي في قوله: إن الفرقة تقع بلعان الزوج وحده (3)، لأن هلال بن أمية لما التعن دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها فلما التعنت فرق بينهما (4)، فذكر الحكم وسببه، ولأن اللعان لم يكمل من جهتها فلم تقع الفرقة أصله إذا لم يكمل من الزوج، ولأنه لعان من أحد الزوجين، فكان له تأثير في الفرقة أصله لعان الزوج. فصل [22 - وقوع الفرقة باللعان]: والذي يدل على وقوع الفرقة باللعان خلافًا لمن حكي عنه أن الزوجية باقية بالتعانهما (5)، قوله صلى الله عليه وسلم: "حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها" (6)، وروي أنه صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين (7)، ولأنه لما قطع النسب الذي هو أقوى من الفراش كان بأن يقطع الفراش أولى.   (1) انظر: المدونة ص 337، التفريع: 2/ 100، الكافي ص 289. (2) في (ق): تتعلق. (3) انظر: الأم: 5/ 291 - 292، الإقناع ص 158. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (898). (5) في رواية عن الإِمام أحمد: أن الفرقة لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما (انظر مختصر الخرقي ص 108، المغني: 7/ 410). (6) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: قول الإِمام للمتلاعنين أن أحدكما كاذب: 6/ 180، ومسلم في اللعان: 2/ 1132. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (898). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 908 فصل [23 - عدم الحاجة إلى حكم الحاكم بالفرقة]: ولا يحتاج في ذلك إلى حكم حاكم بالفرقة (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) لأنه صلى الله عليه وسلم نفى اجتماعهما عند حصول التسمية لهما (3)، وذلك حاصل وإن لم يفرق بينهما حاكم، ولأن النسب لا يتعلق نفيه بلعانها لأنها تثبته باللعان وهو ينفيه فلا معنى لحكم الحاكم. فصل [24 - تحريم الزوجة باللعان مؤبدًا]: والتحريم باللعان يقع مؤبدًا لا تحل له بعده على وجه لا بنكاح ولا ملك، أكذب نفسه أو أقام على ما كان عليه (4)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه إن أكذب نفسه حلت له (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبيل لك عليها" (6) ولأن كل تحريم أوجب التأبيد لم يكن له إلى رفعه سبيل بإكذاب نفسه أصله إقراره بأنها أخته من نسب أو رضاع، ولأن حصول التحريم باللعان يقتضي استدامته ومنع ارتفاعه (7) أصله إذا أقام على موجب لعانه ولم يكذب نفسه. فصل [25 - لحوق الولد به إن أكذب نفسه]: إذا ثبت أنه بإكذابه نفسه لا تحل له فإنه يلحق به الولد إن كان اللعان في نفي حمل لأن له أن يستلحق ولده بعد نفيه ولا يقبل منه نفيه بعد الاعتراف ويجلد الحد بإقراره بقذفها إن كانت ممن يحد قاذفها.   (1) انظر: التفريع: 2/ 100، الكافي ص 290. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 215، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 77. (3) كما جاء في الأحاديث التي سبق ذكرها. (4) انظر: المدونة: 2/ 345، التفريع: 2/ 100، الرسالة ص 204، الكافي ص 289. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 215، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 77، وقال أبو يوسف: التحريم مؤبد. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) في (م): إيقاعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 909 فصل [26 - في لعان الأخرس والخرساء]: يصح لعان الأخرس والخرساء إذا فهم عنهما بإشارة أو بكتابة (1) خلافًا للشافعي (2) , لأن كل هذا تواضع على ما تفهم به المعاني التي في النفس فكانت كالنطق، ولأن الكتابة يقع بها الطلاق وكل نوع وقع به الطلاق جاز أن يقع به اللعان كالنطق. فصل [27 - في لعان الأعمى]: الأعمى يلاعن في نفي النسب لأنه (3) يتأتى منه كتأتيه من البصير، فأما في القذف، ففيه اختلاف (4): فإذا قلنا: لا يصح لعانه فلأنه متعلق بالرؤية وذلك ممتنع منه، وإذا قلنا: يصح فلأن اللمس (5) نوع من المحسوس كالرؤية. فصل [28 - إذا تصادقا على انتفاء النسب والاعتراف بالزنا هل لا بد في ذلك من اللعان]: إذا تصادقا على انتفاء النسب أو الاعتراف بأنها زنت، فهل يكفي ذلك في انتفاء النسب أم لا بد من اللعان؟ ففيه روايتان (6): فوجه قوله: إن التصادق كاف أنه معنى يخلصه من القذف فوجب أن ينتفي به النسب عنه مع دعواه أصله اللعان. ووجه القول إنه لا بد من لعان أن ذلك تواطء منهما على سقوط حق الولد فلا يقبل إلا باللعان الذي هو طريق نفيه. ...   (1) انظر: المدونة: 2/ 343. (2) انظر: مختصر المزني ص 211. (3) في (م): لأن طريقه. (4) انظر: المدونة: 2/ 342 - 343. (5) في (م): الحس. (6) انظر: التفريع: 2/ 99، الرسالة ص 204، الكافي ص 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 910 باب: [في العدة] الموجب للعدة (1) شيئان: طلاق وما في معناه من فسخ النكاح وموت، والعدة من الطلاق أو الفسخ لا تكون إلا في مدخول بها، فأما من لم يدخل بها فلا عدة عليها والعدة ثلاث أضرب: عدة بأقراء، وعدة بوضع حمل، وعدة بشهور. والمعتدات ثلاث: فذات حيض وممتنع عليها الحيض لصغر أو إياس ومرتابة، وعلى وجه آخر ينقسمن إلى ضربين: ضرب تُكمل لا تنقسم العدة فيهن: (وهن الحرائر، وضرب ينصف فيهن وهن الأرقاء لأن متى كمل الرق فيهن) (2) أو تبعض فتنتصف نوع من العدة فيهن دون جميعها على ما نبينه إن شاء الله (3). فصل [1 - العدة تكون على مدخول بها]: وإنما قلنا: أنه لا عدة إلا على مدخول بها من الطلاق والفسخ دون الموت لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (4)، ولأن براءة رحمها معلومة (5) والعدة في الطلاق للاستبراء فقط.   (1) العدة لغة: مأخوذة من العد والحساب، واصطلاحًا: هي مدة منع النكاح لفسخه أو موت الزوج أو طلاقه (انظر المصباح المنير ص 396، الفواكه الدواني: 2/ 62). (2) ما بين قوسين: سقط من (م). (3) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 68، 75، 81، التفريع: 2/ 114 - 118، الرسالة ص 206 - 207، الكافي ص 292 - 294. (4) سورة الأحزاب، الآية: 49. (5) معلومة: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 911 فصل [2 - العدة بالأقراء]: فأما العدة بالأقراء (1) فتكون بالطلاق والفسخ دون الموت لا خلاف فيه (2) وهي لمن تحيض وتطهر بثلاثة قروءة للحرة وقرآن للأَمَة، وإنما قلنا ذلك لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (3)، وأجمعوا أن فسخ النكاح يجب له من ذلك ما يجب بالطلاق في النكاح الصحيح (4). فصل [3 - في معنى الأقراء]: والأقراء الأطهار وهي (5) ما بين الحيضتين من الطهر (6) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن الأقراء الحيض (7) لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (8) ففيه أدلة: أحدها: أن القرء اسم يقع على الطهر والحيض والمراد أحدهما، فيجب إذا قعدت ثلاثة قروء وينطلق عليها الاسم أن يجز بها، وإن شذت بنيتها على تعليق الحكم بأوائل الأسماء كالشفقين (9) والأبوين واللمسين.   (1) الأقراء: جمع قرء -بفتح القاف- وأصل القراء الوقت يقال: جاء فلان لقرئه أي لوقته، فلما كان الطهر يجىء لوقت سمي قرءًا، وهو يطلق على الطهر والحيض (انظر غرر المقالة ص 206، المصباح المنير ص 501). (2) انظر: الإجماع ص 108، بداية المجتهد: 7/ 71، شرح مسلم: 6/ 256، المغني: 7/ 448. (3) سورة البقرة، الآية: 228. (4) انظر: الإجماع ص 108، بداية المجتهد: 7/ 71، شرح مسلم: 6/ 256، المغني: 7/ 448. (5) في (م): وهو. (6) انظر: التفريع: 2/ 114، الرسالة ص 106، الكافي ص 293. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 217، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 80. (8) سورة البقرة، الآية: 228. (9) في (م) و (ر): كالشقيقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 912 والأخر أنه بصيغة التذكير لأن جمع المؤنث ما دون العشرة بغيرها، وذلك يفيد أنه جمع قرء وهو طهر لا حيضة. والثالث أن إطلاق الأمر والأخبار عن الوجوب على الفور ولا يمكن ذلك إلا على ما نقوله أن يطلقها طاهرًا فتعتد عقيب الطلاق أو حائضًا فعقيب الحيض قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) أي في حال يعتدون فيها وعندهم أن حال الطهر ليست بحال عدة، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" (2) وهذا نص، ولأنه حيض كالذي يطلق فيه، ولأنها (3) زمان يجوز إيقاع الطلاق فيه فوجب أن يكون معتدًا به أصله الحمل. فصل [4 - في عدة الأمة]: وإنما قلنا: إنها قرآن للأَمَة خلافًا لداود في تسويته بينها وبين الحرة (4)، بناء على نقصان طلاق العبد وقد ذكرناه، ولأن العدة معتبرة مع عدم الريبة لحرمة المعتدة فتكمل بكمال حرمتها وتنقص بنقصان حرمتها، وحرمة الأَمَة أخفض من حرمة الحرة، فكانت عدتها على النصف، وإنما قلنا: إنها تكمل قرءين لأن القرء لا يتبعض فكمل كما كمل طلاق العبد اثنتين، وإنما سوينا بين من استغرقها الرق وبين من تبعض فيها لأن النص بالرق قد شملهن وغلب على أحكامهن.   (1) سورة الطلاق، الآية: 1. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (826). (3) في (م): فلأنه. (4) انظر: بداية المجتهد: 7/ 87، الميزان: 2/ 135، رحمة الأَمَة في اختلاف الأئمة: 2/ 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 913 فصل [5 - في التسوية بين المسلمة والكتابية في العدة]: والمسلمة والكتابية يستويان في ذلك لعموم الظواهر، ولأنها عدة لاستبراء الرحم كوضع الحمل (1). فصل [6 - متى تحل الحرة والأمَة]: وإذا دخلت الحرة في الدم من الحيضة الثالثة حلت والأَمَة إذا دخلت (2) في الحيضة الثانية وأقل ما يقبل قولها فيه ما يمكن مثله في العادة فقيل: خمسة وأربعون، وقيل: أربعون، وقيل: في شهران إن أمكن أن يكون مثله، وكذلك ينبغي أن يكون الجواب معلقًا بالإمكان في العادة (3). فصل [7 - العدة بوضع الحمل]: فأما الإعداد بوضع الحمل فيستوي فيه المعتدات كلهن حرائرهن وإمائهن والمسلمات والكتابيات، والأسباب الموجبة له من الطلاق والفسخ والشبهة والموت ولا تحل المعتدة إلا بوضع جميعه وما دام معها بقية من الحمل فحكمها حكم من لم تضع شيئًا في وجوب الرجعة وثبوت الميراث وتحل بوضع العلقة والمضغة وما يقع عليه اسم الحمل إلى كمال الخلقة (4). وإنما قلنا: أن عدة الحامل الحرة وضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (5) وسوينا بينها وبين الكتابية والأَمَة للعموم، ولأنه يعلم به براءة الرحم بيقين وليس بمبني على الحرمة ولا يمكن تنصيفه.   (1) انظر: المدونة: 2/ 76 - 78، التفريع: 2/ 117، الرسالة ص 206، الكافي ص 293. (2) إذا دخلت: سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 2/ 74، التفريع: 2/ 114 - 115، الكافي ص 293. (4) انظر: المدونة: 2/ 67 - 68، التفريع: 2/ 115 - 116، الرسالة ص 206، الكافي ص 293. (5) سورة الطلاق، الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 914 وإنما قلنا: إن الحامل المتوفى عنها تعتد بوضع الحمل خلافًا لمن قال: أقصى الأجلين (1) لعموم الظاهر, ولأن سبيعة الأسلمية (2) ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قد حللت فانكحي من شئت" (3) , ولأنه يعلم بوضع الحمل براءة رحمها كذوات الأقراء ولأن الأشهر عدة بنفسها ولا تجتمع مع الحمل فتصيران عدة واحدة أصله في حق المطلقة. وإنما اعتبرنا وضع جميعه لقوله تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (4) , وظاهر ذلك يفيد الجميع, ولأن الرحم مشغولة ببقية الحمل فكان كالكل. وإنما قلنا: إنها تحل بوضع ما يقع عليه اسم الحمل لعموم الظاهر, ولأنه يعلم به براءة الرحم واعتبارًا بما تخطط به من الخلقة. فصل [8 - الاعتداد بالشهور]: وأما الاعتداد بالشهور فيجب تارة عن الطلاق وتارة عن الوفاة, فأما الواجب عن الطلاق والفسخ ثلاثة أشهر ما كان من تمام أو نقصان إن ابتدئت من أول شهر, وإن كان من بعضه كمل عدد الأول بالحساب فتجلس بقيته من يوم وجبت العدة ثم تعتد الشهرين بعده بالأهلة ثم تتم باقي الأول بالعدد المكمل (5) , فإن طلقت في بعض يوم ففيها روايتان: إحداهما: أنها تعتد من ذلك الوقت إلى مثله , والأخرى إلغاء ذلك اليوم   (1) فقد قال ابن عباس: وروي عن عليّ وجه منقطع: إنها بأقصى الأجلين (انظر الموطأ: 2/ 589 , عبد الرزاق: 6/ 470). (2) سبيعة الأسلمية: بنت الحارث زوج سعد بن خولة لها صحبة (تقريب التهذيب: 748). (3) أخرجه البخاري , باب: تفسير سورة الطلاق: 6/ 676 , ومسلم في الطلاق, باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها: 2/ 1122. (4) سورة الطلاق, الآية: 4. (5) في (ق): كالمكمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 915 وابتداء العدة من غده (1)، وهذه العدة هي لمن دخل بها ممن لم تحض لصغر أو يائسة منه لكبر يستوي فيه الإماء والحرائر والمسلمات والكوافر ومن قصر سنها عن إطاقة الوطء فلا يعد وطؤها موجبًا للاعتداد، وإنما هو جرم وإفساد. وأما الواجب عن الوفاة فيفترق فيه حكم الحرائر والإماء، فللحرة أربعة أشهر وعشر ليال، وللأَمَة شهران وخمس ليال، وعلى الصغيرة مثل ما على الكبيرة التي لم يدخل بها مثل ما على المدخول بها إلا أن غير المدخول بها تبرؤها الشهور من غير حاجة إلى حيض، والمدخول بها التي تحيض لا يبرؤها إلا (2) الحيض وحيضة واحدة مجزية، فإن حاضت في تضاعيف الشهور برئت بذلك، فإن لم تحض حتى انقضت العدة نظر، فإن لم يكن لها عادة بتأخر (3) الحيض ولم تخش ريبة انتظرت إلى تمام تسعة أشهر من يوم الوفاة، وإن كانت لها عادة (4) بتأخيره إلى مدة يدخل فيها عدتها بالشهور ففيها روايتان: إحداهما: أنها تبريء بمضي الشهور وإن لم تحض، والأخرى أنها لا تبرأ إلا بالحيض، وعنه في الكتابية المدخول بها في عدة الوفاة روايتان: إحداهما أنها مثل المسلمة، والأخرى أنها تستبريء (5) رحمها بثلاث حيض والقول في الكتابية غير المدخول بها يتخرج على هاتين الروايتين (6). فصل [9 - في أدلة من تعتد بالشهور]: وإنما قلنا: إن عدة من ليست من أهل الحيض ثلاثة أشهر لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ   (1) في (م): في غيره. (2) في (م): إلى. (3) في (ق): بتأخير. (4) في (ق): عدة. (5) في (ق): تستبين. (6) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 68 - 75، التفريع: 2/ 116 - 117، الرسالة ص 206، الكافي ص 293 - 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 916 يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1)، ولأن ذلك أقل ما يعلم به براءة الرحم، فلذلك جعل بدل الأقراء. وإنما قلنا: إنها إذا ابتدأت (2) من أول الشهر أجزأتها الشهور بالأهلة لأن الخطاب إذا صدر وله عرف في الشرع حمل عليه وعرف الشرع في المشهور هو بالأهلة. وإنما قلنا: إنه يكمل عدد الشهر المبتدأ في بعضه لأنها إنما يكون له حكم الهلال وإذا ابتديء من أوله، فأما إذا ابتديء من بعضه كان له حكم العدد استظهارًا واحتياطًا. وإنما قلنا: إنها إذا طلقت في بعض يوم اعتدت إلى مثله لقوله تعالى: {ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (3)، وذلك يقتضي العدد من وقت الوجوب، ولأن من حلف لا يكلم زيدًا ثلاثة أشهر أو أجَّره (4) داره ثلاثة أشهر وأطلق كان محمولًا على أنها من وقته، فكذلك هذا، ووجه قوله: إنها تلغي اليوم احتياطًا لصعوبة ضبط الوقت الذي تبتديء منه ومقابلته به، ولأن نظائره قد فعل فيه مثل ذلك باعتبار الأربعة أيام لإقامة المسافر، والعقيقة، والحول في الزكاة، فكذلك ها هنا والأولى القياس. وإنما سوينا بين الأمَة والحرة في ذلك للعموم واعتبارًا بعدة الأقراء ووضع الحمل، وإنما قلنا أن وطء التي لا تطيق الوطء لا يوجب عدة للعلم ببراءة الرحم، ولأن الوطء إنما يسمى وطئًا إذا كان فيمن تطيقه، فأما إذا كانت لا تطيقه جرى مجرى الجرح وإصابتها في غير ذلك الموضع لأنه ليس بالاستمتاع المطلوب، ولأنه لا يوجب مهرًا ولا إحلالًا، وإنما هو جناية.   (1) سورة الطلاق، الآية: 4. (2) في (مك): ابتدت. (3) سورة الطلاق، الآية: 4. (4) في (م): أجاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 917 فصل [10 - في عدة الحرة الحائل]: وإنما قلنا: إن عدة الحرة الحائل في الوفاة أربعة أشهر وعشرًا للظاهر وهو قوله تعالى (1): {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2). وإنما قلنا: إن عدة الأمَة شهران وخمس ليال لأنها عدة يمكن (3) تنصيفها، فكانت فيها على النصف من الحرة كالأقراء، وقد احترزنا من وضع الحمل، فإن الوضع لا يتنصف (4)، ومن الثلاثة الأشهر لأنها تراد ليعلم براءة الرحم في أقل ما يمكن، وذلك لا يمكن تنصيفه. فصل [11 - إيجاب عدة الوفاة على الصغيرة]: وإنما أوجبنا على الصغيرة العدة في الوفاة على كل حال وفي الطلاق مع الدخول خلافًا لداود (5) في قوله: لا عدة على صغيرة، لعموم الظواهر من قوله تعالى: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (6)، وقوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (7) وهذا نص، واعتبارًا بالبوالغ بعلة أنها زوجة دخل بها أو توفي الزوج عنها، وإنما قلنا: تلزم غير المدخول بها للعموم، ولأن طريقها العبادة المحضة دون براءة الرحم. فصل [12 - في عدة غير المدخول بها]: وإنما قلنا: إن غير المدخول بها تبرأ بمضي المدة لأنّه ليس (8) وراءه أمر يطلب   (1) في (م): عَزَّ وجَلَّ. (2) سورة البقرة، الآية: 234. (3) في (ق): يجب. (4) في (م): ينتصف. (5) انظر: المحلي: 11/ 638. (6) سورة البقرة، الآية: 234. (7) سورة الطلاق، الآية: 4. (8) في (ق): يسويها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 918 سواه، فلم يلزمها غيره، فأما المدخول بها فلا يبرؤها إلا حيضة على ما بيناه خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (1) لأنها بائن مدخول بها (2) من ذوات الحيض لم تتيقن براءة رحمها فلم تبرأ إلا بالحيض أو التربص الدال على براءة الرحم القائم مقام الحيض أصله المطلقة، ولأن احتباس الحيض عن عادته من غير عارض أو سبب يعرف ريبة ولا يجوز النكاح مع الريبة. فصل [13 - الحكمة من إجزاء الحيضة الواحدة]: وإنما قلنا: إن حيضة واحدة مجزية لأن الأصل هو العدة المعتد بها وليس الاستبراء بمجرده مقصودًا فيستوي فيه ما يجب لحرمتها. فصل [14 - في التي عادتها أن تحيض مرة في السنة]: ووجه القول في التي عادتها أن تحيض مرة في السنة أو فيما يدخل فيه الاعتداد بالشهور أنها تبرأ بمضي المدة، وإن لم تحض أن سبب تأخيره للعادة لا لريبة (3) فحمل على المعتاد، ووجه قوله: إنه لا يبرؤها إلا لحيض اعتبارها بمن لا عادة لها, ولأن تأخره يمكن أن يكون للعادة ولشغل الرحم. فصل [15 - في التي لا عادة لها]: وإنما قلنا في التي لا عادة لها بتأخير الحيض وفي المعتادة كذلك على إحدى الروايتين أنها تجلس تمام تسعة أشهر من يوم الوفاة؛ لأن ذلك غالب مدة الحمل وهو الذي يعلم به براءة الرحم من زوال الريبة وتأخير الحيض وإن أحست بعد تربصها هذه المدة بريبة انتظرت زوالها.   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 218 - 219، الأم: 5/ 211، 215. (2) مدخول بها: سقطت من (م) ومن (ر). (3) في (م): للريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 919 فصل [16 - وجه اعتداد الكتابية بالشهور وأن عليها الاستبراء]: ووجه قوله (في الكتابية أن عليها الاعتداد بالشهور لعموم الظواهر ولأنه نوع من البينونة كالطلاق، ولأنها زوجة مسلم مات عنها ليست بحامل فتلزمها العدة بالشهور كالمسلمة، ولأن كل عدة لزمت المسلمة لزمت الكتابية كوضع الحمل) (1). ووجه قوله: إن عليها الاستبراء لأن تربصها يتعلق به حق لله تعالى وحق للمسلم: فأما حق المسلم فحق النسب وذلك يلزمها (2) لأنه لا يبرؤها إلا العلم ببراءة الرحم، وما زاد على ذلك حق لله محض وحقوق الله تعالى (3) المحضة المتميزة عن حقوق الآدميين لا يخاطب بها الكفار. وإنما قلنا: إن غير المدخول بها من الكتابيات يتخرج على هذا الاختلاف لأن الطريقة فيه واحدة فلم يكن له وجه إلا إجراؤه مجرى ما تقدم. فصل [17 - في عدة المرتابة]: فأما المرتابة: فهي التي ترتفع حيضتها من غير إياس من بعد أن كانت تحيض، فلا يخلو ذلك أن يكون لعارض يعلم أنه يؤثر فيه أو لغير عارض، فالعارض إما رضاع وإما مرض، فإن كان تأخيره للرضاع فإنها لا تعتد إلا بالأقراء، فتمكث متوقعة له إلى أن تراه طال الوقت أم قصر (4).   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) في (ق): وذلك لا يلزمها. (3) تعالى: سقطت من (م). (4) انظر: المدونة: 2/ 74، التفريع: 2/ 117، الرسالة ص 206 - 207، الكافي ص 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 920 وإنما قلنا ذلك للإجماع والمعنى: فأما الإجماع فإن حبان بن منقذ (1) طلق امرأته وهي ترضع فمكثت نحو سنة لا تحيض لأجل الرضاع ثم مرض حبان فخاف أن ترثه إن مات فخاصمها إلى عثمان، وعنده عليّ وزيد رضي الله عنهم فقال لهما: ما تريان، فقالا: نرى أنها ترثه لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم يحضن فهي عنده على حيضتها، مات كان من قليل أو كثير لم يمنعها إلا الرضاع فانتزع حبان ابنه منها، فلما حاضت حيضتين مات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة (2)، فأجمعوا أن التأخير بالرضاع لا يسوغ لها الاعتداد بغير الحيض وعللوا ذلك بأنها ليست ممن تحض ولا آيسة. والمعنى هو جري العادة بأن الرضاع يؤثر في تأخير الحيض فلا يكون ذلك ريبة، فإذا كان ذلك وجب انتظار زواله. فصل [18 - في عدة المريضة]: وأما المرض ففيه روايتان (3): إحداهما أنه كالرضاع ذكرها الشيخ أبو بكر عن أشهب، والأخرى أنه ريبة، فوجه قوله: إنه كالرضاع أن سبب تأخر الحيض معروف، ولأن المرض يؤثر في ذلك لأنه يضعف القوة أو يكون فيه ما يخرق الدم أو يحبسه، فكان كالرضاع ووجه القول بأنه ريبة أنه ليس فيه عادة متقررة بتأخير الحيض ولا اختصاص في ذلك لبعض الأمراض دون بعض فكان ريبة.   (1) حبان بن منقذ: بن واسع بن حبان بن منقذ بن عمرو الأنصاري ثم المازني المدني صدوق من الخامسة (تقريب التهذيب ص 149). (2) أخرجه البيهقي في سننه: 7/ 419، وعبد الرزاق: 6/ 340، والشافعي في مسنده: 2/ 58. (3) انظر: المدونة: 2/ 69، 74، التفريع: 2/ 115 - 117، الرسالة ص 206 الكافي ص 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 921 فصل [19 - اعتداد من ارتفع حيضها لغير عارض ولا سبب معتاد]: فأما إذا ارتفع حيضها لغير عارض ولا سبب معتاد تأثيره في رفع الحيض، فإنها تنتظر تسعة أشهر غالب مدة الحمل، فإن حاضت في خلالها حسبت ما مضى قرءًا ثم تنتظر القرء الثاني إلى تسعة أشهر، فإن حاضت احتسبت به قرءًا آخر، وكذلك في الثالث فإن مضت لها تسعة أشهر ولم تحض استأنفت الاعتداد بثلاثة أشهر وصارت من أهل الاعتداد بالشهور، فإن حاضت من قبل تمامها ولو بساعة حسبت جميع ما مضى لها من وقت الطلاق وقت حيضها قرءًا ثم استأنفت تربص تسعة (1) أشهر ثم ثلاثة بعدها، وأي وقت مضت لها سنة لا حيض في خلالها فقد حلت ولا يراعى إن حاضت بعد السنة بقليل أو كثير (2)، وقال الشافعي في الجديد تمكث أبدًا إلى (3) أن تعلم براءة رحمها قطعًا وهو أن تبلغ سن من لا تحيض مثلها (4)، فدليلنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها (5) حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها (6) حمل فذلك وإلا اعتدت بعد التسعة بثلاثة أشهر) (7)، وهذا قول صحابي إمام لا مخالف له، ولأن الغرض من ذلك التوصل إلى (8) العلم ببراءة الرحم وقد ثبت أنه لا يراعى فيه القطع واليقين؛ لأن ذلك يوجب أن تجلس أقصى مدة الحمل أو أن لا يحكم ببراءة الرحم بمضي الثلاثة الأقراء أو الثلاثة أشهر لمن قاربت البلوغ، وذلك باطل فلم يبق إلا الاعتبار بالظاهر وقد حصل.   (1) في (م) و (ر): أربعة. (2) انظر: المدونة: 2/ 73، التفريع: 2/ 117، الكافي ص 293. (3) في (م): حتى. (4) انظر: مختصر المزني ص 218، الإقناع ص 154. (5) في (م): رفعها. (6) في (م): لها. (7) أخرجه مالك: 2/ 582، والشافعي عنه (تلخيص الحبير: 3/ 533). (8) التوصل إلى: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 922 فصل [20 - في عدة المستحاضة]: في عدة المستحاضة من الطلاق روايتان (1): إحداهما أنها سنة لأن الاستحاضة ريبة فتجلس الغالب من مدة (الحمل تسعة أشهر ثم ثلاثة وهي العدة، والأخرى أنها إن ميزت بين الدمين وكان لها قرءًا معلومًا اعتدت به لأنّها من ذوات الأقراء فإذا عرفته) (2) بالتمييز اعتدت به كغير المستحاضة. فصل [21 - في عدة المستحاضة من الوفاة]: وفي عدتها من الوفاة روايتان (3): إحداهما أربعة أشهر وعشرًا، والأخرى أنها تقيم تسعة أشهر، فوجه الأولى عموم الظواهر، ولأنها متوفى عنها غير حامل كغير المستحاضة، ووجه الثانية أن الاستحاضة نفسها ريبة، فوجب أن تجلس غالب مدة الحمل. فصل [22 - في أكثر مدة الحمل]: وعنه (4) في أكثر الحمل ثلاث روايات (5): إحداها أربع سنين وهي المشهورة، والثانية خمس والثالثة سبع، وفائدة الخلاف امتداد التربص بالمرتابة، وأن المطلقة إذا أتت بولد لأكثر من مدة الحمل من وقت الطلاق فإنه لا يلحق به. فوجه الأولى ضرب عمر رضي الله عنه لامرأة المفقود أربع سنين (6)، وإنما ذلك لأنه أكثر الحمل، وروي مثله عن عثمان وعلي (7) رضي الله عنهما (8) ولا   (1) انظر: المدونة: 2/ 68 - 69، التفريع: 2/ 115، الرسالة ص 106، الكافي ص 293. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) انظر: المرجع التي ذكرت قريبًا. (4) وعنه سقطت من (م). (5) انظر: المدونة: 2/ 92 - 93، التفريع: 2/ 116، الكافي ص 293. (6) أخرجه مالك: 2/ 575، ابن أبي شيبة: 1/ 248، البيهقي: 7/ 444. (7) أخرجه البيهقي: 7/ 445، أبي شيبة: 1/ 284، سنن سعيد بن منصور: 3/ 1/ 409. (8) رضي الله عنهما: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 923 مخالف عليهم فيه، وقد ذكر أصحابنا عن أهل المدينة أن نساء الماجشون كن يلدن لأربع سنين، ولأن ما زاد على السنتين لو لم يكن مدة للحمل لوجب أن لا يلحق به الولد إذا ادعاه وأكذبته وفي لحوقه به دليل على أنه من مدته. ووجه اعتبار الخمس أن ذلك قد وجد وذكر عن ابن عجلان (1) وجوده. وأما السبع فلم يقف على وجود لها والأظهر الأربع فقط. فصل [23 - عدة أم الولد]: عدة أم الولد من وفاة سيدها حيضة واحدة وهي في الحقيقة استبراء لا عدة لأنه عن وطء بالملك (2)، وقد قال عمرو بن العاص (3) أربعة أشهر وعشرًا، وقال أبو حنيفة ثلاثة أقراء كالحرة المطلقة (4)، ودليلنا على عمرو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (5) فأوجب ذلك على الزوجات فدل على أن الإماء بخلافهن، ولأنه وطء بملك اليمين فلم يلزم فيه عدة الوفاة كالأمة الموطوءة، ودليلنا على أبي حنيفة قوله تعالى (6): {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (7)، فأوجب ذلك في   (1) ابن عجلان: هو عبد الواحد بن أبي البداح بن عاصم بن عدي الأنصاري العجلان، أحد بني العجلان، من أهل المدينة، روي عن عبد الله بن يزيد بن حارثة، روي عنه إسحاق (الأنساب: 9/ 244). (2) انظر: المدونة: 2/ 73، التفريع: 2/ 116 - 117، الرسالة ص 206، الكافي ص 294. (3) عمرو بن العاص: بن وائل السهمي الصحابي المشهور، أسلم عام الحديبية وولي امرأة مصر مرتين وهو الذي فتحها، مات بمصر سنة اثنين وأربعين، وقيل: بعد الخمسين (تقريب التهذيب: 433). (4) مختصر الطحاوي ص 218، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 82. (5) سورة البقرة، الآية: 234. (6) تعالى: سقطت من (م). (7) سورة البقرة، الآية: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 924 حق المطلقات فانتفى (1) وجوبه بالملك، ولأنه استبراء عند زوال الملك عن الرقبة فكان بقرء واحد أصله الأَمَة المبيعة. فصل [24 - بقية الكلام في عدة أم الولد]: وهذا إذا كانت ممن تحيض، فإن كانت حاملًا فوضع الحمل، وإن كانت يائسة فثلاثة أشهر، فإن كانت مستحاضة أو مرتابة قعدت تسعة أشهر، وعدتها من وفاة زوجها شهران وخمس ليال وقد بيَّنا معاني هذه الجملة من قبل (2). فصل [25 - المطلقة الرجعية يموت عنها زوجها]: المطلقة الرجعية إذا مات عنها (3) وهي في العدة انتقلت إلى عدة الوفاة (4) لأنها في حكم الزوجات بدليل لحوق طلاقه لها ووجوب نفقتها عليه وثبوت التوارث بينهما, ولأن كل من يلحقها طلاقه لبقاء حكم الزوجية فموته عنها يوجب عليها عدة أصله الزوجة. فصل [26 - البائن يموت عنها زوجها]: البائن إذا مات عنها زوجها ثبتت على عدتها ولم تلزمها عدة بموته (5) لأنه مات عن بائن منه كالتي قد خرجت من العدة. فصل [27 - الأمَة المطلقة إذا عتقت وهي في العدة]: إذا طلقت الأَمَة فأعتقت وهي في العدة مضت على عدة الأَمَة ولم تنتقل إلى عدة الحرة كان الطلاق رجعيًّا أو بائنًا (6)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: تنتقل في   (1) في (ق): فانتفاء. (2) من قبل: سقطت من (م). (3) عنها: سقطت من (م). (4) انظر: المدونة: 2/ 75، التفريع: 2/ 118 - 119، الكافي ص 294. (5) انظر: المراجع التي ذكرت سابقًا. (6) انظر: المدونة: 2/ 2/ 82، التفريع: 2/ 118، الكافي ص 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 925 الرجعي دون البائن (1)، والشافعي في قوله أنها تبنى على عدة الحرة في كلا الأمرين (2)؛ لأنها أمَة معتدة من طلاق فوجب أن تبنى على العدة التي لزمتها حال الطلاق ما كان زوجها باقيًا كالتي لم تعتق، ولأنها معتدة عن طلاق فوجب أن لا ينتقل اعتدادها ما دامت معتدة عنه أصله الطلاق البائن ولا يلزم عليه الموت لأنها تنتقل عن اعتداد الطلاق إلى الاعتداد عن الموت ولا تبنى. فصل [28 - إذا مات عنها بعد عتقها في العدة]: ولو مات عنها بعد أن أعتقت في العدة من طلاق رجعي لانتقلت إلى عدة الوفاة لأنها في حكم الزوجات كالحرة وتعتد عدة الحرة لأن الموت صادفها حرة ولو كان الطلاق بائنًا لم تنتقل لأن الموت صادفها أجنبية. فصل [29 - في كون الرجعة تهدم العدة إلا رجعة المولي والمعسر بالنفقة]: كل رجعة تهدم العدة إلا رجعة المولي والمعسر بالنفقة، فإنهما موقوفتان على الفيئ والإنفاق (3)، وقال الشافعي: إذا طلقها بعد الرجعة وقبل الوطء بنت على عدتها الأولى (4). ودليلنا أنها رجعة صحيحة منبرمة، فوجب أن تهدم العدة أصله إذا وطء فيها. فصل [30 - إذا تزوجت في العدة]: إذا تزوجت في العدة ووطئها الثاني، ففي العدتين (5) روايتان (6): إحداهما   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 218، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 81. (2) انظر: الأم: 5/ 217، الإقناع ص 154. (3) انظر: التفريع: 2/ 119، الكافي ص 291 - 292. (4) انظر: الأم: 5/ 243 - 244، الإقناع ص 153. (5) في (م): ففيها. (6) انظر: المدونة: 2/ 82، التفريع: 2/ 59 - 60، الكافي ص 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 926 التداخل والأخرى نفيه، فوجه التداخل أن الغرض الذي له ترادان (1) هو العلم ببراءة الرحم، وذلك يحصل مع التداخل أصله إذا حملت، ووجه نفيه فلأنه وطء له حرمة، فوجب استيفاد عدتها كالأولى. ...   (1) في (م): له تراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 927 باب: [في الإحداد] لا إحداد (1) على مطلقة (2) لا رجعية ولا بائنة (3) خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (4) في إيجابهما على البائن لأنها مطلقة كالرجعية. فصل [1 - الإحداد على كل زوجة متوفى عنها]: والإحداد على كل زوجة متوفى عنها حتى تنقضي عدتها، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" (5)، وحديث أم سلمة أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال: "لا" مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: "إنما هي أربع أشهر وعشرًا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" (6)،   (1) الإحداد: أصل المنع ومنه سمي البواب حدادًا، ويقال منه: حدتث المرأة وأحدت فهي حاد ومحد، سميت بذلك لامتناعها من الزينة، وقال ابن عرفة: هو ترك ما هو زينة ولو مع غيره، قال: فيدخل ترك الخاتم فقط للمبتذلة (انظر غرر المقالة ص 207، وحدود ابن عرفة ص 221). (2) انظر: المدونة: 2/ 76، التفريع ص 119 - 120، الرسالة ص 207، الكافي ص 295. (3) في (م): مبتوتة. (4) انظر: مختصر القدوري -مع شرح الميداني: 3/ 85، مختصر المزني ص 223. (5) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: إحداد المرأة: 2/ 79، ومسلم في الطلاق، باب: وجود الإحداد في عدة الوفاة: 2/ 1123. (6) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا: 6/ 187، ومسلم في الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة: 2/ 1124 قال حميد -الذي روي الحديث عن زينب بنت سلمة- لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 928 ولأن الزينة والطيب باعثان (1) على النكاح فمنعت من ذلك كما منع المحرم منه، ولأنها لما منعت من التصريح بالخطبة وهو بالقول كانت بمنع (2) ما هو أبلغ مما يدعو إلى ذلك أولى ولا يدخل عليه المطلقة لأن لها من يراعيها ويمنعها من التزويج إن أرادته والمتوفى عنها بخلافها. فصل [2 - إحداد الأمَة الزوجة]: وعلى الأَمَة الزوجة المتوفي عنها زوجها الإحداد (3) خلافًا لمن نفاه (4) لعموم الأخبار واعتبارًا بالحرة بعلة كونها زوجة متوفى عنها. فصل [3 - إحداد الحرة الصغيرة]: وتلزم الحرة الصغيرة خلافًا لأبي حنيفة (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم وسئل عن من مات عنها زوجها فاشتكت عينيها أتكحلها؟ قال: "لا" (6) ولم يسأل، ولأنها عدة من وفاة كعدة البالغة. فصل [4 - إحداد الكتابية]: ولزومه للكتابية إذا مات عنها زوجها المسلم مختلف فيه (7)، فوجه الوجوب   = الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر بها سنة ثم تؤتي بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتضي به، فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. (1) في (م): داعيتان. (2) في (م): بأن يمنع. (3) انظر: المدونة: 2/ 76، الرسالة ص 207، الكافي ص 295. (4) لم أعثر على من نفاه. (5) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 85، تحفة الفقهاء: 1/ 252. (6) أخرجه البخاري في الطلاق، باب: تحد المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا: 5/ 185، ومسلم في الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة: 2/ 1124. (7) انظر: المدونة: 2/ 76، التفريع: 2/ 119، الرسالة ص 207، الكافي ص 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 929 عموم الخبر، ولأنها معتدة من من وفاة زوج (1) مسلم كالمسلمة، ووجه نفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج" (2)، فجعل من وصف الحداد أن تكون مؤمنة، ولأنها لما كانت عدتها الاستبراء دون عدة الوفاة كذلك لا إحداد عليها اعتبارًا بالأمة والأول أصح. فصل [5 - لا إحداد على الأمَة ولا على أم الولد]: لا إحداد على الأَمَة، ولا على أم الولد (3) لأنّها ليست بزوجة ولأن الملك لا يقصد للوطيء. فصل [6 - الإحداد]: الإحداد هو الامتناع من الزينة والطيب كله ومصبغ اللباس كالأحمر والأصفر والأخضر والخلوق (4) لأن هذه الألوان يتزين بها النساء لأزواجهن ويتصنعن بها وليس منها الأسود والأبيض والسابرى (5)، والامتناع من الحلي كله الخاتم فما فوقه، وكذلك الكحل والحناء إلا للضرورة والامتشاط بما يختمر في الرأس (6) والإدهان المطيبة كاللبان (7) والخيرى (8) ودهن الورد والبنفسج وجميع ما يتزين به النساء لأزواجهن مما يثير به الشهوة ويبعث على الجماع (9).   (1) زوج: سقطت من (م). (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) انظر: المراجع السابقة. (4) الخلوق: ما يتخلق به من الطيب وهو مائع فيه صفرة (المصباح المنير ص 180). (5) السابري: نوع رقيق من الثياب قيل: نسبه إلى سابور من مدن فارس (المصباح المنير ص 263). (6) بما يختمر في الرأس: يعني ما تشتم رائحته والخمرة الطيب (غرر المقالة ص 207). (7) البان: شجر معروف ودهن البان منه (المصباح المنير ص 66). (8) الخيرى: هو أذكى نبات البادية ريحًا، يخرج دهنه ويدخل في الأدوية (المصباح المنير ص 184). (9) انظر: المدونة: 2/ 76، التفريع ص 19 - 220، الرسالة ص 207، الكافي ص 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 930 فصل [7 - في منع المعتدة من وفاة أو طلاق الانتقال من بيتها]: ولا يجوز لمعتدة من وفاة أو طلاق أن تنتقل عن بيتها التي كانت فيه حتى تنقضي عدتها إلا أن تخاف عورة منزلها أو تدعوها ضرورة لا يمكنها (1) المقام معها، فلها أن تنتقل وتقيم بالموضع الذي تنتقل إليه، وكذلك إن كانت الدار مستأجرة جاز لها الانتقال (2). وإنما قلنا ذلك في المتوفى عنها لحديث الفريعة (3) لما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي خرج في طلب أَعْبُدٍ له ضلوا فلما أدركهم قتلوه فأعتد في بيت أهلي، فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" (4). وإنما قلنا ذلك في المطلقة خلافًا للشافعي في المبتوتة (5) , لأنها معتدة كالمتوفي عنها، وإنما أجزنا لها ذلك إذا خافت عورة المنزل لأنها ضرورة وتغرير بالنفس أو بالمال، وكذلك إذا أخرجها ملاك المنزل لأن الخروج يلزمها. وإنما قلنا: إنها تقيم بالموضع الذي انتقلت إليه لأنه موضع يلزمها الاعتداد فيه كالأول، ولها أن تخرج في حوائجها نهارًا وفي الليل وقت هدوء الناس لضرورتها إلى التصرف في أمورها، وقد لا تجد نائبًا عنها، وذلك بخلاف المبيت لأنه ضرورة بها إلى المبيت.   (1) في (م): لا يمكن. (2) انظر: المدونة: 2/ 103 - 104، التفريع: 2/ 120، الرسالة ص 208، الكافي ص 295 - 296. (3) الفريعة: بالتصغير -بنت مالك بن سنان الأنصارية، أخت أبي سعيد الخدري، صحابية لها حديث قضى به عثمان، ويقال: لها الفارعة (تقريب التهذيب ص 752). (4) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في المتوفى عنها تنتقل: 2/ 723، والنسائي في الطلاق، باب: مقام المتوفى عنها زوجها .. (6/ 165)، وابن ماجه في الطلاق، باب: أين تعتد المتوفى عنها زوجها؟ (1/ 654)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها: 3/ 508، وقال: حسن صحيح. (5) انظر: الأم: 5/ 226 , الإقناع ص 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 931 باب: [النفقة والسكنى للمطلقة الرجعية] والمطلقة الرجعية لها النفقة والسكنى (1) لثبوت الزوجية بينهما وأحكامها من لحوق الإيلاء والظِهار والطلاق والتوارث. فصل [1 - منع النفقة عن المبتوتة]: ولا نفقة للمبتوتة إذا لم تكن حاملًا خلافًا لأبي حنيفة (2) لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (3)، فإذا انتفى الشرط وهو الحمل انتفى الوجوب، ولنفيه صلى الله عليه وسلم النفقة لفاطمة بنت قيس وكانت مبتوتة (4)، ولأنه نوع من البينونة كالموت، وكذلك المختلعة مثلها. فصل [2 - النفقة للمطلقة الحامل]: وللمطلقة الحامل النفقة رجعية أو بائنة: أما الرجعية، فإن أحكام الزوجية ثابتة بينهما, ولأن النفقة ثابتة لها وإن لم تكن حاملًا فمع الحمل أولى، وأما البائن فلقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (5)، ولأن البينونة إنما تؤثر في سقوط النفقة في الزوجية وهذه النفقة للحمل وإن كان لا يصل إليه إلا من جهة الإنفاق على الأم، وهذا في الزوج   (1) في أحكام النفقة والسكنى انظر: المدونة: 2/ 105، 108، التفريع: 2/ 120، الرسالة ص 208، الكافي ص 295 - 296. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 225، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 86. (3) سورة الطلاق، الآية: 6. (4) أخرجه مسلم في الطلاق، باب: المطلقة البائنة لا نفقة لها: 2/ 1114. (5) سورة الطلاق، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 932 الحر، فأما العبد فلا تلزمه على حمل كان الحمل حرًّا أو رقًّا لأن نفقة الرق على مالكه والحر من فقراء المسلمين. فصل [3 - في عدم النفقة للملاعنة]: لا نفقة للملاعنة حاملًا كانت أو حائلًا (1) لأنها بائن بالفسخ حملها منتف عنه بلعانه فلا تلزمه النفقة على حمل ليس منه. فصل [4 - وجوب السكنى لكل مطلقة]: تجب السكنى لكل مطلقة مدخول بها (2) لأنه إن كانت رجعية فخصائص النكاح ثابتة بينهما ما خلا الوطء، وكذلك النفقة واجبة لها بالزوجية والسكنى تابع للنفقة، فأما البائن فلا نفقة لها ولها السكنى (3) خلافًا لابن أبي ليلى (4)، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (5)، وهذا عائد على المطلقات وخاص في المبتوتات، وقوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (6) ولأن السكنى لحرمة النسب ووجوب حفظه، وذلك لا يزول بزوال الزوجية ويفارق النفقة لأنها عوض من الاستمتاع وقد زال.   (1) انظر: التفريع: 2/ 114، الرسالة ص 108، الكافي ص 298. (2) انظر: المدونة: 2/ 108، التفريع: 2/ 120 - 121، الرسالة ص 208، الكافي ص 295 - 296. (3) فلا نفقة لها ولها السكنى: سقطت من (م). (4) ابن أبي ليلى: محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى مفتي الكوفة وقاضيها، أبو عبد الرحمن الأنصاري، أخذ عن الشعبي وعطاء ونافع العمري، وحدث عنه الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهما، كان نظيرًا لأبي حنيفة في الفقه (ت 148 هـ) (سير أعلام النبلاء: 6/ 310). (5) سورة الطلاق، الآية: 6. (6) سورة الطلاق، الآية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 933 فصل [5 - في عدم النفقة لمعتدة من وفاة]: لا نفقة لمعتدة من وفاة (1) لأنها قد بانت بموت الزوج، ولأن ملكه قد زال عنه بالموت، فلو وجبت لها النفقة بحق الزوجية لكانت تلزم في حق الورثة وهذا غير جائز. فصل [6 - سواء كانت المعتدة من وفاة حاملًا أو حائلًا]: وسواء كانت حاملًا خلافًا لمن حُكي عنه وجوب النفقة لها إذا كانت حاملًا (2) وإن نفقة الحمل ليست بدين ثابت مستقر بدليل أن أباه لو كان معسرًا لم يلزمه شيء وموته أبلغ في إعساره (3)، ولأنها تجب حالًا فحالًا، فلو أوجبناها بعد الموت لكان ذلك إيجابًا مبتدأ في حق الورثة وذلك غير جائز. فصل [7 - وجوب السكنى للمعتدة من وفاة]: والسكنى واجبة لها إن كانت الدار للميت مملوكة الرقبة أو المنافع خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لا سكنى لها (4) لقوله صلى الله عليه وسلم: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" (5)، ولأن ذلك يتعلق به حق الله؟ وحق الميت وحق النسب، فأشبه الكفن، وإن لم يكن للميت منزل كانت السكنى عليها ولم يلزم الورثة أن يسكنوها من أموالهم ولا من التركة. فصل [8 - إرضاع المرأة ولدها ما دامت زوجة لأبيه]: وعلى المرأة إرضاع ولدها ما دامت زوجة لأبيه إلا أن يكون مثلها لا يرضع إما لشرف أو علو قدر يعلم أن مثلها لا ترضع أو أن تكون سقيمة أو قليلة اللبن،   (1) انظر: المدونة: 2/ 110، التفريع: 2/ 112، الرسالة ص 208، الكافي ص 298. (2) في أحد قولي الحنابلة (انظر المغني: 7/ 608). (3) في (م): في اعتباره. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 226، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 93. (5) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 934 فعلى الأب حينئذ إرضاعه من ماله (1)، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزمها ذلك على كل وجه (2)، وقال أبو ثور فيما يحكي عنه: يلزمها على كل وجه (3). فدليلنا على لزومه لها إذا كانت بالصفة التي ذكرناها قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (4)، وهذا وإن كانت صيغته الخبر، فالمراد به الأمر، ولأن العرف جار بذلك في غالب أحوال الناس أن المرأة تلي بنفسها إرضاع ولدها من غير تكليف الزوج أجرة، وما جرى مجرى العرف به كان كالمشترط، ولأنه لو كان لا يقبل من غيرها للزمها إرضاعه لحق الولد وما يستحق على الإنسان ويجبر عليه لا يستحق عليه أجرة ألا ترى أنه لما لم يلزم الأجنبية ذلك كان لها الأجرة. ودليلنا علي أبي ثور أنها إذا كانت شريفة ومثلها لا ترضع فالعرف جار بأن الإرضاع على الزوج وعلى ذلك دَخَلا فلم يلزمها ما لم تدخل عليه إلا بشرط. فصل [9 - إذا كانت مثلها يرضع فطلقها الأب]: وإذا كان مثلها يرضع فطلقها الأب فلا يلزمها الإرضاع (5) إلا بأجرة إن دفع إليها لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (6)، ولأن المعنى الذي كان يوجب عليها ذلك هو الزوجية، وقد زالت فزال الحكم الواجب به.   (1) انظر: المدونة: 2/ 294، التفريع: 2/ 112، الرسالة ص 208، الكافي ص 297. (2) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 99، المهذب: 2/ 166. (3) انظر: المهذب: 2/ 166. (4) سورة البقرة، الآية: 233. (5) الإرضاع: سقطت من (ق). (6) سورة الطلاق، الآية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 935 فصل [10 - نفقة الحامل المتوفى عنها في رضاع ابنها]: وإذا أرضعت الحامل المتوفى عنها فرضاعها في مال الصبي (1)؛ لأن المرأة لا يلزمها إرضاع ولدها ولا النفقة عليه ولا يلزم الورثة ذلك لما نذكره فيما بعد وهو من فقراء المسلمين، فإن كان الصبي لا يقبل من غيرها ولا مال له لزمها إرضاعه لأن في ذلك إضاعته وإتلافه، وقد قال تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (2). ...   (1) انظر: المدونة: 2/ 294، التفريع: 2/ 112، الرسالة ص 208. (2) سورة البقرة، الآية: 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 936 باب: [في النفقة على الولد الصغير] تلزم الرجل نفقة ولده الصغير إذا كان فقيرًا (1) لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2)، وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (3)، وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: "تقول امرأتك: انفق عليَّ أو طلقني، ويقول عبدك: أنفق عليَّ أو بعني، ويقول ولدك: إلى من تكلني" (5)، فبيَّن أن النفقة تلزم لكل واحد ممن ذكر (6)، وأنه يحتج بما ذكره، ولا خلاف في ذلك (7). وإنما شرطنا الصغر لعجزهم عن التكسيب والتحيل لقوتهم. وشرطنا الفقر للاتفاق على أنه إن كان لهم مال لم يلزم أحد أن ينفق عليهم، فإذا بلغوا نظر، فإن كان سليمًا صحيحًا سقطت النفقة عن الغلام وإن بلغ مجنونًا أو زمنًا فالنفقة لازمة للأب عليه لأن ذلك يمنع التكسب ويحول دون التطلب فإن صح الزمن واستغنى الفقير سقطت نفقته ثم لا تعود إن عاد ذلك به لأن نفقته تجب باستصحاب الوجوب بالصغر دون الابتداء.   (1) في جملة أحكام النفقة على الأقارب انظر: المدونة: 2/ 247 - 251، التفريع: 2/ 112 - 113، الرسالة ص 209، الكافي ص 298 - 299. (2) سورة الطلاق، الآية: 6. (3) سورة الطلاق، الآية: 6. (4) سورة الإسراء، الآية: 31. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (782). (6) في (م): ذكرنا. (7) انظر: المغني: 7/ 582. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 937 فصل [1 - النفقة على البنت]: وأما البنت فالنفقة تلزم الأب عليها إلى أن تبلغ ويدخل بها زوجها خلافًا للشافعي في قوله: أن النفقة تسقط عنهن ببلوغهن (1) لأن أمرهن آكد من الذكور لأنهن لا يقدرن على التكسب إلا إذا تزوجن، فإذا تزوجت الابنة ولزم الزوج نفقتها ثم عادت إلى الأب لا يلزمه الإنفاق بعد سقوطه عنه. فصل [2 - عدم إلزام المرأة بالنفقة على ولدها]: ولا يلزم الأم النفقة على ولدها لا في حياة الأب ولا بعد موته لا في يسره ولا في عسره (2) خلافًا للشافعي (3)؛ لأن كل من لا يلزمها إرضاعه في بعض الأحوال إلا بعوض لم يلزمها الإنفاق عليه كالأجنبية، ولأن الإنفاق إذا وجب على شخص لم ينتقل إلى غيره، وكذلك إذا حال دونه حائل لا ترجع النفقة عليه ونفقة هذا الولد كانت لازمة للأب، فإذا فقد الأب أو أعسر لم يلزم غيره كما لا يلزم سائر الأقارب. فصل [3 - في نفقة الولد الموسر على أبويه المعسرين]: يجب على الولد الموسر النفقة على أبويه المعسرين (4) لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (5)، وقوله عَزَّ وجَلَّ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (6) ويلزمه النفقة على الفقير منهما، وإن كان صحيحًا خلافًا للشافعي (7) اعتبارًا بالزمانة، ولأن أمرهما آكد من أمر الولد، والمسلم والكافر في ذلك سواء.   (1) انظر: مختصر المزني ص 234، الإقناع ص 143. (2) انظر: المدونة: 2/ 248، التفريع: 2/ 112، الكافي ص 298. (3) انظر: الأم: 5/ 100، مختصر المزني ص 234، الإقناع ص 143. (4) انظر: المدونة: 2/ 248، التفريع: 2/ 114، الرسالة ص 309، الكافي ص 298. (5) سورة لقمان، الآية: 15. (6) سورة البقرة، الآية: 83. (7) انظر: مختصر المزني ص 234 - 235، الإقناع ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 938 فصل [4 - عدم وجوب النفقة على ولد الولد ولا على الجد]: والجد لا تلزمه النفقة على ولد الولد ولا يلزم ولد الولد الإنفاق على جدهم (1) خلافًا للشافعي (2) , لأن النفقة على الأقارب لا تجب انتقالًا، وإنما تجب ابتداء، ونفقة الجد لازمة للأب فلا تنتقل إلى ولده وكذلك نفقة الولد لازمة لأبيهم فلا تنتقل إلى جدهم. فصل [5 - عدم وجوب النفقة على الأخوة والأعمام وولد الأخوة وغيرهم ..]: لا تجب النفقة على من سوى هؤلاء من الأقارب كالأخوة والأخوات والأعمام والعمات وولد الأخوة وغيرهم (3) خلافًا لأبي حنيفة في إيجابه النفقة على كل ذي رحم محرم (4)، ولأن كل قرابة تعرف عن ولادة مباشرة لم يستحق بها نفقة كبني العمومة. ...   (1) انظر: المدونة: 2/ 250 - 251، التفريع: 2/ 113، الرسالة ص 209، الكافي ص 299. (2) انظر: الأم: 5/ 100، الإقناع ص 143. (3) انظر: التفريع: 2/ 113، الرسالة ص 209، الكافي ص 299. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 223 - 224، مختصر القدوري -مع شرح الميداني: 3/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 939 باب: [في الحضانة (1)] إذا طلق الرجل امرأته فالحضانة لأمهم (2) لقوله صلى الله عليه وسلم للأم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (3)، ولأن المراعاة في ذلك حفظ الولد والإشفاق عليه والقيام بمصالحه ومراعاة أموره والأم أقوم (4) بذلك من الأب ومن كل أحد. فصل [1 - الحضانة حق للأم أو للولد]: واختلف عنه هل هي حق للأم أو للولد عليها (5)، فإذا قلنا: إنها حق للأم فلقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (6)، ولأنها (7) يلحقها ضرر بالتفرقة بينها وبين ولدها مع كونها أحن عليه وأرفق به. وإذا قلنا: إنها حق للولد فلأن الغرض حفظ الصبي ومراعاته ومصلحته دون مراعات أمر الأم، ألا تري أنه يؤخذ منها إذا تزوجت وإن لحقها الضرر بأخذه وكذلك إذا غاب الأب غيبة استقرار.   (1) الحضانة: أصله من حضن الطائر فراخه إذا غطاها بجناحيه، وفي الاصطلاح هي حفظ الولد في مبيته ومؤنة طعامه ولباسه ومضجعه وتنظيف جسمه (انظر غرر المقالة ص 208، حدود ابن عرفة ص 230). (2) انظر: المدونة: 2/ 244 - 247، التفريع: 2/ 70 - 72، الرسالة ص 208، الكافي ص 296 - 297. (3) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: من أحق بالولد: 2/ 707، والحاكم: 2/ 207، وقال: صحيح الإسناد. (4) في (ق): أقوى. (5) انظر: المدونة: 2/ 244، التفريع: 2/ 71، الكافي ص 296. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) في (م) و (ر): ولأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 940 فصل [2 - انقطاع حضانة الأم بزواجها]: إذا تزوجت الأم، فما لم يدخل بها فهي أحق به، فإن دخل بها انقطعت حضانتها (1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (2)، ولأن الصبي يلحقه ضرر ويتكره الزوج له وتضجره به، ولأن الأم تدعوها الضرورة إلى التقصير في تعهده طلبًا لمرضاة الزوج، وكان ذلك الأب يضر بالصبي، فلذلك زال حقها من الحضانة فإن طلقها أو مات عنها كان لها أخذه لزوال المانع. فصل [3 - متى تنقطع الحضانة]: يحضن الغلام إلى أن يبلغ والجارية إلى أن تنكح ويدخل بها زوجها (3) خلافًا للشافعي في قوله: أن حضانتها تسقط ببلوغها (4)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما لم تنكحي" (5) فأطلق، ولأن الابنة تحتاج إلى الحفظ والمراعات إلى أكثر مما يحتاج إليه الابن وبلوغها لا يزيل ذلك لأنها معرضة للأزواج وبنفس بلوغها لا تعرف مصالح نفسها والأزواج يرغبون فيمن يكنفها أبوها وأمها ومن لم تخرج عن حضانتهما ومراعاتهما أكثر من رغبتهم في المتخلية بنفسها، فكانت المصلحة لها في تبقية حق الحضانة عليها. فصل [4 - الأب يخرج إلى بلد آخر ويريد أخذ الطفل معه]: إذا أراد الأب الخروج إلى بلد آخر وأراد أخذ الطفل معه، فإن كان لحاجة أو تجارة فليس له أخذه معه (6) لأن كونه مع أمه أصلح وأحوط عليه، وإن كان لنقلةٍ   (1) انظر: المدونة: 2/ 244 - 245، التفريع: 2/ 70 - 71، الرسالة ص 208، الكافي ص 296. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) انظر: المدونة: 2/ 246، التفريع: 2/ 72، الكافي ص 297. (4) انظر: الأم: 5/ 92 - 93، الإقناع ص 161. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) النظر: المدونة: 2/ 236، التفريع: 2/ 70، الكافي ص 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 941 عنه وإقامةٍ بغيره فله أخذه والانتقال به (1)، ولا مقال للأم لأن كونه مع أبيه على هذا الوجه أحفظ له. فصل [5 - انتقال الحضانة من الأم إلى أمها]: إذا انتقلت الحضانة عن الأم بموتها أو بتزويجها أو بعجزها فإنها تنتقل إلى أمها وهي جدة الطفل (2) إن كانت غير ذات زوج إلا أن يكون الزوج جد الصبي فلا يسقط حق الجدة من الحضانة لأن جده لا يضجر به ولا يؤدي كونه معها إلى تقصير في حق الطفل، والأجنبي بخلاف ذلك ثم من بعد أم الأم إلى الخالة، فإن لم يكن من جهة الأم أحد انتقلت إلى جهة الأب، فكانت أم الأب وأخته وهي عمة الصبي، وكذلك أخوات الصبي يثبت لهن حق الحضانة لإشفاقهن عليه وقُدِّم قرابة الأم على قرابات الأب كما قدمت الأم على الأب وقدمت الجدة على الخالة لأنها أقرب وهي والدة وكذلك قدمت (3) أم الأب على العمة لأنها والدة. فصل [6 - في ترتيب حق الحضانة]: واختلف إذا انتقلت الحضانة عن جهة الأم أيهما أولى الأب أو قراباته، فإذا قلنا: إن الأب أولى فلأن به يدلون فالأصل أولى، وإذا قلنا: إنهن أولى فلأنهن وإن كن يدلين به فهن أرفق بالصبي وألطف تأتيًا له في مصالحه وتعهده، ولأن الأب لا يمكن أن يحفظه بنفسه لأن ذلك لا يليه الرجال بنفوسهم وإنما يستنيبون غيرهم من النساء فكان النساء أولى (4).   (1) الانتقال به: سقطت من (م) ومن (ر). (2) في جملة أحكام ترتيب الحضانة انظر: المدونة: 2/ 245 - 246، التفريع: 2/ 71، الرسالة ص 208، الكافي ص 296. (3) في (م): قدم. (4) انظر المراجع التي سبق ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 942 فصل [7 - في انتقال الحضانة إلى عصبة الطفل]: فإن لم يكن أحد (1) من قرابات الأم ولا الأب كان حق الحضانة منتقلًا إلى عصبة الطفل لأن إضاعته غير جائزة، وقد لزمهم بحكم القرابة حفظه ومراعاته كما يثبت لهم حق في ميراثه وعليهم في العقل عنه. ...   (1) لم يكن أحد: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 943 باب [في استبراء الأَمَة] ومن ملك أمَة يوطأ مثلها حاملًا من غيره بأي وجه ملكها فلا يجوز له وطؤها ولا التلذذ بشيء (1) منها حتى تضع، وإن كانت حائلًا حتى يستبرئها بحيضة إن كانت ممن تحيض أو بثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض وإن ارتفعت حيضتها وارتاب لذلك فتسعة أشهر، وليس عليه استبراء من لا يوطأ مثلها ولا من يعلم براءة رحمها بأن كانت في حيازته فحاضت عنده (2). وإنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض" (3)، وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره" (4). وإنما قلنا: إنه لا يتلذذ بشيء منها لأن كل معنى يمنع استباحة الوطء منع التلذذ بما دونه إذا كان لحق الغير أصله الأجنبية. وإنما قلنا: إن حيضة واحدة تكفي لأنها تدل على براءة الرحم في الغالب ولا يتعلق بها عبادة كالعدة.   (1) بشيء: سقطت من (م). (2) انظر: المدونة: 2/ 345 - 349، التفريع: 2/ 121 - 122، الرسالة ص 207، الكافي ص 300. (3) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: وطء السبايا: 2/ 614، والحاكم: 2/ 195 وقال: صحيح على شرط مسلم. (4) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: في وطء السبايا: 2/ 615، والترمذي في باب: ما جاء الرجل يشتري الجارية: 3/ 437، وأحمد: 4/ 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 944 وإنما قلنا: إن كانت لا تحيض فثلاثة أشهر خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (1) في قولهما أنها تستبرأ بشهر لأن كل من عدم منها الحيض وخيف من جهتها الحمل فلا يجوز وطؤها قبل ثلاثة أشهر أصله المعتدة، ولأن بالشهر الواحد لا يتبين أمارة الحمل لأن أقل ما يتبين فيه ثلاثة أشهر. وإنما قلنا: إذا ارتابت بارتفاع الحيض جلست تسعة أشهر لأنها الغالب من مدة الحمل والبراءة تقع بها في الغالب. وإنما قلنا: إن من لا يوطأ مثلها للصغر أو للهرم فلا يلزم استبراؤها خلافًا للشافعي (2) لأن العلم البت (3) حاصل ببراءة رحمها فلم يحتج إلى استبراء كوضع الحمل. وإنما قلنا: إن من هي في حيازته لا استبراء عليه لأنه عالم ببراءة رحمها قبل انتقال الملك فلا حاجة به إلى تجديده. فصل [1 - استبراء الأمَة قبل بيعها]: ولا يجوز لمن وطيء أمَة أن يبيعها قبل استبرائها لأنه لا يأمن أن يكون رحمها مشغولًا بمائه فيكون بائعًا لولده ولأم ولده، ولا يجوز للمشتري أن يطأها حتى يستبريها لما ذكرناه، فإن اتفقا على استبراء واحد جاز لأن الغرض الذي له يراد يحصل وهو العلم ببراءة الرحم (4). فصل [2 - حرمة الوطء والتلذذ بالأمَة في عدتها من طلاق أو وفاة]: ولا يجوز لمبتاع أمَة في عدة من طلاق أو وفاة أن يطأها أو يقبلها أو يتلذذ بشيء منها حتى تخرج من عدتها لأنه لما لم يجز نكاحها في هذه الحال لم يجز وطؤها بالملك كما لو كانت تحت زوج (5).   (1) انظر مختصر الطحاوي ص 218، الإقناع ص 154. (2) انظر: الأم: 5/ 214، الإقناع ص 154. (3) البت هو القطع (غرر المقالة ص 202)، وفي (ر): الثابت. (4) انظر: المدونة: 2/ 2/ 346، التفريع: 2/ 122 - 123، الرسالة ص 201، الكافي ص 300. (5) انظر: المراجع السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 945 باب: في الرضاع (1) الأصل في التحريم بالرضاع (2) في الأعيان المحرمات قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (3)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" (4)، وقوله: "إنما الرضاعة من المجاعة" (5) ولإجماع (6) الأمَة على ذلك (7). فصل [1 - القدر المحرِّم من الرضاع وشرطه]: وإذا وصل إلى جوف الرضيع شيء من لبن المرأة برضاع أو وجور (8) أو ما يعلم وصوله إلى الجوف من سعوط (9) أو حقنة في مدة الحولين فقط دون زيادة عليهما (10) في رواية ذكرها محمَّد بن عبد الحكم أو زيادة يسيرة في رواية أبيه (11)   (1) سقط عنوان الباب من (م). (2) الرضاع: قال ابن عرفة: الرضاع عرفًا: وصول لبن آدمي بمحل مظنة غذاء (حدود ابن عرفة ص 223). (3) سورة النساء، الآية: 23. (4) أخرجه البخاري في الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب: 3/ 149، ومسلم في الرضاع: 2/ 1068. (5) أخرجه البخاري في النكاح، باب: من قال: لا رضاع بعد حولين: 6/ 125، ومسلم في الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة: 2/ 1078. (6) في (ق): ولأن الإجماع. (7) انظر: المحلي: 11/ 144، شرح مسلم: 6/ 202، فتح الباري: 9/ 115. (8) الوجور: هو أن يصب اللبن في الحلق عنوة (الفواكه الدواني: 2/ 59). (9) السعوط: هو أن يصب اللبن في الأنف (الفواكه الدواني: 2/ 59). (10) في (م): عليها. (11) في (م): ابنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 946 أو بزيادة الشهر ونحوه في رواية عبد الملك أو الشهرين في رواية ابن القاسم من ذات لبن من ولادة من حلال أو حرام أو من درور من غير الولادة من صغيرة أو يائسة أو حية أو ميتة منفردًا بنفسه أو مختلطًا بما لم يستهلك فيه، فإنه يحرم ويصير به المرضع ابنًا للمرضعة يحرم به نكاحها ولا عدة (1) عليها، وتنتشر به الحرمة بينه وبين من له اللبن، ولا يجوز له إن كانت أنثى نكاحها ولا نكاح من لو كان ابنها من النسب (2) لحرم عليه (3). فصل [2 - وجه تحريم الرضاع بالقليل من اللبن]: وإنما قلنا: إن تحريم الرضاع يقع بالقليل من اللبن من غير حد خلافًا للشافعي في قوله: لا يحرم إلا خمس رضعات (4)، لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (5) فأطلق، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" (6)، وقوله: "إنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم" (7)، وهذا يحصل للقليل بقسطه كما يحصل للكثير بقسطه، وقوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة" (8)، وقد ثبت أن التحريم بالنسب لا يفتقر إلى عدد (9) من الولادة، وكذلك الرضاع، ولأن كل معنى أوجب حرمة مؤبدة   (1) ولا عدة: سقطت من (ق) ومن (ر). (2) في (م): من النساء. (3) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 2/ 288، التفريع: 2/ 68 - 69، الكافي ص 242 .. (4) انظر: الأم: 5/ 31، مختصر المزني ص 227. (5) سورة النساء، الآية: 23. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: رضاعة الكبير: 2/ 549، من حديث أبي موسى الهلالي عن أبيه قال أبو حاتم: مجهولان، وأخرجه البيهقي: 7/ 461 من وجه آخر (تلخيص الحبير: 4/ 4). (8) سبق تخريج الحديث قريبًا. (9) في (م): عدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 947 فالمعتبر وجوده من غير عدد كالعقد والوطء واعتبارًا بالخمس بقلة الارتضاع من أدمية في مدة الحولين قبل الاستغناء بالطعام. فصل [3 - في أن الوجور يحرم]: وإنما قلنا: إن الوجور يحرم خلافًا لداود (1) لأن الرضاع عبارة عن وصول اللبن إلى جوف الطفل على وجه التغذية وأحوال الأطفال تختلف، فمنهم من يلتقم الثدي، ومنهم من لم يلتقمه فيوجر بالمسعطة، ومنهم من يوجر بالثدي نفسه، وكل ذلك رضاع واعتبارًا بوصوله إلى جوفه بالتقام الثدي. فصل [4 - التحريم بالسعوط]: فأما السعوط قال ابن القاسم: إن وصل إلى الجوف حرم وأطلق ابن حبيب أنه يحرم وهو قول الشافعي (2)، وقال غيره: أنه لا يحرم، وليس يقول لأحد من أصحابنا: إنه إن علم وصوله إلى الجوف لم يحرم لأن وصول اللبن إلى الجوف في مدة الحولين والحاجة إلى التغذية به يوجب (3) التحريم كالارتضاع، وقول ابن القاسم أصح من اعتبار الإطلاق، ولأن الاعتبار في الرضاع بما يقع الاغتذاء به، ولأن اللبن إذا لم يصل إلى الجوف كان وصوله إلى الدماغ كجريانه على ظاهر (4) البدن. فصل [5 - التحريم بالحقنة]: فأما الحقنة فأطلق ابن حبيب التحريم بها وعلق ابن القاسم الجواب فيها بالعلم بوصول اللبن إلى الجوف وهذا هو الصحيح إن أمكن ذلك ويبعد أن يصل إلى موضع يحصل به الغذاء والله أعلم.   (1) انظر: بداية المجتهد: 6/ 438، المغني: 7/ 538. (2) انظر: الأم: 5/ 29، مختصر المزني ص 227. (3) في (م): فوجب. (4) في (م): سائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 948 فصل [6 - الرضاعة المحرمة التي تكون في الحولين]: وإنما شرطنا أن يكون في الحولين خلافًا لمن قال: إن رضاعة الكبير تحرم (1)، لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" (3) وقوله: "لا رضاع إلا بما فتق الأمعاء" (4)، وقوله: "الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم" (5)، وكل ذلك منتف عن رضاعة الكبير. فصل [7 - في عدم مراعاة ما زاد على الحولين]: ووجه قوله: إنه لا يراعى زيادة على الحولين بوجه قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (6)، فدل على أن ما زاد عليها ليس من الرضاعة المعتبرة، ولأنه رضاع بعد حولين أصله بعد ستة أشهر، ولأن ذلك حسم للباب: وإن لا لم يكن بعض المدة الزائدة بأولى من بعض. فصل [8 - في وجه تجويز الزيادة اليسيرة]: ووجه تجوز الزيادة اليسيرة أن ذلك في حكم الحولين لأن المرضع قد لا يستغنى بالطعام لضعف قوته عن الاغتذاء بغيره، فكان ما قاربها في حكمها لهذا المعنى وليس لما قدر بشهر أو شهرين دليل يتحرز.   (1) كانت عائشة - رضي الله عنها - ترى رضاعة الكبير تحرم، ويروى هذا عن عطاء والليث وداود (المغني: 7/ 542). (2) سورة البقرة، الآية: 233. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (946). (4) أخرجه الترمذي في الرضاع، باب: ما جاء ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر .. (3/ 458)، وقال: حسن صحيح. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (947). (6) سورة البقرة، الآية: 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 949 فصل [9 - إذا فصل في الحولين واستغنى عن اللبن بالطعام]: إذا فصل في الحولين واستغنى عن اللبن (1) بالطعام لم يحرم ما ارتضع في الحولين (2) بعد ذلك (3) خلافًا للشافعي (4) وابن حبيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" (5)، وسائر الأخبار، ولأنه مستغنى بالطعام أصله بعد الحولين. فصل [10 - التسوية بين اللبن إذا كان حادثًا عن وطء حلال أو حرام]: وإنما سوينا في ذلك بين أن يكون اللبن حادثًا عن وطء حلال أو حرام لعموم الظواهر والأخبار، ولأن الاعتبار بوقوع الغذاء به وذلك يستويان فيه. فصل [11 - التسوية بين درور اللبن من الموطوءة وغيرها]: وإنما سوينا بين درور اللبن ممن لم توطأ وبين الموطوءة واليائسة والحادث عن وطء لما ذكرناه من العموم، وللمعنى المعتبر وهو حصول الغذاء به. فصل [12 - التسوية بين لبن الحية ولبن الميتة]: وإنما سوينا بين لبن الحية والميتة خلافًا للشافعي (6)، لعموم الظواهر والأخبار، ولأنه مؤثر في التحريم وصل إلى جوف المرضع في مدة الرضاع وحاجته إلى الاغتذاء به، فوجب أن ينشر الحرمة أصله اللبن الذي يؤخذ (7) منها حال الحياة.   (1) عن اللبن: سقطت من (م). (2) في الحولين: سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 2/ 288، التفريع: 2/ 69، الكافي ص 242. (4) انظر: الأم: 5/ 26 - 29، مختصر المزني ص 227. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (946). (6) انظر: الأم: 5/ 31، مختصر المزني ص 227 - 228. (7) في (م): يوجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 950 فصل [13 - إذا اختلط اللبن بما لم يستهلك فيه]: وإنما قلنا: إنه يحرم وإن اختلط بما لم يستهلك فيه لأن الغلبة للبن، ولأن الغذاء يحصل به، فأما إذا استهلك فيما خالطه من ماء أو مائع أو دواء أو طعام، فعند ابن القاسم أن التحريم لا يقع به وهو قول أبي حنيفة (1)، وعند ابن حبيب وذكره عن جماعة من أصحابنا أنه يحرم وهو قول الشافعي (2). فوجه قول ابن القاسم أن استهلاكه يبطل حكمه بدليل أن الحالف لا يشرب لبنًا لا يحنث لشربه، ولأن تعليق التحريم باللبن كتعليق وجوب الحد بشرب الخمر ثم قد ثبت أن النقطة من الخمر إذا استهلكت في الماء بأنه لا يتعلق بشربه حد فكذلك اللبن. ووجه قول ابن حبيب أن اختلاط اللبن بغيره لا ينفى حكمه كما لو لم يستهلك فيه، ولأن الغذاء يحصل للطفل بالمختلط كله. فصل [14 - تحريم تزوج المرضعة بمن أرضعته]: وإنما قلنا: إنه يحرم على المرضعة التزوج بمن أرضعته وعلى من له اللبن أن يتزوج الأنثى التي أرضعت (3) من لبنه لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (4)، وقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (5)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" (6)، فإذا أرضعت المرأة صبيًّا حرمت هي عليه وكل من ولدته قبل الذي ارتضع من لبنها أو بعده لأنهن أخواته، وتحرم عليه أخت المرضعة لأنها خالته، وأخت الزوج الذي   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 222، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 34. (2) انظر: مختصر المزني ص 227، الإقناع ص 160. (3) في (ق): ارتضعت. (4) سورة النساء، الآية: 23. (5) سورة النساء، الآية: 23. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (946). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 951 له اللبن لأنها عمته، وبناته لأنهن إخوانه من أبيه، وقس على هذا كل ما يرد عليك من التحريم على ما يحرم من النسب، ولا يحرم على أخي المرتضع بنات المرضعة لأنهن لسن بأخوات له، وإنما هن أخوات أخيه. فصل [15 - لبن الفحل]: ولبن الفحل يحرم ويتصور مع افتراق الأمَيْن: كرجل له امرأتان ترضع إحداهما صبيًّا والأخرى صبية فيحرم أحدهما على الآخر لأنهما أخوان للأب (1) ومن الناس من ذهب إلى أن لبن الفحل لا يحرم (2)، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة" (3)، وحديث عائشة رضي الله عنها لما أبت أن تأذن (4) لعمها من الرضاعة وقالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه عمك فليلج عليك" (5)، ولأنهما يشتركان في اللبن، ولأنه أحد الأبوين فلم يعتبر اجتماعهما فيه، ولأنه تحريم يثبت بالنسب فثبت بالرضاع كتحريم الأمومة. فصل [16 - سفر المرضعة مع من أرضعته]: وتسافر المرضعة مع من أرضعته لأنه ذو (6) محرم لها كالابن من الولادة (7).   (1) انظر: المدونة: 2/ 289، التفريع: 2/ 69، الكافي ص 243. (2) رخص فيه سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن يسار وعطاء بن يسار والنخعي وأبو قلابة (المغني: 6/ 572). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (946). (4) في (م): لما أتت لتأذن. (5) أخرجه البخاري في الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب .. (3/ 149)، ومسلم في الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل (2/ 1079). (6) ذو: سقطت من (م). (7) انظر: التفريع: 2/ 70، الكافي ص 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 952 فصل [17 - حكم إرضاع المطلقة بعد دخولها بزوج ثان من اللبن الأول]: وإذا أرضعت المرأة صبيًّا بعد أن طلقت وتزوجت فوطئها الزوج الثاني واللبن متصل غير منقطع كان ابنًا للزوجين لأن اللبن لهما، فإن انقطع اللبن الأول ثم حدث لبن ثان كانت الحرمة للثاني دون الأول لانفراده باللبن (1)، والله أعلم. (آخر كتاب النكاح والحمد لله كثيرًا) (2). ...   (1) انظر: التفريع: 2/ 69، الكافي ص 243. (2) ما بين قوسين: سقط من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 953 كتاب البيوع (1) الربا (2) في المبيعات يكون من وجهين وهما التفاضل والنساء (3). فأما التفاضل فالذي ورد النص به وانعقد الإجماع عليه (4): هو في الجنس الواحد من الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" (5)، وقوله: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين" (6)، وقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل ولا تشفوا (7) بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض" (8)، وقال ابن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم (9)، وما روي عن ابن عباس في ذلك فقد ثبت رجوعه عنه (10).   (1) البيع لغة: هو الإخراج، واصطلاحًا قال ابن عرفة: البيع الأعم: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة (انظر: حدود ابن عرفة ص 232، والفواكه الدواني: 2/ 77). (2) الربا لغة: هو الزيادة والنماء والعلو (معجم مقاييس اللغة: 2/ 483). (3) التفاضل: وهو الزيادة، والنساء: وهو التأخير (الفواكه الدواني: 2/ 78). (4) انظر: المجموع: 9/ 442، نيل الأوطار: 5/ 189. (5) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا: 3/ 1212. (6) أخرجه أحمد: 2/ 379، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني (مجمع الزوائد: 4/ 105). (7) تشفهوا: أي تزيدوا، وقد تستعمل في النقص أيضًا (المصباح المنير ص 317). (8) أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة: 3/ 30، ومسلم في المساقاة، باب: الربا: 3/ 1209. (9) أخرجه البيهقي: 5/ 279. (10) وقد نقل أنه اختلف في رجوعه (انظر عبد الرزاق: 8/ 118). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 955 فصل [1 - منع بيع كل جنس بشيء من جنسه]: وموضوع كل جنس عن ذلك لا يجوز بيعه بشيء من جنسه إلا مثلًا بمثل (1) خلافًا لمن أجاز أن يستفضل بينهما قيمة الصياغة (2)، للظواهر التي ذكرناها، وروي في هذا: أن صائغًا سأل ابن عمر فقال: أصوغ الذهب ثم أبيعه بأكثر من وزنه واستفضل فيه قدر عمل يدي، فنهاه ابن عمر عن ذلك، وقال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم (3)، ونحو هذا ما جرى بين أبي الدرداء (4) ومعاوية في سقاية الذهب أو الورق (5)، وكتاب عمر رضي الله عنه إلى معاوية رحمه الله: لا تبع ذلك إلا مثلًا بمثل وزنًا بوزن (6)، ولأنه ذهب بذهب فأشبه المضروب والمصُوغ بالمصوغ. فصل [2 - تحريم التفاضل في المسميات]: وأما الأربعة المسميات فالأصل فيه (7) حديث عبادة (8) وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق ولا البر بالبر   (1) انظر: المدونة: 3/ 99 - 100، التفريع: 2/ 125، الرسالة ص 211، الكافي ص 302 - 303. (2) أجازه الحنابلة (انظر: المغني: 4/ 11). (3) سبق تخريج هذا الخبر قريبًا. (4) أبو الدرداء: عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري، صحابي جليل، أول مشاهده أُحُد، وكان عابدًا، مات في أواخر خلافة عثمان، وقيل: عاش بعد ذلك (تقريب التهذيب ص 434). (5) أخرجه البيهقي: 5/ 280. (6) أخرجه البيهقي: 5/ 292. (7) في (م): فيها. (8) عبادة بن الصامت: بن قيس الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد المدني، أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار (تقريب التهذيب ص 292). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 956 ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" (1)، (ولا خلاف (2) في تحريم التفاضل في الجنس من هذه المسميات) (3)، وفي طريق آخر: "البر بالبر مدًّا بمد والشعير بالشعير مدًّا بمد والملح بالملح مدًّا بمد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى" (4) ولا خلاف في تحريم التفاضل في الجنس من هذه المسميات (5). فصل [3 - في كون التحريم متعلق بمعاني هذه المسميات دون أسمائها]: التحريم متعلق بمعاني (6) هذه المسميات دون أسمائها (7) خلافًا لداود ونفاة القياس في قصرهم ذلك عليها دون تعديه إلى الفروع (8)، فيتصور الخلاف معهم في الأرز والذرة والدخن والزبيب وغير ذلك مما لم يتناوله النص باسمه: فعندنا فيه الربا وعندهم لا ربا فيه، ودليلنا قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (9)، والربا الزيادة في اللغة (10)، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثل (11) فعم، وقوله: "إذا اختلف الجنسان   (1) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: الربا: 3/ 1210. (2) انظر: الإجماع ص 118، المجموع: 9/ 444، المحلي: 9/ 502، المغني: 4/ 4. (3) ما بين قوسين سقط من (م). (4) أخرجه البيهقي: 5/ 291 بإسناد جيد (إرواء الغليل: 5/ 196). (5) انظر: المراجع التي سبق ذكرها قريبًا. (6) معاني: سقطت من (ق). (7) انظر في هذا المدونة: 3/ 99، 173، التفريع: 2/ 125 - 126، الرسالة ص 211، الكافي ص 303. (8) انظر: المحلي: 9/ 588. (9) سورة البقرة، الآية: 275. (10) كما سبق تعريفنا له. (11) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل: 3/ 1214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 957 فبيعوا كيف شئتم" (1)، فدل أن اتفاقهما مانع من التفاضل، وفي حديث عبادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب .. إلى أن قال: حتى الملح بالملح" (2)، فجعل غاية لما ابتدأ به وهو الذهب والفضة والبر، فدل على أن ما بينهما في حكمها, ولأن ذلك مبني على صحة القياس وثبوت التعليل. فصل [4 - ثبوت تعليل هذه المسميات وحصر هذه العِلَّة]: إذا ثبت أن هذه المسميات معللة وأن التحريم يتعلق بمعانيها، فالعِلَّة فيها (3) عندنا: أنها مأكولة مدخرة للعيش غالبًا هذا حصر أوصاف العلة، ومن أصحابنا من يعبر عنها بالقوت وما يصلحه والمعنى واحد (4)، وقال أبو حنيفة العلة الكيل والوزن مع الجنس (5)، وقال الشافعي: العلة كونه مطعومًا جنسًا (6). فدلينا: أنه قد ثبت أن نصه صلى الله عليه وسلم على البر وما ذكر معه ليفيد به معنى لا يعلم مع عدمه ولا مع نصه على غيره، فلو أراد مجرد الأكل على ما يقوله الشافعي لاكتفى بالنص على واحد منها (7)، إذ الأكل متساو في جميعها وليس يختلف عنده، فكان يذكر أصنافه لينبه (8) على صنف بما ينص عليه منه، وكذلك لو أراد الكيل بمجرده لكان يكتفي أن ينص على واحد منها (9) إذ الكيل متساو في جميعها، وعلى قولنا: لا يعرى نصه على كل واحد منها من فائدة فنصه على البر لينبه به على كل مقتات تعم الحاجة إليه وتقوم الأبدان بتناوله،   (1) هو جزء من الحديث السابق. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) فيها سقطت من (م). (4) انظر: المراجع التي ذكرناها في أول الفصل السابق. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 75، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 37. (6) انظر: الأم: 3/ 15 - 18، مختصر المزني ص 77، الإقناع ص 95. (7) في (م): منهما. (8) لينبه: سقطت من (م). (9) في (م): منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 958 ونصه على الشعير ليبين مشاركته للبر في ذلك، وإن انفرد بصفة بكونه علفًا وإنه يكون قوتًا حال الاضطرار فنبه على الذرة والدخن وغيرهما، ونصه على التمر (1) لينبه به على كل حلاوة مدخرة غالبًا لأصل المعاش كالعسل والزبيب والسكر وما في معناه، ونصه على الملح تنبيهًا (2) على أن ما يصلح المقتات من المأكولات في حكمها كالأبازير (3) وما في معناها فبان صحة ما اخترناه, لأن تنبيهه صلى الله عليه وسلم على العلل من أقوى ما يستدل به عليها, ولأنه قال: "حتى الملح"، فجعله غاية بينه وبين ما نص عليه، وإنما هو غاية لأدناه وليس يضاف بالدناءة إلى الأقوات فقط، ولأن الطعم مراعى عندنا (وغير مراعي عندهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (4) فوجب اعتبار الطعام ولأن التفاضل يحرم) (5) عندنا في قليل المنصوص عليه وكثيره وعندهم لا يحرم إلا فيما يتأتى كيله فيجوز عندهم الكف من الحنطة بالكفين والعموم يمنعه، وربما سلك في ذلك طريق القياس فقيل: لأن كل جنس حرم التفاضل في كثيره حرم في قليله كالذهب والفضة، ولأن علتهم فاسدة لأنها ترفع الأصل الذي انتزعت منه وهو عموم الخبر في معنى التفاضل، والعلة إذا عادت لمخالفة أصلها وجب فسادها, ولأن الشيء الواحد إذا كان علمًا على حكم لم يجز أن يكون علمًا على ضده والكيل علم (6) على التحليل فلم يكن علة للتحريم، ولأن علتنا أرجح لأن الربا إنما حرم حراسة للأموال وحفظًا لها، فكان في أغلى المكيلات كما كان في أغلى الموزونات وهو الذهب والفضة.   (1) في (ق): الثمن. (2) في (م): ينبه. (3) الأبازير: مفردها بزر وهو كل حب يبذر، وقال ابن فارس: هو شيء من الحبوب (معجم مقاييس اللغة: 1/ 246). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (957). (5) ما بين قوسين سقط من (م). (6) في (م): علمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 959 فصل [5 - في علة الذهب والفضة]: فأما علة الذهب والفضة فكونهما أصول الأثمان وقيم المتلفات، وهذه العلة عندنا مقصورة والتعليل بها سائغ؛ لأن قصد التعدي في العلة ليس فيه أكثر من تعذر القياس وذلك لأن يخرجها عن أن تكون علة كما لو نص على كونها علة وعلى منع القياس، ولأن قصرها لا يفيد منع الحمل للفرع عليها، وذلك مستفاد بالتعليل كالتعدي، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما نص على الذهب والفضة ولم ينص على ما سواهما دل على أنهما مختصان بذلك؛ لأنه ليس مشارك لهما في وضعهما الأخص، ونفرض الكلام في أن الرصاص والنحاس لا ربا فيه فتقول: كل جنس جاز (1) التفاضل بين مهمله ومعموله، فلا ربا فيه أصله التراب والقصب. فصل [6 - ما شارك في علة هذه المسميات يأخذ حكمها]: إذا ثبت أن العلة في المسميات الأربعة ما ذكرناه، فكل ما شاركها في علتها مشارك لها في حكمهما كالأرز والذرة والدخن والقطنية (2) واللحوم والألبان والخلول الأباير وسائر الفواكه المدخرة للقوت والتمر والزبيب والزيتون وسائر ما في معناها، وكذلك العسل والسكر، ولا ربا في تفاح ولا في بطيخ ولا خيار ولا قثاء ولا ما لا يدخر (3). فصل [7 - تحريم التفاضل في الجنس الواحد دون الجنسين]: والتفاضل يحرم في الجنس دون الجنسين لقوله صلى الله عليه وسلم: "البر   (1) جاز: سقطت من (ق). (2) القطنية: هي كل ما له غلاف كالفول والعدس والحمص وغيرها (الفواكه الدواني: 1/ 336). (3) انظر: المدونة: 1/ 177 - 179، التفريع: 2/ 126، الرسالة ص 211، الكافي ص 312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 960 بالبر والشعير بالشعير (1) والتمر بالتمر والملح بالملح" (2)، فقصر التحريم على الجنس بجنسه، وقال: "فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم" (3) وهذا نص. فصل [8 - الربا في الجنس الواحد]: والحنطة والشعير والسلت في حكم الواحد لا يجوز التفاضل في بيع بعضها ببعض (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إنها أجناس (5)، لقوله: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (6)، ولأنهما متقاربة في المنبت والمحصد وأن أحدهما لا يكاد ينفك، فكان كالعلس (7) مع الحنطة. فصل [9 - ما تجمع أنواعه في الزكاة فإنه صنف واحد]: وكل ما تجمع أنواعه في الزكاة فإنه صنف واحد في البيوع، فالتمر وألوانه صنف، وكذلك الزبيب وأنواعه، والقشمش وأنواعه، وقد بينا الاختلاف في القطنية في الزكاة، وأما الأرز والدخن والذرة فكل واحد صنف على حدته. فصل [10 - الربا في اللحم]: اللحم منه الربا لأنه مقتات، واللحوم على ثلاثة أنواع فلحوم الأنعام   (1) بالشعير: سقطت من (م). (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (957). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (957). (4) انظر: المدونة: 3/ 177 - 178، التفريع: 2/ 126، الرسالة ص 210 - 211، الكافي ص 309 - 310. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 76، مختصر المزني ص 77. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (957). (7) العَلَس -بفتحتين-: ضرب من الحنطة يكون في القشرة منه حبتان، وقد تكون واحدة أو ثلاث، وقال بعضهم: هو حبة سوداء تؤكل في الجدب، وقيل: هو مثل البر إلا أنه عسر الاستنقاء، وقيل: هو العدس (المصباح المنير ص 425). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 961 والوحش صنف، ولحوم الطير صنف وحشيّه وإنسيّه، ولحوم دواب الماء صنف، وقال بعض أصحابنا: والجراد صنف رابع (1)، وقال أبو حنيفة: هي أجناس مختلفة باختلاف الحيوان (2)، وقال الشافعي في بعض أقاويله: إنها صنف واحد (3)، فالخلاف مع أبي حنيفة في بيع لحم البقر بلحم الغنم متفاضلًا فمنعناه وجوزه. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (4)، ولأنه لحم حيوان من بهيمة الأنعام، فلم يجز بيعه بلحم شيء من الحيوان المشارك له في هذا الوصف متفاضلًا أصله إذا كان من نوعه لحم الغنم بلحم الغنم متفاضلًا، ولأن الأغراض متقاربة فيهما وتؤكل على حد متقارب غير متباين. فصل [11 - وجه جواز التفاضل بين لحم البقر ولحم الطير والسمك]: والخلاف مع الشافعي في جواز لحم البقر بلحم الطير والسمك متفاضلًا فجوزناه ومنعه (5)، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم" (6)، والجنسية ها هنا المراد بها الأغراض والمنافع وقد ثبت أن لحم السمك ليس من جنس لحم الإبل؛ لأنهما لا يتفقان في منفعة ولا في غرض ولا يؤكل كل واحد منهما (7) على الوجه الذي يؤكل عليه الآخر، ولأن السمك طعام لا يحتاج إلى ذكاة، فجاز بيعه بلحم الطير متفاضلًا أصله اللبن.   (1) انظر: المدونة: 2/ 178، التفريع: 2/ 126 - 127، الرسالة ص 211، الكافي ص 312 - 313. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 76، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 1/ 41. (3) انظر: الأم: 3/ 25 - 26، مختصر المزني ص 78. (4) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (957). (5) في (م): منعوا. (6) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة (957). (7) في (م): أحدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 962 فصل [12 - في بيع الشحم والكبد والفؤاد والطحال وغيرها بشيء من اللحم]: والشحم والكبد والفؤاد والطحال والحلقوم والخصي وما جرى مجرى ذلك له حكم اللحم فلا يجوز بيع شيء منه بلحم متفاضل (1) خلافًا لمن أجازه في بعض ذلك وفي جميعه (2) لأنه نوع مأكول من جسد الشاة كاللحم، ولأن جميع جسد الشاة قد أجري مجرى واحدًا ولم يخرجه اختلاف أسمائه وأحواله من كونه لحمًا لاتفاقهم على منع التفاضل بين الكرش والكبد واللحم، فكذلك الشحم وغيره. فصل [13 - في بيع الماء بالطعام]: والماء لا ربا فيه على ظاهر المذهب، وروى ابن نافع عن مالك: منع بيعه الطعام إلى أجل، قال أصحابنا: يجيء على هذا أن يحرم بيعه قبل قبضه، وإنما (3) يحرم التفاضل في جنسه (4)، فوجه نفي الربا عنه أن التفاضل إنما يحرم حراسة للأموال وحفظًا لها، فلذلك قضي على ما تمس الحاجة إليه من المأكولات دون غيره والماء أصله مباح غير متشاح فيه، فكان منافيًا لموضوع المقصود بالربا، ووجه إثباته أنه في معنى القوت لأن الحاجة إليه أمس منها إلى الخبز إذ غير الخبز يقوم مقامه والماء لا يقوم غيره مقامه، فكان تحريم التفاضل فيه أولى. ...   (1) في (م): متفاضلًا. (2) جوزه الحنابلة (المغني: 4/ 34). (3) في (ق): إن. (4) انظر: المدونة: 3/ 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 963 باب: [في بيع المزانبة] بيع المزابنة (1) ممنوع (2) لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع المزابنة (3)، وحصر هذا الباب (4): بيع معلوم بمجهول من جنسه أو مجهول بمجهول من جنسه، فمن المعلوم بالمجهول من جنسه بيع التمر بالرطب والزبيب بالعنب واللحم بالحي المأكول من جنسه لا يصلح إلا للحم كالمعلوف والكسير والمشوي بالطري النيئ، والمالح والقديد بالطري من الحيتان وغيرها، الجنس بجنسه والحنطة المبلولة باليابسة وبالمبلولة إلا أن يكون البلل واحدًا، ومنع بيع الدقيق بالعجين والحنطة بالعجين، ولا بأس الدقيق بالدقيق والرطب بالرطب (5) متماثلًا عند مالك ومنعه عبد الملك وكذلك التمر العتيق بالحديث، واختلفه في الحنطة بالدقيق ولا بأس بالحنطة بالسويق والدقيق بالخبز متفاضلًا ومتماثلًا، وكذلك العجين بالخبز، ولا بأس باللحم النيئ بالمطبوخ متفاضلًا ومتماثلًا، وكذلك العجين بالخبز، ولا بأس باللحم النيئ بالمطبوخ متفاضلًا ومتماثلًا، وكذلك التمر والرطب (6) بخلهما ولا بأس: اللبن باللبن حال رطوبتهما (7).   (1) المزابنة: أصل المزابنة المدافعة يقال: زابنه إذا دافعه (غرر المقالة ص220). (2) انظر: التفريع: 2/ 165، الرسالة ص 215، الكافي ص 313 - 314. (3) أخرجه البخاري في المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر: 3/ 81، ومسلم في البيوع، باب: النهي عن المحاقلة والمزابنة: 3/ 1174. (4) في (م): حصرها. (5) في (ق): ولا بأس الدقق بالدقيق ولا بأس الرطب بالرطب. (6) في (م): والرطب بالتمر. (7) انظر في جملة هذه الأحكام المدونة: 3/ 173 - 179، التفريع: 2/ 126، 129، الرسالة ص 211، الكافي ص 309 - 314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 964 فصل [1 - دليل منع بيع الرطب بالتمر]: وإنما منعنا بيع الرطب بالتمر خلافًا لأبي حنيفة (1) لقوله صلى الله عليه وسلم وسئل عن ذلك فقال: "أينقص الرطب إذا يبس" قالوا: نعم، قال: "فلا إذا" (2)، وروي: "فنهى عنه"، وروي: "لا تبايعوا الرطب بالرطب" (3) وروي ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن المزابنة" (4)، والمزابنة بيع الرطب بالتمر, ولأنه جنس فيه الربا بيع منه مجهول بمعلوم فلم يجز أصله بيع الشيرج (5) بالسمسم والزيتون بالزيت، ولأن المماثلة شرط في هذا الموضع وهي معدومة لأن التمر والرطب غير متناه، وذلك يمنع التماثل وإذا ثبت المنع من ذلك فكل ما ذكرنا من بابه، فحكمه في المنع مثله (6) من الحي بالميت والمشوي بالطري والمبلول باليابس وسائر ما في بابه. فصل [2 - في بيع الرطب بالرطب]: وأما الرطب بالرطب فإنما أجزناه خلافًا للشافعي (7) وعبد الملك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبايعوا التمر بالتمر حتى يبدوا صلاحها" (8) وما بعد الغاية بخلاف ما قبلها, ولأنها ثمرة بيعت بجنسها وهما على حال يتساويان فيها، فجاز في ذلك أصله التمر بالتمر، ولأن كل جنس جاز بيع بعضه ببعض حال جفافها جاز حال رطوبتها كاللبن باللبن.   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 77، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 40. (2) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في التمر بالتمر: 3/ 654، والترمذي في البيوع، باب: ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة: 3/ 528، وقال: حديث حسن صحيح. (3) أخرجه البيهقي: 5/ 296. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) الشيرج: دهن السمسم (المصباح المنير ص 308). (6) مثله: سقطت من (م). (7) انظر: الأم: 5/ 19، مختصر المزني ص 77، الإقناع ص 95. (8) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 965 فصل [3 - في بيع الحنطة بالدقيق]: فأما الحنطة بالدقيق، فاختلف أصحابنا في تخريجه على المذهب: فمنهم من يقول: إن المسألة على روايتين، ومنهم من يقول: ليس بخلاف قول، وإنما هو اختلاف حالين، فإن كان كيلًا بكيل فلا يجوز وإن كان وزنًا بوزن جاز (1)، فوجه الجواز أنه ليس في طحن الحنطة أكثر من تفريق أجزائها، وذلك لا يمنع الكيل ولا ينافي (2) المماثلة، ووجه المنع أن المماثلة ممتنعة فيها (3) لأنه إن كان كيلًا بكيل أدى إلى التفاضل وإن الحب إذا طحن تفرقت أجزاؤه ولم تجتمع بعد ذلك اجتماع الحب بخلقته في الأصل فيجيء من صاع بر أكثر من صاع الدقيق، وإن كان وزنًا بوزن امتنع لأن طريق التماثل في ذلك الكيل فلا يجوز غيره. فصل [4 - بيع الدقيق بالدقيق]: وإنما أجزنا بيع الدقيق بالدقيق متماثلًا خلافًا للشافعي (4) لأن التساوي فيه موجود في الحال كالحنطة بالحنطة. فصل [5 - جواز بيع الحنطة والدقيق متفاضلًا]: فأما تجويزنا التفاضل بين الحنطة والدقيق بخبزهما وسويقهما خلافًا للشافعي (5) فالنكتة فيه وفي جواز اللحم النيئ بالمطبوخ متفاضلًا والرطب والتمر (6) بخلهما واحدة في جميع هذا الباب وهي: أن الصنعة تغير ما تدخله من الجنس حتى تجعله في حكم الجنس المفرد لأنه لا يصلح لما كان يصلح له أولًا، وتختلف الأغراض فيه إذ لا يقول أحد أن منفعة التمر تقارب منفعة الخل، وكذلك الحنطة والسويق والخبر والدقيق لأن تأثير النار في الطبخ والخبز من تباين المنافع وتغيير   (1) انظر: المدونة: 3/ 177، التفريع: 2/ 128، الكافي ص 313. (2) في (م): لا يأتي. (3) فيها: سقطت من (ق). (4) و (5) انظر: الأم: 5/ 19 - 21، مختصر المزني ص 77، الإقناع ص 95. (6) في (م): بالتمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 966 الصنعة ما ينفى التقارب ويوجب التفاوت والتباين، وإذا ثبت ذلك جاز التفاضل فيه بمثل ما له جاز في الجنسين المتباينين، وأما جواز بيع التين بالتين (1) رطبين متماثلين فللتساوي في المنافع (2) والحال، فقد سلما من الربا والمزابنة. فصل [6 - في بيع رطب من ثمره بيابس مزابنة]: وما ذكرنا من أن بيع رطب من ثمره بيابس مزابنة، فإنما ذلك في الجنس لأن التفاضل في الجنسين غير ممنوع، فيجوز بيع التمر بالعنب والرطب بالزبيب وجميع ما في هذا المعنى، وهذا فيما يحرم التفاضل في جنسه إذا بيع بعضه ببعض، فأما ما لا ربا فيه كالخوخ والمشمش وغيرهما فيجوز بيع الرطب باليابس إذا تحقق التفاضل ويمنع مع الاحتمال والشك ليخرج عن المخاطرة. فصل [7 - في بيع المجهول بالمجهول]: وأما بيع المجهول بالمجهول من جنسه مما لا يجوز التفاضل فيه فغير جائز، وهو من باب المزابنة وذلك كالصبرة بالصبرة وثمرة نخلة بثمرة نخلة أخرى؛ لأن عدم التماثل يقوم في المنع مقام تحقق (3) التفاضل لأن التماثل إذا لم يوجد فشرط جواز البيع غير حاصل. فصل [8 - في قسمة وبيع اللحم على التحري]: يجوز قسمة اللحم على التحري وكذلك بيعه، ومن أصحابنا من يطلق ذلك ومنهم من يشترط (4) فيه تعذر الموازين، وكذلك البيض بالبيض والخبز بالخبز والرطب بالرطب واليابس باليابس (5)، وعند أبي حنيفة والشافعي أن ذلك غير جائز (6).   (1) في (م): اللبن باللبن. (2) في (ق): في المبلغ. (3) في (م): تحقيق. (4) في (م): يشرط. (5) انظر: المدونة: 3/ 178، التفريع: 2/ 126، الرسالة ص 215، الكافي ص 313. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 76 - 77، الأم: 5/ 23 - 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 967 وإنما قلنا ذلك للعمل المستفيض من الصحابة في الأسفار أنهم كانوا يقتسمون اللحوم على التحري، والقسمة بيع كل واحد من المقتسمين حظه بحظ صاحبه، ولأن الحذر في الشرع قد جعل طريقًا إلى جواز البيع فيما شرط فيه الكيل والوزن، وسببًا لمعرفة المقدار فيما يعرفان به عند (1) تعذرهما، ألا ترى أنا نجيز ذلك في الزكاة والعرايا، فجاز أن يكون التحري في مسألتنا طريقًا إلى معرفة التماثل للضرورة، ووجهها أن الموازين في الأسفار قد تعدم وتتعذر فلو قلنا: أنهم لا يقتسمون اللحم في الأسفار إلا بميزان لشق ذلك (2)، وأدى إلى ضياعه وفوات الانتفاع به، فجاز لهذه الضرورة قسمه وبيعه. فصل [9 - في بيع الطعام بالطعام]: لا يجوز بيع طعام بطعام إلا نقدًا ولا يجوز فيه تأخير بوجه كان من جنسه أو من غير جنسه كان مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه بيع متفاضلًا أو متماثلًا، ومن شرطه التقابض في المجلس (3)، وقال أبو حنيفة: يجوز أن يفترقا من غير قبض إلا أن يكون المبيع جزءًا مشاعًا (4)، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" (5)، وقوله: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق ولا التمر بالتمر ولا الشعير بالشعير ... إلى أن قال: إلا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد" (6)، ولأن كل شيئين لا يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر مع جواز السلم فيه فلا يجوز بيعه به إلا يدًا بيد أصله الذهب والفضة أو الذهب في الحلي، ولأنه بيع عين بعين يفسده دخول الأجل، فكان التقابض شرطًا فيه أصله إذا باع جزءًا مشاعًا من صبرة.   (1) في (م): بعد. (2) ذلك: سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 3/ 179 - 180، التفريع: 2/ 131، الرسالة ص 221، الكافي ص 310 - 311. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 76 - 77، تحفة الفقهاء: 1/ 26 - 27. (5) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل: 3/ 1217، والبخاري في البيوع، باب: بيع الدينار بالدينار نساء: 3/ 31. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (957). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 968 باب: [في بيع الطعام قبل قبضه] المبيعات على ضربين: طعام وغير طعام، فالطعام يباع على وجهين: أحدهما على وجه يلزم فيه حق التوفية، وذلك بأن يكون على كيل أو وزن أو عدد، والآخر جزافًا مصبرًا، فالقسم الأول لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان معينًا (1) أو في الذِّمَّة (2)، والأصل نهيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "من ابتاع طعامًا فليس يجوز له (3) أن يبيعه قبل قبضه" (4)، وروي: "قبل أن يستوفيه"، وإذا ثبت ذلك، فكل أنواع الطعام داخله في المنع من الإدام والقوت والفواكه مما يدخر وما لا يدخر ما فيه الربا وما لا ربا فيه وكذلك الأشربة، وذكر ابن وهب عن مالك أن (5) ما لا ربا فيه يجوز بيعه قبل قبضه لأنه أخفض رتبة من المقتات (6) بدليل إباحة التفاضل فيه وسقوط الزكاة منه (7)، والأولى أصح للعموم، ولأن النهي لأجل العينة وأن يعلم أن الشراء لم يكن لها وهذا يستوي فيه المقتات وغيره (ولأن انخفاض حرمته عن المقتات في حكم من الأحكام لا يقتضي انخفاضها عنه في سائرها ألا ترى أنه لا يجوز بيع بعضه إلى أجل من حيث كان طعامًا) (8)، والأدوية والبذور التي تبذر للزرع لا تدخل في هذا   (1) في (ق): متعينًا. (2) انظر: المدونة: 3/ 165 - 166، التفريع: 2/ 131 - 132، الرسالة ص 211, الكافي ص 319. (3) فليس يجوز له: سقطت من (م). (4) أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك: 3/ 23, ومسلم في البيوع، باب: بطلاق بيع المبيع قبل القبض (3/ 1160). (5) إن: سقطت من (م). (6) المقتات: سقطت من (م). (7) وسقوط الزكاة منه: سقطت من (م). (8) ما بين قوسين: سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 969 لأنها ليست بطعام، وإنما تتناول للحاجة وليس اسم الطعام لكل ما يتطعم لأنه لو كان كذلك لكان الجص والسم طعامًا لأن له طعما ولكنه اسم لما جرت العادة بأكله على وجه يؤكل عليه الطعام في العادة من الاقتيات أو الائتدام أو التفكه أو التحلي وليس التداوي من هذا، فلم يدخل فيه. فصل [1 - دخول ما ملك بعقد معاوضة في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه]: إذا ثبت ما ذكرناه فكل طعام ملك بعقد معاوضة مشارك لما ملك بشراء في منع بيعه قبل قبضه: من ذلك ما يملك أجرة في إجارة أو قضاء دين أو مهر أو خلع أو صلح عن دم عمد أو مثلًا لمتلف أو أرش جناية في مال مضمون (1) كان أو معينا، وكل ما يملك بغير معاوضة، فجائز لمن ملكه بيعه قبل قبضه كالميراث والهبة والصدقة وغير ذلك والمقترض يجوز لمقرضه ولمقترضه بيعه قبل قبضه لأنه ليس بمبتاع ولا في معنى المبتاع. فصل [2 - جواز هبة وقرض الطعام المبتاع الممنوع من بيعه قبل قبضه]: لمبتاع الطعام الممنوع من بيعه قبل قبضه أن يهبه ويقرضه ويتصدق به أو يخرجه عن ملكه على غير وجه المبايعة قبل قبضه، ولكن لا يجوز لمن صار إليه ذلك ببعض هذه الوجوه أن يبيعه قبل أن يقبضه (2)؛ لأنه قائم مقام البائع وعقد هذا الباب: إن كل طعام ابتيع فلم يقبض فلا يجوز أن يقع عليه عقدة بيع حتى يقبض سواء كان ذلك من مبتاعه أو ممن صار إليه عن مبتاعه. فصل [3 - إذا باع تمرًا واستثنى منه كيلًا معلومًا]: إذا باع تمرًا واستثنى منه كيلًا معلومًا، ففيه روايتان (3): إحداهما أن له بيعه قبل أن يجزه، والأخرى أنه ليس له ذلك، فوجه الجواز أنه لم يبع ما استثناه،   (1) في (م): إن كان مضمونًا. (2) انظر: التفريع: 2/ 133، الرسالة ص 211 - 212، الكافي ص 320. (3) انظر: التفريع: 2/ 147 - 148، الكافي ص 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 970 وإنما أبقاه على ملكه، ووجه المنع أنه صار شريكًا للمشتري بمقداره من الكيل والأول أصح. فصل [4 - الإقالة والتولية والشركة في الطعام قبل قبضه]: إذا ثبت منع بيع الطعام للمشتري بكيل أو وزن أو عدد قبل استيفائه، فيجوز منه الإقالة والتولية والشركة قبل القبض، وإن كانت بيوعًا (1) لما روي: أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الإقالة والشركة" (2) وهذا نص، ولأن المقصود منها لما كان المعروف دون المتاجرة والمغابنة جاز للرفق واستثنى من أصل البيع كما استثنيت العرية من بيع الرطب بالتمر للرفق، والحوالة من بيع الدين بالدين لأنه لم يقصد فيها ذلك (3)، وهذا إذا وقع العقد الثاني على الوجه الذي وقع عليه العقد الأول بمثل المال لا زيادة فيه ولا نقصان ولا مخالفة في تعجيل أو تأجيل: فيعلم بذلك أن الفاعل له لم يقصد المتاجرة والتربح (4)، وإنما آثر على نفسه وقصد فعل الجميل والرفق بمن فعل ذلك معه، ومتى وقع على خلاف ذلك من زيادة أو نقصان أو مرفق بتأخير أو تعجيل على أنهما لم يريدا الوجه الذي له وقعت الرخصة، وإنما أراد الوجه الممنوع من بيع الطعام قبل قبضه فمنعنا منه. فصل [5 - في بيع الجزاف أو الصبرة قبل نقله]: ثم عدنا إلى أصل التقسيم فقلنا: وأما ما ابتيع من الطعام جزافًا (5) أو   (1) انظر: المدونة: 3/ 163، التفريع: 2/ 133، الرسالة ص 212، الكافي ص 320. (2) الحديث أخرجه الشيخان من غير: وأرخص في الإقالة والشركة، وهذه الزيادة الواردة في هذا الحديث ذكرها مالك في المدونة عن سعيد بن المسيب وباقي رجال السند ثقات إلا أنه مرسل (انظر: تخريج أحاديث المدونة - للدكتور الدرديري: 3/ 1094). (3) في (ق): ذلك. (4) في (ق): الربح. (5) الجزاف: الشيء الذي لا يعلم كيله ولا وزنه (المصباح المنير ص 99)، وعرف ابن عرفة بيع الجزاف بقوله: هو بيع ما يمكن علم قدره دونه (حدود ابن عرفة ص 240). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 971 مصبرًا (1) فيجوز بيعه قبل نقله إذا خلَّى البائع بينه وبينه (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3) لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4)، وروى ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه" (5) فدل أن الجزاف بخلافه، ولأن الجزاف ليس فيه توفية، فإذا وجدت التخلية لم يبق وراءها توفية تطلب، فجاز بيعه كالمكيل إذا قبض، وقد استحب مالك رحمه الله أن يباع بعد نقله ليخرج من الخلاف ويحتاط للعقد. فصل [6 - فيما يجوز بيعه قبل قبضه]: وما عدى الطعام والشراب من سائر العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحول وما لا ينقل ولا يحول وما يكال أو يوزن وما لا يكال ولا يوزن كان عينًا معينة أو سلمًا مضمونًا في الذِّمَّة فبيعه قبل قبضه جائز في الجملة بخلاف الطعام ما لم يعرض في العقد ما يمنع منه من كونه دينًا بدين أو ذريعة إلى بيع وسلف أو بعض الأشياء الممنوعة (6)، خلافًا لأبي حنيفة في منعه بيع ما ينقل ويحول (7)، والشافعي في منع بيع كل مبيع قبل قبضه من بائعه (8)، لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (9)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع طعامًا فلا يبيعه حتى يقبضه" (10)، فدل أن ما عداه بخلافه، ولأنه   (1) الصبرة: أي بلا كيل ولا وزن (المصباح المنير ص 331). (2) انظر: المدونة: 2/ 166، التفريع: 2/ 130، الرسالة ص 211، الكافي ص 326. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 79، مختصر المزني ص 82. (4) سورة البقرة، الآية: 275. (5) أخرجه مسلم في البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض: 3/ 1162. (6) انظر: التفريع: 2/ 133 - 134، الرسالة ص 211 - 212، الكافي ص 319. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 79، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 34. (8) انظر: الأم: 3/ 69 - 74، مختصر المزني ص 82، الإقناع ص 92. (9) سورة البقرة، الآية: 275. (10) سبق تخريج الحديث 969. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 972 إزالة ملك فجاز قبل القبض كالعتق، ولأنه أحد نوعي المبيعات فعدم القبض لا يمنع بيعه أصله المنافع في الإجارة، ولأن الشراء نوع يملك به، فجاز أن يباع ما ملك به قبل القبض كالميراث والوصية ومع أبي حنيفة قياسًا على العقار. فصل [7 - اشتراط القبض في البيع]: عقود البياعات كلها تقع بالقول وليس القبض شرطًا في انعقادها ولا في لزومها، غير أن في بعضها إن تأخر القبض عن العقد تأخرًا شديدًا أو افترقا قبل بطل العقد، وذلك كالصرف وبيع الطعام بالطعام، فأما سائر العروض التي يجوز بيع بعضها ببيع نقدًا أو نساء، فإن تأخر القبض لا يبطل العقد فإن تلفت (1) نظر، فإن كان في المبيع حق توفية من كيل أو وزن أو عدد فضمانه من البائع (2) إلا أن يكون كاله أو وزنه للمشتري فتركه المشتري عنده فيكون حينئذ تلفه من المشتري، وأما ما ليس فيه حق توفية مثل البيع بعينه أو الجزاف فتلفه من المشتري قبل القبض وبعده دفع المشتري الثمن أو لم يدفعه طالبه بالقبض أو لم يطالبه إلا أن يكون البائع حبسه عنده ليقبض الثمن، فيكون حكمه حكم الرهن، أو منعه ابتداء ظلمًا فيكون غاصبا، فأما مع (3) السلامة من ذلك كله فضمانه إن تلف من المشتري (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5) في قولهما: أن ضمانه من البائع قبل قبض المشتري إياه، وإن العقد ينفسخ بتلفه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" (6)، فجعل الضمان ممن يكون له الخراج، وقد   (1) في (ق): تلف. (2) في (م): البيع. (3) في (م): بيع. (4) انظر: التفريع: 2/ 133 - 134، الرسالة ص 219، الكافي ص 319 - 320. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 79، الأم: 3/ 72. (6) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: فيمن اشترى عبدًا فاستعمله (3/ 777)، والنسائي في البيوع، باب: الخراج بالضمان (2/ 243)، وابن ماجه في التجارات، باب: الخراج بالضمان (2/ 754)، والترمذي فيمن اشترى العبد واستغله (3/ 581)، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 973 ثبت أن خراج هذا المبيع قبل القبض ليكون للمشتري، فكان ضمانه منه، ولأن الملك لا يخلو أن يكون استقر بنفس البيع الذي هو الإيجاب والقبول المطلق، فذلك يوجب أن يكون التلف من المشتري كما بعد القبض أو أن لا يستقر إلا بمعنى زائد عليه وهو القبض فالقبض فرع على الملك وتابع له؛ لأن البائع يجبر على إقباضه للمشتري ولولا استقرار الملك لم يجبر عليه، وإذا كان البيع لمستقر فالتلف ممن حصل الملك له وامتنع الفسخ عليه، ولأن إعتاق المشتري في العبد نافذ قبل القبض، وذلك ممتنع فيما لم يكن يستقر كبيع الخيار، ولأنه عوض مستحق بعقد معاوضة، فإذا كان معينًا (1) وتلف قبل القبض لم يتلف من المستحق عليه أصله المهر. فصل [8 - في بيع الجزاف]: يجوز بيع الطعام جزافًا في الغرائر (2) وصبرًا على الأرض، وكذلك غيره من العروض المكيلة أو المعدودة التي لا خطر لها، وإنما الغرض مبلغها كالجص والنورة والقطن وغير ذلك، ولا يجوز بيع شيء له بال وخطر تكثر قيمته ويعظم الغرر فيه كالعبيد والحيوان والثياب جزافًا. وقاعدة هذا الباب: أن من المبيع ما يقصد مبلغه دون أعيان آحاده، وذلك كالحنطة والشعير والثمرة والزبيب والجوز واللوز وسائر الفواكه والبقول، فما هذه سبيله يجوز بيعه جزافًا لأنه ليس المقصد إلى عين كل واحد من آحاده لأن أحدًا لا يقصد عين كل (3) جوزة وبذنجانة، وإنما القصد جملته ومبلغه، فإذا علم ذلك بالحزر عند مشاهدته جاز بيعه كما يجوز (4) بيع الشيء بالخرص فيتعلق   = وأحمد: 6/ 49، والدارقطني: 3/ 53، البيهقي: 5/ 321، والحاكم: 2/ 15، وصححه ابن القطان (تلخيص الحبير: 3/ 22). (1) في (م): متعينًا. (2) في (ق): العرايا. (3) في (م): كيل. (4) في (م): يحرز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 974 به أحكام الكيل والوزن، ولأن القصد المبلغ ليس في جزافه خطر أو غرر فينسب ترك تحقيقه بالكيل أو الوزن إلى قصده، وإما المقصد التخفيف والرفق والراحة من التعب ومؤنة الكيل والوزن من المبيع ما يقصر أعيانه وآحاد جماعات كل عين في نفسها كالعبيد والحيوان والثياب والجواهر؛ لأن كيل واحد من جماعاتها يحتاج إلى اختيار في نفسه والعلم بسلامته من العيوب وليس الغرض المبلغ دون العين، فما هذه سبيله يعظم الخطر فيه ويكثر به الغرر بالمجازفة فيه فلا يجوز بيعه جزافًا (1). فصل [9 - عدم جواز بيع ما يعلم كيله ووزنه جزافًا]: ما علم بائعه كيله أو وزنه فلا يجوز له بيعه إلا بعد أن يعلم (2) المشتري بمبلغه (3) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" (5)، وهذا غش (6) لأن المبتاع يدخل على أن البائع بمثابته في الجهل بمقدار المبيع، وروي: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من علم كيل طعام فلا يبيعه جزافًا حتى يبين" (7) وهذا نص، ولأنه باع جزافًا ما يعلم قدر كيله فلم يجز أصله إذا قال: قد بعتك ملء هذه الغرارة والبائع يعلم ما تسع.   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: التفريع: 2/ 130، الرسالة ص 211، الكافي ص 314، 320، 326. (2) في (م): إعلام. (3) انظر: المدونة: 3/ 219، التفريع: 3/ 130، الكافي ص 326 - 327. (4) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 7 - 8، الأم: 3/ 63 - 64. (5) أخرجه مسلم في الإيمان, باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" (1/ 99). (6) في (ق): أغش. (7) أخرجه البخاري في البيوع، باب: من رأى إذا اشترى طعامًا جزافًا أن لا يبيعه (3/ 23)، ومسلم في البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض: 3/ 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 975 فصل [10 - خيار المشتري إذا علم كيل أو وزن ما اشتراه جزافًا]: إذا ثبت منع ذلك فمتى وقع فالمشتري بالخيار لأنه متعدى عليه لأنه إنما رضي بالمجازفة ودخل على أن البائع بمثابته في الجهل بقدر الكيل (1)، فإذا كتمه ذلك كان تدليسًا (2) عليه، فثبت له الخيار كالعيب إذا كتمه وإن بين (3) له فقال أنا أعلم كيلها ولست أعلمك، فإن أردت أن تبتاع على هذا وإلا لم أبعك فرَضِيَ المشتري فذلك غير جائز؛ لأنه رضي بالمخاطرة والغرر وقصد إلى ذلك مع الاستغناء عليه، وذلك مفسد للعقد المبني عليه. فصل [11 - إذا أخبره بكيله فصدقه وقبضه بغير كيل]: إذا أخبره (4) البائع بكيله فصدقه المشتري عليه وقبضه بغير كيل، فإن كان البيع نقدًا جاز، وإن كان إلى أجل فلا يجوز واختلف أصحابنا في تأويله (5)، فمنهم من يحمله على المنع، ومنهم من يحمله على الكراهية (6)، وإنما قلنا: إنه إذا كان نقدًا جاز لأنه ليس فيه تهمة لأنه لا يخاف منه إن لم يصدقه أن يفوته غرض (7) ويقع لو صدقه لأدركه ولم يفته، والنسيئة بخلاف ذلك لأنه يجوز أن يكون دون ما أخبره (8)، فإن لم يصدقه لم يرض ببيعه منه نسيئة، وإنما غرض البائع في إنسائه أن ينتفع بالنقصان الذي يحتسب له به فيكون من أكل المال بالباطل.   (1) في (م): المكيل. (2) في (م): مدلسًا. (3) في (م): ولم يبين. (4) في (م): أخبرنا. (5) انظر: التفريع: 2/ 131، الرسالة ص 212 - 213، الكافي ص 326. (6) في (م): الكراهة. (7) في (م): أن يفوته منه غرض. (8) في (م): ما أجبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 976 فصل [12 - إذا صدقه بالكيل في النقد ثم ادعى نقصانه]: إذا صدقه بالكيل في النقد (1) ثم ادعى المبتاع نقصانه عما أخبره أو زيادة، فإن كان مما يكون مثله في اختلاف الكيل ويريد رده فلا يرده به؛ لأن ذلك معفو عنه في العرف كالتغيير الذي يكون في أسفله والتراب الذي يعلم أنه لا ينفك منه، فإن كان زائدًا على ذلك خارجًا عما جرى العرف به فله المحاسبة به لأن البائع لم يوفه ما عقد عليه البيع والقدر الفائت لم يوجد له عوض، وذلك إذا صدقه البائع أو كاله بحضرته أو قامت له بيِّنة به قبل أن يغيب عليه، وإن لم يكن له إلا دعواه فلا يقبل ويحلف البائع. ...   (1) في (م): في الكيل بالنقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 977 باب: [في أضرب المبيع] المبيع على ثلاثة أضرب: عين حاضرة، وغائبة عن العقد، وسلم في الذمة غير معين. فأما بيع العين الحاضرة المرئية مثل أن يقول: بعتك هذا الثوب أو العبد أو الدابة وهو يراه، فذلك جائز إذا أبصره وخبره ولا خلاف في هذا النوع (1). فصل [1 - بيع الشيء الغائب]: وأما الأعيان الغائبة عن العقد (2) فيجوز بيعها على الصفة أو على ما تقدم رؤيته (3) خلافًا للشافعي في منعه بيعها على الصفة (4) لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (5)، ولأنه مبيع معلوم لهما مقدور على تسليمه غالبًا كالمرئي، ولأن ما تتعذر رؤيته تقوم الصفة فيه مقام الرؤية كالسلم. فصل [2 - البيع على غير صفة ولا رؤية]: ولا يجوز بيعه بغير صفة ولا رؤية ولا مع شرط خيار الرؤية وذكر في المدونة جواز ذلك إذا اشترطت فيه خيار الرؤية (6)، وكان شيخنا أبو بكر وأصحابنا يقولون: إنه خارج عن الأصول (7)، وقال أبو حنيفة: يجوز بيع ما لم ير ولم   (1) انظر: المحلي: 9/ 270، مراتب الإجماع ص 84، بداية المجتهد: 7/ 270. (2) عن العقد: سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 3/ 255، التفريع: 2/ 170، الرسالة ص 216، الكافي 329. (4) انظر: الأم: 3/ 20، مختصر المزني 75، الإقناع 96 - 97. (5) سورة البقرة، الآية: 275. (6) المدونة: 3/ 255. (7) انظر: التفريع: 2/ 170 - 171، الكافي 329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 978 يوصف ويكون للمبتاع خيار الرؤية بنفس العقد (1)، ودليلنا على منعه: "نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع (2) الغرر" (3) وهذا منه، ولأنه مجهول واشتراط خيار الرؤية لا ينفع (4)، كما لا ينفع في بيع الآبق والشارد، ولأن تأخر معرفة المبيع عن العقد يؤذن (5) ببطلانه كالسلم إذا لم يصفه حال العقد. فصل [3 - معيار الصفة المطلوبة في بيع الشيء الغائب]: إذا ثبت جواز بيع الغائب بالصفة، فالذي يحتاج إليه من ذلك كل صفة مقصودة تختلف الأغراض باختلافها وتتفاوت الأثمان لأجلها وتقل الرغبة في العين وتكثر بحسب وجودها وعدمها ولا يكتفي (6) في ذلك بذكر الجنس والعين (7) فقط؛ لأن بيع الملامسة لا يعرى من مشاهدة العين ومعرفة الجنس وهو مع ذلك غير جائز ولا يضره الإخلال بما لا يؤثر فيها (8). فصل [4 - إذا جاء المبيع على الصفة المشترطة أو على أعلى أو أدون منها]: وإن جاء المبيع على الصفة المشترطة لزم المبتاع ولم يكن له خيار الرؤية إلا أن يشترطه في العقد فيثبت له بالشرط، وإنما قلنا: لا خيار له لأنه مبيع موصوف قبض على صفته فلم يكن له خيار الرؤية كالسلم، وإن جاء على خلافها، فإن كان أعلى فلا خيار له، لأنه إذا لم يثبت له الخيار مع الموافقة (9) فمع الزيادة   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 84، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 15 - 17. (2) في (ق): نهى عن الغرر. (3) أخرجه مسلم في البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه الغرر: 3/ 1153. (4) في (ق): لا ينفعها. (5) في (ق): يؤدي. (6) في (م): يكفي. (7) في (م): والبيع. (8) في (م): منها. (9) في (ق): مع الرؤية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 979 أولى، ولأن الخيار إنما يثبت للنقص لا للزيادة وإن كان أدون فالمبتاع بالخيار في الإمضاء والفسخ لأن المبيع لم يسلم له على الوجه الذي دخل عليه كما لو وجد عيبًا. فصل [5 - إذا تلفت السلعة المبيعة على الصفة]: إذا تلفت السلعة المبيعة على الصفة بعد العقد وقبل القبض ففيها ثلاث روايات (1): إحداها أن التلف من البائع إلا أن يشترطه على المشتري، والثانية أنه من المشتري إلا أن يشترطه على البائع، والثالثة أن ضمان الحيوان المأكول وما ليس بمأمون على البائع والدور والعقار من المشتري. فوجه الأولى: أن على البائع توفية المشتري ما اشتراه، فما لم يوفه لم (2) يستحق عليه العوض والتلف منه؛ لأن المشتري لم يقبضه ولم تثبت عليه يد. ووجه الثانية: أن الأصل السلامة مع كونه متميزًا عن ملك البائع لا يتعلق به حق توفية، فكان ضمانه من المشتري وذلك إذا علم أن الصفقة صادفته حيًّا سليمًا ثم تلفت (3) من بعد. فأما وجه تفريقه بين المأمون وغير المأمون على ظاهر السلامة، فيجب أن يكون ضمانه من المشتري اعتبارًا بالحاضر (4)، ولأن النقد لا جاز اشتراطه في المأمون ولم يجز في غيره دل على افتراق حكمهما. فصل [6 - النقد في بيع الشيء الغائب]: إن تبرع المشتري في بيع الغائب بنقد الثمن أو بعضه قبل مجيء المبيع جاز،   (1) انظر: المدونة: 3/ 255، والتفريع: 2/ 170، وفيه: "ففيها روايتان: إحداهما أنها من البائع إلا أن يشترط ضمانها على المبتاع، والأخرى ألا أن يشترط أن ضمانها قبل القبض من بائعها" اهـ، والكافي ص 320، وفيه حكاية القولين فقط، ولعل الأقوال الثلاثة من تفصيل المصنف. (2) في (م): فلا. (3) في (م): تلف. (4) في (م): بالحاضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 980 فأما إن اشترط البائع عليه النقد فيجوز في المأمون لعدم (1) تغيره وأمنه (2) في الغائب كالعقار والدور ولا يجوز في الحيوان والمأكول وما لا يؤمن تغيره، والفرق أن المأمون يقبل الغرر فيه وغير المأمون يكثر الغرر فيه، فاشتراط النقد فيه غرر، ولأنه يدخله سلف وبيع لأن النقد يتردد بينهما لأن المبيع إن سلم كان نقدًا وإن لم يسلم كان البائع قد انتفع بالثمن ثم رده إلى المشتري. فصل [7 - في بيع البرنامج]: يجوز عندنا بيع الأعدال على البرنامج (3) وهو أن يبيعها على الصفة التي يتضمنها برنامجه من ذكر الجنس والنوع والزرع والعدد والسعر، فإن وافق الصفقة لزم البيع، وإن خالف كان كما ذكرناه وليس للمبتاع إذا وافقت الصفة، وقال: هي مخالفة (4) أن يرد خلافًا للشافعي في قوله (5): لا يجوز (6)، ودليلنا الظاهر وهو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (7)، ولأن أكثر ما فيه أنه باع عينًا يتعذر رؤيتها بصفة تحصرها، وقد دللنا على جواز ذلك. فصل [8 - في بيع السلعة الغائبة على رؤية متقدمة]: يجوز بيع السلعة الغائبة على رؤية متقدمة إذا كان من وقت الرؤية إلى وقت العقد من المدة ما لا تتغير في مثله والاعتبار في ذلك بالعرف في مثل تلك السلعة مما يعلم أنها تتغير وتحول عن الصفة التي كانت (8) عليها في مثلها، فإن كان بين الوقتين بقدر ذلك لم يجز البيع إلا برؤية مستأنفة أو صفة.   (1) لعدم: سقطت من (م). (2) أمنه: سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 3/ 257، الموطأ: 2/ 670، التفريع: 2/ 171. (4) في (م): وهي غالبة. (5) في قوله: سقطت من (م). (6) انظر: الأم: 3/ 20، مختصر المزني 75، الإقناع 96 - 97. (7) سورة البقرة، الآية: 275. (8) في (ق): طالت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 981 نوع آخر: [في السلم] وأما السلم (1) في الذِّمَّة فإنه جائز في كل ما تضبطه الصفة والأصل في جواز ذلك (2) قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3)، وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} (4)، فدل ذلك على أن من التجارات ما لا يكون حاضرًا، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (5)، قال ابن عباس: ذلك في السلم (6)، وروي: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عندك وأرخص في السلم (7)، وروي: أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمر السنتين والثلاثة فقال:   (1) السلم: يعني السلف، وإنما سمي سلمًا لأنه يسلم إليه دراهمه ويتركها عنده من قولهم: أسلمته مائة، أي تركتها (غرر المقالة ص 216)، وفي الاصطلاح عرفه ابن عرفة بقوله: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة غير متماثل العوضين (حدود ابن عرفة ص 291). (2) في (م): جوازه. (3) سورة البقرة، الآية: 275. (4) سورة البقرة، الآية: 282. (5) سورة البقرة، الآية: 282. (6) انظر: تفسير الطبري: 3/ 116. (7) الجزء الأول من الحديث أخرجه أبو داود في البيوع، باب: بيع الرجل ما ليس عنده: 3/ 769، والنسائي في البيوع، باب: بيع ما ليس عند البائع: 7/ 354، وابن ماجه في التجارات، باب: النهي عن بيع ما ليس عندك: 2/ 737، والترمذي في البيوع باب: ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك: 3/ 534، وقال: حسن صحيح، أما الجزء الأخير قوله: وأرخص في السلم، فلم أعثر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 982 "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" (1)، وهذا نص في جوازه، ولا خلاف فيه (2). فصل [1 - في شروط بيع السلم]: وله ثمانية شروط (3): أحدها: أن يكون في الذمة مطلقًا لا في عين (4) معينة. والثاني: أن يكون موصوفًا بما يمكن حصره به من الصفات المقصودة التي تختلف الأغراض والأسواق باختلافها. والثالث: أن يكون مقدرًا بكيل معلوم أو وزن معلوم أو عدد أو ذرع أو غير ذلك من المقادير التي تعتبر في ذلك النوع. والرابع: أن يكون رأس المال معلومًا مقدرًا. والخامس: أن يكون نقدًا لا مؤجلًا. والسادس: أن يكون المسلم فيه مؤجلًا لا يجوز أن يكون حالًا، واختلف في حد الأجل، فعنه فيه روايتان: إحداهما أجل مطلق أي أجل كان، والآخر أجل يختلف في مثله الأسواق (5) وتتغير معه الأسعار. والسابع: أن يكون الأجل (6) (محدودًا بمدة معلومة.   (1) أخرجه البخاري في السلم، باب: السلم في كيل معلوم: 3/ 43، ومسلم في المساقاة، باب: السلم: 3/ 1226. (2) انظر: شرح مسلم: 7/ 41، فتح الباري: 4/ 339، نيل الأوطار: 5/ 226. (3) في شروط السلم انظر: المدونة: 3/ 117 - 140، التفريع: 2/ 134 - 138، الرسالة ص 216، الكافي ص 337 - 340. (4) في (م): غير. (5) الأسواق: سقطت من (ق). (6) في (م): السلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 983 والثامن: أن يكون المسلم فيه) (1) موجودًا عند المحل وليس من شرطه أن يكون موجودًا في حال العقد ولا متصل الوجود في حال العقد ولا متصل الوجود من وقت العقد إلى وقت المحل، والأولى أن يسمى موضع القبض، فإن أطلق ولم يعين جاز ولزم في الموضع الذي وقع العقد عليه في سوق تلك السلعة والموضع الذي جرى عرف أهل ذلك الموضع بقبض ما يسمى فيه بأن يقبضونه فيه. فصل [2 - في عدم كون السلم عينًا]: وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون عينًا (2) لأن الأعيان لا تثبت في الذمم لأن من حق ما يثبت في الذمة (3) أن يكون مطلقًا غير معين، ولأن السلم في العين غرر لا يحتاج إليه لأنه إن أريد ضمانها في الذمة إلى الأجل المضروب حتى إذا تلفت لزمت (4) المسلم إليه بدلها أو قيمتها، فذلك غير جائز لأن المعين (5) ينفسخ العقد بتلفه ولا يلزم رد مثله، ولأنه إذا كانت العين مما لا يكال ولا يوزن لزم رد قيمتها لا مثلها، فإن إثبات العين في الذمة إن أُريد به تبقيتها إلى وقت الأجل فذلك غير مقدور عليه لإمكان أن يتلف، وإن أريد به ضمان مثلها فقد أفسدناه. فصل [3 - حصر المسلم بأكثر مما يمكن من الصفات]: وإنما قلنا: يجب حصره بأكثر مما يمكن من الصفات، وقد دخل في ذلك الجنس والنوع لأنه مقدم على ما يتبعه (6) من الصفات؛ لأنه مضمنة به ليكون   (1) ما بين قوسين: سقط من (م). (2) في (م): معينًا. (3) في (م): الذمم. (4) في (م): لزم. (5) في (ق): العين. (6) في (م): يبيعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 984 المسلم فيه معلومًا ويخرج عن حيز الجهل (1) ولا يكون كذلك إلا بالمشاهدة وبالصفة والمشاهدة لا تتصور إلا على معنى الصفة بأن يريد عينًا بصفة النوع الذي يسلم فيه، وإذا تعذرت المشاهدة لم يبق إلا الصفة ومتى عري العقد منهما كان مجهولًا وغررًا، وليس يلزم أن يذكر جميع الصفات حتى لا يخرج منها لشيء لأن ذلك لا يمكن ولا يحتاج إليه، وإنما المحتاج إليه ما يتعلق به الغرض ويقف عليه المقصد ويزداد في الثمن لأجله ويرغب في إسلافه (2) لمكانه، فإذا حصل كفى (3) عن زيادة عليه وذلك يختلف في أنواع المبيعات بما يعرفه أهل كل نوع من وصفه عندهم مما يقصد من صفاته، فإذا ثبت هذا فحصر الباب: أن كل سلعة جاز أن تباع مشاهدة وتحصرها الصفة إذا غابت عن العين، فإن السلم فيها (4) جائز من سائر العروض والحيوان والأطعمة وغيرها فيستغنى بذلك عن التكثير بأعيان المسائل وتفصيلها (5) إلا مواضع يختلف فيها. فصل [4 - السلم في الرقيق والحيوان]: يجوز السلم في الرقيق وسائر الحيوان (6) خلافًا لأبي حنيفة (7)، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أرخص في السلم (8)، وفي حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشًا فنفذت الإبل فأمره أن يأخذ على قلاص (9) الصدقة،   (1) في (م): المجهول. (2) في (م): إسلامه. (3) في (ق): كما. (4) في (م): نوعها. (5) في (ق): ونقصانها. (6) انظر: المدونة: 3/ 185 - 188، التفريع: 2/ 134، الرسالة ص 216، الكافي ص 338. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 86، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 42. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة 982. (9) قلاص: جمع قلوص وهي الشابة من الإبل (انظر الصحاح: 3/ 1054). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 985 فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى أجل الصدقة (1)، ولأن الحيوان يثبت في الذمة إما سلمًا وإما قرضًا لأنه صلى الله عليه وسلم استقرض بكرًا ورد رباعيًّا (2)، ولأنهم يوافقونا في تعلق (3) الحيوان بالذمة مهرًا وخلعًا وكتابة وصلحًا، فنقول: لأن الحيوان يتعلق بالذمة مهرًا، فجاز أن يتعلق بها سلمًا وقرضًا اعتبارًا بالثياب، ولأنه عقد معاوضة فجاز أن يكون الحيوان فيه عوضًا (4) في الذمة أصله النكاح ولأن الحيوان يضبط بالصفة، وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه يراها" (5)، وكذلك دية العمد والخطأ بالصفة، والعبيد يضبطون بالصفة في الجنس واللون والسن والهيئة. فصل [5 - السلم في الدنانير والدراهم]: السلم في الدنانير والدراهم جائز (6) خلافًا لأبي حنيفة (7) لقوله صلى الله عليه وسلم: " .. فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم" (8) فعم، ولأن كل ما جاز أن يكون في الذمة ثمنًا جاز أن يكون مثمونًا (9) أصله الثياب، ولأنه   (1) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في الرخصة في الحيوان بالحيوان نيئة (3/ 652) والدارقطني: 3/ 69، والبيهقي: 5/ 387، وفي إسناده ابن إسحاق، وقد اختلف عليه فيه (انظر تلخيص الحبير: 3/ 8). (2) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: من استسلف شيئًا فقضي خيرًا منه: 3/ 1224. (3) في (ق): يوافقنا في تعليق. (4) في (م): معاوضة. (5) أخرجه الإِمام أحمد: 1/ 380، و 460، وقال الهيثمي: وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 8/ 105). (6) انظر: المدونة: 3/ 128، الكافي ص 338. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 86 - 87، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 42 - 44. (8) سبق تخريج الحديث في الصفحة (892). (9) في (م): مثمنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 986 يمكن ضبطها بالصفة فيذكر جنس فضتها وسكتها وخفتها وثقلها ووزنها (1)، وكونها صحاحًا وجيادًا فجاز السلم فيها. فصل [6 - جواز السلم في اللحم]: يجوز السلم في اللحم بصفة معلومة (2) خلافًا لأبي حنيفة (3)؛ لأنه يضبط بالصفة فيقال: لحم ضأن معلوف من كبش أو من خروف أو لحم معز، وإن اختلفت الأغراض في مواضعه من الشاة من صدر أو فخذ أو جنب ذكر. فصل [7 - جواز السلم في الرؤوس والأكارع]: يجوز السلم في الرؤوس والأكارع (4) خلافًا لأبي حنيفة ولأحد وجهي الشافعي (5) لأنه يصح ضبطها بالصفة من السمانة والجنس وفروع هذا الباب كثيرة وجُمَلها قد ذكرناها. فصل [8 - في كون المسلم فيه مقدرًا بكيل معلوم أو وزن أو غيره]: وإنما قلنا: يجب أن يكون مقدرًا بكيل معلوم أو وزن أو عدد أو غيره من المقادير على حسب المسلم فيه وما يعرف به مقداره عند أهله لينتفي عنه الغرر بالجهل ويحصل العلم لكل واحد للبائع بما اشتغلت به ذمته وللمسلم بما يطالب به وما عاوض عليه، وراعينا عادة أهل كل بلد في معرفة مقادير السلم عندهم لأنهم إن حملوا على خلافه دخلت الجهالة لأن قصدهم من معرفة المبلغ الوجه الذي ألفوه بينهم. فصل [9 - وجوب كون رأس المال معلومًا]: وإنما قلنا: يجب أن يكون رأس المال معلومًا بمثل ماله وجب ذلك له في الطرف الآخر؛ لأنه أحد الطرفين في السلم اعتبارًا بسائر البياعات.   (1) ووزنها: سقطت من (ق). (2) انظر: المدونة: 3/ 125، الرسالة ص 216، الكافي ص 338. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 86، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 42. (4) انظر: المدونة: 3/ 125، الرسالة ص 216، الكافي ص 338. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 86، مختصر المزني ص 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 987 فصل [10 - اشتراط كون رأس المال نقدًا]: وإنما شرطنا أن يكون رأس المال نقدًا لأنه متى كان مؤجلًا دخله الدين بالدين، وإنما قلنا: إن قبضه في مجلس العقد ليس بشرط وأنه يجوز تأخيره اليوم واليومين بغير شرط التأجيل لأن ذلك لا يخرجه إلى الدين بالدين، إذ لا بد من استثناء مدة يمكن فيها وزن (1) المال ونقده، وجرى العادة بتراخي الوزن والإقباض عن وقت الإيجاب والقبول، ولأن من ابتاع ثوبًا بنقد فتأخر قبض الثمن يومًا أو يومين لم يخرجه ذلك عن النقد ولم يدخل في حيز (2) الأجل. فصل [11 - اشتراط الأجل في السلم]: وإنما قلنا: إن الأجل شرط في السلم وأنه لا يجوز أن يكون حالًا خلافًا للشافعي (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم" (4)، ولأن السلم إنما جُوِّز ارتفاقًا للمتعاقدين لأن المسلم (5) يقدم الارتخاص والمسلم إليه يرغب في إرخاص الثمن للرفق الذي له في استعجال الانتفاع به، وفي الصبر والتأخير، فوجب أن ما أخرج ذلك عن بابه ممنوع لأنه إذا كان حالًا زال هذا الرفق. فصل [12 - في اعتبار الأجل القريب والبعيد في السلم]: ووجه قوله: أنه يجوز إلى الأجل القريب والبعيد قوله صلى الله عليه وسلم: "إلى أجل معلوم" (6) فعم، واعتبارًا بالأجل البعيد، ولأنه معنى يشترط في السلم، فجاز قليله وكثيره أصله مقدار المسلم فيه، ووجه قوله: أنه لا يجوز إلا   (1) في (م): زوال. (2) في (م): خبر. (3) انظر: الأم: 3/ 97، مختصر المزني ص 90، الإقناع ص 95. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (982). (5) في (م): السلم. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (982). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 988 إلى أجل تختلف في مثله الأسواق أن المقصود من السلم الارتفاق من انتفاع البائع بتقديم المال والمسلم (1) بما يرتخصه ليحصل له من تغير الأسواق واختلافها ما يريده، وإذا أضربا أجلًا لا يوجد فيه هذا المعنى لم يحصل الرفق المقصود فكان في معنى الحال. فصل [13 - في كون الأجل معلومًا]: وإنما قلنا: إن الأجل يكون معلومًا لقوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2)، قال ابن عباس: هو السلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلى أجل معلوم" (3)، ولأن الجهل بمدة السلم غرر كالآجال في الديون. فصل [14 - السلم إلى الحصاد والجداد وقدوم الحاج]: ويجوز السلم إلى الحصاد والجداد وقدوم الحاج (4) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لأنه وقت يعرف في العادة لا يتفاوت اختلافه كقولك إلى شهر كذا وكذا أو إلى النيروز أو المهرجان (6). فصل [15 - وجود المسلم فيه عند الأجل]: وإنما قلنا: إن شرطه أن يوجد المسلم فيه عند الأجل (7) لأن الغرض بالسلم   (1) في (م): السلم. (2) سورة البقرة، الآية: 282. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (982). (4) انظر: الكافي ص 338. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 86، الأم: 3/ 99. (6) النيروز: معرب وهو أول السنة لكنه عند الفرس عند نزول الشمس أول الحمل وعند القبط أول توت (المصباح المنير ص 599)، والمهرجان عيد للفرس وهي كلمتان: مهر، جان، ومعناها: محبة الروح، وفي بعض التواريخ كان المهرجان يوافق أول الشتاء (المصباح المنير ص 583). (7) في (م): المحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 989 حصول المسلم فيه بإزاء العوض (1) المبذول (2) في مقابله، فإذا لم يوجد عند المحل كان غررًا وعائدًا بالجهل لأنه إما أن يفسخ العقد فيرجع المسلم بالثمن على غرر أو يصبر (3) إلى وقت وجوده، وذلك انتقال من أجل إلى أجل ويصير كمن عقد على عين الغير والبائع لا يقدر (4) على تسليمها، وكل ذلك غير جائز. فصل [16 - عدم اشتراط وجود المسلم فيه حال العقد]: وإنما لم يجعل وجوده عند العقد شرطًا في صحة العقد خلافًا لأبي حنيفة (5) لقوله صلى الله عليه وسلم: "في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" (6) فعم، ولأنه وقت لا يجب التسليم فيه فلم يضر فقده فيه أساسًا بين العقد والأجل (7). فصل [17 - ذكر الموضع الذي يسلم فيه]: وإنما قلنا: إن الأولى أن يذكر الموضع الذي يسلم فيه ليزول التخاصم بين المتبايعين ويكونا قد دخلا على معرفة بذلك، وقلنا: إن تركا ذكره لم يضر لأن الأمر يحمل على العرف في مثل ذلك فيصير العرف كالمشترط. فصل [18 - جواز المسامحة في بعض شروط السلم من أحد العاقدين للآخر]: إذا عقد السلم على الشروط التي ذكرناها صح وجازت المسامحة بعد ذلك من أحدهما للآخر ما لم يعد ينقض أصله أو بذريعة إلى فعل محظور من بيع وسلف   (1) في (م): العرض. (2) في (ق): الجهل. (3) في (ق): يسفر. (4) لا يقدر: سقطت من (ق). (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 86، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 43 - 44. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة (982). (7) في (م): أصله بعد الأجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 990 أو وضع وتعجيل أو معاوضة على إسقاط ضمان (أو بيع طعام قبل قبضه) (1) أو بيع طعام بطعام متأخرٍ أو ما أشبه ذلك من الوجوه الممنوعة، فمتى أدت (2) المسامحة إلى شيء من ذلك لم يجز وإن سلمت منها فهي جائزة ونحن نبين من ذلك ما ينكشف به ما ذكرناه فيه. فصل [19 - إذا أسلم في شيء موصوف ثم إذا حل الأجل أراد أخذ صنف آخر]: وإذا أسلم في حنطه موصوفة (3) إلى الأجل، فلما حل أراد أن يأخذ بمكيلتها صنفًا أعلى منها أو أدون أو شعيرًا أو سلتًا فلا بأس بذلك، فإن كان ذلك قبل المحل فلا يجوز، والفرق بين الموضعين أن الأجل إذا لم يحل فأخذ الدون وضع وتعجيل (4)؛ لأن التقديم غير مستحق له، فإنما رضي بدون شرطه لتعجله وأخذ الزيادة في مقابلة إسقاط الثمن عند البائع لأنه يخاف إن بقي في ذمته إلى وقت أجله (5) ارتفاع أسواقه وغلاء ثمنه وتلزمه كلفة إلى ذلك الوقت في حفظه وتعهده ويعلم أنه لا يلزم المسلم قبوله قبل الأجل، فتكون الزيادة في مقابلة جميع هذا، وإذا حل الأجل أمن من ذلك كله لأنه إن كان (6) أخذ الدون فذلك مسامحة لأنه ليس بمتعجل شيئًا لا يستحقه لأن الأجل قد حل وإن أخذ الأعلى فذلك مسامحة من المسلم إليه؛ لأنه لا يستحق عليه ببقية السلم (7) في ذمته زيادة على الأجل فيحمل ذلك عليه، فبان الفرق بينهما وإن كان ذلك في غير الجنس   (1) ما بين قوسين سقط من (ق). (2) في (م): آلت. (3) في (ق): معرفة. (4) في (ق): تعجل. (5) في (م): الأجل. (6) إن كان: سقطت من (م). (7) في (ق): المسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 991 أو النوع امتنع في الطعام وجاز في غيره لأنه إذا أسلم إليه في كر (1) حنطة، فلما حل الأجل أعطاه مكانه عدسًا أو أرزًا أو حمصًا أو غير ذلك من أنواع الطعام أو العروض أو الحيوان لم يجز شيء من ذلك لأنه بيع الطعام قبل قبضه وقصد المتاجرة والمغابنة وخروج عن المعروف والمسامحة. وأما في غير الطعام فيجوز كأنه أسلم إليه في عشرة أثواب قصب بصفة معلومة وغزل معروف، فلما حل الأجل رجع إليه عنها شيئًا من غير جنسها مثل الطعام أو الحيوان، فإنه يجوز لأنه بيع الثياب المسلم فيها قبل قبضها وذلك جائز بخلاف الطعام، وهذا إذا قبض الشيء الذي ينتقل إليه فإن لم يقبضه وكان في ذمة المسلم إليه لم يجز لأنه يصير دينًا بدين، فأما إن دفع إليه (2) قبل حلول الأجل مثل طعامه في الكيل والصفة فله أن يقبله وله أن لا يقبله (3) خلافًا للشافعي في قوله: إنه يلزمه أن يقبل العروض (4) وكل ما سوى الحيوان؛ لأن الأجل في السلم حق لهما، فلما كان المسلم لو طالب به قبل حلول أجله لم يلزم المسلم إليه دفعه لأنه في ذلك إسقاط حقه من تبقيته في ذمة المسلم إليه وضمانه وأن يسقط عنه حفظه ومراعاته، فإذا ثبت ذلك وتراضيا على أخذه قبل الأجل جاز لأنه مسامحة من أحدهما للآخر. فأما الذهب والفضة فيلزم من تدفع إليه قبل محلها أخذها بخلاف غيرها من الطعام والعروض لأنه لا يرجى فيها من تغير الأسواق واختلاف الأسعار ما يرجى في سائر المثمنات ولا يحتاج إلى حفظ ولا مراعاة ولا تلزم عليها مؤونة ولا يخاف عليه فساد، فكان الأجل فيها حقًّا ينفرد به من هي عليه والله أعلم، وهذا الذي ذكرناه في الذهب والفضة يستوي فيه البيع والقرض، فأما ما عداه فالأجل   (1) الكر: كيل معروف وهو ستون قفيزًا أو اثنا عشر وسقا (المصباح المنير ص 530). (2) إليه: سقطت من (ق). (3) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 3/ 135، التفريع: 2/ 136، الرسالة 216 - 217، الكافي 339. (4) انظر: الأم: 3/ 132 - 133، مختصر المزني 92، الإقناع 97 - 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 992 في المعاوضة (1) حق لهما لا يلزم أحدهما قبول ما يتعجل منه إلا برضاه، وفي القرض حق المستقرض وحده، فإن عجله لزم المالك قبوله. فصل [20 - إذا حل الأجل أخذ البعض وأقال من الباقي]: وإذا أسلم (2) في طعام أو عرض إلى أجل ودفع الثمن فلما حل الأجل أخذ البعض وأقال من الباقي فلا يجوز ذلك لأنه ذريعة إلى البيع والسلف، وذلك أن التهمة تقوى في أنهما تواطئا على البيع والسلف وسمياه بيعًا ليتطرق بذلك إلى جوازه كأنه قال له بعني عشرة أكرار بمائة دينار، فقال: لا أفعل إلا أن تسلفني مائة دينار (فقال: أن البيع والسلف لا يجوز ولكن يجعل السلم في عشرين كرًا بمائتي دينار) (3)، فإذا حل الأجل أقلتك من عشرة أكرار وأخذت عشرة فينتفع البائع بثمن العشرة ثم يرد بدله فيصير بيعًا وسلفًا, ولا يجوز إلا أن يكون الإقالة في الشيء اليسير الذي لا يخاف منه ذلك ولا تقوى التهمة لأجله مثل: أن يسلفه في عشرين كرًا فيقيله من كر ونصف كر أو الأمر الخفيف، فهذا لا يقوى التهمة إلا أن يكونا قصدا بيع عشرين كرًا بمائتي دينار لينتفع بدينار أو بخمسة، وكذلك لو أقاله من النصف وكان رأس المال معيبًا فرده بعينه، فيعلم أنه لم ينتفع به بأن ذلك جائز غير ممنوع لأن الإقالة تصرف إلى الرفق وإعواز الإتمام أو غيره من الأعذار (4). فصل [21 - شرط أخذ طعام بدل طعام في السلم عند الأجل]: فإذا باع شيئًا من الطعام كله -أي طعام كان مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه- بثمن إلى أجل فلا يجوز أن يأخذ بثمنه عند أجله ولا قبل أجله ولا بعده طعامًا لا   (1) في المعاوضة: سقطت من (ق). (2) في (م): إذا أسلف. (3) ما بين قوسين سقطت من (م). (4) انظر: المدونة: 3/ 135 - 136، التفريع: 2/ 135 - 136، الكافي 338 - 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 993 من جنسه ولا من غير جنسه إلا أن يكون من جنس ما باعه (1) بعينه بمثل مكيلته وعلى صفته فيجوز (2). وإنما قلنا ذلك لأنه يكون ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام متأخرًا وتسمية الثمن لغوًا، وإذا كان من نوع طعامه في الكيل والجودة والصفة جاز لأن الأمر لا يحمل (3) على طعام بطعام متأخرًا (4) قصدًا للنساء إذ لا فائدة فيه فيتهمان أنهما قصدانها، وإنما يُنَزَّل على القرض أو الإقالة. فصل [22 - السلم في طعام قرية بعينها أو حائط بعينه]: السلم في الطعام من قرية بعينها أو ثمرة حائط (5) بعينه على ضربين (6): إن كان مما يخلف ولا يؤمن تلفه فلا يجوز لأن ذلك غرر، وكالسلم في العين وذلك غير جائز، فإن كان مما لا يخلف في العادة ولا بد أن يسلم أو أكثره، وإن جاز تلف بعضه فلا بأس مثل أن يسلم في عشرة أكرار تمر برني من أعمالك البصرة فيجوز لأن التعيين ليس يفيد أكثر من التعريف ووصف النوع (7) المسلم فيه، كما لو قال: أسلفتك في عشرة أكرار حنطة بصفة كذا من حنطة الشام أو المشرق لجاز للعادة الجارية لأن (8) الأقليم الذي أضافه إليه لا يختلف.   (1) في (م): إلا أن يكون من غير حسن. (2) انظر: المدونة: 3/ 135 - 136، التفريع: 2/ 135 - 136، الرسالة 206 - 217، الكافي 339 - 340. (3) في (ق): لا يحصل. (4) متأخرًا: سقطت من (ق). (5) في (م): قداح. (6) انظر: المدونة: 3/ 119 - 121، التفريع: 2/ 138، الكافي 338. (7) في (م): العين. (8) في (ق): فإن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 994 فصل [23 - التفاضل في المبيعات]: والتفاضل في المبيعات كلها (1) على ضربين: منها ما يحرم نقدًا أو نساء وهو الفوت وما في معناه والأثمان فقط، ومنه ما يحرم نساء ولا يحرم نقدًا (2)، وعلة ذلك عندنا الجنس بمجرده فلا يجوز في شيء من الأشياء اثنان بواحد من نوعه إلى أجل على وجه والجنسية المعتبرة في ذلك (3): اتفاق الأغراض والمنافع واختلافهما (4)، فمتى اتفقت لم يجز بيع اثنين بواحد من النوع الذي اتفقت فيه إلى أجل على وجه وما اختلفت جاز، وإن كان جنس الخلقة والنسبة يجمعهما كالغنم التي جنسها واحد وبعضها يراد للحم وبعضها يراد للبن، فإن كان الغرض فيهما واحدًا لم يجز التفاضل مع النساء، وكذلك العبيد يجوز العبد الرومي الذي يراد للحرث والزراعة بالعبدين من جنسه يرادان لغير ما يراد له من المنافع ومثله البازل (5) من الإبل الذي يراد (6) للحمولة والراحلة باثنتين من القلاص المرادة للحم، وكذلك سائر الحيوان والعروض. وقال أبو حنيفة: الجنس بمجرده علة منع بيع بعضه ببعض نساء (7). وقال الشافعي: كل ما لا ربا في نقده جائز بيع بعضه ببعض نساء جنسًا كان أو جنسين (8).   (1) كلها: سقطت من (ق). (2) انظر: المدونة: 3/ 171 - 181، التفريع: 2/ 125 - 129، الرسالة ص 211 - 215، الكافي 310 - 311. (3) في ذلك: سقطت من (ق). (4) واختلافهما: سقطت من (م). (5) البازل: هو البعير فطر نابه بدخوله في السنة التاسعة ويستوي فيه الذكر والأنثى (المصباح المنير ص 48). (6) يراد: سقطت من (م). (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 75 - 76، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 37 - 38. (8) انظر: الأم: 3/ 14، 17، مختصر المزني ص 76 - 77، الإقناع ص 94 - 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 995 فالخلاف مع أبي حنيفة في جواز بيع الواحد من جنسه ونوعه إلى أجل، فدليلنا على جوازه قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1)، وحديث عبد الله ابن عمر أنه: "صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى أجل الصدقة" (2)، وروي ذلك عن عليّ (3)، وابن عمر (4)، ولا مخالف لهما، ولأن كل عينين لا يحرم التفاضل في نقد (5) أحدهما وهما على ضروب (6) من اختلاف الصفات تختلف معها منافعها وتتباين (7) الأغراض فيهما، فإن أسلم أحدهما في الأخرى جاز أصله الجنسان لأن الثور الذي يصلح للحرث والدراس يراد لقوته وعمله وذلك غير الغرض الذي يراد له الثور المعلوف الذي لا يراد إلا للسمانة واللحم وذلك بيِّن فيما قلناه. فصل [24 - منع الذرائع المؤدية إلى الربا]: ودليلنا على الشافعي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (8) والربا الزيادة، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (9)، وهذه المسألة (10) من الذرائع وهي ممنوعة عندنا ومعناها أن يمنع الشيء الجائز إذا قويت   (1) سورة البقرة، الآية: 275. (2) سبق تخريج الحديث 986. (3) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 652. (4) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 652. (5) نقد: سقطت من (م). (6) في (م): ضرب. (7) في (م): سائر. (8) سورة البقرة، الآية: 275. (9) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في الحيوان بالحيوان نسيئة: 3/ 652، والنسائي في البيوع، باب: الحيوان بالحيوان نسيئة: 7/ 292، وابن ماجه في التجارات، باب: الحيوان نسيئه: 2/ 763، والترمذي في البيوع، باب: كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئه، وقال: حسن صحيح: 3/ 538. (10) في (ق): المسلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 996 التهمة في التطرق به والتذرع إلى الأمر المحظور، وقد وافقونا في ذلك على مسائل منها قرض الجواري وغيرها، ووجه الذريعة في هذا الموضع (1) أنه يكون قرضًا يجر نفعًا كأن أحد الرجلين يقول للآخر: أقرضني فرسًا أو ثوبًا من صفته كذا وأرد عليك ثوبين مثله إلى شهر فيقول: إن هذا قرضًا يجر نفعًا وذلك ممنوع ولكن أبيعك ثوبًا (2) بثوبين فيحصل من ذلك استعمال القرض في الباطن بلفظ البيع فمتى أجزناه حصل منه ذريعة إلى الممنوع لقوة التهمة فيه. ...   (1) في (ق): الممنوع. (2) في (ق): ثوبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 997 باب: [في القرض] القرض (1) جائز (2) لأنه فيه خير وبر ولأنه صلى الله عليه وسلم اقترض (3) وندب إلى القرض وقال: "كل معروف صدقة" (4). فصل [1 - فيما يجوز قرضه]: ويجوز إقراض الذهب والورق والعروض والحيوان كله سوى الإماء، وإنما قلنا ذلك لأن القرض لا يؤدي إلى محظور في هذه الأشياء، فجاز فعله وأجزناه في سائر الحيوان خلافًا لأبي حنيفة (5) لأنه (6) صلى الله عليه وسلم استقرض بكرًا فقضى رباعيًّا (7)، ومنعناه في الإماء خلافًا لداود (8) وغيره, لأنه ذريعة استباحة فرج بغير نكاح ولا ملك فكان في معنى العارية لأن المقترض يطأ الأمَة ثم يردها فيلزم المالك قبولها ويصير مبيحًا لوطئها, ولأنها منفعة لا تستباح بالعارية فلم تستبح بالقرض كوطء الزوجات.   (1) القرض لغة: السلف، واصطلاحًا: دفع متمول في عوض غير مخالف له لا عاجلًا (انظر غرر المقالة ص 212، حدود ابن عرفة ص 297). (2) انظر: المدونة: 3/ 130، التفريع: 2/ 138 - 140، الرسالة ص 212 - 213، الكافي ص 358 - 359. (3) فعن أبي رافع: "أنه صلى الله عليه وسلم استلف من رجل بكرًا ... " أخرجه مسلم في المساقاة، باب: من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه (3/ 1244). (4) أخرجه الحاكم: 2/ 50، وقال: حديث صحيح الإسناد. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 84. (6) في (ق): لقوله. (7) سبق ذكر الحديث وتخريجه قريبًا. (8) انظر: المحلي: 8/ 642، 471. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 998 فصل [2 - فيمن اقترض أمَة]: وإذا ثبت ذلك فإن اقترض أمة ردها ما لم يطأها اعتبارًا بسائر ما يقترض لأن قبول رده حق للمستقرض فيلزم المقرض قبوله، فإن وطئها لم يجز له ردها لأنه متى ردها حصل منه إباحة فرج بغير نكاح ولا ملك ولزمته قيمتها لربها لأنه وطء بشبهة أسقطت عنه الحد فوجب تقويمها عليه لتتكامل الشبهة في ردء الحد عنه (1) اعتبارًا بوطء بينه وبين غيره. فصل [3 - القرض يجر نفعًا]: القرض الجار للنفع حرام (2) لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه (3)، فإن تطوع المقترض من غير شرط ولا عادة بزيادة في صفة أو عدد جاز لأنه صلى الله عليه وسلم اقترض بكرًا فقضى رباعيًّا وقال: "خياركم أحسنكم قضاء" (4)، وروي أن ابن عمر اقترض من رجل دراهم فرد عليه خيرًا منها فامتنع من أخذها وقال: هذه خير من دراهمي، قال ابن عمر: فإن نفسي طيبة بها (5). فصل [4 - السفاتج بالدنانير والدراهم]: وأما السفاتج (6) فمنعها مالك وأجازه غيره (7) فينظر: فإن كان ذلك لنفع   (1) في (ق): عنها. (2) انظر: المدونة: 3/ 130، التفريع: 2/ 138، الرسالة ص 213، الكافي ص 358 - 359. (3) أخرجه الحارث بن أبي أسامة وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، وأخرجه البيهقي مرفوعًا (انظر تلخيص الحبير: 3/ 43، ونصب الراية: 4/ 60). (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) في قصة غريبة له انظر عبد الرازق: 8/ 147. (6) السفاتج: جمع السفتجة -بفتح السين وضمها- وهي: كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالًا قرضًا يأمن به من خطر الطريق (المصباح المنير ص 278). (7) انظر: المدونة: 3/ 130، التفريع: 2/ 136، الكافي ص 359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 999 الآخذ فلا بأس مثل أن يقرض رجل رجلًا دنانير ببغداد والمقترض بلده البصرة فيقول المُعطي: أنا أقرضك هذه الدراهم ها هنا ببغداد وتدفعها إلى وكيلي بالبصرة أو أجيء أنا البصرة فآخذها منك حتى لا تحتاج إلى تكلف السفر بها، فهذا جائز لأنه جميل ولا نفع للمعطي، فإن كان النفع فيه للمعطي مثل أن تكون عليه دراهم بالبصرة ويريد أن ينقدها إلى هناك دراهم فيخاف غرر الطريق فيقرضها لمن يدفعها (1) إلى غريمه بالبصرة فيربح هو نفقة الطريق والغرر، فلا يجوز لأنه قرض يجر نفعًا ومن أجازها علله بأنه ليس لها حمل ولا مؤنة. فصل [5 - في موضع قضاء القرض]: إذا لم يشترط بالقضاء موضعًا لزم المقترض القضاء في الموضع الذي أقرض فيه لأن غيره من المواضع تكليف للمقترض ومؤونه وخسران والتزام وغرر، وكذلك للمقترض (2) إن كان القرض نفعًا [المقترض] (*)، وذلك غير جائز فإن لقيه في موضع آخر فأخذه به لم يلزمه ذلك ولكن يخرج معه إلى الموضع الذي اقترض منه فيه أو يوكل من يقضيه في ذلك الموضع، فإن اتفقا على القضاء في بلد آخر، فإن كان بعد محل الأجل جاز لأن ذلك رفق من الباذل والقابل، وإن كان قبله لم يجز لأنه في مقابلة التعجيل (3). فصل [6 - في مطالبته بالقرض قبل الأجل]: وإذا أقرضه إلى أجل لم يكن له مطالبته قبل (4) الأجل (5) خلافًا للشافعي (6)   (1) في (ق): من يدفعها. (2) في (م): المقترض. (3) انظر: المدونة: 3/ 130، التفريع: 2/ 139، الرسالة ص 213، الكافي ص 359. (4) في (م): قبله. (5) انظر: التفريع: 2/ 136 - 140، الرسالة ص 213 - 214، الكافي ص 358. (6) انظر: مختصر المزني ص 90 - 91، المهذب: 1/ 303. (*) كذا ولعل الصواب [للمقترض] مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1000 لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة" (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الراجع في هبته كالراجع في قيئه" (2)، ولأن الأجل قد صار حقًّا للمقترض فأشبه الأجل في السلم. ...   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (998). (2) أخرجه البخاري في الهبة، باب: هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها: 3/ 134، ومسلم في الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة: 3/ 1241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1001 باب: [في بيع السلم قبل قبضه] وإذا أسلم في عرض ثمنًا معلومًا ثم أراد بيعه من المسلم إليه قبل قبضه، فإن باعه بمثل ثمنه أو أقل منه جاز وإن كان بأكثر لم يجز (1). وإنما قلنا ذلك لأنه لا تهمة في أن بيعه بمثل الثمن أو أقل منه لأنه يزن (2) درهمًا ويأخذه بعد مدة لأن ذلك الدرهم لا زيادة عليه أو دونه وكأنه أقاله أو ندم فباعه بنقصان، وإذا باعه بالزيادة أتهم أن يكون أقرضه دراهم بأكثر منها إلى أجل وتسمية القرض الذي سمياه لغوًا لم يتحصل وذلك ذريعة إلى الربا (3). فصل [1 - جواز بيع السلعة من غير بائعها بمثل أو أقل أو أكثر]: ويجوز أن يبيعها من غير بائعه بمثل ثمنه أو أقل أو أكثر يدًا بيد لأن غير البائع لا تهمة بينه وبينه، ولا يجوز أن يؤخر الثمن عليه لئلا يكون دينًا بدين. فصل [2 - فيمن باع سلعة بثمن إلى أجل ثم أراد شراءها من الذي باعها إياه]: إذا باع سلعة بثمن إلى أجل ثم أراد أن يشتريها من الذي باعها إياه فلا يخلو أن يشتريها نقدًا أو إلى أجلها أو إلى أجل (4) أبعد من أجلها، ثم لا يخلو أن يشتريها بمثل ثمنها أو بأقل أو بأكثر، فهذه سبعة أقسام: يمنع منها قسمان فقط ويجوز باقيها والذي يحفظ منه أن يؤول أمره إلى أن يزن درهمًا ويأخذ بعد مدة   (1) انظر: المدونة: 3/ 135 - 136، التفريع: 2/ 136، الرسالة ص 212، 340. (2) في (ق): عون. (3) في (م): الزيادة. (4) أجل: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1002 أكثر منه، فهذا القدر هو الممنوع وهو أن يبيعها بمائة إلى شهر فيبتاعها نقدًا أو إلى دون الشهر بثمانين (1) أو إلى شهرين بمائة وعشرين، ففي هذين الموضعين يمنع لأنه إذا ابتاعها نقدًا بثمانين حصل منه أنه وزن ثمانين وأخذ بعد مدة مائة وتسمية الثمن والبيع لغوًا، وكذلك إذا ابتاعها إلى شهرين بمائة وعشرين حصل منه أنه يأخذ من المشتري بمائة ويعطيه بعد مدة مائة وعشرين وذلك ذريعة إلى الربا فيجب منعه (2)، خلافًا للشافعي في قوله أنه جائز (3)، وذلك لو جاز لأبيح التذرع إلى الربا والعينة، وهي أن يقول الرجل للرجل: ابتع لي هذه السلعة بعشرة دنانير وأنا أربحك دينارًا، فيفعل ذلك فيحصل منه قرض عشرة بأحد عشر من غير حاجة البائع إلى السلعة، وإنما تذرع بها إلى قرض الذهب بأكثر منها، وإذا وجدنا فعلًا من الأفعال يقع على وجه واحد لا يختلف إلا بالنية من فاعله وظاهره واحد ولم يكن لنا طريق إلى تمييز مقاصد الناس ولا إلى تفصل أغراضهم وجب حسم الباب وقطع التطرق إليه، فهذا وجه بنائها على الذريعة، ولأن الصحابة سلكوا هذه الطريقة في منع البيع في هذه المسألة: لأن ابن عباس سئل عن رجل باع سلعة بمائة ثم اشتراها بخمسين، فقال: الدراهم بالدراهم متفاضلة، والسلعة دخلت بينهما (4)، وهذا نص قولنا، ونكتة المسألة حديث زيد بن أرقم (5): أن أم ولده باعته جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشترتها بعد ذلك بست مائة فقالت لها عائشة رضي الله عنها: بئس ما اشتريت (6) وبئس   (1) في (ق): بمائتين. (2) انظر: المدونة: 3/ 135 - 193، التفريع: 2/ 163، الرسالة ص 217، الكافي ص 324. (3) انظر: الأم: 3/ 78 - 80، مختصر المزني ص 85. (4) المحلي: 9/ 106، عبد الرزاق: 8/ 187. (5) زيد بن أرقم: بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، مات سنة ثمان وستين (تقريب التهذيب ص 222). (6) في (ق): ما شريت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1003 ما اشتريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب فقالت: فما أصنع؟ قالت عائشة رضي الله عنها: قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1)، واشتهرت هذه القصة والإنكار من الصحابة (2) ولم يختلف عليها (3) أحد فيه، وإذا ثبت منع ذلك فقد ذكرنا أن هذه (4) الأقسام سوى هذين القسمين لا تمنع فيها، أما شراؤه إياها بمثل الثمن ولا تهمة فيه سواء كان نقدًا أو إلى أجل أو إلى ما بعده لأنه وزن درهمًا وأخذ مثله أو أخذ درهمًا ورد مثله، وكذلك شراؤها إلى الأجل بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر لأنه لا تهمة فيه (ولأنه لم يزن درهمًا ويلقى بعد مرة أكثر منه فيتهم والنقد لا تهمة فيه) (5)، وإنما التهمة في التأخير أن يكون ينتفع بالقليل الذي لم يأخذه طول المدة ثم يزن بعد المدة أكثر منه، فأما في الحال فلها تهمة فيه، وشراؤها نقدًا بأكثر من الثمن أو إلى أجل بعد الأجل بأقل منه لا تهمة فيه، لأنه يزن درهمًا ويأخذ بعد مدة أقل منه أو يأخذ درهمًا ويرد بعد مدة أقل منه والله أعلم (6). فصل [3 - في العينة]: والعينة ممنوعة (7) لأنها ذريعة إلى الربا وقرض دراهم بأكثر منها وصفتها: أن يسأل الرجل أن يبتاع له سلعة ليست عنده فيقول له: اشترها لي من مالك بعشرة دنانير نقدًا وهي لي باثنى عشر إلى شهر كذا فهذا ذريعة إلى الربا على ما ذكرناه.   (1) سورة البقرة، الآية: 275. (2) أخرجه البيهقي: 5/ 230، وعبد الرزاق: 8/ 184. (3) في (م): ولم يخالف عليها أحد. (4) في (م): سائر. (5) ما بين قوسين: سقطت من (ق). (6) والله أعلم: سقطت من (م). (7) انظر: المدونة: 3/ 193، التفريع: 2/ 163، الرسالة ص 212 - 213، الكافي ص 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1004 باب: [في بيع الثمار] بيع الثمار يقع على وجهين: أحدهما قبل بدء الصلاح فيها، والآخر بعده، فأما قبله فلا يخلو أن يقع على أحد ثلاثة أوجه: إما أن يقع بشرط (1) القطع أو بشرط التبقية أو مطلقًا، فأما بيعها بشرط القطع فجائز من غير خلاف (2) لانتفاء الغرر فيها، ولأنه باع شيئًا قبل قبض المشتري عقيب العقد من غير مراعاة لأمر يخافه مع التبقية. فصل [1 - في بيع الثمار بشرط التبقية]: وأما بيعها بشرط التبقية فباطل من غير خلاف (3)، والأصل فيه نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها نهي البائع والمشتري (4)، وروي أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل: وما تزهى: حتى تحمر أو تصفر" (5)، وقال: "أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه" (6)، ولأن الغرر يكثر فيها والانتفاع يقل بها، والآفات والعاهات لا تؤمن عليها في تبقيتها، وهذه فائدة قوله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن منع   (1) في (م): على شرط. (2) و (3) انظر: بداية المجتهد: 7/ 253، المغني: 3/ 92 - 94، فتح الباري: 4/ 267 - 313، نيل الأوطار: 5/ 174. (4) أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها: 3/ 43، ومسلم في البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها: 3/ 1165. (5) أخرجه البخاري في البيوع، باب: إذا باع الثمار قبل أن يبدوا صلاحها: 3/ 34، ومسلم في البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها: 3/ 1165. (6) هو جزء من الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1005 الله الثمرة فبم (1) يأخذ أحدكم مال أخيه" (2)، فإذا تتابع طيبها أمنت (3) الآفات عليها في الغالب وقيل الغرر فيها، فجاز بيعها. فصل [2 - في بيع الثمرة مطلقًا]: وأما بيعها مطلقًا فغير جائز (4) خلافًا لأبي حنيفة (5)، "لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدوا صلاحها" (6) فعم، وروي: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يَسْودَّ والحب حتى يَشْتَد" (7)، والنهي يدل على فساد المنهى عنه، وتعليق الحكم بغاية يفيد مخالفة ما قبل الغاية لما بعدها، ولأنه عقد على ثمرة مقدرة قبل بدو الصلاح (8)، من غير شرط القطع فلم يصح أصله إذا كان يشترط التبقية. فصل [3 - بيع الثمرة بعد بدو صلاحها]: فأما بيعها بعد بدو الصلاح فإنه أيضًا لابد وأن يقطع على أحد الثلاثة [الأوجه] (*): فإن بيعت بشرط القطع فجائز من غير خلاف، لأنه إذا جاز ذلك قبل بدو الصلاح فبعده أولى، وإن بيعت بشرط التبقية جاز (9) أيضًا خلافًا لأبي   (1) في (م): فبماذا. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) في (ق): أومنت. (4) انظر: الموطأ: 2/ 618 - 619، التفريع: 2/ 141 - 143، الرسالة ص 214، الكافي ص 332 - 333. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 78 - 79، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 10 - 11. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) أخرجه مسلم في البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها: 3/ 1166. (8) في (م): صلاحها. (9) في (م): فجائز. (*) كذا بالأصل ولعل الصواب (أوجه). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1006 حنيفة (1)، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2)، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل (3) أن يبدو صلاحها فأطلق، ولأن الإطلاق جائز باتفاق وهو مقتضي للتبقية فاشتراطها تأكيد لمقتضى الإطلاق. فصل [4 - في بيع الثمرة بعد بدو صلاحها على الإطلاق]: فإن بيعت على الإطلاق فجاز أيضًا من غير خلاف، والإطلاق يقتضي التبقية ولذلك منعناه قبل بدو صلاحها خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه يقتضي القطع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إذا منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه" (4) ومنع الثمرة ذهابها بجائحة أو آفة من السماء، وذلك إنما يخاف (5) على ثمرة تبقى ويستدام تبقيتها ويؤمن فيما يشترط فيه القطع، ولأن الإطلاق في العقود (6) محمول على العرف فيكون كالمشترط بدليل وجود ذلك في النقد والسير والحمولة وغيرها وفي نقل ما ينقل من المبيعات والعرف في الثمار إذا بيعت تبقيتها إلى وقت الجداد والإدراك فوجب حمل الإطلاق على ذلك. فصل [5 - في وصف بدء الصلاح في الثمار]: بدو الصلاح في الثمار يختلف بحسب اختلاف الغراس، ففي النخل بأن يحمَّر أو يصفر البسر وفي العنب أن يسود إن كان مما يسود أو تدور الحلاوة فيه إن كان أبيضًا، والتين والبطيخ وغيرهما إدراكه وبلوغ أكله، والبقول تمام نباتها وأن ينتفع بها إذا قطعت في العادة، وقد وردت السنة بأن بدو الصلاح في الثمار   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 78 - 79، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 10 - 11. (2) سورة البقرة، الآية: 275. (3) في (م): حتى. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) في (ق): يخلف. (6) في (ق): في المعهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1007 الزهو وهو في النخل أن يصفر أو يحمر (1) وفي العنب حتى يسود (2)، وروي: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم" (3). فصل [6 - إذا بدى الصلاح في نخلة من بستان]: إذا بدا الصلاح في نخله من بستان جاز بيع جميع نخل ذلك البستان، وكذلك إذا بدا في نوع من الثمار كان ذلك كبدوه في جميع ذلك النوع، وهذا إذا كان طيبًا متتابعًا ولم يكن مبكرًا والمراعى (4) فيه بلوغ الزمان الذي تؤمن فيه العاهة على الثمرة غالبًا، لأن لو لم يُجَوَّز ذلك إلا بأن يعم الصلاح الحائط لحق فيه ضررًا عظيمًا (5) ومشقة شديدة، ولا يكاد يلحق الآخر إلا بفساد الأول، فأما الطيب المبكر فلا اعتبار به (6) لأنه لا يحصل معه الأمن من الآفة لسبقه الزمان الذي يؤمن ذلك فيه، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "حتى يبدو صلاحها" (7) أراد الصلاح المأمون المعتاد.   (1) أو يحمر: سقطت من (م). (2) كما جاء في الحديث الذي سبق تخريجه في الصفحة (1006): "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد". (3) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (3/ 667) بلفظ: "حتى تشقح"، وأحمد: 3/ 360، والبيهقي: 5/ 309، وهو في الصحيحين بلفظ: "حتى تطيب" في البخاري في البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل: 3/ 99، وفي مسلم في البيوع، باب: المنهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحها: 3/ 1167. (4) في (م): المراعاة. (5) في (ق) و (م): ضرورة عظيمة. (6) انظر في هذا: الموطأ: 2/ 619، التفريع: 2/ 143، الرسالة ص 214، الكافي ص 333. (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1005). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1008 فصل [7 - جواز بيع ما يجاور المراح بطيبه وصلاحه]: يجوز أن يباع ما يجاور المراح بطيبه وصلاحه (1) خلافًا للشافعي (2)؛ لأنه إذا جاز بيع ما في المراح بطيب بعضه جاز بيع ما حوله بطيبه لأنه لا فضل في ذلك إلا قيام الجدران بدليل أنها لو قلعت لارتفع المنع وذلك لا يؤثر، ولأن الزمان الذي تؤمن فيه الآفة غالبًا حاصل. فصل [8 - في عدم جواز بيع صنف من الثمار بطيب غيره]: لا يجوز بيع صنف من الثمار بطيب غيره كالرطب والعنب (3) لأنها متفاوتة في الإدراك والتلاحق تفاوتًا (4) شديدًا، فلم يكن طيب بعضها دالًا على تلاحق (5) غيره وتخلصه (6) من الآفة. فصل [9 - في بيع المقاثي والمباطخ]: يجوز بيع المقاثي والمباطخ (7) إذا بدا صلاح أولها وإن لم يظهر ما بعده، وكذلك الأصول المغيَّبة في الأرض كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك (8)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (9)، لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (10)، ولأن الغرر إذا دعت الحاجة إليه وكان قليلًا جاز البيع معه ولو   (1) انظر: التفريع: 2/ 143، الرسالة ص 214، الكافي ص 332. (2) انظر: الأم: 3/ 48 - 50، مختصر المزني ص 80. (3) انظر: التفريع: 2/ / 143، الكافي ص 333. (4) في (ق): تهاوتًا. (5) في (م): تخلص. (6) وتخلصه: سقطت من (م). (7) المقاثي: يشمل البطيخ والخيار والقثاء والقرع والباذنجان ونحوه والمباطخ، وهو ما لا يمكن أكله إلا بالطبخ. (8) انظر: التفريع: 2/ 143، الكافي ص 333. (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 78، مختصر المزني ص 80. (10) سورة البقرة، الآية: 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1009 لم يجز في مسألتنا البيع لجملة المقثات والمبطخة حتى يظهر (1) إلى أحد أمرين: إما أن تفرد (2) الموجود بالبيع (3)، وهو إنما يؤخذ أولًا فأول، وذلك يؤدي إلى اختلاط ما ظهر بما لم يظهر، لأن خروجه متتابع فليس يؤخذ (4) الأول إلا وقد خرج بدله ويشق التميز بين الثمرين أو أن لا يباع إلا بعد ظهور جميعه، وفي ذلك إضاعته وإفساده، فدعت الحاجة إليه مع قلة الغرر فيه، ولأن قد اتفقنا على جواز بيع ما لم يبد صلاحه (5) من الثمار تبعًا لما قد بدا صلاحه، وكذلك يجوز بيع ما لم يخلق تابعًا لما قد خلق. فصل [10 - في بيع الورد والياسمين والموز والقرظ والقصب والكتان]: والورد والياسمين جائز بيعه إذا حان قطافه والانتفاع به ويكون ما بعد ذلك للمشتري إلى آخر إبَّانه كما ذكرنا في المقاثي والمباطخ، وأما الموز فلا بد فيه من ضرب أجل لأنه يبقى سنين عدة فيحتاج إلى ضرب أجل ليعلم مقدار المبيع منه وكذلك القرظ (6) والقصب لا يجوز بيعه حتى يفنى، لأن مدة بقائه مجهولة، ويجوز بيعه عدة جزات، ولا يجوز أن يشترى الكتان ويستثنى حبته ولا القرظ ويستثنى برسيمه إذا كان ذلك قبل جفاف الحب واستغنائه عن الماء، لأن ذلك بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط التبقية، ويجوز ذلك إذا كان قد استغنى عن الماء ويبس (7)، ولأنه موجود مشاهدة (8).   (1) أي: يظهر نباته على الأرض. (2) في (م): يعود. (3) بالبيع: سقطت من (ق). (4) في (م): يوجد. (5) في (ق): صلاحها. (6) القرظ: هو حب معروف يخرج في غلف كالعدس من شجر العضاء (انظر المصباح المنير ص 499). (7) في (م): يتبين. (8) في جملة هذه الأحكام انظر: التفريع: 2/ 144 - 145، الكافي ص 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1010 فصل [11 - في بيع الحنطة في سنبلها]: بيع الحنطة في سنبلها مفردة (1) عن السنبل غير جائز بالإجماع، وأما بيع السنبل (2) إذا يبس واستغنى عن الماء فجائز (3) خلافًا للشافعي (4) لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض (5)، (وروي: "عن بيع الزرع حتى تبيض" (6)) (7)، ولأنه مأكول دونه حائل من أصل الخلقة هي كالباقلاء في قشرته السفلى. فصل [12 - في بيع الجوز والجلوز واللوز والباقلاء في قشره]: يجوز بيع الجوز والجلوز واللوز والباقلاء في قشره الأعلى وبه (8)، قال أبو حنيفة وقال الشافعي: لا يجوز (9)، ودليلنا قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (10)، ولأنه مأكول في أكمام من أصل الخلقة فجاز بيعه كالرمان والموز، ولأن الضرورة تؤدي إلى ذلك لأن بالناس حاجة إلى بيعه رطبًا لأنه ليس كل أحد يمكنه أن يجفف ثمرته وفي نزع قشرته إفساد له فلم يبق إلا جواز البيع. فصل [13 - بيع الأصول مع ثمرها مؤبرة وغير مؤبرة]: وإذا ابتاع أصل نخل وفيها ثمر، فإن كان قد أبر (11) فهو للبائع إلا أن   (1) في (ق): المنفردة. (2) وأما بيع السنبل: سقطت من (ق). (3) انظر: التفريع: 2/ 144 - 145، الكافي ص 333. (4) انظر: الأم: 3/ 40 - 41، مختصر المزني ص 80، الإقناع ص 92. (5) أخرجه مسلم في البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع: 3/ 1165 - 1166. (6) لم أعثر على تخريج لهذا الخبر. (7) ما بين قوسين سقط من (م). (8) في (ق): وتبدأ. (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 78، مختصر المزني ص 80. (10) سورة البقرة، الآية: 275. (11) التأبير: هو التلقيح أبرت النخل يعني لقحت (غرر المقالة ص 217). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1011 يشترطه المبتاع، وإن كان لم يؤبر فهو للمبتاع من غير شرط وإن استثناه البائع لم يجز (1)، وقال الشافعي: يجوز (2)، وقال أبو حنيفة: والثمرة في الحالين للبائع قبل الإبار وبعده ولا يكون للمبتاع إلا بشرط، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ابتاع نخلًا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" (3) فشرط في كونه للبائع أن يؤبر، فدل على أنها قبل التأبير ليست له، ولأنه كامن في أصل الخلقة فوجب أن يتبعه (4) في البيع (بمقتضى العقد كالحمل في البطن واللبن في الضرع) (5)، وإنما قلنا: أن البائع إن استثناها لم يجز لأنها قبل الأبار كامنة غير ظاهرة، فهي كالجنين في بطن أمِّه واستثناء الجنين إذا بيعت الأم غير جائز. فصل [14 - إذا أبر بعض الأرض وبعضها لم يؤبر]: إذا أبر بعضها ولم يؤبر البعض، فإن كانا متساويين كان ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر ففيهما روايتان (6): إحداهما: أن الأقل تبع للأكثر، والأخرى: أن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري. فوجه الأولى: أن الأصول موضوعة على الغالب على أن القليل تابع للكثير فوجب حمل هذا الموضع عليها (7)، ووجه الثانية عموم الخبر واعتبارًا بالعراجين.   (1) انظر: التفريع: 2/ 146، الرسالة ص 214، الكافي ص 335. (2) انظر: الأم: 3/ 41، مختصر المزني ص 80، الإقناع ص 92. (3) أخرجه البخاري في البيوع، باب: قبض من باع نخلًا قد أبرت: 3/ 35، ومسلم في البيوع، باب: من باع نخلًا عليها تمر: 3/ 173. (4) في (م): يبيعه. (5) ما بين قوسين سقط من (م). (6) انظر: التفريع: 2/ 146، الرسالة ص 217، الكافي ص 335. (7) في (ق): على هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1012 وإنما قلنا: إنهما إذا كانا متساويين لم يتبع أحدهما (1) الآخر لأنه ليس لأحدهما مزية على الآخر بكثرة فيتبعه. فصل [15 - علامة التأبير في الأشجار غير النخل]: ما عدا النخل من سائر الأشجار فعلامة التأبير فيها أن تورد الشجر ثم ينعقد الورد ثمرًا، فيثبت البعض ويسقط البعض مما لم ينعقد فيها (2)، فيكون ذلك كالإبار في النخل. فصل [16 - إذا اشترى أرضًا وفيها زرع صغير ولم يبد صلاحه]: إذا اشترى أرضًا وفيها زرع صغير لم يظهر ولم يبد صلاحه ولم يذكره في عقده ففيها روايتان: إحداهما أنه للبائع، والأخرى أنه للمبتاع، فإذا قيل: للمبتاع (3) فاعتبارًا بالثمرة، وإذا قيل: إنه للبائع فلأنه عين وضعت في الأرض على غير التأبيد بل على النقل والاسترجاع كالمال المدفون (4) في الأرض. مسألة [17 - بيع الثمار على رؤوس النخل والشجر جزافًا]: يجوز بيع الثمار على رؤوس النخل والشجر جزافًا (5) لأنها مشاهدة وتسرى وتحرز ولا يجوز بيعها (6) بالخرص لأنه غرر لا حاجة تدعو إليه واعتبارًا ببيع الصبرة، ويجوز بيع جزء منها مثل نصفها أو ثلثها وربعها للضرورة إلى بيعها في رؤوس النخل على ما هي عليه، ولأن البيع معلوم والمستثنى المبقى على الملك معلوم، ويجوز أن يستثنى منها جزءًا معلومًا، كما يجوز أن يبتدأ في بيع ذلك   (1) في (ق): إحداهما. (2) وفيها: سقط من (م). (3) فإذا قيل للمبتاع: سقطت من (م). (4) في (ق): المرهون. (5) انظر: التفريع: 2/ 147، الرسالة ص 216، الكافي ص 326. (6) في (م): ولا يجوز بيع الثمار على رؤوس النخل والشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1013 الجزء المبقى باسمه من غير استثناء إذا لعوض معلوم، ولو (1) قال: بعتك هذه الثمرة إلا ربعها فهو كقولك (2): بعتك ثلاث أرباع الثمرة (3) فيصح (4)، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير إلا قبح اللفظ، وذلك غير مؤثر، وأما استثناء الكيل فيجوز عندنا مما بينه وبين الثلث فقط، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5) في منعهما ذلك في الكيل (6) في القليل والكثير، فإن ذلك عمل متصل بالمدينة (7) مستفيض بين الصحابة والتابعين أنهم كانوا يفعلونه إذا باعوا حوائطهم، ولأنه استثناء قدر معلوم، فصح البيع معه أصله استثناء الجزء ولا تدخل عليه الزيادة على الثلث لأن التعليل لإلحاق أحد النوعين بالآخر. فصل [18 - في تعليل الفصل بين ما زاد على ثلث الكيل وبين ما قصر عنه]: وإنما فصلنا بين ما زاد على الثلث، وبين ما قصر منه لأن ما قصر عنه في حيز القليل فلا يُبطل غرض المشتري، ولأنه لا يؤدي إلى الجهل بالمبيع ومقداره. فصل [19 - إذا باع ثمرة حائط واستثنى نخلات منه]: إذا باع ثمرة حائط واستثنى نخلات منه، فذلك على وجهين: أحدهما أن يعين ما استثناه، والآخر أن لا يعينه: فإن عيَّن ما استثنى فذلك جائز لا يختلف المذهب فيه لأن البيع يتناول ما عدى تلك بالأعيان المستثناة، وإن لم يعين وكان ذلك معلقًا على الاختيار، فلا يخلو أن يشترط الخيار للبائع أو للمشترى، فإن كان للبائع جاز إن كان (8) بقدر ثلث الثمرة، مما يجوز له أن يستثنيه كيلًا،   (1) في (م): وإذا. (2) في (م): كقوله. (3) في (م): أرباعها. (4) في (ق): فلا يصح. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 78، مختصر المزني ص 60. (6) في الكيل: سقطت من (م). (7) حكى عمل أهل المدينة القاضي عبد الوهاب أيضًا في كتابة الأشراف: 1/ 265. (8) في (م): كانت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1014 وإن كان للمشتري فلا يجوز لأن غرض المشتري لا يحصل له ويصير المبيع مجهولًا (1). فصل [20 - في استثناء الجلد والسواقط في الشاة المبيعة]: اختلفت الروايات عن مالك في استثناء الجلد والسواقط في الشاة المبيعة (2): فروي عنه منعه على الإطلاق، وروي عنه: إجازته في السفر دون الحضر، وقال المحققون من أصحابنا: إن هذا كله اختلاف أحوال وليس باختلاف قول، والمذهب أن الأسقاط إذا كانت لها قيمة وبال يأخذ قسطًا كبيرًا من الثمن فإن استثناها فهو غير جائز (3) في سفر ولا حضر لأن استثناء الكثير تعرض الصفقة للغرر واستثناء اليسير لا يوجب ذلك، وإذا كانت يسيرة القيمة لا خطب لها فإن استثناءها جائز لقلة الغرر، والمنع والإباحة يتبع هذا المعنى، وإما نص على الحصر بالمنع، وعلى السفر بالإباحة ليجري العادة بكثرة القيمة في الحضر وقلتها ودناءتها (4) في السفر. فصل [21 - دليل جواز الاستثناء]: وإنما قلنا: إن استثناءها جائز في الجملة لأنه (5) صلى الله عليه وسلم لما هاجر ومعه أبو بكر رضى الله عنهما مروا براع فاشتروا منه شاة وشرطوا له رأسها وإسقاطها (6)، وروي ذلك عن زيد بن ثابت (7) وجماعة من   (1) انظر: التفريع: 2/ 147، الرسالة ص 222، الكافي ص 331. (2) انظر: المدونة: 3/ 291 - 292، الكافي ص 331. (3) في (ق): جائز. (4) في (م): دنى خطبها. (5) في (م): لما روى. (6) في (م): سواقطها، وأخرج الحديث أبو داود في مراسيله عن عروة بن الزبير وذكر الحديث في المدونة ورواته ثقات إلا موسى بن شيبة الحضرمي، فإنه مقبول والحديث مرسل (انظر: تخريج أحاديث المدونة: 3/ 1138). (7) زيد بن ثابت: بن الضحاك بن لوذان الأنصاري البخاري، صحابي مشهور، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1015 الصحابة (1) رضى الله عنهم، ويجوز استثناء اليسير من لحمها كالأرطال اليسيرة ولا يجوز زيادة على ذلك لأنه يؤدي إلى الجهل بالمبيع كالثمرة ولا يستثنى منها فخذًا ولا يدًا، لأن ذلك يكثر الغرر فيه بخلاف السواقط. فصل [22 - في شراء ثمر مكيل من حائط بعينه]: يجوز أن يشترى الرجل ثمرًا مكيلًا من حائط بعينه، وقد بدا صلاحه بثمن معجل أو مؤجل معلوم (2)، فإن فنى استيفائه ما ابتاعه منه أخذ بقيمة رأس ماله أو غيره مما يتراضيان عليه في الحال ولا يؤخراه (3). وإنما قلنا ذلك لأنه بيع عين وليس بسلم لأنه يتعلق بالذمة فجاز في الحائط المعين بالثمن المعجل والمؤجل. وإنما قلنا: يأخذ بقيمة (4) رأس ماله، لأن العين إذا تعذرت التوفية بها (5) بطل العقد فيها ولا يلزم (6) أن يدفع إليه بقيته لأن العقد لم يتناول شيئًا في الذمة. وإنما قلنا: إن لهما أن يتراضيا على شيء يفسخه فيه؛ لأن ذلك ليس ببيع الطعام قبل قبضه لأنه إذا لم يبق له ما يأخذه تبيَّنا أنه لم يملك ما لم يبق له فانفسخ العقد فيما بقي، وقلنا: لا يؤخره لئلا يكون دينًا بدين. ...   = كتب الوحي، كان من الراسخين في العلم، مات سنة خمس أو ثمان وأربعون، وقيل: بعد الخمسين (تقريب التهذيب ص 222). (1) وروي عن عليّ بن أبي طالب وشريح الكندي (انظر عبد الرزاق: 8/ 27، المغني: 4/ 116). (2) معلوم: سقطت من (م). (3) انظر: التفريع: 2/ 148، الكافي ص 332. (4) في (ق): بقدر. (5) في (م): فيها. (6) في (م): يلزمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1016 باب: [في العرية] العرية (1) جائزة (2) وهي: أن يهب الرجل ثمرة نخله أو نخلات أو شجرة له من رجل، ولا يجوز لمن أعريها أن يبيعها حتى يبدو صلاحها، فإذا بدا صلاحها جاز له بيعها من كل أحد بالذهب والفضة والعروض، ومن مُعريها خاصة بخرصها ثمرًا يدفعه إليه عند الجِذاذ في خمسة أوسق فدونها ولا يجوز ذلك في زيادة عليها في حق كل واحد مما عري، بأن كان الجميع يزيد على خمس (3) وسق بعد أن لا تزيد عرية كل واحد على ذلك. وإنما قلنا: إن العرية هبة ثمر النخل أو الشجر لأن العرية في اللغة: الهبة، قال أهل اللغة: العرية والمنحة والعطية بمعنى واحد، تقول: عروّ الرجل أَعْرُوه إذا أتيته تلتمس ثمرة، وقيل أيضًا (4): أنها مأخوذة من تخل الإنسان عن ملكه وعُرُوُه منه كأنه عري منه، ومنه قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} (5) بالموضع الخال المنكشف (6)، وعند أبي حنيفة أنها الهبة على ما قلناه إلا أنه قال: يجوز أن يعطيه بها ثمرًا (7) لأنها لم تجب لعدم القبض، فله أن يأخذها منه ويعطيه   (1) العرية: قال ابن عرفة: هي ما منح من ثمر ييبس، وقال المازري: هي هبة الثمرة، وقال عياض: منح ثمر النخل عامًا، وقال الباجي: هي النخلة الموهوب ثمرها (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 287). (2) انظر: المدونة: 2/ 272 - 278، التفريع: 2/ 149 - 151، الرسالة ص 222، الكافي ص 315 - 316. (3) في (ق): مائة. (4) أيضًا: سقطت من (م). (5) سورة الصافات، الآية: 145. (6) انظر: تفسير الطبري: 23/ 101. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 78، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1017 الثمر (1) ابتداء، وعند الشافعي: أن العرية بيع الرطب في رؤوس النخل بثمن يتعجله (2). فصل [1 - تعليل أحكام العرية]: وإنما قلنا: إنها ليست ببيع لما قدمناه من الأدلة على أن معناها الهبة في اللغة، وإنما قلنا: أنه لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها (3)، فعم الثمرة الموهوبة (4) وغيرها، وإنما قلنا: إنه يبيعها بما شاء من الثمن سوى الطعام بسائر الثمار المملوكة بالشراء أو بأصل الملك أو بميراث أو غير ذلك، وإنما قلنا: أنه يجوز بيعها من معريها خاصة بالثمر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في العرايا بأن تباع بخرصها تمرًا (5)، وإنما جاز ذلك في المعري خاصة لأنه يريد قطع تطرق المعري (6) عليه في دخوله إلى حائطه، فيجوز ذلك للرفق به، وهذا لا يوجد في غيره، وإنما قلنا: لا يجوز أن يقال: وإنما ابتداء بيع الرطب (في رؤوس النخل بالتمر لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب) (7) بالتمر، ولأن العرية اسم للهبة على ما بيناه دون البيع. وإنما قلنا: يأخذه عند الجذاذ لأن الحديث بذلك ورد، ولأن القصد منها الرفق دون المغابنة والمتاجرة، ولا يجوز تعجله لأن ذلك يبطل فائدة الرخصة فيها واستثناءها من بابها، وإنما يكون على وجه كفاية المعري القيام بسقيها وتعهدها (8)   (1) في (م): الثمن. (2) انظر: الأم: 3/ 53، 56، مختصر المزني ص 81. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1005). (4) في (م): فعم الثمر الموهوب. (5) أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الزبيب بالزبيب: 3/ 30، ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا: 3/ 1169. (6) في (ق): العرايا. (7) ما بين قوسين سقط من (م). (8) تعهدها: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1018 ومؤونتها، فإذا كان وقت الجذاذ يدفعها (1) إليه، فيكون قد زاد في إحسانه إليه بذلك. وإنما قصرناها على الخمسة الأوسق فدونها اتباعًا للحديث، ولأنها لما كانت مخصوصة ومستثناة من بابها وجب أن يحد بقدر لا يكون ذريعة إلى اختلاطها بالأصل الممنوع لأن هذا حكم كل بعض مستثنى من جملة. وإنما قلنا: أنه لا بأس بالزيادة على ذلك في حق الجماعة المُعْرِينَ؛ لأن عرية كل واحد قائمة بنفسها لا تتعلق بعرية غيره، فجاز في كل واحد ما جاز في الآخر. مسألة [2 - الجوائح في الثمار]: إذا ابتاع (2) ثمرًا فأجيحت (3) بآفة من السماء من برد أو ريح أو ثلج أو جراد أو عفن أو غير ذلك فأصيبت ثلث مكيلتها فصاعدًا وضع عنه من ثمنها بقدر المحتاج منها فمصيبتها فيما دون الثلث من المشتري، وذلك ما دامت مجتاحة إلى تبقيتها في رؤوس النخل (4)، والأصل في وجوب وضع الجوائح -خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5) - ما روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح (6)، وقال صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع من أخيه ثمرة فأصابتها جائحة فلا يأخذ من ثمنها شيئًا فبم يأخذ مال أخيه بغير حق" (7)، وهذا نص، ولأن بيع الثمار على رؤوس النخل في معنى الإجارة لأنها تؤخذ أولًا فأولًا كالمنافع التي تستوفي أولًا فأول، فقد ثبت أن المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت من ضمان المكري   (1) في (م): دفعها. (2) في (ق): باع. (3) الجائحة: يعني الآفة (غرر المقالة ص 222). (4) انظر: التفريع: 2/ 151 - 152، الرسالة ص 222، الكافي ص 434. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 78 - 79، مختصر المزني ص 80 - 81. (6) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: وضع الجوائح: 3/ 1191. (7) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: وضع الجوائح: 3/ 1190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1019 كذلك الثمار، ولأن التخلية بمجردها لا يكون قبضًا في الثمار بدليل أن تلف الثمرة بعطش يكون من البائع، ولأن البائع ليس له المطالبة بنقلها إلى الجذاذ، فعلم أنها غير مقبوضة وإن وجدت التخلية، ولأنها ثمرة مبيعة محتاجة إلى تبقيتها في النخل، فإذا تلفت بآفة سماوية كانت من بائعها كالتلف العطش. فصل [3 - مراعاة الجائحة في ثلث الثمرة]: وإنما راعينا ثلث الثمرة دون ما قصر عنه لأن المشتري دخل على أنه لا بد من تلف يسير بأكل العافي والمجتاز وسقوط اليسير وأكل الطير (1)، وغير ذلك مما يعلم بضرورة العادة أن المشتري لم يدخل على سلامتها منه، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بوضع الجوائح، وكانت الجائحة اسمًا لما أتلف جل الشيء أو ماله خطر وبال منه دون اليسير الذي لا يطلق على (2) المال التالف منه أنه جائحة فيه صح ما قلناه، فإذا ثبت ذلك احتيج في الفصل بين القليل والكثير إلى (3) حد يفصل به بينهما، فكان الثلث أولى لأمرين: أحدهما أنه إذا ثبت وجوب الفصل فلا حد سواه يصير إليه قائل، والآخر أنه قد اعتبر في الفصل بين القلة والكثرة في غير موضع من الشرع منها: الوصية والمحاقلة وحمل (4) العاقلة والحجر على المرأة في مالها لحق زوجها وغير ذلك، فكذلك (5) ها هنا. فصل [4 - مراعاة تلف الثلث من المكيلة]: وإنما راعينا تلف الثلث من المكيلة -خلافًا لأشهب- في مراعاة تلف ثلث القيمة لأن كل مصيبة في مبيع وجب بها (6) الرجوع على البائع في الثمن فالاعتبار بقدرها من المبيع أصله تلف المبيع المشاع قبل القبض، ووجه قول أشهب   (1) في (م): الطائر. (2) في (ق): لا يبطل عاد. (3) في (م): الذي. (4) في (م): والعاقلة وحملها. (5) في (م): فكان. (6) في (ق): لبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1020 أن وضع الجائحة لئلا يستبد البائع بالثمن من غير عوض يحصل للمشتري، فإذا أصيب ما قيمته أكثر من ثلث الثمن، فذلك أخذ مال المشتري بغير عوض. فصل [5 - اشتراط حاجتها إلى بقائها على النخل]: وإنما اشترطنا حاجتها إلى بقائها على النخل لأن وضع الجائحة في الحال (1) التي تبقى للمبتاع فيها حق توفية على البائع، وذلك حال حاجتها إلى بقائها على النخل، فإذا استغنت سقط حق التوفية فلم تبق على المبتاع (2) عهده يجب بها الرجوع. فصل [6 - وضع الجوائح في البقول]: وفي البقول ثلاث روايات (3): إحداها أنها كالثمر ووجهها اعتبارها بالثمار، والثانية أن يوضع قليلها وكثيرها ووجهها عموم الخبر وافتراقها عن الثمار للعادة وجريها بذهاب يسير الثمرة وانتفاعها في البقول، والثالثة أنه لا يوضع لها شيء لأنها تخرج غير محتاجة إلى تبقية في موضعها، والأول هو القياس والله أعلم. ...   (1) في (ق): المال. (2) في (م): البائع. (3) انظر: التفريع: 2/ 153، الرسالة ص 222، الكافي ص 334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1021 باب: [في منع التفاضل في بيع الذهب بالذهب] الصرف والتفاضل ممنوع في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة على أي صفة كانا أو أحدهما (1) من نقار (2) أو مضروب أو مصوغ (3) أو مكسور أو جيِّد أو رديء، فلا يجوز إلا مثلًا بمثل ووزنًا بوزن، وقد دللنا على ذلك فيما تقدم. فصل [1 - في بيع الحلي المكسور جزافًا]: يجوز بيع الحلي المكسور جزافًا ولا يجوز بيع الدنانير والدراهم جزافًا (4)، لأن أصل الجزاف غرر، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر (5)، إلا أنه في الحلي تدعو الضرورة إليه ويخف أمره ويكثر في المضروب للتشاح فيه، ولأن السكة الخفيفة أنقق عن الناس عن الثقيلة، فكان القصد فيه إلى الغرر. فصل [2 - في عدم تأخر القبض عن عقد الصرف]: ولا يجوز في الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا في أحد الجنسين بالآخر أن يتأخر القبض عن العقد بحال ولا يقبل في ذلك حوالة ولا حمالة ولا نظرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا ها وها يدًا بيد" (6)، (وإن طال بينهما   (1) انظر: المدونة: 3/ 98، 115، التفريع: 2/ 153، الرسالة ص 217، الكافي ص 307 - 308. (2) نقار: جمع نقرة وهي السبيكة أو القطعة المذابة من الذهب أو الفضة (المصباح المنير ص 621). (3) في (ق): مصنوع. (4) انظر: المدونة: 3/ 105، التفريع: 2/ 156 - 157، الرسالة ص 217. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (979). (6) سبق تخريج الحديث في أول كتاب البيوع في الصفحة (955). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1022 المجلس من غير تقابض بطل العقد (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: أن العقد لا يبطل بترك التقابض ما لم يفترقا (2) بقوله: "ها وها يدًا بيد" (3)) (4) وهذا لم يوجد، ولأن القبض قد تراخا عن العقد فأشبه إذا افترقا. فصل [3 - في اقتضاء الذهب والورق أحدهما من الآخر]: يجوز في الذهب والورق اقتضاء أحدهما من الآخر إذا حلا لحديث ابن عمر قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع فنأخذ مكان الذهب الفضة ومكان الفضة الذهب، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس إذا كان بسعر يومه" (5)، ولأن الحالَّ الذي حكم الحاضر، فجاز ذلك فيه ولا يجوز قبل حلوله لأنه يكون ذهبًا متأخرًا. فصل [4 - في تطارح ما للرجل إذا كان لكل منهما ذهب حالَّة]: ولو كان لرجل على رجل ذهب حالَّة وللآخر عليه مثلها جاز، أن يتطارحاها (6) صرفًا خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (7)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم" (8)، ولأن الحال كالمقبوض فكان كالعين بالعين سواء.   (1) انظر: المدونة: 3/ 89 - 90، التفريع: 2/ 153 - 555، الرسالة ص 217، الكافي ص 303 - 305. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 75، مختصر المزني ص 77 - 78. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (955). (4) ما بين قوسين سقط من (ق). (5) أخرجه أبو داود في البيوع في اقتضاء الذهب من الورق: 3/ 651، والنسائي في البيوع، باب: بيع الفضة بالذهب: 7/ 248، وابن ماجه في التجارات، باب: اقتضاء الذهب من الورق: 2/ 76، والترمذي في البيوع، باب: ما جاء في الصرف: 3/ 544، وأحمد: 2/ 136، وصححه الحاكم: 2/ 44، وقال: على شرط مسلم. (6) انظر: المدونة: 3/ 94، التفريع: 2/ 154. (7) مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 39، 47، الأم: 3/ 33 - 35. (8) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا: 3/ 1211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1023 فصل [5 - إذا وجد في أحد الثمنين في الصرف نقصانًا]: وإذا وجد في أحد الثمنين نقصانًا، لأن رضي به جاز لأن الثمن يكون بقدر ما حصل معه، وإن طلب التمام انتقض الصرف لأن القبض يكون متأخرًا عن العقد، وكذلك إن وجد زائفًا أو رديئًا، فإن رضي به وإلا بطل الصرف ثم ينظر فإن كان (سمَّيا لكل دينار سعرًا معلومًا انتقض صرف دينار واحد لأن كل دينار معقود عليه بنفسه عقدًا يستغنى به عن ضم غيره إليه وإن كان) (1) سمَّى للجملة ثمنًا لم تسقط التسمية على حساب كل دينار انتقض جميع الصرف لأن العقد واحد للجميع (2). فصل [6 - في تبديل السكة]: إذا اقترض دراهم أو دنانير أو فلوسًا أو باع بها بيعًا ثم غيرت سكتها (3) وصار النقد غيرها فله مثل ما اقترض أو باع وليس له النقد الجديد لأن النقد إذا تقرر (4) وانبرم لم يبطل بالتعامل بغيره، ولأن أكثر ما في ذلك أن يرخص ذلك النقد أو يغلى، وذلك غير مؤثر كما لو رخص أو غلا والنقد باق في التعامل به (5). فصل [7 - من اقترض ذهبًا ونسبها إلى قيمتها من الدراهم أو دراهم نسبها إلى قيمتها من الذهب]: ومن اقترض من صيرفي أو غيره ذهبًا ونسبها إلى قيمتها من الدراهم أو دراهم ونسبها إلى قيمتها من الذهب (6)، فليس له عليه إلا ما قبض (لأن ذلك   (1) ما بين قوسين: سقط من (م). (2) انظر: المدونة: 3/ 110، 115، التفريع: 2/ 155 - 156، الكافي ص 304. (3) السكة: هي ضرب النقود (المعجم الوسيط: 1/ 440). (4) في (م): تعذر. (5) انظر: المدونة: 3/ 102، التفريع: 2/ 158، الكافي ص 309. (6) في (م): بالذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1024 هو الذي يستحق عليه) (1) دون القيمة، ولأنا لو طالباه بالقيمة لصار صرفًا بنسيئة. فصل [8 - جواز التسامح للرفق]: بدل الدينار الناقص بالوازن أو الدرهم الناقص بالوازن (2) على وجه الرفق والمعروف جائز يدًا بيد لأن كسر السكة غير جائز، والمعروف يجوز فيه ما لا يجوز في غيره، وهذا إذا لم يعرض ما يمنع منه من اختلاف الفضتين والغرض بهما وأن يخاف كون غرضهما التبايع لا المعروف. فصل [9 - في عدم جواز بيع ذهب وفضة بذهب ولا بيع تمر وبر ببر]: لا يجوز بيع ذهب وفضة بذهب ولا بيع تمر وبر ببر، وعقد هذا الباب: أن كل جنس فيه الربا إذا بيع بمثله فلا يجوز أن يكون مع أحد الجنسين (3) غيره ولا معهما جميعًا وسواء كان الغير مما فيه الربا أو مما لا ربا فيه (4). وقال أبو حنيفة: يجوز بيع صاع تمر وثوب بصاعي تمر، فيكون أحد الصاعين في مقابلة الصاع والثوب في مقابلة الصاع الآخر، وكذلك دينار وثوب (5) بدينارين (6). وإنما منعنا ذلك لحديث فضالة بن عبيد (7) قال: أُتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير، فقال صلى الله عليه وسلم:   (1) ما بين قوسين سقط من (م) ومن (ر). (2) الوازن: سقطت من (م). (3) في (م): في أحد الجنس. (4) انظر: المدونة: 3/ 97 - 99، التفريع: 2/ 155 - 157، الكافي ص 307. (5) في (م): درهم. (6) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 40 - 41. (7) فضالة بن عبيد: بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي، أول ما شهد أُحُدًا، ثم نزل دمشق وولي قضاءها، ومات سنة ثمان وخمسين (تقريب التهذيب 445). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1025 "لا حتى تميز بينهما"، قال: إنما أردت الحجارة، فقال: "لا حتى تميز بينهما" (1) وهذا نص، ولأن مقابلة (2) جنس آخر لأحدهما أو لهما يمنع المماثلة لأن الذهب المنفردة ليس في مقابلتها ذهب مثلها وإنما في مقابلتها ذهب وعرض، وهذا ضد المماثلة، ولأن الصفقة إذا تناولت أشياء كانت جملة (الثمن في مقابلة الجميع) (3) منقسطة على المبلغ والقيمة، فإذا تبايعا دينار أو ثوبًا بدينارين حصلت جملة الدينار والثوب في مقابلة الدينارين، ولا نأمن أن تكون قيمة الثوب دينارًا (4) أو أكثر من دينار فيؤدي ذلك إلى أن يكون دينار في مقابلة أقل من دينار وذلك ربا لأن الجهل بالتماثل بمعنى تحقق التفاضل .. فصل [10 - في صرف الذهب الجيد بالرديء]: لا يجوز دينار ذهب جيِّد ودينارين من ذهب رديء بدينارين دون الجيِّد وفوق الرديء (5)، وكذلك في التمر لا يجوز صاع معقلي (6) وصاع دقلى (7) بصاعين من برني (8) خلافًا لأبي حنيفة (9)؛ لأن التفاضل في القيمة في المماثلة يمنعها ويصير كالتفاضل في الوزن، لأن هذا إنما رضي أن يزن الدينار المتوسط ويأخذ الدون لمكان الجيِّد الذي معه ولولا ذلك لم يفعل، وكذلك إنما رضي بأخذ الدقلي بدلًا من البرني (10) لأجل ما معه من المعقلي، والآخر إنما رضي   (1) أخرجه مسلم في المساقاة، باب: بيع القلادة منها خرز وذهب: 3/ 1213. (2) في (ق): مقارنة. (3) ما بين قوسين سقط من (م). (4) في (م): دينارين. (5) انظر: المدونة: 3/ 115 - 116، التفريع: 2/ 155، الرسالة ص 217، الكافي ص 307. (6) المعقلي: نوع من الرطب (الصحاح: 5/ 1769). (7) الدقلي: أردأ التمر (المعجم الوسيط: 1/ 290). (8) برني: نوع جيِّد من التمر مدور أحمر مشرب بصفرة (المعجم الوسيط: 1/ 52). (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 77، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 38. (10) في (م): بدل الدقلي برنيًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1026 بأخذ البرني بدل المعقلي لأنه يأخذ صاحبه معه دقلًا وكل ذلك تخاطر (1) وقصد للمغابنة، ولأن الثمن ينقسط على الجملة فتمتنع المماثلة، وأما إن كانت الرديئة في جهة والجيِّدة في جهة فيجوز لأن القصد من ذلك المعروف والرفق لا المتاجرة. فصل [11 - في المراطلة]: المراطلة (2) بالذهب جائزة (3)، وهي أن يوضع أحد الذهبين في كفة والآخر في كفة بغير صنجة (4)، فإذا استوى لسان الميزان بينهما أخذ كل واحد منهما ذهب صاحبه بدلًا من ذهب نفسه لأن التماثل يحصل بهما كما لو كان بصنجة ولا يراعى في ذلك إلا الوزن دون العدد، فإن كان إحدى الذهبين أكثر عددًا أو أقل وهمًا (5) متساويان في الوزن فلا بأس. فصل [12 - في عدم جواز انضمام عقد البيع إلى الصرف]: ولا يجوز (6) أن ينضم إلى الصرف عقد بيع إلا أن يكون يسيرًا على وجه التبع (7) لأن الصرف ضيِّق بابه وغُلِّظ فيه واختص بأحكام لا يوجد في غيره، فإذا انضم إليه غيره فاحتيج إلى اعتباره به، وذلك غير جائز فإن كان يسيرًا جاز لأن الضرورة تدعو إليه مثل أن يصرف دينارًا بعشرة دراهم، فيعجز الدرهم أو النصف فيدفع إليه عرضًا بقيمته أو يزيد الدينار والدرهم وكسره غير جائز فهاهنا يجوز للضرورة لأنه يعلم أن البيع غير مقصود.   (1) في (ق): لخاطر. (2) المراطلة: لغة هي الوزن، واصطلاحًا: بيع ذهب به وزنًا أو فضة كذلك (المصباح المنير ص 230، مع حدود ابن عرفة ص 245). (3) انظر: المدونة: 3/ 113، الموطأ: 2/ 638، الكافي ص 305. (4) الصنجة: هو ما يتخذ مدورًا على كفتي الميزان (المعجم الوسيط: 1/ 527). (5) في (م): مما. (6) في (ق): ولا يحق. (7) انظر: التفريع: 2/ 159، الكافي ص 304 و 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1027 فصل [13 - في شراء تراب الذهب والفضة]: يجوز شراء المعادن من الذهب والفضة الجنس منهما بخلافه ولا يحق بجنسه (1) خلافًا للشافعي في منعه أصل البيع (2) لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ} (3)، ولأنه مرئي (4) محزور ومعلوم بالعادة مقدر في غالب الحال فجاز بيعه وإن لم يعلم حقيقة وزنه كالجزاف. فصل [14 - في عدم جواز شراء تراب الصاغة]: ولا يجوز شراء تراب الصاغة خلافًا لمن أجازه (5) لأنه غرر إذ لا يعلم هل فيه شيء أم لا ولو علم أن فيها شيئًا لم يظهر ولم يعلم قدره ولا حزره، وذلك غرر مجهول (6). ...   (1) انظر: التفريع: 2/ 159، الكافي ص 306 - 309. (2) انظر: المهذب: 1/ 274. (3) سورة البقرة، الآية: 275. (4) في (م): مروي. (5) قال ابن أبي موسى في "الإرشاد " بجواز ذلك وهو قول مالك؟ وروي عن الحسن والنخعي وربيعة والليث (المغني: 4/ 65). (6) وذلك غرر مجهول: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1028 باب: [بيع الغرر] بيع الغرر (1) غير جائز (2) لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه (3)، والغرر يكون بوجوه: منها الجهل بجنس المبيع كقولك: بعتك ما في كمي أو صندوقي أو كفي (4)، ويجوز أن يكون في كمه جوزة أو لوزة (5) أو بيضة، ويجوز أن يكون فيه درة أو ياقوتة، ومنها الجهل بصفة المبيع وإن عرف جنسه مثل أن يسلم إليه في عبد أو ثوب ولا يذكر نوعه ولا صفته، ومن هذا الباب بيع الساج (6) في جرابه والثوب المطوي، فإذا عرف جنسه ووصفته جاز وخرج عن الغرر، ومنه بيع الملامسة والمنابذة التي (7) نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه (8) وبيع الحصاة (9)، والملامسة أن يجب البيع بلمس الرجل الثوب وإن لم يبينه ولا عرف ما فيه، والمنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه إلى الآخر (10) وينبذ الآخر ثوبه إليه، فيجب البيع   (1) بيع الغرر: أصل الغرر النقصان من قول العرب غارت الناقة إذا نقص لبنها، واصطلاحًا قال ابن عرفة: الغرر ما تردد بين السلامة والعطب (انظر غرر المقالة ص 212، حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 253). (2) انظر: الموطأ: 2/ 253، التفريع: 2/ 165، الرسالة ص 212، الكافي ص 330 - 331. (3) سبق تخريج الحديث في الصحة (978). (4) أو صندوقي أو كفي: سقطت من (م). (5) أو لوزة: سقطت من (ق). (6) الساج: الطيلسان المقور الضخم الغليظ (المصباح المنير ص 293). (7) في (م): الذي. (8) أخرجه البخاري في البيوع، باب: بيع الملامسة: 3/ 25، ومسلم في البيوع، باب: إبطال بيع الملامسة والمنابذة: 3/ 1151. (9) أخرجه مسلم في البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة: 3/ 1153. (10) في (ق): ثوبا الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1029 بينهما بذلك من غير أن ينشر الثوبين ويقفا (1) على ذرعهما وكذلك بيع الحصاة كانوا في الجاهلية إذا أعجب الرجل الثوب ترك عليه حصاة فيجب البيع بذلك ولا يكون له رد سواء وجده (2) صحيحًا أو معيبًا، وقيل: كان الرجل يسوم بالثوب وبيده حصاة فيقول لصاحبه: إذا سقطت هذه الحصاة من يدي فقد وجب البيع، هذه البيوع من بيوع الجاهلية. ومن بيع الغرر المزابنة: وهو بيع معلوم بمجهول من جنس أو مجهول بمجهول (3) من جنس وقد بيناها، فإن كان ذلك مما فيه الربا حرم لأجل التفاضل وإن كان مما لا ربا فيه كان خطرًا أو قمارًا إلا أن يتبين (4) الفضل، فيجوز لأنه يخرج حينئذ عن التخاطر (5)، ومن الخطر أن يبيعه جزافًا يعلم كيله ولا يعلمه به فيدخل المبتاع على ذلك. ومن أنواع الغرر ما لا يقدر على تسليمه كالآبق (6) والضالة والمغصوب والطير في الهواء والسمك في الماء وكل هذا لا يجوز بيعه لأنه لا يقدر على تسليمه ثم لا يخلو أن تكون صفة البيع معلومة لهما أو مجهولة، فإن كانت معلومة والغرر من وجه واحد وهو العجز عن التسليم إلا أن يباع الآبق والضالة ممن قد (7) وجدهما وحصلا تحت قبضته، والمغصوب من غاصبه ولم يبعد عداهما عن مالكها أو يثبت عنده بقاؤهما (8) على صفاتها أو عرف ما انتقلا إليه فيجوز حينئذ بيعه لهما وإن كانت صفاتهما غير معلومة للمالك دخل بيعهما الغرر من وجهين الجهل والعجز عن التسليم.   (1) في (م): أو بنيا. (2) في (م): أصابه. (3) بمجهول: سقطت من (ق). (4) في (م): يتيقن. (5) في (ق): المخاطر. (6) الآبق: الهارب (غرر المقالة ص 218). (7) قد: سقطت من (ق). (8) بقاؤهما: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1030 ومن هذا الباب بيع الأجنة واستثناؤها وبيع حبل (1) الحبلة وهو نتاج ما تنتج الناقة والمضامين وهو ما في ظهور الفحول، فهذا يجمع الأمرين الجهل بالمبيع والعجز عن التسليم. ومنه أيضًا السلم إلى أجل لا يوجد فيه المسلم فيه فيعجز المسلم إليه عن تسليمه. ومن وجوه الغرر الجهل بالثمن، أما في جنسه أو في مقداره (2) أو أجله، وكذلك في المثمون (3)، فأما في الجنس فمثل أن يبيعه بما يحكم به زيد أو يسميه عمرو أو يقع في يده (4) من رقاع يكتب فيها عدة أثمان أو يخرج به السهم في قرعة، أو ما أشبه ذلك في المقدار مثل ما يخرج به سعر اليوم وما يبيع به فلان متاعه، وفي الأجل نحو قدوم زيد وزفاف (5) عمرو وموت فلان وما أشبه ذلك. ومن هذا الباب بيعتان في بيعة: وصفته أن يبيعه هذا الثوب إما بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجل على أنه قد وجب بأحد الثمنين، فأما إن كان (6) على أنه إن رضي أجاز (7) وإن لم يرض رد ولم يجب (8)، فذلك جائز لأن العقد لم يجب فلا يحصل غرر، وقد يقع على وجوه أُخَرْ، ومن الغرر بيع اللحم في جلده والحنطة في تبنها (9)، وما أشبه ذلك ومن وجوه الغرر ما لا ترجى سلامته   (1) حبل: سقطت من (م). (2) في (ق): إما جنسه أو مقداره. (3) في (م): المثمن. (4) في (ق): أو برقاع، وفي (ر): أو ما يضع. (5) في (ق): وفاة. (6) إن كان: سقطت من (م). (7) في (م): جاز. (8) ولم يجب: سقطت من (م). (9) في (م): في بيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1031 كالمريض في سياقه وما لا يدري هل يسلم أم يتلف ولا أمارة على ذلك تغلب على الظن معها سلامته مثل بيع الثمار قبل بدو صلاحها، وأبواب الغرر كثيرة وقد نبهنا بقدر ما ذكرناه منها على ما أهملناه، ولا خلاف أن يسيره لا يمنع صحة البيع وإن ما تدعوا الحاجة إليه منه معفو عنه وأن (1) الذي يمنع ما زاد على ذلك. فصل [1 - في بيع الأعمى وشرائه]: يجوز بيع الأعمى وشراؤه (2) خلافًا للشافعي (3)، وذلك إذا كان يعرف ما يوصف له وسواء كان بصيرًا فعمي أو ولد أعمى لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4)، وقياسًا على البصير بعلل (5) إما لأن كل من جاز تسليمه (6) جاز بيعه للأعيان أو لأن كل من صح (7) أن يؤكل في البيع صح أن يليه بنفسه. فصل [2 - في منع بيع الإنسان على بيع أخيه]: لا يجوز بيع الإنسان على بيع أخيه، وذلك إذا أركن إليه وقرب اتفاقهما على تقدير (8) الثمن ولم يبق إلا العقد أو قريب منه، فأما إن كان في أول الغرض وابتداء السوم قبل التقدير والركون فلا بأس والقول فيه (9)، وفي فسخه إن وقع كالقول في النكاح وقد بيناه.   (1) في (ق): ولأن. (2) انظر: الكافي ص 360. (3) انظر: مختصر المزني ص 88، الإقناع ص 98. (4) سورة البقرة، الآية: 275. (5) بعلل: سقطت من (ق). (6) في (م): سلمه. (7) في (م): جاز. (8) في (ق): تقرير. (9) انظر: الموطأ: 2/ 684، التفريغ: 2/ 166، الرسالة ص 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1032 فصل [3 - في بيع النجش]: بيع النجش غير جائز (1) وصفته: أن يزيد التاجر في الثمن لا لنفسه بك ليغر غيره فينزل (2) على مزايدته، فهذا لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه (3)، وإن وقع فسخ خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)، لأن النهي يقتضي على الفساد، ولأن فيه مضرة على الناس وإفساد لمعايشهم لأن من عادة الناس أن يركنوا إلى زيادة التاجر ويعتقدوا أنها تساوي ما يبذلونه فيها وذلك فساد وضرر فوجب فسخه. فصل [4 - في تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي]: ولا يجوز تلقي السلع قبل أن تورد الأسواق (5) لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (6)، وفائدته ألا يستبد الأقوياء بها دون الضعفاء ومن لا قدرة له على مشاركتهم، وإذا ثبت المنع منه فمن فعل ذلك خُيِّر بقية أهل الأسواق في أن يشاركوه فيما اشتراه أو يتركوه له، ولا يبيع حاضر لباد (7) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك وقال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (8)، وفائدة ذلك أن فيه إضرارًا بالناس   (1) انظر: الموطأ: 2/ 684، التفريع: 2/ 167، الكافي ص 365. (2) في (ق): فيزيد. (3) أخرجه البخاري في البيوع، باب: لا يبع على بيع أخيه: 3/ 24، ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للباد: 3/ 1155. (4) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 29 - 30، مختصر المزني ص 88. (5) انظر: التفريع: 2/ 167، الكافي ص 367. (6) هذا جزء من حديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن النجش الذي سبق تخريجه قريبًا. (7) انظر: التفريع: 2/ 167، الكافي ص 367. (8) أخرجه البخاري في البيوع، باب: لا يبع على بيع أخيه: 3/ 24، ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للباد: 3/ 1157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1033 لأن أهل (1) البادية لا يعرفون الأسعار ويضر بهم بيع ما يجلبونه بالرخص كما يضر بأهل الحضر شراؤه بالغلاء لأن أهل الحضر لا يصلون إليه إلا بعوض وأموال أهل البدو (2) جلها من المباح الذي يؤخذ بغير عوض فيجب أن يقدم النظر لأهل الحضر عليهم، فإذا باع لهم السماسرة والتجار باعوا بالأسعار الغالية والأثمان المستوفاة فأضر ذلك بالحاضرة (3). وإذا ثبت منع ذلك فقيل: يفسخ إن وقع، وقيل: لا يفسخ، فوجه الفسخ عقوبة لفاعله للنظر العام، ولأن قصده قطع أرزاق الناس، ووجه الإمضاء فلأن الفساد منتف عنه من جهة العقد أو المعقود عليه، وإنما هو لحق الآدميين على وجه الرفق والإعانة، فأما أن يكون قطع حق آدمي متعين فلا، وإما الشراء لهم فقال: مالك لا بأس به اعتبارًا بالشراء لغيرهم لأن الحاضر يعرف ثمن ما يبيعه فلا يستضر بمن يشتري منه الحاضر للبادي بخلاف البيع لهم، وقال بعض أصحابه: لا يشتري لهم وهو والبيع سواء، ووجه هذا أنهم لا يعرفون الأسعار فيبذلون فيما يشترونه أكثر مما يبذلونه إذا تولى لهم التجار فيضر بالحاضرة كالبيع لهم. فصل [5 - في التسعير]: التسعير (4) على أهل الأسواق غير جائز (5) لأن الناس مالكون لأموالهم والتصرف فيها فلا يجبرون على بيعها إلا بما يخترونه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنع من التسعير لما سئل فيه فقيل له: لو سعرت لنا، فقال: "إن الله هو القابض   (1) أهل: سقطت من (م). (2) في (م): البادية. (3) في (م): بالحاضر. (4) التسعير عرفه ابن عرفة بقوله: "تحديد حاكم السوق لبائع المأكول فيه قدرًا للمبيع بدرهم معلوم" (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع ص 258). (5) انظر: الموطأ: 2/ 651، التفريع: 2/ 168، الكافي ص 360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1034 والباسط والمغلي والمرخص وإني لأرجو أن ألقي الله وليس لأحد منكم عندي مظلمة ظلمته إياها في عرض ولا مال" (1). فإذا ثبت ذلك فالذي يخاف ضرره بعقد التسعير هو الزيادة فيه وهذا يمكن حسمه بأن يقال لمن يحط السعر: إما أن تلحق بالناس، وإما أن تنصرف ومثاله أن يكون بيع الناس مثلًا للخبز عشرة أرطال بدرهم فيبتديء هو البيع على ثمانية فيقال له: إنا لا نسعر عليك ولا يلزمك البيع بما لا تختار، ولكن نأمرك بأن لا تضر بالناس تغلى (2) الأثمان زيادة على بيع غيرك لئلا يقتدى الباقون بك فيضر ذلك بالناس، فأما بعه على بيعهم وإلا أزلنا الأضرار عن الناس (3) بصرفك عنهم، وقد روي: أن عمر رضي الله عنه قال لحاطب بن أبي بلتعة مثل ذلك (4). فصل [6 - في الحكرة]: الحكرة (5) إذا أشرف بأهل البلد ممنوعة في كل ما بهم حاجة إليه وضرورة إلى شرائه وكثرته، سواء كان طعامًا أو ثيابًا أو أي شيء كان من أنواع الأموال (6)، والأصل في منعها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحتكر إلا خاطيء" (7)، وروي: "المتربصون بالطعام هم الآثمون" (8)، وروي: أن   (1) أخرجه أبو داود في الإجازة، باب: التسعير: 3/ 731، وابن ماجه في التجارات باب: من كره أن يسعر: 2/ 741، والترمذي في البيوع، باب: بعد ما جاء في المحابرة: 3/ 606، وقال: حسن صحيح. (2) في (م): بأن تقل. (3) في (ق): بالناس. (4) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 651، وعبد الرزاق: 8/ 207. (5) الحكرة: هو رصد الأسواق أي انتظار الأسواق، أي انتظار ارتفاع الأثمان (انظر مواهب الجليل: 4/ 227 - 228). (6) انظر: الموطأ: 2/ 651، التفريع: 2/ 168، الكافي ص 360. (7) أخرجه مسلم في البيوع، باب: تحريم الاحتكار في الأقوات: 30/ 1227. (8) أخرجه عبد الرزاق: 8/ 204، بلفظ قريب منه وهو: "لا يحتكر إلا الخوانون أي الخاطئون الآثمون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1035 عمر رضى الله عنه خرج إلى المسجد فرأى طعامًا منشورًا فقال: ما هذا؟ قالوا: طعام جلب إلينا، قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه، قالوا: إنه قد احتكره فلان وفلان فدعاهما فقالا له: نشتري بأموالنا ونبيع، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بإفلاس أو جذام" (1)، وهذا هو في البلدان الصغار الذين يَضُرُّ بهم الاحتكار، فأما البلدان (2) الكبار والأمصار الواسعة التي يكثر إليها الجلب ويتسع الحمل والتجهيز فلا بأس، لأن ذلك غير مضر بهم غالبًا إلا أن يتفق (3) في بعض الأوقات غلاء أو شدة ويؤدي ذلك إلى الإضرار بالناس فيمنع حينئذ. فصل [7 - في عدم التعرض لمن جلب طعامًا وعدم جبره على بيعه ... ]: لا يعرض لمن جلب طعامًا أو غيره إلى بلد ولا يجبر على بيعه ولا يمنع من اختزانه (4) وحكرته لأنه لم يضر بالناس ولا على عليهم سعرًا ولا استبد بشيء كان يجب أن يساويهم فيه، بل في منعه من ذلك إضرار به وافتيات عليه لأنه إنما تكلف جلبه وسافر في تخليصه (5) ليبقيه لنفسه، فليس لأحد اعتراض عليه فيه، وقد روى عن عمر (6) أنه قال: من جلب طعامًا على عمود ظهره، فذلك ضيف عمر يبيعه كيف شاء ويذهب به حيث شاء (7).   (1) أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: الحكرة والجلب: 2/ 729، وإسناده صحيح ورجاله موثقون (مجمع الزوائد). (2) البلدان: سقطت من (م). (3) في (م): ينفق. (4) في (م): من حابه. (5) في (م): تحصيله. (6) في (ق): ابن عمر. (7) أخرجه عبد الرازق: 8/ 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1036 فصل [8 - بيع العربان]: بيع العربان منهي عنه إذا وقع على صفة دون صفته، وصفته الممنوعة أن يشتري الرجل السلعة بثمن معلوم أو يكتري دابة بكراء معلوم وينقد من ذلك شيئًا ليسكن البائع أو المكرى إليه على أنه إن رضي إمضاء (1) البيع أو الكراء وينقد بقيته وإن كره لم يرجع بما نقده (2). وإنما قلنا: إنه ممنوع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان (3) ولأنه من أكل المال بالباطل لأنه يذهب بغير عوض ولا على وجه الهبة والصدقة، وإنما هو ضرب من القمار، ووقوعه على الصفة الجائزة (4)، فهو أن يجعل العربان على يد غير البائع وعلى يده مختوما لئلا ينتفع به ثم يرده إن كره المشتري فيكون بيعًا وسلفًا، فإذا ختم عليه زال ما يخاف (5) من ذلك ثم ينظر: فإن اختار الإمضاء احتسب به من الثمن أو الأجرة إن كان كراء، وإن كره استرجعه، فهذا جائز لأنه ليس فيه ما يقتضي المنع. فصل [9 - بيع الدين بالدين]: الدين بالدين (6) ممنوع (7) لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الكاليء بالكاليء (8) وهو الدين بالدين، وذلك إذا كان من الطرفين مثل أن يحل له   (1) في (م): أمضى. (2) انظر: الموطأ: 2/ 609 - 610، التفريع: 2/ 168، الكافي ص 366. (3) أخرجه مالك: 2/ 609، وأبو داود في البيوع، باب: العربان: 3/ 283، وابن ماجه في التجارات، باب: بيع العربان: 2/ 738، وأحمد: 2/ 183. (4) الجائزة: سقطت من (ق). (5) في (م): يخافه. (6) قال ابن عرفة: هو بيع شيء في ذمة بشيء في ذمة أخرى غير سابق تقرر أحدهما على الآخر (الرصاع على ابن عرفة ص 252). (7) انظر: التفريع: 2/ 69، الرسالة ص 217، الكافي ص 314. (8) أخرجه الدارقطني: 3/ 71، والحاكم: 2/ 57، وقال: صحيح على شرط = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1037 سلف من عروض على رجل فيجعلها ثمنًا لشيء آخر من سلم ينتقل إليه أو أن يسلم إليه في شىء بثمن معلوم يكون دينًا في ذمة المسلم للمسلم إليه، فهذا كله ممنوع، فأما فسخ الدين إذا حلَّ في عين بتأخر قبضها وتكون مضمونة على بائعها فمنعه مالك وابن القاسم وأجازه أشهب وغيره وذلك كثمرة يجتنيها أو سلعة غائبة أو دار يسكنها مدة أو ما أشبه ذلك، فوجه المنع أنه مفسوخ فيما لا يتنجز وما هو في ضمان الغريم، فأشبه أن يفسخ شيء في الذمة، ووجه الجواز أنه فسخ دين في عين كالمقبوض. فصل [10 - فيما لا يجوز في الدين إلى أجل وهو ما يعرف بضع وتعجل]: الوضع على التعجيل ممنوع منه (1)، وصفته أن يكون على رجل دين لم يحل (2) فيقول لصاحبه: تأخذ بعضه معجلًا وتبرئني من الباقي، فهذا غير جائز لأمرين: أحدهما أنه يدخله الربا إن كان في ذهب أو فضة أو طعام أو ما يحرم التفاضل فيه، والآخر أنه قرض يجر نفعًا (3)، وروي ذلك عن ابن عمر وزيد ابن ثابت (4)، وهو إجماع الصحابة وكذلك إذا عجل له بعضه قبل الأجل على إن أخره بالباقي زيادة على الأجل الأول لأنه ترك ذلك الأجل للتعجيل (5). فصل [11 - في تصرف الفضولي]: إذا باع ملك غيره بغير إذنه انعقد البيع ووقف على إجازة المالك أو رده (6)،   = مسلم، غير أن الحافظ ابن حجر نبه على خطأ الحاكم في ذلك، وقال: وفي إسناده موسى بن عبيدة وهو متروك (الدراية: 2/ 157) كما أخرج الحديث البيهقي: 5/ 290، والبزار وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهم. (1) انظر: المدونة: 3/ 190 - 194، التفريع: 2/ 169، الرسالة ص 213، الكافي ص 324 - 325. (2) أي: لم يحن وقت سداد الدين. (3) في (م): منفعة. (4) انظر: المغني: 4/ 57. (5) في (م): للتعجل. (6) أورده: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1038 وكذلك إذا اشترى له بغير إذنه (1)، وفرق أبو حنيفة بينهما فأجاز في البيع ومنعه في الشراء (2)، ومنعه الشافعي (3) في الموضعين (4)، فدليلنا على الشافعي حديث حكيم بن حزام (5) وعروة البارقي (6): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع إليه دينارًا ليبتاع له شاة، فابتاع شاة ثم باعها بدينارين فابتاع بأحدهما شاة وجاء بالدينار الآخر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذه وبارك له في صفقته (7)، ولأنه عقد تمليك يفتقر إلى الإجازة، فجاز أن يقع موقوفًا عليها كالوصية، ولأنه تمليك لملك الغير بغير إذنه (8) كالتصدق باللقطة، ودليلنا على أبي حنيفة: أن القبول أحد طرفي العقد فجاز أن يقف العقد (9) على إمضائه كالإيجاب.   (1) انظر: التفريع: 2/ 318، الكافي ص 395 - 396. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 82 - 83، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 18. (3) انظر: الأم: 3/ 15 - 16، الإقناع ص 91 - 92. (4) في (م): الوجهين. (5) حكيم بن حزام: بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، الأسدي، أبو خالد المكي ابن أخي خديجة أم المؤمنين، أسلم يوم الفتح وصحب، كان عالمًا بالنسب، مات سنة أربع وخمسين أو بعدها (تقريب التهذيب ص 176). (6) عروة البارقي: بن الجعد، ويقال: ابن أبي الجعد، وقيل: اسم أبيه عياض، صحابي، سكن الكوفة، وهو أول قاضي بها (تقريب التهذيب ص 389). (7) أما حديث عروة، فقد أخرجه البخاري في المناقب، باب: 28، 4/ 187، وحديث حكيم فقد أخرجه أبو داود في البيوع في المضارب يخالف: 3/ 679، وابن ماجه في الصدقات، باب: الأمين يتجر فيربح: 2/ 803، والترمذي في البيوع، باب: 34، 3/ 550، وفي إسناده سعيد بن زيد أخو حماد مختلف فيه (انظر تلخيص الحبير: 3/ 5). (8) بغير إذنه: سقطت من (ق). (9) العقد: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1039 فصل [12 - فيمن اشترى عبدًا نصرانيًّا]: إذا اشترى عبدًا نصرانيًّا جاز أن يبيعه من نصراني لأنه مساوٍ له في الدين كبيع المسلم من المسلم. فصل [13 - إذا اشترى نصراني عبدًا مسلمًا]: إذا اشترى نصراني عبدًا مسلمًا ففيها روايتان (1): إحداهما أنه لا يصح ويفسخ والأخرى أن العقد يقع ويجبر على بيعه. فوجه الأولى: أن كل معنى إذا طرأ على ما يملكه النصراني قطع استدامته في حق المسلم، فإذا وجد ابتداء منع العقد أصله النكاح لأنها إذا أسلمت تحته منع ذلك استدامة نكاحه (2)، وكذلك وجود الإِسلام يمنع ابتداء عقده (3) عليها كذلك العقد على الرقبة. ووجه الثانية: أنه قد ثبت له عليه ملك بوجه وهو أن يسلم في ملكه فيباع عليه، وإذا كان كذلك لم يفسخ عقده عليه وبيع عليه أصله إسلامه في ملكه. فصل [14 - في بيع الكلاب]: اختلف أصحابنا في بيع ما أذن في اتخاذه من الكلاب، فمنهم من قال: يكره، ومنهم من قال: يحرم (4). ووجه الجواز ما روي: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية (5)، ولأنه جارح يصاد به كالبازي.   (1) انظر: ........... (2) في (م): استدامته نكاح. (3) في (ق): العقد. (4) انظر: الرسالة ص 215، الكافي ص 327. (5) أخرجه البخاري في البيوع ثمن الكلب: 3/ 43، ومسلم في المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب: 3/ 1189، وفيهما من غير الاستثناء، أما اللفظ الذي أورده المصنف فقد أخرجه الترمذي في البيوع، باب: ما جاء في ثمن الكلب: 3/ 578 عن أبي المهزم وهو متكلم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1040 ووجه الحظر نهيه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ولأنه حيوان منهي عن اتخاذه إلا للضرورة كالسباع، وعلى من قتله قيمته لصاحبه خلافًا (للشافعي لأنه حيوان يصح الانتفاع به والوصية به كالخيل والبغال ولأنه بهيمة يجوز الاصطياد به كالبازي) (1). فصل [15 - في عدم جواز بيع الزيت النجس والعذرة]: لا يجوز بيع الزيت النجس ولا العذرة (2) للتزبيل (3) لأنها عين نجسة كالدم. ...   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) انظر: الكافي ص 327 - 328. (3) التزبيل: هو تصليح الأرض بالزبل ونحوه حتى تجود الزراعة (المصباح المنير ص 251). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1041 باب: [في الخيار] البيع جائز بشرط الخيار (1) (لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث حبان: "واشترط الخيار ثلاثًا" (2)) (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار" (4)، ولأن الإنسان يحتاج إلى تأمل ما يبتاعه واختياره فجاز ذلك. فصل [1 - في جواز اشتراط الخيار من البائع والمشتري]: يجوز أن يشترطه البائع والمشتري لقوله صلى الله عليه وسلم: "واشترط (5) الخيار ثلاثًا" (6) ولم يفرق، ولأن الخيار وضع للتأمل والاختبار وكل واحد منهما محتاج من ذلك إلى مثل ما يحتاج إليه الآخر، فجاز اشتراط كل واحد منهما له. فصل [2 - انفراد من اشترط الخيار بالفسخ دون الآخر]: فإن اشترطه أحدهما انفرد بالفسخ ولم يكن للآخر مقال معه، وإن اشترطاه معا، فقد تعلق الحق بهما فلا يسقط حق أحدهما إلا بإسقاطه له، ولا يثبت   (1) انظر: المدونة: 3/ 223، التفريع: 2/ 171، الرسالة ص 214، الكافي ص 343. (2) أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: الحجر على من يفسد ما له: 2/ 789، وسنده حسن، وفي إسناده محمَّد بن إسحاق وهو مدلس. (3) ما بين قوسين سقط من (م). (4) أخرجه البخاري في البيوع، باب: كم يجوز الخيار: 3/ 17، ومسلم في البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس: 3/ 1163. (5) في (م): والمشتري. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1042 البيع إلا باجتماعهما على إجازة أو رد، فإن اتفقا على إمضاء أو فسخ كان لهما وإن اختلفا فاختار أحدهما الرد والآخر الإمضاء، فالقول قول (1) المختار للرد لأن مختار الإمضاء قد أسقط حقه من الفسخ وبقي حق الآخر ولا يسقط بإسقاط غيره له. فصل [3 - في خيار المجلس]: خيار المجلس غير ثابت والعقد بالقول لازم (2) خلافًا للشافعي (3) لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (4)، ولأنه عقد معاوضة كالنكاح، ولأن كل خيار كان من مقتضى العقد جاز أن يبقى بعد الافتراق كخيار العيب وكل خيار لا يثبت بعد الافتراق، فليس من مقتضى العقد كالخيار في إغلاء (5) الثمن ورخص، ولأنه لو كان ثابتًا بمقتضى العقد لم يصح وقوع العقد على وجه لا يتصور فيه، فكان لا يصح للأب أن يشتري لابنه من نفسه لأن مفارقة (6) الإنسان من نفسه لا تصح. فصل [4 - في وضع الخيار لتمام البيع واستقراره]: الخيار موضوع لتمام البيع واستقراره لا للفسخ، فإن اختار من له الخيار الإمضاء تَمَّ البيع وانبرم، وإن اختار الفسخ تبيّنَا أن الملك لم ينتقل إليه (7)، وإنه لم يزل على ملك البائع، وفي الحالتين فهو في الحكم على ملك البائع وتلفه منه ما لم يتقرر من المشتري إمضاء خلافًا لمن يقول: إنه وضع للفسخ (8)   (1) قول: سقطت من (م). (2) انظر: التفريع: 2/ 171، الرسالة ص 218، الكافي ص 343. (3) انظر: الأم: 3/ 4 - 5، الإقناع ص 91. (4) سورة المائدة، الآية: 1. (5) في (م): غلاء. (6) في (ق): مفاوضة. (7) إليه سقطت من (ق). (8) يقول بذلك الحنابلة (انظر: مختصر الخرقي ص 64، المغني: 3/ 573). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1043 وأن الملك قد انتقل بنفس العقد لأنه إيجاب لا يلزم البائع الثبوت عليه، فلم ينتقل الملك به على التجريد أصله إذا وجب ولم يقل للمشتري: قبلت، ولأن الإيجاب مع شرط الخيار غير محقق (1) لأنه متعلق بشيء يقع في المستأنف، فالمشتري يقبل إيجابًا غير محقق فلم ينتقل به الملك. فصل [5 - في تصرف المالك في ملكه]: كل تصرف يفعله المالك في ملكه لا يحتاج إليه في اختيار (2) المبيع، فإنه يعد رضا ممن له الخيار ويكون من البائع فسخًا، ومن المشتري إمضاء وذلك كالوطء والتقبيل واللمس للذة وكالهبة والصدقة بالمبيع والإعتاق والتدبير والكتابة، واختلف في الإجارة والرهن والتسوم (3) بالسلعة (4): فعند ابن القاسم أنه اختيار لأنه تصرف من المالك لا يحتاج إليه في اختيار المبيع وليس باختيار عند أشهب لأنه قد يفعل نيابة عن الغير، وتزويج الأمة اختيار وتزويج العبد وإسلامه في صنعه اختيار عند ابن القاسم وليست باختيار عن أشهب، وجناية الخطأ ليست باختيار وجناية العمد اختيار عند ابن القاسم وليست باختيار عند أشهب، والنظر في هذا كله مع ابن القاسم والاستخدام ليس باختيار لأنه اختبار. فصل [6 - في مدة الخيار]: مدة الخيار متعلقة بما يمكن اختيار (5) المشتري المبيع في مثله (6)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قصرها ذلك على ثلاثة أيام (7) (لقوله صلى الله عليه   (1) في (ق): مستحق، وفي (ر): متحقق. (2) في (ر): اختبار. (3) في (م): السوم. (4) انظر: التفريع: 2/ 171 - 173، الكافي ص 343، المقدمات: 2/ 92. (5) اختيار: سقطت من (م). (6) انظر: المدونة: 3/ 238، التفريع: 2/ 172، الرسالة ص 214، الكافي ص343. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 75، الإقناع ص 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1044 وسلم: "لكل مسلم شرطه" (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا بيع الخيار" (2) فأطلق، ولأنها مدة ملحقة بالعقد فجاز أن يكون أكثر من ثلاثة أيام) (3) كالآجال لأنها مدة يحتاج فيها إلى اختبار المبيع كالثلاثة، ولأن الخيار موضوع لتأمل المبيع واختياره والمبيعات مختلفة في ذلك وفي قصرها على مدة محصورة إبطال لفائدته. فصل [7 - إذا مات مشترط الخيار]: إذا مات مشترط الخيار من المتبايعين قام ورثته مقامه (4) خلافًا لأبي حنيفة (5)، لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (6) فعم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك ملكًا وحقًّا فلورثته" (7)، ولأنه خيار ثابت في عقد بيع كالخيار بالعيب، ولأن من ورث شيئًا ورثه بحقوقه كالدين بالرهن وخيار التعيين (8) والرد بالعيب، ولا يلزم عليه الوطء لأن ذلك لا يتصور فيه على وجه. فصل [8 - في اختلاف الورثة بين الإمضاء والفسخ]: إذا اختلف الورثة فأراد بعضهم الإمضاء وبعضهم الفسخ: فإما رضوا جميعًا أو فسخوا لأنهم يقومون مقام موروثهم ولم يكن له تبعيض الصفقة. فصل [9 - في وراثة خيار الشرط أو الرؤية أو التعيين أو الرد بالعيب]: (لا فصل بين خيار الشرط أو الرؤية أو التعيين أو الرد بالعيب في أن ذلك كله موروث) (9).   (1) لم أعثر على تخريج لهذا الخبر؟ ولعله يريد حديث: "المسلمون عند شروطهم". (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) ما بين قوسين سقط من (ق). (4) انظر: التفريع: 2/ 171، الكافي ص 344. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 75، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 14. (6) سورة النساء، الآية: 12. (7) أخرجه البخاري في الفرائض، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترك مالًا فلأهله: 8/ 5، ومسلم في الفرائض، باب: من ترك مالًا فلورثته (3/ 1234). (8) في (م): خيار التعمير. (9) سقط هذا الفصل كاملًا من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1045 فصل [10 - حكم التبايع على خيار رضا فلان]: يجوز أن يتبايعا ويشترطا أو أحدهما رضا فلان أو اختياره يومًا أو أيامًا (1) خلافًا لأصحاب الشافعي (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: "واشترط الخيار ثلاثًا" (3) ولم يفرق، ولأن الخيار وضع لتأمل المبيع وحظ مشترطه، وقد لا يعرف ذلك فيشترطه لغيره ليُعرِّفه إياه. فصل [11 - إذا ثبت الخيار لغير المتبايعين فهل يثبت مع ذلك لهما]: إذا ثبت (4) الخيار ويكون لمن اشترط له فهل يثبت (مع ذلك لمشترطه من المتبايعين أم لا؟ فيه خلاف (5) قال ابن القاسم: يثبت) (6) الخيار للأجنبي وللبائع إن كان هو الذي اشترطه (7)، فإن اختار الأجنبي ردًّا أو إجازة وأباه البائع فالقول للبائع، وإن كان المشتري هو الذي شرط للأجنبي الخيار لم يثبت إلا للأجنبي فقط ولم يكن للمشتري أن يخالف (8) عليه، وروي عنه أيضًا: أن لهما المخالفة عليه وهو قول ابن حبيب. وإنما قلنا: إن شرط الخيار للأجنبي لا يلزم البائع لأنه لم يشترط له على وجه التمليك، ولكن على وجه تنبيهه (9) وإرساله، ولأن الخيار للأجنبي فرع على ثبوته للبائع فيمتنع أن يثبت الفرع وينتفي به أصله.   (1) انظر: التفريع: 2/ 172، الكافي ص 343، المقدمات: 2/ 89. (2) انظر: المهذب: 1/ 258. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1042). (4) في (م): ثبت أن. (5) انظر: التفريع: 2/ 172، الكافي ص 343، المقدمات: 2/ 90 - 91. (6) ما بين قوسين سقط من (م). (7) في (م): شرطه. (8) في (م): يحلف. (9) في (م): شبهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1046 ووجه التفريق بين البائع والمشتري أن حال المشتري (1) أضعف، لأن الإيجاب لا يتعلق بصفة والقبول يتعلق بها، فجعل أمره على التمليك والنظر التسوية بينهما لأنهما متساويان في العقد وحقوقه، لا يختلف أصحابنا أن شرط مشاورة الأجنبي جائزة ولا يلزم المتبايعين لأنه اشترطها لنفسه لا لغيره. فصل [12 - عدم اشتراط حضور العاقد الآخر عند الإمضاء أو الفسخ]: إذا اختار مشترط الخيار أن يختار (2) أو يفسخ فله حضر الآخر أم غاب (3) خلافًا لأبي حنيفة في اشتراطه حضور صاحبه (4)، لقوله صلى الله عليه وسلم في المصراة (5): "فهو بخير النظرين إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها" (6) ولم يفرق، ولأنه مختار (7) للفسخ مع بقاء مدة الخيار كما لو حضر صاحبه، ولأنه معنى ينقطع به خياره فلم يفتقر إلى رضا الآخر كالإجارة. فصل [13 - الخيار المطلق]: إذا اشترط الخيار ولم يضربا له مدة صح العقد وضرب للسلعة مدة تختبر (8)   (1) أن حال المشتري: سقطت من (ق). (2) في (م): أن يخير. (3) انظر: الكافي ص 343 - 344. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 74 - 75، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 14. (5) المصراة: التصرية حقن باللبن في الثدي أيامًا حتى يوهم ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير (انظر بداية المجتهد: 6/ 332، ومواهب الجليل مع حاشية المواق: 4/ 437 - 439). (6) أخرجه البخاري في البيوع، باب: النهي للبائع أن يحفل الإبل: 3/ 25، ومسلم في البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه: 3/ 1155. (7) في (م): محتاج. (8) في (م): كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1047 في مثلها (1) خلافًا لمن قال: إن البيع فاسد (2)؛ لأن الإطلاق محمول على العرف فيصير كالمشترط في البيع كالحمولة والنقد. فصل [14 - عدم جواز اشتراط النقد في بيع الخيار]: لا يجوز اشتراط النقد في بيع الخيار لا إلى أجل قريب ولا بعيد (3) لأن ذلك يضارع البيع والسلف، فيكون مرة ثمنًا إن اختار المشتري الإمضاء ومرة سلفًا إن اختار الرد، فإذا ثبت منعه فاشتراطه يفسد البيع لأنه شرط ينافي موجب العقد كما لو شرط ألا يملكه وإن لم يشترط وتبرع المشتري بالنقد جاز (4). فصل [15 - تلف المبيع في أيام الخيار]: تلف المبيع في أيام الخيار من البائع إن كان في يده أو في يد غيرهما (5) لأنه على ملكه لم يدخل في ضمان المشتري، فإن تلف في يد المشتري فتلفه منه، وإن كان مما يغاب عليه لأنه قبضه لمنفعة نفسه وعلى وجه المبايعة دون مجرد الأمانة، ولا يضمنه إن كان مما لا يغاب عليه لأن الظاهر أن هلاكه بغير صنعه، وأنه غير متعد بقبضه كالرهن (6). فصل [16 - اختلاط الثوبين الذين اشتراهما بالخيار]: إذا ابتاع من رجلين ثوبين بشرط الخيار فاختلطا ولم يتميز ألزمه البيع ولا خيار له (7) لأنه لا يصل إلى رد ملك أحدهما عليه، فكان كالتالف (8).   (1) انظر: المدونة: 3/ 241، التفريع: 2/ 172، الكافي ص 343. (2) في أحد قولي الإِمام أحمد (المغني: 3/ 589). (3) انظر: المدونة: 3/ 238 - 239، الرسالة ص 214، الكافي ص 343. (4) في (م): جائز. (5) في (م) و (ر): غيره. (6) انظر: المدونة: 3/ 233، التفريع: 2/ 171 - 272، الكافي ص 344. (7) انظر: المدونة: 3/ 233، التفريع: 2/ 173، الكافي ص 344. (8) في (م): كالمتلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1048 فصل [17 - خيار الغبن]: اختلف أصحابنا في بيع السلعة بما لا يتغابن الناس بمثله مثل أن يشتري أو يبيع مما يساوي ألف بمائة، فمنهم من نفى أن يثبت الخيار لمغبون (1) منهما، ومنهم من قال: لا خيار إذا كانا من أهل الرشاد والبصر بتلك السلع، وإن كان أو أحدهما بخلاف ذلك فللمغبون الخيار (2). فإذا قلنا: لا خيار له فلأنه نقص في عين المعقود عليه كالقليل، ولأن المغبون مفرط لأنه كان يجب أن يوكل من يشتري له أو يبيع. وإذا قلنا: له الخيار فلقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بعت فقل لا خلابة" (4)، ونهيه عن إضاعة المال (5)، وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" (6)، ولأنه نوع من الغبن في الأثمان فجاز أن يتعلق به الخيار أصله تلقي الركبان، ولأنه نقص بثمن المبيع (7) والغبن فكان مؤثرًا في الخيار كالعيب. ...   (1) المغبون: هو المنقوص في الثمن. (2) انظر: المدونة: 3/ 22، الكافي ص 361. (3) سورة البقرة، الآية: 188. (4) أخرجه البخاري في البيوع، باب: ما يكره من الخداع في البيع: 3/ 19، ومسلم في البيوع، باب: من يخدع في البيع: 3/ 1165. (5) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى: 2/ 139، ومسلم في الأقضية، باب: النهي عن كثرة المسائل: 3/ 1340. (6) أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: من بنى في حقه ما يضر جاره: 2/ 783، ومالك مرسلًا: 2/ 745، وأحمد: 1/ 313، 5/ 32. (7) المبيع: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1049 باب: [في الغش والتدليس في البيوع] ومن أراد بيع سلعة له معيبة فعليه أن يبين ذلك ويُعلم المشتري به (1) لأنه إن كتمه ذلك فقد غشه والغش ممنوع في الدين. وإنما قلنا: أنه غش لأن المشتري يدخل على مبيع سليم والبائع يعلم أنه لا يعلم بالعيب، وإنه لا يدري إذا علم به هل يرضى أم لا، فإذا كتمه فقد غشه (ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تصروا الإبل والغنم" (2)، فنهى عن التصرية لأنها غش وتدليس لأن المشتري يظن أن ذلك قدر حلابها، وروي أن رسول الله) (3) صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعامًا فسأله كيف يبيع فأخبره فأومأ إليه أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده، فإذا هو مبلول فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من غش" (4). فصل [1 - صحة البيع الذي فيه غش]: إذا ثبت أن ذلك ممنوع فلا يمنع صحة البيع (5) خلافًا لمن ذهب إلى ذلك (6) لحديث المصراة، وقوله: "من ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين إن رضيها   (1) انظر: المدونة: 3/ 221، التفريع: 2/ 173، الرسالة ص 212، الكافي ص 346. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1047). (3) ما بين قوسين سقط من (م). (4) أخرجه مسلم في الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من غشنا فليس منا" (1/ 99). (5) انظر: المدونة: 3/ 221، التفريع: 2/ 173، الرسالة ص 212 - 213، الكافي ص 346. (6) وحكى عن أبي بكر عبد العزيز: أن البيع باطل؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد (المغني: 4/ 159). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1050 أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر" (1)، فأثبت له الخيار فدل أن العقد صحيح، ولأن العيب ليس فيه إلا أنه نقص من المبيع، وذلك لا يوجب الفساد كما لو اشترى رزمة على أن فيها عشرة أثواب فكانت تسعة. فصل [2 - في أن العيب يثبت الخيار للمشتري]: إذا ثبت أن العيب لا يفسد العقد وإنه يوجب الخيار للمشتري في أن يردّ ويرجع بالثمن أو يمسك ولا شيء له ما دام (2) المبيع قائمًا بحاله لم يفت ولم يتغير لقوله في حديث المصراة: "فمن ابتاعها فهو بخير النظرين" (3) فأثبت له الخيار، ولأن المشتري إنما بذل الثمن ليحصل له المبيع سليمًا، فإذا أصابه معيبًا فلم يرض ببذل الثمن في معيب، فكان له رده، وإن اختار رد البيع والرجوع بالثمن، فذلك له إن اختار إمساكه والرجوع بأرش العيب حتى يحصل السلعة المعيبة (4) ببعض الثمن فليس ذلك له إلا برضى البائع. وإنما قلنا ذلك لأن البائع دخل على أن يحصل له الثمن كله وتحصل السلعة للمشتري فلم يجبر على أن يحصل له بعض الثمن، ولأن المشتري لا يستحق الأرش على ألا يرد فلا يلزم المشتري إلا برضاه، (وفي حديث المصراة "إن رضيها أمسكها (5) وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر" (6) ولم يجعل له إمساكها مع أخذ الأرش. فصل [3 - إذا بذل البائع الأرش على ألا يرد]: وإذا بذل البائع الأرش على ألا يرد فلا يلزم المشتري إلا برضاه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فهو بخير النظرين" (7)، فأثبت له الخيار وذلك ينفي الإجبار   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1047). (2) في (ق): فإذا. (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1047). (4) المعيبة: سقطت من (ق). (5) ما بين قوسين سقط من (ق). (6) و (7) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1047). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1051 على أحدهما، ولأنه يقول: إنما بذلت الثمن لتحصل لي سلعة سليمة كما أن البائع دخل علي أن له كل الثمن. فصل [4 - سقوط الخيار إلى مال]: وإنما قلنا: إن ذلك جائز مع تراضيهما خلافًا لمن منعه (1) لأن هذا الخيار (2) قد سقط إلى مال لأن المبيع لو فات لكان للمبتاع الأرش فجاز إسقاطه الآن إلى مال كخيار القصاص، ولأن الجزء الفائت لما لم يعاوض عليه وجب له الرجوع بما قابله، فإذا تراضيا بذلك جاز، وكيفية الرجوع بالأرش أن ينظر إلى قيمة السلعة سليمة من العيب، فيقال: عشرون دينارًا فيقال: وكم تساوي مع العيب فيقال: ستة عشرة فيعلم أن العيب قد نقصها خمس قيمتها فيرجع على البائع بخمس الثمن، لأن ذلك في مقابلة الجزاء الفائت ولا يرجع بمقدار ما نقص من القيمة لأن المعاوضة إنما (3) كانت بالثمن لا بالقيمة، وهذا كله إذا كان المبيع قائمًا بعينه لم يفت ببعض وجوه الفوت، فأما إن فات فليس له إلا أخذ الأرش لأن رده مع الفوت غير ممكن لأنه يوجب ألا يستبد المشتري بأخذ الثمن وألا يرجع المبيع إلى البائع وذلك غير جائز ونحن نذكر وجوه الفوت. فصل [5 - إذا تصرف في المعيب بعد العلم بعيبه]: وهذا كله إذا لم يتصرف فيه بعد علمه بعيبه ولم يظهر منه بتركه، فإن تصرف فيه بعد العلم بالعيب مختارًا، فذلك رضا منه بعيبه فليس له رد ولا أرش. فصل [6 - في التصرف المضطر إليه في المعيب]: وإن تصرف مضطرًا مثل أن يشتري دابة معيبة ولم يظهر على عيبها إلا بعد أن   (1) قال أبو حنيفة والشافعي: ليس له إلا الإمساك أو الرد (انظر بدائع الصنائع: 7/ 2303، المهذب: 1/ 283). (2) في (ر): عند مالك. (3) في (ق): إذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1052 يسافر بها، فلما علم عيبها لم يرض وأراد ردها ولم يجد بُدًّا من ركوبها أو حمل متاعه عليها فعل ذلك مضطرًا ففيها روايتان (1): إحداهما: أن ذلك مسقط لرده، والأخرى: أنه لا يسقطه، فوجه الأولى أنه تصرف مع العلم بالعيب كالتصرف مع الاختيار، ولأن ضرورته لا تمنع سقوط ردها إذا تعلق بذلك حق غيره لأنه إنما تصرف لحظ نفسه، ووجه الثانية أن المضطر في حكم المكره ولو تصرف مكرهًا لم يسقط خياره، فكذلك مع الاضطرار. فصل [7 - إذا ابتاع رجلان عبدًا فوجدا به عيبًا]: إذا ابتاع رجلان عبدًا فوجدا به عيبًا، فإن اتفقا على رد أو إمساك فذلك لهما، وإن أراد أحدهما الرد، والآخر: الإمساك، ففيها روايتان (2): إحداهما: أن لمن شاء منهما أن يرد وهو قول ابن القاسم، والأخرى: أنه لا يجب الرد مع اختلافهما وليس لهما تبعيض الصفقة على البائع وهو قول أشهب. ووجه ثبوت الرد أنه بيع اجتمع (3) في أحد طرفيه عاقدان فلم يتعلق رد المعيب في حق أحدهما برده فوجب (4) في حق الآخر أصله إذا كان البائعان رجلين والمشتري واحدًا، ولأنه مبتاع وجد بما ابتاعه عيبًا فلم يرض به ولم يفت، فكان له رده من غير اعتبار بغيره (5) أصله إذا انفرد به، ولأن هذا العقد في حكم الصفقتين بدليل أن جملة الثمن معلومة في الجملة، وإن لم يعلم في حق كل واحد منهما ولو كان في حكم الصفقة الواحدة لم يصح.   (1) انظر: المدونة: 3/ 294 - 300، التفريع: 2/ 174 - 175، الكافي ص 348. (2) انظر: المدونة: 3/ 314. (3) في (م): اجتماع. (4) فوجب: سقط من (م). (5) في (م): من غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1053 ووجه سقوط الرد أن فيه تفريق الصفقة على البائع، وذلك إضرار به وخلاف لما دخل عليه، ولأنه رد لمبيع (1) وجب لجماعة عن عقد بيع، فوجب أن لا يملك أحدهم رد ما يخصه إلا برد الباقين أصله إذا ابتاع بالخيار شيئًا، فمات فليس لورثته أن ينفرد أحدهم بالرد دون الآخرين. فصل [8 - ادعاء أن بالمبيع عيبًا]: إذا ادعى المبتاع أن بالمبيع عيبًا فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعلم بالمشاهدة كالقطع وغيره من النقص في البدن، أو أن لا يعلم بالمشاهدة كالسرقة والإباق والتزويج في العبد والأمَة وما أشبه ذلك، فإن كان مما يعلم بالمشاهدة لزمه إيقاف البائع عليه ثم ينظر، فإن كان مثله لا يحدث عند المشتري ولا يكون إلا متقدمًا على وقت الشراء فله الرد ولا مقال للبائع لأنه قد ثبت صدقه، فإن ادعى البائع عليه الرضا فله أن يحلفه على ذلك إن لم يقم له بينة به، إن حلف المشتري ثبت له الرد وإن نكل ردت اليمين على البائع، فإن حلف سقط عنه الرد، فإن نكل ثبت للمشتري وإن لم يدَّع البائع على المشتري الرضا لم يكن له إحلافه ولزمه رد (2) الثمن (3). فصل [9 - إذا كان العيب حادثًا]: فإن كان مثله حادثًا مما يعلم أنه لم يكن في ملك البائع وأنه لم يحدث إلا بعد البيع، فالقول قول البائع لأنه قد ثبت صدقه وكذب المشتري، فإن كان مما يمكن حدوثه (4) عند البائع وحدوثه عند المشتري فالقول قول البائع مع يمينه لأن الأصل السلامة ولزم البيع والمشتري يدعى ثبوت خيار واستحقاق فلا يقبل ذلك   (1) في (م): يمتنع. (2) رد: سقطت من (ق). (3) انظر: المدونة: 3/ 307، 313، التفريع: 2/ 173 - 177، الكافي ص 350. (4) في (م): وجوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1054 منه إلا ببينة (1) وإلا حلف وسقط عنه الحكم، فإن نكل حلف (2) المشتري، ووجب له الردّ، فإن نكل فلا شيء له وإن حلف رده على البائع هذا إذا كان العيب مشاهدًا والأيمان ها هنا على البت دون العلم لأنه يوصل إلى اليقين فيه. فصل [10 - إذا كان العيب لا يُعلم بالمشاهدة]: وأما إن كان مما لا يُعلم بالمشاهدة كالإباق والرقيق وغيره، فلا يقبل من المشتري إلا ببينة وإلا حلف البائع ثم كان الحكم على ما قدمناه. فصل [11 - إذا حدث عند المشتري عيب ثم ظهر عيبًا كان عند البائع]: فإن لم يظهر المشتري على العيب حتى تصرف في البيع تصرفًا ينقص منه أو حدث به عنده عيب آخر، فإن البائع لا يخلو أن يكون دلس أو لم يدلس: فإن كان دلس للمشتري أن يطالبه بالأرش ويتمسك (3) بالسلعة أو يرد ويرجع بالثمن ولا شيء عليه فيما تصرف فيه أو حدث به عنده إلا أن يكون في حكم ذلك المتلف فيكون ذلك فوتًا وذلك مثل أن يشتري ثوبًا معيبًا (4)، فلا يعلم به حتى يقطعه قميصًا أو سراويلًا أو غير ذلك مما يستعمل في مثله فله أن يرده ولا شيء عليه ولو مزقه أو أتلفه بتصرف الناس بمثله لم يكن له الرد وكان له الأرش، وإن كان المبيع عبدًا فتلف من ذلك العيب فللمبتاع الرجوع بالثمن ولا شيء عليه (5) من تلفه، فأما إن كان البائع لم يدلس فالمبتاع بالخيار إن شاء أن يأخذ الأرش وإن شاء أن يرد وما نقص (6).   (1) في (م): بعينه. (2) في (م): أحلف. (3) في (م): يمسك. (4) معيبًا: سقطت من (ق). (5) عليه: سقطت من (ق). (6) انظر: المدونة: 3/ 294، التفريع: 2/ 175 - 176، الكافي ص 350 - 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1055 فصل [12 - دليل أن حدوث العيب عند المشتري لا يمنع الرد]: وإنما قلنا: إن حدوث العيب عند المشتري لا يمنع الرد خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (1)؛ لأن البائع لم يوفه ما أوجب له العقد من سلامة المبيع، فكان له الرد إذا لم يرض بالإمساك أصله إذا لم يحدث عنده عيب، ولأن الرد أحد نوعي الخيار الواجب للمشتري بالعقد فلم يمنعه حدوث العيب عنده كالإمساك وأخذ الأرش، ولأنه نقص حدث بالمبيع فلم يمنع رده مع أخذ أرشه أصله حُلْبُ المصراة. فصل [13 - في دليل أنه يمسك ويرجع بالأرش]: وإنما قلنا: إن له أن يمسك ويرجع بالأرش خلافًا لمن قال: ليس له إلا أن يرد (2)؛ لأن الرد حق له والأرش حق له فلم يجبر (3) على أحدهما. وإنما قلنا في التدليس: إن المشتري مخير إذا تصرف في المبيع تصرفًا يجوز مثله رده ولم يلزمه أرش لأن ذلك رضا من البائع لأنه لمَّا كتم العيب وهو يعلم أن المشتري يتصرف في المبيع، ولا يعد ذلك منه رضا لأنه تصرف عن غير علم بالعيب، كان راضيًا به لأنه هو الذي سلطه عليه فلم يلزم المشتري أرش. فصل [14 - الرد يكون مع النقص]: وإنما قلنا: إنه إذا قطعه بما لا يقطع مثله لم يكن له رده إلا مع النقص لأن البائع لم يسلطه على ذلك لأنه دخل على أن يتصرف فيه تصرف مثله المعهود، فإن تصرف فيه المشتري بمثل ما يتصرف في مثله فلا شيء عليه، لأن البائع سلطه عليه فإن خرج عن العادة لم يكن له رده إلا مع الأرش لأن البائع لم يسلطه على ذلك ولا رضي به.   (1) مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 21، الأم: 3/ 68. (2) قاله أبو حنيفة والشافعي (انظر مختصر الطحاوي ص 77، 80، والمهذب: 1/ 283 - 284، المغني: 4/ 162). (3) في (ر): فلا يجبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1056 فصل [15 - إذا مات العبد من ذلك العيب]: (وإنما قلنا: إن العبد إذا مات من ذلك العيب فلا شيء على المشتري، فلأن البائع قصد أخذ مال المشتري بغير حق لأنه لم يوفه المبيع سليمًا بل دفع إليه ما لم يعاوض عليه، فإذا لم يرضه لم يلزمه تلفه لأنه على ملك البائع حتى يعلم رضا المشتري. فصل [16 - ليس للمبتاع رد المبيع إذا لم يدلس البائع]: وإنما قلنا: إن البائع إذا لم يدلس فليس للمبتاع رد المبيع إذا تصرف فيه إلا مع الأرش لأن البائع لم يسلطه على التصرف) (1) ولا رضي به فلم يلزمه قبوله إلا مع الأرش، وسواء في ذلك إذا كان لم يعلم بالعيب أو كان علم به وأنسيه. فصل [17 - إذا وجد بالمبيع عيبان]: وإذا وجد بالمبيع عيبان: أحدهما يعلم أنه قبل البيع، والآخر يمكن (2) فيه الأمرين، فالرد للمشتري بالأول واليمين عليه لأن الآخر لم يحدث عنده لأنه لم يكن (3) مدعى عليه استحقاق الأرش. فصل [18 - الفوت الذي يصيب العبد من موت وزمانه وهرم غيره]: موت العبد وزمانته وهرمه الذي لا يبقى معه انتفاع به وعتقه وتدبيره وكتابته واستيلاد الأمة على ذلك فوت والأصل فيه أن كل ما يتعذر معه الرد فوت وكل هذا إتلاف منه مشاهدة ومنه من طريق الحكم، فأما البيع (4)، ففيه ثلاث (5) روايات:   (1) ما بين قوسين: سقط من (ق). (2) في (م): ممكن. (3) في (م): يكون. (4) في (م): المبيع. (5) انظر: المدونة: 3/ 297، 300، التفريع: 2/ 174، 176، الكافي ص 348، المقدمات: 2/ 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1057 إحداها (1) أنه فوت ويرجع بالأرش على البائع وإن كان المشتري لم ينقص في الثمن كان له الأرش، فإن كان قد نقص فالبائع الأول بالخيار إذا اختار أن يعطيه الأرش أو يكمل له رأس ماله. والثانية: أنه لا شيء له إلا أن يرده (2)، والثاني: أو يرجع إليه بشراء أو هبة أو غير ذلك وما لم يرجع إليه أو يرده الثاني فلا شيء له على الأول. والثالثة: أنه إن كان نقص لأجل العيب رجع بقدر ما (3) نقص على البائع، وإن لم ينقص فلا شيء له إلا أن يرجع إليه. فوجه الأولى: أن المبيع إخراج له عن الملك، فكان فوتًا كالعتق والصدقة، وإما قلنا: أنه إن كان قد نقص فالبائع الأول مخير بين إعطائه الأرش وتكميل رأس المال؛ لأن ردَّه غير ممكن، والذي يلزم البائع تخليصه من العيب بأي الأمرين شاء ورجحنا في التخيير لأن جنبته أقوى بتعذر الرد. ووجه الثانية: وهي أنه لا شيء له إلا أن يرد عليه أو يرجع إليه أن الرد غير ميئوس منه، فلم يكن فوتًا كالرهن والعارية، فإن عاد إليه كان له ردُّه لإمكان الرد بعد عوده. ووجه الثالثة أنه إذا لم ينقص فلإطلاقه بينه وبين البائع ولا سيما (4) مع تعذر الرد، والأقيس (5) من هذا كله أن يكون له الأرش لأن البائع لم يوفه ما أوجب له العقد بالجزء (6) الفائت عنده.   (1) في (م): أحدها. (2) في (ق): يزده. (3) في (ق): بما. (4) في (م): وسيما. (5) في (ق): وإلا فليس. (6) في (م): بالجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1058 فصل [19 - في حكم الإباق]: الإباق فوت (1) خلافًا للشافعي (2)؛ لأن رده يتعذر معه ويجعله في حكم الميئوس منه، ولأن الإباق يوجب له القيمة في العيب وكذلك يجب أن يكون له الأرش في العيب. فصل [20 - في وطء المشتري للثيب]: وطء المشتري للثيب لا يمنع الرد ولا يوجب عوضًا (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أنه يمنع الرد (4) لأن الفوت هو تلف المبيع أو تغير بدنه أو عينه (5) أو أن يعقد عليه عقدًا يخرجه عن الملك لا سبيل إلى رده وكل هذا معدوم لأنه استمتاع كالقُبْلة والوطء فيما دون الفرج، ولأنها وطئت في ملك المبتاع كوطء الزوج والإكراه، وخلافًا لابن أبي ليلى في قوله: إنه يردها ومعها مهر المثل (6)؛ لأنه وطء ملك فلم يستحق عليه عوض به أصله إذا فاتت، ولأنه لم ينقص شيئًا منها كالاستخدام. فصل [21 - في وطء المشتري للبكر]: وطء البكر لا يمنع الرد خلافًا للشافعي (7)، لما بيناه أن حدوث العيب لا يمنع الرد وليس الافتضاض بأكثر من قطع بعض الأعضاء، وإذا ثبت أن له أن يرد، فإنه يردها وما نقصها كسائر العيوب.   (1) انظر: التفريع: 2/ 165 - 166، الكافي ص 347 - 363، المقدمات: 2/ 75. (2) انظر: مختصر المزني ص 87، الإقناع ص 91 - 92. (3) انظر: التفريع: 2/ 174 - 175، الكافي ص 347 - 348. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 80. (5) في (م): أو عيبته. (6) انظر: المغني: 4/ 163 - 164. (7) انظر: الأم: 3/ 68، مختصر المزني ص 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1059 فصل [22 - وجوب الرد للمشتري إذا كان المبيع على حاله]: قد بينا أن الرد واجب (1) للمشتري إذا كان المبيع على حاله (2) لم ينم في يد المشتري ولا نقص ولا تغير عن (3) صفته، وسواء دلس به البائع أو نسيه، وبينا أنه إذا حدث به عيب عنده، فإن ذلك لا يمنع الرد ويرد معه ما نقصه العيب، فأما إذا نمى فإنه لا يخلو النماء أن يكون منفعة أو عيبًا، فإن كان المنفعة مثل استخدام العبد وسكنى الدار أو إجارتها أو ركوب الدابة وما أشبه ذلك، فإن هذا لا يمنع الرد بالعيب ولا شيء على المشتري فيما استعمل أو استعان ولا يلزمه رد شيء لأجله لأن هذا خراج والخراج به الضمان. والأصل فيه ما روى ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف (4) أنه ابتاع غلامًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا فقضى له عمر بن عبد العزيز برده وغلته، فأخبره عروة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان (5)، فرد (6) عمر قضاه وقضى لمخلد بردِّه الخراج إليه ولا خلاف في ذلك أعلمه. فصل [23 - الرد إذا كان النماء عينًا]: فأما إن كان النماء عينًا فإنه يختلف، أما ولادة الأَمَة ونتاج الماشية، فإنما ترد مع الأمهات وثمرة النخل بخلاف ذلك يرد أصل النخل ولا يرد الثمرة، (وقال أبو حنيفة: الولادة والنتاج والثمرة يبطل الرد ويوجب الأرش (7)؛ لأن هذه   (1) في (ق): أوجب. (2) في (م): حال. (3) عن: سقطت من (ق). (4) مخلد بن خفاف بن إيماء بن رخصة الغفاري، لأبيه وجده صحبة، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن وضاح: مخلد مدني ثقة (تقريب التهذيب: 10/ 74 - 75). (5) سبق تخريج الحديث. (6) في (ق): مودة. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 80 - 81، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1060 الأشياء عنده عيوب وحدوث العيب يمنع على أصله الرد) (1)، وقال الشافعي: يرد الأصل وحده في ذلك كله ولا يرد الفرع (2). فدليلنا على أبي حنيفة: أنه نماء يحدث في يد المشتري بعد العقد، فلم يمنع الرد بالعيب أصله الغلة والكسب، ولأن أكثر ما فيه أن يكون عيبًا وقد بينا أن العيب (3) لا يمنع الرد، ولأنهم قد وافقونا أن العبد إذا أفاد عند المشتري مالًا (4) بهبة أو التقاط أو ركاز، فإن ذلك لا يمنع الرد بعيب إذا وجد به، وكذلك ولادة الأمَة لأنه لو كان منفعة لم يمنع الرد، فكذلك إذا كان عيبًا كنماء العبد. ودليلنا على الشافعي في قوله: إن الولد لا يرد أن الأصول موضوعة على كل حكم لزم في رقبة الأم، فإن الولد يتبعها فيه كولد أم الولد والمكاتبة والمدبرة والمعتقة إلى أجل وقد ثبت أن حكم الرد لازم في رقبة هذه الأم المبيعة من وقت البيع، فيجب أن يكون ما يحدث من ولد وحكمه حكمها فيه لأنه حدث بعد استقرار وجوب الرد، ولا يشبه الثمرة إذا حدثت عنده لأنها خراج وغلة لأنها ليست كخلق الأصل، والولد ليس بخراج فإن كانت الثمرة في النخل وقت الشراء ردها مع الأصل. فصل [24 - في بيع الأصول وفيها الثمر، وبيع العبد له مال]: إذا ابتاع أصل النخل وفيها ثمر، فإن كان لم تؤبر فهو للمبتاع، وإذا أراد رد الأصل كان حكمه حكم ما حدث عنده، فإن كان قد أبر لزمه أن يرده مع الأصل عند ابن القاسم لأنه إذا أبر فليس بيع (5) بل كان واجبًا للبائع إلا أنه جعل للمبتاع اشتراطه رفقًا به فسقط حق الثمر (6).   (1) ما بين قوسين: سقط من هنا، ثم ورد بعد قول الشافعي في (م). (2) انظر: مختصر المزني ص 86 - 87، الإقناع ص 94. (3) في (م): أنه. (4) مالًا: سقطت من (م). (5) في (ق): يبيع. (6) في (م): الثمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1061 وعند أشهب لا ترد الثمرة مع الأصل أبرت أو لم تؤبر لأنّه بيع (1) وغلة، فإن كان المشتري قد سقاها وأنفق عليها لزم البائع أن يعطيه ذلك كما لو سقاها أجنبي هذا إذا كانت الثمرة (2) قائمة، فأما إن كانت الثمرة (3) قد فاتت نظر، فإن كان بغير فعل منه فله أن يرد الأصل ولا شيء عليه كولد الأَمة الحادث بعد العقد إذا مات، ومال العبد مشترط معه إذا تلف أن له أن يرد الأَمة والعبد ولا شيء عليه، وإن أتلفها هو بأكل أو بيع فإنه يرد مثل مكيلتها عند مالك لأنها قد أخذت قسطها (4) من الثمن، وله أجر السقي والعلاج لأنها كملت بسقيه، وعند أشهب أنها غلة لا ترجع (5) مع الأصل اعتبارًا بما لم يؤبر، فأما إذا ابتاع غنمًا فجزَّ أصوافها فينظر: فإن كان حين ابتاعها كان (6) عليها صوف تام فجزَّه فإنه يرده معها لأنه قد دخل في البيع، وإن كان حدث عنده فليس عليه أن يرده معها سواء كان بيده أو قد فات هذا كله على قول ابن القاسم. فأما أشهب فإنه يقول: لا يرد ذلك سواء كان موجودًا يوم الصفقة أو حدث بعدها لأنه تبع (7) ولغو، فأما الألبان والسمون فإنها للمبتاع لأنها غلة فإن كان موجودًا يوم العقد لم يلزم شيء إذا رد عند ابن القاسم وأشهب لأنه بيع غير مقصود (8) بالبيع، وإذا ابتاع عبدًا وشرط ماله رده معه في العيب وليس له انتزاعه لأنه ليس بغلة ولا خراج، وإن تلف عنده فلا شيء عليه وحكم ما أفاد من مال عند المشتري ما كان معه يوم العقد (9).   (1) في (م): بيع. (2) الثمرة: سقطت من (ق). (3) الثمرة: سقطت من (م). (4) في (م): قسطًا. (5) في (م): لا ترد. (6) كان: سقطت من (م). (7) في (م): بيع. (8) في (م): معقود. (9) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 3/ 265، التفريغ: 2/ 146 و 217، 218، الكافي ص 335 - 336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1062 فصل [25 - العيوب التي توجب الرد]: الذي يوجب الرد من العيوب: كل عيب ينقص الثمن ويؤثر نقصًا في المبيع أو يخاف عاقبته، وذلك كالجنون والجذام والبرص والعنين والخصاء والإفضاء (1) والدفر (2) وبياض الشعر والبخر (3) والإباق والزنا والسرقة وما أشبه ذلك (4)، ومنه ما يختص بالرائعة والمرادة للوطء كالحمل وغيره مما ذكرناه، ومنه ما يعم كالجنون وغيره بحسب ما يعلم من العادة فيما تراد له الجارية أنه يؤثر فيه وينقص الثمن لأجله أم لا، فأما عدم الخفاض فعيب في رقيق العرب لأن العادة أنهم يخفضون وليس بعيب في رقيق العجم لأنه يعلم أنهم لا يفعلونه وهذا مما يخص (5). فصل [26 - إذا زال العيب بعد العقد وقبل علم المشتري]: إذا زال العيب بعد العقد وقبل علم المشتري نظر: فإن كان مما تتقي عاقبته فله رد العبد به، وذلك كالزوجة في العبد والزوج في الأمَة، فإن الطلاق لا يسقط الرد فيهما، وكذلك ما أشبهه مما لا يؤمن عوده أو ضرره، وأما ما يؤمن ذلك فيه، فإذا زال فلا رد له كالدين إذا قضاه ولم يكن في [سفه] (6). ...   (1) الإفضاء: هو أن يكون مسلك البول والحيض واحد (انظر الصحاح: 6/ 2455). (2) الدفر -بالدال المهملة-: نتن الإبط وكذا الأنف (المعجم الوسيط: 1/ 218). (3) البخر: نتن الفم (المعجم الوسيط: 1/ 40). (4) انظر: التفريع: 2/ 176، الكافي ص 348 - 349. (5) في (ق): يختص. (6) طمس في (ق) و (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1063 باب: [في عهدة الرقيق (1)] إذا اشترى عبدًا أو أمة فعهدته ثلاثة أيام بلياليها، فما أصابه فيها من حدث فمن البائع وإن شاء المشتري أخذه (2) بعيبه بجميع الثمن له ذلك ثم له عهدة السنة بعد عهدة الثلاث من ثلاثة أدواء وهي: الجنون والجذام والبرص، فما حدث به من ذلك في السنة فالخيار للمشتري (3) في إمساكه أو رده فإن تلف منها كان من البائع (4)، وهذا لما كان أهل المدينة يجرون أمرهم عليه واشترطوها في إبلهم ثم يبيتوا عليه (5)، ولذلك قال مالك: لا يحمل عليها أهل الأمصار إلا أن يشترطوها (6)، والكلام فيها إنما هو على تقدير بقاء ذلك اليوم بالمدينة ولو كان العرف جاريًا به في بلادنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: كل عيب حدث بعد قبض المشتري، أي عيب كان فهو منه (7)، ودليلنا ما روى الحسن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عهدة الرقيق ثلاثة أيام" (8)، وروي قتادة عن الحسن عن   (1) عهدة الرقيق: هي بيع الرقيق على أن ضمانه في الثلاث من بائعه ولو بالسماوي (الفواكه الدواني ص 91). (2) في (م): أجازه. (3) في (م): لمشتريه. (4) انظر: الموطأ: 2/ 612، المدونة: 3/ 333، التفريع: 2/ 177، الرسالة ص 216، الكافي ص 352. (5) حكى عمل أهل المدينة: المنتقى: 4/ 173، البيان والتحصيل: 8/ 348، ترتيب المدارك: 1/ 28. (6) الموطأ: 2/ 612. (7) انظر: المبسوط: 13/ 93، المهذب: 1/ 258. (8) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في عهدة الرقيق: 3/ 776، وابن ماجه في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1064 النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا عهدة بعد أربع" (1)، ولأن ذلك إجماع أهل المدينة نقلًا لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم في العهدة فقال: ما أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل النبي (2) - صلى الله عليه وسلم - لحبان بن منقذ، فإنه جعل له عهدة ثلاثة أيام فيما اشترى إن رضي أخذه وإن سخط ترك (3). وقال محمَّد بن يحيى بن حبان (4): ما جعل ابن الزبير عهدة الرقيق ثلاثة أيام إلا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمنقذ بن عمر (5): "وأنت بالخيار ثلاثًا" (6)، وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر (7): أن إبان بن عثمان (8)، وهشام بن إسماعيل (9) كان يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الثلاثة الأيام من حين   = التجارات، باب: عهد الرقيق: 4/ 754، وأحمد: 4/ 152، والحاكم: 2/ 21، والحديث رواه الحسن واختلف عليه فيه، فمرة قال عن سمرة ومرة قال عن عقبة (مجمع الزوائد: 3/ 110). (1) أخرجه ابن ماجه في التجارات، باب: عهد الرقيق: 2/ 754، وأبو داود في البيوع، باب: في عهد الرقيق: 3/ 776، والبيهقي: 5/ 323، وأحمد: 4/ 152، والحديث مختلف فيه أيضًا (مجمع الزوائد: 4/ 110). (2) في (م): رسول الله. (3) أخرجه البيهقي: 5/ 274، وتفرد بهذا الخبر ابن لهيعة. (4) محمَّد بن يحيى بن حبان: بفتح المهملة وتشديد الموحدة، ابن منقذ الأنصاري، المدني، ثقة، فقيه من الرابعة، مات سنة إحدى وعشرين ومائة (تقريب التهذيب ص 512). (5) والحديث ورد في: حبان بن منقذ وليس منقذ بن عمرو كما جاء في متن الكتاب. (6) أخرجه الحاكم: 2/ 22، والبيهقي في المعرفة، والدارقطني: 3/ 54. (7) عبد الله بن أبي بكر: بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، ثقة من الخامسة، مات سنة خمس وثلاثين ومائة (تقريب التهذيب ص 297). (8) إبان بن عثمان بن عفان الأموي، أبو سعيد، وقيل: أبو عبد الله مدني، ثقة من الثالثة، مات سنة خمس ومائة (تقريب التهذيب ص 87). (9) هشام بن إسماعيل الدمشقي: العطار، أبو عبد الله، الزاهد، القدوة، ثقة، توفي سنة سبع عشر ومائتين (العبر: 1/ 372). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1065 يشتري العبد أو الوليدة (1)، وهو قول عمر بن عبد العزيز وأبي الزناد (2)، والزهري ورووه عن المشيخة السبعة (3)، فأما عهدة السنة من الأدواء الثلاثة، وإنها تكمن في البدن فتظهر في السنة، فإذا ظهرت قبل كمال السنة علم أن أصلها كان عند البائع، وإذا حدثت بعده علم أنها حدثت في ملك المشتري. فصل [1 - البيع بشرط البراءة]: اختلف قول مالك في البيع بشرط البراءة (4) فعنه فيه ثلاث روايات (5). إحداها: أنه جائز ويبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ مما عليه وكتمه واشترط البراءة منه، وهذا في الرقيق دون غيره من الحيوان والعروض، وهذه الرواية هي المعتبرة وعليها النظر. والثانية: أن ذلك جائز في الرقيق وسائر الحيوان. والثالثة: أن بيع البراءة غير نافع ولا يبرأ إلا مما (6) يقف المشتري عليه ويريه إياه.   (1) الموطأ: 2/ 612. (2) أبو الزناد: عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن، المدني، المعروف بأبي الزناد، ثقة، فقيه من الخامسة، مات سنة ثلاثين ومائة وقيل: بعدها (تقريب التهذيب ص 302). (3) يريد بذلك الفقهاء السبعة وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير والقاسم بن محمَّد، وخارجة بن زيد، وعبيد الله، وسليمان بن يسار، وأبو سلمة (انظر: الجواهر المضية: 4/ 548). (4) البيع بشرط البراءة: عرفها ابن عرفة بقوله: ترك القيام بعيب قديم، وقال ابن أبي زمنين: ترك القيام بكل عيب (انظر: حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع: 4/ 272 - 273). (5) انظر: الموطأ: 2/ 613، المدونة: 335 - 337، التفريع: 2/ 179، الكافي ص 349. (6) في (ق): أن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1066 فوجه القول بأن شرط البراءة جائز قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1)، ولأن ابن عمر باع غلامًا له بثمان مائة درهم بالبراءة فقال المبتاع: به عيب لم تسمه، فقال ابن عمر: "بعت بالبراءة فاختصما إلى عثمان فقضى عليه أن يحلف لقد باعه العبد وما به داء يعلمه (2) " موضع الدليل (3) أن ابن عمر باع بالبراءة ولم ينكر عليه عثمان، وإنما رأى البراءة مع العلم بالعيب لا ينفع (4) ولم يخالف عليه أحد، ولأنه شرط البراءة من عيب لم يدلس به ولا كتمه فأشبه إذا أراه إياه، ولا يدخل عليه العروض لأنا اعتللنا للجواز في الجملة. فصل [2 - في عدم البراءة مما علم من العيوب]: ودليلنا على أنه لا يبرأ مما علم خلافًا لأبي حنيفة (5)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بعت فقل لا خلابة" (6) وهذا موجود في مسألتنا، وما رويناه من حديث عثمان وابن عمر، ولأنه عيب وجد بالمبيع لم يوجد رضا به ولا إبراء لبائعه على أنه عالم به، فلم يلزم المشتري أصله إذا لم يشترط البراءة منه. فصل [3 - وجه التفرقة بين الرقيق وغيره]: ووجه التفرقة بين الرقيق وغيره من الحيوان: أن الرقيق يقدرون على إخفاء ما بهم من العيوب وكتمانه، فلا يصل المالك إلى علم ذلك فجُوِّز له البيع بالبراءة للأمارة الدالة على صدقه في عدم علمه بعيب إن كان به وسائر الحيوان بخلافهم لأنه لا قدرة فيها (7) على كتم عيوبها، فالبائع والمشتري يتساويان في ذلك، فلم يجز له البيع بالبراءة إلا ما يسميه له.   (1) سورة المائدة، الآية: 1. (2) انظر: الموطأ: 2/ 613. (3) ما بين قوسين سقط من (ق). (4) في (م): لا تقع. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 81، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 20 - 21. (6) سبق تخريج الحديث ص 1049. (7) في (م) فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1067 ووجه التسوية بينهما: أن العيب قد يخفي ويستتر في الحيوان، فلا يكاد يقف عليه إلا أهل الطب والبياطرة، فجاز للمالك بيع البهيمة بشرط البراءة كجوازه في الرقيق. ووجه قوله: أن شرط البراءة لا يبرأ مما يوجد فيها بعد نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر (1) وهذا منه، ولأنه شرط البراءة معنى يرتفق به أحد المتعاقدين فلا يصح مع الجهالة وإمكان التحرز في الغالب أصله الأجل، ولأن منع ذلك حسم للباب، ولأنه إذا وجد بالمبيع عيب أمكن أن يكون عالِمًا به فيجحد فيصير ذلك طريقًا إلى نفوذ حكم التدليس على المشتري وإلزامه إياه والأول أصح. فصل [4 - في اشتراط البراءة من الحمل]: شرط البراءة من الحمل جائز عندنا في الوخش (2) والتي لا تراد للوطء وغير جائز في المرتفعات (3) إلا في الحمل الظاهر (4)، والفرق أن ذلك في المرتفعات غرر، لأن الأمة المرتفعة المتخذة للتسري المرغوب فيها للحسن والجمال ينقص الحمل ثمنها ويضعها وضعًا بينًا وربما أتى على معظم قيمتها، فإذا لم يكن ظاهرًا فإن البائع والمشتري يدخلان على غرر ظاهر (5) لأنها إن لم تكن حاملًا فقد وضع البائع حقه خيفة (6) أن تكون حاملًا، وإن كانت حاملًا فالمشتري قد دفع الثمن رجاء أن لا تكون حاملًا وكل ذلك غرر، ولأن السنة مع الجواز (7) على المواضعة، وعليه مضى السلف: إذا ظهر الحمل زال الغرر ودخل كل   (1) سبق تخريج الحديث. (2) الوخش: هي الدنية وصغار ورذالة الرقيق (انظر المصباح المنير ص 652). (3) المرتفعة: هي الجارية التي تراد للنكاح. (4) انظر: المدونة: 3/ 336، الكافي ص 349. (5) ظاهر: سقطت من (م). (6) خيفة: سقطت من (م). (7) في (ق): بيع الجواري وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1068 واحد على بصيرة وعلم ما يزيده في الثمن وينقصه، ولأنه لا موضع حينئذ للمواضعة، فأما الوخش فإن الحمل لا يضع منهن ولا يبطل شيئًا من أثمانهن بل لعله يزيد فيها، فجاز شرطه البراءة منه لقلة الغرر فيه. فصل [5 - في كون العبد يملك]: العبد يملك عندنا (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)، لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِنْ فَضْلِهِ} (3)، والفقر والغنى من صفات المالكين لأن من لا يصح عليه الملك لا يصح وصفه بالغنى ولا بالفقر (4)، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (5)، فالمقصد من هذا التنبيه على الصانع تعالى وعمومه الحر والعبد كما أن التنبيه عام فيهما، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدًا وله مال" (6)، وهذه لام التمليك، فهي محمولة على حقيقتها، ولأنه آدمي حي كالحر، ولأن الرق حال من أحوال الآدمي الحي فصح أن يملك معها كالحرية، ولأن المملوكات ضربان: أعيان، ومنافع، وقد ثبت أن العبد يملك المنافع كوطء زوجته وغير ذلك، فكذلك الأعيان، ولأن من صح أن يملك في حال صح أن يملك في كل حال اعتبارًا بالحر عكسه البهائم لما لم يصح أن تملك في حال لم يصح أن تملك في كل حال. فصل [6 - في أن ملك العبد ناقص غير تام]: إذا ثبت أنه يملك فإن ملكه ناقص غير تام ولا مستقر ليس له أن يتصرف فيه إلا   (1) انظر: التفريع: 2/ 179، الكافي ص 336. (2) انظر: المهذب: 1/ 267. (3) سورة النور، الآية: 32. (4) في (م): والفقر. (5) سورة يس، الآية: 71. (6) أخرجه البخاري في المساقاة والشرب، باب: الرجل يكون له مصر: 3/ 81، ومسلم في البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر: 3/ 1173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1069 بإذن سيده، ولسيده انتزاعه منه ما لم يتعلق به حق للغير على ما نذكره في باب المأذون، فإن باعه السيد وله مال: فإن شرطه المبتاع لكان للعبد بالشرط، وإن سكت عن ذكره فهو للبائع (1) لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" (2)، وسواء كان عينًا أو عرضًا، ثم يكون المشتري فيها كالبائع إن شاء أقره في يده وإن شاء انتزعه، وله أن يطأ بملك اليمين إذا وهبه السيد أمة أو أذن له في ابتياعها. فصل [7 - مال العبد المعتق]: ومال العبد تابع له في العتق (3) إلا أن يشترطه المالك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق عبدًا فماله له إلا أن يستثنيه سيده" (4)، فاختلف عنه في الوصية والهبة فعنه فيه روايتان (5): إحداهما: أنه للواهب، والأخرى: أنه تابع للعبد، وإنما اختلف ذلك لاختلاف التعليل في البيع والعتق: فمن أصحابنا من علل البيع بأنه عقد معاوضة، فلذلك كان مالك العبد لمن خرج عن ملكه وعلل العتق بأنه إخراج الملك عن غير عوض، فلذلك كان مال العبد تابعًا له، فعلى هذا يجب أن يكون في الوصية والهبة المال للعبد دون الموصي والواهب؛ لأنه خروج مالك من غير عوض كالعتق، ومنهم من علل البيع بأنه خروج ملك إلى مالك (والعتق بأنه خروج ملك إلى غير مالك) (6)، فعلى هذا لا يكون في الهبة والوصية تابعًا للعبد لأنه خروج ملك إلى مالك.   (1) انظر: الموطأ: 2/ 611، التفريع: 2/ 179، الرسالة ص 218، الكافي ص 336. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) في (م): بالعتق. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) انظر: الموطأ: 2/ 612، الرسالة ص 18. (6) ما بين قوسين سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1070 باب: [التفرقة في البيع بين الأَمَة وولدها] لا يجوز التفرقة بين الأَمَة (1) وولدها في البيع، ويفسخ ذلك إن وقع (2) خلافًا لأبي حنيفة (3)، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا توله والدة عن ولدها" (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته (5) يوم القيامة" (6)، ولأنه بيع منع منه لحق الله تعالى في أحكام المبيع، فكان باطلًا أصله بيع الخمر. فصل [1 - في وقت جواز التفرقة بين الأمَة وولدها]: فإن أجاب المشتري إلى الجمع بينهما فلا يجوز البيع أيضًا لأن المنع من ذلك لحق الله تعالى فلا يسقط بإسقاط الآدمي، وفي حد التفرقة روايتان: الإثغار (7) لأنه يستقل عن ذلك بنفسه ولا يستضر بفراق أمه كالاحتلام، والأخرى البلوغ لأنها حال صغر اعتبارًا بما قبل الإثغار.   (1) في (ق): الأم. (2) انظر: الموطأ: 2/ 616، التفريع: 2/ 179. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 85، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 30 - 31. (4) أخرجه البيهقي: 8/ 5، حديث أبي بكر بسند ضعيف، وأبو عبيد في غريب الحديث من مرسل الزهريّ، ورواية عنه ضعيف والطبراني، وابن عدي (انظر تلخيص الحبير: 3/ 15). (5) في (ق): من أحبه. (6) أخرجه الترمذي في البيوع، باب: في كراهية الفرق بين الأخوين أو بين الوالدة وولدها في البيع: 3/ 580، وأحمد: 5/ 413، والدارقطني: 3/ 67، والحاكم: 2/ 55، وقال: صحيح على شرط مسلم. (7) الأثغار: هو إنبات الأسنان (لسان العرب: 4/ 103). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1071 فصل [2 - في التفرقة بين الأب وولده]: ويفرق بينه وبين الأب لأنه لا يستضر الطفل بمفارقة الأب كاستضراره بمفارقة الأم، ولأن الأم أولى بذلك لأن حق الحضانة يثبت لها دون الأب. فصل [3 - في عدم التفريق بين الأمَة المسبية وبين ولدها]: لا يفرق بين الأمَة المسبية وبين ولدها لعموم الأخبار، ولأن المعنى في المسبية وغيرها سواء، ويقبل قولها في أنه ولدها لأنه لا ضرر عليها في ذلك إلا في التوارث فلا يقبل. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1072 باب: [التصرية] التصرية عيب وتدليس إذا قصد به البائع التدليس، والمصراة هي: الشاة أو الناقة أو البقرة يجمع اللبن في ضرعها ليعظم (1) فيظن المشتري إذا حلبها أن ذلك قدر حلابها، والتصرية في اللغة الجمع، يقال: صريت الماء في الحوض إذا جمعته (2)، ومنه قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ في صَرَّةٍ} (3)، قيل: جمع من النساء (4)، فمن ابتاع مصراة ثم علم بذلك بحلابها فهو بالخيار إن شاء أمسكها بعيبها وإن شاء ردها ورد صاعًا من تمر للبن الذي حلبه منها (5)، وقال أبو حنيفة: ليست التصرية بعيب ولا يثبت بها حق رد واللبن الذي في الضرع لا قسط له من الثمن (6). ودليلنا أنها عيب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو خير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر" (7)، ففيه أدلة: أحدها أنه نهى عنه، فدل على أنها تدليس، والثاني: أنه أثبت للمبتاع الخيار، والثالث: أنه أوجب عليه إذا ردها صاعًا من تمر وعندهم لا يجب، وفيه دليل على أن اللبن يأخذ قسطًا من الثمن، ولأن قيمة الشاة التي تحلب عشرة أرطال أكثر من قيمة الشاة التي تحلب خمسة   (1) ليعظم: سقطت من (ق). (2) قال ابن فارس: الصاد والراء والحرف المعتل أصل واحد صحيح يدل على الجمع، يقال: صرى الماء يصريه إذا جمعه (معجم مقاييس اللغة: 3/ 346). (3) سورة الذاريات، الآية: 29. (4) انظر: أحكام القرآن - القرطبي: 17/ 46. (5) انظر: المدونة: 3/ 287، المقدمات: 2/ 102، الكافي ص 346. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 79. (7) سبق تخريج الحديث ص 1047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1073 أرطال والرغبة في إحداهما أزيد فصارت التصرية تدليسًا (1) بالعيب، فكان للمشتري أن يرد، ولم يمنعه الحلب من الرد كما لو ابتاع ثوبًا، وقد دلس البائع فيه فلم يعلم حتى قطعه لكان له الرد. فصل [1 - في البيع الفاسد]: إذا ابتاع شيئًا بيعًا فاسدًا فسخ البيع ورد الثمن على المبتاع: فإن تلف في البائع فتلفه منه لأنه على ملكه لم ينتقل عنه، فإن قبضه المبتاع وتلف في يده فضمانه منه لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه لشبهة العقد فضمنه، فإن كان مما له مثل ضمنه بمثله، وإن كان مما لا مثل له ضمنه بقيمة يوم القبض لا يوم العقد لأنه لم يضمنه بالعقد فيعتبر يوم العقد، وإنما يضمن يوم العقد ما يكون عقده صحيحًا لا فاسدًا، وإن كان المبتاع استغله (2) واستخدمه لم يلزمه شيء لذلك، لأن الضمان منه فكان الخراج له، والعتق فوت لأنه لا يمكن رده معه لأنه ينفذ في شبهة العقد كنفوذه في العقد الصحيح لقوته وتغليبه، وحوالة الأسواق فوت لأن فيه ضررًا على البائع أن تؤخذ السلعة منه وهي تساوي مائة وترد عليه وهي تساوي عشرين، والعيوب في البدن فوت أيضًا. وقد اختلف أيضًا (3) عنه هل هذا حكم جميع المبيعات الفاسدة أو حكم نوع منها، فعنه في ذلك روايتان (4): إحداهما: أنه حكم جميعها وهي رواية ابن نافع، والأخرى أنه ما اتفق على فساده وتحريمه كالربا والغرر وغير ذلك، فأما ما اختلف في تحريمه فإنه إذا مات أمضى بالثمن.   (1) في (م): عيبًا. (2) في (ق): استعمله. (3) أيضًا: سقطت من (م). (4) انظر: المدونة: 3/ 206 - 209، التفريع: 2/ 180، الرسالة ص 215، الكافي ص 354 - 357، المقدمات: 2/ 61 - 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1074 فوجه الأولى: أنه مبيع فاسد كالربا، لأن الاتفاق لا مزية له على الاختلاف في الحكم بفساد العقد ما لم يفارق الاختلاف حكم الحاكم. ووجه الثانية: أن الاختلاف يقتضي شبهة للقابض، فكان الثمن أولى من القيمة لأن الثمن متفق عليه مع الشبهة التي ذكرناها، وكان الفوت مشبهًا بحكم الحاكم بصحته والأول أقيس. فصل [2 - في تقسيم البيع الجائز إلى مساومة ومرابحة]: البيع جائز مساومة ومرابحة، فالمساومة: ألا يخبر برأس ماله بل يبيع السلعة بما يسوم بها ويوافقه المبتاع عليه من مقدار الثمن، والمرابحة: أن يخبر برأس ماله (1)، ويلتمس الربح على حساب معلوم مثل أن يقول: رأس مالها مائة ويبيعها (2) بربح كل عشرة واحدًا أو اثنين أو غير ذلك مما يلتمسه، وكل جائز (3) لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4)، ولأن الغرض أن يكون الثمن معلومًا، فعلى أي وجه أوقعه جاز، وإذا ثبت هذا فقد ينفرد رأس المال من شيء يتبعه وقد ينضم إليه شيء يتبعه كالقصارة والخياطة والسبغ والطي والشد والسمسرة والكراء وغير ذلك، فإن انفرد رأس المال عن شيء يتبعه (5) لم يلزم سواء وما قدر من الربح له، وإن انضم إليه شيء من ذلك لم يخل من أحد أمرين: إما أن يخبر البائع (6) برأس المال وما لزمه ويشترط ضمه إلى رأس المال   (1) في (ق): برأس المال. (2) في (ق): وأن يبيعها. (3) انظر: الموطأ: 2/ 668 - 669، المدونة: 3/ 244 - 250، التفريع: 2/ 181، الكافي ص 344 - 345. (4) سورة البقرة، الآية: 275. (5) عن شيء يتبعه: سقطت من (ق). (6) البائع: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1075 وطلب الربح للكل، فهذا يكون له ما اشترطه، لأن المشتري قد رضي بذلك، وكأن البائع قال ابتداء: لا أبيعها إلا بكذا فرضي المبتاع فيجوز. وأما أن يطلق العقد ويسكت عن اشتراط ضم هذه التوابع إلى رأس المال وعن اشتراط ربح لها، فهذا ينظر فيه: فيضم إلى رأس المال كل ما له عين قائمة في المبتاع مثل القصارة والخياطة والصبغ والطرز، ويحسب لها بقسطها من الربح لأنها جارية مجرى أصل المبتاع، وما عدى ذلك من شدٍ وطي وسمسرة، فلا يضم إلى رأس المال فلا يحسب له ربح لأنه ليس بمؤثر في المبتاع ولا المبتاع مضطر إليه حتى يمكن حصوله إلا به لأن التاجر يفعله ترفيهًا لنفسه عن التعب، فليس له أن يلزم بذلك المبتاع مؤنة زائدة إلا أن يعلم أن شراء ذلك المتاع لا يمكن أن يتولاه من يشتريه إلا بوسيط وسمسار، والعادة جارية بذلك فيحسب في رأس المال ولا يحسب له ربح لأنه ليست له عين قائمة مؤثرة في المتاع، ويحسب نقل المتاع من بلد إلى بلد، فأما كراء المنزل (1)، فإن كان التاجر اكتراه ليسكنه ويأوى فيه إلى وقت انصرافه فالمتاع تبع (2)، فلا يحسب النَّفقة على نفسه طول مقامه، وإن كان اكتراه ليحرز المتاع فيه ولولا ذلك لم يحتج إليه، فإنه يحسب بغير ربح يضرب له على ما ذكرناه. ...   (1) فأما كراء المنزل: سقط من (م). (2) في (م): بيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1076 باب: [إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن] إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن: ففيها ثلاث روايات (1): إحداها: أن التحالف والتفاسخ واجب بينهما على أي وجه كان سواء كانت السلعة في يد البائع أو المشتري باقية أو تالفة إلا أن يرضى المشتري أخذها بما يدعيه البائع وهو قول أشهب والشافعي (2). والثانية: أنه إن كانت السلعة لم تقبض تحالفًا تفاسخًا، وإن كانت قد قبضت فالقول قول المشتري مع يمينه وهي رواية ابن وهب. والثالثة: أن السلعة إن كانت باقية لم تفت ولا تغيرت في بدن ولا سوق وإن كانت قد قبضت فإنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن تلفت أو تغيرت بما ذكرناه، فالقول قول المشتري مع يمينه، وهذه رواية ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة (3). فوجه قوله: إنهما يتحالفان ويتفاسخان على كل وجه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع ويتردان" (4)، وروي: "يتحالفان ويتفاسخان" (5) فعم ولم يخص، ولأن الاختلاف في ثمن المبيع   (1) انظر: المدونة: 3/ 245، التفريع: 2/ 182، الكافي ص 345. (2) انظر: مختصر المزني ص 86 - 87. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 82، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 32 - 33. (4) أخرجه أبو داود في البيوع، باب: إذا اختلف البيعان: 3/ 783، والنسائي في البيوع، باب: خلاف المتبايعان في الثمن: 7/ 266، وابن ماجه في التجارات، باب: البيعان يختلفان: 2/ 737، والترمذي في البيوع، باب: ما جاء إذا اختلف البيعان: 3/ 570، وأخرجه الحاكم: 2/ 45، وقال: صحيح الإسناد. (5) في (م): تحالفا وتفاسخا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1077 يوجب التحالف أصله قبل القبض، ولأنه لما كان القول قول المالك في أصل البيع إذا قال بعتكها، وقال الآخر: وهبتنيها، كان القول قوله أيضًا في صفة ذلك الشيء ما أمكن. ووجه اعتبار القبض دون الفوات أن الأصول موضوعة على أن اليمين في جنبة أقوى المتداعيين سببًا، والمشتري بعد القبض أقوى سببًا لما دفع إليه السلعة وائتمنه عليها إذا لَمْ يُشهد عليه ويتوثق منه وجب أن يكون القول قوله كما كان للذي الشيء في يده من المتداعيين القول مع يمينه. ووجه اعتبار الفوات والتغيير قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع، فإن استهلكت، فالقول قول المشتري"، وروي: "والسلعة قائمة تحلفًا وترادًا" (1)، ولأن التحالف سبب يثبت به فسخ البيع فسقط بتلف المبيع كالإقالة، ولأنا لو أوجبنا التحالف في هذا الموضع لكنا قد أوجبنا على المشتري القيمة، وربما كانت أضعاف ما يدعيه البائع من الثمن فيكون قد ألزمناه ما لم يدعه عليه خصمه. فصل [1 - صفة المسألة السابقة]: إذا ثبت هذا فصفة المسألة على الروايات (2) الثلاث: أن الاختلاف لا يخلو أن يكون قبل القبض أو بعده: فإن كان قبله فإنه يتحالفان ويتفاسخان ويبدأ البائع باليمين فيحلف أنه لم يبع السلعة إلا بما ادعاه، فإن حلف قيل (3) للمشتري: إما أن تحلف على ما أدعيت ويفسخ البيع بينكما وإلا ألزمناكما بما حلف البائع عليه: فإن حلف سقط عنه ما ادعاه البائع وفسخ العقد، فإن نكل لزمه البيع   (1) أخرجه الدارقطني: 3/ 21، لكن فيه من لا يعرف، وانظر تخريج الأحاديث السابقة، وقال الحافظ ابن حجر: أن رواية التحالف لا ذكر لها في شيء من كتب الحديث (تلخيص الحبير: 3/ 31). (2) في (م): على الصفات. (3) في (م): قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1078 بيمين البائع ويكون له بما يدعيه البائع نكل البائع أولًا نقلت اليمين إلى المشتري، فإن حلف وجبت له ما يدعيه، فإن نكل فاختلف فيه: فقيل: يترادان، وقيل: يكون القول قول البائع. فوجه التراد أنهما قد استويا في الحال كما لو حلفا لأنه ليس أحدهما أرجح من الآخر. ووجه ترجيح البائع أنه أقوى سببًا من المشتري لأن المشتري قد أضعف نفسه بنكوله هذا كله إذا كانت السلعة لم تقبض، فأما إذا قبضت فعلى رواية اعتبار القبض تعرض على المشتري، فإن حلف وجبت له حلف باليمين وقوة السبب، وإن نكل ردت اليمين على البائع، فإن حلف ثبت له ما يدعيه بنكول المشتري ويمينه، وإن نكل فقد ذكر الخلاف وترتيب الرواية الأخرى على مثل هذا. فصل [2 - إذا كان الاختلاف في البيع]: وإن كان الاختلاف في البيع فادعى البائع أنه حال وادعى المشتري التأجيل فينظر (1): فإن كان العرف جاريًا في موضعهما بأن ذلك النوع لا يباع إلا نقدًا لا نساء فاليمين على مدعي العرف لقوة سببه والقبض غير مؤثر، فإن كانا لم يفترقا: فقيل: القول قول البائع (لأن العرف لا يثبت حال التبايع لأن تقدم النقد على العقد وتأخره على وجه واحد، وقيل: القول قول المشتري) (2)، لأن العرف في الجملة شاهد له، فأما إن لم يكن لذلك (3) النوع المبيع عرف من تعجيل أو غيره وادعى المشتري أجلًا بشبهه، فقيل القول قول المشتري مع يمينه بعد القبض كالاختلاف في المقدار، وهذه رواية ابن وهب، وقيل: القول قول   (1) في (ق): فانظر. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) في (م): في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1079 البائع كهو قبل القبض، وإن تصادقا في الأجل واختلفا في مدته فالقول في الاختلاف في مقدار الثمن سواء، فأما الاختلاف في عين الثمن وجنسه فإنهما يتحالفان ويترادان والقبض لا يؤثر لأن (1) عين الثمن لا يقع فيها ائتمان وفيه نظر، وفروع هذا الباب تطول (2). ...   (1) لا يؤثر القبض لأن: سقطت من (م). (2) انظر: الكافي ص 340 - 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1080 باب: [في الاستبراء] ومن وطيء أَمَة ثم أراد بيعها فعليه أن يستبرئها (1) قبل البيع، وعلى المشتري أن يستبرئها قبل أن يطأها (2)، وقال أبو حنيفة والشافعي: الاستبراء على المشتري ويستحب للبائع (3)، وحكي عن عثمان البتي (4) أنه يلزم البائع ولا يلزم المشتري (5)، ودليلنا على وجوبه على البائع أنه إذا وطئها جاز أن تكون حاملًا من ذلك الوطء فيكون بائعًا لولده ومدخلًا للشبهة في النسب لأن المشتري قد يبادرها فيطأها قبل الاستبراء (6)، ولأنه أحد المتبايعين فلزمه كالمشتري، ولأن المشتري إنما لزمه الاستبراء لحفظ مائه لِئَلا يدخل ماء على ماء غيره، فالبائع يلزمه من حفظ مائه ما يلزم المشتري. فصل [1 - دليل وجوب الاستبراء]: ودليلنا على وجوبه على المشتري خلافًا للبتي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض" (7)، وقوله صلى الله عليه وسلم:   (1) الاستبراء في اللغة: الاستقصاء والبحث عن كل أمر غامض، وشرعًا: الكشف عن حال الأرحام عند انتقال الأملاك مراعاة لحفظ الأنساب (الفواكه الدواني: 2/ 61). (2) انظر: المدونة: 2/ 345 - 346، التفريع: 2/ 178، الرسالة ص 207 - 207، الكافي ص 300. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 90، مختصر المزني ص 225. (4) عثمان البتي: هو أبو عمر وعثمان بن مسلم البتي، فقيه البصرة، حدث عن أنس ابن مالك والشعبي، عابوا عليه الإفتاء بالرأي، (ت 143 هـ) (سير أعلام النبلاء: 6/ 148، تقريب التهذيب ص 386). (5) انظر: المغني: 7/ 509. (6) في (م): أن تستبرىء. (7) سبق تخريج الحديث 944. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1081 "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره" (1)، ولأنه لا يأمن أن تكون حاملًا فيكون بوطئه مدخلًا للشبهة في النسب فلزمه الاستبراء، وكذلك لا يحل له توابع الوطء من اللمس للذة والقبلة لأن حالها مترددة بين أن تكون مملوكة له وهو أن لا يظهر بها حمل وبين أن تكون أم ولد لغيره. فصل [2 - بم يكون الاستبراء؟]: والاستبراء حيضة لقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تحيض" (2) فأطلق، ولأن الغرض براءة الرحم، وذلك يحصل بالمرة، وتفارق الحرة لأن الزيادة لحرمة الحرية، فإن اتفقا على استبراء واحد جاز لأن الغرض يحصل، ويستحب أن توضع على يدي امرأة من عدول النساء لأن ذلك أصْوَن لها وأحفظ، ويكره أن تكون عند المشتري لئلا يتعجل بوطئها. فصل [3 - إذا وطئت الأَمَة المبيعة قبل أن تستبرأ]: إذا وطيء الأَمَة سيدها ثم باعها قبل أن يستبرئها فوطئها المشتري قبل أن يستبرئها (3) فأتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء الأول أو الثاني نظر إليه القافة، فبأيهما ألحقوه لحق فإن ألحقوه ببائعها انفسخ بيعها، وإن ألحقوه بمشتريها لم يبعها، وإن أتت به لأقل من ستة أشهر لوطء (4) الثاني وهو لستة أشهر من وطء الأول فهو للأول دون الثاني (5). وأما ولد الزوجة فالظاهر من قول مالك أنه لا يحكم فيه بالقافة، وذكر الشيخ أبو بكر الأبهري عن أبي يعقوب الراوي أن ابن وهب روى عن مالك أنه   (1) سبق تخريج الحديث ص 944. (2) سبق تخريج الحديث ص 944. (3) في (م): يشتري. (4) في (م): من وطء. (5) انظر: الموطأ: 2/ 739 - 740، المدونة: 2/ 347 - 359، التفريع: 2/ 178، الكافي ص 300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1082 يحكم فيه بالقافة كولد الأَمَة (1)، وقد بينا أن الحكم بالقافة إنما هو في وطء الرجلين الأمة في طهر واحد إذا أتت به لما يتشبه أن يكون منهما (2)، وعند أبي حنيفة أن الحاكم بالقافة باطل ولا يراعى الشبه، قال: فإذا تنازع الولد رجلان لحق بهما وكان ابنًا لهما يرثانه ويرثهما وكذلك عشرون وثلاثون رجلًا لو ادعوه إن أمكن ذلك (3). وقال الشافعي: يحكم القافة في ولد الأَمَة والحرة (4)، ودليلنا على وجوب الحكم بالقافة ما روي عن عائشة أنها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجي (5)، نظر إلى أسامة وزيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (6). فوجه الدلالة (7): أن المشركين كانوا يطعنون في نسب أسامة لأنه كان أسود وكان زيد أبيض، وكان ذلك يشق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسُرَّ بقول مجزز لكونه فائفًا عارفًا بالأنساب، ولو كان ذلك ظنًّا وتخمينًا (8) لا يتعلق به حكم لم يسر به، ولأنكْرَ على مجزز إخباره به كما ينكر (9) كما يذكر من أمر الجاهلية   (1) انظر: المدونة: 2/ 358. (2) في (م): منها. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 141، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 25. (4) انظر: مختصر المزني ص 317 - 318، المهذب: 2/ 121. (5) مجزز المدلجي: هو والد علقمة بن مجزز، وسمي مجززًا لأنه كان إذا أخذ أسيرًا في الجاهلية جز ناصيته وأطلقه، وكان عارفًا بالقيافة وكان فيمن شهد فتح مصر (فتح الباري: 12/ 57). (6) أخرجه البخاري في الفرائض، باب: القائف: 8/ 12، ومسلم في الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد: 2/ 1081. (7) في (م): موضع الدليل. (8) في (م): وحدسًا. (9) كان ينكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1083 وأحكامها مما ليس في شرعه إقراره، ويدل على أن اعتبار الشبه في اضطراب النسب واجب حديث سعد (1) وعبد بن زمعة (2) لما تنازعا الولد فادعاه سعد لأخيه وادعاه سعد بن زمعة لأبيه، فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - به لصاحب الفراش وهو زمعة، ثم قال لسودة (3): "احتجبي منه" (4) لما رأى من شدة شبهه بعينه مع ثبوت الأخوة بينهما وبين هذا الولد، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في قصة هلال بن أمية: "إن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك"، فجاءت به على النعت المكروه، فقال: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" (5) فدل على أن الشبه معتبر في إلحاق النسب ونفيه، وروي عن عمر وأنس الحكم بالقافة (6)، وهو عمل أهل المدينة المنتشر بينهم، ولأن حقيقة النسب من الأب لا يعلمها إلا الله تعالى أو من أطلعه الله عليه، وإنما يثبت بالاستدلال والفراش من جهة الظاهر، ووجدنا القافة لهم اختصاص بهذا العلم من طريق معرفة الشبه لا يدفع أحد ذلك، فجاز أن يكون لهم مدخل فيه كما جاز أن يكون للتجار مدخل في السلع المتلفات، ولأهل الحرز مدخل في الخرض في الزكوات وغيرها.   (1) سعد بن أبي وقاص: مالك بن وهب بن عبد مناف بن زهر بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق أحد العشرة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، مات بالعقيق سنة خمس وخمسين وهو آخر العشرة وفاة (تقريب التهذيب ص 232). (2) عبد بن زمعة: ابن الأسود بن عبد المطلب بن أسد القرشي، صحابي، مشهور، استشهد يوم الدار مع عثمان (تقريب التهذيب ص 303). (3) سودة: بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أم المؤمنين، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة وهو بمكة، وماتت سنة خمس وخمسين على الصحيح (تقريب التهذيب ص 748). (4) أخرجه البخاري في البيوع، باب: تفسير المشبهات: 3/ 5، ومسلم في الرضاع، باب: الولد للفراش وتوقي الشبهات: 2/ 1080. (5) سبق تخريج الحديث ص 898. (6) عبد الرزاق: 7/ 360، وابن أبي شيبة: 2/ 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1084 فصل [4 - في الدليل على أن الولد لا يكون لأكثر من أب واحد]: ودليلنا على أن الولد لا يكون لأكثر من أب واحد قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} (1)، وقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (2)، وقوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (3)، ولأن استحالة ذلك في الشرع جار مجرى استحالة الأمر من طريق المشاهدة. فصل [5 - في منع الحكم بالقافة في ولد الحرة]: فأما منع ذلك في ولد الحرة فلأن الحكم بالقافة لا يثبت بالقياس ولم يرد في الحرة شرع، ولأن الحرة لا يتساوى فيها الوطئان في الفراش لأنها لا بد أن تكون فراشًا لأحدهما دون الآخر إذ لا يجوز أن يكون فراشًا لهما جميعًا، فيلحق الولد لصاحب الفراش، وليس كذلك الأَمَة لأنه قد يستوي حكم الواطئين من جهة الملك لأنها إذا كانت بين شريكين فهما يتساويان (4) في الملك ويشتريها واحد بعد واحد، فيقع العقد صحيحًا، فلذلك احتجنا إلى الترجيح، واعتباره من الطريق الذي يعتبر منه وبالله التوفيق. ...   (1) سورة النساء، الآية: 11. (2) سورة لقمان، الآية: 14. (3) سورة العنكبوت، الآية: 8. (4) في (م): متساويان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1085 كتاب الإجارات (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمَّد) (1)، الأصل في جواز الإجارة (2) في الجملة (3) خلافًا لمن لا يعتد له (4)، قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (5)، فنص على جواز الإجارة والمعاوضة على المنافع، وقوله في هذه القصة: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (6)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" (7)، وقوله: "ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة فذكر رجل استأجر أجيرًا فاستوفى عمله ولم يوفه أجره" (8)، ولأن بالناس حاجة إلى تمليك (9) المنافع كحاجتهم إلى تمليك الأعيان، ولأنه   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) الإجارة في اللغة: من الأجر وهو الثواب والأجرة الكراء، وفي الاصطلاح: هي بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشيء عنها بعضه يتبعض بتبعيضها (انظر: الصحاح: 2/ 176، حدود ابن عرفة ص 392). (3) انظر: المدونة: 2/ 386 - 390، التفريع: 2/ 183، الرسالة ص 218، الكافي ص 368. (4) يحكي ذلك عن عبد الرحمن بن الأصم أنه قال: لا يجوز ذلك (انظر: المغني: 5/ 443). (5) سورة القصص، الآية: 27. (6) سورة القصص، الآية: 26. (7) أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: أجر الأجراء: 2/ 817، وفيه عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم وهو ضعيف، وأصله في صحيح البخاري (انظر نصب الراية: 4/ 129، مجمع الزوائد: 4/ 100). (8) أخرجه البخاري في الإجارات، باب: إثم من منع أجر الأجراء: 3/ 50. (9) في (م): تملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1087 إجماع السلف والخلف على مر الأعصار قبل خرق من خرقه، فلا يعتد بخلافهم فيه (1). فصل [1 - الإجارة على منافع الأعيان]: الإجارة هي عقد معاوضة على منافع الأعيان (2)، ولا تخلو المنافع من أحد أمرين: إما أن تكون معلومة الجنس كخياطة الثوب وبناء الحائط وركوب الدابة وسكنى الدار وما أشبه ذلك، وغير معلومة مثل خدمة العبد وما في معناها. فالقسم الأول لا يحتاج إلى ضرب أجل لأنه مستغنى بالعلم بجنسه عن أن يعلم بأجل يحصره. والقسم الثاني يحتاج إلى أصل ينضبط به (3)، لأنه غير معلوم في نفسه، ألا ترى أن خدمة العبد تختلف فتكون في خبز، أو طبخ أو خدمة دابة أو شراء حاجة أو غير ذلك مما يستخدم في مثله الأجراء، فلو لم ينضبط بمدة محصورة لدخل المنافع المستأجرة عليها الجهل والغرر فاحتيج لذلك إلى ضرب مدة تضبط بها (4). فصل [2 - في إجارة الدور والأرضين والحوانيت وغيرها]: تجوز إجارة الدور والأرضين والحوانيت والثياب والدواب والرقيق وأواني الحديد والخشب وغير ذلك من العروض. ويجوز عقد الإجارة على كل منفعة يستباح تناولها ويجوز لمالكها منعها وبذلها: كخياطة الثوب وبناء الحائط والصياغة والقصابة والصبغ وسائر الصنائع، وكذلك الخدمة وغيرها من المنافع (5).   (1) انظر: بداية المجتهد: 2/ 218، المغني: 5/ 433، نيل الأوطار: 5/ 281. (2) في (م): الإجارة في عقد معاوضة على منافع الأعيان جائزة. (3) في (م): ليضبط به. (4) انظر: التفريع: 2/ 185 - 186، الرسالة ص 218، الكافي ص 368. (5) فيما تجوز إجازته انظر: المدونة: 3/ 386 - 400، التفريع: 2/ 183 - 185، الرسالة ص 219، الكافي ص 368 - 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1088 فصل [3]- في إجارة الأعيان]: تجوز إجارة الأعيان كالدور والرقيق وغيرها على ثلاثة أوجه: أحدها: على مدة معلومة معينة مثل: أن يقول استأجرت منك هذه الدار سنة أو سنتين أو لها يوم كذا وانتهاؤها وقت كذا لأن هذا حصر للمنافع المعقود عليها بمدة (1) تفوت بفواتها ويلزم المستأجر رفع يده عند تقضيها، ونظيره في بيوع الأعيان، أن يقول ابتعت منك هذا الثوب أو ما في هذه الرزمة من الثياب وقد شاهدها وعرفها فيجوز ذلك، والثاني أن يذكر المدة ولا يجدها (2) من أي وقت يكون، فيقول: استأجرت منك هذه الدار شهرًا بدينار ولا يبين أي شهر هو فيصح عندنا ويكون من وقت العقد (3) خلافًا للشافعي في قوله: إنّه لا يصح إلا أن يبين أوله (4)؛ لأن الإطلاق في هذا محمول على العرف والعرف جار بين الناس في بياعاتهم وإجارتهم ومعاملاتهم أنهم إذا أطلقوا الأجل، فالمراد به من وقت العقد، ألا ترى أن من باع من رجل ثوبًا بدينار إلى شهر فإنه يحمل على أنا ابتداءه (5) من وقت العقد، وكذلك إذا أسلم إليه بشيء في ذمته وقدر الأجل ولم يعينه، فإنه يكون من وقت العقد، وكذلك قلنا فيمن حلف ألا يكلم زيدًا شهرًا ولم يعينه، فإن يمينه تنعقد من وقت حلفه لأن العرف جار في كل هذا بأن المراد به الفور والحال كذلك الإجارات (6). والثالث: أن يستأجرها مشاهرة فيقول: استأجرت منك هذه الدار على حساب الشهر بكذا أو السنة أو الأسبوع أو أي مدة قدر بها الأجرة، فيجوز وإن   (1) تمده: سقطت من (م). (2) في (م): ولا يجردها. (3) انظر: المدونة: 3/ 392، التفريع: 2/ 185 - 186، الكافي ص 369. (4) انظر: الأم 4/ 26 - 27، المهذب: 1/ 396. (5) في (ق): ابتدائه. (6) في (م): الإجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1089 لم يعين مدة ما يعقد عليه من ذلك خلافًا للشافعي في قوله: إنه لا يصح إلا أن يقول: استأجرتها شهرًا أو شهرين أو مدة يذكرها على حساب كذا (1). وإما قلنا أن ذلك جائز لأن المنافع المعقود عليها يعلم قدرها باختيار المستأجر، فكأن المؤجر قال: قد أجرتك هذه الدار ما شئت أن يسكنها من المدة على حساب كل شهر بكذا، فذكر الشهر يُراد لتحديد المعقود عليه وهو أجرة المنافع وإخراجه من حيز (2) الغرر والجهل ليقع الحساب عليه عند استيفاء المنافع، فيكون كقوله: قد بعتك من هذا الكر ما شئت على حساب كل قفيز بدرهم، فمهما أخذ منه استحق ثمنه عليه بما يقدر (3) له، كذلك الإجارة فإذا ثبت هذا وقع العقد على هذا الحد: فلكل واحد منهما أن يترك إذا شاء (4) فيسكن المستأجر ما شاء من المدة ويخرج إذا شاء وتلزمه الأجرة بحساب ما سكن، وكذلك المالك له أن يطالبه بالخروج أي وقت شاء، وقال عبد الملك: تلزمه أجرة حد واحد مما جعلاه علمًا على حساب الأجرة من شهر كذا أو (5) سنة، كأنه قال: استأجرت منك هذه الدار كل شهر بدينار فيلزمه كراء شهر، وكذلك لو قال: كل سنة لزمه كراء سنة واحدة. فوجه الأول أن العقد لم يقع على شهر كامل، وإنما وقع على حساب الشهر بكذا، فلم يلزم سكنى ما لم يقع العقد عليه، ووجه الثاني أنه إذا قال: كل شهر بدينار فكأن الكراء إنما وقع على الحد الذي جعل علمًا على معرفة الأجرة المقدرة به. فصل [4 - إجارة الدنانير والدراهم]: إجارة الدراهم والدنانير وكل ما لا يعرف بعينه لا تصح، وإجارته قرضه،   (1) انظر: الأم: 4/ 26 - 27، المهذب: 1/ 396. (2) في (م): من جهة. (3) في (م): بما يتقدر. (4) في (م): إنشاء. (5) كذا أو: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1090 والأجرة ساقطة عن مستأجره هذا قول ابن القاسم، وشيخنا (1) أبو بكر الأبهري وغيره يزعمون أن ذلك يصح وتلزم الأجرة فيه إذا كان المالك حاضرًا معه (2)، ولابن القاسم أن الإجارة معاوضة على منافع الأعيان وإذا كانت العين نفسها لا يصح الانتفاع بها مع تبقيتها وإنما يصح مع إبدالها ببيع وغيره لم تصح إجارتها، وقد علم أن الدنانير والدراهم لا منفعة فيها مع بقاء العين، فلا يستحق أن يبذل العوض في مقابلتها بخلاف الدور والدواب وغيرها فلم يصح إجارتها. وإنما قلنا: إن إجارتها قرضها لأن ربها ملك المدفوع إليه الانتفاع بها ولا ينتفع إلا بإتلاف أعيانها فصار ذلك ملكًا له، فلو قلنا: إنه تلزمه أجرة لكان في معناه قرض جر نفعًا، ودراهم بدراهم متفاضلة وذلك غير جائز، ووجه القول الآخر أن الانتفاع بهما يمكن بأن يضعها المستأجر بين يديه يتكثر بها ويتجمل، وله غرض في أن يرى الناس معه دنانير ودراهم فينفعه ذلك فيما يقصده به، وإذا كان كذلك صحت إجارتها. وإنّما قلنا: يجب أن يكون المالك معها لئلا ينفقها المستأجر ويعطيه بدلها وزيادة فيكون تفاضلًا وقرضًا جر نفعًا. فصل [5 - في حكم عقد الإجارة]: عقد الإجارة لازم من الطرفين ليس لأحد المتعاقدين فسخه مع إمكان استيفاء المنافع المعقود عليها (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن العقد يجوز أن يفسخ بوجود العذر في حق المكتري أو المكري وإن أمكن استيفاء المنفعة مثل أن يكتري جمالًا للحج ثم يبدو له أو يمرض فله الفسخ، أو دارًا يسكنها ثم يريد السفر أو دكانًا ليتجر فيه فتحترق متاعه فله الفسخ عنده في ذلك كله (4).   (1) في (م): وقول. (2) انظر: التفريع: 2/ 182، الكافي ص 373. (3) انظر: المدونة: 3/ 429، التفريع: 2/ 187 - 188، الكافي ص 368، المقدمات: 2/ 166 - 167 و 184. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 128 - 129، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 20/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1091 ودليلنا قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) ولأنه عقد معاوضة محضة فلم يكن لأحدهما فسخه لمعنى في العاقد كالبيع، ولا يدخل عليه النكاح لأنها ليست بمحضة، ولأن أحدهما إذا قال: لا أريد السفر إلى الجهة (2) التي وقع الكراء إليها فعندهم أن هذا عذر (3) في حق المكتري دون المكري، فنقول: كل معنى لا يملك به المكري فسخ الإجارة لم يملك بمثله المكتري أصله غلاء الأجرة ورخصها. فصل [6 - متى يستحق تسليم الأجرة]: الأجرة لا تستحق تسليمها بمجرد العقد ولا بتسليم العين المستأجرة، وإنما تستحق الأجرة أولًا بأول (4) لكل جزء من المال يقابل كل جزء من المنافع، إلا أن يكون هناك عادة أو شرط فيستحق التسليم لها أو يكون تأخيرها يؤدي إلى أمر ممنوع فيلزم تقديمه لذلك لا بمجرد العقد (5). وقال الشافعي: يستحق تسليم الأجرة بتمام عقد الإجارة وتسليم العين المستأجرة شرط ذلك أو لم يشترط (6). ودليلنا: أن الأجرة ثمن للمنافع (7) كما أن الثمن في البيع لرقبة المبيع، وقد ثبت أن في البيع لا يلزم تسليم الثمن بمجرد العقد إلا بعد تسليم المعقود عليه، فكذلك يجب في الإجارة، ولا تلزم عليه الإجارة بثوب بعينه أو بفاكهة رطبة (8) لأن هناك قارن العقد ما أوجب التعجل، فيكون له كاشتراط التقديم.   (1) سورة المائدة، الآية: 1. (2) في (ق): إذا أريد السفر. (3) في (ق): غرر. (4) في (م): أولًا أولًا. (5) انظر: التفريع: 2/ 184، الرسالة ص 219، الكافي ص 368. (6) انظر: الأم: 4/ 26، مختصر المزني ص 126، الإقناع ص 100. (7) ثمن سقطت من (ق). (8) في (م): رطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1092 فصل [7 - في فسخ عقد الإجارة]: كل معنى طرأ بمنع استيفاء المنافع فإن العقد ينفسخ معه، وذلك كانهدام الدار واحتراقها وغصبها، وكذلك امتناع المؤجر من تسليمها حتى فات وقت الإجارة ظلمًا، وكذلك مرض العبد والدابة وهذا كله في الإجارة المعينة دون المضمونة (1) لأن امتناع استيفاء المنافع لا يلزم معه الأجرة لما بيناه (أن العوض لا يستحق إلا بتسليم المنافع كالأعيان) (2). فصل [8 - استقرار الأجرة بالتمكين من المنفعة ولو لم ينتفع المستأجر باختياره]: إذا تسلم المستأجر الدار أو الدابة المعينة وتمكن من استيفاء المنفعة فلم يستوفها حتى انقضت المدة فقد استقرت الأجرة عليه (3)؛ لأن الذي يجب على المكري تسليمها وتمكينه من المنفعة وقد فعل، فإذا اختار ألا يستوفيها فلا يلزم المكري شيء كما لو ابتاع مأكولًا رطبًا وقبضه (4) فلم يأكله حتى تلف لزمه الثمن ولم يلزم البائع شيء. فصل [9 - في أقسام الإجارة]: الإجارة على ضربين: إجارة عين وإجارة متعلقة بالذمة، وكل ذلك جائز (5) لأن العين لما كان له بيعها كان له بيع منافعها، وكذلك لما كان له بيع شيء من الأعيان في ذمته أعني أعيانًا مبيعة لا أعيانًا معينة، فكذلك المنافع لأن الإجارة   (1) انظر: المدونة: 3/ 428 - 429، التفريع: 2/ 184، الرسالة ص 219، الكافي ص 369. (2) ما بين قوسين سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 3/ 426، 428، التفريع: 2/ 184، الكافي ص 369 - 370. (4) وقبضه: سقطت من (ق). (5) انظر: التفريع: 2/ 183 - 188، الرسالة ص 218 - 219، الكافي ص 368 - 374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1093 معاوضة على المنافع كما أن الأثمان معاوضة على الرقاب، فلما جاز العقد على رقبة الدابة بالوجهين جميعًا -أعني بيع الدابة بعينها وأن يُسلم في دابة موصوفة في الذمة- صح العقد على منافعها بالوجهين جميعًا. فصل [10 - في كون المنفعة المعقود عليها معلومة]: فإذا ثبت ذلك فإن كان العقد على دابة معينة فلا بد أن تكون المنفعة المعقود عليها معلومة من ركوب أو طحن أو حمل أو غير ذلك، وإنما وجب ذلك لانتفاء الغرر بانتفاء الجهالة، وليعلم المكتري ما الذي يعاوض عليه من المنافع وكذلك المكري، فإذا ثبت ذلك فإن الحق يتعلق بالذمة في المعين بل يتعين لتلك العين، فإن تلف (قبل استيفاء المنفعة، فإن العقد ينفسخ لتعذر استيفاء المنافع المعقود عليها لأنها مستحقة على وجه لا يمكن فيها القضاء ولا يلزم المكري أن يأتي بغيرها لأنه لا يستحق عليه منافع غيرها، وإن تلف) (1)، بعد استيفاء بعض المنافع دون جميعها، فإن العقد ينفسخ فيما بقي ويلزمه من الأجرة بقدر ما استوفاه من المنفعة بقيمته من الأجرة ويسقط عنه الباقي هذا الكلام في المعين. فصل [11 - إجارة المضمون في الذمة]: فأما المضمون في الذمة فمثل: أن يستأجر منه دابة ليركبها إما إلى موضع معين أو أجل (2) بعينه (3). وإنما قلنا: إنه لا بد من أحد هذين ليحصل العلم بما يعاوض عليه لأن العمل يتقدر تارة بالمدة وتارة بنفسه بالركوب إلى موضع بعينه مقدر بنفسه مستغن عن ضرب مدة فيه كخياطة القميص وبناء الحائط، والركوب على الإطلاق من غير اشتراط مسافة معينة أو مقدرة لا بد فيه من ضرب مدة كخدمة العبد وإلا دخله   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) في (م): أو أجلًا. (3) انظر: المدونة: 3/ 422، التفريع: 2/ 183 - 185، الرسالة ص 219، الكافي ص 371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1094 الجهل، (فإذا ثبت ذلك فيجوز حالًا إلى أجل) (1) لأنا لو لم نجزه إلى أجل لأدى إلى بطلان انتفاع الناس بالكراء أو انقطاع (2) معايشهم وتجاراتهم، وصورته إلى أجل مثل: أن يكتري منه في رجب أو شعبان للحج وعادة الناس في الخروج عندنا ببغداد في ذي القعدة فيقول: اكتريت منك كراء في ذمتك إلى الحج بعشرين دينارًا أو ما يتفقان عليه والأجل وقت خروج الناس، فإذا ثبت ذلك فيجب تعجيل النقد فيما يؤجل اعتبارًا بالسلم لأن في تأخيره كونه دينًا بدين، فأما (3) في الحج فعنه روايتان (4): إحداهما: (أنه لا يجوز تأخير النقد إلا في اليسير وهو الثلاث فدونه، والآخر) (5) أنه يجوز ويكتفي فيه بالعربان كالدينارين والثلاثة. فوجه الأولى أن في وجوب النقد ليخرج عن باب الدين بالدين، وإنما جاز التأخير في اليسير لأن الغالب في الأصول أن حكم الأكثر في حكم الجميع وأن الأقل لا حكم له. ووجه الثانية أن تقديم العربان يخرجه عن باب الدين بالدين، فقد تعجل الشيء من أحد الطرفين، ولم يكلف نقد الكل خيفة الغرر لأن المكري قد ينتفع في الثمن ثم يخلفه، وقد جرت العادة بذلك منهم، فكان الأصلح عقد العربان ليخرج عن الدين بالدين في جميع العقد ثم يكون الباقي كالوديعة عند المكتري (6) أو كالرهن. فصل [12 - إذا كان الكراء المضمون حالًا]: فأما إذا كان الكراء المضمون حالًا، وشرع في الركوب فلا يحتاج إلى   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) في (م): الانقطاع عن. (3) في (ق): فلما. (4) انظر: المدونة: 3/ 441، التفريع: 2/ 188 - 189، الكافي ص 372 - 373. (5) ما بين قوسين سقط من (ق). (6) في (ق): عند المكري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1095 نقد (1) لأن أحد الطرفين قد تعجل أخذه في الركوب وتماديه فيه يقوم مقام استيفائه، كما نقوله في المقاثي والمباطخ أنه يجوز بيعها بالدين وإن كان المعقود عليه لم يخلق أكثره لأنه في حكم الموجود لتناسقه وتتابعه. فصل [13 - إذا استأجر أرضًا للزرع فغرقت]: إذا استأجر (2) للزرع فغرقت سقط كراؤها لتعذر استيفاء المنفعة المعقود عليها، وإن زرعها (3) وأمكنه شربها فلم ينبت زرعها فعليه الأجرة لأن الذي على المؤاجرة: تسليم الأرض وتمكينه من استيفاء المنفعة وليس عليه سلامتها، وكذلك إن نبت الزرع وأصابته جائحة من غير جهة الشرب لم يسقط عنه الكراء لأن التمكين قد وجد واستيفاء المنفعة غير متعذر وامتناع خروج الزرع أو سلامته ليس من مقتضى العقد فلم يلزم (4). فصل [14 - عدم بطلان الإجارة بموت أحد المتعاقدين]: لا تبطل الإجارة لموت أحد المتعاقدين مع بقاء العين المستأجرة وإمكان استيفاء المنافع (5) خلافًا لأبي حنيفة (6)؛ لأنه عقد معاوضة فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين إذا لم يكن فيه تلف المنفعة أو تعذر استيفائها أصله عقد البيع، ولأنه عقد معاوضة من مالك على منفعة ماله، فوجب ألا ينفسخ بموت المالك أصله إذا زوج أَمَته. فصل [15 - إذا اكترى دارًا فله أن يسكنها بنفسه وله أن يكريها من غيره]: إذا اكترى دارًا فله أن يسكنها بنفسه وله أن يكريها من غيره لأن ملك منافعها   (1) انظر: المدونة: 3/ 435، التفريع: 2/ 186، الكافي ص 371 - 372. (2) في (ق): ابتاع. (3) في (م): زرع. (4) انظر: المدونة: 3/ 459، التفريع: 2/ 184، والكافي ص 377 - 378. (5) انظر: التفريع: 2/ 184 - 185، الرسالة ص 219، الكافي ص 369. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 28، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1096 ثابت له وليس بمستحق عليه في استيفائها محل مخصوص، وله أن يكريها بمثل الكراء أو أقل وأكثر لأنه معاوضة على ملكه كبيع الأعيان، وله أن يكريها من المالك (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) وإن كل مملوك جاز أن يملك لغير من ملكه جاز أن يملك لمن ملكه أصله الأعيان. فصل [16 - إذا اكترى دابة ليحمل عليها شيئًا فحمل عليها غيره فعطبت]: إذا اكترى دابة ليحمل عليها شيئًا فحمل عليها غيره فعطبت: فإن كان (3) أضر بها ضمن قيمتها وإن كان مثله أو دونه فلا ضمان عليه لأنه إذا كان أضر بها كان متعديًا بحمله (4) عليها لأنه لا يملك ذلك ولا أذن له فيه صاحبها، ولا بد أن العوض عليه، فإذا كان مثله فهو كما لو تلفت فيما استأجرها له فلا يضمن وإن كان دونه كان أولى ألا يضمن لأنه بعض حقه، فإن سلمت فلربها أن يأخذه بما بين الأجرتين. وإن اكتراها إلى مكان سار بها إلى غيره في قدر مسافته أو دونها وقدر مشقته فلا ضمان عليه، وإن تعدى بها إلى غير مثله في المسافة والمثل منه في المشقة أو مثله في المشقة وأبعد منه في المسافة، فإن تلفت ضمنها، وإن سلمت فلربها الكراء الأول وأخذه بكراء الزيادة أو إسلامها ويضمنه القيمة يوم التعدي. وصورتها أن يكتري دابة من بغداد إلى الكوفة فيمتد بها إلى فيل (5): فقد بيَّنا أن لصاحبها الكراء من بغداد إلى الكوفة لأن المكتري قد استوفى المنفعة المعقودة عليها بالأجرة المسماة فاستقر البدل عليه في ذمته وتعديه فيما بعد لا يقدح في   (1) انظر: المدونة: 3/ 451، التفريع: 2/ 185، الكافي ص 368 - 369. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 129. (3) كان: سقطت من (م). (4) في (م): بالجملة. (5) في (م): قبر، وفيل: كانت مدينة ولاية خوارزم، يقال لها: فيل، ثم سميت: المنصورة (معجم البلدان: 4/ 286). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1097 ذلك الاستقرار، وبينا أن صاحبها غير فيما زاد على ذلك إن شاء أخذه بالكراء وإن شاء ضمنه القيمة (1). وقال أبو حنيفة: لا كراء فيما زاد (2)، فدليلنا أنه انتفع بملك غيره من غصب للعين فلزمه بدل ما انتفع به كغير المتعدي. ودليلنا على أن له تضمينه القيمة (3) خلافًا للشافعي (4)، أنه متعديًا بالإمساك وحبسها عن الأسواق، فتعلق عليها الضمان، فإذا ثبت هذا فعليه كراء المثل كالمتعدي ابتداء لأن هذه المنفعة مستوفاة بغير عقد ولا شبهة عقد. فصل [17 - حكم من استأجر أرضًا ليزرعها شيئًا بعينه فزرعها غيره]: إذا اكترى أرضًا ليزرعها حنطة فأراد أن يزرعها شعيرًا أو ما ضرره مثل ضرر الحنطة أو دونه، فذلك (5) له خلافًا لداود (6)؛ لأن تعيين ما يزرع في الأرض هو كتقدير المنفعة لا لكونه شرطًا، بدليل أنه لو لم يزرعها مع التمكين منها للزمه الكراء، وإذا كان كذلك كان له أن يستوفي ذلك القدر من المنفعة من المذكور وغيره. فصل [18 - ليس للمستأجر أن يزرع الأرض المستأجرة ما ضرره أشد من ضرر الحنطة]: وليس له أن يزرعها ما ضرره أشد من ضرر الحنطة، فإن فعل فلربها كراء الحنطة وقيمة الإضرار بالزيادة خلافًا للشافعي في قوله: أنه يلزمه كراء المثل في   (1) انظر: المدونة: 3/ 431، التفريع: 2/ 189، الكافي ص 372. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 128، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 88، 106. (3) القيمة: سقطت من (ق). (4) انظر: الأم: 4/ 35، مختصر المزني ص 127، الإقناع ص 100. (5) انظر: المدونة: 3/ 473، التفريع: 2/ 189، الكافي ص 378. (6) انظر: المحلي: 9/ 77، والمغني: 5/ 484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1098 الجميع (1)؛ لأنه تناول من المنفعة زيادة على القدر المعقود عليه فلزمه بقدر (2) ما زاد أصله إذا اكترى جملًا ليسير عليه من بغداد إلى مكة فتعدى به إلى مصر. فصل [19 - جواز اشتراط الخيار في الإجارة]: يجوز أن يشترط (3) الخيار في الإجارة سواء كانت معينة أو مضمونة (4)، خلافًا لأصحاب الشافعي (5)؛ لأن المنافع أحد نوعي ما يقصد بالمعاوضات المحضة، فجاز اشتراط الاختيار فيه كالأعيان. فصل [20 - تعيين المركوب ووصفه]: المركوب لا بد أن يعرف بتعيين أو وصف بالمشاهدة يشار إليه بأن يقال: أكريتك هذه الدابة أو الناقة، والموصوف لا بد فيه من ذكر الجنس والنوع الذكورية والأنوثية (6) لأن الأغراض تختلف باختلاف الأجناس لأن الجمل يقوى على الحمل أكثر من الدابة (7) والحمار والغرض بها مختلف، وكذلك أنواعها لأن النجيب لا يصلح للحمل، وإنما يصلح للركوب، وكذلك الذكر يكون أضعف من الأنثى فلا بد أن يبين. فصل [21 - في عدم الحاجة إلى وصف الراكب]: لا يحتاج إلى وصف الراكب خلافًا للشافعي (8)؛ لأن أجسام الناس متقاربة في العادة غير متفاوتة فلم يحتج إلى رؤيته، فإن آتاه بفادح عظيم الخلق ليس هو الغالب فلا يلزمه.   (1) انظر: الأم: 4/ 35، مختصر المزني ص 127، الإقناع ص 100. (2) مقدر: سقطت من (م). (3) في (م): شرط. (4) انظر: المدونة: 3/ 423 و 472، الكافي ص 369. (5) انظر: الأم: 4/ 26، الإقناع ص 100. (6) انظر: المدونة: 3/ 422، التفريع: 2/ 185 - 186، الكافي ص 371. (7) لعله يقصد بالدابة البغل. (8) انظر: الأم: 5/ 35، مختصر المزني ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1099 فصل [22 - في عدم تعين استيفاء المنافع في الإجارة]: الظاهر من مذاهب أصحابنا أن استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة، وإنه إن عين فذلك (1) كالوصف لا ينفسخ العقد بتلفه بخلاف العين المستأجرة إذا تلفت، وذلك كما يستأجر على رعاية غنم بأعيانها أو خياطة قميص بعينه فتهلك الغنم ويحترق الثوب فلا ينفسخ العقد وعلى المستأجر أن يأتيه بغنم مثلها (2) ليرعاه أو قميص مثله ليخيطه، وقد قيل: إنها يتعين (3) بالتعيين فينفسخ العقد بتلف المحل المعين (4). فوجه الأولى: أنه قد ثبت أن عقد الإجارة لازم من الطرفين وليس لأحدهما فسخه مع التمكين من استيفاء المنافع، فلو قلنا: إن محل الاستيفاء يتعين لحصل منه (5) نقض الأصل لأن المستأجر يبيع الشيء المستأجر عليه فيفسخ العقد فيه باختياره، وذلك ينفي اللزوم ولا يمكنه أن يأتي بمثله أو يمنعه من البيع والهبة ينقطع تصرفه في ملكه من غير تعلق حق لغيره فيه، ولأن محل الاستيفاء حق للمستأجر دون المؤاجر ولأن المستأجر عقد على منافع يستوفيها فيلزم المؤاجر أن يوفيه إياها وتعيين ما يستوفيها منه (6) لا حق للمؤاجر فيه. ووجه الثاني: أن أحد المحلين في الإجارة يصح معه (7) تعيينه كالأجير لأنه إذا استأجر دابة ليركبها فماتت الدابة انفسخ العقد ولم يلزمه أن يأتي ببدلها، كذلك إذا عين من يركبها والقميص الذي يخيط أو الغنم التي يرعاها يجب أن   (1) في (م): فإنه. (2) في (ق): مثله. (3) في (م): تتغير بالتغيير. (4) انظر: التفريع: 2/ 184 - 186، الرسالة ص 219، الكافي ص 369 - 370. (5) في (ق): ليحصل. (6) في (م): فيه. (7) معه: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1100 ينفسخ العقد بتلف ذلك كما ينفسخ العقد بتلف بموت الراعي والدابة، ولأنه قد ثبت تعيين ذلك في الظئر إذا استؤجرت لرضاع الصبي والطيب لعلاج المريض (1) أو لقلع الضرس إذا برأ أو مات الصبي، وكذلك في سائر ما يستأجر عليه. فصل [23 - استيفاء المنافع في الإجارة الفاسدة]: إذا استوفيت (2) المنافع في الإجارة الفاسدة لزم بها أجرة المثل كالمبيع بيعًا فاسدًا إذا فات أنه يلزم بالقيمة دون الثمن لأن الأجرة ثمن للمنافع كما أن الأثمان في البياعات أعواض عن الأعيان، فإذا قبض العين المستأجرة في الإجارة الفاسدة فعليه أجرة المثل سواء استعملها أو لم يستعملها (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنه لا أجرة عليه إذا لم يستعملها (4)؛ لأنها عين قبضت على وجه الإجارة فكان تلف المنفعة فيها مضمونًا بالتبذل أصله الإجارة الصحيحة، وإن تلف المنافع في العين المقبوضة على وجه الإجارة الصحيحة (5) يوجب بدلها على من تلفت في قبضه أصله إذا استوفاها بنفسه. فصل [24 - أجرة الإجارة]: لا يجوز أن تكون الأجرة في الإجارة مجهولة ولا غرر (6) لأنها عوض في عقد معاوضة محضة كالثمن في البيع. ولا يجوز أن يستأجر نساجًا لينسج له غزلًا بنصف الثوب ولا بقيمته لأن الثوب   (1) في (م): العليل. (2) في (م): استوعبت. (3) انظر: المدونة: 3/ 427، التفريع: 2/ 184 - 186، الكافي ص 368 - 370. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 128 - 129، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 103 - 104. (5) الصحيحة: سقطت من (ق). (6) انظر: المدونة: 3/ 389، التفريع: 2/ 185 - 186، الرسالة ص 218 - 219، الكافي ص 374 - 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1101 الذي يخرج مجهول الصفة، ولأن نصف الغزل الذي استأجره به لا يسلمه إليه إلا بعد مدة وهي حصول النسج. ولا يجوز في المبيع بعينه اشتراط الأجل في تسليمه إذا خيف منه الغرر وكذلك القيمة المجهولة لا يدري كم يكون مقدارها، ويجوز أن يستأجره على عمل نصف الغزل بالنصف الآخر لأنه معلوم لا غرر فيه ولا جهالة، ومتى وقع العقد على الوجه الأول ونسج الثوب فجميعه لصاحب الغزل وللصانع أجرة المثل، ومثل ذلك أن يكري دابته أو غلامه من رجل بنصف الكسب لأنه عوض مجهول فإن وقع: فلصاحب الدابة أو الغلام أجرة بالمثل، وجميع الكسب للمستأجر. ولو قال له: اعمل على دابتي ولك النصف من الكسب لكان العقد فاسدًا للجهل بمقدار الكسب لكنه إن وقع كان الكسب كله لصاحب الدابة وللأجير (1) أجرة المثل بخلاف الأولى لأن الإجارة في المسألة الأولى وقعت على الدابة والأجر كان مجتبيًا للكسب، وفي مسألتنا وقعت الإجارة على الرجل واجتبى الكسب من قبل الدابة، فمن وقع عليه عقد الإجارة (2) لم يكن له من الكسب شيء. فصل [25 - فيمن اكترى دابة إلى مكان معلوم بأجرة معلومة ثم وجد حاجته دون ذلك]: يجوز أن يكتري الرجل الدابة إلى مكان معلوم بأجرة معلومة: فإن وجد حاجته دون ذلك فحسابه من الأجرة (3) لأنه يكون كأنه قال له: أكريك من هذا الطريق كل بريد (4) بدينار، ويجوز ذلك على ما قدمناه من قوله: أجرتك (5)   (1) في (ق): وللآخر. (2) الإجارة: سقطت من (م). (3) انظر: المدونة: 3/ 433 - 435، التفريع: 2/ 187، الكافي ص 372 - 373. (4) بريد: البريد هو الرسول ثم استعمل في المسافة التي يقطعها وهي اثنى عشر ميلًا (المصباح المنير ص 43). (5) في (ق): أكريتك من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1102 هذه الدار من حساب كل شهر بدينار، ويكون ذكر الفراسخ والمسافة لتتقدر الأجرة به. فصل [26 - في إجارة المشاع]: إجارة المشاع (1) جائزة من (2) الشريك وغيره (3)، خلافًا لأبي حنيفة (4) في قوله: أنه لا تجوز إلا من الشريك، وإن كل معاوضة جاز أن يعاوض عليها الشريك جاز أن يعاوض عليها الأجنبي أصله البيع، ولأنه عقد إجارة على ملك له معروف يمكن تسليمه إلى المستأجر فجاز ذلك اعتبارًا بالمجوز. فصل [27 - إجارة دار بسكنى دار أخرى]: يجوز أن يستأجر دارًا بسكنى دار أخرى (5) خلافًا لأبي حنيفة (6) في قوله: إن المنافع لا يكون أجرة للمنافع إلا أن يكون من جهة أخرى، لأنهما منفعتان يجوز عقد الإجارة على كل واحد منهما في الانفراد، فجاز أن يعقد على إحداهما بالأخرى كما لو كانا من جنسين. فصل [28 - إجارة الظئر]: يجوز أن يستأجر الظئر (7)، وكل أجير بطعامه وكسوته ويكون له ما يكون   (1) المشاع: وهو غير المتميز على حدة (الفواكه الدواني: 2/ 165). (2) في (م): بين. (3) انظر: المدونة: 3/ 448. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 131، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 100، وقال أبو يوسف ومحمد: إجارة المشاع جائزة. (5) انظر: المدونة: 3/ 448، الكافي ص 369 - 370. (6) انظر: فتح القدير: 7/ 224، و 209. (7) الظئر: المرضع (الكافي ص 374). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1103 لمثله من الوسط (1) خلافًا للشافعي في منعه ذلك في كل أجير (2)، ولأبي حنيفة في منعه ذلك في كل أجير على الظئر (3). فدليلنا أن الأعواض في المنافع يقوم العرف فيها مقام الشرط والاسم كنفقة الزوجة، وصفة ركوب الراكب في الإجارة، ولأنه لما جاز أن تكون النفقة (4) مجهولة وترجع إلى الوسط ويتبع في معرفتها العرف كذلك في الإجارة، وعلى أبي حنيفة (5)؛ لأنه عقد إجارة فصح بالطعام والكسوة اعتبارًا بالرضاع. فصل [29 - إذا اكترى دابة ولم يسم ما يحمل عليها]: إذا اكترى دابة ولم يسم ما يحمل عليها، فالكراء فاسد (6)، لأن المنفعة المستأجر عليها مجهولة فيكون غررًا لأن الأشياء المحمولة تختلف في الإضرار بالدابة لأن حمل القطن والثياب أقل إضرارًا من حمل الصخر والحديد، والأجرة مختلفة متفاوتة، وكذلك كراء الركوب بخلاف كراء العمل، فإذا لم تكن المنفعة المكترى لها معلومة لم يصح. فصل [30 - إذا اكترى أرضًا ليغرس فيها فانقضت مدة الإجارة]: إذا اكترى أرضًا ليغرس فيها فانقضت مدة الإجارة: فإن صاحبها غير بين أن يأخذ المستأجر بالقلع ولا شيء عليه من أجرة القلع، أو يعطيه قيمة الغراس مقلوعًا أو يبقيه في الأرض ويكونا شريكين (7)، خلافًا للشافعي في قوله: إنه ليس له أن يطالبه بقلع الغراس إلا بعد أن يعطيه أرش القلع (8)؛ لأن الإجارة   (1) انظر: المدونة: 3/ 410 - 412، التفريع: 2/ 187، الكافي ص 374 - 375. (2) انظر: الأم: 4/ 25، 38، مختصر المزني ص 126، الإقناع ص 100. (3) انظر: مختصر القدوري - مع شرك الميداني: 2/ 101. (4) في (ق): القيمة. (5) أبي حنيفة: سقطت من (م). (6) انظر: المدونة: 3/ 427، التفريع: 2/ 186 - 188، الكافي ص 371 - 372. (7) انظر: المدونة: 3/ 463، التفريع: 2/ 184 - 185، الكافي ص 378. (8) انظر: مختصر المزني ص 129 - 130، الإقناع ص 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1104 تقضي تسليم الأرض بعد انقضاء المدة فارغة من تعلق حق للمستأجر لها ويقل ما شغلها به، أصله إذا كان له فيها متاع أو طعام، فإنه يؤمر بقلعه، ولأن فائدة حصر العقد بالمدة تقدير المنفعة المستوفاة بها وانقطاعها فيما بعدها، وفي تبقية الغراس بعد المدة إبطال لفائدة التحديد والتقدير وخلافًا لموجب العقد. فصل [31 - إجارة نزو الفحل]: يجوز أن يؤاجر الرجل فعله من إبله أو بقره أو غيرها على أن ينزوا (1) أكوامًا معلومة (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، لأنه نوع من المنفعة كالركوب لأن كل منفعة ملك إباحتها للعين بغير عوض وملك منعه إياها، فإن المعاوضة جائزة عليها كالحمل، ولأن ذلك بمنزلة أن يستأجر رجلًا يلقح له نخلة فيقول: لأنَّه فعل يراد لحمل أُنثى ينتفع به تجوز إباحته بغير عوض، فجاز بعوض أصل التلقيح. فصل [32 - استئجار الأجير شهرًا بدينار على أن يعطيه الأجير كل يوم درهمًا]: لا يجوز للرجل (4) أن يستأجر الرجل الأجير شهرًا بدينار (5) على أن يعطيه الأجير كل يوم درهمًا أو أقل أو أكثر (6) لأن ذلك فضة بذهب متأخرة، ولأنه عمل وفضة بذهب. فصل [33 - يكتري الدار في رمضان لذي القعدة]: يجوز أن يكري داره في رمضان لذي القعدة، فتكون هذه الإجارة بعد العقد   (1) النزو: الوثوب. (المصباح المنير ص 601). (2) انظر: المدونة: 3/ 401. (3) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 100، المهذب: 1/ 401. (4) للرجل: سقطت من (ق). (5) الأجير شهرًا بدينار: سقطت من (م). (6) انظر: المدونة: 3/ 450، التفريع: 2/ 186، الكافي ص 373 - 374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1105 بشهر أو ما يقاربه (1) خلافًا للشافعي في قوله: لا يجوز إلا أن تكون المدة عقيب العقد بلا فصل (2)؛ لأن الإجارة عقد على ما لم يخلق من المنافع، فجاز أن يتأخر شرط المدة واستيفاؤها ما لم يعد ذلك بتعذر قبضها عند الحاجة، ولأنه لو عقد على هذه الدار شهرًا أو على شهر بعده لجاز كذلك في مسألتنا لأنه قد حصل العقد للشهر الثاني قبل مضي الأول، فلا فرق بين أن يكون الأول داخل في العقد أو خارجًا عنه. فصل [34 - بيع العين المستأجرة من المستأجر وغيره]: يجوز المؤاجرة أن يبيع العين المستأجرة من المستأجر وغيره إن بقي من مدة الإجارة ما لا يكون غررًا يخاف تغيرها في مثله (3)، خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (4)، لقوله تعالى: {وأحل الله البيع} (5)، ولأنه ليس في بيعها إبطال حق المستأجر لأن المشتري إنما يسلمها (6) بعد انقضاء مدة الإجارة فكل تصرف لا يبطل حق المستأجر لا يمنع، أصله إذا باعها منه، ولأنه عقد على منفعة فلم يمنع العقد على الرقبة أصله إذا باع أمة قد زوجها. فصل [35 - إجارة الدور وسائر العقار أكثر من سنة]: تجوز إجارة الدور وسائر العقار أكثر من سنة (7)، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز (8)، فدليلنا أنها مدة تبقى المنافع إليها ويمكن استيفاؤها كالسنة.   (1) انظر: المدونة: 3/ 452، الكافي ص 368 - 369. (2) انظر: الأم: 4/ 27 - 29، مختصر المزني ص 126 - 127، المهذب: 1/ 399 - 400. (3) انظر: المدونة: 3/ 433، والرسالة ص 219، الكافي ص 368 - 369. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 131، الأم: 4/ 28 - 29. (5) سورة البقرة، الآية: 275. (6) في (ق): سلمها. (7) انظر: المدونة: 3/ 450، 454، الكافي ص 369. (8) مختصر المزني ص 128 - 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1106 إذا استأجرها عشر سنين بأجرة معلومة لجملة المدة جاز ولم يلزم أن يعين ما لكل سنة خلافًا للشافعي؛ لأنها مدة تجوز الإجارة إليها فوجب أن يكون ذكر الأجرة لجملتها مغنيًا عن ذكر ما يقابل تفصيلها أصله السنة والشهر. فصل [36 - ضمان ما حمله المستأجر]: ومن استؤجر لحمل ما سوى الطعام فادعى تلفه أو كسره فلا ضمان عليه، لأن الأجير مؤتمن كالوكيل والرسول، فإن استؤجر على حمل طعام ضمن إن ادعى تلفه (1)، خلافًا لمن منع ذلك (2)؛ لأن العادة جارية بأن الأكرياء يتسرعون إلى أكل الطعام الذي في أيديهم لدناءة نفوسهم، ويحملون على أن نفوس الناس (3) وأهل المروءات والأقدار يأنفون من أن يطلبوهم بمثله من المأكولات لا سيما العرب مع كرمهم وعزة نفوسها واعتيادها بذله والسماحة به، وفي ذلك إضرار بالناس وليس كذلك العروض وغيرها لأنه لا يقبح في العادة المطالبة بها، وإن قل ما يستأجر على حمله منها، ولا جرت عادة الأكرياء بالتسرع إلى تناولها كما جرت عادتهم بذلك في الطعام، ولأن بالحجاز يتنافس في الطعام لضيق العيش هناك وشدة الحاجة إليه فلو لم يضمن الأكرياء لتسرعوا إلى تناوله ولحق الناس الضرر، إذا استؤجر على حمل شيء فتلف منه من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه لأنا قد بينا أنه مؤتمن فلا يضمن إلا بالتعدي والتقصير في ترك التحفظ (4). فصل [37 - إذا ساق الدابة بالعصى وضربها فعطبت]: إذا ضرب الدابة أو ساقها بالعصى على عادة الناس من غير خرق فعطبت لم   (1) انظر: المدونة: 3/ 413، 436، الرسالة ص 219، الكافي ص 371. (2) في أحد قولي الشافعي، وروي عن عطاء وطاوس وزفر (انظر المهذب: 1/ 408). (3) في (م): ويحيلون على أنفسهم الناس. (4) في (ق): الحفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1107 يضمن (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لأن العرف جار به بأنه لا بد للدابة من سوق وزجر على السير، والضرب بالمعروف على قدر الحاجة، فكان هذا القدر مأذونًا فيه فلم يضمن ما حدث عنه. فصل [38 - إذا غرقت السفينة المستأجرة لحمل الطعام]: إذا استأجر سفينة لحمل طعام فغرقت فلا ضمان عليه (3) خلافًا لأبي حنيفة (4) لأن الملاح لم يتعد فأشبه أن تغرق بالموج والريح، وقياسًا عليه إذا كان صاحبه معه. فصل [39 - في كراء من غرقت سفينته]: واختلف في كرائه فقيل: لا شيء له (5)، وقيل له: من الأجرة بقدر ما مضى من المسافة، فوجه الأول (6) أن العرف جار في مثل ذلك بأنه على البلاغ لأنه جار مجرى الجعل: كأنه يقول إذا بلغت بالطعام إلى موضع كذا وكذا (7) فهذه الأجرة لك، فإذا لم يحصل الفرض لم يستحق شيئًا، ووجه الآخر إنه إجارة وليس بجعل لأن العمل والأجرة مقدران، فكان له من الأجرة بحساب ما مضى كسائر الإجارات. فصل [40 - إذا اكترى إبلًا إلى الحج فأخلفه الجمال]: إذا اكترى إبلًا إلى الحج فأخلفه الجمال (8): فإن المكتري يأتي الإِمام ويقيم   (1) انظر: التفريع: 2/ 184 - 185، الكافي ص 371. (2) انظر: مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 92. (3) انظر: التفريع: 2/ 187، الرسالة ص 219، الكافي ص 372. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 129 - 130، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 93. (5) في (ق): عليه. (6) في (م): الأولى. (7) كذا: سقطت من (م). (8) الجمال: صاحب الجمل والعامل عليه (المعجم الوسيط: 1/ 36). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1108 عنده البينة فإن كان الجمال له (1) مال تكارى له الإِمام عليه لأن القضاء على الغائب واجب إذا التمس ذلك صاحب الحق، وإذا لم يكن للجمال مال لم يتكارى عليه (2) لأنه لا يحصل لمن يتكارى منه عوض ما يكترى منه (3)، فإن كان المكتري هو الذي هرب فالجمال أيضًا يقيم البينة ويكري الإِمام مكانه رجلًا إن كان اكترى للركوب أو حمولة مثله إن كان اكترى للحمل بسعر الوقت يوم الحكم ويكون على الهارب ضمان نقصان إن كان في الكراء وله زيادة إن حصلت ويدفع الأجرة إلى الجمال، فإن تعذر ذلك إلى فوات الحج فقد انفسخ العقد لأن الإجارة هاهنا متعلقة بزمان، والمنافع المختصة بالأزمان لا يصح فيها القضاء، والتراد واجب بينهما والكراء في غير الحج بخلاف ذلك لأن العادة لا تخصه بزمان فلا ينفسخ العقد، وتكون الحمولة له أي وقت وجده. فصل [41 - في عدم ضمان الراعي ما هلك من الغنم]: لا يضمن الراعي ما هلك من الغنم لأنه أمين كالوكيل، فإذا ذبح شاة وادعى أنه خاف عليها الموت ففيها روايتان: إحداهما وجوب الضمان، والأخرى نفيه (4) فوجه الوجوب أنه متعمد بذبحها لأنه لم يؤمر بذلك، وإنما هو مؤتمن فيما أذن له فيه لا في غيره، ووجه النفي فلأن التهمة زائلة عنه في العادة، والعرف يشهد أن في فعله مصلحة فلم يضمن. فصل [42 - سقوط الضمان على صاحب الحمام]: لا ضمان على صاحب الحمام (5) لأنه لم يسلم إليه (6) ما يلزم فيه ضمان،   (1) في (م): للجمال. (2) انظر: المدونة: 3/ 441 - 443، الرسالة ص 219، الكافي ص 372. (3) عوض ما يكترى منه: سقطت من (م). (4) انظر: المدونة: 3/ 408، التفريع: 2/ 187، الكافي ص374. (5) انظر: الرسالة ص 219، الكافي ص 375. (6) في (م): لم يتسلم ما يلزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1109 وإن كانت الثياب سلمت إليه فلا ضمان عليه لأنه أمين كالمودع إذ قبضه للثياب لمنفعة ربها دون منفعة نفسه. فصل [43 - من استعار عبدًا بغير إذن سيده أو صغيرًا بغير إذن وليه]: من استعار عبدًا بغير إذن سيده أو صغيرًا بغير إذن وليه في شيء فتلف فيه فينظر (1)، فإن كان مما يتلف في مثله ولا يلحق ضرر بالاستعانة فيه فلا يضمن ما كان عنه مثل: أن يقول: ناولني هذه المروحة أو هذه الخرقة أو ما أشبه ذلك لأن ضرورة العادة قاضية بأن مثل هذا لا يكون منه تلف وأن الناس يتسامحون به فيما بينهم فلا ضمان فيه إن كان عنه تلف ولا أجرة فيه مع السلامة، وإن كان الشيء المستعان فيه مما له بال وخطر وتطلب الأجرة في مثله فهو متعد بذلك، ولولي الصغير وسيد العبد مطالبته بالأجرة إن سلم لأنه استوفى منافع لها قيمة بغير إذن من إليه (2) الإذن فيها، فكان ضامنًا للبذل فيها بتعديه، وإن كان عن ذلك تلف ضمن دية الحر وقيمة العبد لأنه سبب تلفهما باستعمالهما على وجه التعدي. فصل [44 - في تضمين الصناع]: الصناع المؤثرون بصنائعهم في الأعيان: كالقصارين والصباغين والصاغة وغيرهم ضامنون بما أسلم إليهم مما يستأجرون على عمله إذا غابوا عليه، ولا يقبل قولهم في تلفه، فإن قامت لهم (3) بينة به سقط الضمان عنهم عند مالك وابن القاسم ولا يسقط عند أشهب وسواء عملوا بأجر أو بغير أجر ولا يضمنون ما لم يقبضوه ويحملوه إلى منازلهم، وإذا سقط الضمان عنهم، ففي وجوب الأجرة لهم خلاف: قال ابن القاسم: ليس لهم أجرة، وقال ابن المواز: تكون لهم الأجرة (4).   (1) انظر: الرسالة ص 231، الكافي ص 408، المقدسات: 2/ 473 - 474. (2) في (م): له. (3) في (ق): له. (4) في جملة أحكام تضمين الصناع انظر: المدونة: 3/ 372 - 378، التفريع: 2/ 189، الرسالة ص 219، الكافي ص 375 - 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1110 فصل [45 - دليل تضمين الصناع في الجملة]: وإنما قلنا: إن الصناع في الجملة يضمنون خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (1) في تفريقه (2) بين الخاص (3) والمشترك، لأن ذلك إجماع الصحابة، وروي عن عمر وعليّ وقال عليّ: لا يصلح الناس إلا ذلك (4). ولأن في ذلك مصلحة ونظر للصناع وأرباب السلع، وفي تركه ذريعة إلى إتلاف الأموال وذلك أن بالناس ضرورة إلى الصناع إذ ليس كل أحد يحسن أن يخيط ثوبه أو يقصره أو يطرزه، فلو قبلنا قولهم: في الإتلاف مع علمهم بضرورة الناس إليهم لتسرعوا إلى ادعائه ولأُجبروا على الناس وللحق أرباب السلع أشد ضرر، فكان الحظ للجميع دفعها على التضمين، ولأنه قبض العين لنفع نفسه من غير استحقاق للأجر بعقد متقدم فلم يقبل قوله في تلفها كالمقترض والمستعير. وإنما شرطنا في ذلك أن يتسلموه ويغيبوا عليه لأنهم إنما يضمنون بالقبض، فإذا لم يسلم إليهم وكانوا في منازل أرباب السلع أو كان أرباب السلع معهم، فلم ينفردوا بقبض (5) يتهمون فيه بادعاء التلف فلا وجه للتضمين مع عدم موجبه. فصل [46 - في وجه إسقاط الضمان عنهم ووجه إيجابه]: ووجه إسقاط الضمان عنهم فيما يعلم بالبينة صدقهم فيه أنه أجير ثبت   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 130، الإقناع ص 100، خلافًا للشافعي في أحد قوليه (انظر مختصر المزني ص 127). (2) في (ق): تفريقهم. (3) في (م): الحاضر. (4) أخرج هذه الآثار البيهقي: 6/ 122، 123، عبد الرزاق: 8/ 217، 218، والمحلي: 8/ 202. (5) في (م): يتقدروا للقبض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1111 هلاك ما دفع إليه من غير تفريظ فأشبه الخاص (1)، ولأن التهمة زائلة مع قيام البينة. ووجه إيجابه عليهم أن أصل قبضهم هو على الضمان فلم يسقط عنهم حسمًا للباب لأن (2) ما طريقة المصلحة وقطع الذريعة لا يتخصص (3) بالأعيان كمنع قبول (4) شهادة الأب لابنه. وإنما لم نفرق بين ما عملوه بأجر أو بغير أجر خلافًا لأبي حنيفة لأن تركه الأجر لا يخرجه عن سنة الصناع في الضمان كما لو عملوه بأجر ثم وهبه له، ولأنه صانع قبض السلعة ولم تتم له بينة على تلفها كما لو عملها بأجر. فصل [47 - في وجه سقوط الأجرة فيما علم هلاكه]: ووجه سقوط الأجرة فيما علم هلاكه بغير صنعتهم أن المالك لم يسلم له غرضه الذي تلزمه الأجرة في مقابلته فأشبه أن يهلك بتفريط من الصانع، ولأن الإجارة بيع منافع الأعيان (5)، ولو تلف المبيع الذي يتعلق له حق توفيه قبل تسليمه إلى المشتري لم يلزمه ثمنه كذلك في مسألتنا. ووجه إيجابها أنه أجير وفَّا عمله فسقط ضمانه فكان له الأجر أصله الخاص (6) ولأن الأجرة في مقابلة العمل دون سلامة السلعة فإذا حصل العمل وجب استحقاق الأجرة أصله إذا حصلت عنده. فصل [48 - في اختلاف الصانع ورب السلعة في العمل]: إذا اختلف الصانع ورب السلعة في العمل: فقال الصانع: أمرتني بكذا مثل   (1) في (ق): الحاضر. (2) في (ق): كان. (3) في (م): لا تتخفض. (4) قبول: سقطت من (م). (5) في (ق): كالأعيان. (6) (ق): أصله الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1112 الخياط يقول: أمرتني بقطع الثوب قميصًا، ويقول ربه: بل قباء، فالقول قول الخياط إذا أتى بما يشبهه (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)، لأن اليمين يتوجه على أقوى المتداعين سببًا والخياط أقوى سببًا لأنَّه مأذون له في التصرف ومؤتمن (3) عليه، فكان القول قوله مع يمينه، ولأن الظاهر معه لأنهم إنما يعملون الصنعة على أمر رب المال ويستحقون العوض في مقابلتها وبإزاء إمكان الغلط عليهم وادعائهم ذلك على أرباب السلعة (لئلا تفوتهم الأجرة، [ولأن] (4) أرباب السلع) (5) ومحبتهم ألا يصل إلى الصناع أجره فيسقط الاحتمالان ويبقي الظاهر. ...   (1) انظر: المدونة: 3/ 375 - 376. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 130، مختصر المزني ص 128. (3) في (ق): مأمون. (4) بياض في (ق). (5) ما بين قوسين سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1113 باب: [في الجعالة] الأصل في جواز الجعل (1) قوله تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي رقى فأخذ عليه جعلًا من أكل يرقيه باطل: "فلقد أكلنا (3) برقية حق" (4)، وكأن الجعالة كانت قبل الإسلام وأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكرها ولا نهى عنها. فصل [1 - صفة الجعل]: وصفة الجعل: أن تكون الأجرة مقدرة والعمل غير مقدر، فمتى قدر العمل لم يكن جعلًا وصار إجارة، ولم يجز إلا فيما لا يتقدر من الأعمال، وصفته فيما لا يتقدر أن يجعل جعلًا في المجيء بعبده الآبق وبعيره الشارد: فإن جاء به استحق الجعل المقدر له وإن لم يأت به فلا شيء له، ولا يجوز ضرب أجل في ذلك لأنه يخرجه (5) عن بابه (لأن وقت إصابته غير معلوم ولا يدري هل يكون أم لا) (6).   (1) الجعل: هو عقد معاوضة على عمل آدمي يعوض غير ناشيء عن محله به لا يجب إلا بتمامه (الرصاع على ابن عرفة ص 402). (2) سورة يوسف، الآية: 72. (3) في (م): أكلت. (4) أخرجه أبو داود في الطب باب كيف رقي 2/ 220. (5) انظر: المدونة: 3/ 419 - 422، التفريع: 2/ 190، الرسالة ص 218، الكافي ص 376. (6) ما بين قوسين سقط من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1114 فصل [2 - في حكم عقد الجعالة من حيث اللزوم والجواز]: الجعل جائز وليس بلازم إلا أن يشرع المجعول له في العمل فيلزم (1)، وذلك لأن العمل جار فالجواز فيه دون اللزوم فلم يجز إخراجه عن بابه، وإذا شرع في العمل فقد حصل أحد الطرفين فلا يجوز إبطاله (2)، وإنما يجوز عندنا في الشيء الخفيف الذي لا خطر له أو ما لا ينحصر بأجرة، فأما ما يمكن أن يعقد عليه إجارة فيه أولى لأنها أبعد عن الغرر، ولأن العقد ينحصر من الطرفين فكان أولى. فصل [3 - عدم جواز كون الأجرة في الجعل مجهولة]: لا يجوز أن تكون الأجرة في الجعل مجهولة (3) لأنه غرر، ولأن الجهل يدخل العقد من الطرفين، ولأن الجهل في العمل إنما يجوز للضرورة إليه لأنَّه لا يمكن حصره ولا ضرورة إلى ذلك في الجعل، فمن ذلك أن يجعل لمن جاء بعبده الآبق أو جمله الشارد نصفه لا يجوز لأنه لا يعرف صفته وقت المجيء به. يجوز حصاد الزرع وجذاذ الثمر بنصفه لأنه معلوم، وإن قال: احصده فما حصدت من شيء ذلك نصفه أو ثلثه (4)، فجائز أيضًا لأنه معلوم، ولأن كل جزئين من الزرع مستحق بإزائها جزء منه، فإن قيَّد ذلك بزمان بعينه مثل: أن يقول احصد زرعي هذا اليوم، فما حصد منه ذلك نصفه: فقيل: لا يجوز لأن قدر ما يحصد في اليوم غير معلوم، وقيل: يجوز لأن الأجرة في الجملة مقدرة. فأما نفض الزيتون بنصف ما يسقط منه: فإن أراد تحريك الشجرة وله نصف ما يسقط فذلك مجهول، وإن أراد الجميع جاز.   (1) انظر: التفريع: 2/ 190، الكافي ص 377. (2) فلا يجوز إبطاله: سقطت من (ق). (3) انظر: المدونة: 3/ 419 - 420، التفريع: 2/ 190، الرسالة ص 218، الكافي ص 276. (4) انظر: التفريع: 2/ 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1115 فصل [4 - فيمن جاء بآبق أو شارد ابتداء ثم طلب الأجر]: من جاء بآبق أو شارد ابتداء ثم طلب الأجر: فإن كان ذلك شأنه وعادته ويعلم أنه يتكسب به فله أجرة مثله بقدر تعبه وسفره وتكلف طلبه (1)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما أنه متطوع لا شيء له (2)، لأن منافعه فيما لو أضاعه ربه لعُدَّ سفها منه يوجب له الأجر عليها أصله لو سقط من موضع عال أو وقع في بئر فأخرجه، فأثبت ذلك فله أجر مثله لأنه ليس هناك مسمى، فإن أبى صاحب العبد أن يدفع إليه خلا بينه وبين العبد لأن امتناعه من ذلك رضا بإسلام (3) العبد، وإن علم أن ذلك ليس من شأنه وعادته أنه يرتفع عن مثله وإنما فعله على وجه الحسبة واكتساب المودة فليس له أجرة إن طلبها لأن دعواه لذلك ينافي ظاهر حاله، فكأنه ندم فاستدرك ندمه فلا يستحق شيئًا. فصل [5 - مشارطة المعلم على تعليم الصبي القرآن، ومشارطة الطبيب على برء العليل]: تجوز مشارطة المعلم على تعليم الصبي القرآن على الحذاق، ومشارطة الطبيب على برؤ العليل (4) لأن الضرورة تدعو إلى ذلك فجُوِّز لأجلها إذا كان مقامه في التعليم غير معلوم وبرء العليل غير معروف المدة. فصل [6 - الجعالة على حفر الآبار]: يجوز (5) الجعل على استخراج المياه في الآبار والعين على صفة معلومة   (1) انظر: التفريع: 2/ 190. (2) انظر: المبسوط: 11/ 17، المهذب: 1/ 418. (3) في (م): بتسليم. (4) انظر: التفريع: 2/ 186، الرسالة ص 219، الكافي ص 374. (5) يجوز سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1116 ومعرفة بعد الأرض وقربها وشدتها ولينها، فإن لم يعرف ذلك لم يجز (1) لأنها معاوضة على عمل مجهول لا تدعو ضرورة إليه، وإن لم يأت الماء فلا شيء له إلا أن يكون رب الدار (2) قد انتفع بشيء من عمله فتكون له الأجرة بقدره. (تم البيع والحمد لله رب العالمين) (3) ...   (1) انظر: المدونة: 3/ 421، التفريع: 2/ 190 - 191، الرسالة ص 218 - 219، الكافي ص 77. (2) في (م): الأرض. (3) ما بين قوسين: سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1117 كتاب القراض (1) لا خلاف بين الأمة في جواز القراض في الجملة (2)، وإن اختلفوا في كثير من أحكامه، وروي عن عمر رضي الله عنه وعثمان وعليّ (3)، وكثير من الصدر الأول، ولأن الضرورة داعية إليه لأن بالناس حاجة إلى التصرف في أموالهم وتنميتها والتجارة فيها وليس كل أحد يقدر على ذلك بنفسه فدعت الضرورة إلى استنابة غيره. وإنما لم (4) يدخل في ذلك من يدخل فيه بأجرة (5) معلومة ولأن العادة جارية من عهد الجاهلية إلى هذا الوقت بأن يعمل العامل في القراض بجزء من الربح فلما كان الأمر كذلك وجبت الرخصة فيه على نحو ما رخص في المساقات والأصل في البابين متقارب. مسألة [1 - صفة القراض]: وصفة القراض: أن يدفع الرجل مالًا إلى غيره ليتجر فيه ويشتري ويبيع ويبتغي من فضل الله تعالى ويكون الربح بينهما على جزء يتفقان عليه من قليل أو كثير على ما نبينه.   (1) القراض: مأخوذ من القراض وأصل القرض ما يفعله الرجل ليجازي عليه من خير أو شر هذا في اللغة، أما في الاصطلاح فهو: تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه لا بلفظ الإجارة (انظر: المقدمات: 3/ 5، حدود ابن عرفة - مع شرح الرصاع ص 379) ويسمى عند أهل العراق مضاربة. (2) انظر: الإجماع ص 124، المحلي: 9/ 116، بداية المجتهد: 7/ 493، شرح النووي لمسلم: 6/ 420. (3) انظر: الموطأ: 2/ 687 - 688، مصنف عبد الرزاق: 8/ 248. (4) في (م): وربما. (5) في (ق): بأجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1119 فصل [2 - فيما يجوز القراض به]: ولا يجوز القراض إلا بالدراهم والدنانير (1) لأنهما أصول الأثمان التي تتمول ويفزع إليها في التعامل والبيع والشراء وقيم المتلفات، وعنه (2) في جوازه بالتبر والنقار روايتان (3): وابن القاسم يحمل المنع على الكراهية ويقول: إن نزل أمضيته. فوجه الجواز أنه عين مال ذهب أو فضة لم يخرج عن حكم التعامل به كالمضروب، ولأنه ليس في كونه نقارًا أكثر من عدم الضرب، والسكة لا تأثير لها في الجواز ولا في المنع بدليل أن كل حكم تعلق بالذهب والفضة إذا كانا مسكوكين تعلق بهما إذا كانا تبرين من منع التفاضل ومنع الافتراق في الصرف قبل القبض وغير ذلك، ولا يلزم عليه جواز بيع النقار جزافًا ومنعه في المضروب لأن ذلك لمعنى يرجع إلى الغرر وكثرته في المسكوك. ووجه المنع أنها ليست بأثمان على ما هي عليه وإنما يصير أثمانًا متعاملًا بها بعلاج وصنعة، فإذا لم تصر أثمانًا فهي في حكم العروض، ولأن العامل يحتاج إلى بيعها لتصير أثمانًا، ولولا عقد القراض لم يفعل (4) ذلك ولا يخلو أن يكون بأجرة أو بغير أجرة، فإن كان بغير أجرة كان ذلك زيادة أرادها رب المال عليه وذلك غير جائز لأن موضوعه على التساوي، وإن كان بأجرة حصل منه قراض وعقد إجارة، والقراض وما جرى مجراه من العقود الخارجة عن أصولها لا ينضم إليها غيرها.   (1) انظر: الموطأ: 2/ 698، المدونة: 4/ 46، 47، التفريع: 2/ 194، الرسالة ص 220، الكافي ص 384. (2) يعني عن الإِمام مالك - رحمه الله -. (3) انظر: المدونة: 4/ 47، التفريع: 2/ 194، والمشهور في المذهب جوازه (الفواكه الدواني: 2/ 174). (4) في (م): لم يضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1120 فصل [3 - في عدم جواز القراض بشيء من العروض والحيوان]: ولا يجوز القراض بشيء من العروض والحيوان وما على الذهب والفضة (1) خلافًا لابن أبي ليلى (2)، لأن القراض عقد خارج عن الأصول لأن الغرر يدخله من وجوه كثيرة منها: أنه إجارة مجهولة وأن العامل لا يدري هل يكون في المال ربح أو خسران إلا أنه (3) جوز للضرورة، فوجب أن يجوز منه قدر ما جوزه الشرع فقط، ولأن رأس المال لا بد من معرفته فلا يخلو أن يكون هو نفسي العرض أو قيمته: فإن كان نفس العرض فالغرر يعظم والمقصود من الربح لا يحصل لأن العامل يأخذ السلعة وقيمتها ألف فيردها وهي تساوي خمسة آلاف وفي ذلك تلف أجرته وإلحاق الضرر به وقد يأخذها تساوي ألفًا فيردها تساوي مائة وفي ذلك تلف رأس المال، وإن جعلا رأس المال قيمة السلعة بطل لأمرين: أحدهما أن رب السلعة شرط على العامل العمل بها إلى أن يبيعها، وهذه زيادة منه عليه، وذلك غير جائز، والآخر أنه لا يخلو الاعتبار أن يكون بقيمتها وقت العقد أو وقت المعاملة (4)، وأي ذلك كان ففيه ما يؤدي إلى إتلاف (5) المال وذهاب عمل العامل وكل ذلك إضرار وغرر، فإن نزل فسخ ما لم يعمل، فإن لم يفسخ حتى عمل فللعامل أجرة المثل في بيع العرض (6)، وقد اختلف قوله (7) فيما يجب له في القراض الفاسد ونحن نذكره فيما بعد إن شاء الله (8).   (1) انظر: المدونة: 4/ 47، التفريع: 2/ 194، الرسالة 220، الكافي ص 384. (2) انظر: المغني: 5/ 17، مجموع فتاوي ابن تيمية: 30/ 91. (3) في (م): إن غير أنه. (4) في (م): المفاضلة. (5) في (م): تلف. (6) في (م): العروض. (7) في (م): وقد اختلف في قوله. (8) إن شاء الله: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1121 فصل [4 - في كون القراض عقد أمانه]: القراض عقد أمانة: فإن كان هناك ربح اقتسماه على شرطهما، فإن لم يكن ربح ولا وضيعة ونض (1) رس المال وأراد العامل أو رب المال فسخ العقد، فذلك له، وكذلك لو أراده قبل العمل لأنه عقد جائز وليس بلازم إلا أن يشرع (2) العامل في العمل، فلا يكون لأحدهما فسخه إلا برضاء الآخر لتعلق حق كل واحد منهما به، وإن كان فيه وضيعة فمن مال (3) رب المال إلا أن يكون بتعد من العامل فيلزمه بتعديه، فإن شرط رب المال على العامل ضمان الخسران كان العقد فاسدًا (4) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: أن القراض صحيح والشرط باطل (5)؛ لأن أصل القراض موضوع على الأمانة، فإذا شرط فيه الضمان فذلك خلاف موجب أصله، والعقد إذا ضامه (6) شرط يخالف موجب أصله وجب بطلانه أصله إذا تزوج امرأة وشرط عليها ألا يطأها. فصل [5 - في معنى جواز القراض بما أنفقا عليه من الأجزاء]: وإنما قلنا: يجوز القراض بما اتفقا عليه من الإجزاء قل أو كثر لأنه في معنى الإجارة، والعوض في الإجارة موكول في مقداره إلى تراضيهما، فكذلك القراض.   (1) نض: يقال: نض الشيء حصل، ونض الثمن حصل وتعجل، وأهل الحجاز يسمون الدراهم والدنانير نضًّا (انظر المصباح المنير ص 610). (2) في (ق): إلا بشرع. (3) مال: سقطت من (م). (4) انظر: الموطأ: 2/ 691، المدونة: 4/ 49، التفريع: 2/ 195، الرسالة ص 220. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 124 - 125، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 127، 130. (6) في (م): أصابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1122 فصل [6 - اشتراط جميع الربح لأحدهما]: يجوز القراض بشرط أن يكون جميع الربح لأحدهما (1) خلافًا لأبي حنيفة (والشافعي (2) في قولهما: إن العقد فاسد، ولأبي حنيفة) (3) في قوله: أنه إذا كان بشرط جميع الربح للعامل كان قرضًا لا قراضًا، لأن تقدير الربح موكول إلى تراضيهما، فجاز لأحدهما تركه للآخر، ولا يجوز أن يصير (4) قرضًا لأن رب المال قصد أن يكون قراضًا فلا يجوز أن يضمن العامل لأجل أن رب المال أسقط حقه من الربح. فصل [7 - في عدم جواز القراض إلى أجل يلزمه العمل به]: ولا يجوز قراض إلى أجل يلزمه العمل به إلى ذلك الأجل (5) لأن القراض عقد جائز فإذا شرط فيه اللزوم كان ذلك (6) خلاف مقتضاه ووجب فساده، ولأن ذلك زيادة من أحدهما على الآخر وذلك غير جائز. فصل [8 - في نفقة العامل في القراض]: لا نفقة للعامل إذا كان حاضرًا (7) لأنه لم يتعلق عليه لأجل المال ما يحتاج معه إلى زيادة نفقة لأنه لو لم يكن بيعه قراض لكان لا بد أن ينفق على نفسه وعياله، ولأن ذلك زيادة منه على رب المال فلم يجز، وله النفقة إذا سافر والكسوة التي لولا الخروج بالمال لما احتيج إليها في الحضر خلافًا للشافعي.   (1) انظر: الموطأ: 2/ 690، المدونة: 4/ 48، التفريع: 2/ 193 - 194. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 134، مختصر المزني ص 123، المهذب: 1/ 386. (3) ما بين قوسين سقط من (ق). (4) في (م): يكون. (5) انظر: الموطأ: 2/ 691، الكافي ص 386. (6) ذلك: سقطت من (م). (7) انظر: الموطأ: 2/ 196، المدونة: 4/ 51049، التفريع: 2/ 194، الرسالة ص220، الكافي ص 385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1123 وغيره (1)، لأنه لم يدخل على وجه التبرع وإنما سافر طلبًا للفضل فلو ألزمناه مؤنة السفر من ماله لأحاطت نفقة سفره بربحه المشترط له وزادت عليه، ولأن سفره لما كان لأجل المال صار كبعض كُلَف المال ومؤنته، وكذلك البهائم تحمل متاعه، ولأن ذلك يكون زيادة من رب المال عليه وذلك غير جائز، وكذلك إذا كان أعرابيًّا أقام في الحر لأجل المال فله النفقة في إقامته كنفقة الحاضر إذا سافر. فصل [9 - في كون النفقة ملغاة من الفضل]: إذا ثبت ما ذكرناه، فهذه النفقة ملغاة من الفضل كبعض المؤن ثم يقتسمان الفضل الباقي بعدها اعتبارًا بأجرة الأجراء وكراء البهائم لنقل المتاع، فإن لم يكن في المال ربح وقد خرجت منه (2) نفقة العامل لم يلزمه غرمها لرب المال لأنا لو ضمناه ذلك كان زيادة من رب المال عليه واعتبارًا بسائر المؤن. فصل [10 - في عدم جواز انضمام عقد آخر إلى عقد القراض]: لا يجوز أن ينضم إلى عقد القراض عقد غيره من بيع أو إجارة أو غير ذلك، ولا برفق يشترط أحدهما ليستبد بمنفعته على الآخر (3)؛ لأن القراض عقد ضيق لا يحتمل الشروط لانفراده عن الأصول، وتجويزه للضرورة فلا يجوز منه إلا قدر ما ورد الشرع به فقط، فمتى زيد عليه ما يخرجه عن باب رخصته بطل. فصل [11 - في سفر العامل بالمال]: للعامل أن يسافر بالمال إن أطلق العقد إلا أن يشترط عليه ترك السفر، وليس له أن يبيع بدين إلا أن يأذن له رب المال، فإن فعل ضمن والفصل بينهما (4) لأن   (1) انظر: مختصر المزني ص 122، الإقناع ص 109، والمهذب: 1/ 387. (2) منه: سقطت من (ق). (3) انظر: الموطأ: 2/ 691، المدونة: 4/ 58، التفريع: 2/ 195، الكافي ص 386 - 387. (4) انظر: المدونة: 4/ 61 - 63، التفريع: 2/ 194، الكافي ص 386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1124 العقد إذا أطلق حمل على مقتضاه وما جرى العرف به وقد عرف أن من عادة التجار التقلب بالمال حضرًا وسفرًا وطلب النماء فيه بسائر الوجوه، كما أنهم يتقلبون (1) به في سائر السلع بل قد علم من عادتهم أن من السلع ما يبتاع للسفر بها كما أن منها ما يبتاع للتربص به وقت تغير سوقه فالإطلاق محمول على العرف والنسيئة (2) بخلاف ذلك لأن إطلاق العقد لا يقتضي إخراج المال عن يده وتعليقه بذمة غيره وحبسه عليه، فإذا ثبت ذلك ضمن متى أنسأ المال أو شيئًا منه ولم يضمن في السفر إلا أن يشترط عليه تركه، وله ذلك إذا كان مندوحة في الحضر تغنيه عن السفر وكذلك له أن ينهاه عن بعض السلع، ولأن له في غيرها سعة، ولأن نهيه عنها لا يمنعه التقلب في المال وطلب الربح، وليس له أن يقصره على بعض السلع لأن منعه عن سلعة معينة بخلاف قصره على سلعة معينة لأن قصره يمنعه مقتضى العقد والمطلوب به من التقلب في المال ورجاء (3) النماء فيه لأن ذلك إنما يكون في الاضطرار المتسع فيه دون المضيق إلا أن يكون النوع الذي قصره عليه متسعًا في الوجود يعتمد على مثله ولا يمنع القصر عليه من الربح في المال مأمون العلم في وقت من الأوقات فيجوز. فصل [12 - منع مشاركة العامل غيره في المال]: لا يجوز للعامل أن يشارك غيره في المال (4) لأن رب المال إنما (5) رضي بأمانته في المال (6) وكون المال في يده ولم يأذن له في تسليمه إلى غيره، فإن   (1) في (ق): يتلفون. (2) جاء في الإشراف: لأنّ بالنسيئة قد أخرج المال عن يده وذلك خلاف مطلق العقد: 2/ 58، قال في التلقين: ولا يجوز التأجيل فيه: 2/ 412. (3) في (م): طلب. (4) انظر: المدونة: 4/ 54، التفريع: 2/ 195، الكافي ص 387. (5) إنما: سقطت من (م). (6) في (ق): ودام فهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1125 فعل وسلم فهما (1) على شرطهما، وإن تلف المال أو وضع ضمن العامل بتعديه. فصل [13 - إذا مات أحد المتقارضين]: إذا مات أحد المتقارضين: فإن كان العامل نُظر: فإن كان مات والمال عين بحاله ما ابتاع به شيئًا فلربه أخذه ولا مقال لورثة العامل سواء كانوا أمناء أو غير أمناء، وليس لرب المال أيضًا إلزامهم العمل بالمال (2) لأن موروثهم لو كان حيًّا فأراد رد المال وهو عين لكان ذلك له فكذلك الورثة، وإنما لم يكن لهم مقال لأن الميت لم يتعلق له في المال حق فيجب لهم ما وجب له، وإن كان موته بعد أن اشترى السلع وتصرف في المال، فقد تعلق لكل واحد من الفريقين حق بالمال: أما الورثة فإنهم مخيرون بين أن يعملوا بالمال إن كانوا أمناء قادرين على العمل لا يخاف على المال منهم إتلاف أو إضاعة، فإن لم يكونوا أمناء أو كانوا أمناء (3) إلا أنهم لا يحسنون التصرف بنفوسهم، فإن آتوا بأمين ثقة يبصر العمل ويعرفه لزم تسليم المال إليه، وقام مقامهم في البيع وتصحيح الثمن لرب المال، فإن عجزوا عن ذلك كله سلموا المال ولم يكن لربه مطالبتهم بشيء. وإنما قلنا: إن لهم المطالبة به لأنه قد تعلق فيه حق الربح الذي يرجونه فيما ابتاعه موروثهم فليس لرب المال إبطاله عليهم والاستبداد به دونهم، ولأنه حق أوجبه عقد معاوضة، فجاز أن ينتقل إلى الورثة كخيار العيب. وإن قال (4) الورثة لرب المال: نحن نبيع ونوفيك رأس مالك وتخلي بيننا وبين السلع فليس ذلك لهم إلا أن يرضاه (5) لأنّه قد تعلق له حق في المبتاع لأنه   (1) في (ق): ودام فهو. (2) انظر: المدونة: 4/ 68، الكافي ص 387. (3) أمناء: سقطت من (م). (4) في (ق): قالوا. (5) في (م): يرضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1126 مشتري بماله، فله من حق الربح مثل ما لهم، وأما إن مات رب المال فإن العامل على حاله فإن مات قبل العمل، فإن كل واحد من الفريقين بالخيار على صاحبه في فسخ العقد والمضي عليه، وإن كان بعد الشراء فليس (1) لأحدهما فسخه إلا أن يرضى (2) الآخر: أما الورثة فإنهم يقولون لما كان لأبينا المطالبة برد ماله عينًا فكذلك لنا مثل ما كان له، وأما العامل فقد تعلق له في المال حق ما يرجوه من الربح ببيعه فليس لهم فسخه عليه. فصل [14 - لكل من المتفاوضين فسغ العقد قبل الشروع]: قد بيَّنا أن لكل واحد من المتقارضين فسخ العقد قبل الشروع في العمل: فإذا عمل العامل فليس لأحدهما المطالبة برده رأس المال إلا أن يرضى الآخر ويلزم العامل التقاضي في البيع حتى يرده عينًا لأن الجزء المشترط من الربح إنما يستحقه بعمله الذي هو البيع والشراء والتقلب بالمال حتى ينمي، وفي رده إياه عروضًا إسقاط أكثر العمل لأن العروض يحتاج إلى كلفة ومؤنة لمن يبيعها إلى أن يحصل عينًا. فصل [15 - إذا خسر في مال القراض ثم عمل به من بعد فربح]: إذا خسر في مال القراض ثم عمل به من بعد فربح نظر: فإن كان تفاصلًا بعد الخسران لم يجبر الخسران بالربح الثاني وكان رأس المال ما بقي بعد الخسران يجبر من هذا الربح، فإن فضل شيء تقاسماه وإلا لم يكن للعامل شيء ولا يرجع عليه بخسران (3)، وإنما وجب ذلك لأن الحق للعامل في الربح لا في رأس المال ولا يكون ربح إلا بعد حصول رأس المال، فهذا حصل في المال خسران لم يستحق العامل شيئًا لأنه لا يصل إلى شيء من الربح إلا إذا وصل رب المال إلى جزئه ولا سبيل إلى ذلك ما لم يكن رأس المال.   (1) ليس: سقطت من (ق). (2) في (م): برضا. (3) انظر: المدونة: 4/ 53، التفريع: 2/ 196، الكافي ص 387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1127 فصل [16 - في المستحق بالقراض الفاسد]: اختلف قول مالك في المستحق بالقراض الفاسد (1)، فعنه في ذلك روايتان (2): إحداهما: أن للعامل قراض المثل، والأخرى: أجرة المثل. وفصل ابن القاسم فقال: إن كان الفساد من جهة العقد رد إلى قراض المثل وإن كان من جهة الزيادة زادها أحدهما على الآخر رد إلى أجرة المثل. وذكر ابن الموّاز عن مالك في العامل يشترط عليه الضمان أن له الأقل من قراض المثل أو مما سمي له من الربح. فوجه اعتبار قراض المثل في الجملة أن الأصول موضوعة على أن شبهة كل أصل مردودة إلى صحيحه كالنكاح والبيع والإجارة، فكذلك القراض. فوجه اعتبار أجرة المثل هو: أن كل عقد صحيح يوجب عوضًا مسمى للعامل بالعمل، فإذا كان فاسدًا فللعامل أجرة المثل في عمله أصله الإجارة الفاسدة، والتفصيل الذي ذكره ابن القاسم استحسان وليس بقياس (3). ووجه اعتبار أقل الأمرين أن قراض المثل وإن كان الأقل فقد رضي به العامل لأنه إذا رضي أن يعمل على أن يكون عوضه على العمل من الربح (4) على الفساد بما ذكرناه، فقد رضي أن يكون له فيما يصح بحسابه، وإن كان المسمى الأقل فليس له زيادة عليه لأن رب المال يقول: أنت رضيت بالمسمى عوضًا عن عملك فليس فساد العقد موجبًا لك زيادة في العوض.   (1) المقصود بالقراض الفاسد مثل أن يشترط على العامل شروطًا فاسدة كأن يوكله على خلاص دينه أو وديعته غير أمين ويجعل ذلك الدين أو ثمن الوديعة قراضًا، والمشهور في هذا أن له أجرة المثل (انظر: الشرح الصغير: 4/ 136). (2) انظر: المدونة: 4/ 47، التفريع: 2/ 196 - 197، الكافي ص387. (3) والمالكية يقولون: إن كان الفساد تطرق إلى رأس المال يكون فيه أجرة المثل، وأما إن تطرق إلى الربح فيكون فيه قراض المثل. (4) على العمل من الربح: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1128 فصل [17 - فائدة الفرق بين أجرة المثل وقراض المثل]: وفائدة الفرق بين أجرة المثل وقراض المثل: أن أجرة المثل تتعلق بذمة رب المال كان في المال ربح أم لا، وقراض المثل يتعلق بربح إن كان في المال، فإن لم يكن فيه ربح فلا شيء للعامل، ومن أصحابنا من يجعل قراض المثل مع الربح وعدمه يفرق بينهما بأن يجعل حظ العامل بقدر ما يساوي عمله مما رضيه عوضًا لو صح العقد فيكون له بقيمة ذلك (1). فصل [18 - عدم المفاضلة في الربح إلا بحضور رأس المال]: لا يتفاضل المتقارضان على الربح إلا بحضرة (2) المال (3) لما بينا أن الربح لا يستحق إلا بعد حصول رأس المال، ومتى كان عروضًا وتقاسما الربح لم يأمن أن ينقص السعر فيخسر رأس المال، أو ينظر (4) إن كان دينًا فيؤدي ذلك إلى ما منعناه. فصل [19 - زكاة القراض]: زكاة رأس مال القراض على رب المال، وزكاة الربح متابعة لأصله فلزم العامل في حصته إذا كان الحول قد حال على رأس المال سواء كان في حصته نصاب أو أقل لأن الربح تابع للأصل، وإن كان العامل عبدًا أو ذميًّا فلا زكاة عليه في حصته من الربح عند ابن القاسم لأنه ليس من أهل الزكاة، وقال عبد الملك: تلزمه الزكاة لأن الجملة على ملك رب المال (5)، ولأن الربح تابع للأصل. فصل [20 - إذا اشترط رب المال الزكاة على العامل]: إذا اشترط رب المال الزكاة على العامل نُظر: فإن شرط عليه زكاة   (1) في (م): بصحة ذلك. (2) في (م): على. (3) انظر: الموطأ: 2/ 702، التفريع: 2/ 197، الكافي ص 387. (4) في (م): ينكسر. (5) انظر: المدونة: 4/ 52 - 53، التفريع: 2/ 197 - 198، الكافي ص 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1129 رأس المال (1) والربح لم يصح لأن ذلك يؤدي إلى الجهل بجزء (2) العامل، ولأنه قد يأتي على أجرته ويزيد عليها وإن شرط عليه زكاة رأس الربح وحده (3) جاز أيهما شرطه على الآخر (4) جاز لأن ذلك جزء معلوم مستثنى من جزئه كأنه إن قارضه على النصف وشرط زكاة الربح في حصته، قال: قارضتك على النصف إلا ربع العشر، وذلك معلوم فيجوز، وما ابتيع من ماشية تجب فيها الزكاة فزكاتها ملغاة من أصل المال لأنها مؤنة من المؤن والله أعلم (5). ...   (1) في (ق): المال. (2) في (ق): بجزاء. (3) وحده: سقطت من (م). (4) في (م): الأجير. (5) والله أعلم: سقطت من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1130 كتاب (1) المساقاة وكراء الأرض والمزارعة المساقاة (2) جائزة (3) خلافًا لأبي حنيفة (4)، لما روي: أنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على الشرط من ثمر وزرع (5)، وروي أنه ساقى أهل خيبر (6) وكان يبعث عبد الله بن رواحة (7) فيخرص عليهم (8)، ولأن ذلك فعل الأئمة أبي بكر وعمر (9) وغيرهما ولا مخالف من السلف فيه، ولأنه مال لا ينمي بنفسه ولا تجوز إجارته، وإنما ينمى بالعمل عليه فجاز العمل عليه ببعض ما يخرج منه أصله مال القراض، ولأن الغرر والخطر فيها أقل منه في القراض فكان بالجواز أولى.   (1) في (م): باب. (2) المساقاة في اللغة: استعمال رجل رجلًا في نخل أو كرم يقوم بإصلاحهما، وفي الاصطلاح قال ابن عرفة في تعريفها: عقد على عمل مؤنة النبات بقدر لا من غير علته لا بلفظ بيع أو إجارة أو جُعل. (انظر: الرصاع على ابن عرفة ص 386). (3) انظر: الموطأ: 2/ 704، المدونة: 4/ 2، التفريع: 2/ 201، الرسالة ص 220، الكافي ص 381. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 127، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 233. (5) أخرجه البخاري في الإجارة، باب: إذا استأجر أرضًا فمات أحدهما: 3/ 55، ومسلم في المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع: 3/ 1186. (6) هو الحديث السابق. (7) عبد الله بن رواحة: بن ثعلبة بن امريء القيس الخزرجي الأنصاري، أحد السابقين، شهد بدرًا واستشهد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها في جمادي الأولى سنة ثمان (تقريب التهذيب ص 303). (8) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 703، وهو مرسل. (9) فعل أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- أخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: الرُخصة في المزارعة: 2/ 823. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1131 فصل [1 - فيما تجوز فيه المساقاة]: تجوز المساقاة في الأصول كلها والشجر (1) خلافًا للشافعي في قوله: أنها لا تجوز إلا في النخل والكرم (2)، لما روي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساقى أهل خيبر على ما فيها من زرع وشجر" (3) فعم، وكأنه أصل له ثمر (4) فجازت المساقاة عليه أصله النخل والكرم. (فصل [2 - جواز مساقاة الزرع إذا ظهر وعجز عنه زارعه]: الزرع إذا ظهر وعجز عنه زارعه تجوز المساقاة عليه لأنه يصير حينئذ كالأصل المرتجى ثمرته، ولا يجوز وهو مغيب لم يظهر، ولأنه ليس باطل ولا يدري هل ينبت حبه أم لا ينبت، وكذلك المقاثي والمطابخ إذا ظهرت كالزرع) (5). فصل [2 - صفة المساقاة]: صفة المساقاة: أن يدفع الرجل حائطه وفيه النخل والشجر (6) إلى من يعمل فيه على جزء من الثمر يتفقان عليه قل أو كثر من نصف أو ثلث أو ربع أو أقل أو أكثر من الأجزاء المقدرة المعلومة على أن يكون العمل والكلف والنفقة فيما يحتاج إليه الثمرة المساقى عليها، وجميع المؤن على العامل مثل السقي والآبار والجذاذ وعلوفة الدواب ونفقة الغلمان وما يتعلق بمصلحة الثمر ومما لا يبقى بعد انصراف العامل. وإنما قلنا ذلك لأن الجزء إنما يستحقه العامل بعمله الذي يصلح به الثمرة، ولا   (1) انظر: المدونة: 4/ 2 - 5، التفريع: 2/ 201، الرسالة ص 220، الكافي ص 381. (2) انظر: الأم: / 114، مختصر المزني ص 123، الإقناع ص 110. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) في (ق): له ثمن. (5) سقط هذا الفصل كاملًا من (ق). (6) في (م): الثمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1132 يجوز أن يكون بعضه على رب الحائط (1) لأن ذلك زيادة يزدادها العامل، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ساقى أهل خيبر لم يلزم لهم مؤنة بل أنفقوا من أموالهم، وأما ما عدى ذلك مما يبقى بعد انصرافه فلا يجوز ولا يلزمه اشتراطه عليه وذلك كحفر بئر ابتداء أو إنشاء غراس أو بناء بيت يجبى فيه الثمر أو ما أشبه ذلك لأن كل هذا زيادة مشترطة على العامل ينفرد بها رب المال، وذلك غير جائز لأنه يخرج المساقاة عن بابها ويلحقها بالإجارة المجهولة، وبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، والمساقاة عقد خارج عن الأصول فلا يجوز مثله إلا ما قد (2) جوَّزه الشرع، ومن ذلك اشتراطه ضفيرة بينها (3)، فاختلفت عبارات أصحابنا في ذلك فمنهم من قال: الحائط حول المراح، ومنهم من قال: موضع مجتمع الماء، ومنهم من قال: هي الشجرة يغرسها وجعل موضع دنيتها بينهما ويشبه أن يكون تصحيفًا، وكل ذلك يصح حمل الكلام عليه وإن كنا نعلم أن المراد واحد منها (4)، وما شعث من آلة الحائط، فعلى رب المال صلاحه كالدولاب ينكسر أو يموت بعض البقرة (5) أو يذهب بعض الآلة أو يغور العين أو تنهار البئر وما أشبه ذلك، وإنما قلنا ذلك ليصل العامل إلى العمل ويتمكن منه ولا يبطل حقه. فصل [4 - جواز تراضيهما على ما شاء من الأجزاء في المساقاة]: وإنما قلنا: إن لهما أن يتراضيا على ما شاءا من الأجزاء لأنه عوض على منافع يجوز بغير بدل، فلم يتعذر البدل فيها كالإجارات والقراض، وإذا (6) ساقاه   (1) في (م): المال. (2) في (م): إلا قدر. (3) ضفيرة بينها: عبارة وردت في موطأ مالك: 2/ 706، واختلفت تفسيرات الأصحاب فيها (الرسالة ص 202). (4) منهما: سقطت من (ق). (5) في (م): النقر. (6) في (م): فأما إذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1133 على عدة أحدقة (1) متفقة الثمار أو مختلفة فلا يخلو أن يكون في عقد واحد أو عقود مفترقة: فإن كان في عقد واحد جاز على أجزاء متفقة ولم يجز على أجزاء مختلفة، وإن كان في عقود مفترقة (2) جاز على أجزاء متفقة ومختلفة، وحكم كل صفقة منفردة بنفسها، وإنما منعنا اختلاف الأجزاء في العقد الواحد لأنها كالقراض (3) الواحد إذا ضمها عقد واحد فلا يجور أن يساقى بعضه على جزء وبعض على خلافه، ولأنه صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر على اختلاف حوائطها سقيًا (4) واحدًا، فلا يجور خلاف ذلك لأن المساقاة عقد خارج على الأصول ولا يجوز أن يتعدى قدر ما ورد الشرع به، وعلله أصحابنا بأن فيه يرد فضل في أحد الحائطين لفضل أو نقص في الحائط الآخر. فصل [5 - في حكم المساقاة من حيث الجواز واللزوم]: عقد المساقاة لازم ليس لأحدهما تركه بعد عقده إلا برضا الآخر (5) لأنه إجارة في خدمة عين قائمة كسائر الإجارات، وإن مات العامل قام ورثته مقامه، فإن كان فيهم من يتولى ذلك وإلا أكروا له من ماله، وإن مات رب الحائط، فالعامل على حاله. فصل [6 - مساقاة الحائط وفيه بياض ونخل وشجر]: إذا ساقى حائطًا فيه نخل وشجر وأرض بياض (6) وسكتا عن ذكر البياض فلا شيء للعامل فيه، ولرب الحائط زرعه أو إجارته، فإن شرطه العالم لنفسه   (1) في (م): أفرحة. (2) في (م): متفرقة. (3) في (ق): كالقراح. (4) في (ق): ضيفا. (5) انظر: المدونة: 4/ 908، التفريع: 2/ 202، الكافي ص 382. (6) أرض بياض: هي الأرض التي خلت من الزرع والشجر، فهل تدخل في عقد المساقاة أم لا (الفواكه الدواني: 2/ 138). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1134 يزرعه جاز إن كانت (1) قيمة أجرته بقدر ثلث (2) ثمن الثمرة بعد حط قيمة ما يلزم العامل عليها أو أقل منه، فإن زاد عليه لم يجز. وإن شرط رب الأرض على العامل جزءًا مما يخرج من البياض جاز (3). وإنما أجزنا ذلك في اليسير لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ساقى أهل خيبر (4) ألغى البياض الذي كان فيها، ولم ينقل أنه منع اليهود منه ولا أنه استثناه ولا طلب منهم أجرته. وإنما شرطنا الثلث لأنه معتبر في الأصول في البيع، والمقصود إذا أريد الفرق بينهما كمعاقلة المرأة الرجل واكتراء الدار فيها نخلة أو شجرة إذا استثنيت فكذلك ها هنا، ومنعناه فيما زاد عليه لأنه يصير مقصودًا بالشرط وزيادة ينفرد بها العامل ويخرج على التبع، وإنما جاز لرب الأرض أن (5) يشترط بعض ما يخرج منها لأنه لما جاز له إلغاء الجميع للعامل وجُعِل تبعًا معفوا عنه جاز له اشتراط بعضه تبعًا للسقاء، ويجب أن يكون الجزء الذي يشترطه (6) موافقًا لجزء عقد السقاء لا مخالفًا له. فصل [7 - استثناء المكتري الجزء اليسير من البياض لنفسه]: يجور أن يكتري الرجل الدار يكسنها أو الأرض البياض يزرعها وفيها نخلة أو شجرة قيمة ثمرتها الثلث فدون فيستثنيها المكتري، وإن زادت على ذلك لم يجز   (1) في (م): كان. (2) ثلث: سقطت من (ق). (3) انظر: الموطأ: 2/ 707، المدونة: 4/ 6، التفريع: 2/ 202، الرسالة ص 221، الكافي ص 382. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (866). (5) في (ق): إلى. (6) في (م): يشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1135 له استثناؤها (1)، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز ذلك في القليل والكثير (2)، وإنما أجزنا ذلك في اليسير لأن الضرورة تدعو إليه لتطرق صاحب الدار عليه كل وقت إذا أراد أخذ ثمرته فربما كره المكتري مروره عليه ونظره إلى منزله واحتاج إلى تكلف ستر ما (3) يكون في الدار عنه وغير ذلك مما يشق إذا تكرر، فجعل له إزالة الضرر عنه باستثناء ذلك ليقطع تطرق المالك (4) عليه، كما أجزنا للمعرى شراء القرية، فحرمها لقطع تطرق المعري عليه. فصل [8 - تعليل الفصل بين الثلث وما زاد عليه]: وإنما فصلنا بين الثلث وما زاد عليه (5) للإجماع على منع (6) ذلك فيما زاد على الثلث لأن ما دون الثلث يسير بيع لا يتهم أن يقصد به شراء الثمرة قبل بدو صلاحها (7)، كما لا يتهم بذلك في العرية، وإذا كان زاد على ذلك صار (8) مقصودًا أو خرج أن يكون تبعًا (9) كزيادة العرية على خمسة أوسق. فصل [9 - جواز مساقاة البعل]: تجوز مساقاة البعل وهو الذي يشرب من أصله من غير سقي، وكذلك كل ما يسقى على اختلاف أنواع السقي (10)؛ لأن ذلك محتاج إلى خدمة وتعهد وآبار ومراعاة وقطع جريد وغير ذلك، فجاز السقاء عليها.   (1) انظر: الموطأ: 2/ 708، المدونة: 4/ 6، التفريع: 2/ 202، الرسالة ص 221، الكافي ص 382. (2) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 228، 233، مختصر المزني ص 124. (3) في (م): من. (4) في (م): رب المال. (5) عليه: سقطت من (ق). (6) منع: سقطت من (ق). (7) في (م): بدو الصلاح. (8) في (ق): كان. (9) في (م): بيعًا. (10) انظر: المدونة: 4/ 11، الرسالة ص 221، الكافي ص 381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1136 فصل [10 - انتهاء المساقاة]: انتهاء المساقاة إلى الجذاذ إذا كان السقاء لسنة واحدة لأن الحقوق تنقطع عنه ويقع الاستيفاء فلا يبقى شيء من خدمة الثمرة فيما بعد ذلك يستحق لثمرة العام المقبل (1) فلا يلزم إلا بعقد مستأنف، فأما إذا كان عقد السقاء لعدة أعوام، فإن العامل لازم له إلى انقضاء المدة التي عقدا عليها. فصل [11 - المساقاة على ثمرة بعد ظهورها]: تجوز المساقاة على ثمرة بعد ظهورها (2) خلافًا للشافعي (3)؛ لأن المساقاة إنما تجوز لحاجة الثمرة إلى السقي والخدمة والضرورة من الملك إلى استيعابه (4) غيره وهذا يستوي فيه المعدوم والموجود، ولأن ذلك إذا جاز قبل وجودها مع كثرة الخطر كان جوازه بعد الوجود مع قلة الخطر أولى. فصل [12 - المساقاة على ثمرة بعد طيبها]: واختلف في جواز المساقاة يليها بعد طيبها (5): قال ابن القاسم: لا تجوز، وقال سحنون: تجوز، فلابن القاسم أنه لا ضرورة إلى المساقاة لجواز بيعها والإجارة عليها، ولسحنون أن الضرورة إلى سقيها وتعهدها باقية لحاجتها إلى قيامها في النخل فكانت كالتي لم يبد صلاحها. فصل [13 - الزكاة هي المساقاة]: إذا أخرج الحائط خمسة أوسق ففيه الزكاة، بخلاف الشركة في الثمرة لأن العامل لا يستحق إلا بعد الصلاح، وببدو الصلاح قد وجبت الزكاة، فكان   (1) في (ق): المستقبل. (2) انظر: الموطأ: 2/ 706، المدونة: 4/ 5، الكافي ص 383. (3) انظر: الأم: 4/ 11، مختصر المزني ص 124. (4) في (م): استثنائه. (5) انظر: الموطأ: 2/ 707، المدونة: 4/ 5، الكافي ص 383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1137 الوجوب يتناولها على ملك صاحب الأصل، ويجوز أن يشترط أحدهما الزكاة على الآخر (1) في حصته بخلاف القراض (2) لأن ذلك جزء معلوم. فصل [14 - مساقاة النصراني]: مساقاة النصراني جائزة إذا كان هو العامل، فإن كان المسلم هو فيكره (3) لأن فيه إذلالًا للمسلم باستخدام النصراني له وتواضعه لشيء يناله (4) من الدنيا (5). فصل [15 - عدم جواز اشتراط زيادة في المساقاة لأحدهما على الآخر]: لا يجوز في المساقاة زيادة يشترطها أحدهما على الآخر كالقراض (6) لأن بهما ضيق لا يحتمل الشروط لخروجها (7) عن الأصول فيجب الاقتصار بها على ما ورد به الشرع. ...   (1) في (م): الأخرى. (2) انظر: المدونة: 4/ 7، التفريع: 2/ 203، الكافي ص 383. (3) في (ق): فكره. (4) في (م): يتناوله. (5) انظر: المدونة: 4/ 121، التفريع: 2/ 202، الكافي ص 383. (6) انظر: الموطأ: 2/ 707، المدونة: 4/ 12، التفريع: 2/ 202، الرسالة ص 221، الكافي ص 382. (7) في (ق): لخروجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1138 باب: [كراء الأرض] يجوز كراء الأرض (1) للزرع بالذهب والفضة والعروض والحيوان، ولا يجوز بالطعام كله على اختلاف أصنافه: كان مما تنبته كالحنطة والشعير وسائر الحبوب والثمار، ومما لا تنبته كالعسل واللحم وغير ذلك، ولا ببعض ما تنبته من غير الطعام كالقطن والكتان والعصفر والزعفران، ويجوز بالخشب والقصب وما في معناهما (2). فصل [1 - جواز كراء الأرض بالذهب والفضة وسائر العروض]: (وإنما أجزناه بالذهب والفضة وسائر العروض لعموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع} (3) والإجارة بيع المنافع، وفي حديث رافع (4) أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها (5)، فأما الذهب والفضة فلا بأس به، ولأن كل ما جاز بيعه جازت الإجارة به. فصل [2 - تعليل منع كراء الأرض بالطعام]: فإنما منعنا أن تكرى بالطعام، فلأن ذلك هو المحاقلة (6) المنهي عنها (7)   (1) الكراء: هو بيع منفعة ما لا يمكن نقله (حدود ابن عرفة- مع شرح الرصاع ص 398). (2) انظر: الموطأ: 2/ 711 - 712، المدونة: 3/ 459، وما بعدها، التفريع: 2/ 183، الرسالة ص 221، الكافي ص 377. (3) سورة البقرة، الآية: 275. (4) رافع بن خديج: بن رافع بن عدي الحارثي الأوسي الأنصاري أول مشاهده أُحُد ثم الخندق، مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين، وقيل قبل ذلك (تقريب التهذيب ص 204). (5) أخرجه مسلم في البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والفضة: 3/ 1176. (6) المحاقلة: كراء الأرض بالطعام (النهاية: 1/ 416). (7) أخرجه البخاري في المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط: 3/ 81، ومسلم في البيوع، باب: النهي عن المحاقلة: 3/ 1175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1139 والمخابرة كراؤها ببعض ما يخرج منها، وقال أبو حنيفة: كل ما جاز أن يكون ثمنًا في البياعات جاز أن تكرى به الأرض (1)، وقال الشافعي: يجوز بالحنطة في الذِّمَّة ولا يجوز إذا شرط أنه مما تنبته تلك الأرض، ويجوز بالطعام الذي لا يخرج منها كالعسل والسمن (2). فدليلنا على منع ذلك حديث رافع قال: كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى روي لنا عنه أنه قال: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث أو بربع أو بطعام مسمى" (3) وهذا نص، ولأنه طعام فأشبه ما تنبته، ولأن ذلك بيع طعام بطعام متأخر ومجهول لأن المالك كأنه باعه بهذا الطعام أو ما تنبته أرضه أو كراء من طعام بمثله إلى أجل وابتاع منه عسلًا أو لبنًا بما تخرجه أرضة إلى أجل، فدليلنا على منع إجارتها ببعض ما يخرج منها من غير الطعام أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تستأجر الأرض ببعض ما يخرج منها (4) ولأن الكتان والقطن وغيرهم مما تنبته الأرض فأشبه إذا اشترطا الثلث أو الربع، وأما القصب والخشب فإنه ليس مما يزرع أو يقصد كراؤها لزرعه فجاز) (5). فصل [3 - اشتراط النقد في كراء الأرض]: لا يجوز شرط النقد إلا في المأمون منها دون ما لا يؤمن إخلافه وتلف الزرع فيها، والاعتبار في ذلك بحال الأرض وعادتها في الشرب (6)، وإنما منعناه   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 132، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 88 - 89. (2) انظر: الأم: 4/ 25، مختصر المزني ص 128. (3) أخرجه مسلم في البيوع، باب: كراء الأرض: 3/ 1176. (4) أخرجه بمعناه البخاري في البيوع، باب: المزارعة بالشطر: 3/ 68، ومسلم في البيوع، باب: كراء الأرض بالطعام: 3/ 1181. (5) ما بين قوسين سقط من (م). (6) انظر: المدونة: 3/ 459، الرسالة ص 221، الكافي ص 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1140 ذلك بمثل ما منعناه في البيع: وهو أن يكون بيعًا وسلفًا، وقرضًا جر نفعًا وقد فسرناه في الإجارة. فصل [4 - الشركة في الزرع]: الشركة في الزرع جائزة وصفتها: أن يتكافيا في العمل والمؤنة والأرض والبذر، فإن كان البذر من عند أحدهما والأرض من عند الآخر فلا يجوز: كان العمل عليهما أو على أحدهما (1) لأن الذي له البذر قد باع حصته من شريكه بما تخرجه أرضه وذلك طعام بطعام متأخر إن زرعا طعامًا، ومخابرة وكراء الأرض ببعض ما يخرج منها وصاحب الأرض قد أكرى حصته ببعض ما يخرج منها، وذلك غير جائز، فإن زرعها على ذلك وتكافيا فيما سواه من العمل والبقر فالزرع لمن وليه منهما: فإن وليه صاحب الأرض فالزرع له وتغرم لصاحب البذر مثل (2) مكيلة بذرة، وإن وليه صاحب البذر (فالزرع له ويغرم لصاحب الأرض نصف كراء أرضه، فإن ولياه جميعًا اقتسماه نصفين فكان على صاحب الأرض نصف مكيلة البذر) (3)، وعلى صاحب البذر نصف كراء الأرض، ويجوز أن يكون الأرض بينهما أو لأحدهما ومن الآخر البقر والمؤنة ويكون البذر من عندهما والذي يحترز منه في هذا الباب أن يؤدي إلى كراء الأرض بالطعام أو ببعض ما يخرج منها أو بانتفاء التساوي، فإذا سلم من ذلك جاز. ...   (1) انظر: المدونة: 4/ 29 - 30، الرسالة ص 221، الكافي ص 379. (2) في (م): نصف. (3) ما بين قوسين سقط من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1141 (بِسْم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم، وصلى الله على محمَّد) (1) كتاب الشركة الشركة (2) على ضربين بمال وبدن، فأما شركة الأموال فعلى ضربين: شركة عنان (3)، وشركة مفاوضة، والعنان هي أن يخرج كل واحد منهما رأس مال مثل ما يخرج صاحبه أو أكثر أو أقل ويخلطاه ويكون في حكم المختلط وإن لم تكن عينه مخالطة للآخر مثل أن يكونا في صندوق واحد وأيديهما عليه ويكون العمل عليهما بحسب رؤوس أموالهما والربح بينهما على مثل ذلك، فهذا نوع (4) جائز من الشركة، ولا يجور أن يشترط العمل أو الردح بخلاف رؤوس الأموال، فإن عقدا لشركة على ذلك وعملًا فالشركة فاسدة ويكون الربح والخسران بينهما على قدر المالين ويرجع من قل رأس ماله على صاحبه بأجرة المثل في نصف الزيادة، والمفاوضة أن يفوض كل واحد منهما إلى الآخر التصرف والبيع والشراء حضر الآخر أو غاب وتكون يده كيده، ولا يكونان شريكين إلا بقدر ما يعقدان الشركة عليه دون ما ينفرد أحدهما بملكه مما لم يدخله في رأس   (1) ما بين قوسين سقط من (م). (2) الشركة لغة: الاختلاط، وفي الاصطلاح: تقرير متمول بين مالكين فأكثر ملكًا فقط هذا بالمعنى الأعم، أما بالمعنى الأخص، فهي بيع مالك كل بعضه ببعض كل الآخر موجب صحة تصرفهما في الجميع (حدود ابن عرفة ص 322). (3) شركة العنان -بكسر العين- وقد اختلف في تفسيرها، فقيل: الشريك المخصوص، وقيل: الشركة في شيء معين، وقيل: هذا على أنه لا يبيع أحدهما إلا بإذن الآخر (حدود ابن عرفة ص 321). (4) نوع: سقطت من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1143 مال الشركة ويجوز فيها تساوي رؤوس الأموال وتفاضلها إذا كان العمل والربح بقدرة الله. وشركة الوجوه (1) باطلة، فأما شركة الأبدان (2) فتجوز بشرطين: أحدهما (3) اتفاق الصناعتين كالاشتراك في الخياطة والقصارة والنجارة وغير ذلك من الصناعات، وتجوز عندنا في الاصطياد والاحتطاب، ولا تجوز مع اختلاف الصناعتين كقصار وحداد وصبّاغ وصواغ، والثاني أن يكونا في موضع واحد، فإن افترقت الأمكنة لم تجز الشركة اتفقت الصناعات (4) أو اختلفت، وإن افترقت الصناعتان لم يجز افترقت الأمكنة أو اتفقت، وتجوز الشركة بالعروض على القيمة (5). فصل [1 - وجه جواز شركة العنان]: وجواز الشركة في المال (6) على الشرط الذي قدمناه مجمع عليه، وإنما الخلاف في انخرام بعض أوصافها على ما سنذكره، وذكر بعض أصحاب مالك عنه أنه سئل عن شركة العنان فقال: لا أعرفها (7)، ومن سمّاها بذلك فسرها على وجوه من الاشتقاق: قيل: معناها تساوي الشريكين (8) في التصرف والمال   (1) شركة الوجوه: هي أن يشتركا على الذمم دون مال ولا صنعة على أن ما اشترياه يكون في ذمتهما وربحه بينهما، وقيل: هي أن يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح ليكون له بعضه (حدود ابن عرفة ص 326 - 327). (2) شركة الأبدان: هي أن يشترك الاثنان أو أكثر على أن يعملا معًا ويقتسمان أجرة عملهما بنسبة العمل بشرط أن تكون الصنعة متحدة والمكان متحد كذلك (أسهل المدارك: 2/ 358). (3) شرطين أحدهما: سقطت من (م). (4) في (ق): الصناعتان. (5) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 4/ 22، وما بعدها، التفريع: 2/ 205 - 206، الرسالة ص 219 - 220، الكافي ص 390 - 393. (6) في (ق): وجواره في المال. (7) انظر الذخيرة. (8) في (م): المشتركين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1144 في الكثير والقليل كتساوي الفارسين في السير، وقيل: لأنها شركة ظاهرة مأخوذة من عناني الشيء إذا أخطر ببالك فأظهرته، وقيل: إنها معروفة في اللغة كقول الشاعر (1): وشركنا قريشًا في علاها ... وفي أحسابها شرك العنان وفي الجملة فمن أي شيء ثبت أنّها أخذت إذا كانت على الصفة التي ذكرناها فإنها (2) جائزة، وإنما شرطنا أن تكون أيديهما على المالين بخلط أو جعله في صندوق أو غيره خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن الشركة تصح وإن كان مال كل واحد منهما في يده إذا عيناه واحصراه (3)؛ لأن الشركة تقتضي تساويهما في الاشتراك بالمال، فإذا انفرد أحدهما بثبوت يده عليه لم توجد حقيقة الشركة (لأنهما على ما كانا عليه من انفراد المالين فلم يحصل منهما إلا القول، ومجرد القول لا يأتي له بدليل: أنهما لو تعاقدا إلى الشركة) (4) على مال ولم يعيناه فإنها لا تنعقد لأن الشركة لا تحصل على مال لم تثبت أيديهما عليه، ولأن كل واحد من المالين يثبت على ملك صاحبه فلم تثبت به شركة أصله سائر أمواله عكسه إذا خلطاه أو كانت أيديهما عليه. وإنما شرطنا (5) خلطهما حتى لا يتميزا إذا كانا بحيث ينالهما أيديهما بالتصرف (6) خلافًا للشافعي في قوله: إن الشركة لا تنعقد إلا بخلط المالين (7) لأن أيديهما ثابتة على المالين كما لو خلطاهما (8).   (1) البيت الشعري قاله النابغة الجعدي (انظر الصحاح: 6/ 2166). (2) في (م): فهي. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 107، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 125 - 126. (4) ما بين قوسين سقط من (ق). (5) في (م): لم يشرط. (6) في (م): تصرفهما. (7) انظر: مختصر المزني ص 109، الإقناع ص 107. (8) في (ق): خلطاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1145 وإنما شرطنا أن يكون العمل والربح على قدر رؤوس الأموال خلافًا لأبي حنيفة في قوله: يجوز أن يخرج أحدهما ألفًا والآخر ألفين ويعملا بالمال على أن الربح بينهما نصفين (1)، لأنَّه قد ثبت أن عقد الشركة يوجب في جهة (2) كل واحد من الشركين قسطًا من الربح والخسران ثم اتفقا على أن أحدهما لو شرط على الآخر جزءًا من الخسران أن ينفرد به كان ذلك غير جائز كذلك إذا شرط جزءًا من الربح بعلة أنهما ثمرتا مال الشركة، فوجب تساويهما فيه بقدر المال، ولأن الربح ثمنه المال والمال أصله، فوجب أن يتقسط بين الشريكين على قدر الملك كأجرة العقار. فصل [2 - وجوب التساوي في العمل على قدر رؤوس الأموال]: وإنما قلنا في العمل: إنه يجب التساوي فيه على قدر رؤوس الأموال كالربح لما ذكرناه في الربح، ولأن اشتراط الزيادة استئجار من مشترطها للآخر بفضل ربح ماله وذلك غرر، ولأن كل واحد ترك العمل (يستحق عليه بحق الشركة بما بذله من فضل ربح ماله كما لو شرط العمل) (3) على صاحب الألفين والربح بينهما نصفين، أو شرط أكثر الربح للذي لا يعمل وأقله للذي يعمل. وإنما قلنا: شركة المفاوضة جائزة خلافًا للشافعي (4)، لأن تقدير الشركة أنهما أخرجا المالين ثم وكل كل واحد منهما الآخر في التصرف فيه على الإطلاق وذلك جائز (5)، ولأن شركة المفاوضة تتضمن الوكالة والكفالة وتعلق الوكالة بها كتعلقها بالعنان لكن (6) تزيد المفاوضة بالكفالة فيما يثبت لأحدهما قبل   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 107، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 125. (2) في (م): وجب في وجهه. (3) ما بين قوسين سقط من (م). (4) انظر: مختصر المزني ص 109، الإقناع ص 108. (5) في (م): غير جائز. (6) في (ق): كما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1146 صاحبه من الحقوق والضمان يصح في الذمة لمجهول، كمن استهلك شيئًا لمن لا يعرفه. وإنما قلنا: إنه يجوز أن ينفرد أحدهما بمال لا يدخله في الشركة وإن تفاضل رؤوس الأموال، خلافًا لأبي حنيفة في منعه كل ذلك (1)، وقوله: إن موضوع (2) المفاوضة يقتضي التساوي؛ لأن كل شركة جازت مع تساوي رؤوس الأموال جازت مع اختلافهما كالعنان، ولأنها شركة بمال في مكسب مباح فوجب أن يستوي في الجواز استواء المالين واختلافهما كالعنان، ولأن عقد (3) الشركة هو بيع نصيب (4) أحدهما بقسطه من نصيب الآخر وتوكيل أحدهما الآخر في التصرف وذلك لا يفتقر إلى تساوي المالين. وإنما قلنا: إن شركة الوجوه باطلة وهو أن يشتركا بغير مال بل بالذمم (5) مثل أن يشتريا شيئًا في ذممهما (6) على أن يبيعان ويقتسما ربحه (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)؛ لأنها شركة بغير مال ولا صناعة فلم تصح أصله إذا قال: بع عبدك وأنا شريكك في ثمنه أو ابتع ما تبتاعه ولي نصف ربحه، ولأنه كل واحد يستعير وجه صاحبه ووجهه (9) أو مستأجر له بشرط ضمان النقصان ورجاء الربح وذلك من الغرر وأكل المال بالباطل، ولأن كل واحد يصير بائعًا لنصف ما يشتري الآخر ونصف ربحه وذلك غرر ومجهول.   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 107، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 122. (2) في (ق): أن موضع. (3) في (م): بيع. (4) نصيب: سقطت من (م). (5) في (م): بالدرهم. (6) في (م): في ذمتهما. (7) في (ق): يقتسماه. (8) انظر: المراجع السابقة. (9) في (م): وجاهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1147 وإنما قلنا: إن (1) شركة الأبدان في الجملة جائزة -خلافًا للشافعي (2) لأن العمل مما يجوز المضاربة عليه فجازت الشركة عليه من جهتهما كالمال، ولأنه أحد أصلي عقد القراض كالمال، ولأن المقصود من شركة المال هو العمل بدليل أن نماء المال واستحقاق الربح يكون على العمل وأنهما لو شرطا (3) العمل على أحدهما لم يجز، ولو شرطا المال من عند أحدهما والعمل من الآخر لجاز ولكان مضاربة، وإذا صح هذا وجب متى اشتركا في عمل البدن أن يصح لإيقاعهما العقد على الوجه الذي له يقصد وهو الأصل فيه، ولأن العمل نوع من الشركة فصح أن يكون من جهة (4) أحد الشريكين ويستحق به الربح بدليل المضاربة، وكل ما جاز أن يستفاد به الربح في حق أحدهما جاز أن يشتركا عليه كالمال. وإنما أجزناها -في الاصطياد والاحتطاب خلافًا لأبي حنيفة (5)؛ لأنه عمل مباح يكسبه فجازت الشركة فيه كالخياطة، ولأن الحاجة داعية إلى التعاون على ذلك كسائر الصنائع (6). فصل [3 - اشتراط الاتفاق في الصنعة المشتركة]: وإنما شرطنا الاتفاق في الصنعة المشتركة خلافًا لأبي حنيفة في تجويزه شركة القصار والدباغ (7)؛ لأن أحدهما لا وفق (8) له في مشاركة الآخر فلا حاجة به   (1) في (م): وأما. (2) انظر: مختصر المزني ص 107، الإقناع ص 108. (3) في (م): وأننا لو شرطنا. (4) جهة: سقطت من (م). (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 107، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 129. (6) في (م): كسائر الاشتراك. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 107، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 127 - 128. (8) في (ق): لا وفق له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1148 إلى معاونته ولا تعلق لكسبه بعمله، فإنما قصد الغرر والقمار فقط فلأن كل واحد منهما يشارك الآخر فيما ينفرد بكسبه ليشاركه الآخر في مثل ذلك فلم يصح، أصله إذا قال: اعتبر في مالك لنفسك واتجر أنا في مالي لنفسي فما ربحت ذلك نصفه وما ربحت أنت فلي نصفه، وإنما شرطنا أن يكونا في موضع واحد لأن التساوي في العمل لما كان معتبرًا وكان لا يمكن الرفق والمعاونة إلا على هذا الوجه وجب اعتباره. وإنما أجزنا الشركة بالعروض وصفتها: أن يخرج أحدهما ثوبًا والآخر ثوبًا أو عرضا (1) غيره، ويعقدا الشركة بينهما على أن يكون الربح بقدر رأس المال فيصح عندنا وإن لم يذكر أثمانًا ولا قالا: أن ثمن هذا الثوب كذا وثمن هذا الآخر كذا، وإذا سكتا عن ذلك انعقدت الشركة بينهما على قيمة العروض فيكون رأس مال كل واحد قيمة عرضه وسواء كانت العروض مما يتميز أعيانها الثياب والدراهم السود مع البيض، أو مما لا يتميز كالحنطة والعسل، وقال الشافعي: إن كانت الشركة على أثمان العروض صحت (2) مثل أتى يقول أحدهما: ثمن عرضي مائة، ويقول الآخر: ثمن عرضي مائتان فيعقدا الشركة على ذلك ويكون رأس المال ثمن العرضين، فأما إن سكتا فينظر: إن كان العرضان لا يعرفان بأعيانها ولا يتميزان بالخلطة، فإن الشركة تصح بينهما، وإن كانت مما يتميز كالثياب وغيرها فلا تصح مع سكوتهما، ودليلنا على جواز الشركة بالعروض على الوجه الذي قدرناه (3) قوله تعالى {أوفوا بالعقود} (4) ولأن العروض أعيان أموال، فجازت الشركة فيها وإن لم يسميا أثمانها اعتبارًا بما لا يتميز. ...   (1) في (ق): أو عوضا. (2) انظر: مختصر المزني ص 109، الإقناع ص 107. (3) في (ق): جوزناه. (4) سورة المائدة، الآية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1149 (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (1) كتاب الرهون الأصل في جواز الرهن (2) قوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" (4) وقوله: "الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" (5)، وقوله: "الرهن محلوب ومركوب" (6)، ولأنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير أخذه لأهله (7)، ولأنه وثيقة بالحق كالكفالة، ولأن الحق يتعلق تارة بالذمة وتارة بعين المال (8)، فوجب أن يكون التوثيق منه بمنزلته في تعلقه بالأمرين.   (1) ما بين قوسين سقطت من (م). (2) الرهن في اللغة: قال ابن فارس: الراء والهاء والنون أصل يدل على ثبات شيء يمسك بحق أو غيره (معجم مقاييس اللغة: 2/ 452)، وفي الاصطلاح قال ابن عرفة: الرهن مال قبضه توثق به في دين (الرصاع على ابن عرفة ص 304). (3) سورة البقرة، الآية: 283. (4) و (5) أخرجه ابن ماجه في الرهون، باب: لا يغلق الرهن: 2/ 816، وفي إسناده محمَّد بن حميد الرازي مختلف فيه، كما أخرجه الدارقطني: 3/ 32، والبيهقي: 6/ 39، وابن حبان والحاكم: 2/ 51، وقال: حديث صحيح (انظر نصب الراية: 4/ 320). (6) أخرجه الدارقطني: 3/ 34، وابن عدي في الكامل: 1/ 272، والبيهقي: 6/ 38، والصحيح أنه مرفوع وأعله بعضهم بالوقف وأخرجه الحاكم: 2/ 58، وقال: صحيح على شرط الشيخين (انظر: تلخيص الحبير: 3/ 36). (7) أخرجه البخاري في الرهن، باب: من رهن درعه: 3/ 115. (8) في (ق): وتارة بالمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1151 مسألة [1 - جواز الرهن في الحضر والسفر]: الرهن جائز في الحضر والسفر (1) خلافًا لمن قصره على السفر (2)، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على شعير أخذه لأهله (3)، وهذا رهن في الحضر واعتبارًا بالسفر لأن الحاجة تدعو إليه في الموضعين، ولأن كل وثيقة جاز أن يستوثق بها في السفر جاز أن يستوثق بها في الحضر كالضمين (4). مسألة [2 - الدين الذي يجوز أخذ الرهن به]: كل دين لازم أمكن استيفاؤه من ثمن الرهن فإن أخذ الرهن به جائز خلافًا لمن حكي عنه أنه لا يجوز إلا في السلم (5)، لقوله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} (6)، وروي أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي على شعير اقترضه (7)، ولأنه دين لازم تمكن أخذه ثمن الرهن كالسلم. فصل [3 - وجوب بيان ما يصح أخذ الرهن عليه]: إذا ثبت فيجب بيان ما يصح أخذ الرهن عليه من ذلك الأثمان في البياعات إلا الصرف والسلم المتعلق بالذمة، فإن الصرف من شرطه التقابض عقيب العقد ورأس المال في السلم لا يجوز أن يكون دينًا لأنه يكون دينا بدين، فأما   (1) في الرهن انظر: الموطأ: 2/ 728 - 723، المدونة: 4/ 151 وما بعدها، التفريع: 2/ 258 - 267، الرسالة ص 231، الكافي ص 410 - 412. (2) قال مجاهد: ليس الرهن إلا في السفر (المغني: 4/ 362). (3) أخرجه البخاري في الرهن، باب: الرهن عند اليهود وغيرهم: 3/ 116، ومسلم في المساقاة، باب: الرهن في الحضر والسفر: 3/ 1226. (4) في (ق): كالتضمين. (5) قاله زفر. (6) سورة البقرة، الآية: 283. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1152 المسلم فيه (1) المتعلق بالذمة إلى الأمل فيجوز أخذ الرهن به، وكذلك القرض والغصب وقيم السلع المتلفات وأروش الجنايات في الأموال (2)، وفي جراح العمد الذي لا قود فيه كالمأمومة والجائفة، فأما قبل العمد والجراح التي لا يقاد منها فعلى قول مالك أنه ليس فيها إلا القود لا يجوز أخذ الرهن بها لأن الحق لا يمكن استيفاؤه منه، وعلى قوله: أن الواجب به التخيير بين القود والدية، فإذا لزمت الدية جاز أخذ الرهن بها، ويجوز في قتل الخطأ أخذ الرهن ممن تتعين الدية (3) عليه من العاقلة وذلك بعد الحول ويجوز في العارية التي يضمن أخذ الرهن فيها (4) ويجوز فيما لا يضمن منها، ويجوز أخذ الرهن في الأجرة على الإجارة كالثمن في البياعات وفي المنافع المستأجرة عليها المضمونة في الذمة دون الأعيان، وكذلك الجعل بعد العمل لأنه قد لزم ولا يجوز قبله، ويجوز الرهن في المهر، ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة. مسألة [4 - في صحة عقد الرهن من غير قبض]: يصح عقد الرهن من غير قبض لكن القبض شرط في صحته، فإذا عقد الرهن صح ولزم الإقباض، فإن امتنع الراهن منه أجبر على ذلك، ولا يبطل العقد بتأخير القبض ما لم يكن من المرتهن تراخ في المطالبة به ورضا بتركه في يد الراهن (5)، وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا عقداه من غير قبض فهو جائز وليس بلازم، فإن شاء الراهن قبضه ولزم وإلا فله ألا يقبضه ولا يلزم (6)، ودليلنا قوله: {فرهانٌ مقبوضة} (7) وليس يخلو أن يكون شرطًا أو أمرًا وأيًّا   (1) في (ق): فأما السلم. (2) في (م): المال. (3) الدية: سقطت من (م). (4) فيها: سقطت من (ق). (5) انظر: المدونة: 4/ 151، التفريع: 2/ 263، الرسالة ص 231، الكافي ص 410. (6) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 55، الإقناع ص 101. (7) سورة البقرة، الآية: 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1153 كان ذلك فالعقد حاصل وإن لم يوجد وكذلك الاسم، ولأنه عقد من العقود فلم يكن من شرط انعقاده قبض المعقود عليه أصله سائر العقود، ولأنه عقد لازم فوجب أن يلزم بنفس انعقاده كالبيع. فصل [5 - إذا تعلق بمال الغريم حقوق الغرماء وثبت أنه رهن شيئًا لبعضهم]: وإذا تعلق بمال الغريم حقوق الغرماء وثبت أنه كان رهن شيئًا من ماله لبعضهم وأقر أنه أقبضه إياه فلا يقبل إلا ببينة تشهد بمعاينة القبض (1) خلافًا للشافعي في قوله: أنه يكفي التقارر في ذلك (2)، لأن إقرار المقرر على نفسه إنما يقبل فيما لا يسقط حق غيره ويمكن أن يكونا قد تراضيا على الإقرار بذلك ليسقط حق باقي الغرماء فلم يقبل إلا بشهادة البينة عليه. فصل [6 - اشتراط استدامة القبض في صحة الرهن]: استدامة القبض شرط في صحة الرهن فمتى حصل مقبوضًا ثم عاد إلى يد الراهن برضا من المرتهن باستخدام أو بعارية أو وديعة أو غير ذلك فقد خرج من الرهن (3) خلافًا للشافعي (4)، لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} (5)، فعم سائر أحوالها، ولأنها حال من أحوال الرهن فكانت (6) تبقيته في يد الراهن باختيار المرتهن مخرجه له عن الرهن أصله الابتداء. فصل [7 - في عقد الرهن قبل وجوب الحق]: يصح عقد الرهن قبل وجوب الحق، فإذا وجب الحق كان رهنًا به بذلك العقد ولا يحتاج إلى استئناف عقد ثان، وكذلك يصح تقدم الضمان على الحق   (1) انظر: المدونة: 4/ 157 - 158، التفريع: 2/ 264، الكافي ص 415. (2) انظر: الأم: 3/ 176 - 178، مختصر المزني ص 95 - 97 - 98. (3) انظر: التفريع: 2/ 263، الرسالة ص 231، الكافي ص410. (4) انظر: الأم: 3/ 139 - 141، مختصر المزني ص 93 - 94. (5) سورة البقرة، الآية: 283. (6) في (م): فكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1154 المضمون (1)، وقال الشافعي: لا يصح (2)، ودليلنا قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} (3) فعم، ولأنه أذن له في قبضه على وجه الأمانة والضمان فصح كالوديعة والقضاء إذا قال له اقبض ما يجيئك به فلان من متاعي وديعة لي عندك أو خذ هذا الكيس فاقبض منه حقك. فصل [8 - وضع الرهن عند أمين]: يجوز أن يتفقا على أن يكون الرهن عند أمين يتراضيان به وإن لم يقبضه (4) المرتهن (5)، خلافًا لمن قال: لا يصح إلا إذا قبضه المرتهن بنفسه (6)، لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} (7) معناه من الراهن وهذا موجود، ولأنه مقبوض من الراهن بحق (8) برضا المرتهن فأشبه أن يقبضه بنفسه. فصل [9 - في جواز رهن المشاع]: يصح رهن المشاع (9) خلافًا لأبي حنيفة (10)؛ لأنهم إن سلموا أن قبضه يصح فالظاهر يتناوله لقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} (11)، وإن منعوه دللنا عليه بأن صفة القبض متساوية لا تختلف باختلاف ما يوجبه من كونه بيعًا أو رهنًا،   (1) انظر: الكافي ص 410. (2) انظر: الأم: 3/ 145، مختصر المزني ص 93. (3) سورة البقرة، الآية: 283. (4) في (م): يقبضا. (5) انظر: المدونة: 4/ 152، الرسالة ص 231، الكافي ص 410. (6) قاله الحكم والحارث العكلي وقتادة وابن أبي ليلى (انظر المغني: 4/ 288). (7) سورة البقرة، الآية: 283. (8) في (م): نحو. (9) انظر: المدونة: 4/ 151، 153، التفريع: 2/ 262، الكافي ص 410. (10) انظر: مختصر الطحاوي ص 92، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 56. (11) سورة البقرة، الآية: 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1155 وقد ثبت أن بيع المشاع جائز وأن بيع ما لا يمكن قبضه لا يصح وصح إن كان (1) قبضه (2) ممكن، ولأنه (3) مما يصح قبضه بالبيع فصح ارتهانه كالمقسوم، ولأن الإشاعة (4) لا تمنع صحة الرهن كما لو رهن دارًا من رجلين في عقد واحد. فصل [10 - في باقي المشاع المرهون]: إذا ثبت أن رهن المشاع جائز ولا يخلو باقيه أن يكون له أو لغيره، فإن كان للراهن لم يصح الرهن إلا أن يقبضه الكل لأنه ما لم يقبضه فيد الراهن باقيه عليه، وإن كان للمرتهن أو لأجنبي صح إذا خرجت يد الراهن عنه. فصل [11 - إذا تأخر الإقباض إلى أن مات الراهن]: إذا تأخر الإقباض إلى أن مات الراهن أو أفلس بطل الرهن (5) لأن حق جميع الغرماء يتعلق بالتركة فلا يجوز أن يختص بها بعضهم دون بعض، وإنما يكون المرتهن أحق بتقدم (6) الحيازة قبل موت الراهن وتعلق حقوق الغرماء كلهم بالمال، وهذا متي أمكن الإقبال فلم يفعل، فأما إذا لم يمكنه بأن لم يزل يطالبه بالإقباض والراهن ويوافقه إلى أن مات أو أفلس، فإن حق الراهن ثابت للمرتهن. مسألة [12 - ضمان الأشياء المرهونة]: الأشياء المرهونة: منها ما يظهر هلاكه ولا يخفى كالعقار والحيوان، فهذا الضرب لا يكون مضمونًا على المرتهن ويكون تلفه من المالك ما لم يكن من المرتهن تعد فيه، ومنها ما يخفى هلاكه وهو مما يغاب عليه ويبطن كالذهب   (1) كان: سقطت من (ق). (2) في (م): بعضه. (3) في (م): ولكنه. (4) في (م): الأمر جاز. (5) انظر: المدونة: 4/ 158، الكافي ص 410 - 411. (6) في (ق): بتقديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1156 والفضة والحلي والعروض، فهذا عندنا مضمون على المرتهن إذا قبضه فادعى تلفه يقاص به من حقه، إلا أن تقوم بينة أو يعلم الراهن أنه تلف بغير صنعة ففيها روايتان: إحداهما سقوط الضمان، والأخرى ثبوته عليه وإن شرط فيما يضمن ألا ضمان عليه لم ينفعه، وإن شرط فيما لا يضمن أن عليه ضمانه لم يلزمه، وإذا كان الرهن على يد أمين لم يضمن المرتهن هلاكه وكان هلاكه من ربه (1). فصل [13 - وجه التفريق بين ما يخفى هلاكه وبين ما يظهر]: وإنما فرقنا بين ما يخفى هلاكه وبين ما يظهر خلافًا لأبي حنيفة في إيجابه الضمان في الجميع (2)، (وخلافًا للشافعي في إسقاط الضمان في الجميع (3)) (4) وقوله: إنه أمانة كالوديعة؛ لأن الرهن ليس بجارٍ مجرى الأمانات المحضة ولا مجرى المضمون المحض لأنه قد أخذ شبهًا من الأمرين فلم يكن له حكم أحدهما على التحديد، وذلك أن الأمانة المحضة هي ما لا نفع فيه لقابضه بل النفع كله للمالك كالوديعة، والمضمون المحض هو ما يكون نفعه كله لقابضه كالمشتري أو بتعد أو جناية (5)، وما خرج عن هذا وأخذ شبهًا من الأمرين ترجح الأمر فيه ولم يكن له حكم المحض منهما، وفي مسألتنا فلم (6) يكن تعد ولا جنابة (7) فيضمن، ولا مما ينفرد المالك بالمنفعة به فيسقط الضمان عن المرتهن بل المنفعة لهما: للمالك بأن حصل له ما ابتاعه أو ملك وبقي (8) الدين في ذمة لأجل الرهن   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: الموطأ: 2/ 731 - 732، المدونة: 4/ 155، التفريع: 2/ 259، الرسالة ص 231، الكافي ص 412 - 413. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 94 - 95، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 56 - 57. (3) انظر: الأم: 3/ 167، 176، مختصر المزني ص 101، الإقناع ص 101. (4) ما بين قوسين سقط من (ق). (5) في (م): خيانة. (6) في (م): خا لم. (7) في (م): خيانة. (8) في (ق): هي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1157 ولولاه لم يملكه فقد انتفع له وللمرتهن بحصول التوثق به فلم بقبضه لمالكه، كالوديعة وإنما قبضه ليكون على وثيقة بحقه، وإذا أخذ شبهًا من الأمرين لم يجز أن ينفرد بحكم أحدهما على التحديد (1) فيجب الفصل بينه وبينها وفي ذلك ثبوت ما قلناه (2) لأن أحدًا لم يفصل بينهما بما سواه. ووجه قوله: إنه إذا قامت بينة بهلاكه أو علم بأنه من غير صنعة (3) فلا ضمان عليه إذ سبب الضمان معدوم لأنه إنما يضمن لئلا يكون قد أتلفه وادعى أنه تلف بغير صنعة (4)، فإذا علم صدقه فلا ضمان ألا ترى أن العرف لما كان يشهد له فيما يظهر تلفه قبل قوله ولم يضمنه، ووجه إيجاب الضمان أن أصله مقبوض على ذلك فلا ينتفي عنه حسمًا للباب، والأول أصح. فصل [14 - الضمان بقيمة الرهن والمقاصة به]: وإنما قلنا: يضمن بقيمته ويقاص به من دينه لأن الضمان يتعلق بما حصل في قبضه، فإن جاء به وإلا فعليه بدله وهو القيمة، وإذا قلنا: يقاص به من دينه لأن رب الرهن قد استحق في ذمة المرتهن حقًّا فلم يكن لأحدهما مطالبة الآخر بما يستحقه إلا ويتوجه للآخر عليه مثل ذلك، فوجب القصاص وترادا الفضل بينهما، فإن كان فيه فضل عن الحق غرمه المرتهن، وإن كان أقل منه لزم (5) الراهن بقية الحق، وإن كان بقدره كان قِصاصًا. فصل [15 - إذا شرط في الرهن خلاف موجبه]: وإنما قلنا: إذا شرط (في نوع منه خلاف موجبه لم ينفعه لأنّه شرط) (6)   (1) في (ق): التجريد. (2) في (م): ما قلنا به. (3) في (م): صيغته. (4) في (م): صيغة. (5) في (م): وإن إقامته لرهن الراهن. (6) ما بين قوسين سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1158 ينافي حكم أصل العقد فلم يثبت، أصله إذا شرط في الوديعة أنه ضامن أو شرط (في القرض أنه غير ضامن، ولأن ما يلزم العقد ويكون هو أصل في) (1) قبضه إذا شرط فيه انتفاؤه لم يصح كما لو شرط في النكاح أنه لا يطأ وفي البيع أنه لا يتصرف في المبيع. فصل [16 - تلف الرهن على يد أمين]: وإنما قلنا: أن الرهن إذا كان على يد أمين: فإن تلفه من ربه لأن المرتهن إنما يضمنه بالقبض والحوز وهذا معدوم، والأمين هو في يده أمانة لأنه قبضه لمنفعة غيره لا لمنفعة نفسه فلم يضمنه، ولأن ربه لم يرض بأمانة المرتهن فلم يكن له عليه سبيل. فصل [17 - في تلف الرهن المضمون في يد المرتهن]: إذا ثبت ما ذكرناه فتلف الرهن المضمون في يد المرتهن: فإن اتفقا على قيمته وقدر الدين فلا كلام، وإن اختلفا لم يخلو اختلافهما أن يكون في قدر الحق أو في قيمة الرهن أو فيهما: فإن كان في قيمة الرهن وصفة المرتهن وقوّم على صفته فإن وافقه الراهن على صفته قوّم على تلك الصفة، فإن خالفه فالقول قول المرتهن مع يمينه في ذلك لأنه غارم، والأصول موضوعة على أن القول قول الغارم مع يمينه، فإذا قومه أهل الخبرة على الصفة التي حلف عليها المرتهن حط مقدار دينه من القيمة وأخذ فضلًا إن بقي له أو رجع عليه بفضل إن بقي عليه، فإن امتنع المرتهن أن يحلف على الصفة التي ادعاها ثم ردت اليمين على الراهن فحلف على ما يدعيه من الصفة ثم قُوِّم الرهن على صفته، وإن جهلت صفته حلف المرتهن على قيمته فقط لأنه لا يوصل إلى أكثر من ذلك، ومن ادعى منهما في الصفة ما يكذبه العرف لم يتلفت إلى دعواه، فأما إن اتفقا على صفته واختلفا في قدر الحق الذي رهن به: فإن المرتهن يحلف على ما يدعيه ثم يثبت   (1) ما بين قوسين سقط من (م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1159 له منه قدر قيمة الرهن (1)، ويقال للراهن: إما أن تحلف على ما يدعيه ويسقط عنك قدر ما زاد على قيمة الرهن، وإلا لزمك ما حلف عليه المرتهن، وكذلك لو كان الرهن قائمًا بحاله. وإنما قلنا ذلك لأن المرتهن إذا قبض الرهن وحازه صار شاهدًا له بقدر ما يدعيه لأن العادة جارية بأن الناس إنما يرتهنون ما يساوي ديونهم أو يقاربها لا ما لا يفي (2) بها، فإذا ادعى أحدهما ما يصدقه العرف وادعى الآخر ما يكذبه العرف كانت اليمين في جنبة (3) ما يصدقه العرف، ولأن أحدًا لا يرتهن على ألف درهم ما يساوي عشرين درهمًا ولا على عشرين درهمًا (4) ما يساوي مائتين (5). وإنما شرطنا أن يكون في يد المرتهن لأنه إذا كان في يد أمين سواه، فإذا الراهن لم يرد ائتمانه عليه ولا أن يكون الرهن شاهدًا له بدعواه، فكان القول قول المدعي عليه منهما (6) مع يمينه، فأما إذا كان الخلاف في أصل هلاك الرهن فادعى المرتهن هلاكه وكذبه الراهن فزعم أنه غيبه وأنه باق بحاله: فإن المرتهن يحلف على أنه قد هلك ثم يكون الحكم في الصفة والتقويم على ما وصفناه. فصل [18 - إذا اختلفا على عين رهن]: إذا اختلفا على عين رهن (7): فقال الراهن: ليس هذا رهن، وقال المرتهن هذا الذي رهنته عندي، فالقول قول المرتهن لأن المرتهن مؤتمن على عين الرهن، فالراهن يريد تضمينه وإثبات دعوى (8) عليه لا يعترف بها، ولأنه لما   (1) في (م): الراهن. (2) في (م): لا ما بقي. (3) في (م): في جنبه. (4) درهمًا: سقطت من (ق). (5) في (م): مائتي درهم. (6) منهما: سقطت من (م). (7) في (م): الراهن. (8) في (م): دعواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1160 رضي بأمانته وأن يكون الرهن في قبضته ولم يتوثق منه بالإشهاد على عينه وجب أن يكون القول قوله في ذلك (1). فصل [19 - من أقر لرجل بسلعة في يده وادعى أنه رهنها]: ومن أقر (2) لرجل بسلعة في يده وادعى أنه رهنها منه على حق له عليه وأنكر ربها أن يكون رهنها منه وأنكر الدين (3)، فالقول قول رب السلعة مع يمينه (4) لأن الذي هي في يده معترفًا له بها ويدعى تعلق من له بعينها فلا يقبل منه إلا ببينة، ولا يكفي في ذلك كونها بيده لأن ذلك لا يوجب تعلق حقه بها. مسألة [20 - في نماء الرهن]: نماء الرهن على ضربين: أعيان وغير أعيان، فغير الأعيان لا يدخل مع الرهن في كونه رهنًا مع أصله، وذلك مثل الأجرة والغلة وما أشبه ذلك. والأعيان ضربان: منها ما ينفصل ويتميز عن الأصل، ومنها ما لا يتميز، فالذي لا يتميز هو مثل كبر الصغير وسمن المهزول هذا لا خلاف أن حكمه حكم العين المرهونة، والمتميز نوعان: نوع منه نسل أو ما يجري مجرى النسل في الحكم فهذا يكون رهنًا مع الأصل كولد الأَمَة والدابة وفسيل النخل (5) وفراخ الشجر، والنوع الآخر لا يوصف بذلك فلا يكون رهنًا مع أصله كثمار النخل والشجر وألبان الماشية وأصوافها وما أشبه ذلك (6). وإنما قلنا: إن الأجرة والغلة لا يكونان رهنًا لأنهما أعيان منفصلة عن الرهن لا   (1) انظر: المدونة: 4/ 167، التفريع: 2/ 264، الكافي ص 413 - 414. (2) في (م): أقره. (3) في (م): وأنكر الدين واعترف به. (4) انظر: التفريع: 2/ 264، الكافي ص 415. (5) فسيل النخل: صغار النخل (المصباح المنير ص 473). (6) انظر: المدونة: 4/ 154، 155، التفريع: 2/ 260، الرسالة ص 331، الكافي ص 412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1161 يكون حكمها حكم الأصل فيما يعقد عليه من عقود المنافع والإجارات فلم يدخل معه في الرهن لأن ذلك غلة وخراج والرهن تناول العين دون المنافع، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن ممن رهنه له غنمه" (1)، وذلك يفيد أنه منفرد به لا يتعلق لغيره حق فيه. فصل [21 - في حكم النماء الذي لا يتميز]: وإنما قلنا: أن ما لا يتميز مثل السمن والكبر حكمه حكم الأصل لأنه نفس العين ليس بعين زائدة عليها، ولأنه لو نقص من العين لم يكن له حكم فكذلك إذا طرأ دون منافعها، فإنه يسري إلى ولدها أصله ولد أم ولد (وولد المدبرة، ولأن الأصول موضوعة على أن كل حكم يثبت في الأمهات فإن الولد يتبع أمه فيه من ذلك الزكاة وولد أم الولد) (2)، والمعتق نصفه وإلى أجل والمدبرة والمكاتبة، فكذلك حكم الرهن، ولأنه نماء من جنس الرهن ومن خلقته وصورته كنماء المتصل به، وإنما قلنا: إن الثمن وغيره من خراجه ليس برهن معه خلافًا لأبي حنفية (3) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" (4) وهذه الإضافة تفيد إفراده ونفي الشركة عنه، ولقوله: "الرهن محلوب وركوب" (5)، وفائده ذلك استحقاق الراهن لما يحلب (6) منه ولأجرة ركوبه، ولأنه نماء مميز (7) عن الأصل مخالف له بالخلق والصورة كالكسب أو لأنه نماء من غير جنسه كالأجرة.   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1151). (2) ما سبق قوسين سقط من (م) (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 94، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 62. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1151). (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1151). (6) في (م): يجلب منه. (7) في (م): مميز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1162 فصل [22 - نفقة الرهن]: نفقة الرهن على راهنه (1) لأن الذي للمرتهن فيه حق التوثيق وذلك لا يستحق به نفقة عليه كالكفارة، ومنافعته وخراجه له دون مرتهنه لأنه على ملكه وإنما للمرتهن منه حق التوثق وهو أخذ دينه ثمنه عند تعذر أدائه. فصل [23 - إذا غصب عينًا ثم رهنها مالكها منه]: إذا غصب عينًا فهي مضمونة عليه بالغصب، ويصح أن يرهنها مالكها منه وهي في يده قبل أن يقبضها من الغاصب، فإذا رهنها منه صارت مضمونة عليه بالرهن إن كانت مما يضمن بالرهن وزال (2) ضمان الغصب (3) خلافًا للشافعي في قوله: أنه لا يزول ضمان (4) الغصب (5) وإن كان رهنًا؛ لأنه عقد يقتضي إمساك العين بإذن المالك فوجب أن ينتفي حكم الغصب حال حصوله كالوديعة، ولأن ابتداء إمساك العين بإذن مالكها يمنع أن تكون مضمونة ضمان الغصب أصله إذا ابتدأ إرهان شيء عنده ابتداء، وإذا أقبضه منه ثم أعاده إليه، ولأن الرهن عقد يتعلق به الضمان، فإذا طرأ على الغصب سقط به ضمان الغصب أصله البيع. فصل [24 - في تعلق الرهن بجملة الحق وأبعاضه]: الرهن يتعلق بجملة الحق وأبعاضه، وفائدة ذلك أن يرهنه عبدين على ألف درهم فيقبض منها تسعمائة: فإن العبدين يبقيان رهنًا بالمائة الباقية ولا يستحق على المرتهن (6) بتسليمهما ولا تسليم واحد منهما، وكذلك لو أقبضه العبدين فتلف أحدهما كان الباقي رهنًا بجميع الدين، وكذلك لو كان الرهن مما ينقسم   (1) انظر: المدونة: 4/ 161، التفريع: 2/ 260، الكافي ص 412. (2) في (ق): زوال. (3) انظر: المدونة: 4/ 174، الكافي ص 411 - 412. (4) ضمان: سقطت من (ق). (5) انظر: الأم: 3/ 254 - 256، مختصر المزني ص 101، 108، الإقناع ص101. (6) في (م): الراهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1163 مثل أن يرهنه كرين من حنطة على مائة درهم فيقبض خمسين درهمًا فلا يستحق عليه أن يرد من الرهن بقدر ما في مقابلة الحق (1) خلافًا لمن ذهب إلى أنه يستحق رد ما أدى بقدره (2)، ولأن الرهن مال محبوس بحق فوجب أن يكون محبوسا بكل حق منه أصله لو مات وعليه دين وخلف تركة، فإن بيعها محبوس بحق فوجب أن يكون محبوسًا بكل حق منه أصله لو مات وعليه دين وخلف تركة، فإن بيعها محبوس على الدين، (ولا يستحق الورثة منها شيئًا إلا بأداء جميع الدين) (3)، ولأنه وثيقة بحق فوجب أن يكون وثيقة به وكل جزء منه أصله الضمان. فصل [25 - فيمن أراد أخذ زيادة على حقه ويكون على حقه ويكون الرهن بها]: إذا رهنه رهنًا بحق له (4) ثم أراد أن يأخذ زيادة على ذلك الحق ويكون الرهن رهنًا بها جميعًا جاز (5) خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (6) أنه يكون رهنًا بالحق الأول دون الثاني؛ لأنه وثيقة بالحق، فإذا اشتغلت بحق جاز أن يشتغل بحق آخر مع بقاء شغلها بالحق الأول كالضمين (7)، ولأنها زيادة في التراهن (8) في حق المتراضين كالزيادة في الرهن لأنه حق تعلق بعين (9) يستوفي   (1) انظر: المدونة: 4/ 159، التفريع: 2/ 266، الكافي ص 414. (2) لم أقف على من قال بذلك، بل كلام صاحب المغني يفيد الإجماع عليها (انظر: المغني: 4/ 399). (3) ما بين قوسين سقط من (م). (4) في (م): يحق له عليه. (5) انظر: التفريع: 2/ 262 - 263، الكافي ص 414 - 416. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 93، الأم: 3/ 161. (7) في (م): دون الثاني لأنه وثيقة كالضمين. (8) في (ق): الرهن. (9) في (ق): بدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1164 من ثمنها فجاز أن يزاحمه في التعلق بها حق آخر أصله أرش الجناية إذا طرأت عليه جناية أخرى. فصل [26 - في الرهن يرهن فضله من دائن ثان]: إذا رهن رهنًا على مقدار قيمته أو أقل، فأراد أن يرهن فضله من آخر فليس له ذلك إلا بإذن مرتهنه: فإن رضي جاز وإن لم يرض نظر، فإن كان الحق بقدر الرهن (1) أو قيمته أقل من قدر الحق لم يجز له ذلك، وإن كانت قيمة الرهن زيادة على قدر الحق، فأراد أن يرهن فضله فاختلف فيه: فقيل: أنه يجوز وإن لم يرض، وقيل: لا يجوز إلا بإذنه (2). وإنما قلنا: أنه لا يجوز إذا كان بقيمة الحق إلا بإذن مرتهنه لأن في ذلك رجوعًا عن الرهن، كما لو رهن عبدين ثم أراد انتزاع أحدهما وذلك لأن المرتهن الثاني يزاحم الأول في الرهن بعد تعلق حق الأول به وانفراده باستحقاقه فلم يجز إلا برضاه، وإنما قلنا: أنه يجوز بإذن المرتهن الأول على كل وجه لأن المنع من ذلك لحقه، فإذا رضي بإسقاطه لم يبق ما يمنع لأجله، ولأنه إن كان بقدر الحق فقد رضي بأن يزاحمه غيره كالمرتهن عنده عبدين، فأراد أن يرجع في أحدهما أو يرهنه من آخر: فإن المرتهن إذا رضي بذلك جاز، فإن كان بأكثر من قدر الحق كان أولى بالجواز لأن الضرر مأمون فيه ووجه القول بأنه إن رضي جاز ولا يجوز بغير إذنه لأن في ذلك إضراره ومشاركة لغيره في حقه، وذلك رجوع في الرهن، ولأنه رضي بحق، فإذا زوحم فيه لم يجز إلا بإذن من تعلق حقه به أصله إذا كان بقدر الحق، ووجه القول بأنه جائز وإن لم يأذن فلأنه لا ضرر عليه في ذلك لأن حقه تقدم على حق الآخر إنما يستحق ما فضل عن قدر حقه وليس له حق فيما زاد على قدر حقه. فصل [27 - إذا رهن عبدًا ثم أعتقه]: إذا رهن عبدًا ثم أعتقه فلا يخلو أن يكون موسرًا، فإن كان   (1) في (م): القيمة. (2) انظر: المدونة: 4/ 161، التفريع: 2/ 266، الكافي ص 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1165 موسرًا نفذ (1) عتقه وعجل (2) المرتهن حقه، وإنما قلنا ذلك لأن العتق مبني على التغليب (وفي إيقاع الراهن له رضا بتعجيل الحق لأن الرجوع في الرهن غير جائز، ولا يجوز الرجوع في العتق لقوته وإنه مبني على التغليب) (3)، فلو لم نقل أن الحق يتعجل لكان فيه رجوع الراهن عن الرهن وذلك غير جائز، فإن أراد أن يعطيه رهنًا غيره، فقيل: يجوز إلى أجل الدين قاله شيخنا أبو بكر ويشبه أن يكون برضاه، وقال ابن القاسم: ليس له ذلك وهو الصحيح لأنّه ليس له أن يتلف حقه من الوثيقة إلا بأداء الدين وإن ذلك إن جُوِّز له جاز أن يبذل الرهن بغير رضاه وذلك غير جائز، فأما إن كان الراهن معسرًا، فإن العتق لا ينفذ ويبقى دهنًا، فإن أفاد ما لا قبل الأجل نفذ العتق وعجل حق المرتهن على ما ذكرناه، وإن بقي على إعساره بيع العبد عند حلول الأجل، وقال أبو حنيفة: نفد عتقه موسرًا كان أو معسرًا (4). فدليلنا على أنه لا ينفذ مع (5) الإعسار قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} (6)، ولأنه معنى يبطل حق الوثيقة من الرهن فلم ينفذ مع الإعسار كالبيع، ودليلنا على نفوذه مع اليسار (7) لأنّه لا يبطل حق المرتهن من التوثق لأنه إما أن يعجل له حقه فذلك مقدم على التوثق أو أن يوضع له رهن مكانه، فحق التوثق باق لهذا فارق الإعسار. (8). وإنما قلنا في الإعسار أنه إذا أفاد مالًا قبل الأجل نفذ العتق وعجل المرتهن حقه   (1) في (ق): بعد. (2) في (م): وإن كان. (3) بين قوسين سقط من (م). (4) مختصر الطحاوي ص 93، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 58 - 59. (5) على أنه لا ينفذ: سقطت من (م). (6) سورة المائدة، الآية: 1. (7) في (ق): الإيسار. (8) في (م): الاعتبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1166 لأن المنع (1) من نفوذه إنما كان لحق المرتهن، فإذا زال هذا المعنى لم يبق ما يمنع العتق لأجله كاليسار، وإنما قلنا: يعجل له حقه لما بيناه من أن إعتاقه رضا بتعجيل (2) الحق، وإنما قلنا: إن بقي على إعساره بيع عند الأجل (3) لأنه باق على الرق لأن العتق لم ينفذ فحق التوثق متعلق به. فصل [28 - عدم جواز وطء الأمة بعد رهنها]: إذا رهن أمته لم يجز له وطؤها (4) لأن في ذلك إعادتها إلى قبضه (5) وتعريضًا لبطلان حق المرتهن منها لأنها قد تحمل فتكون أم ولده فلا يجوز رهنها، فإن فعل نُظر، فإن كان بإذن المرتهن بطل الرهن لأن إذنه له في التصرف رضا منه بإعادته إلى قبض الراهن، فقد بينا أن استدامة القبض من شرط صحة الرهن، وإن كان بغير إذنه فإن لم تحمل فهي رهن بحالها، وإن حملت وله مال كانت أم ولده وعجل للمرتهن حقه اعتبارًا بالعتق، وإن لم يكن له مال بيعت وقضى الحق من ثمنها اعتبارًا بالعتق المنجز، فإن كان ثمنها أقل من الحق ابتعه بالباقي في ذمته، وإن كان ثمنها أكثر بيع منها بمقدار (6) الحق وكان ما بقي بحساب أم الولد لأن الزيادة لا حق للمرتهن فيها، ولا يباع الولد بحال لأنه واطيء لأمته داخل على حرية ولده، وإن كان فيه شبهة على ما ذكرناه، فإن وطئها المرتهن فهو زان والحد لازم له والولد لا يلحق هو يكون معها رهنًا يباع ببيعها، وإنما قلنا: إنه زان لأن الوطء لا يستباح إلا بنكاح أو ملك وكل ذلك معدوم وليس بواطيء شبهة، فلذلك يلزمه ما يلزم الزاني، وقلنا: إن الولد   (1) في (م): المبيع. (2) في (ق): بتعجل. (3) في (م): على الإعسار بيع العبد للأجل. (4) انظر: المدونة: 4/ 175، التفريع: 2/ 261، الكافي ص 405. (5) في (ق): ضبطه. (6) في (م): بقدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1167 رهن (1) معها اعتبارًا بزناها بغيره، وإن وطئها بإذن الراهن وإحلالها (فذاك شبهة إن كان يظن أن مثل هذا يحيى الوطء وتلزمه قيمتها للراهن) (2) لتكامل أم ولد، وتكون أم ولده (3) إن حملت ولا تلزمه قيمة الولد لأن السيد لما أباحه وطأها صار منتفعًا بها بإذنه ودخل على أن ولده حر. فصل [29 - في غلق الرهن]: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غلق الرهن (4)، ووصفه أن يرهن منه رهنًا على أنه إن جاءه بحقه عند أجله وإلا فالرهن له، ومتى شرط ذلك لم يصح والرهن على ملك راهنه (5)، وإنما قلنا ذلك لنهيه صلى الله عليه وسلم عن غلق الرهن والنهي يقتضي الفساد، ولأنه بيع غرر ومجهول لأنه لا يعلم كيف يكون الرهن وقت أخذه ولا صفته، ولأنه تعليق بيع بصفة وعقود المعاوضة لا تقف على الصفات كقوله إذا قدم زيد بعتك سلعتي هذه. فصل [30 - منع بيع الرهن بغير إذن المرتهن]: إذا باع الراهن بغير إذن المرتهن لم يجز بيعه (6) لأن في ذلك إبطال حق الوثيقة، وإن باعه بإذنه جاز ولم يلزمه تعجيل الحق إلا بعد يمين المرتهن له أنه ما أذن له في ذلك إلا ليتعجل (7) حقه. فصل [31 - جواز توكيل الراهن المرتهن في بيع الرهن]: يصح توكيل الراهن للمرتهن في بيع الرهن وأخذ ثمنه عند حلول الأجل   (1) في (م): يرتهن. (2) ما بين قوسين سقط من (م). (3) وتكون أم ولده سقطت من (م). (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة (1151). (5) انظر: الموطأ: 2/ 728 - 729، المدونة: 4/ 164. (6) انظر: المدونة: 4/ 172، التفريع: 2/ 265، الكافي ص 414. (7) في (ق): ليعجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1168 وتعذر أداء الحق ويكون له بيعه (1) خلافاًّ للشافعي (2) اعتبارًا بتوكيل الأجنبي فإذا ثبت جوازها فإنها تكره عند مالك فيما له خطر وبال، ويجوز عند أشهب وإنما كرهت لأن بيعه عند الحاكم أحوط لهما وأحسم لدعوى الراهن محاباة المرتهن نفسه بترك الاستقصاء، وليكون أسلم للمرتهن. فصل [32 - عدم جواز فسخ وكالة الوكيل في الرهن]: فإن أراد الراهن فسخ وكالة الوكيل لم يكن له ذلك، وقال إسماعيل بن إسحاق له ذلك (3)، وهو قول الشافعي (4)، ودليلنا أن هذه الوكالة قد تعلق بها حق المرتهن وهو تولي بيع الرهن ليصل المرتهن إلى أخذ (5) حقه، وفي فسخها إبطال هذا المعنى، واعتبرها إسماعيل بسائر الوكالات وبأنها من العقود الجائزة. فصل [33 - في مال العبد المرهون]: مال العبد ليس برهن معه (6) لأنه ملك له دون السيد ما لم ينزعه السيد منه، ورهن العبد ليس بانتزاع لما له بخلاف البيع. ...   (1) انظر: التفريع: 2/ 265، الكافي ص 416. (2) انظر: الأم: 3/ 170، مختصر المزني ص 94 - 95، المهذب: 1/ 310. (3) انظر: التفريع: 2/ 265، الكافي ص 416. (4) انظر: مختصر المزني ص 94، المهذب: 1/ 310. (5) أخذ: سقطت من (م). (6) انظر: التفريع: 2/ 261، الرسالة ص 231، الكافي ص 412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1169 (بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد) (1) كتاب الحجر (2) ويحجر على الأصاغر حتى يبلغوا (3) ويؤنس منهم الرشد (4)، والأصل فيه قوله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} (5)، وقوله: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} (6)، وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} (7) الآية، ولأن الصغير لا يعرف حظه ولا يحسن التصرف في مال نفسه (8) فكان كالمجنون فوجب الحجر عليه، وأن ينظر وليه في ماله (فجعل فيه بالصلاح فإذا بلغ لم يدفع) (9) إليه دون أن يختبره ويعرف رشده (10) من فساده وإمساكه على نفسه (11) من تبذيره وإضاعته لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) الحجر: في اللغة قال ابن فارس الحاء والجيم والراء أصل واحد وهو المنع والأحاطة على الشيء، وفي الأصطلاح: صفة حكمية توجب منع موصوفها نفوذ تصرفه في الزائد على قوته أو تبرعه بزائد عن ثلث ماله - (معجم مقاييس اللغة: 2/ 138، حدود ابن عرفه- مع شرح الرصاع ص 313). (3) في م: البقرة. (4) انظر: المدونة: 4/ 105 و 115، التفريع: 2/ 256، الكافي ص 423. (5) سورة البقرة، الآية: 220. (6) سورة النساء، الآية: 6. (7) سورة النساء، الآية: 10. (8) في م: ماله. (9) ما بين قوسين سقط من ق. (10) في م: ويعرف سداده. (11) فى م: وإصلاحه لنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1171 إليهم أموالهم} (1) فعلق انفكاك (2) الحجر بالبلوغ وإيناس الرشد، وكان الحجر عليه في الصغر إنما كان لهذا المعنى فهذا بلغ فهو على تلك الحال فالحجر عليه مستحب، واعتبارًا ببلوغه مجنونًا. فصل [1 - إيناس الرشد]: إيناس الرشد الذي ينفك معه الحجر هو: إصلاح المال (3) وضبطه وترك تبذيره وإنفاقه في وجوهه، فإذا بلغ الصبي وهو بهذه الصفة انفك حجره سواء كان فاسقًا في دينه أو عدلًا (4)، خلافًا للشافعي في قوله أنه يحجر على الفاسق وإن كان مصلحًا لماله (5)، لأن الحجر في المال لمعنى يرجع إلى إضاعته وتبذيره لا إلى قلة الدين، ألا ترى أنه يبتدى الحجر على البالغ متى وجد فيه هذا المعنى كما يستدام في الصغير، وقد ثبت أن الفسق لو طرأ على الكبير لم يحجر عليه فكذلك إذا بلغ وهو موجود به، ولأنه معنى لا يؤثر في تبذير ماله ولا إضاعته فلم يوجب الحجر كسائر أفعاله وتنقله (6) في المذاهب. فصل [2 - جواز بدأ الحجر على الأكابر]: ويبتدأ الحجر على الأكابر المبذرين لأموالهم (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)؛ لأنه إجماع الصحابة روي عن عثمان وعلي والزبير (9) وابنه وعائشة رضي الله عنهم،   (1) سورة النساء، الآية: 6. (2) انفكاك: سقطت من ق. (3) في في: الحال. (4) انظر: التفريع: 2/ 256، الكافي ص 424. (5) انظر: الأم: 3/ 215، مختصر المزني ص 105، الإقناع ص 104. (6) في ق: ونتلقه. (7) انظر: التفريع 2/ 256، - الكافي ص423 - 424. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 97، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 68. (9) الزبير: بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله القرشي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة قتل سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من وقعة الجمل (تقريب التهذيب ص 214). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1172 وذلك أن عبد الله بن جعفر (1) اشترى أرضًا (سبخة بمال عظيم غبن فيه) (2) فقال علي رضوان الله عليه: قم لأحجر عليك، فشكى (عبد الله إلى الزبير فقال: أنا شريكه) (3) فحمله علي إلى عثمان فطلب منه أن يحجر عليه فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير (4)، وهذا يدل على استحقاق الحجر لولا أن شريكه ضابط لا يخاف منه الدخول فيما يتلف ماله ولم يظهر لهم مخالف، ولأن كل من في منعه من ماله صلاح له وفي تركه معه إتلافه وإضاعة له (5) وخوف الفقر عليه فإن الحجر عليه مستحق أصله الصغير، ولأن البلوغ لا يمنع الحجر مع تبذير المال وإضاعته أصله إذا بلغ مبذرًا. فصل [3 - انفكاك الحجر عن الصغيرة]: لا ينفك الحجر عن الصغيرة حتى تبلغ وتتزوج ويدخل بها زوجها وتكون مصلحة لمالها (6)، خلافًا لأبي حنيفة (7) والشافعي (8) في قولهما إن الحجر يفك عنها بمجرد البلوغ وإيناس الرشد من غير حاجة إلى الزواج (9)، لأنها بالبلوغ لم تخبر الرجال ولا عرفت المعاملات ولا تقف (10) على إصلاح المال ووجوه الغبن فكان الحجر عليها مستصحبًا حتى إذا دخل بها الزوج وعرفت الرجال وما يراد منها وبرز وجهها وعرفت المعاملات وعلم منها ضبطها لمالها فك حجرها وهذا هو الفرق بينها وبين الغلام.   (1) عبد الله بن جعفر: بن أبي طالب الهاشمي أحد الأجواد ولد بأرض الحبشة وله صحبة، مات سنة ثمانين وهو ابن ثمانين. (تقريب التهذيب ص 298). (2) و (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) أخرجه البيهقي: 6/ 61. (5) في م: إضاعته. (6) انظر: التفريع: 2/ 256، الكافي ص 423، المقدمات: 2/ 345. (7) لأبي حنيفة: سقطت من م. (8) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني 2/ 71، مختصر المزني ص 105. (9) في م: زوج. (10) في م: ولا وقفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1173 فصل [4 - في حد البلوغ]: حد البلوغ في الذكور: الاحتلام أو الأنبات أو أن يبلغ من السنن ما يعلم أن من بلغه فقد بلغ في العادة، ولم يحد مالك رحمه الله فيها حدًّا، وقال أصحابنا: مثل سبعة عشر سنة أو ثمان عشرة سنة، وهذا الأوصاف هي علامات في النساء ويزدن على المذكور بالحيض والحمل (1)، وقال أبو حنيفة: لا معتبر بالإنبات في البلوغ (2)، وقال الشافعي: يحكم به (3) في المشركين، وله قولان في أنه بلوغ أو دلالة على البلوغ وفي أنه يكون بلوغًا في المسلمين أو لا (4)، فدليلنا على اعتباره ما وري عطية عن سعد قال حكمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة فحكمت (5) بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم فكنا نكشف عن مؤتزرهم فمن (6) أنبت منهم قتلناه، ومن لم ينبت جعلناه في الذراري فقال رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: "حكمت (7) بحكم الله" (8)، وقوله "الجزية على من جرت عليه المواسى" (9)، وكذلك كتب عمر رضي الله عنه في أخذ الجزية (10)، وما روي عن عثمان رضي الله عنه في الغلام الذي سرق: إن كان أخضر مؤتزره فاقطعوه (11)، ولأنا لو قصرنا البلوغ علي السنن لم يكن لنا دلالة عليه فأمكن حجرها فيؤدي إلى إسقاط الأحكام فوجب اعتبار معنى زائد عليها وليس إلا ما قلناه.   (1) انظر: التفريع 2/ 256، الكافي ص 424، المقدمات: 2/ 345. (2) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني- 2/ 71. (3) في م: بالإنبات. (4) انظر: مختصر المزني ص 105، التهذيب: 1/ 330 - 331. (5) في م: فحكم. (6) في ق: هل. (7) في م: حكم. (8) أخرجه البخاري في المغازي باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب: 5/ 50، ومسلم الجهاد والسير باب جواز قتال من نقض العهد: 3/ 1389. (9) هو من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أخرجه البيهقي: 9/ 198. (10) أخرجه البيهقي: 9/ 198. (11) أخرجه عبد الرزاق: 7/ 338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1174 فصل [5 - في الرد على قول الشافعي في فصله بين المسلمين والمشركين]: دليلنا على الشافعي -في فصله بين المسلمين والمشركين- أن كل ما جاز أن يكون بلوغًا أو دالا على البلوغ في الكافر جاز في المسلم أصله السنن والاحتلام، ولأن دلالته على ذلك ليست بمعنى يرجع إلى الدين وإنما هو لمعنى يتعلق بالعادات وهذا يستوي فيه المسلم والكافر، [والخمسة] (*) عشرة سنة ليست ببلوغ ولا حدًّا له، وحكي عن ابن وهب اعتبارها وهو قول الشافعي لأن ذلك لا يخلو أن يكون معلقًا بأكثر منها في العادة أو بأقصاه وكلا الأمرين باطل، وحديث ابن عمر مختلف عليه فيه فروي أنه - صلى الله عليه وسلم - رده في [ثلاثة] (*) عشرة سنة وأجازه في أربع عشرة سنة (1)، ولأن ذلك يرجع إلى إطاقة القتال لا إلى البلوغ. فصل [6 - اشتراط حكم الحاكم في ابتداء الحجر]: البالغ إذا ابتديء الحجر عليه لم يحجر عليه إلا بحكم (2) الحاكم (3) خلافًا لمحمد بن الحسن (4)؛ لأنه أمر مختلف فيه محتاج إلى اجتهاد ونظر في حاله واختبار لأمره فاحتيج في قطعه وكونه بصفة من يلزمه الحجر إلى حكم الحاكم. فصل [7 - اشتراط حكم الحاكم لانفكاك الحجر عن المحجور عليه]: لا ينفك الحجر عن محجور عليه بحكم أو بغير حكم إلا بحكم الحاكم (5) لأنه محتاج إلى اختبار حاله وزوال المعنى الذي حجر عليه لأجله، وسواء في ذلك الصبيّ والمجنون (6) والبالغ والمفلس، والحجر ينفك عن البكر ببلوغها ودخول الزوج بها ومعها إيناس الرشد على ما بيناه.   (1) أخرجه البخاري في الشهادات باب بلوغ الصبيان وشهادتهم: 3/ 158، ومسلم في الإمارة باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع: 3/ 149. (2) في م: إلا بالحاكم. (3) انظر: الكافي ص 423. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 98، مختصر القدوري - مع شرح الميداني-2/ 69. (5) انظر: الكافي ص 423. (6) في م: المحجور. (*) كذا في الأصل والصواب (خمس عشرة سنة)، (ثلاث عشرة سنة). لأن العدد المعدود تذكيرًا وتأنيثًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1175 فصل [8 - في استدانة السفيه بغير إذن وليه]: إذا استدان السفيه بغير إذن وليه لم يلزمه بعد فك حجره (1) وإذا استدان العبد بغير إذن سيده ثم أعتق اتبع (1) به إلا أن يكون سيده (2)، والفرق أن المحجور عليه لسفهه حجر عليه لحق نفسه، فلو كان (3) الدين يلحقه لم ينفع الحجر عليه شيئًا، والعبد حجر عليه لحق سيده فإاذا اعتق زال حق السيد فأتبع به (4). فصل [9 - في اختبار المحجور عليه والصغير بالإذن له في التجارة]: لولي المحجور عليه بالسفه أو الصغير أن يأذن له في التجارة في قدر من ماله يعينه ليختبره وينظر هل تغيرت حاله وهل قد صار موضعًا لتسليم ماله إليه، وما استدان من شيء وجب في المال بيده (5) لأن إذن الولي له في التجارة به يقتضي حق من يستدينه لأنه دانيه عليه ولا يلحق ذمته لبقاء الحجر فإن زاد الدين على قدر ما في يده لم ينتفع به. فصل [10 - في تصديق الوصي فيما ينفقه على اليتيم]: يصدق الوصي على ما يذكره من نفقة اليتيم إذا أتى بما يشبه ذلك إذا كان في منزله وحضانته، وإن لم يكن عنده وكان عند أم أو حاضنة يدفع الوصي إليهما نفقته فعليه أن يقيم البينة بما دفع إليهما، ونفقة الأيتام تختلف بحسب اختلاف أحوالهم وأموالهم فإن كان لليتيم مال واسع وقد ألف النعمة (6) والتوسعة والرفاهة وسع عليه على قدر ماله في إدامه وكسوته، وإن كانت أمه فقيرة فالنفقة لها في مال ابنها ولا نفقة لها إن كانت موسرة إلا أن تكون هي حاضنته، ولأنها   (1) في م: أبيع. (2) أن يكون سيده: سقطت من ق. (3) في م: فلولا أن. (4) انظر: التفريع: 2/ 257، الكافي ص 423، المقدمات: 2/ 342. (5) انظر: الكافي ص 423 - 424، المقدمات: 2/ 342 - 345. (6) والسعة: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1176 تتشاغل به عن أمورها وتستحق عليه أجرة ولا يوجد من يقوم بحضانته بغير أجرة فإنها تُعطى بقدر ما تستحقه من القيام عليه. ولا بأس بتأديب اليتيم وبضربه (1) بالرفق والمعروف إذا احتيج إلى ذلك لأن فيه مصلحة له وتأديبًا وحسن تربية، لأن ولاية الوصي على اليتيم كولاية الإمام على رعيته تؤدي إلى (2) الحظ والصلاح له في تأديبه، فأما خلط نفقة اليتيم بنفقة الوصي فجائز إذا عادت بالرفق والتوفير (3) على اليتيم فإن عادت برفق الوصي فلا يجوز (4)، والأصل فيه قوله تعالى: {قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} (5). فصل [11 - التجارة في مال اليتيم]: التجارة في مال اليتيم جائزة إذا كان في ذلك حظًّا له (6) لقوله تعالى: {قل إصلاحٌ لهم خير} (7) وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" (8) وقد ورد مرفوعًا (9)، ولأن ذلك نظر له ومصلحة وتنمية لماله وتعريضًا للتثمير فيما أمكن من فعله به وكان فيه الحظ له جاز، وسواء كان بتجارة أو شراء ضيعة أو عقار ليستغل أو ما يراه الناظر له حظًّا وصلاحًا، ولا ضمان على الوصي في نقص إن حدث لأنه أمين.   (1) في م: ويضرب. (2) في م: تؤدبه من ولى. (3) في م: والترفق. (4) انظر: في جملة هذه الأحكام: المدونة: 4/ 113 - 115 و 88 - 290، التفريع: 2/ 257 - 258، الرسالة ص 250، الكافي ص 548 - 550. (5) سورة البقرة، الآية 220. (6) انظر: المدونة 4/ 115، الموطأ: 1/ 251. (7) سورة: البقرة، الآية 220. (8) أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 251، البيهقي: 4/ 107. (9) أخرجه الطبراني بسند ضعيف (انظر: نصب الراية: 2/ 333). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1177 فصل [12 - الأكل من مال اليتيم]: إذا كان وصي اليتيم أو الأمين محتاجًا جاز أن يأكل من مال اليتيم بقدر أجر مثله (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه لا يجوز له أخذ شيء من ماله (2)، لقوله تعالى: {فمن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} (3)، وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لولي اليتيم أن يأكل بالمعروف" (4)، ولأنه ناظر في مصلحة غيره وقيم عليه فجائز (5) له أن يأخذ بقدر الحاجة أصله الإمام. فصل [13 - طلب الوصي بماله]: إذا بلغ اليتيم فطالب الوصي بماله فزعم أنه قد دفعه إليه لم يقبل منه إلا ببينة (6)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إن القول قوله مع يمينه (7)، لقوله تعالى: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} (8) فأمر الولي بالتوثق لنفسه بالإشهاد عند تسليم الأمانة التي في يده إلى غير من ائتمنه عليها فلولا أنه يضمن متى جحد وإلا (9) لم يكن للأمر بالتوثق فائدة، ولأنه مأمور بدفع المال   (1) انظر: التفريع 2/ 257، أحكام القرآن -ابن العربي- 3/ 1405. (2) انظر: مختصر القدوري -مع شرح الميداني- 2/ 224 - 225، حاشية ابن عابدين: 5/ 696. (3) سورة النساء، الآية: 6. (4) أخرجه البخاري في التفسير باب سورة النساء: 5/ 177، ومسلم في التفسير: 4/ 2315. (5) في م: فجاز. (6) انظر: التفريع: 2/ 257. (7) انظر: المبسوط 20/ 178 - 179. (8) سورة النساء، الآية: 6. (9) وإلا: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1178 المؤتمن عليه إلى غير من ائتمنه عليه (1) فوجب ألا يقبل قوله إلا ببينة مع الإنكار له أصله المودع إذا دفع الوديعة إلى أجنبي وقال: الأجنبي لم آخذ شيئًا. فصل [14 - في عدم جواز تصرف الزوجة فيما زاد على ثلث مالها إلا بإذن زوجها]: لا يجوز للمرأة ذات الزوج أن تأخذ شيئًا من مالها ولا تتصدق ولا تعتق ولا تخرجه في معاوضة أو مصلحة فيما زاد على الثلث إلا بإذن زوجها (2)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إنه لا حق لزوجها في منعها (3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لامرأة ملك زوجها عصمتها عطية في مالها إلا بإذن" (4) وهذا نص، وقوله: "تنكح المرأة لدينها ومالها وجمالها ... " (5) وذلك يفيد أن للزوج حقًّا في تبقية مالها (6) بيدها، ولأن العادة جارية بأن (7) الزوج يتجمل بمال زوجته وله فيه معونة وتبقية، ويبين ذلك أن مهر المثل يقل ويكثر بحسب مالها وكثرته كما يقل ويكثر بحسب بروزها في الجمال، وإذا ثبت ذلك فليس لها إبطال غرض الزوج مما لأجله رغب في نكاحها وكمل لأجله صداقها. فصل [15 - إذا زادت عطية الزوجة على الثلث]: إذا ثبت منعها من ذلك فإن زادت على الثلث: فقال مالك: رد جميعه لأنه   (1) عليه: سقطت من ق. (2) انظر: التفريع 2/ 256، الكافي ص 424. (3) هو رأي جمهور العلماء (انظر المغني: 4/ 464). (4) أخرجه أبو داود في البيع باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها: 3/ 816، وابن ماجة في الهبات باب عطية المرأة بغير إذن زوجها: 2/ 798 وهو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (5) سبق تخريج الحديث. (6) في م: المال. (7) في م: على أن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1179 من الضرر، وقال المغيرة: يجوز منه قدر الثلث (1) (فلظنه الرواية اعتبارًا بالمرض، وإنما أجزنا لها الثلث لأن) (2) الحديث مقيد في المنع بما زاد عليه، ولأن كل من منع من إخراج ماله على غير معاوضة لحق الغير الذي يعاوض عليه فإن المنع يتعلق بما زاد على الثلث أصله المريض. ...   (1) انظر: التفريع 2/ 256، الكافي ص 424. (2) ما بين قوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1180 باب [- في الحجر على المفلس وحبس المديان] إذا طلب الغرماء الحجر على المفلس (1) فإن الحاكم يحجر عليه (2) خلافًا لأبي حنيفة في قوله: ليس له أن يحجر عليه بل يأخذه بقضاء الدين ويحبسه حتى يبيع ويقضي (3)؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - حجر على معاذ وقال لغرمائه: "خذوا ما معه ليس لكم غيره"، وقال الزهريّ: أدان معاذ دينا (4) فباع رسول لله - صلى الله عليه وسلم - ما له حتى قضى دينه (5)، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ألا أن أسيفع جهينة رضي لدينه وأمانته أن يقال سبق الحاج (6) ثم أدان مقرضًا فمن كان له عليه شيء فليحضر فإنا نبيع ماله (7)، ولا مخالف له فإذا ثبت استحقاق الحجر عليه فإن الحاكم يبيع ماله من عروض وعقار وحيوان وغير ذلك (8)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا يبيع عليه العقار (9)، للأخبار التي رويناها وهي عامة، ولأن كل دين يباع فيه الذهب والفضة جاز أن يباع فيه العقار كنفقة الزوجات، واعتبارًا   (1) المفلس: التفليس يعني الإعدام يقال منه أفلس الرجل إذا صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم، هذا في اللغة، أما في الاصطلاح: فالتفليس الأخص: حكم الحاكم بخلع كل ما لمدين لغرمائه لعجزه عن قضاء ما لزمه، والأعم: قيام ذي دين على مدين ليس له ما يقي به (غرر المقالة ص 249، حدود ابن عربة - 311). (2) انظر: المدونة: 4/ ن 116، التفريع: 2/ 249 - 254، الرسالة ص 249، الكافي ص 417. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 95 - 96، مختصر القدوري- 2/ 72 - 73. (4) دينا: سقطت من م. (5) أخرجه مسلم في المساقاة باب استحباب الوضع من الدين: 2/ 1193. (6) الحاج: سقطت من م. (7) أخرجه البيهقي: 6/ 49. (8) انظر: المدونة: 4/ 116، التفريع: 2/ 250 - 251، الكافي ص 420. (9) انظر: مختصر الطحاوي ص 96 - 97، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 72 - 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1181 بموت المفلس إذا ادعى المديان الإفلاس ولا يعلم صدق مقولته (1) من كذبه فإن الحاكم يحبسه ليتبين أمره (2)، والأصل (3) في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" (4) والعقوبة ها هنا الحبس، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم -: "حبس في تهمة" (5)، وقد حبس كثير من الصدر الأول. فصل [1 - في كون تقدير الحبس موكول إلى اجتهاد الحاكم]: والحبس موكول إلى اجتهاد الحاكم على قدر ما يغلب في ظنه من تهمة الغريم من غدره وإلطاطه (6) وتغيب ماله وليس بمقدر بمدة محصورة خلافًا لأبي حنيفة في تقديره إلى شهرين أو ثلاثة (7)، لأن الغرض هو اعتبار حاله وتبين إعساره من إيساره، والعلم بذلك ربما وقع في المدة اليسيرة وربما وقع بالمدة الطويلة فوجب ألا يتقدر إلا بغلبة الظن. فصل [2 - تخلية سبيل المدين إذا ثبت عسره]: إذا ثبت عسره (8) خلي سبيله ولم يكن للغرماء أن يعرضوا له إلى يسره (9)   (1) في م: قوله. (2) انظر: المدونة: 4/ 105، التفريع: 2/ 247. (3) في ق: واليقين. (4) أخرجه أبو داود في الأقضية باب الحبس في الدين: 4/ 54، والنسائي في البيوع باب مطل الغني، وابن ماجة في الصدقات باب الحبس في الدين والملازمة: 2/ 811، وأحمد: 4/ 388، والحاكم: 4/ 102 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (5) أخرجه أبو داود في الأقضية باب الحبس في الدين: 4/ 46، والنسائي في قطع السارق باب امتحان السارق بالضرب والحبس، والترمذي في الديات باب الحبس في التهمة: 4/ 30، وقال حديث حسن. (6) إلطاطه: من لَطَطَ وهو الجحود، وألط أي اشتد في الأمر والخصومة (الصحاح: 3/ 1156). (7) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني- 2/ 74: والمذهب أن القاضي. (8) في م: عسرته. يحبسه بما يرى أنه صادق في دعواه أنه لا مال له كما يقول. (9) انظر: المدونة: 4/ 105، التفريع: 2/ 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1182 خلافًا لأبي حنيفة في قوله لهم أن يلازموه لا على معنى أنهم يطلبونه ولكنهم يكونون معه يدورون حيث دار (1)، ودليلنا قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (2) وذلك ينفي الملازمة لأنها في معنى الحبس، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: في رجل ابتاع تمر فأصيب به فقال عليه الصلاة والسلام: "تصدقوا عليه"، فتصدق عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال: خذوا ما معه ليس لكم غيره" (3)، ولأن المعسر ليس لغرمائه مطالبته بالدين ومن لا تلزم مطالبته بالدين لم تجب ملازمته كالذي عليه دين مؤجل؛ لأن الحبس لما زال عنه لثبوت عسرته فكذلك الملازمة. فصل [3 - عدم جواز إجارة المفلس]: لا تجور إجارة المفلس وإن كانت له صنعة (4) يتكسب بها (5) خلافًا لأحمد وغيره (6)، لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (7)، ولأنه ابتداء تملك فلا يجبر عليه كالهبة والوصية، يحبس في الديون الثابتة كلها المعارضة وغيرها لاستحقاق جميعها ووجوب المطالبة بها. ...   (1) مختصر الطحاوي ص 96، مختصر القدوري - مع شرح الميداني- 2/ 74. (2) سورة البقرة، الآية: 280. (3) أخرجه مسلم في المساقاة باب استحباب الوضع من الدين: 3/ 191. (4) في م: صيغة. (5) انظر: الكافي ص 422. (6) في أحد قولي الإمام أحمد، وهو قول عمر بن عبد العزير وسوار العنيري وإسحاق. (انظر المغني: 4/ 495). (7) سورة البقرة، الآية: 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1183 باب [- حلول الدين المؤجل] يحل الدين المؤجل بالموت (1) خلافًا للحسن وغيره (2) لأنه لو لم لحل لم يخل أن يكون متعلقًا بذمة الميت وذلك باطل بخرابها أو بذمم الورثة وذلك غير جائز لأنه لا شيء يوجبه، ولا يلزم صاحب الدين الرضا بذمتهم وتسليم الشركة إليهم، ولأن الدين متقدم على الميراث أو ينتقل إلى التركة ويمنع من أخذه إلى حلول الأجل فلا فائدة في ذلك ولا نفع للورثة وإنما هو تعويض المال للتلف فقط فلم يبق إلا حلوله وتسليمه إلى الغريم (3). فصل [1 - حلول الدين المؤجل بالفلس]: ويحل بالفلس خلافًا للشافعي (4)؛ لأن الفلس يوجب تفرقة المال (5) بين غرمائه كالديون الحالة، ولأنه معنى يوجب تعلق الديون التي في الذمة بأعيان الأموال كالموت. فصل [2 - في عدم حلول الديون التي للميت أو المفلس بل تبقى إلى أجلها]: والديون التي للميت أو المفلس لا تحل بل تبقى إلى أجلها (6)؛ لأن محالها المتعلقة بها لم تبطل ولم تغب وإنما حلت الديون التي عليه لبطلان محلها وغيبته. فصل [3 - من باع سلعة فأفلس المبتاع قبل أن يقبض البائع ثمنها]: ومن باع سلعة فأفلس المبتاع قبل أن يقبض البائع ثمنها فالبائع إن وجدها لم   (1) انظر: المدونة 4/ 108 - 111، الكافي ص 419. (2) انظر: المبسوط 20/ 28، البدائع: 6/ 3. (3) انظر: التفريع 2/ 249، الكافي ص 417 - 418. (4) انظر: الأم 3/ 212، مختصر المزني ص 104 - 105، الإقناع ص 105. (5) في م: ماله. (6) انظر: الكافي ص 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1184 تفت مخير بين أن يأخذها بالثمن الذي باعها به وبين تركها ومحاصة الغرماء، وإن كان قبض بعض ثمنها فله الخيار بين رد ما أخذ والرجوع بها أو التمسك بها والحصاص بما بقي، ولو مات المشتري لم يكن للبائع أخذ السلعة (1). فصل [4 - في أحقية البائع بعين ماله في الفلس]: وإنما قلنا إنه أحق بعين ماله في الفلس خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل أفلس فأدرك رجل ما له بعينه فهو أحق به" (3)، ولأن فلس المبتاع بثمن المبيع مع بقائه على صفته وعدم تعلق حق الغير به يوجب للبائع حق الفسخ أصله قبل (4) القبض. فصل [5]: وإنما قلنا إنه له تركها أو المحاصة لأن أخذها حق له غير مستحق (5) عليه فإذا لم يختر لم يجبر عليه، وإنما قلنا له أخذها (6) وإن قبض بعض الثمن إذا رد ما قبضة خلافًا للشافعي (7)، لعموم الخبر، ولأن الرجوع بسلعته إذا لم يقبض شيئًا من الثمن إنما وجب له لقوة سببه بوجود عين ماله وذلك يستوي فيه الفلس بجميع الثمن أو ببعضه.   (1) انظر التفريع 2/ 249 - 250 و 254، الرسالة ص 249، الكافي ص 417 - 418. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 95 - 96، مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 73 - 74. (3) أخرجه البخاري في الاستقراض باب إذا وجد ماله عند مفلس: 5/ 62، ومسلم المساقاة باب من أدرك ما باعه عند المشتري: 3/ 1194. (4) قبل: سقطت من م. (5) في م: من يحق. (6) في م: قبضها. (7) انظر: الأم 3/ 199، مختصر المزني ص 102، الإقناع ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1185 وإنما قلنا إنه يكون في موت (1) المشتري إسوة الغرماء خلافًا (2) للشافعي (3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن مات فالبائع إسوة الغرماء" (4) ففرق بين الموت والفلس، ولأن حظ البائع تقديمه على غيره من الغرماء لا إسقاط الغرماء واستبداده، والفرق بين الفلس والموت أن في الفلس الذمة باقية يرجع الغرماء إليها ومع الموت تبطل الذمة فيكون ذلك إسقاطًا لباقي الغرماء. فصل [6 - إذا تلف مال المفلس بعد أن جمعه الحاكم وقبل أن يبيعه]: إذا جمع الحاكم مال المفلس ليبيعه لغرمائه فتلف قبل بيعه فالتلف من المفلس وديون الغرماء ثابته لأن تلفه (5) كان على ملك المفلس قبل انتقاله إلى ملك الغرماء، ولا شيء على الحاكم لأنه أمين فإن باعه الحاكم قابض لهم وقد بريء المفلس منه، وقال محمَّد بن عبد الحكم الضمان من المفلس حتى يقبضه الغرماء لأن الغرماء إنما يضمنونه (6) بالقبض دون البيع، والأول أصح، وفرق عبد الملك بين أنواع المال فقال إن كان ذهبًا أو ورقا ودينه من جنسه فالتلف بعد جمعه من الغرماء لأنه لم يبق إلا تسليمه إليهم وقبض الحاكم هو قبض لهم: فضمان الذهب ممن دينه ذهب وضمان الورق ممن دينه ورق، وإن كانا عروضًا فتلفها من المفلس لأن الغرماء يستحقون أثمانها دون أعيانها. فصل [7 - في تفليس الصناع]: الصناع إذا قبضوا السلع وأفلس أربابها فهم أحق بها في ديونهم إذا كانوا قد عملوها في الموت والفلس لقبضهم إياها وحوزهم لها كالرهن، وكذلك لو   (1) موت: سقطت من ق. (2) خلافًا للشافعي: سقطت من ق. (3) انظر: الأم 3/ 212، مختصر المزني ص 102. (4) أخرجه أبو داود في الإجارة باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده: 3/ 792 ومالك: 2/ 678 وهو مرسل (تلخيص الحبير: 3/ 39). (5) لأن تلفه: سقطت من ق. (6) في م: يضمنوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1186 استأجر أرضًا يزرعها ثم مات أو أفلس قبل قبض الأجرة فربها أحق بالزرع، وكذلك لو استأجر دارًا للسكنى ولم ينقد أجرتها وسكنها بعض السنة ثم أفلس فربها أحق بما بقي من مدة الإجارة ويحاص الغرماء بما مضى من السكنى، وكذلك ما يرد من مسائل هذا الباب (1). ...   (1) انظر: الكافي ص 422. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1187 باب [- في تجارة ودين العبد بغير إذن سيده] : وإذا اتجر العبد فأدان بغير إذن سيده فللسيد فسخ الدين (1) عنه بما له كسبه وله انتزاع ماله فليس لغرمائه (2) إتلاف ماله على سيده واستبدادهم به: فإن أعتق العبد اتبعه الغرماء لزوال حق السيد عنه بعد عتقه، وله أن يسقط الدين عنه (3) لأن تبقيته عليه يعيبه إذا أراد بيعه والذي دانه هو الذي عرض ماله للتلف (4) فإذا أسقطه عنه لم يتبعه الغرماء بعد العتق. فصل [1 - في إفلاس المأذون له في التجارة]: إذا أذن له في التجارة جاز: فإن أفلس (5) فدينة في ذمته وفي ماله الذي في يديه (6) لأن الغرماء دائنوه على ماله وذمته، ولأن السيد لما أذن له في التجارة كان ذلك رضا منه بتعلق الديون بماله وذمته، وليس لسيده انتزاع ماله لأن غرماء العبد أولى بماله من سيده لأنهم داينوه على ماله، ولأنه بمنزلة عين (7) مالهم ولو أفلس (8) السيد كان غرماء العبد أولى بمال العبد من غرماء السيد، وغرماء السيد أولى برقبة العبد لأن رقبة العبد ملك لسيده لا حق فيها لغرماء العبد، وإذا داين السيد عبده كان كأحد الغرماء يقاص بدينه كما يقاص سائر الغرماء (9).   (1) في م: المال. (2) في م: لغرماء العبد. (3) انظر: المدونة 4/ 124، التفريع: 2/ 255، الكافي ص 422. (4) في م: للسيد. (5) في م: فلس. (6) في ق: بيديه. (7) عين: سقطت من ق. (8) في م: فلس. (9) انظر: المدونة 4/ 124 - 128، التفريع: 2/ 255، الكافي ص 421 - 422. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1188 فصل [2 - ليس لغرماء المأذون سبيل على رقبته]: ليس لغرماء العبد المأذون سبيل على رقبته ولا على مال سيده (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله أن لهم بيعه (2)، ولأن الدين الحاصل عن مراضاة لا يتعلق بالرقبة وإنما يتعلق بالمال أو بالذمة كالحر إذا داين ثم أفلس فإن رقبته لا تباع ولا تؤاجر (3)، ولأن الغرماء إنما يداينون على مال العبد (4) لا على مال غيره ورقبته ليست بمال له، وإنما قلنا إنه لا سبيل لهم على السيد لأن السيد إنما أذن له في التجارة بالمال المدفوع إليه دون غيره إلا أن يضمن السيد عنه فيلزمه الضمان. ...   (1) انظر: المدونة 4/ 126، التفريع: 2/ 255، الكافي ص 422. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 98، مختصر القدوري - مع شرح الميداني - 2/ 225. (3) في ق: يؤاجره. (4) في م: الغريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1189 بسم الله الرحمن الرحيم (1) كتاب الصلح الأصل في جواز الصلح (2) قوله تعالى: {والصلح خير} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" (4)، ولأن فيه قطعًا للخصومة وداعيًا (5) إلى التواصل والألفة. فصل [1 - في جواز الصلح على الإنكار والإقرار]: وهو عندنا جائز على الإقرار والإنكار (6) خلافًا للشافعي في قوله إنه لا يجوز مع الإنكار (7)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" (8) فعم، ولأنها دعوى ما لم يحكم ببطلانها فجاز الصلح معها أصله مع الإقرار، ولأنها أحد حالي المنكر كالإقرار، ولأن كل   (1) بسم الله الرحمن الرحيم: سقطت من م. (2) الصلح: في اللغة الصلح ضد الفساد (الصحاح: 1/ 383، معجم مقاييس اللغة: 3/ 303)، وفي الاصطلاح عرفه ابن عرفه بقوله: انتقال عن حق أو دعوي بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه (حدود ابن عرفه ص 314). (3) سورة النساء، الآية: 128. (4) أخرجه أبو داود في الأقضية باب في الصلح: 4/ 19، وابن ماجة في الأحكام باب في الصلح: 2/ 788، والترمذي في الأحكام باب ما ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلح بين الناس، وقال: حسن صحيح: 3/ 634. (5) في م: داعية. (6) انظر: المدونة 3/ 345 وما بعدها، التفريع: 2/ 289، الكافي ص 451. (7) انظر: الأم 3/ 221، مختصر المزني ص 106، الاقتناع ص 106. (8) سبق تخريج الحديث قريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1191 صلح جاز (1) مع الإقرار جاز مع الإنكار أصله الإبراء، ونفرض الكلام في أن افتداء اليمين جائز وهو أن يلزم أحد المتداعيين اليمين فيبذل المدعى عليه للمدعي (2) شيئًا على ألا يحلفه (3). والدليل على جواز ذلك أنه مروي عن عثمان وابن مسعود (4) ولا مخالف لهما، ولأن المدعي عليه لا يخلو أن يكون محقًا في إنكاره أو مبطلا فإن كان مبطلًا فقد أحسن إذ (5) لم يحلف على باطل ودفع الحق، وإن كان محقًا فقد دفع عن نفسه شر المدعي وتبذيله إياه ونزَّه (6) نفسه عن اليمين التي تثقل على أهل المروءات والدين وتستبق الظنة إلى المقدم عليها. فصل [2 - في أضرب الصلح]: الصلح على ضربين: منه معاوضة كالبيع فهذا حكمه حكم البيع يدخله من الجواز والمنع ما يدخل البيع، ومنه إسقاط وإبراء. فأما القسم الأول: فهو أن يدعي على غيره شيئًا ثم يبيعه (7) منه فلا يجوز إلا في معلوم ولا يجوز أن يفسخ في دين إذا كان المدعى دينا، ولا في طعام قبل قبضه، ولا عن دعوي في جنس باثنين من جنسه إلى أجل، ولا عن مجهول ولا غرر، ولا على ضع وتعجل قبل حلول الأجل، وجملته أنه يمتنع فيه ما يمتنع في البيع. فأما القسم الثاني: فهو وضع بعض الحق المدعى وإبراء منه مثل أن يكون على   (1) في م: جائز. (2) للمدعي: سقطت من م. (3) في م: تلحقه. (4) انظر: سنن البيهقي: 10/ 177. (5) في ق: إذا. (6) في م: رد. (7) في م: لم يبعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1192 رجل مال حال فيصالحه على بعضه وإسقاط باقيه، وإن كان مؤجلًا فلا يجوز أن يصالحه قبل حلوله على تعجيل (1) بعضه وإسقاط باقيه ويجوز أن يصالحه عن ذهب له على ورق يأخذها منه نقدًا، وعلى ذهب عن ورق لا يجوز الرجوع بها لأن ذمة الغريم قد برئت (2). ...   (1) في م: تعجل له. (2) انظر: في جملة هذه الأحكام: المدونة: 3/ 345 وما بعدها، التفريع: 2/ 289 - 290، الكافي ص 451 - 453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1193 باب [- في إحياء الموات] ومن أحيا أرضًا (1) ميتة غير مملوكة لمسلم (2) ولا ذمي بالوجه الذي يكون إحياء لمثلها من بناء أو حفر بئر وجصها أو غرس أو غير ذلك من وجوه الإحياء وأنواع العمارة فهي له إذا كانت في فيافي (3) الأرض وفلواتها (4) بعيدة من العمران والمواضع التي لا يتشاح الناس فيها من غير حاجة إلى استئذان الإمام، وأما إن كانت بقرب العمران في حيث يتشاح الناس فلا يجوز إلا بإذن الإمام (5)، والأصل في جواز الإحياء قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيًا أرضًا ميتة فهي له" (6) وهذا نص، وإنما لم نشترط إذن الإمام فيما بعد عن العمران خلافًا لأبي حنيفة (7)، لهذا الخبر وهو عام، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحاط على أرض فهي له" (8)، ولأنه ليس في ذلك إتلاف حق غيره ولا ما يؤدي إلى التخاصم والعداوة فكان   (1) إحياء الأرض الميتة: قال ابن عرفه عن الإحياء: لقب لتعمير دامر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها (الرصاع على ابن عرفه ص 407). (2) في م: لم تكن لمسلم مملوكة. (3) فيافي: جمع فيف: وهي الصحراء الواسعة المستوية، (المعجم الوسيط: 2/ 708). (4) الفلاة: هي الأرض لا ماء فيها. (المصباح المنير ص 481). (5) انظر: الموطأ: 2/ 743، المدونة: 4/ 377، التفريع: 2/ 290. (6) أخرجه أبو داود في الخروج باب إحياء الموات: 3/ 454 والترمذي في الأحكام باب ما ذكر في إحياء الموات وقال حديث حسن غريب: 3/ 662 وله شاهد في البخاري في الحرث والمزارعة باب من أحيا أرضًا موات: 5/ 18. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 134، مختصر القدوري - مع شرح الميداني 2/ 219. (8) أخرجه أبو داود في الخراج باب إحياء الموات: 3/ 456 وأحمد: 5/ 12 و 21 والبيهقي: 6/ 148 والطبراني والحديث مختلف فيه (انظر تلخيص الحبير: 3/ 62). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1194 بملك بالإحياء (1) مباحة كتمليك (2) الحشيش والصيد بالأخذ، وإنما شرطنا إذن الإمام فيما قرب من العمران خلافًا للشافعي (3)؛ لأن ما قرب من البلد في حكم فنائه فالانتفاع به مشترك بين أهل البلد من الاحتطاب فيه والاصطياد والرعي وغير ذلك من وجوه الإرفاق (4) فلو أُجيز لكل واحد اقتطاعه لأضر ذلك بأهل البلد فلم يكن بد من نظر الإمام ليكون كالحكم لمن يحييه، فإذا أحيا أرضًا ثم خرجت ودثرت وعادت إلى ما كانت عليه ثم أحياها آخر بعده فهي للثاني دون الأول بناء على الصيد إذا أفلت وعاد إلى الاستيحاش ولحق وطال زمانه وقد بيناه. فصل [1 - في حد حريم البئر]: حريم البئر (5) ليس فيه حد إلا الاجتهاد وما يعلم أنه لا يضر بالبئر الأول، وذلك يختلف باختلاف الأراضي والمواضع من الصلابة والرخاوة: فما علم أنه لا يضر بما تقدمه جاز، وما علم فيه ضرر منع، وذلك في الآبار التي تحفر في الصحاري والفلوات للماشية، فأما إذا أراد أن يحفر بئرًا في ملكه (6) بقرب من بئر جاره ويخاف منه الإضرار بها فإن كان له مندوحة عنه وسعة فليس له ذلك لأن قصده حينئذ الإضرار بجاره من غير ضرورة فلا يترك في ذلك، والأخرى أنه يجوز له فعله (7). فوجه الأولى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا اضرار" (8)، واعتبارًا به إذا كانت   (1) في م: بلا إحياء. (2) في ق: كتملك. (3) انظر: الأم 4/ 41 - 42، مختصر المزني ص 130 - 131، الإقناع ص 118. (4) في م: الارتفاق. (5) حريم البئر: حريم الشيء ما حوله من حقوقه ومرافقه، سمي بذلك لأنه يحرم على غير مالكه، أن يستبد بالانتفاع به (المصباح المنير ص 133). (6) في م: في ملك نفسه. (7) انظر: المدونة: 4/ 373، التفريع: 2/ 291، المقدمات: 2/ 295 - 302. (8) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1195 له مندوحة عنه، ولأن الضررين إذا تقابلا فالأول أولى بالمراعات لفضل السبق، ووجه الثانية أن للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يحتاج إليه من وجوه التصرف، ولا يجب أن يمنع لحق الغير لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر ولا أن يراعي فضل السبق لأن الأول قد عرض تصرفه للبطلان إذا علم أن لجاره أن يتصرف في ملكه. فصل [2 - في عدم جواز منع فضل مياه البراري]: الآبار المحتفرة في البراري وحيث لا ملك لأحد عليها ليس لأحد أن يمنع فضل مائها (1)، لأن الناس كلهم شركاء فيها، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس شركاء في ثلاث: فذكر الماء والكلأ ... " (2)، وإن كان هو الذي حفرها في ذلك الموضع فليس له منع فضلها، فالذي يحتاج إليه أولى فإذا استغنى وحصل له قدر كفايته كان ما بقي (3) للمسلمين ولم يكن له منع الفضل خلافًا لمن جعل له ذلك: لأن آبار الماشية التي تحفر في البراري إنما تحفر للسبيل ولينتفع بها الحافر وغيره ولا تُحفر للتمليك والإحياء، ولأنه ليس لأحد أن يحيي في المواضع التي يتشاح الناس فيها بغير إذن الإِمام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حمى إلا لله ولرسوله" (4)، وإذا منع الماء الفاضل عن قدر حاجته كان ذلك منعًا من الشرعي لأن أحدا لا يرعي إلا على ماء، فإذا ثبت ذلك فليس له أخذ عوض عليه لأن حفرها على وجه السبيل على ما بيناه لأن الموضع ليس بملك له ولا حفرها على وجه الإحياء فتكون   (1) انظر: المدونة 4/ 374، التفريع: 2/ 291، الكافي ص 491، المقدمات: 2/ 297. (2) أخرجه أبو داود في البيوع باب منع الماء: 3/ 751 بلفظ المسلمون، وابن ماجه في الأحكام باب الرهون: 2/ 826، بسند صحيح، وأحمد: 5/ 364، والطبراني والبيهقي: 6/ 150، وفيه عبد الله بن خراش ضعفه البخاري وأبو زرعه وغيرهما (تلخيص الحبير: 3/ 65). (3) في م: مالكا له. (4) أخرجه البخاري في المساقاة باب لا حمي إلا لله ولرسوله: 3/ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1196 ملكا له، فإذا ثبت هذا فإنما يلزمه بذل ما زاد على قدر كفايته ويكون أحق بما يحتاج إليه منه لأنه إنما حفرها هو ليختص هو بمنفعتها أو قدر ما يحتاج إليه منها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن منع فضل الماء (1)، وذلك عما زاد على قدر الكفاية، فأما (2) إن حفر بئرًا على وجه التملك (3) والأحياء ليبني ويغرس في ذلك الموضع فله منع ما فضل من مائها لأن المكان يملك بالأحياء بئرًا في أرضه أو داره فإن البئر ملكه لأنه أحدثها في ملكه، وكذلك إذا ابتاع الدار والأرض وفيها البئر فإن البئر مع الأرض ملكًا له فالماء الذي فيها ملكه فله منعه إلا بعوض كسائر أملاكه إلا أن تنهدم بئر جاره وله زرع يخاف عليه التلف فإنه يلزمه أن يبذل له فضل مائه ليجي به زرعه ويجبر على ذلك لأن فيه إحياء زرع وإعانته من حيث لا ضرر عليه ببذله كما لزمه لشربه إذا اضطر إليه، ويقال لصاحب الزرع خذ أنت في إصلاح بئرك وهذا إذا كان صاحب الزرع قد زرع على أصل ماء ثم اضطر بأن انهارت بئره وانقطع ماؤه، وأما إن كان ابتداء الزرع على غير ماء اتكالا على جاره فإن لجاره أن يمنعه لأن الماء ملك له فلا يلزمه بذله إلا إذا شاء ما لم تكن ضرورة وها هنا لا ضرورة لأن الزارع هو الذي (4) أتلف زرع نفسه حين زرع على غير ماء، وكذلك إذا زرع على ماء فانقطع (5)، وإنما قلنا إن على جاره أن يمكنه من فضل مائة وأن ذلك يلزمه ويتشاغل هو بإصلاح بئره، فأما إن ترك التشاغل بإصلاح بئره اتكالا على بئر جاره لم يلزم جاره فضل الماء لأنَّه كمن زرع ابتداء على غير ماء، وقد اختلف أصحابنا فيه إذا أجبرناه على بذل الماء لجاره عند انقطاع مائه هل له مطالبته بعوض أم لا: فإذا قلنا ليس له فلأن ذلك حق على الجار على   (1) أخرجه البخاري في المساقاة باب من قال: أن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى: 3/ 75 ومسلم في المساقاة باب تحريم فضل بيع الماء الذي يكون بالغلاة: 3/ 1198. (2) في ق: فلو. (3) في ق: التمليك. (4) هو الذي: سقطت من م. (5) انظر: المدونة: 4/ 374، التفريع: 2/ 291، المقدمات: 2/ 298 - 302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1197 طريق الإعانة مع كون أصله مباحًا كما لو احتاج إليه للشرب وإذا قلنا إن له منعه فلأن وجوب البدل لا يتضمن الإتلاف اعتبارًا بالعلم. فصل [3 - فيمن سأله جاره بغرز خشبة في جداره]: وينبغي لمن سأله جاره أن يغرر خشبة في جداره أن يجبيه إلى ذلك ولا يمنعه، فإن أبي لم يجبر عليه (1)، وإنما استحببناه له لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعن أحدكم أخاه أن يضع خشبة على جداره (2) "، ولأن في ذلك رفقًا بالجار ومعونة له وهو من مكارم الأخلاق ومعالي الأمور مع الوصية بالجار وحسن المجاورة، وإنما قلنا لا يقض بذلك عليه خلافًا لمن أوجبه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امريء مسلم إلا عن طيب نفس منه" (3) ولأن الحائط ملك له فلم يكن عليه بذله لغيره ليتصرف فيه كما لو أراد أن يفتح فيه بابًا أو كوة. فصل [4 - إذا أذن له بغرز الخشب في جداره ثم طالبه بقلعه]: وإذا أذن له في ذلك ثم طالبه بقلعه: فإن كان لحاجته إلى بناء جداره أو لأمر لا بد له منه كان (4) له ذلك لأنّه لم يكلف من حق الجار ما يضر نفسه كما لا يكلف بذل مائه لزرع جاره وهو محتاج إليه، وإن لم يكن به ضرورة إليه وإنما أراد الإضرار بجاره وأذيته لم يمكن من ذلك، ويفارق حال الابتداء لأنه إذا لم يأذن في الابتداء فلم يتعلق عليه حق فإذا أذن فقد ضمن تبقية ما أذن فيه على الوجه الذي يؤدي إلى مثله في العادة فليس له الرجوع فيه (5).   (1) انظر: التفريع: 2/ 292. (2) أخرجه البخاري في المظالم باب لا يمنع جار جاره أن يغرز ... 3/ 102، ومسلم في المساقاة باب غرز الخشب في جدار الجار: 3/ 1230. (3) أخرجه الدارقطني: 3/ 26، والبيهقي: 6/ 100، وأبو يعلى: 3/ 140، إسناده جيد (تلخيص الحبير: 3/ 45، ونصب الراية: 4/ 169). (4) منه كان: سقطت من م. (5) انظر: التفريع 2/ 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1198 فصل [5 - إذا أراد الرجل أن يفتح في جداره المنفرد بملكه كوة]: إذا ما أراد الرجل أن يفتح في جداره المنفرد بملكه كوة (1) ليضيء منها منزله فله ذلك لأن به حاجة إلى ذلك وليس لجاره منعه مما يحتاج إليه ولا يضر به، فأما إن كان يتشرف منها على جاره فيمنع منه (2) لأن في ذلك إضرار بالجار، ولأن الحائط وإن كان ملكه فليس له أن يفعل فيه ما يضر بالغير ابتداء مما لا ضرورة فيه. فصل [6 - علو الدار التي بين اثنتين]: علو الدار التي بين اثنين مملوك (3) سقفه لصاحب الدار لأن عليه إصلاحه ورم شعثه وبناؤه إن انهدم ولصاحب العلو حق الجلوس عليه (4)، وإنما قلنا إن عمارته على صاحب السفل لأن السقف ملك له وحق الأعلى فيما زاد عليه لأن البيت لا يكون بيتا إلا بسقفه في العادة، وإذا ثبت ذلك لزم لصاحب السفل من الانتفاع ورم الشعث من السقف أجبر على ذلك أو على البيع ممن يبني (5) وإلا أدى إلى إبطال ملك الأعلى. فصل [7 - إذا تنازع السقف بين صاحب السفل وصاحب العلو]: وإن تنازعا السقف حكم به لصاحب السفل (6) خلافًا للشافعي في قوله إنّه يكون بينهما (7)، وإن السقف محمول على ملك صاحب السفل غير متيقن ملكه لغيره فإذا تنازعا عليه حكم به لمن هو على ملكه كالحمل على الدابة يدعيه مالك الدابة وأجنبي، ولأن العرف جار بأن البيت إنما يكون بيتا بسقفه وأن الناس   (1) الكوة: هو الخرق في الجدار منه الهواء والضوء (المعجم الوسيط: 2/ ن 806). (2) انظر: المدونة 4/ 3478، التفريع: 2/ 292، الكافي ص 493. (3) في ق: مملوكة. (4) انظر: المدونة: 4/ 378، التفريع: 2/ 294، الكافي ص 493. (5) يبنى: سقط من م. (6) انظر: التفريع: 2/ 294، الكافي ص 495. (7) انظر: المهذب: 1/ 337، المغني المحتاج: 2/ 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1199 لا يسكنوه إلا مسقفًا، والحكم عند التنازع لمن شهد له العرف، ولأنه لو باع بيتًا لدخل سقفه في البيع بالإطلاق فعلم أنه منه وكذلك إذا قُسم بأنه يقسم سقفه. فصل [8 - إذا تنازعا حائطًا بين دارين]: إذا تنازعا حائطًا بين حكم به لمن يشهد (1) له العرف بأن يكون قد فعل فيه ما يفعل المُلَّاك في أملاكهم ويتصرفون غالبا فيه من الرباط ومعاقد القمط (2) ووجوه الآجر واللبن (3) وما أشبه ذلك (4)، وقال الشافعي لا يحكم بشيء من ذلك بل يكون بينهما (5)، ودليلنا قوله تعالى: {وأمر بالعرف} (6)، وروي أن رجلين تنازعا جدارا فحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجدار لمن إليه معاقد القمط (7) ولأن العادة أن مثل هذا التصرف إنما يكون من المُلَّاك فوجب أن يكون الحكم لمن شهد له العرف، وكما يجب مثل ذلك إذا تنازعًا في النقد أو صفة السير أو مقدار الحمولة. فصل [9 - التصرف في الحائط المشترك]: الحائط المشترك ليس لأحد الشريكين أن يتصرف فيه ولا أن يحدث فيه شيئًا إلا   (1) في م: شهد. (2) معاقد القمط: القمط جمع قماط وهي الشرط التي يشد بها الشخص ويوثق من ليف أو خوص أو غيرهما، ومعاقد القمط: تلي صاحب الخص (النهاية: 4/ 108). (3) اللبن: بكسر الباء - ما يعمل من الطين ويبنى به الواحدة لبنة (المصباح المنير ص 548). (4) انظر: التفريع 2/ 293، الكافي ص 493. (5) انظر: المهذب: 1/ 336. (6) سورة الأعراف، الآية: 199. (7) أخرجه ابن ماجه في الأحكام باب الرجلان يدعيان في خص 2/ 785، وفيه نمران ابن حاربة قال ابن القطان حاله مجهول وذكره ابن حبان في الثقات وأخرجه الدارقطني: 4/ 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1200 بإذن شريكه (1)؛ لأنه ليس لأحد أن يتصرف في ملك غيره بغير (2) إذنه وحقه غير متميز من حق الشريك فكان كالثوب والعبد، فإن انهدم وكان يستره لهما فأراد أحدهما بناؤه وأبى الآخر ففيها روايتان (3): إحداهما إجبار الممتنع، والأخرى نفي إجباره، فوجه إثباته (4) قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا ضرر ولا ضرار" (5) وفي ترك البناء بالشريك لأنه يطلع عليه ويتشرف على منزله، ولأنه لو أراد أن يفتح كوة ويشرف منها عليه لم يكن له ذلك وهذا بمنزلته، ووجه نفيه أن أحدا لا يجبر على البناء في حقه كما لو انفرد به وليس إذا تعلق بذلك حق الشريك يوجب إجبار الشريك الآخر عليه لأن حق الشريك هو منع هذا من الاطلاع عليه، فأما في وجوب (6) البناء فلا، وإذا ثبت أنه لا يجبر (7) فإنهما يقتسمان العرصة (8) ثم يبنى من يشاء منهما لنفسه، والبئر بين اثنين إذا غارت فإصلاحها عليهما فإن أبي أحدهما فإنما يتخرج على روايتين كالجدار. فصل [10 - فيمن له مسيل ماء على سطح جاره أو شرب في بستان غيره]: من له مسيل ماء على سطح لرجل فالنفقة للسطح على مالكه دون من له حق المسيل، ومن له شرب في بستان لرجل فاحتاجت ساقيته أو نهره إلى نققة فهي عليهما جميعًا (9)، قال (10) والفرق أن صاحب المسيل له حق مرور الماء على   (1) انظر: التفريع 2/ 293، الكافي ص 493. (2) في م: الا. (3) انظر: التفريع 2/ 293، الكافي ص 491. (4) فوجه إثباته: سقطت من م. (5) سبق تخريج الحديث ص 1049. (6) في ق: وجوبها. (7) في ق: كالجبر. (8) في ق: بالقرعة. (9) انظر: المدونة 4/ 376، التفريع: 2/ 293، الكافي ص 495. (10) قال: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1201 (السطح فعلى صاحب) (1) السطح تمكينه من ذلك وليس له ملك في السطح فلم تلزمه نفقه عليه، وليس كذلك صاحب الشرب لأن موضع الماء ملك بينه وبين صاحب البستان فلذلك لزمه الإنفاق على الساقية معه. فصل [11 - في طرح ما في السفينة خشية الغرق]: إذا خيف على المركب الغرق فطرح بعض ما فيه من المتاع بإذن أربابه أو بغير إذنهم فإنه (2) يكون منهم على قدر أموالهم، ولا يجوز لأحد (3) الامتناع من طرح متاعه إن احتيج تخفيف المركب ورجيت بذلك نجاته (4) لأن في الامتناع من ذلك تلفه وتلف غيره وسواء طرح الرجل متاعه بنفسه أو طرحه غيره الحكم فيه سواء، ولا فرق بين إذنه وعدم إذنه فيما يلزمه فعله لأن الطارح فعل ما يلزمه هذا فعله فكان كالنائب عنه، وإنما قلنا إنه يكون بينهم على قدر أموالهم لأن الحق في ذلك لجميعهم، ولأن غرق المركب إنما خيف لأجل متاعهم فكانوا شركاء فيما يحتاج (5) إليه من التخفيف، وقد اختلف في اعتبار القيمة: فقيل يكون في وقت الطرح لأن سائر المتلفات تقوم حال الاتلاف في المواضع التي يتعلق بها الضمان، وقيل في أقرب المواضع إليه لأنه في البحر لا قيمة له لأنه لا يساوي شيئًا وهو يطرح في الماء ويتلف كما لا يقوم المرتد وقت قتله، وقيل الثمن الذي اشترى به لأنه ليس ما يرتجع (6) إليه سواه إذ هو أولى من أقرب المواضع إلى موضع الغرق، ولا يلزم عمال المركب شيء لأنه لم يكن الخوف لأجلهم. فصل [12 - اصطدام مركبين في جريهما]: إذا اصطدم مركبان في جريهما فانكسر أحدهما فلا ضمان على الآخر لأنه لا   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) في م: فإنهم. (3) في م: لأحدهما. (4) انظر: التفريع 2/ 295، الكافي ص 492. (5) في ق: يحتاجوا. (6) في م: ما يرجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1202 صنع له في ذلك بخلاف الراكبين على فرسين (1) لأن التفريط من قبل الصادم إذ هو قادر على ضبط الفرس وعلاجة وإلا فكان يجب ألا يركب فرسًا لا يضبط لئلا يجني على غيره. ...   (1) انظر: التفريع 2/ 295، الكافي ص 493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1203 باب: الوديعة (1) الأصل في الوديعة (2) قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" (4)، ولأن عمل المسلمين جارٍ بها منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا، وهي أمانة محضة، ولا يضمنها المودع لأن قبضها ينفع صاحبها على التجريد: فإن ادعى أنها تلفت فالقول قوله فيها لأن يده عليها يد أمانة، وسواء كان متهمًا أو غير متهم لأن ربها رضي بأمانته سواء قبضها ببينة أو بغير بينة. فصل [1 - ادعاء المودع ردها على مالكها]: فإن ادعى ردها على مالكها فذلك على وجهين: إن قبضها بغير بينة فالقول قوله في ردها كالتلف، وإن كان قبضها ببينة لم تقبل منه إلا ببينة (5)، خلافًا للشافعي (6)؛ لأن رب المال لم يرض بأمانته على التجريد وإنما رضي بها في   (1) عنوان الباب: سقط من م. (2) الوديعة: قال ابن فارس: الواو والدال والعين أصل واحد يدل على الترك والتخلية ودعه: تركه (معجم مقاييس اللغة: 6/ 96) وفي الاصطلاح هي: مال وُكِّل على حفظه (الفواكه الدواني: 2/ 185). (3) سورة النساء، الآية: 58. (4) أخرجه أبو داود في البيوع باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده: 3/ 805 والترمذي في البيوع بعد باب ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمس يبيعها له: 3/ 564 وقال حسن غريب، والحاكم: 2/ 46 وقال على شرط مسلم. (5) انظر: المدونة 4/ 351 وما بعدها التفريع: 2/ 269، الرسالة ص 231، الكافي ص 403. (6) انظر: الأم 3/ 245، مختصر المزني ص 147، الإقناع ص 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1204 الحفظ دون القبض لأنه توثق منه بما أشهد عليه (حين قبضها فوجب الضمان وإلا لم ينتفع بالإشهاد بها، ولا يلزم عليه) (1) التلف لأنَّه لا يمكن الإشهاد عليه. مسألة [2 - إذا عرض للمودع سفر]: إذا عرض للمودع سفر لم يجز له أن يسافر بالوديعة، فإن سافر بها ضمن إن تلفت كان السفر آمنًا أو مخوفًا (2)، خلافًا لأبي حنيفة في تضمينه مع الخوف (3)، لما روي "أن المسافر عن نفسه وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله تعالى" (4) يعني الهلاك، ولأن السفر غرر ولم يأذن له صاحبها بالتغرير بها، واعتبارًا بالسفر المخوف. فصل [3 - إذا أراد المودع السفر فأودعها عند ثقة]: إذا ثبت أنه لا يسافر بها فإنه يودعها ثقة ولا ضمان على واحد منهما لأنه لا يمكنه حفظها بآكد من هذا الوجه. فصل [4 - في المستودع يودع الوديعة غيره]: إذا (5) استودعها من غير عذر (6) ضمن لأن مالكها رضي بأمانته دون أمانة غيره، ولم يأذن له في دفعها إلى غيره فكان متعديًا بذلك فلزمه الضمان، ويفارق ذلك حاجته إلى السفر لأن هناك ضرورة داعية إلى ما فعله، وكذلك إذا   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) انظر: المدونة 4/ 352، التفريع: 2/ 270، الكافي ص 403. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 164، مختصر القدوري - مع شرح الميداني - 2/ 198. (4) ذكره ابن قتيبة في غريب الحديث: 2/ 564، وقال الحافظ ابن حجر: رواه السلفي في أخبار أبي العلاء العربي وأسنده أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، وأنكره النووي في شرح المهذب، (انظر تلخيص الحبير: 3/ 98). (5) في م: وان. (6) انظر: المدونة 4/ 351 و 355، التفريع: 2/ 270، الكافي ص 403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1205 خاف عورة منزله فله أن يودعها غيره ولا ضمان عليه لأن ذلك يجري مجرى إرادة السفر ولكن لا يصدق على الخوف على منزله إلا بأمر يظهر يعلم صدقه فيه. فصل [5 - إذا دفع إليه مالًا في السفر يحمله إلى بلد فبعثه مع غيره]: إذا دفع إليه مالًا في السفر يحمله إلى بلد فعرضت له إقامة فله أن يبعثه مع غيره ولا ضمان (1)، والفرق بينه وبين مبتديء السفر أن هذه قد أذن له في السفر به إلى ذلك البلد فلم يتعد بدفعها إلى غيره مع الضرورة والحاضر يخالفه. فصل [6 - إذا أنفق بعض الوديعة]: إذا أنفق بعض الوديعة ضمن قدر ما أنفق دون جميعها، وإن أنفق الكل أو البعض ثم رد ما أنفق فلا ضمان عليه خلافًا لعبد الملك في إلزامه الضمان (2) لأن الذي أوجب عليه الضمان تعديه بالأخذ فهذا ردها فقد زال التعدي فسقط الضمان، ولأنه حافظ لها على الوجه الذي أمر به فلم يلزمه ضمان كالابتداء، ووجه قول عبد الملك أنه قد خرج عن الأمانة وصار متعديًا بأخذها فرده إياها لا يزيل عنه الضمان كما لو جحدها ثم اعترف بها. فصل [7 - سقوط الضمان بالرد فيما له مثل مما يكال أو يوزن]: وسقوط الضمان بالرد فيما له مثل كالذهب والفضة والحنطة والعسل وكل ما يكال أو يوزن، فأما فيما يلزم فيه القيمة فلا يسقط عنه (3) الضمان (4) لأن القيمة محتاجة إلى اجتهاد وحكم فلا يقبل حكمه لنفسه، والمثل لا اجتهاد فيه.   (1) انظر: المدونة 4/ 354، التفريع: 2/ 270. (2) انظر: المدونة 4/ 356، التفريع: 2/ 271، الرسالة ص 231، الكافي ص 404. (3) في ق: فيه. (4) انظر: المدونة 4/ 359، التفريع: 2/ 271، الرسالة ص231، الكافي ص 403 - 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1206 فصل [8 - في قبول قوله إنه رد ما أخذ]: وفي قبول قوله إنه رد ما أخذ أو مثله من غير بينة روايتان (1)، فإذا قلنا إنه يقبل فلأنه موكول (2) إلى أمانته كادعائه التلف أو الرد، ولأنه منفق لها على وجه التأويل واعتقاد ردها فلم يخرجه ذلك عن الأمانة، وإذا قلنا إنّه لا يقبل فلأن الدين المتعلق بالذمة لا يبرأ المقر به منه إلا ببينة أو بإقرار الغريم اعتبارًا بسائر الديون. مسألة [9 - كراهية التجارة بالوديعة]: يكره أن يتجر بالوديعة (3) لأن صاحبها إنما دفعها إليه ليحفظها عليه لا لينتفع بها، وإن فعل فعليه الضمان وله الربح، ومن أبضع معه بضاعة ليشتري بها شيئًا فاتجر فيها فإن تلفت ضمن وإن ربح فالربح للمالك بخلاف الوديعة لأن المُبضع طالب التنمي والربح فليس لمبضع معه قطعه عنه ونقله إلى ملكه، وأن تلف المال ضمن بتعديه والمودع إنما قصد الحفظ فقط (4) فلم يكن له من الربح شيء. ...   (1) انظر: المدونة 4/ 354، التفريع: 2/ 270، الرسالة ص 231 , الكافي ص 403. (2) في ق: موكولة. (3) انظر: التفريع 2/ 271, الرسالة ص 231، الكافي ص 405. (4) في م: لا الربح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1207 باب: العاريَّة (1) العاريَّة: تمليك منافع العين بغير عوض، وهي جائزة مندوب إليها (2) لقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (3)، وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل معروف صدقة" (5)، وقوله: "العارية مؤداة" (6)، لأنه - صلى الله عليه وسلم - استعار (7) وكذلك الصحابة. فصل [1 - أنواع العارية]: العارية نوعان: نوع يظهر هلاكه ولا يكاد يخفى كالرباع والحيوان فهذا لا يضمن إلا بالتعدي، وضرب آخر يخفى هلاكه ويغاب عليه فهذا يضمن إذا لم   (1) العاريَّة: بتشديد الياء لأن الأصل فيها عاوره من قولك تعاور القوم الشيء إذا تداولوه بينهم قال الشاعر: إذا رد المعاور ما استعار (غرر المقالة ص 227). (2) انظر: المدونة 4/ 360، التفريع: 2/ 267 - 269، الرسالة ص 231، الكافي ص 407. (3) سورة الحج، الآية: 77. (4) سورة النساء، الآية: 114. (5) سبق تخريج الحديث ص 998. (6) أخرجه أبو داود في البيوع باب في تضمين العرية: 3/ 825، وابن ماجة في الصدقات باب الكفالة: 2/ 804 والترمذي في البيوع باب ما جاء أن العارية مؤداة: 3/ 565 وقال حسن غريب، وهو صحيح بمجموع طرقه (انظر نصب الراية: 4/ 58، وتلخيص الحبير: 3/ 54). (7) كما جاء في حديث صفوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه يوم حنين أدرعًا. أخرج الحديث أبو داود في البيوع باب تضمين العارية: 3/ 822، وأحمد: 3/ 401، والدراقطني: 3/ 39 والحاكم: 2/ 47، والبيهقي: 6/ 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1208 يعلم هلاكه إلا بقول المستعير، فإن علم بغير قوله ببينة تقوم على هلاكه من غير تعد كان من المستعير ففيه روايتان: إحداهما لا يضمن وهو الصحيح، والأخرى أنه يضمن وهو قول أشهب (1)، وعند الشافعي أنها مضمونة على كل وجه (2)، (وعند أبي حنيفة أن العارية لا تضمن على كل وجه (3)) (4)، فدليلنا على سقوط الضمان في الحيوان والرباع ما روي: "ليس على المستعير ضمان" (5)، ولأنه حيوان وعقار قبضه لاستيفاء منفعة فلم يضمن تلفه كالعبد المستأجر والدار، ولأنه (6) مستعار تلف من غير تفريط فلم يضمن كالأجراء، ودليلنا على وجوب الضمان عليه فيما يغاب عليه أنه قبضه لمنفعة نفسه فلم يكن له حكم الأمانة على التجريد، فإذا لم يعلم (7) تلفه إلا بقوله لزمه الضمان، فأما إذا قامت به بينة فوجه قوله لا ضمان عليه أن التهمة قد انتفت عنه بقيام البينة على أنه لا صنع له بتلفه فلم يلزمه الضمان كالعبد المحروس (8)، ووجه قوله أن عليه الضمان فلأن أصله مأخوذ على الضمان لا على الأمانة فلم ينتقل عن أصله حسمًا للباب. فصل [2 - في الإعارة لمدة معلومة أو مطلقة]: إذا أعار شيئًا إلى مدة لم يكن له أخذه قبلها (9) لأن المدة قد صارت حقًّا   (1) انظر: المدونة: 4/ 361، التفريع: 2/ 268، الرسالة ص 231، الكافي ص 407. (2) انظر: الأم 3/ 244، مختصر المزني ص 116، الإقناع ص 114. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 116، مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 202. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) أخرجه الدارقطني: 3/ 41، والبيهقي: 6/ 91 عن عمرو بن عبد الجبار عن عبيده ابن حسان وهما ضعيفان (نصب الراية: 4/ 115). (6) في م: لأنها. (7) يعلم: سقطت من م. (8) في م: المحرم. (9) انظر: التفريع: 2/ 269، الكافي ص 408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1209 للمستعير فلم يكن للمعير الرجوع فيها كما ليس له الرجوع في الهبة، وأما العارية المطلقة فليس له الرجوع فيها إلا بعد أن ينتفع المستعير بها انتفاع مثلها (1) خلافًا للشافعي (2)، لأن العارية هي هبة المنافع أو تمليكها، فإن كانت مدة معلومة انحصرت عليها وإلا لزم من ذلك ما ينتفع في مثله من المدة لأنه لو جاز (3) له أخذها قبل ذلك لكان رجوعًا في العارية لأنه قد جعل على نفسه إباحة المنفعة وقد ملك ذلك المستعير فلم يكن للمعير إبطاله عليه. ...   (1) انظر: المدونة 4/ 362، التفريع: 2/ 268، الكافي ص 408. (2) انظر: مختصر المزني ص 116، الإقناع ص 114. (3) في ق: جازت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1210 {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) كتاب الغصب والتعدي (2) مسألة [1 - فيمن أتلف على غيره شيئًا]: إذا أتلف على غيره شيئًا ظلمًا لزمه بدل ما أتلف (3) لقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (4)، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (5)، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "طعام كطعام وصحفة كصحفة" (7)، ولأنه أتلف ملك غيره من غير استحقاق عليه فلزمه بدل ما أتلف لأنّ الأبدال في المتلفات كالقصاص في النفوس، وقال تعالى (8): {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (9) معناه أن القاتل   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) الغصب: في اللغة هو أخذ الشيء ظلمًا (الصحاح: 1/ 194) وهو في الاصطلاح: أخذ مال غير منفعة ظلما قهرًا لا لخوف قتال (حدود ابن عرفه ص 350)، أما التعدي: فهو التصرف في الشيء بغير إذن ربه قصد تملكه (حدود ابن عرفة ص 351). (3) انظر: المدونة 4/ 176، التفريع: 2/ 274، الرسالة ص 232، الكافي ص 428. (4) سورة الشورى، الآية: 42. (5) سورة الشورى، الآية: 40. (6) سورة البقرة، الآية 194. (7) القصة في البخاري في المظالم باب إذا كسر قصعة .... 3/ 108 ولفظ الحديث في الترمذي في الأحكام باب ما جاء فيمن يكسر له الشيء: 3/ ن 631، وقال حسن صحيح. (8) في م: وقد قال الله تعالى. (9) سورة البقرة، الآية: 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1211 أو الجارح إذا علم أنه يُفعل به مثل ما فعل ارتدع عن أن يفعل ذلك وانزجر خيفة أن يقتص منه فكأن في ذلك حياة للنفوس، وإلا اجترأ الناس بعضهم (على بعض كذلك الجناية على المال لو لم يجب فيها البدل لاجترأ الناس بعضهم) (1) على أموال بعض إذ لا بدل يلزمهم. فصل [2 - في دفع بدل المتلف]: (كذلك الجناية على المال لو لم يجب فيها البدل لاجترأ الناس بعضهم على بعض) (2)، فإذا ثبت ذلك فعلى المُتلِف دفع بدل المُتلَف إلى صاحبه والبدل نوعان: مثل من طريق الخلقة والصورة: فهو كل ما يكال ويوزن، فمن أتلف على غيره شيئًا مما يكال أو يوزن لزمه رد مثله لا قيمته وذلك (3) كالذهب، والفضة، والحديد، والصفر (4)، والنحاس، والحنطة، والشعير وسائر المأكولات ولا تلزمه القيمة إنما يصار إليها عند تعذر المثل من طريق الخلقة لأنها ضرب من الحكم والاجتهاد في تعديلها بالمتلف فالمثل من طريق الخلقة لا اجتهاد فيه فكان كالاجتهاد مع وجود النص إذ لا فائدة فيه. فأما ما لا يكال ولا يوزن: كالثياب وسائر العروض، والرقيق، والحيوان فيلزمه بإتلافه قيمته دون مثله (5)، خلافًا لمن حكي عنه أنه يلزمه مثله من جنسه (6)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) في ق: كذلك. (4) الصفر: بضم وكسر الصاد - النحاس (المصباح المنير ص 342). (5) انظر: المدونة 4/ 182 - 188، التفريع: 2/ 274 - 275، الرسالة ص 232، الكافي ص 428 - 429. (6) يحكى عن عبد الله بن الحسن العنبري أنه يضمن بمثله من جنسه (انظر المغني: 5/ 239). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1212 العبد قوم عليه قيمة (1) العبد فأعطى شركاءه حصصهم وأعتق عليه العبد" (2)، والعتق إتلاف ثم أوجب القيمة فيه دون المثل فكان ذلك أصلًا في بابه، ولأن كل ما لا يكال ولا يوزن فالغرض منه أعيانه دون مبلغه فوجب قيمة العين، وما يكال ويوزن الغرض منه مبلغه فكان فيه مثله، والقيمة المعتبرة يوم التعدي والجناية لا يوم الحكم لأن الحكم معلق بذمته بالتعدي لا بالحكم إذا مطالبة الحاكم إنما هي بأمر قد تقدم وجوبه وإنما ينكشف بالحكم بمقدار ما اشتغلت به ذمته. فصل [3 - عدم مراعاة ارتفاع الأسواق وانخفاضها في بدل المتلف]: ولا يراعي ارتفاع الأسواق وانخفاضها كما لا يراعي ذلك في السرقة (3) لأن القيمة متعلقة بالذمة تعلقًا منبرما حين التعدي ولا يؤثر ذلك بغيرها. فصل [4 - في أضرب الجنايات]: الجناية على ضربين: جناية تُبطل يسيرًا من المنفعة وجلها من السلعة باق فهذا يجب فيه ما نقص: وذلك بأن تقوم وقت الجناية صحيحة وتقوم بالجناية فيلزم الجاني ما بين القيمتين (4)، وإنما قلنا ذلك لأن الذي يلزمه بدل مما أتلف والإتلاف إنما يكون لهذا القدر من المنافع فلم يضمن ما زاد عليه، والضرب الآخر جناية تُبطل الغرض المقصود من الشيء والذي له يراد وإن بقيت فيه منافع متابعة غير مقصودة: فهذا يكون صاحبه مخيرًا إن شاء أخذ ما بين قيمته صحيحًا ومعيبًا وإن شاء أسلمه وأخذ قيمته وذلك مثل أن يكون لرجل عبد يزيده لبعض المنافع فتعدى (5) عليه رجل فيقطع يده أو يعميه (6) فيبطل عليه الغرض الذي له   (1) قيمة: سقطت من م. (2) أخرجه البخاري في الشركة باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة العدل: 3/ 111 ومسلم في العتق: 2/ 1139. (3) انظر: المراجع السابقة. (4) انظر: المدونة 4/ 182 وما بعدها، التفريع 2/ 274 - 275، الرسالة ص 232 - 233, الكافي ص 428 - 430. (5) في م: فتقدر. (6) في م: أو يعميه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1213 يراد في العادة، وكذلك المركوب الذي يراد للجمال والركوب يقطع أذنيه أو ذنبه فيبطل الغرض المقصود منه وإن كان يبقى فيه (1) استعماله في الحمل ونقل التراب أو ما أشبه ذلك، وقال أبو حنيفة والشافعي (2): عليه في ذلك مثل ما بين القيمتين (3)، وإنما قلنا ذلك لأنه قد أتلف عليه بهذا الفعل غرضه المقصود منه ضمانه اعتبارًا به لو أحرقه أو أتلف جميعه. مسألة [5 - في ضمان الشيء المغصوب باليد]: الشيء المغصوب مضمون باليد فمن غصب شيئًا فقد ضمنه إلى أن يرده: فإن رده كما غصبة سقط عنه الضمان ولزم المالك قبوله، فإن تلف عنده (4) على أي وجه تلف ضمنه بقيمته يوم الغصب، إما بمثله إن كان مما له مثل أو بقيمته إن كان مما لا مثل له أي نوع كان من ذهب أو فضه أو حيوان أو متاع أو عروض أو عقار (5)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن كل ما لا يصح نقله كالضياع والعقار فإن الغاصب لا يضمنه (بإخراجه عن يد مالكه إلا بأن يجني هو عليه فيتلف فيضمنه) (6) بالإتلاف (7)، ودليلنا أن كل معنى (8) يضمن به ما ينقل ويحول من الأعيان فإنه يضمن له ما لا ينقل منها ولا يحول كالقبض في البيع، واعتبارًا بما لا ينقل ولا يحول بعلة أنها أعيان مقصورة، ولأن الغصب سبب للضمان فوجب أن يضمن به العقار والنخل كالإتلاف به.   (1) في ق: معه. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 117 - 120، مختصر المزني ص 117. (3) في ق: في ذلك ما بين القيمتين. (4) في م: عمده. (5) انظر المدونة 4/ 184، التفريع 2/ 274 - 276، الرسالة ص 232، الكافي ص 428. (6) ما بين قوسين سقط من ق. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 118، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 189. (8) في (ق): كل وصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1214 فصل [6 - زوال الضمان بإعادة المغصوب إلى يد مالكه]: وإنما قلنا إنه إذا رده فلا شيء عليه لأنّه قد فعل ما كان عليه أن يفعله من إزالة يده عنه وترك إمساكه ظلمًا وإعادته إلى يد مالكه فزال عنه الضمان لزوال السبب الموجب له وهو الغصب. فصل [7 - إذا زاد المغصوب عند الغاصب بسمن وغيره]: إذا زاد المغصوب عند الغاصب بسمن أو فراهة في تعلم صنعة أو زيادة تسوق أو ما أشبه ذلك فإنما (1) للمالك أخذه ولا شيء للغاصب ولا أجره عليه لما علم من ذلك لأن المالك لم يأذن له، وليس بعين يمكنه ارتجاعه فلم يكن له شيء فأما إن زاد عنده بسمن أو غيره ثم تلفت تلك الزيادة ورجع إلى ما كان عليه عند الغصب فرده على الحال التي غصبه عليها لزم المالك أخذه ولا ضمان على الغاصب (2)، خلافًا للشافعي في قوله إنه يضمن ما نقص عنده فيرد الأرش معه (3)، ودليلنا أن من أصلنا أنه ضامن لها يوم الغصب وما طرأ على أبعاضها أو ثمنها (4) من نقصان أو زيادة فلا حكم له لأنه طاريء على عين مضمونه، ولأن رجوع العين المغصوبة إلى مالكها على الصفة التي غصبت يوجب القبول فوجب سقوط الضمان أصله لو لم تزد عنده (5) واعتبارًا بحوالة الأسواق. فصل [8 - إذا رده الغاصب ناقصًا في بدنه عما غصبه عليه]: إذا رده ناقصًا في بدنه عمَّا غصبه عليه فإن المالك مخير بين أن يأخذه وبين أن يرده (6) ويضمنه القيمة يوم الغصب (7)، وإنما قلنا ذلك لأنّه متعدى عليه   (1) فإنما: سقطت من م. (2) انظر: المدونة 4/ 176، التفريع: 2/ 276 - 278، الكافي ص 428. (3) انظر: الأم 3/ 246، مختصر المزني ص 117، الإقناع ص 114 - 115. (4) في م: على انقاضها أو بدنها. (5) في م: لو لم نرد عينه. (6) في م: يسلمه. (7) انظر: المدونة 4/ 176 و 184، التفريع: 2/ 274 - 378، الرسالة ص 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1215 والغاصب هو المتعدي فكان أولى بالحمل عليه لقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (1)، ولأن المعتدى عليه غير في الأصول لأنه مجنى عليه في ماله (2) فله أن يقول لا آخذها كسيرة وقد غصبت مني صحيحة، فإذا ثبت أنه غير بأن كان أخذها ناقصة فينظر: فإن كان ما حدث بها من النقص بأمر من الله تعالى (3) لا بفعل من الغاصب فليس للمالك إلا أخذها بغير أرش أو إسلامها وأخذ الغاصب بقيمتها يوم الغصب، وإنما قلنا ذلك لأن الغاصب كان ضامنًا لها يوم الغصب (4) فلم يكن لما حدث من العيب فيها حكم في الضمان لأنه على أصل مضمون فإذا اختار المالك أخذها فقد رضي بعيبها لأنه لو لم يرض به لكان يسلمها ويرجع بالقيمة، فإذا قال أريد الأرش لم يكن له ذلك لأن الغاصب لم يكن ضامنًا لما حدث بانفراده وإنما كان ضامنًا له بضمان الجملة وأبعاضها متابعة لها. فصل [9 - إذا كانت الجناية على المغصوب بفعل الغاصب]: فأما إن كانت الجناية بفعل الغاصب مثل أن يقطع يدها أو يفقأ عينها واختار أخذها فهل يجب له أخذ أرش النقص فيه خلاف (5): قال ابن القاسم: له ذلك، وقال سحنون وابن المواز ليس له إلا أخذها ناقصة بغير أرش أو إسلامها والرجوع بالقيمة يوم الغصب، وجه قول ابن القاسم إنه جناية على ملك كالمبتدأة، ولأن المالك متعدى عليه بشيئين بالغصب (وبالجناية فله أخذ الغاصب بأيهما شاء) (6)، ووجه قول سحنون وابن المواز إنه ضامن لقيمتها بالغصب،   (1) سورة الشورى، الآية: 42. (2) في م: ملكه. (3) تعالى: سقطت من ق. (4) لها يوم الغصب: سقطت من م. (5) انظر: المدونة: 4/ 178، الرسالة ص 233، الكافي ص 428 - 430، المقدمات ك 3/ ن 491. (6) ما بين قوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1216 والجناية الطارئة بعد الضمان لا حكم لها أصله إذا كانت من قبل الله تعالى؛ لأن الجناية على النفس آكد وأغلظ من الجناية على الأطراف وقد ثبت أن الغاصب لو قتلها لم يلزمه زيادة على قيمتها يوم الغصب ففي الجناية على الأطراف أولى. مسألة [10 - إذا لم ينتفع بما غصبه من دار أو عبد أو ثوب ..]: إذا غصب دارا أو عبدا أو دابة أو ثوبًا فلم ينتفع به بسكنى ولا بركوب أو استخدام أو لبس أو غير ذلك ولا بإكراء ولا أغله فلا شيء عليه ولا يطالب بأجرة المدة التي بقيت غصبا في يده (1)، وقال الشافعي: تلزمه أجرة المثل للمدة التي قامت في يده (2)، ودليلنا أنها منافع لم تستوف من المغصوب فلم يضمنها الغاصب أصله منافع البضع وهو أن يحبس حرة لا يمكنها التزويج وأخذ بدل بضعها حتى مضت مدة من الزمان فإنه لا يضمن مهر مثلها, ولأنها منافع تلفت في يد الغاصب من غير أن ينتفع بها أو يأخذ لها بد لا فلم يضمنها كبضع الأمة. فصل [11 - إذا انتفع الغاصب بالمغصوب بنفسه أو بغيره]: فأما إذا انتفع الغاصب بالمغصوب إما بنفسه مثل أن يسكن الدار أو يركب الدابة أو يستخدم العبد أو يزرع الأرض، أو بأن يؤاجر ذلك يأخذ غلته فقد اختلف فيه: ففرق (3) ابن القاسم بين العقار وبين الحيوان فقال في الربع إن سكنه بنفسه أو زرع الأرض لزمه أجرة المثل، وإن كان أكراهًا من غيره (4) لزم غرم ما أكراها به إن كان بقدر أجرة المثل وإن كان دون ذلك لزمه تمام الأجرة، وفي الدواب والرقيق لا رجوع للمالك على الغاصب لا فيما انتفع به بنفسه ولا فيما أكراه واغتله، وقيل لا فرق بين ذلك كله ويرجع المالك عليه بكراء وغلة ما اغتله ولا يرجع عليه بما ركب بنفسه أو استخدم، وقيل عن مالك (5) إن المالك لا يرجع بشيء أصلًا لا من أجرة ولا من كراء لا فيما انتفع الغاصب بنفسه ولا فيما   (1) انظر: المدونة 4/ 184، الرسالة ص 232، الكافي ص 430. (2) انظر: الأم 3/ 247، مختصر المزني ص 117. (3) في م: فصل. (4) من غيره: سقطت من ق. (5) في ق: حق ملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1217 أكراه في كل شيء من الرباع والحيوان وغيرها، وأن المنافع بالضمان (1). فوجه التفريق بين الحيوان والرباع أن الحيوان غير مأمون لأن التغير (2) يسرع إليه والتلف غالبًا يجوز عليه فيمكن أن يتلف باستعماله فيلزمه قيمته فكان الخراج له وليس كذلك الرباع لأنها مأمونة في الغالب، ولأن (3) الحيوان محتاج إلى نفقة ومؤونة والغاصب لا يرجع بما أنفق عليه فكانت المنافع غير مضمونة عليه (4) والرباع يرجع بما أنفق فيها أو عمره فأخذ منه قيمة ما انتفع وأجرة ما اغتل. ووجه التفريق بين انتفاعه بنفسه وبين ما أكراه واغتله (5) في الحيوان والرقيق أن ما أكراه (6) عوضًا في منافع ملك الغير فكان كالعين القائمة فلزمه ردها، وما سكن بنفسه لم يأخذ عليه عوضًا يستحق رده عليه، ولأنه إن تلف ذلك في استخدامه أو ركوبه غرم القيمة ولم يأخذ شيئًا يغرم منه، فإن أكراه ثم تلف فقد اعتاض الكراء الذي يغرم (7) منه. ووجه القول بأن المنافع غير مضمونة أصلًا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان" (8)، ولأن الغاصب لما كان ضامنا للعين بقيمتها يوم الغصب لم يكن لمنافعها حكم في الضمان لأنها متابعة للعين، فأما إن اختار المالك أخذ العين ولا يرجع بشيء أو ضمنه قيمتها يوم الغصب، ولأن الضمان بالجناية آكد من الضمان بالاستخدام وغيره وقد بينا (9) أن الغاصب لو جنى على بعض أطراف المغصوب لم يكن   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 4/ 185، التفريع: 2/ 276، الرسالة 233 , الكافي ص 430. (2) في ق: التغيير. (3) ق: ولا ضمان. (4) في م: عليهم. (5) في م: ما اكتراه وأغله. (6) في م: ما اكتراه. (7) في م: يعدم. (8) سبق تخريج الحديث. (9) في م: وقد ثبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1218 لمالك إلا أخذه ناقصًا بالأرش أو إسلامه والرجوع بالقيمة يوم الغصب فكان بأن لا يرجع في المنافع أولى. ووجه القول بأنه يرجع عليه في كل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امريء مسلم إلا عن طيب نفس منه" (1)، ولأنه انتفع بملك غيره من غير ملك ولا شبهة فلزمه (2) قيمة ما انتفع به أصله إذا ابتدأ الاستخدام والسكنى من غير غصب. مسألة [12 - إذا غصب ساحة فبنى فيها]: إذا غصب ساحة فبنى عليها لزمه قلع البناء وردها (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا يقلعه (4)، ولصاحبها القيمة (5)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (6)، ولأنها عين اغتصبها فإذا جاز ردها لزمه أصله لو لم يبدأ فيها في البناء، ولأنه شغل ملك الغير بملكه الذي لا حرمة له غصبًا فوجب أن يلزمه رده أصله لو غصبه أرضًا لو غصب أرضًا فزرعها. فصل [13 - إذا غصب أرضًا فزرعها]: إذا غصب أرضًا فزرعها ثم أدركت والزرع قائم فيها: فإن كان وقت الزرع لم يفت كان للمالك (7) قلع زرعها (8) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" (9)   (1) سبق تخريج الحديث 1198. (2) في ق: فلزم. (3) انظر: المدونة 4/ 190 - 191، التفريع: 2/ 277، الكافي ص 432. (4) في م: لا تقلع. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 117 - 118، مختصر القدوري - مع شرح الميداني - 2/ 192 - 193 وهذا على خلاف المشهور في المذهب. (6) أخرجه أبو داود في البيوع باب في تضمين العارية: 3/ 822، وابن ماجة في الصدقات باب العارية: 2/ 802، والترمذي في البيوع باب ما جاء في أن العارية مؤداة: 3/ 557، وقال حسن صحيح والحكم: 2/ 47 وقال هذا حديث صحيح على البخاري. (7) انظر: المدونة 4/ 190، التفريع: 2/ 279، الكافي ص 430 و 432. (8) في ق: زرعه. (9) هذا الحديث جزء من حديث "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" الذي سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1219 وهذا عرق ظالم، ولأن منافعها غير مملوكة فليس له شغلها على صاحبها ولا لعرقه حرمة كزرع المستحق من يده فيلزم المالك تبقيته (1) وأخذ الأجرة، وإذا كان كذلك كان له قلعه. فصل [14 - إن كان وقت الزرع قد فات ولا ينتفع المالك بقلعه]: فأما إن كان وقت الزرع قد فات ولا ينتفع المالك به إن قلع الزرع ففيها روايتان (2): إحداهما أن له قلعه، والأخرى أن ليس له قلعه ويكون على الغاصب أجرة المثل، فوجه قوله أن يقلعه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليس لعرق ظالم حق"، واعتبارًا به إذا كان وقت الزرع لم يفت. (ووجه قوله ليس له قلعه: أنّه لا ينتفع بذلك ويضر بالزرع) (3) فكان قصده مجرد الإضرار بالغاصب فلا يترك لذلك والأول أصح. فصل [15 - إذا أراق المسلم على ذمي خمرا]: إذا أراق على ذمي خمرا فعليه قيمته عند مالك، وقال عبد الملك لا قيمة عليه (4)، وهو قول الشافعي (5)، فوجه قول مالك أنه أتلف عليه ظلمًا ما يعتقده ملكا له ويعز عليه فلزمه قيمته أصله إذا أتلف عليه ثوبًا أو غيره من العروض، ووجه قول عبد الملك إنه لا قيمة للخمر فلم يلزمه بسوى الأدب بإتلافه ما لم يكن له أن يتولى إتلافه، كما لو عدى على مرتد فقتله لم تلزمه ولم يكن عليه إلا الأدب بافتياته على الإِمام. فصل [16 - حكم من غصب أمة فوطئها]: إذا غصب أمة فوطئها فإنه زان لأنه وطء عن غصب كوطء الحرة وولده ملكًا لسيده لأن ولد الأمة من غير سيدها تابع لها في الحرية والرق (6).   (1) في ق: بقيمته. (2) انظر: المدونة 4/ 190، التفريع: 2/ 279، الكافي ص 432. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) انظر: المدونة: 4/ 190. (5) انظر: مختصر المزني ص 119، الإقناع ص 116. (6) انظر: المدونة 4/ 181، التفريع: 2/ 280، الكافي ص 430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1220 فصل [17 - إذا أخذ القيمة من الغاصب ثم وجد الشيء المغصوب]: إذا أخذ القيمة من الغصب ثم وجد الشيء المغصوب فهو للغاصب ولا رجوع للمالك عليه (1) خلافًا للشافعي (2)؛ لأنه لما أدى القيمة صار ملكًا له لأنه عوض عن رقبته فأشبه الثمن وهذا إذا لم يكن الغاصب أخفاه. فصل [18 - ضمان فتح قفص عن طائر فطار]: إذا فتح قفصًا عن طائر فطار ضمنه طار عقيب الفتح أو بعد مهلة (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)؛ لأن سبب إتلافه الفتح لأن بالفتح خرج من القفص ولولاه لم يكن له سبيل إليه فإذا ثبت أن فتحه سبب لإتلافه لزمه ضمانه. ...   (1) انظر: التفريع 2/ 279، الكافي ص 433. (2) انظر: مختصر المزني ص 118 - 119، المهذب: 1/ 367. (3) انظر: التاج والإكليل -للمواق- بهامش مواهب الجليل: 5/ 278. (4) انظر: مختصر المزني ص 118، المهذب: 1/ 374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1221 باب: الاستحقاق (1) إذا ابتاع رجل أمة فأولدها ثم استحقها رجل فقد اختلف قوله في أخذها فعنه في ذلك روايتان (2): إحداهما أن المستحق يأخذها، والأخرى أن ليس له أخذها وله قيمتها. فوجه قوله إن له أخذها لأنها باقية على ملكه واستيلاد الغير إياها (3) لا يمنع المالك أخذها ولا يوجب لها (4) حرمة الاستيلاد لأن ذلك إنما يكون بفعل من السيد، وأما على وجه صنع له فيه فلا , ولأنها ولدت من غير مالك فلم يثبت لها حرمة الاستيلاد أصله إذا ولدت من نكاح ولأن اعتقاد الوطء استباحة وطئها بالملك كاعتقاده ذلك في النكاح وقد ثبت أنه لو غرت من نفسها فتزوجها رجل على أنها حرة ووطئها فإن ذلك لا يمنع سيدها أخذها فكذلك في البيع. ووجه قوله إنه ليس له أخذها فلأنه واطيء بشبهة ملك وشبهة كل عقد مردود إلى صحيحه, وإذا ثبت أنه ليس له أخذها فله القيمة وتكون يوم فاتت بالوطء كما تكون على الغاصب يوم الغصب، وإن لم يختر (5) أخذ الثمن ولا أخذها واختار الثمن الذي باعها به الغاصب فله ذلك لأنّه متعدى عليه والخيار له، فإذا قلنا له أخذها أو ليس له أخذها فإن الولد لا يأخذه بحال لأن الأب (6) دخل   (1) الاستحقاق: في اللغة إضافة الشيء لمن يصلح به وله فيه حق، وفي الاصطلاح: رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله أو حرية كذلك بغير عوض (حدود ابن عرفه- مع شرح الرصاع- 353). (2) انظر: المدونة 4/ 191، التفريع: 2/ 282، الكافي ص 433، المقدمات: 2/ 503. (3) في م: لها. (4) في م: له. (5) في م: لم يجبر. (6) الأب: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1222 على أنه وطء ملكه وإن ولده أحرار فلا يجوز استرقاقهم فأما أخذ قيمتهم من الأب ففيه خلاف: فوجه أخذها أن الأصل أن ولد أمته ملك له إلا أنه منع ذلك لحرمة الاستيلاد الثابت بالشبهة فكان الرجوع بالقيمة على الأب لأنه سبب يمنع (1) أخذ السيد لهم، ووجه نفي أخذها أنهم ولدوا في ضمان الأب بعد ثبوت القيمة عليه للأم وثبوت حرمتها فلا ضمان عليه فيما يتبع الأصل، وإذا وجدها قد ولدت من غاصب فإنه يأخذها لأن حرمة الاستيلاد لا تثبت لها ويأخذ الولد لأنهم ملك له لأن الأب لم يدخل على أنهم أحرار والواطيء زان إذا وطء على الغصب يلزمه الحد ولا يلحق به الولد وقد بيناه. فصل [1 - إذا غرَّت الأمة من نفسها فتزوجت على أنها حرة]: فأما إذا غرت الأمة من نفسها فتزوجت على أنها حرة فللسيد أخذها لأن منافع بضعها ملك له وغرورها لا يزيل ملكه، وله أخذ قيمة الولد ممن أخذه (2) لأنّه سبب زوال السيد عنهم -لأنه دخل على أن يكونوا أحرارا بما غرته من نفسها , وهذا إذا كان الواطيء أجنبيًّا أو من لا يعتق ولده على رجوع له بقيمة الولد على الواطيء (3) خلافًا لمن يقول إن له القيمة (4) لأن الولد إذا وجب عتقه عليه فأخذ العوض عليه غير جائز، والقيمة تكون يوم الحكم لأن ذلك وقت استحقاقها، ويرجع الأب بالصداق على من غره لأن العوض لم يسلم (5) له ولا يرجع بقيمة الولد (6) إذا أخذت منه على من غره لأن الغرر (7) لم يتعلق بالولد وإنما تعلق بالاستمتاع.   (1) في ق: منه. (2) في م: الأب. (3) انظر: المدونة 4/ 197، التفريع 2/ 283 , الكافي ص 433. (4) هو رواية عن الإِمام أحمد واختاره الخرقي انظر مختصر الخرقي ص 94، المغني: 52116 - 522). (5) في ق: لو يعلم. (6) في ق: بالقيمة. (7) في م: الغرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1223 مسألة [2 - من أحيا مواتًا أو ابتاع خرابًا فعمرها ثم جاء مستحق لها]: من أحيا مواتًا أو ابتاع خرابًا فعمرها ثم جاء مستحق: فإنه يأخذ ملكه إن أحب بعد دفع قيمة العمارة قائمة، ويرجع المشتري بالثمن على بائعه فإن لم يختر المستحق ذلك قيل للثاني ادفع إليه قيمة أرضه براحًا وتكون لك فإن أبي كانا شريكين بقدر قيمة البراح من غير عمارة وقيمة العمارة قائمة (1). وإنما قلنا إن المستحق يبدأ بالخيار لأنه أقوى سببًا لكون الأرض له والمشترى أو المحيي عمر في شبهة ملك فكان صاحب الملك مقدما عليه، وإنما قلنا يعطيه قيمة البناء قائما لأنه لم يتعد في البناء فيه فيطالب بالقلع، وإنما دخل على أنه يبني في ملكه فلم يكن ظالمًا بل كان لبنائه حرمه. وإنما قلنا إنه إذا بذل القيمة لزم الثاني أخذها لأن الضرر قد زال عنه بالاستحقاق بحصول القيمة، وإنما قلنا إن القيمة تكون وقت الحكم لأن ما قبل ذلك لم يجب أخذها للمستحق. وإنما قلنا إن الخيار ينتقل إلى الثاني إذا أبى (2) المستحق ليزول الضرر عنهما فيقال للباني (3) ادفع إليه قيمة براحه فإن أجاب إلى ذلك وأبى المالك أُجبر على أخذه لأن الباني (4) يقول لست أختار أن يكون لي بناء في ملك غيري فيكون له ذلك. وإنما قلنا إنهما يكونان شريكين إذا أبى كل واحد أن يدفع إلى الآخر قيمة ماله لأن كل واحد منهما له حق لا يجوز إبطال الآخر له، وليس إلا الإجبار أو البقاء على الشركة.   (1) انظر: المدونة 4/ 193 - 195، التفريع: 2/ 282، المقدمات: 2/ 507 - 509. (2) في ق: أفاء. (3) في م: الثاني. (4) في م: الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1224 فصل [3 - في الاستحقاق من يد غاصب]: وأما الاستحقاق من يد غاصب قد بنى وغرس فإن المالك مخير: إن شاء قلع بناءه وغرسه، وإن شاء أعطاه قيمته مقلوعًا بعد طرح أجرة القلع (1). وإنما وجب ذلك لأن عرق الغاصب لا حرمة له لأنه (2) عرق ظالم فكان لرب الأرض قلعه إذا اختاره وله دفع قيمته مقلوعًا إن اختار، ولا مقال للغاصب إن قال أريد عين مالي ولا أريد قيمته لأن المالك يقول لا أدعك تعور أرضي بقلع غراسها أو بنائها أو بإخرابها وإحواجي (3) إلى عمارتها فيكون ذلك له، وإنما قلنا إنه يدفع إليه قيمته مقلوعًا لأن تبقيته غير مستحقة عليه؛ لأن القيمة في هذا الموضع بدل عن العين للغراس والبناء فلما كان للغاصب أخذه نقضًا وخشبًا كان على المالك أن يعطيه قيمته بما كان يأخذه لو أخذه، وإنما قلنا يحط عنه أجرة القلع لأن قلعه مستحق على الغاصب لأن (4) عليه تسليم الأرض إلى المالك فارغة فيجب أن يحط عن المالك قدر الأجرة وليس للغاصب قيمة ما لا له إن قلع (5) ولا قلعه مثل الجص الذي لا مرجوع له وإزالة النقوش والتزاويق وما أشبه ذلك لأن قلع ذلك إضرار برب الأرض ويعور أرضه من غير نفع يحصل للغاصب فلم يكن منه، ولا معتبر لقوله إن هذا غير شيئي فلي أخذه لأنه ذلك يكون له فيما ينتفع به، فأما فيما يقصد به إضرار غيره فلا يمكَّن منه والله أعلم وأحكم (6). ...   (1) انظر: المدونة 4/ 184 و 190، التفريع: 2/ 279، الرسالة ص 232 - 133، الكافي ص 432. (2) لأنه: سقطت من م. (3) في م: باتجزاءها وإحراجي. (4) على الغاصب لأن: سقطت من ق. (5) نفي م: نان قلعه. (6) أحكم: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1225 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على محمد (1) كتاب الحوالة (2) لا خلاف في جواز (3) الحوالة (4)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع" (5)، وهي في الحقيقة بيع الدين بالدين لأن المحيل باع الدين الذي له على المحال عليه من غريمه بدينه الذي كان عليه، واستثنيت من الكاليء بالكاليء وهو الدين بالدين لأن المقصود بيع الرطب بالتمر في نظائر لذلك. مسألة [1 - شروط الحوالة]: إذا أحالك غريمك بدينك الذي لك عليه على من له عليه دين لم يلزمك ذلك إلا برضاك: فإن رضيت باتباعه تحول حقك وبرئت ذمة غريمك المحيل، ولا اعتبار برضا من أحيل عليه ولا رجوع لك على من أحالك إن فات من أحلت عليه أو غاب أو أفلس إلا أن يكون غريمك علم منه حين أحالك عليه إفلاسًا فقد غرك ولم يعلمك فيكون لك الرجوع على غريمك (6).   (1) ما بين قوسين سقطت من م. (2) الحوالة: في اللغة الإحالة أو التحويل، وفي الاصطلاح طرح الدين عن ذمة بمثله في أخرى. (حدود ابن عرفة - مع شرح الرصاع ص 316) وسيأتي تعريف المصنف للحوالة قريبا في النص. (3) في م: في جوازها. (4) انظر: الإجماع - لابن المنذر - 125، المغني: 4/ 576، فتح الباري: 4/ 3676. (5) أخرجه البخاري في الحوالة باب الحوالة: 3/ 55، ومسلم في المساقاة باب تحريم مطل الغني: 3/ 1197. (6) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة 4/ 148، التفريع: 2/ 288، الكافي ص 401، المقدمات: 2/ 403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1227 وإنما شرطنا رضا صاحب الدين بالحوالة، خلافًا لدواد في قوله أنه يلزمه قبول الحوالة شاء أم أبى (1)؛ لأن صاحب الدين رضي بذمة غريمه دون غيرها فلا يلزمه الانتقال إلى ذمة لم يرض بها مع بقاء الذمة الأولى، ولأنه حق تعلق بذمته فلم يجبر على نقله إلى شيء آخر كما لا يجبر على نقله إلى شيء آخر (2). وإنما شرطنا أن يكون للمحيل على المحال عليه دين لأنه إن لم يكن له عليه دين كانت حمالة لا حوالة لأن حقيقة الحوالة: بيع الدين الذي على المحال بالدين الذي للمحيل، وتحول الحق من ذمة (3) إلى ذمة وذلك يقتضى أن يكون هناك دين تحصل الحوالة به. وإنما قلنا إن ذمة المحيل تبرأ إذا رضي صاحب الدين بالحوالة، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن له الرجوع إن مات المحال عليه مفلسا أو جحد الحق (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع" (5) فأطلق، ولأنها حوالة برأت ذمة المحيل بها فلم يكن له الرجوع على المحيل بها أصله إذا لم تتغير حاله، ولأن عقد الحوالة إذا انبرم منع رجوع المحال على المحيل أصله ما ذكرناه، ولأن الحوالة بمنزلة الأبراء، والقبض لأن المطالبة بالدين تسقط معها والاعتبار حادث بعد القبض فلا رجوع للمحال به. وإنما قلنا إذا غره كان له الرجوع، خلافًا للشافعي في قوله لا رجوع له (6)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع" (7) وهذا غير مليء، ولأن   (1) انظر: المحلى 8/ 520، بداية المجتهد - مع الهداية في تخريج أحاديث الهداية: 8/ 114. (2) في م: كما على يجبر على بقاء إلى شيء آخر. (3) في ق: ذمته. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 103 - 104، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 161. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) انظر: الأم 3/ 229، مختصر المزني ص 107، الإقناع ص 107. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1228 المحال إنما أبرأ المحيل على شرط وهو علمه بسلامة ذمة من يحمله (1) عليه، وإذا غره كان له الرجوع لأنه قصد إتلاف ماله. وإنما قلنا إن رضا من يحال عليه غير معتبر، خلافًا لداود في قوله لا تلزمه حوالة صاحب الدين لغيره إلا برضاه (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع" (3) ولم يشرط رضاه، ولأن الحق هو للمالك (4) له أن يملكه من شاء وينقله إلى ملك من يختاره وكسائر الحقوق. ...   (1) في م: يحال. (2) انظر: المحلي 8/ 520، بداية المجتهد - مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 114. (3) سبق تخريج الحديث 1227. (4) في ق: لمالكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1229 باب: الحمالة (1) الأصل في جواز الحمالة (2) قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "الزعيم غارم" (4)، ولأنها وثيقة بالحق كالرهن، ولا خلاف في جوازها (5)، ولها عبارات هي الحمالة والكفالة والضمان والزعامة كل ذلك بمعنى واحد. فصل [1 - فيما تجوز فيه الحمالة]: وهي جائرة بكل حق يكمن استيفاؤه من الضامن (6) لأن فائدتها قيام الضامن مقام الغريم في شغل ذمته بالحق للذي عليه، ولا يجوز في الحدود لتعذر هذا المعنى فيها وإن استيفاءها من الضامن غير جائز. فصل [2 - الكفالة بالوجه]: الكفالة بالوجه (7) جائزة (8) خلافًا للشافعي (9)؛ لأنها وثيقة بالحق كالرهن، ولأنه سبب يتوصل به إلى ماله على طريق الوثيقة كالوثيقة بالمال، ولأن على من عليه المال أن يحضر أو يوكل من يحضر، وإذا ثبت أن ذلك عليه   (1) الحمالة: الحمل والحمالة في اللغة بمعنى واحد لأنهما جميعًا مصدران من حمل حملًا وحمالة، وفي الاصطلاح الحمالة التزام دين لا يسقطه أو طلب من هو عليه لمن هو له (المقدمات: 2/ 376، حدود ابن عرفة ص 319). (2) في م: جوازها. (3) سورة يوسف، الآية: 72. (4) هو جزء من حديث "العارية مؤداة" الذي سبق تخريجه ص 1208. (5) انظر: الإجماع -لابن المنذر- 125، المغني: 4/ 590، بداية المجتهد- مع الهداية في تخريج أحاديث الهداية: 8/ 99. (6) في ق: من الضمان. (7) وهو أن يتكفل بوجه رجل يأت به. (8) انظر: المدونة 4/ 129، التفريع: 2/ ن 287، الكافي ص 398. (9) انظر الأم 3/ 229، الإقناع ص 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1230 صح أن يضمن عنه، ولا يلزم عليه الحدود ولا (1) يقال إن عليه أن يحضر ويقتل أو يحد (2). فصل [3 - متى يبرأ في الكفالة بالوجه]: إذا ثبت جواز الكفالة بالوجه: فإن جاء الكفيل بالمتكفل به فقد بريء، وإن لم يأت به غرم ما عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - (3): "الزعيم غارم (4) " لأن الفائدة في الحمالة بالوجه استيفاء الحق من الحميل إن لم يمكنه إحضار الغريم بدليل امتناع الكفالة (5) في الحدود لتعذر هذا المعنى فيها، وسواء شرط ذلك عليه (6) أم لا في أنه يكون ضامنًا للمال (7) إلا أن يشترط أني متكفل بوجهه، فإن هرب لم يكن على من المال الذي عليه شيء فلم يلزمه حينئذ بشرطه إلا أن يمكنه إحضاره فيفرط فيلزمه بتفريطه لأنه كمن تعمد إتلاف مال غيره، ولو مات المتحمل بوجهه لم يلزم الحميل شيء بشرط أنه غير متحمل بالمال أو أطلق لأنه لا صنع له في موته فينسب إلى تفريط. فصل [41 - الضمان لا يبريء ذمة المضمون عنه]: الضمان لا يبريء ذمة المضمون عنه (8)، خلافًا لابن أبي ليلي (9) لقوله   (1) في م: ولأنه لا. (2) في م: وليقيل أو ليحد. (3) - صلى الله عليه وسلم -: سقطت من م. (4) سبق تخريج الحديث ص 1208. (5) في م: الحمالة. (6) عليه: سقطت من ق. (7) للمال: سقطت من ق. (8) انظر: التفريع 2/ 286، الكافي ص 398 - 399. (9) انظر مختصر الطحاوي ص 102، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1231 - صلى الله عليه وسلم -: "نفس المؤمن مرتهنة بدينه متى يقضى عنه" (1)، ولأن الضمان مأخوذ من الضمن وهو شغل ذمة أخرى بالحق بخلاف الحوالة التي هي مأخوذة من تحول الحق، ولأنها وثيقة فلم يبرأ بها من عليه الحق كالرهن. فصل [5 - فيما تصح فيه الحمالة]: يصح (2) في المعلوم والمجهول (3) خلافًا للشافعي (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الزعيم غارم" (5) ولم يفرق، ولأنه تطوع بإلزام نفسه ما لم (6) يكن يلزمه على وجة المعروف فجاز كالنذر (7). فصل [6 - جواز الضمان عن الميت]: الضمان عن الميت جائز إذا خلَّف (8) وفاء من غير خلافًا، ويجوز عندنا أن يضمن عنه وإن لم يخلف وفاء (9)، خلافًا لأبي حنيفة (10)، لحديث أبي قتادة (11) في الرجل الذي مات وعليه ديناران فامتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه   (1) أخرجه ابن ماجة في الصدقات باب التشديد في الدين: 2/ 806، والترمذي في الجنائز باب ما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "نفس المؤمن ... " 3/ 380، وقال حسن، والحاكم: 2/ 26، وقال صحيح على شرط الشيخين. (2) يقصد الضمان أنه يصح في المعلوم والمجهول. (3) انظر: التفريع 2/ 285، الكافي ص 398، المقدمات: 2/ 376. (4) انظر: الأم 3/ 229، الإقناع ص 102. (5) سبق تخريج الحديث 1208. (6) في م: شيئًا. (7) في م: كالبدر. (8) في م: خاف. (9) انظر: المدونة 4/ 131 - 132، المقدمات: 2/ 378. (10) انظر مختصر الطحاوي ص 104، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 2/ 159. (11) أبو قتادة: الأنصاري هو الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن ربعي بن بلدمه السلمي المدني، شهد أحدا وما بعدها ولم يصح شهوده بدرًا ومات سنة أربع وخمسين (تقريب التهذيب ص 666). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1232 فلما ضمنها أبو قتادة صلى عليه (1)؛ لأن كل دين لو كان به وفاء صح ضمانه فإنه يصح وإن لم يكن به وفاء أصله الضمان عن الحي. فصل [7 - براءة ضمين المال ومطالبة الكفالة]: لا يبرأ ضمين المال إلا أن يحضر وجه المتكفل به لأن التكمل يغير وجهه (2) والبراءة إنما تكون بخروجه مما تكفل به، واختلف عنه في مطالبة الكفيل مع القدرة على أخذ الحق من الغريم فعنه في ذلك ثلاث روايات (3): إحداها أن له ذلك وهو قول أبي حنيفة والشافعي (4)، والأخرى أن ليس له مطالبة الكفيل إلا أن يتعذر أخذ الحق من الغريم وهو قول عبد الملك، والثالثة أنه ابتدأ بمال الغريم فإن وفى لم تكن له مطالبة الكفيل، فإن عجز أخذ باقي الحق من مال (5) الكفيل، وهذا على التحقيق ليس برواية ثالثة وإنما رجوع إلى الثانية. فوجه الأولى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الزعيم غارم" (6) ولم يفرق، ولأنها حال ضمان كحال إفلاس الغريم، ولأن الضامن أقام نفسه مقام الغريم في شغل ذمته بالحق على الوجه الذي كانت ذمة الغريم مشغولة به فإذا كان له مطالبة الغريم فكذلك له مطالبة الكفيل. ووجه الثانية ما احتج به أحمد بن المعذل وهو الضمان في العادة إنما هو لحفظ الحق من التوى (7) والهلاك، ولم يوضع لأن يكون الضامن كالغريم في أصل المطالبة فإذا صح ذلك لم تكن له المطالبة إلا على الوجه الذي عليه دخل الضامن.   (1) أخرجه البخاري في الحوالة باب إن أحال دين الميت على رجل جاز: 3/ 55. (2) في ق: وجه. (3) انظر: المدونة 4/ 136 و 139، التفريع: 2/ 286، الكافي ص 399. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 102 - 103، الأم 3/ 229. (5) مال: سقطت من ق. (6) سبق تخريج الحديث ص 1208. (7) التوى: الهلاك (المصباح المنير ص 79). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1233 فأما الثالثة فمرتبة على ذلك وذلك أنه يبدأ بمال الغريم لأنه أحق بالمطالبة فإن وفى به سقط عن الضمين، وإن عجز تمم من مال الضمين لأن استيفاءه متعذر من الغريم وهذه فائدة الضمان. فصل [8 - في موت الضمين دون حلول الحق]: وإذا مات الضمين دون حلول الحق (1) ففيها روايتان (2): إحداهما أن المال يؤخذ من تركة الضمين فيدفع إلى صاحب الدين ويرجع به ورثة الضمين على المضمون عنه فيأخذونه منه عند أجله، والثانية أنه يؤخذ قدر الحق من تركته فيعزل إلى أن يحل الأجل فإن (3) أمكنه أخذه من الغريم رد على ورثته الضمين، وإن تعذر ذلك أخذ حينئذ من مال الضمين، والأولى مخرجة على أن له أن يطالب في حلول الحق أيهما شاء لأن موت الضمين يحل الحق عليه، والثانية مبنية على أنه ليس له مطالبة الضمين إلا أن يتعذر أخذه من الغريم، وإنما يعزل لئلا يتلفه الورثة. فصل [9 - بطلان الحمالة بالكتابة]: الحمالة بالكتابة لا تصح (4) لأنها ليست بدين ثابت مستقر، ولأن العبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة. فصل [10 - إذا قال: له داين فلانًا وأنا ضامن]: وإن قال: لرجل داين فلانًا وأنا ضامن لما تعطيه جاز ذلك ولزمه ضمان ما يداين به مثله (5) وذلك مبني على ثلاثة أصول: أحدها أن ضمان الحق قبل وجوبه جائز كقوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه وقد ذكرناه في الرهن،   (1) في م: قبل حلول أجل الحق. (2) انظر: المدونة 4/ 131، التفريع: 2/ ن 286، الكافي ص 399. (3) في ق: المدة. (4) انظر: المدونة 4/ 139، التفريع: 2/ 285، الكافي ص 398. (5) انظر: المدونة 4/ 133، الكافي ص 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1234 والثاني أن ضمان المجهول جائز وقد قدمناه، والثالث أن الإطلاق في مثل ذلك (1) محمول على العادة دون ما يخرج عنها. ...   (1) في ق: مثل في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1235 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله عليه وسلم (1) كتاب الوكالة (2) تصح الوكالة من الحاضر والغائب والرجل والمرأة (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنها لا تصح إلا من غائب أو مريض أو امرأة غير برزة (4) , لأن عليا رضي الله عنه وكل عقيلا (5) وقال: هذا عقيل ما قضي عليه فعلي وما قضي له فلي (6) ولم ينكر ذلك أحد، ولأن كل وكيل صح مع الغيبة صح مع الحضور أصله توكيل المريض، ولأن كل وكالة صحت برضا الموكل عليه (7) صحت وإن لم يرض كوكالة الغائب والمرأة غير البرزة. فصل [1 - عدم افتقار التوكيل إلى حضور الخصم]: لا يفتقر التوكيل إلى حضور الخصم، وكذلك إثبات الوكالة عند الحاكم (8) خلافًا لأبي حنيفة في منعه ذلك إلا أن تتعلق الخصومة بحاضر مثل أن يدعي   (1) ما بين قوسين من لم. (2) الوكالة: قال ابن فارس: الواو والكاف واللام: أصل صحيح يدل على اعتماد غيرك في أمرك (معجم مقاييس اللغة: 6/ 136)، وفي الاصطلاح: نيابة ذي حق غير ذي امرأة ولا عبادة لغيره فيه غير مشروطة بموته- (حدود ابن عرفه ص 327). (3) انظر: المدونة 3/ 265، التفريع: 2/ 316، الكافي ص 394. (4) مختصر الطحاوي ص 108، مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 139. (5) عقيل بن أبي طالب: أخو علي وجعفر وكان الأسن، صحابي عالم بالنسب مات سنة ستين وقيل بعدها (تقريب التهذيب ص 396). (6) أخرجه البيهقي: 6/ 81. (7) عليه: سقطت من م. (8) انظر: التفريع 2/ 316، الكافي ص 394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1237 على جماعة فيحضروا واحدًا منهم ويغيب الباقون (1)، لأنه توكيل في استيفاء حق فلم يكن من شرطه حضور الموكل عليه أصله إذا وكله على جماعة فحضر واحد وغاب الباقون، ولأنها استنابة فيما تصح فيه النيابة لم يفتقر إلى حضور الغير كالتوكيل في البيع. فصل [2 - فيما تجوز فيه الوكالة]: الوكالة جائزة في كل الحقوق التي تصح فيها النيابة من البيع والشراء، والإجارة، وعقد النكاح، والطلاق، واقتضاء الدين (2) وقضائه, وخصومة الخصم؛ وتزويج الولي (3) وغير ذلك مما يجري مجراه (4). فصل [3 - إذا استوفى الوكيل ما أمر بابتياعه]: إذا استوفى الوكيل ما أمر بابتياعه (5): فإن كان بثمن مثله جاز (6) وقال الشافعي لا يجوز (7)، وكذلك عندنا للوصي والأب أما الدلالة على جواز ذلك للوصي وللأب فلقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (8) , ولأنه إنما أقيم للنظر في مال من يلي عليه فإن كان الذي يشتريه بزيادة فذلك أحظ لليتيم وأسوأ أحواله أن يكون كالأجنبي, وأما الوكيل فلأن غرض الموكل توفير الثمن دون أعيان المشترين ولأن ذلك هو المقصود فيجب بحصوله أن يصح.   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 108، مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 139. (2) في م: الديون. (3) في م: الولية. (4) انظر: التفريع 2/ 315 - 316، الكافي ص 394. (5) في م: بيعه. (6) انظر: المدونة 3/ 365 - 370، التفريع: 2/ 318، الكافي ص 396. (7) انظر: مختصر المزني ص 111، الإقناع ص 112 - 113. (8) سورة البقرة، الآية: 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1238 فصل [4 - فيما يجوز للوكيل وكالة مطلقة من بيعه]: إذا وكله في البيع وكالة مطلقة لم يجز له أن يبيع إلا بثمن مثله نقدًا بنقد ذلك البلد، فإن باع بما لا يتغابن الناس بمثل أو بتأخير أو بنقد يخالف نقد البلد لم يلزم ذلك الموكل إلا برضاه، وكذلك لو وكله في شراء شيء وكالة مطلقة لم يكن له أن يشتريه إلا بثمن مثله (1)، وقال أبو حنيفة: يجوز في البيع أن يبيع إلى أجل ويغير نقد البلد وبنقصان من ثمن المثل أو بما لا يتغابن الناس بمثله (2)، ووافقنا فيه إذا وكله بشراء عبد أنه ليس له أن يشتريه بأكثر من ثمن مثله ولا إلى أجل. فدلينا على أنه لا يجوز بيعه بما لا (3) يتغابن الناس بمثله أنه توكيل في مساومة (4) فلم يجز فيه التغابن المتفاوت كالتوكيل في الشراء، ولأن المحاباة في حكم الهبة بدليل اعتبارها من الثلث حال المريض ومنعها للوارث، وقد ثبت أن الوكيل ليس له هبة الشيء الذي وكل فيه وكذلك لا يملك المحاباة فيه، ودليلنا على أنه لا يجوز أن يبيع نساء ولا بغير نقد البلد أن التوكيل (5) إنما كان في بيع مطلق والبيع في الشرع يقتضي النقد بنقد البلد: كما لو قال رجل بعني هذا الثوب بمائة درهم فقال بعتكه لكان هذا الإطلاق يقتضي التعجيل بنقد البلد، إنما قلنا إنه يكون بالخيار لأن من باع ملك (6) غيره أو وهبه وقف على إجازته وقد ذكرناه في البيوع.   (1) انظر: التفريع 2/ 317، الكافي ص 394. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 111، مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 147. (3) في ق: إلا بما لا. (4) في م: مفاوضة. (5) في م: أو للوكيل. (6) في م: ملكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1239 فصل [5 - إذا وكله في قبض دين له على رجل]: إذا وكله في قبض دين له على رجل أو وديعة عنده فصدَّق الغريم الوكيل وليس للوكيل بينة لا يجبر الغريم على دفع الشيء إلى الوكيل (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه يجبر إذا كان الحق في الذمة ولا يجبر إذا كان في غير ذمته (2)، ولأنه لا يلزم الغريم أن يدفع إلا ما يبرأ به بدليل أنه لو كان عليه حق فطالبه صاحبه به كان له أن يمنعه حتى يحضر الوثيقة وتسقط شهادة الشهود، والدفع بالإقرار لا يبرأ به بدليل أن صاحب الدين (3) لو جحد الوكالة لزمه دفعه إليه ثانية، وإذا كان كذلك لم يلزمه الدفع، وتحريره أن يقال: كل من لم يبرأ بالدفع إليه لم يجبر على دفعه إليه كالأجنبي، ولأنه أقر على غيره بالتوكيل فلم يلزم بحكم ذلك الإقرار تسليم ما في يده إلى الوكيل اعتبارًا بما في يده من العين. فصل [6 - إذا دفع الدين إلى من يعترف بأنه وكيل]: إذا ثبت أنه لا يجبر على الدفع إلى من يعترف بأنه وكيل بغير بينة على الوكالة، فلو (4) اعترف له صاحب الحق فقد بريء وإن أنكر الوكالة وأقر قبض الحق بريء الغريم (5) أيضًا لأن ثبوت الوكالة ليس بشرط في الإبراء، كما لو بعث به الغريم على يد رسول ابتداء واعترف صاحب الحق بقبضه لبريء الغريم فإن أقر صاحب الحق (6) بالوكالة وأنكر أن يكون الغريم دفع الدين (7) إلى   (1) انظر: التفريع 2/ 316، الكافي ص 395 - 396. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 109، مختصر القدوري -مع شرح الميداني- 2/ 151. (3) في ق: العين. (4) في م: فإن. (5) انظر: التفريع 2/ 316، الكافي ص 395 - 396. (6) في م: صاحب الدين. (7) في م: الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1240 الوكيل لم يلتفت إلى أقوال الوكيل بالقبض وإنكاره ولزم الغريم إقامة البينة بالدفع إلى الوكيل، فإن لم يقم بينة غرم في ذلك لصاحب الحق لأن الغريم هو الذي أتلف ماله لأنه حين دفعه إلى من يُبْرَأ بالدفع إليه وكذلك لو كانت الوكالة ببينة فدفع الغريم إلى الوكيل بغير بينة وأنكر صاحب الحق فإن الغريم يغرم المال لأن إقرار الوكيل بالقبض غير مقبول على الموكل لأن الوكيل أمين فيما بينه وبين موكله لا فيما بينه وبين غيره، وإذا كان كذلك فإن الغريم يغرم المال ثانية وله إحلاف صاحب الحق أنه لم يقبضه ولم يعلم بدفع الحق إلى وكيله فإن ادعى الوكيل (1) أنه دفع المال إليه ببينة وأقامها فإن الغريم يبرأ بذلك، ولا يحتاج إلى إقامة بينة على الدفع إلى الوكيل لأن البينة قد شهدت بقبض صاحب الحق (بحقه فإن ادعى الدفع إلى صاحب الحق) (2) بغير بينة فلا يلزم ذلك صاحب الحق على ما بيناه. فصل [7 - في كون الوكيل مؤتمن فيما بينه وبين موكله]: الوكيل مؤتمن فيما بينه وبين موكله: فإن ادعى رد ما (3) أودعه أو أسلمه إليه ليشتري به أو ليدفعه إلى غيره أو على أي وجه كان صدق مع يمينه، فإن وكله بقبض دين وادعى أنه قبضه وسلمه إلى موكله أو أنه ضاع منه قبل تسليمه إلى الموكل: فإن ثبت قبضه إياه ببينة من الغريم (4) صدق في الضياع وفي إقباض الموكل، وإن لم يثبت ذلك إلا بإقراره أو بإقرار الغريم فالذين باق (5) على الغريم لا يبرأ إلا ببينة على دفعه إلى الوكيل على ما بيناه، ولو وكله على أن يقبض (6) عنه دينا لم يكن له أن يدفعه إلا ببينة فإن دفعه بغير بينة لم يبرأ الوكيل   (1) في م: وكيله. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) في م: رد مال. (4) في ق: الذي. (5) باق: سقطت من ق. (6) في م: بأن يقبض له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1241 إن جحد صاحب الحق (1) ويغرم الوكيل لأنه أتلف على الموكل ماله بترك التوثق، وعليه أنه لا يبرأ (2) بذلك وليس له أن يتلف ماله، وكذلك الوصي يقضي غرم الميت (3) بغير بينة فهو ضامن لأنه أتلف ذلك على الأصاغر (4). فصل [8 - في حكم عقد الوكالة]: الوكالة عقد جائز وليس من العقود اللازمة، وفائدة ذلك أن لكل واحد من المتعاقدين الخروج من العقد أي وقت شاء من غير اعتبار برضا الآخر ولا خلاف أن الموكل له عزل الوكيل حضر الوكيل أم غاب، وكذلك للوكيل عندنا عزل نفسه عن الوكالة مع حضور الموكل وغيبته، خلافًا لأبي حنيفة في قوله ليس ذلك للوكيل إلا مع حضور الموكل (5)؛ لأنه عقد (6) لا يفتقر إلى شخص فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق والعتاق (7) بعكسه البيع، ولأنه أحد متعاقدي الوكالة فلم يقف فسخه على حضور الآخر كالموكل. فصل [9 - إذا تصرف الوكيل بعد علمه بعزل الموكل له]: إذا تصرف الوكيل بعد علمه بعزل الموكل له فتصرفه باطل ويضمن ما أتلفه (8) له لتعديه، وإن علم ذلك غريم أو معامل للموكل لم يجز تسليمه لشيء مما كان   (1) في م: الدين. (2) في م: وعمله أنه يبرأ. (3) غرم الميت: سقطت من ق. (4) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة 3/ 265، التفريع: 2/ 316 - 317، الكافي ص 395 - 397. (5) انظر: مختصر الطحاوي 109، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 145. (6) في م: دفع حق. (7) في م: الفراق. (8) في ق: ما أتلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1242 يجوز له أن يسلمة بحق الوكالة إلى الوكيل: فإن فعل ذلك لم يبرأه وضمن من نغير اعتبارًا بعلم الوكيل، فأما إذا تصرف الوكيل بعد ثبوت عزل الموكل له ببينة أو بموته والوكيل لا يعلم فاختلف فيه: فقال ابن القاسم تصرفه مردود، وقال غيره من أصحابنا تصرفه صحيح (1)، فدليلنا على البطلان أن العزل معنى يسقط الوكالة فلم يختلف بعلم الوكيل بموجبه (2) وجهله أصله الموت. فصل [10 - إذا وكله في شراء جارية أو ثوب أو عبد ولم يصفه له]: إذا وكله في شراء جارية للوطء أو الخدمة أو تزويج أو شراء ثوب أو عبد لم يصفه له جاز، ويلزمه (3) من ذلك ما يشبه دون ما لم يشبه (4) لأن إطلاق الوكالة يقتضي ما يشبه، فإذا ادعى غيره لم يقبل منه لأنه خلاف العرف كما لو ادعى في بيع سلعة أنه وكله في بيعها بما لا (5) يتغابن الناس بمثله لم يصدق لأنه خلاف العرف. ...   (1) انظر: التفريع 2/ 317، الكافي ص 395. (2) بموجبه: سقطت من م. (3) في م: لزمه. (4) انظر: المدونة 3/ 265 - 267، التفريع 2/ 316، الكافي ص 396. (5) لا: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1243 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على محمد (1) كتاب الإقرار (2) إذا أقر بمال ولم يذكر مبلغه اختلف أصحابنا (3) فيه: فمنهم من قال يرجع في تفسيره إليه فيلزمه قدر ما يقربه من قليل أو كثير ولو قيراط أو حبَّة وهو قول الشافعي (4)، ومنهم من قال يجيء على أصول مالك أن يلزمه ربع دينار إن كان من أهل الذهب وثلاثة دارهم إن كان من أهل الورق، وذكر عن ابن المواز أنه يلزمه عشرون دينارا إن كان من أهل الذهب أو مائتا درهم إن كان من أهل الورق، وقال: بعض أصحابنا ويجيء على هذا أن يلزمه إن كان من أهل الإبل والبقر والغنم أول نصاب منهما. فوجه القول بنفي التقدير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} (5)، وقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (6) ولا خلاف أن هذا ينتظم القليل والكثير، ولأن هذا الاسم لجنس ليس له تقدير في شرع ولا لغة فوجب أن يلزم الاسم لقليله وكثيره. ووجه القول بمراعاة نصاب القطع إنه لما عدم المقدار من جهة المقر وكان لنا سبيل إلى تقديره وجب تقديره ولا يجب نفيه لنفي المقر ووجدنا المقادير تعلم من   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) الإقرار: في اللغة الاعتراف (الصحاح 2/ 790)، وفي الاصطلاح: خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه أو لفظ نائبه (حدود ابن عرفة- مع شرح الرصاع- 332). (3) انظر: الكافي ص 457 - 460، مواهب الجليل: 5/ 17. (4) انظر: الأم: 3/ 237، مختصر المزني ص 113، الإقناع ص 199. (5) سورة النساء، الآية: 10. (6) سورة النساء، الآية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1245 ثلاثة أوجه: إما لغة، أو شرعًا، أو عادة وقد انتفت من طريق اللغة والعادة وثبتت من طريق الشرع في مواضع منها نصاب الزكاة، ومنها تقدير المهور، والقطع فأخذنا بأقل المقادير لأنه المتيقن وأول ما يتناوله الاسم، ووجه اعتبار نصاب الزكاة أن اسم المال لما كان لا يكفي فيه الجنس ووجدنا العادة تمنع إطلاق الإِسلام على ثلاثة دراهم أو ربع دينار وهي أن تكن (1) فيها تقدير فإنها لا تثبت الإسم إلا في حد من الكثرة فكان أولى المقادير ما اتفق عليه العادة من طريق الجملة والشرع من طريق التفضيل وهو مائتا درهم أو عشرون دينارًا. فصل [1 - إذا أقر بمال عظيم أو كثير]: إذا أقر بمال عظيم أو كثير: فمن أصحابنا من قال: هو بمنزلة مال على التحديد ويرجع في تفسيره إليه (2) وهو قول الشافعي (3)، ومنهم من قال: ثلاثة دراهم أو ربع دينار، ومنهم من اعتبر نصاب الزكاة، ويحتمل عندي قولين زائدين على هذا أحدهما: ألف دينار وهو قدر الدية، والآخر ما زاد على نصاب الزكاة. فوجه القول بأنه لا حد في ذلك أن وصف الشيء بالعظم لا يفيد حدا لأنه يختلف بإضافته إلى ما دونه وإلى ما فوقه وإذا كان كذلك لم يكن ها هنا طريق بتقديره فوجب الرجوع إلى تفسيره. ووجه اعتبار نصاب القطع أنه قد ثبت أن وصفه بالعظيم يقتضي صفة زائدة على الاسم وإن قوله (4) عظيم يفيد ثبوت زيادة (5) على ما دونه، ومتى رجعنا في تفسيره إليه ففسره بأقل ما يقع عليه اسم المال مثل حبَّة وقيراط لم يستحق   (1) في ق: أن لم يكن. (2) انظر: مواهب الجليل 5/ 218 - 219. (3) انظر: الأم 3/ 237، الإقناع ص 199. (4) في م: قولنا. (5) في م: عند زيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1246 الاسم لأنه ليس دون لكون هو أعظم منه، فإذا ثبت ذلك وجب تقديره بزيادة عليه وقد ثبت اسم العظم لما يقطع فيه اليد ويستباح به البضع في مواضع منها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) يريد المهر (2)، وقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقطع في التافه وكان يقطع في ربع الدينار (3)، فثبت أن هذا ليس بتافه، والتافه هو اليسير الحقير الذي لا قدر له وإذا انتفى هذا الاسم عنه دخل في أول اسم العظم. ووجه اعتبار نصاب الزكاة أن ذلك إنما ضرب لأنه أقل لما (4) يحتمل المواساة، وما دونه لا يحتمل ذلك لضعفه عنه وإذا كان كذلك فإن تقديره بهذا أولى، والذي ذكرته أقوى في الاحتمال وأولى في التقدير من كل هذا لأنه إذا ثبت أن العظيم يتضمن أن هناك دونه امتنع قول من يعتبره بأنه يرجع إلى ما يقربه، وإن كان (5) حبَّة أو فلسا لأنه لا شيء في الحقر والدناءة أقل من هذا وذلك ينافي في وصفه بالعظم وهذا واضح الفساد وإذا بطل ذلك وجب التحديد، ثم رجعنا إلى قول (6) من حده بربع دينار وبعشرين دينارًا فوجدنا من يذهب إلى ذلك إقراره بأن له مالًا مجردًا عن ذكر العظم والكثرة فلم يجز أن يكون الموصوف بالعظم والذي لم يوصف به بقدر (واحد فلم يكن بد من زيادة عليه، فإذا ثبت ذلك وجب أمرين: إما (7) تقدير يوصف بأنه عظيم وكثير وهو الدية لأنا لا نختلف   (1) سورة النساء، الآية: 25. (2) انظر: تفسير الطبري: 5/ 15، والجامع في أحكام القرآن- للقرطبي 5/ 136. (3) أخرج الحديث بهذا اللفظ ابن أبي شيبة: 9/ 477، وعبد الرزاق: 10/ 235 مرسلًا وابن عدي مسندا (انظر نصب الراية: 3/ 360)، أما حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع في ربع دينار فقد أخرجه البخاري في الحدود باب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ..} [المائدة: 38]: 8/ 17، ومسلم في الحدود باب حد السرقة ونصابها: 3/ 1312. (4) في م: مال. (5) في ق: قال. (6) في م: قوله. (7) في ق: بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1247 أنها لا يتقدر بها اسم المال على الإطلاق فوجب أن يكون مقدارًا لما يسمى مالًا عظيما أو أن يلزمه زيادة على المقدار الذي يلزمه بمجرد قوله له: عليَّ مال وتكون الزيادة مؤثرة بحسب (1) العرف في وصف ذلك المقدار بالعظم (2) ويرجع في تقديره إليه. فصل [2 - إذا أقر بأن عليه دراهم أو دنانير]: إذا قال له: عليَّ دراهم أو دنانير لزمه له ثلاثة دراهم أو ثلاثة دنانير وهذا مبني على أصل مالك رحمه الله أن أقل الجمع ثلاثة، ودليلنا عليه أن أهل العربية قسموا الأسماء إلى آحاد وتثنية وجمع وجعلوا لكل قسم من ذلك صيغة وعادة موضوعة (3) له تفيد معناه دون غيره: فقالوا: رجل ورجلان ورجال، وإن جاز اتفاق التثنية والجمع في كتابات (4) أخر فغير منكر أن يتجوَّز بذلك كما يجوز كناية الجمع على الواحد، ويجب على قول من يقول من أصحابنا أن أقل الجمع اثنان يلزمه درهمان وهو قول عبد الملك وابن الماجشون (5). فصل [3 - إذا أقر له بدراهم كثيرة]: ولو قال له دراهم كثيرة: فذكر ابن عبد الحكم لأصحابنا فيها قولين: أحدهما ما زاد على ثلاثة دراهم، والآخر أنه يلزمه تسعة دراهم، وبعض شيوخنا الذين درسنا عليهم يقول: يلزمه مائتا درهم (6)، وقال أبو حنيفة تلزمه عشرة دراهم (7)، وقال الشافعي تلزمه ثلاثة دراهم (8).   (1) في ق: بسبب. (2) في ق: بالعظيم. (3) في م: وعاده موصوفة. (4) في ق: روايات. (5) في م: وهو قول عبد الملك وابن الماجشون أن أقل الجمع اثنان. (6) انظر: مواهب الجليل: 5/ 227 - 228. (7) انظر: مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 77، تحفة الفقهاء: 3/ 197. (8) انظر: مختصر المزني ص 112، الإقناع ص 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1248 ودليلنا على فساد قول أبي حنيفة والشافعي، أن الإقرار يتضمن (1) مالًا بصفة وهي الكثرة فلم يكن بد من اعتبارها، وقد ثبت أنه لو لم يصفه بذلك للزمه هذا القدر، وكذلك لو وصفه بالقلة للزمه أيضًا ثلاثة دراهم، وبقي (2) في هذا أمران فاسدان: إما أن يفيد وصفه بالقلة والكثرة فائدة واحدة وذلك باطل، أو أن يلغي الصفة ولا يؤخذ بها وذلك أيضًا باطل، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا ما قلناه من زيادة على ما يتضمنه (3) إقراره بدراهم مجردة عن صفة الكثرة، فإذا تقدر هذا فوجه القول بأنه يلزمه زيادة على الثلاثة دراهم (4) اتفاقنا على أنه لو أقر بدراهم قليلة لكانت ثلاثة، فوجب أن يفيد إقراره بالكثرة زيادة على ما يفيد إقراره بالقلة وليس في الكثرة حد فيرجع في ذلك إليه. ووجه القول بأنه تسعة دراهم أن وصفها بالكثرة مبالغة (5) في زيادة المقدار والتباعد عن القلة فوجب أن يضاعف ثلاثة أضعاف: أعني يكون مثلها ثلاث مرات لأن الكثرة اسم يجمع الكثير فلما كان اسم الدراهم يفيد في الأصل ثلاثة لكونه أقل الجمع فكذلك الكثيرة قد ما يقع عليه اسم الدراهم ثلاث مرات، ووجه قول شيخنا إنه يلزمه مائتا درهم هو أن من أصله (6) إذا قال علي مال عظيم إنه يلزمه مائتان وعظيم وكثير واحد فكذلك إذا قال دراهم عظيمة أو كثيرة. فصل [4 - إذا أقر له بدراهم لا قليلة ولا كثيرة]: ولو قال: له علي دراهم لا قليلة ولا كثيرة قال محمَّد بن عبد الحكم يلزمه أربعة (7) ووجه ذلك أنه نفي عنها القلة. وجب بذلك زيادتها على الثلاثة التي لو وصفها بالقلة للزمته، وإذا وجب ذلك لزمه زيادة جزء من أحاد ما أقربه   (1) في م: يضمن. (2) بقي: سقطت من ق. (3) في م: تضمنه. (4) دراهم: سقطت من م. (5) في ق: في اللغة. (6) في ق: أصلية. (7) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1249 فتكون أربعة، وذلك يحتمل وجهًا آخر وهو أنه يلزمه زيادة على الثلاثة ويرجع في ذلك إلى تفسيره على القول بأنه إذا قال له علي دراهم كثيرة لزمه زيادة على الثلاثة ويرجع إلى تفسيره، وكان هذا أولى لأن الغرض خروج الدراهم المقر بها عن اسم القلة. فصل [5 - إذا أقر له بدريهمات أو دنيرات]: إذا قال: له علي دريهمات أو دنيرات فهو بمنزلة دنانير ودراهم لأن التصغير لا يؤثر في المعنى عن أصله. فصل [6 - إذا أقر له بقوله: عليَّ ألف ودرهم]: إذا قال: له علي ألف ودرهم (1) قال شيوخنا يلزمه الدرهم (2) الذي عليه ويرجع في تفسير الألف إليه، ولم يكن قوله ودرهم تفسيرا للألف، ويقال له سمّ ألف شئت فأي نوع فسره به لزم بقوله وآخذ به جملة من غير تفصيل، وكذلك لو قال ألف ودينار أو وثوب أو وعبد ودابة وغير ذلك (3). وقال أبو حنيفة: (4) إن كان المفسر المعطوف به على الألف مما يكال أو يوزن أو يباع عددا كالدراهم والدنانير والطعام وغير ذلك كان تفسيرًا للألف فإن كان مما يباع بعينه لا بمقدار من وزن أو كيل أو عدد كالثياب والعبيد لم يكن تفسيرًا (لها، ودليلنا أن كل ما لزم به حق بنفسه لم يكن تفسيرًا) (5) لما تقدمه أصله إذا قال: له علي ألف وثوب، ولأن العطف قد يكون عطفًا على الجنس وعلى غير الجنس فلا يقضى بالمحتمل ووجب الرجوع في تفسيره إلى المقر.   (1) في ق: دراهم. (2) الدرهم: سقطت من م. (3) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 227 - 228. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 113، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 79. (5) ما بين قوسين سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1250 فصل [7 - إذا أقر بأنه غصب له شيئًا]: إذا قال غصبت له شيئًا أو له عندي شيء: رُجع في تفسيره إليه وقبل منه ما يقع عليه اسم الشيء، وكذلك إذا أقر بثوب أو عبد حلف على ما يقربه إن أنكره .. المدعى عليه، وفروع هذا الباب كثيرة (1). فصل [8 - إذا أقر بكذا درهمًا]: إذا قال له علي كذا درهما (2): قال محمد بن عبد الحكم: تلزمه عشرون درهما، وإن قال كذا وكذا درهمًا لزمه أحد عشر درهمًا، (فإن قال: كذا وكذا درهمًا لزمه أحد وعشرون درهمًا) (3)، وقال الشافعي: في قوله كذا وكذا أنه يلزمه درهما واحدًا (4)، وفي قوله: كذا وكذا تلزمه درهمان (5)، ودليلنا أن قوله: كذا وكذا (6) لا يطلق إلا على عدد ولا يراد به درهم واحد هذا ظاهر الاستعمال في عادة اللغة فبطل حمله على درهم واحد (7)، وإذا بطل ذلك فقد علمنا أن الكناية تفسرها بما لو صرح به لصح (8) ولم يمتنع وأول عدد يصح أن يقال (9) فيه درهمًا أحد عشر فحملناه عليه، وإنما حملنا كذا درهما على عشرين لأنه أول عدد مستقل بنفسه (10) يقال فيه درهمًا، وحملنا كذا وكذا على أحد وعشرين لأن ذلك متيقن لكونه أقل ما في باله وما زاد عليه مشكوك فيه.   (1) انظر: مواهب الجليل: 5/ 227 - 228. (2) في م: دراهم. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) في ق: كذا كذا درهما أنه يلزمه درهم واحد. (5) انظر: مختصر المزني ص 112. (6) في م: كذا وكذا. (7) واحد: سقطت من ق. (8) في ق: أحد. (9) في م: يقل. (10) في ق: بجنسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1251 فصل [9 - إذا أقر له ببضعة عشر درهمًا]: إذا قال: له عليَّ بضعة عشر درهمًا كان له ثلاثة عشر درهمًا (1) لأن البضع من الثلاثة إلى التسعة، وقيل في قوله تعالى: {فلبث في السجن بضع سنين} (2) أنه سبع (3). فصل [10 - إذا قال: له عليَّ ثوب في منديل أو في صندوق]: إذا قال: له عليَّ ثوب في منديل أو في صندوق كان مقرًا بالثوب دون الوعاء، ولو قال: له عندي عسل في زق (4) لكان مقرًا بالعسل والزق، وفرق أصحابنا بينهما بأن العسل يفتقر إلى الوعاء لأنه لا يمكن أخذه إلا في وعاء والثوب يمكن أخذه بغير منديل فلم يتضمن الإقرار به إقرارا بظرفه (5). فصل [11 - في صحة الاستثناء من غير الجنس]: يصح الاستثناء من غير الجنس وصورته: أن يقول له عليَّ ألف درهم إلا ثوبا أو عبدا أو دابة فيقال له أذكر قيمة العبد أو الثوب الذي استثناه، ويكون مقرًا بما فضل من الألف عن قدر قيمته (6)، وقال أبو حنيفة يجوز ذلك فيما يكال أو يوزن ولا يجوز فيما لا يكال ولا يوزن (7)، مثلا (8): أن يقول له عليَّ ألف درهم إلا كر حنطة فيلزمه، ولو قال ألف إلا دابة لم يصح, وقال   (1) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق -5/ 229. (2) سورة يوسف، الآية: 42. (3) انظر: تفسير الطبري: 12/ 224. (4) الزق: بالكسر- الظرف، والجمع أزقاق (المصباح المنير ص 254). (5) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 230. (6) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 231. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 114، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 79. (8) في م: مثاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1252 زفر لا يصح استثناء من غير الجنس، ودليلنا على جوازه ورود اللغة به قال الله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ} (1)، وقال الشاعر (2): وبلدة ليس بها أنيس .. إلا اليعافير وإلا العيس ولا يقال لشيء من هذا أنيس؛ وقال آخر (3): وما بالربع من أحد إلا الأواري، ودليلنا على أنه لا فرق بين ما يكال ويوزن وبين غيره أن أهل اللغة لم يفرقوا بين ذلك ولا اعتبروا هذا الفرق، واعتبارا بما يكال ويوزن. فصل [12 - في استثناء الأكثر من الأقل]: استثناء الأكثر من الأقل (4) يجوز خلافًا لعبد الملك وغيره (5)، ولأن معنى الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب تناوله له وهذا يصح في الكثير إذا أخرج (6) عن القليل كصحته في القليل إذا أخرج (7) من الكثير، وليس فيه إلا أن استعمالهم له يقل أو يستقبح وذلك لا يمنع تعلق الأحكام به، ولأنه لو قال بعتك هذه الدار إلا خمسة أسداسها لصح ولكان بيعا للسدس، وكل استثناء صح في البيع صح في الإقرار كالقليل (8).   (1) سورة الحجر، الآية: 30. (2) الرجز لجران العود، وهو من الشواهد النحوية (انظر معجم الشواهد النحوية ص 481) واليعافير: تيوس الظباء (الصحاح: 2/ 752). والعيس: إبل بيض في بياضها ظلمة خفية، والواحدة عيساء (الصحاح: 3/ 954). (3) هو النابغة الذبياني (انظر ديوانه ص 2، 3) والأواري: حرارة النار والشمس وحرارة العطش أيضًا (الصحاح: 2/ 583). (4) مراده مع بقاء الأقل من المستثنى منه. (5) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 230 - 231. (6) و (7) في ق: خرج. (8) في م: كالكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1253 فصل [13 - إذا قال: لزيد علي مائة درهم ثم قال بعد ذلك لزيد على مائة درهم]: إذا قال: لزيد علي مائة درهم ثم قال: بعد ذلك لزيد علي مائة درهم فإنهما مائة واحدة كان في ذلك المجلس أو في مجلس آخر (1) , خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه إن كان في مجلس آخر لزمه مائتان (2) , لأنه أعاد الإقرار على لفظه ومعناه فلم يلزمه بمجرد الثاني حق أصله إذا كان ذلك في المجلس. فصل [14 - إذا قال: لفلان علي ألف درهم وفلان أو فلان]: إذا قال: لفلان علي ألف درهم وفلان (3) أو فلان: فنصف ألف للمقر له أولا والنصف الباقي بين المشكوك فيهما (4) , وذلك أن الأول غير مشكوك فيه وإنما الشك فيمن يحصل شريكًا له في الإقرار، والشك لا يقدح في الإقرار الأول وإنما يقدح في الاثنين الآخرين فيكون بينهما. فصل [15 - إذا قال: لفلان علي ألف درهم وإلا فعبدي حر]: إذا قال: لفلان علي (5) ألف درهم وإلا فعبدي حر لزمه الألف لأن قوله وإلا فعبدي حر حلف على تقرير الإقرار. فصل [16 - إذا قال: له علي دينار ولم يبين]: إذا قال: له علي دينار ولم يقل جيدا ولا رديا ولا وازنا ولا ناقصًا ومات حكم عليه بدينار جيد وازن بنقد ذلك البلد (6) لأن إطلاق الكلام محمول على   (1) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 229. (2) انظر: مختصر الطحاوي ص 113. (3) وفلان: سقطت من ق. (4) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 230 - 231. (5) في م: عندي. (6) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق - 5/ 229، وقد نقل المواق في حاشيته كلام القاضي عبد الوهاب - هذا في المعونة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1254 التعارف كالبيع والشراء والإجارة، وإن كان نقد البلد مختلفًا فاختلف أصحابنا: قال محمد بن عبد الحكم: يلزمه دينار من أي نقد البلد مختلفًا ويحلف إن طلب ذلك المقر له، وقال شيخنا أبو بكر الأبهري (1): يحتمل هذا والأجود أن يلزم الورثة أوسط النقود. فصل [17 - الإقرار للأجانب الذي لا يتهم لهم]: الإقرار للأجانب الذين لا يتهم لهم في الصحة والمرض سواء يتحاصون بينهم على قدر حقوقهم لا يقدم من أقر له في الصحة على من أقر له في المرض (2)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله: يبدأ غرماء الصحة على غرماء المرض فيوفون ديونهم فإن فضل كان للغرماء المقر لهم في المرض (3) , لأن المقر ممن لا يتهم المقر في إقراره فأشبه إذا أقر له في الصحة، واعتبارًا أنه إذا قامت له البينة. فصل [18 - إذا أقر في مرضه المخوف لوارث]: إذا أقر في مرضه المخوف لوارث نظر: فإن كان ممن يتهم في إقراره له لم يقبل إقراره، وإن كان ممن لا يتهم في إقراره له قبل (4) مثل أن يترك ابنا وابنة وزوجة ومولى أو بعض العصبة الأباعد فيقر له بدين (5) فهذا يبعد أن يتهم له في العادة فيقبل (إقراره، وقال: أبو حنيفة لا يقبل إقراره لوارث جملة (6) وقال: الشافعي يقبل) (7) على كل وجه (8).   (1) الأبهري: سقطت من ق. (2) انظر: الكافي ص 457، مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 219. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 116، مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 84 - 85، تحفة الفقهاء: 3/ 201 - 202. (4) انظر: الكافي ص 457، مواهب الجليل- مع حاشية المواق: 5/ 218 - 219. (5) في م: بابن. (6) انظر: مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 85، تحفة الفقهاء: 3/ 202. (7) ما بين قوسين سقط من م. (8) انظر: مختصر المزني ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1255 فدليلنا على أبي حنيفة أن منع إقراره للوارث للتهمة بالأزواء (1) ولمحبة صرف ماله إلى الأقرب إليه ومن يعلم محبته له من ورثته فإن انتفى هذا المعنى وجب قبوله، ودليلنا على الشافعي أنه لما كان متهمًا في إقراره له بالدين ليزوي عنه من الورثة وجب رد إقراره له وإلا كان في ذلك ذريعة إلى تمكينه في الأزواء، ومن الوصية للوارث وإذا كان كذلك وجب منعه. فصل [19 - إقراره للصديق الملاطف]: وفي إقراره للصديق (2) الملاطف روايتان (3): إحداهما رده، والأخرى قبوله ويكون في الثلث، فوجه الرد أنه متهم في إقراره له أن يكون أراد إزواء المسلمين أو الأباعد من عصبته والوصية له بزيادة على الثلث فجعله إقرار له فيجب رده، ووجه القبول أن أكثر ما في ذلك أن يكون هبة ووصية فالذي يخشى منه أن يكون من رأس المال، فإذا أحسمنا هذا الباب فجعلناه من الثلث جاز. فصل [20 - فيمن ترك ابنين فأقر أحدهما بثالث]: إذا ترك ابنين فأقر أحدهما بثالث: فإن النسب لا يثبت لأنه مقر على غيره ويعطيه عندنا ثلث ما في يديه (4) وهو قدر ما يخصه من الميراث على هذا المقر لو أقربه الأخ الآخر، وعلى هذا الحساب يثبت (5) الإقرار من بعض الورثة لوارث. فصل [21 - في الرد على قول الشافعي أنه لا يعطى شيئًا]: وقال: (الشافعي لا يعطى شيئًا (6)، وقال أبو حنيفة يعطيه نصف ما في   (1) الأزواء: وهو الجمع والضم، وقيل من الزوغ (لسان العرب: 1/ 86). (2) في ق: للمدين. (3) انظر: الكافي ص 458، مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 219 - 220. (4) انظر: المراجع السابقة. (5) في م: يترتب. (6) انظر: مختصر المزني ص 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1256 يدية (1) فدليلنا على) (2) الشافعي أن إقراره يتضمن شيئين: أحدهما على نفسه، والآخر على غيره فالذي على نفسه استحقاق المقر له ما في يده من المال زيادة على قدر ميراثه، والذي على غيره كون المقر به ابنًا لأبيه فقُبل إقراره على نفسه ولم يقبل على غيره، ولأن الميراث يستحق بنسب وبسبب ثم أنه لو قال هذه المرأة زوجة أبي ومات عنها وهي زوجته لا أعلمها ماتت منه فأنكر ذلك الابن الآخر فإنه يؤخذ منه قدر نصيبها (3) من الميراث مما في يده ولا تثبت الزوجية (4)، وكذلك في اعترافه بالنسب (5). فصل [22 - في الرد على قول أبي حنيفة أن يعطيه قدر ما تضمنه إقراره]: ودليلنا على أبي حنيفة أن الواجب أن يعطيه قدر ما تضمنه إقراره وذلك هو قدر ما حصل في يده من الزيادة على ميراثه لأن تمام الميراث في يد الابن الآخر فلم يلزم المقر دفع ما ظلم الجاحد للمقر له (6). فصل [23 - لو ترك ابنا واحدا ثم أقر لرجل بأنه أخوه ابن أبيه]: ولو ترك ابنا واحدا لا وارث له غيره فأقر لرجل بأنه أخوه ابن أبيه لأعطاه (7) نصف ما في يده ولم يثبت نسب (8) (المقر له، خلافًا للشافعي في قوله إنه يثبت نسبه (9) (10) , لأنه إقرار في حق غيره فلم يقبل كما لو كانا اثنين فأقر   (1) انظر: مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 2/ 86 - 87، تحفة الفقهاء: 3/ 203. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) في ق: نصيب. (4) في ق: الزوجية. (5) في م: بالسبب. (6) في م: المقر. (7) في م: أعطاه. (8) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 220. (9) انظر: مختصر المزني ص 114 - 115. (10) ما بين قوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1257 أحدهما وجحد الآخر، ولأن إقراره ليس بأكثر من شهادته وشهادة الواحد غير مقبولة فإقراره على الغير أولى، ويفارق الجماعة لأن شهادتهم تقبل في حق الغير. فصل [24 - إذا قال لك وأنا غير بالغ]: إذا قال: أقررت لي بمائة دينار وأنت بالغ، فقال بل أقررت بها لك وأنا غير بالغ: قال محمد بن عبد الحكم القول قول المقر مع يمينه، وأظن غيره من أصحابنا من يقول القول قول المدعي (1)، فوجه الأول أن المدعي [يدعي] (2) إلحاق دين بذمة المقر والمقر ينفي ذلك فلا يقبل منه إلا ببينة، ووجه الثاني أن الإقرار متفق على حصوله إلا أن المقر يزعم أنه لا حكم له فلا يقبل منه إلا أن تقوم له بينة بما يدعيه، وكذلك لو كان مجنونًا فبريء فاختلفا في الإقرار (3)، فأما لو ادعي أنه كان مجنونًا وقال أقررت لك في حال الجنون ولم يعلم أنه كان (4) مجنونًا والمدعي يزعم أن الإقرار وقع في الصحة فلأصحابنا فيها مذهبان: أحدهما أن القول قول المقر مع يمينه (5) ووجه هذا اعتباره به إذا قال: أقررت لك وأنا صبي لأنه أضاف الإقرار إلى حال لا يتعلق بها حكم، والآخران القول قول المدعي، والفرق على هذا بينه وبين الصبي أن الصبي معلوم حصوله والمدعي زعم بعد زواله فيحتاج إلى بينة، وليس كذلك الجنون لأنه لم يثبت ما يدعيه المقر منه فلم تقبل إضافته الإقرار إلى حال لا يعلم أنه كان عليها، ومثل ذلك لو قال: قذفتني وأنت بالغ، فقال: قذفتك وأنا صبي الحكم فيه واحد، ولو أقر وهو بالغ عاقل أنه كان استهلك له مائة دينار حال صغره أو جنونه غرم له لأن هذه أحوال يثبت معها حكم لزوم المال بالاستهلاك بدليل أن البينة لو قامت بذلك للزمه فكذلك إقراره يلزمه به ما يلزمه بالبينة.   (1) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق: 5/ 226 - 227. (2) ما بين معقوفتين مطموس في ق وم. (3) في ق: المقدار. (4) في ق: لأنه. (5) في ق: ببينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1258 فصل [25 - إذا قال له أقررت لك في حال لست أدري حال صغر أو بلوغ أو عقل أو جنون]: ولو ادعي عليه (1) أنه أقر له بمائة دينار وهو بالغ عاقل: فقال أقررت لك في حال لست أدري هل كانت حال صغر أو بلوغ أو عقل أو جنون (2): فقال محمد بن عبد الحكم لا يلزمه بذلك بشيء لأنه لم يقر على نفسه بما يلزمه بشيء، وفيها نظر، ويشبه أن يلزمه على قول من ذكرناه من أصحابنا لأن هذا ليس بجواب فيلزم أبدا إلى أن يقر وهو كمن قيل له: أقررت لي بألف وأنت بالغ، فقال: لا أدري هل تستحق عليَّ هذه الألف أم لا (3) أنه لا يترك وما يدعيه. فصل [26 - إذا أتى بالإقرار على وجه الشكر والتحدث به لا على وجه الإقرار]: إذا أتى بالإقرار على غير وجه الإقرار بل على وجه الشكر والتحدث به، مثل أن يجري ذكر إنسان قد مات فوصف بأنه كان يسعف من يسأله ويقرضه فيقول رحم الله فلانًا لقد سألته مرة أن يقرضني شيئًا وأنا مضيق أو مفلس فأجاب مسألتي فيقوم ورثة ذلك الإنسان فيطالبون هذا المقر ففيها روايتان (4): إحداهما أن ذلك إقرار، والأخرى أنه ليس بإقرار ولا يلزم به شيء. فوجه الأولى أنه معترف بأن الرجل دفع إليه المال على وجه القرض ومدع للبراءة منه فلا يقبل منه إلا ببينة أصله الإقرار المبتدأ عند دعوى الخصم، ووجه الثانية أنه لم يورده على وجه الإقرار وإنما أورده على وجه الشكر أو لغير ذلك، ولفظ الإقرار مفتقر في كونه (5) إقرارا إلى القصد لذلك، وهذه الرواية أحسن وأوقع في مقتضى العادة والأول أقيس.   (1) عليه: سقطت من ق. (2) انظر: مواهب الجليل - مع حاشية المواق- 5/ 226 - 227. (3) أم لا: سقطت من م. (4) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 227. (5) في كونه: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1259 فصل [27 - التفريق بين الإقرار بأن هذا سرج دابة فلان وبين أن هذا باب داره]: فرق محمد بن عبد الحكم بين أن يقر بأن هذا سرج دابة فلان أو لجام دابته وبين أن يقر بأن هذا باب داره فزعم في السرج واللجام أنه لا يكون إقرار بأنه يكون لفلان، وفي هذا الباب يكون إقرار به لصاحب الدار (1) قال: لأن الباب من الدار فإذا ثبت أن الدار لفلان فما كان منها فقد تضمنه هذا الإقرار، وليس كذلك السرج واللجام لأنه ليس بجزء من الدابة بل هو غيرها فكأنه قال: هذا السرج به دابة فلان وهذا اللجام يلجم به دابته، وفي موضع آخر سوى بينهما إما قولًا له آخر حكاه عن غيره، ووجه ذلك أنه أضاف ما أقر به إلى ملك المقر له فيضمن الإقرار له كباب الدار. ...   (1) انظر: مواهب الجليل- مع حاشية المواق- 5/ 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1260 (بسم الله الرحمن الرحيم) (1) كتاب اللقطة (2) الأصل في اللقطة (3) قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عنها: "اعرف عفاصها ووكاءها (4) ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها" (5)، والشيء الملتقط على ضربين: منها ما له خطر وبال يمكن تعريفه فينبغي لملتقطه أن يأخذه ويعتقد بأخذه حفظه على صاحبه، وإنما استحببنا له ذلك لأن الإنسان مندوب إلى فعل الخير والبر وهذا منه، ولأنها قد تحصل مع من ربما لا يؤدي الأمانة فيها فيتلف على صاحبها ويأثم آخذها، فإذا علم ملتقطها من نفسه حفظها كان مندوبا إلى ذلك، والضرب الآخر ما لا خطر له ولا بال ولا يمكن تعريفه كالكسر من الدرهم والشيء من المأكول وما أشبه ذلك فهذا لا فائدة في أخذه فإن أخذه جاز. فصل [1 - في جملة أحكام اللقطة]: تعرف اللقطة سنة عند الموضع الذي أصابها فيه وفي أقرب المواضع إليه وعند مجتمع الناس بالقرب من ذلك الموضع، فإن جاء من يدعيها بعلامتها من العفاص والوكاء أو بزيادة على ذلك من ذكر ما فيها من ورق أو ذهب أو وزنه   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) اللقطة: في اللغة: أخذ الشيء من الأرض (معجم مقاييس اللغة: 5/ 262) وفي الاصطلاح: مال وجد بغير حرز محترما ليس حيوانًا ناطقًا ولا نعمًا (حدود ابن عرفة ص 429). (3) انظر: المدونة: 4/ 265، التفريع: 2/ 272، الرسالة ص 231، الكافي ص 425. (4) العفاص: هو الوعاء الذي تكون فيه النفقة من جلد ونحوه، والوكاء الخيط الذي يشد به العفاص. (النهاية في غريب الحديث: 3/ 263، 5/ 222). (5) أخرجه البخاري في اللقطة باب ضالة الإبل: 3/ 92، ومسلم في اللقطة: 3/ 1346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1261 وما يغلب معه على الظن صدقة في دعواه دفعت إليه بغير بينة، وإن مضت السنة ولم يأت لها طالب فهو بالخيار بين أن يتركها وتكون في يده أمانة لا شيء عليه في تلفها وبين أن يتصدق بها بشرط الضمان، فإن جاء صاحبها فأجاز التصدق بها وإلا غرمها له، وبين أن يتملكها فتكون دينا في ذمته يدفعها إلى صاحبها ويكره (1) له تملكها وإذا رد اللقطة إلى موضعها بعد أخذها فإن كان أخذها بنية الالتقاط وحفظها على صاحبها ضمنها إن ردها، فإن لم يأخذها بنية الالتقاط بل ليتبينها مترويا بين أخذها وتركها فلا ضمان عليه. وضالة الإبل لا ينبغي لواجدها أن يتعرض لها وليتركها، فأما ضالة الغنم فإن وجدها في مدينة فهي كسائر اللقطة، وإن وجدها في صحراء: فإن كان بقرب موضعها قرية أو موضع يضمها إليه فعل ذلك، وإن كان مفازة ولا قرية بقربها ولا موضع يحفظ فيه ويخاف عليها إن تركت الذئب فإن شاء تركها، وإن شاء أكلها ولا ضمان عليه في ظاهر الروايتين، ومن وجد طعامًا يفسد بتركه فإن شاء تصدق به أو أكله وضمنه إن كان في العمران ولا يضرب له أجل (2). فصل [2 - في دليل تعريف اللقطة سنة]: وإنما قلنا إنها تعرف سنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: للذي سأله عن اللقطة: "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة" (3)، ولأنه لما احتيج في تعريفها إلى أمد ومهلة ليعثر على مالكها وأمكن أن يكون صاحبها حاضرا لها (4) أو غائبًا أو ممن يتعذر عليه الحضور إلا بعد مدة وجب أن يزاد في المهلة وأن يوسع في المدة ليحصل الغرض الملتمس، وإذا ثبت ذلك ولم يكن بعض المدة بأولى من بعض كانت السنة أولى ما ضربت حد لأنها قد جعلت حدا في غير موضع مما يختبر حاله مثل العنة، وعهدة الأدواء الثلاثة، ووجوب الزكاة، وغير ذلك.   (1) في ق: وأكره. (2) في جملة هذه الأحكام انظر: الموطأ: 2/ 757 - 758، المدونة: 4/ 365 - 327، التفريع 2/ 272 - 274، الرسالة ص 231 - 232. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) لها: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1262 وإنما قلنا إنه يعرفها في المواضع التي ذكرناها لأن الغرض بالتعريف في التوصل إلى علم صاحبها بموضعها كما يجب أن يكون ذلك في المواضع التي يغلب على الظن الوصول إلى ذلك معها، وفي حديث عمر بن الخطاب (1) رضي الله عنه أنه قال: لمن ذكر له أنه وجد بطريق الشام سورة فيها ثمانون دينارًا: عرفها على أبواب المسجد واذكرها لمن يقدم من الشام (2). فصل [3 - في دفع اللقطة لمن عرف عفاصها ووكاءها]: وإنما قلنا إنها تدفع لمن يعرف عفاصها ووكاءها ولا يكلف على ذلك ببينة (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها فادفعها إليه (5)، وروي "باغيها" (6)، وروي "فإن جاء أحد يخبرك بعدتها" (7)، ففي هذا دليلان: أحدهما أمره - صلى الله عليه وسلم - بدفعها إلى مدعيها يدفعها إلى من عرف العفاص والوكاء من غير مطالبة ببينة، والآخر قوله: "اعلم عفاصها ووكاءها" ولا فائدة في ذلك إلا دفعها إلى من عرف ذلك منها لأن الضرورة قد (8) تدعو إلى ذلك وإلا أدى إلى أن لا يصل أحد إلى ما يضيع من ماله لأنه لا يمكنه الإشهاد على ضياعه والبينات مترتبة في الأصول على حسب الأشياء المشهود فيها، فيجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها.   (1) ابن الخطاب: سقطت من م. (2) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 758. (3) في م: إقامة بينة. (4) انظر: مختصر الطحاوي ص 139، الإقناع ص 121. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) لفظ "باغيها" أخرجه أبو داود في كتاب اللقطة باب تعريف اللقطة: 2/ 329. (7) أخرجه أبو داود في اللقطة باب تعريف اللقطة: 2/ 30، بلفظ "فعرف عددها ووكائها فادفعها إليه". (8) قد: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1263 فصل [4 - في كونه مخيرا بعد مضي السنة بين تملكها والتصدق بها أو تركها]: وإنما قلنا إن السنة إذا مضت ولم يأت لها طالب: كان ملتقطها مخيرا بين تملكها والتصدق بها أو تركها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن لم يجيء (1) صاحبها فشأنك بها" (2) وهذا لفظ إباحة وإطلاق، فإنشاء تصدق بها لأنه (3) ليس عليه حفظها بعد السنة لما في ذلك من المشقة والكلفة ويكون عليه الضمان لأنه فعل ذلك على وجه التخفيف عن نفسه يتكلف حفظها وليس له أن يتلف مال غيره إذنه إلا بشرط الضمان للضرورة الداعية إليه، وإن (4) شاء تركها أمانة في يده كالوديعة لا شيء عليه في تلفها لأنه قبضها لمنفعة ربها خالصًا لا نفع له فيها فكان تلفها من ربها، وإن شاء استسلفها فكانت دينا في ذمته لأن الذمة قد تكون أحرز لها من اليد، ويكره ذلك عندنا لجواز أن يعسر عند مجيء صاحبها فيتعذر عليه ردها. وإنما قلنا ردها إلى موضعها بعد أخذها إلى ما ذكرناه لأنه إذا أخذها بنية حفظها فقد تعلق حفظها عليه ولزمه ذلك، فردها بعد أخذها تعد إضاعة لما قد لزمه حفظه وذلك غير جائز، وإذا أخذها لا على هذا الوجه لم يتعلق عليه حفظها ولا لزمه إمساكها فلم يتعد بردها. وإنما قلنا إن ضالة الإبل لا يأخذها واجدها لقوله - صلى الله عليه وسلم - جوابًا لمن سأله عنها "ما لك ولها معها سقاؤها وحذاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها" (5) وقال عمر رضي الله عنه لثابت بن الضحاك (6) ووجد بعيرا فعرفه   (1) في ق: فإن جاء. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 1261. (3) في: بأنه. (4) في م: ومن. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 1261. (6) الثابت بن الضحاك: بن خليفة الأشهلي صحابي مشهور، روى عنه أبو قلابة، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1264 ثم قال: قد شغلني عن ضيعتي فقال عمر: أرسله حيث وجدته (1)، وإنما قلنا إنه في ضالة الغنم أنه يأخذها لقوله - صلى الله عليه وسلم - "هي لك أو لأخيك أو للذئب" (2) والفرق بينهما وبين ضالة الإبل أن الإبل تحفظ نفسها من الوحش إن أرادها وتعيش بنفسها وتقدر على الشرب من الغدر (3) والأكل من الشجر فيبعد خوف الهلاك عليها وربما يجيء صاحبها فيجدها وليس كذلك ضالة الغنم لأنها لا تعيش بنفسها ولا تقدر (4) على الشرب من الغدر ولا تمتنع (5) من الوحش والحيوان المفترس وكان الغالب هلاكها حتى لم تؤخذ، وإنما قلنا إنه إذا وجدها إلى جنب قرية أو موضع يمكن ضمها إليه لم يجز له أخذها (6) لأنه يصل إلى حفظها على صاحبها من غير مشقة عليه فلم يجز إتلافها ولها قيمة في الموضع الذي وجدها به. وإنما قلنا إنه إن وجدها في فلاة لا قرية بقربها فله أن يأكلها ولا غرم (7) عليه لربها خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (8)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" (9)، وفي حديث آخر: "خذها هي لك أو لأخيك أو للذئب" (10) وهذا تنبيه على أنها في حكم المتلف، ولا قيمة في إتلافه، ولأنه أضافهما إلى   = مات سنة خمس وأربعين قاله الفالس والصواب سنة أربع وستين (تقريب التهذيب ص 132). (1) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 759. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 1261. (3) الغدر: النهر (المصباح المنير ص 443). (4) في ق: لا تفتقر. (5) في ق: ولا تبلغ. (6) في ق: أكلها. (7) في ق: لا يقدر. (8) انظر: مختصر الطحاوي ص 140، مختصر المزني ص 136. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة 1261. (10) أخرجه البخاري في اللقطة باب ضالة الإبل: 3/ 92، ومسلم في اللقطة: 3/ 1346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1265 واجدها كإضافتها إلى أنها للذئب فدل على أن إتلافها لا يستحق (1) به غرم، ولأن ما هذا سبيله لا قيمة له في موضعه ولا يمكن تعريفه فلا يخلو أن يمنع أخذها وذلك خلاف الاجتماع، وأن يلزم حفظها وسوقها إلى العمران وفي ذلك مشقة وكلفة مسقطتان عنه، أو أن يباح أكلها بشرط الضمان فما هذا سبيله إنما يكون بعد التعريف إذا كان مما يبقى فلم يبق إلا ما نقوله من إباحة الأكل بغير ضمان له. وإنما قلنا في الطعام الذي لا يبطل إنه لا يعرف بأجل لأن تبقيته إلى الأجل إتلاف له على مالكه وواجده، وقلنا إن له أن يأكله لأنه إن لم يفعل ذلك تلف ويضمنه لأنه منتفع بملك غيره إلا أن يكون مما لا قيمة له والله أعلم (2). ...   (1) في م: لا يتعلق. (2) في م: والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1266 (بسم الله الرحمن الرحيم) (1) كتاب الشفعة (2) لا خلاف في وجوب الشفعة للشريك المخالط (3)، والأصل فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لم يقسم" (4)، وروي "الشفعة في كل شرك (5) " (6). فصل [1 - في عدم الشفعة للجار]: ولا شفعة لجار (7) خلافًا لأبي حنيفة (8)، لقوله الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" (9) ففيه أدلة: أحدهما أنه أخبر عن جملة محلها وهو غير المقسوم فلم يبق شفعة في غيره، والثاني دليل الخطاب، والثالثة نصه على أن القسمة إذا وقعت انتهت الشفعة، ولأنه ملك محوز (10) كالجار المقابل.   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) الشفعة: في اللغة: مشتقة من الشفع وهو الزوج لأنها ضم جزء إلى جزء فيصير به شفعًا (غرر المقالة ص 227)، وفي الاصطلاح: هي استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه (حدود ابن عرفه ص 356). (3) انظر الإجماع- لابن المنذر- 121، المغني: 5/ 307، فتح الباري 4/ 34. (4) أخرجه البخاري في الشفعة باب الشفعة فيما لم يقسم إذا وقعت الحدود فلا شفعة: 3/ 46. (5) في ق: شركة. (6) أخرجه مسلم في المساقاة باب الشفعة: 3/ 1229. (7) انظر: الرسالة ص 227، الكافي ص 436، المقدمات: 3/ 61. (8) انظر: مختصر القدوري - مع شرح الميداني- 2/ 107، تحفة الفقهاء 3/ 49. (9) سبق تخريج الحديث قريبًا. (10) في م: يجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1267 فصل [2 - فيما تستحق فيه الشفعة]: والشفعة مستحقة في العقار من الدور والحوانيت والبساتين دون العروض والحيوان والرقيق (1)، خلافًا لمن يحكي عنه وجوبها في كل ذلك إن صح (2). والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لم يقسم" (3)، وروي "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (4)، وهذا إخبار عن محل الشفعة وهو مستغرق له، ولأنه مما ينقل ويحول كالذهب والفضة، والفرق بين العروض والحيوان وبين الأرضين وجود الضرر (5) في الشركة في الأرض على وجه الدوام، ولأن التخلص منه لا يمكن إلا بضرر يلحق الشريك وسائر العروض بخلاف ذلك. فصل [3 - الشفعة في الثمار]: وعنه في وجوب الشفعة في الثمار إذا كان الأصل بأيديهم ملكا أو حبسًا أو مساقاة أو مبتدأ (6) الشراء روايتان: (7) إحداهما ثبوتها، والأخرى نفيها وهو قول المغيرة وعبد الملك، فوجه إثباتها أنها معلقة من غير صنع آدمي بأصل تجب فيه الشفعة يخاف منه سوء المشاركة فأشبه الفحل والبئر، ووجه نفيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" (8) فعلقها بما يقسم من الأراضي، ولأن الشفعة فيما يدوم فيه الضرر وذلك معدوم في الثمار فكانت كالعروض.   (1) انظر: الموطأ: 2/ 713 - 717، المدونة: 4/ 207، التفريع: 2/ 299، الرسالة ص 228، الكافي ص 436. (2) يحكي ذلك عند بعض أهل مكة، وقال ابن حزم الشفعة في كل شيء مما ينقسم ومما لا ينقسم بعض من أرض أو عبد أو ثوب ... (المقدمات: 3/ 64، المحلى: 10/ 3). (3) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 1267. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 1267. (5) في ق: الغرر. (6) في م: متبع. (7) انظر: المدونة: 4/ 207، التفريع: 2/ 299، الكافي ص 437. (8) سبق تخريج في الصفحة ص 1267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1268 فصل [4 - لا شفعة فيما لا يمكن قسمته أو فيما قسمته ضرر]: لا شفعة في طريق ولا عرصة قسمت بيوتها وبقيت مرتفقا لأهلها (1)، لأن ذلك تبع لأصل لا شفعة فيه وهو البيوت المقسومة. ولا شفعة في البئر والفحل، وإن كانت الأرض التي فيها مشاعة ففيهما الشفعة لأن في أصلها الشفعة فهما تبع لها، وإن كانت الأرض مقسومة فلا شفعة في البئر والفحل لأن أعيانها لا شفعة فيها إذ لا يصح قسمهما ولا هي متصله بأصل تجب الشفعة فيه فتكون ثابتة له. فصل [5 - في عدم الشفعة في ممر أرض أو مسيل ماء أو طريق إلى علو]: من له ممر في أرض قوم أو مسيل ماء أو طريق إلى علو له فلا شفعة له فيما بيع من الدار والأرض (2) لأنه ليس بشريك فيها، وإنما له حق متعلق على الملك دون أن يكون له حتى في نفس الملك، وكذلك الدار علوها لرجل وأسفلها (3) لآخر فلا شفعة لأحدهما فيما باع الآخر لأن أملاكهما متميزة والشركة منتفية (4). مسألة [6 - في كون الشفعة بين الشركاء على قدر الحصص]: والشفعة بين الشركاء على قدر الحصص (5)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه على عدد الرؤوس (6)، لأن الشفعة معنى مستفاد بالملك فوجب أن يكون معتبرًا بعدد الأملاك لا بعدد الملاك (7)، أصله غلة الدار وكسب العبد، ولأن مرافق الأموال تتوزع على حسب مقادير أملاك الشركاء في القلة والكثرة كالربح في التجارة، ولأن الشفعة مستحقة لإزالة الضرر المتأبد لولاها ولا يمكن   (1) انظر: المدونة: 4/ 207، التفريع: 2/ 299، الكافي ص 437. (2) انظر: المدونة: 4/ 207، التفريع: 2/ 299، الكافي ص 437. (3) في ق: سفلاها. (4) في م: منبته. (5) انظر: المدونة: 4/ 207، التفريع: 2/ 299، الكافي ص 439. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 121، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 116. (7) في ق: بقدر أملاك لا بقدر الملاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1269 إزالته بحق واجب وهو أن يطالب المشتري الشريك بالقسمة فيلزمه ذلك فيدخل عليه الضرر من عدة وجوه: من نقصان قيمة نصيبه إذا قسم، ولزوم أجرة القسام، واستحداث مرافق أخر، وزيادة مؤنة، ووجدنا هذا الضرر يدخل عليه على حسب ملك الملاك لا على عدد رؤوسهم، فإذا كانت الشفعة مستحقة لهذا وجب أن يستحق بقدر الملك لأن هذا الضرر إذا وجد يسقط حسب الملك وكذلك إذا رفع. مسألة [7 - الشفعة بين أهل الميراث]: الشفعة بين أهل الميراث على قدر رؤوسهم، ومن باع أصل سهم منهم فشركاؤه في ذلك السهم أحق بالشفعة (1) من باقي الورثة، فإن باع جميع أصل سهم سهمهم الذي ورثوه فالشفعة لبقية أهل الميراث دون الشركاء الأجانب، ولو كان أهل السهام عصبة فباع بعض العصبة حق فالشفعة لبقية العصبة ولأهل السهام جميعًا، ولو باع بعض أهل سهم حقه كانت الشفعة لأهل السهم دون العصبة (2). مثال جملة المسألة: أن يترك الميت جدتين وأختين لأم وإخوة لأب، وله ستة أسهم من اثنى عشر سهما من دار أو دكان، فأرادت إحدى الجدتين بيع حقها من السدس فالجدة الأخرى أحق بالشفعة من الشركاء، فإن باعت الجدتان جميعًا فالشفعة لباقي الورثة، وإن باعت إحدى الأختين للأم حصتها فالأخت أحق بالشفعة من الأخوة لأب، فإن باع بعض الأخوة لأب حصتهم فالشفعة بين بقية الإخوة للأب وبين باقي أهل الميراث، فإن كان جميع من ورث الميت عصبة شافعوا بينهم دون الشركاء الأجانب.   (1) في ق: بالشركة. (2) انظر: المدونة: 4/ 206، التفريع: 2/ 299 - 300، الكافي ص 439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1270 فصل [8 - في كون أهل السهم الواحد أحق بالشفعة من بقية الشركاء]: وإنما قلنا إن أهل (1) السهم الواحد أحق بالشفعة من بقية الشركاء (2)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "الشفعة في كل شرك" (4) , والسهم نوع من الشرك" (5) والسهم نوع من الشرك (5) فوجبت الشفعة فيه، لأنه نوع من الشركة فوجب أن يثبت الشافع فيه اعتبارًا بالشركة في نفس العقار، وإنما قلنا إن بقية أهل السهم أولى من العصبة، لأنهم أخص منهم بالشركة وأكدا أمرا, لأن سهمهم معلوم مقدر، (وإنما قلنا إن أهل السهام يشاركون في العصبة لما ذكرناه من قوتهم عليهم) (6)، وإنما قلنا إن جميع ورثة الميت إذا كانوا عصبة تشافعوا بينهم لأنهم أهل ميراث واحد كأهل السهام. مسألة [9 - ثبوت الشفعة في كل شقص ملك بعوض]: كل شقص ملك بعوض ففيه الشفعة إلا أن يعرض ما يقطعها بأي نوع كان من التمليكات من بيع، أو إجارة، أو خلع، أو مهر، أو صلح من أرش جناية، أو قيمة متلف، أو دم عمد، أو خطأ أو غير ذلك من أنواع المعاوضات، فأما ما ملك بغير عوض مثل الهبة بغير الثواب والصدقة ففيها روايتان: إحداهما وجوب الشفعة، والأخرى سقوطها. ولا شفعة في الميراث (7). فصل [10 - وجوب الشفعة في أنواع المعاوضات]: إنما قلنا إن الشفعة واجبة في أنواع المعاوضات لاتفاقهم على ذلك في البيع   (1) أهل: سقطت من م. (2) انظر: المدونة: 4/ 206، التفريع: 2/ 299، الكافي ص 439. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 121، الإقناع ص 117. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة 1267. (5) والسهم نوع من الشرك: سقطت من ق. (6) ما بين قوسين سقط من ق. (7) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 4/ 210، الكافي ص 442 - 443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1271 فكان كل عوض بمثابته، (وقلنا إن الشفعة في النكاح والخلع خلافًا لأبي حنيفة (1)، لأن النكاح نوع معاوضة فإذا ملك به ما يجب فيه الشفعة جاز أن يستحق كالبيع) (2). فصل [11 - أخذ الشفعة في المهر بقيمة الشقص]: إذا وجبت الشفعة في المهر فإنها تؤخذ بقيمة الشقص (3)، خلافًا للشافعي في قوله: إنها تؤخذ بمهر المثل (4)، لأن ذلك أعدل بين الشفيع والمرأة، وذلك أن النكاح طريقه المواصلة والمكارمة دون محض المعاوضة، فقد يكون مهر المثل ألف دينار وقيمة الشقص مائة فتسامحه فتأخذ الشقص بمهرها، فمتى ألزمنا الشفيع أخذ الشقص بمهر المثل وهو ألف دينار كنا قد حفنا عليه وألزمناه أن يدفع إلى المرأة أكثر مما عاوضت عليه، وكذلك قيمة الشقص ألفا مثلها مائة، فلو جعلنا للشفيع أخذ الشقص بمائة وهو يساوي ألفا كنا قد حفنا على المرأة لأن الزوج يقول أنا أصدقها هذا الشقص (على أنه يقدر مهر المثل فكان الأعدل في ذلك قيمة الشقص (5). فصل [12 - في أخذ الشقص في الصلح عن دم العمد بقيمته وعن دم الخطأ بالدية]: ويؤخذ الشقص في الصلح عن دم العمد بقيمته وعن دم الخطأ بالدية، لأن الواجب بالعمد القود وإنما تجب الدية بالتراضي أو بتعذر القود، وليس كذلك   (1) انظر: مختصر الطحاوي ص 121، مختصر القدروي - مع شرح الميداني: 2/ 110. (2) ما بين قوسين سقط من م في هذا الفصل، ويوجد هذا النقص بعد فصول قليلة قادمة. (3) انظر: المدونة: 4/ 224، الكافي 444. (4) انظر: الأم: 4/ 3، الإقناع ص 117. (5) ما بين قوسين سقط من ق، - وخلاصة هذا التعليل أن الشقص إذا كان مهرا فالشفعة فيه أن يؤخذ الشقص بقيمته لا بمهر مثله لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى، لتسامح الناس فيه في العادة بخلاف البيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1272 الخطأ لأن الواجب به الدية والشقص بدل منها (1)، ووجه قوله: في الهبة والصدقة إنه لا منفعة فيها، اعتبارًا بالميراث لأنه انتقال ملك بغير عوض، ووجه إيجاب الشفعة فيها، اعتبارها بالبيع بعلة أنه انتقال ملك باختيار. مسألة [13 - إذا بيع مع الشقص عرض بثمن واحد]: ومن باع صفقة واحدة شقصًا تجب فيه الشفعة ومعه عروض وحيوان فللشفيع أخذ شفعته بحصتها من الثمن، وليس للمشتري أن يقول لا أدعك تفرق الصفقة (2)؛ لأن الشفيع لا يلزمه أن يأخذ ما لا شفعة فيه والمشتري دخل على تفريق الصفقة. فصل [14 - لو اشترى أشقاصًا شفيعها واحد]: لو اشترى أشقاصًا شفيعها واحد فأراد الشفيع أن يأخذ شفعته من واحد منها ويترك بقيتها لم يكن له ذلك إلا برضى المشتري، بخلاف الأولى (3) لأن الحق له في الجميع فهو المختار لتبعيض الصفقة على المشتري فلا يترك وذلك. فصل [15 - من باع شقصًا وله عدة شفعاء]: ومن باع شقصًا من رجل (4) وله عدة شفعاء فأراد بعضهم الأخذ بحصته من الشفعة وسلَّم سائرهم: فليس لمريد الشفعة إلا أن يأخذ الكل أو يترك (5)، لأن الباقي إذا تركوا حصل الشقص كأنه ليس له إلا (6) شفيع واحد فلم يكن له إلا أخذ الكل أو الترك، ولو كان بعض الشفعاء حاضرا وباقيهم غائب فأراد الحاضر أن يأخذ نصيبه بحصته لم يكن له ذلك لأن تبعيض الصفقة غير جائز ما لم يرض   (1) انظر: المدونة: 4/ 210، الكافي ص 443 - 444. (2) انظر: المدونة: 4/ 210، الكافي ص 444. (3) انظر: المدونة: 4/ 210 - 211، الكافي ص 444. (4) من رجل: سقطت من م. (5) انظر: المدونة: 4/ 210، التفريع: 2/ 301. (6) ليس له إلا: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1273 المشتري، وهو ممن له في الشفعة حق، فإن أخذ الكل ثم قَدِمَ الغائبون أخذوا بقدر حقوقهم إن أحبوا لأن أخذ هذا الشفيع للجميع إنما كان لحق المشتري في منع تفريق الصفقة عليه، ولأنه مشتر من المشتري، وليس لمن يأخذ الشفعة تفريق الصفقة عليه. مسألة [16 - الشفعة على التراخي أو على الفور، وحكم شفعة الغائب]: الأخذ بالشفعة ثابت للشفيع، ما لم يترك، أو يظهر منه ما يدل على الترك، أو يأت في طول المدة ما يعلم معه أنه تارك للشفعة، فإن كان غائبًا فلا تنقطع شفعته ولو طالت غيبة ما طالت (1)، وإن كان حاضرا فعنه روايتان (2): إحداهما أنه لا حد في بطلان الشفعة من المدة، والأخرى أنه ينتظر عليه سنة ثم لا شفعة له بعدها، وعند أبي حنيفة أنها على الفور (3) كالرد بالعيب فإن أمسك عن المطالبة بها مع علمه وتمكينه (4) منها بطلت، وقول الشافعي الصحيح عن أصحابه مثل ذلك (5)، فدليلنا أن المطالبة بالشفعة حق للشفيع، ومن له حق المطالبة في أي وقت شاء إلا أن يعلم منه ترك له، هذا أصل بني عليه هذا الباب ولا ينتقض بأعيان المسائل، ولأنه حتى في استيفاء مال لم يكن فيه تفريط أو تدليس فلم يجب المطالبة به على الفور، وأصله الديون، وفيه احتراز من الرد بالعيب، ولأن في إيجابه المطالبة فورا ضرر على الشفيع, لأنه قد يعلم ولم يحصل الثمن ولا باع ما يحصل من جهته، فيؤدي ذلك إلى تفويته إياه متى لم يمهل مدة يتمكن فيها من ذلك، وكذلك قد يكون المشتري قد عمَّر وغرس   (1) ما طالت: سقطت من ق. (2) انظر: الموطأ: 2/ 715، المدونة: 4/ 208، التفريع: 2/ 301، الرسالة ص 228، الكافي ص 443. (3) انظر: مختصر الطحاوي ص 120، مختصر القدوري - مع شرح المداني- 2/ 108. (4) في م: وتمكنه. (5) انظر: الأم: 4/ 3، مختصر المزني ص 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1274 فيلزم الشفيع دفع القيمة (1) إليه، فلا يجوز أن يثبت له حق ويؤخذ باستيفائه على وجه يقتضي تغريمه إياه، وإنما قلنا إن الغائب لا تنقطع شفعته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فينتظر بها وإن كان غائبًا" (2)، ولأنه معذور، ولأن تركه المطالبة لغيبته (3)، ولا يمكنه غالبًا المطالبة مع الغيبة. فصل [17 - في توجيه القول في مدة الشفعة]: فأما الحاضر فوجه القول بأن مدته سنة: فلأنه إذا ثبت أن المطالبة ليست على الفور، وكان الأجل القريب في معنى الفور, لأنه قد يكون له عذر في إمساكه عن المطالبة ليُحصّل الثمن وقيمة (4) عمارة إن كانت للمشتري فيخاف أن يؤخذ بوزن ما يلزمه في الحال وربما في الحال وربما لا يحضره، فوجب ضرب مدة (له ليتسع لما يمكنه معه الأخذ، وكانت السنة أولى الآجال بأن تحد لأنها تجمع ما تجتمع معه العلل في الصبر والإمهال، وقد جعلت في الشرع حدا لأحكام عدة فكذلك في مسألتنا، ووجه رواية التأبيد قوله: "الشريك أحق به" (5) ولم يعلقه بمدة، ولأنه استيفاء مال فلم يبطل بترك المطالبة كأروش الجنايات. فصل [18 - هبة الشفيع شفعته]: إذا وهب الشفيع شفعته قبل وجوبها له) (6) لم يلزمه (7) لأنه لم يملك شيئًا يهبه، ومن وهب ما لا يملك لم تصح هبته.   (1) في ق: الشيء. (2) أخرجه ابن ماجة في الشفعة باب الشفعة بالجوار: 2/ 833، وأبو داود في البيوع باب الشفعة: 3/ 789 والترمذي في الأحكام باب الشفعة للغائب وقال: حديث حسن غريب: 3/ 651، وأحمد: 3/ 353. (3) في ق: لقيمته. (4) في م: وفيه. (5) سبق تخريج الحديث قريبا. (6) ما بين قوسين مطموس في ق. (7) انظر: المدونة: 4/ 121، التفريع: 2/ 301، الرسالة ص 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1275 فصل [19 - فيما إذا بيع الشقص بعرض أو حيوان أو طعام]: إذا بيع الشقص بعرض أو حيوان أخذه الشفيع بقيمة ذلك العرض، وإن كان بطعام أو غيره مما يكال أو يوزن أخذه: بمثله (1)، ولأن الشفيع إنما يستحق الشقص بالقدر الذي عاوض المشتري به، فإن كان مما له مثل لزم الشفيع مثله، وإلا فقيمته لأن القيمة تقوم مقام المثل عند تعذره. فصل [20 - في عهدة الشفيع]: عهدة (2) الشفيع على المشتري (3) دون البائع، ودركه (4) في الاستحقاق لازم للمشتري، وعليه يرجع بالثمن ويرجع المشتري على البائع، وسواء أخذ الشقص قبل قبض المشتري إياه أو بعده في حياة المشتري أو بعد موته (5)، وقال ابن أبي ليلى: العهدة على البائع في كل وجه، وقال أبو حنيفة: هي على من يؤخذ الشقص منه كان البائع أو المشتري (6). فدليلنا أن الشفعة تؤخذ من ملك المشتري دون البائع وذلك أن المبيع حصل في ملك المشتري بنفس العقد المطلق، ومنه يتلف قبل القبض وبعده، وإن حصل الإيجاب من البائع والقبول من المشتري فقد صح أن يأخذ من المشتري بعد تقرر ملكه عليه فيجب أن تكون العهدة عليه.   (1) انظر: المدونة: 4/ 219، التفريع: 2/ 312، الكافي ص 442. (2) العهدة: مشتقة من العهد، والعهد هو الأمان والموثق والذمة والحفاظ ومن لزمته العهده لزمه الوفاء بموجبها (الصحاح: 2/ 515). (3) يعني أن عهد الشفيع باعتبار الثمن، والرد بالعيب والاستحقاق وشبه ذلك (الفواكه الدواني: 2/ 167). (4) الدرك: اللحوق والوصول (الصحاح: 4/ 1582) ومنه ضمان الدرك في عهدة المبيع، وضمان الدرك عند الفقهاء هو رد الثمن للمشتري عند استحقاق المبيع. (5) انظر: المدونة: 4/ 209، التفريع: 2/ 302، الرسالة ص 228، الكافي ص 444. (6) انظر: مختصر الطحاوي ص 123، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1276 فصل [21 - في كون الإقالة لا تسقط الشفعة]: الإقالة لا تسقط الشفعة (1)، لأنها بيع حادث بعد تقرر الملك للمشتري ووجوب الشفعة للشفيع، فأشبهت بيعها (2) من غير البائع. وقد اختلف قوله على من تكون العهدة بعد الإقالة، فقال: تكون على المشتري وتبطل الإقالة، ووجه ذلك ما ذكرناه من اعتباره ببيعه من غير البائع أن للشفيع الأخذ بأول البيعتين ويبطل ما بعده، وقال هو بالخيار إن شاء كتبها على البائع وإن شاء على المشتري، وهذا لأن الشفعة تجب له بالصفقتين بأي ذلك شاء أخذ، والعهدة على من يأخذها منه. فصل [22 - إذا بيع سهم فيه الشفعة مرارًا]: إذا بيع سهم فيه الشفعة مرارًا والشفيع غائب أو حاضر لم يعلم ثم أراد الأخذ بالشفعة فله أخذها بأي الصفقات: فإن أخذها بآخر صفقة صح ما تقدم من الصفقات، وإن أخذها بالأولى بطل ما بعدها (وترادوا بأصل الأثمان وسواء اتفقت الأثمان أو اختلفت، وإن أخذها) (3) بوسطها صح ما قبلها وبطل ما بعدها (4). مسألة [23 - إذا أراد المشتري التصرف وخاف مطالبة الشريك بالشفعة]: وإذا أراد المشتري التصرف وخاف مطالبة الشريك بالشفعة فله إيقافه عند الحاكم، فإما أخذ أو ترك ليتمكن المشتري مما يريده من البناء والهدم والغرس وغير ذلك مما يتصرف المُلاك في أملاكهم (5).   (1) انظر: التفريع: 2/ 302، الكافي ص 444. (2) في م: بيعًا. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) انظر: التفريع: 2/ 303، الكافي ص 441. (5) انظر: التفريع: 2/ 303، الكافي ص 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1277 فصل [24 - في منع هبة الشفعة أو بيعها]: ولا تجوز هبة الشفعة ولا بيعها (1)؛ لأن الشريك إنما جُعلت له الشفعة ليزول الضرر عنه بدخول من لم يعهد (2) شركته ولا عرف معاملته، وربما طلب (3) بالقسمة فاحتاج إلى استئناف مرافق، فيلحقه في ذلك ضرر وهذا معنى يختص الشريك به لا يوجد في غيره، ولأنه إذا رضي بقطع حقه من تملك الشقص كان المشتري أولى بثبوت ملكه عليه. فصل [25 - إذا بنى المشتري وغرس وعمر ثم جاء الشفيع]: إذا بنى المشتري وغرس وعمر ثم جاء الشفيع: فإن شاء أخذ بالثمن وقيمة البنيان والغراس قائمًا يوم يأخذه، وإن شاء ترك (4)، وقال أبو حنيفة يأخذها بالثمن ويجبر المشتري على قلع البناء والغراس إلا أن يكون زرعًا يترك إلى أن يحصد (5)، فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" (6) وهذا ليس عرق ظالم، ولأنه غرس أو بناء في ملك صحيح يملك نفعه فلم يستحق عليه إتلافه أصله ما لا (7) يستحق عليه فيه شفعة، وإنما قلنا إن القيمة يوم الأخذ لأنه في ذلك الوقت يحصل منه مشتريًا له فاستحق العرض عليه حينئذ. فصل [26]: ويتصور ذلك بوجوه منها أن يكون الشريك لم يعلم بالبيع فطالبه شريكه بالبناء   (1) انظر: المدونة: 4/ 216، التفريع: 2/ 301، الرسالة ص 228، الكافي ص 439. (2) في ق: من لم يعتد. (3) في م: طالبه. (4) انظر: المدونة: 4/ 236، الكافي ص 442 - 443، المقدمات: 3/ 71. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 123 - 124، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 119. (6) سبق تخريج الحديث. (7) في م: ألا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1278 والغرس وكتمه البيع ثم ظهر على ذلك، ومنها أن يكون طالبه بالقسمة فبنى (1) وغرس ثم علم بذلك، ومنها أن يكون الشفيع غائبًا فأذن الحاكم للمشتري في البناء والغرس ثم جاء الشفيع. فصل [27 - في أخذ الشفيع النخل بثمرها]: ولو بيعت نخلة بثمرها فإن الشفيع يأخذها مع ثمرتها قائمة كانت أو مجذوذة وللمشتري ما سقى وأنفق (2)، وقال أبو حنيفة: إن كانت قائمة في رؤوس النخل أخذها مع الأصل فإن كانت قد جذت الأصل بقسطه من الثمن (3)، وقال الشافعي: لا يأخذ الثمرة على وجه (4)، فدليلنا أن الثمرة ثابتة في أصل المبيع غير مزايلة (5) له قد ضمنه الصفقة من غير فعل آدمي فكانت الشفعة ثابتة فيها كالشجر. مسألة [28 - إرث خيار الشفعة]: خيار الشفعة موروث (6)، خلافًا لأبي حنيفة (7)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك مالًا أو حقًّا فلورثته" (8)، ولأنه خيار لدفع الضرر عن ماله فجاز أن يقوم فيه   (1) في ق: ببناء. (2) انظر: المدونة: 4/ 221، التفريع: 2/ 302، الكافي ص 443، المقدمات: 3/ 75. (3) انظر: مختصر القدوري- مع شرح الميداني - 2/ 119 - 120، تحفة الفقهاء: 3/ 59. (4) انظر: مختصر المزني ص 120، المهذب: 1/ 377. (5) المزايلة: هي المفارقة (انظر الصحاح: 4/ 1720). (6) انظر: المدونة: 4/ 16، الموطأ: 2/ 715، الكافي ص 440، المقدمات: 3/ 68. (7) انظر: مختصر الطحاوي ص 123 ومختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 113. (8) أخرجه البخاري في الكفالة باب الدين: 3/ 60، ومسلم في الفرائض باب من ترك مالًا فلورثته: 3/ 1237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1279 وارثه مقامه كخيار الرد بالعيب، ولأنه حق مستفاد بالملك فجاز أن يكون موروثا كثمر الشجر ونماء الماشية. فصل [29 - متى تتم شفعة الخيار]: إذا بيع شقص بالخيار فلا شفعة حتى يتم البيع ويحصل الاختيار (1)، وقال أبو حنيفة: إن كان الخيار للبائع فلا شفعة وإن كان للمشتري وجبت الشفعة (2)، وإنما قلنا لا شفعة قبل انبرام الخيار اعتبارًا به لو كان الخيار للبائع، ولأن الشفعة تستحق بتمام العقد، وما لم يقع الخيار فالعقد غير تام، بدليل أن المشتري ربما لم يشتر فردَّ الشقص. فصل [30 - إذا بيع الشقص بثمن إلى أجل]: إذا بيع الشقص بثمن إلى أجل: فإن شاء (3) الشفيع أخذه بمثل ذلك الثمن إلى أجل إن كان ثقة مليا أو أتى بثقة مليء يضمن الثمن عنه عند (4) الأجل (5)، وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس له أخذه إلا بالثمن حالًا أو الانتظار إلى أن يحل فيأخذه بالنقد (6)، ودليلنا أن الشفعة تستحق بمثل الثمن الذي بيع الشقص به حتى يدخل الشفيع مدخل المشتري من غير زيادة ولا مرفق بدليل أنه لو اشترى بغلة لم يأخذ صحاحًا، ولو ابتاع بصحاح لم يعط غلة، ولو ألزمنا الشفيع النقد وقد ابتاع نساء لكان ذلك زيادة على الشفيع للمشتري, لأن العرف جارٍ بأن الثمن بالنقد أقل منه بالنسيئة، ولأن المشتري لا يلزمه أن ينقد،   (1) انظر: الموطأ: 2/ 714 و717، الكافي ص 439. (2) انظر: مختصر الطحاوي القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 114. (3) في ق: حاء. (4) في م: عند وجوب الأجل. (5) انظر: المدونة: 4/ 218 - 219، الموطأ: 2/ 715. (6) انظر: مختصر القدوري -مع شرح الميداني - 2/ 120، مختصر المزني ص 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1280 فلا يلزم الشفيع إلا ما يلزم المشتري، وإن منعناه الأخذ إلى المدة أضررنا به طول تلك المدة فلم يبق إلا ما قلناه. فصل [31 - الشفعة في الحمام]: واختلف عنه في الحمام: ففيه روايتان (1): إحداهما وجوب الشفعة، والأخرى سقوطها وذلك مبني على وجوب قسمته، فالشفعة تتبع القسمة في الإثبات والنفي (2). فصل [32 - الشفعة في العقار الذي لا ينقسم]: وقد اختلف قوله: في العقار الذي لا يقسم (3) إذا طلب الشريك الشفعة: فقال: فيه الشفعة، وقال لا شفعة إلا فيما ينقسم (4)، فوجه إثباتها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة في كل شرك" (5)، ولأنه عقار كالذي ينقسم، ووجه نفيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" (6) فنبَّه على اعتبار المقسوم، ولأن كل مبيع لا ينقسم فلا تدخله الشفعة كالثوب والعبد. فصل [33 - في شفعة أهل الذمة]: للذمي الشفعة فيما باع شريكه المسلم (7)، خلافًا لأحمد وداود (8) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة في كل شرك رَبْعَةٍ أو حائط لا يحل له أن يبيعه حتى يعرضه على   (1) انظر: المدونة: 4/ 224، الكافي ص 436. (2) في ق: النهي. (3) في م: لا ينقسم. (4) أي أن فيه قولين انظر: المدونة: 4/ 224، التفريع: 2/ 300، الكافي ص 436. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة 1267. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة 1267. (7) انظر المدونة: 4/ 205، الكافي ص 438. (8) انظر: مسائل الإمام أحمد -برواية ابنه عبد الله- 298، مختصر الخرقي ص 76، المحلى: 10/ 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1281 شريكه فإن باعه فالشريك أحق به بالثمن" (1) فعم، ولأنه حق موضوع لإزالة الضرر عن الملك فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب. مسألة [34 - إذا اختلف الشفيع والمشتري في الثمن]: إذا اختلف الشفيع والمشتري في الثمن: فالقول قول المبتاع لأنه مدعي عليه والشفيع مدع لاستحقاق الشقص وإزالة ملكه بدون ما يذكره، فكان على المشتري اليمين (2) فإن حلف فإما أخذ الشفيع ما حلفه عليه وإلا ترك، وإن نكل حلف الشفيع وأخذ ما يدعيه، وكل ذلك إذا كان التداعي فيما يشبه (3) فإن أتى أحدهما بما لا يشبه فالقول قول مدعي المشبه مع يمينه لأن العرف يصدقه ويكذب خصمه، إلا أن يكون المبتاع ممن يعلم أنه يبذل مثل ذلك الثمن لكونه ملكا لا يبالي فيما يبذل، أو جارًا يزيد في الثمن لحاجته إلى الشقص، وما أشبه ذلك، فإن العرف يُجوَّز فيه ذلك، فإن أقام أحدهما بينة ثبت له ما يدعيه مما تشهد به فإن أقام الآخر (4) بينة حكم بأعدلهما على ما يبينه، فإن تكافئا سقطتا وعاد الأمر إلى أن القول قول المبتاع مع يمينه (5). فصل [35 - إذا حط البائع عن المبتاع شيئًا من ثمن الشفعة]: إذا حط البائع عن المبتاع شيئًا من ثمن الشفعة (6) نظر: فإن كان مثلها مما حط في البيوع والباقي يشبه أن يكون ثمنا للشقص وجب حطه عن الشفيع، وإن كان شيئًا متفاوتا لا يصلح أن يكون الباقي (7) ثمنا للشقص فذلك هبة لا (8) توضع   (1) سبق تخريج الحديث ص 1267. (2) في ق: الثمن. (3) أي بما يشبه أن يكون ثمنا للشقص. (4) الآخر: سقطت من م. (5) انظر: المدونة: 4/ 208، الكافي ص 444. (6) في م: الشقص. (7) في ق: الثاني. (8) في ق: كما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1282 عن الشفيع، وسواء كان ذلك قبل الأخذ بالشفعة أو بعده (1)، وقال الشافعي: لا يحط عن الشفيع شيئًا أصلًا (2)، فدليلنا أن الذي يلزم الشفيع أن يؤدي إلى المشتري ما عاوض على الشقص، والذي عاوض عليه هو ما دونه دون ما يحط عنه، ولأنه إذا حط عنه بعضه علمنا أن الذي أظهره لم يكن الثمن فإن الثمن هو ما بقي بعد الحطيطة، فإذا وضع مالًا يشبه في الباقي أن يكون ثمنًا فإنا نعلم أن ذلك هبة لا تتعلق باستغلاء الشقص واستصلاح ثمنه فلا يحط عن الشفيع. ...   (1) انظر: المدونة: 4/ 212، الكافي ص 442. (2) انظر: مختصر المزني، 120 - 121، المهذب: 1/ 385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1283 (بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد) (1) كتاب القسمة (2) الأصل في القسمة (3) قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين} (4) الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (5) وما روي عن قسمته - صلى الله عليه وسلم - الغنائم وإسهامه بين العبيد المعتقين في المرض (6) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مال أدركه قسم الجاهلية فهو على قسم الجاهلية وما أدركه قسم (7) الإسلام فهو على، قسم الإسلام" (8) ولأن أحدا لا يجبر على مشاركة غيره إذا لم يخترها. فصل [1 - فيما يصح قسمه]: الأعيان المملوكات ضربان: ضرب يصح قسمه وضرب لا يصح قسمه،   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) القسمة: في اللغة الفرز وتجزئة الشيء (معجم مقاييس اللغة: 5/ 86، المصباح المنير ص 503)، وفي الاصطلاح: تصيير مشاع من مملوك مالكين معينا ولو باختصاص تصرف فيه بقرعة أو تراض (حدود ابن عرفه ص 372). (3) انظر: المدونة: 4/ 241، التفريع: 2/ 296، الكافي ص 445، المقدمات 3/ 91. (4) سورة: النساء الآية، 8. (5) سبق تخريج الحديث في الصفحة ص 1267. (6) أخرجه مسلم في الأيمان باب ما أعتق شركًا له في عبد: 3/ 1288. (7) قسم: سقطت من م. (8) أخرجه مالك: 2/ 746، وأبو داود في الفرائض باب فيمن أسلم على ميراث: 3/ 330، وابن ماجة في الرهون باب قسمة المال: 2/ 831، وأخرجه الشافعي عن الإمام مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1285 فالذي لا يصح قسمه هو: الثياب، والحيوان، والرقيق، والعروض وغيرها فهذا يصح قسمة النوع منه دون الأعيان، ولا يصح قسمة أعيان هذه الأشياء كالثوب والعبد والدابة والسفينة وما في حكم العين الواحدة كالخفين والنعلين والبابين وكل ما في قسمه إتلاف عينه أو إتلاف النفع به، فهذا النوع لا يصح قسم العين منه (1) لأن القسمة هي في إقرار الحقوق وأن يميز الإنسان حقه وينفرد به فينتفع به (2) على ما يريده، وقسم هذه الأعيان يفيتها هذا المعنى فيجب منعه، ولأن طالب قسمة العبد والدابة والثوب والسطل وما أشبهه كأنه يقول أريد أن أتلفه على شريك ملكه وأبطل عليه الانتفاع به ولا أبالي إن أدى ذلك إتلاف ملكي فلا يُمكَّن من ذلك. فصل [2 - إذا تشاح الشريكان فيما لا يصح قسمته]: إذا ثبت أن قسمة كل واحد من هذه الأعيان لا يصح بانفرادها فإذا تشاح الشريكان فيه ولم يتراضيا بالانتفاع به على الشياع وأراد أحدهما البيع فله ذلك فإن أجابه الآخر أن يبيع حصته معه جاز، وإن أبى أجبر على البيع معه (3) , لأن في بيع (4) هذا حصته عنه وحده (5) ضررا عليه لنقص قيمتها إذا أفردت بالبيع عنها إذا بيعت بالجملة فلا يجوز أن يقال أن الشريك غير مختار لإخراج ملكه، ولا يجبر عليه لأنه إذ تعلق بذلك حق لغيره أجبر عليه ولم يلتفت إلى اختياره كالشفعة، ولأن الشركة لما لم يلزم البقاء عليها كان لمن أراد الانفراد منهما بحقه أن ينفرد به، فإن أمكن بالقسمة (6) وإلا بالبيع لأنه لا طريق له إلا ذلك، فإذا ثبت أن الشريك يجبر على البيع بما دفع به كان له ذلك لإزالة الضرر عنه إلا إن   (1) انظر: المدونة: 4/ 242 - 248، التفريع 2/ 296، المقدمات: 3/ 94 - 95. (2) فينتفع به: سقطت من ق. (3) انظر: التفريع: 2/ 296، الكافي ص 449، المقدمات: 3/ 98 - 99. (4) في م: منع. (5) وحده: سقطت من م. (6) في ق: بالقيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1286 شاء الشريك بيع حصة مشاعة فلا (1) يلزم بيع حصته معه، فإن اختار أن يتقاوما رقبة المبيع، فإن زاد على صاحبه سلمه الآخر له، هذا الحكم فيما لا ينقسم آحاده. فصل [3 - قسمة الذي تنقسم أعيانه]: فأما الذي ينقسم أعيانه كالعقار والرباع فما أمكن قسمه منها ولم يعد بالضرر وإتلاف حصة أحد الشركاء قسم بينهم، وما لا يمكن قسمه إلا بلحوق الضرر لجماعتهم وأن يصير لكل واحد ما لا ينتفع له فلا يجوز قسمه لأن ذلك إضرار بنفسه وشركائه، وإن كان تصير لأحد الشركاء ما ينتفع به فطالب بالقسمة وفي القسم إبطال انتفاع الباقي بحصصهم، وقد قيل إن العقار إذا كان مما ينقسم قسم على كل حال إذا دعي بعض الشركاء إلى القسمة (2). فوجه القول بأنه يقسم وإن كان يصير لكل واحد منهما ما لا ينتفع به أن القسمة هي تمييز الحقوق فمن دعي إليها كان له ذلك اعتبارًا به إذا حصل للآخر ما ينتفع به، ولأنه يقول أريد أن أنفرد بملكي وليس عليَّ شيء من غيري فيكون له ذلك، ووجه القول إنه لا يقسم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" (3) وهذا من الإضرار، ولأن قسم رقاب العروض والحيوان إنما امتنع لهذا المعنى. فصل [4 - في أوجه القسمة]: والقسمة في الأصل على ثلاثة أوجه: قسمة مهاياة: وهي أن يتهايأ الشريكان فيأخذ هذا دارا يسكنها وهذا أرضا يزرعها فيجوز ذلك بالتراضي وليست بواجبة يجبر عليها من أباها, لأن قسمة المنافع ليست بقسمة للرقاب، وقسمة بيع: وصفتها أن يأخذ أحد الشريكين دارا على أن يأخذ أحد الشريكين دارا   (1) في م: فلم. (2) انظر: المدونة: 4/ 241 - 242، التفريع: 2/ 296، الكافي ص 449، المقدمات: 3/ 94 - 95. (3) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1287 أخرى أو بستانًا أو دكانًا فهذه قسمة جائزة (1) , لأنها بيع ومحصولها أن أحدهما باع حصته من الدار بحصة الآخر من الدار الأخرى، والثالث قسمة قيمة وتعديل: وذلك إذا كانت الدار مختلفة البناء، والبستان مختلف الغراس يختلف قيمة كل شيء منه من نخل وشجر وبسط فإنها تعدل بالقيمة ويضرب عليها بالسهم، وصفة ذلك تقسم الفريضة وتحقق وتضرب إن كان في سهامها كسر إلى أن تصح السهام ثم يقوم كل موضع منها وكل نوع من غراسها ثم تعدل على أقل السهام بالقيمة فربما كانت جريب من موضع بإزاء ثلاثة أجربة من موضع آخر (2) على حسب اختلاف قيم الأرض في مواضعها, فمن حصل له سهم من طرف فإن كان بقدر حقه فقد استوفاه، وإن كان أقل من حقه ضم إليه مما يليه تمام حقه (3). ووجه ذلك: أن القيمة إذا عرفت وعدلت على أقل السهام نظر: فإن تراضوا على أن يجعل لأحدهم من طرف وللباقين من الطرف الآخر جاز، وإن تشاحوا ضرب بالسهم بينهم فمن حصل له بسهم من جهة كانت له، فإن اختلفوا بأي (4) الجهات يبدأ في الأسهام عليه أسهم على الجهتين فأيتهما خرج سهمها أسهم عليها ثم كان الحكم فيه على ما بيناه، وصفة القرعة: أن يكتب أسماء الشركاء في رقاع وتجعل في طين أو شمع ثم ترمى كل بندقة في جهة فمن حصل اسمه في جهة أخذ حقه متصلا في تلك الجهة، وقيل تكتب الأسماء وتكتب الجهات (ثم يخرج أول بندقة من الأسماء ثم أول بندقة من الجهات) (5) فيعطى من خرج اسمه نصيبه من تلك الجهة.   (1) في م: زائدة. (2) في ق: في حكم آخر. (3) انظر: المدونة: 4/ 241، التفريع: 2/ 297، الكافي ص 445 - 446، المقدمات. (4) في ق: في أي. (5) ما بين قوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1288 فصل [5 - في قسمة الدور والدكاكين والضياع]: إذا أراد الشريك قسمة دور أو دكاكين (1) أو ضياع: فطلب بعضهم القسم (2) له بحقه في كل دار أو دكان، وطلب الباقون القسمة على العدد نظر: فإن كان المنافع متساوية أو متقاربة والمواضع متصلة أو متقاربة ورغبة الناس فيها غير متباعدة قسمت على العدد، وإن كانت المنافع مختلفة والمواضع متصلة (والمنافع متساوية والمواضع) (3) متباعدة قسمت كل دار على حدة (4)، وقال أبو حنيفة والشافعي: يقسم في الوجهين كل دار على حدتها (5). ودليلنا أن القسمة بالعدد أنفع للفريقين وأبعد على الغرر (6) وأعود بالصلاح لأن الدار الواحدة إذا قسمت ربما فسدت وقلَّ الانتفاع بما يصير لكل واحد منهما، وإذا حصل لكل واحد دار كاملة كمل انتفاعهم بها فكان عدولهم عن هذا إلى قسمة أجزاء الدار إيثارا للإضرار (7) بنفسه وبالشريك فلا يترك وذلك (8)، ولا يلزم عليه الدار الواحدة لأنه لا يمكن فيها إلا قسمة كل عين، فأما إذا كانت المنافع مختلفة مثل المسيح والنضح والدار للسكنى والأرض للزرع فإن كل ملك يقسم على حدة لاختلاف الأغراض فيه ولحوق الضرر بقسمتها على العدد، وكذلك اختلاف المواضع قائم مقام اختلاف الأغراض والمنافع.   (1) في ق: دكان. (2) في م: أن يقسم. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) انظر: المدونة 4/ 241 و 244 و 266 و 271، التفريع: 2/ 297، الكافي 448 - 450، المقدمات 3/ 98 - 99. (5) انظر: مختصر الطحاوي ص 410، المهذب: 1/ 384. (6) في م: عن الأضرار. (7) في ق: للضرورة. (8) في ق: وكذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1289 فصل [6 - في قسمة الحمام والرحى ..]: الحمام والرحى وكل ما لا يحتمل القسم إلا أنه إذا قسم بطل الانتفاع به من ذلك الوجه وإن كان ينتفع به لغيره ففي قسمه روايتان (1): فإذا قلنا يقسم فإن (2) الانتفاع يحصل بقسمه ما أشبه سائر العقار، وإذا قلنا لا يقسم لأن في قسمه إبطال المنفعة المقصودة منه وإتلافها وذلك ضرر فلم يجز. فصل [7 - في أجرة القسام]: أجرة القسام على الرؤوس دون الأنصباء (3)، خلافًا للشافعي في قوله: إنها (4) على الأنصباء (5) , لأن اختلاف المقادير لا توجب زيادة في فعل (6) القاسم بزيادة السهم بل التعب فيه واحد بل ربما تعب بتميز السهم القليل وإفراده أكثر مما يتعب بتميز الكثير، يبين ذلك أن الدار تكون فيها ثلثان وثمن فيحتاج إلى قسمتها أثمانًا ولو كانت نصفين لكان أسهل عليه، والأجرة تستحق على حسب العمل في الكثرة والقلة فإذا كان اختلاف مقادير الأنصباء يؤثر (7) في زيادة العمل ونقصانه أو ربما أثر في القليل مثل تأثيره في الكثير أو أكثر وجب إطراح هذا الاعتبار وأن يكون معتبرا بعدد (8) الرؤوس. فصل [8 - في القول بأنه يقسم على أقل السهام]: وإنما قلنا يقسم على أقل السهام لأن صاحب السهم القليل يحتاج إلى إفراد   (1) انظر: المدونة: 4/ 269، التفريع: 2/ 298، الكافي ص 447 - 448. (2) في ق: فكان. (3) انظر: المدونة: 4/ 271، التفريع: 2/ 297، الكافي ص 450. (4) في ق: إنه. (5) انظر: المهذب: 2/ 307. (6) في ق: فصل. (7) في م: لا يؤثر. (8) في م: بعدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1290 حقه فلو لم يقسم على أقل السهام لم يصل إلى غرضه، وليس في ذلك إضرار بصاحب السهم الكبير لأنه يستوفي حقه متصلًا ولا يحتاج معه إلى استئناف قسمة لصاحب السهم القليل. فصل [9 - إذا اشترك جماعة في سهم]: وإذا اشترك جماعة في سهم قسم ذلك السهم مع بقية السهام قسمًا واحدا ثم استؤنف القسم بين أهل ذلك السهم إن أرادوا (1)، لأن القسم على قدر أهل السهام وحكم أهل السهم الواحد حكم المالك الواحد فإذا انفردوا بسهمهم صار لهم حكم نفسهم ألا ترى أن الشفعة بين أهل سهمهم لا يدخل عليها (2) أهل سهم آخر. ...   (1) انظر: المدونة 4/ 271 و 277، التفريع: 2/ 297، الكافي ص 446 - 447. (2) عليها: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1291 باب اللقيط (1) لا يتبع الصبي أمه في الإسلام خلافًا لابن وهب (2)، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي (3) , لأنه يتبع في الذمه أباه دون أمه فكذلك في الإسلام، ولأن كل من لا يتبعها في عقد الذمة لم يتبعها في عقد الإسلام كالجد والعم. (4) فصل [1 - في إسلام الصغير بإسلام أبيه]: والصغير مسلم بإسلام أبيه لا بنفسه خلافًا لأبي حنيفة (5) لأنه غير مكلف كالمجنون، ولأن كل من يتبع غيره في الإسلام لم يصح إسلامه بنفسه كالذي يقصر عن التمييز. فصل [2 - لا يتبع اللقيط بما أنفق عليه]: ومن التقط لقيطًا فأنفق عليه فهو متطوع، وإن أراد أن ينفق عليه ويتبعه (6) به فليس ذلك له إما أنفق عليه محتسبًا وإما تركه (7)، وإنما قلنا ذلك لأنه فقير من فقراء المسلمين تلزم الكافة إعانته فليس له أن يجعل عليه دينا، وسواء استأذن الإمام في أن ينفق عليه أم لم يستأذنه، خلافًا لمن يقول أنه يتبعه إذا استأذن الإمام لأنه ليس للحاكم أن يلزم ذمم الصغار ديونًا يتبعون بها مع الغنى عنها, لأن النفقة على أمثال هؤلاء يكون على وجه الحسبة.   (1) اللقيط: هو صغير آدمي لم يعلم أبواه ولا رقه (حدود ابن عرفه ص 433). (2) انظر: الموطأ: 2/ 738 - 741. (3) انظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 249، مختصر المزني ص 136، 137. (4) انظر: مواهب الجليل: 6/ 81 - 82. (5) انظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 249 و 5/ 491. (6) في م: يبيعه. (7) انظر: مواهب الجليل وحاشية المواق: 6/ 80 - 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1292 فصل [3 - ميراث المنبوذ لبيت المال]: وميراث المنبود (1) لبيت المال (2)، لأنه مسلم لا وارث له وليس لملتقطه شيء من ميراثه, لأن الميراث لا يكون إلا بنسب أو ولاء أو نكاح وكل ذلك معدوم بين المنبوذ وملتقطه، والله أعلم وأحكم. ... [انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث إن شاء الله]   (1) المنبوذ: هو الصبي المطروح، وهو اللقيط (المصباح المنير ص 590). (2) انظر: الموطأ: 2/ 741، التفريع: 2/ 2370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1293 المعونة عَلى مَذهَب عَالم المَدِينَةِ "الإمام مالك بن أنس" تَأليف القاضِي عبد الوهّاب البغدَادي 422 هـ تحقيق وَدراسَة حَميش عبد الحَقّ والكتاب في الأصل رسالة دكتوراه من جَامِعَة أمّ القرى بمكة المكرّمَة الجزء الثّالِث الناشر المكتبة التجارية مكّة المكرّمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1295 المكتبة التجارية مصطفى أحمد البَاز مكّة المكرمة: المركز الرئيسي: 5749022 - فَاكس: 5745044 فرع النزهَة: 5459850 - فرع الجامِعَة: 5581584 - المستودع: 5372374 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1296 المعونة عَلى مَذهَب عَالم المَدِينَةِ "الإمام مالك بن أنس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1297 (بسم الله الرحمن الرحيم) (1) كتاب الجراح (2) الأصل في القصاص (3) قوله تعالى: (كتب عليكم القصاص في القتلى .. إلى قوله ... ولكم في القصاص حياة} (4) وقوله {والجروح قصاص} (5) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العمد قود كله إلا أن يعفو ولي المقتول (6) وقوله: "من قتل له قتيل فأهله بخير النظرين إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدية" (7)، فهذا ثبت ما ذكرناه فلا يجب القصاص إلا بأحد ثلاثة أوجه: إما ببينة، أو بإقرار، أو بقسامة، وبيان ذلك يأتي فيما بعد إن شاء الله (8). ...   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) الجراح: مأخوذة من الجوارح لأنها لا تفعل إلا بها فكل من جنى جناية أو جرح جرحًا أو أذنب ذنبًا أو اكتسب إثمًا بيده أو بلسانه أو بجارحة من جوارحه فهو جارح في اللغة، أما في الاصطلاح فقد عرفها الرصاع بقوله: هو تأثير الجناية في الجسم. (انظر: المقدمات 3/ 321، وشرح الرصاع على ابن عرفة 479). (3) القصاص: سمي قصاصا لأنه يقص الخصومات أي يقطعها (غرر المقالة: 238). (4) سورة البقرة، الآيتين: 178 - 179. (5) سورة المائدة، الآية: 45. (6) أخرجه الدارقطني: 3/ 94، وابن أبي شيبة: 9/ 365، والطبراني في معجمه وإسحق بن راهوية (انظر نصب الراية: 4/ 327). (7) أخرجه البخاري في الدياب باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: 8/ 38، ومسلم في الحج باب تحريم مكة وصيدها: 2/ 988. (8) في م: يأتي بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1299 باب [- اشتراط تكافؤ الدماء في القصاص] الاعتبار في وجوب القصاص تكافؤ (1) الدماء، فإذا قتل شخص شخصًا ودماؤهما متكافئة جاز أن يجري بينهما القصاص، وإن كان أحدهما ناقصًا عن الآخر كان القصاص للأعلى منهما على الأدنى ولم يكن (2) للأولى على الأعلى، والتكافؤ معتبر بالمساواة في الدين والحرمة الراجعة (3) إلى الحرية: فلا يقتل مسلم قصاصًا بكافر ولا ذمي ولا معاهد ولا كتابي ولا وثني كان المسلم (4) القاتل حرًّا أو عبدًا، ولا يقتل حر بعبد لا بعبد نفسه ولا بعبد غيره ولا بمدبر ولا بمكاتب ولا أم ولد ولا من فيه بقية رق، فإن قتل الكافر مسلما أو العبد حرًّا قتل به، ويقتل اليهودي بالنصراني والنصراني باليهودي، والكفر في ذلك ملة واحدة، ودماء بعضهم مكافئة لدم بعض. وإذا قتل ذمي ذميًّا ثم أسلم القاتل لم يسقط عنه القود، وكذلك العبد إذا أعتق وقد قتل عبدًا، وإذا جرح الكافر مسلما أو قطع طرفه لم يقتص منه وكانت له الدية عليه، وقد قال (5): يجتهد السلطان في ذلك، ويحتمل على هذه الرواية القود، وإذا جرح العبد حرا أو قطع يده لم يستقد منه، ويحتمل على ما قدمناه أن يقاد منه وهو الصحيح. ودم المرأة مكافيء لدم الرجل وإن تفاضلا في الديات، وجرحها مكافيء لجرحه فيقتص للرجل من المرأة وللمرأة من الرجل في النفس وما دونها من الأطراف   (1) في م: بتكافيء. (2) في ق: ولم يبق. (3) في ق: الواجبة. (4) المسلم: سقطت من م. (5) يعني الإمام مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1300 والجراح، ويقتل الرجل بالمرأة وبجماعة النساء وتقتل المرأة بالرجل وبجماعة الرجال، ولا يجب أخذ شيء من الدية ولا ردها. ودماء العبيد متكافئة وتقتل منهم الجماعة بالواحد والواحد بالجماعة، والقصاص جار بين الأقارب كجريه بين الأجانب يقتص للأخ من أخيه، ولابن الأخ من عمه وللعم من ابن أخيه، وكذلك الأقرباء سوى الأب فإنه إن قتل ابنه حذفا (1) فادعى أنه أراد أدبه وأشبه أن يكون كما أدعاه فلا قود عليه وتلزمه الدية مغلظة في ماله، وأما إن أضجعه فذبحه أو شق جوفه أو فعل به فعلًا يعلم أنه عمد به قتله به فإن عليه القود له إذا تكافأت دماؤهما، ولو قال في الحرب أو ما يقبل معه ادعاؤه أراده غير العمد أني تعمدت به قتله قتل به، وحكم الأم والجد في ذلك بحكم الأب، وقال أشهب لا يقتل أب بابن وعليه الدية، ومن تعمد قتل امرأته أو جرحها اقتص لها منه (2). فصل [1 - في كون تكافؤ الدماء معتبر في القصاص]: وإنما قلنا إن تكافأ الدماء معتبرة في القصاص لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" (3)، ولإجماعهم على منع قتل المسلم بالمعاهد والمستأمن، وللاتفاق على وجوب اعتبار ذلك (4)   (1) حذفا: أي قطعا (المصباح المنير: 126). (2) في جملة هذه الأحكام انظر الموطأ: 2/ 872، المدونة: 4/ 444، التفريع: 2/ 216، الرسالة: 238 - 239، الكافي: 587، المقدمات: 3/ 337. (3) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في السرية ترد على أهل العسكر: 3/ 183 وابن ماجة في الديات باب المسلمون تتكافأ دماؤهم: 2/ 895، والنسائي في القسامة باب القود بين الأحرار والمماليك: 8/ 19، والبيهقي، وأحمد: 2/ 211، والحاكم: 2/ 141، وقال: صحيح على شرط الشيخين. (4) انظر: بداية المجتهد: 8/ 418، المغني: 7/ 652. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1301 فصل [2 - في منع قتل المسلم بالكافر]: وإنما منعنا قتل المسلم بالكافر، خلافًا لأبي حنيفة (1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (2) فدل على أن دماء غيرهم لا تتكافأ، وقوله: "وهم يد على من سواهم" (3)، وقوله: "لا يقتل مسلم (4) بكافر" (5) وهذا نص، ولأنه ناقص بالكفر كالحربي والمستأمن، وإنما قلنا لا يقتل حر بعبد، خلافًا لأبي حنيفة في قوله أنه يقتل بعبد غيره (6)، ولداود في قوله إنه يقتل بعبد نفسه وعبد غيره (7)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتل حر بعبد" (8)، ولأنه ناقص بالرق، ودليله إذا كان مملوكًا لقاتله، ولأنه نوع من القصاص فلم يستحقه العبد على الحر كالأطراف. وإنما سوينا بين العبد والمدبر والمكاتب وأم الولد لبقاء أحكام الرق فيهم، وذلك يمنع تساوي الحرم، ولأن أحكام الرق أغلب عليهم بدليل نقصان طلاقهم وحدودهم ومنعت شهادتهم فكذلك في نفي القصاص، وإنما قلنا إن الكافر يقتل بالمسلم والعبد بالحر لأن دم الأعلى يكافيء دم الناقص ويزيد عليه فإذا قتل الناقص (9) بالأعلى فلم يؤخذ منه زيادة على ما كان يلزمه به وإنما قلنا إن سائر   (1) انظر: مختصر الطحاوي: 230، مختصر القدوري - مع شرح الميداني- 3/ 144. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) هو جزء من الحديث السابق. (4) في م: مؤمن. (5) أخرجه البخاري في الديات باب لا يقتل المسلم بالكافر: 8/ 47. (6) انظر: مختصر الطحاوي: 230، مختصر القدوري - مع شرح الميداني- 3/ 144. (7) انظر: المغني: 7/ 658. (8) أخرجه الدارقطني: 3/ 133، والبيهقي: 8/ 35، والحديث فيه جويبر وغيره من المتروكين (انظر تلخيص الحبير: 4/ 16). (9) في م: فإذا قيل القصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1302 أنواع الكفار يقاد لبعضهم من بعض فلتساويهم في النفس بالكفر كأنواع العبيد في تساويهم في النقص بالرق (1). فصل [3 - في كون إسلام الذمي لا يسقط عنه القود]: وإنما قلنا إن إسلام الذمي لا يسقط عنه القود خلافًا للأوزاعي (2)، وكذلك العبد إذا قتل عبدًا ثم أعتق القاتل لأنه حق لأدمي طريقه الحد كسائر الحقوق، ولأن الاعتبار بالحدود حال وجوبها لا حال استيفائها، ووجه القول بأن المسلم لا يقتص من الكافر والحر لا يقتص من العبد في الجراح أن العضو الذي يقطعه ليس بمكافيء لأعضاء المسلم والحر فكان كيد الأشل إنها لا تقطع بيد الصحيح، ووجه ثبوت القصاص اعتباره بالنفس. وإنما قلنا إن الرجل والمرأة يجري القصاص بينهما لقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحد ثلاثة أشياء (4): فذكر أو قتل نفس بغير نفس" (5)، ولأنهما شخصان متساويان في الحرمة والدين كالرجلين والمرأتين. فصل [4 - وجه عدم مساواة دية المرأة للرجل وثبوت القصاص بينهما في الأطراف وقتل الجماعة بالواحد وقتل الوالد بالولد]: وإنما قلنا إنه لا يزاد بينهما في الدية (6)، خلافًا لقول من يقول إن الرجل إذا قتل المرأة رد أولياء المرأة نصف دية الرجل (7) لأنه شخص يجب له القصاص   (1) بالرق: سقطت من ق. (2) انظر: المغنى: 7/ 653. (3) سورة المائدة، الآية: 45. (4) أشياء: سقطت من م. (5) أخرجه بمعناه: البخاري في الديات باب قوله تعالى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}: 8/ 83، ومسلم في القسامة باب ما يباح به دم المسلم: 3/ 1302. (6) في م: الذمة. (7) يروى هذا عن الإمام علي رضي الله عنه، كما روي عن الإمام أحمد والحسن وعطاء (انظر المغني: 7/ 679). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1303 على شخص فالتفاضل في الديات لا معتبر به كالجماعة بالواحد، وإنما قلنا إن القصاص جار بينهما في الأطراف وما دون النفس خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن يد الرجل لا تقطع بيد المرأة ولا يد المرأة بيد الرجل (1)، لقوله تعالى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (2)، ولأنه نوع من القصاص كالقتل، ولأن كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس فكذلك فيما دونه كالرجلين والمرأتين، وإنما قلنا إن الجماعة تقتل بالواحدة، خلافًا لداود في قوله لا قصاص في ذلك (3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العمد قود كله" (4)، وقوله: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن شاءوا قتلوا" (5) فعم، ولأنه إجماع الصحابة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعة بواحد وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به (6)، وعن علي أنه قتل ثلاثة بواحد (7)، وعن ابن عباس أنه قال: تقتل مائة بواحد (8)، ولا مخالف لهم، ولأن كل حد وجب للإنسان على غيره إذا انفرد بموجب فإنه يجب عليه إن شارك (9) فيه، أصله حد (10) القذف. وإنما قلنا يقطع أطراف الجماعة بطرف الواحد إذا اشتركوا في قطعه خلافًا لأبي   (1) انظر: مختصر الطحاوي: 231، مختصر القدوري - مع شرح الميداني-: 3/ 147. (2) سورة المائدة، الآية: 45. (3) انظر: المحلي: 21/، والمغني: 7/ 671، وهو أحد قولي الإمام أحمد وقول الزهري وابن سيرين وربيعة وابن المنذر وغيرهم. (4) سبق تخريج الحديث 1299. (5) سبق تخريج الحديث 1299. (6) أخرجه البخاري في الديات باب إذ أصاب قوم من رجل: 8/، ومالك: 2/ 871. (7) أخرجه البيهقي: 8/ 41. (8) أخرجه عبد الرزاق: 9/ 479، وكنز العمال: 15/ 86. (9) في ق: وإن انفرد. (10) حد: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1304 حنيفة (1) , لأنها جناية (2) لو انفرد بها الواحد لزمه القصاص فإذا اشترك فيها الجماعة لزمهم القصاص كالقتل، وإنما قلنا إن القصاص جار (3) بين الأقارب فلأن القربى لا تمنع تكافأ الدماء، وهو العلم على وجوب القصاص، وإنما قلنا إن الأب إذا تعمد قتل ابنه قتل به لعموم الظواهر (4)، ولأنهما شخصان متكافئان في الحرمة والدين فكان القصاص جار بينهما كالأجانب، وإنما قلنا إنه إذا ادعى أنه أراد أدبه ولم يرد قتله فإنه يقبل (5) منه إذا أشبه لأن العادة جارية بتبسط الآباء على الأبناء (6) وطلب تأديبهم وربما تبسطوا عليهم بالسيف على عادة العرب في شدة الحمية مع كونهم غير متهمين عليهم، فإذا جاء من ذلك قتل علم أنه ليس من سببهم، وفي حديث عمر في الذي دفع إليه وقد قتل ابنه فهمَّ بقتله فقيل له إنه لم يرد قتله وإنه كان من أعز الناس عليه وإنما أراد أدبه فقال: لو أعلم أراد قتله لقتلته به ثم ألزمه الدية (7)، وأجرينا الجد مجرى الأب لحرمة الأبوة وانتفاء التهمة. فصل [5 - في تغليظ الدية على قاتل ابنه وفي أن الزوج يقتل بزوجته]: إذا ثبت أنه لا قود عليه فعليه الدية مغلظة في ماله وصفة والتغليظ مذكورة في باب الديات، وإنما قلنا إن الزوج يقتل بزوجته لعموم الظواهر، والأخبار، ووجوب التكافؤ وانتفاء الشبهة كالأجانب. ...   (1) انظر: مختصر الطحاوي: 231، مختصر القدوري- مع شرح الميداني-: 3/ 151. (2) جناية: سقطت من م. (3) في م: جائز. (4) في م: الظاهر. (5) في ق: يقتل. (6) في م: بينهم. (7) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 867، وعنه رواه: الشافعي ومن طريقه أخرجه البيهقي: 8/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1305 باب [- في أنواع القتل، وطلب الدية من مستحق القتل] القتل نوعان عمد وخطأ، وقد اختلف عنه في نوع ثالث وهو شبهة (1) العمد فعنه فيه روايتان: إحداهما إثباته، والأخرى نفيه (2)، ووجه إثباته وهو قول أبي حنيفة والشافعي (3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصى ففيه مائة من الإبل أربعون منها خلفة" (4) فأثبت شبه العمد، ولأن شبه العمد ما قد أخذ شبها من العمد وشبها من الخطأ فلم يكن له حكم أحدهما على التجريد، فشبهه بالعمد قصده إلى الضرب بما لا يقتل مثله غالبا وشبهه بالخطأ أنه لم يقصد القتل، فوجب أن يكون له حكم بين الحكمين، ووجه نفيه قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} (5)، وقوله {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (6) فذكر الخطأ والعمد المحضين (7) ولم يذكر ثالثا, ولأن العمد معنى معقول وهو قصد الفاعل إلى الفعل والخطأ معنى معقول وهو ما يكون عن غير قصد، ووجه الفعل الواحد بالوصفين يمتنع فلم يجز إثباته.   (1) في م: شبه. (2) انظر: المدونة: 4/ 33، التفريع: 2/ 217، الرسالة: 238، الكافي: 587، 594. (3) انظر: مختصر الطحاوي: 232، الإقناع: 164. (4) أخرجه أبو داود في الديات باب في دية الخطأ شبه العمد: 4/ 711، والنسائي في القسامة باب دية شبه العمد: 4/ 713، وابن ماجه في الديات باب دية شبه العمد: 2/ 877، وصححه ابن حبان وقال ابن القطان ولا يضره الاختلاف (انظر تلخيص الحبير: 4/ 15). (5) سورة النساء، الآية: 92. (6) سورة النساء، الآية: 93. (7) في م: الخطأ المحض والعمد المحض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1306 اختلف عن مالك في مستحق القتل فعنه فيه روايتان (1): إحداهما أنه القود فقط ولا تجب الدية إلا بالتراضي، والأخرى أن المستحق بالتخيير بين القود والدية، والأول مذهب أبي حنيفة (2)، والثانية مذهب الشافعي (3)، فوجه الأولى قوله - صلى الله عليه وسلم - "العمد قود كله" (4)، وقوله: "كتاب الله القصاص" (5)، ولأنه معنى موجب للقتل فلم يستحق به التخيير بينه وبين المال أصله الزنا مع الإحصان. ووجه الثانية قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا وأخذوا الدية" (6)، ولأنه قود سقط بالعفو فوجب أن تثبت الدية فيه أصله إذا عفى بعض الأولياء، ولأن للنفس بدلين القود والدية فلا يستحق على ولي الدم الاقتصار على أحدهما، كما لو قتل له عبد لكان مخيرًا إن شاء قتل له قاتله إذا كان ممن يقتل به، وإن شاء استرقه. فصل [1 - الواجب في القتل الخطأ المحض وفي شبه العمد]: فأما الخطأ المحض فالواجب به الدية لا خلاف (7)، والأصل فيه (8) قوله   (1) انظر: الموطأ: 2/ 872، المدونة: 4/ 432 - 433، التفريع: 2/ 216، الكافي: 590. (2) انظر: مختصر الطحاوي: 232، مختصر القدوري- مع شرح الميداني-: 3/ 141. (3) انظر: الأم 6/ 9، مختصر المزني: 239، الإقناع: 162. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة: 1299. (5) أخرجه البخاري في التفسير باب {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}: 5/ 153، ومسلم في القسامة باب إثبات القصاص في الإنسان: 3/ 1302. (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة: 1299. (7) لا خلاف: سقط من م. (8) انظر: المغني: 7/ 651، فتح الباري: 12/ 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1307 تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) وأما شبه العمد إذا أثبتناه وهو قتل الأب لابنه على وجه الشبهة فالواجب به دية مغلظة ويأتي ذلك فيما بعد. فصل [2 - في الآلة التي يقتل بها غالبا]: كل آلة يقتل بها غالبا فالقود واجب بها كالمحدد (2) والمثقل مثل: الرمح والسيف وسائر أنواع السلاح (3)، والمثقل كالحجارة والصخر والخشب والسندان الحديد وما أشبه ذلك، وما يقتل فزعه كالنار والماء وكذلك صفات القتل من الذبح والشدخ (4) والخنق وإصابة المقتل (5) وشدة الضغط وإمساك النفس وعصر الأنثيين وغير ذلك مما يعلم أن عامده قصد به القتل، كل ذلك واجب به القود، والأصل في هذه الجملة قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (6)، وقوله {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (7)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العمد قود كله" (8)، وقوله: "إن شاءوا قتلوا" (9)، ولأنه لا خلاف في وجوب القود بقتل السيف (10)، وكذلك سائر الآلات.   (1) سورة النساء، الآية: 92. (2) في م: كالمحدود. (3) في م: وسائر المحدودات. (4) الشدخ: يقال شدخت رأسه إذا كسرته وكل عظم أجوف إذا كسرته فقد شدخته (المصباح المنير: 307). (5) في م: المقاتل. (6) سورة البقرة، الآية: 178. (7) سورة البقرة، الآية: 194. (8) سبق تخريج الحديث 1299. (9) سبق تخريج الحديث في الصفحة 1299. (10) انظر: بداية المجتهد - مع الهداية شرح أحاديث البداية: 8/ 415 و 439، المغني: 7/ 637. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1308 فصل [3 - القود من المثقل]: ويقاد من المثقل (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لما روي أن يهوديًّا رضخ رأس امرأة من الأنصار فأدركت وبها رمق فذكر لها اليهودي فأشارت أن نعم فاعترف فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضخ رأسه بين حجرين (3)، ولأنها آلة يقصد بها القتل غالبا كالمحدد. فصل [4 - حكم الصبيان والمجانين إذا قتلوا]: لا قود على الصبيان ولا على المجانين (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: فذكر الصبي حتى يحتلم (5)، والمجنون حتى يفيق" (6)، ولا خلاف في ذلك (7)، وإن قتلوا خطأ على وجه يعلم ذلك منهم فالدية على عواقلهم، فأما إن تعمدوا فعمدهم عندنا خطأ (8)، خلافا للشافعي في أحد قوليه إن عمدهم عمد (9)، وفائدة ذلك القول بأن عمدهم عمد تجب الدية في أموالهم، فإذا قيل إن عمدهم (10) خطأ تجب على عواقلهم، ودليلنا أن عمدهم خطأ   (1) انظر: المدونة: 4/ 433، الكافي: 478 - 488. (2) انظر: مختصر الطحاوي: 232، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 141. (3) أخرجه البخاري في الديات باب من أقاد بالحجر: 8/ 38، ومسلم في القسامة في القصاص في القتل بالحجر: 3/ 1299. (4) انظر: المدونة: 4/ 481، التفريع: 2/ 217، الرسالة: 238، الكافي: 592. (5) في م: حتى يبلغ. (6) سبق تخريج الحديث 262. (7) انظر: المغني: 7/ 664. (8) انظر: المدونة: 4/ 481، التفريع: 2/ 217، الرسالة: 238، الكافي: 592. (9) انظر: الأم: 6/ 25، مختصر المزني: 227، المهذب: 2/ 174. (10) عمدهم: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1309 قوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاث .... " (1)، ولأن قصد الصبي لا حكم له فكان كخطأ البالغ. فصل [5 - إذا اشترك في القتل من يجب عليه القود ومن لا قود عليه]: إذا اشترك في القتل من يجب عليه القود ومن لا قود عليه: كالعامد والمخطىء، والبالغ والصغير, والعاقل والمجنون: قتل من يلزمه القود وكان على الآخر بقسطه من الدية (2)، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا قود على العامد في ذلك (3)، ودليلنا قوله: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن شاءوا قتلوا" (4)، وقوله "العمد قود كله" (5)، ولأنه قاتل عمد كالمنفرد (6)، ولأن الاشتراك في القتل لا يغير الجنس الواجب في الانفراد أصله الاشتراك في العمد أو الخطأ. فصل [6 - في ما يجب على من لا قود عليهم]: وإنما قلنا إن على الباقين نصف الدية اعتبارا بهم لو انفردوا. فصل [7 - القود من الممسك والسكرن]: ومن أمسك رجلًا لغيره فقتله وهو يعلم أنه يريد قتله ظلما فعليهما القود (7)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهم لا قتل على الممسك (8) , لأنه أمسكه لمن   (1) سبق تخريج الحديث في الصفحة 262. (2) انظر: الكافي: 588 - 589. (3) انظر: مختصر الطحاوي: 231، الإقناع: 162. (4) سبق تخريج الحديث 1299. (5) سبق تخريج الحديث 1299. (6) في م: كالمفرد. (7) انظر: الكافي: 589. (8) انظر: المبسوط: 26/ 128، الأم: 6/ 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1310 يعلم أنه قاتله ظلما بغير حق فأشبه إذا أمسكه على سبع حتى أكله أو على نار حتى احترق. يقاد من السكران لأنه غير معذور بزوال عقله، ولأن لأحكامه أحكام الصاحي في وقوع طلاقه، ولزوم قضاء الصلاة له، وحده في الزنا والقذف فكذلك القود. فصل [8 - فيمن أكره غيره على قتل رجل ظلما]: ومن أكره غيره على قتل رجل ظلما: فإن كان المأمور ممن يمكنه مخالفة الأمر ولا تلزمه طاعته قتل المأمور المباشر للقتل، وإن كان مكرها لا يمكنه مخالفته كالسلطان الذي يخاف من يخالفه أن يقتله أو (1) يجري عليه مكروه لمخالفته قتلا جميعا وكذلك العبد مع سيده (2) ودليلنا على وجوب قتل (المباشر أنه قاتل لغيره ظلما فوجب أن يقاد به [ ........ ] (3) أصله غير المكروه، ودليلنا على وجوب قتل) (4) المكره إذا كانت تلزمه طاعته إذا اضطره إلى قتل غيره ظلما وأنه ألجأ إلى قتله فوجب أن يتعلق الحكم بالقتل (5) كالشاهدين زورا بالقتل، ودليلنا على وجوب قتل المباشر إذا كان لا يمكنه المخالفة أنه قتله لاستبقاء نفسه (6) منه ظلما فأشبه إذا جاع فقتله وأكله، ودليلنا على أن الآمر إذا كان ممن لا يلزم المأمور طاعته ولا قود عليه أنه لم يكن منه إلجاؤه إلى قتله كالدال. اختلف عنه في النساء هل لهن مدخل في الدم أو لا فعنه فيه روايتان (7):   (1) في ق: لم. (2) انظر: الكافي: 589. (3) طمس في ق. (4) ما بين قوسين سقط من م. (5) في م: به. (6) في ق: لاستيفاء نفسه. (7) انظر: الرسالة: 236، الكافي: 591. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1311 إحداهما أن لهن مدخلا فيه كالرجال، والأخرى أنه لا مدخل لهن إذا لم يكن في درجتهن عصبة، فوجه الأولى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن شاءوا قتلوا وإن شاءو عفوا وأخذوا الدية" (1) فعم، وقوله "يحلف خمسون منكم" (2)، ولأن القصاص لمستحق على استحقاق الميراث فوجب أن يثبت بتجميع الورثة كسائر الحقوق، واعتبارا بالرجال، ووجه الثانية أن ولاية الدم مستحقة بالنصرة ولسن من أهلها فلم يكن لهن مدخل في الولاية المستحقة وإذا قلنا أن لهن مدخلا في ذلك ففي أي شيء لهن مدخل روايتان: إحداهما في القود دون العفو لأن العفو إسقاط الحق وليس لهن ذلك، والأخرى في العفو دون القود (3). فصل [9 - في ولاية الدم إذا كان بعض العصبة أصاغر وبعضهم أكابر]: إذا كان بعض العصبة أصاغر وبعضهم أكابر فإن ولاية الدم للأكابر العقلاء إن شاءوا اقتصوا وإن شاءوا عفوا (4)، خلافًا للشافعي (5) , لأنهما ولاية مستحقة بالتعصيب فلا مدخل للصغير والمجنون فيها، أصله ولاية النكاح، ولا يلزم عليه الغائب لأن الغيبة لا تقطع ولايته. فصل [10 - في عدم القود والعقل إلا بعد اندمال الجرح]: لا يستقاد ممن جرح ولا يعقل إلا بعد اندماله خلافًا للشافعي في قوله (6): يستقاد (7) في الحال منه (8) لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن الجرح ليستفاد منه حتى   (1) سبق تخريج الحديث 1299. (2) أخرجه البخاري في الديات باب القسامة: 8/ 42، ومسلم في القسامة باب القسامة: 3/ 1291. (3) انظر: الرسالة: 236، الكافي: 591. (4) انظر: المدونة: 4/ 490، الكافي: 591. (5) انظر: الأم: 6/ 10، مختصر المزني: 239. (6) انظر: الرسالة: 237، الكافي: 592 - 593. (7) في م: أنه يقاد. (8) انظر: الإقناع: 163، المهذب: 2/ 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1312 يندمل (1)، ولأنه قد يؤول إلى النفس فيعاد القود ثانية وذلك خروج عن المماثلة، ولأن المقتص منه يموت قبل الجاني، وربما تلف وبرأ الجاني فيكون في ذلك تلفا (2) للقصاص وذلك غير جائز. فصل [11 - حكم القاتل يلجأ إلى الحرم]: ومن قتل في الحرم أو الحل ثم يلجأ إلى الحرم قتل فيه ولم يؤخر إلى الحل (3)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا يقتل في الحرم إذا لجأ إليه ولكن يضجر ويلجأ إلى الخروج منه (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شاءوا قتلوا" (5) ولم يفرق، ولأن كل موضع جاز استيفاء القصاص فيه إذا كانت الجناية فيه جاز استيفاؤه فيه وإن وجبت (6) في غيره كالحل، ولأنه قصاص لو وجد سببه في الحرم جاز استيفاؤه فيه فإذا وجد في الحل جاز استيفاؤه في الحرم كالأطراف. فصل [12 - إذا جرح رجلا ثم قتله]: إذا جرح رجلا ثم قتله أو قتل غيره قتل ولم يجرح إلا أن يكون مثل به فإنه يفعل به مثل ما فعله ثم يقتل (7)، وقال أبو حنيفة والشافعي يجرح ثم يقتل (8)، ودليلنا أن ما دون النفس يدخل في النفس لأن القتل يأتي عليه لأن   (1) أخرجه البيهقي: 8/ 67، وابن أبي شيبة: 9/ 369، والطحاوي وهو مرسل (انظر نصب الراية: 4/ 377). (2) في م: سلفا. (3) انظر: التفريع: 2/ 217، الكافي: 592. (4) انظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 163 - 253، 5/ 352. (5) سبق تخريج الحديث 1299. (6) في م: وإن وجب. (7) انظر: التفريع: 2/ 218. (8) انظر: مختصر الطحاوي: 235، مختصر المزني: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1313 الغرض بالقصاص: إما أن يكون التشفي أو إبطال العضو الذي أتلفه على المجروح وأي ذلك كان فحصوله بالقتل أبلغ، فأما إذا مثل به فإنه يمثل به ثم يقتل, لأن التمثيل مقصود بالقصاص منه ليقع الارتداع عن مثله فلا يدخل في القتل كما لم يدخل فيه الجرح الذي لم يقصد به التمثيل، كما يقول إن من وجب عليه جلد وقتل فإنه يقتل ولا يجلد إلا أن يكون الجلد وجب للفرية بالجلد حينئذ زوال المعرة عن المقذوف وذلك لا يكون إلا بجلد القاذف. فصل [13 - في عدم ضمان السراية عن القصاص]: السراية عن القصاص غير مضمونة (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) , لأنه قطع استحق عليه بسبب كان منه فلم يضمن كالقطع في السرقة. فصل [14 - إذا جرح فترامى الجرح إلى زيادة عليه ثم اندمل]: إذا جرح فترامى الجرح إلى زيادة عليه ثم اندمل فإن كان عمدا اقتص منه لجرحه الأول ثم ينظر به فإن بلغ إلى حيث بلغ جرح المجنى عليه فقد استوفى حقه، وإن زاد عليه يضمن الزيادة، فإن نقص لم يقتص منه ثانية (3) ولكن يعقل له ما بينهما (4)، وإنما قلنا لا يقتص منه فيما ترامى إليه لأن ذلك غير متعمد والقصاص لا يكون إلا في العمد، وإنما قلنا إن الزيادة هدر لما قدمناه من أنها زيادة على قود مستحق عليه، وإنما قلنا إن قصر عن جرح المجني عليه لم يقد منه ثانية لأنه (5) لا يستحق عليه قود فيما زاد على الجرح المباشر، وإنما قلنا   (1) انظر: الكافي: 592. (2) انظر: تحفة الفقهاء: 3/ 102، المبسوط: 26/ 147. (3) ثانية: سقطت من م. (4) انظر: الكافي: 592. (5) في م: لم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1314 يعقل له ما بينهما لأنه نقص عن (1) جناية لا قود فيه فكان فيه الدية (2) كالخطأ. فصل [15 - في أقسام الجراح]: وأول الجراح الدامية وهي التي تدمي الجلد، ثم الخارصة وهي التي تشقه، ثم السمحاق وهي التي تكشطه، ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم، ثم المتلاحمة وهي التي تقطع اللحم في عدة مواضع، ثم الملطاءة وهي التي يبقى بينها وبين انكشاف (3) العظم جلد رقيق، ثم الموضحة وكل ما ذكرناه قبلها (4)، فإن كان عمدا ففيه القود لعموم الظواهر، ولأن القصاص ممكن فيه من غير خوف غالب على النفس، وإن كان خطأ ففيه الاجتهاد وليس فيه دية مسماة، فأما الموضحة التي توضح عن العظم فإن كانت في الرأس أو الوجه ففيها نصف عشر الدية، وإن كانت في سائر (5) الجسد ففيها حكومة وفي عمدها القود أين كانت، ثم الهاشمة وهي التي تهشم العظم ولا دية فيها، ثم المنقلة وهي التي تطير فراش العظم منها مع الدواء وفيها عشر ونصف عشر الدية إذا كانت في الوجه أو الرأس فإن كان في سائر الجسد فالاجتهاد، ثم المأمومة وهي التي تخرج إلى أم الدماغ وفيها ثلث الدية، وكذلك في الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف (6).   (1) في ق: بحق. (2) فكان فيه الدية: سقط من م. (3) انكشاف: سقطت من م. (4) في ق: قبل الموضحة. (5) سائر: سقطت من م. (6) انظر: المدونة: 4/ 441، التفريع: 2/ 215، الرسالة: 237، الكافي: 599. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1315 فصل [16 - أقسام الجراح من حيث المماثلة]: الجراح على ضربين: ضرب يتأتى المماثلة فيه، وضرب لا يتأتى فيه، فما تتأتى فيه نوعان: منه ما لا يعظم الخطر والخوف منه على النفس غالبا فالقصاص فيه واجب وذلك كالدامية وما بعدها إلى الموضحة وقطع الأطراف ونزع العين وغير ذلك من الأعضاء (1)، والأصل فيه قوله تعالى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (2) وقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (3)، ومنه ما يعظم الخطر فيه على النفس ويخاف التلف بالقصاص منه فهذا لا قصاص فيه لأن القصاص لو ثبت فيه لكان كالأخذ للنفس في مقابلة الجرح وذلك غير جائز، وقد اختلف في بعضها ونحن نبينه. فصل [17 - فيما يجب في الأمومة والموضحة والجائفة]: أما المأمومة والموضحة والجائفة فلا أعلم خلافًا من قول مالك ألا (4) قود فيها، ويدل عليه حديث العباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال "ليس في المأمومة ولا الجائفة ولا المنقلة قود" (5) وهذا نص، ولأن الخطر فيها يعظم على النفس فيكون متى اقتصصنا منها قد أخذنا النفس بما دونها.   (1) انظر المدونة: 4/ 441، التفريع: 2/ 251 - 216، الرسالة: 237 - 238. (2) سورة المائدة، الآية: 45. (3) سورة المائدة، الآية: 45. (4) في ق: أن. (5) أخرجه ابن ماجة في الديات باب ما لا قود فيه: 2/ 881، والبيهقي: 8/ 65، وابن أبي عاصم وأبو يعلى وقال البيهقي أنه لا يثبت، وأثبته الحافظ الغماري الذي أخرج أحاديث بداية المجتهد بقوله: أن ابن لهيعة تابع رشدين بن سعد كما عند ابن أبي عاصم وابن لهيعة عندي حديثه حسن إذا توبع ولو من ضعيف كرشدين بن سعد ما لم يكن واهيا كذابا يسرق الحديث (انظر الهداية في تخريج أحاديث بداية المجتهد: 8/ 451 - 453). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1316 فصل [18 - فيما يجب في المنقلة]: وأما المنقلة ففيها روايتان (1): إحداهما وجوب القود، والأخرى سقوطه، (2) فوجه السقوط أن أمرها أخف من المأمومة لأن أكثر ما فيها رض العظم الذي كشفت عنه الموضحة وذلك لا يوجب التلف غالبًا، وذكر مالك عن ربيعة (3) أن ابن الزبير أقاد منها (4)، ووجه نفي القود الخبر الذي رويناه واعتبارا بالمأمومة لعلة عظم الخطر فيها. فصل [19 - في كسر الفخذ]: كسر الفخد لا قود فيه من المتالف، فأما غير الفخد ففيه روايتان (5)، وكل ذلك مبني على إمكان المماثلة، فإن فاتت فيه ولم يعظم الخوف على النفس (6) يجب القصاص، وإن اشتد الخوف فلم يجب. فصل [20 - سقوط القصاص فيما لا يتأتى فيه المماثلة]: فأما ما لا يتأتى فيه المماثلة فلا قصاص فيه, لأن معنى القصاص هو المماثلة فإذا عدمت خرج ما يفعله بالجاني عن أن يكون قصاها فلم يجب، وتعذر المماثلة يكون بثلاثة أوجه: أحدها بمعنى يعود إلى العقل كما يقول أصحابنا في الشلل وذهاب بعض ضوء العين والسمع وقطع ما يمنع بعض الكلام من اللسان   (1) انظر: الموطأ: 2/ 859، التفريع: 215 - 216، الرسالة: 238، الكافي: 599. (2) في م: إسقاطه. (3) ربيعة بن أبي عبد الرحمن: التيمي مولاهم، أبو عثمان المدني المعروف بربيعة الرأي واسم أبيه فروخ ثقة فقيه مشهور، مات سنة ست وثلاثين ومائة على الصحيح (تقريب التهذيب: 207، شذرات الذهب: 1/ 194). (4) الموطأ: 2/ 859. (5) انظر: المدونة: 4/ 441، الكافي: 592، المقدمات: 3/ 322. (6) في ق: النفوس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1317 فهذا مما تتعذر المماثلة فيه في الظاهر، والثاني أن تتعذر المماثلة لفقد المحل مثل أن يقلع أعمى عين بصير أو يضرب أصم أذن سميع فيذهب سمعه وما أشبه ذلك، والثالث: تمنع لعارض المماثلة مع إمكانها قبل حصوله وهو أن يعفو بعض أولياء الجناية فيتعذر القود لأنه لا يمكن استيفاء حقه على الانفراد وهذا يتصور في القتل (1). ...   (1) انظر: الرسالة: 238، الكافي: 592 - 593، المقدمات: 3/ 322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1318 باب [- في أنواع الدية] والدية (1) ثلاثة أنواع: إبل وذهب وفضة لا يؤخذ مما سوى ذلك من عروض ولا حيوان ولا غير ذلك، وموجبها ثلاثة أشياء: قتل خطأ وقتل عمد وقتل شبه العمد، وهي من الإبل مائة، ومن الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألف درهم، فأما دية الخطأ فهي خمسة أخماس خمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس بنو لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع، وأما دية العمد [فأرباع] (*) بنات مخاض، وبنات لبون، وحقاق، وجذاع. وأما شبه العمد فقد بينا اختلاف قوله فيه، وأنه لا يثبت إلا في قتل الأب لابنه على وجه الشبهة دون العمد، ودية ذلك عنده وغيره من شبهة العمد إذا أثبته أثلاث: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة: وهي الحوامل، وإذا وجبت مغلظة فإن وجبت على أهل الذهب والورق ففيها روايتان: إحداهما أنها لا تغلظ ولا تؤخذ منهم زيادة على ما يؤخذ في دية الخطأ والعمد، والأخرى أنها تغلظ وفي كيفية تغليظها روايتان: إحدهما أنه يلزمه من الذهب أو الورق قيمة الإبل مغلظة ما بلغت ما لم ينقص عن ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم، والأخرى أنه ينظر قدر ما بين دية الخطأ والتغليظ فيحصل جزاء زائدًا على دية الذهب والورق (2).   (1) الدية: مال يجب بقتل آدمي حر عن دمه أو بجرحه مقدرًا شرعًا لا باجتهاد (انظر حدود ابن عرفة: 480). (2) في جملة هذه الأحكام انظر: الموطأ: 2/ 849، المدونة: 4/ 432، التفريع: 2/ 212، الرسالة: 236، الكافي: 595 - 596. (*) هكذا بالأصل، ولعل الصواب: "أربع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1319 (وإنما قلنا إن الدية مائة من الإبل لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن حزم وغيره: "أن في النفس مائة من الإبل" (1) ولا خلاف في ذلك (2)) (3). فصل [1 - في قيمة دية النفس من الذهب]: وإنما قلنا إنها من الذهب ألف دينار، والكلام فيه في موضعين: أحدهما مع أبي حنيفة في قوله إنها من الورق عشرة آلاف درهم (4)، والأخرى مع الشافعي في قوله إن على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل الذهب والورق قيمة المائة من الإبل بالغة ما بلغت من غير اعتبار بألف دينار ولا باثني عشر (5) ألف درهم (6). فدليلنا على أبي حنيفة حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قوم الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم (7)، وقد روي ذلك مرفوعًا من طريق عمرو بن حزم على ما ذكره بعضهم (8)، ولأنه تقويم للذهب والورق فيما طريقه الحد والاتلاف فوجب أن يكون كل دينار باثنى عشر درهما أصله القطع في السرقة. ودليلنا على الشافعي أن عمر رضي الله عنه قوَّم الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار   (1) أخرجه النسائي في القود: 8/ 51، ومالك: 2/ 845، والحاكم: 1/ 397 وقال صحيح الإسناد. (2) انظر بداية المجتهد - مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 457، المغني: 7/ 759، نيل الأوطار: 7/ 77. (3) ما بين القوسين سقط من م. (4) انظر: مختصر الطحاوي: 232، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 153. (5) دينار ولا باثني عشر: سقطت من ق. (6) انظر: الأم: 6/ 105، مختصر المزني: 244، الإقناع: 164. (7) أخرجه أبو داود في الديات باب الدية كم هي: 4/ 679، ومالك: 2/ 850، والرواية عن عمر منقطعة (انظر نصب الراية: 4/ 361). (8) البيهقي: 8/ 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1320 وقد روي مرفوعًا، ولأنه نوع مال يجوز إخراجه في الدية فكان أصلًا بنفسه كالإبل، ولأن الدية معنى جعلته الإبل فيها أصلًا وكان الذهب والورق فيها أصلًا كالزكاة. وإنما قلنا لا يؤخذ مما سوى هذه الأصناف خلافًا لأبي يوسف ومحمد في قولهما يؤخذ من أهل البقر مائتا بقرة، ومن أهل الغنم ألف شاة، ومن أهل الحلل (1) مائتا حلة يمانية (2)، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى في النفس بمائة من الإبل (3)، وهذا يوجب بعين ما يخرج فيه، ولأن الصحابة قوَّمت الإبل بألف دينار واثني عشر ألف درهم فسلمناه للإجماع، ولم تقومه بغير هذين النوعين، ولأنه نوع من العروض فأشبه العبيد والعقار. وإنما قلنا إن دية الخطأ (4) أخماسًا خلافًا لأبي حنيفة في تفسير (5) الأخماس وجعله مكان بني لبون بني مخاض (6)، لما روي سليمان بن يسار (7)   (1) الحلل: جمع حله -بالضم- لا تكون إلا ثوبين من جنس واحد (المصباح المنير: 148). (2) انظر: مختصر الطحاوي: 232، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 153. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) في ق: الدية. (5) في م: تفصيل. (6) انظر: مختصر الطحاوي: 232، مختصر القدوري- مع شرح الميداني- 3/ 153. (7) في ق: ابن مسلم. وسليمان بن يسار: الهلالي المدني مولى ميمونة وقيل أم سلمة ثقة فاضل أحد الفقهاء السبعة من كبار الثالثة مات بعد المائة وقيل قبلها (تقريب التهذيب: 255). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1321 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في دية الخطأ أخماسًا: فذكر عشرين بني لبون (1)، ولأنه أنقص من بنات مخاض كالفصلان. وإنما قلنا إن دية العمد المحض أرباعا، خلافًا للشافعي في قوله أثلاثًا كالمغلظة (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي النفس مائة من الإبل" (3) وظاهره لا يفيد أقل ما يتناوله الاسم، ولأنه أحد نوعي القتل معتبر بنفسه لا بغيره فلم يجب في ديته الحوامل كالخطأ ولا يلزم عليه شبه العمد لأنه مشبه بغيره. وإنما قلنا في دية التغليظ إنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة للخبر الذي روي في التغليظ (4)، وكذلك في حديث عمر بن الخطاب: أنه أخذ الدية في قصة المدلجي الذي حذف ابنه مغلظة ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعون خلفة ودفعها إلى أخي المقتول (5). فصل [2 - في عدم تغليظ الدية على أهل الذهب والفضة]: ووجه قوله لا تغلظ على أهل الذهب والورق أن التغليظ ابتداء إثبات دية فلا يثبت إلا بسمع ولم يرد سمع إلا في الإبل، ولأن الصحابة لم تقوم دية التغليظ على أهل الذهب والورق وقومت دية العمد والخطأ، ولأن التغليظ في الإبل (6) بالسن وهذا لا يتصور إلا في الإبل.   (1) أخرجه الأربعة عن ابن مسعود وليس عن سليمان كما ذكره المصنف: أبو داود في الديات باب الدية كم هي: 4/ 677، والنسائي في القسامة باب ذكر أسنان دية الخطأ: 2/ 879، وابن ماجة في الديات باب الدية الخطأ: 2/ 879، والترمذي في الديات في الدية كم هي من الإبل: 4/ 6. (2) انظر: الأم: 6/ 105 - 106، مختصر المزني: 244، الإقناع: 164. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) سبق تخريج الحديث 1320. (5) سبق تخريج الحديث 1320. (6) الإبل: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1322 ووجه إثباتها أنه نوع يؤخذ في الدية فجاز أن يلحقه التغليظ كالإبل، ولأنه نوع من القتل فوجب أن يلزم دية أهل الذهب والورق بصفتها كالإبل أصله دم الخطأ. ووجه قوله في صفة التغليظ أنه بقيمة الإبل المغلظة أنه نقل (1) دية إلى دية فوجب أن يكون بقيمة المنقولة أصله دية الخطأ، ووجه قوله الآخر أن الألف [الدينار] (*) لما عدلت للمائة من الإبل في الخطأ وجب أن يكون القدر الزائد على دية الخطأ هو الزائد عليه في الذهب. فصل [3 - تغليظ الدية في الجراح]: وتغلظ (2) في الجراح كما تغلظ في القتل (3)، وصفة ذلك أن ينظر الواجب في الجرح من الدية: فإن كان نصفها أو ثلثها أو عشرها فتدفع إلى المجروح على صفة التغليظ في الأصل، مثل أن يقطع أصبعه ففيها عشر الدية فيدفع إليه ثلاث حقاق وثلاث جذاع وأربع خوالف. ما لا قود في عمده المحض من الجراح لا تغليظ فيه نص عليه عبد الملك، وذلك لأن التغليظ في الدية هو عوض عند سقوط القود فإذا كان القود غير واجب فلا وجه للتغليظ، واختلف فيما يلزم بقتل الأب الذي لا يجب به قود من دية التغليظ على من يجب: فقال ابن القاسم تكون في مال الأب حالة، وقال أشهب وعبد الملك (4) تحملها العاقلة حالة (5)، فلابن القاسم أنها وجبت في غير خطأ لم تحملها العاقلة كالعمد المحض، (ولغيره أنها دية عن عمد فلا قود   (1) في م: يقبل. (*) هكذا بالأصل، ولعل الصواب: "دينار". (2) في م: والتغليظ. (3) انظر: المدونة: 4/ 432، التفريع: 2/ 214 - 215، الرسالة: 237 - 238، الكافي 597. (4) عبد الملك: سقط من م. (5) انظر التفريع: 2/ 212، والرسالة: 236، الكافي: 596. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1323 فيه، وإذا قلنا إنها على القاتل حالة فلأن كل دية لزمت الجاني في ماله فإنها حالة كالعمد) (1)، وإذا قلنا إنها على العاقلة حالة فإنها لما تغلظت بالسن والصفة تغلظتها أيضا بالحلول، ولأن صفتها (2) أغلظ من الخطأ. فصل [4 - فيما تحمله العاقلة من الديات]: لا تحمل العاقلة إلا دية الخطأ المحض، ولا تحمل دية عمد ولا اعترافا ولا صلحا (3)، والأصل فيه أن كل جناية فإن بدلها يستوفي من الجاني، وأما الخطأ فإن العاقلة حملت ديته تخفيفا عن الجاني ومواساة له لأنه لم يكن منه ما يوجب القود، والعمد طريقه التغليظ، وأما الاعتراف فإنه إقرار على الغير فلا يلزم العاقلة شيء منه، وكذلك الصلح هو ابتداء التزام شيء فلا يجب على العاقلة. فصل [5 - إذا أقر بقتل خطأ]: إذا أقر بقتل خطأ ففيها ثلاث روايات (4): إحداهما أنه لا شيء عليه ولا على عاقلته لأن دية الخطأ لا تلزم المخطيء وإنما تلزم العاقلة فكأنه مقر على غيره فلم يلزم شيء العاقلة بإقراره، والثانية أن إقراره لوث (5) يقسم معه الأولياء لأنه سبب تقوى دعواهم إذ لا يتهم فيه، والثالثة أن الدية تلزمه في ماله لأنه اعتراف   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) في م: شبهها. (3) انظر: المدونة: 4/ 443، التفريع: 2/ 213، الرسالة: 238، الكافي: 594 - 595. (4) انظر: المدونة: 4/ 485، التفريع: 2/ 213، الرسالة: 238، الكافي: 595. (5) لوث: بالفتح - البينة الضعيفة غير الكاملة (المصباح المنير: 560). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1324 بالجناية وادعى أنها على وجه تلزم غيره فقبل منه اعترافه بها ولم يقبل منه ما يلزم غيره بإقراره، وهذا هو الصحيح. فصل [6 - في القدر الذي تحمله العاقلة من الدية]: وتحمل العاقلة ثلث الدية فصاعدا ولا تحمل ما دونه (1)، خلافًا للشافعي (2)، لما رواه ربيعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقل بين قريش والأنصار فجعل على العاقلة ثلث الدية فصاعدا (3)، ولأن حمل العاقلة لذلك على وجه التخفيف عن الجاني والمواساة خيفة أن يجحف الأداء به، وهذا إنما يكون في الكثير دون القليل. فصل [7 - الاعتبار في ثلث الدية، وعدم حمل العاقلة دية من قتل نفسه]: اختلف في الثلث الذي يعتبر فيه (4): فروى أشهب أن الاعتبار بثلث دية المجروح خاصة، وروى ابن القاسم أنه إذا بلغ ثلث دية المجروح أو الجاني حملته العاقلة (5)، فوجه الأول أن الاعتبار فيما (6) يلزم الجاني بدية المجني عليه لا بالجاني، كما لو قتلت امرأة رجلًا للزم بقتلها دية رجل، ووجه الثانية أن ثلث الدية يتعلق به حمل العاقلة أصله ثلث دية المجروح.   (1) انظر: المدونة: 4/ 443، التفريع: 2/ 213، الرسالة: 238، الكافي: 594. (2) انظر: الأم: 6/ 116، مختصر المزني: 248، الإقناع: 166. (3) أخرجه البيهقي: 8/ 108، وقال المحفوظ أنه من قول سعيد بن المسيب وسليمان ابن يسار. (4) في م: به. (5) انظر: التفريع: 2/ 213، الرسالة: 228، الكافي: 594. (6) في م: بما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1325 لا تحمل العاقلة من قتل نفسه عمدا ولا خطأ، خلافًا لمن حكي عنه أنه تحمل عنه الخطأ, لأنها جناية منه على نفسه كالجناية على ماله أو العمد، ولأن العاقلة تحمل عنه ما يحصل لغيره عليه تخفيفا عنه، ولا يتصور أن يجب للإنسان شيء على نفسه أو على غيره بجنايته عليها. فصل [8 - في تنجيم الدية على العاقلة]: وتنجم الدية على العاقلة في ثلاث سنين (1)، لما روي أن عمر وعليًّا قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين (2)، ولم يخالف عليهما أحد، ولأن العاقلة تحملها مواساة للجاني فيجب أن يخفف عنها وكانت في الأصل من الإبل وقد تكن وقت الوجوب حوامل فلا يجوز أن يكلفوا إذا حوامل (3)، وفي الثانية لوابن فوجب أن يؤجلوا ثلاث سنين ليجمع لهم ما يشتري به السنن المؤقتة. فصل [9 - اختلاف القول في تنجيم بعض الدية]: واختلف في البعض فعنه في ذلك روايتان (4): إحداهما أنه تؤخذ حالة ولا تنجم إلا الدية الكاملة، ووجهها اعتبارها بما دون الثالث، والأخرى أنه تنجم لأنه أرش جناية خطأ بلغ الثلث فأشبه الكاملة، وفي كيفية التنجيم روايتان: إحداهما النصف في سنتين لأنه أقرب إلى التخفيف، وليتكامل وضع الحوامل، والثلث في سنة اعتبارًا بتقسيط البعض على الجملة والثلثان في سنتين، والأخرى أنه يجتهد فيها على ما يرى. فصل [10 - في كون النساء والصبيان لا يحملون العاقلة]: ولا تحمل النساء ولا الصبيان لأنها على العصبة الذين إليهم القيام بالدم   (1) انظر: التفريع: 2/ 213، الرسالة: 238، الكافي: 594. (2) أخرجها البيهقي: 8/ 109، 110. (3) أي دفع الحوامل. (4) انظر: التفريع: 2/ 213، الكافي: 594. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1326 والميراث والنصرة وليس لأموالهم حق، ولا لما يؤخذ من آحادهم حد وإنما هو على الاجتهاد فمن لا قبيلة له عقل عنه المسلمون من بيت المال، ومن كانت نائية عن موضعه عقل عنه أقرب الناس إلى قبيلته، وتحمل جناية المرأة عصبتها وليس على ابنها شيء إلا أن يكون أبوه من عصبتها، وقد قيل يحمل وإن كان أبوه أجنبيًّا (1) لأن البنوة عصبة بنفسها كالميراث والنكاح. ...   (1) انظر في جملة هذه الأحكام: المدونة: 4/ 443، التفريع: 2/ 213، الرسالة: 238، الكافي: 594 - 595. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1327 باب: من الديات وفي العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية لورود النص بذلك، وفي حديث عمرو بن حزم: "وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون وفي العين خمسون" (1)، ولأن كل عضو فيه جنس منفعة كاملة وجمال ظاهر فإن الدية تجب بإتلافه ومنافع هذه الأعضاء ظاهرة مقصودة كاملة: (2) وهي قوام البدن وعماد منفعته فباليدين البطش والتصرف والتمكن من الصناعات، والرجلان مشاركتان لليدين في النفع وإن انفردتا بنوع يخصهما من المشي والعدو والسفر ونفعهما لا خفاء به، والعينان منفعتهما أيضًا كاملة وجمالهما ظاهر ولهما في النفع مزية (3) على سائر الأعضاء لأن بمنفعة البصر يتمكن من جميع ما ذكرناه من التقلب في المعايش والتصرف والاحتيال، وفي الشفتين الدية لأن نفعهما كامل وجمالهما ظاهر (4). فصل [1 - وجوب الدية في ثديي المرأة]: وفي ثديي المرأة الدية (5) لأن منفعتهما مقصودة وهي الإرضاع وجمالهما ظاهر لأنهما من المحاسن المطلوبة، والدية في ذهابهما أو بعضهما معتبرة بإبطال مخرج اللبن، وفي ثديي الرجل الاجتهاد لأنه ليس فيهما نفع ظاهر ولا جمال بين.   (1) سبق تخريج الحديث 1320. (2) كاملة: سقطت من ق. (3) مزية: سقطت من م. (4) انظر: المدونة: 4/ 440 - 442، التفريع: 2/ 214، الرسالة: 237، الكافي 597. (5) انظر: المدونة: 4/ 437، التفريع: 2/ 214، الرسالة: 237، الكافي: 597. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1328 فصل [2 - وجوب الحكومة في الحاجبين وسائر الشعور]: وفي الحاجبين حكومة (1) لأنهما زينة فقط بلا منفعة، وكذلك في سائر الشعر كأهداب العين واللحية (2) لأن الدية لا تتعلق (3) بالجمال المنفرد عن المنفعة، وفي أشراف الأذنين روايتان: إحداهما الدية، والأخرى الاجتهاد، فوجه إيجاب الدية ما روي "وفي الأذن خمسون" (4)، ولأنهما عضوان منهما اثنان في البدن كاليدين، ووجه الحكومة أن نفعهما غير كامل لأن السمع يقع بغيرهما وأكثر ما فيها مرسل (5) الصوت إلى السمع، ولأن جمالهما غير ظاهر تغطيهما القلنسوة والعمامة كما قال أبو بكر رضي الله عنه (6). فصل [3 - وجوب الدية في العقل]: وفي العقل الدية (7) لأنه أشرف المنافع وأعلاها وما عداه من المنافع متعلق به لأن به يتمكن من التصرف في المعاش والمصالح فكان أولى بوجوب الدية. فصل [4 - وجوب الدية في الأنف]: في الأنف الدية (8) إذا قطع مارنه (9)، لما روي في الحديث "وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية" (10) ولأنه عضو فيه نفع كامل وجمال ظاهر كالبصر   (1) الحكومة: المراد بالحكومة الحكمان فأكثر يحكمان بما يجب في هذه الجناية (الفواكه الدواني: 2/ 208). (2) انظر: المدونة: 4/ 436، 437، التفريع: 2/ 215، الكافي: 598. (3) في م: لا تنفرد. (4) سبق تخريج الحديث ص 1320. (5) في م: أخرس. (6) أخرجه ابن أبي شيبة: 9/ 153. (7) انظر: المدونة: 4/ 436، التفريع: 2/ 214، الرسالة: 237، الكافي: 597. (8) انظر: المدونة: 4/ 433، التفريع: 2/ 214، الرسالة: 237، الكافي: 597. (9) المارن: ما دون قصبة الأنف وهو ما لان منه (المصباح المنير: 569). (10) سبق تخريج الحديث ص 1320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1329 وإن قطع بعضه ففيه من الدية بحسابه، وإن أذهب الشم وحده ففيه الدية لأنها منفعة مقصودة كالسمع والبصر، وكذلك إن قطع الأنف وبقي الشم ففيه الدية، وإن ذهبا معا في ضربة ففيهما دية واحدة لأن أحدهما من الآخر، وقال بعض شيوخنا القياس أن تكون فيهما ديتان قال: لأن كل واحد إذا انفرد بالذهاب كانت فيه فباجتماعهما لا تسقط. فصل [5 - وجوب الدية في السمع]: وفي السمع إذا ذهب الدية، فكذلك البصر لعظم منفعتهما، فإن ذهب (1) من إحدى الجهتين ففيها نصف الدية أعني أن البصر إذا ذهب في إحدى العينين ففيه نصف الدية (2)، والسمع إذا ذهب من إحدى الجهتين (3) ففيه نصف الدية، وإن ضربه فأذهب سمعه وبقى أذناه ففي ذهاب السمع الدية، وإن قطع أذنيه وبقي السمع ففيها الدية، وإن ذهبا في ضربة واحدة (4) ففيهما الدية، وقال شيخنا الذي حكينا عنه القياس أن تكون فيها ديتان أو دية وحكومة على حسب اختلاف قوله في الأذنين، ووجه ذلك ما ذكرناه في ذهاب (5) الشم والأنف (6). فصل [6 - وجوب الدية في الصلب]: وفي الصلب (7) إذا كسر الدية (8) , لأنه يذهب به منفعة جليلة مقصودة يتمكن معها من التقلب في الصنائع والتصرف في المعاش فذهابه زمانه كقطع   (1) في م: ذهبا. (2) ففيه نصف الدية: سقط من م. (3) في م: الأذنين. (4) في ضربه واحدة: سقطت من م. (5) ذهاب: سقطت من ق. (6) انظر: الموطأ: 2/ 857، المدونة: 4/ 436، التفريع: 2/ 214، الرسالة: 237، الكافي: 597. (7) الصلب: المقصود به الظهر (الفواكه الدواني: 3/ 206). (8) انظر: المدونة: 4/ 435، التفريع: 2/ 215، الرسالة: 237، الكافي: 597. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1330 الرجلين، وذلك إذا آل إلى القعد، فإما إن قدر على القيام والمشي على قصر (1) ففيه الاجتهاد بحسابه من الدية إن عرف قدر النقص. فصل [7 - وجوب الدية في اللسان]: وإذا قطع من اللسان ما منع الكلام ففيه الدية، وإن ذهب بعضه ففيه الدية بحسابه (2)، لما روي في ذلك مرفوعًا (3)، ولأن فيه منفعة كاملة مقصودة وجمالًا ظاهرًا لأن ضده الخرس الذي يتعذر معه التصرف في المعاش وغيره إلا على كلفة ومشقة، وفي ذهاب البعض بحسابه اعتبارًا بذهاب المنافع التي تجب بذهابها الدية من السمع والبصر وغيرهما. فصل [8 - وجوب الدية في الذكر]: وفي الذكر الدية لما روي في الحديث، وكذلك الأنثيين فإن قطعا معا ففيهما ديتان، وإن قطع أحدهما بعد الآخر في ضربة واحدة ففيها روايتان: إحداهما أن فيهما ديتين، والأخرى أن في الأولى دية وفي الثاني حكومة (4). وإنما قلنا إن فيهما ديتين للجمال بهما والمنفعة الكاملة المقصودة، ووجه القول بأن فيهما ديتين، وإن قطع أحدهما بعد الآخر (5) في فور واحد قوله "وفي الذكر الدية" (6) ولم يفرق، ولأن الفور الواحد يجري مجري القطع الواحد وأنه لم   (1) في م: في تقصر. (2) انظر المدونة: 4/ 434، الرسالة: 237، الكافي: 597. (3) قوله "وفي اللسان الدية" في حديث عمرو بن حزم الذي سبق تخريجه في الصفحة ص 1320. (4) انظر: المدونة: 4/ 435، التفريع: 2/ 215، الرسالة: 237، الكافي: 598. (5) في م: دون الآخر وفي ق: بعد الأول. (6) سبق تخريج الحديث ص 1320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1331 يسبق أحدهما الآخر, ووجه القول إن في الثانية (1) حكومة أن المتأخر منهما لا منفعة فيه بعد ذهاب الأول فأشبه أن يقطع بعد اندمال الأول. فصل [9 - في أقل ما يتعلق به الدية من قطع الذكر]: وأقل ما يتعلق به الدية من قطع الذكر ذهاب الحشفة لأن المنفعة المقصودة بها تتعلق من اللذة وغيرها , وفي قطع بعضها بحسابها وما قطع بعد ذلك فبحسابه. فصل [10 - وجوب الدية في عين الأعور]: وفي عين الأعور الدية كاملة (2) , خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: إن فيها نصف الدية (3)، لأن في ذلك إجماع الصحابة روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر (4) رضي الله عنه (5)، ولا مخالف لهم، ولأن الدية تجب وكذلك لو قطعها فوجدنا منفعة البصر (6) تكمل لذي العين الواحدة إذ يدرك بها مثل ما يدركه ذو العينين أو قريبًا منه، فإذا أتلف عليه فقد أتلف جميع منفعة البصر فكان كمتلف العينين. فصل [11 - فيما يجب في السن]: وفي السن خمس من الإبل (7)، لورود الخبر بذلك (8)، ومقدم الفم   (1) في م: الثاني. (2) انظر: المدونة: 4/ 440، التفريع: 2/ 215، الرسالة: 237، الكافي: 598. (3) انظر: مختصر الطحاوي: 241، الأم: 6/ 122. (4) البيهقي: 8/ 94، مصنف ابن أبي شيبة: 9/ 196، مصنف عبد الرزاق: 9/ 331. (5) رضي الله عنهم: سقطت من م. (6) في ق: المنفعة بالبصر. (7) انظر: المدونة: 4/ 436، التفريع: 2/ 215، الرسالة: 237، الكافي: 597. (8) قوله - صلى الله عليه وسلم - "وفي السن خمس من الإبل" في حديث عمرو بن حزم الذي سبق تخريجه في الصفحة 1320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1332 والأضراس لوقوع الاسم على الجميع (1)، وإذا ضربت السنن فاسودت ففيها العقل لذهاب منفعتها، ثم إذا طرحت بعد ذلك ففيها عقلها أيضًا لذهاب الجمال بها كالأنف يضرب فيذهب الشم ففيه الدية، ثم إذا قطع بعد ذلك ففيه دية أخرى لذهاب الجمال به. فصل [12 - فيما يجب في الموضحة والمنقلة والأمومة والجائفة]: وإنما قلنا في الموضحة نصف العشر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي الموضحة خمس من الإبل" (2)، ولا خلاف في ذلك (3)، فإن برئت على شين (4)، فقال مالك يزاد فيها بقدره لأنه نقص حدث عن جناية كما لو كانت في الجسد, وقال أشهب لا يزاد بها شيء (5)، ووجه ذلك قوله: "في الموضحة خمس من الإبل" (6)، ولم يوجب زيادة عليه، ولأن المقدار إذا وجب فيها لم يكن بعد ذلك حكم. وإنما قلنا إن في المنقلة عشر ونصف عشر الدية لقوله - صلى الله عليه وسلم - "وفي المنقلة خمس عشر فريضة" (7) ولا خلاف في ذلك (8).   (1) في م: على الجمع. (2) سبق تخريج الحديث في الصفحة 1320. (3) انظر: بداية المجتهد - مع الهداية تخريج أحاديث البداية: 8/ 490 المغني: 8/ 43. (4) أي على غير جمال. (5) انظر: الموطأ 2/ 858، المدونة: 4/ 434، التفريع: 2/ 215، الرسالة: 237، الكافي: 599. (6) سبق تخريج الحديث ص 1320. (7) سبق تخريج الحديث ص 1320. (8) انظر: بداية المجتهد- مع الهداية في تخريج أحاديث البداية-: 8/ 492، المغني: 8/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1333 (وإنما قلنا إن في المأمومة ثلث الدية وكذلك في الجائفة لأن ذلك مروي في الحديث ولا خلاف فيه) (1) وإنما قلنا إن فيما دون الموضحة الاجتهاد وكذلك جراح الجسد والهاشمة لأن مقادير العقل لا تؤخذ بالقياس وليس في ذلك شرع بتقدير فلم يبق إلا الاجتهاد، ومعنى الحكومة والاجتهاد واحد وهو أن يقوَّم المجني عليه لو كان عبدا كم يساوي سليما لا جراح فيه فيقال مائة دينار (2) ثم يُقوَّم وبه الجراح فيقال ثمانين دينارا فيعلم أن الجناية قد نقصت خمس قيمته فيجعل ذلك جزءًا من ديته فيلزم الجاني خمس دية المجروح. فصل [13 - عقل ما لا قود فيه من الجراح هل تحمله العاقله؟]: عقل ما لا قود فيه من الجراح كالمأمومة والجائفة فيه ثلاث روايات: إحداها أنه على العاقلة، والأخرى أنه في مال الجاني، والثالثة أنه يبدأ بمال الجاني فإن كان فيه وفاء وإلا كان الباقي على العاقلة، فوجه الأولى أنها جناية استحق المال بها بنفسها لمنع القود فيها فحملتها العاقلة أصله الخطأ، ووجه الثانية جناية عمد فلم تحملها العاقلة كالذي يجب فيه القود، ووجه الثالثة أن هذا الجرح قد أخذ شبها من العمد وشبها من الخطأ ووجدنا شبهه بالعمد أكثر فوجب أن يبدأ بمال الجاني كما يفعل في دية العمد فإن وفى وإلا تمم من العاقلة لشبهه بالخطأ في منع أخذ القود (3). فصل [14 - فيما يجب في أصابع اليدين والرجلين]: وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) فيقال مائة دينار: سقطت من ق. (3) انظر: المدونة: 4/ 434، 435، التفريع: 2/ 213، الرسالة: 237، الكافي: 599. (4) انظر: المدونة: 4/ 438، التفريع: 2/ 215، الرسالة: 237، الكافي: 598. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1334 "وفي كل أصبع مما هنالك (1) عشر من الإبل" (2)، ولأن في اليد الواحدة والرجل الواحدة (3) خمسون من الإبل والدية تجب فيها بذهاب الأصابع فيجب أن يكون في كل أصبع عشرة، وفي كل أنملة ثلاثة أباعر (4) وثلث لأن الأنملة ثلثها ففيها ثلث ديتها إلا في الإبهام ففي كل أنملة منهما خمس لأنهما أنملتان فالأنملة منهما نصفها. ...   (1) مما هنالك: سقطت من م. (2) سبق تخريج الحديث 1320. (3) والرجل الواحدة: سقطت من ق. (4) أباعر: جمع بعير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1335 باب [- في دية المرأة والكتابي والمجوسي والعبد ... ] ودية المرأة على النصف من دية الرجل (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "دية المرأة على نصف من دية الرجل" (2)، وأما دية جراحها فإنها تساوي الرجل فيما دون ثلث الدية، ويرجع إلى حساب ديتها فيما زاد على ذلك وإذا قطع لها أصبع أو أصبعان أو ثلاثة أخذت ثلاثين من الإبل فإن قطع بها أربع أصابع أخذت عشرين بحساب ديتها ... ". وإنما قلنا ذلك خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، (3) لأنه إجماع أهل المدينة نقلا (4)، وقد أغلظ سعيد بن المسيب لربيعة بن أبي عبد الرحمن (5) لما سأله عن ذلك وحاجه من طريق المقايسة وقال أعراقي أنت لما قال له: أحين عظمت مصيبتها واشتد جراحها قل عقلها فقال هي السنة (6)، ولأن كل إتلاف كان موجبه أقل من ثلث الدية فإن الأنثى تساوي الذكر فيه أصله دية الجنين. فصل [1 - في دية الكتابي]: دية الكتابي نصف دية المسلم، (7) خلافًا لأبي حنيفة في قوله مثل دية   (1) انظر: الموطأ: 854، المدونة: 4/ 439، التفريع: 2/ 216، الرسالة: 237 الكافي: 596. (2) أخرجه البيهقي: 8/ 95 وضعفه وروي موقوفًا على علي ومرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) انظر: مختصر الطحاوي: 240، الأم: 6/ 106. (4) انظر: الموطأ: 2/ 854. (5) بن أبي عبد الرحمن: سقطت من ق ومن م. (6) الموطأ: 2/ 860. (7) انظر: المدونة: 4/ 472، 479، التفريع: 2/ 216، الرساله: 237، الكافي: 597. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1336 المسلم (1)، وللشافعي في قوله ثلث دية المسلم (2)، فدليلنا على أبي حنيفة أن الديات موضوعة على التفاضل في الحرم ألا ترى أن النساء لما انخفضت حرمتهن عن حرمة الرجال نقصت دياتهن عن ديات الرجال فالكافر أخفض حرمة من المسلم للنقص المانع من قول شهادته ومواريثه وإنكاحه للمسلمات والإسهام له في الغنيمة وغير ذلك، فكذلك يجب أن ينقص عنه في الدية ولأنها بدل عن النفس فكان الكفر مؤثرا في نقصانها كالقصاص، ودليلنا على الشافعي أن كل نوع نقصت ديته عن دية المسلم الذكر إلى جزء منه فإن ذلك الجزء هو النصف أصله دية المرأة المسلمة، ولأنه جزء تنقص الدية إليه فلم يجز أن يكون دون النصف اعتبارًا بالربع. فصل [2 - في دية المجوسي]: دية المجوسي ثمان مائة درهم (3)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنها مثل دية المسلم (4)؛ لأن عمر بن الخطاب حكم بذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد وكان يكتب إلى عماله بذلك بحضرة المهاجرين والأنصار (5)، ولأن كل جنس لا يؤكل ذبيحته ولا تنكح نساؤه فلا يجب بإتلافه ما يجب بإتلاف المسلم أصله الوثني والمرتد، ولأنا قد بينا أن نقصان الحرم بالأديان يؤثر في نقصان الدية فلما كان الكتابي أخفض دية من المسلم نقصت ديته عن ديته كذلك المجوسي لما نقصت حرمته عن حرمة الكتابي وجب أن تنقص ديته، وديات نساء أهل الكتاب والمجوس في نفوسهم وجراحهم على حساب ديات نساء المسلمين من رجالهم.   (1) انظر: مختصر الطحاوي: 240، مختصر القدوري- مع شرح الميداني-: 3/ 154. (2) انظر: الأم: 6/ 105، الإقناع: 164. (3) انظر: المدونة: 4/ 480، التفريع: 2/ 216، الرسالة: 237، الكافي: 597. (4) انظر: مختصر الطحاوي: 240. (5) أخرجه البيهقي: 8/ 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1337 فصل [3 - في دية العبد]: وفي قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه لا يبلغ به دية الحر (2)؛ لأنه مملوك فوجب أن يضمن في إتلافه بكمال قيمته كالبهائم والسلع، ولأنه نسب يضمن به العبد فوجب أن يضمن بكمال قيمته أصله اليد والعين. فصل [4 - فيما يجب في الجناية على العبد]: في كل جناية على العبد فيما دون النفس ما نقص عن قيمته إلا في الشجاج الأربع الموضحة والمنقولة والمأمومة والجائفة ففي كل واحدة من هذه بقيمته بقدر ما في الحر من ديته، ففي موضحة العبد نصف عشر قيمته وفي منقلته عشر ونصف عشر قيمته، وفي مأمومته ثلث قيمته، وكذلك للجائفة (3)، وقال الشافعي في كل جناياته مثل ما في جنايات الحر من ديته (4). وإنما قلنا ذلك لأنها جناية على مملوك أتلف جزءًا منه وأثرت نقصا فيه فوجب أن يكون فيها بقدر (5) ما نقص من قيمتها أصله البهائم، فأما الشجاج الأربع فإنما قلنا إن فيها بقدر ما في الحر من ديته لأنها قد تبرأ على غير نقص فلو لم يجعل فيها بقدر ما في دية الحر من قيمة العبد لأدى ذلك إلى بطلانها لأنه ليس هنالك نقص من القيمة يرجع إليه وسائر الجراح بخلافها لأنها تؤثر نقصا لا محالة.   (1) انظر: المدونة: 4/ 465، التفريع: 2/ 211. (2) انظر: مختصر الطحاوي: 243، مختصر المقدوري - مع شرح الميداني-: 3/ 168 - 169. (3) انظر: المدونة: 4/ 465، التفريع: 2/ 212. (4) انظر: الأم: 6/ 1042، الإقناع: 166. (5) بقدر: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1338 فصل [5 - في عدم تحمل العاقلة قيمة العبد]: ولا تحمل العاقلة قيمة العبد (1) إذا قتل خطأ (2) خلافًا للشافعي (3)، لأنهما إتلاف مال فلم تحمله العاقلة كالبهائم. فصل [6 - فيما يجب في ذكر الخصي وفي اليد الشلاء]: في ذكر الخصي الاجتهاد (4) خلافًا للشافعي (5)؛ لأن منفعته ناقصة لأنه لا ينزل ووطؤه ناقص ولزوجته الخيار إذا تزوجته فلم يستحق به كمال الدية وكذلك في اليد الشلاء لأن منفعتها معدومة وهي ميتة فلا يجب القصاص بها من الصحيحة، وكذلك العين القائمة. فصل [7 - إذا قتل عبد عبدًا أو حرًّا]: إذا قتل عبد عبدًا أو حرًّا فأولياء المقتول بالخيار إن شاءوا قتلوا (6) لأن دمه مكافيء لدم العبد وناقص عن دم الحر، وإن شاءوا استرقوه لأن جنايته متعلقة برقبته فسيد القاتل بالخيار إن شاء أفتكه بأرش الجناية وهي قيمة العبد المقتول أو دية الحر، وإن شاء أسلمه فصار ملكًا للمجني عليه. وإنما قلنا إنه مخير لأن سيد العبد المقتول قد أسقط حقه من القصاص إلى أخذ بدل عن جنايته وهو غير مستحق للرقبة بنفس الجناية دون إسلام السيد إياها، والذي وجب له الأرش فإذا بذل له فقد سقط حقه من الرقبة فإن افتكه   (1) انظر: المدونة: 4/ 447، الرسالة: 240، الكافي: 595. (2) خطأ: سقطت من ق. (3) انظر: الأم: 6/ 27، مختصر المزني: 274، الإقناع: 166. (4) انظر: المدونة: 4/ 437، 440، الكافي: 593، 598، 600. (5) انظر: الأم: 6/ 12، مختصر المزني: 246. (6) انظر: الموطأ 2/ 863، المدونة: 4/ 445، التفريع: 2/ 216، الكافي: 590. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1339 سيده بالأرش عاد إلى ملكه كما كان قبل الجناية، وإن امتنع أن يفديه لزمه إسلام رقبته وصار ملكًا للمجني عليه، وإنما قلنا ذلك لما قدمناه أن الجناية تعلق شيء (1) برقبته وجعل لسيده افتكاكه ورده إلى ملكه فإذا لم يختر ذلك فقد رضي بتركه. وقال أصحاب الشافعي يخير سيد العبد القاتل بين أن يفديه بالأرش أو يسلمه ... فيكون لسيد المقتول جميع ثمنه إن كان بإزاء الأرش، أو دونه وليس له شيء آخر إن كان الأرش أكثر من ثمنه، فإن زاد الثمن على الأرش كان له منه بقدر الأرش وكان الفاضل لسيده، وليس له أن يملك رقبته (2). ودليلنا أن الجناية لا تخلوا أن تكون متعلقة برقبة العبد أو بمال السيد: فإن كانت (3) متعلقة بمال السيد وجب أن يؤخذ من سائر ما يملكه من العبد وغيره ولا يبطل بتلف العبد كسائر الجنايات وذلك باطل، وإن كانت متعلقة (4) برقبة العبد وجب أن يستحق الرقبة بدلا من أرش الجناية لتعلقها به لأنه ليس معنى تعلقها بالرقبة أكثر من أن حق المجني عليه قد انتقل إليها فكان له بأن يملكها (5)، وإنما جعل للسيد إسقاطها عن الرقبة ببدل [الأرش] فإذا لم يفعل فقد اختار تسليمها. فصل [8 - في تضمين السائق والقائد والراكب]: السائق والقائد والراكب ضامنون بجناية الدابة (6) لأن ذلك بتفريط منهم في إمساكها أو حادث عن إثارتهم لها إلا أن يكون ما فعلته كان ابتداء لا صنع لهم   (1) شيء: سقطت من م. (2) انظر: الأم: 6/ 25، مختصر المزني: 237، الإقناع: 162. (3) في م: كان. (4) في م: تعلقه. (5) في ق: تملكه. (6) انظر: الموطأ: 2/ 869، المدونة: 4/ 501، الرسالة: 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1340 فيه فلا شيء عليهم منه ويكون في لك هدرًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جرح العجماء جبار" (1) أي لا شيء فيه، وكذلك إذا كانت واقفة وحدها بحيث يجوز لصاحبها أن يقفها فأصابته إنسانًا فهو هدر لا شيء فيه. فصل [9 - ما تلف في معدن أو بئر من غير فعل]: وما تلف في معدن أو بئر من غير فعل أحد فهو هدر (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "البئر جبار والمعدن جبار" (3)، ولأن تلفه لا صنع لأحد فيه فكان هدرًا. فصل [10 - إذا جرح عدة جراحات تجب فيها عدة ديات]: إذا جرح عدة جراحات تجب فيها عدة ديات فله جميع ذلك (4)، لأن كل جراحة قائمة بنفسها لا يسقط ما يجب بها بمشاركة غيرها لها إلا أن تصير نفسا فتجب الدية فيه ويسقط ما عداها وذلك إذا مات في الحال. ...   (1) أخرجه البخاري في الزكاة باب في الركاز الخمس: 2/ 137، ومسلم في الحدود باب جرح العجماء والمعدن: 3/ 1334. (2) انظر: الموطأ: 2/ 869، المدونة: 4/ 510، الرسالة: 239. (3) هو جزء من الحديث السابق. (4) انظر: الشرح الكبير - مع حاشية الدسوقي-: 4/ 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1341 باب [في حكم القسامة وصورتها] والحكم بالقسامة (1) واجب (2)، وصورتها: أن يوجد قتيل لا يعلم من قتله فيدعي أولياؤه الدم على رجل بعينه أو جماعة بأعيانهم ويكون معهم لوث يقوي دعواهم، واللوث: أمارة يغلب معها عند الظن صدقهم، فيحلف الأولياء، على ما يدعونه ويجب لهم في العمد القود، والدية في الخطأ ونحن نبين تفضيل ذلك. فصل [1 - إذا ادعى قوم أن دم مقتول لهم لا يعرف قتله عند رجل بعينه]: إذا ادعى قوم أن دم مقتول لا يعرف قتله عند رجل بعينه قتله عمدا، ولا بينة لهم على ذلك والمدعى عليه ينكر: فإن كان معهم لوث حلف أولياء الدم إن كانوا اثنين فصاعدا من العصبة خمسين يمينًا تردد الأيمان على عدد رؤوسهم واستحقوا (3) الدم فقتلوا أو عفوا واللوث هو أن يقول المقتول: دمى عند فلان عمدا إذا كان بالغا مسلما حرا عدلا أو فاسقا ذكرا كان أو أنثى، ومن اللوث الشاهد العدل يشهد (4) على رؤية القتل أو رؤية المدعى عليه بقرب المقتول عليه بيده سكين أو سيف وثيابه ملوث بالدم. فأما الشاهد الواحد والجماعة غير العدول والنساء ففيهم روايتان: إحداهما أن شهادتهم لوث والأخرى أنها ليست بلوث ومن أصحابنا من يجعل شهادة العبيد   (1) القسامة: في اللغة الأيمان، وفي الاصطلاح: هي حلف خمسين يمينا أو جزءها على إثبات الدم (انظر المصباح المنير: 503، حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع: 484). (2) انظر: الموطأ: 2/ 877، المدونة: 4/ 494، التفريع: 2/ 207، الرسالة: 234، الكافي: 601، المقدمات: 3/ 301. (3) في ق: يستحفوا. (4) في م: شهيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1342 والصبيان لوثا فإذا وجد اللوث بدىء بأولياء الدم على ما بيناه فحلفوا ولهم أن يستعينوا من عصبة الميت بمن يحلف معهم، وإن لم تكن له ولاية في الدم مثل أن يترك بنين وأخوة وعمومة فالولاية للبنين: فإن شاءوا حلفوا وإن شاءوا أدخلوا معهم إخوة الميت وعمومته فخففوا (1) عنهم وحلفوا معهم، وإن كان ولي الدم واحدا لم يحلف وحده ولكن يستعين من عصبته من يحلف معه، وإن كان (2) ولاة الدم خمسين حلف كل واحد يمينًا واحدًا، وإن زادوا على الخمسين ففيها روايتان: إحداهما يحلف منهم خمسون فقط، والأخرى أنهم يحلفوا كلهم ويجبر كسر اليمين بإكمالها على من عليه أكثرها، وإذا نكل المستعان بهم من الأيمان لم يؤثر نكولهم وحلف أولياء الدم إن كانوا اثنين فصاعدا فإن نكل بعض ولاة الدم عن الأيمان وقد بقي اثنان (3) أو أكثر ففيها روايتان: إحداهما أن للباقين أن يحلفوا ويأخذوا أنصبائهم من الدية، والأخرى أن الأيمان ترد على المدعى عليه فإن حلف سقطت الدعوى عنه، وأن نكل ففيها روايتان: إحداهما (أنه يحبس إلى أن يحلف فإن طال حبسه خلي، والأخرى أن الدية تلزمه في ماله إذا أقسموا ثم عفى بعضهم سقط الدم وكان لمن لم يعف نصيبه من الدية، وهذا في الولد والأخوة رواية واحدة، وفي غيرهم من العصبة روايتان:) (4) إحداهما مثل هذا، والأخرى أن من نكل منهم على الأيمان حلف الباقون واستحقوا الدم، ولم يقتل بالقسامة إلا واحد ويجلد الباقون كل واحد منهم مائة جلدة (5) ويحبس عاما وكذلك قاتل العمد إذا عفى عنه. وإذا ادعى ولاة القتل على جماعة اختاروا واحدا يقسمون عليه ويقتلونه.   (1) في م: فحلفوا. (2) في م: كانوا. (3) في م: إنسان. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) جلدة: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1343 وإذا اختلف ولاة الدم في صفة القتل: فقال بعضهم (خطأ وقال بعضهم عمدا أقسموا على القتل وكانت لهم الدية، فإن قال بعضهم) (1) عمدًا وقال الآخرون لا علم لنا بقتله لم يقسم أحد منهم، وإن قال بعضهم خطأ، وقال الآخرون لا علم لنا أقسم مدعو القتل وأخذوا حقوقهم من الدية، وقال شيخنا (2) أبو بكر القياس ألا يقسموا، ولا قسامة في عبد ولا أمة ولا ذمي ولا في جراح (3) ولا في من وجد قتيلا في محلة قوم. وإذا اقتتلت قبيلتان (4) فوجد بينهما قتيل ففيها روايتان: إحداهما إن وجوده بينهما لوث يقسم معه الأولياء على من يدعون عليه قتله ويقتلونه، والأخرى أنه لا قسامة (5) فيه، فإن كان من إحدى الفريقين فعقله على الأخرى، وإن كان من غيرهما فعقله عليهما، ويجلب في القسامة إلى مكة والمدينة وبيت المقدس من كان من أعمالها دون ما زاد على ذلك، والقسامة في الخطأ واجبة لورثة المقتول من الرجال والنساء يحلف فيها الواحد وحده العصبة وغير العصبة والزوج والزوجة، والأيمان على قدر مواريثهم ويجبر كسرها على من عليه أكثرها، وإذا قال المقتول قتلني فلان خطأ (6) ففيها روايتان: إحداهما أنه لوث والأخرى أنه ليس بلوث (7). فصل [2 - في دليل وجوب العمل بالقسامة]: وإنما قلنا إن الحكم بالقسامة واجب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بها على ما سنبينه، ولأن في ترك الحكم بها إضاعة الدماء لأن من يريد قتل غيره إنما يتعمد به مواضع   (1) ما بين القوسين سقط من م. (2) في م: روينا عن. (3) في م: إخراج. (4) في م: فئتان. (5) في: مقاسمة. (6) أي قبل أن يموت يذكر من قتله. (7) في جملة أحكام القسامة: انظر الموطأ: 2/ 877، المدونة: 4/ 494، التفريع: 2/ 217، الرسالة: 234، الكافي: 601، المقدمات: 3/ 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1344 الخلوات (1) التي يأمن فيها من يراه بالغالب، فلو لم يحكم فيها باللوث لم يشأ (2) من يريد قتل غيره ويأمن من أن يأخذ به إلا وفعل من غير تعذر عليه في الغالب، وقد روي أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، وإنما قلنا إن أولياء الدم يبدؤون باليمين خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن الأولياء لا يحلفون وإنما الأيمان. على المدعى عليهم (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار "أتحلفون خمسين يمينًا وتسحقون دم صاحبكم قالوا لم نحضر قال فتحلف لكم اليهود، فبدأ الأولياء بالأيمان فلما نكلوا عدل بها إلى المدعى عليهم" (5) ولأن الأيمان (6) في الأصول تجب على أقوى المتداعيين سببا والأولياء قد قوى سببهم باللوث الذي يغلب معه على الظن صدقهم فيه فكانت اليمين في جنبهم (7). وإنما قلنا إن أقل من يحلف اثنان لأن أيمان الأولياء أقيمت مع اللوث إقامة البينة فلما لم يكف في البينة شهادة واحدة فكذلك لا يكفي في الأيمان واحد، وكذلك روي في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - عرضها على الجماعة فقال أتحلفون وتستحقون (8). وإنما قلنا إن الأيمان إلى العصبة في دعوى: دم العمد لأنه ليس طريقها الميراث   (1) في م: الخلو. (2) العبارة بهذا اللفظ في المخطوطتين وكذلك في كتاب "الأشراف: 1992" ولعل أصل العبارة -كما قال محقق الأشراف- لكان ما من أحد يريد قتل غيره .... إلخ. (3) أخرجه مسلم في القسامة باب القسامة: 3/ 1295. (4) انظر مختصر الطحاوي 248, مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 172. (5) أخرجه البخاري في الأحكام باب كتاب الحاكم إلى عماله: 8/ 120 ومسلم في القسامة باب القسامة: 3/ 1294. (6) في م: اليمين. (7) في ق: نسائهم وهو غلط. (8) كما جاء في الحديث الذي روي قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1345 لأنها مستحقة بالنصرة والولاية كالنكاح فهو كذلك تُعقل عن القاتل عصبته دون سائر ورثته، وإنما قلنا إن الأيمان خمسون يمينا لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار "يحلفون خمسين يمينًا" (1)، ولا خلاف في ذلك (2)، وإنما قلنا إن الأيمان ترد عليهم لأنا لو أحلفنا كل واحد خمسين لكانت أيمان القسامة أكثر من خمسين ولم تكن مقدرة وذلك غير صحيح. وإنما قلنا إنها على عدد الرؤوس لأنه ليس طريقها الميراث فيتساوون في كل الأحكام، وإنما قلنا إنهم يستحقون الدم (3) إذا حلفوا خلافًا للشافعي في قوله لا يستقاد (4) بها الدم (5) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" (6)، وروي: قاتلكم" (7)، وقوله "تقسمون خمسين يمينا على رجل منهم ادفعه إليكم برمته (8) " (9) ولأنها حجة ثبت بها قتل العمد (10) فوجب أن يستحق بها قتل (11) من ثبت عليه كالشهود. (وإنما قلنا إنه لا بد من لوث يحلفون معه لأن الأيمان في الأصل على المدعى   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) انظر المغني: 8/ 68. (3) الدم: سقطت من م. (4) في م: لا تشاط. (5) انظر الأم: 6/ 92، 96، مختصر المزني: 251، الإقناع: 167. (6) سبق تخريج الحديث ص 134. (7) هو في الصحيحين كذلك، انظر تخريج الحديث السابق. (8) برمته: أي بجميعه وهو يطلق على كل ما لا ينقص ولا يؤخذ منه شيئًا (المصباح المنير: 240). (9) هذا الحديث متفق عليه وقد سبق تخريجه. (10) في ق: بملكه. (11) في ق مثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1346 عليهم لأنهم أقوى سببا، ولأنهم بريئون في الأصل فوجب اعتبار سبب تقوى به جنبة الأولياء ليتمكن نقل الأيمان إليهم دون مجرد الدعوى) (1). فصل [3 - لم كان قول المقتول في العمد دمي عند فلان لوثًا؟]: وإنما قلنا إن قول المقتول في العمد دمى عند فلان لوث خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)، لقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (3) والقصة معروفة في الرجل الذي قتله ابن أخيه ورمى أهل القرية بقتله فأمر الله تعالى بذبح (4) بقرة وبضرب المقتول ببعضها فإنه يحيى ويخبر بقاتله ففعلوا ذلك فحيي المقتول وقال: قتلني ابن أخي، فصار ذلك أصلا في قبول قول المقتول وتأثيره في الحكم بدمه، ولأن اللوث سبب ينضم إلى دعوى أولياء، المقتول يقوي به دعواهم، وحال الموت حال تقرب إلى الله تعالى وإقلاع عن المعاصي وتوبة من الذنوب هذا هو الظاهر من المسلمين والعادة فيهم فلا يتهمون في الحال بتزويرهم عند ورودهم على الله، وقتل النفس (5) المحرمة وسفك الدماء المحظورة، ولأنه ليس أحد (6) أعدى للإنسان من قاتله فلا يجوز أن يظن به دعوى الدم وغيره. وإذا ثبتت هذه الجملة كان قوله دمي عند فلان أمارة قوية في صدقه، فكان للأولياء أن يحلفوا معه، وإنما شرطنا أن يكون بالغًا لأن الصبي لا حكم لقوله ولا يقتل بدعواه، وشرطنا أن يكون مسلما لأن الذمي لا قسامة فيه على ما نبينه، وشرطنا أن يكون حرا لأن العبد مال والقسامة لا تكون في مال ولم نشرط أن   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) انظر المبسوط: 26/ 107 - 108، حاشية قليوبي وعميرة: 4/ 165، المغني: 8/ 79. (3) سورة البقرة، الآية: 73. (4) في م ور: أن تذبح. (5) في ق: النفوس. (6) أحد: سقطت من م ومن ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1347 يكون عدلًا ولا ذكرًا لأن الأيمان لا يراعى فيها ذلك، ولأن الغالب من المسلمين عند الموت انتفاء التهمة وتحري (1) الصدق. فصل [4 - في كون الشاهد العدل لوث]: وإنما قلنا إن الشاهد العدل لوث لأنه يقوى الظن به، ولأن له تأثيرًا في الأصول في نقل اليمين إلى جنبة المدعى، وسواء رآه أو رأى آثار القتل على من يدعى عليه الدم لأن كل ذلك تقوى معه الدعوى، ووجه قوله في غير العدل وفي جماعة النساء إن [شهاتهم] (*) لوث فلان الدعوى تقوى بها , ولأن الغالب من حال الجماعة الذين ظاهرهم الإسلام والحرية (2) أنهم لا يشهدون الزور في الدم. ووجه قوله إنها ليست بلوث أن شهادة النساء لا مدخل لها في إثبات الحقوق فلم يكن لوثا , وإنما قلنا لولاة الدم أن يستعينوا بغيرهم من العصبة فيخففوا عنهم فلأن كلهم (3) عصبه وأهل نصرة والأيمان لهم وكذلك للمدعى عليه أن يستعين بغيره من عصبته فيحلف معه إلا أن يدعي الدم على جماعة فلا يبرأ كل واحد منهم إلا بأن يحلف خمسين يمينا , ووجه قوله إن الأولياء إذا كانوا أكثر من خمسين حلف كل (4) واحد يمينا واحدًا لأن الأيمان حق على كل من كان له نصيب في الدم فوجب أن يحلف كل واحد أصله إذا كانوا خمسين رجلًا , ووجه قوله يحلف منهم خمسون فقط أم الخمسين يمينا حاصلة فلم يحتج إلى زيادة عليها أصله إذا كانوا خمسين أو أقل. وإنما قلنا إن نكول المستعان بهم لا يؤثر لأنه لا حق لهم في ولاية الدم ألا   (1) في ق: يجرى. (*) هكذا بالأصل , ولعل الصواب: "شهادتهم". (2) في م: الخير. (3) في م: كل واحد. (4) كل: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1348 ترى أن الدم يستحق مع عدمهم، وكل من لا حق له في ولاية الدم لم يتعلق سقوط الدم به، ووجه قوله إنه إذا نكل بعض ولاة الدم فلمن بقي (1) أن يحلفوا أو يستحقوا من الدية بقدر أنصبائهم فلأن بنكولهم لم يسقط حق غيرهم في قتل الخطأ. وإنما قلنا إن الواجب يكون دية لا دما لأن الدم لا يتبعض فإن سقط بعضه تعذر أخذ البعض وصار إلى الدية، ووجه قوله إنه ليس لمن بقى أن يحلف وترد اليمين على المدعى عليهم هو أن الحق لجماعتهم فليس بعضهم بإثباته بأولى من بعض وإذا ردت على المدعى عليه: فإن كان واحدا لزمه أن يحلف خمسين يمينا لقوله (أو تبريكم يهود بخمسين يمينًا) (2)، ولأنها أيمان تعلقت بإحدى جنبتي القسامة فكانت خمسين يمينا أصله في جنبة المدعين، ولو كان الدعوى على جماعة حلف كل واحد خمسين يمينا لأنه يريد إبراء نفسه من الدم فالبراءة من الدم (3) لا تكون بأقل من خمسين. ووجه قوله إن المدعى عليه إن نكل حبس حتى يحلف فلأن يمينه استظهار، ولأنه لم يتقدمه ما يستحق عليه به مع نكوله حكم وإن طال حبسه خلي (4) لأنه لم يتجه عليه حكم لأن ولاة الدم أضعفوا سببهم وأتمموا (5) دعواهم بنكولهم، ووجه قوله إن الدية تلزمه في ماله أن نكوله بمنزلة اعترافه والعاقلة لا تحمل اعترافًا فكانت الدية في ماله، ولأنه قد اتفق سببان موجبان للحكم وهما اللوث ونكول المدعى عليه فوجب أن يحكم عليه.   (1) في ق: فإن الباقين. (2) سبق تخريج الحديث 1345. (3) من الدم: سقطت من م. (4) في م: يخلي. (5) في ق ور: اتهموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1349 وإنما قلنا إنه إذا عفى بعضهم بعد الإيمان كان لمن يعف أنصباؤهم من الدية لأن القود بتعذر مع عفو من عفى، ولا يجوز أن يبطل الدم بعد استحقاقه في حق من لم يعف والقود إنما تعذر مع استحقاق بدل الدم فلم يبق إلا الدية، ووجه افتراق الولد والأخوة ومن بعد من العصبات إن قرب الولد والأخوة أمس ورحمهم آكد بدلالة أنهم يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ولهم من المزية ما ليس لغيرهم فلم يكن نكول غيرهم مؤثرًا في سقوط القود، ووجه التسوية بينهم اتفاقهم في ولاية الدم كالولد والأخوة. وإنما قلنا لا يقتل بالقسامة أكثر من واحد خلافًا للشافعي (1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته" (2)، ولأن القسامة أضعف من الإقرار والبينة، ولأن الردع يحصل بقتل واحد منهم. إذا ثبت أنه يقتل واحد فقط فلا دية على الباقين خلافًا لمن قال (3) بقسط تقسيط المقتول ويلزم الباقون بقسطهم (4) لأن الباقين لم يثبت عليهم الدم لا بقسامة ولا بغيرها فلا وجه لإلزامهم الدية. وإنما قلنا يضرب من عفى منهم (5) مائة ويحبس سنة لأنه قد روي قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وحبس سنة، ولأنه قد كان (6) يجوز أن يقتل بأن يقسم عليه فلما لم يقتل وجب تأديبه وكان معتبرًا بالزاني أن الزنا لما كان مع الإحصان يوجب القتل كان إذا عري من الإحصان يوجب ضرب مائة وحبس سنة.   (1) انظر الأم: 6/ 95 مختصر المزني: 251. (2) سبق تخريج الحديث 1345. (3) هذا ما قاله الخرقي من الحنابلة انظر (المغني: 8/ 89 - 90). (4) في ر: يسقط بقسطة عن المقتول ويلزم الباقون بقسطهم. (5) في م ور: من بقى. (6) كان سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1350 وإنما قلنا إن الدم إذا ادعى على جماعة أقسم (1) كل واحد لقوله "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" (2)، ولأنه إنما يقسم عليه ليقتل فإذا لم يقتل أكثر من واحد فلا فائدة في القسامة على أكثر منه. وإنما قلنا إن اتفاق ولاة الدم على القتل واختلافهم في صفته يوجب لهم القسامة (3) وأخذ الدية، لأن القتل يثبت بدعواهم له وأيمانهم، مع اللوث وأكثر ما في اختلافهم أنه يتعذر معه القود فيصير إلى الدية، فأما إذا ادعى بعضهم العمد ولم يدع الباقون قتلا فلا قسامة لأنها إنما تثبت (4) باتفاق الأولياء، دون اختلافهم، ووجه قول مالك أن من ادعى منهم الخطأ أقسم مع جحد الباقين لأن الواجب بقتل الخطأ مال وذلك لا يفتقر إلى اتفاق الأولياء، ووجه ما قاله (5) شيخنا اعتبارًا بالعمد، وإنما قلنا لا قسامة في عبد ولا أمة خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6)، لأنه مال والأموال لا يثبت إتلافها بالقسامة كالحيوان والعروض. وإنما قلنا لا قسامة في ذمي لنقصان حرمته عن المسلم والقسامة وضعت حراسة للدماء وحفظًا لها، ولأن بالعبد لما لم تكن فيه قسامة مع زيادة حرمته بالدين فالكافر (7) مع نقصه بالكفر أولى، وإنما قلنا لا قسامة في جراح لأن السنة جاءت بها في القتل (8)، ولأن حرمة الجراح أخفض من حرمة النفس ألا ترى أنه لا كفارة فيها (9).   (1) في ق: قسم. (2) سبق تخريج الحديث 1345. (3) في ق: القسامة. (4) في م: ثبتت. (5) في م: قول. (6) انظر: مختصر الطحاوي: 248، مختصر المزني: 251 - 252. (7) في م: فكالكافر. (8) في ق: في القتيل. (9) في ق: فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1351 وإنما قلنا إنه لا قسامة فيمن وجد قتيلًا في محلة قوم خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه لوث إذا كان به أثرًا اعتبارًا به إذا لم يكن به أثر (1). ووجه قولنا في القتيل بين الفئتين أنه يقسم معه أنه يغلب على الظن بحصوله مقتولًا بينهما أن قتله لم يخرج عنهما فكان ذلك لوثا يوجب القسامة لأوليائه، وهذا كله إذا كان القتال على غير تأويل دين فإن كان بخلاف ذلك فلا قسامة ولا دية ولا قود. ووجه قوله إنه لا قسامة فيه أن القسامة لا تكون إلا مع لوث في مشار إليه معين فإذا ثبت أنه لا قسامة فديته على الفئة التي نازعت إن كان من الأخرى، وعليهما إن كان من غيرهما لعلمنا بأن الطائفتين إنما نصبتا للحرب واقتتلتا وشهرتا السلاح قام كل فريق لا يقتل أصحابه، وإنما يطلب أعداءه وخصومه وقد علمنا أن قتله لم يخرج عنها فكانت ديته عليهما إذ ليس إحداهما بأولى من الأخرى. وإنما قلنا (2) يجلب إلى مكة والمدينة وبيت المقدس من أعمالهما في القسامة تعظيمًا لحرمة الدماء وليرتدع مدعو الدماء إن كانوا مبطلين في دعواهم تعظيمًا للكعبة، ولقبر النبي، ومنبره وإكبارا لحرمه هذه المواضيع أن يحلفوا الأيمان فيها على سفك الدماء الحرام، ولا يجلب إلى غيرها إلا من اليسير لأنه ليس لغيرها من الحرمة مثل مالها. وإنما قلنا إن جميع الورثة يقسمون في الخطأ أن عدد (3) الأيمان بقدر المواريث لأن الواجب بها ما يرثونه كسائر التركة فاحتاج كل من له حق ميراث إلى تبيينه، وإنما قلنا إن كسرها يجبر لأن اليمين لا تتبعض فوجب تكميلها وكان من عليه أكثرها أولى بذلك.   (1) انظر مختصر الطحاوي: 247، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 172. (2) قلنا: سقطت من م. (3) في ق: أو أن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1352 وإنما قلنا إن قوله قتلني فلان خطأ لوث اعتبارًا بقوله قتلني عمدًا (1)، ووجه التفريق بينهما أن حرمة الدم أغلظ من حرمة المال، وفي الخطأ يتهم أن يريد نفع ولده بإيصال المال إليهم وهو أمر يمكن تلافيه والدم لا يمكن تلافيه، والأول (2) أقيس وهو قول ابن القاسم وأشهب. ...   (1) في ق: هذا. (2) في م: والأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1353 باب [في كون الدية موروثة] والدية موروثة كسائر التركة كانت عن خطأ أو عمد تغليظ (1)؛ لأنها مال للمقتول إذ هي بدل عن نفسه ألا ترى أنه يقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه، وروى الضحاك (2) بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يُورِّث امرأة أشيم الضبابي (3) من تركة زوجها (4). فصل [1 - هل يرث القاتل؟]: ولا يرث قاتل العمد ولا يحجب، وقاتل الخطأ يرث من المال ولا يحجب في الدية (5)، وهذا يرد في المواريث. فصل [2 - وجوب الكفارة في قتل الخطأ]: والكفارة في قتل الخطأ واجبة (6) ولقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً   (1) انظر الموطأ: 2/ 866، التفريع: 2/ 209، الرسالة: 239، الكافي: 597. (2) الضحاك بن سفيان: بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب الكلابي، أبو سعيد، صحابي معروف كان من عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقات (تقريب التهذيب 279). (3) أشيم الضبابي: بوزن أحمد الضبابي -بكسر المعجمة بعدها موحدة وبعد الألف أخرى قتل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (الإصابة في تمييز الصحابة: 1/ 67). (4) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 866، وأبو داود في الفرائض باب في المرأة ترث من دية زوجها: 2/ 117 وابن ماجة في الديات باب الميراث من الدية: 2/ 883، والترمذي في الفرائض باب ما جاء في ميراث المرأة من دية زوجها: 4/ 371 وقال هذا حديث حسن صحيح. (5) انظر الموطأ: 2/ 867، التفريع: 2/ 218، الرسالة: 239، الكافي: 597. (6) انظر التفريع: 2/ 218، الرسالة: 240، الكافي: 595. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1354 فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (1)، (ولا خلاف فيه (2)، ولا تجب الكفارة في قتل عمد خلافًا للشافعي (3)، لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (4) (5) فدل أن العمد بخلافه، ولأنه معنى موجب للفعل فلم يجب على قاتله كفارة كالزنا مع الإحصان، ولأن الكفارة لتغطية الذنب والمأثم، وقتل المؤمن عمدا أعظم من أن يكفره. فصل [3 - سقوط الكفارة في قتل العبد]: ولا كفارة في قتل عبد (6) خلافًا للشافعى (7) لأنه مال مقوم فلم تجب بإتلافه كفارة كالبهائم. فصل [4 - سقوط الكفارة في قتل الكافر]: لا كفارة في قتل كافر خلافا لمن أوجبها (8) لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (9) فدل علي أن الكافر بخلافه، ولأن الكفارة في قتل المؤمن لحرمته وتحريم دمه وذلك غير موجود في الكافر، ولأنها لم تجب بقتل العمد وهو مؤمن فكانت بأن لا تجب في قتل الكافر أولى، واعتبارًا بالحربي والوثني والمرتد.   (1) سورة النساء، الآية: 92. (2) انظر بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 487، نيل الأوطار: 7/ 57. (3) انظر مختصر المزني: 254، الإقناع: 168. (4) سورة النساء، الآية: 92. (5) ما بين القوسين سقط من م. (6) انظر التفريع: 2/ 218، الكافي: 595. (7) انظر مختصر المزني: 254، الإقناع: 168، المهذب: 2/ 218. (8) أوجبها أكثر أهل العلم (انظر المغني: 8/ 93). (9) سورة النساء، الآية: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1355 فصل [5 - في وجوب الكفارة على كل فرد من جماعة قتلت رجلًا مؤمنا]: وإذا قتل جماعة رجلًا مؤمنا فعلى كل واحد كفارة (1) خلافا لمن قال كفارة واحدة (2)، لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} (3) فعم الاشتراك والانفراد ولأنه قاتل خطأ فأشبه المنفرد. فصل [6 - في ماهية الكفارة]: والكفارة: إعتاق رقبة، وصيام، ولا إطعام فيها وشرط الاعتاق أن تكون رقبة ليس فيها شرك ولا عقد (4) من عقود العتق (5)، وقد بينا ذلك في الأيمان والظهار وكذلك في الصوم. ...   (1) انظر التفريع: 3/ 218، الكافي: 595. (2) حكاه أبو الخطاب عن أحمد وهو قول أبي ثور وحكي عن الأوزاعي وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وأنكره سائر أصحابها (المغني: 8/ 95). (3) سورة النساء، الآية: 92. (4) في م: عفو. (5) انظر التفريع: 3/ 218، الرسالة: 340، الكافي: 595. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1356 باب [في دية الجنين] وفي جنين المرأة الحرة غرة (1) عبد أو أمة (2) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بذلك في الجنين (3) إذا قتل في بطن أمه، تكون قيمتها خمسون دينارًا أو ستمائة درهم ليكون بقدر عشر دية أمه كما يعتبر جنين الأمة بعشر قيمتها، ولا خلاف في ذلك إلا أن أبا حنيفة في قول قيمتها (4) خمس مائة درهم (5) لأن عنده أن دية الأم خمسة آلاف، وحكي عن قوم أنهم قالوا لا شيء في الجنين (6)، وهذا غلط لما رويناه من أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة، وفي حديث أبي هريرة في المرأتين لما ضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على عصبة القاتلة وقضى في الجنين بغرة فقال المقضي أرأيت من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل أليس مثل ذلك يبطل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسجع كسجع الجاهلية" (7) وقضى فيه بغرة (8).   (1) غرة عبد: يعني العبد نفسه فعبر عنه بالغرة والغرة البياض (غرر المقالة 239). (2) انظر المدونة: 4/ 481، التفريع: 2/ 218، الرسالة: 239، الكافي: 605. (3) أخرجه البخاري في الديات باب جنين المرأة: 8/ 46، ومسلم في القسامة باب دية الجنين: 3/ 1309. (4) في م: يكون قيمته. (5) انظر مختصر الطحاوي: 243 - 244، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 170. (6) بل قول عامة أهل العلم أن فيه الدية كاملة قاله ابن المنذر (انظر المغني: 7/ 811). (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) انظر المدونة: 4/ 482، الرسالة: 239، الكافي: 605. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1357 فصل [1 - وراثة دية الجنين]: ودية الجنين موروثة على حسب المواريث، خلافًا لما يحكى الليث بن سعد (1) إن كان قاله أنها للأم وحدها، لأنها دية نفس آدمي مقتولة فكانت لجميع ورثتها أصله إذا انفصل حيا (2). فصل [2 - وجوب الغرة في جنين الأمة من سيدها الحر]: وفي جنين الأمة من سيدها الحر (3) مثل ما في جنين الحرة (4) لأنه حر من حين (5) خلق كجنين الحرة، وفي جنين الأمة من غير سيدها عشر قيمتها كما في جنين الحرة عشر ديتها. فصل [3 - في دية جنين الكتابية]: وفي جنين الكتابية من المسلم مثل ما في جنين الحرة المسلمة (6)، لأن حكمه حكم أبيه في الدين فكان فيه نصف (7) عشر دية أبيه على ما بيناه. فصل [4 - في دية جنين الكتابية من زوجها الكافر]: وفي جنين الكتابية من زوجها الكافر عشر ديتها، كذلك المجوسية اعتبارا بسائر دياتهم (8).   (1) انظر المغني: 7/ 805، والليث بن سعد بن عبد الرحمن عالم الديار المصرية أبو الحارث الفهمي مولى خالد بن ثابت بن ظعن سمع عطاء ونافع ابن شهاب الزهري وروى عنه خلق كثير منهم ابن لهيعة وابن وهب ويحيى بن يحيى الليثي ت 175 هـ (شذرات الذهب: 1/ 285، سير أعلام النبلاء: 8/ 136). (2) سقط هذا الفصل كاملًا من م. (3) الحر:. سقطت من ق. (4) انظر المدونة: 4/ 482، التفريع: 2/ 219، الرسالة: 240، الكافي: 605. (5) في م: خير وفي ق: حر. (6) انظر المراجع التي سبق ذكرها. (7) نصف: سقطت من. (8) انظر المدونة: 4/ 483، التفريع: 2/ 219، الكافي: 605. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1358 فصل [5 - إذا استهل الجنين صارخًا]: إذا استهل صارخًا ففيه الدية بكمالها، وتحملها العاقلة لأن حياته قد ثبتت فقاتله قاتل خطأ، فإن ضرب عمدًا ففيه القود بالقسامة (1) ومن قتل جنينين ففيهما غرتان، ولو ماتت الأم ثم خرج الجنين بعد موتها ميتا فلا شيء فيه (2) خلافًا للشافعي في إيجابه الغرة فيه (3)، ولأن تلفه قبل الانفصال كتلف بعض من أبعاضها فيكون تابعًا لا حكم له. فصل [6 - إذا طرحت الأمة جنينها فاستهل صارخًا]: وإذا طرحت الأمة جنينها فاستهل صارخًا ثم مات ففيه قيمته (4) لأنه عبد كالكبير، وإن لم يستهل صارخًا ثم مات (5) ففيه عشر قيمة أمة اعتبارًا بجنين الحرة أنه يكون معتبرًا بأمه. ...   (1) في ق: بالقسيمة وهو غلط. (2) انظر المدونة: 4/ 481، التفريع: 2/ 219، الكافي: 605. (3) انظر الأم: 6/ 108، مختصر المزني: 249 - 250، الإقناع: 166. (4) انظر المدونة: 482، التفريع: 2/ 219، الكافي: 605. (5) ثم مات: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1359 باب [في الردة] يحبط عمل المرتد (1) بنفس الردة (2) من غير اعتبار بموته قبل التوبة أو بعدها، وفائدة ذلك أنه إذا عاد إلى الإسلام لم يلزمه قضاء الصلوات التي تركها في ردته وكان عليه استئناف الحج ويكون حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم (3). فصل [1 - في دليل سقوط ما ترك من الصلاة في ردته]: فأما سقوط قضاء (4) ما ترك من الصلاة في ردته خلافًا للشافعى (5)، فلقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (6) فعم، ولأنها صلاة متروكة في حال كفره كالكافر الأصلي، أما استئناف الحج خلافًا للشافعي (7)، فلقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (8) فأخبر أن الارتداد يحبط العمل فإذا انحبط لزمه إعادة الحج، ولأنه أسلم عن كفر فلزمه الحج، ولأنه أسلم كالكافر الأولى إذا أسلم (9).   (1) الردة: في اللغة رجح الشيء، وفي الاصطلاح: الردة كفر بعد إسلام تقرر (انظر معجم مقاييس اللغة: 2/ 386، الرصاع على ابن عرفة: (490). (2) في م: ارتداده. (3) انظر التفريع: 2/ 231، الرسالة: 240، الكافي: 584، المقدمات: 3/ 237. (4) قضاء: سقطت من م. (5) انظر المهذب: 2/ 223. (6) سورة الأنفال الآية 38. (7) انظر المهذب: 2/ 223. (8) سورة الزمر الآية: 65. (9) إذا أسلم: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1360 فصل [2 - في حرابة المرتدين]: إذا اجتمع المرتدون ونصبوا راية الحرب وقاتلوا المسلمين وأتلفوا أموالًا ثم تابوا لم يؤخذوا بشيء من ذلك (1) خلافًا لأحد قولي الشافعي (2)، لأن أبا بكر الصديق والصحابة لم يضمنوا من رجع من أهل (3) الردة، ولأنها فئة ممتنعة اتلفت على وجه التدين فلم يلزمها ضمان كأهل الحرب. يستتاب المرتد ثلاث فإن تاب قبلت توبته وإن أبى قتل وكان ماله فيئا للمسلمين (4) ولا يرثه ورثته المسلمون ولا أهل الدين الذي ارتد إليه، وسواء ما ملك قبل ردته أو ما كسبه حال ردته، وإنما قلنا يستتاب ثلاث لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بلغه أن رجلًا ارتد فقتل قبل أن يستتاب فأنكر (5) ذلك وقال: هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتوه كل يوم رغيفًا فإن تاب وإلا قتلتموه، اللهم لم أمر ولم أرض إذ بلغني (6)، ولا مخالف له، ولأنه لا يجوز أن يكون عرضت له شبهة فإذا روجع وذكَّرناه (7) الإسلام زال عنه، ولأن من قبلت توبته عرضت عليه كسائر الكفار. وإنما قلنا أن توبته تقبل، خلافًا لمن حكى عنه أنها لا تقبل (8)، لقوله   (1) انظر التفريع: 2/ 232، الرسالة: 240 - 241، الكافي: 582، المقدمات: 3/ 221. (2) انظر مختصر المزني: 259، 267، الإقناع: 174. (3) أهل: سقطت من م. (4) في م ور: جماعة المسلمين. (5) في ق: فما أنكر. (6) أخرجه البيهقي: 8/ 207. (7) وذكرناه: سقطت من م. (8) هو أحد قولي الإمام أحمد (المغني: 8/ 126). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1361 تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (1)، وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا لله فهذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" (3)، ولأنها توبة عن كفر يظهر كالكافر الأصلي، وإنما قلنا إنه إذا لم يتب قتل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" (4)، ولا خلاف في ذلك (5). وإنما قلنا إن المرتدة تقتل خلافًا لأبي حنيفة (6)، لعموم الخبر لأن كل من جاز أن يقتل بالقتل جاز أن (7) يقتل بالردة كالرجل، ولأنه سبب يقتل به الرجل فجاز أن تقتل به المرأة كالقتل وإنما قلنا إنه لا يورث وأن ماله فيء خلافًا لمن قال إنه يورث (8)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (9) ولأنه ممن لا يرث بحال فلم يورث كالعبد، ولأنه مات كافرا فلم يرثه مسلم كالكافر الأصلي، وإنما لم نفصل ما بين ما ملكه قبل ردته أو في حالها   (1) سورة الشورى، الآية: 25. (2) سورة الأنفال، الآية: 38. (3) سبق تخريج الحديث. (4) أخرجه البخاري في الجهاد باب لا يعذب بعذاب الله: 4/ 21. (5) انظر الإجماع: 153، المغني: 8/ 126، شرح مسلم -للنووي-: 8/ 13، فتح الباري: 12/ 170. (6) انظر مختصر الطحاوي: 259، مختصر القدورى- مع شرح الميداني: 4/ 149. (7) في م: قتل. (8) قاله الأوزاعي وهو أحد قولي الإمام أحمد وروي عن أبي بكر وابن مسعود رضي الله عنهما (المغنى: 6/ 300). (9) أخرجه البخاري في الفرائض باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم: 8/ 11، ومسلم في الفرائض: 3/ 1233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1362 لأبي حنيفة في قوله أن يورث عنه ما كان له قبل الردة دون ما كسبه فيها (1)، لأن الخبر عام، ولأنه مال مات عنه فأشبه ما كسبه حال ردته. فصل [3 - في عدم قبول توبة الزنديق]: لا تقبل توبة الزنديق (2): وهو الذي يسر الكفر ويظهر الإِسلام خلافًا للشافعي (3)، لأنا لا نصل إلى العلم بتوبته (4) لأنه لم يكن له ظاهر يرجع عنه فيستدل منه على تركه له، ولأن التوبة من المعصية المستتر بها لا تسقط الحد (5) الواجب فيها كالزنا والسرقة. وإذا انتقل الكافر من ملة إلى ملة أخرى من الكفر لم يتعرض له (6) خلافًا للشافعى في قوله أنه يقتل إذا لم يسلم (7)، لأن الدين الذي انتقل إليه مما يجوز الإقرار عليه فجاز أن يقر عليه الانتقال كما لو كان ابتداء، ولأنه لو كان يعقوبيًّا (8) فصار نسطوريًّا (9) لم يترض له لأنه انتقال من كفر إلى كفر فكذلك إذا انتقل من النصرانية إلى اليهودية.   (1) انظر مختصر الطحاوي: 260، مختصر القدورى مع شرح الميداني: 4/ 150. (2) انظر التفريع: 2/ 231، الرسالة: 240، الكافي: 585. (3) انظر الأم: 6/ 165، مختصر المزني: 259. (4) في م: بثبوته. (5) الحد: سقطت من ق. (6) انظر التفريع: 2/ 231، الكافي: 586. (7) انظر الأم: 6/ 156 - 157، الإقناع: 174. (8) يعقوبيًّا: أي ينتمي إلى اليعاقبة وهم فرقة من النصارى أبناء يعقوب بن عالى الراذعي يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت ويعرفون بأصحاب الطبيعة الموحدة (الملل والنحل: 1/ 541). (9) نسطوريا: أصحاب نسطور الحكيم، ظهر في زمن المأمون، يقول إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة (الملل والنحل: 1/ 535). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1363 باب [في حد السحر] : والسحر له حقيقة خلافًا لمن نفاه (1)، لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (2) فجعلهم كفرة، فثبت أن له حقيقة فإذا فعل السحر بنفسه لم يستتب فإن قال قد تبت لم تقبل توبته (3) خلافًا للشافعي (4)، لأنه مستتر به فلا تقبل التوبة منه كالزنديق (5)، ولأن علمه به وفعله له كفر عندنا بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (6) أي لا تتعلم السحر، ولأن الآلام الواصلة إلى الحيوان التي تضر بهم وتقتلهم (7) من فعل الله تعالى وهو المنفرد بالقدرة عليها واعتقاد الإنسان أن ذلك فعله وأنه قادر عليه كفر. وأما إذا (8) دفع شيئًا إلى من عمل له السحر فلا يقتل لأنه ليس بساحر بهذا الفعل وهو كمن دفع مالا إلى رجل ليقتل له إنسانًا فلا يقتل الدافع للمال ولا يكون قاتلًا بذلك. ...   (1) ذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا حقيقة له، وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان يصل إلى بدن المسحور كدخان ونحوه جاز أن يحصل منه ذلك فأما أن يحصل المرض والموت من غير أن يصل إلى بدنه شيء فلا يجوز (انظر فتح القدير: 4/ 408 والمهذب: 2/ 224، المغنى: 8/ 150). (2) سورة البقرة، الآية: 102. (3) انظر التفريع: 2/ 232، الرسالة: 240، الكافي: 585. (4) انظر مختصر المزني: 260. (5) في م: كالزندقة. (6) سورة البقرة، الآية: 102. (7) في م: تقيلهم. (8) في م: من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1364 باب [في الغسل والصلاة على المقتول من الفئة الباغية] والمقتول من الفئة الباغية يغسل ويصلى عليه (1) خلافًا لأبي حنيفة (2)، لأن بغيه لا يخرجه عن أحكام الملة كالعدل، ولا يتبعون فيما استهلكوا من مال ولا دم إذا كان القتال على تأويل دين لإجماع الصحابة على ذلك في قتال (3) يوم الجمل وصفين (4) وهما من وقائع الإِسلام، ولأنهما فئة امتنعت وأتلفت بتأويل فلم يلزمها ضمان كأهل الحرب إذا أتلفوا مالا على المسلمين. ...   (1) انظر التفريع: 2/ 267. (2) انظر مختصر الطحاوي: 258. (3) في م: قتل. (4) انظر السنن الكبرى- للبيهقي: 8/ 179، ومصنف ابن أبي شيبة: 15/ 287، 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1365 باب [الحرابة] المحارب هو: القاطع للطريق المخيف للسبيل الشاهر للسلاح الطالب للمال فإن أعطي وإلا قاتل عليه كان في العصر أو خارج العصر، فهذا إذا ظهر عليه قبل توبته أقيم عليه حد الحرابة: وهو القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو النفي أو الحبس، وذلك موكول إلى اجتهاد الحاكم على ما يراه كافيًا في ردعه وزجره، فإن كان ذا قوة وبطش ورأى وتدبير ويجتمع (1) إليه ويتحيز إلى جهته فهذا حدهُ القتل، (وإن كان ذا قوة وبطش فقد: قطع من خلاف، وإن كان الذي ليس فيه ذلك وإنما فعله مره ولعله أن يتوب فهذا يضرب على ما يراه الإمام وينفي فيحبس بغير بلده) (2) إلى أن تظهر توبته، ويجوز قتل المحارب وإن لم يكن قتل، وإذا جاء تائبًا قبل القدرة عليه سقط عنه حد الحرابة وآخذ بحقوق الناس قبله (3) من قتل وقطع وأخذ مال. ويقتل في الحرابة المسلم بالكافر والحر بالعبد، ولا يجوز فيه لولي الدم عفو، وحكم اللص وحكم المحارب، وللرجل أن يمانع عن نفسه وماله فإن قتل فشهيد وإن آل إلى قتل اللص فهدر لا شيء فيه (4). فصل [1 - في العمل في المحارب]: قد بينا أن حكم المحارب على التخيير، وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام، وقال   (1) في ق: يجمع. (2) ما بين القوسين سقط من م. (3) قبله: سقطت من ق. (4) في جملة أحكام الحرابة هذه انظر: المدونة: 4/ 428، التفريع: 2/ 232، الرسالة: 240 - 241، الكافي: 582 - 584، المقدمات: 3/ 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1366 أبو حنيفة والشافعي هي على الترتيب (1) فلا يقتل من لم يقتل ولا يصلب ولا يقطع فإن قتل ولم يأخذ مالا قتل فقط ولم يقطع ولم يصلب، وإن أخذ مالًا (2) ولم يقتل قطع، وإن قتل وأخذ المال قال أبو حنيفة: الإمام مخير إن شاء جمع القطع والقتل وإن شاء جمع القطع والصلب (ثم قتل بعد الصلب، وإن شاء جمع بين القتل والصلب (3)) (4)، وقال الشافعي يقتلهم خنقًا ويصلبهم (5)، فدليلنا على أن له أن يقتله، وإن لم يكن قتل قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (6) الآية، ولم يشترط أن يكونوا قتلوا، ولأنه خير بين هذه الحدود فدل على سقوط الترتيب، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أشهر سيفه ثم وضعه وجب (7) دمه" (8) وإنما قلنا إذا جاء تائبًا قبل القدرة عليه يسقط عنه حد الحرابة لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) فأخبر بأن التوبة قبل القدرة تسقط حد الحرابة لأنه استثناه ممن أخبر بأن جزاءه القتل وغيره. وإنما قلنا إن حقوق الناس قبله لا تسقط لأن التوبة لا تأثير لها في حقوق   (1) انظر مختصر الطحاوي: 275، مختصر المزني: 265. (2) في م: المال. (3) انظر مختصر الطحاوي: 276، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 212. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) انظر الأم: 6/ 151 - 152، مختصر المزني: 265، الإقناع: 173، وفي ر: يقتلهم جميعًا. (6) سورة المائدة، الآية: 33. (7) في م: فقد وجب. (8) بلفظ قريب منه أخرجه النسائي في تحريم الدم باب من شهر سيفه ثم وضعه: 7/ 108، والحاكم: 2/ 152، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (9) سورة المائدة، الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1367 الآدميين، ألا ترى أن من غصب رجلا شيئًا وأتلفه ثم تاب فإن بدله واجب عليه كذلك القتل والجراح (1) وغيره، ولأن التوبة من هذه الأشياء إذا انفردت عن الحرابة لا تسقط حقوق الناس (2) المتعلقة بها فكذلك إذا انضمت إليها. وإنما قلنا يقتل فيها المسلم بالكافر والحر بالعبد لأن ذلك ليس بقتل قصاص فيمتنع ويراعى فيه تكافؤ الدماء وإنما هو لحق الله ولذلك قلنا إنه لا عفو لولي الدم لأن قتله ليس لأجل البدل عن قتل وليه يدل عليه إذا سقط عنه القتل لحق الله وصار حينئذ قتل قصاص فثبت للولي حق العفو، وإنما قلنا أن حكم اللص حكم المحارب لأنه طالب للمال آخذ للنفوس غلبة فكان نوعًا من المحاربة، وإنما قلنا إن للإنسان دفعه عن ماله ومنعه وأنه لا شيء في قتله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل دون ماله فهو شهيد" (3)، فلولا أن قتله (4) بحق وإلا لم يكن شهيدًا بالقتل، وروي أن امرأة خرجت تحتطب فتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بحجر فقتلته فوقع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: قتيل الله والله لا يودى أبدًا فأهدر عمر رضي الله عنه (5) دمه (6) ولأنه إذا قصد غيره ظلما (7) طلبا لقتله أو ماله فالمقصود مضطر إلى دفعه عن نفسه فكان اللص معاونا فوجب أن يهدر دمه. ****   (1) في ق: والجروح. (2) في م: الآدميين. (3) أخرجه البخاري في المظالم باب من قاتل دون ماله: 3/ 108، ومسلم في الأيمان باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره: 1/ 125. (4) في م: قتاله. (5) رضي الله عنه: سقطت من م. (6) أخرجه عبد الرزاق: 9/ 435، البيهقي: 8/ 337. (7) ظلمًا: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1368 باب [في دفع الصائل من البهائم] وإذا صال الفحل (1) أو غيره من البهائم على الإنسان وخافه على نفسه فله دفعه عن نفسه: فإن أدى ذلك (2) إلى قتله فلا ضمان عليه (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه يضمنه (4) لأنه قتله بدفع مباح فلم يضمنه كالآدمي، ولأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة البهيمة (5)، فإذا لم يضمن في الآدمي ففي البهيمة أولى، وهذا إذا قامت له بينة بما يدعيه فأما إن لم يعلم إلا بقوله فإنه يضمن لأنه مقر بإتلاف مال غيره ومدع الإباحة وسقوط الضمان فلا يقبل قوله بدعواه. فصل [1 - إذا نزع المعضوض يده من فم العاض فذهبت أسنانه]: ومن عض أصبع رجل فنزع المعضوض يده من فم العاض فذهبت أسنانه فعلى الجابذ ضمانه، وقال يحيى بن عمر (6) من أصحابنا لا ضمان عليه (7) وقاله أبو حنيفة والشافعي (8)، فوجه قول مالك أن العاض لم يقصد النفس وإنما قصد العض نفسه والذي يستحق بإتلاف ذلك العض غير ما فعل به فوجب أن يكون   (1) الفحل: هو الذكر من الحيوان (المصباح المنير: 463). (2) ذلك: سقطت من م. (3) انظر التفريع: 2/ 233، الكافي: 584. (4) انظر شرح فتح القدير: 2/ 270، حاشية ابن عابدين: 5/ 351. (5) في م: البهائم. (6) يحيى بن عمر: ابن يوسف أبو زكريا الأندلسي الفقيه شيخ المالكية سمع بن سحنون وأبي زكريا الحفري وأخذ عنه أحمد بن خالد الحافظ وجماعة وأهل القيروان، مات: 289 هـ (سير أعلام النبلاء: 3/ 462). (7) انظر الكافي: 607. (8) انظر الأم: 6/ 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1369 كل واحد ضامنا ما جنى على الآخر كمن قلع عين الرجل فقطع الآخر يده فإنهما ضامنان ووجه قول يحيى بن عمر أنه دفعه بدفع مباح فلم يضمن ما كان عليه أصله إذا أراد النفس (1). فصل [2 - فيما يجنيه الطبيب مما لم يقصده]: وما أتى على يد الطبيب مما لم يقصده فيه روايتان (2): إحداهما أنه يضمنه، والأخرى أنه لا يضمنه فإذا قلنا إنه يضمن فلأنه قاتل خطأ فوجب أن يضمن كغير الطبيب، وإذا قلنا إنه لا يضمن فلأنه يولد عن فعل مباح مأذون له فيه كالإمام إذا حد إنسانًا فمات. فصل [3 - من حفر بئرًا في موضع ليس له أن يحفر فيه فعطب فيه إنسان]: من حفر بئرًا في موضع ليس له أن يحفره فيه فعطب فيه إنسان فهون ضامن لأنه قاتل خطأ متعد بحفره في ذلك الموضع، ولو كان في موضع له حفره لم يلزمه ضمان، وكذلك ممسك الكلب العقور عليه ضمان ما تلف به من نفس أو مال، وكذلك صاحب الحائط المستهدم إذا أشهد عليه أو بلغ من الخوف على الناس من وقوعه إلى حيث يعلم ذلك من حاله، ونكت جميع هذه المسائل تعديهم بتبقية جميع هذه الأشياء على الوجه الذي يتعدى أذاه إلى الغير وفعلهم من ذلك ما ليس لهم فعله فلزمهم ضمان ما يحدث عنه (3). فصل [4 - ما أفسدته المواشي نهارًا]: ولأهل المواشى إرسالها نهارًا المرعى، ويلزم أرباب الزرع والحوائط حفظها نهارًا فما أفسدته فلا شيء على أربابها لأنه مأذون لهم في إرسالها لضرورتها إلى الرعي فالتفريط من قبل أرباب الحوائط بإهمالها وترك حفظها مع علمهم يكون   (1) في م: نفسه. (2) انظر الكافي: 594. (3) انظر المدونة: 4/ 505، 510. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1370 المواشى مرسلة ولا بد أن تعيث (1) وتفسد وأما ما أفسدته ليلا فعلى أربابها ضمانه لأن عليهم حفظها ليلا ومنع إرسالها (2) وقال أبو حنيفة إن كان صاحبها معها فعليه الضمان وإن لم يكن معها فلا ضمان عليه (3) فاعتبر في الضمان كون صاحبها معها ولم يعتبر الليل ولا النهار (4) ودليلنا حديث البراء أن ناقته دخلت حائطا فأفسدته فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى أن على أهل الأموال حفظها نهارًا وعلى أرباب المواشى حفظها ليلًا (5)، ففرق بين الليل والنهار فسقط قول من لا يعتبرها، وقد فرقنا بينهما بما ذكرناه، وبالله التوفيق. ...   (1) في م: تعبث. (2) انظر: التفريع: 2/ 282، الكافي ص 606. (3) عليه: سقطت من م. (4) انظر: فتح القدير: 8/ 269، 351. (5) أخرجه أبو داود في البيوع باب المواشي تفسد زروع قوم: 3/ 829، وابن ماجه في الأحكام باب الحكم فيما أفسدته المواشي: 2/ 781، وصححه ابن حبان والحاكم: 2/ 48 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1371 كتاب الحدود (1): في الزنا (2) حد الزنا حدان: رجم وجلد، والزناة نوعان: ثيب وهو المحصن، وبكر وهو الذي ليس بمحصن، فالرجم للمحصن والجلد للبكر، فإذا كان الزاني محصنا رجم بالحجارة حتى يموت ولا يجلد مع الرجم رجلا كان أو امرأة، وشروط الحصانة ثمانية: وهي البلوغ، والعقل، والإِسلام، والحرية، والتزويج وصحة العقد، والوطء فيه، وأن يكون على وجه سائغ غير محظور فمتى انخرم بعض هذه الشروط لم يكن الواطىء أو الموطوءة (3) محصنا ولم يرجم، وليس من شرط إحصان الزاني أن يكون المزني بها محصنة ولا من شرط إحصان الزانية أن يزنى بها محصن فالصبية المطيعة تحصن البالغ وإن لم يحصنها، والمجنونة تحصن واطئها العاقل وإن لم يحصنها، وكذلك الكتابية يتزوجها المسلم والأمة يتزوجها الحر يحصنانها وإن لم تحصنانهما. والصبي الذي يطيق الوطء لا يحصن البالغة بخلاف الصبية المطيقة للوطء، والمجنون إذا زوج من عاقلة ووطئها أحصنها، وكذلك العبد يتزوج (4) الحرة، والنكاح الفاسد لا يحصن وإن وطيء فيه على الوجه المباح (5)، والوطء على   (1) الحدود: في اللغة المنع وطرف الشيء والحاجز بين الشيئين (معجم مقاييس اللغة: 2/ 3)، وفي الاصطلاح ما وضع لمنع الجاني من عودة لمثل فعله وزجر غيره (الفواكه الدواني: 2/ 193). (2) الزنا: هو مغيب حشفة آدمي في فرج آخر دون شبهة حله عمدا (حدود ابن عرفة: 492). (3) أو الموطوءة: سقطت من ق. (4) في ق: يزوج. (5) في ق: المبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1373 الوجه المحظور كالوطء في الحيض أو في الإحرام أو الصوم والإعتكاف أو ما أشبه ذلك لا يحصن وإن كان العقد صحيحا، ونكاح الشرك لا يحصن وإن وطيء فيهه إلا أن يطأها بعد الإِسلام، وكذلك باقي فروع هذا الباب التي تضمنها عقده على ما وصفناه، وأما أم الولد إذا زنت بعد عتقها بوفاة سيدها لم ترجم. فإذا اختلف الزوجان في الوطء فأقر أحدهما وأنكره الآخر فالمنكر غير محصن، وروى ابن عبد الحكم أن المنكر لا يكون محصنا حتى يقرا جميعا، وقال القاسم المقر محصن والمنكر غير محصن، ويقع الإحصان بالإيلاج وإن لم ينزل (1). فصل [1 - دليل حد المحصن]: وإنما قلنا إن حد المحصن الرجم لقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (2) فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (3)، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واغدوا يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت (5) فارجمها" (6) وما روي   (1) في جملة أحكام فروع هذا الباب انظر: الموطأ: 2/ 819، التفريع: 2/ 221، الرسالة: 241، الكافي: 571، المقدمات: 3/ 239. (2) سورة النساء، الآية: 15. (3) ما بين قوسين سقط من ق ومن ر. (4) أخرجه مسلم في الحدود باب حد الزنا: 1316. (5) في م: فإن أقرت. (6) أخرجه البخاري في الحدود باب الاعتراف بالزنا: 8/ 24، ومسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا: 3/ 1324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1374 من رجمه - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا (1) والغامدية (2)، وفي حديث عمر رضي الله عنه: لولا أن يقال عمر زاد في كتاب الله لكتبت (الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة) (3)، وروى الرجم عن عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم قولا وفعلا (4)، ولا خلاف فيه (5)، ولا يتلفت إلى ما يحكى عن الخوارج من نفيه. فصل [2 - في عدم الجمع بين الجلد والرجم]: وإنما قلنا لا يجلد مع الرجم خلافًا لداود (6)، لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما إن ابني كان عسيفا على هذا فزنا بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فاقتديته بمائة شاة وبجارية ثم سألت فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال - صلى الله عليه وسلم - "أما غنمك وجاريتك فرد عليك، وجلد ابنه مائة وغربه عاما، وأمر أنيسا أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت (7) رجمها فاعترفت فرجمها (8)، وفي طريق آخر "فاغدوا يا أنيس   (1) أخرجه البخاري في الحدود باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت: 8/ 23، ومسلم في الحدود باب رجم الثيب في الزنا: 3/ 1320. (2) أخرجه مسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا: 3/ 1323. (3) الموطأ: 2/ 834. (4) الموطأ: 2/ 824 - 825. (5) انظر الإجماع: 141، شرح مسلم -للنووي-: 7/ 209، المغني: 8/ 107 فتح الباري: 12/ 98. (6) انظر المحلي: 13/ 197. (7) في م: فإن أقرت. (8) أخرجه البخاري في الحدود باب الإمام يأمر رجلا فيضرب الحد غائبا: 8/ 34، ومسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا: 3/ 1324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1375 هذا فإن اعترفت فارجمها" (1) ففيه دليلان: أحدهما أنه أمره أن يرجمها ولم يأمره بالجلد، وقد علم أنه إنما أنفذه ليقيم الحد لا لغير ذلك. والثاني أنه فرق بينه وبينها فقال: (وعلى ابنك جلد مائة واغدوا يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) فدل أن الجلد في خبره دونها (2)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا ولم يجلده وكذلك الغامدية (3)، ولأنه معنى يوجب القتل لحق الله تعالى ولم يوجب الجلد مع القتل كالردة. فصل [3 - اشتراط العقل في الإحصان]: وإنما قلنا إن العقل من شروط الإحصان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة فذكر المجنون حتى يفيق" (4)، ولأن الحد عقوبة على معصية وكل ذلك تكليف والعقل شرط في ثبوته، ولا خلاف فيه (5). فصل [4 - اشتراط البلوغ في الإحصان]: وإنما شرطنا البلوغ للخبر (6)، ولأن من دون البلوغ (7) لا يكلف بدليل أنه لا حد في قذفه ولا يلزمه قصاص بقتله. فصل [5 - اشتراط الإِسلام في الإحصان]: وإنما شرطنا الإسلام خلافًا للشافعي (8)، لأن الإحصان حكم شرعي جعل   (1) سبق تخريج الحديث. (2) في م: دونه. (3) سبق تخريج هذه الأحاديث 1375. (4) سبق تخريج هذه الحديث ص 265. (5) انظر المحلى: 13/ 185، المغني: 8/ 162، فتح الباري: 12/ 98، نيل الأوطار: 7/ 93. (6) وهو "رفع القلم عن ثلاثة". (7) في ق: البالغ. (8) انظر الإقناع: 168، المهذب: 2/ 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1376 للفضيلة في الإِسلام منتف مع الكفر، ولأن هذه (1) الحدود يعتبر فيها الفضيلة فحد المحصن الرجم بفضيلته على البكر، وحد الحر مائة لفضيلته على العبد، ونقص الكفر يمنع أن يثبت له حكم فضيلته، ولأن من شرط الإحصان صحة النكاح الذي يطأ فيه أنكحة الكفار الفاسدة. فصل [6 - اشتراط الحرية في الإحصان]: وإنما شرطنا الحرية لأن العبد حده على النصف من حد الحر والرجم (2) لا يتنصف جميعه عنه، ولأنه لما نقص عن الحر في الجلد الذي هو (3) أخف لنقصه بالرق كان بأن يسقط عنه الرجم أولى. فصل [7 - اشتراط الزواج في الإحصان]: وإنما شرطنا أن يكون متزوجًا للإجماع على ذلك (4)، ولأن النكاح يقع عليه اسم الإحصان لقوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (5) وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (6). فصل [8 - اشتراط كون العقد صحيحًا في الإحصان]: وإنما شرطنا أن يكون العقد صحيحًا لأن النكاح الفاسد لا يتناوله اسم الإحصان لأنه وطء غير مباح بعقد فلم يتناوله اسم الإحصان كالوطء بشبهة   (1) في م: زيادة. (2) في ق: في الجلد الزاني الذي. (3) في ق: هذا. (4) انظر المحلى: 13/ 185، المغني: 8/ 162، فتح الباري: 12/ 98، نيل الأوطار: 7/ 93. (5) سورة المائدة، الآية: 8. (6) سورة النساء، الآية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1377 وإنما شرطنا الوطء لأن العفاف لا يحصل بمجرد العقد دونه والإجماع على ذلك (1). فصل [9 - اشتراط كون الوطء جائزا]: وإنما شرطنا جواز الوطء لأنه أحد شروط الإحصان فكان من شرطه الإباحة كالعقد، ولأنه وطء محرم بالشرع كالزنا. فصل [10 - الاشتراط في إحصان أحدهما إحصان الآخر]: وإنما شرط في إحصان أحدهما إحصان الآخر خلافًا لأبي حنيفة (2)، لأنه حر مكلف وطئ بنكاح صحيح وطئًا مباحًا فكان محصنا به أصله إذا كانا كاملين (3). فصل [11 - في التفريق بين الصبي المطيق للوطء وبين الصبية المطيقة للوطء في إحصان الكبير]: وإنما فرقنا بين الصبي المطيق للوطء وبين الصبية المطيقة للوطء فقلنا إنها تحصن الكبير وأنه لا يحصن الكبيرة لأن وطء الصبي (4) ناقص غير تام بدليل أنه لا يجب به حد ولا يحلها للزوج الأول ولا يكمل لها به (5) لذة كوطء البالغ، وليس كذلك الصبية المطيقة للوطء لأن كل هذه الأحكام الحاصلة بوطء البالغة (6) تحصل للكبير بوطء المراهقة، وإذا كان كذلك أحصنت ولم يحصن الصبي من وطئها، وقد أتي ما ذكرناه على شرح الفروع التي قدمناها.   (1) انظر المحلي: 12/ 185، المغني: 8/ 162، فتح الباري: 12/ 98، نيل الأوطار: 7/ 93. (2) انظر مختصر الطحاوي: 262، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 187. (3) في ق: كاملتين. (4) الصبي: سقطت من م. (5) في ق: فيه. (6) في ق: البالغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1378 فصل [12 - في عدم رجم أم الولد إذا زنت بعد وفاة سيدها]: وإنما قلنا إن أم الولد إذا زنت بعد وفاة سيدها لم ترجم لأنها غير محصنة، ولأنها لم يحصل لها من شروط الإحصان بعد البلوغ والعقل والإِسلام إلا الحرية وذلك غير موجب لها الإحصان. فصل [13 - إذا أنكر أحدهما يمنع كون الآخر محصنا]: ووجه قوله إن إنكار أحدهما يمنع كون الآخر محصنا أن ذلك شبهة لأنه لا يجوز أن يكون أقر بالوطء لغرض له لا أنه كان وطيء حقيقة، ووجه قوله إنه يكون محصنا اعتبارًا بإقرارهما، ولأن تكذيبها له لا يخرجه (1) عما يلزمه مما يقر به على نفسه من حقوق الله تعالى أصله إذا أقر أنه زنى بها وهي تنكر أن ذلك لا تسقط الحد عنه. فصل [14 - في كون الإيلاج من غير الإنزال يكفي في الإحصان]: وإنما قلنا إن الإيلاج يكفي فلأن اسم الوطء يقع عليه، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لما قرر (2) ما عزا لم يزده على أن أقر عنده بالإيلاج ولم يطلب منه زيادة على ذلك، ولأن سائر الأحكام المتعلقة بالوطء يتعلق بالإيلاج فقط من وجوب الغسل والمهر والحد والإحلال للزوج الأول وغير ذلك فكذلك الإحصان الواجب عنه. ...   (1) في م: لا يخرجها وفي ر: لا يخرجهما. (2) في ق: أقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1379 باب [في حد الزاني البكر] فأما حد الزاني البكر فإنه يختلف لاختلاف أقسام الأبكار، ولا يخلو الزاني البكر من ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون رجلًا حرا، والثاني أن تكون امرأة حرة، والثالث أن يكون مملوكا ولا يختلف حال المملوك بالذكورة والأنوثة، فأما الرجل الحر فحده مائة جلدة (1) وتغريب عام وهو نفيه إلى غير بلده وحبسه فيه سنة، وأما المرأة الحرة فحدها جلد مائة من غير تغريب، وأما العبد ومن فيه بقية رق فحده خمسون جلدة من غير تغريب (2). فصل [1 - في جلد الحرَّيْن مائة جلدة]: وإنما قلنا إن الرجل والمرأة يجلدان مائة جلدة لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (3)، وللأخبار التي رويناها. فصل [2 - في تغريب الرجل مع الجلد]: وإنما قلنا إنه يغرب الرجل مع الجلد عاما خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا يجب التغريب إلا على طريق التعزير إن رآه الإمام (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل   (1) جلدة: سقطت من م. (2) انظر التفريع: 2/ 222، الرسالة: 241، الكافي: 574. (3) سورة النور، الآية: 2. (4) انظر مختصر الطحاوي: 262، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 187. (5) سبق تخريج الحديث 1374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1380 وجلد ابن الرجل الذي سأله مائة وغربه عاما" (1) وليس فيه (2) قياس يتحرر (3) على التحقيق. فصل [3 - في عدم تغريب المرأة]: وإنما قلنا إن المرأة لا تغرب خلافًا للشافعي (4)، لقوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (5)، ولأن التغريب في الرجل عقوبة له ينقطع عن ولده (6) وأهله وعن بلده (7) ومعاشه وتلحقه الذلة بنفيه (8) إلى غير بلده وليس فيه ما في المرأة من الحاجة إلى المراعاة في الحفظ ومنع السفر، والمرأة محتاجة إلى الصيانة والحفظ والمراعاة إلى أكثر من حاجة الرجل ففي تغريبها تعريض للهتك الذي هو ضد الصيانة ومواقعة مثل ما غربت لأجل مواقعتها له وذلك إغراء، لا ردع وزجر فامتنع لهذا التناقض إيجاب التغريب على المرأة. فصل [4 - في كون حد الأمة على النصف من حد الحرة]: وإنما قلنا إن حد الأمة على النصف من حد الحرة لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (9)، وإنما قلنا إن العبد في ذلك كالأمة لاجتماعهم في نقص الرق.   (1) سبق تخريج الحديث ص 1375. (2) في ر: في ذلك. (3) في ر: مجرد. (4) انظر الأم: 6/ 124، الإقناع: 168. (5) سورة النور الآية: 2. (6) ولده: سقطت من ق. (7) وعن بلده: سقطت من م. (8) في م: بغيته. (9) سورة النساء، الآية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1381 فصل [5 - في عدم تغريب العبد والأمة]: وإنما قلنا لا تغريب على عبد ولا أمة خلافًا للشافعي (1)، للظاهر ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ثم إن زنت فليحدها ثم قال في الرابعة فليبعها ولو بضفير (2) " (3) فيه دليلان: أحدهما أنه سئل عن حدهما فذكر الجلد ولم يذكر التغريب، والثاني أنه كرر ذكر الجلد فلو كان التغريب واجبًا في الحد لكان الأولى أن يذكر، ولأن التغريب على الحر لينقطع عن وطنه ومعاشه ويلحقه ذلة بذلك فيرتدع والعبد لا وطن له ولا معيشة فينقطع (4) عنها بتغريبه، ولأنه لو كان التغريب واجبًا عليه لكان على النصف من تغريب الحر كالجلد. ...   (1) انظر الأم: 6/ 136، 135، الإقناع: 168. (2) ضفير: حبل من شعر، عبر به مبالغة في التنفير عنها والحض على مباعدة الزانية (المصباح المنير: 363). (3) أخرجه البخاري في البيوع باب بيع العبد الزاني: 3/ 26، ومسلم في الحدود باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا: 3/ 1329. (4) في ق: فيقطعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1382 باب [في طريق ثبوت الزنا] : الزنا يثبت بثلاثة أشياء (1): أحدها الإقرار، والثاني البينة، والثالث ظهور العمل من غير ملك ولا شبهة ولا ظهور أمارة دالة على استكراه (2). فصل [1 - في دليل الإقرار]: فأما الإقرار فالأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه حد الله" (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "واغدو يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" (5)، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزًا والغامدية بإقرارهما (6)، ولأنه مكلف أقر على نفسه بحق فوجب إقراره كسائر الحقوق. فصل [2 - في عدد الإقرار الكافي في وجوب الحد]: وإقراره مرة كاف في وجوب الحد عليه خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه يحتاج إلى تكرار (7) الإقرار أربع مرات (8)، للظواهر التي ذكرناها وعمومها يقتضي   (1) انظر الموطأ: 2/ 825، التفريع: 2/ 222، والرسالة: 241، الكافي: 572. (2) في ق: على استنكاره. (3) سورة الأنعام، الآية: 164. (4) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 825، والحاكم في المستدرك: 3/ 383، والقطان وصححه ابن السكن، وذكره الدارقطني في العلل والبيهقي: 8/ 330، (تلخيص الحبير: 4/ 57). (5) سبق تخريج الحديث 1374. (6) سبق تخريج الحديث 1375. (7) في ق: تكرير. (8) انظر مختصر الطحاوي: 263، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1383 المرة الواحدة، ولأن الإقرار في سائر الحقوق لا يفتقر إلى التكرار فكذلك الزنا، ولأنه إقرار من مكلف بالزنا على نفسه فوجب أن يلزمه به الحد أصله إذا كرره، واعتبارا بالخامسة والسادسة. فصل [3 - في شروط الإقرار]: ومن شرط (1) الإقرار أن يقيم عليه فإن رجع فذلك على وجهين: فإن ادعى شبهة أو أمرا يعذر به مثل: أن يقول وطئت في نكاح فاسد أو دخلت على امرأتي فوطئتها (وأنا لا أعلم، أو رأيت، امرأة على فراشي فظننتها امرأتي فوطئتها) (2)، أو وطئت جارية بيني وبين غيري وما أشبه ذلك مما يجوز أن يذهب على العامة ومن لا علم عنده فإن هذا يعذر به ويقبل رجوعه عنه لإمكان أن يكون الأمر على ما قاله والحد يدرأ بالشبهة، وأما إن أكذب نفسه لا إلى شبهة يعذر بها ففيها روايتان: أحداهما أنه يقبل والأخرى لا يقبل منه، فوجه قوله إنه يقبل (3) منه وهو قول أبي حنيفة والشافعي (4)، قوله - صلى الله عليه وسلم - لماعز: (لعلك لمست: لعلك قبلت) (5)، وفائدة ذلك قبول رجوعه إن رجع وقوله لما هرب: (هلا تركتموه) (6)، ولأنه معنى يوجب القتل لا يتعلق به حق آدمي فإذا رجع عنه سقط عنه أصله الردة، ولأنه قول إذا تم لزم به حد الزنا فوجب أن يكون   (1) في: شروط. (2) ما بين قوسين سقط من ق. (3) فوجه قوله أن يقبل: سقطت من م. (4) انظر مختصر الطحاوي: 263، الإقناع -للماوردي-168. (5) سبق تخريج حديث رجم ماعز في الصفحة 1375. (6) أخرجه أبو داود في الحدود باب رجم ماعز بن مالك: 4/ 573، وأحمد: 5/ 216، والبيهقي: 8/ 228، وابن أبي شيبة: 10/ 71، والحاكم: 4/ 363 وقال صحيح الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1384 الرجوع عنه مسقطا للحد أصله رجوع الشاهد، ووجه قوله لا يقبل منه قوله: "من أصاب من هذه القاذورات فيستتر (1) بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله" (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "فإن اعترفت فارجمها" (3)، ولأنه أقر على نفسه بحق لزمه بإقراره فلم يسقط بإكذابه نفسه أصله حقوق الآدميين. فصل [4 - في دليل ثبوت الزنا بالشهادة]: فأما الشهادة فالأصل فيها قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا} (4)، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (5)، وقول سعد (6) يا رسول الله أرَأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهود قال: نعم (7). فصل [5 - في عدد الشهود الذين يثبت بهم الزنا]: وعدد الشهود أربعة لما ذكرناه، ولأنه إجماع الصحابة لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا لما توقف الرابع (8)، ولا يقبل فيه النساء لأنه حكم يثبت (9) في البدن لا يختص النساء بالاطلاع عليه فلم يقبل إلا الرجال كالطلاق والعتاق والقتل.   (1) في ق: يستر. (2) سبق تخريج الحديث 1383. (3) سبق تخريج الحديث 1374. (4) سورة النساء، الآية: 15. (5) سورة النور، الآية: 4. (6) في ق: أسعد، وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي أحد النقباء وسيد الخزرج وأحد الأجواء، مات بأرض الشام سنة خمس عشرة وقيل غير ذلك (تقريب التهذيب: 231). (7) أخرجه مسلم في اللعان: 2/ 1135. (8) أخرجه البيهقي: 8/ 234. (9) يثبت: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1385 فصل [6 - اشتراط كون الشهادة بالزنا في مجلس واحد]: ومن شرط الشهادة بالزنا أن تكون في مجلس واحد فإن افترقت في مجالس فالشهود قذفة عند مالك، وقال عبد الملك وهو قول الشافعي تقبل شهادتهم مجتمعين ومفرقين (1)، فوجه قول مالك إنه معنى لو لم ينضم إلى شهادة الشاهد كانت شهادته قذفا فوجب أن يؤخذ معها عند إقامتها لا متراخيا عنها أصله لفظ الشهادة، وصفة الرؤية، فيقيس كمال العدد في المجلس على لفظ الشهادة، ووجه قول عبد الملك أنه حق يثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين فوجب أن يثبت بهم وإن جاءوا مفترقين كالشهادة على القتل والسرقة. فصل [7 - اشتراط كون الشهادة في الزنا على المعاينة]: ومن شرطها أن يشهد الشهود على المعاينة أنهم رأوا فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، وإنما قلنا ذلك لجواز أن يظهر من تفصيلهم ما يسقط به الحد فإن لم يفصلوا وشهدوا مجملا (2) أنهم رأوه يزني بها الزنا الموجب للحد قال (ابن القاسم لا يحد المشهود عليه ويحد الشهود ويكونون قذفة) (3)، ومن أصحابنا من يقول إذا كان الشهود فقهاء، والقاضي فقيها وكانوا على مذهب واحد وشهد الشهود أنهم رأوه يزني الزنا الموجب للحد فيجوز للحاكم أن يقتصر على هذا القدر منهم ولا يكلفهم التفصيل. فصل [8 - إذا شهد الثلاثة وشك الرابع فلم يشهد]: إذا شهد الثلاثة وشك الرابع فلم يشهد حد (الثلاثة ولا حد على الرابع ولا على المشهود عليه، وإنما قلنا يحد) (4) الثلاثة (5) خلافًا لأحد قولي   (1) انظر الأم: 6/ 137 - 138، المهذب: 2/ 333. (2) مجملا: سقطت من م. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) ما بين قوسين سقط من م. (5) انظر المدونة: 4/ 401، التفريع: 2/ 222، الرسالة: 241، الكافي: 573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1386 الشافعي (1)، لإجماع الصحابة لأن عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة لما توقف الرابع وهو زياد (2) ولم يقطع، وقال لأبي بكرة (3) تب وأقبل شهادتك، وروي عن علي رضي الله عنه (4) مثله، ولأنهم أدخلوا المعرة عليه (5) بإضافة الزنا إليه بسبب لم تسقط حصانته وكانوا قذفة أصله إذا قذفوه ابتداء، وإنما قلنا لا يحد الرابع لأنه لم يكن منه رمي لأنه لم يفصح (6) شيئًا يلزمه به حكم، وإنما قلنا إنه لا يحد المشهود عليه لأن البينة لم تقم عليه لأن العدد شرط في كون الشهادة كاملة (7)، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يحد المغيرة لما لم يتم عدد الشهود. فصل [9 - إذا شك أحد الشهود بعد تمام الشهادة وقبل إقامة الحد]: وأما إن شهد الأربعة وتمت الشهادة ثم شك أحدهم أو رجع: فإن كان قبل إقامة الحد جلد الجميع ولم يحد المشهود عليه، (8) وإن كان بعد إقامة الحد جلد   (1) انظر الأم: 6/ 137 - 138، مختصر المزني: 261، الإقناع: 169. (2) زياد بن عبيد ثقيف وهو زياد بن سمية، وهو أخو أبي بكرة لأمه ولد عام الهجرة وأسلم زمن الصديق، مات بالطاعون عام ثلاث وخمسين (سير أعلام النبلاء: 3/ 494). (3) أبي بكرة: نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو الثقفي صحابي شهور بمنيته أسلم بالطائف ثم نزل البصرة ومات بها سنة إحدى أو اثنتين وخمسين (تقريب التهذيب: 565). (4) عبد الرزاق: 7/ 385، 401، المحلي: 11/ 259. (5) عليه سقطت من ق. (6) في ق: يقبل. (7) في م: الشهود بينة. (8) انظر المدونة: 4/ 399، التفريع: 2/ 223 الكافي: 573. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1387 الشاك أو الراجع وحده، وإنما فرقنا بين الموضعين لأن الشك والرجوع إذا كان بعد تمام الشهادة يجعل الراجع قاذفًا لأن الذي حصل منه علما (كان مقيمًا مع بقية الشهود كان شهادةً) (1) فلما رجع عنه أو شك فيه بعد حصوله منه كان ذلك قذفا لأنه غير محكوم بكونه شهادة فلم يبق إلا القذف، فإن كان ذلك قبل مضي الحد جلد الكل لأن الجميع (2) قذفة لأن الشهادة لم تحصل منهم برجوع الواحد، فإن كان رجوعه بعد مضي الحد جلد الراجع وحده لأنه مقر على نفسه بالقذف ولم يحد الباقون لأن الشهادة قد تمت وحكم بها فلا سبيل إلى نقضها، ورجوع هذا قذف مستأنف وتكذيب منه لنفسه ولهم فقبل فيها عليه ولم يقبل فيما يلزم غيره به حكم لنفود الحكم، ثم القول فيما يلزم الرابع من قصاص أو غرم فيما تلف بشهادته يذكر فيما بعد. فصل [10 - في عدم مطالبة المقر بالزنا بحكاية الفعل وصفته إياه خلافًا للشهود]: المقر بالزنا لا تلزم مطالبته بحكاية الفعل وصفته إياه خلافًا للشهود إلا أن يتهم بغفلة أو جهل فيتكشف (3)، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - لماعز (4)، والفرق بين الإقرار والشهادة أن ما يلزم الإنسان بإقراره أبلغ وأقوى مما يلزمه بالشهادة ألا ترى أنه يقبل إقراره على نفسه عدلا كان أو فاسقًا حرا كان أو عبدًا رجلًا كان أو امرأة، ولا يقبل في الشهادة الفاسق ولا العبد ولا المرأة، ولأن الشهود قد غلظ عليهم في ذلك ما لم يغلظ في ذلك (5) على المقر لأنه لا ضرورة بهم إلى الشهادة على غيرهم، والمقر ليس بشاهد على غيره وإنما هو غير عن نفسه.   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) في م: جميعهم. (3) في م: مستكشف. (4) فقد رده - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات وقاله له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ ... إلخ الحديث. (5) في ذلك: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1388 مسألة [11 - في عدم سقوط حد الزنا والسرقة والشرب بالتوبة]: التوبة لا تسقط الحد في الزنا والسرقة والشرب خلافًا للشافعي (1)، لقوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2) وقال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) ولم يفرق، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد (4) " (5) ولم يفرق، وقوله في ماعز: "لقد تاب توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم" (6)، وفي حديث آخر (7) "لو تابها صاحب مكس لغفر له" (8)، ولأنه أمر مستتر به فلم تقبل التوبة فيه كالزنديق، ولأن الحد تحصين للإنسان ففي إسقاطه زوال ذلك (9) المعنى، ولأن التوبة فيما لم يفترق له الحكم فيما بين القدرة عليه أو عدمها لم يسقط الحد كالقذف والقتل، وبهذا فارق الحرابة. فصل [12 - إذا ظهر حمل بحرة أو أمة ولا يعلم لها زوج ولا سيد]: إذا ظهر حمل بحرة أو أمة ولا يعلم لها زوج، ولا سيد الأمة مقر بوطئها: بل منكر والحرة مقيمة ليست بغريبة بأنها تحد ولا يقبل قولها إن قالت: غصبت أو استكرهت إلا أن يظهر أمارة على ذلك بأن يرى بها أثر دم أو شاهد منها   (1) انظر المهذب: 2/ 286. (2) سورة النور، الآية: 2. (3) سورة المائدة، الآية: 38. (4) في م: كتاب الله. (5) سبق تخريج الحديث ص 1383. (6) هو جزء من الحديث الذي سبق تخريجه. (7) في م: وفي الغامدية. (8) أخرجه مسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا: 3/ 1324. (9) في م: هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1389 استغاثة أو صياح أو ما أشبه ذلك مما يعلم معه في الظاهر صدقها (1)، وقال أبو حنيفة والشافعي لا حد عليها على كل وجه إلا أن تقر بأنها زنت أو تقوم بينة (2)، ودليلنا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء إذا قامت بينة أو كان الحمل أو الاعتراف (3)، ولا مخالف له، ولأن إسقاط الحد ذريعة إلى أن لا يقام (4) حد في زناة، ولأن كل من وجد بها حمل أو شوهد معها من يطؤها ادعيا الزوجية فيصير ذلك طريقا إلى إبطاله فلا يمكن إقامته، ولأن الاتفاق حاصل على أن الحد يلزم بشهادة الشهود، وأن ادعاء الزوجية غير مقبول مع الشهود، وقد علمنا أن الشهود إنما يشهدون على الظاهر لا على الحقيقة والقطع، والظاهر في مسألتنا الزنا لأن الوطء ثابت بظهور الحمل ولا أمارة على ما يدعونه ولا علامة فلا يجب ترك الظاهر بقولهما ولهذا قلنا إنهما لا يحدان إذا كانا غريبين لإمكان أن يكون الأمر على ما قالاه، وليس في (5) تصديقهما نفي الظاهر ولا ذريعة إلى إسقاط الحد. فصل [13 - في الشهادة على الشهادة في حد الزنا]: الشهادة على الشهادة في حد الزنا جائز (6) لما يذكر في باب الشهادة (7)، وقد بينا أن شهود الأصل لا بد أن يكونوا أربعة، وأما شهود الفرع فمختلف فيه على روايتين: إحداهما أنه لا بد أن يشهد على شهادة كل واحد أربعة فإن كان   (1) انظر م الرسالة: 241، الكافي 575. (2) انظر شرح فتح القدير: 4/ 119، نهاية المحتاج: 7/ 430. (3) أخرجه البخاري في الحدود باب رجم الحبلى: 8/ 26، ومسلم في الحدود باب رجم الثيب في الزنا: 3/ 1317. (4) في ق: إلى أن يقيم. (5) في م: على ما قلنا وإذ. (6) في م: مقبوله. (7) في م: الشهادات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1390 على كل واحد أربعة غير الأربعة الذين شهدوا على واحد جاز، والأخرى أنه إن شهد إثنان على كل واحد من شهود الأصل جاز والأولى هي الصحيح (1) لأن الزنا لا يحد فيه إلا بأربعة ومتى قبلنا (2) شهادة شاهدين على الأربعة أدى ذلك إلى أن يقام الحد بشهادة اثنين وذلك غير جائز (3)، ولأن شهود الفرع أضعف من شهود الأصل لأن النقل فرع عن الأصل فإذا كان الأصل لا بد فيه من أربعة فكذلك النقل. فصل [14 - في الشهود في الزنا يختلفون في الفعل]: لا يقبل في الشهادة على الزنا إلا أربعة يشهدون على فعل واحد: فإن اختلف الفعل الذي يشهدون عليه مثل أن يشهد اثنان أنهما رأياه يزني بها في هذه الزاوية ويشهد اثنان في الزاوية الأخرى فلا تقبل هذه الشهادة ويحد الشهود (4) وقال أبو حنيفة عليه الحد (5) فدليلنا أن الاختلاف في المكان جار مجرى الاختلاف في الزمان من باب أن الفعل في مكان غير الفعل في غيره من الأماكن كما أن الفعل (6) في زمان غير الفعل في زمان غيره، وقد ثبت أنهم لو شهدوا عليه فقال أحدهما أشهد أنه زنى يوم السبت وقال الآخر يوم الأحد لم يجب عليه حد كذلك في المكان.   (1) انظر المدونة: 4/ 402، التفريع: 2/ 240، الكافي: 573. (2) في م: قلنا. (3) وذلك غير جائز: سقطت من ق. (4) انظر: المدونة: 4/ 401، التفريع: 2/ 223، الرسالة: 241، الكافي: 572. (5) انظر مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 182، وشرح فتح القدير: 4/ 161. (6) الفعل سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1391 مسألة [15 - حكم ما إذا وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته فوطئها]: إذا وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته فوطئها فلا حد عليه (1)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله أنه يحد ولا يقبل منه ذلك إلا أن يكون ليلة الزفاف (2)، لأنه وطء من يعتقد أنها زوجته فلم يلزمه حد أصله إذا زفت إليه امرأة وقيل: إنها زوجتك وكانت غيرها. فصل [16 - العوارض التي تؤخر لها إقامة الحدود]: العوارض التي تؤخر لها إقامة الحدود ثلاثة (3): أحدها معنى في المحدود لا يتعلق بغيره، والثاني معنى موجود به يتعلق بغيره، والثالث معنى منفصل منه، فأما الموجود به الذي (4) لا يتعلق بغيره كالمرض وذلك كالحمى الشديدة، ووجع الجوف أو الكبد أو غير ذلك من أنواع الأمراض التي يخاف معها (5) تلفه فهذا يوجب تأخير الحد عنه إلى برئه، والدليل عليه أن المقصود من الحد الردع والزجر دون الإتلاف يبين ذلك أن الله تعالى فرق بين الحدود فجعل في بعضها الرجم وفي بعضها الجلد، ولأن الإمام يجلد بسوط بين السوطين خيفة القتل، فإذا ثبت ذلك ثم خيف على المريض القتل وجب تأخيره. وأما الموجود به المتعلق بغيره فهو الحمل وذلك يقتضي التأخير لأنها لو جلدت لأدى إلى إتلافه، وأما المنفصل منه فالزمان يخاف منه تلف المحدود وذلك أن الجراح في شدة البرد يعظم الخطر فيه فيؤدي إلى التلف غالبًا هذا كله في الجلد والقطع، وأما في الرجم فلا يؤخر لمرض ولا لشدة برد، ويؤخر في الجلد   (1) انظر الكافي: 574. (2) انظر مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 191. (3) انظر المدونة: 4/ 404، الكافي: 574. (4) الذي: سقطت من م. (5) في م: منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1392 والرجم في الحمل حتى تضع لئلا يتلف الحمل، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للغامدية، (اذهبي حتى تضعي) (1)، وتؤخر بعد الوضع في الجلد لتغتسل من نفاسها لأن النفاس مرض لا يؤمن معه إذا (2) جلدت التلف، وفي الرجم تؤخر حتى يوجد من يرضع الصبي: فإن وجد من يرضعه رجمت حتى تفطمه وبنحو ذلك روى مالك في الموطأ (3). فصل [17 - فيمن وطيء جارية له فيها شرك]: ومن وطيء جارية له فيها شرك فلا حد عليه لوجود الشبهة في وطئه باختلاط ملكه بملك شريكه (4)، ويلحق به الولد لشبهة الملك، وإن حملت قوم على الواطىء نصيب شريكه لا يختلف قوله فيه لأنه لما لحق الولد به وثبتت حريته (5)، اكتسبت الأمة الحرية، فإن لم تحمل فقد اختلف قوله في تقويم نصيب الشريك عليه (6): فوجه قوله أنه تقوم عليه فلتتكامل الشبهة له في سقوط الحد عنه بتمليكه نصيب شريكه، ووجه قوله لا تحب التقويم عليه (7) أنه بمنزلة من وطيء أمة على فراشه لأن وطاه إياها شبة لا توجب التقويم عليه. فصل [18 - فيمن زنى بجارية أبيه أو ابنه]: ومن زنى بجارية أبيه فعليه الحد وإن زنى بجارية ولده فلا حد عليه (8)،   (1) سبق تخريج الحديث ص 1375. (2) في م: متى. (3) انظر الموطأ: 2/ 821 - 825. (4) في ق: غيره. (5) في ق: حرمته. (6) انظر المدونة: 4/ 381، التفريع: 2/ 223، الرسالة: 241. (7) في م: لا يقوم عليه. (8) انظر التفريع: 2/ 223، الرسالة: 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1393 والفرق بينهما أن للأب شبهة في قتل ولده فإن وطء أمته كان كالواطىء أمة له فيها شرك ولا يحد لشبهة الملك، والولد لا شبهة له في مال أبيه ألا ترى أنه يتزوج أمة أبيه والأب لا يتزوج أمة أبنه فيكون زانيا بمن لا شبهة له في ملكها فعليه الحد. فصل [19 - وجوب الحد على من اغتصب حرة فزنى بها كان حرًّا أم عبدًا]: ومن اغتصب حرة فزنى بها فعليه الحد حرًّا كان أو عبدًا (1) لعموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2) ولم يفرق بين الغصب والطوع، ولا حد عليها لأنها ليست بزانية لأن الإكراه ينفي الزنا، ولأنه لم يكن منها فعل ينسب إليها به الزنا. فصل [20 - وجوب الصداق على من زنى بحرة]: وعليه صداق مثلها بكرا كانت أو ثيبا (3) خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا صداق عليه (4)، لأنها حرة موطوءة لا حد عليها في وطئها فوجب أن يلزم واطئها صداقها أصله إذا وطئت بشبهة، وإن كان عبدا فإن افتداه سيده بصداق المثل وإلا أسلمه لأن ذلك أرش الجناية. فصل [21 - فيمن استكره أمة فوطئها]: والحر إذا استكره أمة فوطئها فعليه الحد وما نقص من قيمتها ولا صداق عليه (5) لأنها جناية على مال فروعي فيها نقصه دون الصداق وغلب عليها حكم   (1) انظر التفريع: 2/ 224، الرسالة: 241، الكافي: 574. (2) سورة النور، الآية: 2. (3) انظر التفريع: 2/ 224، الكافي: 574. (4) انظر حاشية ابن عابدين: 2/ 271، 350. (5) انظر المدونة: 4/ 380، التفريع: 2/ 224، الكافي: 574 - 575. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1394 الجناية (1) على الأموال اعتبارًا به لو جرحها أو قطع (2) عضوا من أعضائها، وإن كان عبدا فذلك في رقبته إلا أن يفتديه (3) سيده، وإن لم يؤثر الوطء نقصًا فلا شيء على الواطىء حرا كان أو عبدا سوى الحد فقط. فصل [22 - إذا استكره الذمي حرة مسلمة أو أمة]: إذا استكره الذمي (4) حرة مسلمة قتل (5) لأنه بذلك ناقض العهد فقد أضاع دم نفسه وقد صار له حكم أهل الحرب، وإن استكره أمة فعليه ما نقص من ثمنها بكرا كانت أو ثيبا لأنها جناية على مال فلا يقتل بالجناية على الأموال والفضل بين استكراهه للحرة والأمة أن الأمة قد يصح له ملكها وهو إذا أسلمت أمته أو ابتاع مسلمة عن إحدى الروايتين، والحرة لا يصح له وطؤها بحال لأنها لا توطأ إلا بعقد نكاح وذلك لا يصح فيه. فصل [23 - وجوب الحد على المسلم إذا زنى بنصرانية]: إذا زنى المسلم بنصرانية فعليه الحد لعموم (6) الظواهر، والأخبار واعتبارًا بالمسلمة، فإن اغتصبها فالحكم فيها كالحكم في المسلمة، فإن طاوعته (7) فلا حد عليها خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (8)، لأنه فعل يجب فيه الحد لحق الله تعالى على التجريد ولا يؤخذ به أهل الذمة كالشرب، ولا يلزم عليه القتل والسرقة والقذف لأنها حق الله أو للآدميين على التجريد ألا ترى أنه لو سرق أو قذف أو قتل ثم أسلم لأقيم ذلك عليه بعد إسلامه.   (1) في م: الجنايات. (2) في ق: قطعها. (3) في م: يفديه. (4) في م ور: النصراني. (5) انظر التفريع: 2/ 224، الرسالة ص 242، الكافي: 574. (6) انظر التفريع: 2/ 224، الرسالة: 242، الكافي: 574. (7) فإن طاوعته: سقطت من م. (8) انظر مختصر الطحاوي: 262، المهذب: 2/ 266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1395 فصل [24 - إقامة السيد الحد على عبده وأمته]: للسيد أن يقيم على عبده وأمته حد الزنا والشرب (1) في الجملة (2) خلافًا لأبي حنيفة (3)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" (4)، وقوله: "إذا زنت أمة أحدكم فليحدها" (5)، ولأن له أن يجلدها بحق الملك كالإمام. فصل [25 - إن كان للأمة زوج حرا أو عبدا]: وهذا إذا كانت لا زوج لها وكان زوجها عبدا للسيد، فأما إن كان لها زوج حر أو عبد لغير السيد فلا يقيم سيدها عليه الحد لأن في ذلك تصرفا في حق الغير وإبطال فراشه ولا يد للسيد على ملك غيره. فصل [26 - إقامة الحد برؤية السيد وعلمه؟]: وهذ إذا ظهر حمل أو قامت بينة أو إقرار، فأما برؤية السيد وعلمه (6) ففيه روايتان (7): (إحداهما سقوطه، والأخرى ثبوته) (8) فوجه سقوط ذلك   (1) الزنا والشرب: سقطت من م. (2) انظر المدونة: 4/ 408، التفريع: 2/ 224، الرسالة: 242، الكافي: 574. (3) انظر مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 186. (4) أخرجه أو داود في الحدود باب إقامة الحد على المريض: 4/ 617، وأحمد: 1/ 95، وأخرجه مسلم في الحدود باب تأخير الحد من النفساء: 3/ 1330، بلفظ "أقيموا على أرقاكم الحد". (5) سبق تخريج الحديث 1382. (6) في ق: عمله. (7) انظر المدونة: 4/ 408، التفريع: 2/ 224، الرسالة: 242، الكافي: 575. (8) ما بين القوسين سقط من م ومن ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1396 اعتبارًا (1) بالإمام، ووجه إثباته أن السيد لا يتهم في عبده وأمته، والإمام على رعيته لا يتهم. فصل [27 - عدم إقامة حد السرقة على العبد والأَمَة من السيد]: ولا يقيم عليها حد السرقة إلا الإمام، والفصل بينه وبين سائر الحدود أنه قطع عضوه وذلك مثلة يعتق عليها بها فلو مكناه من ذلك لكان كل من مثل بعبده يدعى أنه قطعهُ في سرقة فيصير ذريعة إلى انتفاء العتق بالمثلة (2) وسائر الحدود بخلاف ذلك. فصل [28 - إحضار الإمام طائفة من المؤمنين ليشهدوا وإقامة الحد]: وينبغي للإمام أن يحضر الحد طائفة من المؤمنين الأحرار العدول (3) لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (4)، (وكذلك السيد في إقامة الحد على عبده وأمته) (5) والطائفة أربعة فصاعدا، والفائدة في ذلك إنه إن قذفه قاذف فطالب بحد قاذفه أمكن قاذفه التخلص من ذلك بإحضار من شهد حده. فصل [29 - في هيئة المرجوم]: لا يربط المرجوم (6) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يربط ماعزا ولا غيره ممن أمر برجمه،   (1) في م: اعتباره. (2) في ق: به المثلة. (3) انظر المدونة: 4/ 408، التفريع: 2/ 224، الكافي: 572. (4) سورة النور الآية: 2. (5) ما بين قوسين سقط من م. (6) انظر المدونة: 4/ 404، الكافي: 572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1397 ولأن رجوعه يقبل ولا معنى لربطه، وكذلك في الجلد ولا يحفر له لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالحفر، والحدود كلها سواء في الإيجاع (1) والصفة يجرد فيها الرجل ولا تجرد فيها المرأة ولكن يترك عليها من الثياب ما لا يقيها ألم الضرب لأنها عورة بخلاف الرجل، ويضربان قاعدين خلافًا لمن قال أنه يقام الرجل (2) لأن القيام زيادة في الألم لم يرد به شرع، واعتبارا بالمرأة ويجتنب في ضربهما المقاتل. مسألة [30 - في تداخل الحدود]: الحدود ما كانت من جنس واحد وكان سببها واحد تداخلت وأجزأ واحدها عن سائرها، وذلك مثل أن يزني مرارًا أو يشرب مرارًا أو يسرق مرارًا أو يقذف مرارًا واحدًا أو جماعة فيجزى حد واحد من ذلك كله (3)، والأصل فيه قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} (4) ولم يفرق، ولأن ذلك كتكرار الإيلاج والإجتراع جرعة بعد جرعة، ولأن ذلك كالأحداث إذا تواترت قبل الطهارة أن ما يجب بها عن الطهارة ما يتداخل، فأما إن كانت من جنس واحد (5) وأسبابها مختلفة كالزنا والشرب (والقذف فإنها لا تتداخل ويستوفي جميعها إلا أن يكون أحدها فرعا للآخر فيتداخلان وذلك كحد القذف) (6) والشرب لأن الشرب مأخوذ من القذف فشبه به لما روي عن الصحابة رضي الله عنهم (7)   (1) في ق: الإجماع. (2) قاله جمهور أهل العلم (انظر المغني: 8/ 158). (3) انظر المدونة: 4/ 397، التفريع: 2/ 226، الرسالة: 242، الكافي: 575. (4) سورة النور، الآية: 2. (5) واحد: سقطت من م. (6) ما بين قوسين سقط من ق. (7) رضي الله عنهم: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1398 أنهم لما اختلفوا في تقدير حد الشرب قالوا نرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فيجلد حد الفرية (1)، (2) وإذا قذف جماعة بكلمة واحدة كفى حد واحد خلافًا لمن قال لكل واحد حد (3)، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (4)، ولأنه قذف واحد فلم يجب به إلا حد واحد أصله إذا كان المقذوف واحدًا، وإذا كانت الحدود من أجناس كالجلد والقطع استوفيت ولم تتداخل إلا أن يكون فيها قتل فإن ما دونه يدخل فيه إذا كان جهة استحقاقه واحدة، فأما إذا كان الغرض مختلفًا فإن القتل لا يجزى منه كحد القذف يجلد (5) القاذف ثم يقتل لأن الغرض بالحدود دفع (6) المعرة عن المقذوف ولا يكون ذلك إلا بحد قاذفه. مسألة [31 - في الرجم باللواط]: ويجب باللواط إذا حصل الإيلاج الرجم عليهما أحصنا أو لم يحصنا ولا يثبت إلا بما ثبت به الزنا من الإقرار والبينة، وأما وجوب الحد منه (7) خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا حد فيه (8) وإنما فيها التعزير، فإنه إيلاج في فرج آدمي مقصود به اللذة فوجب أن يتعلق به الحد كالقتل.   (1) في م: المفترى. (2) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 842، والشافعي عنه عن ثور بن زيد الديلي وهو منقطع لأن ثورًا لم يلحق عمر بلا خلاف لكن وصله النسائي والحاكم من وجه آخر (انظر تلخيص الحبير: 3/ 75). (3) قاله: الحسن وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد مثل ذلك وللشافعي قولان: (المغني: 8/ 233). (4) سورة النور، الآية: 4. (5) في م: يحد. (6) في م: زوال. (7) انظر التفريع: 2/ 225، الرسالة ن: 242، الكافي: 574. (8) انظر مختصر الطحاوي: 263، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1399 فصل [32 - في كون حد اللواط الرجم]: وإنما قلنا إن الحد هو الرجم خلافًا للشافعي في قوله وإن كان غير محصن فعليه الجلد (1)، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من وجدتموه على عمل قوم لوط فارجموا الفاعل والمفعول) (2) ولم يشترط في ذلك الإحصان، ولأنه أغلظ من الزنا، ولأن المزني بها جنس مباح وطئها وإنما أتيت على خلاف الوجه المأذون فيه، والذكر ليس بمباح وطؤه فكان فيه أغلظ من حد الزنا، وإنما قلنا إنه لا يثبت إلا بما يثبت به الزنا لأن حده يتعلق به الرجم فأشبه الزنا. فصل [33 - فيمن أتى بهيمة]: من أتى بهيمة فلا حد عليه (3) خلافًا لمن قال أنه يقتل أو يحد (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل امريء مسلم إلا بأحد ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل بغير نفس" (5) وكل هذا معدوم في مسألتنا، ولأنه لم ينتهك حرمة فرج له حرمة (6) والحد يجب لهذا المعنى.   (1) انظر التفريع: 2/ 225، الرسالة: 232، الكافي: 574. (2) أخرجه الترمذي في الحدود باب ما جاء في حد اللوطي: 4/ 47، وابن ماجة في الحدود باب من عمل عمل قوم لوط: 2/ 856، وأبو داود في الحدود باب فيمن عمل عمل قوم لوط: 4/ 608 والحاكم قال صحيح الإسناد: 4/ 355. (3) انظر التفريع: 2/ 225، الكافي: 575. (4) في إحدى الروايتين عن أحمد حكمه حكم اللائط وقال الحسن حده حد الزاني وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن يقتل هو والبهيمة (المغني: 8/ 189). (5) سبق تخريجه. (6) خرج له حرمة سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1400 فصل [34 - في عدم قتل البهيمة الموطؤة]: ولا تقتل البهيمة (1) خلافًا لمن قال تقتل (2)، لأن نكاح البهيمة لا يوجب قتلها اعتبارًا به إذا نكحها ما هو من جنسها، ولأن قتلها لما لم يجز أن يكون حدًّا لاستحالة تكليفها لم يجز أن يقتل لأن القتل الواجب بالوطء لا يكون إلا على وجه الحد. فصل [35 - في عقاب من أتى بهيمة]: إذا ثبت أنه لا حد عليه فيعاقب لركوبه أمرًا ممنوعًا منه محرمًا عليه فوجب زجره عليه (3) لئلا يعود لمثله. ...   (1) انظر التفريع: 2/ 225، الكافي: 575. (2) هو مذهب الإمام أحمد وأحد قولي الشافعي وقول أبي سلمة كما سبق ذكره (المغني: 8/ 189). (3) في م: عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1401 باب [في حد القذف] القذف (1) موجب للحد في الجملة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) الآية، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية: (3) (البينة وإلا حد في ظهرك) (4)، ولا خلاف في وجوب الحد به في الجملة (5). مسألة [1 - في شروط إيجاب الحد على القاذف]: ويجب الحد على القاذف بتسع خصال: خصلتان فيه وخمس في المقذوف وخصلتان في الشيء المقذوف به: فأما الخصلتان المشترط وجودهما في القاذف فالعقل والبلوغ، وأما الخمس المشترط وجودها في المقذوف فالعقل والبلوغ والإِسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها كان عفيفا عن غيرها أو لا، والبلوغ الذي نريده يختلف في الغلام والأنثى، فأما الغلام فبلوغ التكليف   (1) القذف: في اللغة: أصل يدل على الرمي والطرح (معجم مقاييس اللغة: 5/ 68). وفي الاصطلاح: قال ابن عرفة: القذف الأعم: نسبة آدمي غيره لزنا أو قطع نسب مسلم، والأخص لإيجاب الحد: نسبة آدمي مكلف غيره حرا عفيفًا مسلمًا بالغًا أو صغيره تطيق الوطء لزنا أو قطع نسب مسلم (الرصاع على ابن عرفة: 497). (2) سورة النور، الآية: 4. (3) هلال بن أمية: بن عافر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف الأنصاري الواقفي شهد بدرًا وما بعدها (الإصابة في تمييز الصحابة: 3/ 574). (4) سبق تخريج الحديث في اللعان ص 898. (5) انظر الإجماع لابن المنذر: 144، المغني: 8/ 215، نيل الأوطار: 6/ 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1402 وهو الاحتلام أو غيره مما قدمناه دون إطاقة الوطء، وفي الأنثى إطاقة الوطء وإن لم تبلغ بلوغ التكليف، وقد تضمن اشتراط العقد كونه ممن يتأتى منه الوطء بخلاف العنين والمجبوب غير المعترض ولذلك لم نجعله شرطًا زائدًا ومن أوجبه زاده في الأقسام، وأما الخصلتان في الشيء المقذوف: بأن يقذفه بوطء يلزمه الحد وهو الزنا واللواط لا غير (1) أو أن ينفي نسبه من أبيه، فأما إن قذفه بسرقة أو شرب خمر أو قتل أو كفر فعليه العقوبة ولا يحد (2). فصل [2 - اشتراط العقل والبلوغ في وجوب حد القاذف]: وإنما قلنا إن العقل والبلوغ شرطان في وجوب حد القاذف لأنهما شرطان في التكليف والحد لا يجري إلا على مكلف، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق" (3). فصل [3 - اشتراط العقل والبلوغ في المقذوف]: وإنما شرطناهما في المقذوف لأن الحد إنما يراد لزوال المعرفة عن المقذوف بأن يحد قاذفه والمجنون والصبي لا يصح الزنا منهما وهما على حال الصغر (4) والجنون فلا عار يدخل عليهما بالقذف، وهذا إذا قذفهما بزنا منهما فأما إن قذف المجنون بزنا منه قبل جنونه فإنه يجلد لأن المعرفة تدخل بذلك. فصل [4 - في وجوب حد من قذف مطيقة للوطء]: وإنما قلنا إن من قذف مطيقة للوطء حد وإن لم تبلغ بلوغ التكليف خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لأن المعرة تدخل عليها بالقذف كالبالغ، ولأن حكم   (1) لا غير: سقطت من م. (2) في جملة هذه الأحكام انظر الموطأ: 2/ 828، المدونة: 4/ 379، التفريع: 2/ 225، الرسالة: 242، الكافي: 575، المقدمات: 3/ 259. (3) سبق تخريج الحديث ص 262. (4) في م: الصبا. (5) انظر تحفة الفقهاء: 3/ 145، مختصر المزني: 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1403 وطئها حكم البالغ في وجوب الغسل والمهر والنفقة والإحصان والإحلال وكذلك في وجوب الحد بالقذف به. فصل [5 - اشتراط الإِسلام في المقذوف]: وإنما اشترطنا الإِسلام لأن عرض الكافر لا حرمة له تهتك بالقذف، و ... الفاسق الملِّي لا حد على قاذفه وهو أعظم حرمة من الكافر والكافر أولى. فصل [6 - اشتراط الحرية في المقذوف]: وإنما شرطنا الحرية خلافًا لمن يقول إن العبد يحد قاذفه (1)، لأن حرمته ناقصة نقصًا أوجبه الرق (2) كالكافر ولأن كل نقص منع أن يقتل به الحر المسلم منع أن يحد في القذف أصله الكفر. فصل [7 - في اشتراط كون المقذوف متمكنًا من الوطء]: وإنما شرطنا كونه متمكنًا من الوطء لأن المجبوب ومن جرى مجراه لا يتأتى منه الزنا فلم تلحقه معرة بالقذف كالصبي (3). فصل [8 - في اشتراط كون الرمي بالزنا واللواط لإقامة الحد]: وإنما شرطنا أن الحد في الرمي بالزنا واللواط دون غيرهما بالجماع عليه (4)، ولأن الله عز وجل (5) شرط في تخليصه (6) من القذف على أن يأتي بأربعة شهود وليس ذلك إلا في الزنا واللواط.   (1) روي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد (المغني: 8/ 216). (2) في ق ور: الكفر. (3) كالصبي: سقطت من ق. (4) انظر الإجماع: 144، والمغني: 8/ 215. (5) في م: تعالى. (6) في م: تخلصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1404 فصل [9 - فيما إذا رماه بالوطء فيما دون الفرج]: وأما إن رماه بالوطء فيما دون الفرج: فقال ابن القاسم يحد لأن ذلك من التعريض، وقال أشهب لا يحد لأنه صرح أنه فعل ما ليس بزنا ولا لواط كما لو قال قبلتها (1). فصل [10 - فيمن نفى رجلا عن أبيه]: وإنما قلنا إذا نفى رجلًا عن أبيه فعليه الحد لأنه قد عره بذلك وقذف أباه وأمه فعليه الحد، ومن نفاه عن أمه فلا حد عليه لأنه كاذب قطعًا، والكذب لا يعر المقول (2) له، والفصل بين قوله لست لأبيك وقوله لست لأمك أن نسب الولد لاحق بأبيه حكمًا ويلحق بأمه مشاهدة وحكمًا (3) ويقينا بمشاهدة الولادة وإمكان البينة عليها، ونفي النسب عن الأب لا يعلم صدقه من كذبه فتلحقه المعرفة في نفيه. فصل [11 - فيمن نفى رجلًا من ولائه]: ومن نفى رجلا من ولائه فهو كنفيه إياه من نسبه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لحمه كلحمة النسب" (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مولى القوم منهم" (5) وإذا وجب الحد في نفي النسب وجب في نفي الولاء، وقال بعض شيوخنا فيها نظر ويجب أن لا يلزم الحد في نفي النسب وجوبه في نفي الولاء لأن نافيه كاذب لأن الولاء يثبت بالعتاقة وهي معلومة مشاهدة فنافيها كاذب، وهو كنافي ولد الأم.   (1) انظر المدونة: 4/ 396. (2) في م: المقول. (3) حكما: سقطت من م. (4) أخرجه الحاكم: 4/ 341، وقال صحيح الإسناد، وابن حبان والطبراني والشافعي (نصب الراية: 4/ 153). (5) أخرجه البخاري في الفرائض باب مولى القوم من أنفسهم: 8/ 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1405 قال القاضي أبو محمد (1): وفي هذا الذي قاله شيخنا نظر لأن العتاقة معلومة حكمًا لا مشاهدة لأن العتاقة التي يثبت بها الولاء بإعتاقه الملك (2) وكون الإنسان مالكا (3) لمعتقه لا يعلم إلا حكمًا لا مشاهدة وإذا شاهدناه قد أعتقه فإنما شاهدنا إعتاق من يحكم لكونه مملوكًا كالمعتقة وحكما لا قطعا، وهذا كله إذا نفى المولى عن مولاه الذي باشر عتقه فأما إذا نفى ابن المولى فيجب أن يحكم لنفيه إياه من نسبه (4) لا لنفي الولاء، وإنما قلنا إنه إذا رماه بالسرقة والقتل وغير ذلك فإنه يعزر لأنه لقد آذاه بذلك وألحق به المعرة بذلك الفعل فيجب ردعه وزجره. فصل [12 - في التعزير]: وليس في التعزير (5) حد مضروب إلا اجتهاد الإمام فيما يغلب على ظنه أنه ردع للمعزر خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما (6) لا يزاد على أربعين (7) وقول غيرهما ما (ينقص من الحد خمسة أسواط (8)، لأنه إجماع الصحابة لأن عمر رضي الله عنه جلد معن بن زائدة (9)) (10) لا نقش على خاتم بيت المال   (1) قال القاضي أبو محمد: سقطت من م. (2) في م: قلت. (3) في م: المالك. (4) في ق: فيجب أن يحد لنفيه أباه عن نفسه. (5) التعزير: في اللغة: التعظيم والتوقير وأيضًا: التأديب وعزرت الحمار أوقرته (الصحاح: 2/ 744) وفي الاصطلاح: عرفه ابن فرحون بقوله: تأديب اصطلاح وزجر على ذنوب لم يشرع فيها حدود (تبصرة الحكام: 2/ 200). (6) انظر الكافي: 557، تبصرة الحكام: 2/ 200، الشرح الكبير: 4/ 352. (7) انظر مختصر الطحاوي: 268، شرح فتح القدير: 5/ 115، المهذب: 2/ 288. (8) هو أحد قولي الإمام أحمد (مختصر الخرقي: 127، المغني: 8/ 324). (9) معن بن زائدة: أمير العرب، أبو الوليد الشيباني، أحد أبطال الإِسلام وعين الأجواد ت 152 هـ (سير أعلام النبلاء: 7/ 97، وفيات الأعيان: 5/ 244). (10) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1406 وأخذ به من صاحبه مالا فضربه مائة وحبسه ثم كلم به فضربه مائة ثم كلم به ثالثة فقال ذكرتني الطعن وكنت ناسيًا فضربه مائة (1)، وروي عن علي (2) رضي الله عنه أنه ضرب في التعزير خمسًا وتسعين سوطًا (3)، ولأن الفرض بالحد لما كان الردع والزجر عن ارتكاب ما فعل وجب أن يباح منه قدر ما يحصل به الغرض، ولأنه ضربٌ رآه الإمام محتاجًا إليه في ردع المعزر فجاز أن يبلغه أصله ما دون الحد. فصل [13 - في التعريض بالقذف]: إذا عرض بالقذف تعريضًا يفهم منه أنه أراده فعليه الحد وحكمه حكم الصريح، وذلك معلوم بشاهد الحال ومخارج الكلام والأسباب (4)، وقال أبو حنيفة والشافعي لا حد فيه (5)، ودليلنا أنه لفظ يفهم منه القذف كالصريح، إن كابروا وقالوا لا يفهم منه القذف فقد أحالوا المسألة لأن الخلاف فيه إذا فهم منه ما يفهم من الصريح فإذا أحالوا ذلك ارتفع الخلاف. فصل [14 - في عدد حد القذف]: حد القذف على الحر ثمانون، وعلى العبد أربعون، والأصل فيه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (6)، ولأن ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده، وعلى العبد أربعون لأن حده على النصف من حد الحر.   (1) معن لم يدرك عمر فكيف إذًا حصلت هذه القصة؟ وقد ذكرها ابن قدامة في كتابه المغني: 8/ 325. (2) في م: عمر. (3) مشكل الآثار: 3/ 166، 168. (4) انظر المدونة: 4/ 391، التفريع: 2/ 226، الرسالة: 242 الكافي: 576. (5) انظر مختصر الطحاوي 265، الإقناع: 169 - 170. (6) سورة النور، الآية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1407 فصل [15 - في قتل من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -]: ومن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ولم تقبل توبته، وفي الكافر روايتان: إحداهما أن توبته لا تقبل، والأخرى أنها تقبل وهذا إذا سبه بغير الوجه الذي كفر به (1) وإنما قلنا إن المسلم أو الكافر إذا سب النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل أن ذلك علم على ارتداده وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "من بدل دينه فاقتلوه" (2) وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} (3) فأخبر أن الإيمان لا يحصل منهم متى لم يحكموه بينهم ويعتقدوا أنه يحكم بالصواب، ولأن أبا بكر رضوان الله عليه سبه رجل فقام رجل فشهر سيفه ليضرب عنقه فقال أبو بكر: ما الذي أنت صانع فقال أقتله لسبه إياك فقال: ليس ذلك إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4). ولم يخالف عليه أحد، ويعرض الكلام في قذفه - صلى الله عليه وسلم -، فنقول إن القذف يراعى فيه الإحصان وللإحصان تأثير فيه يتعلق به الحد فيجب أن يكون منه ما يتعلق به القتل أصله الزنا. وقولنا يتعلق به الإحصان احترازًا من الشرب، وإذا ثبت أن منه ما يوجب القتل فليس ذلك إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن حد القذف مبني على حسب حرمة المقذوف ألا ترى أنه لا حد على قاذف الكافر لأنه لا حرمة له وكذلك قاذف العبد لنقصان حرمته عن الحر، وحرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من حرمة جميع أمته بمزية لا يشاركه فيها أحد منهم فوجب أن يكون لحد قذفه زيادة على غيره وليس إلا القتل.   (1) انظر التفريع: 2/ 232، الرسالة: 240، الكافي 585. (2) سبق تخريج الحديث ص 1362. (3) سورة النساء: 65. (4) البيهقي: 7/ 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1408 فصل [16 - في عدم قبول توبة من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: وإنما قلنا إن توبته لا تقبل إعظامًا لحرمته - صلى الله عليه وسلم - ولأن التوبة قذف غيره لا تقبل في سقوط الحد ففي قذفه أولى. فصل [17 - هل يرفع القتل عن الكافر بإسلامه بعد سب الرسول - صلى الله عليه وسلم -]: ووجه قوله في الكافر إذا قال: أنا مسلم أنه يقتل ولا يقبل منه اعتبارًا بالمسلم، ووجه قوله يقبل منه قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "الإِسلام يجب ما قبله" (2)، ولأن ذلك ليس بأعظم من كفره، والفرق بينه وبين المسلم أن الكافر يعلم منه اعتقاد ذلك وإنما يقتل على إظهاره والمسلم يعلم منه اعتقاد تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - فسبه دلالة على ردته. فصل [18 - فيمن أقر بالزنا وقال بفلانة]: إذا أقر بالزنا فإن عين وقال بفلانة وكان ممن يحد يقذفها: فإن صدقته حد للزنا دون القذف، وإن أكذبته حد للزنا والقذف لأنه حصل قاذفا زانيًا، وسواء كان بكرًا أو ثبيا فإنه يجتمع عليه الحدان ولا يتداخلان (3) لأن أحدهما يجب لحق الله على التجريد وهو الزنا والآخر يتعلق بحق الآدميين فلذلك لم يتداخلان، وقال أشهب يحد للزنا دون القذف، قال: لأنه لا يخلو أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فإن كان صادقًا لم يحد للقذف، وإن كان كاذبا حد للقذف دون الزنا فعلى أي الوجهين كان فلا يجتمع عليه الحدان، وقال شيخنا أبو بكر قد يزل (4) إلى قسم ثالث وهو أن يكون مكرها لها على الزنا فيكن صادقا في إقراره على نفسه بالزنا كاذبا في قذفه إياها فيجتمع عليه الحدان.   (1) سورة الأنفال، الآية: 38. (2) سبق تخريج الحديث. (3) انظر المدونة: 4/ 384، التفريع: 2/ 222، الكافي: 577. (4) في م: يخلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1409 فصل [19 - إذا لم يعين المقر بالزنا]: وإذا لم يعين حد للزنا ولم يحد بالقذف للجهالة بصفة المقذوفة لجواز أن يكون ممن لا يحد على قاذفها. فصل [20 - إذا مات المقذوف قبل أن يحد قاذفه]: وإذا مات المقذوف قبل أن يحد قاذفه فلورثته أن يحدوه لأنه حق من حقوقه يجوز له التوكيل فيه فكان للورثة القيام له اعتبارا بسائر حقوقه، ولأن القذف تنتشر معرته على أولياء المقذوف فكان لهم القيام به. فصل [21 - إذا قال لابن أمة أو كتابية يا بن الزانية أو يا بن زنية]: إذا قال لابن أمة أو كتابية يا بن الزانية فلا حد عليه، فإن قال يا بن زنية (1) فعليه الحد (2)، والفصل بينهما أن قوله يا بن زنية نفي له من نسبه وإضافته إلى فعل لا يلحق الولد فيه، وقوله يا بن الزانية قذف لأمه لا نفي لنسبه. فصل [22 - إذا قال يا منبوذ]: إذا قال له يا منبوذ فعليه الحد لأنه عرض له بنفي نسبه (3) لأن المنبوذ منقطع النسب غير لاحق بأحد. فصل [23 - في الاختلاف في كون حد القذف حق لله أو حق للآدميين]: اختلف عنه في حد القذف هل هو من حقوق الله أو من حقوق الآدميين (4) وفائدة ذلك أنه إذا كان من حقوق الله فلا يجوز العفو عنه بعد بلوغه إلى الإمام،   (1) في ق: زانية. (2) انظر التفريع: 2/ 226. (3) انظر الكافي: 576. (4) انظر المدونة: 4/ 387، الكافي: 577. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1410 وإذا كان من حقوق الآدميين جاز العفو عنه، والصحيح أنه من حقوق الآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف وحقوق الله لا تورث، ولأنه لا يستحق إلا بمطالبة الآدمي، والله أعلم (1). ...   (1) والله أعلم: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1411 (بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد) (1) كتاب القطع (2) مسألة [1 - وجوب حد السرقة]: قال القاضي أبو محمد (3): ويجب القطع على من يسرق من العقلاء البالغين ربع دينار من الذهب على اختلاف صفاته وأنواعه من جودة أو رداءة أو معمل أو مهمل (4)، أو ثلاثة دراهم من الورق على اختلاف أنواعها لا يقوم أحد الصنفين بالآخر، أو عرض يساوي أحدهما بحيث يكون الغالب من نقده إذا أخرجه من حرزه الذي هو حرز مثله على ما نبينه من بعد، حرا كان السارق أو عبد، مسلما كان أو كافرا، ذكرا كان أو أنثى، منفردًا أو مشاركًا بربع دينار فما زاد عليه، إذا كان المسروق مما يحتاج إلى التعاون في سرقته مثل الجذع أو العدل (5) الذي لا يمكن الانفراد بسرقته، فإن كان مما يمكن الواحد كالكيس (6)   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) يقصد كتاب القطع في السرقة: والسرقة: في اللغة أخذ الشيء في خفاء وستر (معجم مقاييس اللغة: 3/ 154) وفي الاصطلاح، أخذ مكلف حرا لا يعقل لصغره ومالًا محترمًا لغيره أخرجه من حرزه بقصد واحد خفية لا شبهة له فيه (حدود ابن عرفة: 504). (3) قال القاضي أبو محمد: سقطت من ق. (4) في م: أو إهمال. (5) الجذع: أي الخشبه الكبيرة، والعدل -بكسر العين- الوزن الكبير (المصباح المنير 396). (6) في م: كالكبش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1413 وشبه فأخرجه الجماعة من حرز فالقطع على واحد منهم عند مالك، ومن متأخري أصحابنا من سوى بين الأمرين فأوجب في الموضعين القطع واعتبره بما يحتاج إلى التعاون (1). فصل [2 - في أدلة وجوب القطع بالسرقة]: وإنما أوجبنا القطع بالسرقة في الجملة لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2) الآية، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم (3)، وقطع سارق رداء صفوان وقال لما قال له لم أرد هذا هو عليه صدقة (هلا قبل أن تأتيني به) (4)، ولأن ذلك إجماع (5). فصل [3 - اشتراط البلوغ والعقل في وجوب القطع]: وإنما شرطنا البلوغ والعقل في وجوب القطع لقوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (6) وذلك لا يكون إلا بمكلف، ومن شرط التكليف البلوغ والعقل، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: الموطأ: 2/ 831، المدونة: 4/ 412 التفريع: 2/ 227، الرسالة: 243، الكافي: 578، المقدمات: 3/ 207. (2) سورة المائدة، الآية: 38. (3) أخرجه البخاري في الحدود باب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}: 8/ 17، ومسلم في الحدود باب حد السرقة ونصابها: 3/ 1313. (4) أخرجه أبو داود في الحدود باب من سرق من حرز: 4/ 553، والنسائي في قطع السارق باب ما يكون حرزا وما لا يكون: 8/ 69، وابن ماجة في الحدود باب من سرق من الحرز: 2/ 865، وأحمد: 2/ 40، والحاكم: 4/ 380، والبيهقي: 8/ 265، وصححه الحفاظ. (5) انظر الإجماع: 139، المحلي: 13/ 340، المغني: 8/ 240، شرح مسلم- للنووي-: 7/ 200. (6) سورة المائدة، الآية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1414 حتى يفيق" (1)، ولأن ذلك حد من الحدود فلم يتوجه إلا على بالغ عاقل كحد الشرب والقذف. فصل [4 - في اشتراط النصاب في وجوب القطع]: وإنما شرطنا النصاب خلافًا لمن أوجب القطع في سرقة القليل (2) والكثير (3) لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقطع في التافه (4) وروي (القطع في ربع دينار فصاعدا) (5). فصل [5 - في نصاب السرقة]: وإنما قلنا إن النصاب من الذهب ربع دنيار، ومن الورق ثلاثة دراهم خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنه لا يقطع في أقل من عشرة دراهم (6)، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (7) فعم، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم (8)، وقالت عائشة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار فصاعدا (9)، (وروي القطع في ربع دينار (10)) (11) وهذا نص.   (1) سبق تخريج الحديث ص 26. (2) والكثير: سقطت من ق. (3) فإن الحسن وداود وابن بنت الشافعي والخوراج قالوا يقطع في القليل والكثير (المغني: 8/ 242). (4) سبق تخريج الحديث 1247 ص. (5) أخرجه البخاري في الحدود باب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} 8/ 17، ومسلم في الحدود باب حد السرقة ونصابها: 3/ 1313. (6) وانظر مختصر الطحاوي: 269، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 200. (7) سورة المائدة. الآية: 38. (8) سبق تخريج الحديث قريبًا. (9) سبق تخريج الحديث قريبًا. (10) سبق تخريج الحديث قريبًا. (11) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1415 فصل [6 - في نصاب السرقة من الورق]: وإنما قلنا إن النصاب من الورق ثلاثة دراهم كانت قيمتها ربع دينار أو أقل لأنه لا يقوم الذهب بالفضة ولا الفضة بالذهب، خلافًا للشافعي في قوله إنه لا نصاب للفضة وأن الاعتبار بربع دينار أو قيمته من الفضة أو العروض (1)، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (2)، فالظاهر يعم من سرق ثلاثة دراهم قيمتها دون الربع، ويرى أنه - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم (3)، وهذا يفيد الاعتبار بالدراهم إذا بلغت هذا القدر، ولأنه أصل مال يعتبر في الأثمان وقيم المتلفات فوجب أن تكون سرقته معتبرة بمقداره في نفسه دون الاعتبار بغيره أصله الذهب، ولأن كل حكم تعلق على الذهب والورق اعتبر فيه نصاب من الذهب وجب أن يعتبر فيه نصاب من الورق أصله الزكاة (4). فصل [7 - في نصاب السرقة من العروض]: فأما العروض فإنها مقومة بالدراهم دون الذهب فإن ساوى ما سرق منها (5) ثلاثة دراهم قطع سارقه، وكان شيخنا أبو بكر يقول هذا إذا كان الغالب من نقد ذلك الموضع الفضه (6) فإذا كان غالب نقدهم الذهب قومت بالذهب. فصل [8 - في التسوية بين أنواع الجنس في نصاب السرقة]: وإنما سوينا بين أنواع الجنس لعموم الظواهر، ولأن كل حكم تعلق بالذهب والفضة اعتبر فيه نصاب يتساوى فيه سائر أنواعه كالزكاة.   (1) انظر الأم: 6/ 130، مختصر المزني: 263، الإقناع: 171. (2) سورة المائدة، الآية: 38. (3) سبق تخريج الحديث قريبًا. (4) في م: كالزكاة. (5) في م: منه. (6) في م: إذا كان غالب نقدهم الدراهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1416 فصل [9 - في اعتبار الحرز في حد القطع]: وإنما اعتبرنا أن يسرق من الحرز خلافًا، لمن حكي عنه أن الحرز غير معتبر (1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطع في تمر معلق ولا في حريسة جبل (2)، فإذا أواه المراح والجرين (3) فالقطع فيما بلغ ثمن المجن) (4) ففرق بين أن تكون محرزة بإيوائها (5) إلى المراح وبين أن تبقى على أصلها في باب القطع فدل على اعتبار الحرز، وقوله "ليس على المنتهب قطع ولا على مختلس ولا على خائن ولا على من أخذ وديعة عنده أو مال قراض فلا قطع عليه) (6) لأنه لم يمنع منه بحرز (7) فكذلك من أخذ في دار غير مقفلة (8) ولا ممنوعة عنه ولا عن غيره. فصل [10 - في مراعاة إخراج المال من الحرز في اعتبار الحد]: وإنما راعينا إخراجه من الحرز لأنه ما دام في الحرز فلم (تتم السرقة لأن هتك الحرز لا يتم إلا) (9) بإخراج المسروق منه.   (1) حكي هذا القول عن عائشة والحسن والنخعي وداود (المغني: 8/ 248). (2) ثمر معلق: بالنخل والشجر وحريسه: أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع (النهاية: 1/ 1367). (3) المراح: هو موضع مبيت الغنم، والجرين: هو موضع يجفف فيه الثمار والجمع جرن (النهاية: 1/ 263). (4) أخرجه أبو داود باب ما لا يقطع فيه: 4/ 549، والنسائي في قطع السارق باب الثمر يسرق: 8/ 78، وابن ماجه في الحدود باب من سرق من الحرز: 2/ 865، والحاكم: 4/ 381، والبيهقي: 8/ 263، وأخرجه مالك في موطئه مرسلًا: 2/ 831. (5) في م: بأنواعها. (6) أخرجه أبو داود في الحدود باب القطع في الخلسة: 2/ 552، والنسائي في قطع السارق باب ما لا قطع فيه: 8/ 81، وابن ماجه في الحدود باب الخائن والمنتهب: 2/ 864، والترمذي في حدود باب ما جاء في الخائن ... وقال حسن صحيح: 4/ 42. (7) في ق: يجوز. (8) في م ور متعلقة. (9) ما بين القوسين سقط من (ق). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1417 فصل [11 - في التسوية بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، والمسلم والكافر في حد القطع]: وإنما سوينا بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، والمسلم والكافر لعموم الظواهر (1)، ولأن القطع شرع لحفظ الأموال وصيانتها ولم يعتبر فيه تكافؤ الدماء بين السارق والمسروق منه فوجب اعتبار عمومه لأنه ضرب من حد الحرابة بدليل أن المسلم إذا سرق من الكافر وإن كان لا يقاد به إذا قتله في الحرابة وإن كان لا يقاد به وإنه لا عفو فيه كما لا عفو للولي في قتل الحرابة قبل التوبة. فصل [12 - في كون الاشتراك في سرقة نصاب لا يسقط القطع]: وإنما قلنا إن الاشتراك في سرقة النصاب لا يسقط القطع خلافًا لأبي حنيقة والشافعي (2)، لعموم الظواهر والخبر، ولأن القطع شرع لصيانة الأموال لئلا تهتك ويجترأ عليها كالقصاص المشروع لحفظ النفوس ثم كان الاشتراك في القتل لا يمنع القود لأن في منعه إبطال الغرض الذي وضع له كذلك الاشتراك، ولأن الجناية (3) التي تستحق بها تناول الأعضاء يجب (4) على الجماعة إذا اشتركوا فيها ما يجب على المنفرد أصله الجماعة إذا قطعت يد رجل أو عضوا من غير اليد، ولأن اشتراكهم في إخراج المسروق من الحرز يقتضي قطع الجميع بدليل أنهم لو سرقوا متاعًا فجعلوه على دابة إلى خارج الحرز لقطعوا.   (1) من الآيات والأحاديث الواردة في حد القطع. (2) انظر مختصر الطحاوي: 270، الإقناع- للماوردي: 172. (3) في م ور: الجنايات. (4) يجب: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1418 فصل [13 - في التفريق بين ما لا يمكن إخراجه إلا بمعاونة وبين الثوب وغيره]: وإنما فرقنا بين ما لا يمكن إخراجه إلا بمعاونة وبين الثوب وغيره مما لا يحتاج إلى معاونة لأن نسبته السرقة إلى الجميع فيقتضي أن يكون لكل واحد منهم قسط فيها وذلك لا يحصل إلا بالتعاون الذي لولاه لم يخرج المسروق من الحرز، ووجه التسوية في إخراجه من الحرز حاصل منهم كالذي يحتاج إلى معاونة. فصل [14 - في الاعتبار بقيمة العرض المسروق وقت إخراجه]: والاعتبار بقيمة العرض المسروق وقت إخراجه من الحرز لا وقت القطع (1) خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن الاعتبار بكمال النصاب وقت القطع (2) لعموم الظاهر (3)، ولأن النقص الحادث بعد انفصال المسررق من الحرز لا يؤثر في سقوط الحرز أصله نقصان العين مثل أن يسرق ثوبا فيتلف بعضه (4) في القطع فرجع إلى ما دون النصاب، ولأنه سارق لنصاب من حرز مثله لا شبهة فيه أصله إذا لم ينقص القيمة، والاعتبار في الحدرد حال الوجوب دون حال الاستيفاء، كالعبد إذا زنى فلم يحد حتى أعتق والبكر إذا زنى فلم يحد حتى أحصن. فصل [15 - في عدم قطع من سرق عبدا كبيرًا فصيحا]: إذا سرق عبدا كبيرًا فصيحا لم يقطع (5) لأن سرقة هذا لا تصح فإن كان   (1) انظر المدونة: 4/ 412، التفريع: 2/ 227، الكافي: 581. (2) انظر مختصر الطحاوي: 273، تحفة الفقهاء: 3/ 150. (3) في م: الظواهر. (4) في نصفه. (5) انظر التفريع: 2/ 228، الكافي: 580. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1419 كبيرًا أعجميًّا أو كان صغيرا قطع لأن هذا في حكم البهيمة وأدون حالا من الصغير الذي لا اختيار له ولا تمييز. فصل [16 - في قطع من سرق حرا صغيرا]: إذا سرق حرا صغيرا قطع عند مالك وقالا عبد الملك لا قطع عليه (1) وهو قول أبي حنيفة والشافعي (2) ودليلنا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر له أن رجلًا يسرق الصبيان فأمر بقطعه (3)، ولأنه حيوان غير مميز سرق من حرز مثله يجب بذله عند الإتلاف كالبهيمة. فصل [17 - في قطع من سرق طعاما رطبا ويابسًا أو مصحفًا وغيره من المتمولات]: ويقطع في سرقة الطعام الرطب واليابس من الفواكه والبطيخ وغيره كالقثاء، والتفاح واللحم (4) مطبوخًا ونيئا (5) خلافًا لأبي حنيفة في إسقاطه القطع بسرقة رطب الطعام (6)، للظاهر والخبر، وقوله: (لا قطع في تمر معلق فإذا أواه الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن) (7)، ولأنه مال (8) متملك كاليابس، ولأن القطع يراد للردع والزجر والرطب أحوج إلى هذا من اليابس. ويقطع في سرقة المصحف (9) خلافًا لأبي حنيفة (10)، للظاهر والخبر،   (1) انظر الموطأ: 2/ 838، الكافي: 580. (2) انظر مختصر الطحاوي: 273، مختصر المزني: 264. (3) أخرجه ابن حزم في المحلي: 13/ 369 والبيهقي في سننه: 8/ 268. (4) في م: دون اللحم. (5) انظر المدونة: 4/ 418، التفريع: 2/ 228، الكافي: 579. (6) انظر مختصر الطحاوي: 272، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 203. (7) سبق تخريج الحديث ص 1417. (8) مال: سقطت من ق. (9) انظر المدونة: 4/ 418. (10) انظر مختصر الطحاوي: 272، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1420 ولأن كل ما جاز بيعه (وأخذ العوض عليه جاز أن يقطع في سرقته كسائر الأموال، ويقطع في سرقة جميع المتمولات التي يجوز بيعها) (1) وأخذ العوض عليها: كان أصلها مباحًا كالماء والصيد والتراب والحشيش، أو محظورًا غير مباح كالثياب والعقار ونحوه (2)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن كل ما أصله مباحًا فلا قطع في سرقته (3)، للظاهر والخبر، ولأنه نوع من مال يتمول في العادة كالثياب، ولأن أصله مباحًا (4) لا يمنع القطع في سرقته كالعبيد أصلهم الإباحة لأنهم مباح لمن شاء أن يسرقهم من دار الحرب ويسترقهم (5). فصل [18 - في قطع النباش]: يقطع النباش (6) إذا سرق من القبر كفنا يساوي نصابًا (7) خلافًا لأبي حنيفة (8) للظاهر والخبر، ولأنه سارق للنصاب من مال لا شبهة له فيه من حرز مثله فيلزمه (9) القطع كسائر السراق، ولأن سقوط القطع لا يخلو أن يكون لعدم الملك أو الحرز أو لعدم الخصومة، ولا يجوز أن يكون لعدم الملك لأن الملك ثابت على الكفن إما للميت أو لورثته، ولا لعدم الحرز لأن القبر حرز للميت ولكفنه، ولأن حرز كل شيء ما جرت العادة به ومن دفن ميتًا بكفنه   (1) ما بين قوسين سقطت من ق. (2) انظر المدونة: 4/ 418. (3) انظر مختصر الطحاوي: 272، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 203. (4) في ق: كون الأبوحة. (5) في م: ويسرقهم. (6) النباش: سمي كذلك لأنه ينبش القبر ليسرق كفن الميت. (7) انظر الموطأ: 2/ 838، التفريع: 2/ 228، الكافي: 580. (8) انظر مختصر الطحاوي: 273، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 205. (9) في م: فلزمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1421 وسد القبر لم ينسبه أحد إلى إضاعة الكفن ولا (1) إلى تفريط فيه، ولا لعدم الخصومة (لأنها واجبة للورثة أو الإمام إذا لم تبق جهة لسقوط القطع فثبت وجوبه) (2). فصل [19 - في قطع من سرق من المغنم ومن بيت المال]: ويقطع من سرق عن المغنم ومن بيت المال خلافًا لعبد الملك في قوله إنه من سرق زيادة على قدر نصيبه بربع دينار قطع وإلا فلا قطع عليه (3)، ووجه إيجاب القطع الظاهر والخبر، ولأنه سرق مالا من حرز لا شبهة له في عينه كغير المغنم، ولأن كل مال تقبل شهادته فيه جاز أن يقطع في السرقة منه كمال الأجنبي، ووجه إسقاطه حصول الشبهة له فيه كالأب يسرق من مال ابنه. فصل [20 - في عدم القطع في ثمر معلق ولا نخل ولا شجر ولا حريسة جبل]: لا قطع في ثمر معلق ولا نخل ولا شجر ولا حريسة جبل إلا إذا أواه الجرين أو المراح قطع في سرقته (4)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطع في ثمر ولا كثر" (5) والكثر الجمار (6) معناه في رؤوس النخل والشجر لأنه لم يضعه فيه كمن يقصد إلى إحرازه فيه وإنما هو بوضع الله تعالى، فإذا أواه إلى الجرين ففيه القطع لأنه أحرزه في حرز مثله، والغنم في الرعي كذلك أيضًا لا قطع فيها لأنها منتشرة (7) في غير حرز فإذا أواها المراح حصلت حينئذ محرزة.   (1) لا: سقطت من ق. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) انظر التفريع: 2/ 228، الرسالة: 244، الكافي: 579. (4) انظر التفريع: 2/ 228، الرسالة: 244، الكافي: 579. (5) أخرجه أبو داود في الحدود باب ما لا قطع فيه: 4/ 549، والنسائي في قطع السارق باب ما لا قطع فيه: 8/ 78، وابن ماجه في الحدود باب لا يقطع في ثمر ولا كثر: 2/ 865، والترمذي في الحدود باب لا قطع في ثمر وقال حديث حسن: 4/ 52. (6) والكثر الجمار: سقط من م ومن ر. (7) في م: متسيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1422 فصل [21 - من سرق دارًا فيها منازل متفرقة]: ومن دخل دارًا فيها منازل متفرقة لقوم منزل كل واحد مغلق عن منزل الآخر فسرق من بعضها شيئًا وأخرجه إلى ساحة الدار فعليه القطع (1) لأنه قد أخرجه من حرزه ولأن من حرزه البيت الذي هو فيه ويغلق بابه عليه (2) دون ساحة الدار فإن كانت الدار لواحد فلا قطع عليه حتى يخرج به من جميعها لأن جملتها حرزًا لما يكون فيها، فإذا أخرجه إلى ساحتها كان (3) كمن نقله من موضع من الحرز (4) إلى موضع منه آخر فلا قطع عليه. فصل [22 - المراعاة في القطع إخراج الشيء المسروق من الحرز]: المراعاة (5) في القطع إخراج الشيء المسروق من الحرز فمن باشر ذلك قطع كان هو خارج الحرز أو داخله، فلو اجتمع سارقان أحدهما خارج الحرز والآخر داخله فقرب الداخل المتاع إلى موضع النقب داخل الحرز فإن أدخل الخارج يده فأخرجه فعلى الخارج القطع لأنه هو المخرج له دون الداخل، وقد قيل (6) لا قطع عليه لأنه لم يكن منه إخراج في الحقيقة لأنه كان في حكم المخرج بتقريبه إلى باب النقب (7) فصار كالمخرج من غير حرز، فإذا لم يجب عليه (8) لم يجب على الداخل لأنه في الحقيقة لم يخرجه (9) من الحرز وإنما عرضه   (1) انظر المدونة: 4/ 415، التفريع: 2/ 229، الرسالة: 243، الكافي: 581. (2) في م: وتعلق بأنه عليه. (3) كان: سقطت من م. (4) من الحرز: سقطت من ق. (5) في م: المراعي. (6) في م ور: قال. (7) في م: الثقب. (8) لم يجب عليه: سقطت من ق. (9) في ق: لم خرج به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1423 للإتلاف والإخراج، والقياس أن القطع على الخارج لأنه باشر إخراج المسروق من الحرز. وإن أخرج الداخل المتاع بيده أو برميه إلى خارج الحرز فعليه القطع لأن الخارج لم يكن له صنع في إخراجه من الحرز، وقال شيخنا أبو القاسم رحمه الله والداخل إذا قرب المتاع إلى النقب (1) ولم يخرجه يحتمل أن لا يقطع لأنه نقل المتاع من موضع الحرز إلى موضع آخر ولم يباشر إخراجه من جملة الحرز (2)، ويحتمل أن يقطع لأن الخارج لم يتمكن بإخراج السرقة إلا بتقريب الداخل لها إليه فوجب أن يقطعا جميعا لأنهما اشتركا في إخراج السرقة من حرزها (3). فصل [23 - اليد التي تقطع في أول السرقة]: ويقطع في أول السرقة اليد اليمنى من الكوع ويحسم بالنار فتكوى، ثم في الثانية الرجل اليسرى من الكعب، ثم في الثالثة اليد اليسرى من الكوع، ثم في الرابعة الرجل اليمنى ثم فيما بعد ذلك الضرب والحبس، واختلف فيه إذا لم يكن له يمين أو كانت شلاء: قيل يقطع رجله اليسرى وقيل بل يده اليسرى، وإذا ذهبت أصابع من اليد فإن كان الباقي أكثر قطعت، وإن لم يبق إلا أصبع أو أصبعان عدل إلى الرجل (4). فصل [24 - في كون القطع من الكوع]: وإنما أوجبنا القطع من الكوع خلافًا لمن يقول من الأصابع أو الإبط (5) لقوله تعالى: {اقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (6) والأخذ بأوائل الأسماء واجب، ومن   (1) في م: الثقب. (2) جمبة الحرز: سقطت من م. (3) انظر المدونة: 4/ 414، التفريع: 2/ 229، الرسالة: 243، الكافي: 581. (4) انظر التفريع: 2/ 227، الرسالة: 243، الكافي: 581 - 583. (5) قالت الخوارج قطع اليد من المرفق أو المنكب (انظر المحلى: 13/ 404). (6) سورة المائدة، الآية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1424 قطع من الكوع سمى مقطوع اليد ولا يسمى بذلك من قطعت أصابعه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك هو والسلف بعده. فصل [25 - في كون القطع في الثانية يسرى]: وإنما قلنا يقطع في الثانية يسرى رجليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله" (1) وهذ نص وروي أنه - صلى الله عليه وسلم -: "أوتي بسارق فقطع يده ثم أوتي به ثانية فقطع رجله (2)، ولأن ذلك مروي عن أبي بكر وعمر وعلي رضوان الله عليهم (3). فصل [26 - ويقطع الثالثة والرابعة]: وإنما يقطع الثالثة والرابعة خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا يقطع (4) لقول الله عز وجل {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (5) ولم يخص يمنى من شمال، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله" (6) ولأن كل يد تؤخذ قصاصها فلها مدخل في قطع السرقة كاليمنى، ولأنه سرقة مع وجود بعض (7) الأطراف جاز أن يجب القطع فيها كالأولى والثانية، وفعله أبو بكر رضي الله عنه (8) ولا مخالف له.   (1) أخرجه الدارقطني: 3/ 181، وفي إسناده الواقدي (انظر تلخيص الحبير: 4/ 168). (2) أخرجه عبد الرزاق: 10/ 239، وابن أبي شيبة: 9/ 511، والبيهقي: 8/ 237 وقال: هو مرسل بإسناد صحيح. (3) انظر البيهقي: 8/ 374، عبد الرزاق: 10/ 186، المحلى: 11/ 355. (4) مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 208. (5) سورة المائدة، الآية: 38. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) في م: نقص. (8) انظر البيهقي: 8/ 384، عبد الرزاق: 10/ 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1425 فصل [27 - في ضرب وحبس من سرق في الخامسة]: وإنما قلنا في الخامسة إنه يضرب ويحبس لأن الشرع لم يرد بقطع شيء في السرقة سوى الأطراف الأربعة فلم يبق إلا تأديبه بالضرب والحبس ولا يجوز قتله خلافًا لمن حكي عنه ذلك (1)، لأن السارق لا يجب قتله كسارق الأولى والثانية. فصل [28 - في حسم اليد المقطوعة]: وإنما قلنا تحسم بالنار وتكوى لأنها إن تركت تعدى ضررها إلى المرفق وربما أتت على النفس وليس الغرض إلا إبانتها فقط فوجب أن يقتصر على ذلك. فصل [29 - في وجه أنه يقطع اليسرى إن عدم اليمنى ..]: ووجه القول بأنه إذا لم يكن له يمنى أنه يقطع الرجل اليسرى إن عدم اليمنى من اليدين يوجب قطع اليسرى من الرجلين أصله إذا قطعت في السرقة، ووجه الأخرى أن اليد باليد أشبه بها من (2) الرجل وأولى أن تقوم مقامها ويؤخذ بها والأول أقيس. فصل [30 - في عدم قطع اليد الشلاء]: وإنما قلنا إن الشلاء لا تقطع لأن الغرض بالقطع إبانة منفعتها والشلاء معدومة المنفعة، ولأنه قطع واجب في طرف يراد به تفويت (3) منفعته فلا يؤخذ إذا لم يكن فيه منفعة كالقصاص. فصل [31 - في ذهاب الأصبع من اليد]: وإنما قلنا في ذهاب الأصبع ما قلناه لأن بقاء أكثر يبقى معه أكثر المنافع فكان كذهاب الجميع.   (1) حكى هذا القول عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز (المغني: 8/ 264). (2) لها من: سقطت من ق. (3) في ق: ترفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1426 فصل [32 - في عدم قطع الأب إذا سرق الأبوان من مال الولد]: إذا سرق الأبوان من مال الولد لم يقطعا لأن لهما شبهة في ماله (1) بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - "أنت ومالك لأبيك" (2)، ولأنه لا يحد إذا زنى بأمته ولا يجوز له نكاحها، ولوجوب النفقة عليه في إعساره، وحكم الأجداد والجدات حكم الأبوين دنيا (3) لقوة أمر الولادة. فصل [33 - في قطع الولد إذا سرق من مال الأبوين]: وإذا سرق الولد من مالهم قطع خلافًا للشافعي (4) للظاهر والخبر ولأنه لا شبهة له في مال أبيه وأمه كالأجنبي بدليل عكس ما ذكرناه. فصل [34 - في قطع من سرق من الأخوة والعمومة والأخوال وغيرهم]: ومن عدى عمود النسب الأعلى من الولادة يقطع في سرقته من مال نسبه (5) كالأخوة والعمومة والأخوال وغيرهم (6)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا يقطع في السرقة من ذي رحم محرم (7)، للظاهر والخبر، ولأنها قرابة لا يقتضي شبهة للسارق في مال المسروق منه كبني العمومة. فصل [35 - في كون الزوجية لا تمنع القطع في السرقة]: الزوجية لا تمنع القطع في سرقة أحدهما من الآخر خلافًا لأبي حنيفة وأحد   (1) انظر الموطأ: 2/ 837 - 838، الكافي: 578. (2) سبق تخريج الحديث ص 801. (3) دنيا: سقطت من م. (4) انظر الأم: 6/ 151، مختصر المزني: 265، الإقناع: 172. (5) في م: نسيبه. (6) انظر الموطأ: 2/ 838، الكافي 578. (7) انظر مختصر الطحاوي: 270، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1427 قولي الشافعي (1) للظاهر والخبر، ولأن الزوجية لا تقتضي شبهة في مال ولا شركة فيه لأنه عقد على المنافع كالأجير. فصل [36 - إذا سرق متاعا كان قد قطع في سرقته أولا]: إذا سرق متاعا فقطع فيه ثم سرقه ثانية قطع أيضًا خلافًا لأبي حنيفة (2) لأنه حد يجب بإيقاع فعل في عين فجاز أن يتكرر بتكرار الفعل بها أصله إذا زنى حد ثم زنى بها ثانية. فصل [37 - إذا أقر بسرقة ثم رجع إلى شبهة]: إذا أقر السرقة ثم رجع إلى شبهة سقط عنه القطع ولزمه الغرم (3) لأن القطع حق لله يلزم (4) بالثبوت على الإقرار به ويسقط بالرجوع عنه، والغرم حق لآدمي لا يسقط بالرجوع عنه، وإن أكذب نفسه فعلى روايتان وقد ذكرناه في الزنا، وهذا في القطع وأما الغرم فلا يسقط على أي وجه رجع. فصل [38 - إذا قطع السارق ثم وجد الشيء المسروق عنده]: إذا قطع السارق ثم وجد الشيء المسروق عنده لزمه رده إلى مالكه (5) لأنه باق على ملكه لم يخرج عنه بقطع سارقه، ولأن القطع ليس ببدل من العين المسروقة ولا بعوض منها وإنما هو لانتهاك حرمة الحرز. فصل [39 - إذا تلف المسروق وله مال غرمه]: وإن تلفت عنده وله مال غرمها، وإن لم يكن له مال لم يتبع بها (6)، وقال   (1) انظر مختصر القدروي مع شرح الميداني: 3/ 205، الأم: 6/ 151. (2) مختصر الطحاوي: 271، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 209. (3) انظر المدونة: 4/ 426، 428، التفريع: 2/ 230، الكافي: 580. (4) في م: يلزمه. (5) انظر التفريع: 2/ 230، الرسالة: 244، الكافي: 582. (6) انظر التفريع: 2/ 230، الرسالة: 244، الكافي: 582. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1428 الشافعي يتبع بها دينا في ذمته كالغصب (1)، وقال أبو حنيفة المالك بالخيار إن شاء قطع ولم يتبعه بالغرم وإن شاء غرمه (2) ولم يقطعه، ولا يستحق على السارق الجمع بين القطع والغرم (3) فدليلنا على الشافعي في أنه لا يتبع في اعتباره (4) قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (5) ولم يوجب سوى ذلك، وروى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أقيم على السارق الحد لا غرم عليه" (6)، ولأن إتلاف المال لا يجب به عقوبتان، والقطع عقوبة فلا تجب عليه عقوبة أخرى. فصل [40 - في الدليل على أبي حنيفة في وجوب القطع مع اليسار]: ودليلنا على أبي حنيفة في وجوب القطع مع اليسار أن السبب الموجب للقطع غير السبب الموجب للغرم لأن القيمة تجب لأجل الإتلاف والقطع لحق الله تعالى وهو إخراج المال المسروق، وإذا كان كذلك لم يتنافيا وكان كالمحرم يتلف صيدا مملوكا فيلزمه الجزاء والقيمة، وقال بعض شيوخنا إن أخذ القيمة مع القطع استحسان والقياس ألا يلزم شيئًا لأنه لو لزمه غرمها مع اليسار لزمه ذلك في ذمته مع الإعسار، وإنما استحسنوا ذلك لجواز أن يكون قد أخذ لها بدلا وثمنا فاختلط بماله.   (1) انظر الأم: 6/ 151، المزني: 264، الإقناع: 172. (2) في م: ابتعه. (3) انظر مختصر الطحاوي: 269 - 270، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 209. (4) في م: الإعسار. (5) سورة المائدة، الآية: 38. (6) أخرجه النسائي في قطع السارق باب تعليق يد السارق في عنقه: 8/ 85، وهو حديث مضعف عند أهل الحديث لأنه مقطوع وقد وصله بعضهم وقال النسائي هذا مرسل وليس بثابت: 8/ 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1429 (قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه) (1) والفرق بين هذا وبين قول (2) أبي حنيفة أن عند أبي حنيفة يسقط القطع إذا اختار المالك إغرامه وعندنا لا يسقط بوجه، وهذا كله إذا كان المسروق نصابا يقطع فيه فأما إن كان دونه فالغرم واجب مع العسر واليسر لأنه ليس فيه قطع ولا اجتماع عقوبتين (3). فصل [41 - فيمن سرق من حلي الكعبة ومن قناديل المسجد]: ومن سرق من حلي الكعبة فلا قطع عليه وكذلك من قناديل المسجد وآلته لأن ذلك غير محرز فيه (4) لأن دخوله مباح مأذون فيه، ومن أصحابنا من يقول إن كان ذلك (5) نهارًا فلا قطع وإن كان ليلًا وقد أغلقت أبواب (6) المسجد قطع لأن بإغلاق المسجد يصير ما فيه محرزًا فسارقه سارق من حرز فيلزمه القطع. فصل [42 - إذا سرق حليا من صبي]: إذا سرق حليا من صبي: فإن كان معه من يحفظه قطع لأن حفظ الحافظ له حرز للحلي ولما عليه، وإن كان مخلى فلا قطع عليه (7) لأن الصبي ليس بحرز لما معه، وإن كابره فلا قطع عليه كان معه حافظ أولا لأن ذلك غصب وليس بسرقة.   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) قول: سقطت من ق. (3) انظر التفريع: 2/ 230، الرسالة: 243، الكافي: 580. (4) في م: عنه. (5) ذلك: سقطت من م. (6) أبواب: سقطت من م. (7) انظر التفريع: 2/ 230، الكافي: 580. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1430 فصل [43 - في قطع الآبق بسرقته]: ويقطع الآبق إذا سرق من غير سيده (1) خلافًا لبعضهم (2)، للظاهر والخبر، ولأنه مكلف سرق نصابًا من حرز مثله لا شبهة له فيه كغير الآبق. فصل [44 - في عدم قطع العبد إذا سرق من مال سيده]: ولا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده، وكذلك المدبر والمكاتب وأم الولد (3) لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه عبد سرق من مال سيده فقال عبدكم سرق متاعكم لا قطع عليه (4)، ولأن القطع معلق بالضمان فلما لم يضمن العبد ما استهلك من مال سيده لم يقطع في سرقته، ولأن القطع شرع صيانة للأموال وحفظًا لها فلو قطعنا العبد في سرقته من مال سيده كنا قد أتلفنا ماله وذلك ضد حفظه. فصل [45 - إذا سرق عبد رجل من مال زوجة سيده أو عبد امرأة من مال زوجها]: وإن سرق عبد رجل من مال زوجة سيده أو عبد امرأة من مال زوجها من موضع قد أحرز عنه ولم يؤذن له في دخوله فعليه القطع (5) لأن حكم عبيدهم حكم ساداتهم فلما كان أحد الزوجين يقطع فيما سرقه من مال (6) الآخر من موضع قد أحرز عنه وأغلق دونه فكذلك يجب قطع عبده إذا سرق منه، ولأن كل ما يقطع فيه الإنسان يقطع يد عبده فيه وكل ما لا قطع للإنسان فيه فلا يقطع عبده فيه.   (1) انظر الموطأ: 2/ 833 - 834. (2) قال مروان وسعيد بن العاصي وأبو حنيفة لا يقطع (المغني: 8/ 268). (3) انظر التفريع: 2/ 230، الكافي: 578. (4) البيهقي: 8/ 282، الموطأ: 2/ 848، الخراج لأبي يوسف: 205. (5) انظر التفريع: 2/ 231، الكافي: 578. (6) مال: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1431 فصل [46 - إذا أتلف السارق المال في الحرز]: وإذا أتلف السارق المال في الحرز قبل أن يخرج به أو خرج به بعد إتلافه وهو لا يساوي نصابا فعليه الغرم ولا قطع عليه (1) لأن الإتلاف إذا لم يتم السرقة فلا قطع فيه ويصير كالغصب والاعتداء من غير سرقة، والمراعى إخراجه بحاله من الحرز أو بلوغ قيمته نصابًا بعد الإتلاف (2) حال إخراجه من الحرز. ...   (1) انظر المدونة: 4/ 415، الكافي: 582. (2) في م: الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1432 كتاب العتق إذا أعتق شركًا له في عبد عتق (1) عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا غائبا كان الشريك أو حاضرا أذن في ذلك أو لم يأذن فدفعت القيمة وعتق عليه وكان له الولاء، وليس لشريكه أن يأبى ويتمسك بحصته إلا أن يقول: إما أعتق بحصتي ولا (2) أقومها فيكون ذلك له، ويكون الولاء بينهما إذا أعتقه منجزًا لا مؤجلًا، فإن أعتق إلى أجل كان كمن لا يعتق ودفعت إليه وينجز العتق. وقال عبد الملك يقع العتق منجزًا ولا يعتق بالسراية في أظهر الروايتين بل بالتقدم ودفع القيمة إلى الشريك، ولا يلتفت إلى قول العبد: لا اختار تكميل عتقي به، وإن كان المعتق معسرا لم يقوم عليه وكانت حصة الشريك وفاء بحالها إلا إن اختار الشريك إعتاق نصيبه (3) ابتداء فيكون ذلك له، ولا يلزم العبد السعي في قيمة نصيب الشريك منه ويبقى رقا بحاله، وإن لم يكن له من المال من يفي بقيمة نصيب الشريك قوم عليه بقدر ما معه وعتق عليه وكان الباقي وفاء سواء كان العبد نصرانيًّا أو مسلمًا كان لمسلمين أو لمسلم واحد (4) ونصراني أعتقه المسلم أو النصراني فالحكم فيه على ما ذكرناه إلا أن يكون بين نصرانيين فلا يعرض لهما إذا كان العبد نصرانيًّا وإن كان مسلمًا لزم فيه ما يلزم بين المسلمين.   (1) العتق: في اللغة: الجمال والكرم والحرية (المصباح: 4/ 1520) وفي الاصطلاح: رفع ملك حقيقي لا بسباء محرم عن آدمي حي، (الرصاع على ابن عرفة: 513). (2) في م: إلا. (3) في م: حصته. (4) واحد: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1433 وقال في المختصر الكبير (1): لا قيمة على المعتق فإن مات العبد قبل تقويمه فلا شيء على المعتق، وإن كان معسرًا فرفع إلى الحاكم فحكم بسقوط التقويم عليه (ثم أيسر بعد ذلك فلا قيمة عليه، وإن لم يرفع حتى أيسر ففيها روايتان: إحداهما وجوب التقويم عليه) (2)، والأخرى سقوطه عنه، ومن أعتق من بقية الشركاء حصته بعد إعتاق المعسر حصته فلا قيمة عليه لشركائه، والعبد بين الشركاء مختلفة أنصابهم منه: إذا أعتق اثنان حصتهما قوم نصيب شريكهما الباقي عليهما بقدر أنصبائهما، وقيل على عدد رؤوسهما بخلاف الشفعة، وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرا قوم على الموسر وسقط عن المعسر، وكل (3) من بعض العتق باختياره لزم تكميله عليه مثل أن يشتري بعض عبد ممن يعتق عليه كاتبه ابنه (4) أو أن يهب له (5) أو يتصدق به عليه أو أن يوصي له به فيقبله أو يأخذه صلحًا على أرش الجناية أو عن دعوى على إقرار أو إنكار أو يشتريه وكيل له وهو لا يعلم أو تصدقه امرأة في نكاح عالمة به أو ما أشبه ذلك، فأما إن ورثه فلا يلزمه تكميله ولو كان ببعض ما تقدم ذكره بعد عتق ما ملكه بالميراث لم يقوم عليه باقيه، ولو تأخر تقويم أمه (6) عتق بعضها حتى ولدت كان ولدها بمنزلتها يقوم (7) معها، والاعتبار في القيمة يوم الحكم دون يوم العتق، هذا الحكم فيه إذا كان بينه وبين غيره، فأما إن كان العبد كله له فأعتق بعضه فإن الباقي يكمل عليه: وقد اختلف عنه في تكميله هل يكون بالسراية أو بالحكم فعنه في ذلك روايتان:   (1) من الكتب المهمة في المذهب ألفه ابن عبد الحكم. (2) ما بين قوسين: سقط من م. (3) في م: كان. (4) ابنه: سقطت من م. (5) في ق: يذهب له. (6) في ق: متى. (7) في م: مقومين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1434 إحداهما بالسراية، والأخرى بالحكم، ومن أعتق بعض عبده وهو مريض كمل عليه الباقي في ثلثه، ولو وصى بإعتاق بعض عبده أو بحصته من عبد ففي تكميله روايتان: إحداهما وجوبه، والأخرى سقوطه (1). فصل [1 - في عتق حصته من العبد]: وإنما قلنا إنه يعتق عليه حصته من العبد لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم" (2) وهذا يملكه كله (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه حصه شركائه" (4)، ولأنه أعتق ملكا له ليس لأحد حق فيه فوجب نفوذه كالمنفرد به. فصل [2 - في تكميل نصيب الشريك]: (وإنما قلنا إنه يكمل عليه نصيب الشريك إذا كان موسرًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن المعتق قوم عليه قيمة العدل وأعطى شركاء حصصهم" (5)، ولأن تبعيض العتق جناية فيلزمه غرم ما أذهبه بجنايته، ولأن العتق مغلب ومبني على السراية فوجود نقصه يؤدي إلى تكميله. فصل [3 - في اشتراط كون المعتق موسرًا]: وإنما شرطنا أن يكون موسرًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... وكان له مال يبلغ ثمن   (1) في جملة أحكام العتق هذه انظر: الموطأ: 2/ 772، المدونة: 2/ 360، التفريع: 2/ 21، الكافي: 503، المقدمات: 3/ 153. (2) أخرجه أبو داود في الطلاق باب في الطلاق قبل النكاح: 2/ 640، وابن ماجه في الطلاق باب لا طلاق قبل النكاح: 1/ 660، والترمذي في الطلاق واللعان باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح: 3/ 486، وقال حديث حسن صحيح. (3) في م: ملكه. (4) سبق تخريج الحديث 1213. (5) سبق تخريج الحديث 1213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1435 العبد قوم عليه وإلا فقد عتق منه ما أعتق" (1) وهذا نص ولأن في تقويم حصة الشريك عليه وهو معسر إضرارا به وبالشريك، وإنما لم نفرق بين الغائب والحاضر لعموم الخبر، ولأن الغائب يحكم عليه عندنا في الحقوق كلها ويستحب التوقف عليه إن كان قريب الغيبة لجواز أن يختار إعتاق نصيبه. فصل [4 - في عدم التفريق بين إذنه وعدم إذنه]: وإنما لم نفرق بين إذنه وبين عدم إذنه لعموم الخبر، ولأن تكميل العتق يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للعبد، وحق للشريك، فليس له إسقاط حق غيره ولا يصح أيضًا إسقاط حق نفسه قبل وجوبه. فصل [5 - اعتبار حصة الشريك بعد أخذ القيمة]: وإنما شرطنا في اعتبار حصة الشريك أن يكون بعد أخذ القيمة خلافًا للشافعي في قوله إنه يعتق بالسراية (2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطى شركاؤه حصصهم وأعتق عليه" (3) فشرط في عتقه أن يقوم عليه العبد وأن يدفع إلى الشريك، ولأن تصرف الإنسان في ملكه لا يسرى إلى ملك غيره كالبيع، ولأنه تقويم لإزالة الضرر عن الشريك كالشفعة وقد ثبت أن ملك المشتري لا يزول عن الشقص إلا بعد قبض الثمن فكذلك في [العتق] (4). فصل [6 - في كون الولاء لمن أكمل عليه العتق]: وإنما قلنا إن الولاء كله لمن أكمل عليه العتق لأن عتق جميع العبد من جهته فكان الولاء له لقوله - صلى الله عليه وسلم - "الولاء لمن أعتق" (5).   (1) سبق تخريج الحديث 1213. (2) انظر مختصر المزني: 319، الإقناع: 205. (3) سبق تخريج الحديث 1213. (4) مطموسة في ق وم. (5) أخرجه البخاري في الفرائض باب ما يرث النساء من الولاء: 8/ 11، ومسلم في العتق باب إنما الولاء لمن أعتق: 2/ 1141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1436 فصل [7 - ليس للشريك أن يأتي تكميل العتق]: وإنما قلنا إنه ليس لشريكه أن يأتي ذلك إذا لم يعتق من حصته لعموم الخبر، ولأن في ذلك إسقاط حق الله تعالى وحق العبد من تكميل العتق فلا يترك ومراده. فصل [8 - إذا اختار إعتاق نصيبه]: وإنما قلنا إنه إذا اختار إعتاق نصيبه فذلك له لأن الغرض تكميل العتق بينهما فمن أي الشريكين حصل جاز. فصل [9 - الولاء يكون بينهما]: وإنما قلنا إن الولاء يكون بينهما حينئذ لأن العتق حاصل منهما فلهما الولاء بقدر أنصبائهما. فصل [10 - في عدم صحته إعتاقه مؤجلًا]: ووجه قول مالك إنه لا يصح إعتاقه مؤجلًا لأنه باق على الرق إلى أن يحل الأجل، وإن مات قبل الأجل فعلى الرق ويبطل الغرض بتعجيل التكميل، ووجه قول عبد الملك أنه خدمة استثناء من لا يجوز له استخدامه فوجب بتخيير عتقه وسقوط استثنائه. فصل [11 - في عدم الالتفات إلى قول العبد لا أختار تكميل العتق]: وإنما قلنا لا يلتف إلى قول العبد لا أختار تكميل عتقي لعموم الخبر، ولأن في ذلك إسقاط حق الله تعالى وحق الشريك فلم يجز) (1). فصل [12 - إذا كان المعتق معسرًا لم يلزم العبد السعي في قيمة نصيبه]: وإنما قلنا إن المعتق إن كان معسرًا لم يلزم العبد السعي في قيمة نصيبه منه خلافًا لأبي حنيفة (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من أعتق شركًا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن   (1) ما بين قوسين كله ساقط من م. (2) انظر مختصر الطحاوي: 367، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1437 العبد قوم عليه وأعطى شركاءه حصصهم وأعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق" (1) ولأنه عتق من غير جهة من كانت من الجناية فلم يكن واجبًا كالمكاتب (2)، ولأن العبد لم تكن منه جناية ولا إتلاف وكذلك الشريك الذي لم يعتق وسبب الإتلاف هو من المعتق فإذا لم يلزمه تقويمه فالعبد أولى. فصل [13 - إذا كانت مع الشريك قيمة بعض النصيب]: وإنما قلنا إنه إذا كان معه قيمة بعض النصيب أخذت منه وعتق بقدرها من العبد لأن وجود المال لما كان شرطا في وجوب التقويم على الشريك وجب أن يكون كل جزء من العبد مقابلًا لجزء من المال، فإذا وجد من المال ما يعتق به بعضه عتق منه بقدره. فصل [14 - في التسوية بين العبد المعتق بعضهم مسلمًا أو نصرانيًّا]: وإنما سوينا بين العبد المعتق بعضه مسلمًا أو نصرانيًّا لعموم الخبر، ولأن ذلك حكم بين مسلمين فوجب أن يحكم فيه بحكم الإِسلام. فصل [15 - في التسوية بين كون السيد المعتق مسلمًا أو نصرانيًّا]: وإنما سوينا بين كون السيد المعتق مسلمًا أو نصرانيًّا لما قدمناه، ولأنه حكم بين مسلم ونصراني فوجب أن يعتبر فيه حكم الإِسلام اعتبارًا بسائر الأحكام. فصل [16 - في العبد المسلم بين نصرانيين يعتق أحدهما]: ووجه قوله في العبد المسلم بين نصرانيين يعتق أحدهما نصيبه منه إنه لا يقوم عليه حصة شريكه (3) أن تكميل العتق من حقوق الله تعالى (4) وليس من   (1) سبق تخريج الحديث ص 1213. (2) في م: كالكتابة. (3) في ق: حصته الشريك. (4) في م: عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1438 حقوق الآدميين والكفار لا يؤخذون بحقوق الله تعالى ووجه إيجاب التقويم أن في تكميل العتق ثلاثة حقوق، أحدها لله تعالى، والآخر للشريك والآخر للعبد فيجب على هذا أن يكمل على النصراني المعتق نصيبه من العبد المسلم لأنه حكم بين نصراني ومسلم قاله شيخنا أبو القاسم رحمه الله. فصل [17 - إذا مات العبد قبل التقويم]: وإنما قلنا إن العبد إذا مات قبل التقويم فلا قيمة على من أعتق حصته منه لأن القيمة تجب بالحكم فإذا مات تعذر التقويم فلم يلزم الشريك شيء لأنه لم يتلف على شريكه شيئًا. فصل [18 - إذا أيسر الشريك بعد الحكم بسقوط القيمة عنه]: وإنما قلنا إنه إذا أيسر بعد الحكم بسقوط القيمة عنه لم يقوم عليه لأن الحكم بذلك قد نفذ فلا ينتقض بتغير الحال من بعد، فأما إذا لم يحكم بذلك حتى أيسر فوجه قوله بوجوب (1) التقويم عموم الخبر، واعتبارًا بيساره وقت الإعتاق، ووجه سقوطه أن العتق ضرب من الجناية والإتلاف فكان من شرط الغرم (2) فيه اعتبار اليسر وقت الفعل دون وقت الحكم اعتبارا بغيره من الجنايات. فصل [19 - عدم غرم الشريك الثاني القيمة إذا أعتق نصيبه لشريكه الثالث]: وإنما قلنا إن الشريك الآخر إذا أعتق فلا قيمة عليه لشريكه الباقي لأن الجناية بتبعيض العتق سابقة لإعتاقه، والقيمة إنما تلزم بالجناية.   (1) في ق: يوجب. (2) في م: العدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1439 فصل [فصل 20 - هل توزع القيمة بين الشركاء على قدر أنصبائهم أم على عدد رؤوسهم]: ووجه قوله إن القيمة بين الشركاء (المعتقين على قدر أنصبائهم أنه حق لله تعالى تتعلق بالمال لإزالة الضرر عن الشركاء) (1) فكان على قدر الأنصباء اعتبارًا بالشفعة، ووجه قوله إنها على عدد (2) الرؤوس تساويهم في الجناية بالتبعيض والضرر لا يختلف لكثرة التبعيض وقلته، وإنما قلنا يقوم على الموسر ويسقط عن المعسر لأن الموسر إذا انفرد بإعتاق نصيبه يلزمه قيمة نصيب شريكه والقيمة لا تلزم المعسر فكان انضمامه إلى الموسر غير مؤثر في القيمة عنه إذا كان وجوده كعدمه، وقال عبد الملك يقوم على الموسر بقدر ما كان نصيبه إن كان شريكه المعسر موسرًا، ووجه ذلك أنه لم ينفرد تبعيض العتق وإدخال الضرر بل شاركه غيره في ذلك فإذا سقط حق الذي لم يعتق على المعسر لم ينتقل إلى الموسر. فصل [21 - فيمن ملك جزءًا ممن يعتق عليه بالنسب]: وإنما قلنا إن من ملك جزءًا ممن يعتق عليه بالنسب بشراء أو غير ذلك من اختيار التمليك فإن الباقي يقوم عليه فلأن تملكه (3) باختياره قصد منه إلى إعتاق ما يملك منه فكان كمبتديء العتق في حصته من عبد مشترك بينه وبين غيره فلزمه تمليكه، وفرقنا بين ذلك وبين أن يرثه لأنه لا صنع له في الميراث فلا ينسب تبعيض العتق إليه. فصل [22 - فيمن ورث بعضه ثم عتق عليه]: وإنما قلنا إنه إن ورث بعضه فعتق عليه ثم اشترى منه جزءا آخر أو قبل هبته منه   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) في م: على قدر. (3) في م: تمليكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1440 عتق عليه ولم يقوم باقيه لأن ابتداء تبعيض العتق لم يكن من جهته، فما يتجرد منه بعد ذلك ليس بجناية توجب عليه التقويم كالشريك الثاني يعتق بعد إعتاق الأول فلا يقوم عليه نصيب الثالث. فصل [23 - في تقويم الأمة بولدها]: وإنما قلنا إن الأمة تقوم بولدها إذا تأخر تقويمها لأن العتق قد تعذر فيها وقد ثبت لها وكان حكم ولدها حكمها، وسواء كانت حاملًا يوم العتق للجزء منها أو حملت بعد ذلك لأنه داخل في حكمها ومقوم على معتق سهمه منها. فصل [24 - الاعتبار بالقيمة في العبد يوم الحكم دون يوم العتق]: وإنما قلنا إن الاعتبار في القيمة يوم الحكم دون يوم (1) العتق لأن القيمة يتقدر وجوبها (2) بالحكم لا بنفس الإعتاق، ألا ترى أن الشريك لو اختار إعتاق حصته لكان له ذلك، فما لم يحكم بها لا يجب، وإذا كان كذلك كان الاعتبار بها يوم الحكم دون يوم العتق. فصل [25 - إذا أعتق جزءًا من عبد يملك جميعه]: وإنما قلنا إنه إذا أعتق جزءًا من عبد يملك جميعه عتق عليه الباقي لأنه مبتدىء تبعيض العتق فوجب أن يكمل عليه (3) باقيه أصله العبد المشترك، ولأن الحكم عليه في حصته أقوى من الحكم في حصة غيره فلما كان التكميل (4) واجبًا عليه في حصة غيره كان في حصة نفسه أولى.   (1) يوم: سقطت من م ومن ر. (2) في م: يتعذر. (3) في م: استتمامه. (4) في ق ور: التمليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1441 فصل [26 - في وجه الرواية أنه يعتق الباقي بالحكم]: ووجه الرواية الظاهرة أنه يعتق الباقي بالحكم اعتباره (1) بالعبد بين الشريكين، ووجه السراية أنه مبني على التغليب فهذا بعض في حق نفسه لم يبعض وسرى إلى الجميع، كان لو قال يدك حرة أو رجلك، ويفارق ذلك العبد المشترك لأن تكميل العتق هناك جهة غير جهته (2) يمكن فيهما، بخلاف المنفرد به. فصل [27 - في ابتداء العتق في المرض]: وإنما قلنا إنه إذا ابتدأ ذلك في مرضه قوم عليه الباقي في ثلثه لأن التصرف على غير وجه المعارضة لا يجوز في المرض إلا في الثلث كالهبة والصدقة. فصل [28 - في وصيته بإعتاق بعض عبده أو بشرك له]: ووجه قوله في الوصية بإعتاق بعض عبده أو بشرك له فيه (3) فإنه يكمل عليه بقيته عموم الخبر، والمعتق في وصيته معتق، ولأنه مختار للتبعيض (4) فأشبه مباشرة الإعتاق في الحياة (وإذا وجب التكميل فهو في الثلث لأن حكم الثلث بعد الوفاة حكم جميع المال في الحياة) (5)، ولأنه لا يملك بعد موته إلا الثلث، ووجه نفي التكميل أن ملكه قد انتقل إلى ورثته وليس له إلا ما تصرف فيه من ثلثه وما لم يتصرف فيه في وصيته فهو للورثة ولم يكن من الورثة جناية توجب تكميل العتق عليهم فلا يجب التكميل (6) في حقوقهم. ...   (1) في م: اعتبارًا. (2) غير جهته: سقطت من ق. (3) في م: منه. (4) في م: لتبعيض العتق. (5) ما بين قوسين سقط من ق. (6) في م: التقويم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1442 باب [- حكم المعتقين عند موت سيدهم] ومن أعتق في مرضه سته أعبد لا مال له غيرهم وما من ذلك المرض أقرع بينهم فأعتق الثلث ممن خرج عليه السهم منهم ورق الباقي ولا يعتق من كل واحد ثلثه (1) وقال أبو حنيفة لا مدخل للقرعه في العتق أصلًا ولكن يعتق من كل واحد ثلثه (2) ويستسعى في قيمة بقيته فإذا أداها إلى الورثة عتق (3). ودليلنا حديث عمران بن الحصين أن رجلًا أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة (4) ففيه أدلة: (أحدها أنه - صلى الله عليه وسلم - أقرع، وعند المخالف أنه لا يقرع) (5)، والثاني أنه أعتق اثنين كاملين وعندهم لا يعتق رأس كامل، والثالث أنه نقل الحكم والسبب فلم ينقل الاستسعاء فدل على أنه غير واجب ولأن المريض ممنوع من جميع ماله فلم يكن له أن يعتق كل عبيده إذا كان لا يملك غيرهم فهذا فعل ذلك عتق منه الثلث الذي كان يملك التصرف فيه ورق الباقي ولم يكن بعضهم أولى من بعض إذن لا مزية لبعضهم واحتيج إلى تمييز من يعتق من نصيب الورثة فلم يكن إلى ذلك طريق إلا الإقراع. فصل [1 - فيمن قال ثلث رقيقي أحرار]: ولو قال ثلث رقيقي أحرار أسهم بينهم لأنه لم يعين فوجب الإقراع لتمييز   (1) انظر المدونة: 2/ 373 - 374، 400، التفريع: 2/ 23، الرسالة: 225، الكافي: 506. (2) ثلثه: سقطت من ق. (3) انظر: مختصر الطحاوي: 374، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 116 - 117. (4) أخرجه مسلم في الأيمان باب من أعتق شركا له عبد: 3/ 1288. (5) ما بين قوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1443 نصيب العتق (1) من نصيب الرق اعتبارًا بعتق جميعهم ولو قال ثلث كل واحد منهم حر لم يقرع بينهم لأنه قد يتميز نصيب العتق (2) من نصيب الرق وقصد إلى إعتاق ثلث كل واحد منهم فنفذ العتق فيه ولم ينقل إلى غيره، وإذا أعتق الثلث شائعًا فلم يقصد عتق عبد بعينه ولا ميزه من غيره ولذلك وجب الإقراع (3). فصل [2 - في المعتق بعضه]: والمعتق بعضه يكون له من نفسه بقدر ما فيه من العتق يقاسم سيده الخدمه كالعبد بين شريكين (4) وماله موقوف بيده ليس للسيد (5) انتزاعه كالمشترك أنه ليس لأحد الشريكين أخذ ماله بغير إذن الآخر، وحاله في جراحه وحدوده حال عبد في أنه لا يقتص له من حر ولا يحد الأحرار (6) ولا يكون محصنًا ولا تقبل شهادته (7) لأن أحكام الرق أغلب عليه (8) من أحكام الحرية، كذلك إن مات ورثه من يملك بعضه كالعبد لأن الرق مقدم على الحرية، ولأن المواريث (9) طريقها الفضيلة ولم يبلغ منزلة الفضيلة فيرث أو يورث ولا شيء لمن أعتق نصيبه منه لأنه لا حكم لبعض الولاء مع الرق.   (1) في ق: المعتق. (2) في ق: المعتق. (3) انظر المدونة: 2/ 374، التفريع: 2/ 23، الرسالة: 225، الكافي: 507. (4) في م: بين رجلين شريكين. (5) في م: لسيده. (6) في م: الحر. (7) انظر التفريع: 2/ 22، الرسالة: 225، الكافي: 504 - 505. (8) عليه: سقطت من ق. (9) في م: الموارثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1444 فصل [3 - حكم المثلة بالرق]: ومن مثل بعبده فقطع بعض أطرافه أو أعضائه أو سجل أسنانه أو فقأ عينه قاصدًا لذلك لزمه إعتاقه (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من مثل بعبده عتق عليه" وروي "فهو حر عليه" (2) ولأن ذلك عقوبته لئلا يعود إلى مثله فعوقب بعتقه كعقوبة القاتل عمدا بمنع الميراث، وإذا أراد أدبه فأصابه من ذلك ما لم يرده فلا يعتق عليه لأن الخطأ لا يستحق عليه به عقوبة لأنه غير مقصود ولا إثم فيه. وإذا أعتق عليه فولاؤه له لأنه هو المعتق له وإن كان معتقه مستحقًا عليه كالعتق في الكفارة ومن يعتق عليه من نفسه، وعنه في كيفية عتقه روايتان: إحداهما أنه يعتق عليه (3) بنفس المثلة (4) دون الحكم، والأخرى دون نفس المثلة، فوجه الأولى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مثل بعبده عتق عليه"، وروى "فهو حر عليه" (5) وظاهره يفيد بنفس الفعل، ووجه الثانية أنه فعل من جهته في العبد استحق به إعتاقه بالشرع فوجب أن يفتقر إلى الحكم (6) كتبعيض العتق. فصل [4 - في مال العبد المعتق]: ومن أعتق عبدًا (7) تبعه ماله إلا أن يشترطه السيد، وكذلك إذا أوصى بعتقه (8)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من عتق عبدًا وله مال فماله له إلا أن يستثنيه سيده" (9)،   (1) انظر المدونة: 2/ 397، التفريع: 2/ 24، الرسالة: 225. (2) أخرجه الحاكم 4/ 368، وأصله في الصحيحين بلفظ "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه" ... (3) يعتق عليه: سقطت من م. (4) في م: بالمثله. (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) في م: حاكم. (7) في م: عبده. (8) انظر التفريع: 2/ 23، الرسالة: 224، الكافي: 511. (9) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1445 وكذلك حكم إعتاقه المباشر في الوصية واحد، ولهذه المسألة فروع مبنية على أصلين يختلف قول مالك فيهما وهما: بيع العبد وعتقه لم يختلف قوله في أن البيع يكون المال للبائع إلا أن يشترطه المشتري وفي العتق يكون تابعًا للعبد إلا أن يستثنيه السيد. واختلف عنه في الوصية به وهبته بغير عوض والتصدق به وإسلامه في الجناية فعنه فيها روايتان: إحداهما أن ماله يتبعه، والأخرى أن ماله لسيده الأول، وإنما يختلف في ذلك لاختلاف تعليل الأصلين فالبيع والعتق معللان بإحدى علتين: إحداهما أن البيع خروج ملك بعوض فلذلك لم يتبع العبد ماله، والعتق خروج ملك بغير عوض (فلذلك تبعه ماله فعلى هذا الإعتلال يكون ماله في الوصية والصدقة والهبة تابعًا له لأن كل ذلك خروج ملك بلا عوض) (1)، وفي أرش الجناية لا يتبعه لأنه خروج ملك بعوض والأخرى أن علة البيع أنه خروج ملك إلى (2) ملك فلذلك لم يكن تابعا له، والعلة في العتق أنه خروج ملك إلى غير (3) مالك لذلك يتبعه ماله وعلى هذا يكون في الوصية والهبة والصدقة ماله لسيده الأول لا يتبعه لأنه خروج ملك إلى مالك كالبيع. فصل [5 - في ولد العبد المعتق]: ولا يتبعه ولده لأن ولده ملك لسيده فلا يتبعه كسائر أملاك (4) سيده. فصل [6 - في عتق الجنين مع الحامل إذا اعتقت]: ومن أعتق حاملًا عتق جنينها معها لأن كل ولد حدث من تزويج أو زنا   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) إلى: سقطت من م. (3) في ق: بغير. (4) في م: أموال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1446 فهو تابع لأمه في الحرية والرق (1)، وكل عقد في الرقبه لا سبيل إلى حله اعتبارًا بالأمة تزوج، ولأنه لا يوجد في الأصول حرة حامل (2) بعبد. فصل [7 - في عتاقة المديان]: عتاقة المديان الذي أحاط الدين بماله لا تجوز إلا بإجازة الغرماء (3) لأن حقوق الغرماء متعلقة بماله وذمته ولهم التسلط على انتزاع ماله من يده في حقوقهم ففي إعتاقه إتلاف أموالهم فلا ينفد إلا بإجازتهم. فصل [8 - في عتاقة المولى عليه]: عتاقة المولى عليه غير جائزة (4) لأن الحجر عليه يمنعه من التصرف في ماله فيما (ليس بحظ له وجواز ذلك إتلاف) (5) ماله وزوال فائدة الحجر. فصل [9 - في عتاقة الغلام والجارية قبل بلوغهما]: عتاقة الغلام والجارية قبل بلوغهما غير جائز (6) لأنه قبل البلوغ لا حكم لقوله ولا لعقوده ولأنه ممنوع من التصرف في ماله بالحجر الثابت عليه، ولأن البالغ المولى عليه لا ينفذ (7) عتقه فالصغير أولى. فصل [10 - إذا وطيء المديان أمة لا يملك غيرها]: إذا وطء المديان أمة لا يملك غيرها وحملت فإنها تكون أم ولد ويتعلق حقوق الغرماء بذمته ولا تباع في الدين (8)، والفرق بين ذلك وبين أن يعتقها بالقول   (1) انظر التفريع: 2/ 23، الرسالة: 225، الكافي: 511. (2) في ق: حاملة. (3) انظر المدونة: 2/ 376، التفريع: 2/ 24، الرسالة: 225، الكافي. (4) انظر التفريع: 2/ 24، الرسالة: 226. (5) ما بين قوسين سقط من ق. (6) انظر المدونة: 2/ 391، التفريع: 2/ 24، الرسالة: 226. (7) في ق: لا ينعقد. (8) انظر التفريع: 2/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1447 فلا ينفذ إلا بإذن الغرماء: أن الفعل إذا وقع لا يمكن إزالته وقد استقر عقد العتق فتعذر إبطاله ألا ترى أن المريض لا ينفذ عتقه بالقول فلو وطء أمة فحملت لكانت أم ولد. فصل [11 - الذين يعتقون على ملاكهم بالقرابة]: الذين يعتقون على مُلاكهم بالقرابة عمودي النسب الأعلى والأسفل كالوالدين والأجداد والجدات من قبل الأب والأم قربوا أو بعدوا والوارثين وغير الوارثين وأولادهم الذكور والإناث منهم والإخوة والأخوات من أي قبيل كانوا هم أنفسهم لا يتعدى ذلك إلى أولادهم ولا يعتق من سواهم من عم أو عمة أو خال أو خالة لا من يحرم منهم ولا من لا يحرم (1). والكلام في هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها وجوب العتق في عمودي النسب خلافًا لداود في قوله لا يعتق أب ولا ابن إلا أن يبتدىء المشتري بإعتاقه (2)، والثاني في الأخوة خلافًا للشافعي في قوله إنهم لا يعتقون (3) والثالث مع أبي حنيفة في قوله أن كل ذي رحم يعتق بالملك (4). فدليلنا على داود قوله تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) ..... إلى قوله تعالى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} (5) فنفى عن نفسه اتخاذ الولد وعلل ذلك بأن الكل عبيد له وذلك ينفي كون الولد عبدا، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" (6) ولأن المخالف لا يخلو أن يقول إن الإنسان   (1) انظر المدونة: 2/ 385، التفريع: 2/ 25، الرسالة: 226، الكافي: 509. (2) انظر المحلى: 10/ 220. (3) انظر الإقناع: 205، المهذب: 2/ 5. (4) انظر مختصر الطحاوي: 392، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 3/ 114. (5) سورة مريم الآيات: 89 - 93. (6) أخرجه أبو داود في العتق باب من ملك ذا رحم محرم: 4/ 259، وابن ماجه في العتق باب من ملك ذا رحم: 2/ 843، والترمذي في الأحكام باب من ملك ذا رحم محرم: 3/ 646، والحديث تفرد به ضمرة، والحديث صحيح إذا أسنده ثقه (نصب الراية: 3/ 279). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1448 إذا ملك أباه وابنه فإنه يعتق عليه بنفس الملك فذلك قولنا أو يقول لا يعتق (1) عليه بل يؤمر بإعتاقه ويلزم ذلك، وكل هذا خلاف الأصول لأن الإنسان لا يستحق عليه إيقاع حرية في ملكه بغير سبب كان من جهته كالنذر والكفارة. فصل [12 - في الدليل على الشافعي في قوله إنهم لا يعتقون]: ودليلنا على الشافعي عموم الخبر، ولأن الأخوة نسب يحجب الأم عن الثلث إلى السدس كالولادة، ولأن التعصيب تكون من ذكورهم لإناثهم (2) كالولد. فصل [13 - في الدليل على أبي حنيفة في قوله أن كل ذي رحم رحم يعتق بالملك]: ودليلنا على أبي حنيفة في العم والخال لأن كل من حلَّت لإنسان (3) بنته بعقد نكاح أو بملك يمين لم يعتق عليه بالملك كذلك (4) العم لأن ابنته تحل لابن عمها، ولأن كل جنس يرث ذكورهم دون أبنائهم فلا يعتقون بالملك كبني العم. فصل [14 - في عدم الحاجة إلى حكم الحاكم في الذين يعتقون على ملاكهم بالقرابة]: ولا يحتاج في ذلك إلى حكم حاكم بل يعتقون به بنفس الملك (5) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" (6)، ولأن الحاكم إنما يراد فيما يجوز تبقيته بوجه فأما سوى ذلك فلا حاجه بالحاكم إليه (7).   (1) في م: ألا. (2) في م: من ذكرهم لأبنائهم. (3) في ق: من حله الإنسان. (4) في م: أصله. (5) في ق: المالك. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) في م: بالحكم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1449 ومن أعتق عبده أو أمته إلى أجل لم يعتق إلا بعد حلوله بخلاف الطلاق إلى أجل لأن الوطء لا يتوقف فلما اعترض هذا المعنى في الطلاق أنجزناه ولم يعترض مثله في العتق فتركناه على موجب عقده ولم يجزله وطء الأمة المعتقة إلى أجل لأن المعنى فيها وفي الزوجة (واحد: وهو منع توقيت الوطء إلا أن في الأمة لم يتنجز الحرية لأنه يجوز أن يبقى ملكه على من لا يجوز له وطؤها، وفي الزوجة لا يجوز أن يبقى عقده على من) (1) لا يجوز له وطؤها لأنه ليس منها إلا الوطء فإذا حرم ذلك (2) زال العقد. فصل [15 - إذا أعتق عبده وله أمة حامل تبعته أمته ولم يتبعه ولده]: إذا أعتق عبده وله أمة حامل تبعته أمته ولم يتبعه ولده لأن أمته ماله ومال العبد في العتق تابع له وولده ملك لسيده لأنه لا يملك ولد نفسه. ولو أعتق العبد الأمة وهي حامل لم ينفذ عتقها وهي حامل حتى تضع (3) لأن في نفوذ عتقها أحد أمرين ممنوعين: إما إن يعتق الأمة دون الحمل فذلك غير جائز لأن استثناء حمل الأم في العتق غير جائز، أو أن تعتق هي وحملها فيؤدي ذلك إلى أن يعتق على غير ملكه بغير اختياره ولا جناية كانت منه، فلما كان مؤديًا إلى ما ذكرناه من المنع وجب وقفه إلى أن تضع وتعتق الأمة (ويكون الولد للسيد والله أعلم) (4). ...   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) ذلك: سقط من م. (3) انظر التفريع: 2/ 23، الرسالة: 225. (4) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1450 باب: (1) الولاء (2) لا يحل بيع الولاء ولا هبته (3)، والأصل فيه نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "الولاء لحمة كلحمة النسب (لا يباع ولا يوهب" (4)، والولاء لمن أعتق لقوله - صلى الله عليه وسلم - الولاء لمن أعتق" (5) وليس للعبد صرفه إلى غيره معتقه لقوله: "الولاء لحمة كلمة النسب) (6) ومن ادعى إلى غير أبيه أو توالى غير مواليه فعليه لعنة الله" (7). فصل [1 - في عدم إرث النساء من الولاء شيئًا]: لا يرث النساء من الولاء شيئًا وإذا ترك المعتق ولدا ذكورا وإناثًا فالولاء للذكور من ولده دون الإناث (8) وهذا إجماع الصحابة رضوان الله عليهم (9)   (1) في م: كتاب. (2) الولاء: بفتح الواو والمد - من الولاية والولي وهو القرب، واصطلاحًا: صفة حكمية توجب لموصفها حكم العصوبة عند عدهما كائن (الفواكه الدواني: 2/ 161). (3) انظر الموطأ: 780، المدونة: 3/ 64، التفريع: 2/ 26، الرسالة: 2/ 226، الكافي: 512. (4) سبق تخريج الحديث في الصفحة: ص 1436. (5) أخرجه البخاري باب ما يرث النساء من الولاء: 8/ 11، ومسلم في العتق باب إنما الولاء لمن أعتق: 2/ 1141. (6) ما بين قوسين سقط من ق. (7) أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن عطية قال الذهبي لا أعلم من روى عنه (مجمع الزوائد: 4/ 235). (8) انظر التفريع: 2/ 26، الرسالة: 226، الكافي: 512. (9) انظر البيهقي: 10/ 306، وعبد الرزاق: 9/ 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1451 والأصل فيه أن الولاء يورث بالتعصيب المحض والنساء لا تعصيب فيهن فلم يرثن بالولاء وإنما قلنا إنه يورث بالتعصيب لأن الميراث يكون بثلاثة أوجه: إما برحم كالولاده وما تعلق به من النسب أو بالنعمة (1) أو بالتعصيب وهو الولاء ولأنه ليس في العتق أكثر من النعمة التي حصلت من جهة المعتق فجعلته عصبة، وإذا كان كذلك لم يرث منه النساء لأنهن لا يرثن إلا بالرحم، ولأن النسب أقوى في التوريث له من الولاء بدليل أنه لا يورث بالولاء وهناك نسب ما يورث به فإذا ثبت ذلك لم يكن للنساء مدخل في التوريث مما تراضى من النسب، كان بأن لا يكون لهن مدخل في الولاء أولى (2). فصل [2 - أولى العصبة بإرث الولاء]: وأولى العصبة بإرث الولاء (3) الابن ثم ابن الابن ثم الأب ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم الجد ثم العمومة (4)، ثم ابن العمومة (5) وإنما قلنا إن الابن أولى لما قدمناه (6) من أن الولاء مستحق بالتعصيب المحض دون الرحم ويختص به من قوي تعصيبه على غيره، وتعصيب البنوة أقوى من التعصيب بالأبوة والجدودة لأن تعصيب الجدودة والأبوة يشوبها الرحم والولادة وتعصيب البنوة محض لا يشوبه شيء فكان البنون (7) أولى من كل أحد.   (1) في م: من الرحم أو بالصهر. (2) أولى: سقطت من م. (3) في م: الولي. (4) في ق: العم. (5) انظر الموطأ: 2/ 784، المدونة: 3/ 81 - 82، التفريع: 2/ 26، الرسالة: 226، الكافي: 512. (6) في م: بيناه. (7) البنون: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1452 وإنما قلنا إن ابن الابن وإن سفل أولى من الأب وغيره للاتفاق على أن ابن الابن قائم مقام الابن عند عدمه في كل الأحكام وكذلك في الولاء. وإنما قدمنا الأب على الجد والأخوة لأنهم يدلون به فكان مقدم على من يدلى به ألا ترى أن الجد يقول أنا أبو أبي الميت والإخوة يقولون نحن بني أبيه فكلهم يدلون (1) بقربهم من الأب فوجب أن يكون الأب مقدما على من يدلي به ويستفيد القرب من جهته. وإنما قلنا إن الأخوة وبنيهم في ميراث الولاء مقدمون (2) على الجد خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3) في قولهما إن الجد أولى لأن تعصيب (الأخوة أقوى من تعصيب) (4) الجدود وأقرب إلى الميت لأن الجد يدلي بأبوة الأب والإخوة يدلون ببنوة الأب والإدلاء بالبنوة أقوى من الإدلاء بالأبوة: ألا ترى أن الأب يصير مع الابن بمنزلة الأم يأخذ بالفرض ويسقط تعصيبه فكان الأخ مقدما على الجد في ذلك، وإنما قلنا إن بني الأخوة كالإخوة لأن الإدلاء بالبنوة موجود فيهم والنزول لا يؤثر في ذلك ألا ترى أن ابن الابن وإن سفل مقدم على الأب وعلى الجد. وإنما قلنا إن الجد مقدم على العم لأن العم يدلي بالجد فكان الجد مقدما على من يدلي به فكذلك العمومة مقدمون على بنيهم لهذا المعنى.   (1) في م: يدلي. (2) في ق: مقدم. (3) انظر مختصر الطحاوي: 399 - 400، مختصر المزني: 321 - 322. (4) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1453 فصل [3 - في استحقاق الولاء بالكبر]: الولاء يستحق بالكبر فلا يستحق البطن الثاني منه شيئًا ما بقي من البطن الأعلى موجود وبيان ذلك: أن يموت رجل ويترك ولاء وثلاثة بنين فيرث البنون بالسوية ثم يموت إثنان ويتركا ابنين ويموت المولى فيكون ميراثه للابن الباقي دون بني إخوته (1). وإنما قلنا ذلك لأن الولاء مع اختصاصه بالتعصيب يختص بمن قوى تعصيبه وقرب دون من بعد عنه، وليس هو من باب ميراث المال بسبيل بدليل أن الميت لو ترك ابنا واحدا لم يستحق الجد شيئًا، وإنما هو من باب الولاية (2) فهو للأقرب فالأقرب يبين ذلك أن من يستحق العصبة شيئان: ميراث وولاية، إما في نكاح أو قصاص وبأيهما اعتبرت الولاء وجدته لا يدخل أبناء مع وجود آبائهم أو عمومتهم. فلذلك قلنا إن البطن الأول مقدم على البطن الثاني. فصل [4 - في كون الولاء للمعتق عنه]: ومن أعتق عبدًا عن رجل بإذنه أو بغير إذنه فالولاء للمعتق عنه (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4) حين قالا: أن الولاء للمعتق إن كان أعتق عنه بغير إذنه لأنه إذا أعتق عبده عن غيره فقد ملكه إياه بشرط العتق عنه فكان كالوكيل إنه إذا أعتق عبد غيره عن مالكه فالولاء للمعتق عنه، ولأن الولاء جار مجرى النسب فلا يفتقر حصوله لمن يحصل له إلى إذن منه، ألا ترى أن الأخوة والعمومة تحصل للإنسان شاء أم أبى بوطء قريبه الذي يولد له منه فيثمر هذه الأنساب فكذلك الولاء يعتق زيد عبده فيثبت ولاؤه لعصبته شاءوا أو أبوا، وإذا صح ذلك جاز أن يكون الولاء للمعتق وإن لم يكن منه إذن أعتقه فكان الولاء لمن أعتق عنه كما لو كان بإذنه.   (1) انظر الموطأ: 2/ 785، المدونة: 3/ 81، الرسالة: 226، الكافي: 512. (2) في م: الولايات، وفي ر: الولاء. (3) انظر المدونة: 3/ 64، التفريع: 2/ 27، الكافي: 513. (4) انظر مختصر الطحاوي: 398، المهذب: 2/ 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1454 فصل [5 - في السائبة]: السائبة هو الذي يعتق (1) عن المسلمين فولاؤه للمسلمين لا لمن أعتقه للمعنى الذي قدمناه (2) وإنما سمي سائبة لأن المعتق رفع يده عنه من كل وجه من جهة الملك والولاء فصار الولاء لغير مالك (3) بعده (4) بعينه بل لجماعة المسلمين كالجمل المسيب الذي لا يعرض له (5) على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية، وكذلك ما أعتقه الإنسان عن زكاته أو أعتقه الإمام من أموال الزكاة فهو لجماعة المسلمين (لأنه معتق عن المسلمين أعتقه الإمام) (6) أو المزكى وذلك بخلاف المعتق في الكفارات لأن المكفر أعتقه من نفسه فكان الولاء له وفي الزكاة إنما أعتقه عن المسلمين لأنه من أموال المسلمين فكان كالمعتق عبدا عن غيره من مال ذلك الغير أن الولاء للمعتق عنه. فصل [6 - ولاء المنبوذ]: وولاء المنبوذ للمسلمين دون ملتقطه هكذا أطلقه أصحابنا ومرادهم أنه لا ولاء عليه لأحد وأن ميراثه لا يختص به ملتقطه لأنه حر بالأصل وإنما يطرأ الرق بالسبي لبعض الأحرار فكان كل موجود من الناس حرًّا إلا أن يطرأ عليه ما ينقله إلى الرق (7).   (1) عن: سقطت من م. (2) انظر الموطأ: 2/ 785، التفريع: 2/ 27، الرسالة: 226، الكافي: 513 (3) في م: ماله. (4) بعده: سقطت من م ومن ر. (5) في ق: كالجمل المسيب الذي لا يفرضوا له. (6) ما بين قوسين سقط من ق ومن ر. (7) انظر: المدونة: 3/ 76، التفريع: 2/ 27، الكافي: 513.55 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1455 فصل [7 - في مولى الموالات]: مولى الموالات لا يرث وصفته: أن يكون رجلان ولا نسب بينهما يوالي أحدهما الآخر على أن يتوارثا ويتعاقلا فهذا عندنا لا يصح ولا يلزم (1)، وعند أبي حنيفة يصح ويتوارثان ويتعاقلان ولهما أن يفسخا الموالات ما لم يعقل أحدهما عن الآخر (2). فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما الولاء لمن أعتق" (3) فانتفى أن يكون ولاء لغيره معتق، ولأن الموالات (4) سبب لا يورث به مع وجود النسب فكذلك مع فقده أصله إذا أسلم الرجل على يد رجل عكسه الزوجية، ولأن المسلمين يعقلون عنه فلم يكن له نقل ميراثه عنهم بالموالات كالمتناسبين. ومن أسلم على يد رجل فلا ولاء له عليه (خلافًا لمن يقول أن الولاء له (5)) (6) للخبر، ولأن الولاء بالإنعام بالعتق وهذا معدوم فيمن أسلم (على يده. إذا أعتق المسلم نصرانيًّا فالولاء مراعى فإن أسلم) (7) كان ميراثه للمسلم إن مات، وإن مات النصراني قبل أن يسلم فلا ولاء للمسلم عليه، وقال الشافعي يثبت له الولاء عليه ويرثه (8).   (1) انظر التفريع: 2/ 26. (2) انظر الطحاوي: 399 - 400، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 139. (3) سبق تخريج الحديث 1451. (4) في م: الولاء. (5) قاله أحمد وإسحق (المغني: 6/ 380). (6) ما بين قوسين سقط من م. (7) ما بين قوسين سقط من ق. (8) انظر المهذب: 2/ 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1456 فدليلنا أن الإرث بالنسب مقدم على الإرث بالولاء وآكد منه لأن الولاء شبه به وقد ثبت أنه لا توارث بين المسلم والكافر بالنسب، وكذلك بالولاء ويفارق ذلك ميراثه من عبده النصراني إذا مات لأن رقبته كانت ملكًا له فكان حكم ماله حكم رقبته إلا أنه ميراث على الحقيقة، ولأن المباينة بالملة تمنع الإرث بالنسب والولاء دون الرق. فصل [8 - إذا أسلم النصراني ثم مات]: وإذا ثبت أنه لا يرثه إذا مات، فإن أسلم النصراني ثم مات ورثه مولاه المسلم لأن الإنعام عليه ثابت له، وإنما كان يمنعه ميراثه مباينته له في ملته فإذا أسلم زال المنع كالنسب. فصل [9 - إذا مات النصراني المعتق]: وإذا مات النصراني المعتق وترك مولاه المسلم الذي أعتقه وورثته من أهل دينه، فعنه في ذلك ثلاث روايات (1): إحداهما أنه لا يرثه سيده الذي أعتقه ولا أحد من قرابته ويكون ماله فيئا لجماعة المسلمين، والثانية أنه يرثه ولده دون غيرهم من أقاربه، والثالثة يرثه جميع ورثته. فوجه الأولى أن سيده إنما لم (2) يرثه لمباينته له في الملة (3) والميراث موضوع على تساوي الحرم فلم يجز أن يرثه ورثته من أهل دينه لأن حرمته أعلى من حرمتهم لثبوت ولاء المسلمين عليه (4). ووجه الثانية أن ولدهم (5) هو موالي سيده الذي أعتقهم فكان حكمهم حكمه في كونهم على ملته وعلى مثل حرمته وثبوت الولاء عليهم لسيده فلذلك   (1) انظر الموطأ: 2/ 785، المدونة: 3/ 75، الكافي: 513. (2) في م: أيضًا. (3) في م: مثله. (4) في ق: المسلم عليهم. (5) في م: والده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1457 اختصوا بميراثه دون سائر أقاربه، ووجه الثالثة أن جميع ورثته بمنزلته في الحرمة والدين فورثوه اعتبارا بسائر أهل ملته، وعنه رواية أخرى أنه يرثه ولده ووالده خاصة لأنه ليس في القرابة ما يوازي الأبوة والبنوه والثالثة أصح. فصل [10 - إذا أذن السيد لعبده في أن يعتق عبدا له فالولاء للسيد]: إذا أذن السيد لعبده في أن يعتق عبدا له فالولاء للسيد فإن أعتق العبد لم يرجع الولاء له، وكذلك المدبر، وأم الولد إذا أعتقا بإذن سيده، وإذا أذن لمكاتبه أن يعتق فأعتق فالولاء للسيد ما دام المكاتب لم يعتق فإن أعتق عاد الولاء إليه (1) والفرق بين المسألتين أن لسيد العبد انتزاع ماله فإذا أذن له أعتق، وليس هو من أهل الولاء في تلك الحال كان السيد كأنه هو الذي أعتق فيكون الولاء له، وإذا ثبت الولاء في جهة الحر (2) لم يجز انتقاله بعد ثبوته إلى جهة أخرى. وأما المكاتب فسيده ممنوع من انتزاع ماله لما ثبت له من عقد الحرية فإذا أذن له في العتق كان عتقه مراعى فإن مات أو عجز تقرر الولاء لسيده، فإذا أدى وعتق ثبت أن الولاء ثابت له وكذلك لو أعتق بغير إذن السيد فلم يعلم السيد حتى أدى المكاتب وعتق فإن الولاء للمكاتب لأنه إنما كان ممنوعا من الإعتاق لحق السيد فإذا زال حق السيد عنه بعد عتقه وتقرر الولاء له فإن علم السيد قبل أن يعتق المكاتب بالأداء فله أن يرد عتقه فإن رده بطل وعاد العبد رقا ولم يلزم المكاتب إذا أعتق أن يعتقه بعد ذلك. فصل [11 - في جر الولاء]: جر الولاء ثابت عند كافة أهل العلم (3) لا خلاف فيه (4)، إلا ما يحكى عن رافع بن خديج، وصفته أن يتزوج عبد معتقة فيولدها فإن ولاء ولدها منه   (1) انظر الموطأ: 2/ 783، المدونة: 3/ 71، التفريع: 2/ 27، الكافي: 513. (2) في ق: الحرم. (3) في م: العلماء. (4) انظر المغني: 6/ 361، فتح الباري: 12/ 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1458 لمواليها الذين أعتقوها فإن أعتق العبد جر ولاء ولده إلى مواليه الذين أعتقوه ولو تزوج حرة لا ولاء عليها كان بقية ميراث الولد بعد حصة أمه للمسلمين وإذا أعتق العبد رجع (1) إلى مواليه وكذلك الجد فيجر الولاء أيضًا بجر الولاء ما دام الأب عبدًا فإذا أعتق العبد عاد الولاء إليه. والأصل في جر الولاء الإجماع لما روى أن الزبير بن العوام مر بفتيه فسأل عنهم فقيل هم موالى رافع بن خديج وأبوهم عبد للحرة فاشترى الزبير أباهم فأعتقه وقال لهم انشبوا إلي فأنا مولاكم فقال رافع: بل هم موالى أنا أعتقت أمهم فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى بالولاء للزبير، (2)، ولم يخالف عليه أحد، ولأن انتساب الولد إلى قبيلة أمه، ووجهها (3) أنها لعدم إمكان ذلك من جهة الأب بدليل أنه لو أمكن ذلك في الابتداء لم ينسب إلى الأم، ولأنه إذا عاد إمكانه في ولد الملاعنه عاد الانتساب إلى الأب وإذا ثبت ذلك ثم كان غير ممكن في هذا الموضع لرق الأب فيجب إذا زال المعنى المانع أن يزول ما امتنع لأجله، ويعود النسب إلى الأب. فصل [12 - الجد كالأب في جر النسب]: وإنما قلنا إن الجد كالأب في ذلك لأن النسب يرجع إليه فصح جره للنسب كالأب وبذلك فارق الأخوة والعمومة وسائر العصبات. فصل [13 - في ولاء ولد الملاعنة المعتقة]: وولد الملاعنة المعتقة ولاؤه لموالي أمه فإن اعترف به الأب عاد إليه أو إلى مواليه إن كان معتقا على ما بيناه (4).   (1) في م عاد. (2) الموطأ: 2/ 783. (3) في م: ووجهتها. (4) انظر الموطأ: 2/ 782، التفريع: 2/ 27، الكافي: 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1459 فصل [14 - عدم ثبوت جر الولاء فيمن مسه رق]: ولا يثبت جر الولاء فيمن مسه رق مثل أن يتزوج عبد أمه فتحمل ثم تعتق فإن الولد يكون حرًّا بحرية أمه وهو حر (1) وولاؤه لموالي أمه وهم مواليه (2) لأن عتقه ثبت من جهتهم فإن أعتق العبد لم يجر ولاء الولد لأن ولاءه قد تقرر (3) وثبت لمن أعتق أمه فلا يجوز نقله كالنسب والولاء، هاهنا مباشر ليس طريقه الجر فلم يجز نقله. فصل [15 - في الولاء الذي ترثه النساء]: قد بينا أن النساء لا يرثن ولاء ما أعتقه غيرهن لأنه لا تعصيب فيهن فإذا ثبت ذلك فالولاء الذي يرثنه هو المباشر أو ما كان في حكم المباشر ولا يكون ذلك إلا في ثلاث مواضع. أحدهما أن تعتق عبدا فيموت ولا وارث له فيكون ولاؤه لها ميراثًا. والثاني أن يترك هذا العبد أولادا من أمة أو معتقة فيكون الولاء لمعتقه إما ابتداء (4) وإما جرا. والثالث أن يعتق هذا العبد عبدا إما في حال رقه بإذنها فيكون الولاء لها ابتداء أو بعد عتقه فيموت العبد الأول المعتق ويبقي الثاني فيرث معتقه الأول ولاء هذا العبد الثاني (5).   (1) في ق: حمل. (2) انظر الموطأ: 2/ 783، التفريع: 2/ 26، الكافي: 512. (3) في م: قد تقدم. (4) في ق: أو. (5) انظر الموطأ: 2/ 784، المدونة: 3/ 82، التفريع: 2/ 26، الكافي: 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1460 فصل [16 - في أن المرأة ترث ولاء ما باشرت عتقه]: وإنما قلنا إنها ترث ولاء ما باشرت عتقه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "الولاء لمن أعتق (1) " وهذا عام، ولأنه شخص حر معتق عن نفسه فكان الولاء له كالرجل. فصل [17 - في أن المرأة تجر ولاء ولد أو عبد إن أعتقها عبدها الذي أعتقته]: وإنما قلنا إنها تجر ولاء ولد أو عبد إن أعتقه عبدها الذي أعتقته لأن ذلك يرجع إلى إعتاقها وإنما يمتنع أن ترث ما أعتقه غيرها (2) ولأن كل من ورث ولاء ما أعتق مباشرة ورث ما حدث عنه كالرجل والله أعلم. ...   (1) سبق تخريج الحديث. (2) في م: ولكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1461 كتاب المكاتب (1) الأصل في جواز الكتابة (2) قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} (3) وقوله - صلى الله عليه وسلم - "المكاتب عبد ما بقى عليه درهم" (4) ولأن ذلك كان متعارفًا قبل الإسلام وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كان من الجواز في الجملة وعملت به الأئمة (5) والسلف. فصل [1 - في عدم إجبار السيد على كتابة عبده]: لا يجبر السيد على كتابة عبده (6) خلافًا لداود في قوله إنه يجبر (7) إذا سأله أن يكاتبه بقيمته أو بأكثر (8)، لأن الأصل في الكتابة المنع والحظر لأنها غرر وذلك أن العبد يؤدى المال على أنه إن أدى عتق وإن عجز عاد رقا وزال ملكه عما كان أداه لأن السيد يبيع ماله بماله لأن العبد وماله ملك للسيد وذلك   (1) الكتابة: مشتقة من الكتاب أي الأجل المضروب، وفي الاصطلاح: الكتابه عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه (حدود ابن عرفه: 524). (2) انظر الموطأ: 2/ 787، المدونة: 3/ 2، التفريع: 2/ 13، الرسالة: 234، الكافي: 520، المقدمات: 3/ 171. (3) سورة النور، الآية: 33. (4) أخرجه أبو داود في العتق باب في المكاتب يؤدي بعض كتابة فيعجز أو يموت: 4/ 243، وابن ماجه في العتق باب المكاتب: 2/ 842، والحاكم: 2/ 217 وقال صحيح الإسناد. (5) في ق: الأمة. (6) انظر التفريع: 3/ 13، الكافي: 520. (7) في م: يخير. (8) انظر المحلى: 10/ 257، المغني: 9/ 411. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1463 إضاعة وإتلاف إلا أنه (1) جوز في الشرع رفقا بالعبد وحرمة للعتق والخروج من الرق، والأمر إذا صدر بعد الحظر كان على الإباحة دون الوجوب (2) ولم يكن أمرًا على الحقيقة ولأن صيغته صيغة الأمر، واعتبارا به إذا سأله أن يكاتبه بدون قيمته وإذا سأله بيعه من غيره، ولأن السيد لا يجبر على بيع عبده إذا سأل (3) العبد ذلك اعتبارًا بسؤاله بيع غيره من أملاكه. فصل [2 - في إجبار السيد عبده على الكتابة]: فأما إجبار السيد عبده على الكتابة: فقيل للسيد ذلك وقيل ليس له ذلك (4) فوجه إثباته أنه لما كان للسيد أخذ ماله وإجباره على التكسب من غير عقد عتق يحصل له كان بأن يكون له ذلك مع النفع للعبد بحصول العتق أولى، ووجه نفيه أنه إجبار على معاوضة في حق نفسه لا لحق السيد فلم يكن له ذلك أصله إجباره على شراء طيب يتطيب (5) به. فصل [3 - في كون الكتابة جائزة على ما يعقدانه عليه]: الكتابة جائزة على ما يعقد أنها عليه من قيمة العبد أو أقل أو أكثر مما يقع التراضي بها (6) لأنها عوض عى رقبته فجازت بالقليل والكثير مما يتفقان عليه كبيعه من غيره، ولأن الكتابة إما أن يكون بيع العبد من نفسه بالعوض أو عتقا (7) بصفة أدائه، وأي ذلك كان فلا يقضي قدرًا مخصوما ولا إجبار أحدهما الآخر على مقدار معين بل هو على التراضي.   (1) في ق: لأنه. (2) في م: الموجب. (3) في ق ور: شاء. (4) انظر الموطأ: 2/ 789، التفريع: 2/ 13، الكافي: 520. (5) في ق: يتطهر. (6) انظر المدونة: 3/ 3، التفريع: 2/ 13، الرسالة: 234، الكافي: 520. (7) عتقا: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1464 فصل [4 - في كون الكتابة منجمة]: الظاهر من قول مالك أن الكتابة تكون منجمة (1) وليس عنه نص في الكتابة الحالة ومحققو أصحابنا يقولون إنها جائزة، (2) خلافًا للشافعي، (3) لأنها عتق بعوض فجازت مع تعجيله وتأجيله أصله بيع العبد من نفسه، ولأن الأجل غير مستحق في عقد الكتابة كالثالث والرابع، ولأنه عقد بعوض فجاز كالمنجم. فصل [5 - في عدم عتق المكاتب إذا ما بقي عليه شيء من الكتابة]: لا يعتق المكاتب ما بقي عليه شيء من الكتابة قل أو كثر (4) خلافًا لما يحكى عن قوم من السلف (5) وذلك لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "المكاتب عبد ما بقى عليه شيء من كتابته درهم" (6) ولأن الكتابة عتق بصفة الأداء فمتى لم (7) يحصل الأداء لم يحصل العتق، ولأن عتق الإنسان جزأ من عبده باختياره مبتدءًا يوجب عليه تكميله وتتميمه الحرية في باقيه، فلو قلنا إنه معتق منه بقدر ما أداه لوجب أن يعتق الباقي بالسراية أو بالحكم سواء أدى باقي الكتابة أو لم يؤد، وفي فساد ذلك دلالة على أنه لا يعتق إلا بأداء الجميع.   (1) منجمة: أي مؤجلة لأن التنجيم التأجيل بأن يقول السيد لعبده تدفع إلى كل نجم بعد شهرين أو ثلاثة (الفواكه الدواني: 2/ 150). (2) انظر م التفريع: 2/ 13، الرسالة: 224، الكافي: 520. (3) انظر مختصر المزني: 324، الإقناع: 207. (4) انظر الموطأ 787/ 782، التفريع: 2/ 13، الرسالة: 224، الكافي: 520. (5) يحكي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنه إذا أدى الشطر فلا رق عليه وروى ذلك عن النخعي وابن مسعود وقضى به شريح (المغني: 9/ 420). (6) سبق تخريج الحديث في الصفحة: 1463 مع اختلاف يسير في اللفظ. (7) في ق: فما لم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1465 فصل [6 - استحباب وضع السيد عن المكاتب شيئًا عن آخر كتابته]: يستحب للسيد أن يضع عن المكاتب شيئًا من آخر كتابته على قدر ما تطيب به نفسه (1)، والأصل فيه قوله تعالى {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (2) فجاء في أكثر التفاسير أنه وضع شيء من الكتابة (3)، ولأن في ذلك رفقًا بالعبد وحسن معاملته فكان مندوبًا إليه، وليس ذلك بواجب خلافًا للشافعي (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه" (5)، ولأنه عقد معاوضة على رقبة العبد كبيعه من أجنبي ولأن الواجبات على ضربين مقدر بالنص وموكول إلى الاجتهاد في الكفاية وما تنازعناه خارج عن هذين الموضوعين (6) لأنه موكول إلى الإرادة والإختيار وليس ذلك في الأصول. فصل [7 - في جواز مكاتبة العبد الذي لا حرفه له]: وتجوز مكاتبة العبد الذي لا حرفة (7) له لأنه يمكنه التعرض لوجوه المكاسب من الخدمة وغيرها ويكره ذلك في الأمة لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال لا تكلفوا الأمة الكسب فتكسب بفرجها. فصل [8 - فيما يتبع العبد المكاتب]: وإذا أعتق المكاتب بالأداء تبعه ماله (8) لأن الكتابة معاوضة عن النفس والمال   (1) انظر المدونة: 3/ 6، التفريع: 3/ 17، الكافي: 526 - 527. (2) سورة النور، الآية: 33. (3) انظر تفسير الطبري: 18/ 129 - 130. (4) انظر مختصر المزني: 334 - الإقناع: 208. (5) أخرجه الدارقطني: 3/ 26، والبيهقي: 6/ 100 وأبو يعلى وإسناده جيد (نصب الراية: 4/ 169). (6) الموضعين: سقطت من م. (7) انظر المدونة: 3/ 14، التفريع: 2/ 14، الكافي: 530. (8) انظر الموطأ: 2/ 789، التفريع: 2/ 14، الرسالة: 224، الكافي: 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1466 ألا ترى أن السيد ممنوع من التعرض (1) لما له بانتزاع أو غيره، فإذا صح ذلك كان تابعًا له فأما ولده فلا يتبعه إذا كان قبل عقد الكتابة لأنهم ليسوا بملك له فإذا صح ذلك (2)، وإنما هو ملك للسيد فلا يتبعوا آباهم كما لا يتبعه سائر عبيد السيد إلا أن يشترطهم فيتبعونه بالشرط لا بالعقد ويصير السيد كأنه كاتب عدة عبيد له كتابة واحدة، وهذا إذا كانوا قبل عقد الكتابة (فأما إن حدثوا بعد عقد الكتابة) (3) فإنهم يتبعونه من غير شرط لأن كل حكم ثبت للأب ثبت للولد بملك اليمين من الحرية والرق، فأما ولده من زوجته فلا مدخل له في هذا الباب لأنه تابع لأمه. فصل [9 - فيما يجوز أن يكون عوضًا في الكتابة]: كل ما جاز أن يكون ثمنا في البياعات وأجرة في الإجارات جاز أن يكون عوضا في الكتابة (4) لأنه عقد معاوضه كالبيع وغيره، وتجوز الكتابة على الوصفاء (5) من العبيد والإماء وإن لم يوصفوا ويكون له الوسط منهم في ذلك الموضع لأن المقصود منها الرفق وإكمال حرمة الحرية دون محض العوض كالمهر في النكاح. فصل [10 - فيما إذا كاتبه وله أمة حامل]: وإن كاتبه وله أمة حامل تبعته الأمة ولم يتبعه الولد فإذا وضعت فالولد للسيد والأمة للمكاتب علم بحملها أم لا لما ذكرناه (6) لأن الأمة ماله فيتبعه ولأن   (1) في ق: العريض. (2) فإذا صح ذلك: سقطت من م. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) انظر المدونة: 3/ 3، التفريع: 2/ 13، الرسالة: 224، الكافي: 520. (5) الوصفاء: جمع الوصيف وهو العبد. (6) انظر الموطأ: 2/ 789، المدونة: 3/ 29، التفريع: 2/ 14، الرسالة: 224، الكافي: 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1467 الولد ليس بمال له بل هو ملك لسيده، ويمنع المكاتب من بيعها إذا قلنا إنها لا تكون أم ولد بعد العتق حتى تضع فإذا وضعت كان له بيعها إذا شاء لأنه إن باعها حاملًا فالولد داخل معها في البيع وهو ملك غيره، وإن استثنى لم يجز لأن استثناء الحمل في البيع (1) مبطل له فوجب لذلك الوقوف عليها إلى أن تضع. فصل [11 - في جواز بيع كتابة المكاتبة]: يجوز بيع كتابة المكاتبة (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، لأن بيع الديون في (4) الذمم جائز بدليل جواز المصارفة على الذهب الذي في الذمة (بالورق وعلى الورق الذي في الذمة) (5) بالذهب قبل قبضه، ولأنه لما جاز بيع العروض الحاضرة بالأثمان الغائبة جاز بيع الديون الغائبة بالعروض الحاضرة، ولأنه عقد معاوضة أحد طرفيه دين والآخر عين فكان مباحًا اعتبارًا ببيع العين الحاضرة بالعين (6) الغائبة. فصل [12 - إذا كانت الكتابة ذهبا أو ورقا أو عروضا كيف يجوز بيعها]: إذا ثبت ذلك فإن كانت الكتابة ذهبا أو ورقًا جاز بيعها بعرض معجل وإن كانت عروضا فبذهب أو ورق معجلة أو بعرض مخالف لها معجل غير مؤجل، وإنما أوجب ذلك لأنها لو بيعت (7) وهي ذهب أو ورق بذهب أو ورق (8) دخل   (1) في البيع: سقطت من م. (2) انظر الموطأ: 2/ 798، المدونة: 3/ 18، التفريع: 2/ 14. (3) انظر حاشية ابن عابدين: 1/ 103، و 4/ 5، مختصر المزني: 328. (4) الديون في: سقطت من م. (5) ما بين قوسين سقط من ق. (6) في م: بالدين. (7) في م: تبعت. (8) أو ورق: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1468 ذلك التأخير وبيع غائب بناجز وذلك ممنوع، وإن بيع بعرض مؤخر كان دينا بدين، وإن بيعت وهي عروض بعروض من جنسها أكثر مما حصل منه عرض بعرضين من جنسه إلى أجل وذلك ممنوع فلم يبق إلا ما قلناه. فصل [13 - إذا بيعت كتابة المكاتب من العبد]: وهذا كله إذا بيعت من غير العبد، فأما إذا بيعت من العبد نفسه فلا معتبر بذلك كله وله أن يبيعها منه كيف شاء فينقله من ذهب إلى ورق ومن ورق إلى ذهب ومن عروض إلى عروض من جنسها (1) ومن غير جنسها لأن تقدير بيعها من العبد إنما هو ترك ما كاتب (2) عليه والعدول إلى مال معجل واستئناف كتابة أخرى غير الأولى ولا خلاف من قولنا إن للمكاتب أن ينقل نفسه من كتابه إلى كتابة أخرى (3). فصل [14 - في بيع الجزء من الكتابة]: وفي بيع الجزء من الكتابة روايتان (4): إحداهما المنع والأخرى الجواز. فوجه المنع أن ذلك يؤدي إلى المكاتب كتابته أداءين مختلفين أحدهما إلى السيد بعقد كتابته والأخرى إلى مبتاع الجزء (5) من كتابته وذلك غير جائز على أصله. ووجه الجواز اعتبارًا بسائر المبيعات لأن كل بيع مقصود في نفسه فإذا جاز بيع كله جاز بيع جزئه وكذلك الكتابة.   (1) في م: ومن جنس غيرها. (2) في ق: ما كانت عليه. (3) أخرى: سقطت من م. (4) انظر المدونة: 3/ 18، التفريع: 2/ 14، الكافي: 526. (5) الجزء من: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1469 فصل [15 - في عدم جواز بيع نجم من نجومه]: ولا يجوز بيع نجم من نجومه (1) لأن ما يقابل النجم من رقبة المكاتب مجهول عند عقد البيع المنجم (2) فلم يجز، فإذا ثبت ما ذكرناه نظر فإن أدى الكتابة إلى مبتاعها من سيده لأعتق كما لو أداها إلى سيده عتق لأن الصفة التي علق العقد عليها هي الأداء فدخلت (3)، ولأن المشتري قائم مقام السيد، ويكون ولاؤه للسيد الذي عقد كتابته لأن عتقه من جهته بما عقد له، وإنما ابتاع المشتري ما على المكاتب دون رقبته بعد ثبوت الولاء للسيد، والولاء لا يصح نقله بعوض ولا بغير عوض على ما قدمناه وإن عجز رق وكان ملكًا لمشتري كتابته لأنه قائم مقام سيده وقد ثبت أنه لو عجز قبل بيع السيد كتابته رق له وكذلك عجزه عند مشتريها، وإن مات قبل تمام الأداء عن مال ولم يترك ولدا كانت عليهم كان المال المشتري كتابته عند سيده وإذا جاز بيع كتابة المكاتب جاز هبتها والوصية بها ثم الحكم فيها على ما ذكرناه. فصل [16 - في كون المكاتب أحق بشراء مكاتبته]: والمكاتب أحق بشرائها استحسانًا لحرمة العتق وإزالة الضرر عنه بدخول من لم يعهد معاملته عليه (4) والقياس غيره، وهذا إذا بيعت كلها فإن بيع بعضها لم يكن أحق بها (5) لأنه ليس له أن يعجل لبعض ساداته حقه دون الباقين لأن ذلك يؤدي إلى عجزه، ولأنهم شركاء في كتابته ومتساوون في قبضها منه فليس لبعض أن يختص بتعجيل حقه منها من غير إذن شركائه كسائر الديون المشتركة.   (1) انظر الموطأ: 2/ 797، التفريع: 2/ 14، الكافي: 526. (2) في م: للنجم. (3) في م: قد حصلت. (4) عليه: سقطت من م. (5) انظر الموطأ: 2/ 797، التفريع: 2/ 14، الكافي: 526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1470 فصل [17 - في تعجيل الكتابة]: إذا عجل المكاتب كتابته لم يكن للسيد الامتناع من أخذها لأن الأجل حق له ورفق به فإذا رضي بإسقاطه كان له ذلك فإن كان السيد شرط عليه مع الكتابة سفرًا أو خدمة فعجل الكتابة فهل يسقط عنه ما شرط عليه أم لا ففيها روايتان: إحداهما سقوطه والأخرى ثبوته (1). فوجه سقوطه أنه تابع للكتابة فإذا تعجلت سقط ما يتبعها. ووجه ثبوته أنه بعض العوض في عتق الرقبة فلم يسقط عنه كالكتابة فإذا قلنا إنه لا يسقط فيخرج ما يلزمه علي روايتين: إحداهما أنه يؤديه بعينه، والأخرى يؤدي قيمته، ومن أصحابنا من يقول إن كانت خدمة أو منفعه سقطت وإن كانت نوعًا آخر من المال لزم ولم يسقط. فصل [18 - إذا مات المكاتب وترك ولد معه في الكتابة]: وإذا مات المكاتب وترك (2) ولدا معه في الكتابة إما بالولادة أو بالشرط وترك ما لا لم تنفسخ الكتابة (3)، خلافًا للشافعي (4) لأن عقد الكتابة قد تضمن إلزام السيد نفسه عتق المكاتب وولده الداخلين معه في العقد بالشرط والولادة بصفة أداء المال إليه فلم يكن للسيد فسخ العقد في حقهم كما لم يكن له ذلك في حق العبد نفسه ولم يكن له أيضًا فعل (5) ما يؤدي إلى ذلك من انتزاع المال فيه.   (1) انظر الموطأ: 2/ 800، التفريع: 2/ 17، الكافي: 520. (2) في م: ولم يترك. (3) انظر الموطأ: 2/ 801، المدونة: 3/ 35 - 36، التفريع: 2/ 15، الرسالة: 224، الكافي: 524. (4) انظر الإقناع: 208 - 209، المهذب: 2/ 18. (5) فعل: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1471 فصل [19 - إن كاتب على نفسه وحده]: إذا ثبت أن العقد لا يبطل بموته، وإنما ذلك إذا كان معه ولد داخل في الكتابة لأنه إن كاتب (1) على نفسه وحده ومات ولا ولد معه في كتابته أو كان ولده أحرارًا أو مماليك لغير سيده، أو مكاتبون كتابة منفرده عن كتابته فإن العقد يبطل والمال الذي يتركه للسيد، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن ولده الأحرار يقومون (2) مقامه ويرثونه، (3) لأن المواريث موضوعة على تساوي الحرم وهذا مات مكاتبًا لا عبدا على الإطلاق ولا حرا بل مكاتبًا له حكم مخالف لحكم الحر ولحكم العبد فلم يرثه ولده الأحرار ولا العبيد وورثه من تركه في عقد الكتابة. فصل [20 - إذا ترك ولدا معه في الكتابة ولم يكمل نجوم الكتابة]: وإذا ترك ولدًا معه في الكتابة فينظر: فإن كان في المال الذي خلفه وفاء أديت الكتابة حالة، وعتقوا وورثوا الباقي (4). وإنما وجب أداء المال لأن فائدة إيقافه العقد مع بطلانه بموت العبد أن يحصل الأداء فيعتق ولده، ولأنه لما كان العتق لازما في حقهم كلزومه في حق أبيهم لزمهم الأداء كما كان لازما لأبيهم. وإنما قلنا إنه تؤدى حالا فلأن الديون المؤجلة تحل بموت من تكون عليه، وإنما عتقوا عند الأداء بحصول الصفة التي عتقهم معلق بها، ولأن الاب لو كان حيا وأدى المال لعتق كذلك الولد.   (1) في م: كانت. (2) في ق: يقيمون. (3) انظر مختصر الطحاوي: 386 - 387، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 130/ 131. (4) الموطأ: 2/ 801، المدونة: 3/ 35، التفريع: 2/ 15، الرسالة: 224 - 225، الكافي: 524 - 525. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1472 وإنما قلنا إنهم يرثون ما بقي لمساواتهم الأب في الخدمة على ما قدمناه، وهذا إذا ترك ما فيه وفاء, أما أن ترك دون الوفاء فإن كان الولد كبارًا يقدرون على السعي وقالوا نحن نسعى وتؤدي بقية المال في نجومه لزم السيد لأنهم يقومون مقام أبيهم والعقد ثابت لهم كما كان ثابتًا لأبيهم، فإن كانوا صغارًا لا فضل فيهم للسعي فينظر (1) فإن كان أداء (2) أدى على نجومه إلى وقت بلوغهم فإنه يؤدي وذلك لأنهم غير عاجزين مع القدرة على الأداء ثم إذا بلغوا نظر: فإن أمكنهم السعي في البقية وإلا رقوا. وإن لم يكن لهم في المال فضل للنجوم إلى أن يبلغوا السعي رقوا لعجزهم ولم يلزم السيد انتظارهم إلى وقت البلوغ كما لا يلزمه انتظار العبد إذا عجز إلى أن يكسب مالًا يؤدي منه، وعلى أي وجه كان فلا يلزم السيد أن يحفظ عنهم شيئًا من الكتابة بموت أبيهم لأن عتقهم معلق بصفة وهي أداء جميع الكتابة فيما لم يحصل فالعتق غير واقع. فصل [21 - في توريث إخوة المكاتب في كتابته]: وإذا كان مع المكاتب في كتابته من قراباته إخوة أو غيرهم فعنه في توريثهم منه روايتان (3): إحداهما أنهم يورثونه كالولد، والأخرى أنه لا يرثه إلا ولده دون سائر أقرابه، فوجه الأولى إن كان من ورثه بعض ورثته بنسب أو بسبب ورثه جميعهم كالحر، ولأنهم مساوون له في الحال والحرية فكان التوارث ثابتا بينهم وبينه كالولد، ووجه الثانية أن الولد يدخلون معه في كتابته إذا حدثوا بعد عقدها فاختصوا لذلك بميراثه دون سائر القرابة (4)   (1) في م: نظر. (2) في م: فضل. (3) انظر الموطأ: 2/ 801، التفريع: 2/ 15، الكافي: 524. (4) في م: قرابته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1473 فصل [22 - حكم كتابة الجماعة كتابة واحدة]: يجوز أن يجمع السيد جماعة من عبيده في كتابة واحدة (1) خلافًا للشافعي في أحد قوليه (2) لقوله عز وجل: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} (3) ولم يفرق، ولأنه ألزم نفسه عتقهم بشرط أدائهم المال كما لو أفردهم لأن البدل معلوم في الجملة وإن لم يوقف على تقسيطه في الحال كما لو باع ثلاثة أعبد بألف درهم لجاز وإن لم يعلم قسط كل واحد. فصل [23 - عدم عتق الجماعة في كتابة واحدة إلا بأداء جميع المال]: ولا يعتقون إلا بأداء جميع المال (4) خلافًا للشافعي في قوله أن من أدى منهم بقدر نصيبه يعتق (5)، لأن عقد الكتابة وقع عقدًا واحدًا فلم ينفرد به بعضهم دون بعض أصله كتابة العبد الواحد أنه إذا أدى بعضها لم يعتق منه بقدر ما أدى. فصل [24 - لزوم كل واحد من جماعة في كتابة واحدة بقدر قوته]: ويلزم كل واحد بقدر قوته في السعي وما يطيقه وبعضهم حملاء عن بعض إذا أدى الكتابة واحد منهم عتق الكل ورجع المؤدي على الباقين بقدر ما يحتمل (6) كل واحد منهم ممن فيه فضل للسعي (وليس للسيد أن يبتديء إعتاق واحد منهم) (7) لأن في ذلك تعجيز الباقين لتقويتهم بسعيه معهم.   (1) انظر الموطأ: 2/ 792، التفريع: 2/ 16، الرسالة: 224. (2) انظر مختصر المزني: 324، المهذب: 2/ 18. (3) سورة النور، الآية: 33. (4) انظر الموطأ: 2/ 792، التفريع: 2/ 16، الرسالة: 224. (5) انظر مختصر المزني: 324، المهذب: 2/ 18. (6) في م: ما يحمل. (7) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1474 فصل [25 - إذا طالب المكاتب تعجيز نفسه]: وإذا طلب المكاتب تعجيز نفسه وأبى عليه السيد وله قدرة على الأداء لم يكن له ذلك (1) خلافًا للشافعي (2)، لأن الكتابة عقد يتضمن تسمية العوض فإذا رضي به العبد والتزمه (3) لم يكن له أن يرجع عنه من غير عذر كسائر العقود، ولأنه لا لم يكن للسيد الرجوع لأن في ذلك إسقاط حق العبد في حق عقد ثبت تراضيهما واجتماعهما عليه فكذلك العبد. فصل [26 - إذا كان لطالب تعجيز نفسه ولد]: فإذا أجابه السيد إلى ذلك فكان (4) العبد له ولد فليس لهما ذلك، لأنه قد تعلق بهذا العقد حق لغيرهما وهو الولد الذي يعتق بالكتابة إذا أديت فإذا أعجز العبد نفسه كان في ذلك إسقاط حق الولد من العقد ورده إلى الرق وليس ذلك له لأن الإنسان يملك من إسقاط حق نفسه ما لا يتعدى إلى إسقاط حق غيره. فصل [27 - إذا لم يكن لمن طلب تعجيز نفسه ولد]: وإن لم يمكن له ولد ففي روايتان: إحداهما جواز ذلك والأخرى منعه. فوجه الجواز أن الحق في عقد الكتابة لا يتعداهما فإذا تراضيا على فسخه جاز كتقابل المتبايعين، وإنما الممنوع ما يتعدى إلى إسقاط حق غيرهما. ووجه منعه أنه يؤدى إلى إبطال حق الله تعالى من العتاقة التي قد التزمها عقدها، وليس لأحد أن يرد نفسه إلى الرق بعد عتقه أو ثبوت عقده.   (1) انظر المدونة: 3/ 11، التفريع: 2/ 13 - 14، الرسالة: 224، الكافي: 525. (2) انظر مختصر المزني: 331، الإقناع: 207، المهذب: 2/ 14. (3) في ق: ألزمه. (4) في م: فإن كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1475 فصل [28 - إذا لم يكن للعبد مال فله تعجيز نفسه]: وأم إذا لم يكن للعبد مال فله تعجيز نفسه وللسيد تعجيزه (1) لأنه ليس في ذلك إبطال حق أحدهما من غير رضاه ولا إبطال حق الله تعالى لأنه لم يعد بضرر على أحدهما. فصل [29 - الحمالة بكتابة العبد]: الحمالة بكتابة العبد غير جائزة (2) لأنها لو لزمت للزم أدائها على نجومها، ولو فعل ذلك فعجز المكاتب لم يقدر الحميل أن يرجع بما أداه عن العبد عليه ولا على السيد فيكون ذلك من أكل المال بالباطل. فصل [30 - في تصرفات المكاتب]: ليس للمكاتب أن يهب شيئًا من ماله ولا يتصدق به ولا ينكح ولا يسافر إلا بإذن سيده (3) لأن في هبته ماله ومحاباته ما يؤدي إلى عجزه، وكذلك في نكاحه لأنه يلزمه مهر ونفقة. وأما السفر فإن كان قريبا جاز لأن الحكم القريب حكم الحاضر، ولأنه محتاج إلى التصرف والتكسب لأداء ما عليه من الكتابه، وأما للبعيد فللسيد منعه منه لأن فيه تغرير بنفسه وإضرار سيده. فصل [31 - في منع السيد من انتزاع مال المكاتب]: وليس للسيد أن ينتزع ماله (4) ما دام على كتابته (5) لأن في ذلك إبطالا لعقد الكتابة فليس له ذلك لأنه إذا لم يكن له تعجيزه لم يكن له ما يؤدي إليه.   (1) انظر المدونة: 3/ 11، التفريع: 2/ 13، الرسالة: 224، الكافي: 525. (2) انظر الموطأ: 2/ 791، المدونة: 3/ 26، التفريع: 2/ 16. (3) انظر المدونة: 3/ 17، التفريع: 2/ 17، الرسالة: 224. (4) في ق: وليس له أن ينتزع ماله. (5) انظر التفريع: 2/ 17، الرسالة: 224، الكافي: 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1476 فصل [32 - جواز مقاطعة المكاتب سيده على ما شاء]: يجوز مقاطعة المكاتب سيده على ما شاء وإن دخله وضع وتعجيل وغير ذلك مما يمنع منه في البيع (1)، ولأنا قد بينا أن ذلك انتقال من كتابة إلى كتابة (2) وعدول عما وقع عليه الأول، ويفارق ذلك البيع لأن الثمن فيه دين ثابت متقدر لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء بخلاف ما عليه المكاتب. فصل [33 - إذا أسلم مكاتب النصراني]: وإذا أسلم مكاتب النصراني بيعت كتابته من مسلم لأن ملكه عليه لا يجوز استدامته ولا يجوز بيع رقبته لما ثبت له من عقد الحرية (3) فلم يبق إلا بيع كتابته. وقال شيخنا أبو القاسم - رحمه الله - (4) يخرج فيه رواية أخرى وهو جواز بيع رقبته بناء على قوله في أم ولده إذا أسلمت ولم يسلم هو أنها تباع وهي أعلى حرمه من المكاتب، وقال عبد الملك بن الماجشون: يقال للكاتب إذا أسلم إن أديت الكتابة ناجزة (5) عتقت بأدائها وإلا بيعت رقبتك وقال إسماعيل بن إسحاق مطالبة المكاتب بأداء الكتابه عليه حالة ظلم له ولا يلزمه (6).   (1) انظر الموطأ: 2/ 792 - 793، التفريع 2/ 14، الرسالة: 224. (2) في م: عتاقه. (3) في ق: عقد الحرب. (4) رحمه الله: سقطت من ق. وأبو القاسم المقصود هو ابن الجلاب صاحب التفريع. (5) في م: بأجرة. (6) انظر المدونة: 3/ 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1477 فصل [34 - في ولاء من أدى الكتابة إلى مبتاعها النصراني وعتق]: إذا أدى الكتابة إلى مبتاعها وعتق فولاؤه للمسلمين ما دام السيد نصرانيًّا فإن أسلم عاد إليه الولاء لأن الميراث بالولاء كالميراث بالنسب لأن من استحق الميراث بالنسب استحقه بالولاء، والنصراني لا يرث بسببه وليه المسلم فلم يرث مكاتبه، فإذا أسلم ورثه لاستوائه معه في الحرية والديانة. فصل [35 - إذا أوصى لمكاتبة بكتابته]: إذا أوصى لمكاتبه بكتابته كلها وضع في الثلث الأقل من قيمة كتابته أو قيمة رقبته فإن خرج ذلك من ثلثه عتق كله وإلا بقدر ما يحمله الثلث (وإن وضع عنه بعض الكتابة ولم يحمله الثلث) (1) يجعل في الثلث الأقل مما وصى له به أو قدر ما قابله من رقبته ثم عتق من رقبته بقدر ما خرج من ثلثه ووضع عنه من كتابته بقدر ما عتق من رقبته وكان ما بقي مكاتبًا بما بقي من كتابته إن أداه عتق كله وإن عجز عنه رق باقيه (2) ولم يرق ما كان عتق منه (3). وإنما راعينا (4) أقل الأمرين احتياطا للعتق ولتأكيد حرمته، ولأن تبعيضه غير جائز وتكميله إن بعض واجب، ولا يتوجه للورثة مقال في ذلك لأنا قد قدمنا الكتابة لكونها أقل من قيمة الرقبة فلا مقال لهم لأن السيد لم يكن يملك من المكاتب سوى الكتابة. وإنما قلنا (5) إن قومنا الرقبة لكونها أقل قيمة من الكتابة فلا مقال لهم أيضًا لأن المكاتب لو عجز عن كتابته لم يكن للسيد منه ولا لورثته سوى رقبته فلم يكن لهم اعتراض في الوجهين.   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) في م: بما فيه. (3) انظر الموطأ: 2/ 809، المدونة: 3/ 31، الكافي: 527. (4) في ق: رأينا. (5) وإنما قلنا: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1478 فصل [36 - في حال المكاتب ما دام في كتابته]: حال المكاتب ما دام في كتابته (1) حال عبد في جراحه وحدوده وشهادته وطلاقه وقذفه ونفي القصاص عن قاتله إذا كان حرًّا وغير ذلك من أحكام العبد (2) لأن الحرية لم تتقرر لإمكان أن يعجز فيعود إلى الرق، ولأن أم الولد أكد (3) حرمة عنه لأن الفسخ مأمون عليها وغير مأمون على المكاتب ومع ذلك فأحكامها في هذه الأشياء أحكام العبد (4) والمكاتب أولى (5). فصل [37 - في منع السيد من وطء مكاتبته]: ليس للسيد أن يطأ مكاتبته (6) لأن عتقها معلق بأجل كتابتها فكانت كالمعتقة إلى أجل، ولأنها قد تحمل وتصير أم ولد ولا تجوز مكاتبة أم ولد فإن وطئها ولم تحمل فهي على كتابتها لأن مجرد الولاء لا يغير حكمها ولا يوجب تنجيز عتقها فإن حملت خيرت بين فسخ الكتابة وبين كونها أم الولد والإقامة على الكتابة. وإنما وجب ذلك لأن مكاتبة أم الولد لا تجوز بغير رضاها فلذلك (7) كان لها فسخ الكتابة، وإن اختارت البقاء على الكتابة كان لها ذلك لأن فيها تعجيل عتقها، إذا أدت عتقت وإن عجزت كانت أم ولد.   (1) في م: الكتابه. (2) في م: العبيد. (3) في ق: أكتر. (4) في م: العبيد. (5) انظر الموطأ: 2/ 795، التفريع: 2/ 18، الكافي: 523 - 524. (6) انظر المدونة: 3/ 16، التفريع: 2/ 19. (7) في م: فكذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1479 فصل [38 - في كون جراح المكاتب في رقبته]: جراح المكاتب وجنايته في رقبته وماله (1) والمجني عليه مبدى على السيد (2) لأن سببه آكد وحقه أقوى فإن قدر المكاتب على أداء أرش الجناية والكتابة أداهما وبدأ بأرش الجناية (3) وأقام على الكتابة، وإن عجز عن ذلك بطلت الكتابة ورجع رقيقًا وخير سيده كما يخير في العبد الرق بين افتكاكه أو إسلامه. فصل [39 - في عقل جرح المكاتب]: وإن جرح المكاتب فعقله عقل عبد (4) لأنه باق على الرق ما لم يكمل منه الأداء ويدفع العقل إلى سيده ولا يمكن المكاتب من التصرف فيه لأنه قد يتلفه ثم يعجز فيعود رقيقًا معيبًا في جسده، ويحتسب له بالعقل من كتابته فإن كان تمام ما عليه عتق فإن عجز تممه مما يؤديه، وإن كان فيه فضل كان له دون السيد لأنه قد صار حرا بأداء الكتابة فوجب أن يملك عقل جنايته. ...   (1) وماله: سقطت من ق. (2) انظر الموطأ: 2/ 795 - 796، التفريع: 2/ 18، الكافي: 524. (3) في م: الجراح. (4) انظر الموطأ: 2/ 795 - 796، التفريع: 2/ 18، الكافي 523. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1480 كتاب المدبر التدبير أن يقول الرجل لعبده أنت حر عن دبر مني أو أنت مدبر أو إذا من فأنت حر بالتدبير أو ما أشبه ذلك مما يعلم أنه قصد به إيجاب عتقه بموته مطلقًا على وجه الوصية، وأما إن قال إن من من هذا المرض أو هذا السفر فإن ذلك كالوصية يجوز له الرجوع فيه وإبطاله (1). فصل [1 - فيمن دبر عبده ولا دين عليه]: ومن دبر عبده ولا دين عليه لم يجز له بيعه ولا هبته ولا نقض تدبيره بوجه ما دام حيًّا (2) خلافًا للشافعي (3)، ولقوله عز وجل: {أوفوا بالعقود} (4) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "المدبر لا يباع ولا يوهب" (5)، ولأن عتقه معلق (6) بموت سيده على الإطلاق كأم الولد. فصل [2 - في حكم المدبر إذا مات السيد]: إذا مات السيد نظر فإن لم يكن عليه دين وكان له مال يخرج من ثلثه عتق في الثلث وإنما وجب عتقه لوجود الصفة التي كان العتق معلقًا عليها وهي موت   (1) انظر الموطأ: 2/ 810، المدونة: 3/ 37، التفريع: 2/ 9، الرسالة: 223، الكافي: 517، المقدمات: 3/ 187. (2) انظر المدونة: 3/ 37، التفريع: 2/ 9، الكافي: 517. (3) انظر مختصر المزني 322، الإقناع: 206. (4) سورة المائدة، الآية: 1. (5) أخرجه الدارقطني: 4/ 138 من طريق عبيدة بن حسان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر ثم قال الدارقطني لم يسنده غير عبيدة وهو ضعيف وإنما هو عن ابن عمر موقوفًا من قوله لا يثبت مرفوعًا (انظر تلخيص الحبير: 4/ 215). (6) في م: يتعاين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1481 السيد كأم الولد (1)، وإنما قلنا إنه يعتق في الثلث دون رأس المال خلافًا لداود (2)، لما رواه أبو قلابة (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال "المدبر من الثلث" (4) ولأن كل عتق بعد الموت بالقول من الثلث كالموصي بعتقه، لأن المعتق (5) بتلافي المرض آكد (6) حرمة من المدبر ثم يعتق من الثلث فالمدبر أولى. فصل [3 - إذا لم يحمل الثلث المدبر]: وإن لم يحمل الثلث عتق منه بقدر ما يحمله ورق باقيه وكذلك لو لم يترك غيره عتق ثلثه ورق ثلثاه للورثة، ولا يجب عليه أن يسعى في فكاك رقبته خلافًا لأبي حنيفة لما بيناه في العتق. فصل [4 - إذا كان على السيد دين]: وإن كان على السيد دين بيع جميعه إن أحاط الدين بماله وإلا فبقدر إحاطة الدين بماله وعتق ثلث ما بقي ورق ما بقي بعد عتق الثلث منه للورثة (7) وعند أبي حنيفة أنه لا يباع في الدين ولكن يسعى للغرماء فإذا أدى مالهم خرج حرًّا (8)   (1) انظر الموطأ: 2/ 811، المدونة: 3/ 39، التفريع: 2/ 10، الرسالة: 223، الكافي: 517. (2) انظر المحلى: 10/ 475. (3) الحديث عن ابن عمر ولم أجده عن أبي قلابة وأبو قلابة: عبد الله بن زيد بن عمرو أو عامر الجرمي أبو قلابة البصري ثقه فاضل كثير الإرسال مات بالشام هاربًا من القضاء سنه أربع ومائة وقيل بعدها (تقريب التهذيب: 304). (4) أخرجه ابن ماجه في العتق باب المدبر: 2/ 840، والدارقطني: 4/ 138، والبيهقي: 10/ 314 والحفاظ يقفونه على ابن عمر وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث فقال إنه باطل (انظر تلخيص الحبير: 4/ 215). (5) في م: العتق. (6) حرمه: سقطت من م. (7) انظر المدونة: 3/ 37، التفريع: 2/ 9، الكافي: 517. (8) انظر مختصر الطحاوي 381، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 3/ 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1482 ودليلنا أن التدبير يجري مجرى الوصية والدين مقدم على الوصية فلو قدمنا عتق العبد على الدين لكان في ذلك أحد أمرين ممنوعين: إما تقديم الوصية على الدين ليتعجل العبد العتق (1) ويحصل الغرماء على سعاية متأخرة أو انتزاع العبد من أيديهم وإحالتهم في سعاية لا يدري أتصح أم لا بغير رضاهم وإلزام العبد الاستسعاء بغير جناية كانت منه وكل ذلك باطل فلم يبق إلا ما قلناه. فصل [5 - في تدبير بعض العبد]: وإذا دبر بعض عبده كمل عليه جميعه اعتبارًا بالعتق لأنه ضرب منه وإن دبر (2) بعض عبد بينه وبين شريكه بإذنه أو بغير إذنه تقاوماه فإن صار الذي دبر كمل عليه تدبيره وإن صار للآخر رق وإن شاء الذي لم يدبر أن يقوم نصيبه على الذي دبر كان له ذلك (3)، وإنما قلنا إنهما يتقاومانه ليمنع (4) التبعيض فيه وأجزنا إبطاله إن صار للذي لم يدبر لأن التدبير ليس مستقرا لا محالة لأنه قد يبطل باستغراق الدين التركة وقد قيل إنه لا يجوز إلا تقويم الحصة على الشريك (5) الذي يجبر عليه صاحبه إن كان المدبر موسرًا اعتبارًا بالعتق إلا أن يشاء الآخر أن يدبر فيكمل التدبير كما يختار الشريك في العتق أن يعتق فيكمل العتق. فصل [6 - في ولد المدبر]: ولد المدبر من أمته بمنزلته (6) لأن كل ولد حدث عن ملك اليمين تبع أباه في الحرية والرق أصل ذلك إذا ابتاع الحر أمة فأولدها، ومن دبر أمة وهي حامل   (1) في ق: المعتق. (2) في ق: دبرت. (3) انظر الموطأ: 2/ 813، التفريع: 2/ 10 - 11، الكافي: 517. (4) في م: لمنع. (5) في م: المدبر. (6) انظر الموطأ: 2/ 810، المدونة: 3/ 39، التفريع: 2/ 9، الكافي: 517. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1483 علم بحملها أو لم يعلم أو حملت بعد التدبير فولدها بمنزلتها، أما حملها إذا صادفها التدبير فلأنه داخل في العقد على رقبتها بالبيع والهبة والكتابة وسائر العقود على الرقبة فكذلك التدبير. فأما إذا أحدثوا بعد التدبير فلأن كل ولد حدث من نكاح أو زنا فهو تابع لأمه في الحرية والرق اعتبارًا بولد العبد إذا تزوج الحرة أو بولد الحر إذا تزوج الأمة، ويقومون مع أمهم قيمة واحدة لا يقوم بعضهم على بعض لتساوي حرمتهم ولوجوب التدبير لهم وللرجل أن يطأ مدبرته لأن ذلك غير ناقص لتدبيرها بل هو مؤكد له لأنها قد تحمل فتكون أم ولد وذلك أقوى من التدبير، ويفارق المكاتبة لأن تلك تستعجل العتق بالأداء ففي كونها أم ولد تأخير عتقها. فصل [7 - في جواز استخدام المدبر وإجارته من صاحبه]: للرجل استخدام مدبره وإجارته (1) لأنه على الأصل في ملك تصرفه وإنما منع من نقض التدبير فقط وليس في ذلك نقض له والفرق بينه وبين أم الولد أنه ليس له من أم الولد إلا الوطء فقط وهي آكد حكمًا من المدبر لأنه لا يزول حكم الاستيلاد بدين ولا غيره بخلاف التدبير. فصل [8 - في جواز انتزاع مال المدبر، وإذا أسلم مدبر النصراني]: وله انتزاع ماله لأن أحكامه (2) أحكام العبد إلا فيما يقتضي نقض التدبير وليس في انتزاع ماله نقض التدبير، ويستحسن في مرض السيد المخوف للسيد أن لا ينتزع ماله بقرب عتقه فإنه ينتزعه لغيره لا لنفسه (3).   (1) انظر الموطأ: 2/ 814 - 815، التفريع: 2/ 10، الكافي: 517. (2) في ق: أحكامها. (3) انظر الموطأ: 2/ 814، المدونة: 3/ 40، التفريع: 2/ 9، الرسالة: 223، الكافي: 517. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1484 إذا أسلم مدبر النصراني خورج عليه فدفع إليه خراجه ولم يبع عليه، وإنما ينتظر موته فيعتق من ثلثه إن حمله أو حمل منه (1)، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يجوز ثبوت ملك النصراني على المسلم ولا استخدامه بالرق ولا يجوز بيعه لما ثبت له من الحرية (2) في حياة سيده فوجب أن يؤجر عليه من مسلم ويدفع خراجه إلى سيده فإذا مات عتق من ثلثه (3) وكان ولاؤه للمسلمين ما دام السيد نصرانيًّا فإن أسلم عاد إليه الولاء، ويتخرج فيها رواية أخرى وهي: أنه يباع عليه ويدفع الثمن إلى النصراني (4) اعتبارًا ببيع أم ولده إذا أسلمت وحرمة الاستيلاد أقوى من حرمة التدبير. فصل [9 - فيما إذا قتل المدبر]: إذا قتل المدبر فقيمته لسيده (5) لأن أحكامه أحكام العبد في حياة سيده، وكذلك له أرش جناية أعضائه فإذا أخذ ذلك فهو في ملك له في عمل به ما شاء ولا يلزمه أن يجعله في مدبر آخر لأن السيد لا صنع له في قتله فكان قتله كموته وكانت قيمته بمنزلة ماله الذي يتركه بعد موته أنه للسيد بالرق لا بالميراث. فصل [10 - في جناية المدبر]: جناية المدبر في خدمته دون رقبته (6) لأن بيعه غير جائز ولا يجوز إسلام رقبته إلى المجني عليه فلم يبق إلا إسلام خدمته، لأن ذلك هو الذي يملكه السيد منه والسيد مخير إن شاء أفتكه بأرش جنايته وإن شاء أسلم خدمته فإن أسلمها أختدمها المجني عليه لأنها ملك له بدلا من جنايته وأجره وأخذ أجرته.   (1) انظر الموطأ: 2/ 815، المدونة: 3/ 46، التفريع: 2/ 12، الكافي: 517. (2) في م: الحرمة. (3) في ق: ثلاثة. (4) في م: إليه. (5) انظر الموطأ: 2/ 816، التفريع: 2/ 10، الرسالة: 223، الكافي: 518. (6) انظر الموطأ: 2/ 816 - 817، التفريع: 3/ 10، الكافي: 518. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1485 وإن كان للمدبر مال تعلقت الجناية بخدمته وماله اعتبارًا بالحر في تعلق جنايته بذمته وماله فإن كان في المال وفاء بأرش الجناية استوفي منه وإن لم يكن فيه وفاء تعلق الفضل بخدمته وأخذ المجني عليه حقه منها فإذا استوفى أرش الجناية زال تعلقه منه، فإن كان السيد حيا عاد مدبرًا على حاله لأن السيد يملك باقي خدمته مدة حياته فإن مات السيد قبل أن يستوفي المجني عليه أرش جنايته بأن كان له مال يحمل ثلث المدبر عتق في الثلث لأنه لا شيء يمنع عتقه وما بقي من أرش الجناية دين عليه لأن الجناية لا تبطل أرشها لأنها إما أن تتعلق بالرقبة أو بالذمة، وتعلقها بالرقبة (1) في هذا الموضع متعذر للحرمة التي له بالتدبير فلم يبق إلا تعلقها بالذمة ولأنه لما كانت جناية الجر متعلقة بذمته كذلك جناية المدبر (بعد حريته وعن مالك رواية أخرى أن ما بقي من الأرش يبطل بحرية المدبر) (2). ووجه ذلك أن الأرش كان متعلقًا بخدمته دون رقبته فلما بطلت بحريته بطل الحق المتعلق بها ببطلانها كموته هذا كله إذا كان للسيد مال (يعتق فيه فإن لم يكن للسيد مال) (3) غيره عتق ثلثه فكان ثلثاه رقا للورثة ويلزم المدبر ثلث ما بقي من أرش الجناية دينا في ذمته على أظهر الروايتين. وعلى الرواية الأخرى يبطل عنه ويخير (4) الورثة في افتكاك الثلثين بثلثي أرش الجناية أو إسلامه من رقبته إلى المجني عليه لأنه قد صار رقا وبطل التدبير في ما زاد على ثلثه فإن أسلموه كان مالكا للمجني عليه لأن المانع كان من إسلامه بثبوت التدبير وإذا بطل التدبير بضيق المال عنه وجب تعلق ما بقي من أرش الجناية برقبته.   (1) في ق: بالذمة. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) في ق: ويجبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1486 فصل [11 - في جواز مقاطعة السيد مدبره على مال يأخذه منه ويعجل عتقه]: يجوز للسيد أن يقاطع مدبره على مال يأخذه منه ويعجل له العتق فإذا فعل ذلك وتعجل ثم مات السيد قبل أخذ المال لم يسقط عنه بموت سيده (1) لأنه دين تعلق بذمته ولا يعتبر في ذلك خروجه من الثلث لأن الحرية قد سبقت له قبل موت السيد فينجز (2) عتقه بالعوض دون التدبير. ويجوز أن يكاتبه كتابة منجمة فإن أداها قبل موت السيد عتق وإن مات السيد قبل أدائها عتق بالتدبير وسقط عنه باقيها أو جميعها إن كان لم يؤد (3) شيئًا منها فإن لم يكن له مال غيره عتق ثلثه كما لو لم يكن كاتبه وسقط عنه (ثلث الكتابة لأنه لو عتق لسقطت الكتابة عنه فإذا عتق بعضه) (4) سقط عنه بقدر ما عتق منه ويبقى ثلثاه مكاتبا بثلثي الكتابة فإن أداه عتق وإن عجز رق للورثه والله أعلم (5). ...   (1) انظر الموطأ: 2/ 811، التفريع: 2/ 11. (2) في ق: فيجوز. (3) في ق: لم يرد. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) والله أعلم: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1487 كتاب أمهات الأولاد (1) إذا حملت الأمة من سيدها فقد ثبت لها حرمة (2) حرية تمنع بيعها وهبتها والمعاوضة على رقبتها أو من خدمتها أو إسلامها في جناية أو عتقها عن سبب يوجب العتق من كفارة أو نذر أو غير ذلك، ولم يبق فيها إلا الاستمتاع بها في حياته واستخدامها فيما يقرب ولا يشق، سواء وضعت ولدا ميتا أو حيا كامل الخلقة أو ناقصا أو أسقطت مخلقا أو غير مخلق، علقه أو مضغة أو ما يعلم أنه حمل، فإذا مات سيدها عتقت من رأس ماله كان له مال سواها أو لم يكن له غيرها، كان عله دين أو لم يكن لا سبيل للغرماء عليها في حياته ولا بعد موته ويتبعها ماله إذا عتقت قبل (3) موته وله انتزاعه في حياته. وإن حملت منه قبل ملكه لها ووضعت ثم ملكها لم تكن بذلك أم ولد، فأن ملكها بعد الحمل وقبل الوضع ففيها روايتان: إحداهما أن تكون أم ولد، والأخرى أنها لا تكون أم ولد وفي إجباره إياها على التزويج روايتان. وولدها من غيره بمنزلتها في منع بيعهم إلا أن له إجارتهم بخلاف أمهم، وقيمتها إن قتلت (4) وأرش جراحها لسيدها فإن لم يقبضه حتى مات ففيها روايتان: إحداهما أنه ملك له والأخرى أنه يتبعها كمالها، وليس له إسلامها وفي جناية تجنيها والخيار له في افتكاكها بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة رقبتها، وحكمها في جراحها وحدودها وطلاقها وعدته من زوجها ومنع شهادتها   (1) أم الولد: هي الحر حملها من وطء مالكها عليه جبرًا (الفواكه الدواني: 1/ 144 حدود ابن عرفة: 526). (2) حرمه: سقطت من ق. (3) في م: بعد. (4) في م: قبلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1489 وميراثها وسقوط الحد عن قاذفها والقصاص لها من الحر إذا قتلها أو جرحها حكم الإماء (1) ما دام سيدها باقيًا، واستبراؤها من موته بحيضة وهو استبراء وليس بعدة (2) وتعلق الفضل بخدمته وأخذ المجني عليه حقه منها فإذا استوفى أرش الجناية زال تعلقه منه، فإن كان السيد حيا عاد مدبرا على حاله لأن السيد يملك باقي خدمته مدة حياته فإن مات السيد قبل أن يستوفي المجني عليه أرش جنايته بأن كان له مال يحمل ثلث المدبر عتق في الثلث لأنه لا شيء يمنع عتقه وما بقى من أرض الجناية دين عليه لأن الجناية لا تبطل أرشها لأنها إما أن تتعلق بالرقبة أو بالذمة، وتعلقها بالرقبه (3) في هذا الموضع متعذر للحرمة التي له بالتدبير فلم يبق إلا تعلقها بالذمة ولأنه لما كانت جناية الحر متعلقة بذمته كذلك جناية المدبر (بعد حريته، وعن مالك رواية أخرى أن ما بقي من الأرش يبطل بحرية المدبر) (4). ووجه ذلك أن الأرش كان متعلقا بخدمته دون رقبته فلما بطلت بحريته بطل الحق المتعلق بها ببطلانها كموته هذا كله إذا كان للسيد مال (يعتق فيه فإن لم يكن للسيد مال) (5) غيره عتق ثلثه فكان ثلثاه رقا للورثة ويلزم المدبر ثلث ما بقي من أرض الجناية دينًا في ذمته على أظهر الروايتين. وعلى الرواية الأخرى يبطل عنه ويخير (6) الورثه في افتكاك الثلثين بثلثي   (1) في م و: الأمة. (2) في جملة هذه الأحكام انظر: الموطأ: 2/ 742، المدونة: 3/ 42، التفريع: 2/ 5 الرسالة: 225، الكافي: 514، المقدمات: 3/ 195. (3) في ق: بالذمة. (4) ما بين قوسين سقط من م. (5) ما بين قوسين سقط من ق. (6) في ق: ويجبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1490 أرش الجناية أو إسلامه من رقبته إلى المجني عليه لأنه قد صار رقا وبطل التدبير في ما زاد على ثلثه فإن أسلموه كان مالكًا للمجني عليه لأن المانع كان من إسلامه بثبوت التدبير وإذا بطل التدبير بضيق المال عنه وجب تعلق ما بقي من أرش الجناية برقبته. فصل [1 - في جواز مقاطعة السيد مدبره على مال يأخذه منه ويعجل عمقه]: يجوز للسيد أن يقاطع مدبره على مال يأخذه منه ويعجل له العتق فإذا فعل ذلك وتعجل ثم مات السيد قبل أخذ المال لم يسقط عنه بموت سيده (1) لأنه دين تعلق بذمته ولا يعتبر في ذلك خروجه من الثلث لأن الحرية قد سبقت له قبل موت السيد فينجز (2) عتقه بالعوض دون التدبير. فصل [2 - في عدم جواز هبة أو معاوضه أم الولد]: وإنما قلنا إنه لا يجوز هبتها ولا المعاوضة عليها بغير البيع أيضًا فللإجماع على أن لا فرق بين البيع وبين ذلك كله، ولأن الحرمة المانعة من بيعها مانعة من ذلك كله. فصل [3 - في منع عتقها عن سبب يوجب العتق]: وإنما منعنا أن تعتق عن سبب يوجب العتق لأن عقد الحرية قد ثبت لها فلا يكون عتقها تحريرًا، ولأن الملك عليها ناقص بنقصان التصرف فيها، وللسيد أن يعجل (3) عتقها ابتداء لأن ذلك إسقاط لحقه الباقي عليه من الاستمتاع.   (1) انظر الموطأ: 2/ 811، التفريع: 2/ 11. (2) في ق يجوز. (3) في م: أن يجعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1491 فصل [4 - في منع إجارة أم الولد]: وإنما منعنا من إجارتها خلافًا للشافعي (1) لأن الحرمة المانعة من بيعها مانع من إجارتها ولولا الوطء لكان عتقها منجزا. فصل [5 - في جواز الاستمتاع بأم الولد من سيدها]: وإنما قلنا إن للسيد الاستمتاع بها لأن الحرمة إنما تثبت لها بالوطء فلا يجوز أن يجتلب (2) حرمة توجب تحريمه، وكذلك روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال له الاستمتاع بها ما عاش (3). فصل [6 - في عدم التفريق بين حياة الولد وموته]: وإنما لم يفرق بين حياة الولد وموته لعمومه الأخبار، ولأن الحرمة بالولاده دون صفة الولد. فصل [7 - في عدم مراعاة التخليق في الولد]: وإنما لم يراعَ التخليق خلافًا للشافعي (4)، لأن حرمة الولد (5) ثابتة بالحمل اعتبارًا بحصول التخليق، ولأنا لما لم نراع آخره لم نراع وسطه. فصل [8 - في كون أم الولد تعتق من رأس المال]: وإنما قلنا تعتق من رأس المال لأن الحرمة حاصلة بها الآن وإنما بقي للسيد فيها الاستمتاع بالوطء فقط والوطء لا يورث عنه ولا يملك بعده، (6) وليس له قيمة   (1) انظر مختصر المزني: 332، الإقناع: 210. (2) في م: تجنيب. (3) الموطأ 2/ 776، عبد الرزاق: 7/ 292. (4) انظر مختصر المزني: 332، الإقناع: 209. (5) في م: الولاءة. (6) في ق: ولا يصدقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1492 يراعي دخولها في الثلث فلم يبق إلا العتق من رأس المال كالمعتقة إلى أجل. فصل [9 - في عدم التفريق إن كان له مال سواها أم لا]: وإنما لم يفرق بين أن يكون له مال سواها أو لم يكن لأن الأخبار مطلقة غير مقيدة، ولأن مراعاة مال سواها إنما يحتاج إليه فيما يكون عتقه في الثلث لينظر هل يخرج كله أو بعضه وذلك غير معتبر ها هنا فلا معنى لمراعاته. فصل [10 - في عدم مراعاة إن كان عليه دين أو لا]: وإنما لم نراع أن يكون عليه دين أو لا يكون لعموم الأخبار، ولأن عتقها كان مستحقًا في الحياة وإنما منع منه الوطء فإذا زال ذلك بالموت فلم يبق مانع منه، ولو وطيء المديان أمة له فحملت منه لكانت أم ولد ولم يكن للغرماء اعتراض عليها لقوة الحرمة بالوطء وتأكيدها على القول بالعتق الحامل من جهته. فصل [11 - في مال أم الولد]: وإنما قلنا إن مالها يتبعها إذا أعتقت لأن كل مملوك عتق بوجه من وجوه العتاقه (1) فماله تبع له ما لم ينزعه سيده أو يستثنيه عليه عند عتقه. فصل [12 - جواز انتزاع السيد مالها]: وإنما قلنا إن لسيدها انتزاعه منها حال الحياة لأن ملكه باق عليها فكان له انتزاع مالها كالأمة ولا يدخل عليه المكاتب لأن في انتزاع مالها نقصان لعقد عتقه فهو كبيع أم الولد والمدبرة (2)، قال مالك إلا أن يشتد مرضه فلا يكون له ذلك لقرب الوقت الذي يعتقها (3) فيه فمنع انتزاعه كما يمنع إخراج ماله في المرض المخوف إبقاء على ورثته لقرب استحقاقهم له، ولأنه حينئذ ينتزعه لغيره لا لنفسه وإنما له أن ينتزعه لنفسه.   (1) في م: العتق وفي ر: العتاقات. (2) في م: المدبر. (3) في ق: يبتعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1493 فصل [13 - إذا ولدت منه بعقد نكاح ثم ملكها]: وإنما قلنا إنها إذا ولدت منه بعقد نكاح ثم ملكها فإنها لا تكون أم ولد بذلك خلافًا لأبي حنيفة (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "أيما أمة ولدت من نكاح سيدها فهي معتقة عن دبر" (2) فعلق ثبوت الإيلاد (3) بأن يكون من سيدها وهذه ولدت من زوج ولأن الحرمة ثبتت لأم الولد من جهة الولد فإذا كان الولد لا حرمة له في نفسه لم يسر إلى أمه ولأنها وضعت ولدا مملوكا فلم يثبت به حرمة أم الولد أصله الزنا، ولأنها لم تكن أم ولد قبل الإبتياع فكذلك بعده. فصل [14 - إذا ابتاعها حاملًا]: ووجه قوله إنه إذا ابتاعها حاملًا أنها تكون أم ولد قوله - صلى الله عليه وسلم - "أيما أمة ولدت من سيدها فإذا مات فهي حرة" (4) ولم يفرق بين أن تكون حملت منه قبل الملك أو بعده، ولأنه قد ثبتت له حرمة الحرية من جهة أبيه حال الحمل فسرى ذلك إلى أمه أصله إذا ابتدأ الحمل في ملكه، ووجه قوله إنها لا تكون أم ولد أنه حمل خلق رقيقًا فلم يثبت به حرمه الاستيلاد لأمه أصله إذا ابتاعها بعد الوضع. فصل [15 - في أم الولد المدبر]: اختلف عنه في أم المدبر هل لها حرمة يثبت لها العتق بموته إذا أعتق أم لا فعنه في ذلك روايتان: إحداهما ثبوتها والأخرى نفيها. فوجه ثبوتها اعتبارها بأم ولد المكاتب بعلة أن ولدها من سيدها داخل في عقد العتق الثابت له ومكتسب لحرمته فوجب أن تكتسب أمه الحرية به.   (1) انظر مختصر الطحاوي: 377، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 3/ 123. (2) سبق تخريج الحديث. (3) في م: الإستيلاد. (4) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1494 ووجه نفيه أن حرمة سيدها ضعيفة لإمكان بطلان عتقه وعود رقه فلم تسر الحرمة إلى أمته بولادتها منه، فإذا قلنا لها حرمة الاستيلاد لم يجز للسيد انتزاعها منه حاملًا كانت أم غير حامل، وإن قلنا ليس لها حرمة الاستيلاد فله انتزاعها (1) ما لم تكن حاملا لأنها مال للمدبر وللسيد انتزاع مال مدبره، وإن كانت حاملًا لم يكن له انتزاعها رواية واحدة لأن الولد داخل في تدبير أبيه. فصل [16 - في أم ولد المكاتب]: في أم ولد المكاتب خلاف (2) لأنه قد جاز للمكاتب بيعها من غير دين وهذا يدل على أنه لا حرمة لها بالاستيلاد وقال ليس له بيعها إلا أن يرهقه دين، فوجه الأول أن حرمتها ضعيفة لضعف حرمة سيدها لأنه يعتق بالأداء ويرق بالعجز فلذلك لم يثبت لها حرمة الاستيلاد وجاز له بيعها، ووجه الثاني اعتبارا بأم ولد الحر لثبوت حرمة العتق لسيدها، فأما إذا رهن المكاتب دين أو خيف عليه العجز فلا أعلم خلافًا عن مالك أن له بيعها في دينه وأن لسيدها بيعها في كتابته لأن دينه يؤدي إلى عجزه فيرق وتبطل حرمتها وحرمته. فصل [17 - إذا أسلمت أم ولد النصراني]: وإذا أسلمت أم النصراني عرض عليه الإسلام عقيب إسلامها فإن أسلم فهي أم ولده مثل ما كانت فإن أبي ففيها روايتان (3): إحداهما أنها تعتق عليه، والأخرى أنها تباع، فوجه قوله إنها تعتق عليه لأنه لم يكن له فيها إلا الوطء فإذا حرم بالإِسلام وجب عتقها لأنه لا يجوز بقاء ملك على ملك لا ينتفع منه بشيء من وجوه الانتفاع وكذلك قوله في أم ولد الابن إذا وطئها الأب أنها تعتق على الابن لأن وطأها محرم عليه.   (1) في م: لم يجز للسيد انتزاعها منه. (2) انظر المدونة: 3/ 54 - 55، التفريع: 2/ 19، الكافي: 516. (3) انظر المدونة: 3/ 53، الكافي: 515 - 516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1495 ووجه قوله إنها تباع عليه أن النصراني غير متعبد بفروع الدين فلم يجز حكمه، ولأنه لما لم يمنع بيعها قبل إسلامها كذلك بعده كالعبد الغني إذا أسلم. فصل [18 - في إجبار أم الولد على التزويج]: ووجه قوله إن له يزوجها بغير رضاها لأنه قد بقي له فيها ملك (الوطء بحكم الرق فجاز له المعاوضة عليها كما أنه لما ملك) (1) من المدبر خدمته جاز له المعاوضة عليها، ووجه قوله لا يزوجها إلا برضاها أنه عقد على منافعها فلم يكن له ذلك إلا برضاها كالإجارة وذلك مكروه في الجملة للدناءة ونقصان المروءة. فصل [19 - في ولد أم الولد من غير سيدها]: وإنما قلنا إن ولدها (2) من غيره هو بمنزلتها لأن الأصول موضوعة على أن كل ولد حدث من ملك اليمين فإنه تابع لأبيه في الحرية والرق وعقودهما والأصل فيه ولد الرجل من أمته وكل ولد حدث من غير ملك اليمين (3) ولا شبهة ملك فهو تابع لأمه في ذلك والأصل فيه المتزوج بأمة غيره فإذا ثبت ذلك كان ولد أم الولد بمثابة أم الولد يعتق بموت سيدها من رأس المال كعتق أمه إلا أنه لا يجوز للسيد وطؤها إن كانت أنثى لأنها ربيبة. وإنما قلنا إن له إجارته بخلاف أمه لأن أمه كان له فيها الاستمتاع وهو بعض أحكام الملك وذلك حرام عليه من ولدها فلم يبق فيهم إلا الإجارة لأنا لو منعنا ذلك لم يبق لهم عليه شيء من أحكام الرق وذلك ينافي بقاء الملك.   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) في م: ولده. (3) اليمين: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1496 فصل [20 - في قيمة أم الولد إذا قتلت]: وإنما قلنا إن قيمتها إن قتلت لسيدها لأنها على ملكه، وإن كان ناقص التصرف فيها وكذلك أرش جراحها له لأنه إذا كان يملك قيمتها لو قتلت ملك أرش جراحها اعتبارًا بالعبد القن (1)، ووجه قوله إنه إذا لم يقبضه حتى مات فإنه يورث عنه فلا يتبعها هو أنه ما كان يملكه في حياته دونها فكان لورثته بعد موته لأن ما ملكه الإنسان في حياته من المال فهو لورثته بعد موته، ووجه قوله إنه لها إنهاء تملك أرش الجناية عليها وللسيد انتزاعه كما له انتزاع مالها فلما لم ينتزعه في الحياة تبعها كغيره من مالها. فصل [21 - في عدم جواز إسلامها لجناية يجنيها السيد]: وإنما قلنا ليس له إسلامها لجناية تجنيها، لأن إسلامها بمنزلة بيعها لأن الغرض به استرقاقها وأخذ رقبتها عوضًا من جنايتها وإذ لم يجز إسلامها وكان السيد سبب المنع لزمه افتكاكها. وإنما قلنا إنه يكون مخيرًا بين القيمة وأرش الجناية اعتبارًا بالعبد إذا امتنع من إسلامه إلى المجني عليه وتعذر بنقص وجوه التعذر، فأما القيمة فإنها تقوم مقام المقوم وتسد مسده والمراعاة فيها يوم الحكم، ولأن ذلك وقت وجوب تسليم العبد القن وكذلك في أم الولد، وأما أرش الجناية فلأنها بدل من جنايتها والخيار له في أقل الأمرين لأن المجني عليه لا مقال له إذا أخذ بدل جنايته أو بدل رقبة الجاني. فصل [22 - في أحكام أم الولد في الحدود والجراح والشهادات وغير ذلك]: وإنما قلنا إن أحكامها في حدودها وجراحها وشهادتها وغير ذلك أحكام العبيد لبقائها على الرق ونقصان التصرف فيها لا يمنع جري أحكام الرق عليها كالمعتق إلى أجل.   (1) القن: هو الذي لا شائبة حرية فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1497 فصل [23 - استبراء أم الولد من موت سيدها]: وإنما قلنا استبراؤها من موت سيدها بحيضة لأنه استبراء من وطء بملك اليمين كالأمة، وإنما لم نقل عليها العدة بالشهور خلافًا لمن ذهب إلى ذلك، ولأن العدة تجب على الزوجات وهذه ليست بزوجه فإن يئست من الحيض فبثلاثة أشهر لأن ذلك قائم مقام الحيض إذا عدم، وبالله التوفيق (1). ...   (1) وبالله التوفيق: سقطت من ق ومن ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1498 كتاب الأقضية والشهادات والدعاوى والبينات وما يتعلق بذلك (1) الأصل في القضاء (2) قوله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} (3)، وقوله عز وجل {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (4)، وقوله تعالى {لتحكم بين الناس بما أراك الله} (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" (6)، وقوله لمعاذ ابن جبل لما وجهه إلى اليمن قاضيًا: "بم تحكم" قال: بكتاب الله، قال "فإن لم تجد، قال: بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "فإن لم تجد" قال أجتهد رأيي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" (7)، وفيه أخبار كثيرة عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف بعده.   (1) في م: كتاب الأقضية فقط. (2) القضاء في اللغة: القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، والقضاء الحكم (معجم مقاييس اللغة: 5/ 99)، وفي الاصطلاح: صفه حكمية توجب لموصفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين (حدود ابن عرفة: 433). (3) سورة ص، الآية: 26. (4) سورة المائدة، الآية: 49. (5) سورة النساء، الآية: 105. (6) أخرجه البخاري في الاعتصام باب أجر الحاكم إذا اجتهد 8/ 158، ومسلم في الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد: 3/ 1342. (7) أخرجه أبو داود في الأقضية باب اجتهاد الرأي في القضاء: 4/ 18، والترمذي في الأحكام باب ما جاء في القاضي كيف يقضي: 3/ 616، وأحمد: 5/ 230، 236، والبيهقي: 10/ 87 وابن عدي والطبراني وليس إسناده بمتصل (انظر تلخيص الحبير: 4/ 182). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1499 فصل [1 - الخصال التي يجب توفرها في القاضي]: ويجب أن يكون في القاضي خصال منها ما لا يتم الحكم إلا بها ما هو من أداب القضاء وسنة الحكم في الشرع، فأول ما يجب (1) فيه أن يكون فقيهًا غير عامي ومن أهل الاجتهاد عارفا بالكتاب والسنة وطرق الاجتهاد وترتيب الأدلة وكيفية النظر فيها وتخريج الفروع على الأصول، ولا يجوز له تقليد غيره من العلماء ما دام عليه فسحة في النظر ومهلة يمكنه فيها الاجتهاد فإن خاف فوات الحادثة متى أخرها إلى أن يلوح (2) له فيها النظر وقع عليه فرض الحكم فيها فهل يجوز له أن يقلد غيره من العلماء أو لا يجوز له فيها نظر فكان الأقوى أن يجوز لأن تأخير الحكم يؤدي إلى فوات الفرض وإضاعته، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم قد كان يقلد بعضهم بعضًا في الأحكام إذا خفي على المقلد منهم طريق النظر في حكم الحادثة (3). فصل [2 - في عدم جواز كون الحاكم عاميًّا]: وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون الحاكم عاميا خلافًا لأبي حنيفة (4)، لقوله تعالى {لتحكم بين الناس بما أراك الله} (5) وذلك يتضمن الاجتهاد، وقوله تعالى {فاحكم بين الناس بالحق} (6) والمقلد لا يفرق (7) بين الحق والباطل بالتقليد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لمعاذ: بما تحكم قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد" قال فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال "فإن لم تجد"، قال أجتهد رأيي،   (1) يجب: سقطت من م. (2) في ق: يبرح. (3) في جملة هذه الأحكام انظر: الموطأ: 2/ 719، المدونة: 4/ 76، الكافي: 497. (4) انظر مختصر الطحاوي: 333، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 78. (5) سورة النساء، الآية: 105. (6) سورة ص، الآية: 26. (7) في م: لا يغرق الفرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1500 فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله" (1) وقوله "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" (2). وهذا كله يدل على أن الحاكم يجب أن يكون من أهل الاجتهاد ولأن التقليد لا يثمر عليه ولا يجوز التقليد إلا للعامي للضرورة بالعامي إلى أن يلي الحكم ويقلد غيره ولأن القضاء آكد وأقوى من الفتيا لأن الحاكم يلزم غيره بحكمه، والمستفتي لا يلزمه المصير إلى فتيا المفتي فإن لم يجز للمفتي أن يكن مقلدًا فالقاضي أولى. وينبغي للقاضي أن يكون فطنًا متيقظًا كثير التحرز من الحيل وما ينم (3) مثله على المغفل أو الناقص أو المتهاون، وأن يكون عالمًا بالشروط عارفًا بما لا بد منه من العربية واختلاف معاني العبارات فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات في الدعاوي والإقرار والشهادات وغير ذلك مما يتعلق، ولأن كتاب الشرط هو الذي يتضمن حقوق المحكوم له وعليه والشهادات تسمع بما فيه فقد يكون العقد واقعًا على وجه يصح أو لا يصح فيجب أن يكون فيه علم بتفصيل ذلك وتحمله (4)، وينبغي أن يستبطن أهل الدين والأمانة والعدالة والنزاهة ويستعين بهم على ما هو سبيله ويعول بهم على التوصل إلى ما ينوبه ويخففوا عنه فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه من النظر في الوصايا والأحباس والوقوف والقسمة وأموال الأيتام وغير ذلك مما ينظر فيه. والأولى عندنا (5) أن يقضي في المسجد خلافًا للشافعي في كراهية (6) ذلك   (1) سبق تخريج الحديث 1499. (2) سبق تخريج الحديث 1499. (3) ينم: أي يخفي. (4) وتحمله: سقطت من م. (5) عندنا: سقطت من م. (6) انظر، مختصر المزني: 299، الإقناع: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1501 لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحكم فيه، والأئمة بعده وليقرب الوصول إليه على كل من أراده. وينبغي له التسوية بين الخصمين في المجلس وأن يكون إقباله عليهما على حد سواء كما روي عن السلف والأئمة من القضاء بذلك وأن يبتدى منهما من بدأ بالدعوى فيسمع دعواه ويستوفي الحكم له ثم يثني من بعده وإن تشاحى في التقديمة والتبدية ولم يعلم صدق أحدهما أقرع بينهما فيبدأ بمن يخرج سهمه لأنه لا طريق إلى الفصل (1) بينهما إلا بذلك ويجوز أن يقال أن ذلك موكول إلى اجتهاد الحاكم والإقراع أقرب إلى العدل. وينبغي إذا استوفى سماع البينة وأراد الحكم أن يقول للمحكوم عليه أو لوكيله إن لم يحضر: أبقيت لك حجة؟ أم هل عندك ما تدفع به حجة خصيمك؟ فإذا قال لا، حكم حينئذ، وإن قال نعم انتظر ما يأتي به فإن تبين منه اللدد (2) حكم ولم يلتفت إلى قوله. وينبغي أن يكون له صاحب مسائل يكون من أهل الأمانة والثقة فيسأله عن شهوده ويعول عليه في تعديل من شهد عنده، وينبغي للمزكي أن يكون عالمًا بوجوه التعديل والجرح عارفًا بطرقهما. وللحاكم أن يحكم بشهادة من يعلمه عدلًا وأن يرد شهادة من يعلمه فاسقًا أو يعلمه غير مستكمل بشروط العدالة وليس ذلك حكمًا بعلمه، وشروط القضاء وآدابه كثيرة لا يحتملها هذا المختصر وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله. فصل [3 - في منع الحاكم من أن يحكم بعلمه]: ولا يحكم الحاكم بعلمه في شيء أصلًا لا قبل ولايته ولا بعدها لا في حكمه ولا في غيره ولا في حقوق الله ولا في حقوق الآدميين.   (1) في م: القضاء. (2) في م: الرفع، واللدد: هو من اشتدت خصومته (المصباح المنير: 551). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1502 وقال عبد الملك يحكم بعلمه في مجلس حكمه إذا حضر عنده الخصم واعترف بحق خصمه (1). وقال أبو حنيفة يحكم في حقوق الآدميين فيما علمه بعد القضاء لا يحكم فيما علم قبله (2) وقال الشافعي إنه يحكم بعلمه في كل الأشياء (3). فدليلنا قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} (4) فأمر بجلد القاذف متى لم يقم بينة على ما رمى به المقذوف، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث هلال بن أمية لما لاعن زوجته: "إن جاءت به على نعت كذا فهو لهلال وإن جاءت به على نعت كذا فهو (لشريك فجاءت به على النعت المكروه فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت راجمًا أحد بغير بينة لرجمتها" (5) موضع الدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنها زنت لإخباره أنها جاءت به على نعت كذا فهو) (6) لغير زوجها ثم لم يحكم بالحد لعدم البينه. وعند المخالف يجب أن يرجمها إذا علم بذلك، وروى أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم مصدقًا فلاحقاه رجلان فشجهما فأتيا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلبان القصاص فبذل لهما مالًا فرضيا به فقال إني أخطب الناس وأذكر لهم ذلك أفرضيتما، قالا: نعم فخطب الناس ثم قال أرضيتما بعد أن ذكر القصة فقالا: لا، فهم بهم المهاجرون   (1) انظر المدونة: 4/ 78، التفريع: 2/ 245، الكافي: 500. (2) انظر مختصر الطحاوي 332، تحفة الفقهاء: 3/ 370. (3) انظر مختصر المزني: 299، الإقناع: 196. (4) سورة النور، الآية: 4. (5) سبق تخريج الحديث ص 900. (6) ما بين قوسين من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1503 والأنصار فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نزل فزادهما فرضيا فصعد المنبر فقال أرضيتما فقالا: نعم (1)، موضع الدليل أنه لم يحكم عليهما بعلمه لما جحدا أن يكونا رضيا، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - امتنع من قتل المنافقين مع علمه بكفرهم وقال: "لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" (2) وإنما لم يقتلهم لأن الناس لم يعلموا بكفرهم كعلمه، ولأن الحاكم لما كان غير معصوم فقد تلحقه الظنة والتهمة في أن الحكم لوليه على عدوه وأمكن وقوع ذلك منهم وجب حسم الباب: بألا يحكم بعلمه لئلا يدعى عليه بذلك، ولإمكان أن يقع ذلك منه فيلحق الناس أذية منه: فإذا منع أن يحكم بعلمه زالت التهمة في ذلك ويعرض الكلام في الحدود ولأصحاب الشافعي فيها وجهان. ودليلنا أنه لا يحكم فيها بالعلم، الظاهر والأخبار وقول أبي بكر - رضي الله عنه - لو رأيت رجلًا (3) على حد من حدود الله ما أقمته عليه حتى يشهد على ذلك أربعة (4)، ولا مخالف له نعلمه وإن سلموا ذلك قسنا عليه سائر الحقوق، وقلنا إنه حكم بعلم فلم يجز أصله الحدود واعتبارا بعلمه قبل الولاية مع أبي حنيفة، وفي غير مجلس الحكم مع عبد الملك. فصل [4 - في جواز تنفيذ الحاكم الحكم بعلمه]: إذ ثبت أنه ليس له أن يحكم فله أن ينفذ الحكم بعلمه بعدالة الشهود ويقف عنه بعلمه بفسقهم وليس ذلك حكمًا منه بعلمه بدليل أن لغيره من الحكم أن   (1) أخرجه أبو داود في الديات باب العامل يصاب علي يديه خطأ: 4/ 672، النسائي في القسامة باب السلطان يصاب على يده: 8/ 21، وابن ماجه في الديات باب الجارح يفتدي بالقود: 2/ 881، وعبد الرزاق: 9/ 462، والبيهقي: 8/ 49، بسند صحيح (الهداية في تخريج أحاديث بداية المجتهد: 8/ 666). (2) أخرجه البخاري في المناقب باب ما ينهي من دعوى الجاهلية: 4/ 160. (3) في م: أحدًا. (4) سنن البيهقي: 10/ 144، كنز العمال: 5/ 568، المحلى 9/ 426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1504 يحكم بشهادتهم ولو كان ذلك حكمًا بالعلم لم يجز لمن جاء بعده أن يحكم بشهادة من قد رد شهادته الذي قبله كما لا يجوز له نقض حكم حكم به مما يسوغ لهما (1) الحكم به. فصل [5 - في كون الحاكم شاهدا فيما علمه ومنع الحكم فيه]: إذا علم شيئًا ومنع الحكم فيه بعلمه فإنه قد يكون شاهدًا فيه لمن له الحكم فيرفع إلى الإِمام أو إلى غيره من الحكام ويدعي صاحب الحق شهادة الحكم فيكون الحاكم كأحد الشهود فيعمل فيه كما يعمل في شهادة الشاهد وسائر الحقوق (2). فصل [6 - إذا حكم الحاكم بحكم ثم أنكر أن يكون حكم به]: وإذا حكم الحاكم بحكم ثم أنكر أن يكون حكم به فإذا شهد شاهدان على حكمه ثبت ولم يسقط بإنكاره وكذلك لو نسي (3) أن يكون حكم به فشهد به عنده شاهدان قبل شهادتهما (4)، وقال أبو حنيفة والشافعي إن لم يذكر حكمه لم تنفع شهادة الشهود شيئًا (5). ودليلنا أنها شهادة عنده على حكم لو كان ذاكرًا له لساغ قبولهما فكذلك إذا كان ناسيًا، أصله إذا شهد عنده بحكم غيره، ولأنه قد تعلق بذلك حق لغيره وهو من يشهد بالحكم له فلو قلنا أن الشهادة غير مقبولة إلا أن يذكرها ومعلوم أنه قد ينسى ويشك لأدى إلى تضييع حقوق الناس ولكان لا معنى للإشهاد على إنفاذه، ولأنه قد يتهم أيضًا أن يكون جحد حكمه لعداوة بينه وبين المشهود له.   (1) في م: إليه. (2) انظر المدونة: 4/ 78، التفريع: 2/ 245، الكافي: 500. (3) في ق: خشي. (4) انظر التفريع: 2/ 246، الكافي: 500. (5) انظر مختصر الطحاوي: 229 - 330، الإقناع: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1505 فصل [7 - إذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه ولم يذكر أنه حكم به]: وإذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه ولم يذكر أنه حكم لم يجز له أن يحكم به إلا أن يشهد عنده شاهدان (1) خلافًا لابن أبي ليلى في قوله يحكم بالخط (2)، لأنه لم يثبت عنده أنه حكم به فلا يجوز قياسًا على حكم غيره. فصل [8 - في عدم جواز تولي العبد والمرأة الحكم]: لا خلاف أعلمه أن العبد لا يجوز أن يكون حاكمًا (3) (والعلة فيه نقصه بالرق، وأما المرأة فلا يجوز أن تكون حاكمًا) (4) عندنا على وجه، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون حاكمًا في كل أمر تجوز فيه شهادة النساء (5) فدليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكن ناقصات عقل ودين" (6) وهذا خارج مخرج الذم وفيه تنبيه على منع رد شيء من أمور الدين إليهن، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة (7) " وقوله: "أخروهن حيث أخرهن الله" (8)، ولأنها ولاية لفصل القضاء وتنفيذ الأحكام كالإمامة الكبرى، ولأنه لا يصح أن يكون حاكمًا في الحدود والقتل فكذلك في غيره من الأحكام أصله العبد.   (1) انظر المدونه: 4/ 76، التفريع: 4/ 247، الكافي: 502. (2) انظر بدائع الصنائع: 9/ 4091، المغني: 9/ 76. (3) انظر مراتب الإجماع: 49، بداية المجتهد: 2/ 451، نيل الأوطار: 8/ 265. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) انظر مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 84. (6) أخرجه عبد الرزاق موقوفًا على ابن مسعود: 3/ 149، ومن طريقه رواه الطبراني في معجمه (نصب الراية: 2/ 36). (7) أخرجه البخاري في المغازي باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر: 8/ 136. (8) أخرجه عبد الرزاق: 3/ 149، موقوفًا على ابن مسعود (انظر نصب الراية: 2/ 36). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1506 فصل [9 - فيمن قال بجواز تولي المرأة الحكم مطلقًا]: وذهب ابن جرير الطبري (1) إلى أن المرأة يجوز أن تكون حاكمًا على الإطلاق في كل ما يجوز أن يحكم فيه الرجل (2)، وسمعت أبا الفرج بن ظرارة (3) وسئل عن هذه المسألة في مجلس السلطان الأعظم عندنا بمدينة السلام وأنا حاضر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فاحتج بأن قال: لأن الغرض من الحكام (4) تنفيذ الأحكام، وسماع البينة، والفصل بين الخصوم وذلك متأت من المرأة كتأتيه من الرجل فلا فرق بينهما إلا كفرق ما بين الأنثى والذكر وهذا القدر غير مؤثر (5) فنقضه القاضي الإِمام أبو بكر محمَّد بن الطيب الأشعري (6) شيخنا رحمه الله بالإمامة الكبرى لأن الغرض بها حفظ البيضة وحماية الجوزة والذب عن الأمة وجباية الخراج وأموال المسلمين وصرفها في وجوهها قد يتأتى ذلك من المرأة كتأتيه من الرجل ومع ذلك فلا يجوز أن تكون إمامًا.   (1) ابن جرير الطبري: محمَّد بن جرير بن يزيد بن كثير أبو جعفر الطبري الإِمام المفسر صاحب التصانيف البديعة سمع من السدي ومحمد الرازي وأحمد بن منيع وغيرهم وحدث عنه أبو القاسم الطبراني وأبو شعيب الحراني وغيرهم ت 310. (شذرات الذهب: 2/ 260، سير أعلام النبلاء: 14/ 267). (2) انظر الأحكام السلطانية - للماوردي -: 65، المحلي: 10/ 631، المغني: 9/ 39. (3) أبو الفرج بن ظرارة: -لعله- الإمام أبو الفرج أحمد بن محمَّد بن عمر بن حسن ابن المسلمة البغدادي المعدل سمع أحمد بن كامل وأبا بكر النجاد وروى عنه الخطيب وجماعة ت 415 هـ (سير أعلام النبلاء: 17/ 341). (4) في م: الحاكم. (5) في م: مؤثر. (6) أبو بكر بن الطيب: هو أبو بكر الباقلاني وقد سبقت ترجمته في مقدمة التحقيق في ص 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1507 قلت أنا وينتقض أيضًا بالعبد فانفصل (1) وأجاب الشيخ (2) بأن قال: لا يمتنع أيضًا أن يكون الأصل في كل من استنيب في شيء يتأتى منه فعل (3) ذلك الشيء فإنه يصح (4) تأتيه فيه إلا أن يقوم دليل من جهة الشرع يمنعه، وأجاب القاضي عن هذا بأنا لا نسلم أن يكون ذلك أصلًا في الشرع وإنما هو على حسب ما يقوم عليه الدليل من إطلاق أو تقييد قال: وهذا حيلة لدفع (5) النقض. فصل [10 - إذا كان القاضي لا يعرف لغة الخصمين أو أحدهما]: إذا كان القاضي لا يعرف لغة الخصمين أو أحدهما احتاج إلى من يترجم عنه (6)، وقال أبو حنيفة يكفي في ذلك رجل واحد كان أو امرأة (7)، وقال الشافعي لا يكفي في ذلك أقل من اثنين (8)، ولا أحفظ في هذا الوقت شيئًا من متقدمي أصحابنا، وفصل متأخرو شيوخنا فقالوا إن كان الإقرار يتضمن مالًا أو يتعلق بالمال قبل رجل وامرأتان وإن كان مما لا يتضمن ذلك لم يقبل فيه إلا رجلان، والأمر على ما قالوه، إلا أنه إن كان إقراره بمال أو دعواه بمال أو ما يتعلق بالمال فعندي أنه يخرج على وجهين: أحدهما أنه يقبل فيه رجل وامرأتان، والآخر لا يقبل فيه شهادة رجلين والذي لأجله وجب ذلك اختلافهم فيما يتعلق بالمال مما ليس هو في الحقيقة شهادة على مال هل يقبل فيه رجل وامرأتان أم لا وذلك لأنهم اختلفوا في الشهادة على الوكالة بالمال (9):   (1) فانفصل: سقطت من ق. (2) في م ور: المحتج. (3) في ق: قبل. (4) في م ور: يصلح. (5) في ق: لرفع. (6) انظر الكافي: 498. (7) انظر مختصر الطحاوي: 329. (8) انظر مختصر المزني: 299، الإقناع: 197. (9) انظر التفريع: 2/ 316 - 317، الكافي: 394 - 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1508 والوكالة في المطالبة والخصومة فيه ليست مالًا وإنما هي فعل بدن وحكم يثبت فيه يجر إلى تعلق المال فكذلك في مسألتنا هي شهادة على لغة وهي أن معنى ما قاله باللغة العربية أنه إقرار بمال والشهادة على أن هذا اللفظ في لغة الخصم موضوع لهذا المعنى في لغة العرب ليست بشهادة على مال فيجب على هذا ألا يقبل فيه إلا شاهدان. فصل [11 - متى يحلف الحاكم المدعى عليه للمدعي؟]: لا يحلف الحاكم المدعى عليه إلا أن يعلم أن بينهما مخالطة أو معاملة أو تهمة دون الاقتصار على مجرد الدعوى، واختلف أصحابنا في تأويل ذلك (1): فمنهم من قال ينظر إلى الدعوى فإن كان مما يجوز ويشبه أن يدعي مثلها على المدعى عليه أحلف له، (ومنهم من قال إن كان المدعى عليه يشبه أن يكون مثله [يعامل] (2) المدعي فيما ادعى عليه أحلف له) (3)، ومنهم من قال إن المسألة على ظاهرها لا يحلفه الحاكم إلا أن يعلم بينهما مخالطة أو معاملة وهذا كله إذا كانا من أهل البلد أو مقيمين به، وأما إن كانا غريبين فيحلفه ولا يعتبر مخالطته ولا غيرها، وعند أبي حنيفة والشافعي أنه يحلف على أي وجه كان (4). فدليلنا أن ما قلناه مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (5) وهو صحابي إمام ولا مخالف له، ولأن من أصلنا الحكم بالذرائع ومعناها المنع من المباح إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع، وهذا موجود في مسألتنا لأن اليمين تشق وتصعب على أهل الأقدار والديانات، وربما افتدوا منها وربما بذلوا   (1) انظر الموطأ: 2/ 772، المدونة: 4/ 76، التفريع: 2/ 243 - 244، الرسالة 245، الكافي: 485 - 487. (2) طمس في ق. (3) ما بين قوسين سقط من م ور. (4) انظر مختصر الطحاوي: 364، مختصر المزني: 306 - 307. (5) انظر سنن البيهقي: 10/ 259، 261، عبد الرزاق: 8/ 277، المحلي: 9/ 385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1509 الشيء الذي يدعى عليهم كراهية أن يتحدث عنهم أنهم أقدموا على اليمين وحراسة لحسن الظن بهم وانتفاء التهمة (1) عنهم فلو كانت اليمين بمجرد الدعوى لما شاء أحد أن يؤدى أهل الدين والقدراء ويتعرض لما لهم إلا وأظهر الدعوى فيحصل إما على شيء يأخذه أو على الأذية والذلة لهم، وفي ذلك إضرار بالناس وتطريق إلى من يريد أذاهم إلى ما يريده لهم فوجب حسم الباب بالمنع منه حتى إذا كان مع الدعوى سبب يقويها وجب اليمين لغلبة الظن بإمكان ما يدعيه المدعى ولا يلزم على هذا ألا يعديه (2) لأن حضور مجلس الحاكم إذا لم تقارنه يمين لا هجنة (3) فيه لأنه لم يتم للمحضر (4) المدعى عليه ما أراد به. فصل [12 - في تحكيم غير الحاكم]: إذا حكم الرجلان بينهما رجلًا ورضيا بحكمه فحكم بينهما بما يجوز في الشرع لزمها ولم يعتبر موافقة حاكم البلد أو مخالفته (5)، وقال أبو حنيفة إن وافق ما حكم به رأى قاضي البلد لزم وإلا لم يلزم (6)، وللشافعي قولان: أحدهما مثل قولنا، والآخر يكون فتوى منه لا حكمًا (7)، فدليلنا على لزومه خلافًا للشافعي قول - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون عند شروطهم" (8)، وقوله: "لكل مسلم شرطه" (9)، ولأنهما إذا تراضيا به لزمهما حكمه لإلزامهما أنفسهما وذلك كما لو رضي بقاض البلد، ولا يشبه هذا الشهادة إذا   (1) في م: الظن. (2) في م: يغديه. (3) في ق: لا سحبة. (4) في ق: للحاضر. (5) انظر المدونة 4/ 77، التفريع: 2/ 248، الكافي 501. (6) انظر مختصر الطحاوي 333، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 88. (7) انظر الإقناع 197، المهذب: 2/ 290 - 291. (8) سبق تخريج الحديث ص 1044. (9) سبق تخريج الحديث ص 1044. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1510 قال فلان صادق فيما شهد به عليَّ ثم أنكر شهادته لأن الرضا بالشهادة ليس برضا بإجتهاد لأن الشهادة علم يؤديها الشاهد إلى الحاكم لا مجال للإجتهاد فيها له أن ينكر إذا شهد عليه بالباطل، والقضاء بخلافها لأن طريقه الاجتهاد فما رضيا بحكمه وعلما أنه يجتهد وأن اجتهاده ربما وافق مراد أحدهما وربما خالفه فقد دخلا على الرضا بما يكون منه. فأما إذا حكم بينهما بجور أو بخلاف نص أو إجماع فلا يلزم كالشهود إذا شهدوا بالباطل لأنهما إنما رضيا بأن يحكم بالشرع لا بخلافه، ودليلنا على أنه يلزم وإن خالف رأي قاض البلد أنه إذا ثبت أن يتراضيا به (1) فقد صار حاكمًا ينفذ حكمه عليها وصار بمنزلة حاكم آخر في البلد لأن تراضيهما به يقوم مقام نصب السلطان له. فصل [13 - في كتاب حاكم بلد إلى حاكم بلد آخر]: إذا ثبت عند حاكم بلد حق لإنسان على رجل في بلد آخر وتعذر عليه إقامة بينة عند حاكم ذلك البلد جاز للحاكم الذي يثبت الحق عنده أن يكتب بما يثبت عنده له إلى حاكم ذلك البلد وعلى المكتوب إليه أن ينفذه إذا شهد شاهدان (2) بأنه كتاب ذلك الحاكم ولا تنفع الشهادة على حكمه دون لفظه بأنه كتابه (3). وإنما قلنا إن كتاب الحاكم إلى الحاكم يثبت به الحق للضرورة إليه (4) لأن البينة ربما يتعذر إقامتها عند ذلك الحاكم فلم يبق طريق إلا أن يكتب ذلك الحاكم به إلى من يلتمس تنفيذه للحكم لأنه لو لم يقبل ذلك لأدى إلى ضياع الحقوق، ولأن كتاب الحاكم أو شهادة الشهود بثبوت الحق يثبت عند الحاكم (5) الثاني بشهادة الشهود عنده بحكم الأول به فكذلك شهادتهم عليه أن هذا كتابه.   (1) في م تراضيهما. (2) في ق: شاهد. (3) انظر المدونة: 4/ 77، التفريع: 2/ 246، الكافي: 499. (4) في ق: فيه. (5) الحاكم: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1511 وإنما قلنا إن الشهادة على الخط لا تنفع لأن الخط لا يحكم باعتراف كاتبه على ما كتبه (1) لأنه قد يكتب أشياء لا يؤخذ بها ولو لفظ كتبه لأخذ به. فصل [14 - إذا مات القاضي المكتوب إليه]: وإذا مات المكتوب إليه أو عزل فجاء الكتاب إليه والمكاتبة للذي قبله لزم الثاني أن يحكم بما فيه (خلافًا لما حكي عن أبي حنيفة من أنه لا يجوز للقاضي الثاني أن يحكم بما فيه (2)) (3) لأن الحاكم لا يخلو أن يكون كتب ما به قد حكم أو بثبوت حق عنده لم يحكم به: فإن كان قد كتب بأنه قد حكم فيلزم كل من ثبت عنده ذلك من الحكام تنفيذه، وإن كان قد كتب بها يثبت عنده فذلك جار مجرى الشهادة على الشهادة فشهود الفرع إذا ماتوا جاز لغيرهم تحمل الشهادة كذلك ها هنا. فصل [15 - في حكم الحاكم على الغائب]: يحكم على الغائب إذا أقام الحاضر البينة وسأل الحكم له (4)، وقال أبو حنيفة يسمع الحاكم دعوى الحاضر وبينته ولكن لا يحكم له على الغائب ولا على من هرب قبل الحكم وبعد إقامة البينة (5)، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند وقالت له إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي أفأخذ من ماله فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (6)، وقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما خطب الناس "ألا إن أسفيع: جهينه رضي لدينه وأمانته أن يقول سبق الحاج فادان معرضا وإنا بايعوا ماله فمن كان له عليه دين فليحضر (7) ولم يكن أسفيع حاضرًا   (1) في ق: كتابه فإن على ما كاتبه. (2) انظر مختصر الطحاوي: 330. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) انظر التفريع: 2/ 249. (5) انظر مختصر الطحاوي مع شرح الميداني: 4/ 88. (6) سبق تخريج الحديث. (7) سبق تخريج هذا الأثر ص 1182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1512 ولا أنكر ذلك على عمر أحد، ولأنها بينة مسموعة طلب صاحبها الحكم بها فأشبه إذا كان الخصم حاضرًا، ولأنها دعوى مستحق على غائب قامت بها بينة فوجب أن يحكم بها أصله إذا ادعى على رجل أنه قتل وليه خطأ لا خلاف أنه يحكم له بالدية على العاقلة وإن كانوا غيبًا لأن غيبة المدعى عليه لا تمنع الحكم عليه أصله إذا ادعى على ميت وأقام البينة أو ادعى على جماعة غيب أحدهم حاضر، ولأن عدم الحضور بالموت أبلغ في التعذر منه بالغيبة فإذا قضى مع الموت فمع الغيبة (1) أولى، ولأن ذلك ذريعة إلى إبطال حقوق الناس لأنه لا يشأ أحد أن يأخذ أموال الناس ولا يؤديها إلا غاب فلا يمكن القضاء عليه، ولأن الاتفاق حاصل على أن الحاكم يسمع البينة عليه والفائدة في ذلك الحكم بها وإلا لم ينتفع باستماعها، ولأنهم قد وافقونا على أن امرأة لو ادعت النفقة على زوجها وهو غائب وذكرت أن له وديعة عند رجل فأقربها فإنه يقضى لها بنفقتها ويؤخذ لها منه فكذلك سائر الحقوق. فصل [16 - في التفريق في الحكم مع الغيبة بين الرباع وغيرها]: وإنما فرقنا بين الرباع وغيرها من الأموال لأن الرباع مأمونة لا يخاف عليها فاستحسن مالك رحمه الله التوقف عن الحكم فيها مع الغيبة (2)، وأن لا يعجل بذلك إلى أن يقدم الغائب فيذكر حجة إن كانت له ويحكم عليه بما لا يحتاج إلى نقض بعده، وعنه رواية أخرى أنه لا فرق بين الرباع وسائر الأموال في وجوب القضاء على الغائب. فصل [17 - في كون حكم الحاكم لا يغير الشيء عن باطنه وحقيقته]: حكم الحاكم لا يغير الشيء عن باطنه عما هو عليه ولا يحيله عن حقيقته، ولا   (1) في ق: غيبة. (2) في ق: الغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1513 فرق في ذلك بين ما يملك الحاكم ابتداؤه وبين ما لا يملكه في أن حكمه إذا كان عن سبب غير صحيح لم ينفذ في الباطن، ومثال ذلك أن يدعى رجل على أجنبية أنها زوجته ويقيم على ذلك شاهدي زور فيشهدان فيحكم الحاكم بشهادتهما هذا حكم لا يصح في الباطن ولا يحل المرأة له فإن وطئها مع علمه فهو زان، وكذلك لو ادعت امرأة على رجل أنه طلقها ثلاثًا وشهد بذلك شاهدا زور فحكم الحاكم بالفرقة فإنها لا تطلق عندنا وتكون المرأة على حالها ولا يجوز لها أن تزوج بذلك الحكم ولا لأحد الشاهدين أن يتزوجها هذا وما أشبه من نظائره (1)، وقال أبو حنيفة في هذه المسائل إن حكم الحاكم يزيل الشيء عن حقيقته في الباطن (2). ففي المسألة الأولى إذا حكم له الحاكم بالزوجية جاز له أن يطأها وتصير زوجته عند الله تعالى، وقال في المسألة الثانية أنها تصير مطلقة بحكم الحاكم بشهادة الزور بطلاقها ويجوز لها أن تتزوج ويجوز لأحد شاهدي الزور أن يتزوجها وهو يعلم أن الزوج لم يطلقها، وإن حكم الحاكم بطلاقها إنما كان عن شهادة الكذب، وقال في نوع آخر وهو أن يدعي على ذات محرم أنها زوجته وشهد له بذلك شاهدا زور أن الحكم لا ينفذ في الباطن ولا تكون زوجته، وكذلك إذا أقام شاهدي زور في دعوى مال (3) فحكم له الحاكم فإنه لا ينفذ، وفصلوا بين الموضعين بأن لكل موضع جاز أن يكون للحاكم في ابتداء فعله ولاية نفذ حكمه فيه ظاهرًا وباطنًا، وكل موضع لا ولاية له في ابتداء فعله لم ينفذ حكمه إلا في الظاهر دون الباطن قالوا فالأول مثل ما قدمناه في ادعاء الزوجية والطلاق وإنما   (1) انظر التفريع: 2/ 241 - 242، الرسالة: 247، الكافي: 475. (2) انظر مختصر الطحاوي: 350. (3) في ق: الحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1514 نفذ حكمه في الظاهر والباطن لأن للحاكم ولاية عقد النكاح وفي أن يطلق على غيره، ومثال الثاني ادعاء زوجية ذوات المحارم وادعاء مال لأن الحاكم لا ولاية له في تزويج ذوات (1) المحارم ولا في نقل الأموال وكذلك لو ادعى رجل على أنه قتل وليًّا له وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم بالقود لم يكن للمحكوم له أن يقتل لأن الحاكم ليس له أن يبتدىء القتل. فدليلنا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2) فحرم المحصنة وهي التي لها زوج إلا أن يملك الكوافر (3) بالسبي، وعند المخالف أن التي لها زوج تحل متى حكم الحاكم بشهادة زور أنها قد طلقت أو أن يقيم شهادة زور بتزويجه إياها، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (4) فعم، وعندهم أنها لا تحل (5) له أن يراجع نكاحها وإن لم يطلقها إذا حكم (6) الحاكم بشهادة زور أنه طلقها، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أستمع فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" (7)، وهذا صريح (8) بأن حكمه بها ليس بجائز للمحكوم له   (1) في ق: ذوات المحرم. (2) سورة النساء، الآية: 24. (3) في ق: كالكوافر. (4) سورة البقرة، الآية: 230. (5) في م: أنها تحل. (6) في م: إذا شهد. (7) أخرجه البخاري في المظالم باب إثم من خاصم في باطل: 3/ 101، ومسلم في الأقضية باب الحكم بالظاهر: 3/ 1337. (8) في م: تصريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1515 ولا يحل له بسبب غير صحيح في الباطن فلم ينفذ الحكم له في الباطن، كادعاء زوجية ذوات المحارم والحكم بالمال، ولأنه حكم بشهادة زور فلم ينفد في الباطن كالمال، ولأن كل شاهدين لو علم الحكم بحالهما لم (يجز له الحاكم بشهادتهما فإذا حكم فيها مع الجهل بحالهما لم ينفذ) (1) حكمه في الباطن كالكافرين والعبدين. * * *   (1) ما بين القوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1516 باب [في اشتراط العدالة في الشهادة] العدالة معتبرة في الشهادة وشرط في قبولها والحكم بها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن شهد ذوا عدل فصوموا وافطروا" (2)، وللإتفاق على أن شهادة الفاسق غير مقبولة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية: "ألا أن يجلد هلال بن أمية ويبطل شهادته في المسلمين" (3) يريد بخروجه عن العدالة بثبوت قذفه، ولا خلاف في ذلك (4). فصل [1 - في عدم اكتفاء الحاكم من العدالة بظاهر الإِسلام]: لا يجوز للحاكم أن يكتفي من العدالة بظاهر الإِسلام دون البحث عن حالها والسؤال عن طرائقها والعلم بعدالتهما (5)، وقال أبو حنيفة يكفيه ظاهر إسلامها ويحكم بشهادتهما ولا يلزمه البحث عن عدالتهما إلا أن يجرحهما الخصم (6)، ودليلنا قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (7) يعني من المسلمين فعلم أن   (1) سورة الطلاق، الآية: 2. (2) سبق تخريج الحديث ص 455. (3) سبق تخريج الحديث 898. (4) انظر بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 640، شرح مسلم - للنووي -: 1/ 150، المغني: 9/ 164، فتح الباري: 5/ 211. (5) انظر المدونة: 4/ 79، التفريع: 2/ 238، الرسالة: 246، الكافي: 461. (6) انظر مختصر الطحاوي: 366، مختصر القدوري - مع شرح الميداني -: 4/ 61. (7) سورة الطلاق، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1517 العدالة معنى زائد على العلم بالإِسلام، وقوله {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) والرضا لا يكون إلا بعد البحث عن حاله (2) ولا يكفي في ذلك العلم بصحة اعتقاده لأن (أفعاله قد تكون مخالفة لما يوجب اعتقاده) (3)، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أن رجلين شهدا عنده فقال: لا أعرفكما ولا يضركما ألا أعرفكما جيئاني برجل يعرفكما فجاءاه برجل فقال أتعرفهما قال: نعم، قال: أكنت معهما في السفر الذي يكشف أخلاق الناس قال: لا، قال: أفأنت جارهما تعرف صباحهما ومساءهما، قال: قال لا، قال: أعاملتهما بالدنانير والدراهم التي تتقطع بهما الأرحام، قال لا، قال يا بن أخي ما تعرفهما جيئاني بمن يعرفكما (4). وهذا قوله بحضرة المهاجرين والأنصار والصحابة ولم ينقل عن أحد خلافه، ولأن العدالة أمر مشروط في الشهادة يمكن اعتبار باطنه فلم يجز أن يحكم بظاهره، أصله دار الإِسلام لأن ظاهر الدار الإِسلام، ولأنها شهادة يتعلق بها حكم الحاكم فلا يكتفي فيها بظاهر الإِسلام، أصله إذا كان في قتل أو حد. فصل [2 - في صفة العدل]: صفة العدل الجائز الشهادة: (5) أن يكون بالغًا عاقلًا حرًّا مسلمًا ثقة أمينًا غير فاسق بفجور ولا كذب متيقظًا غير غافل فطنًا ضابطًا عارفًا بالشهادات وصفة تحملها التي يجوز معها إقامتها متحرزًا من الحيل التي تنم على من قل تيقظه (6)   (1) سورة البقرة، الآية: 282. (2) في ق: عن ذلك. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) أخرجه البيهقي: 10/ 197. (5) انظر الموطأ: 2/ 720، المدونة: 4/ 79، التفريع: 2/ 238 - 239، الرسالة: 246، الكافي: 461 - 462. (6) في ق: تحفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1518 من الشهود بعيدا عن التهمة بالشره ودناءة النفس حافظًا لمرؤته ليس بينه وبين المشهود له أو عليه التهمة معه من بمحبة إيصال نفع إليه أو دفع ضرر عنه أو ضد ذلك من إلحاق ضرر به ولا في الشهادة بذلك النوع المشهود فيه ما يوجب من التهمة ما قدمناه. والتهمة المراعاة في الشهادات تكون في ثلاثة مواضع: في المشهود له والمشهود عليه والشيء المشهود به، وتفصيل هذه الجملة: أن الولد لا تقبل شهادته لوالديه ولا لأجداده وجداته من قرب منهم أو بعد وكذلك الوالدان والأجداد للولد وولد الولد وإن سفلوا ذكورهم وإناثهم الوارث منهم وغير الوارث، وكذلك شهادة أحد الزوجين لصاحبه، والسيد لعبده، وشهادة من له دين على مفلس بحق له على آخر، وشهادة الوصي لمن يلي عليه، وفي شهادته عليهم روايتان: إحداهما الجواز والأخرى المنع، ومن عدى الوالدين والمولودين من سائر القربات جائز شهادتهم لأقاربهم كالأخ والعم وولدهم (1) إلا أن تعرض تهمة من دفع عار أو إثبات ولاء للشاهد أو نسب أو أن يكون في عياله أو تناله صلته أو معروفه وما أشبه فيمنع فيه دون سائر الحقوق. ولا تقبل شهادة الصديق الملاطف ولا السؤَّال (2) المتكففين للناس. وأما التهمه في المشهود عليه فشهادة العدو على عدوه، والشهادة بجرح من شهد على أبيه (3) وأخيه أو ببعض من لا تجوز له شهادته كجد فإن هذا يتهم بدفع العار عنهم بشهادته. وشهادة الخصم لا تقبل مثل أن يشهد بجرح من يشهد عليه بزنا أو قتل أو حق   (1) وولدهم: سقطت من ق. (2) قال صاحب التفريع: ولا تجوز شهادة السؤال الذين يطلبون صلة الناس ومعروفهم (التفريع: 2/ 236). (3) في م: ابنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1519 سائر الحقوق، وكل من منع الشهادة له فشهادته عليه جائزة مقبولة (1) وكل من لم تقبل شهادته عليه فشهادته له مقبولة. وأما التهمة في الشهادة والشيء المشهود به فمثل شهادة البدوي على الحضري (2) في الحقوق الممكن الإشهاد عليها في الحضر دون القتل والجراح ومما لا يمكن تعمد الإشهاد عليه ومثل شهادة ولد الزنا وشبهه، وفي شهادة التائب من كبيرة كان عليها أو تاب منها خلاف بين أصحابنا هل يقبل في ذلك النوع أم لا، ومثل شهادة الكافر بعد إسلامه والصبي بعد بلوغه والفاسق بعد عدالته والعبد بعد عتقه فيما كانوا يشهدون به فردت شهادتهم فيه (لأنهم يتهمون على دفع العار عنهم بقبول ما ردت شهادتهم فيه) (3). وإذا جمعت الشهادة ما فيه التهمة وما لا تهمة فيه ردت في الجميع ولم تقبل فيما لا تهمة فيه وإن جمعت بين ما ترد لغيره التهمة وبين ما لا ترد فيه قبلت فيما لا ترد وردت فيما لا تقبل فيه، ومثال الأول أن يشهد بشهادة لنفسه ولأجنبي، أو يشهد اثنان كل واحد منهما لصاحبه بكتاب واحد أو يشهد بحق واحد لأبيه (4) ولأجنبي فلا تقبل في الجميع، وإذا شهد بالوصية له فيها شيء فإن كان ذا بال لم تقبل أصلًا وإن كان يسيرًا لا خطب له ولا تسبق التهمة إليه أن يكون شهد لأجلها فيها ثلاث روايات: إحداها قبول الشهادة في الجميع، والأخرى ردها في الجميع والثالثة ردها فيما له بال وقبولها فيما ليس له بال، ومثال الثاني أن يشهد النساء بوصية فيها مال وعتق أو يشهدان بطلاق ودين بشهادة واحدة فيقبلن في الدين دون الطلاق   (1) في م: غير مقبوله، وهو غلط. (2) في ق: القروي. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م: لابنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1520 وتقبل شهادة القاذف ما لم يجلد فإذا (جلد لم تقبل إلا أن يتوب وإذا تاب شاهد الزور وعرفت توبته قبلت شهادته) (1)، وقال عبد الملك إن كانت حاله في الظاهر كحال مالك بن أنس والعمري (2) فلا تقبل شهادته من بعد لأنه لا يستطيع زيادة على ما كان يظهر منه، وإن كان دونهما جازت شهادته بعد توبته إذا ظهر منه من حسن الحال زيادة على ما كان يعرف منه. فصل [3 - في اشتراط البلوغ في العدالة]: أما اشتراط البلوغ فلأن العدالة من صفات التكليف فهي تتضمن البلوغ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم" (3)، والبلوغ مشترط في كل الشهادات إلا في موضع ضرورة خرج عن القياس فأجريت كشهادة من يعقل الشهادة من الصبيان فيه للضرورة على أوصاف نذكرها، ومنعت في كل موضع سواه فلا يجب أن يعترض به على الأصل ونحن نبينه. فصل [4 - في شروط قبول شهادة الصبيان]: شهادة الصبيان تقبل في الجراح والقتل على شروط تسعة: (4). أحدها أن يكونوا ممن يعقلون الشهادة، والثاني أن يكونوا ذكورًا، والثالث أن   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) العمري: الإِمام القدوة أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوى العمري المدني روى عن أبيه وعن أبي طوالة وعنه: ابن عيينة وابن المبارك وغيرهم ت 184 هـ (شذرات الذهب: 1/ 306، سير أعلام النبلاء: 8/ 373). (3) سبق تخريج الحديث 262. (4) انظر الموطأ: 2/ 726، المدونة 4/ 80، التفريع: 2/ 237، الرسالة: 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1521 يكونوا أحرارًا، والرابع أن يكونوا مسلمين والخامس أن يكون ذلك في قتل أو جرح، وبعض أصحابنا يقول تكون في الجراح دون القتل، والسادس أن يكون ذلك فيما بينهم خاصه لا لصبي على بالغ ولا لبالغ على صبي، والسابع أن يكون ذلك قبل أن يفترقوا ويغيبوا، والثامن أن تتفق شهادتهم ولا تختلف، والتاسع أن يكون من شهد منهم اثنان فصاعدًا. وعند أبي حنيفة والشافعي لا تقبل على وجه (1) ونحن نتكلم على جواز قبولها في الجملة ثم ندل على وجوب اعتبار ما ذكرناه من الشروط فيها. فصل [5 - في الدليل على قبول شهادة الصبيان على الصفة المشترطة]: ودليلنا على قبولها على الصفة المشترطة فيها أن ذلك إجماع الصحابة لأنه مروي عن علي وابن الزبير ومعاوية - رضي الله عنهم - ولا مخالف لهم، وروي أن عليًّا رضوان الله عليه كان يأخذ بأولى شهادة الصبيان (2)، وروى مالك عن هشام (3) بن عروة عن أبيه أن ابن الزبير كان يجيز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح (4)، وروى قتادة أن معاوية كان يجيز شهادة بعضهم على بعض ما لم يدخلوا البيوت فيعلموا (5)، ولا مخالف لهم ولأن الضرورة تدعوا إلى قبولها لأنا لو لم نقبلها لأدى ذلك إلى أمور ممنوعة وذلك أنا قد ندبنا إلى تدريبهم (6) على الحرب وتعليمهم الرمي والصراع واستعمال السلاح للحاجة إلى الجهاد وأن   (1) انظر مختصر الطحاوي: 335، مختصر المزني: 305. (2) عبد الرزاق: 8/ 350 - 351، كنز العمال: 7/ 25، المحلي: 10/ 614 - 615. (3) عن هشام: سقطت من ق. (4) الموطأ: 2/ 726، البيهقي: 10/ 162. (5) انظر المحلي: 10/ 614. (6) في ق ور: تضربهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1522 ذلك مما يجب أن يلزموا (1) عليه وبالقوة من الصغر لينشؤوا عليه ويألفوه ومعلوم أنه لا بد أن يخلوا بنفوسهم لما يتعاطونه (2) من ذلك ولا سيما العرب فإن ذلك لها مع أولادها عادة قد طبعوا عليها ولو انتظر إلى أن يشهدوا (3) أمورهم كبيرًا يكون معهم لضاق عليهم لأنه لهم عادة في كل وقت ركوب الخيل وما جرى مجراه وهم من الجنس المحقون دماهم وكانت الجراح والدماء قد غلظ أمرها وشدد الأمر في حفظها بما زادت (4) على سائر الحقوق فقبلت فيها الأيمان مع اللوث وليس ذلك في غيرها حياطة لها ومعلوم أنهم إذا اجتمعوا جاز أن يكون بينهم الجراح التي ربما أدت إلى القتال أو إلى ما دونه فلو لم تقبل شهادتهم لأدى إلى أشياء ممنوعة: إما إلى أن لا يجوز لهم التعليم إلى أن يبلغوا وذلك خلاف الإجماع، أو إلى ألا يمكنوا من الرمي ولا علاج بسيف أو رمح إلا إذا كان معهم شهود عدول وهذا أيضًا معتذر ومؤدى (5) إلى أن يتعلموا إلى أن لا يفعلوا من ذلك ما يؤدي (6) جراح فهذا أيضًا غير منضبط ولا متأت لهم أو إلى أن ذلك إن جرى أهدرت جراحهم ودماؤهم وهذا أيضًا خلاف الواجب لأنه لا يجوز لنا أن نبيح لهم (7) ما يؤدي إلى هدر دمائهم وإضاعتها فلم يبق إلا ما قلناه وقد ألزمونا على هذا قبول شهادة العبيد وقد احترزنا منهم بأنهم يجب أن يكونوا من أهل الشهادة بعد البلوغ، وألزمونا اجتماع النساء في الصنيع إذا جرى بينهم، من الجراح فأجبنا على ذلك قل ما يقع وما يفعلونه (8)   (1) في ق: يضربوا وفي ر: أن يترابوا. (2) في ق: يتعاوضونه. (3) في ق: أن تواسطوا. (4) في م: زيدت. (5) في م: وجزء. (6) في م: ما لا يؤدى. (7) في ق: نبيحهم. (8) في م: وما تعلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1523 من ذلك منهي عنه، والتزمه (1) قوم من متأخري أصحابنا، وألزمونا المال فأجبنا عنه بأن الدماء لها حرمة فاحتيط لها ما لم يحتط لغيرها. فصل [6 - دليل اشتراط العقل في شهادة الصبيان]: فإذا ثبت وجوب قبولها في الجملة فإنما راعينا اعتبار العقل لأن الغرض من قبول شهادتهم (2) أن يؤدوا إلينا (3) ما علموا من الحال الحادثة (4) التي يشهدون بها وذلك لا يتأتى إلا من العاقل فكان شرطًا معتبرًا فيها. فصل [7 - دليل اشتراط الذكورية في شهادة الصبيان]: وإنما شرطنا الذكورية لأن الإناث ولا مدخل لهن في إثبات الدماء، وقد روي عن مالك جواز قبول شهادة الإناث الأحرار (5)، ووجه ذلك اعتبارهن بالبالغين في كونها لوثا في القسامة على إحدى الروايتين. فصل [8 - دليل اشتراط الحرية في شهادة الصبيان]: وإنما شرطنا الأحرار لأن العبيد لا مدخل بجنسهم في الشهادة أصلًا ولا يلطخ بها في دم. فصل [9 - دليل اشتراط الإِسلام في شهادة الصبيان]: وإنما شرطنا الإِسلام لأن البالغين من الكفار لا تقبل شهادتهم فالأصاغر أولى. فصل [10 - دليل شهادة الصبيان في جرح أو قتل]: وإنما شرطنا أن يكون ذلك في جرح أو قتل لحرمة الدماء ووجوب حفظها وعدم الضرورة في ذلك إلى غيرها، ووجه قول من يفرق بين الجراح والقتل من   (1) في ق: وألزمه. (2) في م: الشهادة. (3) في ق: النساء. (4) في ق: الجارية. (5) انظر المدونة: 4/ 83، التفريع 2/ 238، الكافي: 740. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1524 أصحابنا أن القتل أغلظ أمرًا من الجراح بدليل أن القسامة فيه دون الجراح وشهادة الصبيان ضعيفة فوجب قصرها على أضعف الأمرين، والصحيح التسوية بينهما لأنها ليس الواجب بها قتل وإنما الواجب بها مال فلا معنى للتفريق بينهما. فصل [11 - في اشتراط قبول شهادة الصبيان قبل التفريق]: وإنما شرطنا أن يكون ذلك قبل التفرق لأن الغالب من حالهم أن يخبرون بالصدق إذا بدهوا ويؤدون الأمر على ما جرى عليه وأنهم إذا تفرقوا غيبوا ولقنوا وتعلموا الكذب وقد روي هذا المعنى عمن أجاز شهادتهم من الصحابة. فصل [12 - اشتراط اتفاق شهادة الصبيان]: وإنما شرطنا أن يكون ما يؤدونه متفقًا لأن الغرض من قبول قولهم أن يغلب على الظن صدقهم فيما يخبرون بموضع اختلاف أقوالهم وتناقضها مما يغلب على الظن كذبهم وتعلمهم وإخبارهم عن الأمر بخلاف ما هو عليه فلم يقبل. فصل [13 - اشتراط كون عددهم اثنان]: وإنما شرطنا أن يكون عددهم اثنين لأن شهادة واحد غير مقبولة في البالغين ففي الأصاغر أولى، فإذا ثبت ما ذكرناه عدنا إلى تفصيل أصل المسألة. فصل [14 - في اشتراط العقل في الشهود]: وإنما شرطنا العقل لقوله تعالى {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (1)، وقوله {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2) والمجنون غير مرضي ولا علم له بما شهد به، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث: فذكر المجنون" (3) وذلك يفيد أنه لا حكم لقوله ولا خلاف في ذلك (4).   (1) سورة يوسف، الآية: 81. (2) سورة البقرة، الآية: 282. (3) سبق تخريج الحديث ص 262. (4) بداية المجتهد - مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 640، شرح مسلم - للنووي -: 1/ 150، المغني: 9/ 164، فتح الباري: 5/ 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1525 فصل [15 - في اشتراط كون شهادة الصبيان فيما بينهم]: وإنما شرطنا أن يكون ذلك فيما بينهم لأن الكبير لا ضرورة به إلى مخالطة الصبيان فكان قولهم يسقط مع مشاهدة الكبار، ولأن القياس يمنع قبول شهادتهم وإنما أجيزت للضرورة فيجب قصرها على قدر ما دل عليه الدليل. فصل [16 - في اشتراط الحرية في الشهادة]: وإنما شرطنا الحرية، خلافًا لداود في قوله أن شهادة العبد مقبوله لسيده ولغيره (1)، لقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) وهذه الإضافة تفيد الحرية دون الإِسلام لأن غير المسلم ليس بعدل، ولأنه نوع نقص يمنع الميراث بينه وبين الأحرار فوجب أن يمنع قبول الشهادة كالكفر، ولأن الشهادة مبنية على التفاضل والكمال وكل ما هذه سبيله فلا مدخل للعبد فيه كالرجم. فصل [17 - في اشتراط الإسلام في الشهادة]: وإنما شرطنا الإِسلام خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن شهادة الكفار مقبولة على أهل ملتهم وعن سائر أنواع الكفر (3)، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (4) ولا تخلو هذه الإضافة أن تكون إلى الدين أو الحرية أو النسب وأي ذلك فالكافر لا مدخل له فيه والنسب غير معتبر باتفاق، ولأن كل من لا تقبل شهادته على المسلمين لم تقبل على غيرهم كالفاسق الملي (5)، ولأنه فاسق بفعله كالملي، ولأن فسق المسلم أدون منه وشهادته غير مقبولة فشهادة الكافر أولى.   (1) انظر المحلى: 10/ 598. (2) سورة الطلاق، الآية: 2. (3) انظر مختصر الطحاوي: 335، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 63. (4) سورة البقرة، الآية: 282. (5) في م: الولي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1526 فصل [18 - اشتراط الثقة في الشاهد]: وإنما شرطنا أن يكون ثقة لأن ذلك من صفات العدالة لأن الكذاب والخائن فاسقان غير عدلين ولا مرضيين فلم يجز قبول شهادتهما. فصل [19 - اشتراط الأمانة في الشاهد]: وإنما شرطنا الأمانة لأن ضدها الخيانة وذلك فسوق (1) والخائن غير عدل ولا مرضي وإنما شرطنا نفي الفجور والكذب لأن ذلك من ضروب الفسق الذي هي أبلغ ما يفسق به الفاسق ولا خلاف في ذلك (2). فصل [20 - اشتراط الضبط والفطنة والتحرز في الشاهد]: وإنما شرطنا الضبط والفطنة والتحرز لأنه ما لم يكن كذلك تمت عليه حيلة الخصم فلا يؤمن أن يشهد بالزور والكذب فإذا كان متحرزًا متيقظًا (3) أمن عليه ذلك وأدى الشهادة سليمة مما يخاف عليه من الزلة فيها، ولذلك أصل في الشهادات وهو جعل امرأتين بإزاء شهادة (4) واحد من الرجال لأن الغالب من شأن النساء السهو وقلة التحصيل ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنكن ناقصات عقل ودين" (5)، وذكر في نقصان العقل أن شهادة امرأتين مقام شهادة رجل فيتم عليها حيلة لا يؤمن معها أن تؤدي الشهادة على خلاف ما هي عليه فضممنا إليها أخرى لأن ذلك يبعد عن الجماعة ويؤمن فيها غالبًا وكل هذا يدل على وجوب ما رعيناه في الشهود.   (1) في م: فسق. (2) انظر: المغني: 9/ 164، فتح الباري: 5/ 211. (3) في ق: منتقظًا. (4) في م: شاهد. (5) سبق تخريج الحديث ص 1506. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1527 فصل [21 - اشتراط كون الشاهد عارفًا بالشهادات]: وإنما شرطنا أن يكون عارفًا بالشهادات ووجه تحملها لأنه متى لم يكن كذلك لم يكن مرضيًّا وقد شرط الله تعالى الرضا في قبول الشهادة والجاهل ليس بمرضي، وليس يكفي في ذلك أن يكون من أهل الدين دون أن يضاف إليه العلم لما يشهد به ومعرفة آداء الشهادات ولأنه إذا كان غير عارف بكيفية تحملها لم يؤمن أن يؤديها على الوجه الممنوع قبولها معه فلم يجز. فصل [22 - اشتراط بعد الشاهد عن الشره ودناءة النفس]: وإنما شرطنا بعده عن الشره ودناءة النفس (1) لأنه إذا كان معروفًا بذلك سقطت مروءته وسبقت الظنة إليه وتسرع إليه التهم أنه إنما يشهد لشيء يعطى له وذلك قادح في العدالة والدين مزيغ (2) الصدق والأمانة فوجب حسم الباب بانتفائه عن الشاهد. فصل [23 - اشتراط حفظ المروءة في الشاهد]: وإنما شرطنا الحفظ للمروءة لأن من لا يحفظ مروءته ويراعيها ليس بمرضي، ولأنه إذا أهملها دل ذلك منه على إهماله دينه وقلة مراعاة ما يلزمه من حق الله وسبقت الظنة إليه وقدح ذلك في عدالته، وإنما شرطنا نفي التهمة في الجملة لقول - صلى الله عليه وسلم - "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين (3) ولا جار لنفسه" (4)، وروي: "لا   (1) في م: والدناءة. (2) في ق: مؤمن وفي م: موقع. (3) ظنين: أي متهم (المصباح المنير: 387). (4) أخرجه أبو داود في المراسيل والبيهقي: 10/ 201، وأخرجه مالك موقوفًا على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: 2/ 720، وله طرق يقوي بعضها بعضا (انظر تلخيص الحبير: 4/ 203). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1528 تقبل شهادة ذي ظنة" (1)، ولأن ذلك لو جاز (2) لقبلت شهادة الإنسان لنفسه ولم يحتج إلى غيره فإذا كان غيره يتهم له جرى مجرى شهادته لنفسه. فصل [24 - في منع قبول شهادة الولد لوالديه، وشهادتهما له]: ونتكلم على التفصيل لهذه الجملة على ما قدمناه، وإنما منعنا من قبول شهادة الولد لوالديه وشهادتهما له خلافًا لداود وغيره في إجازته ذلك (3) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" (4) والظنة موجوده ها هنا لأنه معلوم بالطبائع (5) أن الابن يحب نفع أبيه والأب يحب إيصال المنفعة إلى ابنه ورفع الضرر عنه ويؤثر ذلك على منفعه نفسه فضلًا من غيره فربما دعاه ذلك إلى أن يشهد له في الزور ويركب كل محظور في تخليصه من ضرر يقع فيه أو إيصال نفع إليه، (وقد قال تعالى {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (6)) (7) وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها" (8).   (1) أخرجه البيهقي: 10/ 201، والحاكم: 4/ 99، وقال صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي. (2) في ق: لو كان. (3) أجاز أحمد في إحدى الروايتين عنه قبول شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة، وروي ذلك عن داود وشريح، وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو ثور وغيرهم (انظر المغني: 9/ 191). (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) في م: بالطباع. (6) سورة الأحقاف، الآية: 15. (7) ما بين قوسين سقط من م. (8) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب فاطمة: 4/ 219، ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل فاطمة: 4/ 1902. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1529 فصل [25 - في منع قبول شهادة سائر الوالدين والمولودين]: وإنما أجرينا سائر الوالدين والمولودين من بعد منهم مجرى من قرب للاتفاق على ألا فرق بينهما في ذلك لأن عمود الولادة يجمعهم، ولأن التهمة قائمة في الجنس لا تخصص ببعض منه وإن كانت في الأقرب (1) أكثر. فصل [26 - في منع شهادة أحد الزوجين للآخر]: وإنما منعنا من قبول (2) شهادة أحد الزوجين للآخر خلافًا للشافعي (3) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" (4) والظنين المتهم والتهمة حاصلة بين الزوجين في غالب الطباع ودليل ذلك الشرع والعادة، أما الشرع فقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (5) فأخبر تبارك وتعالى أن الزوجية سبب لسكون نفس كل واحد منهما إلى الآخر وإنه طبعهم على التحابب (6) والتودد والحنو (7) والرأفة (8) ونبه على تأكيد ذلك بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (9) وقوله {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} (10) فجعل هذين الجنسين غاية ومثلًا يستطرف وقوع العداوة من مثلها لأنهما الغاية في المحبة والعطف   (1) في م: الأقارب. (2) من قبول: سقطت من م. (3) انظر المهذب: 2/ 331. (4) سبق تخريج الحديث قريبًا. (5) سورة الروم، الآية: 21. (6) في م: الحنة. (7) في م: التجبب. (8) في م: الرقة. (9) سورة الروم، الآية: 14. (10) سورة التغابن، الآية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1530 التي لا زيادة فوقها فدل ذلك على قوة التهمة وتأكدها، وأما العادة فالعلم بأن الإنسان يحب نفع زوجته ويهوى هواها (1) ويكره ضررها حتى أنه يغضب لها أهله وأقاربه وينتفع بما لها ويتبسط فيه ويتجمل به وأنه ينتهى في محبتها والميل إليها إلى حد تقوى معه التهمة، وإذا صح ذلك كانت هذه التهمة مانعة من قبول شهادة أحدهما للآخر كالأب والابن ونحوه قياسًا فنقول لأنها شهادة تقوي التهمة وأسبابها من الشاهد والمشهود له فكانت مردوده أصله شهادة الأب لابنه، ولأنها شهادة يجر بها الشاهد نفعًا إلى نفسه فلم تقبل كشهادته لنفسه ولغريمه. فصل [27 - في منع شهادة السيد لعبده]: وأما شهادة السيد لعبده فإنها أدخل في المنع من جميع ما ذكرناه (2)، لأن التهمة قائمة فيها إن شهد فيها بغير مال على مثل تزويج أو رجعة أو ما أشبه ذلك، وإن شهد بمال كانت شهادته لنفسه لأنه يملك عبده وماله. فصل [28 - في منع شهادة الغريم لغريمه]: فأما شهادة الغريم لغريمه المفلس (3) فلأنه متهم فيه أيضًا أن يكون إنما شهد له أن يصل المال إليه فيكون كأنه شهد لنفسه فلم يقبل، ولأنه خصم وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين". فصل [29 - في منع شهادة الوصي لمن يلي عليه]: إنما منعنا شهادة الوصي لمن يلي عليه (4) لأنه يجر بها إلى نفسه نفعًا وهو جواز تصرفه في المال وكونه في قبضه لحق ولايته، ووجه قوله إن شهادته عليهم تقبل لانتفاء التهمة عنهم فيها بخلاف الشهادة لهم لأنه يخرج عن يده ما لا يقطع حق ولايته فيه، ولأن كل من لم تقبل شهادة إنسان له قبلت عليه كالأب والابن،   (1) في ق: يهواها. (2) انظر التفريع: 2/ 236. (3) انظر التفريع: 2/ 362. (4) انظر التفريع: 2/ 236، الكافي: 461. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1531 ووجه قوله إنها لا تقبل اعتبارًا بالشهادة لهم لأنها شهادة في حق لوليه (1) بولاية لأن التهمة قائمة في الموضعين لأنهم (2) يخرج عنهم مالًا بقوله ولزمه بحق الولاية حفظه. فصل [30 - في إجازة شهادة سائر القرابة عدى من ذكرناه]: وإنما أجزنا شهادة سائر القرابة عدى من ذكرنا لأن التهمة تضعف فيها ولا تقوي قوتها في الولادة والزوجية وإنما منعناها إذا كان في عيال من يشهد له لأن التهمة تقوى فيها فيمتنع قبولها، وكذلك في دفع العار مثل أن يقذف أخوه رجلًا ويشهد هو وثلاثة على المقذوف بأنه زنى فلا يقبل لأنه بشهادته يدفع العار عن أخيه لأن عاره ينجر إليه، وكذلك لو قذف أخاه رجل وأتى بأربعة شهداء أنه زنى ثم شهد هذا الأخ بجرحهم (3) (فلا يقبل لأنه متهم بالجرح) (4) أن يريد دفع العار عن أخيه. فصل [31 - في منع شهادة الصديق الملاطف]: وإنما منعنا قبول شهادة الصديق الملاطف إذا كانت تناله الصله والمعروف خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5)، لقوة التهمة لأنه معلوم أنه من بينه وبين غيره صداقة ومودة فإنه يبره ويصله وأنه يحب جر النفع إليه ودفع الضرر عنه فردت شهادته له وعلى نحو من ذلك شهادة السؤال بل الرد (6) فيهم أولى لأن الصدقة قد يكون منها البر وقد لا يكون والسؤال أمرهم مبني على التماس البر من أدنى وجوهه.   (1) في ق: تولية. (2) في م: لأنه. (3) في م: بالجرح. (4) ما بين قوسين سقط من م. (5) انظر شرح فتح القدير: 6/ 31، المهذب: 2/ 330 - 331. (6) في ق: البر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1532 فصل [32 - في منع شهادة العدو على عدوه]: ولمثل ذلك منعنا شهادة العدو على عدوه (1) خلافًا لأبي حنيفة (2) لأن الطباع تقضي أن العدو يحب ضرر عدوه وإذايته ويتهم بإدخال الضرر عليه بشهادته عليه فمنعناها لأجل ذلك كما منعناه في الصديق لقضائها بضد ما تقضي به في العدو والتهمة قائمة في الموضعين. وتحريره أن يقال بأن بينهما تهمة غالبة في الطباع فكانت مؤثرة في رد الشهادة كالتهمة بين الأب والابن على أن نص الخبر شاهد لنا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه" (3). فصل [33 - في منع شهادته لجرح من شهد عليه بحق أو حد]: وإنما منعنا قبول شهادته لجرح من شهد عليه بحق أو حد لأنه خصم في ذلك وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "لا تقبل شهادة خصم" (4). فصل [34 - في من منعت شهادته له قبلت عليه]: وإنما قلنا من منع شهادته (له قبلت عليه، ومن منع شهادته عليه قبلت له) (5) لأن التهمة توجد في أحد الموضعين وتنتفي من الآخر فحيث توجد منعناها وحيث تنتفي نجيزها لأنها هي العلة المؤثرة. فصل [35 - في منع شهادة البدوي على القروي]: وإنما منعنا شهادة البدوي على القروي في الحقوق التي يمكن التوثق فيها بإشهاد   (1) انظر التفريع: 2/ 235، الكافي: 462. (2) انظر شرح فتح القدير: 4/ 166، حاشية ابن عابدين: 4/ 300. (3) سبق تخريج الحديث 1528. (4) سبق تخريج الحديث 1528. (5) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1533 الحاضر (1) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل شهادة بدوي على قروي" (3) وروي "على صاحب قرية" (4) ولأن التهمة تقوى في هذه الشهادة لأن الناس لا يتركون التوثق بإشهاد جيرانهم وأهل بلدهم ويستشهدون بالأباعد وأهل البدو (5) إلا لريبة يعلمون معها أن الشهود من الحضر لا يشهدون في ذلك فيعدلون إلى من لا يعرفه، ولذلك قلنا إنها تقبل في الجراح وفيما يتفق من الحقوق في البادية التي يخاف فواتها والتجاحد إن وقف عليها إلى الحصول في الحضر لانتفاء التهمة فيها. فصل [36 - في عدم قبول شهادة ولد الزنا]: وإنما قلنا إن شهادة ولد الزنا لا تقبل في الزنا خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (6)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" (7) والظنه ها هنا موجودة لأنه يحب أن يكون غيره مشاركًا له في المعرة، والعادة تقضي بذلك لأن كل معرور (8) بأمر لازم لا يفارقه يحب أن يكون غيره مثله (9) ولو أمكنه لا يبقى   (1) في ق: الحاضرة. (2) انظر شرح فتح القدير: 6/ 40، الإقناع: 203. (3) أخرجه أبو داود في الأقضية باب شهادة البدوي على أهل الأمصار: 4/ 26، وابن ماجه في الأحكام باب من لا تجوز شهادته: 2/ 793، والبيهقي: 10/ 250، والحاكم: 4/ 99، وقال الذهبي: هو حديث منكر على نظافة إسناده (انظر تلخيص المستدرك: 4/ 99). (4) في رواية البيهقي: 10/ 250. (5) في م: البلد. (6) انظر شرح فتح القدير: 6/ 46، الإقناع: 203. (7) سبق تخريج الحديث 1528. (8) معرور: من به عرة أو معرة وهي الفضيحة (انظر المنير: 401). (9) في م: مشاركًا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1534 أحد إلا يكون مثل حاله لأحب ذلك لئلا ينفرد بالعار فيكون في مشاركة غيره له سلوة وقد نبه الله تعالى على هذا المعنى بقوله {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} (1) معناه لما كنتم تعتقدون في الدنيا من المشاركة في الشدة يحدث معها السلوة لمن هو فيها غير خالصة (2) لكم، ونحو ذلك روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: ودت الزانية أن النساء كلهن زنين (3)، فأخبر أن ذلك طبع في الناس أن المعرور يحب أن يشاركه كل واحد في معرته ليقل من يعيره بذلك وإذا صح قوة التهمة في هذه الشهادة بما ذكرناه وجب ردها. فصل [37 - في شهادة من كان على كبيرة]: وأما من كان على كبيرة مثل الزنا وشرب الخمر (4) وغيره فتاب منها، فوجه القول أن شهادته لا تقبل في مثل ذلك الشيء اعتباره بمسألتنا بعلة أنه معنى يلحق به العار فاتهم بمشاركة غيره له في المعرة، ووجه القول بأنها تقبل أن معرة هذه الأشياء تزول بالتوبة منها كالكافر يسلم ويفارق ولد الزنا لأن معرته لا تزول فالتهمة لا تفارقه. فصل [38 - في عدم قبول شهادة الفاسق والكافر والصبي والعبد بعد زوال العدل المناعة]: وإنما قلنا في الفاسق والكافر والصبي والعبد إنهم إذا شهدوا بشهادة فردت ثم شهدوا بها بعد زوال العلل المانعة من قبول شهادتهم أنها لا تقبل خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (5) فيمن عدا الفاسق للتهمة منهم أن يكونوا إنما شهدوا بها   (1) سورة الزخرف الآية: 39. (2) في ق: خاصلة. (3) ذكره ابن قدامة في المغني: 9/ 196، وشكك في نسبه ذلك لعثمان - رضي الله عنه -. (4) في م: والشراب. (5) انظر مختصر الطحاوي: 333، الإقناع: 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1535 ليزول عنهم العار (1) بردها، واعتبارا بالفاسق لأنهم موصوفون بنقص ينافي العدالة فوجب إذا شهدوا حال وجود هذا النقص ثم زال أنهم إذا أعادوها لا تقبل كالفاسق. فصل [39 - إذا جمعت الشهادة ما فيه التهمة وبين ما لا تهمة فيه]: وإنما فرقنا بين أن تجمع الشهادة ما فيه التهمة وبين ما لا تهمة فيه أنه يرد الجميع وبين أن تجمع أنواعها تقبل شهادة ذلك (2) في بعضها ولا تقبل في البعض فقبلناها فيما تقبل فيه لأن في المسألة الأولى تقوى التهمة أن يكون إنما شهد بما لا يتهم فيه ليقبل فيما يتهم فيه وذلك كما يشهد لابنه ولأجنبي بحق فإنما شهد للأجنبي لأنها إذا قبلت في حقه قبلت في حق ابنه فردت في الجميع، وفي المسألة الأخرى لا تهمة فيه فوجب قبولها. فصل [40 - فيمن شهد في وصية له فيها شيء]: والصحيح من الروايات فيمن شهد في وصية (3) له فيها شيء ألا تقبل شهادته لا في حقه ولا في حق غيره (4) لأن مع التهمة لا تتبعض الشهادة على ما ذكرناه. فصل [41 - في قبول شهادة القاذف ما لم يجلد]: وإنما قلنا إِن شهادة القاذف تقبل ما لم يجلد لأنه على العدالة لا يثبت فسقه إلا بأن يثبت عليه البينة فيجلد، فإذا جلد ثبت فسقه فلم تقبل شهادته لقوله عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا   (1) في م: العادة. (2) في م: ذلك الشاهد. (3) في ق: وصيته. (4) انظر المدونة: 4/ 82، التفريع: 2/ 237، الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1536 تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1) وإنما أجزنا شهادته بعد التوبة خلافًا لأبي حنيفة (2) لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (3)، ولأن كل من ردت شهادته لفسق قبلت عند زوال فسقه اعتبارًا بالزاني والسارق. فصل [42 - في قبول شهادة شاهد الزور بعد توبته]: وإنما قلنا في شاهد الزور إن شهادته تقبل إذا تاب لأن فسقه يزول بالتوبة فأشبه شارب الخمر وغيره من الفساق إذا تابوا، وعبد الملك أجراه مجرى الزنديق لأنه إذا كان في الظاهر كمالك بن أنس والعمري فإنه لا يوصل إلى توبته وإلى العلم بها لأنه لا يقدر أن يزيد على ما كان عليه وقد كان بتلك الصفة وهو فاسق فشكل حاله. * * *   (1) سورة النور الآية: 4. (2) انظر مختصر الطحاوي: 332، مختصر القدوري: 4/ 60. (3) سورة النور الآية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1537 باب [- في التزكية] القدر الذي يلزم في التزكية: أن يشهد الشاهد لمن يزكيانه أنه عدل رضي ولا يكفي أحد الوصفين عن الآخر ولا يكفي من ذلك أن يقول لا أعلم له زلة ولا جريمة (1) ولا أعلم إلا خيرًا وإني لأرضى به لي وعلي (2)، وإنما قلنا لا بد من وصفه بالعدالة والرضا لأن الله تعالى شرطهما في قبول الشهادة وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (4) ومعنى العدالة (5): هو الاستواء والاستقامة ولذلك تنتفي الشهادة مع التهمة والغفلة وغيرهما لأن أحوال الشاهد غير مستقيمة معهما. وإنما قلنا إنه لا يجزى من ذلك أن يقول لا أعلم إلا خيرًا أو لا أعلم له زلة لأن ذلك شهادة بنفي (6) فلا يستفاد بها شيء، ولأن التزكية في العدالة إثبات عدالة الشاهد والأخبار عما لا يعلمه الحاكم منه، فإذا قال لا أعلم له زلة ولا أعلم إلا خيرًا كان بمنزلة الحاكم لأن الحاكم أيضًا لا يعلم له زلة، وقد يعلم منه الخير والتدين ولكن لا يعلم هل هو ممن يصلح للشهادة أم لا، وأما قوله إني رضي به لي وعلي فليس بتزكية أيضًا لأنه قد يرضى بغير العدل وبالمغفل (7)   (1) في م: خزية. (2) انظر المدونة: 4/ 104، 105، التفريع: 2/ 239، الرسالة: 246، الكافي: 465. (3) سورة الطلاق، الآية: 2. (4) سورة البقرة، الآية: 282. (5) في م: العدل. (6) في ق: تتقي. (7) م: وبالمتغفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1538 والمتهم لغرض له وقد لا يرضى العدل المرضي على حسب اختياره فليس على رضا الإنسان لأموره غمار (1) فلم يكن قوله هذا مؤثرًا في التزكية. فصل [1 - في قبول شهادة من عرفه القاضي بالعدالة والرضا]: ومن عرفه القاضي بالعدالة والرضا قبل شهادته ولم يحتج إلى أن يشهد عنده بتزكية، وكذلك المشتهر بالصلاح والدين لأن الغرض بالتزكية أن يعلم الحاكم أنه من أهل الشهادة فإذا عرف منه أغناه عن التزكية، وليس ذلك حكمًا بالعلم لأنه أمر يظهر ولا يخفى أعني العدالة والفسق، ولأنه قد يتوقف عن قبول شهادته ويقبله غيره من الحكام ولو كان حكمًا لم يجز نقضه، وإذا كان الحاكم لا يعرفه لم يثبت عدالته إلا بشهادة عدلين وبأن يعلمه صاحب مسائله بما عرف من حديثه لأنه خليفته وقائم في التزكية والجرح مقامه، والتعديل الذي يكونا شهادة لا يكون إلا باثنين (2). فصل [2 - في تعارض الجرح والتعديل في التزكية]: إذا عدل رجلان رجلًا وجرحه آخران ففيها روايتان: (3) إحداهما أن ينظر إلى أعدل البينتين فيؤخذ بها، والأخرى أن شهادة الجرح أولى من التعديل. فوجه الأولى تعارض البينتين في أمر طريقه الاجتهاد فوجب الحكم بأعدلهما، أصله في الأموال، ووجه الثانية أن الجرح يخفى ولا يظهر فالشاهدان به عرفا من حال المجروح ما خفي عن المعدلين فكانت شهادتهما أولى، ولأن ذلك كالخبرين الحاظر والمبيح إذا تعارضا أن الحاظر أولى. * * *   (1) غمار: أي مستورة (انظر المصباح المنير: 452). (2) انظر التفريع: 2/ 239، الكافي: 465 - 466. (3) انظر التفريع: 2/ 239، الكافي: 465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1539 باب [- في حكم تحمل الشهادة] تحمل الشهادة فرض في الجملة، لقوله تعالي {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وذلك من أفضل البر لأنه يتعلق به حفظ أموال الناس وحقوقهم وحقوق الله تعالى وإقامة حدوده، وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (2)، وقوله {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (3) وذلك على عمومه في التحمل والأداء، وقوله تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (4) قال سفيان بن عيينة (5): هو ما يدفع الله بالشهود من التجاحد والتظالم (6)، وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (7). فصل [1 - في أن تحمل الشهادة من فروض الكفايات]: إذا ثبت أن ذلك فرض في الجملة فإنه من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين فهو جار مجرى غسل الميت ودفنه والصلاة عليه ومجرى الجهاد   (1) سورة المائدة، الآية: 2. (2) سورة النساء، الآية: 135. (3) سورة البقرة، الآية: 282. (4) سورة البقرة، الآية: 251. (5) سفيان بن عيينة: ابن أبي عمران ميمون مولى محمَّد بن مزاحم، أبو محمَّد الهلالي الكوفي ثم المكي سمع من عمرو بن دينار وابن شهاب وغيرهما وحدث عنه الأعمش وابن جريح وغيرهما قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز ت 107 هـ (شذرات الذهب: 1/ 354 سير أعلام النبلاء: 8/ 454). (6) انظر الجامع في أحكام القرآن: 3/ 260. (7) سورة الطلاق، الآية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1540 وغيره من فرائض (1) الكفايات والدليل على ذلك (2) أنها براءة للتوثق وحفظ الحقوق فإذا حصل هذا المعنى بالبعض سقط عن الباقين كما ذكرناه. فصل [2 - في تعين فرض تحمل الشهادة]: وإذا ثبت، فقد يتعين فرضها في بعض المواضع وقد لا يتعين: (فالمواضع التي يتعين) (3) أن يدعى الشاهد إلى تحمل الشهادة وهناك جماعة كبيرة ممن يتحملها فإنه يجب على اثنين منهم بغير أعيانهم فمن قام منهم بها سقط عن الباقين. وأما المواضع التي يسقط فيها فهو أن يدعى إلى تحمل شهادة قد تحملها غيره فلا تلزمه الإجابة لأن الغرض قد سقط بمن قام بها وتحملها، وأما المواضع التي يتعين فيها فرضها فمثل أن يدعى إلى تحملها وليس هناك غيره فتلزمه الإجابة وكذلك لو كان هناك من يتحملها إلا أنه يتعذر وجودهم أو يخاف بانتظارهم فوات الحادث مثل موت الموصي أو جحود المقر أو ما أشبه ذلك فتلزمه الإجابة وهذا إذا لم يكن له ما يعذر به فإن كان له عذر من مرض أو زمانه أو حق مثل ذلك الحق يخاف فوته وما أشبه ذلك من الأعذار لم (4) يلزمه. فصل [3 - في حكم أداء الشهادة]: فإذا ثبت تحملها على الوجه الذي ذكرناه، فأداؤها فرض أيضًا على الكفاية وحكمها حكم التحمل في التعيين وغيره، فإن دعي إلى إقامتها وهناك من يقيمها غيره لم تلزمه الإجابة لأن المقصود من الأداء إثبات الحق عند الحاكم فإذا حصل المقصود سقط الغرض، وكذلك إن كان من يسقط الغرض به كالصلاة على الجنازة، وأما إن دعي ولم يكن قد أشهد سواه أو أشهدوا سواه ولكن تعذر إحضارهم لبعد أو غيبة أو موت أو مرض فإنه يتعين عليهما الحضور والأداء   (1) في م: فروض. (2) في م: على أنها إنما تراد. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م: فلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1541 لأن في امتناعهما إتلاف الحق وإضاعته، والدليل على وجوب الأداء في الجملة قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (1) قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (2) وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (3)، ولا خلاف في ذلك (4) والله أعلم. * * *   (1) سورة البقرة، الآية: 282. (2) سورة الطلاق، الآية: 2. (3) سورة البقرة، الآية: 283. (4) انظر مراتب الإجماع: 53، المغني: 9/ 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1542 باب [- في أقسام البينة] البينة مرتبة بحسب الحقوق المشهود فيها والمحتاج إلى إقامتها وما هي عليه من التوسعة والتضييق والتخفيف والتثقيل وإمكان التوثق وتعذره على ما نبينه من بعد، والبيانات على اختلاف مراتبها في القوة والضعف لا تخرج من أقسام (1): أحدها: أربعة شهود رجال بالغون، والثاني: شاهدان رجلان، والثالث: شاهد وامرأتان، والرابع: شاهد ويمين المدعي، (والسادس: شاهد المدعي ونكول المدعى عليه، والسابع: امرأتان ونكول المدعى عليه) (2) والثامن: يمين المدعي ونكول المدعى عليه، والتاسع: يمين المدعي مع قوة السبب، والعاشر: امرأتان بانفرادهما والحادي عشر: شهادة الصبيان في الموضع الذي ذكرناه، والثاني عشر: أيمان الأولياء في الدم مع اللوث، والثالث عشر: شهادة السماع، والرابع عشر: كتاب قاض إلى قاض، والخامس عشر: معرفة العفاص والوكاء في اللقطة لأن ذلك كالبينة، وربما أغفلنا شيئًا يجري ما ذكرناه فنبينه بقدر ما أوردناه عليه. فصل [1 - في الحقوق المشهود بها]: الحقوق المشهود بها على ستة أضرب: أحدهما أحكام تثبت في البدن (ليست بمال ويطلع عليها الرجال على غالب الحال، والثاني أحكام تثبت بالبدن تتعلق بالمال، والثالث أحكام تثبت في البدن لا يطلع عليه الرجال بل النساء كعيوبهن والولادة) (3)، والرابع: شهادة على مال، الخامس: شهادة على   (1) انظر: الموطأ: 2/ 722، المدونة: 4/ 96، التفريع: 2/ 242، الرسالة: 247، الكافي: 478. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) ما بين قوسين مطموس في ق وم وتم إكمال النقص من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1543 ما كان المقصود منه المال وهذا كالقسم الذي قبله وإن انفرد عنه، السادس ما يجمع القسمين من هذه الأقسام أو أكثر. فإذا ثبت هذا فانقسام البينات على الحقوق على وجوه أحدها: ما لا مدخل فيه لشهادة النساء أصلًا ولا يقبل فيه إلا الرجال، والآخر ما يقبل فيه الرجال والنساء ولا يقبل فيه النساء بانفرادهن، والثالث ما تقبل فيه النساء بانفرادهن، والرابع ما يقبل فيه الرجل الواحد والمرأتان مع يمين المدّعى ثم بقية الأقسام على ما قدمناه. فصل [2 - في الأحكام التي تثبت في البدن ليست بمال]: أما الأحكام التي تثبت في البدن ليست بمال ويطلع عليها الرجال في غالب الحال كالزنا والقذف والقتل والنكاح والرجعة والطلاق والإعتاق والإحصان (1) والتعديل والتجريح ورؤية الأهلة والشهادة على الشهادة (2) وما أشبه ذلك فهذا لا يقبل فيه إلا الرجال. فالأربعة في الشهادة على إثبات الزنا وذلك على ثلاثة أوجه: إما شهادة على رؤية الزنا فهو المتفق عليه، وإما شهادة على الشهادة به وإما الشهادة على كتاب الحكم به وهذان مختلف في الشهادة بهما (3): فقيل يكفي شهادة اثنين على شهادة كل واحد من الأربعة وعلى كتاب الحاكم به، وقيل لا يكفي إلا أربعة على كل واحد من الأربعة وكذلك على كتاب القاضي. وأما الشاهدان فلسائر الأحكام التي تثبت في البدن وفي المال مما عددناه. وأما الشاهد والمرأتان والشاهد ويمين المدعى والمرأتان واليمين فلحقوق الأموال وما المقصود منه المال، وأما المال فمثل أن يشهدوا أن فلانًا أقرض (4)   (1) في م: الإصلاح. (2) في ق: الشهادات على الشهادات. (3) انظر المدونة: 4/ 82، 83، التفريع: 2/ 240، الكافي: 466. (4) في ق: اقترض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1544 فلانًا ما لا أو أودعه أو أعاره أو غصبه وما أشبه ذلك، وما المقصود منه المال كالبيع والإجارات والشفعة والرهن والقراض والمساقات والصلح والكفالات وجنايات الخطأ والعمد التي لا قود فيها وما ضارع ذلك مما يكون المقصود منه المال فهذا كله يثبت بالشاهد والمرأتين وبالشاهد ويمين المدعي. وأما الشاهد ونكول المدعى عليه يقبل في كل موضع قبل فيه الشاهد واليمين والمرأتان واليمين، وقد اختلف في قبوله في الطلاق والعتاق فعنه في ذلك روايتان وكذلك في نكول المدعى عليهم مع اللوث وقد بيناه في موضعه، وأما الأحكام بالبدن المتعلقة بالمال مثل الشهادة على الوكالة بطلب المال وعلى إسناد (1) الوصيه التي ليس فيها إلا المال فقد اختلف أصحابنا فيها فقال مالك وابن القاسم وابن وهب يجوز فيها شاهد وامرأتان، وقال أشهب وعبد الملك لا تقبل فيها إلا رجلان. وأما المرأتان ونكول المدعى عليه فإنه يقبل في كل موضع يقبل فيه الشاهد (واليمين وليس في كل موضع يقبل فيه الشاهد) (2) والنكول، وكذلك يمين المدعي مع النكول، وأما يمين المدعي مع قوة السبب فمثل يمين المشتري (3) في الاختلاف في ثمن المبيع بعد قبض السلعة لأن يمينه (4) قد قوي بالقبض، فأما المرأتان بانفرادهما ففي حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبًا كالولادة والاستهلال والرضاع وعيوب النساء وما أشبه ذلك. وأما شهادة الصبيان واللوث واللقطة فقد ذكرناه وأما شهادة السماع ففي ما يتغير (5) ولا يزول وذلك مثل النسب والموت والولاء والحبس المتأبد وقيل في النكاح.   (1) في م: أشهاد. (2) ما بين قوسين سقط من ق. (3) في م: المشترك. (4) في م: سببه. (5) في ق: ما لا يتغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1545 فأما كتاب القاضي فإنه يقبل في كل شيء من الحقوق والحدود ولا يثبت إلا بشاهدين إلا ما ذكرناه من الخلاف في كتابه بشهادة الزنا عنده، هذا جملة من القول في أقسام البينة والأحكام المشهود فيها ونحن نتكلم على تفصيلها. فصل [3 - في إثبات حد الزنا]: فأما قولنا إن الحد في الزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال فقد بيناه في كتاب الحدود وقد ذكرنا توجيه الخلاف فيما يتعلق به، وإنما منعنا أن لا يقبل في أحكام الأبدان التي يطلع عليها الرجال إلا شهادة رجلين خلافًا لأبي حنيفة (1) أنه يقبل في جميعها شهادة النساء مع الرجال كالطلاق والرجعة والنكاح وغير ذلك إلا ما أوجب قتلًا أو حدًّا، فلقوله تعالى في الطلاق والرجعة {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2) وهذا كناية عن ذكرين، واعتبارا بالقتل، وما يوجب الحد بعلة أنه من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال وهذا علة تستمر في التعديل والتجريح وكل ما هو من بابه. فصل [4 - في قبول الشاهدين والشاهد والمرأتين في المال]: وإنما قلنا إن الشاهدين والمرأتين يقبلان في المال أو ما يكون المقصود منه المال، لقوله جل ذكره {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (3)، ولا خلاف في ذلك (4).   (1) انظر مختصر الطحاوي: 238، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 56. (2) سورة الطلاق، الآية: 2. (3) سووة البقرة، الآية: 282. (4) بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 647، المغني: 9/ 151، فتح الباري: 5/ 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1546 فصل [5 - في الحكم بالشاهد واليمين في المال وحقوقه]: وإنما قلنا إن الشاهد واليمين يحكم به في المال وحقوقه خلافًا لأبي حنيفة في منعه الحكم به على كل وجه (1)، لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قضى باليمين مع الشاهد (2)، ولأن كل حجة يسقط بها المدعى عليه عن نفسه المطالبة جاز أن تكون في جنبة المدعي، أصله البينة، ولأن الأصول موضوعة على أن اليمين تكون في جنبة أقوى المتداعيين سببًا لقوة سببه، وأن البينة يطالب بها أضعفهما سببًا لضعف سببه ألا ترى أنها تجب بالابتداء على المنكر لقوة سببه على المدعي لأن الأصل براءة ذمته مما أدعي عليه، وإذا صح ذلك فسبب المدعي قد قوي بالشاهد فوجب أن يكون اليمين في جنبته. فصل [6 - في قصر الحكم باليمين والشاهد في الأموال دون الأبدان]: وإنما قلنا إن ذلك في الأموال أو ما يتعلق بها دون حقوق الأبدان للإجماع على ذلك من كل قائل باليمين والشاهد وقصرهم إياها على هذا النوع (3)، ولأن حقوق الأموال أخفض رتبة من حقوق الأبدان بدلالة قبول النساء فيها، (وقد اختلف قوله في جراح العمد هل يجب القود فيها بالشاهد) (4) واليمين فعنه فيه روايتان: إحداهما أنه يجب به التخيير بين القود والدية ومن جنس (5) عمده ما لا يجب فيه إلا مال بخلاف النفس، والأخرى أنه لا يجب لأنه من حقوق الأبدان وهو الصحيح.   (1) انظر مختصر الطحاوي: 333. (2) أخرجه مسلم في الأقضية باب القضاء باليمين والشاهد: 3/ 1337. (3) انظر المغني: 9/ 151. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) في ق: ومن حبس عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1547 فصل [7 - في قبول شهادة امرأتين ويمين المدعي في الأموال وحقوقها]: وإنما قلنا إنه يقبل في الأموال وحقوقها شهادة امرأتين ويمين المدعي خلافًا للشافعي (1)؛ لأنهما قد أقيما في الشرع مقام رجل واحد في الشهادة على الأموال لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (2) فإذا جاز أن يحكم بشهادة الرجل مع اليمين جاز أن يحكم بشهادة امرأتين مع اليمين، ولأنهما إحدى شرطي شهادة المال كالشاهد الواحد، ولأنه سبب مؤثر في الحكم قويت به حجة المدعي فجائز (3) أن يحلف معه، أصله الشاهد الواحد. فصل [8 - في الحكم بالشاهد الواحد ونكول المدعي عليه]: وإنما قلنا إنه يحكم بالشاهد الواحد ونكول المدعى عليه خلافًا للشافعي (4) لأن النكول سبب مؤثر في الحكم فوجب إذا انضاف إلى الشاهد الواحد أن يحكم به، أصله يمين المدعي، ونبين تأثيره في الحكم أنه إذا نكل المدعى (عليه انتقلت اليمين إلى جنبة المدعي) (5) فحلف وكان نكوله كشاهد، ولأن الشاهد (6) أقوى من يمين المدعي بدليل أنه إنما يحتاج إلى اليمين مع عدم الشاهد وأن اليمين مختلف في دخولها في بينة المدعي والشاهد غير مختلف فيه، وأن   (1) انظر مختصر المزني: 307، الإقناع: 201، المهذب: 2/ 312. (2) سورة البقرة، الآية: 282. (3) في م: فجاز. (4) انظر المهذب: 2/ 312، 335. (5) ما بين قوسين سقط من م. (6) في ق: لشهادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1548 الشاهد يدخل في البينة في جميع الحقوق وأن اليمين (1) مضاف إليه وهو لا يضاف إليها وإذا ثبت تأكيده على اليمين ثم كان النكول إذا اجتمع مع أضعف السببين (2) يحكم به كان إذا انضاف إلى الأقوى والآكد أولى. فصل [9 - في ثبوت الوكالة بالمال بشهادة رجل وامرأتين]: ووجه القول في الوكالة بالمال إنها تثبت بشهادة رجل وامرأتين أنها شهادة على مقصود به المال كالشهادة على البيع والإجازة، ووجه منع قبولها أن الوكالة فعل بدن ليست بمال قال عبد الملك: لأن الشاهد واليمين لا يقبل فيهما فكذلك الرجل والمرأتان لأن أحدهما لا يقبل إلا حيث يقبل الآخر. فصل [10 - في الحكم بشهادة امرأتين مع النكول]: وإنما قلنا يحكم بشهادة امرأتين مع النكول لأنها أحد شرطي شهادة المال كالشاهد الواحد. فصل [11 - في الحكم بيمين المدعي ونكول المدعى عليه]: وإنما قلنا إنه يحكم بيمين المدعي ونكول المدعى عليه في الأموال وما يتعلق بها لأنها سببان مؤثران في تنفيذ الحكم فإذا اجتمعا وجب الحكم بهما كالشاهد واليمين وذلك أن النكول مؤثر في وجوب الحكم به إذا انضم إليه شاهد وامرأتان وكذلك كون اليمين في جنبة المدعى. فصل [12 - في عدم الحكم بمجرد النكول]: ولا يحكم بمجرد النكول دون أن ترد اليمين على المدعي فيما ترد فيه فإذا حلف حكم له على المدعى عليه (3)، وقال أبو حنيفة إذا نكل المدعى عليه عن   (1) وأن اليمين: سقطت من م. (2) في م: البينتين. (3) انظر الموطأ: 2/ 722، التفريع: 2/ 243، الكافي: 472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1549 اليمين كررت عليه ثلاث فإن حلف وإلا حكم عليه بنفس نكوله ولا ترد اليمين على المدعي هذا إذا كانت الدعوى في المال. واتفقوا على أنه لا يحكم بالنكول في قتل العمد وجراحه، ثم اختلفوا في حكمه فعند أبي حنيفة أنه يحبس إلى أن يحلف أو يعترف، وعند أبي يوسف يحكم عليه بالدية (1) فالكلام معهم في موضعين: أحدهما: هل يحكم بالنكول بمجرده أم لا، والآخر هل يلزم رد اليمين على المدعي أم لا. فدليلنا على أنه لا يحكم بمجرد النكول اتفاقنا على أنه لا يحكم به في دعوى دم العمد فكذلك في سائر الحقوق بعلة أنه نكول عن اليمين توجهت على المدعى عليه ولأنه نكول لا يحكم به دم العمد فلذلك في غيره أصله الأول والثاني ولأن البينة حجة للمدعي في إثبات ما يدعيه واليمين حجة للمنكر فيها ينفيه وقد ثبت أن المدعي لو قعد عن إقامة البينة لم يسقط حقه ولم يحكم عليه بضد ما ادعاه فكذلك المدعى عليه إذا قعد عن اليمين لأن المدعى عليه لو أمسك عن جواب المدعي أو قال لا اعترف ولا أنكر ولا أحلف لم يلزمه فهذا حكم وهو نكول على الأمرين عن الاعتراف وعن اليمين فكان بنكوله عن اليمين وحدها أولى. ودليلنا على وجوب اليمين مع النكول قوله - صلى الله عليه وسلم - في القسامة "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا لم نحضر قال: فتبرأ لكم اليهود بخمسين يمينا" (2) وهذا رد اليمين، ولأن ذلك إجماع لأنه مروي عن عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب (3) رضوان الله عليهم ولا مخالف لهم ولأن الأصول موضوعة على أنه لا يحكم للمدعي على سبب واحد وإنما يحكم بسببين كالشاهدين، أو كشاهد ويمين، أو كشاهد وامرأتين، أو شاهد ونكول، فأما النكول وحده فإنه   (1) انظر مختصر الطحاوي: 367، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 30 - 31. (2) سبق تخريج الحديث ص 1345. (3) انظر البيهقي: 10/ 123، 177، عبد الرزاق: 10/ 35، 41، والمغني: 9/ 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1550 سبب واحد فلابد أن ينضاف إليه غيره فإذا ثبت ذلك فليس إلا يمين المدعي، ولأن اليمين في الدعوى يتوجه على أقوى المتداعيين سببا ولذلك وجبت في الأصل على المنكر وانتقلت إلى المدعي إذا كان له شاهد، وإذا (1) ثبت ذلك فالمدعي في هذا الموضع أقوى سببا من المنكر لأن ذلك قد أضعف جنبته (2) بنكوله فانتقلت اليمين إلى جنبة المدعي. فصل [13 - في الحكم باليمين مع قوة السبب]: وأما اليمين مع قوة السبب فقد بيناه فيما تقدم من اختلاف الزوجين في قبض الصداق ومقداره والمتبايعين في مقدار الثمن والعرف في التداعي ووجه ذلك أن العرف أصل يقوى به سبب المدعي فإذا كان كذلك انتقلت اليمين إلى جهته كما لو كان معه شاهد ألا ترى أن العرف يرجع إليه ويحكم به إذا لم يكن هناك غيره مثل الخلاف إذا وقع في النقد والسير والحمولة وغيرها. فصل [14 - فيما تقبل فيه شهادة النساء]: وإنما قلنا إن شهادة النساء مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال غالبا من أحكام الأبدان في الجملة بانفرادهن (3) مثل عيوب النساء والولادة وما في معنى ذلك لأن الشهادة رتبت في الشرع على حسب الأشياء المشهود بها وتأكدها وضعفها وإمكان التوصل إلى إثباتها: فجعل في الزنا أربعة رجال لأنه غلظ فيه فجعل التغليظ من وجهين: أحدهما الجنس والآخر العدد، وجعل في القتل وغيره من حقوق الأبدان شاهدان رجلان فغلظ فيه من وجهة الجنس فقط لأنه لم يطلب   (1) في ق: وإنما. (2) في م: سبب نفسه. (3) انظر المدونة: 4/ 81، التفريع 2/ 237، الرسالة: 246، الكافي: 496. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1551 فيه من الستر ما طلب في الزنا، وجعل فيه القسامة مع اللوث لتأكد أمره لئلا يجتري الناس على الدماء. وجعل في الأموال شهادة النساء مع الرجال لأنها أحفظ حرمة من الأبدان ودعت الضرورة في هذا الموضع أعني الولادة وما تعلق بها إلى قبول شهادتهن منفردات كما دعت إلى قبول شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح لأنها لو لم نقبلها لأدى ذلك إلى إضاعة دمائهم كذلك في هذا الموضع لو لم تقبل شهادة النساء في الولادة وما يجري مجرها لأدى ذلك إلى أحد أمرين ممنوعين: أما إلى إضاعة الحقوق المتعلقة بها أو إلى أنا يحضر الرجال هذه المواضع ويطلعوا على عورات النساء وذلك باطل فلم يبق إلا قبولها. جملة ما تقبل فيه شهادة النساء منفردات ما ذكرناه من عيوب النساء التي لا يطلع عليها سواهن من الولادة والاستهلال والرضاع وما أشبه ذلك، ولا خلاف في هذا إلا في الرضاع فعندنا أنهن يقبلن فيه بانفرادهن عن الرجال، وقال أبو حنيفة (1) لا يقبلن فيه على انفرادهن (2)، ودليلنا أنه لا يحضره الرجال في الغالب فجاز أن يقبلن فيه منفردات كالولادة والاستهلال، ولأنها شهادة على عورة لشهادة النساء مدخل فيه كالولادة. فصل [15 - فيما ينضم إلى شهادة النساء]: إذا ثبت أنّه لا يحتاج في ذلك إلى شهادة الرجال فعنه في شيء ينضم إلى شهادتهن روايتان: (3) إحداهما أنه لا يكفي في ذلك إلا أن يفشى ذلك عند الجيران أو يظهر وينشر، والأخرى أن شهادتهن مقبولة وإن لم يفشى (*).   (1) انظر مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 4/ 55 - 56. (2) في م: على الانفراد. (3) انظر التفريع: 2/ 238، الرسالة: 246، الكافين: 470. (*) هكذا بالأصل والصواب يفش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1552 فوجه الأولى أن الرضاع وإن كان مما ينفرد به النساء فيتعلق به أحكام شرعية ولا يكاد يخفى أمره غالبا بل يظهر وينتشر ويفشو أمره ولا يكتم (1) فإذا شهدن به ولم يكن شيء مما ذكرناه ضعفت الشهادة ودخلها التهمة. ووجه الثانية اعتباره بسائر العورات اللاتي يقبلن فيها وهذه أصح (2). فصل [16 - في العدد الذي يكفي من النساء في الشهادة]: وإنما قلنا إن العدد الذي يكفي منهن اثنتان خلافًا للشافعي في قوله أربع (3) ولغيره في قوله ثلاث (4) لأن كل جنس قبلت منه شهادة في شيء على انفراد (كفى منه شخصان أصله الرجال) (5)، وإنما قلنا لا تكفي امرأة واحدة خلافًا لأبي حنيفة في قوله إذا كن ما بين السرة والركبة قبل فيه امرأة واحدة (6)، لأنها شهادة في حق فلم يثبت بشهادة شخص واحد أصله سائر الحقوق لأن شهادة الرجل آكد وأقوى من شهادة النساء فإذا لم تقبل شهادة من رجل واحد فشهادة امرأة واحدة أولى. فصل [17 - في قبول شهادة المرأة في الاستهلال]: وإنما تقبل في الاستهلال (7) خلافًا لمن منع ذلك (8) اعتبارًا بالولادة والرضاع لأنّه لا يطلع عيه الرجال في غالب الحال.   (1) في م: ولا يتكلم. (2) في م ور: وهذا أوضح. (3) انظر مختصر المزني: 303، الإقناع: 201. (4) قال عثمان بن البتي يكفي ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل (المغني: 9/ 156). (5) ما بين قوسين سقط من ق. (6) انظر مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 4/ 56. (7) الاستهلال: هو خروج المولود صارخًا (المصباح المنير: 639). (8) منع ذلك الإِمام أبي حنيفة وخالفه صاحباه (انظر اللباب في شرح مختصر القدوري: 4/ 56 والمغني: 9/ 156). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1553 فصل [18 - في قبول الشهادة على السماع]: وإنما قلنا إن الشهادة على السماع (1) تقبل فيما لا يتغير حاله ولا ينتفل الملك فيه (2) لأن الضرورة تدعو إلى قبولها وإلا تلف الحق المشهود به لأن البينة لا تبقى على مر السنين وتطاول الأوقات وكان ثبوت الحق المشهود به مما يؤمن تغيره وزواله كالولاء الذي لا يصح نقله عن الملك بل يبقى ميراثًا وكالموت والنسب والوقف المحرم وما أشبه ذلك فجازت فيه شهادة السماع. وصفتها أن يشهد شاهدان إنا لم نزل نسمع أن فلان بن فلان على مر السنين وتطاول الأوقات وليس للعدد (3) الذي يسمع منه الشهود حد محصور أكثر من ثلج النفس وثقتها إلى خبرهم فهي في معنى الخبر في المتواتر، ووجه قوله في النكاح إنها تقبل فيه أنه أمر ثابت لا يتغير إذا مات أحد الزوجين فأشبه الولاء والوقف، ووجه قوله إنه لا تقبل فيه أن أصله غير (4) مستقر بدليل جواز التنقل فيه فكان كالشهادة على الأملاك أنها تثبت بالسماع. فصل [19 - في قبول كتاب القاضي إلى القاضي]: وإنما قلنا إن كتاب القاضي إلى القاضي يقبل وإنه يلزم المكتوب إليه تنفيذ ما فيه للضرورة إلى ذلك (5) لأنه لو لم يقبل لأدى إلى تلف الحق المشهود به لأن البينة التي للمدعي قد تكون بغير البلد الذي يحتاج إلى إقامتها به فلا يجوز تكليفهم السفر إليه ليشهدوا به وقد لا يكون هناك من يعرفهم بالعدالة فلم يبق إلا   (1) الشهادة على السماع: هو لقب يصرح الشاهد فيه باستناد شهادته لسماع من غير معين (حدود ابن عرفة: 455). (2) انظر المدونة: 4/ 87، الكافي: 467 - 468. (3) في م: للقدر. (4) غير: سقطت من م. (5) انظر التفريع: 2/ 246، الكافي: 500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1554 شهادتهم في الموضع الذي هم به وكتاب الحاكم الذي يشهدون عنده إلى الحاكم الذي يحتاج إليه في إقامة الشهادة عنده بما ثبت عنده من الحق بشهادتهم وعلى ذلك مضى أمر السلف. وإنما قلنا إنه لا يثبت إلا بشاهدين دون طابع (1) القاضي لأنه سبب يجب به تنفيذ الحكم فوجب أن لا يكون إلا بشاهدين أصله إقرار المدعي عليه، ووجه قوله في الزنا إنه يثبت الكتابة بشاهدين أن الشهادة بالكتاب (2) غير الشهادة بالزنا فإذا ثبت الكتاب بشاهدين فالحد يقام بشهادة الأربعة الذين شهدوا عند الحاكم الأول، ووجه القول بأنه لا بد من أربعة أن الحد يقام بكتاب الحاكم وما يقام به الحد من الشهادة لا يكون إلا بأربعة أصله الشهادة المباشرة. فصل [20 - فيمن دفع إلى شهود كتابًا مطويًا وقال اشهدوا على ما فيه]: اختلف قول مالك فيمن دفع إلى شهود كتابا مطويًا وقال اشهدوا على ما فيه هل يصلح تحملهم الشهادة أم لا وكذلك الحاكم إذا كتب كتابًا إلى حاكم وختمه وأشهد الشهود بأنه كتابه ولم يقرأ عليهم فعنه في ذلك روايتان (3): إحداهما أن الشهادة جائزة وإن لم يقرأ الكتاب والأخرى أنهم لا يشهدون به إلا أن يقرءوه وقت تحمل الشهادة، فوجه الجواز أنه أشهدهم على إقراره بما في الكتاب، عرفوه فصح تحملهم الشهادة أصله إذا قرآه عليهم، ولأن عمال النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ترد عليهم كتبه فيعملون بما فيها من غير أن يقرءوها. واستدل القاضي إسماعيل ابن إسحق بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع كتابا إلى عبد الله بن جحش (4) وأمره أن   (1) طابع: هو الختم. (2) في ق: بالكتابة. (3) انظر التفريع: 2/ 247، الكافي: 475. (4) عبد الله بن جحش الأسدي: الذي كانت عنده أم حبيبة -أم المؤمنين- وكان رحل إلى النجاشي فتنصر هناك حتى مات (البداية والنهاية: 4/ 145، شذرات الذهب: 1/ 54). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1555 يسير ليلتين ثم يقرأ الكتاب فيتبع ما فيه (1)، ولأن الإنسان قد يكره أن يعلم غيره ما أقر به (2) ويحب طي ذلك وإخفاءه فلو لم تجز الشهادة عليه إلا إذا أظهره ونشره للحق في ذلك ضرر ومشقة، ووجه المنع قوله تعالى {وما شهدنا إلا بما علمنا} (3) وإذا لم يقرءوا الكتابة لم يعلموا ما يشهدون به فلم تجز شهادتهم، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن رأيت مثل الشمس فاشهد" (4) ولأن الخط قد يعمل عليه ويزور فلا يؤمن ذلك في الكتاب المطوي فإذا قرأه وعرف ما فيه أمنوا الحيلة فيه. ...   (1) انظر سيرة ابن هشام: 3/ 288، طبقات ابن سعد: 2/ 10، سنن البيهقي: 11/ 12. (2) في م: ما أمر به. (3) سورة يوسف الآية: 81. (4) أخرجه البيهقي: 10/ 156، وفي إسناده محمَّد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف وابن عدي في الكامل: 6/ 2213، صححه الحاكم: 4/ 98، (انظر تلخيص الحبير: 4/ 198). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1556 باب [شهادة الأعمى] شهادة الأعمى جائزة في كل ما وقع له العلم به، وإنما يمنع فيما طريقه الرؤية فقط فيقبل على ما يلمسه أنه حار أو بارد أو لين أو خشن وفيما يذوقه أنه حلو أو حامض وفيما يشمه وكذلك فيما يسمعه (1)، والدليل على ذلك أن العمى لا يؤثر في العلم بما يشهد من ذلك فكان فقد البصر كفقد غيره من الأعضاء في أنه لا يمنع قبول ما يتحمله من الشهادة به، فأما شهادته بالإقرار وما طريقه الصوت فيقبل عندنا سواء تحملها أعمى أو بصير ثم عمي خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما أنها لا تقبل إذا تحملها أعمى (2)؛ لأن الصوت طريق لمعرفة الأشخاص والتمييز بين الأعيان شرعًا وعادة: أما الشرع فدليل مالك رحمه الله أن الصحابة والتابعين رووا عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أنهم سمعوا منهن من وراء حجاب وإنما كانوا يميزون بين أشخاصهن بالصوت، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم (3)، ولم يكونوا يفرقوا بينهما إلا بالصوت، ولأن الإقدام على الفروج أغلظ من الشهادة عليه بالحقوق وقد ثبت أن الأعمى يطأ زوجته وهو لا يعرفها إلا بالصوت فدل (4) ذلك إجماع على أن الصوت طريق يميز به بين الأشخاص. وأما العادة (5) فهي أن الأعمى إذا تكرر عليه سماع صوت زوجته وولده   (1) انظر التفريع: 2/ 236، الكافي: 464. (2) انظر مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 4/ 60، الإقناع: 202. (3) سبق تخريج الحديث ص 208. (4) في ق: فدليل. (5) العادة: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1557 وصديقه وطال اجتماعه معه وكثير ألفه له وطروقه لسمعه وقع له العلم بذلك وبعد شبهه (1) بغيره وميز بين أشخاصهم لسماعه وصار ذلك له طريقا مستمرًا لا يخالجه (2) فيه شك ولا ريب، وإن جاز أن يخفي عليه إذا غير صوته في بعض الأوقات فإنه إذا تبينه زال عنه الشك فحكمه في هذا حكم البصير إذا رأى الشخص في الظلمة وأنه إذا تبينه وتأمله عرفه، وكذلك لو رأى من بعد عهده به أو من كان بعهده أمرًا والتحى فإنه يشتبه عليه اشتباها إذا حقق التأمل زال عنه، وإذا ثبت ذلك صح أن الصوت طريق يميز به بين الأشخاص فقبلت شهادة الأعمى معه. فصل [1 - شهادة الأخرس، والشهادة على الشهادة]: شهادة الأخرس جائزة إذا فهمت إشارته (3) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4) لأن الشهادة علم يؤديه الشاهد إلى الحاكم فإذا فهم منه بطريق يفهم من مثله قبلت كالناطق إذا أداها بالصوت، ولأنها معنى يحتاج إلى النطق ليقع الفهم به فإذا تعذر النطق به جاز أن تقوم الإشارة مقامه إذا وقع الفهم بها أصله الإقرار والطلاق. الشهادة على الشهادة جائزة وهو قول كافة الفقهاء (5) إلا من حكي عنه (6) منعها (7)؛ لأن عليًا رضي الله عنه أجازها (8) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا خالفه، ولأن الشهادة طريقها الأمانة كالأخبار فإذا جاز النقل في أحدهما فكذلك في الآخر، ولأن شهادة العدل علي شهادة نفسه معنى يسوغ للحاكم الحكم به فجاز أن يشهد به عنده ويحكم به إذا شهد عنده الإقرار.   (1) في ق: تنبيهه وفي ر: تشبيه. (2) في ق: لا يخالطه. (3) انظر التفريع: 2/ 236، الكافي: 464. (4) انظر شرح فتح القدير: 6/ 28، حاشية قليوبي وعميرة: 3/ 177. (5) انظر المغني: 9/ 206. (6) حكي ذلك عن داود (الإشراف: 2/ 294). (7) في ق: عنهم. (8) انظر عبد الرزاق: 8/ 339، المحلي: 10/ 648. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1558 فصل [2 - في جواز الشهادة على الشهادة في الحقوق والحدود كلها]: وتجوز في الحقوق والحدود كلها (1) خلافًا لأبي حنيفة في قوله إنها لا تجوز في القتل ولا في الحدود (2) ولأنه حق مشهود به فجاز أن تسمع فيه الشهادة على الشهادة كسائر الحقوق. فصل [3 - في حكم ما إذا شهد اثنان على شهادة اثنين]: إذا شهد اثنان على شهادة اثنين فإن شهد كل واحد منهما على شهادة كل واحد من الشاهدي الأصل قبلت (3) الشهادة، وإن شهد واحد على شهادة واحد وآخر لم تقبل (4) لأن شهادة كل واحد معنى يثبت عند الحاكم فلا يثبت بأقل من اثنين، وقد ذكرنا الخلاف في نقل الشهادة على الشهادة في الزنا وفي كتاب القاضي إلى القاضي بالزنا (5). فصل [4 - في كفاية شهادة اثنين على اثنين]: ويكفي أن يشهد اثنان على اثنين، وقال عبد الملك ولا يحوز إلا أن يشهد على الآخر اثنان سوى الاثنين الذين شهدا (6) على الأول وهو أحد قولي الشافعي (7)، وإنما قلنا ذلك لأن شهود الفرع نقلوا (8) عن شهود الأصل والحق يثبت بشهود الأصل فصار الشاهدان كأنهما يشهدان بحقين فلم يحتج إلى غيرهما.   (1) انظر المدونة: 4/ 83، التفريع: 2/ 240، الكافي: 466. (2) انظر مختصر الطحاوي: 333، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 4/ 86. (3) في م: ثبتت. (4) انظر المدونة: 4/ 83 - التفريع: 2/ 240، الكافي: 466 - 467. (5) بالزنا: سقطت من م. (6) في ق: شهدوا. (7) انظر مختصر المزني: 311 - 312، الإقناع: 203. (8) في م: نقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1559 فصل [5 - رجوع الشهود عن شهادتهم]: إذا رجع الشهود عن شهادتهم بعد أن شهدوا وقبل حكم الحاكم، قبل رجوعهم ولم يحكم بتلك الشهادة في كل شيء شهدوا به وكذلك إن رجع بعضهم (1) خلافًا لمن قال إنه يحكم ولا يلتفت إلى رجوعهم (2) لأن الحكم إنما يكون بشهادة يثبت عليها ورجوعهم عنها يجعلهم بمنزلة من لم يشهد فيصير الحكم للثاني من قوليهما دون المرجوع عنه كالحاكم إذا اجتهد ثم بان له الخطأ قبل تنفيذ الحكم. فصل [6 - رجوع الشهود بعد استيفاء الحكم]: فإن رجعوا بعد استيفاء الحكم لم ينتقض برجوعهم ثم لا يخلو المشهود به أن يكون مالًا أو طلاقا أو قتلًا أو حدًّا، ولا يخلو رجوعهم أن يكون إخبارا عن غلط أو تعمد كذب (3) فمن شهد بمال فلما حكم به قالا غلطنا في الشهادة لم ينتقض الحكم ولم يرجع على من أخذ المال ويغرمانه للمشهود عليه، وإن رجع أحدهما غرم نصف الحق وقال عبد الملك في الغلط لا يرجع عليهما بشيء. وإن قالا تعمدنا الكذب رجع عليهما بغير خلاف وكذلك لو رجع أحدهما بإكذاب نفسه غرم نصف المال، فإن شهدا بقتل أو قطع ثم رجع أحدهما أو كلاهما بعد الآخر غرمًا الدية إن كان غلط وإن كان عن عمد يقتص (4) منهما (ويغرمان الدية أيضًا هذا قول ابن القاسم، وقال أشهب يقتص منهما) (5) في العمد وإن رجع أحدهما فعلى الخلاف الذي ذكرناه.   (1) انظر التفريع: 2/ 240، الكافي: 476. (2) حكي عن أبي ثور أنه شذ عن أهل العلم وقال يحكم بها (المغني: 9/ 245). (3) كذب: سقطت من م. (4) في ر: لا يقتص. (5) ما بين قوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1560 وإن شهدا بطلاق ثم رجعا لم يغرما للزوج الصداق، فإن شهدا أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فاغترمه الحاكم نصف الصداق ثم رجعا غرما النصف الذي غرمه، ولو شهدا على دخوله بزوجته عنده وهو مقر بالنكاح (1) منكر للدخول ثم رجعا عن شهادتهما غرما نصف الصداق، ولو شهدا أنه أعتق عبدا له ثم رجعا عن شهادتهما (2) غرما قيمته، ولو كانت الشهادة بتنجيز (3) عتق مكاتب غرما قيمة كتابته أو ما بقي منها فإن شهدا بإعتاق أم ولد فلا غرم عليهما. فصل [7 - في القول بأن رجوعهم بعد استيفاء الحق لا ينتقض به الحكم]: وإنما قلنا إن رجوعهم بعد استيفائهم (4) الحق لا ينقض به الحكم خلافًا لمن حكي عنه ذلك (5) لأن رجوعهم إن كان إكذابًا لهم لأنفسهم فذلك تفسيق منهم لأنفسهم والحكم لا ينقض بقول فاسق وإن كان عن غلط فيجوز أن يكونوا غلطوا في الثاني فلا يقبل قولهم وقد تعلق بالأول حق للمشهود له فلم يجز إبطاله بدعواهم. فصل [8 - في غرامه ما رجع عليه الشهود]: وإنما قلنا إنهم يغرمون ما أغرم المشهود عليه من المال خلافا لعبد الملك في منعه ذلك بالغلط (6) لأنهم في العمد مقرون بإتلاف مال غيرهم لأنهم اضطروا الحاكم إلى أن أغرمه ما شهدوا به فلزمهم غرمه، وقلنا ذلك في الغلط لأنهم بإتلافهم كالعمد، وقلنا في رجوع أحدهما أنه يغرم النصف لأن الإتلاف   (1) في م: بالطلاق. (2) شهادتهما: سقطت من م. (3) بتنجيز: سقطت من م. (4) في م: بعد استيفاء. (5) حكى ذلك عن سعيد بن المسيب والأوزاعي: (المغني: 9/ 249). (6) انظر المدونة: 4/ 83، التفريع: 2/ 240، الكافي: 467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1561 لم يكن به وحده ولزم قدر ما أتلف بشهادته كالمشتركين في قتل خطأ يلزم كالواحد منهم من الدية بقسطه وكذلك المخطيء مع العامد يلزم المخطىء نصف الدية. فصل [9 - في الرجوع عن الشهادة بقتل أو قطع]: وإنما قلنا في الرجوع عن الشهادة بقتل أو قطع أنه إن كان ذلك بغلط غرما الدية لما قدمناه، لا يقتص منهما لأن القصاص لا يكون إلا في العمد المحض. ووجه القول أنه لا يقتص منهما في العمد أن شهادتهما سبب لا مباشرة فلا يجب بها القود، ولأنه غير ملجيء لأن الحاكم قد كان يمكنه أن ينعزل (1) فلا يحكم. ووجه إيجاب القود ما روي عن علي رضوان الله عليه أنه جاءه شاهدان فقالا: نشهد أن هذا سرق فقطعه ثم جاآه بآخر فقالا أوهمنا هو هذا فرد قولهما الثاني، وقال: لو أعلمكما تعمدتما لقطعتكما (2)، ولم يحفظ خلاف عليه ولأن الشهود إذا كان ظاهرهم العدالة وأدوا الشهادة إلى الحاكم لزمه الحكم بشهادتهم في حقوق الله ولمن (3) يطلبه إذا ثبت له من الآدميين فقد صار ملجأ بشهادتهما فكان الشاهد (4) كالمكره لغيره على القتل ويلزمه القود ولا يجب على هذا أن يكون على الحاكم القود كالمكره لأن القاتل مكرها مباشر بما لم يكن له أن يباشره، والحاكم لم يباشر قتلًا محرما وإنما باشر أمرًا أوجبته الشريعة فاقترقا. وإنما قلنا إنهما إذا شهدا بطلاق قبل الدخول أو بعده ثم رجعا فلا غرم عليهما   (1) في ق: أن يقول. (2) أخرجه البيهقي: 10/ 251. (3) في ق: ولما. (4) في م: المشهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1562 خلافًا للشافعي في قوله يرجع عليهما بمهر المثل أو بكمال المهر (1) لأن بالدخول قد استحق عليه المهر كاملا وبالعقد نصفه وإن كان لم يدخل لم يتلفا على الزوج شيئًا بشهادتهما فلا يلزمهما غرم. فصل [10 - في رجوع الشهود بالزوجية وبالطلاق]: وإنما قلنا إنهما إذا شهدا بالزوجية وبالطلاق قبل الدخول ثم رجعا فإنهما يغرمان نصف المهر لأنهما قد أتلفاه عليه بشهادتهما فلزمهما غرمه اعتبارًا بشهادة المبتدأة بالمال ويفارق الأول لأن المهر كان مستحقًا عليه بالعقد الثابت. فصل [11 - في رجوع الشهود بزوجة يقر بنكاحها]: وإنما قلنا إنهما إذا شهد بدخوله بزوجة يقر بنكاحها ثم رجعا فإنهما يغرمان نصف الصداق فلأن ذلك القدر هو الذي أتلفاه بشهادتهما لأن النصف مستحق عليه بالعقد فلم يتلفاه عليه لما قدمناه، والثاني لا يستحق إلا بالدخول والدخول لم يثبت إلا بقولهما فإذا رجعا عن الشهادة فقد اعترفا أنهما أتلفاه عليه فيلزمهما غرمه. فصل [12 - في رجوع الشهود بعتق عبده]: وإنما قلنا إنهما إذا شهدا عليه بعتق عبده ثم رجعا أنهما يغرمان قيمته لأنهما أتلفاه عليه فيلزمهما غرم قيمته كما لو شهد عليه بمال لرجل، وقلنا في المكاتب يغرمان الكتابة لأنها المتلفة دون الرقبة، وقلنا في أم الولد لا يغرمان لأنهما لم يتلفا بشهادتهما إلا الاستمتاع ولا قيمة لذلك. فصل [13 - إذا حكم بشهادة شهود ثم قامت بينة بعد ذلك بفسقهم]: إذا حكم الحاكم بشهادة شهود ثم قامت بعد الحكم بينه بفسقهم فلا ضمان عليه فيما أتلف بشهادتهم ولو قامت بينه برقهم أو كفرهم ضمن، والفرق أن   (1) انظر مختصر المزني: 312، المهذب: 2/ 342 - 342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1563 العدالة والفسق طريقهما الاجتهاد وإذا انفرد الحاكم (1) باجتهاد لم ينقض باجتهاد مثله، وليس كذلك الحكم بشهادة العبيد والكفار (2) لأن ذلك لا اجتهاد فيه إذ لا يخفي الكفر والرق لأنهما خلافه أمر ظاهر فالحكم مع ذلك مقصر في اختبار (3) حال الشهود فضمن الحاكم بتفريطه. ...   (1) في م: وإذا نفذ الحكم. (2) انظر التفريع: 2/ 240 - الكافي: 465. (3) في م: تقصير اختيار وفي ق: اجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1564 باب [- في الدعوى والبينات] إذا تداعى (1) رجلان شيئًا فالتقسيم يرجع إلى ثلاثة أشياء، أحدها إلى اليد والثاني إلى البينة والثالث إلى صفة الدعوى، فأما حكم اليد فينظر فإن كانت الدعوى متساوية مثل أن يدعي كل واحد جميعه فإن لم يكن في أيديهما وكان في يد من لا يدعيه لنفسه لم يحكم لأحدهما إلا ببينة فإن أقام أحدهما بينه حكم له به، وإن أقام الآخر بينة نظر إلى أعدل البينتين فحكم به فإن تساويا في العدالة (2) عرضت اليمين عليهما فإن نكل أحدهما حكم للحالف وإن حلفا قسم بينهما وإن نكلا تركا على ما كانا عليه، وإن كان ذلك الشيء في أيديهما فالحكم فيه مثل مالوا لم يكن في أيديهما سواء. وإن كان في يد أحدهما فهو أولى به من المدعى الذي لا يد معه فيحكم له به مع اليمين، فإن نكل حلف المدعي وحكم له به وإن نكل أقر على (3) يد من هو في يده فإن أقام المدعي بينة فالبينة أولى من اليد .. وإن أقام صاحب اليد بينه حكم بأعدل البينتين فإن تساويا سقطتا وكان صاحب اليد أولى، وسواء كانت الدعوى في ملك مطلق غير مضاف إلى سبب (أو في مضاف إلى سبب) (4) يتكرر أو لا يتكرر فالمطلق أن يقيم بينة بأن (هذا العبد ملكه وأن) (5) هذا الشيء له هكذا مطلقا، وغير المطلق هو المضاف إلى سبب   (1) في ق: إذا تداعيا. (2) في العدالة: سقطت من ق. (3) في ق: عليه. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1565 وهو أن يبين سبب الملك مثل أن يقيم بينة بأن هذا العبد ملكه ولد في ملكه وأن هذه الدابة نتجت في ملكه وأن هذا الثوب ملكه (1) نسج في ملكه، ثم هذا السبب على ضربين متكرر يمكن أن يتكرر في الملك مثل الغراس إذا قال كل واحد منهما غرسته في ملكي فهذا يمكن أن يتكرر بأن يغرس دفعتين وكذلك نسج الثوب الخز على ما يقوله أهل صنعته يمكن أن ينسج دفعتين، ومنه ما لا يمكن تكراره كالولادة والنتاج ونسج لثوب القطن. وأما التقسيم على البينة فهو أن يقال إذا تداعى رجلان شيئًا فلا يخلو أن يكون مع كل واحد بينة أو لا بينة أو مع أحدهما أو أن تكون البينة مع أحدهما ولا بينة مع الآخر فإن أقام كل واحد منهما بينة نظر إلى أعدلهما فحكم به، وإن تساويا عرضت الأيمان عليهما فإن حلفا حكم به لصاحب اليد (منهما أو قسم بينهما إن لم يكن يدا وكان في أيديهما، وإن لم تكن مع أحد منهما بينة عرضت الأيمان عليهما فإن حلفا قسم بينهما، (وإن كان مع أحد منهما يد كان لصاحب اليد) (2)، وإن كان مع أحدهما بينة ولا بينة مع الآخر حكم به لصاحب البينة سواء كان صاحب اليد أو الخارج إلا أن صاحب اليد لا يكلف بينة ابتداء لأن اليد مغنيه عنها) (3). وأما التقسيم (4) على صفة الدعوه لا يخلو أن تكون الدعوى متساوية أو مختلفة (5): فإن كانت متساوية فالحكم على ما ذكرنا، وإن كانت مختلفة مثل ثوب أو كيس (6) يدعي أحدهما جميعه ويدعي الآخر نصفه، أو يكون بين ثلاثة يدعي أحدهم كله والآخر نصفه ويدعي الثالث ثلثه فإن تقسيم اليد والبينة   (1) ملكه: سقط من م. (2) ما بين قوسين سقط من ق ومن م. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) في م: اليمين. (5) في ق: مختلطه. (6) في ق: كبش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1566 على ما قدمناه لا يخلو أن يكون في أيديهم أو في يد غيرهم ممن لا يدعيه لنفسه أو في يد أحدهم، ثم لا يخلو أن يكون مع أحدهم بينة أو أن يكون مع كل واحد منهم بينة: فإن كان مع أحدهم بينه حكم له به كان في يده أو في أيديهم أو في غيرهم، وإن كان مع كل واحد منهم بينة حكم بأعدلها أو لا بينة لهم جميعًا عرضت الأيمان عليهم ثم قسم بينهم، فإن لم يكن في أيديهم قسم على موجب دعواهم، وإن كان في أيديهم فاختلف في ذلك على وجهين: أحدهما أنه يقسم على عددهم والآخر على موجب دعواهم على ما نبينه من بعد ونحن نتكلم على تفصيل الجملة (1) وموضع الخلاف منها. فصل [1 - أدلة الحكم فيما إذا لم يكن الشيء المدعى عليه في أيديهما أو كان في يد من لا يدعيه]: وإنما قلنا إنه إذا لم يكن الشيء المدعى عليه في أيديهما أو كان في يد من لا يدعيه لنفسه أو لم يكن في يد أحد فإنه لا يحكم به لأحدهما إلا ببينة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أعطي الناس بدعاويهم لادعى قوم دم قوم وأموالهم" (2)، وقال للمدعي "شاهداك أو يمينه" (3)، ولأنهما متساويان في الدعوى لا يرجع أحدهما على الآخر فلم يكن أولى منه. فصل [2 - في الحكم لمن أقام البينة منهما]: وإنما قلنا إن من أقام البينة منهما حكم له به لقوله - صلى الله عليه وسلم - "البينة على   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: الموطأ: 2/ 725 - 726، المدونة: 4/ 92 - 98، التفريع: 2/ 242، الرسالة: 246 - 247، الكافي: 478 - 484. (2) أخرجه مسلم في الأقضية باب اليمين علي المدعى عليه: 3/ 1336. (3) أخرجه البخاري في الرهن باب إذا اختلف الراهن والمرتهن: 1/ 123، ومسلم في الأيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم: 1/ 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1567 المدعي" (1)، وقوله "شاهداك أو يمينه" (2) ولأنه قد أتى بالسبب الدال على صدقه فيما ادعاه فوجب الحكم به له، وإنما قلنا إن الآخر إذا أتى ببينة نظر إلى أعدلهما فرجحت على الأخرى، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إن الزيادة في العدالة لا يقع بها ترجيح (3)، لأن الشهادة تقف صحتها على العدالة وهي مبنية (4) على الاجتهاد فكانت الزيادة فيها مطلوبة لأنها أبلغ في التوثيق وأقرب إلى صحة ما يشهد به، ولأن الشهادة أقوى من الخبر لأنه نص فيها على العدد فلم يقبل فيها قول العبد ولا المرأة بانفرادهما وفي الخبر لم ينص على عدد ولم يمنع في العبد ولا المرأة، ثم كانت صفة العدالة يقع بها الترجيح في الخبر فمن كان (أعدل وأوثق كان) (5) أولى بأن يصار إلى خبره كان في الشهادة أولى ولا يلزم على ما قلناه زيادة لأنه منصوص عليه فأغنى عن الاجتهاد. فصل [3 - إذا تساويا في الشهادة]: وإنما قلنا إذا تساويا في العدالة سقطتا لأن إحداهما ليست بأولى من الأخرى فكانا كمن لا بينة معهما، وإنما قلنا تعرض الأيمان عليهما فلأن اليمين أحد الحجج للمدعي، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر حكم به للحالف لأنه قد ساوى صاحبه بالبينة وزاد عليه باليمين فكان أرجح منه، وإن حلفا قسم بينهما لأن التقادم إذا وجد لم يكن أحدهما أولى من الآخر لتساويهما فيما يقتضي الحكم به لمن يثبت له فلم يبق إلا ما قلناه، وقد قال مالك إلا أن يكون ذلك   (1) أخرجه البخاري في التفسير باب {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم}: 5/ 166 ومسلم في الأقضية باب في اليمين على المدعى عليه: 3/ 1336. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) انظر مختصر الطحاوي: 328، مختصر المزني: 312 - 313، المهذب: 2/ 334. (4) في ق: ويمين عليه. (5) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1568 الشيء شيئًا (1) مما يرى الإِمام أن يقف الحكم فيه فلا يقسم بينهما والنظر هو الأول، وإنما قلنا إنهما إذا نكلا تركا على ما كانا عليه فلأن تساوي (2) البينتين يمنع الحكم مع إحداهما، وإنما عرضنا الأيمان عليهما ليرجع أحدهما فيحكم له فأما إذا لم يوجد ذلك فقد أضعفا دعواهما فتركا على ما كان عليه. فصل [4 - إذا كان الشيء المدعى في أيديهما]: وإنما قلنا إن الشيء المدعى إذا كان في أيديهما فالحكم فيه مثل ما قدمناه فإنه لا رجحان لأحدهما على الآخر لأن اليد وإن كان الترجيح يقع بها لمن (3) حصلت له فقد تساويا فيها فكان كتساويهما في البينة. فصل [5 - إذا كان الشيء المدعى في يد أحدهما]: وإنما قلنا إن كان في يد أحدهما كان أولى من المدعي الذي لا بينه له مع يمينه لأن اليد ظاهرها يدل على الملك فقد حصل أقوى سبب من المدعي فكانت البينة على الخارج. وإنما كانت اليمين على صاحب اليد لأنَّه مدعى عليه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "اليمين على المدعى عليه" (4)، ولأنه أقوى سببا باليد والحيازة واليمين تكون في جنبه أقوى المتداعين سببا، وإنما لم يحكم له بمجرد اليد دون اليمين لأن السبب الواحد لا يحكم به دون أن ينضاف إليه غيره كالشاهد الواحد. فصل [6 - إذا نكل المدعى عليه]: وإنما قلنا إنه إذا نكل انتقلت اليمين (إلى جنبة المدعى لأن سببه قد ضعف بنكوله فصار المدعى أقوى سببا منه فانتقلت اليمين إلى جهته) (5) كما أن   (1) شيئًا: سقطت من م. (2) في م: تهاتر. (3) في ق: أن. (4) سبق تخريج الحديث 1568. (5) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1569 المدعى عليه يكون اليمين في جنبته لقوه سببه ببراءة الذمة في الأصل وإذا كان مع المدعي شاهد انتقلت اليمين إليه لقوة سببه. إنما قلنا إنه إذا حلف المدعي حكم له به لأنه قد اجتمع له سببان يمينه ونكول خصمه وذلك مؤثر في الحكم، وإنما قلنا إنه إذا نكل أقر صاحب اليد لأن نكوله (1) أضعف دعواه وصار كأنهما لم يتأتيا بشيء ورجح الآخر عليه باليد. فصل [7 - إذا كان للمدعي بينة]: إنما قلنا إذا كان للمدعي بينة كانت أولى من اليد لأنها أرجح منها لأن البينة تشهد بما لا تشهد به اليد لأن اليد مبهمة (2)، والبينة مفسرة، وإنما يحكم لليد بالظاهر ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي" (3) ولم يفرق، وفائدة ذلك أنه إذا أقامها حكم له بها. وإنما قلنا إن صاحب اليد إذا أقام بينة رجح بأعدل البينتين لما بيناه أن الغرض بالبينة العدالة والحكم بها موقوف على حصولها فوجب الترجيح بالزيادة فيها. فصل [8 - إذا تساوى المدعيان]: وإنما قلنا إنهما إذا تساويا حصل التهاتر وحكم به لصاحب اليد خلافًا لأبي حنيفة في قوله أن بينة الخارج أولى إذا كانت في مال مطلق أو مضاف إلى سبب يتكرر (4) لما روي أن رجلين تداعيا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرا فجاء هذا ببينة فقضى به   (1) في م: وحصول. (2) في م: متهمة. (3) سبق تخريج الحديث 1568. (4) انظر مختصر الطحاوي: 353 - 354، مختصر القدوري- مع شرح الميداني-: 4/ 32 - 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1570 لمن هو في يده (1)، ولأنها متداعيان يتساويا في إقامة البينة وانفراد أحدهما باليد فوجب أن تقدم بينته لأجل اليد أصله الدعوى في الملك المضاف إلى سبب لا يتكرر كالولادة والنتاج (2)، ولأن كل واحد منهما مساو لصاحبه في الدعوى قبل البينة إلا أن صاحب اليد أقوى وأرجح بثبوت يده على الشيء المدعي فلما انفرد بذلك قوي أمره فقدم على المدعي لرجحانه باليد، وهذه حالهما بعد البينة لأنهما قد تساويا فيها وسقطتا وصار كأنهما لم يكونا فانفرد صاحب اليد بيده كما كان قبل البينة، وإنما عرضنا الأيمان عليهما بعد تهاتر البينتين اعتبارًا بحال الابتداء. فصل [9 - الاختلاف في الدعوى]: فأما اختلاف الدعوى مثل أن يتداعى رجلان ثوبا أو كبشًا (3) وهو بأيديهما يدعي أحدهما الكل والآخر النصف أو ثلاثة ويدعى الثالث الثلث فقد ذكرنا أن أصحابنا يختلفون في كيفية قسمته بينهم فمنهم من يقول تقسم بينهم على عدد المدعين (4) بالتسوية ومنهم من يقول يقسم بينهم على صفة اختلاف الدعوى. وصورة القول الأول أن يتداعى رجلان كبشًا أو ثوبًا وهو بأيديهما يدعي أحدهما الكل والآخر النصف فيكون بينهما نصفين وكذلك إن ادعاه ثلاثة يدعى الثالث الثلث يكون بينهم أثلاثا، وصورة الحكم على موجب الاختلاف في الدعوى في المسألة الأولى أن يحكم لمدعي الكل بثلاثة أرباع المدعى ولمدعي النصف بربعه فيقسم بينهم على أربعة أسهم.   (1) أخرجه الدارقطني: 4/ 209، والبيهقي: 10/ 256، وإسناده ضعيف (تلخيص الحبير: 4/ 210). وقال صاحب مجمع الزوائد: 3/ 206، ورواه الطبراني في الكبير ورجال أحدهما رجال الصحيح. (2) في ق النكاح. (3) م: كيسا. (4) في م: المتداعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1571 وفي المسألة الثانية إذا ادعى أحدهم الكل والثاني النصف والثالث الثلث يقسم بينهم على ستة وثلاثين جزءًا (1) منها لمدعي الكل خمسة وعشرون ولمدعي النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة أسهم، واحتج من ذهب إلى القول الأول بأنهم متساوون (2) في أسباب الحكم والترجيح لأنهم قد تساووا في اليمين وفي الحيازة لأن مدعي الأكثر مساو لمدعي الأقل في اليد، وإنما يزيد عليه بالدعوى وذلك لا يوجب زيادة في الحيازة، وإذا لم يكن معهم ما يرجح به أحدهم على الآخر وجب تساويهم في القسم فأما إذا لم يكن في أيديهما فعلى موجب الاختلاف. واحتج من ذهب إلى القول الثاني بأن قال إذا ادعى أحدهما الكل وادعى الآخر النصف فمدعي النصف مقر بأنه لا حق له في النصف الآخر فصار النصف الذي يدعيه كان كمدعي الكل قد حازه وليس أحد يخاصمه فيه فيكون له ويصير التداعي في النصف الباقي فيقسم بينهما لتساويهما في حيازته، وكذلك في المسألة الثانية يقال لمدعي النصف ومدعي الثلث أنتما مقران بأن بالنصف الباقي لا حق لكما فيه فسلماه إلى مدعيه إذ لا خصومة بينكما وبينه فيه فيصير النصف لمدعي الكل (ويحصل التداعي بين مدعي النصف ومدعي الثلث) (3) فيقال لمدعي الثلث أنت معترف بأن السدس الزائد على الثلث لا حق لك فيه فسلمه إلى من يدعيه فيصير بين مدعي الكل وبين مدعي النصف وأيديهما متساوية فيه فيقسم بينهما نصفين فيصير لمدعي الكل سبعة أسهم من اثنى عشر سهما ولمدعي سهم من اثنى عشر بهما ثم يبقى الثلث وهم يتداعونه بالسوية وأيديهم عليه متساوية فيقسم بينهم على موجب دعواهم بالسوية فيكون لكل واحد سهم وثلث (فيصير لمدعي الكل ثمانية وثلث من اثنى عشر سهمًا ويصير لمدعي النصف سهمان وثلث من اثني عشر سهمًا، ولمدعي الثلث سهم وثلث) (4) فيضرب في مخرج   (1) في م: سهما. (2) في ق: متساويان. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1572 الكسر لتسلم السهام فيكون سته وثلاثين وكذلك الاعتبار في اختلاف التداعي في الأنصباء. ومن أصحابنا من يقول في التداعي إذا اختلف ما يدعيه كل واحد منهما أنهما إذا أجمعت الدعاوى فكانت زيادة على المال كالعول قسم بينهم على موجب العول فضم الدعوتين ثم ينظر إلى ما اجتمع بيده فجعل النصاب الذي يقسم عليه وهذا على القول بأن القسم موجب الدعوى وبيانه: إذا تداعى رجلان ثوبًا وادعى أحدهما جميعه والآخر نصفه يكون كأن المسألة عالت بالنصف فيكون من ثلاثة لمدعي الكل الثلثان ولمدعي النصف الثلث. (وإذا ادعى أحدهما الكل والآخر النصف والآخر الثلث) (1): قسم المدعي بينهم على أحد عشر سهما لمدعي الكل ستة، ولمدعي النصف ثلاثة، ولمدعى الثلث اثنان قال: لأنهم إذا تساووا في اليد وضاق المال على الدعاوى لم يكن أحدهم بأولى من الآخر فيجب أن يتساووا في النقص (2). فصل [10 - إذا تداعيا ثوبًا بأيديهما]: ولو تداعيا ثوبًا بأيديهما فقال أحدهما: لي نصفه، والنصف الثاني لزيد، وقال الآخر لي نصفه، ونصفه لزيد ولا شيء لك فيه: قسم بينهما لأن كل واحد منهما يقر للغائب بنصيب الآخر الذي قد حازه فلا يكون للمقر له شيء (3). فصل [11 - فيمن ادعى تزوج امرأة تزويجا صحيحا]: إذا ادعى أنه تزوج امرأة تزويجًا صحيحًا سمعت دعواه ولم يكلف أن يذكر شرائط النكاح (4) خلافًا لأحد قولي الشافعي في قوله إن الدعوى لا تسمع إلا   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) في جملة هذه الأحكام انظر المدونة: 4/ 97 - 98، التفريع: 2/ 242 - 243، الكافي: 481 - 482. (3) انظر المراجع السابقة. (4) انظر الكافي: 480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1573 بأن يذكر شروط الصحة فيقول تزوجتها بولي وشهود عدول بإذنها إن كانت ممن تستأذن (1)، ودليلنا أنه دعوى عقد صحيح فوجب استماعها أصله إذا ذكر (2) شروط صحتها، ولأنه عقد معاوضة فوجب أن يسمع الدعوى فيه على الصحة مجملة من غير اعتبار بذكر شروط الصحة أصله البيع. فصل [12 - إقرار أحد الابنين بمن ادعى دينا على أبيهم الميت]: إذا مات رجل وترك ابنين فادعى رجل على الميت دينا فأقر له أحدهما فإن كان ممن تقبل (3) شهادته (وشهد له به حلف المدعي واستحق جميع الدعوى وإن كان ممن لا) (4) تقبل شهادته ولكنه لم يكن يشهد لزمه نصف ما اعترف له به وهو مقدار ما كان نصيبه لو اعترف الابن الآخر أو قامت له بينة (5) وقال أبو حنيفة يلزم المقر الإرث في حصته (6). وإنما قلنا إنه إن شهد به لزم مع اليمين جميع الدعوى لأنها دعوى مال فقبل فيها الشاهد مع اليمين كسائر الدعاوي، وإنما قلنا إن شهادة الابن مقبولة لأن شهادة الأخ على أخيه مقبولة فيما يتعلق بدفع معرة عن الشاهد أو الأخ، ولأن التهمة عنه زائلة في ذلك، وإنما قلنا إنه يلزمه بإقراره لأنه مقر بأن غيره يستحق ما لا في يده فلزمه دفعه إليه. وإنما قلنا إنه لا يلزم الآخر شيء بإقرار أخيه لأن إقرار الإنسان (7) على غيره غير مقبول، وإنما قلنا لا يلزم المقر أكثر من قدر ما كان يلزمه لو أقر الآخر لأن   (1) انظر الإقناع: 198. (2) في ق: إذا أنكر. (3) في ق: ممن لا تقبل. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) انظر المدونة: 4/ 104، الكافي: 459، 481. (6) انظر مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 87. (7) الإنسان: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1574 إقراره عليه وعلى أخيه فلم يلزم ظلم غيره، ولأنه معنى يستحق في المال مقدم على الميراث فوجب إذا اعترف به بعض الورثة أن تلزمه في حصته دون حصة من لم يعرف أصله الوصية. فصل [13 - اختلاف الزوجين في متاع البيت]: إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فادعى كل واحد منهما أنه له ولا بينة لهما ولا لأحدهما نظر: فإن كان من متاع النساء فهو للمرأة مع يمينها، وإن كان من متاع الرجال فهو للرجل مع يمينه، وقال سحنون ما يعرف لأحدهما فهو له بغير يمين وما كان يصلح لهما جميعًا فهو للرجل مع يمينه، وقال المغيرة هو بينهما بعد أيمانهما وسواء كان اختلافهما قبل الطلاق أو بعده كانت الدار بينهما أو لأحدهما أو بكراء كان الاختلاف منهما أو ورثتهما أو من ورثة أحدهما مع حياة الآخر كانا حرين أو عبدين أو إحداهما كانت الزوجة مسلمة أو ذمية. والمتاع الذي يصلح للنساء كالحلي وثياب النساء والغزل والجهاز والمتاع والذي يصلح للرجل كالسيف والدرع والرمح وسائر السلاح وثياب الرجل وكتب العلم والأدب، والذي يصلح لهما جميعًا كالدراهم والدنانير وغير ذلك مما لا يختص في العرف بأحدهما سواء كانت أيديهما عليه شاهدة مثل أن يكونا قابضين عليه حكما مثل خشب موضوعة في الدار (1). ووافقنا أبو حنيفة في ذلك كله إلا في الذي يصلح لهما فإنه فرق في ذلك بين الرجل إذا كان حيا أو ميتا فقال: إن كان حيا فهو له وإن كان ميتا فهو للمرأة (2)، وقال الشافعي من أقام البينة علي شيء فهو له وإلا كان بينهما بعد أيمانهما (3).   (1) في جملة هذه الأحكام انظر: المدونة: 4/ 97، الكافي: 482. (2) انظر مختصر الطحاوي: 228، مختصر القدوري- مع شرح الميداني-: 4/ 50. (3) انظر الأم: 5/ 95، مختصر المزني: 318، الإقناع: 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1575 فصل [14 - في أن ما يصلح لأحدهما يكون له]: وإنما قلنا إن ما يصلح لأحدهما يكون له لأن اليد لما كانت مؤثرة في الملك ودلت عليه بدليل أن من ادعى عمامة على رأس رجل فإن القول قول من هي عليه، وقد ثبت أن لكل واحد من الزوجين يدا في الدار بدليل أن أجنبيًّا لو أدعى بعض ما فيه فتنازعاه أو أحدهما فيكون القول قوله دون الأجنبي فوجب إذا تنازعا أن يعتبر أظهرهما في الدعوى ومن يشهد له العرف بقوة دعواه وقد ثبت أن اليد تتفاضل فيكون بعضها أقوى من بعض كالراكب والممسك باللجام، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون أقوى اليدين أولاهما بالمدعى لشهادة العرف له. ولا يلزم عليه الدباغ والعطار إذا تنازعا فادعى الدباغ المسك وادعى العطار الجلود لأن أيديهما غير متساوية وقد ورد الظاهر والسنة بما قلناه وهو قوله تعالى: {وأمر بالعرف} (1)، وقوله عَزَّ وَجَلَّ في قصة يوسف عليه السلام (2) {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت} (3) فجعل قوة دعوى كل واحد منهما على ما يشهد عليه الغالب فكذلك في مسألتنا الغالب والعرف أن النساء يتخذن ما يصلح لهن والرجال يتخذون ما يصلح لهم وإذا صح ذلك ثبت ما قلناه، وروي أن رجلان تنازعا في خص (4) فحكم به لصاحب القمط (5) (6) وهو يؤيد ما نقوله من الحكم بالأشبه في الدعاوى. فصل [16 - الحكم فيما كان يصلح لهما]: ووجه قوله إنه يحكم به لمن يصلح بيمينه أن الحكم في الأصول لا يكون إلا   (1) سورة الأعراف الآية: 199. (2) عليه السلام سقطت من م. (3) سورة يوسف، الآية: 26. (4) الخص: هو البيت من القصب (المصباح المنير: 171). (5) في ق: لصاحب المقص. (6) سبق تخريج هذا الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1576 بشيئين فلم يجز الحكم له بمجرد العرف لأن ذلك حكم بسبب واحد، ووجه قول سحنون إنه له بغير يمين أن يده والعرف الشاهد له سببان فلم يحتج إلى يمينه. ووجه قول مالك إن ما كان لهما كان للرجل أن جنبته (1) أرجح لأن البيت له وهي متابعة له فيه والظاهر ما يكون في بيت الرجل له إلا ما يشهد العرف أن الأغلب كونه للمرأة. وإنما شرطنا اليمين ليحصل له سببان يحكم له بهما، ووجه قول المغيرة أنه بينهما وأن أيديهما متساوية ولا شبهة فيحكم به، والبيت منسوب إليهما لا إلى الرجل وحده فلم يبق إلا أن يكون بينهما بعد (2) أيمانهما كالمتداعيين شيئًا بأيديهما. فصل [17 - في عدم التفريق إذا كان الزوجان حرين أو عبدين]: وإنما لم يفرق بين أن يكونا حرين أو عبدين وسائر ما ذكرناه لأن كل ذلك لا يؤثر في الدعوى بقوة ولا ضعف ولا شبهة فلذلك استوى الحكم في جميعه وإنما لم نفرق بين الحياة والموت لأن الورثة يقومون مقام مورثهم على سبيل ما كان له أن يفعل ألا ترى أنه لو اشترى بالخيار لم يكن لهم أن يفرقوا المبيع على البائع وكان لهم اختيار الجميع أو رده وكذلك ها هنا. فصل [18 - إذا مات رجل وعليه دين وله دين فيه شاهد واحد]: إذا مات رجل وعليه دين وله دين فيه شاهد واحد فللورثة أن يحلفوا مع الشاهد ويستحقوا الدين، فإذا حلفوا وأخذوا المال قضي منه الدين ثم أخذوا (الباقي ميراثا فإن لم يفضل شيء فهم مخيرون إن شاءوا حلفوا مع الشاهد ويستحقون الدين فإذا حلفوا أخذوا المال فقضوا منه الدين ثم أخذوا) (3) فضلا   (1) في م ور: جهته. (2) في ق: مع. (3) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1577 إن كان وإن شاءوا لم يحلفوا وليس للغرماء إجبارهم على اليمين فإن لم يحلفوا حلف الغرماء واستحقوا الدين في ديونهم فإن كان فيه فضل عن ديونهم لم يستحقه الورثة فإن أرادوا من بعد أن يحلفوا لم يكن لهم ذلك إلا أن يكون لامتناعهم أولا وجه مثل أن يقولوا لم نعلم أنه يفضل منه شيء وكنا نرى أن الدين يستغرقه فيكون لهم أن يحلفوا (ويستحقوا الباقي، وإن كان امتناعهم على وجه النكول والترك لم يكن لهم أن يحلفوا من بعد، وكذلك) (1) لو ادعى إنسان على الورثة أن ميتهم أوصى له بمال وأقام على ذلك شاهدا واحدا فله أن يحلف معه فإن نكل الوارث أو مدعي الوصية للورثة وبرأ وحلف الورثة لمدعي الوصية وبرؤوا من نكل منهم لزمه ما يدعي عليه مع الشاهد، ويقيم الورثة الذين بقدر مواريثهم والموصى لهم يقسمون على حسب ما يدعى من الوصية، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم فلمن حلف نصيبه من الدين أو الوصية ولا شيء لمن لم يحلف، ولا يشارك الحالف في قسطه ولكن يعرض اليمين على المدعى عليه ويكون الحكم على ما بيناه (2). فصل [19 - في حلف الورثة مع شاهد ميتهم]: وإنما قلنا إن للورثة أن يحلفوا مع شاهد ميتهم لأنهم يقومون مقام (الموروث في حقوق الإرث فلما كان للميت لو كان باقيا أن يحلف مع شاهده كان ذلك) (3) للورثة بعده، وإنما قلنا إنهم إذا أخذوا المال بالشاهد وأيمانهم قضوا منه الدين ثم ورثوا الباقي لأن الدين مقدم على الميراث (4) لقوله تعالى {من بعد وصية يوصى بها أو دين} (5) فإذا قضوا استحقوا الباقي لوجوبه لهم ...   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) انظر المدونة: 4/ 109، الكافي: 483. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م: على الوارث. (5) سورة النساء، الآية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1578 وإنما قلنا إنه إذا كان الدين مستغرقًا للتركة فلا شيء للورثة لأن الإرث بعد الدين (1) فإذا تزاحما فالدين مقدم عليه، وإنما قلنا أن لهم أن يحلفوا مع استغراق الدين للإرث ولا يضرهم أن يستحق المال غيرهم لأن الحق في التقديم لهم لأنهم يقومون مقام الميت، ولأنهم لو أدوا الدين من غير التركة لكان ذلك لهم ولم يكن للغرماء الاعتراض عليهم. وإنما قلنا إنهم مخيرون لأن الحق في ذلك لهم فإن شاءوا أخذوه وإن شاءوا تركوه، وإنما قلنا أنه ليس للغرماء إجبارهم على الحلف لأنهم يقولون لا فائدة لنا في اليمين على ما إذا استحق لم يكن لنا فيه حظ وكذلك إن كان فيه فضل فلهم أن يقولوا لسنا نختار أن نأخذ بيمين فيكون ذلك لهم. وإنما قلنا إن للغرماء أن يحلفوا إذا نكل الورثة خلافًا للشافعي في قوله ليس لهم ذلك (2)؛ لأن الدين حق متعلق بالتركة (3) فجاز لمستحقه أن يحلف مع شاهد الميت أصله حق الإرث، وإنما قلنا إنه إن كان فيه فضل عن ديونهم لهم يستحقه الورثة لأن الإنسان لا يستحق بيمين غيره شيئًا إذا كان ممن له أن يحلف، وإنما قلنا إن لهم أن يحلفوا ويستحقوا الفضل لأنهم يستحقون ما يتركه الميت فكان لهم أن يحلفوا عليه وليس امتناعهم أولا من اليمين بمانع لهم الآن منها لأنهم يقولون لم نر أن نحلف على ما يأخذه غيرنا، فأما إذا فضل ما ناخذه فإنا نحلف عليه وهذا عذر مسوغ (4)، وإنما يمنع أن يحلفوا بعد ترك اليمين لأن نكولهم قد أسقط حقهم، وإنما قلنا إن للمدعي له أن يحلف مع شاهده لأنه يستحق من تركة الميت وما وصى له به، فإن لم يحلف فقد تقدم بيان النكول ورد اليمين وكذلك باقي المسألة.   (1) في م: نفعا للورثة. (2) انظر الأم: 6/ 94، مختصر المزني: 309 - 310. (3) في م: بالشركة. (4) مسوغ: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1579 فصل [20 - في الدعوى التي لا يجب فيها اليمين على المدعى عليه بمجرد الدعوى]: كل دعوى لا يقبل فيها شاهد وامرأتان ولا شاهد ونكول ولا يقبل فيه إلا شاهدان فلا يجب اليمين فيها على المدعى عليه بمجرد الدعوى، وذلك مثل دعوى النكاح والرجعة والطلاق وقتل العمد وما أشبه ذلك، فإذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته أو امرأة على رجل أنه زوجها أو أنه طلقها فلا يمين على المنكر منهما بمجرد الدعوى (وذلك مثل دعوى الناكح) (1) فإن أقام المدعي شاهدا واحدا حلفا المدعى عليه وإن نكل ففيها روايتان: إحداهما أنه يحكم عليه، والأخرى أنه يحبس حتى يحلف فإن طال حبسه خلي، واليمين على هذه الرواية استظهارا واحتياطا (2). وإذا قلنا إنه لا يحلف بمجرد الدعوى فلا يتصور على هذا رد اليمين على المدعي لأن ذلك لا يكون إلا بنكول المدعى عليه، والنكول لا يكون بعد توجه اليمين إليه، وعند الشافعي في هذه المسائل أن اليمين تلزم المدعى عليه فإن نكل ردت على المدعي فإن حلف حكم له (3)، فدليلنا على أن اليمين لا تلزم ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها لم يحلف بدعواها إلا أن تأتي بشاهد فإن كان معها شاهد حلف" (4) وهذا نص، ولأن ذلك ذريعة إلى امتهان النساء بالأزواج فلا تشأ   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) انظر المدونة: 4/ 72، التفريع: 2/ 243، الرسالة: 245، الكافي: 479. (3) انظر الأم: 7/ 38، مختصر المزني: 309، الإقناع: 198. (4) أخرجه ابن ماجه بلفظ قريب منه "إذا ادعت المرأة طلاق زوجها، فجاءت على ذلك بشاهد عدل استحلف زوجها، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد، وإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر وجاز طلاقه" في الطلاق، باب الرجل يجحد الطلاق: 1/ 657 وفي الزوائد: هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1580 امرأة أن تؤذي زوجها إلا ادعت عليه الطلاق لتحلفه وذلك إضرار بالناس فيجب منعه على ما بيناه من الذرائع، ولا يلزم عليه دعوى الأموال لأنها أخفض رتبة والإجماع على خروجها عن حكم هذا الأصل. فصل [21 - الدليل على أن اليمين لا ترد فيما لا يقبل فيه إلا شاهدين]: ودليلنا أن اليمين لا ترد فيما لا تقبل فيه إلا شاهدين أنا وجدنا الشاهد والمرأتين أقوى من اليمين والنكول لأن النكول من غير جنبة المدعى، ولأنه لا يحتاج إليهم (1) مع المرأتين، وإذا ثبت ذلك كان الطلاق والنكاح لا يحكم فيه بشاهد والمرأتين كان بأن لا يحكم فيه الشاهد والنكول وبالنكول واليمين أولى. فصل [22 - إذا كانت له بينة وعدل عنها إلى يمين المدعى عليه]: إذا كان له بينة حاضرة وكان عالمًا بها قادرًا على إقامتها فعدل عنها إلى يمين المدعى عليه ثم أراد إقامتها من بعد ففيها روايتان (2): إحداهما أن ذلك له والأخرى أنه ليس له ذلك. فوجه الأولى أنها حال لو أقر فيها المدعى عليه لثبت الحق عليه فوجب إذا أقام فيها المدعي البينة أن يكون له ذلك أصله قبل أن يحلف، ولأنها بينة لو أراد إقامتها قبل اليمين لكان له ذلك فوجب ألا يقطعها اليمين أصله إذا كانت غائبة أو كان لا يعلم بها، ووجه الثانية قوله - صلى الله عليه وسلم - "شاهداك أو يمينه (3) فجعل له أحدهما إذا استوفاه لم يكن له الآخر، ولأنه لو قال للحاكم أريد أن محمع لي بين الأمرين بين يمينه وبينتي لم يكن له ذلك فدل على ما قلناه، ولأن عدوله إلى اليمين مع قدرته على البينة رضا بها فلم يكن له نقض موجبها كما لو صالح ثم أراد الرجوع في الصلح.   (1) في م: إليه. (2) انظر المدونة: 4/ 72 - 73، التفريع: 2/ 245، الرسالة ن: 245. (3) سبق تخريج الحديث 1568. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1581 فصل [23 - في يمين الإنسان علي فعل نفسه وعلى فعل غيره]: يمين الإنسان على فعل نفسه يكون على القطع وعلى فعل غيره يكون على العلم مثل أن يدعي على رجل مالا فيقر له به ويزعم أنه قضاه أباه فيحلف أنه ما قضاه قطعا، ولو أدعى أن لأبيه عليه مالا وأنه ورثه عنه فزعم المدعى عليه أنه قد قضاه إياه حلف على العلم أنه لا يعلم أباه اقتضى منه شيئًا، والفرق بينهما أنه يقدر على العلم باقتضائه نفسه ولا يصل إلى العلم باقتضاء أبيه والصغير يحلف مع شاهد أبيه على إثبات الحق إذا بلغ، ولو كان للميت شاهد بحق له ولد صغير سمع الحاكم شهادة شاهده ثم عرض اليمين على المدعى عليه فإن حلف لم يسقط الدعوى عنه ويؤخر إلى أن يبلغ الصبي فيحلف ويأخذ (1)، وإنما عرضنا اليمين على المدعى عليه لجواز أن ينكل فيثبت الحق ولا يحتاج إلى انتظار بلوغ الصبي (2) فلما لم ينكل كان الحق باقيا للصبي. فصل [24 - فيمن كانت له دار يتصرف فيها مدة عشر سنين فأكثر ثم جاء من يدعيها ... ]: إذا كانت في يد رجل دار جائز لها يتصرف فيها مدة عشر سنين فأكثر بالبناء والهدم والإجارة والعمارة ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان يراه ويشاهده طول هذه المدة ولا يعارضه فيها ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانعًا يمنعه مطالبته من خوف سلطان أو ما أشبه ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة أو شركة في ميراث أو ما أشبهه مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه بل كان عريًا من ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ويزعم أنها له ويقيم بينة بذلك فعندنا أن بينته غير مسموعة ويكون صاحب اليد أولى بها (3).   (1) انظر التفريع: 2/ 243 - 244، الكافي: 472. (2) في م: إلى انتظار بلوغه. (3) انظر المدونة: 4/ 89، التفريع: 2/ 242، الكافي: 468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1582 وإنما قلنا ذلك لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها غير مقبولة لقوله تعالى {وأمر بالعرف} (1)، وأوجب الرجوع إليه عند الاختلاف (2) في الدعاوي كالنقد والحمولة والسير وغير ذلك وفي الأبنية ومعاقيد القمط ووضع الجذوع على الحائط فكذلك في هذا الموضوع، وقد علمنا أن الإنسان في العادة إذا كان له ملك يراه في يد غيره يتصرف فيه تصرف ذي الملك التام بالهدم (3) والبناء والعمارة والإجارة والرهن وغير ذلك وينسبه إلى ملكه وهذا حاضر يراه ويشاهده ولا ينازعه ولا يدعي معه شيئًا ولا مانع يمنعه من مطالبته ولا يذكر أنه ملكه ولا يعارض فيه بل ساكت ثم يأتي بعد سنين طويلة ومدة بعيدة فزعم أنه ملكه ويقيم البينة على ذلك فإن ذلك خلاف العادة لأن الإنسان لا يسكت (4) على ما يجري هذا المجرى ولذلك قلنا إنه إن كان غائبًا سمعت بينته لأنه لا عرف يكذب قوله وكذلك إذا كانت في يد سلطان يخافه إن أقام البينة. وإنما قلنا: إن الحيازة من الأقارب لا تمنع الدعوى كجري العادة بإبساط بعضهم في إضافة الملك المشترك إليه وترك تشاحيهم فيها وإنما تبقى (5) مدة طويلة غير مقسومة بل على شركة المواريث المتداولة ففارقوا الأجانب. فصل [25 - التغليظ في الأيمان]: التغليظ في الأيمان عندنا بالمكان والزمان (6) خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا يغلظ في المكان (7) لقوله في - صلى الله عليه وسلم - "من حلف على منبري هذا على يمين كاذبة ولو   (1) سورة الأعراف، الآية: 199. (2) عند الاختلاف: سقطت من م. (3) التام: سقطت من م. (4) في ق: لا يسكتون. (5) تبقى: سقطت من ق. (6) انظر الموطأ: 2/ 728، المدونة: 4/ 71، التفريع: 243، الرسالة: 245. (7) في مختصر القدوري - "ولا يجب تغليظ اليمين على المسلم بزمان ولا بمكان": 4/ 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1583 على سواك من أراك فقد تبوأ مقعده من النار" (1)، ولأن أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما استحلفا عند المنبر (2)، وروي أن عمر رضي الله عنه طولب بذلك في يمين توجهت عليه فافتدى ولم يحلف (3)، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لرجل -أحلف بالطلاق فقال لامرأته: حبلك على غاربك- تحلف بالله عند المنبر لما أردت الطلاق (4)، ونحوه عن ابن عباس (5) فدل على أنه إجماع، ولأن اليمين تراد لزجر وردع وليتخرج الحالف ويمتنع من الإقدام على يمين إن كان مبطلا بها ويخرج من حق إن كان، وقد ثبت أن الحلف في المواضع التي تعظم وتشرف أبلغ في الردع وأوقع في الزجر من الحلف في غيرها فوجب أن يكون أولى. إذا ثبت هذا فالمواضع في البلد الذي يكون فيه الخصومة: ففي المدينة عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أشرف المواضع بها، وللخبر الذي رويناه، وفي سائر البلاد في أشرف البقاع بها وأعظمها حرمة وذلك في المسجد الجامع أو غيره مما يشرف به ويعظم، وتغلظ على اليهود والنصارى فيحلف اليهودي في كنيسته والنصراني في بيعته لأن هذه المواضع هي أعظم مواضعهم عندهم، ولأن التغليظ بذلك إنما الغرض به الردع والزجر فهي في المواضع التي يعتقدون تعظيمها أبلغ فيما يراد.   (1) أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور باب تعظيم اليمين عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: 3/ 567، وابن ماجه في الأحكام باب اليمين عند مقاطع الحقوق: 2/ 779، ومالك: 2/ 727 وأحمد: 2/ 329، وسنده صحيح (الهداية في تخريج أحاديث بداية المجتهد: 8/ 655). (2) أخرجه البيهقي: 10/ 177. (3) أخرجه البيهقي: 10/ 177. (4) انظر البيهقي: 7/ 343. (5) انظر الشافعي في الأم: 7/ 36، والبيهقي: 10/ 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1584 فصل [26 - الحقوق التي تغلظ فيها الأيمان]: فأما الحقوق التي تغلظ فيها فينظر فإن كانت الدعوى في غير المال مثل الدماء والطلاق والعتاق وما أشبه ذلك فإن اليمين (1) تغلظ في ذلك كله، وإن كانت الدعوى في مال فلا تغلظ فيه عن المنبر في التافه اليسير وهو ما دون ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق وتغلظ في ربع دينار وفي ثلاثة دراهم فصاعدا (2)، وقال الشافعي: تغلظ في العشرين دينارًا دون ما قصر عنها (3)، وقال بعض المتأخرين تغلظ في القليل والكثير (4). ودليلنا علي أنه لا تغلظ في اليسير ما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رأى رجلًا يحلف عند المنبر فقال: أعلى دم، فقال، لا، فقال: على عظيم من المال فقال لا، فقال لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المكان (5)، ولم ينكر ذلك عليه أحد فثبت تقدير المحلوف عليه، ولأن المقصود من التغليظ الردع والزجر بحرمة الموضع المحلوف عنده فيجب أن يكون ذلك فيما له خطر وقدر إعظامًا للموضع وتأكيدا لحرمته، ودليلنا على أنه تغلظ في ربع دينار أنه قدر من المال تثبت به حرمته في الشرع بدليل أنه يقطع فيه اليد وأنه أقل ما يستباح به البضع فجاز التغليظ فيه كنصاب الزكاة، ولأنه خارج عن التفاهة والنذارة بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع في التافه وكان يقطع في ربع دينار (6).   (1) في م: الأيمان. (2) انظر الموطأ: 2/ 728، التفريع: 2/ 244، الكافي: 480. (3) انظر الأم: 7/ 36، مختصر المزني: 308. (4) قاله ابن جرير (المغني: 9/ 229). (5) أخرجه الشافعي في الأم: 7/ 36، والبيهقي في سننه: 10/ 176. (6) سبق تخريج الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1585 فصل [27 - فيما يستحب فيه التغليظ في الزمان]: وأما التغليظ في الزمان فيستحب في الدماء واللعان أن يكون الحلف بعد صلاة العصر لقوله عز جل {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله} (1) قيل في التفسير: بعد صلاة العصر (2)، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا ينظر إليهم: فذكر من حلف يمينا كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امريء مسلم" (3)، ولأن أدبار الصلوات أوقات مشرفة معظمة ترتجى فيها إجابة الدعاء ويقرب الإنسان إلى الله تعالى بالتسبيح والذكر فيها فهي أبعد من اكتساب الآثام بالأيمان الكاذبة، واختير بعد صلاة العصر لأنه وقت يجتمع فيه الناس وربما ردع ذلك الحالف به. فصل [28 - في كون لا مدخل للتغليظ في الأيمان بالألفاظ]: لا مدخل للتغليظ في الأيمان بالألفاظ ولا تزاد في الحلف على أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو فقط (4)، وقال الشافعي يزاد على ذلك عالم خافية الأعين وما تخفي الصدور والذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية (5) وما أشبه ذلك (6) ودليلنا أن هذه الصفات لا غاية لها ولا حصر فلم يكن بعضها بأن تغلظ اليمين به بأولى من بعض فوجب الاقتصار على الحلف باسمه تعالى ووصفه الأخص الذي لا زيادة عليه وله مزية على سائر الصفات.   (1) سورة المائدة، الآية: 106. (2) انظر تفسير الطبري: 7/ 109. (3) أخرجه البخاري في المساقاة باب إثم من منع ابن السبيل من الماء: 3/ 75 - 76، ومسلم في الأيمان باب بيان غلط الإسبال: 1/ 103. (4) انظر التفريع: 2/ 243 - الرسالة: 245، الكافي: 479. (5) في م: الجهر. (6) انظر الأم: 6/ 99، مختصر المزني: 309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1586 فصل [29 - في كيفية إحلاف اليهودي والنصراني]: ولا يزاد في إحلاف اليهودي أن يقال الذي أنزل التوراة على موسى ولا في إحلاف النصراني أنزل الإنجيل على عيسى (1) خلافًا للشافعي (2) لأن ذلك معنى زائد على التغليظ في صفات اليمين لا يجب في حق المسلم فنقول لأنها يمين وجبت في حق فلم يزد فيها على لفظ الإخلاص أصله في حق المسلم، ولأنه كافر فلم يزد في إحلافه على اسم الله وصفة الإخلاص كالوثني، ولأن زيادة هذه الصفات إن كانت لاختصاص الكتابيين بها فيجب أن يزاد الذي كلم موسى على الطور وغير ذلك فيجب أن يزاد على الوثني اللاة والعزى لأن ذلك هو الذي يعظم وذلك باطل. فصل [30 - في الحلف قائمًا واستقبال القبلة في ذلك؟]: يحلف قائما في كل الحقوق (3) لأن ذلك أبلغ في الشرح والزجر وأما استقبال القبلة فقيل إنه لا يحتاج إليه لأنه لما لم يغلظ بأن يحلف عندها لم يغلظ باستقبالها كسائر المواضع وقيل يستقبل بالحالف القبلة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير المجالس ما استقبل به القبلة" (4) لأن ذلك أردع له وأزجر، ولأن استقبال القبلة يعظمها المسلمون ما لا يعظمون (5) الانحراف عنها ألا ترى أنه يفعل بالمحتضر وفي الدفن وعند الذبح والآذان فكذلك في اليمين. فصل [31 - في افتداء اليمين]: يجوز افتداء اليمين وهو أن يبذل شيئًا لتسقط عنه (6) لأنه إجماع الصحابة   (1) انظر المدونة: 4/ 72، التفريع: 2/ 244، الكافي: 480. (2) انظر مختصر المزني: 309. (3) انظر المدونة: 4/ 71، الرسالة ن: 245، الكافي: 479 - 480. (4) سبق تخريج الحديث. (5) في ق: يعلمون. (6) انظر م المدونة: 4/ 71، الكافي: 480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1587 وروي أن عثمان رضي الله عنه خاصمه يهودي إلى عمر وادعى عليه أربعة آلاف درهم فوجبت (1) عليه اليمين فأبى أن يحلف وغرم المال فلما فعل ذلك وقال: والله ماله علي شيء فقال عمر ما حملك على ما فعلت قال خفت أن يصادف يمين قدرا (2) فيقول الناس ظلم عثمان اليهودي ولم ينكر عليه عمر (3)، ولأن ابن مسعود أُخِذ بأرض الحبشة فصالح (4) عن نفسه بدينارين (5)، ولأن في الاستحلاف مذلة (6) وامتهانا فجاز للإنسان الافتداء منها صيانة للعرض وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "ما وقي به المرء عرضه فهو صدقة (7) ". فصل [32 - في استحلاف المرأة في بيتها]: وإذا كانت المرأة من ذوات الأقدار والشرف جاز أن يبعث الحاكم إليها من يحلفها (8) لأن في ذلك صيانة لها وإقلالًا من تبذيلها، ولا مقال للخصم في ذلك لأن الذي يجب له إحلافها دون تبذيلها وإن كانت ممن لا تخرج نهارًا جاز أن تؤخر لتخرج ليلًا زيادة في الصيانة وقلة التبذل. فصل [33 - فيمن أراد كتابة كتاب على غيره]: من أراد أن يكتب على غيره كتابًا بذكر حق أملاه الذي عليه الحق وإن أملاه الذي له الحق بحضرته ورضاه فلا بأس به وإن ارتضيا بمن يمليه غيرهما جاز   (1) في م: فتزحمت. (2) في ق: القدر. (3) انظر سنن البيهقي: 10/ 177. (4) في م: فصانع. (5) سنن البيهقي: 10/ 139. (6) في م: بذلة. (7) أخرجه الحاكم: 2/ 50. (8) انظر المدونة: 4/ 103، التفريع: 2/ 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1588 وأجرة الكتاب عليهما وإن كان الدين لجماعة فأجرة الكتاب عليهم بالسوية اتفقت سهامهم أو اختلفت (1). وإنما قلنا إنه يمل الذي عليه الحق لقوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق} (2)، ولأن الذي له الحق قد يزيد (3) فيما له عليه ويتغافل عنه الذي عليه الحق فإذا أملاها الذي عليه الحق كان ذلك أمنا لها يخاف منه وقد وعظ الله الذي عليه الحق فقال {وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا} (4)، ولأنه قد يزيد الذي له الحق في التوثق على ما يجب له وذلك غير جائز، ولأن الذي عليه الحق إذا أملاه صار ذلك إقرارا منه فيعتد به وإذا أملاه الذي كان مدعيا والدعوى لا يعتد بها فيقال للذي عليه إذا أملاه أنت لتقربها عليك فإن كان سها أو غير عالم بالشروط أمل ذلك وليه الذي إليه أمره أو وكيله لأنه إذا كان عن أمره فإقراره حاصل. وإنما قلنا إن أملاه صاحب الحق بحضرته ورضاه جاز لأن التهمة تزول عنه وتصير كأن الذي هو عليه أمله فيكون إقرارا، وإنما قلنا إن الأجرة عليهما لأن الكاتب أجير لهما، وإنما قلنا إنها تكون على أهل الدين بالسوية وإن اختلفت أنصباؤهم لأن التعب في ذلك واحد فليس نصيب واحد منهم أكثر من نصيب الآخر والله أعلم. ...   (1) انظر المدونة: 4/ 76، التفريع: 2/ 246، الكافي: 498. (2) سورة البقرة، الآية: 282. (3) في م: قد ينسى. (4) سورة البقرة، الآية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1589 كتاب الحبس والوقوف والصدقة والعمرى والرقبي وما يتصل بذلك قال القاضي: الحبس والوقف (1) صحيح لازم لا يفتقر لزومه إلى حاكم به (2) وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزم الوقف ولا يزول (3) عن ملك الواقف قبض أو لم يقبض وله الرجوع عنه بالبيع والهبة، ويورث عنه إن مات إلا أن يحكم به حاكم أو يكون الوقف مسجدًا أو سقاية أو يوصي به فيكون في ثلث (4). فدليلنا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5)، وإجماع الصحابة بعده من غير خلاف منهم الأئمة الأربعة وطلحة (6) والزبير (7) وزيد بن ثابت وعائشة وأبو رافع (8)   (1) الحبس: قال الرصاع: الفقهاء بعضهم يعبر بالحبس وبعضهم يعبر بالوقف، والوقف عندهم أقوى في التحبيس وهما في اللغة لفظان مترادفان يطلق على الإعطاء، وفي الاصطلاح: إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديرًا (شرح الرصاع على ابن عرفه: 410، 411). (2) انظر المدونة: 4/ 343، التفريع: 2/ 307، الرسالة: 230، الكافي: 536. (3) انظر الأم: 4/ 58، مختصر المزني: 133، الإقناع: 119. (4) انظر مختصر الطحاوي: 137 - 138، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 180. (5) في قصة عمر بن الخطاب التي سيأتي ذكرها قريبًا. (6) طلحة: بن عبد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة اليمني أبو محمَّد المدني، أحد العشرة مشهور استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين وهو ابن ثلاث وستين (تقريب التهذيب: 282). (7) الزبير: سقط من ق. (8) أبو رافع: القبطي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمه إبراهيم وقيل أسلم أو ثابت أو هرمز مات في أول خلافة عليّ على الصحيح (تقريب التهذيب: 639). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1591 وخالد بن الوليد (1) وابن عمر وغيرهم. (2) رضوان الله عليهم، وكذلك قال مالك: هذه صدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والخلفاء (3) معروفة عندنا (4)، وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني أصبت أرضا بخيبر وهي من أنفس مال أصبته وإني أريد أن أتصدق بها فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "حبسن الأرض وسبل الثمرة" (5) وفي طريق آخر فتصدق به عمر وكتب هذا ما تصدق به عمر بن الخطاب صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، على الفقراء وذوي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف (6)، ففيه أدلة: أحدها قوله - صلى الله عليه وسلم - "حبس الأرض" وذلك يقتضي التأبيد وانتفاء الرجوع فيه، والثاني أن عمر استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأشار عليه به فدل على أنه يلزم وإلا لم يكن قد دله على مراده، والثالث أنه كتب لا يباع ولا يوهب ولا يورث بعد إذنه - صلى الله عليه وسلم - فيه لأنه تحبيس أصل على وجه القربة فلم يفتقر إلى حكم حاكم أصله المسجد. وقولنا أصل (7) احترازا من الحيوان والعروض على إحدى الروايتين، ولأنه ضرب من العطية يلزم بعد الوفاة بالوصية فوجب أن يلزم بفعله حال الحياة أصله   (1) خالد بن الوليد: ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي سيف الله، أبو سليمان من كبار الصحابة كان أميرا على قتال أهل الردة وغيرها من الفتوح إلى أن سنة إحدى أو اثنين وعشرين (تقريب التهذيب: 191). (2) انظر البيهقي: 10/ 1601 - 163، عبد الرزاق: 10/ 377، كنز العمال: 6/ 65، المحلي: 9/ 180. (3) والخلفاء: سقطت من ق. (4) ذكره هذا النص الباجي في المنتقي: 6/ 122، وابن رشد في المقدمات: 4182. (5) أخرجه البخاري في الشروط في الوقف: 3/ 185، ومسلم في الوصية: 3/ 1255. (6) هذا تتمة للحديث السابق. (7) في م: أصلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1592 الهبة والصدقة، ولأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم يفتقر إلى حكم حاكم أصله العتق ويزيد (1) في الفرع إزالة ملك عن منافع الرقبة المحبسة. فصل [1 - جوز الحبس في المحوز والمشاع]: ويجوز ذلك في المحوز والمشاع خلافًا لأبي يوسف (2) ومحمد (3)، لحديث عمر أنه أصاب مائة سهم وذلك يقتضي أنه مشاع، ولأنها عرصة يجوز بيعها فجاز وقفها كالمحوز. وعنه في حبس غير العقار من الحيوان روايتان (4): إحداهما المنع، والأخرى الجواز، ومن أصحابنا من يقول إن حبس الخيل جائز، وإنما الخلاف في غيرها: فوجه المنع أن الأخبار إنما وردت في العقار دون غيره فلم يجز تعديه، ولأن الحبس والوقف إنما يراد للتأبيد والدوام وذلك لا يمكن إلا في العقار فلم يجز في غيره مما يتغير ولا يدوم ألا ترى أن الشفعة لما استحقت لإزالة الضرر على وجه الدوام اختصت بالعقار دون غيره لأن الدوام لا يوجد في غيره غالبًا لسرعة تغيره، ووجه الجواز قوله - صلى الله عليه وسلم - "إنكم تظلمون خالدا أنه حبس أذرعه وأعبده في سبيل الله" (5) والأذرع الخيل وروي أن أبا معقل (6) وقف بعيرًا له فقيل   (1) في م: نريد. (2) انظر مختصر الطحاوي: 136 - 137، ومختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 181، وفيه أن "وقف المشاع جائز عند أبي يوسف وقال محمَّد لا يجوز. (3) محمَّد بن الحسن: ابن فرقد أبو عبد الله الشيباني صاحب أبي حنيفة وناشر فققه، أحد علماء وقضاة الإسلام، ولد بواسط ونشأ بالكوفة ولاه الرشيد القضاء بالرقة ت 189 هـ (شذرات الذهب: 1/ 321 وفيات الأعيان: 4/ 184). (4) انظر المدونة: 4/ 342، التفريع: 2/ 308 - 310، الكافي: 536. (5) أخرجه البخاري في الزكاة باب قول الله تعالى: {وفي الرقاب ..}: 2/ 148. ومسلم في الزكاة باب في تقديم الزكاة ومنعهما: 2/ 676. (6) أبو معقل: الأبيدي الأنصاري يقال اسمه الهيثم، صاحبي وهو والد معقل وزوج أم معقل (تقريب التهذيب: 674). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1593 لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر وإن أم معقل قالت: يا رسول الله أريد الحج وإنه وقف السبيل فأركبه فقال: "اركبيه، فإن الحج من سبيل الله" (1)، ولأنه أصل يبقى ويصح الانتفاع به كالعقار. فصل [2 - في عدم جواز البيع واستبدال الربع المحبس]: الربع الموقف أو المحبس حبسا محرمًا لا يجوز بيعه إذا خرب ولا الاستبدال به بوجه (2) لأن في بيعه إبطال شرط الواقف وحلا لما عقده وذلك غير جائز، واعتبارًا به إذا لم يخرب، ولأن العمارة تنتقل من مكان إلى مكان فلم يكن في تبقيته إتلاف له لجواز عودة العمارة إليه، ولأن في بيعه إبطالًا لحق من جعل له فيه حق بعد هذا البطن (3) ولا سبيل إلى ذلك وجوار بيعه محكي عن ربيعة (4) وأظن بعض أصحابنا يذهب إليه ولست أحققه (5) في هذا الوقت (6). فصل [3 - في الفرس المحبس وغيره إذا هرم أو كلب]: وأما الفرس أو غيره إذا كلب أو حطم أو هرم وخيف عليه العطب فيجوز بيعه عند ابن القاسم ولا يجوز بيعه عند عبد الملك، فوجه قول ابن القاسم إنه إذا لم يبق فيه منفعة في الحال ولا في المترقب في الوجه الذي حبس عليه لم يكن في تبقيته فائدة إلا تعريضه للتلف وذلك غير جائز لأن إضاعة المال منهي عنها   (1) أخرجه أبو داود في المناسك باب العمرة: 2/ 504، وأخرجه النسائي مختصرًا: 1/ 300. وأخرجه ابن ماجه مختصرًا أيضًا في الحج باب العمرة في رمضان: 2/ 996، والحاكم: 1/ 183، وصححه الألباني في إروائه: 6/ 33. (2) انظر المدونة: 4/ 342، التفريع: 2/ 307 - 308، الكافي: 41. (3) في م: النظر. (4) انظر الكافي: 541. (5) في ق: ونسيت تحققه وفي ر: ولست أتحققه. (6) قاله عبد الملك وطائفة من المالكيين (الكافي: 541). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1594 ومتى بيع هذا الفرس الذي قد كلب أو دخل العيب قوائمه لم يكن القتال عليه أمكن أن ينتفع به مشتريه في غير ذلك الوجه بأن يطحن (1) عليه أو يعمل عليه وابتيع بثمنه غيره فكان ذلك أولى من إضاعته، ولأن في تبقيته ومنع بيعه إنما يراد لئلا يبطل شرط الواقف متى بيع وتبقيته تؤول إلى ذلك من غير نفع فكان إبطال الشرط بما يقوم مقامه ويسد بعض (2) مسده أولى. ووجه قول عبد الملك اعتباره بالرباع بعلة أنها عين أبد حبسها فلم يجز بيعها، فإذا ثبت هذا وبيعت على قول مالك وابن القاسم جعل ثمنها في مثلها إن بلغ وإلا أعين به في مثله وانتفع في ذلك الوجه الذي حبس الأصل فيه لأن بدل الشيء يقوم مقامه وهذا كله على قول (3) أن حبس الحيوان جائز فأما إذا قال أن حبسه لا يصح فلا معنى لهذا الفرع ويجوز على الإطلاق. فصل [4 - الألفاظ التي ينعقد بها الوقف]: الألفاظ التي ينعقد بها الوقف هي أن يقول وقفت وحبست وتصدقت وما أشبه ذلك مما يفيد معناه (4) فأما لفظ الوقف فإنه صريح في التأبيد فإذا قال وقفت هذ الدار وقال هذه الدار وقف كان هذا القدر كافيا في تأبيد (5) تحريمها فلا يرجع ملكا أبدًا وإن ضم إلى ذلك أن يقول وقف لا تباع ولا توهب ولا تورث فذلك تأكيد والاقتصار على لفظ الوقف كاف. وإنما قلنا ذلك لأن مفهوم هذه اللفظة في العرف أنه يقصد بها السبيل وتأبيد حبسها وتمليك منفعتها على الدوام فوجب الحكم بذلك فيها، فأما لفظ الحبس   (1) انظر المدونة: 4/ 342، التفريع: 2/ 310، الرسالة: 230، الكافي: 541. (2) بعض: سقطت من م. (3) في م قوله. (4) انظر المدونة: 4/ 343، التفريع: 2/ 308، الكافي: 536، المقدمات: 2/ 419. (5) في م: تأثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1595 فهو أن يقول داري هذه حبس في وجه كذا أو لا يقول، لكن (1) إن قال حبس فقط أو قال قد حبستها فإنها تكون حبسًا (2) في الوجه الذي جعله فيه وإن لم يذكر له وجهًا بل قال: حبس فقط صرف في وجوه البر والخير، فأما الحكم في تأبيده فينظر فإن لم ينضم إلى ذلك أن يقول: وقف لا تباع ولا توهب أو غير ذلك مما يفيد التأبيد وكانت على معين أو جماعة بأعيانهم غير مجهولين ولا موصوفين مثل أن يقول: حبس على فلان لرجل بعينه أو على قوم بأعيانهم ولم يذكر عقبا ولا نسلًا فقد اختلف قوله في ذلك هل يتأبد أم لا ففي روايتان: (3) إحداهما أنه لا يتأبد ويصرف أولًا في الوجه الذي جعله فيه (فإذا زال عاد ملكا له إن كان باقيا أو لورثته إن كان ميتًا، والأخرى أنه يتأبد فيصرف أولا في الوجه الذي جعله) (4) فيه فإذا انقرض عاد حبسًا إلى أقرب الناس بالمحبس عليه، فإن لم يكن له قرابة عاد إلى الفقراء والمساكين، فأما إن انضم إلى لفظ الحبس في المعنيين (5) بعض ألفاظ (6) التأبيد مثل أن يقول حبس وقف أو محرم أو مؤبد أو لا تباع ولا توهب أو جعل إطلاق لفظه في مجهولين أو موصوفين كالفقراء والعلماء أو بني تميم (7) أو فلان وعقيبه أو على ولدي وعقبهم ولم يعين ولا ذكر مرجعا فلا يختلف المذهب في هذين الوجهين أنهما يفيدان التأبيد والتحريم، فأما لفظ الصدقة وهو أن يقول هذه الدار صدقه على فلان فإنه على وجهين: أحدهما أن يريد تمليكه الرقبة والآخر أن يريد الحبس فإن أراد المتصدق   (1) في م: إلا أن كان. (2) في ق: حبسها. (3) انظر المدونة: 4/ 343، التفريع: 2/ 308، الكافي: 537 - 538. (4) ما بين قوسين سقط من ق وأكمل النقص من ر. (5) في ق: في الهيئتين. (6) في ق: لفظ. (7) بني تميم: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1596 تمليك الرقبه جاز وكون ملكا للمتصدق عليه كالهبة، وإن أراد به معنى التحبيس فذلك على وجهين إنك كان على رجل معين أو قوم معينين غير مجهولين ولم يذكر عقبى ففيها روايتان على ما بيناه في لفظ الحبس: إحداهما أنه لا يتأبد فيصرف أولًا فيمن نص عليه فإذا انقرض ذلك الوجه عادت ملكا، والأخرى أنها تتأبد فتصرف في الوجه الذي جعلت فيه فإذا انقرض عادت إلى الفقراء والمساكين، وأما إن جعلها في قوم مجهولين أو موجودين لا يحاط بعددهم كبني تميم (1) وبني تغلب (2) أو على موصوفين كالعلماء والفقراء أو شرط في المعنيين أعقابهم فإنها تتأبد ولا تكون ملكا وكذلك ذكر ابن عبد الحكم (3) عن بعض أصحابنا في هذا إذا قال صدقة على فلان وعقبه ما عاشوا ولم يقل حبسا أنها تكون ملكا لآخر عقيب من رجل أو امرأة ويتصرف فيه بما شاء من بيع أو غيره قال وأكثر أصحابنا يرونة حبسا وهذا الذي قاله ليس بشيء والصحيح أنها تكون حبسا، وأما إذا أطلق لفظ الصدقة ولم يضم إليه ما يقتضي معنى الحبس لا من لفظ التأبيد ولا من صفات المتصدق عليهم فلا يكون معنى الحبس لأنه ظاهر الصدقة تقتضي تمليك الرقبة، وإنما ينصرف إلى الحبس بقرينة تنضم إليه، فأما إن جمع بين لفظ الحبس والصدقة فقال هذه الدار حبس صدقة أو قال حبس فإن ضم إلى ذلك لا تباع ولا توهب أو قال محرمة أو مؤبدة أو وقف فلا يختلف المذهب إنما تتأبد بذلك، وإن لم يقل إلا حبسا   (1) بنو تميم: نسبة إلى تميم والمنتسب إليها جماعة من الصحابة والتابعين إلى زماننا وهو تميم بن مرة بن ادبن بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (الأنساب للسمعاني: 3/ 77). (2) بنو تغلب: نسبة إلى تغلب وهي قبيلة معروفة وهي تغلب بن وائل بن قاسط ابن ابن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان (الأنساب للسمعاني: 3/ 57). (3) في م ابن عبدوس والصحيح ما في ق تبعًا لما جاء في المقدمات: 2/ 420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1597 صدقة أو صدقة حبسا ولا ذكر مجهولين ولا عقبى فاختلف أصحابنا في تخريج قول مالك فيها: فمنهم من قال إنها على روايتين كقوله حبسا فقط ومنهم من قال على رواية واحدة إنها ترجع حبسا ولا تعود ملكا هذه جملة مما ذكره أصحابنا في ألفاظ الحبس والوقف ونحن نتكلم على تفصيلها. فصل [5 - في أن لفظ الوقف يفيد بمجرده التحريم والتأبيد]: قد بينا أن لفظ الوقف يفيد بمجرده التحريم والتأبيد، ووجه قوله في الحبس المطلق على المعنيين أنه يرجع ملكا هو أن مجرد لفظ التحبيس لا يقتضي التأبيد والتحريم لامن لفظه ولا من معناه لأن لفظه مجرد على التحريم ومعناه أن (1) المنفعة لمن جعلت فقط حبس عليهم لا تخرج عنهم فأما تحريمها بعد انقراضهم لأنه مما لا يستفاد به فإذا كان كذلك وجب عودها ملكا للمحبس (لأنها على أصل ملكه لزوال الحق الذي يتعلق بها فإذا وصفت بالتأبيد والتحريم) (2) فقد انضم إلى لفظه ما دل على المراد به فلذلك قلنا أنه مؤبد وكذلك إذا جعل على مجهولين أو موصوفين فإنه يقوم مقام التأبيد والتحريم ويدل على أن المحبس أراد ألا يرجع ملكا لأنه ملك منفعتها لمجهولين لا يحاط بعددهم ولا يعلم انقراضهم وكذلك الموصوفين بصفة لأن ذلك ينتظم الموجودين والمعدومين فدل هذا على أنه قصد بذلك التحريم. ووجه قوله أنها تكون حبسا محرمة قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه "حبس الأصل وسبل الثمرة" (3) وموضع التعلق منه أن عمر أراد أن يتصدق بالأصل صدقة تبتدأ وهي تمليك رقبته فأشار عليه بأن يحبس أصله ويسبل الثمرة، فدل على أن الأصل يتأبد تحريمه ولو لم يكن كذلك لم يكن الغرض حاصلًا لأنه كان   (1) في ق لان. (2) ما بين قوسين سقط من ق. (3) سبق تخريج الحديث 1592. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1598 يعود إلى ملكه فيبطل غرضه في التصدق به، ولأن إطلاق القول أن هذا حبس منافعه على التأبيد مستحقه لأنه لم يقيد ذلك بوقت دون وقت فكان الإطلاق مقتضيًا للتأبيد وليس يخرجه عن ذلك بيانه لمن حبست عليه أن يقول حبس على فلان لأن ذلك لا يفيد تقييد الحبس (1) وإنما يفيد التبدئة فقط، ولأنه لفظ يقتضي التحبيس فوجب أن يستحق التأبيد بإطلاقه أصله لفظ الوقف، ولأن لفظ حبس مطلق فوجب أن يقتضي التحريم أصل إذا كان على مجهولين. فصل [6 - في المراد من لفظ الصدقة]: وأما لفظ الصدقة فإن أراد به وجه الحبس (فقد بينا أن الاختلاف فيه كهو في لفظ الحبس) (2) فوجه القول بأنه لا يتأبد أن إيجابه التصدق بالمنفعة (3) على زيد أو ولده المعينين أو في وجه كذا لا يوجب التحريم لا من لفظه ولا من معناه وإنما يقتضى تبقيته ما دام الوجه صرف فيه باقيًا فإذا زال عاد إلى ملكه بالأصل، ووجه القول بأنه يوجب التأبيد أن إطلاق لفظ التصدق به يفيد التخلي منه فكان كالوقف. فصل [7 - إذا جمع بين اللفظين في الوقف]: فأما إذا جمع بين اللفظين (4) فوجه القول بأنه لا يتأبد أن ذلك مبني علي أن كل واحد بانفراده غير متأبد، فإذا جمعهما لم يتم جمعه بهما التأبيد لأن الجمع بين اللفظين لا يجعل لهما حكمًا يخالف حكم الانفراد، ووجه القول بالتأبيد أن فائدة التأبيد تحريم المحبس وتأبيده كقوله: لا يباع ولا يوهب. فصل [8 - إذا جعل الوقف في قوم مجهولين أو موصوفين]: وإنما قلنا إنه إذا جعله في قوم مجهولين أو موصوفين أن ذلك يكون على   (1) في ق: الحق. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) في ق: بالنصف. (4) في م: الوصفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1599 التأبيد فلأن غير المحرم إنما يعود إلى المحبس بشرط انقراض المحبس عليهم فإذا صرفه إلى المجهولين علمنا أنه أراد التأبيد بأنه لا يعلم انقراضهم وكذلك الموصوفون لأن ذلك ينتظم المعدوم والموجود وذلك يقتضي تعلق حقهم به ما أمكن وجودهم وكذلك (1) العقب يقتضى التأبيد إلا أن يكون أصله معينا فإنه بتعيين أصله. وإنما قلنا إنه إذا قال هذه الدار حبس ولم يعين الوجه الذي تصرف فيه فإنها تصرف في وجوه الخير والبر لأن الحبس والوقف يراد به وجه الله تعالى والقربة إليه وذلك يتعين بتعيينه فإذا لم يعينه كان مطلقا فيها ولم يجز إبطاله لأنه لو صرح بذلك لكان هذا حكمه. ومن شرط الحبس والوقف أن يخرج من يده في صحته فإن أقام في يده حياته أو إلى مرضه الذي مات فيه فإنه يبطل ويكون ميراثًا إلا أن يكون أخرجه عن يده مدة يسيرة (2) فيها ثم أعاده إلى نظره فكان يصرف غلاته في وجوهها ويقوم بها فإن ذلك لا يبطل الحبس. وإنما قلنا ذلك لحديث أبي بكر رضي الله عنه أنه كان نحل عائشة رضي الله عنها جذاذ عشرين وسقا فلم يقبضه حتى مرض مرضه الذي مات منه فقال لها: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث (3)، ولأن ذلك طريق إلى أن ينتفع الإنسان بماله في حياته ويخرجه عن ورثته بعد موته فلا ينفع الحجر عليه شيئًا فأما إن عاد إليه فكان يليه ويصرف غلاته في وجوهها وسلبها (4) فإنه لا يبطل لأن التهمة تزول عنه إذا كان أخرجه عنه مدة بينة وأشهر (5) أمره،   (1) في م: ذلك. (2) في ق: لأبيهم. (3) أخرجه البيهقي: 6/ 178. (4) في م: ويسبلها. (5) في ق: وأشهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1600 ولا حد لهذه المدة إلا ما يعلم في مثله أنه لم يقصد انتفاعه بالمال (1) حياته وأدوا ورثته عنه، وابن القاسم يحد فيه سنة لأنها مدة وضعت للاختيار كإقامة البكر عند الزوج والعنين وعهدة السنة، وكان شيخنا أبو بكر رحمه الله (2) يقول: القياس ألا يصح رجوعه إلى يده طالت المده أو قصرت. وإنما قلنا إنه كان المحبس (3) عليه من هو في ولايته فإن قبضه له قبض وكذلك الهبة لأنه ليس من أهل القبض لنفسه والنظر لها فكان قبض وليه قبضا له فلا يجوز أن يمكن ما وقفه على ولده الصغير لأن ذلك ذريعة إلى أن ينتفع بماله حياته ثم يخرجه عن ورثته بعد موته فوحب حسم الباب بمنعه. فصل [9 - حكم الحبس المتأبد بانقراض الوجه الذي جعل فيه]: وإنما قلنا إن المحبس المتأبد إذا انقرض الوجه الذي جعل فيه عاد إلى أقرب الناس بالمحبس لأن الصدقة على الأقارب أولى منها على الأباعد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "لا يقبل الله صدقه وذو رحم محتاج" (4)، وقال لأبي طلحة: "اجعلها في الأقربين" (5)، وقال - صلى الله عليه وسلم - "خير الصدفة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" (6). فصل [10 - الوقف في الصحة وفي المرض] الوقف في الصحة من رأس المال وفي المرض أو الوصية من الثلث (7) لأن   (1) في م: بالملك. (2) رحمه الله سقطت من م. (3) في ق: الحبس. (4) لم أعثر على تخريج هذا الحديث. (5) أخرجه البخاري في باب الزكاة على الأقارب: 2/ 126، ومسلم في الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين: 2/ 694. (6) أخرجه البخاري في الوصايا باب تأويل قوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} 3/ 189 مسلم في الزكاة، باب اليد العليا خير من السفلى 2/ 717. (7) انظر المدونة: 4/ 344، 346، التفريع: 2/ 308، الرسالة: 230، الكافي: 537. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1601 الصحيح لا يتعلق عليه حجر (1) لأحد في ماله ولا الوارث ولا غيره فكانت عطاياه وهباته من رأس المال، والمريض محجور عليه من أجل ورثته فما يفعله موقوف على الثلث بعد موته لأنه ليس له أن يخرج عنهم زيادة على الثلث بعد موته لأن ذلك تقدير ما جعل له، وإنما لم يحكم بتنجيزه من الثلث في الحال لجواز أن يتلف الثلثان الباقيان ويموت هو عن هذا المقدار فقط لأن الاعتبار ما يتركه بعد الموت لا قبله فيؤدي إلى أن يكون الوصايا قد نفذت قبل حصول الثلثين للورثة وذلك غير جائز. فصل [11 - في عدم جواز وقف الإنسان على نفسه]: ووقف الإنسان على نفسه لا يصح (2) خلافًا لما يحكى عن أبي يوسف (3) لأنه إذا ملك شيئًا بضرب من ضروب الملك لم يملك نقله إلى نفسه بغير ذلك الوجه أصله إذا وهب لنفسه شيئًا من ماله. فصل [12 - حكم من وقف وقفا في مرضه أو وصيته]: وإن وقف في مرضه أو وصيته شيئًا على ورثته خاصة دون غيرهم لم يصح ذلك وكان ملكا للورثة (4) لأن ذلك يجري مجرى الوقف على نفسه ولأنه يوقف (5) عليهم ملكهم ويمنع التصرف فيه وذلك غير جائز فيه، وإن وقف على بعضهم لم يجز أيضًا، فإن دخل معهم أجانب نفذ (6) الوقف من الثلث وقسم   (1) في م: حجه. (2) انظر مواهب الجليل: 6/ 24 - 25، حاشية الدسوقي: 4/ 80. (3) انظر مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 185 - 186. (4) انظر المدونة: 4/ 344، التفريع: 2/ 308، الكافي: 537. (5) في متى: ولا يوقف. (6) في ق: يعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1602 نصيب الورثة على الشرط الذي شرطه وأخذ الأجانب حقوقهم، وإنما يصح الوقف إذا دخل فيه الأجانب لأنه قد وقفه على من يصح الوقف عليه ولم يرد تفضيل بعض الورثة على بعض. وإذا وقف على بعض ورثته وعلى أجانب كان ما يصيب الوارث بينه وبين باقي الورثة، ومن مات من الورثة، الذين لم يدخلهم في الوقف قام وارثهم مقامهم لأنه لا يرث عنه جميع حقوق المال التي كانت له فإذا مات الوارث الموقوف له انقطع حق باقي الورثة فيما كان يصيبه خاصة فإذا مات جميع الورثة الموقوف (1) عليهم انقطع حق باقي الورثة جملة وحصلت بغير الورثة. فصل [13 - إذا حبس على جماعة شيئًا ثم جعله في وجه آخر بعد انقراضهم]: إذا حبس على جماعة شيئًا ثم جعله في وجه آخر بعد انقراضهم فمات بعضهم: فإن كان ذلك الشيء مما يتجزأ أو ينقسم كالغلة والثمرة وما أشبه ذلك فإن حصة الميت تكون في الوجه الذي جعل فيه بعد انقراضهم ولا يرجع على من بقي من أهل الحبس وإن كان مما لا ينقسم كالعبد يُختدم والدابة تركب ففيها روايتان: إحداهما أنه كالذي ينقسم (ترجع حصة الميت إلى الوجه الذي نفذه) (2)، والأخرى أنه ترجع حصة من مات من أهل الوقف على من بقي منهم فإذا انقرض جميعهم صارت إلى الوجه الذي بعدهم (3). وإنما قلنا إنه إذا كان مما يتجزأ وينقسم فإن حصة الميت لا تعود إلى من بقي من أهل الحبس لأن كل واحد منفرد عن حق الآخر لا تعلق به وكان موته في وجوب   (1) في م: الموقف. (2) ما بين قوسين سقط من ق. (3) انظر المدونة: 4/ 347 - 348، التفريع: 3/ 309، الرسالة: 230، الكافي: 537 - 538. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1603 عود نصيبه إلى من بعده كموت الجميع، ولأن الحبس لا يورث بالشركة فلو قلنا إن حصة الميت تعود إلى من بقي من غير شرط المحبس لذلك لكان كالميراث، ووجه قوله فيما لم ينقسم أن حصة الميت لا تعود إلا من دمعه (1) منهم اعتبارًا بما يقسم، وووجه قوله (2) إنها تعود إلى من كان معه في الحبس أن الضرر يحصل في ذلك لسوء المشاركة بخلاف المتميز والأول أقيس. وإن كان الحبس مسكنًا فإنه على وجهين إن حبس عليهم للغلة فعلى ما ذكرناه من المتميز المنقسم وإن كان للسكنى فعلى الخلاف. إذا أسكن إنسانًا داره إلى مدة معلومة فقد ملك المسكن الانتفاع بتمليك المدة وليس للمالك الرجوع فيه فإن مات (الرجل المحبس عليه فبقيت السكنى إلى المدة لورثته لأنه مات) (3) عن حق له يصح الإرث في نوعه فورثه وورثته كما لو كان على معارضة، وتقييده بالنوع احترازا من الوطء، وإن دفع صاحب الدار إليه شيئًا على أن يدع السكنى جاز لأن ذلك ليس بمعاوضة وإنما انتقال من هبه إلى هبه ولأن الأصل الإسكان قربة والقربة قد سومح فيها عما غلظ في المعاوضة كجواز الشركة والتولية في بيع الطعام قبل القبض وكذلك القرض والهبة وبيع المكاتب كتابته بما لا يجوز بيعها من الأجنبي وما أشبه ذلك لحرمة العتاقة وأنه ليس القصد محض المعاوضة وإنما القصد كمال الحرية والرفق بالعبد كذلك ها هنا. فصل [14 - في إطلاق الحبس]: وإذا أطلق الحبس ولم يشترط تقديما ولا تبدية فإنه يؤثر في الإسكان والقيمة (4)   (1) في ق: بقي. (2) ووجه قوله: سقط من م. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م ور: القسمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1604 أهل الحاجة لأن أصل الحبس إنما يقصد به القربة والثواب لسد الخلة ودفع الحاجة لأصل الحبس فيجب أن يكون من اشتد حاجته أدخل في الاستحقاق ممن قل عنه، ولا يخرج من سكن لحدوث من هو أحوج منه لأن الأول سكن بحق فكان أحق بالحيازة والسبق فإن شرط للحبس تقديما أو تبدية كان ما شرطه. فصل [15 - فيمن حبس دارا فسكن بيتا أو شيئًا يسيرًا منها]: إذا حبس دارا فسكن بيتا صغيرا أو شيئًا يسيرا منها أو دورًا عدة فسكن دارًا منها يسيرة فيما بقي جاز الحبس كله ما يسكن وما لم يسكنه (وإن سكن شيئًا كثيرًا بطل الحبس ما سكنه وما لم يسكنه) (1)، وقال ابن القاسم يجوز ما لم يسكنه ويبطل ما سكنه ولم يفرق في الموضعين بين القليل والكثير وقيل يبطل الجميع (2). فوجه القول بأنه لا يبطل إذا كان سكنًا يسيرًا هو أن ذلك لا تهمة فيه أن يكون أراد الانتفاع بماله حياته وصرفه عن ورثته بعد موته لأن القدر الذي ينتفع به يسير الخطب كاللبن يشربه من غنم يحبسها أو التمر اليسير يأكله من حائط يحبسه، ولأن سكناه في الغالب لمراعاته وحفظه والنظر في مصالحه. ووجه القول بأنه ينفذ ما لم يسكن ويبطل ما سكن لأن ما سكن لم يحز عليه فلم ينفذ حبسه عليه، وما لم يسكنه فقد حيز عليه فزالت التهمة فيه فوجب نفوذ الحبس فيه، ووجه منع الجميع أن الحبس إذا كان واحدا بطل جميعه ببطلان بعضه لأن حكمه واحد غير متبعض. فصل [16 - في العمرى]: العمري (3): هبة منافع الدار عمر الرجل مدفوعة إليه وليست بتمليك الرقبة،   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) انظر التفريع: 3/ 311، الرسالة: 230، الكافي: 539. (3) العمري: يقال: أعمرته دارا أو أرضا إذا أعطيته إياها وقلت له هي لك عمري أو عمرك فإذا من رجعت إلى (غرر المقالة: 230). وعرفها ابن عرفه بقوله: تمليك منفعة حياة المعطي بغير عوض إنشاء (حدود ابن عرفة: 419). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1605 وصفتها: أن يقول رجل لرجل: أعمرتك هذه الدار أو أسكنتكها حياتك أو عمرك أو مدة بقائك أو منحتكها أو ما أشبه ذلك من الألفاظ التي يفهم منها تمليكه المنافع عمره، وهذا لم يملكه رقبة الشيء وإنما ملكه المنافع فما دام المعطي حيا فالمنافع له بقي المالك أو مات، وإن مات المعطي عادت إلى المالك إن كان حيا أو إلى ورثته إن كان ميتا ميراثا كسائر تركاته وعند الشافعي أن المعمر يملك رقبة الدار إذا (1) أعمرها. وإنما قلنا ذلك لأن المعمر لما شرط للمعطي أن تكون له عمره علمنا أنه أراد تمليك الانتفاع لأن تمليك الرقبة لا يصح إلا على التأبيد دون اشتراط العمر لأنه لو قال ملكته هذه الدار عمرك أو حياتك أو ما دمت حيا لم يصح ذلك ولم يملكها فعلم بتوقيته إياها بالمدة أنه أراد السكنى دون الرقبة وهذا إذا قال أعمرتك ولم يذكر العقب، فأما إن قال لك ولعقبك فإنها تكون للمعمر حياته فإذا مات كانت لورثته أبدا ما بقي من عقبه إنسان فإذا انقرض عقبه ولم يبق منهم أحد عادت إلى المالك إن كان حيا أو إلى ورثته إن كان قد مات على ما بيناه (2). * * *   (1) في ق: إلى. (2) انظر الموطأ: 2/ 756، الرسالة: 230، الكافي: 541 - 542. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1606 باب [- في صحة ولزوم عقد الصدقة والهبة من غير قبض] عقد الصدقة والهبة يصح ويلزم من غير قبض، لكن القبض شرط في نفوذه وتمامه، فإن قال تصدقت عليك بهذا الثوب أو العبد أو الدار أو غير ذلك من الأملاك، أو وهبته لك ولم يرد بالهبة عوض الثواب فقال قد قبلت منك فقد انعقد وليس للواهب ولا للمتصدق الرجوع فيه ويلزمه إقباضه (1) للموهوب له أو التصدق عليه إذا طالبه ويجبر على ذلك إن امتنع منه، ولا يبطل العقد بتأخير الإقباض فإن مات (2) المقبوض له أو المتصدق عليه وهو على المطالبة بالإقباض غير متراخ في ذلك ولا راض بتبقيتها في يد الواهب أو المتصدق لم يبطل بموته ولورثته من المطالبه مثل ما كان له وإن تراخى الموهوب أو المتصدق عليه في المطالبة بالإقباض أو أمكنة قبضها فلم يقبضها حتى مات الواهب أو مرض بطل ولم يكن له شيء (3)، وقال أبو حنيفة والشافعي (4) لا ينعقد إلا بالقبض وما لم تقبض تكون جائزة غير لازمة (5). وإنما قلنا ذلك لقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (6)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الراجع في   (1) في م: اقتضاه. (2) فإن مات: سقطت من ق وفي ر: وإن مات الموهوب له. (3) انظر المدونة: 4/ 348 - والتفريع: 2/ 311، الكافي: 532. (4) انظر مختصر الطحاوي: 138، الإقناع- للماوردي: 120. (5) في م: تكون جائزا غير لازم. (6) سورة المائدة، الآية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1607 هبته كالراجع في قيئه" (1) ولم يفرق بين الرجوع قبل الإقباض أو بعده، ولأنه عقد من العقود فلم يفتقر انعقاده إلى قبض المعقود عليه أصله سائر العقود، ولأنها عطية فلم يفتقر انعقادها إلى قبض كالوصية. فصل [1 - في حيازة الأب ما وهبه لولده]: إذا تصدق على ولده الصغير أو وهب له فحيازته له جائزة إذا كان قد ميز الصدقة أو الهبة وأشهد عليها لأنه هو القابض له إذ الصغير ليس ممن يصح قبضه ولا بد من قابض له (2)، وإنما شرطنا أن يميز ذلك ويشهد عليه لتثبت له الصدقة أو الهبة بغير قول الأب وإلا تطرق منه الوصية للوارث، وهذا إذا كان مما يمكن أن تعينه والإشهاد عليه، فأما ما لا يمكن ذلك فيه ما لا يتعين كالذهب والفضة والطعام وسائر المكيل والموزون فلا يصح قبض الأب له لأنه لا يمكن الإشهاد على عينه لأنه لا يتميز للشاهد وقت إقامة الشهادة لإمكان أن يكون ما شهد به غير الذي أشهد عليه فإن جعلها على يد أجنبي يكون قابضًا لهم جاز. قال شيخنا أبو بكر ويجوز أن تكون بيد الأب إذا جعلها في شيء وختم عليها وأشهد عليها لأنها تتميز ويمكن الشهادة عليها فيكون كالعبد والثوب وما يتميز عينه (3).   (1) بهذا اللفظ أخرجه النسائي في الهبة باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده: 6/ 222، وابن ماجه في الهبات باب الرجوع في الهبة: 2/ 787، وهو في الصحيحين بلفظ: "العائد في هبته، كالكلب يعود في قيئه، وقد سبق تخريج هذا الحديث. (2) انظر المدونة: 4/ 349، التفريع: 2/ 312، الرسالة: 230، الكافي: 532. (3) في ق: به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1608 فصل [2 - في صحة هبة المشاع]: تصح هبة المشاع كما تصح هبة المقسوم وتجوز من الشريك وغيره فيما تتأتى قيمته وفيما لا تتأتى (1) (خلافًا لأبي حنيفة (2) في قوله إن المشاع الذي يمكن فيه قسمة لا تصح هبته) (3) على وجه، ولأن كل مشاع جاز (4) بيعه جازت هبته كالمقسوم، ولأن كل عقد صح في المشاع الذي لا ينقسم (صح في الذي ينقسم) (5) كالبيع. فصل [3 - إذا تصدق على ولده الصغير بجزء مشاع]: إذا تصدق على ولده الصغير بجزء مشاع من أرض أو دار وأشهد عليه ففيه روايتان: (6) إحداهما جواز الصدقة والأخرى بطلانها والهبة مثل الصدقة فوجه الجواز أن العين الموهوب بعضهما مما يتعلق ويمكن الإشهاد عليها فالمشاع منها في حكم المقسوم، ووجه المنع أن نفس الموهوب غير متميز ولا معين فأشبه المنفرد الذي لا يتعين والأول أصح. فصل [4 - في أقسام الهبة]: الهبة (7) على ضربين: ضرب منها يقصد بها الثواب والآخر لا يقصد بها الثواب بل يكون على وجه المودة والمحبة وصلة الرحم، فأما الضرب الأول   (1) انظر التفريع: 2/ 312. (2) انظر مختصر الطحاوي: 137، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 172. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م: كل ما جاز. (5) بين قوسين سقط من ق. (6) انظر التفريع: 2/ 312، الرسالة: 229، الكافي: 534. (7) الهبة: قال ابن عرفه: الهبة لا لثواب تمليك ذي منفعة لوجه المعطي بغير عوض (حدود ابن عرفة: 421). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1609 الذي يقصد به المكافأة والعوض فحكمه حكم المعاوضات ويراعى فيه ما يراعى في البيع ولا يفارقه إلا في وجه واحد وهو السكوت عن البدل فيه وعن مقداره فأما ما عدى ذلك من أحكامه فإنه يجري مجرى سائر المعاوضات (1). وإنما قلنا إنها جائزة على هذا الوجه لأنها تفعل على وجه المودة، وإيثار المكارمة والمواصلة وإن كان المقصود به المكافآت ففعلها على هذا الوجه له تأثير في التودد والتحبب فكانت في معنى نكاح التفويض في المسامحة بترك ذكر العوض ومقداره، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثاب على اللقحة (2) وطلب صاحبها الثواب فلم ينكر (3) عليه بل أنكر سخطة الثواب وكان زائدا على القيمة (4)، فأما الضرب الآخر الذي لا يقصد به الثواب فلا يستحق عليه ثواب ولا مكافآت لأن الواهب لم يرد ذلك وإنما أراد التمليك بغير عوض. فصل [5 - الاختلاف في غرض الهبة]: فإن اختلفا فادعى الواهب أنه وهب للثواب وقال الموهوب له بل لغيره الثواب فالمرجع في ذلك إلى أحد أمرين: إما إلى شرط إن كان بينهما فإن اعترف به الموهوب له لزمه وإن أنكره فالقول قول الواهب إذا أشكل وتحاكما فيه إن كان يشبه، وإن كان لا يشبه، فالقول قول مدعي الأشبه منهما (5). والقسم الآخر الذي يرجع فيه إليه وهو العرف فينتظر: فإن كانت العادة والعرف أن الواهب يرى أنه يريد الثواب وأن مثله إنما يهب مثل ذلك الموهوب   (1) انظر المدونة: 4/ 318، 327، التفريع: 2/ 312، الرسالة: 228، الكافي: 528. (2) اللقحة: بالكسر- الناقة ذات اللبن، وجمعها لقح (المصباح المنير 556). (3) في ق: فلم يطلب. (4) أخرجه الترمذي في المناقب باب مناقب بني ثقيف وبني حنيفة: 5/ 686 وأحمد: 1/ 265، وابن حبان والحاكم: 2/ 62، وقال على شرط مسلم. (5) منهما: سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1610 لعوض (1) يناله منه أو مكافئة (2) فالقول قوله وذلك مثل هبة الفقير للسلطان والغني (3) وما أشبه ذلك فالعادة في هذا أنه يريد منه المكافآت، وأما هبة الغني للفقير والسلطان لأتباعه والرجل يهدي إلى العالم والصالح فالعرف في مثل هذا أنه للمودة لا للثواب. وأما النظر أو الأمثال فعلى حسب ما يعلم من دلائل الحال وعلى قدر الهبه (4) هل يقصد به الثواب أم هي مما يقبح في العرف طلب الثواب في مثلها، وعنه في هبة أحد الزوجين للآخر روايتان: إحداهما أنها تقتضي الثواب لتميز الملكين وإن المعاوضة مطلوبة بينهما، والأخرى أنها لا تقتضي الثواب لأن العرف جار بأن كل واحد يتقرب إلى الآخر بالهدية والهبة ويحب التودد إليه وإحراز الحظوة عند (5). فصل [6 - في خيار الموهوب له هبة للثواب]: إذا ثبت ما ذكرناه فمن وهب له شيء للثواب فهو بالخيار إذا قبل الهبة إن شاء أثاب فيها فما زاد وإن شاء ردها، فإن أثاب قيمتها أو زيادة عليها لزم واهبها قبول ذلك ولا مقال له وإن قال: لا أرضى بقيمتها، وإن أثاب دون القيمة فالواهب بالخيار إن شاء قبل الثواب وإن شاء رده وارتجع هبته، فإن فاتت عند الموهوب منه لزمه قيمتها، والفوت مثل الحمل والموت أو العتق أو نقص في البدن، وقد اختلف عنه في زيادة الجسم أو السوق، فعنه فيه   (1) في م: بغرض. (2) في ق: مكافآت. (3) في م: الأغنياء. (4) في ق: الهدية. (5) انظر المدونة: 4/ 324، التفريع: 2/ 314، الرسالة: 229، الكافي: 532. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1611 روايتان (1): إحداهما أنه فوت والأخرى أنه ليس بفوت، ولا تفتقر هبة الثواب إلى حيازة. فصل [7 - في دليل أن الموهوب غير بين الإثابة أو الرد]: وإنما قلنا إن الموهوب غير بين الإثابة أو الرد لأنها معاوضة فلا يلزمه إلا باختياره إذا لم يتعلق بها حق الغير كسائر المعاوضات، وإنما قلنا أنه إذا قبلها لزمه الثواب فلأن الواهب ملكه إياها بشرط العوض إما لفظا أو عرفا فلزمه ما دخل عليه كالبيع، وإنما قلنا إن الثواب ما يتراضيان به اعتبارًا بنكاح التفويض لأنه عقد يشترك فيه العوض وطلب المودة والمواصلة فسومح (2) فيه بترك تسمية العوض فكذلك الهبة إذا سكتا عن ذكر العوض فوقف على تراضيهما، وإنما قلنا أنهما إذا لم يتراضيا فالموهوب غير إن شاء أثاب عنها القيمة وإن شاء ردها، وأنه إذا أثاب القيمة لزم الواهب قبولها، اعتبارًا بنكاح التفويض (في تخيير الزوج إذا لم يتراضيا على قرض ببذل صداق مثل الذي هو قيمة البضع أو الطلاق وكذلك في الهبة، وإنما قلنا أنه لا يلزمه إرضاؤه بما يزيد على القيمة اعتبارًا بالتفويض على ما بيناه) (3). وإنما قلنا إنه لا يراعى عرف في مكافآت مثل تلك الهبة خلافًا للشافعي في بعض أقواله (4)؛ لأنه لا مدخل للعرف في المكافآت إذ ليس فيها حد يرجع إليه لأن الملك العظيم قد يثيب علي هدية تساوي مائة ألف وقد يثيب عشرة آلاف، وما بينهما وقد كان يخلو الموهوب في نفسه فيزيد في المكافآت عليه وكذلك غيره   (1) انظر المدونة: 4/ 340، التفريع: 2/ 314، الرسالة: 229، الكافي: 532. (2) في م: فسوغ. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) انظر الإقناع: 120، المهذب: 1/ 455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1612 ممن يكافيء تختلف مكافآته بحسب حلاوة الموهوب في نفسه ومحبته بنفع مهديه (1) إليه فبطل اعتبار العرف في ذلك. وإنما قلنا لا يكفي أقل مما يقع عليه الاسم خلافًا للشافعي أيضًا، لأن العرف أن المهدي (2) إذا دخل على زيادة على القيمة أو على مقدارها أو يرتجى المواصلة والمكارمة فإن ثاب على هدية قيمتها ألف بعشرة (3) دراهم فإنه خلاف العرف الذي عليه دخل فلا يلزمه، وإنما قلنا إنه إذا فاتت لزمته قيمتها لأنه إذا كان ذلك هو الواجب عليه مع بقائها فكذلك فواتها وتأثير الفوت منع ردها فقط، وإنما كان العتق فوتًا لأنه لا يمكن ردها معه ولا فسخه والحمل ينقص قيمتها والموت عدمها. ووجه قوله في زيادة البدن والسوق أنها فوت واعتباره لتغير النقصان ووجه قوله أنها ليست بفوت أن ردها ممكن من غير ضرر يلحق أحدهما، إنما قلنا: إنها لا تفتقر إلى حيازة لأنها معاوضة كالبيع، ولأن التهمة لا مدخل فيها كدخولها في هبة غير الثواب. فصل [8 - في الهبة التي لا يقصد بها ثواب]: فأما الهبة التي لا يقصد بها ثواب ولا مكافآت فعلى ضربين: ضرب يراد به المودة والمحبة، وضرب يراد به وجه الله تعالى من صلة الرحم وذلك كهبة الغني للفقير واليتيم فهذا الضرب صدقة فحكمه حكم الصدقة فلا يجوز الرجوع فيه بوجه لا من أب ولا من غيره (4)، وإنما قلنا ذلك لأنه أخرجها عن ملكه على وجه القربة إلى الله تعالى وابتغاء وجهه لا لغرض دنيا   (1) في م: عهدته. (2) في ق: الموهوب. (3) بعشره: سقطت من ق. (4) انظر المدونة: 4/ 340، التفريع: 2/ 313، الرسالة: 228، الكافي: 532. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1613 فلم يجز له الرجوع فيه، وعلى ذلك دل قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه لما سأله عن الفرس الذي حمل عليه في سبيل ثم رآه يباع "لا تبتعه ولو باعكه بدرهم ولا تعد في صدقتك" (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الصدقة ليومها" (2) يريد يوم القيامة، ومن هذا هبة الغني للفقير والهبة لصلة الرحم وما كان بمثابة ذلك. وإذا ثبت منع الرجوع فكذلك الانتفاع به لأنه ضرب من الرجوع إلا أن يشرب من ألبان الغنم يسيرًا أو يركب الفرس الذي في سبيل الله أو ما أشبه ذلك مما يقل خطره. فأما الضرب الآخر وهو الهبة للمودة والمحبة فليس لأحد فيها رجعة إلا للوالدين فيما وهباه لولدهما فلهما اعتصاره ما لم يداين أو يتزوج أو يطأها إن كانت جارية أو يكاتبه إن كان عبدًا أو ينفقه إذا كان مالا أو يختلط بمثله إذا كان دراهم أو حنطة أو ما يكال أو يوزن أو يبعه فلا يكون للوالد سبيل إلى الارتجاع، وإذا كان الولد أيتامًا فلا عصرة للأم فيما وهبته، وليس لأحد رجوع في هبته إلا للوالدين لامن قريب ولا من أجنبي لا جد ولا غيره من الأقارب (3). فصل [9 - في منع الواهب من الرجوع في هبته]: وإنما قلنا إنه ليس للواهب سوى الوالدين الرجوع في هبته خلافًا لأبي حنيفة في قوله أن لهم ذلك (4)، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل للرجل أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها   (1) أخرجه البخاري في الهبة باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته: 2/ 142، ومسلم في الهبات باب كراهية شراء الإنسان ما تصدق به: 3/ 1239. (2) لم أعثر عليه .... (3) انظر المدونة: 4/ 337، التفريع: 3/ 313، الرسالة: 228. (4) انظر مختصر الطحاوي: 138، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 2/ 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1614 كمثل الكلب أكل حتى (1) شبع قاء ثم عاد في قيئه" (2)، ولأنه لا يلي على ماله إلا بتولية، ويحد في وطئه أمته فلا رجوع له في هبته أصله الابن إذا وهب للأب. فصل [10 - جواز رجوع الأب فيما وهب لابنه]: وإنما قلنا إن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه خلافًا لأبي حنيفة في منعه الرجوع (3)، للحديث الذي رويناه، ولحديث النعمان بن بشير أن أباه نحله نحلا وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهده فقال: إني نحلت ابني هذا فقال: "أكل ولدك نحلته" قال: لا، قال: "فارجعه" (4)، فدل ذلك على أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه، ولأنها هبة لمن أضيف هو وماله إلى الواهب في الشرع إضافة الملك فكان له الرجوع فيها بوجه، أصله هبة السيد لعبده، ولأن الأب يختص مع الولد بما لا يوجد في غيره، وله شبهة في ماله ففارق الأجنبي. وإنما قلنا إن للأم أن تعتصر (5) لمشاركتها في قرب الولادة ومباشرتها وإنما منعنا ذلك إذا كان الولد أيتاما لأن الهبة للأيتام يراد بها وجه الله عز وجل كالصدقة، وإنما منعنا الاعتصار بعد التصرف لتعلق حقوق الغير بها، أما إذا داين الولد فإن الغرماء داينوه على المال الذي معه، فلو أجزنا للأب أخذه لكان   (1) في ق: إذا. (2) أخرجه أبو داود في البيوع باب الرجوع في الهبة: 2/ 809، وابن ماجه في الأحكام باب من أعطى ولده ثم رجع فيه: 2/ 795، والنسائي في الهبة باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده: 6/ 222، والترمذي في البيوع باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة: 4/ 384 وقال حديث حسن صحيح، وأحمد: 3/ 27 والحاكم: 2/ 46. (3) انظر مختصر الطحاوي: 139، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 2/ 175. (4) أخرجه البخاري في الهبة باب الهبة للولد: 2/ 133، ومسلم في الهبات باب كراهية تفضيل بعض الأولاد: 3/ 1241. (5) الاعتصار: هو الرجوع في الهبة وأخذها قهرًا (الفواكه الدواني: 2/ 170). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1615 غرورًا لهم، وكذلك إذا تزوجت الابنة لأن للزوج حق في تبقية مالها بيدها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تنكح المرأة لدينها ومالها" (1)، وللاتفاق على أنه لا رجوع له في البيع والعتق وكذلك سائر التصرف، فأما اختلاطه بما لا يتميز فجار مجرى إتلافه (2) فبطل الرجوع فيه. فصل [11 - في كراهة ارتجاع الصدقة بعوض أو هبة]: يكره أن يبتاع الرجل صدقته ويرتجعها بعوض أو هبة لأنه ضرب من العود فيها (3)، ولأن الموهوب له والمتصدق عليه قد يستحيي منه فيسامحه في ثمنها أو يحط عنه ما لا يحط لغيره فيكون رجوعا في ذلك القدر، وفي حديث عمر أنه وجد فرسًا حمل عليه في سبيل الله (4) يباع فأراد أن يشتريه فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "لا تبتعه لو باعكه بدرهم ولا تعد في صدقتك (5)، فأما إن مات المتصدق عليه فورثها المتصدق منه فلا بأس لأن ذلك ليس برجوع فيها ولا يتهم بأنه احتال فيه لأن الميراث يدخل في ملكه بغير صنعه، وفي الحديث أن امرأة وهبت لأمها وليدة فماتت الأم فورثتها الأبنه فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "أجرت في صدقتك ورد عليك الميراث وليدتك" (6)، وإذا ثبت أنه لا يجوز الرجوع في الصدقه فالانتفاع بها ممنوع أيضًا على ما قدمناه (7). فصل [12 - في التسوية بين الأولاد في الهبة]: ويستحب للإنسان أن يساوي بين ولده في الهبة، وأن لا يخص بعضهم بشيء   (1) سبق تخريج الحديث. (2) إتلافه سقطت من م. (3) انظر التفريع: 2/ 314، الرسالة: 229، الكافي: 533. (4) في م: في السبيل. (5) سبق تخريج الحديث قريبا. (6) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 760. (7) في م: على بيناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1616 يفرده عن الآخر إلا ويكون مثله لغيره، فإن أعطي بعضهم سيئًا من ماله جاز وإن أعطاه كل ماله كره ذلك ولم يبطل (1). وإنما استحببنا في الجملة أن يسوي بينهم في العطية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعمان بن بشير لما نحله أبوه شيئًا وأراد الشهادة عليه فقال - صلى الله عليه وسلم - " أكل ولدك نحلته مثل ما نحلت هذا" قال لا، "فارجعه"، وفي الحديث "أتحب أن يكونوا لك في البر سواء" (2) ولأن ذلك يؤدى إلى العقوق وترك البر ويورث الحسد والضغن فوجب كراهيته لذلك، وهذا وهب كل ماله فإذا وهب البعض منه أو الشيء اليسير (3) بعينه فذلك جائز لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهب لعائشة رضي الله عنها من ماله (4)، والفرق بين البعض والكل أن في البعض لا تتولد العدواة والبغضاء لأنه قد ما يصير للولد الباقين إذا كان الموهوب يسيرًا، لا يكون جل ماله ولا قطعة مؤثرة فيه فيجري حينئذ مجرى هبة الكل. وإنما قلنا إن وهب جميعه نفذ وإن كان مكروها خلافًا لأحمد بن حنبل وغيره في منعه نفوذه (5)، لحديث أبي بكر رضي الله عنه واعتبارًا بالأجانب. فصل [13 - جواز التصدق بكل ماله في صحته]: يجوز أن يتصدق بماله كله في صحته وأن يهبه للظواهر والأخبار والترغيب في الصدقة، ولأن جماعة من الصحابة قد انخلعوا (6) من أموالهم (7)، وهذا إذا   (1) انظر الموطأ: 2/ 751، التفريع: 2/ 415، الرسالة: 230، الكافي: 530. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) اليسير: سقطت من ق. (4) سبق تخريج الأثر. (5) انظر مختصر الخرقي: 79، المغني: 5/ 664. (6) في م: انخلوا. (7) كما تصدق أبو بكر الصديق بجميع ماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1617 كان المتصدق له مال يرجع إليه من صناعة أو حرفة فيخلف منها ما لا يرده على نفسه، فأما إن كان لا يرجع إلى ما يقوته أو يقوت عياله إن كان ذا عيال فلا ينبغي له أن يمنع نفسه وعياله، وقد منع - صلى الله عليه وسلم - سعدا أن يوصي بماله كله (1) إبقاء على ورثته، فإبقاء الإنسان على نفسه أولى، وقال تعالى {لَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (2). فصل [14 - في جواز إخدام عبده لرجل حياته]: من أخدم رجلا حياته عبده جاز ذلك، وقد اختلف عنه في نفقته على من تكون فعنه فيه روايتان (3): إحداهما أنها على مالك رقبته، والأخرى أنها على من جعلت له خدمته، فوجه الأولى من أن النفقة على المالك بالرق وتعلق حق الغير بمنافعه لا يوجب عليه نفقته كما لو أجره، ووجه الثانية أنه يملك منافعه دون سيده فكانت النفقة عليه كالزوجة لما ملك الاستمتاع بها ملك منافعها ولا يلزم عليه الإجارة لأن العوض عنها قد أخد منه والله أعلم. ...   (1) أخرجه البخاري في الجنائر باب رثي - صلى الله عليه وسلم - سعد: 2/ 82، ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث: 3/ 1250. (2) سورة القصص الآية: 77. (3) انظر المدونة: 43/ 304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1618 كتاب الوصية (1) الأصل في ثبوت الوصايا وتعلق الأحكام بها قوله تعالى في آية المواريث {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2)، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حق امرئ له مال يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده" (4)، إذا ثبت ذلك فهي مندوب إليها (5) للخبر الذي رويناه، ولأن فيها تحرزا وإحتياطا لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه أمر الله عز وجل، وقد يكون عليه حقوق يحتاج إلى التخلص منها فيجب أن يكون على استظهار من ذلك. فصل [1 - الوصية بالثلث]: موضع الوصية الثلث، ولا يجوز الزيادة عليه إلا بإذن الورثة (6)، وإنما قلنا إن له أن يوصي بالثلث لحديث سعد قال جاءني - صلى الله عليه وسلم - يعودني من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله بلغ مني الوجع ما ترى، وأنا رجل ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي فقال "لا"، قلت فشطره، قال "لا" فقلت   (1) الوصية: في اللغة: وصيت الشيء وصلته (معجم مقاييس اللغة: 6/ 116)، وفي الاصطلاح: عقد يوجب حقًّا في ثلث عاقده يلزم بموته أو نيابته عنه بعده (حدود ابن عرفة مع شرح الرصاع: 528). (2) سورة النساء، الآية: 11. (3) سورة البقرة، الآية: 180. (4) أخرجه البخاري في الوصايا باب الوصايا وقوله - صلى الله عليه وسلم - وصية الرجل مكتوبة .... " 3/ 185، ومسلم في الوصية: 3/ 1249. (5) انظر الموطأ: 2/ 761، المدونة: 4/ 301، التفريع: 3/ 321، الرسالة: 223، الكافي: 543، المقدمات: 3/ 111. (6) انظر المراجع التي سبق ذكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1619 فالثلث (1) قال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم عند موتكم" (3). وإنما قلنا الزيادة جائزة عليه إذا أذن الورثة لأن المنع من ذلك لأجلهم لأن ما زاد عليه حق لهم فإذا أجازوه فقد أسقطوا حقوقهم فجاز، وإن أجازه بعضهم وأباه بعض جاز في حق من أجازه ولم يجز في حق من منع لأن من أجازه فقد ترك حقه ومن منع فقد طالب بحقه فله ذلك. فصل [2 - من لا وارث له يوصي بجميع ماله؟]: ومن لا وارث له فليس له الوصية بجميع ماله، فإن أوصى بزيادة على الثلث لم يكن له إلا الثلث فقط (4)، خلافًا لأبي حنيفة في قوله إن له أن يوصي بكل ماله (5)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم" (6) وظاهره يمنع زيادة عليه ولأن المسلمين يعقلون عنه فلم يكن له أن يوصي في حقهم بأكثر من ثلثه كالموالي، واعتبارا بالورثه المياسير. فصل [3 - في عدم جواز الوصية لوارث إلا بإذن الورثة]: ولا تجوز الوصية لوارث من ثلث ولا غيره إلا بإذن باقي الورثه (7)، والأصل   (1) رجل: سقطت من م. (2) أخرجه البخاري في الوصايا: 3/ 181، ومسلم في الوصية: 3/ 1253. (3) أخرجه ابن ماجه في الوصايا باب الوصية بالثلث: 2/ 904، وفي سنده طلحة بن عمرو المكي ضعيف (انظر نصب الراية: 4/ 400). (4) انظر التفريع: 2/ 213، 324. (5) انظر شرح فتح القدير: 8/ 430 - 446، حاشية ابن عابدين: 5/ 418 - 427. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) انظر المدونة: 4/ 306، التفريع: 2/ 324، الرسالة: 223، الكافي: 544. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1620 في منعها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" (1)، (ولأن ذلك تعدى ما حد الله تعالى ورسمه لأنه تعالى جعل لكل وارث) (2) قدرًا معلومًا من التركة، وإذا خص الميت بعضهم بزيادة على ذلك كان كأنه يعطيه من حق غيره، فإذا لم يجيزوا رجعت ميراثا لأنه لا يجوز أن ينفرد بها بعضهم، وليس لها جهة تصرف من قبل وصية فلم يبق إلا أن يرجع ميراثًا كالذي لم يوصي به. فصل [4 - في القول بأنها تجوز بإجازة الورثة]: إنما قلنا أنها تجوز بإجازة الورثة، خلافًا لمن منع ذلك (3)؛ لأن المنع لحقوقهم فإذا أجازوه فقد تركوا حقوقهم فيجب جوازه، ولأنها جهة للوصية يمنع منها لحق الورثة فجاز بإجازتهم أصلة الزيادة على الثلث. فصل [5 - في حكم الوصية]: الوصية غير واجبة لقريب ولا لأجنبي (4)، خلافًا لمن حكي عن وجوبها (5) لمن لا يرث (6) من الأقربين والذين (7) إذا لم يكونوا وارثين؛ لأن كل من لم   (1) أخرجه أبو داود في البيوع باب في تضمين العارية: 3/ 824، وابن ماجه في الوصايا باب لا وصية لوارث: 2/ 905، والترمذي في الوصايا ما جاء لا وصية لوارث: 4/ 377، وقال حديث حسن. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) منع ذلك أهل الظاهر، وفي ظاهر قول أحمد وهو قول الشافعي والمزني (انظر المحلي: 10/ 425، مختصر الخرقي: 80، مختصر المزني: 143، المغني: 6/ 6). (4) انظر التفريع: 2/ 322، الرسالة: 223، الكافي: 551. (5) روي عن الزهري وأبي مجلز وقال أبو بكر بن عبد العزيز هي واجبة للأقربين غير الورثة، وهو قول داود ومسروق وطاوس وإياس وقتادة وابن جرير (انظر المغني: 6/ 2). (6) في ق: تورث. (7) في م: الوالدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1621 تلزم عطيته في الحياة لم تجب الوصية له بعد الوفاة كالأجانب، ولأنها هبة وعطية فلم تلزم اعتبارا بحال الحياة. فصل [6 - في استئذان الورثة في الوصية لوارث أو بأكثر من الثلث]: إذا استأذن الورثة في الوصية لوارث أو بأكثر من الثلث فأذنوا له فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يجيزوا في الصحة، أو في المرض الذي يحجر عليه فيه أو أن يجيزوا بعد الموت فإن أجازو في الصحة فلا يلزمهم ذلك، ولهم الرجوع فيه لأنه لا حق لهم في الحجر عليه حال الصحة فأشبه إذن الأجنبي؛ لأنه لا يلزمه (1) إذا صار وارثا من بعد الموت (2)، وإن أجازوا بعد الموت فذلك لازم من غير خلاف لأن الإرث قد وجب لهم، فإذا تركوه بعد وجوبه جاز كما لو وهبوه ابتداء. وإن أجازوه حال المرض المخوف لزم ذلك ولم يكن لهم الرجوع فيه (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (4)؛ لأنها حال يملكون عليه الحجر فيها فإذا أذنوا فيما لهم منه لزمهم، كالسيد إذا أذن لعبده والزوج لامرأته، ولأنها حال تعتبر عطاياه فيها من الثلث كما بعد الموت، وإذا استأذنهم عند سفر فأذنوا له ففيها روايتان: إحداهما أنه لا يلزم اعتبارًا بالصحة، ولأن تصرفه في هذه الحال من رأس المال، والأخرى أنه يلزم اعتبارًا بالمرض المخوف لأنها حال خوف وخطر، وهذا في السفر البعيد الذي يخاف من مثله.   (1) في م: لأنه يلزمه. (2) الموت: سقطت من ق. (3) انظر المدونة: 4/ 301، التفريع: 2/ 321 - 322، الرسالة: 223، الكافي: 544. (4) انظر مختصر الطحاوي: 158 - 159، الإقناع: 130، المهذب: 1/ 457. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1622 فصل [7 - في الإذن المحكوم به]: الإذن المحكوم به إذا كان طوعا لا خوفا من إضرار بهم مثل أن يكون الوارث في عيال الموصي ونفقته، إن لم يأذن به قطع به، أو يكون له عليه دين يلزمه أو يكون سلطانًا يرهبه أو ما أشبه ذلك فمتى كان الإذن على بعض هذه الوجوه لم يلزم وكان له الرجوع. فصل [8 - هبات المريض وعطاياه]: هبات (1) المريض وعطاياه مراعاة فإن صح لزمته من رأس ماله وإن مات كانت من الثلث إلا أنها حال المرض موقوفه لا تنفذ (2)، وقال داود هي جائزة من رأس المال الصحيح (3)، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم عند الموت زيادة في أعمالكم" (4)، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس لهم إلا الثلث ولا زيادة عليه، وروي أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه لا يملك غيرهم فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ عليه غيظا شديدا ثم دعى بهم فأسهم بينهم فأعتق ثلثهم وأرق ثلثيهم" (5)، ولأن حصول سبب الموت بمنزلة حضور الموت نفسه بدليل منع الهبة للوارث، فإن نازعوا في ذلك دللنا عليه بإجماع الصحابة في قصة أبي بكر رضي الله عنه لما قال لعائشة رضي الله عنها إني كنت نحلتك جذاد عشرين وسق ولو كنت حزتيه لكان لك وإنما في اليوم مال الوارث" (6) فبين تعلق حقوق الورثة به، وإن ذلك هو المانع من تسليمه إليها ولم يخالف عليه أحد، ولأنه إيجاب عطية في المرض كالوصية.   (1) في ق: هبة. (2) انظر المدونة: 4/ 282، 326، التفريع: 2/ 331، الكافي: 545. (3) انظر المحلي 10/، المغني: 6/ 71. (4) سبق تخريج الحديث 1620. (5) أخرجه مسلم في الأيمان باب من أعتق شركا له في عبد: 3/ 1288. (6) سبق تخريج هذا الأثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1623 فصل [9 - إذا أوصى بزيادة على الثلث ولم يجز الورثة]: إذا أوصى بزيادة على الثلث ولم يجز الورثة قسم الموصى لهم الثلث على حسب مبلغ (1) الوصايا من جملة المال، مثاله: أن يوصي بالنصف والثلث ولا يجيز الورثة فينظر أقل ماله نصف وثلث وهي ستة مبلغ الوصية منها خمسة أسهم فيقسم الثلث بينهم على خمسة لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان، وكذلك بالثلث والربع يكون على سبعة من اثني عشر لصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة على هذا الحساب (2)، وقال أبو حنيفة يتساوى الموصى لهم في الثلث (3). ودليلنا أنهما وصيتان لو كانتا مطلقتين مرسلتين قسمتا على التفصيل فإذا كانتا مقيدتين قسمتا (4) كذلك، أصله لو أوصى بالسدس والثمن، وبيان ذلك أنه لو أوصى لزيد بألف درهم وقدرها النصف ولعمر بخمس مائة وقدرها الربع لاقتسمنا الثلث إذا لم يجز الورثة على التفصيل بحسب الوصايا، وهذا وفاق معهم فكذلك إذا قيد بنسبة، ولأنهما وصايا تتفاضل (قصرت عن الثلث فوجب) (5) بحسبها أن تتفاضل في قسمة الثلث عليها إذا زادت عليه كالمرسلة. فصل [10 - في شراء ابنه بقدر ثلثه]: له أن يشترى ابنه بما يكون قدر ثلثه لأن له التصرف في الثلث ويرثه لأنه يعتق عليه وهو حر، وقال محمد بن مسلمة يجوز له أن يشتريه بكل ماله اعتبارًا باستلحاقه، وقال شيخنا أبو بكر في توريث ابنه نظر لأنه إخراج لورثته عن الميراث بعد ثبوت البينة لهم (6).   (1) في م: ومبالغ. (2) انظر المدونة: 4/ 317، التفريع: 2/ 324، 327. (3) انظر مختصر الطحاوي: 158 ومختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 174. (4) قسمتا: سقطت من ق. (5) ما بين قوسين: سقطت من ق. (6) انظر المدونة: 4/ 282، التفريع: 2/ 329، الكافي: 544. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1624 فصل [11 - إذا أوصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد]: إذا أوصى لرجل بمثل نصيب ابنه وله ابن واحد فللموصى له كل المال، وكذلك لو كان ابنان فوصى للرجل (1) بمثل نصيب أحدهما كان له نصف المال، على هذا الحساب ينظركم ذلك النصيب إذا انفرد عن الوصية فيكون هو الموصى به (2)، وقال أبو حنيفة والشافعي يجعل الموصى له كأنه ابن آخر فيأخذ مع الأبن الواحد النصف ومع الاثنين الثلث (3). ودليلنا أنه إذا قال: أوصيت لك بمثل نصيب ابني فقد أحال بمعرفة القدر الموصي به على معرفة نصيب من أحال عليه فيجب أن يكون ذلك المحال عليه معلوما مقدرًا قبل الوصية ليصبح العمل بقدرها منه، ومتى علقنا معرفة المحال عليه على مقدار الوصية فذلك تناقض واستحال لأن الوصية معلقة عليه ويصير هو معلقًا على الوصية فيكون ذلك جعل الشيء شرطا لما هو شرط له (4) فلا يصح، وإذا ثبت ذلك صح ما قلناه. فصل [12 - إذا أوصى لفلان بمثل نصيب أحد ورثته]: إذا أوصى لفلان بمثل نصيب أحد ورثته نظر إلى عدد رؤوسهم ثم أعطي جزءا منها (5)، ولا ينظر إلى اختلاف فروضهم ولا إلى الذكور والإناث، مثاله: أن يترك ستة ذكورا وإناثا، أو إناث وذكورًا (6) من نوع واحد كالبنين والبنات،   (1) في م: لرجل. (2) انظر المدونة: 4/ 314، التفريع: 2/ 327، الكافي: 546 - 547. (3) انظر مختصر الطحاوي: 157 - مختصر المزني: 143. (4) هو شرط: سقطت من م. (5) في م: جزءا واحدا. (6) أو إناثا وذكورًا: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1625 أو الزوجات والجدات أو الأخوة والأخوات وغير ذلك فيعطي السدس، وإنما قلنا ذلك لأن الأنصباء إذا اختلفت مقاديرها لم يكن الأكثر بأولى من الأقل، فلم يبق إلا الاعتبار بالرؤوس (1). فصل [13 - إذا أوصى بسهم من ماله ولم يعينه]: إذا أوصى بسهم من ماله ولم يعينه أو بجزء منه أو بنصيب فذلك كله (2) سواء، فاختلف أصحابنا في مقدار ما يلزم بالوصية بعد اتفاقهم على أنه لا يزاد على الثلث فمنهم (من قال يعطي الثمن) (3) ومنهم من قال يعطي (4) السدس، ومنهم من قال ينتظر إلى ما تبلغه قسمة الفريضة بالضرب إن احتيج إليه فيعطي سهما منه قلت السهام أم كثرت، وقال أبو حنيفة (5): يدفع إليه مثل أقل سهام الورثة إلا أن يزيد إلى السدس فيكون له السدس (6)، وقال الشافعي يدفع إليه الورثة ما شاءوا من غير مقدار مؤقت (7). فدليلنا أولا على وجوب التقدير خلافًا للشافعي، أن السهم والجزء والنصيب عبارة عن التقدير لأنه يقال هذا المال بينهم على كذا وكذا جزءا أو سهما أو نصيبا، فإذا ثبت ذلك فكأنه أوصى له بقدر وأجمل التقدير فيجب أن يطلب ما هو أولى   (1) انظر التفريع: 2/ 328، الكافي: 553. (2) فذلك كله: سقطت من ق. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م: بعض. (5) انظر مختصر الطحاوي: 157، مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 4/ 176. (6) فيكون له السدس: سقطت من ق. (7) انظر مختصر المزني: 143، الإقناع: 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1626 بأن يكون أراده ومتى وكلناه إلى مشيئة الورثة زال التقدير وصار كأنه قال أوصيت بشيء فإذا ثبت التقدير: فوجه القول بأنه يعطي الثمن أنه لما لم يكن بعض السهام بأولى من بعض وجب أن يدفع الأقل لأنه متحقق (1)، وما زاد عليه مشكوك فيه لإمكان أن يكون (أراده وإمكان أن يكون) (2) أراد ما دونه فلم يجز أن يدفع إليه بالشك، ووجه القول بأنه يعطي السدس والجزء الذي ينقسم عليه الفريضة ما لم يزد على الثلث أن أصل حساب الفرائض السدس، وإنما ينشأ ما زاد عليه منه لأنه أقل السهام في الأصول بخلاف (3) الثمن لأنه ليس بأصل وإنما هو سهم يستحق بحجب عن أصل الفرض. ووجه القول أنه يعطى سهما مما انقسمت عليه الفريضة بالغا ما بلغ أنه لما قال: له سهم من مالي أو جزء كان ذلك راجعًا إلى أجزاء ماله وسهامه فوجب أن تكون القسمة عليه دون اعتبار الفروض. فصل [14 - في التسوية بين الوصية في الصحة والمرض]: الوصية في الصحة والمرض سواء لأنهما تنفذ بعد الموت وليست بلازمة، والرجوع له فيما شاء منها إلا التدبير لأنه إيجاب في الحياة، وإن كان له حكم الوصية من بعض الوجوه وهو خروجه من الثلث، وكذلك العتق المبتل (4) في المرض (5).   (1) في ق: يتحقق. (2) ما بين قوسين سقط من ق. (3) في ق: يختلف. (4) المبتل: أبي المقطوع والبائن (المصباح المنير: 35). (5) انظر: التفريع: 2/ 331، الرسالة ص 223، الكافي ص 547. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1627 فصل [15 - في جواز وصية السفيه والمجنون حال إفاقته]: وتجوز وصية السفيه المحجور عليه لتبذير ماله ووصية المجنون حال إفاقته (1) لأنه إنما منع السفيه من إخراج ماله على غير عوض خوف الفقر عليه، والوصية تنفذ بعد موته والفقر مأمون عليه في تلك الحال فلا يبقى مانع منها، وأما المجنون حال إفاقته فكالعاقل الذي لا جنون له فصحت وصيته؛ وتصح وصية الصبي الذي يعقل (2) وجوه القرب وإن لم يبلغ خلافًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي (3)، ولأن ذلك مروي عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم رضوان الله عليهم (4)، ولا مخالف لهم، ولأنه عاقل عارف بوجوه القرب كالبالغ، ولأن الفقر مأمون عليه بعد الموت. فصل [16 - في صحة الوصية إلى المرأة وإلى العبد]: تصح الوصية إلى المرأة وإلى العبد كان العبد له أو لغيره (5) خلافًا للشافعي في العبد (6)، ولأنه مأمون في نفسه يتأتى منه تنفيذها فأشبه الحر الذكر. فصل [17 - في منع الوصية إلى فاسق]: لا تجوز الوصية إلى فاسق لا يؤمن عليها، ولا تقر في يده (7) لأنه قد تعلق بالوصية إليه حقوق الموصى لهم، فإذا لم يكن مأمونًا لم يؤمن منه إتلافها فلم   (1) انظر الموطأ: 4/ 762، التفريع: 2/ 325، الكافين: 545. (2) في م: يعرف. (3) انظر مختصر الطحاوي: 161، الإقناع: 129. (4) انظر الموطأ: 2/ 762، سنن البيهقي: 10/ 137، عبد الرزاق: 9/ 78. (5) انظر المدونة: 4/ 287، التفريع: 2/ 326، الكافي: 548. (6) انظر: الأم: 4/ 120، مختصر المزني ص 146. (7) انظر المدونة: 4/ 285، التفريع: 2/ 326، الكافي ص 548. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1628 يجز ولايته، ولا يراعى في ذلك اختيار الميت له لأنه ليس له أن يختار على غيره من لا يؤمن إتلافه وإضاعته. فصل [18 - عدم جواز ترك الوصية بعد قبولها]: إذا قبل الموصى إليه ثم أراد تركها لم يجز له ذلك إلا أن يعجز عنها أو يظهر له عذر في الامتناع من المقام عليها (1)، خلافًا للشافعي في إجازته تركها (2)، لأنها قربة وفعل خير ألزمه نفسه لم يكن له الخروج منه بغير عذر اعتبارًا بالصوم والحج. فصل [19 - فيما إذا أوصى إلى رجلين]: إذا أوصى إلى رجلين فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون نص على الاجتماع فيقول لا ينفرد (3) أحدهما عن صاحبه (4) في النظر فيكون على ما قلناه (5)، أو أن ينص على الجواز فيقول: أوصيت إليكما وإلى كل واحد منكما فلا خلاف في هذا أيضًا أنه يجوز أن ينظر إلى كل واحد منهما منفردًا عن الآخر، أو أن يطلق فيقول أوصيت إليكما ولا يذكر اجتماعا ولا انفرادًا فحكم ذلك عندنا حكم النص على الاجتماع خلافًا لأصحاب أبي حنيفة، لأنه شرك بينهما في النظر فلم يكن لأحدهما الانفراد به اعتبارًا بالوكالة لأنه إذا أوكلهما في بيع لم يكن لأحدهما الانفراد بذلك باتفاقنا (6).   (1) انظر الأم: 4/ 97 - 98، الإقناع: 130. (2) في م لا ينفصل. (3) في م: الآخر. (4) في م: قاله. (5) في ق: النقد. (6) انظر المدونة: 4/ 287، 290، التفريع: 2/ 332، الكافي: 548. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1629 فصل [20 - في الوصية بثلثه إلى رجل وبولده إلى آخره]: للرجل أن يوصي بثلثه إلى رجل وبولده إلى آخر (1)؛ لأن الوصية في معنى الوكالة، وله أن يوكل في حقوقه كلها وفي بعضها وكيلا واحدا أو وكلاء عدة. فصل [21 - في الوصية بالنظر في حقوق مخصوصة]: إذا أوصى لرجل بنوع من حقوقه مخصوص دون غيره لم يكن له النظر في غيره إذا خصه بذلك (2)؛ لأنه إنما يملك النظر بتولية صاحب الحق فلم يطلق توليته أو يقيدها، فأما إن أطلق فقال: وصيتي إلى فلان أو قال فلان وصيي فإنه يكون وصيه في كل شيء يجوز أن يوصي به من النظر في ثلثه والولاية على صغار ولده وقضاء ديونه، خلافًا للشافعي في قوله إنه لا تصح الوصية (3)، لأن الإطلاق يقتضي العموم فأشبه أن ينص على ذلك، فأما إن أوصى إليه بنوع ولم يذكر قصره عليه ولا أنه ليس إليه النظر في غيره فقيل: هو كالوصية المطلقة لأنه أقامه مقامه ولم يقصره على ما سماه، وقيل لا يكون وصيا إلا فيما عين له ونص عليه لأنه لا يملك الوصية إلا بالتولية، فإن أوصى بشيء مخصوص لم يملك النظر في غيره وليس يحتاج إلى أن يلفظ بقصره عليه لأن المنع هو الأصل وإنما الذي يحتاج إليه هو النص على التولية. فصل [22 - فيما إذا أوصى إليه وأطلق الوصية]: إذا أوصى إليه وأطلق ولم يقل ليس لك أن توصى: (4) فله أن يوصي بما أوصى به إليه، وقال الشافعي ليس له ذلك إذا أطلق الوصية، وأما إن أذن له   (1) انظر المدونة: 4/ 299، التفريع: 2/ 332. (2) انظر المدونة: 4/ 300، 313، الكافي: 548 - 546. (3) انظر الأم: 4/ 120، المهذب: 1/ 463. (4) أن توصي سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1630 فله قولان: أحدهما أنه يملك أن يوصي، والآخر أنه لا يملك (1)، فدليلنا على أنه يملك إذا أذن له أنه يملك (2) أن يوصي إليه ويقول: إن مت فوصيتي إلى فلان فإذا صح ذلك قلنا لأن كل ما صح أن يليه بنفسه على وجه الوصية بعد الموت جاز (3) أن يوليه غيره أصله الوصية المباشرة، ودليلنا أنه إذا أطلق فإن للموصي (4) أن يوصي، أن ذلك معنى ملكه الموصى إليه إذا نص له، فوجب أن يملكه بإطلاق الولاية أصله كسائر الحقوق التي يوصي فيها، ولا يدخل عليه الوكالة لأنا شرطنا التولية في وصيته. فصل [23 - جواز عفو الرجل عن قاتله عمدا وعدم جوازه في الخطأ]: يجوز عفو الرجل عن قاتله عمدا، ولا يجوز ذلك في الخطأ (5) إلا أن تكون الدية ثلث التركه أو أقل، والفرق بينهما أن الواجب بقتل العمد قود فليس فيه إخراج مال عن الورثة والواجب بقتل (6) الخطأ مال وليس له في المال إلا الثلث. فصل [24 - في صحة الوصية للقاتل عمدا أو خطأ]: تصح الوصية للقاتل عمدًا أو خطأ (7) خلافًا للشافعي (8)، لقوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} (9) فعم، ولأنها هبة فالقاتل لا يمنعها اعتبارًا بحال الحياة، ولأنه تمليك فصح في القاتل كإسقاط الحقوق.   (1) انظر المراجع السابقة. (2) أنه يملك: سقطت من م. (3) في م: بعد موته صح. (4) في م: للوصي. (5) انظر المدونة: 4/ 296، التفريع: 2/ 323، الكافي: 545. (6) في ق: في قتال. (7) انظر المدونة: 4/ 296، التفريع: 2/ 322، الكافي: 546 - 545. (8) في أحد قوليه انظر الإقناع: 128، المهذب: 1/ 458. (9) سورة البقرة، الآية: 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1631 فصل [25 - إذا قتل الموصى له الموصى عمدا]: إذا قتله الموصى له عمدا بطلت الوصية (1) إلا أن يعلم بقتله فيقره عليها فإن قتله خطأ لم تبطل لأنه معنى يستحق بالموت لا يصح تقدمه عليه فوجب أن يبطل بقتل العمد كالميراث، وأن لا يبطل بقتل الخطأ كالميراث، ولا يكون له شيء من الدية المستحقة على عاقلته، وأما إن علم بأنه قتله عمدا فأقره على الوصية بأنه يكون كالمبتدىء لها فيصح. فصل [26 - إذا أوصى لرجل بجزء من ماله وللآخر بدنانير مسميات]: إذا أوصى لرجل بجزء من ماله وللآخر بدنانير مسماه (2) وضاق الثلث على الوصيتين ففيها ثلاث روايات: (3) إحداها البداية بالجزء على التسمية، والثانية البداية بالتسمية عن الجزء، والثالثة إنهم يتحاصون بقدر (4) وصاياهم. فوجه الأولى أن التجزئة آكد من التسمية في الأصول لأنها قد ثبتت في مواضع تبطل فيها التسمية، ألا ترى أنه لو وصى له بألف درهم فتلف المال إلا ألفًا لم يستحق الموصي له إلا قدر ثلثه، ولو أوصى له بجزء من ماله لكان ذلك مستحقًا على كل وجه فيما يبقى بعد التلف (5)، أعني أنه يكون له ربع الباقي إن أوصي له بالربع أو سدسه أن أوصى بالسدس، وكذلك في الاستثناء في بيع الثمار وإن كان كيلا مسمى يعتبر (6) فيه قدر الثلث، وإن كان جزءا فما شاء (7)،   (1) في م: وصيته. (2) في ق: مسميات. (3) انظر المدونة: 4/ 306، التفريع: 2/ 328، الكافي: 554. (4) في ق: بعدد. (5) في م: بعد الموت وفي ر: بعد الثلث. (6) في م: اعتبر. (7) في ق: وإن كان جزءًا فما بمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1632 وإذا ثبت قوة التجزئة على التسمية (كانت آكد فقدمت عليها، ووجه الثانية أن) (1) التسمية آكد بالنص على مقدارها (2) بخلاف التجزئة ووجه الثالثة أنها جهة تستحق بالوصية، فلم يكن أحدهما أولى من الآخر فلم يبق إلا التحاصص. فصل [27 - إذا أوصى له بشيء بعينه فتلف]: إذا أوصى له بشيء بعينه فتلف الموصي به بطلت الوصية لأن المعين (3) يبطل الحق بتلفه كالمبيع بعينه إذا تلف قبل القبض مع بقاء التوفية، وكذلك الدابة المكتراة بعينها إذا ماتت إن العقد ينفسخ في ذلك كله، فإن تلف ثلثا تلك العين فالتلف الباقي للموصى له إن احتمله كل المال (4)، خلافًا لأبي ثور (5) في قوله أن للموصى له ثلث الباقي وللورثة ثلثاه (6)؛ لأن الثلث يحتمله مع الوصية بالعين فوجب أن يستحقه كما لو أوصى له بعبد أو بثوب واحتمله الثلث فأما إن كانت الوصية بما الغرض منه المنافع (7) وما يموت عنه فلا يتعين في شيء بعينه نحو قوله: وصيت بثيابي لفلان لأن له ما يموت عنه من ثياب سواء كانت الثياب التي يملكها يوم الوصية أو تلفت واستحدث غيرها.   (1) في ق: ما بين قوسين: سقطت من م. (2) في م: مقاديرها. (3) في م: التعيين. (4) انظر المدونة: 4/ 278، التفريع: 2/ 338، الكافي: 552. (5) أبو ثور: إبراهيم بن خالد، أبو ثور الكلبي البغدادي مفتي العراق سمع من سفيان ووكيع بن الجراح وحدث عنه أبو داود وابن ماجه قال النسائي عنه: ثقه مأمون أحد الفقهاء ت: 240، (وشذرات الذهب: 2/ 93، سير أعلام النبلاء: 12/ 72). (6) انظر المحلي: 10/ 433، المغني: 6/ 134 - 159. (7) في م: المبلغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1633 فصل [28 - إذا أوصى لميت يعلم بموته]: إذا أوصى لميت يعلم بموته صحت الوصية فتقضى منها ديونه وزكوات وكفارات (1) إن كانت عليه، فإن لم يكن عليه شيء من ذلك كانت لورثته (2)، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يصح بوجه (3) فدليلنا قوله تعالى {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} (4) فعم، ولأنه آدمي كالحي، ولأنها إحدى حالات الآدمي كالحياة، ولا يدخل عليه إذا لم يعلم به لأن الغرض إلحاق أحد النوعين بالآخر، ولأن الغرض بالوصية نفع الموصى له على وجه يصح من العقلاء وذلك يختلف باختلاف أحوال من يوصي له: فتارة يكون بالتمليك كالحي، وتارة يكون بغيره كالوصية للمسجد والقنطرة والجسور وما أشبه ذلك، فهذا أوصى لمسجد فقد علم أنه لم يرد تمليكه وإنما أراد صرف الوصية في مصالحة وكذلك الجسر والقنطرة، وكذلك إذا أوصى لميت وهو يعلم أنه ميت إنما أراد (5) صرف الوصية في وجوه نفعه ومصالحه، فإن كان عليه دين (6) قضي منها وإلا كانت لورثته أو تصدق بها عنه (7)، ولأنه أراد أن يكون كماله، وأما إذا كان عنده أنه حي فلا تصح الوصية لأنه أراد تمليكه ولم يرد ما ذكرناه. فصل [29 - إذا أوصى لقرباته أو لأهله]: إذا أوصى لقرباته أو لأهله: ففي القربات يكون للأقرب فالأقرب لا يدخل معهم ولد البنات، وفي الأهل يكون للعصبة إلا إن أراد ذوي رحمه، وروي أنه يدخل في ذلك العصبة وذوي الأرحام من لا يرثه وولد البنات والعمات   (1) في ق: كفارة. (2) انظر المدونة: 4/ 296، التفريع: 2/ 323، الكافي: 553 - 554. (3) انظر مختصر الطحاوي: 157، الإقناع: 131. (4) سورة البقرة الآية 181. (5) في م: قصد. (6) في م: ديون. (7) في ق: عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1634 والخالات (1) فوجه، الأول أن اسم القرابة مستحق من القرب فوجب أن يستحقه من يطلق عليه الاسم ولا يدخل عليه ولد البنات لأن قرباهم يختص لغيره، والأهل هم العصبة على الإطلاق لأنهم الذين يعقلون عنه ويملكون الولاية في النكاح والصلاة على الجنازة، ووجه الثانية أن اسم القرابة والأهل يشتمل على كل من مسه به (2) رحم وهذا أصح. فصل [30 - إذا أوصى بجزء من ماله وله مال يعلم به ومال لا يعلم به]: إذا أوصى بجزء من ماله وله مال يعلم به ومال لا يعلم به فالوصية فيما علم به دون ما لم يعلم به (3)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما إن الوصية فيما علم به وفي ما لم يعلم به (4)؛ لأن ما لم يعلم به فقد تحققنا أنه لم يقصده بالوصية فلم يكن له مدخل فيها أصله إذا أوصى بثلث هذه الدار فإنه لا يدخل عليه الوصية في غيرها من التركة لأنه لم يرده. وإذا دبر عبدا وله مال يعلم به ومال لا يعلم به: فالمدبر لا يخرج من المال الذي يعلم به ففيها روايتان: إحداهما أن المدبر يكون في المالين كالدين لأنه لا يجوز له الرجوع عنه، والثانية أنه يكون فيما علم به لأنه معتبر من الثلث كالوصية. فصل [31 - إذا أوصى الوارث وأجنبي فلم يجز الورثة وصية الوارث]: وإذا أوصى الوارث وأجنبي فلم يجز الورثة وصية الوارث فإنهم يحاصون الأجنبي بوصية الوارث فما حصل له رجع له ميراثًا وما بقي بعد ذلك فلأهل   (1) انظر المدونة: 4/ 315 - 316، الكافي: 554. (2) به: سقطت من م. (3) انظر المدونة: 4/ 305، التفريع: 2/ 329، الكافي: 553 - 554. (4) انظر مختصر الطحاوي: 162 - الأم: 4/ 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1635 الوصايا (1)، وقال الشافعي يبطل حق الوارث (2)، فدليلنا على المحاصة أن الميت شرك مع الأجنبي غيره في الثلث فكأنه أعطاه (3) الباقي عن عطية الوارث بدليل أن الورثة لو أجازوا الوصية للوارث لم يستحق الأجنبي إلا السدس، وإذا ثبت ذلك لم يكن له زيادة عليه بامتناع الورثة من الإجازة. فصل [32 - إذا هلك الموصى له قبل موت الموصي]: إذا هلك الموصى له قبل موت الموصي فلا شيء له، وإن كانت الوصية لجماعة فمات أحدهم قبل موت الموصي فيها ثلاث روايات (4): إحداها (5) أنه يحاص أهل الوصايا بقدر وصيته على علم بموته أو لا (6) فما أصابه كان لورثة الموصي ولا شيء لورثة الموصى له، والأخرى أنها تبطل وصيته ولا يحاص أهل الوصايا بها علم بموته أو لم يعلم (7)، والثالثة (8) أنهم يحاصون إن لم يعلم ولا يحاصون إن علم. فوجه الأولى أن الموصي قصد إعطاءهم ما بعد وصية الميت فلم يستحقوا زيادة على ذلك كما لو لم يمت، وإن لم يعلم فهو على العقد (9) الأول وإن علم فتركه إن تبين إقرارا منه فالأمر (10) على ما كان عليه.   (1) انظر المدونة: 4/ 307، التفريع: 3/ 324، الكافي: 544. (2) انظر الأم: 4/ 110، الإقناع: 130. (3) في ق: أعطي. (4) انظر المدونة: 4/ 296، التفريع: 2/ 323، الكافي: 554. (5) في م: إحداهن. (6) أم لا: سقطت من ق. (7) في م: أولا. (8) في م: والثانية وهو غلط. (9) في م: على القصد. (10) فالأمر: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1636 ووجه الثانية أن الموصي قد صرف إليهم المال وأخرجه عن تركته فلم يجز أن يرجع ميراثا، فإن لم يعلم فالقصد على ما كان عليه وإن علم ولم يعين فذلك دلالة على تبقيته إياه. ووجه الثالثة أنه إذا لم يعلم وقعت المحاصة لأنه لم يرد أن يكون لهم جميع المال الموصى به، فإذا علم فتركه أن يصرف المال إلى جهة أخرى، رضا منه بأن يكون (1) باقيا على حكم الوصية. فصل [33 - إذا أوصى بعبد من عبيده]: إذا أوصى له بعبد من عبيده وهم عشرة مثلا، أو بعير من إبله أو بشاة من غنمه فله عشرهم بالقيمة كان ذلك رأسا أو أقل أو أكثر (2) لأن ذلك هو العدل بين الورثة والموصى له، وذلك أن الرأس من العشرة عشرهم فلا بد أن يعتبر بعدد الرؤوس أو بالقيم: ففي اعتبار الرؤوس تعارض الدعاوي لأن الورثة يقولون نعطيه أدونها قيمة والموصى له يقول أعلاها وليس أحدهم (3) أولى من الآخر فلم يبق إلا اعتبار القيمة، فإن مات من العشرة ثمانية وبقي اثنان فله نصفهما بالقيمة، ولو مات خمسة كان خمس الباقي، وإن كانت الوصية بجزء منهم فوصى بعشرهم وهم عشرة فهلك ثمانية وبقي اثنان لكان عشرهما بالقيمة لأن من مات من العشرة كأنه لم يكن فلا اعتبار به. فصل [34 - إذا أوصى الرجل بنفقته عمره]: وإذا أوصى الرجل بنفقته عمره فإنه يعمر عند مالك سبعين سنة، وعند عبد الملك تسعين، وينظر كم مضى منها إلى يوم الوصية فحسب له نفقة ما بقي بالاجتهاد في نفقة مثله وكسوته وسكناه: فيفرض له مقدار ذلك، فإذا عرف قدره جعل على يدي وصي أو أمين وأنفق عليه إما شهرا بشهر أو أسبوعا بأسبوع   (1) في م: بكونه. (2) انظر المدونة: 4/ 278، التفريع: 2/ 329، الكافي: 553. (3) في ق: أحدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1637 أو سنة بسنة على ما يؤدي إليه الاجتهاد مما لا يستضر به، فإن مات قبل استيفاء ما أعد له من النفقة رجع باقي نفقته لورثة الموصي أو إلى أهل الوصاية إن كان المال ضاق عن استيفائها وإن كان عاش زيادة على التعمير فلا شيء له وقال أشهب يرجع إلى أهل الوصايا فيحاصهم ثانية (1). وإنما قلنا إنه لا يعمر لأنا لو لم نقل ذلك لم ندر كم نعطيه لأنا إن أنفقنا عليه أبدا إلى أن يموت ومدة بقائه مجهولة أضر بالورثة حيث حبس حقوقهم عنهم وإن لم يعطه شيئًا حتى يعلم كم بقي من عمره فإن ذلك غاية المحال فلم يبق إلا التعمير. وإنما قلنا يعمر سبعين لأنه غالب التعمير وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أعمار أمتي ما بين (2) الستين إلى السبعين وأقلهم ما يجاوز ذلك" (3)، ووجه قول عبد الملك تسعين سنة لأنها الغالب من تناهي الأعمار وقول مالك أصح، ولو أوصى لمن له سبعين أو ثمانين لم يكن له (4) إلا الاجتهاد في نفقته مثله، وإنما قلنا إنه ينفق عليه على ما ذكرناه ولا يسلم إليه دفعة ليتم غرض الموصي لأن غرضه امتداد الإنفاق بقية عمره، وإذا سلمت النفقة إليه جاز أن يتلفها لوقته أو يسرف في صرفها غرض الموصي. وإنما قلنا إنه إذا مات قبل استيفاء المدة والنفقة كان باقي النفقة لورثة الموصي لأن الموت سبب استحقاقها فعادت ميراثًا، ولذلك كقوله: إذا مت ودخل زيد الدار فأعطوه دينارًا فمات زيد قبل دخوله فيعود ميراثا، ولا شيء لورثة الموصى   (1) انظر التفريع: 2/ 330، الكافي: 554. (2) في م: من. (3) أخرجه البيهقي: 3/ 370، والحاكم: 2/ 427، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (4) في م: فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1638 له لأنه لم يكن مالكا لها (1) فتنقل إلى (ورثته لأن الموصي أراد إيصالها إليه لا إلى) (2) ورثته. وإنما قلنا إنها تعود إلى الوصايا إن كان المال ضاق عنها لأن الوصايا أولى بالثلث من الورثة وإنما دخلها النقص عند المزاحمة، فإذا مات عن شيء (3) مما أوصى له زالت المزاحمة في ذلك القدر فعاد إلى الوصايا، وإنما قلنا إنه إن عاش زيادة على التعمير فلا شيء لأن ذلك كالحكم الذي قد نفذ فلا ينتقض (4) باجتهاد آخر، ووجه قول أشهب أنا نتبين لبقائه بعد التعمير غلط (5) ذلك الاجتهاد فهذا أمكن تلافيه وجب العود فيه، ولأنه لما كان موته قبل استيفائه يوجب رده المال إلى الوصايا إذا احتاجت إليه كان بقاؤه بعدها يوجب عوده عليها، وإنما قلنا إن هذه النفقة من الثلث لأنها وصية فكانت في الثلث كسائر الوصايا. فصل [35 - في وصية المريض]: الأمر على ضربين: منها ما لا يخاف في العادة وذلك كالجذام والبرص والبلغم والجنون الذي يفيق معه أحيانًا فهذا حكمه حكم الصحة لا يمنع صاحبه التصرف في شيء من ماله بعوض وبغير عوض وما يهبه ويتصدق له نافذ من رأس ماله، والضرب الآخر ما يخاف منه وهو الذي لا يؤمن ترقبه (6) إلى الموت كالحمى الحادة والسل وذات الجنب وما أشبه ذلك فهذا هو الذي يتعلق عليه حق الحجر على من وجد به فيما زاد على قدر حاجته من الإنفاق في الأكل والكسوة   (1) في م: مالكها. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) في م: بقيه. (4) في م: ينقض. (5) لعلها لط. (6) في ق: توفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1639 والتداوي والعلاج وشراء (1) ما يحتاج إليه من الأشربة والأدوية وأجرة الطبيب، ويمنع مما سوى ذلك مما يخرج (2) على غير بدل يحصل للورثة من هبة أو صدقة، ويكون ما فعل من ذلك موقوفًا على موته فينفذ من الثلث أو على صحته فينفذ على ما بيناه، ولا يمنع من التصرف بالمعاوضة المعتادة في التجارة التي لا يحابي (3) معها كالبيع والشراء بمثل ثمن المثل والإجارة والرهن والأخذ بالشفعة وما أشبه ذلك. وإنما قلنا في القسم الأول إنه لا يوجب الحجر لأن الخوف إذا عدم معه لم يتعلق للورثه حق؛ لأن علته ثبوت الحجر لهم الخوف من الموت لأن حضور سبب الشيء جار في المنع مجرى حضور نفسه فإذا عدم هذا المعنى زال ما يجب (4) بوجوده. وإنما قلنا إن الحجر لا يتعلق بما يحتاج إليه لأن حقه مقدم على حق (5) الورثة، فلا يثبت لهم حق الحجر إلا فيما فضل عن حاجته لأن الحجر لا يدخل في الواجبات وإنما يدخل في التطوع، ولأن الوصية مقدمة على الميراث بحق الوصية (6) فحقه حال الحياة أولى. وإنما قلنا إنه يمنع من سرف أو ما يخرج عن عادة في قدر ما يحتاج إليه لأن ذلك إخراج مال على غير عوض يستفيده أو ورثته فكان في معنى إضاعته وذلك ممنوع فيه.   (1) في م: وشراء. (2) في ق: يجرى. (3) في ق: لا محاباه. (4) في ق: يوجب. (5) في م: حقوق. (6) في م: لحق الموصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1640 وإنما قلنا إن تصرفه في المعاوضات جائز إذا لم يكن فيها محاباة لأن الحجر لا يوجب المنع من التقلب في المال لأن الورثة لا يتعلق لهم حق في أعيان المال وإنما الحق لهم في مقداره ومبلغه. فصل [36 - الحجر على وصايا المريض المخوف عليه وما في حكمه ..]: الحامل إذا بلغت ستة أشهر والمحبوس للقتل في قصاص أو حد والزاحف في الصف كل هؤلاء حكمهم حكم المريض المخوف عليه في وجوب الحجر عليهم (1)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في إجازتهما لهم التصرف ما لم يضرب الحامل الطلق ويقرب المحبوس إلى القتل وتقدم الزاحف إلى البراز (2)، لقوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا} (3) قيل في التفسير لما بلغت ستة أشهر (4)، ولأنها بلغت حد الوضع كبلوغها حال الطلق، ولأن الله تعالى (5) قد جعل حضور سبب الموت كحضور الموت نفسه فقال {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (6) يريد أسبابه وعلاماته، وهذا موجود في المحبوس للقتل والزاحف في الصف، ولأن تجويز الموت عليهم مع حضور سببه كتجويزه على المريض مع اختلاف الأمراض المخوفة في زيادة بقاء المرض (7) وسرعة تلفه، فإذا كان لا اعتبار به فكذلك في مسألتنا. أما الراكب في البحر الخائف من الغرق: فقال ابن القاسم حكمه الصحيح، وقال أشهب حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر والزاحف في الصف، وهذا أقيس لأنها حال خوف على النفس كإثقال الحامل.   (1) انظر الموطأ: 2/ 765، التفريع: 2/ 331، الرسالة: 223، الكافي: 545. (2) انظر مختصر الطحاوي: 159، الأم: 4/ 119. (3) سورة الأعراف، الآية: 189. (4) انظر تفسير الطبري: 9/ 144. (5) في م: عز وجل. (6) سورة آل عمران الآية: 143. (7) في ق في زيادتها المرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1641 فصل [37 - إذا أوصى بوصيتين أو أكثر]: إذا أوصى بوصيتين أو أكثر: فإن لم يكن فيها تناقض وما يدل على رجوع نفذ جميعها، وإنما وجب ذلك لأن قصده إلى تنفيذها جميعها ممكن ولا شيء يدل على رجوعه فوجب تنفيذ الكل، وإن كان فيها رجوع عن بعضها نفذ ما لم يرجع فيه وبطل ما رجع عنه لأن ما رجع عنه مفسوخ بما ثبت عليه، فإن أوصى لرجل في موضعين بدنانير أو غيرها مما يكال أو يوزن مما لا يتعين من نوع واحد ولم يذكر إبطالًا لأحدهما ولا أنهما جميعًا للموصى له فله، واحدة منهما لاحتمال أن تكون الآخرة تكرارًا لابتداء، فإن كانت إحداهما أكثر من الآخرة فله الأكثر منهما لأنها إن كانت هي الآخرة فقد زاد على الأولى وإن كانت هي (1) الأولى فيحتمل أن يكون الأقل رجوعا عنها إلى الأقل، ويحتمل أن يكون زيادة مضمومة إليها فالأولى متيقنة فكانت أولى من الأقل، هذه روايه ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك، وذكر ابن حبيب ومطرف (2) وابن الماجشون عنه أنه ينظر إلى الأكثر: فإن كان هو في الأولى أعطى الجميع، وإن كان في الآخرة أعطي الأكثر فقط، قال لأنه إذا كان الأكثر هو أول الوصيتين (حمل الأقل بعده على أنه سبيل فيه قراره، وإن كان الأقل أوله الوصيتين) (3) كان رجوعا عن الأولى، هذا الحكم فيه إن كان من نوع واحد، وإن كان من أنواع شتى (4) مثل دنانير وثياب أو عروض فله الوصيتان جميعا ولا مقال للورثة لأنه لا ينسب إلى تكرار ولا إلى رجوع عن أحدهما (5).   (1) هي: سقطت من ق. (2) مطرف: أبو مصعب مطرف بن عبد الله بن يسار الهلالي، ابن أخت الإمام مالك وأحد أصحابه المشهورين تفقه به وبعبد العزيز بن الماجشون وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم وغيرهما ت 220 هـ (الديباج المذهب: 2/ 340، وشجرة النور الزكية: 57). (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) شتى: سقطت من م. (5) انظر المدونة: 4/ 304، 313، التفريع: 2/ 332، الكافي: 544. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1642 فصل [38 - إذا أوصى بشيء بعينه لرجل ثم أوصى به الآخر]: إذا أوصى بشيء بعينه مثل عبد أو دابة أو ثوب لرجل ثم أوصى به للآخر ولم يذكر رجوعا عن الأول كان بينهما نصفين (1)، خلافًا لمن يقول يكون للأول، ولمن قال إنه للثاني (2)، لأن وصيته به لآخر لا تحتمل (3) الرجوع وتحتمل الشركة فلم يحمل على الرجوع مع إمكان غيره، ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان هو لفلان كان رجوعا لأنه نقله عن المحل (4) الأول للذي جعله بعده فانتفى الاحتمال. فصل [39 - إذا أوصى بإعتاق عبد بعينه ثم أوصى به لرجل أو العكس]: فإن أوصى بإعتاق عبد بعينه ثم وصى به لرجل أو أوصى به لرجل أولا ثم ثانية بالعتق فالآخرة نقض للأولى أيهما كانت هذا قول ابن القاسم، وقال أشهب الحرية أولى قدمت أو أخرت، ولابن القاسم أنه قد ثبت أن الوصية للثاني يحتمل الرجوع ويحتمل الشركة وإذا احتملت الشركة (لم يجز حملها على الرجوع على ما بيناه (5). فصل [40 - فيما إذا لم يحتمل الشركة في الوصيتين]: فإذا لم يحتمل الشركة) (6) لم يبق إلا الرجوع، وذلك أن العتق لا يجوز (7) الاشتراك فيه لأنه بمنزلة ابتداء بتبعيضه، وإذا امتنع ذلك لم يبق إلا الرجوع (8)، ولأشهب أن العتق مغلب على غيره فوجب تقديمه.   (1) انظر المدونة: 4/ 313، الكافي: 545. (2) قاله جابر بن زيد والحسن وعطاء وطاوس وداود: أنها للآخر منهما (انظر المغني: 6/ 64). (3) في م ور: يحتمل. (4) في ق: الحمل. (5) انظر المدونة: 4/ 313، الكافي: 544. (6) ما بين قوسين سقط من م. (7) في م لا يكون. (8) في م: أنه رجوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1643 فصل [41 - متى تجب الوصية]: الوصية لا تجب إلا بموت الموصي وقبول الموصى له بعد موته؛ لأن الموصي ما دام حيا فله الرجوع في الوصية فلم يجب للموصى له حق فيعتبر قبوله، وإذا مات وجب أن يكون للموصى له حق القبول فإن قبل تمت الوصية وإن ردها عادت ميراثا أو فيما جعلها فيه إن كان شرط ذلك، ولا يدخل في ملكه بموت الموصي دون القبول (1)، خلافًا لأحد أقاويل الشافعي (2)؛ لأنه تمليك عين فافتقر إلى القبول كالهبة واعتبارا بالهبة حال الحياة. وأما إن مات الموصى له قبل أن يقبل أو يرد: فقد قال شيخنا أبو بكر الأبهري الأشبه أن تكون لورثة الموصي بها (لأنها على أصل ملك أبيهم إلى أن يخرج عنهم بقبول الموصى له) (3) وقال غيره من شيوخنا يكون القبول لورثه الموصى له لأنه حق وجب له فإذا مات انتقل إلى ورثته فقاموا فيه مقامه كسائر الحقوق وهذا كأنه أقيس. فصل [42 - إذا أوصى لرجل بشيء من ماله بعينه وله أموال كثيرة]: إذا أوصى لرجل يشيء من ماله بعينه وله أموال كثيرة من عين وعروض وعقار وديون، وكان ما أوصى له به دون الثلث من جميع تركته فقال الورثة: لا نعطيه هذا لأنا لا نأمن أن يتلف الديون أو العروض قبل القبض أو البيع فيكون قد فات (4) بالعين التي أخذها، فعندنا أنهم مخيرون بين أن يدفعوا إليه ما أوصى له به أو يفرجوا له عن جميع ثلث الميت، ثم هل يقطع له بثلثه (5) في جميع التركه أو في الشيء الموصى له به بعينه على روايتين (6)، وقال أبو حنيفة   (1) انظر الموطأ: 2/ 766، التفريع: 2/ 321، الكافي: 543. (2) انظر مختصر المزني: 143، الإقناع: 130. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في م: قد فاز. (5) في ق: بمثله. (6) انظر المدونة: 4/ 305، التفريع: 2/ 324، الرسالة: 223، الكافي: 550. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1644 والشافعي له ثلث تلك العين ويكون بباقيه شريكا في جميع ما تركه الميت حتى يستوفي تمام قيمته (1)، فدليلنا أن الورثة متعدى عليهم لأن الميت لم يكن له أن يوصي من العين بأكثر من قدر نصيبه منه وهو الثلث منها، فلما وصى بجميعها كان متعديا فكان الخيار للورثة بين أن ينفذوا ما وصى به أو يفرجوا عن الثلث لأنه إذا تعدى إلى مال ليس له وجب رد تعديه إلى ماله وإذا كان كذلك ثبت ما قلناه. ووجه قصر الثلث على العين الذي وصى بها فلأنه لم يرد الوصية بغيرها وإنما أراد هذه العين فمهما وجدنا سبيلا إلى إخراج العين كان أولى، ووجه القول الآخر أن التعدي إذا سقط ورد إلى الثلث صار في حكم من وصى بالثلث ابتداء. فصل [43 - إذا ضاق الثلث عن الوصايا]: إذا ضاق الثلث عن الوصايا قدم الأوكد فالأوكد فالمدبر في الصحة يقدم على المبتل (2) في المرض، وعلى المدبر في المرض لقوة التصرف في الصحة على التصرف في المرض والعتق المبتل في المرض يقدم على الوصية بالعتق لأن المبتل ليس له فيه رجوع إذا صح والوصية يرجع فيها، وإذا أوصى بعتق عبد بعينه كان في ملكه أو ليشترى ويعتق كان مقدما على غيره من الوصايا لتأكد حرمة العتق، وإن كانت الوصية بعتق غير معين فهي وسائر الوصايا سواء لأنها وصية بمال، والوصية بعتق معين تبدى على الزكاة لأنها حرمة ثبتت في البدن، ولأن العتق مبني على التغليب، وقال عبد الملك الزكاة مبتدأة لأنها حق من حقوق الله تعالى، وإذا أوصى بزكاة وكفارة قدمت الزكاة على الكفارة لتأكيد وجوبها (3).   (1) انظر مختصر الطحاوي: 158، الإقناع: 130. (2) على المبتل: سقطت من ق. (3) انظر المدونة: 4/ 306، التفريع: 2/ 324، الكافي: 550. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1645 فصل [44 - فيمن فرط في زكاة عليه ... ]: إذا فرط في زكاة عليه: فإن أوصى لزم الورثة إخراجها عنه، وإن لم يوص لم يلزم الورثة (1) خلافًا للشافعي (2)؛ لأن إخراجها موكول إلى اجتهاد (3) أمانته فيجوز أن يكون قد أخرجهما إلا أن يعلم أنه لم يفرط مثل أن يحول الحول وهو مريض لا يعقل أو يؤدي إليه الغريم نصابا من دينه فهذا يجب أداء الزكاة من رأس المال وصى بها أو لم يوصِ لزوال التهمة فيها، وإذا أوصى بما فرط فيه فهو من الثلث، خلافًا للشافعي؛ لأنه يتهم أن يكون أراد الانتفاع بالمال حياته وصرفه عن ورثته بعده فكانت كالوصايا ولم تكن كالديون. فصل [45 - في تزاحم الوصايا]: وإذا تزاحمت الوصايا (قدمت على ما أضعف منها (4) خلافًا لأبي حنيفة في قوله أنها وسائر الوصايا) (5) سواء (6)، لتأكيدها على غيرها إذ لولا التهمة لكانت من رأس المال. فصل [46 - إقرار المريض بدين لوارث]: وإذا أقر المريض بدين لوارث فقد بيناه في باب الإقرار لأن المراعى (7) فيه التهمة، وإذا أقر بآمانات كودائع وفرائض (8) لمن لا يتهم له: فإن وجدت   (1) انظر المدونة: 4/ 309، والتفريع: 2/ 325، الكافي: 110. (2) انظر الأم: 7/ 67، الإقناع: 68. (3) اجتهاد: سقطت من م. (4) انظر المدونة: 4/ 306، التفريع: 2/ 324، الكافي: 550، ومعنى ما أضعف منها أي أنه يقدم في الوصايا عند تزاحمها آكدها على ما دونه مثاله أن يوصى بعتق عبد وبمال لشخص فضاق الثلث عنها فإنه يقدم العتق على غيره لأنه آكد وأكثر حاجة. (5) ما بين قوسين سقط من م. (6) انظر مختصر الطحاوي: 160، مختصر القدوري مع شرح الميداني: 4/ 177. (7) في ق: المدعي. (8) في م: كوداع وقرائض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1646 بأعيانها ردت على أصحابها، وإن لم تعرف كانت كالديون، ويحاص بها عند ضيق المال لأنه إذا أقر بها ولم يذكر أنها تلفت فالظاهر استهلاكه لها وتعلقها بذمته. فصل [47 - إذا أوصى لرجل بمائتين ولآخر بمائة ولثالث بمثل إحدى الوصيتين]: وإذا أوصى لرجل بمائتين ولآخر بمائة ولثالث بمثل إحدى الوصيتين ولم يبين أيهما أراد ففيها روايتان (1): إحداهما أن له نصف الأولى ونصف الثانية، والثانية أن له مثل الآخرة، وقال أشهب له مثل الأقل منهما. فوجه الأولي أن مقدار الصغرى متحقق أنه موسى له به ونصف الكبرى فيصير النزاع في النصف الآخر من الكبرى فيتداعيانه (2)، ولا بينة لواحد منهما فيكون بينهما، ووجه الثانية أن قوله له مثله ترجع الكناية منه إلى الأقرب وهو الذي يليه لأنه الظاهر من الكلام، ووجه قول أشهب إن الأقل متيقن وما زاد عليه فمشكوك فيه فكان اليقين دون الشك وبالله التوفيق .. * * *   (1) انظر التفريع: 2/ 332، الكافي: 545. (2) في ق: فيدعيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1647 كتاب المواريث (1) الأسباب التي يتوارث بها ثلاثة: الرحم والولاء والنكاح، والعلل المانعة من الميراث ثلاثة: كفر ورق وقتل، فالمسلم والكافر لا توارث بينهما، والعبد الذي يستغرقه الرق ومن فيه بقية منه لا يرث ولا يورث إلا بالملك، وكذلك من فيه عقد من عقود العتق، وقاتل العمد لا يرث مقتوله، وقاتل الخطأ يرث من غير الدية، والمرتد لا يرث بحال (2). فصل [1 - في الميراث بالرحم]: وإنما قلنا إن الرحم يورث بها لإيجاب الله تعالى التوارث بين الوالدين والمولودين والإخوة وغيرهم من الأنساب، وكذلك النكاح لإيجابه تعالى الموارثة بين الزوجين، وأما الولاء فقد بيناه فيما تقدم. فصل [2 - في حصر وجوه التوارث في الرحم والولاء والنكاح فقط]: وإنما حصرنا وجوه (3) التوارث على هذه الثلاثة؛ لأن التوارث بغيرها إما أن يكون مجمع على منعه وأنه لم يثبت، أو على أنه منسوخ إن كان ثبت في وقت مثل التوارث بالنصرة والهجرة والحلف والإخوة والمولاة، وأنه لا يكون إلا ببعض ما قدمناه من الأسباب الثلاثة.   (1) المواريث: هو أن يكون الشيء لقوم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب (معجم مقاييس اللغة: 6/ 105)، وفي الاصطلاح العلم بالأحكام العملية المختص تعلقها بالمال بعد موت مالكه تحقيقا أو تقديرًا، ويقال له علم الفرائض (انظر الفواكه الدواني: 2/ 270 - 271). (2) انظر الموطأ: 2/ 503، المدونة: 3/ 81، التفريع: 2/ 338، الرسالة: 252، الكافي: 555، المقدمات: 3/ 141. (3) في م ور: وجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1649 فصل [3 - في كون الكافر لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث]: وإنما قلنا إن الكافر لا يرث المسلم لقوله "لا يرث الكافر المسلم" (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يتوارث أهل ملتين" (2)، وللإجماع على ذلك (3)، وإنما قلنا إن المسلم لا يرث الكافر خلافًا لمعاذ ومعاوية (4) ومحمد ابن الحنفية (5)، واعتبارًا بالكفر بعلة اختلاف الدينين، وإنما قلنا إن العبد لا يرث لأن الميراث مبني على تساوي الحرم فلو قلنا أنه يرث لكان مورثه لا يخلو أن يكون مات حرا أو رقا: فإن كان مات رقا فسيده أولى بماله، ولأن بسبب الحر لا يرثه ليقدم (6) سيده عليه والعبد أولى، وإن كان مات حرا فحرمته مخالفه لحرمته فلم يرثه، فأما سيده فيرثه بالرق لا من (7) طريق حقيقة الإرث، وإنما قلنا إن من فيه بقية رق فإنه لا يرث خلافًا لمن ورثه (8) لوجود الرق فيه كما لو استغرقه، ولا يجوز أن يقابل بأن يقال يجب أن يرثه للحرية التي فيه كالحر الكامل لأن المانع والمبيح إذا اجتمعا غلب المنع، ولأن أحكام الرق أغلب عليه بدليل منع   (1) أخرجه البخاري في الفرائض باب لا يرث المسلم الكافر: 8/ 11، ومسلم في الفرائض: 3/ 1233. (2) أخرجه أبو داود في الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر: 3/ 328، وابن ماجه في الفرائض باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك: 2/ 912، وأحمد: 2/ 178، ومعروف حكم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في أنه حسن. (3) انظر بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية-: 8/ 275، وشرح مسلم- للنووي-: 6/ 51، المغني: 294، فتح الباري: 12/ 42. (4) انظر الأم: 4/ 73، المغني: 6/ 294. (5) محمد بن الحنيفية بن علي بن أبي طالب أبو القاسم، وأبو عبد الله أيضًا، وكانت أمه سوداء سنديه من بني حنيفة اسمها خولة من سادات قريش ومن الشجعان المشهورين، مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين (البداية والنهاية: 9/ 40، وحلية الأولياء: 3/ 174). (6) في م: لتقدير. (7) في ق: ولان. (8) ورثه بعض الشافعية: (انظر المهذب: 2/ 25). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1650 شهادته ونقصان حدوده وطلاقه وسقوط الجمعه عنه والحج وغير ذلك لأن الميراث مشروط بتساوي الحرم على ما بيناه. وإنما قلنا إن ماله إذا مات لمن فيه بقية رق لمالكه خلافًا لأصحاب الشافعي في قولهم إن ورثته يرثون نصيبه الحر (1)، وقول (2) بعضهم أنه لبيت المال (3)، لأن كل من لم يرث لمعنى لولاه لورث فإنه لا يورث أصله العبد والكافر، ولأن قدر ما فيه من الحرية (إذا لم يوجب له أن يرث لم يوجب له أن يورث، ولأن أحكام الرق أغلب عليه وقدر ما فيه من الحرية) (4) لم يجعل حكمه حكم الأحرار بقدره في أن يستحق بعض حد الفرية والتغريب والحصانة وقبول الشهادة وغير ذلك فكذلك الميراث. فصل [4 - منع الإرث عمن فيه عقد من عقود العتق]: وإنما قلنا إن من فيه عقد من عقود العتق: كأم الولد والمكاتب والمدبر والمعتق إلى أجل في منع الإرث كالعبد لأن الرق باق عليهم بدليل أنهم لا يرثون به لأن عقد الحرية ليس بآكد من مباشرتها، وقد بينا أنها إذا لم يستغرق وبقيت بقية (5) من الرق لم يحصل بها توارث فما دونه أولى. فصل [5 - منع الميراث عن قاتل العمد]: وإنما قلنا إن قاتل العمد لا يرث لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ليس لقاتل العمد (6) شيء (7)،   (1) انظر المهذب: 2/ 25. (2) في م: وقال. (3) هذا في قول الشافعي القديم (المهذب: 2/ 25، المغني: 6/ 27). (4) ما بين قوسين سقط من ق ومن ر. (5) في ق: بقية رقبته. (6) العمد: سقطت من م. (7) أخرجه مالك: 2/ 867، النسائي في الفرائض: 6/ 341، والدارقطني: 4/ 96، والبيهقي: 6/ 220، وصححه ابن عبد البر، وقال الألباني عنه: ضعيف (إرواء الغليل: 6/ 114). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1651 وروي ليس لقاتل العمد (1) ميراث (2)، وللإجماع على ذلك (3)، ولأن التهمة تؤثر في المواريث (4) في الإدخال والإخراج بدليل أن المتزوج في المرض المخوف لا يرث بالتهمة بإدخال وارث على ورثته، ولأن المطلقة ترث (5) فيه للتهمة بمنعها (6) من الميراث والقاتل عمدا متهم باستعجال الميراث فمنع منه. فصل [6 - إرث قاتل الخطأ]: وإنما قلنا إن قاتل الخطأ يرث خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (7)، لعموم الظواهر (8) مثل قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (9) وغير ذلك، وروى هشام بن عروة (10) عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: في قاتل (11) الخطأ يرث من المال ولا يرث من الدية (12)، ولأن كل معنى لا يمنع التساوي في الحرم والدين ولا يوجب القود لا يزيل جهة التوارث ولا يمنع الميراث أصله غير القتل من سائر الأفعال، وفيه احتراز من الطلاق في الصحة لأنه يزيل جهة التوارث.   (1) العمد: سقطت من م. (2) أخرجه ابن ماجه في الديات باب القاتل لا يرث: 2/ 884، وأحمد: 1/ 49، وفي الزوائد وإسناده حسن وصححه الألباني (إرواء الغليل: 6/ 117). (3) انظر مراتب الإجماع: 98، 109، المغني: 6/ 291. (4) في م: الميراث. (5) لوث: سقطت من ق. (6) في م: منها. (7) انظر مختصر الطحاوي: 142، الأيام: 4/ 72. (8) في ق: الظاهر. (9) سورة النساء، الآية: 11. (10) هشام بن عروة: ابن الزبير بن العوام الأسدي، ثقه فقيه ربما دلس، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة وله سبع وثمانون (سير أعلام النبلاء: 6/ 34، وتقريب التهذيب: 573). (11) في م: قتل. (12) أخرجه البيهقي: 6/ 22، وقال الشافعي لا يثبته أهل العلم (الأم: 4/ 73). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1652 فصل [7 - في كون القاتل لا يرث من الدية]: وإنما قلنا لا يرث من الدية خلافًا لمن قال إنه يرث منها (1) لأن الدية واجبة عليه بجناية والعاقلة تحملها (2) عنه تخفيفًا، ولا يجوز أن يجني جناية يستحق بها مالًا لأن الجناية إن لم تلزمه شيئًا فلا أقل من أنها لا تقيده استجلاب مال. فصل [8 - في إرث المرتد]: أما المرتد فأمره مراعى موقوف على توبته: فإن تاب عاد إلى ما كان عليه من أحكام الإِسلام، وإن قتل أو مات على ردته انتقل ماله إلى بيت المال ولم يرثه ورثته من المسلمين ولا من أهل الدين الذي انتقل إليه وقد بيناه فيما تقدم. فصل [9 - عدم وجوب الميراث بالشك]: لا يجب ميراث بشك (3)، فإن قتل قرابة (4) يتوارثون بين الصفين أو غرقوا أو ماتوا تحت الهدم ولم يعلم الأول منهم لم يورث بعضهم من بعض وورثهم ورثتهم من الأحياء، مثل أخوين لأب ملكا ببعض ما ذكرناه وترك كل واحد زوجة وأما وأخًا من أم فإن الباقي عندنا يكون لبيت المال دون الأخ الآخر، واختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فذهب بعضهم إلى هذا وبعضهم إلى توريث كل واحد منهم من الآخر (5)، وإنما قلنا ذلك لأن المواريث (6) لا تجب بالشكوك ولما شككنا في أيهما مات أولًا لم يجز أن يرث وارث مشكوك في استحقاقه الميراث.   (1) قال في الأشراف: أن أهل البصرة ورثوه من الدية: 2/ 329. (2) في ق: حاملة. (3) في م: الشك. (4) في ق: قرابته. (5) انظر المدونة: 3/ 85، التفريع: 2/ 336. (6) في م: التواريث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1653 فصل [10 - ميراث الجنين]: إذا طرح (1) الجنين فاستهل صارخًا فقد ثبتت حياته ويرث ويورث وكذلك إن أقام أياما وإن لم يصرخ بذلك يقوم في باب العلم بحياته مقام الصراخ، وإن تحرك ثم مات ولم يصرخ لم تثبت حياته فلا يرث ولا يورث، واختلف في العطاس وقد بيناه فيما تقدم (2). فصل [11 - فيمن ألحق بأبيه بعد موته]: من ألحق بأبيه بعد موته ورثه (3) لأنّ المقر بنسب ولد منه أو الشهود الذين يثبتون الأنساب إنما يثبتون نسبا متقدم الثبوت (4) على الموت لا حادثًا بعده، وإذا كان كذلك ثبت أن الموت طرأ على نسب حاصل ثابت فوجب أن يستحق الميراث به. فصل [12 - زوال الأسباب المانعة من الميراث بعد موت المورث]: إذا مات وله وارث فيه بعض الأسباب المانعة من الميراث من كفر أو رق فزالت بعد الموت وقبل القسمة لم يرث (5)، خلافًا لمن قال إنه يرث إذا زالت (6)؛ لأن كل من لم يكن وارثًا في حال الموت لوجود معنى فزواله بعد الموت لا يصيره وارثا أصله بعد القسمة. فصل [13 - في ميراث ولد الملاعنة]: ولد الملاعنة إذا مات وترك أمه وإخوته لأمه ورثوا منه (7) سهامهم وكان ما بقي   (1) في م: سقطت. (2) انظر التفريع: 2/ 336. (3) انظر المدونة: 3/ 86، 89، التفريع: 2/ 336، الكافي: 555. (4) في م: شيئًا متقدم الثبوت. (5) انظر المدونة: 3/ 87 - 88، التفريع: 2/ 337، الكافي: 555. (6) قال ذلك: الأثرم ومحمد بن الحكم وروي عن عمرو وعثمان والحسن بن علي وابن مسعود وبه قال جابر والحسن ومكحول وغيرهم (المغني: 6/ 229). (7) في ق: منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1654 لموالي أمه إن كانت معتقة، وإن كانت عربية فللمسلمين ولا يكون لعصبتها (1)، وقال ابن مسعود هي عصبته فيكون ما بقي لها فإن لن تكن فعصبتها عصبته (2)، وإنما قلنا: إن الفاضل لموالي أمهم لأنهم عصبة له، ولأنه ينسب إلى ولايتهم، وإنما قلنا: إن العربية يكون الفاضل من ميراث ولدها للمسلمين دونها لأن الأم لها رحم محض فلا يكون عصبة بالنسب على وجه كالأخوة من الأم، وإنما قلنا إن عصبتها ليسوا عصبة لولدها لأنهم أخوال وذوا أرحام فلا تعصيب فيهم. فصل [14 - إذا ولدت الملاعنة توأمين]: وإذا ولدت الملاعنة توأمين توارثا بأنهما أخوان لأم وأب لأن لعان أبيهما يسقط نسبهما منه دون توريثهما بينهم. فصل [15 - الحكم في ميراث ولد الزنا]: ولد الزنا لاحق بأمه، والحكم فيه كالحكم في ولد الملاعنة إلا أنها إذا ولدت توأمين توارثا بأنهما أخوان لأم بخلاف ولد الملاعنة لأنه لا شبهة لهما في نسبهما من واطء لأم. فصل [16 - في أنساب الأعاجم]: الأعاجم إذا انتسبوا (3) لم يقبل قولهم في أنسابهم في باب التوارث إلا أن تشهد بذلك بينة (4) بها، فأما ما يقول (5) القائل منهم: هذا أخي، هذا ابني (6) فلا يقبل منه ذلك (7)؛ لأنه يريد بذلك قطع استحقاقنا لإرثه فلا يقبل،   (1) انظر المدونة: 3/ 86، التفريع: 2/ 337، الكافي: 555. (2) انظر المغني: 6/ 260. (3) في م: سبوا. (4) في م: أن يشهد بينة بسببها. (5) في ق: بقول. (6) في م: وهذه بنتي. (7) انظر المدونة: 3/ 88، التفريع: 2/ 338، الكافي: 556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1655 فإن كانت ولادتهم في دار الإِسلام فإن أنسابهم تثبت، فأما بلدان أعاجم المسلمين الذين يحفظون أنسابهم فإنهم كالعرب في ثبوتها والحكم بها (1). فصل [17 - ميراث ذوي الإرحام]: ولا يرث ذوو الأرحام شيئًا (2) خلافًا لأبي حنيفة والشافعي (3)، وهم من على السبعة عشر الوارثين بالأسباب الثلاثة، وعدة أصول ذوي الأرحام أربعة عشر: ولد البنات، والجد أبو الأم، والجدة أم أبي الأم (4)، وولد الأخ للأم، وولد الأخوات، وبنات الأخوة وبنات العمومة، والعمة وولدها والخال والخالة وولداهما والعم أخو (5) الأب لأمه ومن جرى مجراهم في هذا (6) النسب، ودليلنا ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعي لجنازة فقيل ترك عمة وخالة فقال: "اللهم وعمة وخالة" ثم قال "ما أجد لكما في كتاب الله شيئًا" (7)، وفي بعض طرقه "أن جبريل يخبرني أنه لا شيء لهما" (8) ولأن كل بنت (9) أنثى لم ترث مع أختها إذا انفردت أصله بنت المولى، ولأن المولى المنعم لما قدم على ذوي الأرحام دل على أنه لا حق لهم في الإرث لأن الولاء (10) لا يتقدم على النسب.   (1) في ق: في ثبوتهم الحكم بها. (2) انظر الموطأ: 2/ 518، التفريع: 2/ 342، الرسالة: 257، الكافي: 561. (3) انظر مختصر الطحاوي: 151، الأم: 4/ 80. (4) والجدة أم أبي الأم: سقطت من ق. (5) في ق: أخ. (6) في م: بعد. (7) أخرجه البيهقي: 6/ 212، الدارقطني: 4/ 19، بلفظ قريب منه. (8) أخرجه البيهقي: 6/ 213، الدارقطني: 4/ 99، وقال: ولم يسنده غير مسعده، عن محمَّد بن عمرو وهو ضعيف والصواب مرسل. (9) بنت: سقطت من م. (10) في م: المولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1656 فصل [18 - في الرد]: إذا استوفى أهل الفروض (1) حقوقهم كان الفاضل (2) لبيت المال ولا يرد على ذوي السهام، (3) وذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الرد وتابعه عليه ابن مسعود على اختلاف بينهم في كيفيته واتفقوا على أنه لا يرد على زوج ولا زوجة (4)، ودليلنا قوله تعالى في البنت {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (5)، وفي الأخت {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (6) فلم تجز الزيادة عليه، ولأن كل من ورث مقدارا من فريضة لم يستحق زيادة عليه إلا بتعصيب كالزوج والزوجة، ولأن المسلمين يعقلون عنه فجاز أن يرثوا ما فضل عن ذوي السهام كالموالي (7). فصل [19 - في ميراث الخنثى]: الخنثى يعتبر منها بالمبال، فإن بال من الذكر حكم له بحكم الذكر، وإن بال من الفرج حكم بحكم الأنثى، وإن بال منهما جميعًا فهو الخنثى المشكل فيكون له نصف ميراث الذكر ونصف ميراث الأنثى متفق عليه (8)، لأن أسوأ أحواله أن يكون أنثى، وما زاد عليها فتنازع بينه وبين بقية الورثة وليس لأحد الفريقين مزيه على صاحبه لأن الإشكال قائم فوجب أن يقسم بينهما كالتداعي، والخلاف في هذه المسألة كبير (9) جدًّا لا يحتمله هذا الباب.   (1) في م: الفرائض وفي ر: إذا استغرق أهل الفرائض. (2) في م: كان ما بقي. (3) انظر، التفريع: 2/ 344، الكافي: 569. (4) انظر عبد الرزاق: 10/ 287، ابن أبي شيبة: 10/ 274 - 275، المغني: 6/ 201. (5) سورة النساء، الآية: 11. (6) سورة النساء، الآية: 176. (7) في ق: كالمولى. (8) انظر مراتب الإجماع: 1009، المغني: 6/ 253. (9) في ق: كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1657 فصل [20 - إذا اجتمع في شخص واحد سببان ورث بأقواهما]: إذا اجتمع في شخص واحد سببان يورث بكل واحد منهما فرض مقدر: فإنه يرث بأقواهما، ويسقط الأضعف سواء اتفق ذلك في المسلمين أو المجوس وذلك كالأم تكون أختا أو الأبنة تكون أختًا، ولا يلزم على ما قلناه ابن عم يكون أخًا لأم لأنه بكونه ابن عم لا يرث فرضا مقدرا وإنما يرث بالتعصيب (1)، وقال أبو حنيفة يرث بالسببين جميعًا (2). وإنما قلنا ذلك لأنهما سببان يورث بهما عن جنس واحد فإذا اجتمعا لم يرث بهما كالأخ يكون مولى أو ابن عم يكون مولى (3)، ولأنهما قرابتان يورث بكل واحدة فرضا مقدرا فإذا اجتمعا لم يرث بهما، ثم كذا أخت للأب (4) والأم لأن كونها أختا لأب يوجب النصف ولأم يوجب السدس، ثم إذا اجتمعت القرابتان لم ترث بالجميع وورثه بالأقوى (5). ...   (1) انظر الرسالة: 253، الكافي: 570. (2) انظر مختصر القدوري- مع شرح الميداني: 4/ 198. (3) وابن عم يكون مولى: سقطت من ق. (4) في م: كالأخت للأب. (5) وورثه بالأقوى: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1658 باب [- الوارثون من الرجال والنساء] المجتمع على توريثهم من الرجال عشرة: الابن وابن الأبن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا (1)، والأخ من أي جهه كان وابن الأخ وإن سفل، والعم وابن العم وإن سفل، والزوج ومولى النعمة (2)، ومن النساء سبعة: الابنة وابنة الابن وإن سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت والزوجة والمولات وكل واحد من الرجال إذا انفرد بالمال أحرزه إلا الزوج والأخ لأم وليس من النساء من يحوز المال إلا المولات فقط (3). فصل [1 - أقسام المواريث]: والمواريث ضربان: ضرب بتعصيب، وبفرض مقدر، فالعصبة إذا انفرد بالمال أحرزه وأن كان معه ذو سهم أخذ ما فضل عنه قل أو كثر، وإن لم يفضل شيء سقط والفرض لا يستحق من يرث به شيئًا سواه لا بزيادة ولا بنقصان إلا أن يحجب عنه أو ينقصه العول عند مزاحمة غيره له على ما سنبينه (4). فصل [2 - في أقسام الفروض]: والفرض ضربان (5): فرض هو أصل مقدر بالنص وفرض ليس بأصل ولكنه يثبت لعارض أوجب خروجه عن الأصل، فأما الفروض التي هي أصول فستة   (1) وإن علا: سقطت من ق. (2) مولى النعمة: وهو المعتق -بضم الميم وكسر التاء- (المصباح المنير: 672). (3) انظر الموطأ: 2/ 503، التفريع: 2/ 338، الرسالة: 252، الكافي: 561. (4) انظر: التفريع: 2/ 338، الرسالة: 252، الكافي: 562، 568. (5) في م: ضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1659 وهي (1): النصف ونصفه وهو الربع ونصفه وهو الثمن، والثلثان ونصفهما وهو الثلث ونصفه وهو السدس: فالنصف فرض خمسة: ابنة الصلب إذا لم يكن معها ابن وابنه الابن إذا انفردت، والأخت للأب وللأم إذا انفردت، والأخت إذا انفردت، والزوج إذا لم يكن للميتة ولد ولا ولد ابن. والربع: فرض صنفين الزوج مع الولد أو الولد الابن، والزوجة والزوجات إذا اجتمعن ولم يكن للميت ولد ولا ولد ابن. (والثمن: فرض صنف واحد وهو الزوجة والزوجات إذا اجتمعن مع الولد أو ولد الابن) (2). والثلثان: فرض أربعة فرض الاثنين فصاعدًا من بنات الصلب (إذا انفردن، وللاثنتين فصاعدا من بنات الابن إذا انفردن (والاثنتين فصاعدا من الأخوات للأب والأم، وللأب إذا انفردن) (3). والثلث: فرض صنفين الأم مع عدم الولد أو ولد الابن، أو الاثنين فصاعدا من الأخوات، وفرض الاثنين فصاعدا (من ولد الأم. والسدس: فرض سبعه فرض كل واحد من الأبوين، والجد مع الولد أو ولد الابن، وفرض الجدة والجدات إذا اجتمعن، وفرض بنات الابن مع الواحدة من بنات الصلب إذا انفردن، وفرض الأخوات للأب مع الواحدة من الأخوات للأب والأم إذا انفردن، وفرض الواحد) (4) من ولد الابن ذكرا كان أو أنثى   (1) انظر: الموطأ: 2/ 506، التفريع: 2/ 340، الرسالة: 252، الكافي: 562. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1660 وأما الفرض الخارج عن هذه فهو الثلث ما بقي في ثلاث (1) (مسائل وهي: زوج أو زوجة وأبوان فإنه يفرض للأم فيها ثلث ما بقي) (2)، وفي مسائل الجد مع الأخوة إذا كان معهم ذو سهم وكان ما بقي أحظي له. فصل [3 - في الحجب]: الحجب (3) ضربان (4): إسقاط وحجب عن بعض الميراث. فأما الإسقاط فلا يكون في خمسة ويكون فيمن عداهم فولد الصلب والأبوان والزوجان لا يسقطون بوجه، ويسقط ولد الابن بذكور ولد الصلب (ويسقط الجد بالأب فقط) (5) ويسقط الأخوة والأخوات مع ثلاث ذكور ولد الصلب وولد الابن ومع الأب هذا في الجملة، فأما التفصيل فيسقط ولد الابن بذكور ولد الأب والأم ومن يسقطهم، ويسقط ولد الأم بأربعة ولد (6) الصلب وولد الابن وبالأب وبالجد ويسقط بنو الأخوة ببني الإخوة للأب وللأم، (ويسقط العمومة بنو الإخوة) (7) ويسقط بنو العمومة وكل من أسقط غيره ويسقط من المسقط (8)، وتسقط الجدات بالأم، وتسقط أم الأب بالأب، ومن قربت درجته منهن أسقطت البعدى إذا كانت من جهتها فإن كانت من جهتين فإن القربى   (1) في م: وفي. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) الحجب: في اللغة المنع (المصباح المنير: 120). (4) انظر الموطأ: 2/ 503 - 511، التفريع: 2/ 339 - 340، الرسالة: 257، الكافي: 568 - 570. (5) ما بين قوسين سقط من م. (6) في ق: بولد. (7) ما بين قوسين سقط من م. (8) في م: أسقط من أسقط المسقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1661 من جهة الأم تسقط البعدى من جهة الأب والقربى من جهة الأب (لا تسقط البعدى من جهة الأم (1)) (2) بل تشاركها في الميراث، ولا ترث من الجدات إلا جدتان أم الأم وأمهاتها وأم الأب وأمهاتها، ولا ترث أم جد، فإذا استكمل بنات الصلب الثلثين سقطت (3) بنات الابن إلا أن يكون معهن ذكر في درجتهن أو أنزل فيعصبهن ويقسم ما بقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا استكمل الأخوات للأب وللأم الثلثين سقطت (4) بنات الابن إلا أن يكون معهن ذكر في درجتهن أو أنزل منهن فيتعصبهن ويقسم ما بقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا استكمل الأخوات للأب وللأم الثلثين سقطت (5) الأخوات للأب إلا أن يكون معهن ذكر في درجتهن لا أنزل منهن، ولا يعصبه ولد الأخوة الأخوات بخلاف ولد الابن في تعصيبهم بنات الابن الأعلين، وأربعة من المذكور يعصبون الإناث في درجتهم: ولد الصلب المذكور وذكور ولد الابن والإخوة للأب والأم والأخوة للأب كل صنف من هؤلاء يقتسمون المال مع إناثهم في درجتهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وليس في النساء عصبة إلا الأخوات للأب والأم أو للأب (6) إذا انفردن عن إخوة في درجتهن مع بنات الصلب أو بنات الابن فإنهن يكن عصبة، وترث البنت النصف والبنات الثلثين وتأخذ الأخوات ما بقي هذا حجب إسقاط. وأما الحجب عن بعض الفروض فيحجب الزوج عن النصف إلى الربع   (1) في ق: من جهتها. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) في م: وجهاتها. (4) في م: سقط. (5) في م: سقط. (6) أو للأب: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1662 والزوجات عن الربع إلى الثمن بالولد وولد الابن ذكورهم وإناثهم فقط، ويحجب الأم عن الثلث حجبان: حجب إلى السدس وهو بالولد وولد الابن أو الاثنين فصاعدا (1) من الإخوة والأخوات، وحجب إلى الثلث ما بقي يحجب بها الأب في مسألتين: وهما زوج وأبوان، وامرأة وأبوان، ويحجب الأب إلى السدس الولد وولد الابن فإن كان الولد ذكورا أخذوا الباقي، وإن كانوا إناثا أخذن فروضهن وأخذ الأب السدس معهن وكان ما بقي له بالتعصب. * * *   (1) فصاعدا: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1663 باب [- فيمن يحجبون] وأما الجد فله باب ينفرد به ولا يحجب إلا من يرث ولا يحجب عبد ولا كافر ولا يحجب غير الوارث إلا في موضوع واحد وهو الأخوة مع الأبوين يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ولا يرثون مع الأبوين (1) شيئًا. فصل [1 - في أدلة الفروض وأصحابها]: النصوص الواردة بتوريث من ذكرناه من عدد الذكور والإناث والإجماع عليه (2) مغن عن زيادة فيه، وإنما قلنا إن ما فضل عن ذوي السهام للعصبه لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر" (3)، وإنما قلنا إنه إذا لم يفضل شيء فلا شيء لهم فإن ذوي السهام إذ أقدموا عليهم كان حقهم فيما فضل عنهم فإذا استغرق ذو (4) السهام المال سقطوا. وإنما قلنا إن ذوي السهام لا يستحقون زيادة على سهامهم لأن الزيادة على ذلك لا تستحق إلا برد أو تعصيب والرد قد أبطلناه، والتعصيب يستحق الزيادة به، وإنما قصرنا الفروض على الستة المقدرة لأن النص لم يرد بما سواها، وللإجماع على أنه لا مدخل لنا في الفروض (5) فيها من خمس أو سبع أو تسع أو عشر فوجب قصرها على ما ذكرناه.   (1) في م: مع الأب. (2) انظر بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 251، المحلي: 10/ 312، المغني: 6/ 168. (3) أخرجه البخاري في الفرائض باب ميراث الولد من أبيه وأمه: 7/ 5، ومسلم في الفرائض باب ألحقوا الفرائض بأهلها .. : 3/ 1233. (4) ذووا: سقطت من م. (5) في م: لا مدخل في الفروض وفي ق: لا مدخل للباقي للفروض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1664 وإنما قلنا إن فرض البنت الواحدة النصف لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (1) ولا خلاف (2)، وإنما قلنا أن البنتين فأكثر لهما الثلثان لقوله تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (3) ولا خلاف فيه أيضًا (4). وإنما قلنا أن للأثنين الثلثان (5) خلافا لمن ذهب الي أن لهما النصف (6) لأنه قال تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (7) فبين حكم الواحدة وحكم ما زاد على الأثنين، فكان مفهومه إن كن نساء اثنتين (8) فما فوقهما فلهن الثلثان، ولأن لابنه (9) الأبن مع بنات الصلب السدس تكمله الثلثين، وفائدة ذلك أنها تقوم معها مقام بنت أخرى في استغراق الثلثين، ولأن كل إناث كان فرض الثلاث منهن الثلثين فكذلك فرض الابنتين أصله الأخوات وإنما قلنا أن فرض الواحدة من بنات الابن النصف وفرض الاثنتين فصاعدا الثلثان   (1) سورة النساء، الآية: 11. (2) انظر بداية المجتهد - مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 512، المحلي: 10/ 314 - 315، المغني: 6/ 172. (3) سورة النساء، الآية: 11. (4) انظر الإجماع: 79، بداية المجتهد مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 251 المحلي: 10/ 314 - 315، المغني: 6/ 170. (5) الثلثان: سقطت من م. (6) في رواية شاذة عن ابن عباس أنه قال: فرضهما النصف (انظر المغني: 6/ 170). (7) سورة النساء، الآية: 11. (8) في م: فوق اثنتين. (9) في م: لبنت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1665 للإجماع على قيام ولد الابن مقام ولد الصلب عند عدمهم ولا خلاف في ذلك (1). وإنما قلنا إن فرض الواحدة من الأخوات للأب والأم أو للأب النصف، وفرض الاثنتين فصاعدا الثلثان لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ... إلى قوله تعالى: فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (2) وهذا عام في الشقائق وولد الأب (3)، وإنما قلنا إن كل ما زاد على الاثنتين فرضها الثلثان (لأن كل عدد زاد على الواحدة ممن فرضها النصف ففرضه الثلثان) (4) كالبنات وكالابنتين. وإنما قلنا إن فرض الزوج مع عدم الولد وولد الابن النصف، ومعهم الربع لقوله تعالى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} (5) فلا خلاف في ذلك (6)، وإنما قلنا الفرض للزوجة والزوجات مع عدم الولد وولد الابن الربع ومع وجودهم الثمن لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (7) ولا خلاف فيه (8).   (1) انظر بداية المجتهد - مع الهداية في تخريج أحاديث البداية: 8/ 256، المحلي: 10/ 345، المغني: 6/ 172. (2) سورة النساء، الآية: 176. (3) في ق: وولد الابن. (4) ما بين قوسين سقط من م. (5) سورة النساء، الآية: 12. (6) انظر الإجماع: 81، بداية المجتهد - مع الهداية: 8/ 257، المحلي: 10/ 346، المغني: 6/ 178. (7) سورة النساء، الآية: 12. (8) انظر الإجماع: 81، بداية المجتهد مع الهداية: 80/ 257، المحلي: 10/ 326 المغني: 6/ 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1666 وإنما قلنا إن فرض الأم الثلث لقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (1)، وإنما قلنا إن فرض الواحد من ولد الأم السدس، وإن فرض ما زاد عليه الثلث لقوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (2)، واتفق على أن المراد به الأخوة من الأم (3). وإنما قلنا إن فرض الأبوين مع الولد أو ولد الابن السدس لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (4) وإنما قلنا إن الجد كالأب (5) للإجماع على قيامه مقام الأب في ذلك عند عدمه (6)، وإنما قلنا إن الجدة ترث وأن فرضها السدس، وكذلك الجدات لإجماع الصحابة على توريثهن، وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا حتى روي له المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أطعم الجدة (7) السدس" (8)، ولأن أم الأم أقيمت مقام الأم عند عدم الأم كما أقيم أبو الأب عند عدم الأب مقام الأب (9) فجعل لها أنقص فرضي الأم وهو السدس.   (1) سورة النساء الآية: 11. (2) سورة النساء الآية: 12. (3) انظر تفسير الطبري: 4/ 287، الجامع لأحكام القرآن: 5/ 78. (4) سورة النساء الآية: 11. (5) في م: كذلك. (6) في م: عدم الأب. (7) في م: أم الأم. (8) أخرجه أبو داود في الفرائض باب في الجدة: 3/ 318، وابن ماجة في الفرائض باب ميراث الجدة: 2/ 909، والترمذي في الفرائض باب ما جاء في ميراث الجدة: 4/ 365 وصححه، والحاكم: 4/ 338، وقال على شرط الشيخين. (9) مقام الأب: سقطت من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1667 وإنما قلنا إنهن بينهن إذا اجتمعن لحديث أبي بكر رضي الله عنه أنه شرك بينهما (1)، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ما أنا بزائد في الفرائض شيئًا هو السدس فإن اجتمعتا فهو بينكما وأيتكما خلت به فهو لها (2)، ولأن كل أنثى لها فرض مقدر (3) لا يتغير ولا يساويها الذكر فيه فإذا اجتمعت مع غيرها من جنسها شوركت فيه كالثمن للزوجات. وإنما قلنا إن فرض بنات الابن (مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين لإجماع الصحابه عليه، ولأن بنات الابن أقمن مقام البنت) (4) الصلب فيجب أن يأخذن ما كان بقدر نصيب بنت الأبن لو كانت للصلب، فلما لم يمكن ذلك لاستحقاق هذه الابنة للنصف أخذت الفاضل وهو السدس، وإنما قلنا لا يزدن عليه (5) لأنهن لا يبلغن في القوة مبلغ البنات الصلب وقد ثبت أن بنات الصلب وإن كثرن فلا يزدن على الثلثين فكذلك فيمن قام مقامهن، وإنما قلنا أن ولد الأب الإناث يأخذن مع الواحدة مع ولد الأب والأم السدس للإجماع على أن ولد الابن يقوم مقام ولد الأب والأم عند عدمهم (6) كقيام ولد الابن مقام ولد الصلب. فصل [2 - في فرض الواحد من ولد الأم]: وإنما قلنا إن الواحد من ولد الأم فرضه السدس ذكرا كان أم أنثى، وإن فرض الجماعة الثلث لقوله تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ   (1) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 513 - 514. (2) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 514. (3) في ق: مقتدر. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) في م: عليهن. (6) في ق: عدمهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1668 أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (1)، ولا خلاف فيه (2). وإنما قلنا في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين (3) إن للأم ثلث ما بقي خلافًا لإحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه، وهو قول ابن عباس (4) لأنا لو أعطيناها الثلث بكماله كنا قد فضلناها على الأب وذلك غير جائز أصله حال الانفراد. وإنما قلنا إن ولد الابن يسقطون بذكور ولد الصلب خاصة للإجماع على ذلك (5)، ولأن ميراثهم لقيامهم مقام ولد الصلب فوجب سقوطهم مع وجودهم، وإنما قلنا إنهم لا يسقطون مع غيرهم لأنهم أقوى تعصيبا من سائر الورثة على ولد الصلب، ولأنهم لما قاموا مقام ولد الصلب (6) وجب أن لا يسقطوا بغيرهم اعتبارًا بهم، وإنما قلنا إن الجد يسقط بالأب لإجماع الأمة (7)، ولأنه يدلي (8) به فلم يرث معه، وإنما قلنا إن الأخوة والأخوات يسقطون مع ذكور الولد وولد الابن لأن تعصيب البنوة أقوى وأقرب من تعصيب الأخوة   (1) سورة النساء، الآية: 12. (2) انظر الإجماع: 82، بداية المجتهد - مع الهداية: 8/ 259، شرح مسلم للنووي: 7/ 61، المحلي: 10/ 337، المغني: 6/ 174 - 175. (3) وتعرف هاتين المسألتين بالعمريتين لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي حكم فيها وأعطى الأم الثلث الباقي بعد إعطاء الزوج الباقي فريضته. (4) انظر البيهقي: 6/ 228، وعبد الرزاق: 10/ 253. (5) انظر بداية المجتهد مع الهداية: 8/ 254، المحلي: 10/ 378، فتح الباري: 12/ 16. (6) في م: مقامهم. (7) انظر: الإجماع: 84، بداية المجتهد مع الهداية: 8/ 264، شرح مسلم للنووي: 7/ 55، فتح الباري: 12/ 10. (8) في ق: بدىء به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1669 سقوطهم (1) به، ولأن ولد الابن أقرب من الأخوة وهم يسقطون (مع ذكور ولد الصلب فكان الأخوة أولى، وإنما قلنا إنهم يسقطون) (2) مع الأب لأن الأب آكد منهم تعصيبا (3) وأشد منهم قربًا لانضمام الرجم إلى تعصيبهم. فصل [3 - في التعصيب]: وقد بينا أن من قوى تعصيبه أسقط من ضعف عنه، وإنما قلنا إن ولد الأم يسقطون بإناث ولد الصلب وولد الابن لأنّ من حق الأخوة أن يرثوا مع الولد بالتعصيب بدليل أن الإناث منهن يصرن مع البنات عصبة بانفرادهن في ولد الأم (4) وولد الأم لا تعصيب فيهم، وإنما قلنا إنهم يسقطون مع الأب والجد لأن تعصيب الأبوة يسقط تعصيب الأخوة، ولقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} (5) فقيل فيه: إن الكلالة أحد عمودي النسب، وإنما قلنا إن بني الأخوة يسقطون بالأخوة لأنهم يدلون بهم، ولأن الإخوة أقرب من بني الأخوة كما أن ولد الصلب أقرب من ولد الابن. وإنما قلنا إن الأخوة يسقطون بالجد لأن الجد أقوى تعصيبا منهم لأنه يدلي بالأبوة وبنو الأخوة (6) يدلون بالأخوة لأن الجد يدلي بالأبوة (وابن الأخ يدلي بالأخ فكان الجد أولى، وإنما قلنا إن العمومة يسقطون ببني الأخوة لأن بني الأخوه أقرب لأنّهم يدلون بالبنوة، والعم يدلي بالأبوة لأنّ ابن الأخ يقول إني   (1) في ق: سقوطهن. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) في م: لأن الأب أقرب تعصيبا منهم. (4) في ولد الأم: سقطت من ق. (5) سورة النساء، الآية: 12. (6) في م: وبنو الأخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1670 ابن ابنك والعم يقول) (1) أنا أخو أبيك فكان ابن الأخ أقرب، وإنما قلنا إن العمومة يسقطون أولادهم (2) لأنهم بهم يدلون. وإنما قلنا إن الجدات يسقطن بالأم لأن توريثهن إنما كان لأنهن أقمن مقام الأم وجعل لهن أقل نصيبا فوجب سقوطهن معها، وإنما قلنا إن أم الأم لا تسقط بالأب لأنها أقيمت مقام الأم فلما لم تسقط الأم بالأب كذلك من أقيم مقامها، ولا يلزمه عليه أم الأب لم تقم مقام الأب وإنما أقيم جملة الجدات مقام الأم. وإنما قلنا إن أم الأب تسقط مع الأب خلافًا لابن مسعود وغيره (3)، اعتبارا بأبي الأب بعلة أنه يدلي بتعصيبه فإذا وجد أسقطه وإنما قلنا إن القربى منهن تسقط البعدى من جنسها اعتبارًا بالأم والجدة، ولأن البعدى تدلي بالقربى، وإنما قلنا إن القربى من جهة الأم تسقط البعدى من جهة الأب لأن الأم تسقط أم الأب (4) كذلك أم الأم تسقط أم الأب، وإنما قلنا إن البعدى من جهة الأم لا تسقط القربى من جهة الأب خلافًا لما روي عن ابن مسعود وهو أحد قوله الشافعي (5)؛ لأن أم الأب تدلي بالأب والأب إذا اجتمع مع أم أم الأب لم يحجبها فبأن لا يحجبها من يدلي بالأم (6) أولى. وإنما قلنا إن أم أبي الأب لا ترث شيئًا خلافًا لما روي عن زيد بن ثابت وغيره (7) لأنها أم جد فأشبهت أم أبي الأم (8)، ولأن   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) في ق: الآباء. (3) روي عن ابن مسعود وأبي موسى وعمران بن الحصين وأبو طفيل: ورثوها مع ابنها وهو ظاهر مذهب أحمد وبه قال شريح والحسن وابن سيرين وجابر بن زيد والعنبري وإسحق وابن المنذر. (انظر المغني: 6/ 211، المحلي: 9/ 277، عبد الرزاق: 10/ 277). (4) في م: أم الأم. (5) انظر سنن البيهقي: 6/ 236، والمهذب: 2/ 27. (6) في م: الأب. (7) انظر المغني: 6/ 209 - 210. (8) في م: أم جد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1671 جهة (1) الأم في باب الجدات أقوى من جهة الأب فإذا لم يرث من جنبتها إلا جدتان فجهة الأب بذلك أولى. وإنما قلنا إن بنات الصلب إذا استكملن الثلثين سقط بنات الأبن لأنّ حقهن كان في تكميل الثلثين لقيامهن مقام بنت أخرى من بنات الصلب إذا كان بنات الصلب أكثر من واحدة سقطن معهن، وإنما قلنا إنه إذا كان معهن ذكر في درجتهن عصبهن خلافًا لابن مسعود في قوله لا شيء لهن وأن الباقي للذكر وحده (2)، لأنه مال ورثه بنو الابن بالتعصيب فوجب أن يشاركهم بنات الابن فيه أصله جهة المال (3) وهو مال الانفراد، وإنما قلنا إنه إذا كان أنزل منهن ذكر عصب من فوقه لأن أصول الفرائض مبنية على أنه لا يجوز أن يرث الأبعد من الولد ويسقط الأقرب، ولأنا وجدنا البطن الأوسط أقرب من البطن الأسفل ألا ترى أنه إذا اجتمع ثلاث بنات بعضهن (4) أسفل من بعض كان للبنت العليا النصف وللوسطى السدس وتسقط السفلى، وإذا ثبت ذلك ثم اتفقنا على أنه لو كان مع السفلى ذكر في درجتها عصبها كان بأن يعصب الوسط أولى. وإنما قلنا إنه إذا استكمل ولد الأب والأم الثلثين سقط الأخوات للأب للعلة التي ذكرناها في سقوط بنات الابن إذا استكمل بنات الصلب الثلثين، وكذلك تعصيب إخوتهن لهن، وإنما قلنا إن الذكر الأنزل منهن لا يعصب عماته بخلاف ولد الابن لمعنيين: أحدهما أن ابن الابن (5) لما عصب من في درجته جاز أن يعصب من فوقه، وليس كذلك ابن الأخ (6) لأنه لا يعصب من   (1) في م: جنبة. (2) انظر البيهقي: 6/ 230، عبد الرزاق: 10/ 251. (3) في ق: جملة المال. (4) في م: ثلاث بنات ابن بعضهن. (5) في م: أن ابن ابن الابن. (6) في م: ابن الأم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1672 في درجته فلم يعصب من فوقه، والآخر أن الذي يعصب غيره من حقه أن يشاركه في الجهة (1) التي يعصبها بها كابن الابن (2) يشرك من فوقه في البنوة فعصبهن، وابن الأخ لا يشارك الأخت في الأخوة فلم يعصبها. وإنما قلنا إن ولد الصلب يقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (3) وقد بينا أن ولد الابن يقومون مقام ولد الصلب فكان حكمهم عند عدمهم كحكم ولد الصلب وإنما قلنا إن الإخوة للأب والأم أو للأب يقسمون المال إذا تفردوا للذكر مثل حظ الأنثيين (لقوله تعالى {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (4)) (5). وإنما قلنا إنه ليس في النساء عصبة لأنهن يرثن بفرض مقدر والعصبة لا ترث بفرض لأن ذلك ميراث الرحم، وإنما قلنا إن الأخوات يكن عصبة مع البنات خلافًا لمن قال لا يرثن أصلًا مع البنات (6)، لقوله تعالى: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (7) فعم، وحديث أبي موسى (8) وسلمان بن ربيعه (9) لما سألهما السائل عن بنت ابن وأخت فقط فقالا: للبنت النصف وما   (1) في ق: الجملة. (2) في م: كابن ابن الابن. (3) سورة النساء، الآية: 11. (4) سورة النساء، الآية: 176. (5) ما بين قوسين يسقط من م ومن ر. (6) يروى عن ابن عباس ومن تابعه أنه لا يجعل الأخوات مع البنات عصبة (انظر المغني: 6/ 168). (7) سورة النساء، الآية: 7. (8) أبو موسى: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار، وأبو موسى الأشعري، صحابي مشهور، أمر عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين مات سنة خمسين وقيل بعدها (تقريب التهذيب: 318). (9) سلمان بن ربيعة: بن يزيد بن عمرو بن سهم الباهلي، وأبو عبد الله سلمان الخيل يقال له صحبة ولاه عمر قضاء الكوفة، وغزا أرمينيه في زمن عثمان فاستشهد (تقريب التهذيب: 246). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1673 بقي للأخت، وإن رأيت ابن مسعود فاسأله: فأتاه فأخبره فقال: سأقضي فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبنت النصف ولبنت الابن السدس وما بقي للأخت (1)، ولأن الأخت مع ابن العم إذا اجتمعا لم يجز أن يحصل الإرث (2) لابن العم وتسقط الأخت أصله إذا انفرد (3). وإما حجب الزوج عن النصف إلى الربع والزوجات عن الربع إلى الثمن بالولد وولد الابن فللنص الوارد به، وللإجماع إلا من شذ ولا يعتد به في قوله أن ولد الابن لا يحجبون (4)، وإنما قلنا إن الأم يحجبها عن الثلث إلى السدس الولد لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (5)، ولا خلاف فيه (6)، وإنما قلنا إن الأخوة يحجبونها إلى السدس لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (7)، وإنما قلنا إن الحجب يحصل بالأخوين خلافًا لابن عباس في قوله: إن الحجب لا يكون إلا بثلاثة (8) لأنه فرض يتغير بعدد من الإخوة، والأخوات فوجب أن يتغير بالاثنين أصله شركة ولد الأم في الثلث، والتعلق بالظاهر على قول مالك رحمه الله بعيد لأن أصوله تدل على أن أقل الجمع ثلاثة، وإنما يتم على قول من يقول من أصحابنا أن أقل الجمع اثنان، وهو قول عبد الملك بن الماجشون وغيره من أصحابنا. وإنما قلنا إن الولد يحجب (9) الأب إلى السدس للنص، وقلنا إن ذكور   (1) أخرجه البخاري في الفرائض باب ميراث ابنة ابن مع ابنة: 7/ 6. (2) ق م: يخلص. (3) في م: انفردوا. (4) انظر الإجماع: 81، المغني: 6/ 178. (5) سورة النساء، الآية: 11. (6) انظر الإجماع: 81، المحلي: 10/ 323، المغني: 6/ 176. (7) سورة النساء، الآية: 11. (8) انظر البيهقي: 6/ 227، المحلي: 9/ 258، المغني: 6/ 176. (9) في م: يحجبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1674 الولد يأخذون باقي المال لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ما أبقت الورثة فلأولي عصبة ذكر" (1)، وقلنا إنه إذا لم يكن غيره أخذ الباقي بالتعصيب لأنه ليس ثم من هو أولى منه فكان له بالخبر الذي رويناه وإنما قلنا لا يحجب عبد ولا كافر خلافًا لابن مسعود في حجبه لهم وما حكى (2) عنه أنهم يحجبون عن بعض المال دون جميعه (3) لأن كل من لا مدخل له (في الإرث بحال فلا مدخل له) (4) في الحجب أصله ذوو الأرحام، ولا يدخل عليه الأخوة للأم مع الأبوين لأن لهم مدخل (5) في الإرث، ولأنه أحد نوعي الحجب كالإسقاط. * * *   (1) سبق تخريج الحديث ص 1664. (2) في ق: عنهم. (3) انظر البيهقي: 6/ 223، ابن أبي شيبة: 10/ 272، المغني: 6/ 181. (4) ما بين قوسين سقط من م. (5) في م: مدخلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1675 باب [- في ترتيب المواريث على النسب] قد بينا ترتيب المواريث على السهام، ورأينا إعادته مرتبا على النسب ليجتمع لمن يريد معرفة كل فصل منه (1) والله الموفق للصواب، وقد بينا أن الميراث لا يخلو أن يكون بنوة أو أبوة أو أخوة أو بنو أخوة أو عمومة أو بنو عمومة (2) ونحن نبين كل نوع منه. فصل [1 - في ميراث ولد الصلب]: وأما ولد الصلب فإن الذكر منهم يحوز المال إذا انفرد به والذكور يقتسمونه بالسوية، فإن كان معهم ذو فرض أخذ فرضه وأقتسموا الباقي على ما ذكرناه من حوز المنفرد له وتساوي الجماعة فيه، والبنت الواحدة إذا لم يكن أحد من ذكور ولد الصلب تأخذ النصف والاثنتان فما فوقهما الثلثان، (فإن كان مع الواحد أو الجماعة من البنين) (3) زالت فرائضهن واقتسموا (المال للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كان معهم ذو فرض بدىء به واقتسموا هم) (4) الباقي على ما ذكرناه، وقد دللنا على هذه الجملة، ولا يسقط ولد الصلب بوجه (5). فصل [2 - في ميراث ولد الابن]: وأما ولد الابن فسبيلهم إذا لم يكن أحد من ولد الصلب في الميراث سبيل   (1) في م: كل فضل منه وفي ق: كل فعل منه. (2) أو بنو عمومة: سقطت من ق. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) انظر الموطأ: 2/ 503، التفريع: 2/ 341، الرسالة: 253، الكافي: 563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1676 ولد الصلب يرثون كما يرثون ويحجبون من يحجبون إلا أنهم (1) يسقطون مع ذكور ولد الصلب، وتأخذ ابنة الصلب معهم النصف والابنتان فصاعدا الثلثان يكون الباقي لولد الابن إن كانوا ذكورًا وإناثًا في درجته وإن كن إناثًا فقط أخذت الابنة النصف، وإناث ولد الابن الواحدة أو الجماعة السدس تكملة الثلثين، وكان ما بقي لذكر إن كان أنزل منهن أو لغيره من العصبة، وإن كن إناث ولد الصلب أكثر من واحدة أخذن الثلثين، ثم ينظر فإن كان ولد (الابن ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا في درجة أخذوا الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يعتبر الأضر بهن من السدس أو المقاسمة، وإن كن إناثًا فقط فلا شيء لهن والباقي للعصبة، وإن كان معهن ذكر أنزل منهن عصب من فوقهن منهن وأخذوا الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كن بنات ابن بعضهن أسفل من بعض أخذت العليا النصف والوسطى السدس تكملة الثلثين وسقطت السفلى إلا أن يكون معها أو أنزل منها ذكر فيعصبها أو يعصب من معه في درجته معها، وإن كان مع الوسطى ذكر أخذ المال الباقي مقاسمة وسقط من بعده، وإن كان العليا اثنتان أخذتا الثلثين وسقطت الوسطى ومن بعدها إلا أن يكون معهن ذكر في درجتهن أو أنزل (2). وكل هذا قد دللنا عليه في الباب الأول فلا حاجه بنا إلى إعادتها إلا في موضع واحد وهو أخذ ولد الابن مع بنت الصلب ما بقي فإنا نقول يأخذونه مقاسمة ويسقط السدس وهو قول علي وزيد رضي الله عنهما، وقال ابن مسعود يعتبر ما هو أضربهن من السدس أو المقاسمة فيكون لهن (3). وإنما قلنا ذلك لأن حق (4) كل ذكور عصبوا إناثهم في موضع عصبوهن في   (1) في ق: لأنهم. (2) انظر المراجع: التي سبق ذكرها. (3) انظر البيهقي: 6/ 230، وابن أبي شيبة: 10/ 249 - 250، المحلي: 9/ 271، المغني: 6/ 173. (4) حق: سقطت من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1677 كل موضع أصله البنون والبنات والأخوة والأخوات، ولأنه لما لم يعتبر هذا الإضرار في الانفراد فكذلك فيما يأخذونه باقيًا عن ابنة الصلب ولأن الإضرار بهن ولا وجه لاعتباره بل لا فضل بين القائل به وبين معتبر الإضرار بالذكور. فصل [3 - في ميراث الأب والأم]: وأما الأب فلا يسقط بوجه، وله ثلاثة أحوال: حال يأخذ فيها بالتعصيب المحض، وحال يأخذ فيها بالفرض المحض، وحال يأخذ فيها بالفرض والتعصيب، ونحن نبين ذلك: (1) أما إذا انفرد بالمال فإنه يحوزه فإن كان معه ذو فرض سوى إناث الولد أو ولد الابن فإنه يأخذ فرضه ويكون الباقي للأب، وإن كان معه ولد أو ولد ابن ذكرا أو أنثى أخذ السدس بالفرض ثم كان الباقي للذكور والإناث، وإن لم تكن إلا إناث فقط أخذن فروضهن وأخذ هو السدس بالفرض وإن بقي شيء أخذه بالتعصيب. وأما الأم ففرضها الثلث سواء انفردت بالمال أو كان معها غيرها لا تحجب عنه إلا في ثلاثة مواضع، أحدها: أن يكون معها ولد أو ولد ابن ذكرا كان أو أنثى، والثاني: أن يكون معها اثنان من الأخوة والأخوات يرثون أو يسقطون، والثالث: أن يكون معها أبا (2) وزوج أو زوجة فإنها تأخذ منها ثلث ما بقي مع الأب وقد دللنا على هذا أيضًا فيما تقدم. فصل [4 - في ميراث الجد]: وأما الجد فلا يسقط إلا مع الأب، وإذا انفرد بالمال أحرزه، فإن كان معه ذو فرض بدىء به وأخذ الباقي عنه، وإن كان معه ذكر من ولد الصلب أو ولد الابن أخذ السدس وأخذ الابن ما بقي، وإن كان ولد الصلب إناثا أخذ السدس وإن فضل من المال شيء أخذه بالتعصيب.   (1) الموطأ: 4/ 506، التفريع: 2/ 342، الرسالة: 253، الكافي: 562. (2) في ق: ابن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1678 وإن كان معه إخوة نظر: فإن لم يكن غيرهم لم يخل أن يكونوا ذكورا فقط أو ذكورا وإناثًا، فإن كان معه ذكور فقط من جنس واحد مثل أن يكونوا إخوة للأب والأم أو للأب فإن الجد يكون كواحد منهم يقاسمهم ما كانت المقاسمة لا تنقصه من الثلث مثل: أن يكون معه أخ أو أخوان نقصت المقاسمة عن الثلث فرض له الثلث وكان الباقي للإخوة. وإن كان معه أخوات فقط فإنه يكون معهن كأخ يقاسمهن المال للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإن نقصت فرض له الثلث ولا ينقص منه، فإن كان) (1) معه ذكور وإناث كان كأخ معهم فيقاسمهم ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث فيفرض له الثلث على ما بيناه فإن كان معه ذو سهم كالأم والزوجة والبنت وبنت الابن فينظر للجد حال من ثلاثة: فيعطى أنفعها له من المقاسمة أو السدس من رأس المال أو ثلث (2) الباقي بعد أخذ ذوي الفرض فرضه، فإن كان معهم إخوة لأب فإنهم يعادون الجد بهم في المقاسمة ثم يرجح ولد الأب والأم على ولد الأب فيأخذون ما معهم، فإن فضل شيء كان لهم وإن لم يفضل شيء فلا شيء لهم، مثاله: أن يكون جد وأخ لأب وأم وأخ لأب ليقسم المال بينهم أثلاثًا يرجع الأخ للأب والأم على الأخ للأب فيأخذ ما بيده فلا يبقي له شيء، فإن كان جد وأخت للأب والأم وأخت للأب فإن المال بينهم على أربعة أسهم: للجد سهمان ولكل أخت سهم ثم ترجع الأخت للأب والأم على الأخت للأب فتأخذ ما بيدها وتبقي بغير شيء وإن كان جد وأخت لأب وأم وأخ للأب فالمال بينهم على خمسة أسهم: للجد سهمان وللأخت سهم وللأخ سهمان ثم ترجع الأخت للأب والأم على الأخ للأب فتأخذ مما بيده تمام النصف فتكسر (3) الفريضة فتضرب في مخرج النصف وهو اثنان فيكون عشرة: "للجد أربعة، وللأخت خمسة وللأخ سهم، وهو قدر مسألة   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) في ق: مما أو ثلث. (3) في: فتنكسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1679 الأكدرية (1) وحدها (2) وتسمى الغراء وهي: زوج وأم وأخت لأب وأم أو لأب وجد (3)، فإنه يفرض للأخت النصف وللجد السدس وتعال المسألة إلى تسعة ثم يجمع نصيب الأخت إلى نصيب الجد فيقسم للذكر مثل حظ الأنثيين فينكسر فتضرب التسعة في ثلاثة فتكون سبعة وعشرون، ولا يسقط الأخ مع الجد إلا في موضوع واحد وهو زوج وأم (4) وأخ (5) وجد فإن الجد له السدس ويسقط الأخ. فصل [5 - في التدليل على ميراث الجد]: وأما ميراث الجد وإسقاط الأب له (6) وكونه عصبة فمعلوم كل ذلك بالإجماع (7) وأغني عن زيادة عليه، وإنما قلنا إنه إذا كان معه ذو فرض أخذ الباقي بعد الفرض لأن ذلك سبيل العصبات إنهم يأخذون الفاضل عن ذوي السهام، وإنما قلنا في ميراثه مع الولد ما قلناه اعتبارًا بالأب لأنه ذكر له ولادة، أو لأنه يقوم مقامه.   (1) الأكدرية: وسميت هذه المسألة بهذا الاسم: قيل أنها كدرت على زيد بن ثابت رضي الله عنه مذهبه وأصوله، وقيل لأن عبد الملك ألقاها على فقيه اسمه أو لقبه "أكدر" وقيل أن الميت كانت من "أكدر" والله أعلم (انظر الفواكه الدواني: 2/ 283، الخرشي علي خليل: 8/ 204). (2) في ق: وحده. (3) وجد: سقط من م. (4) وأم: سقطت من م. (5) انظر الموطأ: 2/ 510 - 512، المدونة: 3/ 84، التفريع 2/ 342، الرسالة: 256، الكافي: 565 - 567. (6) في م: وإسقاط الأب وحده. (7) انظر الإجماع: 84، المحلي: 10/ 3134، المغني: 6/ 177، فتح الباري: 12/ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1680 فصل [6 - في ميراث الأخوة مع الجد]: وإنما قلنا إن الأخوة يرثون مع الجد، خلافًا لأبي حنيفة (1) وإن الأخ الذكر يعصب أخته فلم يسقطه الجد كالابن، ولأن الأخت أنثى فرضها النصف إذا انفردت فلم يسقطها الجد كالبنت، ولأن تعصيب الأخ أقوى من تعصيب الجد لأنه تعصيب بنوه و (تعصيب الجد تعصيب أبوة، ولأنه يعصب أخته بخلاف الجد فامتنع مع قوه) (2) تعصيبه عليه أن يسقط به. فصل [7 - في مقاسمه الجد الذكور ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث]: وإنما قلنا إنّه يقاسمه الذكور منهم ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث خلافًا لمن قال ما لم ينقصه عن السدس (3) وقول من قال عن نصف السدس (4) لأن كل حجب انحصر بعدد استوى (5) فيه الاثنان والثلاثة أصله حجب الأم عن الثلث أو السدس، ولأن الجدة قائمة مقام الأم كقيام الجد مقام الأب ثم قد ثبت أن الجدة لا تنقص عن نصف نصيب الأم اذا انفردت وهو الثلث، فكذلك يجب أن يكون الجد لا ينقص عن نصف الأب إذا انفرد وهو الثلثان. فصل [8 - في مقاسمة الجد الأخوات إذا انفردن معه عن إخوة]: وإنما قلنا أنه يقاسم الأخوات إذا انفردن معه عن إخوة خلافًا للقول بأنه لا يقاسمهن إلا إذا كان معهن إخوة (6)، لأن كل شخص قاسم ذكرا من أهل   (1) هذا عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد يقاسمهم (انظر مختصر الطحاوي: 147، مختصر القدوري - مع شرح الميداني: 4/ 199). (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) وهذا قول عامة أهل العلم (المغني: 6/ 219). (4) حكي عن عمران بن حصين والشعبي (المغني: 6/ 219). (5) في م: استوفى. (6) فلقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفرض للأخوات فروضهن والباقي للجد (البيهقي: 6/ 251 - 252، المغني: 6/ 217). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1681 المواريث (1) في الأخذ بالتعصيب وجب أن يقاسم الأنثى التي في درجته أصله الأخ للأب والأم لأنه لو كان أخوان لأب وأم تقاسما، فإذا كان معهم أخت تقاسموا وكذلك البنون والبنات. فصل [9 - في مقاسمة الجد الأخوات إذا كان معه ذو سهم]: وإنما قلنا إنه يقاسم إذا كان معه ذو سهم بعد أخذ ذي السهم (2) سهمه لأن تعصيبه يوجب المقاسمة كتعصيب الأخ أصله إذا لم يكن معه ذو سهم. فصل [10 - في أخذ الجد ثلث ما بقي إذا كان أحظ له]: وإنما قلنا يأخذ ثلث ما بقي إذا كان أحظ له لأن الأصل في المواريث أن العصبة (3) أولى بما يبقى، وحق ذي السهم (4) كحق الغريم (فإذا أخذ ذو السهم حقه صار الفاضل عن ذلك كالفاضل عن الغريم) (5) فكان كأصل المال الموروث، ألا ترى أن العصبة إذا كانوا ذكورًا وإناثًا يقتسمونه للذكر مثل حظ الأنثيين، فلما كان الجد يقاسم الأخوة في أصل المال إلى الثلث فكذلك فيما بقي. فصل [11 - في عدم انتقاص نصيب الجد من السدس الكامل إذا كان أحظ له]: (وإنما قلنا إنه لا ينتقص من السدس الكامل إذا كان أحظ له لأن الابن أقوى من الأخ ثم له السدس معه فمع الأخ أولى) (6).   (1) في م: الميراث. (2) في ق: ذوي السهم. (3) في ق: التعصيب. (4) في م: ذوي السهم. (5) ما بين قوسين سقط من م. (6) سقط هذا الفصل كاملا من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1682 فصل [12 - إذا كان ذو السهم مع الأخوات إناث الوالد أو غيرهم]: وإنما قلنا إنه لا فرق بين أن يكون ذو السهم مع الأخوات إناث الولد أو غيرهم وهو مذهب زيد، خلافًا لمن منع المقاسمة بناء على أصله (1) في أن الجد لا يقاسم مع الأخوات وحدهن، لأنه قد ثبت قوة الأخ على الأخت، ثم للجد أن يقاسم الأخ لو كان مع البنت فكان بمقاسمة الأخت أولى لأن كون الأخت عصبة لا يوجب إعطاء الجد السدس لأن الجد أيضًا عصبة، وكل عصبة قاسم ذكرا من أهل الميراث فإنّه يقاسم كل أنثى في درجته كالأخوة والأخوات. فصل [13 - في معادة الجد مع ولد الأب والأم وولد أب]: وإنما قلنا إنه إذا كان مع ولد الأب والأم عادوا الجد بهم، خلافًا لما ذهب إليه علي وابن مسعود (2) من منع المعادة (3) بناء على أصلهما في أن الأخ لأب والأم يحجب الأخ للأب وأن الأخت للأب والأم مع الأخ للأب إذا كان لا يقاسمهما على الانفراد (لا يقاسمهما مع الجد فيصير كأنه ليس إلا الأخت والجد، ودليلنا أن الجد له ولادة فإذا جاز حجبه بأخوين وارثين جاز حجبه بأخوة أحدهما وارث والآخر غير وارث أصلها الأم يحجبها الأخوة من الأم وإن لم يرثوا مع الأب. فصل [14 - في رجع ولد الأب والأم على ولد الأب]: وإنما قلنا إن ولد الأب والأم يرجعون على ولد الأب لأن حجبهم ليس لأجل   (1) منع المقاسمة علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وقال بقولهما هذا الشعبي والنخعي والمغيرة وابن أبي ليلي والحسن بن زيد (انظر عبد الرزاق: 10/ 268، المغني: 6/ 217). (2) انظر البيهقي: 6/ 250، ابن أبي شيبة: 10/ 292، المحلي: 9/ 285. (3) في م: المعاودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1683 ميراثهم ولكن لأجل غيرهم فلم يكن لهم حظ فيما يحجبون فيه كولد الأم إذا حجبوا الأم مع وجود الأب. فصل [15 - نصيب الجد في مسألة الأكدرية]: وإنما قلنا له [السدس] (1) في مسألة الأكدرية لأنه قد ثبت بما قدمناه أن الجد لا ينقص عن السدس وإن الأخت لا تسقط فلو لم تعل الفريضة لأدى إلى بطلان أحد الأصلين. فصل [16 - سقوط الأخ مع عدم الأنثيين أو الأب وسبب ذلك]: وإنما قلنا في زوج وأم وجد: إن الأخ يسقط لأنّا لو لم نفعل ذلك لأدى إلى أمور ممنوعة: إما إلى أن ينقص الزوج عن النصف وذلك غير جائز، أو الأم [عن الثلث] (2) وذلك يؤدي إلى حجب الجد أو الأخ لها وذلك غير جائز أيضًا أو أن ينقص الجد عن السدس وذلك ممتنع أيضًا لأنه مع الابن الذي هو أقوى من الأخ لا ينقص عن السدس فكان الأخ أضعف عن أن يحجبه ولم يكن الأخ ممن له رحم، فتعال المسألة له، والفرض لا يكون للعصبة لأن حظهم فيما بقي فلم يبق إلا سقوطه وصار كأنه عصبة لم يفعل له شيء. فصل [17 - في ميراث الجدات]: وأما الجدات فقد ذكرنا أن فرضهن السدس، فإذا انفردت واحدة منهن أخذته، وإن اجتمعتا كان بينهما، وأن الجدة لا ترث مع الأم من أي جهة كانت وإنما من جهة الأم ترث مع الأب) (3) ولا ترث معه إن كانت (4) من جهته، وأنه لا   (1) ما بين معقوفتين ساقط من ق فأضفته مما سبق، وهي ساقطة من ر. (2) ما بين معقوفتين ساقط من ق فأضفته من أجل إتمام المعنى. (3) ما بين قوسين سقط من م. (4) في ق: إن كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1684 يرث إلا جدتان أم الأم وأم الأب وأمهاتهم وأنهما إذا اجتمعتا أسقطت القربى من جهة الأب البعدى من جهة الأم (1)، وقد بينا الحجة لكل ذلك بما يغني (2) عن إعادته. فصل [18 - ميراث الأخوة والأخوات]: فأما ميراث الأخوة والأخوات فإنه على ضربين: بتعصيب وبفرض بالتعصيب (3) بذكور ولد الأب والأم وولد الأب على كل وجه، ولأنهن (4) مع البنات وبنات الابن فقط، والفرض للإناث ولد الأب والأم وولد الأب وبجملة ولد الأم ذكورهم وإناثهم ففرض الواحد للأب والأم، والأب إذا انفردت النصف، وفرض الاثنين فما زاد الثلثان فإن كان معهن أخ في درجتهن قاسمهن للذكر مثل حظ الانثيين، وإن كان مع الأخت للأب والأم إخوة لأب أخذت النصف وأخذ ولد الأب ما بقي، وإن كانت (5) إناث ولد الأب والأم أكثر من واحدة أخذن الثلثين وأخذ ولد الأب ما بقي، وإن كان معها أخت لأب أخذت الأخت أو الأخوات السدس تكملة الثلثين وما بقي أخذه (6) العصبة، فإن كان مع الأخوات (7) للأب إخوة قاسموهن الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين وسقط اعتبار السدس، وإن كن الأخوات للأب (والأم اثنتين فصاعدا أخذن الثلثين وسقط الأخوات للأب إلا أن يكون) (8) معهن ذكر (9) في درجتهن يعصبهن إذا كانوا في درجتهن لا أنزل منهن بخلاف ولد الابن.   (1) انظر الموطأ: 2/ 513، التفريع: 2/ 342، الكافي: 567. (2) في ق: يمنع. (3) في م: وفرض بالتعصيب. (4) في ق: ولا بأنهن. (5) في ق: كان. (6) في م: أخذته. (7) في ق: الأخت. (8) ما بين قوسين سقط من ق. (9) في م: ذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1685 وأما الأخوة للأم ففرض الواحد السدس ذكرا كان أو أنثى، وفرض الاثنتين فصاعدا الثلثان لا يرادون عليه ويحجب جنس الأخوة جملة ذكور الولد وولد الابن ويزيد عليهم ولد الأم بأنهم يسقطون مع إناث الولد وولد الابن مع الجد، ويسقط جملة الأب بذكور ولد الأب (1) والأم وقد بينا كل هذا مقرونا بحجاجه، فإن استغرق المال الأنصباء سقط العصبة منهن وأعيل لغير (2) العصبة مثل: زوج أم وأخوين لأم وأخ لأب فإن الأخ يسقط لأنه لم يبق (3) له شيء، فإن كان أخا أو إخوة (4) لأب وأم فاختلف الصحابة فيهم: فمنهم من بناه على الأصل (في أنه عصبة لم يبق له شيء فيسقط) (5) ومنهم من شرك بين ولد الأب والأم وبين ولد الأم وهو مذهب أصحابنا. وإنما قلنا ذلك لأن الذي استحق ولد الأم به الإرث (6) هو ولادة الأم وهذا يشركهم فيه ولد الأم، ولأن زيادتهم بالأب لا يسقط رحمهم بالأم، فإن أمكن زيادتهم في الميراث به وإلا فلا أقل من أن يكون وجوده كعدمه وهو تأويل قول عمر رضي الله عنه لم يزدهم الأب إلا قربى (7)، وقولهم: هب أبانا كان حمارًا أليس أمنا واحدة.   (1) انظر الموطأ: 2/ 507 - 510، التفريع: 2/ 343، الرسالة: 254، الكافي: 563 - 564. (2) في م: الغير. (3) في م: لم يكن. (4) في م: أخا وأخوه. (5) ما بين قوسين سقط من م. (6) في م: الثلث. (7) أخرجه عبد الرزاق: 10/ 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1686 فصل [19 - ميراث بني الأخوة]: وأما بنو الأخوة يرثون بالتعصب المحض، وبحجبهم ذكور الولد وولد الابن والأب والجد والأخوة (1) ولا يحجبون ذا فرض بوجه (2). فصل [20 - في ميراث العمومة]: وأما العمومة فيحجبهم بنو الأخوة وكل من حجب بني الأخوة، ويترتبون في إخوة الأب كما يرتب الأخوة وكذلك بنوهم (3)، وقد ذكرنا فرض الزوج والزوجة، وقد بينا القول في الولاء والإرث في باب العتق (4). * * *   (1) في م: والجد في إخوة الأب. (2) انظر الموطأ: 2/ 517، التفريع: 2/ 340، الكافي: 568. (3) انظر الموطأ: 2/ 517، التفريع: 2/ 340، الرسالة: 252، الكافي: 568. (4) انظر الصفحة: ص 1451. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1687 باب [- في اجتماع الفروض والعول] قد بينا الفروض وعددها، فإذا اجتمعت لم تخل (1) من ثلاثة أحوال أما أن تكون مقدرة بسهام التركة مثل: زوج وأخت فهذا قائم بنفسه، أو أن يقصر عن استيعاب التركة فيكون الباقي للعصبة، أو أن تزيد على التركة مثل نصف وثلثين وما أشبه ذلك فهذا تعال (2) المسألة إلى ما انتهت إليه الفروض، ويدخل على كل واحد من الورثة من النقص بحساب ما يوجبه (3) العول، وهذا مذهب أكثر الصحابة رضي الله عنهم، (4) وذكر عن ابن عباس منعه، وإدخال النقص على كل ذي فرض ينقل منه إلى تعصيب مثل الأخوات والبنات (5) ودليلنا أن الله تعالى قال في الأزواج: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (6)، وقال في البنات {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (7)، وقال تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (8)، فلمّا كان الزوج لا يمت في الظاهر إلا بمثل ما تمت به الابنة والأخت وجب أن يتساويا في النقص   (1) في م: لم يخلو. (2) العول: إذا ارتفع حساب الفريضة وزادت سهامها ونقصت الأنصباء وهو نقيض الرد (الفواكه الدواني: 2/ 274). (3) في م: ما يرجيه. (4) انظر التفريع: 2/ 244؛ الرسالة: 257، الكافي: 569. (5) انظر سنن البيهقي: 6/ 253، عبد الرزاق: 10/ 254، ابن أبي شيبة: 10/ 1312. (6) سورة النساء، الآية: 12. (7) سورة النساء، الآية: 11. (8) سورة النساء، الآية: 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1688 وأن لا يرجع عليها بشيء يقتضي إكمال فرضه وانفرادها بالنقص، ولأنهم من أهل الفرائض فدخلهم النقص بالعول كالبنات والأخوات، ولأن ضيق المال عما يستحق فيه يقتضي نقص أهل الاستحقاق بقدر حقوقهم أصله الغرماء. فصل [1 - في أصول المسائل]: أصول المسائل التي تنقسم سهامها على الفرائض سبعة وهي مقدره بها: الاثنان والثلاثة والأربعة والستة والثمانية [والاثنين] (*) عشر والأربعة والعشرون، فالاثنان للنصف وحده، والثلاثة للثلث والثلثان إذا انفردا أو اجتمعا، والأربعة للربع وله وللنصف إذا اجتمعا، والستة للسدس المنفرد وللنصف معه ومع الثلث والسدس والثلثين، والثمانية للثمن وله وللنصف معه، والاثني (*) عشر لاجتماع ثلث وربع أو سدس وربع ما ينضاف إليهما، والأربعة والعشرون لاجتماع الأثلاث والأثمان، فإذا ثبت هذا فأربعة من هذه (1) الأصول لا تعول وهي الاثنان والثلاثة والأربعة والثمانية وثلاثة تعول وهي الستة والاثنين عشر والأربعة والعشرون، فعول الستة إلى سبعة وإلى ثمانية وإلى تسعة وإلى عشرة، وعول الاثني عشر إلى ثلاثة عشر وإلى خمسة عشر وإلى سبعة عشر، وعول الأربعة والعشرين إلى سبعة وعشرين (2)، ولا يحتمل المختصر بسط هذا الباب. فصل [2 - فيمن ترك ابني عم أحدهما لأم]: إذا ترك ابني عم أحدهما أخ لأم كان للأخ للأم (3) السدس وما بقي بينه وبين ابن العم الذي ليس بأخ، وإنما قلنا إن له السدس لأنه أخ لأم فأشبه الذي ليس ابن عم (4)، وإنما قلنا أن ما بقي بينهما خلافا لمن قال إن جميع المال للأخ (5)   (1) في ق: هذه. (2) انظر التفريع: 2/ 344، الرسالة: 257، الكافي: 569 - 570. (3) للأم: سقطت من م. (4) انظر التفريع: 2/ 340، الرسالة: 255، الكافي: 568. (5) انظر ابن أبي شيبة: 10/ 252، المغني: 6/ 189 قضي فيها عبد الله وشريح. (*) هكذا بالأصل والصحيح "اثنا عشر". (*) كذا بالأصل والصحيح "اثنا عشر". (*) كذا بالأصل والصحيح "اثنا عشر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1689 لأن اختصاص العصبة بسبب يستحق به فرض لا يستحق (1) به حجب من يساويه في الدرجة اعتبارًا به لو كان أحدهما زوجا، وذلك أن الأخ (2) يستحق كالزوجة فإنه يستحق بها فرض ثم ثبت أن ابن العم (لو كان زوجا لاستحق بالزوجية بالنصف والباقي بينه وبين ابن العم الذي ليس بزوج) (3)، وكذلك إذا كان أخا لأم، وإن كان أحدهما زوجا والآخر أخا لأم أخذ الزوج النصف والأخ (4) السدس وكان الباقي بينهما، وأهل الفرائض يلغون الأولى وهي إذا كان أحدهما (زوجا فيقولون أخوان لأب ولأم ورثا مالًا أصاب أحدهما) (5) ثلاثة أرباعه، والآخر ربعه، ويلغون الثانية إذا كان أحدهما زوجا والآخر أخا لأم فيقولون أخوان لأب ورثا مالًا فورث أحدهما ثلثه والآخر ثلثيه .. (تم كتاب الفرائض بحمد الله وعونه) (6). * * *   (1) في ق: لأن اختصاص العصبة بسبب يستحق به حجب. (2) في م ور: أن الأخوة. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) في م: الآخر. (5) ما بين قوسين سقط من ق. (6) ما بين قوسين سقط من ق وم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1690 كتاب الجامع (1) لما كان مدار هذا الباب على بيان أداب الشريعة ومندوباتها ومسنوناتها وتفصيل المستحب والفاضل والمرغب فيه والمرخص فيه والمكروه وما يتعلق بذلك من أحكام المكلفين وجب بيان معاني هذه الأوصاف قبل ذكر الأفعال التي هي محالها ليفهم الدارس معانيها ويقف على الغرض منها، وإلا فمتى وصف الفعل أنه واجب أو ندب وهو ما يعرف معنى الوجوب والندب كان كالحاطب (2) بين ظلام وعشاء (3) فلذلك وجب (4) البدأ بهذا الباب وأحكامه، وقد كان من حق التصنيف أن يكون الابتداء أولى به من الخاتمة ولكن تجدد هذا الرأي بعد خروج نسخ منه كرهنا إفسادها بالاختلاف والله الموفق للصواب (5). فصل [1 - في حكم أفعال المكلفين]: اعلم أن أفعال المكلفين لا تخرج على اختلاف أوصافها وتباين أحكامها على خمسة أحكام وهو: الوجوب والندب والحظر والكراهة والإباحة ولكل واحد   (1) هذا الأسلوب في تبويب المسائل الذي يدرج جانبا منها تحت عنوان "الجامع". يختص بالتأليف في مذهب مالك وهو لا يوجد في تصانيف غيره من المذاهب، وهو من محاسن التصنيف لأنه يجمع مسائل لا يتناسب وضعها في ربع من أرباع الفقه وهم في ذلك يتأسون بإمام المذهب في مؤلفه الموطأ (انظر مقدمه تحقيق كتاب الجامع- لابن أبي زيد: 79 - 81). (2) في م: كالحائط وفي ر: كالخابط. (3) عشاء بالكسر والمد أول ظلال الليل، أو لعله يقصد عشي العين (المصباح المنير: 412). (4) في م: وجه. (5) في ن: والله ولي التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1691 من هذه الألفاظ معنى على طريق اللغة ومعنى على طريق الأصوليين ونحن نبين جميع ذلك. فأما معنى الوجوب فهو تحريم الترك (1) فكل واجب فتركه حرام، وقيل ما في فعله ثواب وفي تركه عقاب (2)، والأول أخص وله عبارات يقال واجب ومفروض ومكتوب ولازم ومستحق. هذا على طريق الأصوليين وبجميعه قد ورد بها شرع قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (3) يعني وجب، وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} (4) وقال: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (5) يريد أن نوجبها عليكم، وقال: {حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (6) يريد مستحقا، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (7) وغيرها من ألفاظ الوجوب، وفي الحديث "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر من رمضان"، (8) وحديث الخثعمية (9) لما قالت إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا (10)، وقال تعالى: {حَتْمًا مَقْضِيًّا} (11)، ويبين ذلك أن أهل اللغة لا يفرقون بين   (1) انظر مختصر ابن الحاجب: 1/ 230، شرح تنقيح الفصول-: 71. (2) انظر المستصفى: 1/ 65، الأحكام، لابن حزم: 1/ 323، إرشاد الفحول: 6. (3) سورة البقرة، الآية: 183. (4) سورة المائدة، الآية: 45. (5) سورة هود، الآية: 28. (6) سورة آل عمران، الآية: 97. (7) سورة آل عمران، الآية: 97. (8) سبق تخريج الحديث في صدقة الفطر. (9) الخثعمية: وهي امرأة من خثعم. (10) الحديث أخرجه البخاري في الحج باب وجوب الحج وفضله: 2/ 140. (11) سورة مريم الآية: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1692 قول السيد لعبده فرضت عليك وأوجبت عليك وحتمت وكتبت وألزمت وأنا استحق عليه ويرونه كله عباره عن الوجوب وتحريم الترك (1). فأما أصل الوجوب في اللغة فهو السقوط يقال أوجب الحائط إذا سقط ووجبت الشمس (2)، قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (3) فشبهوا المفروض بالشيء الذي قد سقط فلا يمكن رفعه كما لا يمكن الخروج عن الواجب إلا بفعله. وأصل الفرض عندهم التقدير ومنه فرض القاضي أي تقديره (4) ومنه قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (5)، وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (6) أي قدر، واللزوم (7) أخذ الإنسان الشيء وإمساكه (8) إياه. فصل [2 - في الندب]: والندب ما تتعلق الفضيلة بفعله ولا يتعلق العقاب بتركه (9) وهو مشارك للواجب في الوصف الأول ويباين له في الوصف الثاني، وله اعتبارات يقال: ندب ومستحب ومسنون وتطوع وإرشاد ونفل وفضيلة ومرغب فيه، وأصل الندب في اللغة الدعاء إلى الشيء (10) يقال: ندبته إلى كذا.   (1) انظر: معجم مقاييس اللغة: 6/ 89 - 90، الصحاح: 1/ 231 - 232. (2) انظر المراجع السابقة. (3) سورة الحج، الآية: 36. (4) انظر معجم مقاييس اللغة: 4/ 489، الصحاح: 4/ 1097. (5) سورة البقرة، الآية: 237. (6) سورة التحريم الآية: 2. (7) في م: ألزم. (8) انظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 245، الصحاح: 5/ 2029. (9) انظر مختصر ابن الحاجب: 1/ 225، شرح تنقيح الفصول: 71، الأحكام - للآمدي: 1/ 119. (10) انظر معجم مقاييس اللغة: 5/ 413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1693 والاستحبات المحبة، والمسنون في الشرع في أعلى مراتب المندوب (1) وهو في اللغة الطريقة (2) ومنه {سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (3) أي طريقتهم، وقوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} (4) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي" (5)، والتطوع مأخوذ من الطوع (6) وهو الانقياد يقال: أطاع بكرا أي انقاد إليه، واستجاب له، والإرشاد الهداية إلى المطلوب وإلى ما فيه الصلاح والنفل والهبة (7) والفضيلة مأخوذة من الفضل وهو في الفعل استحقاق الثواب عليه (8)، والرغبة والإرغاب إلى الفعل ليناله الفاعل. فصل [3 - في الحظر والكراهة والإباحة والصحة والرخصة]: والمحظور هو المحرم الممنوع: وهو ما حرم فعله، وهو نقيض الواجب (9) والحظر، في اللغة المنع (10) ومنه الحظيرة (11). والمكروه نقيض المندوب إليه، وهو ما تعلق الثواب عليه بتركه ولا عقاب في فعله (12).   (1) في م: المندوبات. (2) انظر الصحاح: 5/ 2128. (3) سورة الحجر الآية: 13. (4) سورة الإسراء، الآية: 77. (5) أخرجه أبو داود في السنة باب في لزوم السنة: 5/ 14، وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين: 1/ 15، والترمذي في العلم باب في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: 5/ 43، وقال هذا حديث حسن صحيح. (6) انظر الصحاح: 3/ 1255. (7) انظر معجم مقاييس اللغة: 5/ 398، الصحاح: 2/ 474. (8) انظر الصحاح: 5/ 1791. (9) انظر شرح تنقيح الفصول: 71، المستصغي: 1/ 76، الأحكام للآمدي: 1/ 113. (10) انظر معجم مقاييس اللغة: 2/ 80، الصحاح: 2/ 634. (11) في ق: الخطرة. (12) انظر شرح تنقيح الفصول: 71، والأحكام - للآمدي: 10/ 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1694 والإباحة التوسعة والإطلاق ومنه باحة الدار أي وسطها (1)، والمباح كل فعل وقع من المكلف يستوي فعله وتركه لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه (2)، فهذه أصول أحكام أفعال المكلفين وما بعد ذلك داخل فيه: فالطاعة امتثال الأمر يقال أطاع فلانا إذا امتثل أمره (3). والصحة وقوع الفعل على الشروط التي يعتد بها لفاعله معها (4)، والرخصة التخفيف بعد المنع والاستثناء من جملة ممنوعة، ومنه رخص السعر إذا كان بعد الغلاء (5)، وهذه جملة وافية في هذا الفصل. * * *   (1) انظر معجم مقاييس اللغة: 1/ 315، الصحاح: 1/ 356. (2) انظر، شرح تنقيح الفصول: 71، المستصفي: 1/ 66، الأحكام- للآمدي: 1/ 123. (3) انظر معجم مقاييس اللغة: 3/ 431، الصحاح: 2/ 1255. (4) انظر، شرح تنقيح الفصول: 76، المستصفي: 1/ 94، الأحكام- للآمدي: 1/ 130. (5) انظر مختصر ابن الحاجب: 2/ 7، شرح تنقيح الفصول: 85، المستصفي: 1/ 98، الأحكام للآمدي: 1/ 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1695 باب - في السلام الابتداء بالسلام سنة، ورده آكد من ابتدائه، وينتهي السلام إلى البركة (1) ويسلم الماشي على الجالس، والراكب على الماشي، والجالس، ويسلم الواحد من الجماعة يجزي عنهم ورد الواحد كذلك، ولا يبتدأ أهل الذمة بالسلام فإن بَدَؤُا به رد عليهم ولفظ الرد: وعليكم ويجزي سلام المسلم أن يزيد الابتداء على لفظ الرد والرد على لفظ الابتداء إلا أن الانتهاء في ذلك إلى البركات، ولا بأس بالسلام على المرأة المتجالة، ويكره سلام الرجل على الشابة (2). فصل [1 - في سنية الابتداء بالسلام]: وإنما قلنا إن الابتداء بالسلام سنة لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفشوا السلام" (4) "من حق المسلم على المسلم ثلاثة: فذكر ويسلم عليه إذا لقيه" (5). فصل [2 - في حكم رد السلام]: وإنما قلنا إن رده آكد من ابتدائه لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا   (1) أي إلى: وبركاته. (2) في جملة أحكام السلام انظر/الموطأ: 2/ 959، التفريع: 2/ 348، الرسالة: 267، الكافي: 610. (3) سورة النور، الآية: 61. (4) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون: 1/ 74. (5) الحديث أخرجه البخاري في الجنائز باب الأمر باتباع الجنائز: 2/ 70، ومسلم في السلام باب من حق المسلم على المسلم ... : 4/ 1705، وفيه حق المسلم على المسلم ست أما لفظ ثلاث فلم أعثر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1696 بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو ردوها} (1) قيل إن ذلك في رد السلام (2)، ولأنه قد تعلق به المسلم كما تعلق في رد المشمت حق التشميت (3). فصل [3 - إلى أين ينتهي السلام]: وإنما قلنا إنه ينتهي إلى قوله: وبركاته، فلأن ذلك ما ورد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف ومنع ما زاد عليه وروي أن عمر رضي الله عنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك أيدخل عمر (4)، وروي أن رجلًا سلم على عبد الله بن عباس فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد بعد ذلك شيئًا، فقال ابن عباس: إن السلام ينتهي إلى البركة (5)، وروي أن رجلًا سلم على عبد الله بن عمر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته والعاديات والرائحات فقال ابن عمر عليك ألف وكأنه كره ذلك (6). فصل [4 - في تسليم الماشي على الجالس والراكب على الماشي]: وإنما قلنا يسلم الماشي على الجالس والراكب على الماشي لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يسلم الصغير على الكبير والماشي على القاعد والراكب على الماشي" (7).   (1) سورة النساء، الآية: 86. (2) انظر تفسير الطبري: 5/ 189. (3) حق التشميت: سقطت من ق. (4) أخرجه أحمد: ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 8/ 47). (5) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 959. (6) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 962. (7) أخرجه البخاري في الاستئذان باب تسليم الراكب على الماشي: 7/ 127، ومسلم في السلام باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير: 4/ 1703. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1697 فصل [5 - في كفاية تسليم الواحد من الجماعة]: وإنما قلنا إن تسليم الواحد من الجماعة مجزيء (1) عنهم لما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم" (2). فصل [6 - في كفاية رد الواحد من الجماعة]: وإنما قلنا إن رد الواحد من الجماعة مجزيء عنهم خلافًا لمن فرق بين الابتداء والرد فأجازه في الابتداء وأوجب في الرد أن يرد كل واحد منهم (3)، لقوله تعالى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (4) فمفهومه أن يرد بمثل ما ابتدأ من غير زيادة وذلك يقتضي أنه إذا سلم واحد رد واحد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم" (5) ولم يفرق بين الابتداء والرد ولأنه رد التحية وكتشميت العاطس. فصل [7]: وإنما قلنا لا يبتدىء أهل الذمة بالسلام لقوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (6) والكافر ليس بأهل التحية والإكرام بل للإذلال والهوان، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبدؤهم بالسلام" (7).   (1) في م: يجزي. (2) أخرجه مالك في موطئه مرسلًا: 2/ 959. (3) انظر الفواكه الدواني: 2/ 352. (4) سورة النساء، الآية: 86. (5) سبق تخريج الحديث قريبا. (6) سورة النور الآية: 61. (7) أخرجه مسلم في السلام باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام: 4/ 1707. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1698 فصل [8]: وإنما قلنا يقول في الرد إذا سلم الذمي: وعليك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اليهود إذا سلم عليكم (1) أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقل وعليك" (2)، وفي رواية أخرى "وعليكم" (3) وقد اختار بعضهم أن يرد عليه السِلام بكسر السين وهي الحجارة (4) والأول أولى. فصل [9 - وجه جواز تزايد لفظي الابتداء والرد]: وإنما أجزنا تزايد اللفظين لأن كل واحد (5) مروي عن السلف، ولأن المعنى واحد فيهما. فصل [10 - دليل جواز سلام الرجل على المرأة والمرأة على الرجل]: وإنما قلنا سلام الرجل على المرأة جائز والمرأة على الرجل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم على النساء (6)، ولأنه تحية للمؤمن فلم يختص به الرجال دون النساء كتشميت العاطس. فصل [11 - في التفريق بين السلام على المتجالة والشابة]: وإنما فرقنا بين المتجالة والشابة لأن المتجالة لا تسبق الظنة إلى المسلم عليها أراد أن يكون بذلك محادثتها والإلتذاذ بكلامها والتذرع إلى ما يرتاب منها وذلك غير مأمون في الشابة فكره لما يطرق عليه.   (1) عليكم سقطت من ق. (2) أخرجه البخاري في الاستئذان باب كيف يرد على أهل الذمة السلام: 7/ 133، ومسلم في السلام باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام: 4/ 1706. (3) أخرجه البخاري في الاستئذان باب كيف يرد على أهل الذمة السلام: 7/ 133. (4) قال ابن فارس سميت الحجارة سلاما لأنها أبعد شيء في الأرض من الفناء والذهاب لشدتها وصلابتها (معجم مقاييس اللغة: 3/ 91). (5) في م: ذلك. (6) في السنن: أن أسماء بنت يزيد تحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على عصبة من النساء قعود فسلم عليهن أخرجه الترمذي في الاستئذان باب ما جاء في التسليم على النساء: 5/ 56 وقال حديث حسن، وأخرجه أبو داود في الأدب باب في السلام على النساء: 5/ 382 وابن ماجه في الأدب باب السلام على الصبيان والنساء: 2/ 1220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1699 فصل [12 - في منع هجر المسلم لأخيه فوق ثلاثة]: هجرة المسلم لأخيه فوق ثلاث (1) ليال منهي عنه إلا أن يكون من أهل الأهواء والبدع أو من فساق الأفعال المديمين (2) على ذلك فمستحب (3) هجرته ردعا له وزجرا، والذي يخرج به هاجر أخيه من هجرته أن يسلم عليه إذا لقيه (4). وإنما منعنا دوام الهجرة زيادة على الثلاثة أيام لأن ذلك مؤد إلى التقاطع والتدابر المنهي عنه ومورث للعداوة والبغضاء وتمكن الأحقاد في قلوب المؤمنين بعضهم لبعض، وضد ذلك ما حض النبي - صلى الله عليه وسلم - من المواصلة والألفة، ونهي عنه من التقاطع والتدابر لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يهجر أحدكم أخاه فوق ثلاث" (5). فصل [13 - في استثناء الهجر أقل من ثلاث]: وإنما استثنينا الثلاث لورود الخبر باستثنائها من المنع وتجري العادة (6) في الطبائع في الهجرة عند حدوث ما يثيرها ويجر إليها وكانت استدامتها ممنوعة لما ذكرناه واحتيج إلى ضرب مدة ليفصل بها بين ما رخص فيه لغلبة الطباع بين ما منع منه وكان أول ما ضرب لذلك الثلاث لأنها جعلت في الشرع فصلا في عدة مواضع.   (1) ثلاث سقطت من م. (2) في ق: مؤمنين وفي ر: المدمنين. (3) فمستحب: سقطت من ق. (4) انظر التفريع: 2/ 348، الرسالة: 267، الكافي: 613. (5) أخرجه البخاري في الأدب باب الهجرة وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل لرجل: 7/ 90، ومسلم في البر والصلة والأدب باب تحريم الظن: 4/ 1985. (6) العادة في: سقطت من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1700 فصل [14 - فيما يخرج من الهجر]: وإنما قلنا يخرجه من ذلك أن يسلم عليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (1)، ولأنه يزول بذلك عن الهجرة المنهي عنها إلى ضرب من المواصلة وهي تحية أخيه المسلم المأمور بابتدائه بها. فصل [15 - في هجر المبتدع]: وإنما استثنينا هجران المبتدع في اعتقاده والمجاهر (2) بفسقه ومعاصيه ردعا له عما هو عليه وليزدجر (3) عنه ويقلع عن استدامته وغضبا لله سبحانه في مواصلة من هذه سبيله وإيثار ألفته ومخالطته، ولئلا ينسب مواصله إلى مثل طريقته ويضاف إليه ما يعرف من قبيح الطريقة به أو الرضا بذلك من فعله، وفي الحديث "المرء على دين خليله فينظر أحدكم من يخالل" (4)، ولأن المخالطة لأهل البدع قد يكون من ضعف القلب وشره العامية بحيث يأمن على نفسه أن يشكك في دينه، ويمكن في قلبه شبهة بدعة يبعد زوالها منه يتعذر تلافيها، وقد قيل: لا يمكن زائغ (5) القلب من أذنيك، وروي ذلك عن جملة من السلف رضي الله عنهم. فصل [16 - في جواز المصافحة وكراهية المعانقة وتقبيل اليد]: والمصافحة جائزة وتكره المعانقة وأشد من ذلك تقبيل اليد (6)، وإنما أجزنا   (1) سبق تخريج الحديث قريبًا. (2) في ق ور: المهاجر. (3) في م ور: لينزجر. (4) أخرجه الحاكم: 4/ 171، عن أبي الحباب وقال الحكم حديث أبي الحباب صحيح ولم يخرجاه. (5) في م: رابع. (6) انظر الرسالة: 277، المقدمات: 3/ 440، 441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1701 المصافحة لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا" (1). فصل [17 - في وجه كراهية المعانقة]: وإنما كرهنا (2) المعانقة لأنها لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن السلف مع أنها أخلاق العامة إلا أن يكون من طول الاشتياق وقدوم من غيبة أو مع الأهل وما أشبه ذلك ويفارق المصافحة لوجود العمل بها، وقد ذكر عن بعض أهل العلم إجازتها (3)، ووجهه (4) ما روي عن حديث أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصافحه فجاءه فالتزمه" (5) واعتبارًا بالمصافحة. فصل [18 - كراهية تقبيل اليد]: وإنما كره تقبيل اليد لأنه من التكبر والتجبر الذي تستعمله الأعاجم ولم ينقل عن أحد من السلف (6).   (1) أخرجه أبو داود في الأدب باب في المصافحة: 5/ 388، وابن ماجه في الأدب باب المصافحة: 2/ 1220، والترمذي في الاستئذان باب في المصافحة: 5/ 70، والحديث عن الأجلح وفيه مقال (نصب الراية: 4/ 260). (2) في م: كرهت. (3) منهم ابن عيينة ولقد حاج مالك في ذلك بحديث قدوم جعفر من أرض الحبشة فاعتنقه النبي - صلى الله عليه وسلم - (انظر الرسالة: 277، المقدمات: 3/ 440 - 441). (4) ووجه: سقطت من م. (5) أخرجه أبو داود في الأدب باب في المعانقة: 5/ 389، وقد ذكر البخاري هذا الحديث في التاريخ الكبير وقال مرسل. (6) ولقد أنكر مالك ما روي في ذلك من أحاديث صحيحة، وقال أتباع مالك في ذلك إن كان إنكار ذلك من جهه الرواية فمالك حجه فيها لأنه إمام الحديث، وإن كان من جهة الفقه فلما ذكره القاضي عبد الوهاب، وقال بعض المالكية بجواز تقبيل يد العالم والشيخ والوالد والقادم من السفر وإن كان ظاهر المذهب خلافه (انظر الرسالة: 277، والمقدمات: 3/ 441، الفواكه الدواني: 2/ 355). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1702 فصل [19 - في تشميت العاطس]: وينبغي للعاطس أن يحمد الله تعالى، وأن يسمع من يقرب منه، وينبغي لمن سمعه أن يشمته إلا أن يتوالى منه ذلك مرارًا (1) فيسقط عنه تشميته، وتشميته أن يقول يرحمك الله, ولرده لفظان أحدها أن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، والآخر أن يقول: يغفر الله لكم، والأول أفضل (2). وإنما قلنا إنه إذا عطس حمد الله عَزَّ وَجَلَّ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله" (3) وروت عائشة رضي الله عنها أن رجلًا عطس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ماذا أقول فقال: "قل الحمد لله" (4) وإنما قلنا إن على من سمعه أن يشمته لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا عطس فليشمته" (5) وقوله " فليقل له صاحبه يرحمك الله" (6)، إنما قلنا إنه لا يستحق التشميت إلا إذا سمع منه الحمد لله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل صاحبه يرحمك الله" (7) فشرط فيه أن يكون بعد التحميد، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - عطس عنده رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقيل له في ذلك فقال "لأن ذلك حمد لله فشمته وهذا لم يحمد الله فلم أشمته" (8).   (1) في ق: مرات. (2) انظر الموطأ: 2/ 965، التفريع: 2/ 354، الكافي: 614. (3) أخرجه البخاري في الأدب باب إذا عطس كيف يشمت: 7/ 125. (4) أخرجه أحمد: 6/ 79، وأبو يعلى وفيه أبو معشر نجيح وهو لين الحديث، وبقية رجاله ثقات (مجمع الزوائد: 8/ 60). (5) سبق تخريج الحديث قريبًا. (6) سبق تخريج الحديث قريبًا. (7) سبق تخريج الحديث قريبًا. (8) أخرجه البخاري في الأدب باب الحمد للعاطس: 7/ 125، ومسلم في الزهد باب تشميت العاطس: 4/ 2292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1703 (وإنما قلنا إن للرد لفطين لأن الرواية جاءت بهما) (1) وإنما قلنا إن قوله: يهديكم الله أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليقل يهديكم الله ويصلح بالكم" (2) ولأن الهداية أفضل من المغفرة لأنها قد تعرى من الذنوب، والمغفرة لا تكون إلا لذنب، وإنما قلنا إن التشميت يسقط مع الموالاة لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن عطس فشمته ثم إن عطس فشمته ثم إن عطس فقال إنك مضنوك" (3) يريد مزكوم. فصل [20 - في خصال الفطرة]: وعشر من الفطرة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فالتي في الرأس المضمضة والاستنشاق والسواك وقص إطار الشارب، وإعفاء اللحية، والتي في الجسد: حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء والختان (4)، وإنما قلنا ذلك لورود الروايات بذلك، فأما المضمضة والاستنشاق والسواك والختان فقد ذكرنا حكم جميعها. فصل [21 - في قص الشارب]: فأما قص إطار (5) الشارب فلقوله - صلى الله عليه وسلم - "أحفوا الشوارب" (6) (ومعنى ذلك قص ما زاد من أطرافه (7)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بقص شاربه (8)   (1) ما بين قوسين من م. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق باب تشميت العاطس: 4/ 2293. (4) انظر الموطأ: 2/ 921، الرسالة: 272، الكافي: 612. (5) إطار: سقطت من م، والإطار: طرف الشعر المستدير على الشفه (الرسالة: 272). (6) أخرجه مسلم في الطهارة باب خصال الفطرة: 1/ 222. (7) أطرفه مطموسة في ق. (8) أخرجه الترمذي في الأدب باب ما جاء في قص الشارب: 5/ 86، وقال هذا حديث حسن غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1704 وأما حلقهُ فمثلة منهي عنها) (1) هذا مذهب أكثر أهل العلم وعلماء المدينة، ومروي عن جمهور الصحابة، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى استحبابه (2). وإنما قلنا ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من حلق" (3)، ولأن في تبقيته جمالًا للوجه وزينة، وفي حلقه مثلة وذهاب بهاء الوجه (4) وجماله فكانت تبقيته هي المستحبة كشعر اللحية، وروي عن عمرو وأبي سعيد الخدري وراع بن خديج وجابر وسهل بن سعيد (5) وأبي هريرة وغيرهم أنهم كانوا يجزون شواربهم (6)، وقال مالك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حزبه أمر فتل شاربه (7)، وقال ابن المسيب أول من قص الشارب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - (8)، فأما إعفاء اللحية وتوفيرها وتكثيرها لأن في ذلك جمالًا للوجه وزينة للرجل، وجاء في بعض الأخبار "أن الله عَزَّ وَجَلَّ زين بني آدم باللحى (9) " ولأن الغرض بذلك   (1) ما بين قوسين سقط من م. (2) انظر الأم: 1/ 21، فتح الباري: 10/ 347. (3) أخرجه أبو داود في الجنائز باب في النوح: 3/ 496، والنسائي في الجنائز باب شق الجيوب: 4/ 18، قال ابن حجر "والاستدلال بهذا الخبر في غير ما ورد فيه (فتح الباري: 10/ 348). (4) في م: لماء الوجه. (5) سهل بن سعد: بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس، وله ولأبيه صحبة، مشهور، مات سنة ثمان وثمانين وقيل بعدها وقد جاز المائة (تقريب التهذيب: 257). (6) انظر البيهقي: 1/ 151 وفيه من طريق ابن أبي رافع قال: رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم. (7) أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن أحمد وهو ثقة مأمون (مجمع الزوائد: 5/ 169). (8) الموطأ: 3/ 922. (9) لم أعثر على تخريج هذا الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1705 مخالفة الأعاجم في نتفها وتبقية اليسير منها، والأعفاء التكثير ومنه قوله تعالى {حَتَّى عَفَوْا} (1) يريد كثروا، (2) هذا ما لم يخرج بطولها عن الحد المعتاد ويفضي بصاحبها إلى الطنز (3) والسخرية منه. فصل [22 - في حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر]: وأما حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار فمستحب لورود الخبر به (4) واتصال العمل من السلف والأعصار إلى هلم جرا به، ولأنه من النظافة وإزالة الشين والقذارة فكان استنانه متأكدا. فصل [23 - في الاستئذان]: ولا ينبغي لأحد أن يدخل على أجانب أو أقارب إلا بإذن ويستأذن ثلاثا فإن أذن له وإلا رجع إلا أن يغلب على ظنه أنه لم يسمع فلا بأس أن يزيد، وليستأذن في دخوله على أمه وذوات محارمه، وأن يسلم على أهل بيته (5) وأهله إذا دخل منزله (6). فصل [24 - الدليل على الاستئذان]: وإنما قلنا أن الاستئذان مأمور به في الجملة لقوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ... إلى قوله: فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} (7)، وقوله   (1) سورة الأعراف الآية: 95. (2) انظر تفسير. (3) في ق: التطريه. وفي ر: الطنزية، والطنز: السخرية (الصحاح: 3/ 883). (4) في قوله - صلى الله عليه وسلم - "خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط: وتقليم الأظافر وقص الشارب" أخرجه البخاري في اللباس باب تقليم الأظافر: 7/ 56 ومسلم في الطهارة باب خصال الفطرة: 1/ 221. (5) أهل بيته: سقطت من م. (6) انظر: الموطأ: 2/ 963، التفريع: 2/ 349، الرسالة: 278، الكافي: 610. (7) سورة النور، الآية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1706 {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1) وقوله {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} (2) الآية، ولأنه إذا دخل ولم يستأذن ربما صادف كراهة من القوم لدخوله أو كونهم على ضروب من الانبساط يكرهون أن يراهم الغير عليها. فصل [25 - في الاستئذان على الأقارب]: وإنما قلنا يستأذن على الأقارب كاستئذانه على الأجانب لأنه متى فاجأهن بالدخول جاز أن يصادف منهن عورة لا يجوز له الاطلاع عليها (3) أو أمرا يكرهن الوقوف عليه منهن، وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - من سأله عن ذلك على هذا المعنى لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله (هل علي أن استأذن على أمي، قال له "نعم"، قال إني معها في البيت قال استأذن عليها قال إني خادمها، قال استأذن عليها) (4) أتحب أن تراها عريانة (5) وفي طريق آخر: "أتحب أن ترى منها ما لا تحب" قال لا، قال "فاستأذن" (6). فصل [26 - في جواز عدم الاستئذان على الزوجة والأمة]: فأما أمته وزوجته الجائز له وطأها فليس عليه استئذانهن لأن أكثر ما في ذلك أن يصادف منهن تكشفًا وتبسطًا (7) وقد أبيح له النظر إلى أبدانهن.   (1) سورة النور الآية: 59. (2) سورة النور الآية: 58. (3) في ق: عليهن. (4) ما بين قوسين سقط من ق. (5) أخرجه مالك في موطئه (2/ 963)، مرسلًا، وقال ابن عبد البر عن الحديث أنه مرسل صحيح. (6) ذكره البخاري في الأدب المفرد من طريق مسلم بن النذير ومن طريق موسى بن طلحه وقال ابن حجر: وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة (فتح الباري: 11/ 25). (7) في ق: ووسطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1707 فصل [27 - في أن الاستئذان ثلاثًا]: وإنما قلنا إن الاستئذان ثلاثًا لما روى أبو موسى الأشعرى وأبو سعيد الخدري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع" (1)، ولأنه قد لا يسمع في أول مرة واحتيج إلى زيادة عليه فكانت الثلاثة أولى ما حد فيه. فصل [28 - في رجوع من لم يسمع إذنا]: وإنما قلنا إنه إذا رجع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع (2)، ولأن الدخول على الإنسان بغير إذنه غير جائز، والزيادة على القدر الذي ورد به الشرع تعد لما حد فيه، ولا يعلم (3) إذا لم يؤذن له إنه يكره الدخول فلا ينبغي أن يزد (4). فصل [29 - في زيادة الاستئذان إذا لم يسمع]: وإنما قلنا إنه إذا غلب على ظنه أنه لم يسمع جاز له أن يزيد لأنه إذا لم يسمع كان كمن لم يستأذن لأن الاستئذان الذي له حكم هو ما صادف سماعًا يعلم من المستأذن عليه هو إذن أو كراهة، فإذا لم يسمع كان كالمستأذن على النائم فلا يكون لاستئذانه حكم. فصل [30 - في السلام على الأهل]: وإنما استحببنا أن يسلم على أهله لقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (5)، ولأنه إذا استحب له ذلك بسمع الأجانب كان   (1) أخرجه البخاري في البيوع باب الخروج في التجارة: 2/ 6، ومسلم في الأدب باب الاستئذان: 3/ 1694. (2) سبق تخريج الحديث قريبًا. (3) في م: ولأنه يعلم. (4) في م: أن يؤذيهم. (5) سورة النور، الآية: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1708 أولى مع الأقارب، ولأنها تحية ندب إليها فلم يختلف فيها حكم الأجانب والأقارب كتشميت العاطس. فصل [31 - في منع التناجي]: ولا يتناجى اثنان دون واحد (1) لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (2)، ولأن في ذلك انكسار قلبه لأنه يعتقد أنهما يكرهان اطلاعه على ما هما فيه وستره عنه وارتيابه بهما، وظنه أنهما في شيء من أمره، ويجوز إذا كانوا جماعة لأنه قد شركه الباقون فيما يستر عنه من الحديث فيزول عنه الحزن. فصل [32 - في تصرفات الإنسان بجوارحه]: ما يتصرف فيه الإنسان بجوارحه على ضربين: منه ما يستحب له فعله بيمينه فإن فعله بشماله أساء وأجزاه، ومنه ما يستحب له فعله بشماله فإن فعله بيمينه أساء إلا أن يكون له عذر في الموضعين. فالضرب الأول كالعبادات التي ليس طريقها إزالة الأذى وأوائل الأفعال دون الخروج منها وذلك كالوضوء وتناول الشيء من يد غيره، والأكل والشرب واللباس للنعل وما أشبه ذلك كل هذا يستحب له فعله بيمينه. والآخر كالاستنجاء والاستنثار وخلع النعل وتنقية الأنف وغير ذلك من إزالة النجاسة والأذى فهذا كله مستحب له فعله بشماله (3)، والأصل في هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ("إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم" (4)) (5) وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إذا انتعل أحدكم   (1) انظر الموطأ: 2/ 988، التفريع: 2/ 355، الرسالة: 278. (2) أخرجه البخاري في الاستئذان باب لا يتناجى اثنان دون الثالث: 7/ 142، ومسلم في السلام باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه: 4/ 1717. (3) انظر الموطأ: 2/ 916، 922، 926، التفريع: 2/ 353، الكافي: 614. (4) أخرجه أبو داود في اللباس باب في الانتفال، وابن ماجه في الطهارة باب التيمن في الوضوء: 1/ 141، وأحمد: 2/ 354 وصححه ابن خزيمة: 1/ 91، وابن حبان في صحيحه. (5) ما بين قوسين من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1709 فليبدأ بيمينه وإذا خلع فليبدأ بشماله ولتكن اليمنى أولهما تنتعل واليسرى أولهما للخلع" (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله (فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) (2) (3)، وقالت عائشة رضي الله عنها: كانت يمينه - صلى الله عليه وسلم - لوجهه وشماله لما وراء ذلك (4). فصل [33 - في منع المشي في نعل واحد]: ولا ينبغي أن يمشي الرجل في نعل واحد (5) لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وقوله "لينتعلها جميعًا أو يخلعها جميعًا" (6)، ولأن ذلك يشغل قلبه ويؤثر فيه ضربا من التخيل والاضطراب، ولأنه ضرب من الشهرة والتعريض لأن من يراه نسبه إلى اختلال الرأي ونقصان المروءة وقلة التحصيل ويطرق عليه اللهو وذلك خلاف موجب المروءة والتصور (7)، ويجوز ذلك في الشيء الخفيف إذا كان هناك عذر وهو أن يمشي في إحداهما متشاغلًا بإصلاح الأخرى، وإن كان الاختيار أن يقف إلى الفراغ منها لأنه ينسب حينئذٍ إلى شيء مما يكره، وإنما تناول له في العجلة والإسراع إلى ما لا يأمن فوته فيكون ذلك عذرا له.   (1) أخرجه البخاري في اللباس باب ينزع نعل اليسرى: 7/ 49، ومسلم في اللباس والزينة باب استحباب لبس النعل في اليمنى أولا: 3/ 1660. (2) أخرجه مسلم في الأشربة باب آداب الطعام والشراب وأحكامها: 2/ 1598. (3) ما بين قوسين سقط من ق. (4) أخرجه البخاري في الوضوء باب التيمن في الوضوء والغسل: 1/ 50، ومسلم في الطهارة باب التيمن في الطهور وغيره: 1/ 226، بلفظ قريب منه. (5) انظر الموطأ: 2/ 916، التفريع: 2/ 353، الكافي: 614. (6) أخرجه البخاري في اللباس باب لا يمشي في نعل واحد 7/ 49، ومسلم في اللباس والزينه باب استحباب لبس النعل في اليمين أولا ... : 3/ 1660. (7) في م: التصديق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1710 فصل [34 - في التسمية على الطعام]: ويستحب للمرء أن يسم الله عند أكله وشربه، وأن يحمد الله عند فراغه (1) لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع يده في الطعام قال: "بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا" (2)، وقال لعمر بن أبي سلمة: "سم الله وكل مما يليك" (3) وروى أبو أمامة (4) أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من الطعام قال: "الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه" (5)، وروى أبو سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين" (6). فصل [35 - في آداب الأكل الأخرى]: وينبغي له أن يتناول اللقمة بيمينه لما بيناه، ولا يأكل إلا مما يليه إذا كان الطعام نوعًا واحدًا (7) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكل مما يليك" (8)، ولأن في تعديه   (1) انظر الموطأ: 2/ 927، التفريع: 2/ 349، الرسالة: 275، الكافي: 613. (2) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب التسمية على الطعام: 4/ 139، الترمذي في الأطعمة باب ما جاء في التسمية على الطعام: 4/ 253، وقال حديث حسن صحيح. (3) أخرجه البخاري في الأطعمة باب الأكل مما يليه: 6/ 196، ومسلم في الأشربة باب آداب الطعام: 3/ 1599. (4) أبو أمامة: البلوي حليف بني حارثة اسمه إياس وقيل عبد الله بن ثعلبه، وقيل ثعلبه بن عبد الله أو ابن سهيل، صحابي (تقريب التهذيب: 619). (5) أخرجه البخاري في الأطعمة باب ما يقول إذا فرغ من طعامه: 6/ 214. (6) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ما يقول الرجل إذا طعم: 4/ 187، والترمذي في الدعوات باب ما يقول إذا فرغ من الطعام: 5/ 473، وقال هذا حديث حسن صحيح. (7) انظر الموطأ: 2/ 927، التفريع: 2/ 349 - 350، الرسالة: 274، الكافي: 613. (8) سبق تخريج الحديث قريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1711 ما يلي غيره دناءة وقلة مروءة وأدب (1)، وإذا كان أنواعًا مختلفة جاز أن يجيل يده في نواحيه لأنه ينسب (2) في ذلك إلى غرض صحيح غير مستقبح وهو إرادة النوع الذي في الناحية البعيدة عنه. فصل [36 - في منع النفخ في الطعام]: ولا ينبغي أن ينفخ في طعام ولا شراب ولا أن يتنفس في إنائه، وإذا ضاق النفس بالشارب فلينح (3) القدح عن فيه فإذا تنفس أعاده (4) لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب (5)، فقال له رجل: إني أروى من نفس واحد فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "فأبن القدح عن فيك وتنفس" (6)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشرب في ثلاثة أنفاس فهذا أهنأ وأمرأ" (7)، ولأنه إذا تنفس في الإناء جاز أن يطير مع نفسه شيء من ريقه أو أنفه فتعافه النفس وينسب إلى القذارة، (وكذلك قلنا إنه إذا رأى القذراة) (8) في الإناء أراقها ولم ينفخها ووردت الرواية بذلك.   (1) في ق: اداب. (2) في ق: سبب. (3) في ق: فلينتح. (4) انظر الموطأ: 2/ 924، التفريع: 2/ 350، الرسالة: 275، الكافي: 613. (5) في ق: الشرب. (6) أخرجه مالك: 2/ 925، الترمذي في الأشربة باب ما جاء في كراهية النفخ في الشراب: 4/ 269، وقال هذا حديث حسن صحيح. (7) أخرجه مسلم في الأشربة باب كراهية التنفس في نفس الإناء: 3/ 1603. بلفظ "أن النبي، كان يتنفس في الإناء ثلاثًا ويقول هو: أروي وأمرأ وأبرأ" وفي رواية أبي داود "أهنأ" بدل أروي. (8) ما بين قوسين سقط من ق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1712 فصل [37 - في جواز الشرب قائمًا]: ويجوز الشرب قائمًا لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك (1)، وذكر مثله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وروي عن سعد وابن عمر وعائشة (2) رضي الله عنهم أجمعين. فصل [38 - في كراهية الأكل متكئا]: يكره الأكل متكئا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنا فلا آكل متكئا" (3)، ولأن ذلك من فعل الأعاجم اعتقادًا للتجبر والتعظيم، وإذا أراد دفعه إلى غيره دفعه إلى الأيمن لما بيناه من استحباب التيامن على غيره، ولما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب وعن يمينه أعرابي وعن شماله أبي بكر وعمر والأشياخ (4)، فقال للأعرابي وإن أذنت دفعت إلى أبي بكر"، فقال الأعرابي: لا أوثر بنصيبي منك أحدًا: "فتله (5) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده" (6)، ولأن ذلك مذهب العرب وسنتها فإذا أكده الشرع كان أدخل في الندب وأولى بالاستحباب. فصل [39 - في تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة]: ولا يجوز الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، ولا اتخاذها للاستعمال في غير ذلك (7)، وإنما قلنا ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" (8)، وكذلك الأكل أيضًا ممنوع لأن   (1) فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - شرب قائمًا من زمزم أخرجه البخاري في الأشربة باب الشرب قائمًا: 6/ 248، ومسلم في الأشربة باب في الشرب من زمزم قائمًا: 3/ 1610. (2) أخرج هذا الآثار: مالك: 2/ 925 - 926، أبو داود: 4/ 109، الترمذي: 4/ 226. (3) أخرجه البخاري في الأطعمة باب الأكل متكئًا: 6/ 201. (4) الأشياخ: هم كبار الصحابة رضوان الله عليهم. (5) فتله: أين ألقاه (انظر الصحاح: 4/ 1645). (6) أخرجه البخاري في الأشربة باب الأيمن فالأيمن: 6/ 248، ومسلم في الأشربة باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدىء: 3/ 1603. (7) انظر الموطأ: 2/ 924، التفريع: 2/ 351. (8) أخرجه البخاري في الأشربة باب آنية الفضة: 6/ 251، ومسلم في اللباس والزينة باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة: 3/ 1634. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1713 المعني فيه وفي الشرب واحد وهو الخيلاء والتجبر، ولأنه من ضروب ملوك الأعاجم والأكاسرة (1)، ويجوز استعمال المضبب (2) إذا كان يسيرًا. فصل [40 - في آداب النوم]: وينبغي لمن أراد النوم أن يوكيء سقاءه (3) ويكفي إناءه (4) ويغلق بابه ويطفيء سراجه (5) لورود الخبر بنص ذلك، ولأنه لا يأمن أن يتعدى من تركه ضررا إذا لم يكن للسراج من يراعيه أو أن يعبث بالإناء شيء من الهوام، وأما إغلاق الباب فاحترازا من السارق، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أوكوا السقاء وأكفؤا الإناء واطفؤوا المصباح فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم" (6)، وفي بعض الأمهات فصل زائد. فصل [41 - في جواز الشرب قائمًا]: يجوز الشرب قائمًا لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك والسلف (7)، وقال ابن عمر كنا نأكل ونحن نسعى ونشرب ونحن قيام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (8).   (1) الأكاسرة: جمع الكسرى -على غير قياس-، وكسرى: هو لقب لملوك الفرس (الصحاح: 2/ 806). (2) في ق: المنضب. (3) أي شد وربط رأس القربة بالوكاء وهو الخيط. (4) أي اقلبوه ولا يترك للعق الشيطان ولحس الهوام وذوات الأقذار. (5) انظر الموطأ: 2/ 929، التفريع: 2/ 350. (6) أخرجه مسلم في الأشربة باب الأمر بتغطية الإناء: 3/ 1594. (7) أعاد المصنف هذا الفصل بعد أن ذكره قريبًا؟! (8) أخرجه ابن ماجه في الأطعمة باب الأكل قائمًا: 2/ 1098، الترمذي في الأشربة باب ما جاء في النهي عن الشرب قائمًا: 4/ 265، وقال هذا حديث صحيح غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1714 فصل [42 - في كراهية تعمد غسل اليد للأكل]: كره مالك تعمد غسل اليد للأكل (1) لأنه من زي الأعاجم، ولم يرو عن السلف إلا أن يخاف أن يكون مس بيده شيئًا يكره أن يباشر به الطعام، ولأن ذلك إن كان مقصودا به المبالغة في النظافة فيكره له الاقتداء بالأعاجم مع مضادتهم العرب واعتقادهم أنهم أبصر وأعرف بتدبير الأمور وسائر (2) النظافة لأن التخلق بأخلاق العرب في الجملة أولى، والتعلق بآدابهم وسننهم أحق إلا قدر ما ورد به الشرع بمنعه. فصل [43 - في اجتناب المسجد على آكل الكراث والبصل والثوم]: وينبغي لآكل الكراث (3) والبصل والثوم اجتناب المسجد (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من أكل من هذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مصلانا" (5)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "من أكل هذه الشجرة فلا يقربنَّ مسجدنا يؤذينا بريح الثوم" (6)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجتنب ذلك لأجل جبريل عليه السلام (7)) (8).   (1) هذا الذي قال مالك رده ابن عبد البر بحديث سليمان رضي الله عنه "غسل اليد قبل الطعام ينفي الفقر .. " وقال إنه صحيح، ولكن قال مالك: ليس العمل عليه وقال ابن وهب يغسلها (انظر الكافي: 611 - 612، شرح زروق وشرح ابن ناجي على الرسالة: 388، الفواكه الدواني: 350). (2) في م: آلة. (3) الكراث: بقل معروف (الصحاح: 1/ 390). (4) انظر الرسالة: 275. (5) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب في أكل الثوم: 4/ 171، وقال الهيثمي رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 2/ 20). (6) أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب نهي من أكل ثومًا أبو بصلًا أو كراثًا: 1/ 393. (7) فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أتي ببدر -أي بطبق- فيه خضروات من البقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول، فقال قربوها إلى بعض أصحابه كان معه فلما رآه كره أكلها قال: كل فإني أناجي من لا تناجي" أخرجه البخاري، في الآذان باب الثوم النيء والبصل: 1/ 207. (8) ما بين قوسين سقط من م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1715 فصل [44 - استحباب غسل اليد والفم من الدسم]: يستحب غسل اليد والفم من الدسم (1) لأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك (2)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - شرب لبنا فمضمض، وقال: إن له دسما" (3)، وإن لم يكن في طعامه ذلك فليس عليه غسل يده، وقد روي أن منديل عمر رضي الله عنه كان بطن قدمه (4). فصل [45 - إجابة وليمة العرس]: ولا بأس بالإجابة إلى وليمة العرس (5) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من دعي إلى وليمة فليجب" (6) فلينبغي ألا يمتنع من دعي إليها من الحضور بخلاف دعوة الختان وغيرها، وإن أجاب إلى ذلك فلا بأس وإن امتنع فلا بأس (7)، وإنما استحببنا حضور وليمة النكاح لأن في ذلك معونة على إظهاره، والمبالغة في إعلانه وذلك مستحب فيه، وليس عليه أن يأكل وإنما عليه أن يحضر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من دعي إلى وليمة فليجب فإن كان مفطرًا فليأكل وإن كان صائما فليصل" (8) "أي   (1) انظر الرسالة: 274، الكافي: 614. (2) أخرج الترمذي حديث "من نام وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه". في الأطعمة باب ما جاء في كراهية البتوته وفي يده ريح غمر: 4/ 255، وقال هذا حديث حسن غريب. (3) أخرجه البخاري في الأشربة باب شرب اللبن 6/ 247، ومسلم في الحيض باب نسخ الوضوء مما مسته النار: 1/ 274. (4) لم أجده، ولكنه روي عن جابر قال: كنا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلا فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا سواعدنا وأقدامنا ... (أخرجه البخاري في الأطعمة باب المناديل: 6/ 213 - 214). (5) انظر الموطأ: 2/ 546، التفريع: 2/ 355، الكافي: 614. (6) أخرجه مسلم في النكاح باب الأمر بإباحة الداعي إلى دعوة: 2/ 1054. (7) وإن امتنع فلا بأس: سقطت من م. (8) سبق تخريج الحديث قريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1716 فليدع، وهذا إذا كانت الوليمة (خالية من اللعب والمنكر كالطبل والزمر، وإن كان فيها شيء من ذلك فلا ينبغي حضوره إلا أن يكون خفيفا لا ينكر نوعه فلا بأس به) (1). فصل [46 - كراهية تسرع أهل الفضل في إجابة الدعوة إلى الطعام]: يكره في الجملة لأهل الفضل التسرع إلى إجابه الطعام والتسامح بذلك (2)، لأن فيه مذلة، ودناءة وإضاعة للتصاون وأخلاق ذوي الهيئة عند دماءة النفس ونسبة فاعله إلى الشره ودناءة النفس وجرأته عليه وانبساطه، وسيما إن كان حاكمًا أو ممن يتعلق به حقوق الناس واعتقاد منِّه عليه (3)، وقد قيل: ما وضع أحد يده في قصعة أحد إلا ذل له. فصل [47 - في عيادة المريض وشهود الجنازة]: عيادة المسلم أخاه إذا مرض مستحبة مندوب إليها (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حق المسلم علي المسلم ثلاث: فذكر ويعوده إذا مرض (5) "، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقاطعوا ولا تدابروا" (6)، وروي: إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة (7) فإذا قعد عنده قرت فيه" (8) وشهادة جنازته آكد في الاستحباب من عيادته (9) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ويشهد جنازته إذا مات" (10) ولأنه إلى الدعاء له بعد الموت أحوج منه إليه حال الحياة.   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) انظر التفريع: 2/ 355، الكافي: 614. (3) عليه: سقطت من ق. (4) انظر الموطأ: 2/ 946، الرسالة: 267، الكافي: 615. (5) سبق تخريج الحديث 1696. (6) سبق تخريج الحديث. (7) خاص الرحمة: شبه الرحمة بالماء من الخوض. (8) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 946. (9) انظر الرسالة: 167. (10) سبق تخريج الحديث 1696. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1717 فصل [48 - في تحريم الغيبة وما جاء في حفظ اللسان]: والغيبة (1) حرام (2) لقوله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (3)، ولما روي من الآثار في منعها والنهي عنها، ولأن فيها مؤدى إلى العداوة والبغضاء وإفساد المودات وتولد الأحقاد وذلك ضد المأمور به، ويجب في الجملة لأهل الدين والعلم والفضل والورع حفظ ألسنتهم واستعمال الصمت والإقلال من الكلام إلا فيما لا بد منهم وما تدعوا الحاجة إليه من دعاء أو قراءة أو درس أو تعليمه أو مصلحة حال الإنسان، فإن في الإكثار منه السقط والخطل والتعريض للزلل ولمثل ذلك مدح العلماء الصمت، وقال مالك رحمه الله: من عد كلامه من عمله (4) قل كلامه (5)، وروي أن عمر دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهو يجبذ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد (6). فصل [49 - في منع الحرير والتختم بالذهب للرجال وإباحته للنساء]: لبس الحرير ممنوع للرجال مباح للنساء (7) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "الحرير محرم على ذكور أمتي". (8)، وقوله: "لباس من لا خلاق له" (9)، ويجوز للنساء لأن   (1) الغيبة: وهو أن يذكر أخاه بما يكره من العيوب. (2) انظر الموطأ: 2/ 987، الرسالة: 267، الكافي: 613، 615. (3) سورة الحجرات، الآية: 12. (4) في م: من علمه. (5) انظر الموطأ: 2/ 911 - 912، الرسالة: 272. (6) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 988. (7) انظر الموطأ: 2/ 912، التفريع: 2/ 351، الرسالة: 272. (8) أخرجه أبو داود في اللباس باب الحرير للنساء: 4/ 330، وابن ماجه في اللباس باب لبس الحرير ... : 2/ 1189، والنسائي في الزينة باب تحريم الذهب على الرجل: 8/ 138 والترمذي في اللباس باب في الحرير والذهب: 4/ 189 وقال حسن صحيح. (9) أخرجه البخاري في الجمعة باب يلبس أحسن ما يجد: 1/ 214 ومسلم في اللباس باب استعمال إناء الذهب: 3/ 1639. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1718 الزينة مباح لهن، ولأن ذلك ينفعهن عند الأزواج، وكذلك التختم بالذهب ممنوع للرجل (1) لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه للرجال (2)، ويجوز للنساء. فصل [50 - في جواز لبس الخز ويسير الحرير]: ويجوز لبس الخز (3) لأنه ليس من الحرير وقد لبسه السلف (4)، وكرهه مالك لأجل السرف وإن دعت ضرورة إلى لبس الحرير جاز، وقد رخص في اليسير منه كالعلم في الثوب وشبهه (5). فصل [51 - حكم التماثيل والصور]: ولا يجوز التماثيل في بناء أو لباس أو فراش إلا أن يكون رقما في ثوب (6)، والأصل فيه نهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه وتشديده وقوله "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة" (7) وقوله: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون" (8)، وقوله "إن أصحاب هذه الصور يقال لهم يوم القيامة أحيوا ما خلقتم" (9)، وقوله لعائشة رضي الله عنها "لم تزل الملائكة تدفعني في القرام الذي نصبتيه" (10).   (1) انظر الموطأ: 2/ 912، التفريع: 2/ 351، الرسالة: 272. (2) أخرجه البخاري في اللباس باب خواتيم الذهب: 7/ 50، ومسلم في اللباس باب في تحريم خاتم الذهب: 3/ 1654. (3) الخز: اسم دابه ثم أطلق علي الثوب المتخذ من دبرها (المصباح المنير: 168). (4) فقد روى مالك عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها كست عبد الله بن الزبير مطرف خز كانت عائشة تلبسه (الموطأ: 2/ 912). (5) انظر الموطأ: 2/ 912، الرسالة: 2/ 351، الرسالة: 272. (6) انظر التفريع: 2/ 352، الرسالة: 270. (7) أخرجه البخاري في البيوع باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء: 2/ 16، ومسلم في اللباس والزينة باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صوره: 3/ 1619. (8) أخرجه مسلم في اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان: 3/ 1667. (9) هو جزء من الحديث الذي قبل هذا. (10) أخرجه البخاري في الصلاة باب إذا صلى في ثوب مصلب أو تصاوير: 1/ 99 بلفظ أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاوير تعرض في صلاتي .. ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1719 فصل [52 - في كون التختم في اليسار]: والاختيار التختم في اليسار لأن ذلك هو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) والسلف الأكثر منهم، ولأن خلافه قد صار كالشعار للمبتدعة، علل بعض أصحابنا بأن المتناول باليمين ليوضع الشمال. فصل [53 - ما يكره للنساء لبسه من الثياب]: يكره أن يلبس النساء من الرقيق ما يبين منه أبدانهن (2) لأن ذلك من التبرج وإبداء الزينة المنهي عنها، وفي ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "كاسيات في الدنيا عاريات يوم القيامة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (3) "، وروي أن حفصه بنت عبد الرحمن دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق فشقته عائشة رضي الله عنها وكستها خمارًا كثيفًا (4). فصل [54 - في عدم جواز الثوب بطرا وخيلاء]: ولا يجوز لأحد أن يجر ثوبه بطرًا ولا خيلاء (5) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من يجر إزاره بطرا" وروي "خيلاء" (6) ويستحب تقصير الثياب إرادة التواضع ولينفي عن الرجل الخيلاء في المشية واللبسة المتوعد عليها (7)، وفي الحديث: "بينما رجل ممن كان قبلكم يتبختر في حلة فأمر الله   (1) فقد روي عن أنس أنه قال كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا وأشار إلى الخنصر اليسرى، أخرجه مسلم في اللباس باب في لبس الخاتم في الخنصر من اليد: 3/ 1659. (2) انظر الموطأ: 2/ 913، التفريع: 2/ 353، الرسالة: 270. (3) أخرجه مسلم في اللباس والزينة باب النساء الكاسيات العاريات: 3/ 1680. (4) أخرجه مالك في الموطأ: 2/ 913. (5) البطر: هو الطغيان وتجاوز الحد، والخيلاء هي الحركة في تلون وكبر وعجب (معجم مقاييس اللغة: 1/ 262، 235). (6) أخرجه البخاري في اللباس باب من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم في اللباس باب تحريم جر الثوب خيلاء. (7) انظر الموطأ: 2/ 914، التفريع: 2/ 353، الرسالة: 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1720 عَزَّ وَجَلَّ الأرض أن تبلعه فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين فما زاد ففي النار" (2)، وهذا للرجال فأما النساء فلهن الزيادة على ذلك نحو الشبر وما زاد عليه إلى الذراع لما روي أن أم سلمة قالت فكيف بالنساء يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يرخين شبرًا" قال: إذا تبدوا أسواقهن وأقدامهن قال: "فذراع ولا يزدن عليه" (3). فصل [55 - في النهي من اشتمال الصماء]: اشتمال الصماء (4) على غير ثوب منهي عنه، وعلى ثوب مختلف أصحابنا فيه والاحتباء على غير ثوب منهي عنه أيضًا (5)، والأصل فيه ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن لبستين اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء (6) ووجه الجواز إذا كان على الثوب أن المنع من ذلك خيفة انكشاف العورة فإذا أمن هذا جاز، ووجه المنع عموم النهي لأن المنع من ذلك لصفة اللبسة وذلك موجود وإن كانت من وراء ثوب.   (1) أخرجه بهذا اللفظ أحمد: 2/ 494، وفي مسلم بلفظ قريب منه: في اللباس باب تحريم التبختر في المشي: 3/ 1654. (2) أخرجه أبو داود في اللباس باب في قدر موضع الإزار: 4/ 353 , وابن ماجه في اللباس باب موضع الإزار أين هو: 2/ 1183، ومالك: 2/ 914. (3) أخرجه أبو داود في اللباس باب في قدر الذيل: 4/ 365، والنسائي في الزينة باب ذيول النساء: 8/ 184، ومالك: 2/ 915. (4) اشتمال الصماء: هي أن يشتمل الرجل بالثوب الواحد على أحد شقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب وسميت صماء لأن يده حينئذ تصير داخل ثوبه فإن أصابه شيء يريد الاحتراس منه والاتقاء بيديه تعذر عليه وإن أخرجها من تحت الثواب انكشفت عورته (انظر الفواكه الدواني: 2/ 38). (5) انظر الموطأ: 2/ 917، التفريع: 2/ 353، الرسالة: 271. (6) أخرجه البخاري في اللباس باب الاحتباء في ثوب واحد: 7/ 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1721 فصل [56 - في أحكام جملة أقسام اللباس]: جملة أقسام اللباس خمسة متعلقها (1): واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح وهذه الأحكام تثبت على وجهين: أحدهما على وجه العموم (2)، والأخرى على وجه الخصوص ثم متعلقها وجهان (3)، وثبوت هذه الأحكام لها ضربان: راجع إلى حق الله عَزَّ وَجَلَّ وراجع إلى حق الإنسان ونحن نبين جملة ذلك (4). أما الواجب فما يستر العورة عن أعين الناس (5) وهذا القسم عام غير خاص وهو الراجع إلى حق الله تعالى، وأما الراجع منه إلى حق الإنسان فما يقي من الحر والبرد ويستدفع به الضرر في الحروب وما أشبه ذلك، ولسنا نريد بأنه يرجع إلى حق المخلوق أنه يجوز له تركه لأنه لو كان كذلك (6) لم نصفه بأنه واجب وإنما نريد أنه يجب لأجل المخلوق لا لعبادة هو شرط في صحتها وهذا أيضًا عام غير خاص. فأما المندوب: على التقسيم الذي ذكرناه فما هو لحق الله كالرداء في الجماعة وأن لا يعري منكبيه من شيء والثياب الجميلة في الأعياد وما في معنى ذلك، والراجع إلى حقوق المخلوقين ما يتجملون به بينهم وما لا يزدري بصاحبه ولا ينقص من مروءته وهذا من حقوق الآدميين وهو عام في الندب. فأما المحظور: فعلى ضربين عام وخاص، فالعام منه ضربان راجع إلى نوع الملبوس وراجع إلى صفة اللبس، والأول منه السرف الزائد على القدر المأذون   (1) متعلقها: سقطت من م. (2) في م: على وجه المنع ظ: وهو خطأ. (3) في م: وجهات. (4) انظر الموطأ: 2/ 910، التفريع: 2/ 353، الرسالة: 271. (5) في م: المخلوقين. (6) في ق: له ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1722 فيه المخرج صاحبه إلى الخيلاء والبطر، والثاني منه اشتمال الصماء والحبوة على غير ثوب وهذا عام في كل لابس وخصوصه في الصفة مختلف فيه: أعني إذا اشتمل الصماء من فوق ثوب وهذا يستر العورة، صفة اشتمال الصماء أن يلتحف بالثوب ويرفعه على أحد جانبيه فلا يكون ليده موضع يخرج منه ولذلك سمي الصماء، والاحتباء مذهب العرب وصفته: أن يجلس ويضع ركبتيه (ويدير ثوبه من وراء ظهره إلى أن يبلغ به ركبته) (1) ويشده حتى يكون كالمعتمد عليه والمستند إليه، وهذا إذا كان تحته الثوب يستر العورة فهو داخل في قسم المباح، وإن كان على غير ثوب فهو محظور لأدائه إلى كشف العورة ومنه التلثم وتغطية الأنف في الصلاة وقد ذكرناه، وأما الخاص فالحرير وتحريمه للذكور دون الإناث وليس من هذا الباب الثوب النجس (2) لأن ذلك لا يرجع إلى اللبس، وإنما يرجع إلى حمل النجاسة بدليل منعه لبس الثوب الذي فيه نجاسة على حد منعه أن يستعملها في بدنه وليس ذلك بلبس، ومنه التختم بالذهب إن عد لباسا ومنه لبس المخيط في الإحرام، وكل هذا القسم يرجع إلى حق الله ولعل فيه ما يرجع إلى حق الآدميين والظاهر الأول. وأما المكروه: فنقيض المندوب إليه فيغنينا عن التفصيل، ومنه في الجملة ما خالف زي العرب وأشبه زي الأعاجم وعاداتهم كالتعمم بغير تحنيك، وقد روي "تلك عمامة الشيطان" (3)، وترك التردى وما أشبه ذلك لأن سنة العرب ومذاهبها هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومذهبه إلا قدر ما نهى عنه. وأما المباح: فما يرجع إلى نوع الملبوس كالقطن والكتان والصوف، وإلى صفته كالقميص والمناديل والعمائم وثياب النساء ومنه راجع إلى صفة اللبس كالرداء والاحتباء والسدل وهو أن يطرح رداءه على منكبيه ويبقى وسطه على   (1) ما بين قوسين سقط من ق. (2) في م: الذي فيه نجاسه. (3) لم أعثر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1723 رأسه أو ظهره، وقد يكون عاما وقد يكون خاصا على ما بيناه وقد نبهنا بقدر ما ذكرناه على ما أغفلناه. فصل [57 - في دخول الحمام]: دخول الحمام جائز للرجال إذا كان بمئازر ولا يجوز للنساء إلا من علة إما من مرض لا يصلحه إلا الحمام أو الحاجة إلى الاغتسال لحيض أو نفاس لشدة البرد ... إسخان الماء في غيره وما أشبه ذلك (1)، وإنما فرقنا بين الرجل والمرأة في ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الحمام بيت لا يستر فيه لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخله إلا بمئزر، ولا امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدخله إلا من علة" (2)، وروي أن نسوة من أهل حمص دخلن على عائشة رضي الله عنها فقالت لعلكن من النساء اللاتي يدخلن الحمامات قلن: إنا لنفعل ذلك فقالت أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ما بينها وما بين الله عَزَّ وَجَلَّ (3)، وقال بعض متأخري أصحابنا إن هذا النهي إنما كان في الوقت الذي لم يكن للنساء مفردًا، فأما اليوم فقد زال ذلك فيجب أن يجوز. فصل [58 - في منع وصل الشعر والوشم]: ووصل الشعر والوشم ممنوع منه (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله الواصلة   (1) انظر، التفريع: 2/ 356، الرسالة: 271، الكافي: 611. (2) أخرجه الترمذي في الأدب باب ما جاء في دخول الحمام: 5/ 104 وقال هذا حديث حسن غريب ونص الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام بغير إزار ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام .. " وليس فيه " ... من علة". (3) أخرجه أبو داود في الحمام في أوله: 4/ 301، وابن ماجه في الأدب باب دخول الحمام: 2/ 1234, والترمذي في الأدب باب ما جاء في دخول الحمام: 5/ 105 وقال هذا حديث حسن. (4) انظر الرسالة: 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1724 والمستوصلة والواشمة والمستوشمة" (1) والمعنى في ذلك أن فيه غرورًا وتدليسًا. فصل [59 - في الخضاب]: والخضاب (2) جائز وتركه واسع إلا بالسواد فإنه يكره (3)، وإنما قلنا إنه جائز لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخضب بالحناء والكتم (4)، وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (5)، وقال مالك (6) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخضب (7) قال يدل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها سئلت وقالت: كان أبو بكر يخضب (8) فلو كان رسول يخضب لذكرته, لأنه لا يجوز أن يخفى ذلك عليها وإنما كره السواد لأن ذلك تدليسا على النساء وإيهاما أنه خلقة وأنه باق على الشباب فتدخل المرآة على ذلك ولو عرفت أنه خضاب لم تدخل عليه. فصل [60 - في تحريم خلوة الرجل بالمرأة]: ولا يخلو رجل بامرأة ليست منه بمحرم للنهي عن ذلك (9)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن   (1) أخرجه البخاري في الناس باب الموصولة: 7/ 63، ومسلم في اللباس باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة: 3/ 1677. (2) الخضاب: الحناء. (3) انظر الموطأ: 2/ 949، التفريع: 2/ 353، الرسالة: 272. (4) أخرجه أحمد: 4/ 163، وقال الهيثمي: رواه البزار وفيه يحيى بن أبي كثير أبو النفير وهو ضعيف جدًّا (مجمع الزوائد: 5/ 163). والكتم: نبت فيه حمرة يخلط مع الوسمة للخضاب الأسود (الصحابي: 5/ 2019). (5) انظر الموطأ: 2/ 950 وابن أبي شيبة: 8/ 433. (6) في ق: وقالوا. (7) الموطأ: 2/ 950. (8) الموطأ: 2/ 950. (9) انظر التفريع: 2/ 354، الرسالة: 269 - 270، الكافي: 692. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1725 الشيطان ثالثهما" (1) وفائدته أن الشيطان يدعوه إلى المعصية مع الخلوة، وإذا كان معها غيره راقبه وخاف أن يطلع عليه أو لا يحدث نفسه بذلك فيكون على أصل (2) خشية الله من مواقعة المعصية لا رهبة من الخلق. فصل [61 - نوم الاثنين في لحاف واحد]: ولا يجتمع رجلان ولا امرأتان متعريين في لحاف أو إزار واحد (3) للنهي عن ذلك (4)، ولأن كل واحد يرى عورة صاحبه. فصل [62 - في غض البصر]: يجوز النظر إلى المتجالة ويكره إلى الشابة إلا لعذر من شهادة أو علاج أو غير ذلك (5)؛ لأن الشابة لا تؤمن الفتنة بها والتلذذ بالنظر إليها والمتجالة قد زال منها هذا المعنى، وقد قال الله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} (6) الآية، ويجوز النظر إلى الشابة عند الخطبة لإباحته - صلى الله عليه وسلم - ذلك وقوله "فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" (7)، ولا يجوز أن يطلع (8) منها على محرم لأن ذلك لا يجوز إلا بالعقد المبيح له.   (1) أخرجه أحمد: 3/ 339 عن جابر مرفوعًا وعن ابن عباس معناه متفق عليه (إرواء الغليل: 6/ 215). (2) في م: أفضل. (3) انظر التفريع: 2/ 356، الرسالة: 271، الكافي: 611. (4) في قوله - صلى الله عليه وسلم - "ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" أخرجه مسلم في الحيض باب تحريم النظر إلى العورات: 1/ 266. (5) انظر التفريع: 2/ 350، الرسالة: 269 - 270، الكافي: 611. (6) سورة النور الآية: 60. (7) أخرجه ابن ماجه في النكاح باب النظر إلى المرأة: 1/ 599، والحاكم: 2/ 165، وصححه. (8) في ق: أن ينضم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1726 فصل [63 - أكل المرأة مع عبدها أو خادمها]: ويجوز أن تأكل المرأة مع الوغد (1) من عبيدها الذي يؤمن منه التلذذ بها وأن يرى شعرها, ولا يجوز ذلك مع الشاب الذي ربما حدثته نفسه بمحرم منها أو المرغوب فيه لنظافته (2). فصل [64 - في حضور اللهو واللعب والملاهي]: لا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب ولا شيء من الملاهي المطربة كالطبل والزمر وما في معناه، وقد رخص من ذلك فيما يستعمل في النكاح من الدف والكبر (3)، والأصل في منعه قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (4) ولأن ذلك من المنكر المنهي عنه المتوعد عليه لأن فيه ما يدعوا إلى المعاصي والآثام ويحسن شرب الخمر وذلك ممنوع، وربما أدى إلى هتك المروءة وزوال التصاون. فصل [65 - النهي عن قراءة القرآن بالألحان المطربة]: ولا يجوز قراءة القرآن بالألحان المطربة والمشبهة بالأغاني إعظامًا له وتنزيها عن الأغاني والمناكير (5)، ولأن ثمرة قراءته الخشية لله وتجديد التوبة عند سماع مواعظه والاعتبار ببراهينه وقصصه وأمثاله والشوق إلى موعوده وذلك ينافي تلحينه واعتقاد الاطراب بطيب (6) سماعه، وينبغي تقسيم قرائته إلى تفخيم وإعظام فيما يليق بذلك منه وإلى تحرير وترقيق على حساب المواعظ المقرؤة منه والحال   (1) الوغد: يطلق على العبد الذي ليس له منظر وكان قبيح الصورة (الكافي: 612 والمصباح المنير: 666). (2) انظر التفريع: 3/ 350، الكافي: 612. (3) انظر الرسالة: 280. (4) سورة القصص، الآية: 55. (5) انظر الرسالة: 280. (6) في م: ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1727 المقروءة فيها، وقد نبه الله تعالى على ما ذكره من تقسيم القراءة وصفتها بقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1)، وقوله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (2)، وقوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (3) وقوله تعالى {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} (4)، ولأن الألحان إذا كرهت في الشعر كانت في القرآن أولى. فصل [66 - النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو]: لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (5) ومخافة أن ينالوه (6)، وللنهي الوارد في ذلك (7) استخفافًا بحرمته وضد ما أمر به من تعظيمه وإكرامه، ويجوز أن يكتب إليهم بالآية والآيتين إذا كان الغرض بذلك الدعاء إلى الإسلام لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إليهم بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (8)} (9).   (1) سورة الأنفال، الآية: 2. (2) سورة محمَّد، الآية: 29. (3) سورة ص، الآية: 29. (4) سورة المائدة الآية: 83. (5) انظر الموطأ: 2/ 446، التفريع: 2/ 356. (6) قاله مالك في موطئه: 2/ 446. (7) أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو: 4/ 15 ومسلم في الإمارة باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار: 3/ 1490. (8) سورة آل عمران، الآية: 64. (9) أخرجه البخاري في باب كيف كان بدعي الوصي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1/ 2، ومسلم في الجهاد باب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل: 2/ 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1728 فصل [67 - التعوذ بالقرآن وبأسماء الله تعالى]: التعوذ بالقرآن وبأسماء الله تعالى جائز (1) لقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2) وقوله تعالى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (3) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (4) وإخباره تعالى عن أنبيائه وصالحي عباده أنهم تعوذوا به، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذات وينفث (5) , وكان من تعوذه "أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات من شر ما خلق وما ذرأ وما برأ ومن شر كل دابة ربي آخذ بناصيتها وإن ربي على صراط مستقيم" (6)، ومنه ما علمه عثمان بن أبي العاصي (7)، "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجده" (8)، وفيه أخبار كثيرة.   (1) انظر الموطأ: 2/ 942، التفريع: 2/ 357، الرسالة: 282. (2) سورة النمل، الآية: 98. (3) سورة الفلق، الآية: 1. (4) سورة الناس الآية: 1. (5) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب فضل المعوذات: 6/ 105، ومسلم في السلام باب رقية المريض بالمعوذات: 4/ 1723. (6) أخرجه الطبراني في الصغير, وقال الهيثمي: وفيهن من لم أعرفه (مجمع الزوائد: 10/ 130 - 131)، وأخرجه مسلم في الذكر والدعاء باب التعوذ: 4/ 2080 جزءا منه وهو (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فقط. (7) عثمان بن أبي العاص: الثقفي الطائفي، أبو عبد الله، صحابي مشهور، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على الطائف ومات في خلافة معاوية بالبصرة (تقريب التهذيب: 384). (8) أخرجه أبو داود في الطب باب كيف الرقي: 4/ 218، والترمذي في الطب باب حدثنا إسحق بن موسى: 4/ 356، وقال حسن صحيح، ومالك: 2/ 942، وأخرجه مسلم في باب استحباب وضع يده علي موضع الألم: 4/ 1728، بلفظ (أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1729 فصل [68 - في الرقية]: والرقية (1) جائزة بالقرآن وبأسماء الله تعالى (2) لقوله جل ذكره {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) وقوله تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (4) وقوله - صلى الله عليه وسلم - "استرقوا لهما فإنه لو سبق القدر شيء لسبقت العين" (5). فصل [69 - في العين]: من عين إنسانًا توضأ له العائن، وصفة ذلك: أن يغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في إناء ثم يصبه على المريض (6) لورود الخبر بذلك في حديث عامر بن ربيعة (7) لما مر بسهل بن حنيف (8) فعين سهلا، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ له على هذه الصفة بعد أن تغيظ، وقال: علام يقتل أحدكم أخاه (9).   (1) الرقية: (2) انظر الموطأ: 2/ 942، التفريع: 2/ 377، الرسالة: 282. (3) سورة الإسراء الآية: 82. (4) سورة الأنعام الآية: 92. (5) أخرجه ابن ماجه في الطب من استرقى من العين: 2/ 1160، الترمذي في الطب باب ما جاء في الرقية من العين: 4/ 346، ومالك: 2/ 940 وهو معضل. (6) انظر الموطأ: 2/ 938، التفريع: 2/ 357، الرسالة: 2823، 284. (7) عامر بن ربيعة: ابن كعب بن مالك العنزي، حليف آل الخطاب، صحابي مشهور، أسلم قديما وهاجر وشهد بدرا مات ليالي قتل عثمان (تقريب التهذيب: 287). (8) سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي، صحابي من أهل بدر، استخلفه علي على البصرة ومات في خلافته (تقريب التهذيب: 257). (9) أخرجه البخاري في الطب باب العين حق: 7/ 23، ومسلم في السلام باب الطب والمرض: 4/ 718. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1730 فصل [70 - الرقية من العقرب وفي رقية الذمي]: والرقية جائزة من العقرب لأنه مما يؤذي شر الإيذاء (1) وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - (أرخص في الرقية من كل ذي حمي) (2)، ويجوز رقية الذمي إذا كانت بكتاب الله، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وعندها يهودية ترقيها فقال: "بكتاب الله فارقي" (3). فصل [71 - الكي من اللقوة]: والكي من اللقوة (4) وسائر ما يحتاج إليه ويصلح (5) به لأنه على علاج العرب، وقد اكتوى جماعة من الصحابة (6)، والتعالج والتداوي للمريض جائز: بالحجامة والكي وشرب الدواء وقطع العرق وكل ما فيه رجاء لصلاح البدن وزوال المرض إلا أن يكون شرب خمر أو استعمال نجس أو أمر ممنوع، والأصل فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تداوى واحتجم وشاور الطبيب، وقال لطبيبين: أيكما أطب" قالوا يا رسول الله: وهل في الطب من خير؟ قال: "إن الذي أنزل الداء أنزل الدواء" (7)، وقيل لعائشة رضي الله عنها من أين لك العلم بالطب؟ فقالت: إن العلل كانت تعتاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا وكان يشاور الطبيب وكنت   (1) انظر الموطأ: 2/ 942، 944، التفريع: 2/ 357، الرسالة: 282. (2) أخرجه مسلم في السلام باب استحباب الرقية من العين والنخلة والحمي والنظرة بلفظ "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة": 4/ 1725. (3) الثابت أن أبا بكر هو الذي دخل على عائشة (الموطأ: 2/ 943). (4) اللقوه: داء يصيب الوجه (الصحاح: 6/ 2485). (5) انظر الموطأ: 2/ 944، التفريع: 2/ 358، الرسالة: 282. (6) مما جاء في الموطأ: 2/ 944، أن عبد الله بن عمر اكتوى من اللقوة ورقي من العقرب. (7) أخرجه مالك في موطئه مرسلا: 2/ 944 لكن شواهده كثيرة صحيحة مثبتة كما جاء في الصحيحين في البخاري في الطب باب ما أنزل الله داء: 7/ 11، ومسلم في السلام باب لكل داء دواء: 4/ 1729. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1731 أسمع ما يقول له (1)، فأما شرب الخمر وغيرهما من النجاسات للتداوي فغير جائز لعموم قوله تعالى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما جعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها" (3). فصل [72 - في تحريم اللعب بالنرد والشطرنج]: لا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج (4) لأنها تلهي عن العبادات وتشغل عن ذكر الله، وتؤدي محبتها (5) والإدمان عليها إلى القسام والحلف كاذبا وترك الصلوات وذلك فسوق، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" (6)، فأما إن كان شيئًا خفيفًا يستعمل معه بعض ما ذكرناه جاز لأنه خفيف. فصل [73 - مطالبة حية البيت بالخروج قبل قتلها]: من رأى من الحيات شيئًا في منزله فليؤذنه ثلاثة أيام فإن بدى له بعد ذلك فليقتله، وأما في الصحاري وما عدى البيوت فليقتله من غير إيذان (7)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - "من ترآى له شيء من الحيات في البيوت فليؤذنه ثلاثًا فإن بدى   (1) لم أعثر على تخريج لهذا الأثر. (2) سورة المدثر الآية: 5. (3) أخرجه البزار وأبو يعلى ورجال أبي يعلى رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق وقد وثقه ابن حبان (مجمع الزوائد: 5/ 89). (4) انظر التفريع: 2/ 354، الرسالة: 286. (5) في ق: صحبتها. (6) أخرجه أبو داود في الأدب باب في النهي عن اللعب بالنرد: 5/ 230 , وابن ماجه في الأدب باب اللعب بالنرد: 2/ 1237، ومالك: 2/ 958، الحاكم: 1/ 50 وقال صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي. (7) انظر الموطأ: 2/ 975, الرسالة: 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1732 له بعد ذلك فليقتله" (1)، وروى سالم (2) عن ابن عمر قال بينما أنا يوما أطارد حية من دواب البيوت أبصر ذلك زيد بن الخطاب (3) وأبو لبابة فقالا: مه يا عبد الله: فقلت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتلها فقالا: قد نهي عن ذوات البيوت (4)، وفي حديث أبي سعيد قال: كان فتى منا حديث عهد، بعرس دخل منزله فوجد حية منطوية (5) على فراشه فركز فيها رمحه فانتضمها فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى صريعا فما يدري أيهما كان أسرع موتا الفتى أم الحية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استغفروا لصاحبكم، ثم قال "إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم ذلك فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدى لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان" (6) , فأما في الصحاري والأودية فلا بأس بقتلها لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم فذكر: الحية والعقرب" (7)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما سلمناهن منذ حاربهن فمن تركهن مخافة شر فليس منا" (8)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص في قتل الحية والعقرب في الصلاة (9).   (1) شاهده حديث مسلم في السلام باب قتل الحيات وغيرها: 4/ 1756 ولفظه قريبا جدًّا منه. (2) سالم: بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي، العدوي، المدني، أبو عمر أو أبو عمر أو أبو عبد الله، أحد الفقهاء السبعة ت 106 هـ (تقريب التهذيب: 226). (3) زيد بن الخطاب: ابن نفيل العدوي أخو عمر كان قديم الإسلام، شهد بدرًا واستشهد باليمامة سنة اثنتي عشرة (تقريب التهذيب: 223). (4) أخرجه مالك: 2/ 975، ومسلم في السلام باب قتل الحيات وغيرها: 4/ 1753. (5) في ق: مطوية. (6) أخرجه مسلم في السلام باب قتل الحيات وغيرها: 4/ 1756. (7) أخرجه مسلم في المناسك باب ما يندب للحرم وغيره قتله من الدواب: 2/ 856. (8) أخرجه أبو داود في الأدب باب في قتل الحيات: 5/ 409، وابن حبان في صحيحه (مسالك الدلالة: 435). (9) أخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير: 1/ 109، فيه أيوب بن عتبة متروك الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1733 فصل [74 - في جواز قتل الوزغ وكراهية قتل النمل والضفادع]: يجوز قتل الوزغ (1) لما نهي عنه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر به وسماه فويسقاء (2)، ويكره قتل النمل إلا من أذية شديدة لأنه نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها (3) فأما إذا آذته فله قتلها لأن له إزالة ما يؤذيه من الهوام بالقتل، ويكره ذلك بالنار في النمل والقمل للتعذيب، وروي "لا يعذب بالنار إلا رب النار" (4)، ويكره قتل الضفادع للنهي عنه، ولأنه لا أذية فيه (5). فصل [75 - في سفر المرأة من غير محرم]: لا تسافر المرأة إلا مع ذى محرم (6) لنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر المرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم (7) , ولأنه لا يؤمن عليها الفاحشة ولهذا أسقط عنها التغريب في حد الزنا، وهو فيما عدى سفر الغرض من الحج والخروج من أرض العدو وقد بيناه فيما تقدم. فصل [76 - اتخاذ الأجراس والأوتار في أعناق الجمل]: يكره للمسافرين من اتخاذ الأجراس في أعناق الجمل والركاب (8) لما روى أن   (1) الوزغ: حية سامة وأبرص (انظر الصحاح: 4/ 1328، غرر المقالة: 288). (2) سبق ذكر تخريج الحديث قريبًا. (3) أخرجه أبو داود في الأدب في باب قتل النمل: 5/ 418، وابن ماجه في الصيد باب ما ينهي عن قتله: 2/ 1074 وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزوني وهو ضعيف، وصححه ابن حبان. (4) أخرجه البزار في مسنده وسكت عنه (انظر نصب الراية: 3/ 408). (5) انظر الرسالة: 287، 288. (6) انظر الموطأ: 2/ 978، التفريع 2/ 354، الرسالة: 281 الكافي: 611. (7) أخرجه البخاري في الحج باب حج النساء: 2/ 219، ومسلم في الحج باب سفر المرأة مع محرم: 2/ 975. (8) انظر التفريع: 2/ 356، الكافي: 615. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1734 رفقة من مصر أقبلت وفيها جرس فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطعه وقال: إن الملائكة لا تصحب رفقة فيها جرس (1)، وكذلك تقليد الأوتار منهي عنه لما لا يؤمن منهم أن يؤدين إلى جناية (2). فصل [77 - تنزيه المساجد من التشاغل بالصنائع ومن سائر الأوساخ]: يكره قتل القمل (3) في المساجد، والتشاغل فيها بالصنائع كالخياطة والخرازة وغيرها، ويستحب تنزيهها من تقليم الأظافر وسائر الأوساخ (4)، والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5) وهذه الإضافة تقتضي تعظيمها وإفرادها عما يكون للمخلوقين، وقال جل ذكره {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (6) فأخبر عما وضعت له، فوجب ألا يعمل فيها غيره، ولأنها إذا دخلها الأعمال والبيع والشراء كانت كالأسواق وزال تعظيمها ودخلها الغش والكذب ودخول اليهودي والنصراني وابتذلت ودخلها الكلام والقر والسقط وقول الهجو، وما يذم الجلوس في الأسواق لأجله وذلك يبطل الفرق بينها وبين الأسواق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير البقاع المساجد وشرها الأسواق" (7)، وأما تنزيهها عن الأقذار والأوساخ فلقوله - صلى الله عليه وسلم - "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" (8) وعلة ذلك   (1) أخرجه مسلم في اللباس والزينة باب كراهة الكلب والجرس في السفر: 3/ 1672. (2) لأنه يوقظ الهوام ويسمع قطاع الطريق فيقبلون إليهم كبلاد العرب، فأما إذا كان معهم جمع كبير كمسيرة أهل مصر فلا بأس لأن القطاع إذا سمعوا ذلك هربوا (انظر حاشية كتاب التفريع: 2/ 356). (3) في م: كثرة العمل. (4) انظر الرسالة: 280. (5) سورة الجن الآية: 18. (6) سورة النور الآية: 36. (7) أخرجه الحاكم: 1/ 9، 2/ 8، وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه بكار بن تميم، وقال في الميزان مجهول (مجمع الزوائد: 2/ 9). (8) أخرجه ابن ماجه في المساجد والجماعات باب ما يكره في المساجد: 1/ 247، وفيه الحارث بن نبهان متفق على ضعفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1735 ما لا يؤمن أن تكون منهم من البول والأقذار، ولأنه إذا منع فيها من أعمال الصنائع والمعايش كان ما ذكرناه أولى. فصل [78 - في خصاء الغنم والخيل والإبل]: يجوز خصاء الغنم بخلاف الخيل (1) والإبل (2)، لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن خصاء الجمل (3)، وروي أنه ضحى بكبشين أملحين موجئين (4) ولم ينكر ذلك ولأن الغنم تراد للأكل فليس في خصائها ما يمنع ذلك بل فيه صلاح للحومها وترطيب لها والخيل تراد للركوب والجهاد (5) وذلك ينقص قوتها ويقل نسلها فلذلك كره. فصل [79 - في واسم البهائم]: وتكره السمة (6) في الوجوه ولا تكره في غيره (7) , لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السمة في الوجه وأرخص فيها في الأذن (8) وروى أنه مر به - صلى الله عليه وسلم - حمار قد كوي وجهه فعاب ذلك (9)، ويجوز في غيره لأن بالناس حاجة إلى علامات يعرفون بها بهائمهم فجاز في الوضع الذي لا يعود بالضرر.   (1) انظر الرسالة: 284. (2) الإبل: سقطت من م. (3) أخرجه أحمد: 2/ 250، وفيه عبد الله بن نافع وهو ضعيف: (مجمع الزوائد: 5/ 268). (4) سبق تخريج الحديث في الأضحية، ومعنى موجئين: من الوجاء يطلق على رض عروق البيضتين حتى تنفضخا من غير إخراج فيشبه الخصاء (المصباح المنير: 650). (5) والجهاد: سقطت من ق. (6) السمة: وهو العلامة بالنار أو بالشرط بالموس (الفواكه الدواني: 2/ 376). (7) انظر الرسالة: 284. (8) أخرجه مسلم في اللباس والزينة باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه: 3/ 1673. (9) أخرجه مسلم في اللباس والزينة باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه: 3/ 1673. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1736 فصل [80 - في الرؤيا]: من رأى في منامه بعض ما يكره تفل عن يساره ثلاثًا وتعوذ بالله من شر ما رآه (1)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئًا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره إن شاء الله (2)، ويجب أن يفسرها من له علم بها (3) لأنها أصلا لا يؤمنن عليها إذا فسرها من لا يعلم أن يكذب أو يخمن لعموم قوله تعالى {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (4). فصل [81 - في السبق]: السبق (5) جائز بالخيل والإبل وبالسهام وبالرمي (6)، والأصل فيه قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (7)، وقال - صلى الله عليه وسلم - "ألا أن القوة الرمي" (8)، (وقال - صلى الله عليه وسلم - "لا سبق إلا في نصل أو   (1) انظر الموطأ: 2/ 956، الرسالة: 285. (2) أخرجه البخاري في الطب باب النفث في الرقبة: 7/ 24، ومسلم في الرؤيا: 4/ 1772. (3) انظر الفواكه الدواني: 2/ 380. (4) سورة الإسراء الآية: 36. (5) السبق: بسكون الباء - مصدر يسبق إذا تقدم، وبفتحها المال الذي يوضع بين أهل السباق (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 2/ 86). (6) انظر الموطأ: 2/ 467، الرسالة: 286. (7) سورة الأنفال الآية: 60. (8) أخرجه مسلم في الإمارة باب فضل الرمي والحث عليه: 3/ 1522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1737 حافر" (1)) (2)، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي أضمرت (3)، وسابق بناقته القصواء (4). فصل [82 - في منع السباق بالبغال والحمير]: السباق بالبغال والحمير لا يجوز، خلافًا لأحد وجهي أصحاب الشافعي (5)، لأن الغرض بالسباق قتل العدو ولا يتأتي كذلك في البغال والحمير لأنها لا تصلح للكر والفر وإنما تصلح له الخيل وحدها ألا ترى أنه لا يسهم لهما. فصل [83 - من يأخذ الجعل في السباق]: يجوز أن يخرج الرجل سبقا فإن سبقه غيره أخذه وإن سبق هو كان الذي أخرجه لمن يليه، ولا يرجع السبق إلى مخرجه، وإن جعلا محللا يأخذ السبق جاز إذا أمنا أن يسبقاه (6)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدخل فرسا بين فرسين   (1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في السبق: 3/ 63، والنسائي في الخيل باب السبق: 6/ 188، وابن ماجه في الجهاد باب السبق والبرهان: 2/ 960، والترمذي في الجهاد باب ما جاء في الرهبان والسبق: 4/ 178 وحسنه وصححه ابن حبان: 1638. (2) ما بين قوسين سقط من م. (3) أضمرت: في اللغة: ضمر أي دق وقيل لحمه، أما أضمرته أي عددته للسباق وهو أن تعلفه قوتا بعد السمن (المصباح المنير: 2/ 364)، والحديث أخرجه البخاري في الجهاد باب السبق بين الخيل: 3/ 219، ومسلم في الإمارة باب المسابقة بين الخيل وتضميرها: 3/ 1491. (4) فعن أنس قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقه تسمي العضباء لا تسبق ... ألخ الحديث، أخرجه البخاري في الجهاد باب ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -: 3/ 220 وأخرجه مسلم في الجهاد باب غزوه ذي قرد: 3/ 1439. (5) انظر المهذب: 1/ 1413. (6) انظر الرسالة: 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1738 وقد أمن أن يسبقهما فهو قمار فإن لم يأمن فليس بقمار" (1)، ولأنه إذا أمن أن يؤخذ سبقه ورجاء أن يؤخذ سبق غيره حصل المعنى المقصود منه فجاز، وإنما منعنا رجوع السبق إلى مخرجه اعتبارًا بالولى لأنه لا يكون في إخراج السبق فائدة، قال محمَّد بن عبد الحكم: هذا أحد قوليه وعلى الوجه الآخر يجوز وهو النظر. ...   (1) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في المحلل: 3/ 66 وابن ماجه في الجهاد باب السبق والبرهان: 2/ 960، وصححه ابن حزم (تخليص الحبير: 4/ 163). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1739 باب في فضل المدينة والصلاة بها وفضل مالك -رحمه الله- وترجيح مذهبه المدينة عند أصحابنا أفضل البقاع كلها (1)، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي وغيرهما من تفضيل مكة عليها (2)، لما روت عمرة بنت عبد الرحمن (3) عن نافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المدينة خير من مكة" (4) هذا نص، ولقوله: إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعى لمكة، وأنا أدعو للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه" (5) وهذا صريح في أنها أفضل لأن تضعيف الدعاء لها إنما هو لفضلها على ما قصر عنها، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصبر على لأوائها (6) وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة" (7)   (1) انظر الموطأ: 2/ 884، المقدمات: 3/ 477. (2) انظر حاشية بن عابدين: 2/ 626، المجموع: 7/ 444. (3) عمرة بنت عبد الرحمن: ابن سعد بن زرارة الأنصارية، المدينة أكثرت عن عائشة ثقة من الثالثة ماتت قبل المائة (تقريب التهذيب: 750). (4) أخرجه الطبراني: 4/ 343، وابن عدي: 6/ 2194 والبخاري في التاريخ الكبير: 1/ 160. وفيه محمَّد بن عبد الرحمن بن داود وهو مجمع على ضعفه (مجمع الزوائد: 2/ 302). (5) أخرجه مسلم في الحج باب فضل المدينة ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بالبركة: 2/ 1000 ومالك: 2/ 885. (6) لأوائها: من اللأواء وهي الشذة، وتعذر الكسب وسوء الحال، وقال بعضهم شده الجوع (الصحاح: 6/ 2478). (7) أخرجه مسلم في الحج باب الترغيب في سكنى المدينة: 2/ 1004، ومالك: 2/ 886. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1740 وتخصيصه ذلك يدل على أنه لا زيادة على فضيلتها، وقوله: "لا يخرج أحد عن المدينة رغبة عينها إلا أبدلها الله خيرا منه" (1)، وقوله في الأعرابي الذي بايعه ثم قال أقلني بيعتي، المدينة كالكير ينفي خبثها وينصع طيبها" (2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك" (3) وهذه ظواهر أقوى من النصوص وقوله "أمرت بقرية تأكل القرى يقال لها يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما تنفي الكير خبث الحديد (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "تأكل القرى (5) "إلا رجوع فضلها عليها وزيادتها على غيرها، وقوله "إن الإيمان ليأزر (6) إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها" (7) وتخصيصه إياها بذلك يدل على فضلها على جميع البقاع التي لا يوجد هذا المعنى فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" (8)، وقد علم أنه خصص ذلك   (1) أخرجه مالك: 2/ 887. (2) أخرجه البخاري، في فضائل المدينة باب فضل المدينة ... : 2/ 221، مسلم في الحج باب المدينة تنفي شرارها: 2/ 1006، ومالك: 2/ 886. (3) أخرجه الحاكم: 3/ 3، وهو حديث منكر .. وقال ابن حزم: هو حديث لا يسند، وإنما هو مرسل من جهه محمَّد بن الحسن بن زبالة وهو هالك (المقاصد الحسنة: 89). (4) أخرجه البخاري في فضائل المدينة باب فضل المدينة: 2/ 221 ومسلم في الحج باب المدينة تنفي شرارها: 2/ 1006 ومالك: 2/ 887. (5) أخرجه مسلم في الحج باب المدينة تنفي شرارها: 2/ 1006. (6) يأرز: أي يلجأ، وينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها (الصحاح: 3/ 864). (7) أخرجه البخاري في فضائل المدينة باب الإيمان يأرز إلى المدينة: 2/ 222، ومسلم في الإيمان باب أن الإسلام بدأ غريبا: 1/ 131. (8) أخرجه البخاري في الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب فضل ما بين القبر والمنبر: 2/ 56، ومسلم في الحج ما بين القبر والمنبر روضة ... : 2/ 1010. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1741 الموضع منها لفضله على بقيتها فكان بأن يدل على فضلها على ما سواها أولى، وقوله - صلى الله عليه وسلم - "على أنقاب (1) المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال (2) وهذا بين عن فضلها على البقاع التي لم تحرس من ذلك، وقوله: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" (3)، ولا يجوز أن يسأل ربه أن يحبب إليه الأدنى على الأعلى، وما روي من إنكار عمر رضي الله عنه على عبد الله بن عياش المخزومي (4) في قوله: مكة خير من المدينة فقال: أنت القائل لمكة خير من المدينة فقال هي حرم الله وأمنه فقال عمر: لا أقول في حرم الله ولا في أمنه شيئًا (5). ولا أحد أنكر عليه هذا الإنكار، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخلوق منها وهو خير البشر فتربتها أفضل الترب، ولأن فضل الهجرة يوجب أن يكون المقام بها طاعة وقربة والمقام بغيرها ذنبا ومعصية وذلك قال على فضلها على سائر البقاع. فصل [1 - في تفضيل المساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجد إيليا]: الصلاة في كل المساجد متساوية الفضيلة إلا في المساجد الثلاثة المسجد الحرام   (1) أنقاب: جمع نقب وهي أبوابها. (2) أخرجه البخاري في فضائل المدينة باب لا يدخل الدجال المدينة: 2/ 223، ومسلم في الحج باب صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال: 2/ 1005 ومالك: 2/ 892. (3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة: 4/ 264، ومسلم في الحج باب الترغيب في السكنى المدينة والصبر على لأوائها: 2/ 1003 ومالك: 2/ 891. (4) عبد الله بن عياش: ابن عباس القتباني، أبو حفص المصري صدوق يغلط، أخرج له مسلم في الشواهد من السابقة، مات سنة سبعين (تقريب التهذيب: 317). (5) الموطأ: 2/ 894. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1742 ومسجد النبي ومسجد إيليا (1)، والأصل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تشهد المطي إلا إلى ثلاثة فذكرها" (2) وقوله - صلى الله عليه وسلم - "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (3). فصل [2 - في تفضيل الصلاة في المسجد النبوي]: فإذا ثبت هذا فالصلاة في مسجده أفضل من الصلاة في المسجد الحرام في الجملة، فأما تحديد ما يفضل به عليه فلم يرد خبر ولا يوجبه نظر، وقد قيل إنه بدون الألف وأظن قد قيل غيره (4)، وإنما قلنا ذلك في الجملة لأنه إذا ثبت بما ذكرناه فضيلة المدينة على مكة كانت الصلاة في مسجدها أفضل لا محالة ويكون استثناء المسجد الحرام من تفضيل الصلاة في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سائر المساجد وهو مقدار الفضيلة لا في أصلها فكأنه قال - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فهو أفضل منه بدون ألف كفضل مكة على غيرها، فكانت لها بذلك مزية على سائر المساجد كما كان للمدينة مزية على مكة وذلك المقدار لا يعلم إلا بتوقيف فلذلك وقفنا في تقديره. فصل [3 - في إجماع أهل المدينة]: إجماع أهل المدينة نقلا حجه تحرم مخالفته ومن طريق الاجتهاد مختلف في كونه حجه: والصحيح عندنا أنه يرجح به على غيره ولا يحرم الذهاب إلى   (1) يقصد بمسجد إليا: بيت المقدس. (2) أخرجه البخاري في الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: 2/ 56، مسلم في الحج باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: 2/ 1114. (3) أخرجه البخاري في الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: 2/ 56، ومسلم في الحج باب فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة: 2/ 101. (4) انظر الموطأ: 2/ 884، المقدمات: 2/ 479 - 481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1743 خلافه، فأما إجماعهم من طريق النقل أو ما في معناه: فإنه ينقسم إلى نقل قول ونقل فعل ونقل إقرار ونقل ترك وعليه بني أصحابنا الكلام في كثير من مسائلهم واحتجوا به على مخالفهم وتركوا له أخبار الأحاد والمقاييس (1)، وهو مثل نقل الآذان والإقامة وتقديم الآذان للفجر قبل وقتها والصاع والمد وترك أخذ الزكاة من الخضروات وإثبات الأحباس والوقوف وغير ذلك ودليلنا على كونه حجة: اتصال نقله على الشرط المراعى في التواتر من تساوي أطرافه وامتناع الكذب والتواطء والتواصل والتشاعر على ناقليه وهذه صفة ما يحج نقله (2)، ولا معتبر (3) لقولهم إنه لم يثبت هذه الصفة لنقلهم لأن الذين نقلوا ذلك هم الذين نقلوا موضع قبره ومنبره - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل المدينة قرنا بعد قرن وخلفا عن سلف ولدا عن والد وآخر عن أول، وكذلك قال مالك رحمه الله لما احتاج لإثبات الوقوف فقال: هذه صدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحباسه مشهورة عندنا بالمدينة معروفة، ولمسائها رجع أبو يوسف إلى القول بأن مقدار الصاع ما يقوله أصحابنا وترك مذهب أبي حنيفة (4) لما رأى (5) من تواتر النقل وتناصره من الخلف عن السلف، وإذا ثبت ذلك صح ما قلنا، ومن ذهب إلى أن إجماعهم (6) من طريق الاستنباط والاجتهاد حجه احتج بأن لأهلها من المزية بمشاهدة خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماع كلامه والمعرفة بأسباب خطابه وألفاظه ومخارج أقواله ما ليس لغيرهم ممن نأى وبعد عنه، وقد ثبت أن من حملت له هذه المزية كان أعرف بطرق الاستنباط ووجوه الاجتهاد والاستخراج فكانوا حجه   (1) انظر: إحكام الفصول: 480، المقدمات: 3/ 481، مختصر ابن الحاجب: 2/ 35. (2) في م: فعله. (3) في ق: معتد. (4) انظر تمام القصة في سنن البيهقي: 4/ 171، وذكر القصة كذلك أبو عبيد في الأموال: 463، والحافظ ابن حجر في الفتح: 11/ 598. (5) لما رأى: سقطت من ق. (6) في م: ابتاعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1744 بما يجتهدون فيه , ولأن السنن والأحكام منا ابتدأت وعنها انتشرت إلى غيرها من الآفاق: فإذا وجدناهم مجمعين على ما لم يتبين نقله ولا اشتهر أنه توقيف حملوا فيه على أنهم عرفوا منه ما لم يعرف غيرهم لأنه ليس إلا ذلك , والقول بأنهم غيروا أو ما عرفوا [] (1) ما علموه وذلك ممتنع مع عدالتهم ونزاهتهم ووجه القول بأنه ليس بحجة وهو الذي كان يقول شيخنا أبو بكر [الأبهري] (2) وكافة البغداديين من أصحابنا إلا اليسير منهم [لأنهم بشر يخطيء ويصيب والعصمة] (3) تثبت لجميع الأمة دون بعضها فلا يؤمن معهم , وقد وقع الخطأ في بعض ما اجتهدوا فيه وهذا زيادة منهم على [] (4) التبديل والتغيير. فصل [4 - في الترجيح بعمل أهل المدينة]: إذا ثبت أنه ليس بحجة ولا تحرم مخالفته وهو أولى من اجتهاد غيرهم إذا اقترن بأحد الخبرين المعارضين رجح به على ما عرى عنه (5) , ودليلنا أن الترجيح مطلوب به قوة [بحيث يكون القول الذي] (6) يقارنه أقرب إلى الحق وأولى بالصواب , وذلك لأن أهل المدينة بما ذكرناه من مزية المعاينة والرجحان بالمشاهدة والمعرفة بمخارج الكلام [وسبب] (7) الأحكام ما ليس لغيرهم من راجع إلى نقل فكان اجتهادهم أولى لأن سببه الذي بني عليه   (1) طمس في ق وم. (2) مطموس: في ق وم. (3) طمس في م وق. (4) طمس في م وق. (5) انظر المقدمات: 3/ 484. (6) طمس في م ون. (7) طمس في م وق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1745 أقوى، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" (1) وذلك يفيد أن اجتهادهم إلى الصواب أقرب وعن الخطأ أبعد، وبذلك احتج من رجح اجتهاد عمر رضي الله عنه على اجتهاد غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم - "أن الحق ينطق على لسان عمر وقلبه" (2)، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتوقفون عن الفتيا في الحادثة إذا نزلت بهم وهم غائبون عن المدينة ويؤخرون ذلك إلى وقت عودهم إليها وروي عن ابن مسعود وابن عمر وأشار به عبد الرحمن على عمر (3)، وذلك لأن اعتقادهم أن الاجتهاد بها أقوى، وأن النفوس بها أشرح والصدور بها أرحب وأفصح والتبين والتبصر بها أبهج وأوضح، وقد صرح بذلك عبد الرحمن بن عوف في قوله لعمر بن الخطاب: أمهل يا أمير المؤمنين لتقدم دار الهجرة وبها الصحابة، وهذا واضح فيما قلناه بحمد الله. فصل [5 - مخالفة خبر الآحاد لعمل أهل المدينة]: إذا روي خبر من أخبار الآحاد في مقابلة عملهم المتصل وجب إطراحه والمصير إلى عملهم لأن هذا العمل طريقه طريق النقل المتواتر فكان إذن أولى من أخبار الآحاد (4)، وذلك مثل ما ذكرناه في نقل الآذان، ووجوب المعاقلة بين الرجل والمرأة، وتقديم الآذان على الفجر وما في معناه، وحمل ذلك على [غلط] (5) راويه أو نسخه أو غير ذلك مما يجب إطراحه لأجله، وليس هذا من القول   (1) سبق تخريج الحديث ص 1741. (2) أخرجه الترمذي في المناقب باب ما بعد باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: 5/ 576 وقال هذا حديث حسن غريب بلفظ وأن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه. (3) أخرجه البخاري في الحدود باب الاعتراف بالزنا: 8/ 24، ومسلم في الحدود باب رجم الثيب: 3/ 1317. (4) في ق: من الأخبار. (5) طمس في م وق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1746 بأنا لا نقبل الخبر حتى يصحبه العمل في شي لأنه لو ورد خبر في حادثة (1) لا نقل لأهل المدينة فيه لقبلناه وإن كنا نطرحه إذا عاد برفع النص، وهذا مذهب السلف وأكابر التابعين مثل سعيد بن المسيب إذا أنكر على ربيعه معارضته إياه في المعاقله (2) وأبي الزناد (3) وأبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم وغيرهم، وقد ذكرناه في المواضع وقد استوفيناه فيها. فصل [6 - في ترجيح مذهب الإمام مالك - رحمه الله -]: إذا اختلف العلماء وتنازعوا في حكمهما: (4) فالواجب الرجوع إلى النظر والاجتهاد في طلب الحكم من الأدلة التي هي مظانة (5) ومواضع طلبه وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والعمل (6) واعتقاد ما يؤدي صحيح النظر في ذلك إليه ويقف (7): المجتهد عليه ولا يفتقدون الحق في أقاويل المختلفين في قول فلان دون قول غيره، ولا في مذهب دون ما سواه من [المذاهب] (8) إلا أن يكون الدليل قد قام عنده على صحته وعين له الحق به، فإن قيل أتراكم تعتقدون مذهب مالك بن أنس رحمه الله وتختارونه (9) دون غيره من مذاهب المخالفين وتخبرون عن صوابه وتأمرون المبتدىء بدرسه فخبرونا عن موجب   (1) في حادثة: سقطت من م. (2) سبق ذكر القصة في العقل، ص 1040، وانظر الموطأ: 2/ 860. (3) في ق: أبي الزياد. (4) في المقدمات: في حكم النازلة: 3/ 484. (5) في م: مكانه. (6) في م: والعبرة. (7) في ق: وينفذ. (8) طمس في ق وم. (9) في م: وتنتحلونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1747 ذلك عندكم أهو تقليدكم له وإنكم صرتم إليه لأنه قاله أو لأن الدليل عندكم قال عليه، قيل له: قد فرغنا من الجواب عن هذه المطالبة في العقد الذي عقدناه وجملته إنا لم نصر إلى قوله إلا وقد علمنا صحته وعرفنا صحة الأصول التي بني عليها واعتمد في اجتهاده على الرجوع إليها فلما عرفنا ذلك من مذهبه عقدناه وحكمنا بصوابه، إن قيل فهذا حجتكم فيما تعتقدونه في نفوسكم فما حجتكم في إرشادكم على المبتدىء الذي لم يعرف من حاله ما عرفتم منه (1) وتعوليكم به عليه وترجيحكم له في الجملة على غيره، قيل له: فأما إرشادنا المبتدىء إليه وأمرنا إياه بدرسه واعتقاده فلأنه استرشدنا إلى الصواب الذي يجب أن يعتقد وقد عرفنا أن ذلك هو الصواب فلذلك أرشدناه إليه، وأما ترجيحنا إياه على غيره من المذاهب) (2) فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدوا من عالم أعلم من بالمدينة (3) فالدلالة في هذا من موضعين: إحداهما إخباره بأن من ينطبق عليه هذا الإسم أعلم أهل وقته ولم نجد هذا [في غيره] (4) ولا موصوفا به سواه، حتى إذا قيل هذا قول عالم المدينة وإمام دار الهجرة عقل من ذلك أنه المراد به فاكتفي به عن أن يقال أنه مالك بن أنس [ولم يؤدي] (5) سمعه إلى استفهام عليه، ولا يعرض له توقف فيه للعرف الذي في الغالب قصره عليه وانتفاء الشركة عنه فيه كما إذا قيل هذا قول الشافعي أنه أراد بذلك قول محمَّد بن إدريس دون غيره [من أهل نسبه، وكذلك الأوزاعي والثورى] (6).   (1) في م: إليه. (2) ما بين قوسين سقط من ق. (3) أخرجه الترمذي في العلم باب ما جاء في عالم المدينة: 5/ 46 وقال حديث حسن وأخرجه البيهقي: 1/ 386 والحاكم: 1/ 91 وصححه، وأحمد: 2/ 299. (4) طمس في ق وم. (5) طمس في ق وم. (6) الثوري: سفيان بن سعيد بن مسروق الثورى، أمير المؤمنين في الحديث ت 161 هـ (سير أعلام النبلاء: 7/ 229). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1748 والثاني تأويل الأئمة ذلك فيه: منهم ابن جريج وابن عيينة وعبد الرحمن ابن مهدي (1) من غير خلاف عليهم في ذلك (2)] (3). [انتهى كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة وصلى الله على سيدنا محمَّد]   (1) عبد الرحمن بن مهدى بن حسان، أبو سعيد البصري، الحافظ الحجه الإمام ت 198 هـ (تذكرة الحفاظ: 1/ 329). (2) انظر سنن الترمذي: 5/ 46. (3) ما بين معقوفتين مطموس في ق، م وأكملنا النقص من كتاب "المقدمات" لابن رشد الذي نقل معظم هذا الفصل: 3/ 483 - 484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1749 فهرس المراجع - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية: ابن قيم الجوزية (751 هـ)، المكتبة السلفية، المدينة المنورة. - الاجتهاد (أو الرد على من أخلد للأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض): جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (911 هـ)، تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية (1400 هـ/ 1980). - الإجماع: أبو بكر بن محمَّد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (318 هـ)، الطبعة الأولى، دار طيبة، الرياض (1402 هـ / 1982 م). - الأحكام السلطانية والولايات الدينية: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (450 هـ) , الطبعة الثالثة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر (1393 هـ / 1973 م). - إحكام الفصول في أحكام الأصول: أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (474 هـ)، تحقيق عبد المجيد التركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت (1407 هـ / 1987 م). - اختصار عيون الأدلة: للقاضي عبد الوهاب (مخطوط). - آداب الفقهاء: عبد الله كنون، دار الثقافة، المغرب. - إرشاد الفحول: محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)، مصطفى البابي الحلبي، مصر (1356 هـ/ 1937 م). - إرشاد اللبيب إلى مقاصد الحبيب: محمَّد بن أحمد علي بن غازي (919 هـ). - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت (1399 هـ / 1979 م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1751 - أزهار الرياض: أبو العباس أحمد المقري المساني، صندوق إحياء التراث الرباط (1978 م). - الاستذكار: أبو عمر يوسف بن عبد البر (463 هـ)، تحقيق علي النجدي ناصف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر (1973 م). - الإشراف في مسائل الخلاف: القاضي عبد الوهاب (422 هـ) مطبعة الإدارة، تونس. - الإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن علي بن محمَّد بن حجر العسقلاني (853 هـ)، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة، بمصر (1328 هـ). - الأعلام: خير الدين الزركلي، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين بيروت (1980 م). - الإقناع: أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (450 هـ) تحقيق خضر محمَّد خضر، الطبعة الأولى، دار العروبة (1402/ 1982). - الأم: محمَّد بن إدريس الشافعي (204 هـ)، الطبعة الثانية، دار المعرفة، بيروت (1393 هـ / 1973 م). - الأموال: أبو عبيد القاسم بن سلام (224 هـ)، تصحيح محمَّد حامد الفقي، المطبعة القاهرة، القاهرة (1353 هـ). - انتصار الفقير السالك: شمس الدين محمَّد بن محمَّد الراعي (853 هـ) تحقيق محمَّد أبو الأجفان، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي بيروت (1981 م). - الانتقاء: ابن عبد البر (463 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت. - الأنساب: للسمعاني، ليدن (1912 م)، تحقيق عبد الرحمن المعلمي وآخرون، نشر آمين دمج - بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1752 - الأنصاف: علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي (885 هـ) تحقيق محمَّد حامد الفقي، الطبعة الأولى (1374 هـ). - إيضاح المكنون: إسماعيل باشا، استانبول (1941 م). - البحر المحيط: بدر الدين محمَّد بن بهادر بن عبد الله الزركشي (794 هـ) تحقيق مجموعة من الباحثين، الطبعة الثانية، دار الصفوة، الغردقة (1413/ 1992 م). - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: علاء بن مسعود الكاساني (587 هـ)، مطبعة الإمام، الناشر: زكريا علي يوسف، مصر. - بداية المجتهد: القاضي أبو الوليد محمَّد بن رشيد الحفيد (595 هـ) (المطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية). - البداية والنهاية: أبو الفداء الحافظ بن كثير الدمشقي (774 هـ)، الطبعة الثانية، مكتبة المعارف، بيروت (1977 م). - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية: شيخ الإسلام ابن تيمية، الطبعة الأولى. - البيان والتحصيل: أبو الوليد محمَّد بن أحمد بن راشد - الجد (520 هـ)، تحقيق محمَّد حجي وآخرون، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي، بيروت (1406 هـ / 1986 م). - التاج والإكليل: أبو عبد الله محمَّد بن يوسف المواق (897 هـ)، دار الفكر، بيروت (1398 هـ / 1978 م). - تاريخ الأمم الإسلامية- الدولة العباسية: الخضري بك. - تاريخ بغداد: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتاب العربي بيروت. - تاريخ التشريع الإسلامي: الخضري بك. - تاريخ التراث العربي: بروكلمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1753 - تاريخ الخلفاء: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911 هـ). - تاريخ قضاء الأندلس: أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن النباهي المالقي، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت. - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: برهان الدين أبو الوفا إبراهيم بن فرحون (799 هـ)، الطبعة الأولى دار الكتب العلمية، بيروت. - تبيين الحقائق: فخر الدين عثمان بن علي بن مجحف الزيلعي (743 هـ) المطبعة الكبرى, الأميرية ببولاق، مصر (1315 هـ). - تبيين كذب المفتري: ابن عساكر الدمشقي (571 هـ) دار الكتاب العربي، بيروت. - تحفة الفقهاء: علاء الدين السمرقندي (539 هـ)، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت (1405 هـ/ 1984 م). - تخريج الأحاديث النبوية الواردة في مدونة الإمام مالك: الطاهر محمَّد الدرديري، جامعة أم القرى. - تذكرة الحفاظ: أبو عبد الله شمس الدين الذهبي (748 هـ)، دار إحياء التراث العربي. - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي (544 هـ)، تحقيق مجموعة من الباحثين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب (1403 هـ / 1983 م). - التفريع: أبو القاسم عبد الله بن الحسين بن الحسن بن الحلاب (388 هـ)، تحقيق حسن بن سالم الدهماني، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي (1408 هـ/1987 م). - تقريب التهذيب: شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ) تحقيق محمَّد عوامة، الطبعة الثانية، دار الرشيد، حلب (1408/ 1988). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1754 - تقويم البلدان: عماد الدين إسماعيل بن محمَّد بن عمر، المعروف بأبي الفداء صاحب حماة (732 هـ) مكتب المثني (مصور عن طبعة باريس1830 هـ). - تلخيص الحبير: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ) دار المعرفة، لبنان. - التلقين: القاضي عبد الوهاب (422 هـ)، تحقيق: محمَّد ثالث سعيد الفاني، جامعة أم القرى (رسالة دكتوراه في عام 1405 هـ). - تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن محمَّد بن حجر (852 هـ) الطبعة الأولى، دار الفكر، بيروت (1404/ 1984). - الجامع الصحيح (صحيح البخاري): أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري (256 هـ)، المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر، استانبول. - الجامع الصحيح (سنن الترمذي) أبو عيسى محمَّد بن عيسى بن سؤرة (297 هـ) تحقيق أحمد محمَّد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت. - جامع البيان على تأويل القرآن (تفسير الطبري): أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري (310 هـ) الطبعة الأولى، مصطفى البابى الحلبى، مصر (1388/ 1968). - الجامع في أحكام القرآن: أبو عبد الله محمَّد الأنصاري القرطبي (671 هـ) مكتبة الرياض الحديثة. - حاشية ابن عابدين: محمَّد أحمد بن عابدين (1252 هـ) طبعة بولاق الأولى. - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمَّد عرفة الدسوقي، دار الفكر. - حاشية قليوبي وعميرة: شهاب الدين القليوبي (1069 هـ) وشهاب الدين عميرة (957 هـ) الطبعة الرابعة، دار الفكر. - حدود ابن عرفة: (المطبوع مع شرح الرصاع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1755 - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: جلال الدين السيوطي (911 هـ) طبعة مصر (1299 هـ). - حلية الأولياء: أبو نعيم الأصفهاني. مصر، دار الفكر. - الخراج: لأبي يوسف. - الخرشي علي خليل: محمَّد الخرشي، دار الفكر. - الدراية في تخريج أحاديث الهداية: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ) دار المعرفة، بيروت. - درة الغواص في محاضرة الخواص: برهان الدين إبراهيم بن فرحون (799 هـ) تحقيق محمَّد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، مكتبة العتيقة، تونس. - الديباج المذهب: برهان الدين إبراهيم بن علي بن فرحون (799 هـ)، تحقيق محمَّد الأحمدي أبو النور، دار التراث للطبع والنشر، القاهرة. - ديوان الراعي النميري (شعر الراعي النميري وأخباره): مطبعة المجمع العلمي العربي دمشق (1383). - ديوان النابغة الذبياني: تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، (1977 م). - الذخيرة: شهاب الدين أحمد بن إدريس الصنهاجي القرافي (684 هـ)، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد السميع أحمد الإمام، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، الكويت (1402/ 1982). - الذخيرة في محاسن الجزيرة: أبو الحسين علي بن بسام الشنتريني (532 هـ) تحقيق إحسان عباس الطبعة الأولى، دار الثقافة، بيروت (1399 هـ/ 1979 م). - الرسالة: أبو محمَّد عبد الله بن زيد القيرواني (386 هـ)، تحقيق الهادي حمو ومحمد أبو الأجفان، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامية (1406/ 1986 م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1756 - روضة الطالبين: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (676 هـ)، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، (1405 هـ/ 1985 م). - زاد المعاد في هدي خير العباد: شمس الدين أبو عبد الله محمَّد بن أبي بكر الزرعي بن قيم الجوزية (751 هـ) تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، الطبعة الثالثة عشر، مؤسسة الرسالة (1406/ 1986 م). - سنن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (275 هـ)، تحقيق عزت الدعاس وعادل السيد، الطبعة الأولى، دار الحديث حمص (1393 هـ / 1973 م). - سنن ابن ماجة: أبو عبد الله محمَّد بن يزيد القزويني (275 هـ) تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، المكتبة العلمية، بيروت. - سنن النسائي: أبو عبد الرحمن بن شعيب النسائي (303 هـ) الطبعة الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي (1383/ 1964). - السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458) دار المعرفة، بيروت. - سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمَّد بن أحمد بن عثمان، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد العرقسوسي، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة (1404/ 1984). - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: محمَّد بن محمَّد مخلوف، دار الكتاب العربي، بيروت. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو العلام عبد الحي بن العماد الحنبلي (1086 هـ) منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت. - شرح ابن ناجي على الرسالة: قاسم بن عيسى بن ناجي (837 هـ)، دار الفكر (1402/ 1982). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1757 - شرح تنقيح الفصول: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (684 هـ) تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، المكتبة الأزهرية (1973 م). - شرح حدود ابن عرفة: أبو عبد الله محمَّد الأنصاري الرصاع. - شرح زروق على الرسالة: أحمد بن محمَّد البرنسي المعروف بزروق (899 هـ) دار الفكر (1402 هـ/1982 م). - شرح صحيح مسلم: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (676 هـ) المكتبة المصرية، مصر (1349 هـ). - الشرح الصغير: سيدي أحمد الدردير (1201 هـ) تعليق محمَّد إبراهيم المبارك، مطبعة عيسى البابي الحلبي، مصر. - شرح فتح القدير: كمال الدين محمد عبد الواحد السيواسي (861 هـ) الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية، بولاق (1315 هـ). - الشرح الكبير: سيدي أحمد الدردير (1201 هـ) دار الفكر. - الصحاح: إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار الطبعة الثانية (1402 هـ / 1982 م). - صحيح ابن خزيمة: تحقيق وتعليق محمَّد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي (1390). - صحيح مسلم (الجامع الصحيح): أبو الحسين مسلم بن حجاج القشيري (261 هـ) تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. - طبقات ابن سعد: محمَّد بن سعد بن منيع بن سعد (230 هـ) دار صادر بيروت (1388 هـ / 1968 م). - طبقات الفقهاء: أبو إسحق الشيرازي (476 هـ)، تحقيق إحسان عباس، الطبعة الثانية دار الرائد العربي، بيروت (1401/ 1981). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1758 - العبر: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي تحقيق صلاح المنجد وفؤاد السيد، الكويت (1960 م). - عدة البروق: أبو العباس أحمد بن يحيى الونشرسي (914 هـ) تحقيق حمزة أبو فارس الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي (1410/ 1990). - عيون المناظرات: أبو علي عمر السكوني (717 هـ) تحقيق سعد عراب، منشورات الجامعة التونسية (876). - غرر المقالة في شرح غريب الرسالة (المطبوع مع الرسالة): أبو عبيد محمَّد لبن منصور بن حمامة المغراوي، تحقيق الهادي حمو ومحمد أبو الأجفان، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي (1406/ 1986). - غريب الحديث: لابن قتيبة، تحقيق الجبوري، وزارة الأوقاف بالعراق (1397). - فتاوي ابن رشد: أبو الوليد بن أحمد بن رشد القرطبي (530 هـ) تحقيق المختار التليلي، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي بيروت (1407/ 1987). - فتح الباري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ) دار المعرفة، بيروت. - الفتح المبين في طبقات الأصوليين: عبد الله مصطفى المراغي، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت (1394/ 1974). - الفروق الفقهية: أبو الفضل مسلم بن علي الدمشقي، تحقيق محمَّد أبو الأجفان وحمزة أبو فارس، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي، بيروت (1992 م). - الفكر الأصولي: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، الطبعة الأولى، دار الشروق، جدة (1403/ 1983). - الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي: محمَّد بن الحسن الحجوي (1316 هـ) المكتبة العلمية، المدينة المنورة (1317/ 1977). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1759 - فهرس المخطوطات خزانة القرويين: محمَّد العابد الفارسي، الطبعة الأولى (1403/ 1983). - الفهرست: أبو الفرج محمَّد بن إسحق بن النديم (378 هـ) دار المعرفة بيروت (1398/ 1978). - فوات الوفيات: محمَّد بن شاكر الكتبي (764 هـ) تحقيق إحسان عباس دار بيروت (1973). - الفواكه الدواني: أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي المالكي (1125) دار الفكر بيروت. - القواعد: أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد بن أحمد المقري (758 هـ) تحقيق أحمد عبد الله بن حميد، جامعة أم القرى. - القواعد أبو بكر بن محمَّد بن عبد المؤمن الحضي (829) تحقيق عبد الرحمن الشعلان، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية. - الكافي: أبو عمر يوسف بن عبد البر (463 هـ) الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت (1409/ 1987). - الكامل في التاريخ: أبو الحسن علي بن الأثير (620 هـ) الطبعة السادسة، دار الكتاب العربي، بيروت (1406/ 1986). - الكامل في ضعفاء الرجال: أبو أحمد عبد الله بن عدي (365 هـ) الطبعة الثانية دار الفكر، بيروت (1405/ 1985). - كشف الظنون: حاجي خليفة، استانبول (1941 م). - كشف القناع عن تضمين الصناع: أبو علي الحسن بن رجال المعداني (1140 هـ) الدار التونسية للنشر (1986 م). - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: للمتقي، مؤسسة الرسالة بيروت (145/ 1985). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1760 - اللباب في شرح الكتاب (مختصر القدوري): عبد الغني الغنيمي الميداني، المكتبة العلمية بيروت، (1400/ 1980). - لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمَّد بن مكرم بن منظور (711) دار صادر بيروت (1968). - المبسوط: شمس الدين السرخسي (483 هـ) الطبعة الثانية، دار المعرفة، لبنان. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (807 هـ) الطبعة الثانية دار الكتاب العربي، بيروت (1402/ 1982). - المجموع شرح المهذب: أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (676 هـ)، المكتبة السلفية، المدينة المنورة. - مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمَّد ابن قاسم النجدي طبعة، الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين. - محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإسلامي: عمر الجيدي مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء (1986). - المحلي: ابن حزم الظاهري (456 هـ) مكتبة الجمهورية العربية (1392 هـ/ 1972 م). - مختصر ابن الحاجب، أبو عمرو عثمان بن عمر أبي بكر بن الحاجب (646 هـ)، الطبعة الأولى المطبعة الأميرية ببولاق، بمصر (1316). - مختصر الخرقي: أبو القاسم عمر بن الحسن الخرقي (334 هـ) تحقيق زهير الشاويش الطبعة الثالثة، المكتب الإسلامي، بيروت (1403 هـ). - مختصر الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمَّد بن سلامة الطحاوي (321 هـ) تحقيق أبو الوفا الأفغاني، الطبعة الأولى، دار إحياء العلوم (1406 هـ/ 1986 م). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1761 - مختصر القدوري: أحمد بن القدوري البغدادي (428 هـ) (المطبوع مع اللباب). - مختصر المزني: الطبعة الثانية، دار المعرفة (1393/ 1973). - المدخل: لابن الحاج، دار الفكر (1401/ 1981). - المدونة الكبرى: الإمام مالك بن أنس -برواية الإمام سحنون- دار الفكر (1406 هـ / 1986 م). - مرآن الجنان: أبو محمَّد عبد الله بن أسعد اليافعي (768 هـ) الطبعة الثانية، مؤسسة الأعلمي، بيروت (1360/ 1970). - مراتب الإجماع: أبو علي بن حزم (456 هـ) الطبعة الأولى، دار الآفاق الجديدة، بيروت (1978). - مسائل الإمام أحمد: رواية ابنه عبد الله- تحقيق زهير الشاويش الطبعة الأولى المكتب الإسلامي (1401/ 1981). - مسائل الإمام أحمد- رواية ابنه صالح- تحقيق فضل عبد الرحمن دين محمَّد، الطبعة الأولى الدار العلمية، الهند (1408/ 1988). - مسالك الدلالة: أحمد بن محمَّد بن الصديق الغماري، دار الفكر. - المستدرك: أبو عبيد الله محمَّد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (405) دار المعارف، حيدر أباد. - المسند: أحمد بن حنبل (241 هـ) المكتب الإسلامي بيروت (1403/ 1983). - مسند الشافعي. - المصباح المنير: أحمد بن محمَّد المقري الفيومي (770 هـ) المكتبة العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1762 - مصنف عبد الرزاق: عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت (1403/ 1983). - مصنف بن أبي شيبة: تحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية الهند (1399 هـ). - المطلع على أبواب المقنع: شمس الدين محمَّد بن أبي الفتح البعلي (709 هـ) المكتب الإسلامي، دمشق (1385 هـ/1965 م). - معالم الإيمان في معرفة أهل القيرواني: عبد الرحمن محمَّد الأنصاري الدباغ (696 هـ) تحقيق محمَّد ماضور، المكتبة العتيقة، تونس. - معجم البلدان: شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي (626 هـ) دار إحياء التراث العربي، لبنان. - معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، مكتبة المثني، بيروت. - معجم مقاييس اللغة، أبو الحسن أحمد فارس بن زكريا (395 هـ) تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر (1399/ 1979). - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكرم: محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت. - المعجم الوسيط: إبراهيم مصطفى وآخرون، مطبعة مصر (1380/ 1960). - المعلم بفوائد المسلم: أبو عبد الله بن علي بن عمر المازري (536) تحقيق محمَّد الشاذلي النيفر، الطبعة الثانية، بيت الحكمة تونس (1988 م). - المعونة في الجدل: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، تحقيق علي بن عبد العزيز، الطبعة الأولى، مركز المخطوطات والتراث، الكويت (1407/ 1987). - المعيار المعرب: أحمد بن يحيى الونشريسي (914 هـ) دار الغرب الإسلامي بيروت (1401/ 1981). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1763 - المغرب في ترتيب المعرب: أبو الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطريزي (616 هـ) دار الكتاب العربي، لبنان. - المغني: أبو محمَّد عبد الله بن أحمد بن محمَّد بن قدامة (620 هـ) مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. - المقاصد الحسنة: أبو الخير شمس الدين محمَّد بن عبد الرحمن السخاوي (902 هـ) الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت. - المقدمات الممهدات: أبو الوليد محمَّد بن أحمد بن رشد القرطبي (520 هـ) تحقيق محمَّد حجي، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي (1408 هـ/ 1988 م). - الملل والنحل: الشهرستاني، تحقيق محمَّد بن فتح الله بدران مطبعة الأزهر، مصر (1970). - المنتقي: أبو الوليد سليمان بن خلف الباحي (474 هـ) الطبعة الرابعة، مطبعة السعادة، مصر (1332). - منهاج السنة النبوية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمَّد رشاد سالم، الطبعة الأولى، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية (1406/ 1986). - المهذب: أبو إسحاق إبراهيم علي الشيرازي، عيسى البابي الحلبي، مصر. - مواهب الجليل: أبو عبد الله محمَّد بن عبد الرحمن المغربي الحطاب (954 هـ)، الطبعة الثانية، دار الفكر (1398/ 1978 هـ). - الموطأ: مالك بن أنس (179 هـ) تعليق محمَّد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة. - النجوم الزاهرة: جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي (873 هـ)، دار الكتب العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1764 - نصب الراية: أبو محمَّد جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي (762 هـ) دار الحديث. - نفح الطيب: أحمد بن محمَّد المقري التلمساني، دار صادر، لبنان. - النهاية في غريب الحديث: مجد الدين أبو السعادات بن الأثير (606 هـ) تحقيق محمود الطناحي وطاهر الزاوي، دار إحياء الكتب العربية (1963). - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: شمس الدين محمَّد بن أبي العباس الرملي (1004 هـ)، الطبعة الأخيرة، مصطفى البابي الحلبي مصر (1386/ 1967). - نيل الأوطار: محمَّد بن علي الشوكاني (1250 هـ) دار الجيل، بيروت (1973 م). - الهداية في تخريج أحاديث البداية: أبو الفيض أحمد بن محمَّد بن الصديق الغماري، تحقيق: مجموعة من الباحثين، عالم الكتب. - هدية العارفين: إسماعيل باشا، استانبول (1951 م). - الوفيات: أبو العباس أحمد بن حسن بن علي بن الخطيب بن قنقذ القسنطيني، تحقيق عادل نويهض، الطبعة الثانية، دار الآفاق الجديدة، بيروت (1978 م). - وفيات الأعيان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن أبي بكر بن خلكان (681 هـ)، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1765