الكتاب: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري المؤلف: عبد الله بن محمد الغنيمان الناشر: مكتبة الدار، المدينة المنورة الطبعة: الأولى، 1405 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري عبد الله بن محمد الغنيمان الكتاب: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري المؤلف: عبد الله بن محمد الغنيمان الناشر: مكتبة الدار، المدينة المنورة الطبعة: الأولى، 1405 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري تأليف الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الجزء الأول المقدمة الحمد الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، ولا ند له في أسمائه وصفاته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق، فدعا إلى توحيد الله الخالص من كل شائبة شرك، في حقه، أو فعله، أو أسمائه وصفاته، وجاهد في هذا السبيل حتى وضح الحق، واستبان وكمل به الدين، وتمت النعمة، فترك الأمة على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. وسار على نهجه صحابته، فلم يغيروا، أو يبدلوا، بل بذلوا جهدهم في دعوة الخلق إلى عبادة الله وحده، حتى مضوا لسبيلهم. فصلاة الله وسلامه على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، ورضي الله عن صحابته أجمعين، وعمن سلك نهجهم إلى يوم الدين. كمال الهداية وتمام النعمة على هذه الأمة أما بعد، فقد علم أن الله - تعالى - بعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل " وفي جاهلية لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً " (1) ، وإنما ينتحلون ما تهواه نفوسهم، وما تزينه لهم شياطينهم، وما   (1) انتزاعاً من خطبة " الاعتصام" للشاطبي (ص2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وجدوا عليه آباءهم، فجاهدهم وجادلهم باللين والحكمة، وقارعهم بالسنان والحجة، لمن كابر وعاند، وكان نصر الله حليفه، فاستقام أمره، وانتصر على عدو الله، وظهر دينه، فجاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد تمام نعمة الله - تعالى - عليه وعلى أمته، وظهور ما جاء به من الحق، ووضوح الطريق، توفاه الله إليه، فقام بعده صحابته بأمره خير قيام، فجاهدوا في الله القريب والبعيد، حتى تحقق ما أخبر به رسولهم - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في "صحيحه" عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " إن الله زوى (1) لي الأرض فرأيت مشارقها، ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين، الأحمر، والأبيض (2) ، وأني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم (3) ، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة (4) ، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً" (5) . ففتحت بلاد الروم وفارس في عهد الخليفة الثاني، وأنفقت كنوزها في سبيل الله - تعالى- وواصلت جحافل التوحيد إلى مشارق الأرض ومغاربها، تفتح القلوب إلى معرفة الله وتوحيده قبل البلاد، حتى تمت نعمة الله على أكثر أهل   (1) معناه: جمعها لي فرأيت أقصاها من الشرق ومن الغرب. (2) المقصود بالكنزين: كنز الفرس، والروم، الأحمر: الذهب، والأبيض: الفضة. (3) أي: يهلكهم جميعاً، ويستولي على بلادهم، وذراريهم، وأموالهم. (4) أي: لا أرسل عليهم عذاباً يعمهم، ويستأصلهم. (5) "صحيح مسلم" (4/2215) رقم (2889) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الأرض، فاتجهوا إلى عبادة الله وحده، بعدما كانوا يعبدون كل شيء، وكانت تستعبدهم شياطين الجن والإنس. ولكن كثيراً من الناس لا يعجبهم ذلك، بل يسوؤهم ويحزنهم. ومن حكمة الله -تعالى - أن جعل للباطل جنوداً يناصرونه، ويدافعون الحق ويردونه، كما جعل للحق أنصاراً يتفانون في الذياد عنه، والدعوة إليه. وقد كان ذلك منذ باء إبليس اللعين بالطرد عن رحمة الله، والبعد عن كل خير، فأقسم بعزة الله ليغوين بنى آدم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين، كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {82} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (1) . ومن المعلوم أن الله - تعالى - لم يقبض نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم- حتى أكمل له دينه، وأظهره على من عاداه بالحجج والبراهين، وبقوة القتال لمن وقف في وجهه وعاند الحق، كما قال - تعالى - في آخر ما أنزله الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (2) ، فإذا كان الله قد أكمل لهم دينهم، فلا بد من أنه وضحه لهم بحيث لا يبقى فيه أي التباس أو اشتباه، ولا بد من أنهم فهموه واعتقدوه على ما أريد منهم وعملوا به، ولا بد من الاستغناء به عن كل ما سواه، فلا يحتاجون معه إلى غيره، وأعظم ما يحتاجونه وأشرفه هو معرفتهم ربهم بأسمائه وصفاته، وما يجب له ويستحقه، ويحمد ويمجد به، ويثنى به عليه؛ لأن هذا من أفضل العبادة التي أوجبها الله عليهم، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (3) .   (1) الآيتان 82، 83 من سورة ص. (2) الآية 3 من سورة المائدة. (3) الآية 180 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 قد أوضح الله ورسوله العقيدة وضوحاً جلياً فلا بد من إيضاح الواجب لله - تعالى - والممتنع عليه، والجائز عليه، حتى يكونوا على بينة من دينهم، ومعبودهم، لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من الوحي، إذ هو من الغيب، الذي لا يعلم بالقياس، ولا بالعقل. وقد بين الله لنا طريقة الأنبياء التي كانوا يدعون بها أممهم، كما قص الله تعالى عنهم في القرآن، فقد اتفقت طريقتهم في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده، وخاتمهم جاء مقتفياً أثرهم في ذلك، فدعا أمته إلى ما دعت إليه الرسل قبله، من توحيد الله ومعرفته، فلم يفارقهم حتى وضح لهم الطريق، واستبان الحق من الباطل. روى ابن ماجه عن أبي الدرداء، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: " آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلا هيه، وايم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء". قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " تركنا على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء" (1) . وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) ، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) .   (1) "سنن ابن ماجه" (1/4) رقم (5) . (2) الآية 89 من سورة النحل. (3) الآية 64 من سورة النحل. (4) الآية 44 من سورة النحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فالإيمان بالله وأسمائه وصفاته أعظم الأشياء، وكذلك عبادته، فلا بد أن يبين الكتاب - الذي هو تبيان لكل شيء - ذلك أوضح البيان. ولا بد أن يدل على أعظم الهدى الذي هو معرفة الله - تعالى - بأسمائه وصفاته، كما أن من أعظم ما وقع فيه الخلاف في الأمة هو في هذا الباب، فلا بد أن يكون قد بينه، لأنه تعالى أخبرنا أنه نزله ليبين لنا ما اختلفنا فيه، ولا بد أن نجد فيه ما يزيل كل شك ولبس؛ لأنه هدى ورحمة، لكن ليس لكل أحد بل للمؤمنين فقط. وأعظم ما أنزل إلينا هو الإيمان بالله، ومعرفته، وقد أخبرنا تعالى أنه أنزل الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم، فكيف يترك أعظم الأشياء المنزلة إلينا بدون بيان؟ فعلم بهذا ونحوه أن الله - تعالى - بين على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم- للأمة كل ما تحتاج إليه في دينها، ومعرفة ربها، ولم يكل ذلك إلى عقولهم، أو قياساتهم. قال ابن عباس في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (1) : " أخبر الله نبيه والمؤمنين، أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً" (2) . فإذا كان الله - تعالى - قد أكمل لهم الإيمان، فكل ما لم يقله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في باب الإيمان ولم يأمر به ويبينه للأمة فهو باطل، وليس من الدين الكامل الذي جاء به. وأصل الدين وأساسه: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ومعرفة ما يجب له على عباده.   (1) الآية 3 من سورة المائدة. (2) رواه ابن جرير بسنده، انظر " تفسيره" (9/518) ط المعارف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يظن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يبين ما يعتقده العبد في ربه؛ لأن هذا هو الذي أمر بتبليغه. قال شيخ الإسلام: " من المحال في العقل والدين أن يكون الرسول الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله، من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، فإن معرفة هذا أصل الدين، وأفضل الأعمال، فكيف يكون القرآن والرسول والصحابة - وهم أفضل الخلق بعد النبيين - لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ ". ومحال أن يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم - أمته أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، ونحو ذلك، ويترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، وما يعتقدونه في قلوبهم، في ربهم ومعبودهم، مع كون ذلك غاية المعارف، وأشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، مع قوله -صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" (1) . ومحال أن يكون الذين كان فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والذين يلونهم غير عالمين للحق في باب معرفة الله، وغير قائلين به. ومعلوم أن من في قلبه حياة ومحبة للعبادة، أنه يحرص أشد الحرص على معرفة ذلك. وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (2) " خير الناس قرني، ثم الذين   (1) انظر "صحيح مسلم" (12/233) شرح النووي، في الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، وابن ماجه في الفتن، انظر (2/1306) رقم (3956) ، والنسائي في البيعة (7/153) . (2) البخاري، انظر "الفتح" (7/2) و (11/244، 543) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" (1) . بدء الانحراف لما سيطر حكم الإسلام على أكثر البلاد، في آسيا، وأفريقيا، وغيرهما، دخل تحت حكمه أمم كثيرة، رغبة ورهبة، وكان لها أديان مختلفة، من يهودية، ومجوسية، ونصرانية، ووثنية، وغير ذلك، وقد كان لكثير من هذه الأمم سلطان كبير، مثل المجوس، والرومان، فسلبهم المسلمون ذلك، وكان عند هؤلاء من الكبر والاستعلاء ما يجعلهم يأنفون من كونهم تحت سلطان المسلمين، ولا سيما وقد كانوا يرون العرب من أحقر الأمم، وأقلها شأناً، كما أن اليهود واجهوا الإسلام ورسوله من أول أمره بالعداء، وحاولوا القضاء عليه بأنواع من المكائد، والمؤامرات، ولما يئس هؤلاء جميعاً من قدرتهم في مجابهة الإسلام بالقوة وجهاً لوجه انصرف جهدهم وكيدهم إلى الدسائس، والمؤامرات، والاغتيالات لرجاله العظام. ودخل في الإسلام ظاهراً من هؤلاء من قصده إفساده، وتمزيق وحدة أهله، ولا بد أن يكون ذلك عن دراسة، وإعمال فكر وتخطيط. وربما يكون هناك جمعيات متعاونة، من المجوس واليهود، والنصارى والهنود، وغيرهم، وقد تكون لكل طائفة مؤسسات تعمل لإفساد عقائد المسلمين؛ لتيقنهم أنه لا يمكن هزيمة المسلمين، إلا بإفساد عقيدتهم، فبدأت آثار تلك المؤامرات تظهر، شيئاً فشيئاً، فقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بأيد مجوسية، وربما بمؤامرة مجوسية يهودية. ثم قتل الخليفة بعده، بأيد مشبوهة، من غوغاء، يدفعهم بعض دهاة اليهود والمجوس.   (1) الفتوى الحموية، ملخصاً، انظر "مجموع الفتاوى" (5/706) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ثم ظهر القول بنفي القدر، وأول من عرف بذلك رجل مجوسي يقال له: سيسويه، من الأساورة، وإن كان قد اشتهر أن أول من قال به معبد الجهني (1) . ثم أوقدت نار الفتنة بين المسلمين، وقتال بعضهم بعضاً. ثم خرجت الخوارج بجهلهم، وعتوهم، وتكفيرهم المسلمين، وقتلهم إياهم. ثم نجم التشيع الشنيع، من قبل يهود ومجوس يوقدون ناره، وأظهروا القول بأن للرسول –صلى الله عليه وسلم- وصياً، هو علي بن أبي طالب، ولكن الصحابة تمالؤوا على ظلمه، وكتمان الوصية على حد زعمهم الكاذب. ولم يزل التشيع يتطور بتطرفه، وتشعبه، حتى صار ملجأ لكل من يريد أن يحارب الإسلام والمسلمين، وظهر فيه القول بأن القرآن مبدل ومحرف، ومزيد فيه، ومنقوص منه، وأن أعظم الصحابة ارتدوا بعد إسلامهم إن لم يكونوا كلهم، ما عدا علي بن أبي طالب ونفراً قليلاً معه. وقد يصل الضلال ببعضهم والجرأة على الله – تعالى – إلى أن يقول بخيانة جبريل للرسالة، وأنه أرسل إلى علي فعدل بها إلى محمد. ولم يزل الرفض يبتعد أهله عن الدين والعقل والفطرة إلى يومنا هذا. ثم ظهر القول بإنكار الصفات لله – تعالى -، وأنه لا يحب أحداً من عباده ولا يحبه أحد، ولا يتكلم، وليس له يد، ولا وجه، ولا شيء مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله.   (1) معبد الجهني البصري: تابعي، كان داعية في ضلال، قال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه رديء. تكلم فيه كثير من السلف من أجل قوله بنفي القدر، قتله عبد الملك سنة ثمانين. انظر " تهذيب التهذيب" (10/225) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وكان أول من عرف بذلك، رجل يقال له: الجعد بن درهم (1) . قال شيخ الإسلام: " أصل مقالة تعطيل الصفات، مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام – أعني أن الله ليس على العرش حقيقة، وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء، ونحو ذلك – هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه. وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، الذي سحر النبي –صلى الله عليه وسلم –" (2) . وهذه سلسلة يهودية لها سوابق في محاربة الإسلام. وقال البخاري: " حدثنا قتيبة، حدثني القاسم بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حبيبة، عن أبيه، عن جده، قال: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط في يوم أضحى ... وقال: ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله علواً كبيراً عما يقول ابن درهم، ثم نزل فذبحه". قال أبو عبد الله: قال قتيبة: " بلغني أن جهماً كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم" (3) . فتبين أن هذا الإلحاد جاء من قبل اليهود الذين أرادوا إفساد دين الإسلام،   (1) عداده في التابعين، قتله خالد بن عبد الله القسري على الزندقة، يذكر أنه جعل في قارورة ماء وتراباً، فاستحال دوداً، فقال: أنا خلقته. وهو فارسي، قتل سنة 124، انظر " البداية والنهاية" (9/394) . (2) " مجموع الفتاوى" (5/20) . (3) "خلق أفعال العباد" (ص29-30) ورواه عثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (ص25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 كما أن الرفض أول من عرف من دعاته يهودي ماكر حاقد، وهو ابن سبأ، يقال له: ابن السوداء، واسمه: عبد الله بن وهب بن سبأ، من يهود صنعاء، ولا بد أن هؤلاء الأفراد الذين شهروا بدعواتهم المنحرفة، وراءهم من يدعمهم، ويخطط لهم، وهذا الموضوع بحاجة إلى دراسة فاحصة، تبين الأمر بوضوح، وهذا الذي أشرت إليه تدل عليه كثير من الوقائع، والآثار عن السلف، وغيرهم. فكان هذا هو سبب التفرق الحقيقي، إذ هو تفرق في الاعتقاد، وهو منشأ الخلافات، والحروب الكلامية الممزقة، التي لم تزل تنخر في كيان المسلمين إلى يومنا هذا. وقد ينضم إلى ذلك عوامل جديدة في كل فترة زمنية، من أنواع الإلحاد ومحاربة الإسلام بأساليب شتى وأسلحة مختلفة، مقروءة ومرئية ومسموعة، ولولا أن الله - تعالى - تكفل ببقاء هذا الدين إلى آخر وقت من الدنيا، لقضي عليه منذ زمن بعيد، وهذا بالإضافة إلى ما هو كامن في طباع البشر مما يبعدهم عن الحق، مثل التقليد، واتباع المألوفات، وما يكون عليه رؤساء القوم وعظماؤهم، كما ذكر الله تعالى عن الأمم السابقة مع أنبيائهم، قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ {21} بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (1) . فهذا يدل على أن الإنسان يصعب عليه ترك المألوف له، كما أن شيخه ومن يعظمه قد يسيطر على توجيهه إلى ما يعتقده، كما هي طريقة المتكلمين حيث يأخذون بآراء شيوخهم ومعظميهم، مع مخالفتها لكتاب الله وسنة رسوله. ومن ذلك الجهل، واتباع الهوى، كما هو حال أكثر الخوارج، فإنهم   (1) الآيات 20-24 من سورة الزخرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 جهلوا معاني الكتاب، وأرادوا من عموم الأمة أن لا يكون لهم ذنوب، وإلا أصبح عندهم كافراً مخلداً في النار. وأما الهوى فبابه واسع، وقد قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (1) . وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} (2) إلى غير ذلك من الدوافع نحو الانحراف، وسأذكر شيئا مما ذكره أهل العلم يؤيد ما ذكر هنا: قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: " وقد روي أن أول من ابتدع {القول بنفي القدر} بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له: سيسويه، من أبناء المجوس، وتلقاه عنه معبد الجهني" (3) . وقال الإمام ابن حزم: " الأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام: أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى إنهم يسمون أنفسهم: الأحرار، والأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم، على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة، في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله – سبحانه وتعالى – الحق، وكان من قائمتهم "منقاذ" و"المقنع" و"استابين"،   (1) الآية 23 من سورة الجاثية. (2) الآية 50 من سورة القصص. (3) "مجموع الفتاوى" (7/384) ، وذكره المقريزي في "الخطط" (3/360) ، وسيأتي، وأما ما ذكره أبو لبابه حسين في كتابه "موقف المعتزلة من السنة" أن معبداً أخذ مقالته عن نصراني من أهل العراق أسلم ثم تنصر، نقلاً عن أدب المعتزلة، ففيه نظر، إذ هو خلاف المشهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 و"دبابك" (1) وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب "خداشا"، و"أبو مسلم السراج". فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واستشناع ظلم (2) علي- رضي الله عنه- ثم سلكوا بهم مسالك شتى، حتى أخرجوهم عن الإسلام، فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً ينتظر يدعى المهدي، عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ من هؤلاء الكفار. وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة. وقوم سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا، من القول بالحلول، وسقوط الشرائع. وآخرون تلاعبوا بهم، فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة. وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة، في كل صلاة خمس عشرة ركعة. وهذا قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي: قبل أن يصير خارجياً صفرياً (3) .   (1) هذه الأسماء فيها اختلاف بين النسختين من "الفصل" المحققة والمطبوعة سابقاً، ففي القديمة "ستقادة" و "استاسيس" والملقب بـ " خداش" و "أبو مسلم السراج" ولم يشر المحققان إلى هذا الاختلاف. (2) لم يقع على علي بن أبي طالب ظلم من الصحابة كما زعمته الرافضة، وإنما هو شيء اختلق للتشنيع والوصول إلى المقصد الخبيث. (3) يجوز أن يكون عبد الله هذا يهودياً، لم يشف حقده ما فعله من إفساده دين من أفسد دينه، فدخل في الخوارج ليروي ظمأ حقده بدماء المسلمين، فالله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي (1) ، فإنه لعنه الله، أظهر الإسلام ليكيد أهله، فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان – رضي الله عنه- وحرق علي بن أبي طالب طوائف أعلنوا بإلهيته. ومن هذه الأصول الملعونة، حدثت الإسماعيلية، والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسية المحضة، ثم مذهب مزدك الموبذ، الذي كان على عهد أنو شروان بن قباذ، ملك الفرس، وكان يقول بوجوب تساوي الناس في النساء، والأموال. قال أبو محمد: " فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوهم عن الإسلام كيف شاؤوا إذ هذا هو غرضهم فقط" (2) . وهذا الذي ذكره أبو محمد ابن حزم – رحمه الله – ظاهر في أنه كان هناك جمعيات تنظيمية تخطط لهدم عقيدة المسلمين، بشتى الوسائل. قال البخاري – رحمه الله تعالى -: " حدثنا محمد بن عبد الله – أبو جعفر البغدادي- قال: سمعت أبا زكريا، يحيى بن يوسف الزمي، قال: كنا عند عبد الله ابن إدريس، فجاءه رجل، فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمن اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، من أهل التوحيد، قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء الزنادقة من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله – تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، فالله لا يكون مخلوقاً، والرحمن لا يكون مخلوقاً، والرحيم لا يكون مخلوقاً.   (1) إن فعل هذين الرجلين يدلنا على أن هناك منظمات تتعاون على حرب الإسلام من اليهود والمجوس وغيرهم، كما أشرت إليه قبل ذلك. (2) "الفصل" (2/115-116) وانظر "المحققة" (2/273-274) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وهذا أصل الزندقة، من قال هذا فعليه لعنة الله، لا تجالسوهم، ولا تناكحوهم" (1) . وقال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله تعالى -: " لم يزل {أهل الباطل} مقموعين أذلة، مدحورين، حتى كان الآن بآخرة، حيث قلت الفقهاء، وقبض العلماء، ودعا إلى البدع دعاة الضلال، فشد ذلك طمع كل متعوذ في الإسلام من أبناء اليهود، والنصارى، وأنباط العراق، ووجدوا فرصة للكلام، فجدوا في هدم الإسلام، وتعطيل ذي الجلال والإكرام، وإنكار صفاته وتكذيب رسله، وإبطال وحيه، إذ وجدوا فرصتهم، وأحسوا من الرعاع جهلاً، ومن العلماء قلة، فنصبوا عندها الكفر للناس إماماً، بدعوتهم إليه، وأظهروا لهم أغلوطات من المسائل، وعمايات من الكلام، يغالطون بها أهل الإسلام، ليوقعوا في قلوبهم الشك، ويلبسوا عليهم أمرهم ويشككوهم في خالقهم، مقتدين بأئمتهم الأقدمين" (2) . وقال البخاري: " حدثني أبو جعفر، حدثن يحيى بن أيوب، قال: سمعت أبا نعيم البلخي، قال: كان رجل من أهل "مرو" صديقاً للجهم، ثم قطعه وجفاه، فقيل له: لم جفوته؟ فقال: جاء منه ما لا يحتمل، قرأت يوماً آية كذا وكذا – نسيها يحيى- فقال: ما كان أظرف محمداً، فاحتملتها، ثم قرأ سورة طه، فلما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، قال: أما والله لو وجدت سبيلاً إلى حكها لحككتها من المصحف، فاحتملتها، ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى، قال: ما هذا؟ ذكر قصته في موضع فلم يتمها، ثم ذكرها هاهنا فلم يتمها، ثم رمى المصحف من حجره برجليه، فوثبت عليه" (4) .   (1) "خلق أفعال العباد" (ص30) . (2) "الرد على الجهمية" (ص259) "عقائد السلف". (3) الآية 5 من سورة طه. (4) "خلق أفعال العباد" (ص46) ، وانظر: "عقائد السلف" (128-129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فهذه الوقائع - ومثلها كثير جداً - تدل على حقد دفين على هذا الدين، وأنه دخل في المسلمين الدخيل ذو القلب الموتور، والصدر الموغور، والنفس التي تأكلها نار عداوة الإسلام، ونبي الإسلام، وأن هؤلاء يحاولون اجتثاث الإسلام من قلوب الناس، بالتشكيك في أصوله، وأن كثيراً من علماء السلف علموهم، وعرفوا أن مرادهم صد الناس عن الإسلام، وإفساد عقائدهم: وأن تعاوناً يهودياً، ومجوسياً، ونصرانياً، وإلحادياً لم يزل ينتهز الفرص، جاهداً في إطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ولا شك أن الصراع بين الحق والباطل قديم، وأنه لا يخلو زمان ولا مجتمع من ذلك، وأن الله - تعالى - جعل للباطل هواة ومحبين، ينفقون أموالهم ويبذلون نفوسهم في الدفاع عنه، كما جعل للحق أنصاراً، وهذا أمر ظاهر، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (1) . وإذا كان الإنسان متظاهراً بمساندة الباطل ونصرته، فأمره أسهل ممن يخفي ذلك، ويتظاهر بالخير والإيمان، وهو من أبعد الناس عنه، وأشدهم عداوة له، وإنما مقصده معرفة مواطن الضعف من الإسلام وأهله، والمداخل التي تنفذ سمومه منها فيهم، ثم يرميهم بكل ما يستطيع. وربما يكون هناك تنظيمات تلبس لباس العلم والمعرفة، والإصلاح، والتجديد، والمقصود منها القضاء على الدين، وهم ينوعون أساليبهم في كل وقت بما يناسبه، وإن مصائب الإسلام بهؤلاء وأمثالهم، من فجره إلى يومنا هذا تتوالى، وقد وصف ذلك المقريزي- رحمه الله - وصفاً مفيداً ألخصه فيما يلي: قال:   (1) الآية 76 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 " لما بعث الله محمداً –صلى الله عليه وسلم- إلى الناس، وصف لهم ربهم بما وصف به نفسه، فلم يسأله أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم، عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة، وشرائع الإسلام، إذ لو سأله أحد منهم عن شيء من الصفات لنقل، كما نقلت أحاديث الأحكام وغيرها. ومن أمعن النظر في دواوين الحديث والآثار عن السلف، علم أنه لم يرد قط لا من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم، أنه سأل النبي-صلى الله عليه وسلم- عن معنى شيء (1) ، مما وصف الرب- سبحانه- به نفسه في القرآن وعلى لسان نبيه، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا سكوت فاهم مقتنع، ولم يفرقوا بين صفة وأخرى، ولم يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء منها، بل أجروا الصفات كما ودرت بأجمعهم، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به سوى كتاب الله وسنة رسوله. ومضى عصرهم – رضي الله عنهم- على هذا، وحدث القول بنفي القدر في عهد آخرهم. وكان أول من فاه بذلك معبد الجهني، أخذه عن رجل من الأساورة، يقال له: أبو يونس سيسويه، ويعرف بالأسواري، وتبرأ من هذه المقالة الصحابة. ثم خرجت الخوارج، وكفروا بالذنوب، فقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وحدث التشيع لعلي، وغلا فيه طائفة بدعوة ابن سبأ اليهودي، فحرقهم في النار، كما أحدث ابن سبأ القول بالوصية لعلي بالإمامة من بعد الرسول –صلى الله عليه وسلم- والقول بالرجعية، أي رجعة علي بعد موته، وأن فيه جزءاً من الإلهية. ومن دعوة هذا اليهودي تشعبت الغلاة من الرافضة، كالإمامية الاثنى عشرية، والإسماعيلية، والقرامطة، والنصيرية، وغيرهم، وهو الذي أثار الفتنة على أمير المؤمنين عثمان حتى قتل، ولم يزل مذهب الرفض يستفحل حتى ملأ الدنيا فساداً.   (1) مقصوده: أنهم لم يسألوا عن مثل اليدين والوجه والنزول والاستواء ونحو ذلك، مما يدل على أنهم فهموا أن هذه الصفات على ظاهرها المفهوم من لغتهم، مع علمهم انتفاء المماثلة فيها لصفات الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ثم حدث مذهب الجهمية، وتعطيل الرب- تعالى – عن صفاته، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك من العظائم، وعربت كتب الفلاسفة في عهد المأمون، فعظمت الفتنة والضلال. ثم ظهر الأشعري، وكان أخذ عن الجبائي الاعتزال، ولازمه دهراً طويلاً، ثم سلك طريق ابن كلاب في الصفات، والقدر، وغير ذلك. وسلك طريقه جماعة من العلماء، مثل الباقلاني، وابن فورك، والاسفراييني، والشيرازي، والغزالي، والشهرستاني، والرازي وغيرهم، ملأوا الدنيا بتصانيفهم، يحتجون، ويدعون أن طريقتهم هي طريقة أهل السنة والجماعة، فانتشر هذا المذهب في البلاد الإسلامية، وجاءت دولة بني أيوب، وكانوا على هذا المذهب، ثم مواليهم الأتراك، وأخذه ابن تومرت إلى المغرب، ونشره هناك، فصار هذا المذهب هو المعروف في الأمصار، بحيث نسى ما عداه من المذاهب، أو جهل، حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة. حتى جاء تقي الدين –أبو العباس ابن تيمية-، فتصدى للانتصار لمذهب السلف، ورد على الأشاعرة، والرافضة، والصوفية، فافترق الناس فيه فريقان: فريق يقتدي به، ويعول على أقواله، ويرى أنه شيخ الإسلام حقاً، ومن أجل حفاظ أهل الملة الإسلامية. وآخر يبدعه، ويضلله، ويزري عليه إثبات الصفات وغيرها". ثم قال المقريزي: "فهذا- أعزك الله- بيان ما كانت عليه عقائد الأمة من ابتداء الأمر إلى وقتنا، قد فصلت فيه ما أجمله أهل الأخبار، وأجملت ما فصلوا، فدونك طالب العلم تناول ما قد بذلت فيه جهدي، وأطلت بسببه سهري وكدي، في تصفح دواوين الإسلام، وكتب الأخبار فقد وصل إليك صفواً". (1)   (1) "الخطط" للمقريزي ملخصاً (3/309-314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقال أحمد أمين في كلامه على ابن سبأ: "والذي يؤخذ من تاريخه، أنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستاراً يستر به نياته". (1) وذكر الطبري: "أن ابن السوداء لما وصل إلى الشام لقي أبا ذر - رضي الله عنه - فقال له: يا أبا ذر، ألا تعجب لمعاوية، يقول: المال مال الله، ألا إن كل شئ لله، يريد أن يحتجبه دون المسلمين، فذهب أبو ذر إلى معاوية وقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ ". ثم أتى ابن السوداء أبا الدرداء، فقال له أبو الدرداء: من أنت؟ أظنك - والله - يهودياً. وأتى عبادة بن الصامت فأخذه عبادة، وذهب به إلى معاوية، وقال له: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر". (2) فإذا كان هذا اليهودي قد طمع بالصحابة، فكيف بغيرهم؟ ومن استقرأ التاريخ يرى أن أعداء الإسلام لم يدخروا وسعاً في محاولة القضاء عليه، إلى يومنا هذا. كبريات الفرق الإسلامية كان من نتائج التآمر على عقيدة المسلمين من جهات متعددة، كما سبقت الإشارة إليه، أن انشطر من الأمة الإسلامية عدة فرق، انحرفت عن الطريق الصحيح، الذي رسمه لها نبيها-صلى الله عليه وسلم - وأخذت بنيات الطريق، كما سبق في حكم الله القدري الكوني، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . (3)   (1) "فجر الإسلام" (ص269) . (2) "تاريخ الطبري" (4/283) . (3) الآيتان 118، 119 من سورة هود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 روى ابن جرير عن الحسن"قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين". وروي عن مجاهد: قال: "ولا يزالون مختلفين" أهل الباطل، "إلا من رحم ربك"أهل الحق". (1) وقال: "معنى ذلك: ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم، وأهوائهم، على أديان وملل، وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله". (2) وقال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} . (3) وقوله: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم، واعتقاداتهم في مللهم ونحلهم، ومذاهبهم، وآرائهم، إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي جاءت به رسل الله إليهم، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة، لأنهم الفرقة الناجية". (4) وقد أخبر النبي-صلى الله عليه وسلم - بوقوع هذا الاختلاف، محذراً منه، فروى أبو داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم -: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". (5)   (1) "تفسير الطبري" (15/534) ط المعارف. (2) المصدر السابق، (ص534) . (3) الآية 99 من سور يونس. (4) "تفسير ابن كثير" (4/290-291) ملخصاً، ط الشعب. (5) "السنن" (5/4) رقم (4596) ، ورواه الترمذي، "التحفة" (7/397) ، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2/1321) رقم (3991) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ورواه أيضاً من حديث معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب، افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة". (1) قال ابن كثير: "روي هذا الحديث في "السنن" و"المسانيد" من طرق يشد بعضها بعضاً". (2) وأصل الفرق الذي ترجع إليه أربع كما قال طائفة من السلف، وهم الروافض، والخوارج، والقدرية {المعتزلة} ، والمرجئة، وبعض العلماء يجعلها خمساً ويدخل أهل السنة، كما قال أبو محمد بن حزم: "فرق المقرين بملة الإسلام خمس، وهم: أهل السنة، والمعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق". (3) ومراده: غير أهل السنة، فإنهم فرقة واحدة، وهم الذين تمسكوا بكتاب الله واتبعوا سنة رسوله-صلى الله عليه وسلم -. وقال الطرطوشي: "اعلم أن علماءنا قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الاثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وتشعبوا. وهم: الخوارج: وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي طالب، والروافض، والقدرية، والمرجئة". (4)   (1) "السنن" (5/5) ، والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو مع بعض الاختلاف في اللفظ، وقال: حديث حسن مفسر، انظر "تحفة الأحوذي" (7/399) . (2) "تفسير ابن كثير" (4/291) . (3) "الفصل" (2/265) . (4) "الحوادث والبدع" (ص31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ومن هذه الفرق تشعبت سائر الفرق، وقد ألف فيها وفي بيان نحلها مؤلفات قديماً وحديثاً. وكان من أول هذه الفرق الشيعة، فإنها حدثت في آخر عصر الصحابة، ثم تطور التشنيع إلى الرفض، ومبدأه من ابن سبأ اليهودي، وغيره من المجوس ممن دخل في الإسلام ظاهراً وفي الباطن هم إما يهود ماكرون، أو مجوس موتورون، قصدهم إفساد الدين الإسلامي، كما تقدم. فكان الرفض في أوله يسمى التشيع، فاشتهروا بالشيعة-أي شيعة علي بن أبي طالب- وكانوا في زمنه ثلاث فرق: فرقة تقول: إنه إله، وقد صرحوا له بذلك، فحرق الذين تمكن منهم بالنار. والثانية: الذين يسبون أبا بكر وعمر- رضي الله عنهما- وقد توعد علي - رضي الله عنه- من فعل ذلك بأن يقيم عليه الحد- قيل: إنه القتل. والثالثة: المفضلة، الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، وبقية الصحابة، وقد روي عنه أنه قال: "لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته الحد". (1) ولما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية، سأله الشيعة عن أبي بكر وعمر، فترضى عنهما، وبين أنه يتولاهما، تبرأ منه عند ذلك أكثرهم، فقال: رفضتموني. فسموا: الرافضة، والذين اتبعوه سموا زيدية. وأما القدرية: فأصلهم-فيما يبدو، والله أعلم- من المجوسية المتعاونة مع اليهودية والنصرانية على حرب الإسلام.   (1) انظر: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (1/83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وحدثت هذه الضلالة أيضاً في آخر عهد الصحابة- رضي الله عنهم- ثم تطورت إلى الاعتزال. وقد أغتر بهذا المبدأ كثير من الناس، الذين عجزت عقولهم عن استيعاب الإيمان بقدر الله، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وظنوا امتناع الجمع بين ذلك، فنفوا علم الله بالمستقبل، لظنهم أنه لا يحسن أن يأمر من يعلم أنه يعصي أمره ثم يعذبه على ذلك، حيث جعلوا هذا ظلماً لا يجوز، فقابلتهم الجبرية، الذين هم صنو منهم، ثم تطورت إلى التجهم، والتعطيل، بتغذية اليهودية المفسدة في الأرض. وأما الخوارج: فهم الذين خرجوا عن الحق من جيش أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهم كذلك كان ظهورهم في آخر عهد الصحابة رضي الله عنهم. وهم إنما أتوا من سوء فهمهم للنصوص، ولم يقصدوا مخالفة القرآن، ولكن فهمهم أداهم إلى ما لم يدل عليه القرآن، وهو تكفير أهل الذنوب، والقول بخلودهم في النار، ولابد أنه اندس في صفوفهم من يضللهم من منظمات الموتورين، والحاقدين على دين الله وعباده المؤمنين. وأما الإرجاء: فإنه وإن كان أخف هذه البدع، ومعتنقوه من أقربهم إلى أهل السنة، ففيه من الضلال والمخالفة لشرع الله تعالى ما هو معروف في مواطنه. الأشعرية من نتائج الافتراق والتشتت، برزت الأشعرية، وهي عبارة عن خليط من مذاهب عدة فرق، كالمعتزلة، والكلابية، والجهمية، وقد كان إمام هذه النحلة-أبو الحسن الأشعري- تلميذاً لأبي علي الجبائي، قرأ عليه أصول المعتزلة، ولازمه ما يقرب من أربعين عاماً، ولهذا كان خبيراً بمذاهب المعتزلة، ثم انتقل إلى طريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهي أقرب إلى مذهب أهل السنة من طريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المعتزلة، وجعل يبين فساد مذهب الاعتزال ويرد عليهم، ويوضح فساد أصولهم، وتناقضهم، وبعدهم عن الحق، ومثلهم الرافضة والفلاسفة، ولهذا صار له ذكر حسن وقدر عند المسلمين. والذين ينتسبون إليه من المتأخرين ليسوا على طريقته، مع أنه لم يكن من أهل السنة المحضة، إذ لم يستطيع أن يتخلص من بعض مسائل أهل الكلام. قال شيخ الإسلام: "لا ريب أن الأشعرية إنما تعلموا الكتاب والسنة من أتباع الإمام أحمد، ونحوه، ولهذا يوجد أكثر ألفاظه التي يذكرها عن أهل السنة والحديث، إما ألفاظ زكريا بن يحيي الساجي، التي وصف بها مذهب أهل السنة، أو ألفاظ أصحاب الإمام أحمد، وما ينقل عن أحمد في رسائله الجامعة في السنة، وإلا فالأشعري لم يكن له خبرة بمذهب أهل السنة، وأصحاب الحديث، وإنما يعرف أقوالهم من حيث الجملة، لا يعرف تفاصيل أقوالهم، وأقوال أئمتهم، وقد تصرف فيما نقله عنهم باجتهاده في مواضع يعرفها البصير. وأما خبرته بمقالات أهل الكلام فكانت تامة على سبيل التفصيل. ولهذا لم يذكر عن أهل السنة في كتاب "مقالات الإسلاميين" إلا جملة مقالاتهم، مع أن لهم في تفاصيل تلك ما ليس لأهل الكلام. ولا ريب أن للآشعري في الرد على أهل البدع كلاماً حسناً، هو من الكلام المقبول، الذي يحمد قائله إذا أخلص فيه النية. وله أيضاً كلام خالف به بعض السنة هو من الكلام المردود، الذي يذم قائله إذا أصر عليه بعد قيام الحجة" (1) والله يغفر لنا وله. وقد انتسب إلى الأشعري أكثر العالم الإسلامي اليوم من أتباع المذاهب الأربعة، وهم يعتمدون على تأويل نصوص الصفات تأويلاً يصل أحياناً إلى   (1) "التسعينية" (5/286-287) من الفتاوى المصرية، ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 التحريف، وأحياناً يكون تأويلاً بعيداً جداً، وقد أمتلأت الدنيا بكتب هذا المذهب، وادعى أصحابها أنهم أهل السنة، ونسبوا من آمن بالنصوص على ظاهرها إلى التشبيه والتجسيم. هذا ولابد لعلماء الإسلام-ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم - من مقاومة هذه التيارات الجارفة، على حسب ما تقتضيه الحال، من مناظرات، أو بالتأليف، وبيان الحق بالبراهين العقلية والنقلية، وقد يصل الأمر أحياناً إلى شهر السلاح. وقد أكثر علماء السنة من التأليف في الرد على أهل الأهواء والانحراف، كما ظهر بعض الطوائف المقابلة لتلك البدع كالسالمية والكلابية، الذين تولوا أيضاً الرد على أهل تلك الانحرافات، غير أنهم كثيراً ما يردون البدع ببدع مماثلة لما يرد أو قريباً منها، يزداد من أجل ذلك التباس الحق على كثير من الناس، بخلاف ما إذا كان الرد بما دل عليه كتاب الله- تعالى- وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم - كما هو نهج أهل السنة، بالإضافة إلى المعقول الصريح. ومن كبار علماء السنة الذين ردوا على أهل البدع، الإمام البخاري-رحمه الله تعالى - في كتاب أفرد لذلك سماه "خلق أفعال العباد"، ولم يقتصر فيه على ما يفهم من الاسم، بل رد فيه على الجهمية والقدرية وغيرهم، كما رد على المرجئة في كتاب الإيمان من "الجامع الصحيح"، ورد على الجهمية والمعتزلة ومن سلك طريقهم في كتاب "التوحيد"، الذي ختم به كتابه "الجامع الصحيح"، وسلك فيه طريقاً واضحاً في الرد، إذ اقتصر على ذكر النصوص، من الكتاب والسنة، التي فيها بيان بطلان مذاهب هؤلاء المشار إليهم، فكأنه يقول: هذا كتاب ربنا الذي أنزله علينا وأمرنا باتباعه، وحضنا على تدبره وفهمه، وجعله هدى ونوراً وشفاءً للمؤمنين به، وهذه سنة نبينا الذي كلفنا بطاعته، ومتابعته، وفيهما العصمة عن الخطأ، وهما صريحان في بيان الحق، الذي ضل عنه هؤلاء المبتدعة، ففيهما تكفلا برد ما جاؤوا به، فلا يسع المسلم إلا الأخذ بهما، ورد ما خالفهما، ففيهما الهدى والنور، وفي تركهما الضلال والهلاك، والله-تعالى- لم يكلنا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 عقولنا، بل أرسل إلينا رسولاً بين لنا كل ما نحتاج إليه من أمور ديننا، وأنزل عليه كتابه، فيه تبيان لكل شيء فرق فيه بين الحق والباطل، فلسنا نحتاج معه إلى غيره، فإن تمسكنا به أوصلنا إلى الله من أقرب طريق وأهداه، وإن أعرضنا عنه تخطفتنا الشياطين من كل جانب، كما قال الله -تعالى-: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ {37} حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} . (1) الإمام البخاري هو أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه. (2) قال النووي: "اتفق العلماء على أنه ولد بعد صلاة الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة السبت، عند صلاة العشاء ليلة الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، ودفن يوم الفطر بعد الظهر". (3) طلب العلم من صغره، وتبينت نجابته، وذكاؤه، وفطنته، وحفظه، ونبله من صغره، وقد طوف البلاد مراراً لطلب الحديث، وأخباره مشهورة، واتفق العلماء على جلالته، وإمامته في الحديث، وفقهه، وتميز بذلك عن غيره، وقد كتب في ترجمته كثيراً، في كتب الرجال، والشروح، وأفرد لذكر فضائله وشمائله كتب خاصة، فلا نطيل في ذلك. وأما كتابه "الجامع الصحيح"فقال النووي-رحمه الله-: "اتفق   (1) الآيات 36-38من سورة الزخرف. (2) "هدي الساري" (2/250) ، و" تاريخ بغداد" (2/4) . (3) " شرح النووي"للبخاري (ص4) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 العلماء على أن أصح الكتب المصنفة: صحيحا البخاري ومسلم، واتفق الجمهور على أن "صحيح البخاري" أصحهما صحيحاً، وأكثرهم فوائد". (1) قلت: هو كتاب عظيم ونافع جداً لمن قرأه، وتدبره، وقد أودعه من التراجم التي تعين على الفهم الشيء الكثير، وهي تدل على عظيم فقهه في الحديث، ودقة استنباطه، وقد بلغت ثلاثة آلاف وثمانمائة واثنتين وثمانين ترجمة، وتزيد على ذلك في بعض النسخ. هذا، وقد اعتنى به العلماء عناية فائقة، قراءة، وحفظاً، وتدريساً، وشرحاً. فحظي بشروح كثيرة جداً، فذكر في "كشف الظنون" ما يقرب من ثمانين شرحاً للبخاري (2) ، وله أكثر من ذلك بكثير. ومع هذا، فإن كتاب التوحيد منه بحاجة إلى شرح يبين مقاصد البخاري-رحمه الله تعالى - ووجه الرد منه على أهل البدع، لأن غالب من قام بشرحه، على المذهب الأشعري، ولا سيما الشروح المتداولة اليوم، ولهذا تجد أحدهم يوجه الكلام من النصوص، ليتفق مع ما يعتقده، ولو بالتعسف. وكثير من الصفات التي يثبتها البخاري، مستدلاً عليها بنص من كتاب الله، أو عن رسوله، يحاولون ردها، إما بالتحريف الذي يسمونه تأويلاً، أو بدعوى الإجماع على خلافها، كما ذكر الحافظ-رحمه الله تعالى- عن ابن بطال، في قوله-صلى الله عليه وسلم -: "لا شخص أغير من الله". قال: "أجمعت الأمة على أن الله-تعالى- لا يجوز أن يوصف بأنه شخص". (3)   (1) "شرح النووي"للبخاري (ص7) . (2) انظر: "كشف الظنون" (1/545) . (3) انظر: "الفتح" (13/400) وسيأتي-إن شاء الله- الكلام عليه وذكر من رواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وذكر عن الخطابي: أنه رد وصف الرب -تبارك وتعالى- بالأصابع، كما في حديث عبد الله بن مسعود في ذكر الحبر الذي سأل رسول الله-صلى الله عليه وسلم - ونسب ذلك إلى تخليط اليهود، وتشبيههم، وقال في قوله في الحديث: "فضحك رسول الله-صلى الله عليه وسلم - تصديقاً لقوله" إنه ظن من ابن مسعود، وحسبان، وحاول عكس الأمر، وأن الضحك من جرأة اليهود على التشبيه (1) ، وأمثال ذلك كثير، مما هو خلاف ما أراد إثباته مؤلف الكتاب. ولذلك أرى من الواجب أن يتولى شرح هذا الكتاب العظيم، الذي ألفه ذلك الرجل السلفي الفاهم للحق تمام الفهم، من هو على نهج المؤلف في العقيدة، ويفهم مقصده، وماذا يريد من إيراده للنصوص. ولما أعوزني وجود شرح على هذا الوصف، ولم يسعفني من طلبت منه القيام بذلك من مشائخنا، تطفلت على كتب العلماء، وقمت بجمع ما أراه مناسباً لشرح ما أورده البخاري-رحمه الله تعالى- وأرجو من الله الإمداد بالعون والسداد، فإنه لا يخيب سائله، ولا يحرم آمله، ولست أزعم أنني أفهم من كتاب البخاري-رحمه الله- ما لا يفهمه شارحوه، أمثال ابن حجر والعيني والخطابي وابن بطال والقسطلاني وغيرهم، ولكن لكل منهم نهجه الخاص، وعقيدته التي تملي عليه مسلكاً معيناً. وطريقتي فيه أني: 1- أذكر نص الحديث بسنده، ثم أتبعه بترجمه لراويه من الصحابة موجزة جداً. 2- أحاول بيان مراد البخاري-رحمه الله- من إيراده النص، وبيان وجه استدلاله بذلك، حسب المستطاع.   (1) انظر: "الفتح" (13/398) . وسيأتي-إن شاء الله - ذكر ذلك في موضعه، وإبطاله بالبراهين المعتمدة على الحق اليقيني، لا ظنون المتكلمين وشكوكهم، والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 3- أعزو الكلام إلى قائله، مبيناً مكانه من المصدر، بالجزء والصفحة، واذكر رقم الآية واسم السورة، ومكان الحديث في المصدر، وأما"صحيح البخاري" فغالباً أعزو ما فيه إلى "الفتح". 4- لا أتطرق إلى الكلام على رجال السند، إذ هو أمر مفروغ منه، فكل ما في البخاري ثابت، عن المصطفى-صلى الله عليه وسلم -، وقد تلقته الأمة بالقبول، فلا يطعن فيه إلا من كان له غرض، أو في قلبه مرض، خلا بعض المعلقات، وقد تولى الحافظ -رحمه الله- وصل أسانيده، والإجابة عما قيل فيها في كتابه: "تغليق التعليق". 5- أحاول جهدي بيان مذهب السلف، في أسامي الله -تعالى-، وأوصافه، ومدى تمسكهم بالكتاب والسنة، مستعيناً على ذلك بنقل ما تيسر لي من كلامهم على سبيل الإيجاز. 6- أحاول رد القول الباطل، أو الضعيف، الذي لا تؤيده النصوص، إذ إن مبنى أوصاف الله -تعالى- على ثبوت النص في ذلك، ولا دخل لقياس وعقل في ذلك، وكل ذلك حسب المستطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قال البخاري - رحمه الله تعالى-: "باب ما جاء في دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم -أمته إلى توحيد الله-تبارك وتعالى-" مقصده بهذا أن يبين أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قد أوضح ما يجب على المسلم أن يعتقده في حق الله-تعالى- نفياً وإثباتاً، وأوضح ما يجب لله على عباده، من توحيد القصد والنية، لأن قوله: "توحيد الله" يعم أنواع التوحيد، فلم يترك الأمر مشتبهاً، بل بينه، فيجب أن يتبع بيانه في ذلك، فلا يصار إلى رأي متكلم، أو عقل متفلسف، أو قول مؤول. وقوله: "دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم - أمته" أي الدعوة التي كلفه الله بها وأمره بإبلاغها. يعني: أن هذا مقصود الرسالة، فلابد أن يبينه، ويبلغه أمته، البلاغ المبين، بحيث لا يبقى فيه التباس، أو اشتباه. وقد قام-صلوات الله وسلامه عليه- بهذا الواجب خير قيام، فأوضحه غاية الإيضاح، فلا عذر لمن انحرف عنه، وتلقى توحيده من الفلاسفة والمتكلمين الذين كثر في هذا الباب اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله-تعالى- حجابهم. (1) وبهذا يبين أن معرفة التوحيد، الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -   (1) اقتباس من كلام شيخ الإسلام في أول الحموية، انظر (ص5) بتعليقات محمد عبد الرزاق حمزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ودعا أمته إليه، لا يمكن الوصول إليها إلا بما جاء به -صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله- تعالى-، وسنته التي هي شارحة ومبينة لكتاب الله- تعالى-. والأمة هنا يقصد بها: الأمة المطلقة، أي أمة الدعوة. 1- "حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي-صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن". 2- وحدثني عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا الفضل بن العلاء، حدثنا إسماعيل ابن أمية، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول: سمعت ابن عباس يقول: " لما بعث النبي-صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى نحو أهل اليمن، قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم، إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فاخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك، فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس". عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، الهاشمي، ابن عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وحبر هذه الأمة، من المكثرين عن النبي-صلى الله عليه وسلم -، وجل ما يرويه بواسطة أحد الصحابة، دعا له النبي-صلى الله عليه وسلم - بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، فظهرت عليه آثار دعوته-صلى الله عليه وسلم - حتى عرف بأنه ترجمان القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 توفي النبي-صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشر سنة، على الراجح. وقد توفي سنة ثمان وستين في الطائف. (1) ومعاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، الأنصاري، الخزرجي، من علماء الصحابة وساداتهم، قال له رسول الله-صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح: "والله يا معاذ إني أحبك" (2) . وقال ابن مسعود: "إن معاذاً كان أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يكن من المشركين، إنا كنا لنشبه معاذاً بإبراهيم، عليه السلام". (3) شهد العقبة، والمشاهد كلها مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - توفي في الشام بطاعون عمواس، سنة ثماني عشرة، وكان عمره ثمان وثلاثون سنة. (4) قوله: "بعث معاذاً إلى اليمن" أي أرسله مبلغاً عنه، وداعياً إلى عبادة الله وتوحيده. "وأصل البعث: إثارة الشيء، وتوجيهه. ويختلف باختلاف ما علق به. فبعثت البعير: أثرته من مبركه، وسيرته، وقوله تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ   (1) انظر: "الإصابة" (4/141) ، "تذكرة الحفاظ" (1/37) ، "أسد الغابة" (3/290) ، "أسير أعلام النبلاء" (3/331) ، وغيرها كثير. (2) "السنن" (2/180) ، الحديث رقم (1522) ، وانظر: "المجتبى" (3/53) . (3) انظر: "الإصابة" (6/137) . (4) "سير أعلام النبلاء" (1/443) ، "أسد الغابة" (5/194) ، "الإصابة" (6/136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 اللهُ} (1) أي يخرجهم من الأرض أحياء، ويسيرهم إلى المحشر. وقوله تعالى: {وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ} (2) أي: توجههم، ومضيهم معك. وقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} (3) أي: قيضه لذلك. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} (4) أي: أرسلناهم لدعوة قومهم إلى الله تعالى، فالبعث ضربان: أحدهما: يتعلق بفعل المخلوق، كبعث البعير، وبعث الإنسان في حاجة. والثاني: إلهي، وهو قسمان: الأول: إيجاد الأعيان، والأجناس، والأنواع، من العدم، على غير مثال سابق، وهذا خاص بالله تعالى. والثاني: إحياء الموتى، وهذا قد أعطى، جل وعلا- بعض من يشاء من عباده شيئاً منه، كعيسى-عليه السلام- ليكون آية على صدقه" (5) ولا يقع ذلك إلا بإذن الله تعالى وإرادته. و"اليمن" اسم البلاد المعروفة الواقعة في الجنوب الغربي من جزيرة العرب. قال في "القاموس": "اليمن ما كان عن يمين القبلة من بلاد الغور" (6) ، وفي "المراصد": "سميت اليمن لتيامنهم إليها، لما تفرقت العرب من مكة، كما سميت   (1) الآية 36 من سورة الأنعام. (2) الآية 46 من سورة التوبة. (3) الآية 31 من سورة المائدة. (4) الآية 36 من سورة النحل. (5) "المفردات"للراغب، بتصرف (ص52) . (6) " القاموس" (4/279) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الشام لأخذهم الشمال". (1) قلت: وفيه نظر، وذلك أن اليمن قديم، قبل وجود مكة على يدي إبراهيم وابنه إسماعيل-عليهما السلام-إلا أن تكون التسمية حادثة. وقال قطرب: "سمى اليمن ليمنه". (2) قال الحافظ: "كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حجة الوداع" (3) ، وعند أهل المغازي، أن ذلك في ربيع الآخر، من سنة تسع، والصحيح ما قاله الحافظ، وقد أشار البخاري-رحمه الله- إلى ذلك بقوله: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع". (4) وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع، عند منصرفه-صلى الله عليه وسلم - من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك، وحكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر" (5) فالله أعلم. قوله: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب". تقدم-بفتح الدال-لأن ماضيه ثلاثي مكسور العين، ومصدره قدوماً، لأنه يدل على معالجة. "القوم" الجماعة من الرجال والنساء، أو من الرجال خاصة، وتدخل النساء على التبعية. قاله في "القاموس". (6) "وأهل الكتاب" هم اليهود والنصارى، "والمقصود هنا اليهود، وكان   (1) "المراصد" 03/1483) . (2) "تاج العروس" (9/371) . (3) "الفتح" (3/358) . (4) انظر: "البخاري" (5/204) . (5) انظر: "الفتح" (3/358) . (6) انظر: "القاموس" (4/168) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ابتداء دخولهم اليمن في زمن "أسعد ذي كرب" تبع الأصغر، كما ذكر ذلك ابن إسحاق في السيرة" (1) . والمقصود بالكتاب: الجنس، والمراد: التوراة، والإنجيل. وسمى اليهود، والنصارى: أهل الكتاب، لأن الله تعالى أنزل عليهم التوراة والإنجيل، فيهما أوامر الله، ونواهيه، ليعملوا بهما، وهدى من الله ونور يخرجهم من ظلمات الغي والشهوات، قال الله تعالى: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {3} مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (2) . فتوارثوه جيل عن جيل، ثم إنهم حرفوه، وغيروا فيه وزادوا ونقصوا، فاختلط حقه في باطلهم، ثم نسخه الله تعالى بالقرآن الذي أنزله على خاتم الرسل-صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: "قوله: "إنك تقدم" الخ، كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب علم في الجملة، فلا تكون مخاطبتهم كمخاطبة أهل الجهل من عبدة الأوثان" (3) . ولا يدل على أن كل من يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل أغلبهم من عبدة الأوثان، كما هو معلوم. قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى" اللام للأمر، وإذا اقترنت بالفاء أو الواو فهي ساكنة في الغالب الأكثر. وقوله: "إلى أن يوحدوا الله تعالى" ذكره في الزكاة بلفظ: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله" (4) . وفي رواية" "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله   (1) "فتح الباري" (13/348) . (2) الآيات 3-4 من سورة آل عمران. (3) "الفتح" (3/358) . (4) انظر: "الفتح" (3/261) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فأخبرهم ... " الخ (1) . وفي أخرى: " فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" (2) . وفي رواية لمسلم: "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله-عز وجل- فإذا عرفوا الله فأخبرهم ... "الخ (3) . وهذه الروايات متفقة في المعنى. فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: توحيد الله بالعبادة، والبعد عن عبادة ما سواه، وهذا هو الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، الذي قال الله تعالى فيه" {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (4) . والطاغوت: كل ما عبد من دون الله- كما قال مالك رحمه الله- (5) سواء كان من البشر، أو من الحجر، أو الشجر، أو الحيوان، أو الأضرحة والعتبات. والكفر به: الابتعاد عن عبادته، التي هي طلب البركات منه، أو   (1) المصدر نفسه (ص322) . (2) المصدر السابق، (ص357) ، (8/64) "الفتح". (3) انظر: "مسلم بشرح النووي" (1/199) . (4) الآية 256من سورة البقرة. (5) قال ابن جرير: " الطاغوت: كل ذي طغيان على الله لمن عبده من دونه، إما بقهره لمن عبده أو بطاعة من العباد له، إنساناً كان ذلك المعبود، أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً، أو كائناً ما كان من أي شيء" انظر "تفسير الطبري" (5/419) تحقيق: أحمد ومحمود شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الشفاعات، أو دفع البليات، أو إنالة الحاجات، أو التوجه إليه بالدعاء، ولابد من بغضه وعداوته، وعداوة عابديه ومقاطعتهم، والتبري منهم؛ لقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (1) . والإيمان بالله-تعالى- هو: إفراده بالعبادة، التي تتضمن غاية الحب ومنتهاه مع غاية الذل وأقصاه، والانقياد لأمره والتسليم له. وهذا هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا: الله ورسوله اعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله ... " الخ (2) . وقال-تعالى-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (3) ، أخذ البخاري- رحمه الله- من هذه الآية وجوب العلم قبل العمل، فقال: باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (4) . فالعلم بمعنى هذه الشهادة التي لابد لكل داخل في دين الإسلام أن يشهد بها هو الإيمان المطلوب من العباد، وهو معرفة حق الله على عباده، الذي لا يجوز الإخلال بشيء منه، وإلا استحقوا عذابه. وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فهو: العلم اليقيني بأنه رسول من الله كلفه إبلاغ العباد أوامر الله ونواهيه، وطاعته في كل ما أمر به، واجتناب ما نهاهم عنه، وأن لا يعبد الله إلا بما جاء به، وأن كل من سلك طريقاً غير سنته   (1) الآية 22 من سورة المجادلة. (2) انظر: "الفتح" (1/129) ، و"مسلم بشرح النووي" (1/188) . (3) الآية 19من سورة محمد. (4) انظر: "الفتح" (1/159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فمصيره إلى النار، وأنه بلغ العباد ما أرسل به، وبين لهم دينهم أتم بيان، وأنه عبد الله أكرمه بالرسالة، وليس له من العبادة شيء، بل العبادة كلها لله تعالى. وهاتان الشهادتان متلازمتان، لا تقبل إحداهما دون الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله، ولم يشرك به شيئاً، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، فهو كافر بالله وخالد في النار، وإن جاء بعبادة أهل الأرض. ومن شهد أن محمداً رسول الله، وأشرك بالله شيئاً شركاً كبيراً، فهو كافر خالد في النار، فلا بد من اجتماع هاتين الشهادتين في العبد حتى يكون موحداً. وأما مجرد النطق بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، مع عبادة غير الله، وتعلق القلب بمن يعتقدهم أولياء، وطلب الحاجات منهم التي لا يقدر عليها إلا الله، ومع مخالفة أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وارتكاب ما نهى عنه، فإن ذلك لا يفيد شيئاً، ولا يكون الإنسان به مسلماً. قال النووي- رحمه الله-: "واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء، والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام، اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق مع ذلك بالشهادتين، فإن اقتصر على أحدهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً، بل يخلد في النار، إلا أن يعجز عن النطق لخلل في لسانه" (1) . وهذه الشهادة أيضاً تتضمن الإيمان بأسماء الله وصفاته؛ لأن ذلك من عبادة الله التي تعبد الخلق بها. وهذا الحديث دليل ظاهر على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده، والبعد عن عبادة ما سواه، والإيمان بأسمائه وصفاته، كما جاء في وحيه إلى رسله، هو أول واجب على العباد.   (1) "شرح النووي للبخاري" (ص113) ، ولا بد مع اعتقاد القلب، ونطق اللسان، من العمل مع التمكن، فلابد من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع، وغير ذلك من الواجبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 لا كما يقول أهل الكلام، من المعتزلة، والأشعرية، وغيرهم: إن أول ما يجب على العبد : النظر في الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، أو القصد إلى النظر أو الشك، فهذا الحديث وأمثاله من نصوص الكتاب والسنة يبطل هذا الزعم الخاطيء. "وذلك أن أصل العلم الإلهي ومبدأه، هو الإيمان بالله ورسوله، والاهتداء بوحيه، كما قال - تعالى -: {يُعِيدُ {49} قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (1) . وقال تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} (2) وقال- صلى الله عليه وسلم-: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، إلا بحقها". (3) ولهذا ابتدأ البخاري - رحمه الله تعالى - "صحيحه" ببدء الوحي ونزوله، الذي يحصل به الهدى، والنور، ثم أتبعه بكتاب الإيمان، الذي هو الإقرار بالوحي والانقياد له، ثم اتبعه كتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وفقهه، فهذا هو الترتيب الحقيقي. والمطلع على أقوال أهل الكلام يعجب مما جعلوه أصل الدين الإسلامي، وبنوا عليه أن من لم يعرفه فليس بمسلم.   (1) الآية 50 من سورة سبأ. (2) الآية 52 من سورة الشورى. (3) رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر، "الفتح" (1/75) ، وانظر: "مسلم بشرح النووي" (1/212) ، وروى من حديث جماعة من الصحابة في "الصحيحين" وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قال القرطبي: " لو لم يكن في الكلام إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقاً بالذم. إحداهما: قول بعضهم: إن أول واجب: الشك إذ هو اللازم لوجوب النظر، أو القصد إلى النظر. والثانية: قول جماعة منهم: من لم يعرف الله بالطرق التي رتبها أهل الكلام، لم يصح إيمانه. والقائل بهاتين المسألتين كافر؛ لجعله الشك في الله - تعالى - واجباً، ومعظم المسلمين كفاراً، حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري" (1) . وقال الغزالي: " أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين" (2) . وقوله: " فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم". أي إذا عرفوا توحيد الله، وعملوا به، بأن أخلصوا عبادتهم لله وحده، واجتنبوا عبادة كل معبود سواه، عند ذلك يخبرون بفرائض الإسلام، ويؤمرون بها، وأعظمها - بعد التوحيد - الصلوات الخمس. وفي هذا دليل على أنه لا يجب على العبد من الصلاة غير الخمس المذكورة. ومعلوم أن بعث معاذ إلى اليمن في آخر حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم- كما سبق.   (1) من " الفتح" (13/350) بتصرف. (2) نفس المصدر، (13/349) بتصرف أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 كما فيه: أنه يجب على إمام المسلمين بعث الدعاة إلى توحيد الله تعالى، وتعليم الناس شرائع الإسلام، وأمرهم بالتزامها، وجباية الزكاة، ودفعها إلى مستحقيها، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} الآية (1) . وفيه: أن الإنسان لا يصير مسلما إلا إذا وحد الله -تعالى – بالعبادة، بأن لا يقصد بعبادته غير الله، بل تكون عبادته كلها لله وحده، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله هو: أن يعبد الله بما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بأن الله أوحى إليه أوامره، ونواهيه، وكلفه إبلاغ الثقلين ذلك. وفيه: أن أي تعبد يتعبد به العبد غير معتبر، ولا معتد به بدون التوحيد. وفيه: أن أخذ خيار المال في الزكاة ظلم يجب اجتنابه. وقصد البخاري – رحمه الله – بيان أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قد بين للناس التوحيد بأنواعه، وأنه أول واجب، وأول ما يدعى إليه، فلا حاجة بعد بيانه إلى بيان أحد من الناس، كما تقدم. قال شيخ الإسلام: " وقد علم بالاضطرار من دين الرسول –صلى الله عليه وسلم- واتفقت عليه الأمة، أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان. وإن قال بلسانه دون قلبه، فهو في ظاهر الإسلام، دون باطن الإيمان " (2) والبخاري – رحمه الله – في بدئه كتاب التوحيد بهذا الحديث، يشير إلى الرد على   (1) الآية 60 من سورة التوبة. (2) نقلاً من "تيسير العزيز الحميد" (ص101) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المتكلمين الذين جعلوا عمدتهم، في إثبات ما يثبتون، ونفي ما ينفون: العقل. فهذا الحديث دل على أن أول ما يجب على العبد: عبادة ربه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب ما نهى عنه، وأن المقصود من الدعوة: وصول العباد إلى ما خلقوا به، من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له. ولا سبيل إلى ذلك إلا باتباع الوحي الذي جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- فيجب أن يتبع، وأن يكون هو الأصل المعول عليه في معرفة عبادة الله، والإيمان به، وبرسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والإيمان بأسمائه وصفاته وعبادته بها، خلافاً لطريقة المتكلمين، الذين جعلوا عمدتهم عقولهم في إثبات وجود الله تعالى، بناء على حدوث الكون، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي، ثم إثبات النبوات، ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات. وهذه طريقة المعتزلة، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، غير أن الأشعرية سلكوا هذه الطريقة في الأصول الاعتقادية العلمية، دون العملية. وأما المعتزلة فلم يفرقوا بين العقيدة والعمل في القياس العقلي، حتى إنهم ينظرون إلى القدر المشترك في الأفعال بين الرب والعباد، فما كان حسناً من العباد في نظرهم، فهو عندهم حسن من الله تعالى، وما كان قبيحاً منهم، فهو من الله تعالى قبيح، ولهذا سماهم أهل السنة: مشبهة الأفعال، نفاة الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 3- "حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي حصين، والأشعث بن سليم، سمعا الأسود بن هلال، عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً أتدري ما حقهم عليه؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " أن لا يعذبهم ". جاء بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في التعليم؛ لأن الإنسان إذا سئل عن شيء لا يعلمه، ثم أخبر به بعد الامتحان بالسؤال صار ذلك أدعى لفهمه وحفظه. وهذا من حسن تعليمه، وإرشاده -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الأسلوب ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- كثيراً. يقال: درى يدري دراية: إذا عرف، فالدراية هي المعرفة. و"الحق": كل موجود متحقق، أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق: حق؛ لأن وقوعه متحقق، لا تردد فيه، ولأنه مطابق للواقع، وكذا المستحق على الغير، إذا كان لا تردد فيه، فهو حق. والمراد هنا " ما يستحقه الله تعالى على عباده، مما جعله متحتماً عليهم، وألزمهم إياه بخطابه" (1) . فحقه تعالى على عباده: أن يعبدوه، مخلصين له العبادة، ممتثلين ما أمرهم به وأوجبه عليهم، وأعظمه التوحيد، ومجتنبين ما نهاهم عنه، وحرمه عليهم،   (1) "فتح الباري" (11/339) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وأعظمه الشرك، فإذا فعلوا ذلك، فحقهم عليه أن يغفر لهم، ولا يعذبهم، وأن يدخلهم الجنة، وقد وعدهم ذلك، ووعده حق لا يخلف. قوله: " الله ورسوله أعلم" يؤخذ منه حسن الأدب في التعلم، وأنه لا ينبغي لمن سئل عما لا يعلمه أن يتكلف الجواب بدون يقين، ولكن يكل العلم إلى عالمه. " ذكر يعقوب بن سفيان بإسناده، عن ربيعة قال: قال ابن خلدة: إذا جاءك الرجل يسألك، فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص مما سألك عنه" (1) . قوله: " أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً " المراد بالعبادة: فعل الطاعات، واجتناب المعاصي. والعبادة في اللغة هي: الذل، والخضوع. قال الأزهري: " معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، يقال: طريق معبد، إذا كان مذللاً بكثرة الوطء وبعير معبد إذا كان مطلياً بالقطران" (2) . وقال الجوهري: " أصل العبودية: الخضوع والذلة، والتعبيد: التذليل، والعبادة: الطاعة، والتعبد: النسك" (3) . وأما العبادة الشرعية فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة" (4) .   (1) "تهذيب التهذيب" (7/443) . (2) " تهذيب اللغة" (2/234) . (3) "الصحاح" (2/503) ، هذا متفق عليه كتب اللغة. (4) انظر أول فقرة من رسالة العبودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقيل: هي كمال الحب مع كمال الخضوع؛ لأن الحب الكامل مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب، والانقياد له، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فطاعة العبد لربه تكون بحسب محبته وذله له. وعطف على العبادة عدم الشرك؛ لأن العبادة لا تنفع عند الله ولا تعتبر إلا إذا كانت خالصة من الشرك. والمشركون كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، ولهذا اشترط نفي الشرك. والجملة حالية، والتقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبان: عبادة الله: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح. ولهذا قال في الجواب: " فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعبر بالفعل، ولم يعبر بالقول" (1) . قوله: " أتدري ما حقهم عليه؟ " فسره بقوله: " أن لا يعذبهم". وفي الرواية الأخرى: " أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" (2) ، والتقدير: أن لا يعذب من يعبده، ولا يشرك به شيئاً؛ لأن عدم الشرك مع عدم العبادة لا ينفع، وهذا معلوم من نصوص الشرع. قال الحافظ: " اقتصر على نفي الشرك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، أو هو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمناً   (1) "فتح الباري" (11/339) . (2) انظر: " الفتح" (6/58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بجميع ما يجب الإيمان به" (1) . وحق العباد على الله تعالى هو من فضله وكرمه، وليس استحقاق عوض وجزاء، كما تقول المعتزلة. والناس في هذه المسألة ثلاث فرق: منهم " من يقول: للمخلوق على الله حق يعلم بالعقل. فهم يقيسون الخالق تعالى على المخلوق - كما تقدمت الإشارة إليه -. ومنهم من يقول: لا حق للمخلوق على الله تعالى بحال، ولكن يعلم ما يفعله بعبده بحكم وعده وخبره. وهذا قول أتباع جهم، وبعض من ينتسب إلى السنة. ومنهم من يقول: بل أوجب الله تعالى على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما حرم الظلم على نفسه، ولم يوجب ذلك عليه مخلوق. ولا يقاس بمخلوقاته تعالى، بل هو برحمته، وحكمته، وعدله، كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، كما في الحديث الذي في "صحيح مسلم" وغيره (2) "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا". وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (3) ، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) . فمن قال: ليس للمخلوق على ربه حق، فهو صحيح، إذا أراد أنه ليس   (1) "فتح الباري" (1/228) . (2) انظر: " صحيح مسلم" (4/1994) الحديث رقم (2577) . (3) الآية 54 من سورة الأنعام. (4) الآية 47 من سورة الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 عليه حق بالاعتبار والقياس على خلقه، كما يجب للمخلوق على مثله، وكما يظن جهال العباد أن لهم على الله حقاً بعبادتهم؛ لأن النفوس الجاهلة تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق، من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق (1) ، كمن يطيع سيده ورئيسه فيجلبه له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، ويبقى يتقاضى العوض، والمجازاة على ذلك، ويقول عند الجفاء والإعراض: ألم أفعل كذا؟ يمن عليه بما فعل معه، وإن لم يقله بلسانه، كان ذلك في قلبه، وتخيل مثل هذا في حق الله من جهل الإنسان وظلمه. ولهذا بين الله تعالى أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غني عن الخلق. قال - تعالى -: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (2) وقال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (3) . ومن قال: للمخلوق على الله حق، فهو صحيح، إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته" (4) .   (1) ولهذا نجد الجهال وأنصاف المتعلمين يلهجون إلى الله تعالى بسؤاله بحق فلان وفلان، ويعتقدون أن هذا أقرب إلى حصول مطلوبهم، وهو من جهل الإنسان بربه، وعدم تقديره حق قدره، وأكثر ما يقع الشرك في المسلمين من هذا الباب. (2) الآية 40 من سورة النمل. (3) الآية 46 من سورة فصلت. (4) "مجموع الفتاوى" (1/213) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وهذا القول: هو الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأما القول الأول فهو ضلال بين، حيث لم يفرق قائله بين ما يجب على الخالق - تعالى - وما يجب على المخلوق. "و الفروق بين الخالق والمخلوق لا تخفى إلا على من عميت بصيرته" منها: أن الرب- تعالى - غنى بنفسه عن كل ما سواه، ويمتنع أن يكون محتاجاً إلى غيره، بوجه من الوجوه، وأما الخلق فسادتهم وملوكهم ومن دونهم محتاجون إلى غيرهم، حاجة ضرورية. ومنها: أن الرب - تعالى - وإن كان يحب الأعمال الصالحة، ويفرح بتوبة التائبين، فهو الذي يخلق ذلك، وييسره، فلا يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته، والمخلوق كثيراً ما يحصل له ما يحبه بغير فعله بل بفعل غيره. ومنها: أن الرب- تعالى - أمر العباد بما يصلحهم، ونهاهم عما يفسدهم. قال قتادة: " إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم، بل أمر بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم" بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه هو، وينهاه بخلاً عليه. ومنها: أنه - سبحانه - هو المنعم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو المنعم بإيجاد القدرة والحواس، وغير ذلك مما يحصل به العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، والمخلوق لا يقدر على شيء من ذلك. ومنها: أن نعمه - تعالى - على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء لنعمه لم نقم بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمه؟ ومنها: أن العباد لا يزالون مقصرين في حقه، محتاجين إلى عفوه، ومغفرته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فلن يدخل أحد الجنة بعمله (1) ، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة ربه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} (2) . فمن ظن أنه قائم بما يجب عليه، وأنه غير محتاج إلى مغفرة ربه وعفوه وهدايته وتوفيقه، فهو ضال" (3) . والمقصود من الحديث هنا: بيان أن حق الله على عباده هو عبادته – تعالى – الخالصة من الشرك، وهي: طاعته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، فلا يخالف ما جاء عن الله، أو جاء عن رسوله، لغرض أو منفعة عاجلة أو آجلة، وغير ذلك. ومن ذلك – يعني حق الله على عباده-: اتباع ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا إلحاد فيه، ولهذا ترجم على هذا الحديث في كتاب الرقاق بقوله: باب من جاهد نفسه في طاعة الله. ومراده: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد بين ما يجب لله على عباده من عبادته باتباع أمره، واجتناب نهيه، وعبادته بأسمائه وصفاته، وتنزيهه عن مشابهة المخلوق، وما يستحقه من فعل ذلك.   (1) في" صحيح مسلم" عن جابر، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار، ولا أنا، إلا برحمة من الله" (4/2171) رقم الحديث (2817) . وأخرجه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" من حديث أبي هريرة وعائشة. انظر: "الفتح" (11/294) . (2) الآية 45 من سورة فاطر. (3) "مجموع الفتاوى" (1/216) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 4- "حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: " أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فذكر له ذلك، وكأن الرجل يتقالها، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن ". زاد إسماعيل بن جعفر، عن مالك، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيد: أخبرني أخي قتادة بن النعمان، عن النبي –صلى الله عليه وسلم-. أبو سعيد الخدري هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن الأبجر –وهو خدرة- الذي ينسب إليه، أنصاري خزرجي، بايع تحت الشجرة، وغزا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- غزوات عدة، وكان أبوه من شهداء أحد. وأبو سعيد من علماء الصحابة وفقهائهم، والمكثرين الحديث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. توفي رضي الله عنه سنة أربع وسبعين (1) . قوله: " أن رجلاً سمع رجلاً" السامع هو أبو سعيد راوي الحديث، والقاريء هو قتادة، كما بينه البخاري بقوله: "زاد إسماعيل" الخ. وقد جاء مصرحاً به في مسند أحمد، ولفظه: "بات قتادة بن النعمان يقرأ من الليل كله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فذكر ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم-، فقال- صلى الله عليه وسلم-: " والذي نفسي بيده: لتعدل نصف القرآن أو ثلثه" (2) .   (1) "الإصابة" (3/78) ، "أسد الغابة" (2/365) . (2) "المسند" (3/15) ، وانظر: "الفتح الرباني" (18/346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 "وقتادة هو أخو أبي سعيد لأمه، وكانا متجاورين في السكن" (1) قوله: " وكأن الرجل يتقالها" بتشديد اللام، أي: يعدها قليلة بالنسبة إلى غيرها من سور القرآن "يقال": تقلل الشيء واستقله وقاله: إذا رآه قليلاً. والمراد أنه رآها قليلة في العمل، لا أنه عدها ناقصة" (2) . قوله: " والذي نفسي بيده" كان-صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يحلف بهذه الصيغة، وقد ذكر البخاري- رحمه الله – في الأيمان والنذور في باب: كيف كانت يمين النبي-صلى الله عليه وسلم- عدة أحاديث بهذا اللفظ. وقد روى الطبراني، وابن ماجة، عن رفاعة بن عرابة: " كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا حلف قال: والذي نفسي بيده". وروى ابن أبي شيبة، عن أبي سعيد: كان النبي-صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد في اليمين قال: " لا والذي نفس أبي القاسم بيده". ورواه ابن ماجه من وجه آخر، بلفظ: "كانت يمين رسول الله التي يحلف بها – أشهد عند الله- والذي نفسي بيده" (3) . قلت: وحديث أبي سعيد رواه أبو داود في "السنن" (4) . فقوله: " والذي نفسي بيده" أي روحي، وحياتي وموتي، يتصرف في كيف يشاء. وسيأتي، إن شاء الله تعالى – الكلام على صفة اليد، وأنها من صفات الله الثابتة قطعاً، وأنها يد حقيقية تليق بعظمة الرب وقدره، تعالى وتقدس عن مشابهة الخلق، وعن الظنون السيئة التي أوجبت لأصحابها تعطيل الله- تعالى- عن   (1) "فتح الباري" (9/61) . (2) "المنهل العذب المورود" (8/113) . (3) "فتح الباري" (11/526) . (4) انظر: الحديث رقم (3264) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 صفاته، ودعتهم إلى الإلحاد في أسمائه وصفاته. قوله: " إنها لتعدل ثلث القرآن " عدل الشيء بفتح العين: ما عادله من غير جنسه، والعدل بكسر العين: المثل، تقول: عندي عدل شاتك، أو عدل مالك، إذا كان عندك شاة مثل شاة من تخاطبه، ومال مثل ماله، فإن أردت ما يعادل ذلك من غير جنسه فتحت العين، ذكر ذلك بعض أهل اللغة. (1) ومعنى كونها تعدل ثلث القرآن: أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منه الأحكام وبيان الحلال من الحرام. وثلث منه الوعد والوعيد، والجزاء، وما وقع بمن كذب الله ورسله، وما سيقع بهم في الآخرة، وكذا من أطاعه. وثلث منه في أسماء الله تعالى وصفاته. وهذه السورة خالصة في الأسماء والصفات، قاله أبو العباس ابن سريج، وغيره من السلف. واعتراض ابن عبد البر على هذا: بأن في القرآن آيات كثيرة اشتملت على أكثر مما في هذه السورة من التوحيد، كآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وأول سورة الحديد، قد أجاب عنه القرطبي في شرحه لمسلم: بأن سورة الإخلاص قد اشتملت على اسمين من أسماء الله متضمنين جميع أوصاف الكمال، ولم يوجدا في غيرها من السور، وهما "الأحد" و"الصمد". " والقرآن باعتبار معانيه ثلاثة أقسام: توحيد، وقصص، وأمر ونهي، وكله كلام الله تعالى، والكلام إما إنشاء، وإما إخبار. فالإنشاء: هو الأمر والنهي، وما يتبع ذلك كالإباحة. والإخبار: أما عن الخالق - تعالى -، أو عن المخلوق، فالإخبار عن الخالق   (1) انظر: " ترتيب اللسان" (3/707) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 هو التوحيد وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته. والإخبار عن المخلوق، هو القصص، وهو الخبر عما كان، وما يكون. و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} هي صفة الرحمن خالصة لذلك، وبهذا الاعتبار عدلت ثلث القرآن؛ لما فيها من التوحيد، الذي هو ثلث معاني القرآن، وليس معنى ذلك أنه يكتفي بها عن سائر القرآن، بمعنى أن من قرأها ثلاثاً كفاه عن قراءة القرآن؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " إنها تعدل ثلث القرآن ". وقد تقدم أن عدل الشيء- بالفتح- يطلق على ما ليس من جنسه، كما قال تعالى: {أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} فجعل الصيام عدل الكفارة، وهما جنسان. فثواب قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإن كان يعدل ثواب قراءة ثلث القرآن في القدر، فلايلزم أن يكون مثله في النوع والصفة؛ لأنها لا تغني عما اشتمل عليه القرآن من الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وسائر ما يحتاج إليه العباد. فالناس محتاجون إلى جميع القرآن، ومنتفعون به لا تغني عنها سورة الإخلاص، وإن كانت تعدل ثلث القرآن " (1) . وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على تفاضل كلام الله – تعالى -، وصافته، وهو المأثور عن السلف، وعليه أئمة الفقهاء وغيرهم، ونصوص الكتاب والسنة تؤيد ذلك. قال الله – تعالى –: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) فأخبر- تعالى – أنه يأتي بخير منها أو مثلها، فدل على أن الآيات تتماثل مرة، وتتفاضل أخرى، والتوراة، والإنجيل والقران كلها كلام الله – تعالى – وقد أجمع   (1) "مجموع الفتاوى" (17/207-208) بتصرف. (2) الآية 106 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المسلمون على أن القرآن أفضلها، كما قال - تعالى - {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (1) أي هو المؤتمن، والشاهد، والحاكم، على ما سبقه من الكتب. وأما الأحاديث فكثيرة، من جملتها هذا الحديث، ومن تأمل كلام السلف، ومن سار على نهجهم، علم أن هذا من الأمور المستقرة في نفوسهم، ولم يعرف من السلف من قال: لا يكون كلام الله بعضه أشرف من بعض؛ لأنه كله من صفات الله، وإنما حدث ذلك لما ظهرت البدع من المعتزلة، والجهمية، ومن سلك طريقهم، الذين اختلفوا في القرآن، وجعلوه عضين. وتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه - سواء كان خبراً أو إنشاء - أمر معلوم بالفطرة، والشرع، فليس الخبر المتضمن حمد الله والثناء عليه بأسمائه الحسنى، كالخبر المتضمن لذكر إبليس، وفرعون وأبى لهب، ونحوهم، وإن كان الكل كلاماً عظيماً تكلم الله به. وكذلك ليس الأمر بالتوحيد، والإيمان بالله ورسله، والنهي عن الشرك وقتل النفس بغير حق، والزنا، وغير ذلك مما أمرت به الشرائع كلها، أو حرمته، كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، أو الأمر بالإنفاق على الحامل، والنهي عن قول: "راعنا" وإن كان لكل واجباً. وليس تفاضل الكلام باعتبار نسبته إلى المتكلم به، فإنه سبحانه واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه. قال شيخ الإسلام: " الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم به، ونسبة إلى المتكلم فيه، فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضاً، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كلاهما كلام الله - تعالى -، وهما مشتركان من هذه   (1) الآية 48 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الجهة، ولكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه، المخبر عنه، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} كلام الله وخبره الذي يخبر عن نفسه، وصفته التي يصف بها نفسه، وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه. و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} كلام الله الذي يتكلم به عن بعض خلقه، ويصف به حاله، فهما من هذه الجهة متفاضلان" (1) . ولا يلزم من كثرة الحروف أفضلية ذلك، كما توهمه بعض العلماء؛ لأن الفضل يتبع تفاضل المعاني. فحروف الفاتحة لقارئها بكل حرف حسنة أعظم من حسنات {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فلا يلزم من مماثلة الشيء مساواته في الفضل، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- "أنه لو أنفق من جاء بعد السابقين مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحد السابقين إلى الإسلام، ولا نصيفه" (2) . قال شيخ الإسلام: " فإذا قرأ الإنسان {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حصل له من الثواب بقدر ثلث القرآن، لكن لا يلزم أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل بقراءة ثلث القرآن؛ لأن الإنسان يحتاج إلى ما يحصل له من ثواب الأمر والنهي والقصص، وغير ذلك، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا تسد مسد ذلك، ولا تقوم مقامه، مع أن فضل القراءة والذكر والدعاء وغير ذلك، يختلف باختلاف حال الإنسان، فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور قلب، أفضل من الصلاة بدون ذلك، فإذا كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يعدل   (1) " مجموع الفتاوى" (17/57) . (2) رواه البخاري في "فضائل الصحابة" ولفظه: " لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" انظر: " الفتح" (7/21) ، ورواه مسلم في "الفضائل" (4/1967) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ثوابها ثواب ثلث القرآن، فلا بد من اعتبار التماثل في سائر الصفات، وإلا فقراءة غيرها مع التدبر والخشوع أفضل من قراءتها مع الغفلة والجهل. والناس متفاضلون في فهم هذه السورة، وما اشتملت عليه، كما هم متفاضلون في فهم سائر القرآن" (1) . وهذا الحديث يدل أيضاً على تعدد صفات الرب تعالى، وتفاضلها؛ لأن القرآن كله، وكلامه من صفاته. والتفاضل إنما يقع بين شيئين فصاعداً، إذ الواحد لا يعقل فيه شيء أفضل من شيء، وقد دلت النصوص الكثيرة على تعدد أسمائه تعالى وصفاته، وأن لها معاني متعددة، وهذا المعنى هو الذي قصده البخاري بهذا الحديث، فيما ظهر لي، ولا شك أن فضل هذه السورة لما اشتملت عليه من أوصاف الله تعالى، ولهذا أعقب ذلك بأن ترجم بقوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) . وقال الحافظ: " مراده ما فيه من التصريح بلفظ الأحدية في وصفه تعالى، كما في الذي بعده" (3) . وقول ابن بطال: " ومذهب الأشعري، وأبي بكر بن الطيب الباقلاني، وابن أبي زيد، والداودي، وأبى الحسن القابسي، وجماعة علماء السنة: أن القرآن لا يفضل بعضه بعضاً، إذ كله كلام الله وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا في المخلوقات ". ومثله قول ابن الدراج: "أجمع أهل السنة على أن ما ورد مما ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره، ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض، إذ هو   (1) " مجموع الفتاوى" (17/138-140) بتلخيص وتصرف. (2) الآية 110 من سورة الإسراء. (3) "الفتح" (13/355) بالمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 كله كلام الله، وصفة من صفاته" (1) . فهذا النقل عمن ذكرهم، والزعم بأن هذا مجمع عليه من أهل السنة هو بحسب ظن هؤلاء- يعني ابن بطال ومن يقول ذلك - لأنهم ظنوا: أن هذا القول الذي هو عدم المفاضلة لازم لمن يقول: إن القرآن كلام الله، فهو من صفاته، والتفاضل لا يكون إلا في المخلوقات، والقرآن عندهم غير مخلوق. وهو ظن خطأ، فلم ينقل عن أحد من السلف أنه نفى المفاضلة بين آيات القرآن وسوره، ونحن نطالب مدعي الإجماع على نفي ذلك بالدليل، ولن يجد ذلك، والنصوص من الكتاب والسنة تبطل هذه الدعوى كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وابن بطال -عفا الله عنا وعنه- كثيراً ما يدعي الإجماع على مسائل، الحق خلافها، كما ستأتي الإشارة إلى بعضها، إن شاء الله تعالى.   (1) انظر"مجموع الفتاوى" (17/73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 5- "حدثنا محمد، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، حدثنا عمرو، عن ابن أبي هلال، أن أبا الرجال محمد بن عبد الرحمن حدثه، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن- وكانت في حجر عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم - عن عائشة: " أن النبي -صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ " فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم - "أخبروه أن الله يحبه". عائشة بنت أبي بكر الصديق، وزوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وحبيبته، كانت فقيهة ربانية، وعالمة بأشعار العرب وأنسابهم، وأيامهم. أكثرت عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم - الرواية، فلذلك صارت مرجعاً للصحابة في كثير من أمور الدين، فهي من حفاظ الصحابة وعلمائهم. روى عنها خلق كثير من الصحابة والتابعين. ولدت-رضي الله عنها- سنة أربع من البعثة النبوية، وتزجها رسول الله-صلى الله عليه وسلم - بعد موت خديجة-رضي الله عنها- بثلاث سنوات، ودخل بها في المدينة، وهي أبنة تسع سنوات، وتوفي عنها ولها من العمر ثماني عشرة سنة، ومات-صلى الله عليه وسلم - وهي حاضنته على صدرها. مناقبها كثيرة، توفيت في المدينة سنة سبع-أو ست- وخمسين، وقيل: ثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة، ودفنت في البقيع، -رضي الله عنها- (1) . قوله: "بعث رجلاً على سرية" هذا غير الرجل المتقدم ذكره في باب الجمع بين السورتين في ركعة واحدة؛ للفروق الواضحة بين القصتين. والسرية قطعة من الجيش، يقال: خير السرايا أربعمائة رجل، وفي "اللسان" "ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة، سميت سرية؛ لأنها تسري ليلاً في خفية؛ لئلا ينذر بهم فيحذر الأعداء ويمتنعوا" (2) . قوله: "فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال ابن دقيق العيد: يدل على أنه كان يقرأ بغيرها، والظاهر أنه كان يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مع غيرها في ركعة واحدة، ويختم بها في تلك الركعة، وإن كان اللفظ يحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة" (3) . وقوله: " لأنها صفة الرحمن" قال ابن دقيق العيد: "يحتمل أن يراد: أن فيها ذكر صفة الرحمن، كما إذا ذكر وصف، فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف، وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك، إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولعلها خصت بذلك لاختصاصها بصفات الرب-تعالى- دون غيرها" (4) . قلت: يريد بيان قول الصحابي لها بما ذكر، أنها خالصة لذكر وصف الرحمن تعال وتقدس.   (1) انظر: "الحلة" (2/43) ، "أسد الغابة" (7/188) ، "الاستيعاب" (4/1881) ، "الإصابة" (4/359) ، "سير أعلام النبلاء" (2/135) . (2) "ترتيب اللسان" (2/141) . (3) "شرح العمدة" (1/246) . (4) المصدر نفسه (1/247) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وقوله: إلا أنه لا يختص ذلك بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . يعني أن أوصاف الرحمن-تعالى- موجودة في آيات كثيرة من القرآن. وهذه السورة وسائر سور القرآن هي صفة الرحمن؛ لأنها كلامه، وكلامه من صفاته، ولكن تميزت هذه السورة بأنها خالصة لذكر أوصاف الرحمن-تعالى- وهذ هو المتبادر إلى الفهم من مراد الصحابي-رضي الله عنه- أي أنها خالصة لوصف الرحمن-تعالى- دون غيره. "قال ابن التين: إنما قال: لأنها صفة الرحمن؛ لأن فيها أسماؤه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن الصحابي قال ذلك مستنداً إلى شيء سمعه من النبي-صلى الله عليه وسلم - إما بالنص، أو بالاستنباط. وروى البيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أن اليهود أتوا النبي-صلى الله عليه وسلم - فقالوا: صف لنا ربك؟ فأنزل الله-عز وجل- {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخرها، فقال: "هذه صفة ربي-عز وجل-" (1) وفي الحديث حجة لمن أثبت أن لله صفات، وهو قول الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: " هذه لفظة اصطلح عليها أهل الكلام، من المعتزلة، ومن تبعهم، ولم يثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه، فإن اعترضوا بحديث الباب، فهو من أفراد سعيد بن أبي هلال، وفيه ضعف، وعلى تقدير صحته فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} صفة الرحمن، كما في هذا الحديث، ولا يزاد عليه، بخلاف الصفة التي يطلقونها، فإنها في لغة العرب لا تطلق إلا على جوهر، أو عرض" (2) . وسعيد متفق على الاحتجاج به، فلا يلتفت إلى تضعيفه،   (1) انظر" الأسماء والصفات" للبيهقي (ص279) ، وفيه تسمية بعضهم، وقد ذكر عدة أحاديث بمعناه. (2) انظر: "الفصل" (2/284) ، وقد أطال الكلام على هذا المعنى، واحتج بأشياء لا تدل على مراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وكلامه الأخير مردود، باتفاق الجميع على إثبات الأسماء الحسنى، قال الله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ، وقال تعالى: {لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) ، والأسماء المذكورة فيها صفات، ففي إثبات أسمائه إثبات صفاته" (3) . قلت: كلام ابن حزم - رحمه الله - باطل، ولا حجة له فيما ذكر، لأن الصفة: مصدر وصفت الشيء أصفه وصفاً، وصفة، مثل: وعد، وعداً، وعدة. فإذا قيل: إن الله بكل شيء عليم، وهو رحمن رحيم، وعلى كل شيء قدير، فالمعاني القائمة بالرب - تعالى - التي دل عليها هذا الكلام، من العلم، والرحمة والقدرة، هي الصفات المقصودة، وإنكار ذلك مكابرة، أو عناد وضلال، وإلحاد. وقد دلت نصوص كتاب الله -تعالى - وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والفطرة والعقل على ذلك، قال الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (4) . وقال - تعالى -: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (5) ، وقال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (6) . وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (7) . وقال - تعالى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (8) .   (1) الآية 180 من سورة الأعراف. (2) الآية 8 من سورة طه. (3) "فتح الباري" (13/356-357) . (4) الآية 255 من سورة البقرة. (5) الآية 166 من سورة النساء. (6) الآية 58 من سورة الذاريات. (7) الآية 8 من سورة المنافقون. (8) الآية 7 من سورة غافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وفي الحديث الصحيح: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك" (1) . وفي حديث عمار بن ياسر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق" (2) . وفي "صحيح البخاري" في قصة أيوب: " قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن بركتك" (3) . وقال البخاري: " باب الحلف بعزة الله وصفاته، وكلماته"، وقال ابن عباس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: أعوذ بعزتك، وقال أبو هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " يبقى رجل بين الجنة والنار، فيقول: يارب، اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسألك غيرها. ثم ذكر حديث أنس: " لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزتك". (4) وفي هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه: " لأنها صفة الرحمن". وقال الله - تعالى -: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (5) وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته. فثبت بهذه النصوص، وغيرها كثير، أن لله صفات، وأن كل اسم تسمى الله به يدل على الصفة؛ لأن الأسماء مشتقة من الصفات. وبهذا يتبين بطلان قول المعتزلة، الذين ينفون أن يكون لله علم وقدرة ومشيئة، ويجعلون هذه الصفة هي الأخرى، أو الصفة هي الموصوف، كما يتبين   (1) هو حديث جابر، انظر "البخاري" (2/50) وسنن " أبي داود" رقم (1538) ، والترمذي رقم (480) ، وسيأتي. (2) انظر: " سنن النسائي" (3/54، 55) في السهو في باب نوع آخر من الدعاء. (3) "صحيح البخاري" كتاب التهجد، باب (20) ، (1/54) وفي مواضع أخرى، وسيأتي. (4) "الصحيح"، كتاب الأيمان والنذور، باب (12) ، (8/114) ، وسيأتي ذلك. (5) الآية 180 من سورة الصافات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بهذا أيضا ً الفرق بين الأسماء والصفات. 1- فالأسماء تدل على الذات، والصفات تدل على معان قائمة بالذات، وهذه المعاني القائمة بالذات هي الصفات. 2- وتقدم أن الأسماء مشتقة من الصفات. وقوله: " أخبروه أن الله يحبه" قد يكون سبب محبة الله له: محبته لهذه السورة، أو لمحبته ذكر صفات الرب - عز وجل -، وحسن فهمه وعقيدته. في ذلك، أو لمجموع الأمرين، وهو الأولى. وفيه ثبوت محبة الله - تعالى - لأهل طاعته من عباده، والأدلة عليه كثيرة جداً، فلذلك صار إنكاره ضلالاً بيناً. قال المازري، ومن تبعه: محبة الله لعباده: إرادته ثوابهم، وتنعيمهم. وقيل: هي نفس الإثابة، والتنعيم. ومحبتهم له، لا يبعد فيها الميل منهم إليه، وهو مقدس عن الميل. وقيل: محبتهم له: استقامتهم على طاعته. والتحقيق: أن الاستقامة ثمرة المحبة. وحقيقة المحبة له: ميلهم إليه؛ لاستحقاقه سبحانه المحبة من جميع الوجوه. قال الحافظ: " وفيه نظر، لما فيه من الإطلاق في موضع التقييد" (1) . ومقصده من الإطلاق، قوله: " لاستحقاقه- سبحانه - المحبة من جميع الوجوه" لأنه قد يدخل فيه الحب المتضمن للشهوة، ونحو ذلك.   (1) "الفتح" (13/357) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقول المازري: إن محبة الله لعباده: إرادته ثوابهم، وتنعيمهم، أو هي نفس الثواب والنعيم، ظاهر البطلان، والنصوص فيه لا تقبل هذا التأويل؛ لكثرتها، وتواطئها على أن الحب فيها هو ما يفهمه المخاطب الذي لم تفسد فطرته بالعقائد المنحرفة عن الحق. وهذه طريقة أهل التأويل في صفات الله - تعالى - المستلزمة للثواب أو العقاب؛ إما أن يجعلوها إرادة الثواب أو العقاب، أو هي نفس الثواب والعقاب. ومعلوم أن الثواب والعقاب ونحوهما مخلوق. والإرادة التي يرجعون المحبة والرحمة ونحوهما من صفات الله -تعالى- إليها، يلزمهم فيها نظير ما فروا منه في المحبة والرحمة، حيث قالوا: إن المحبة هي: الميل إلى المحبوب، فيقال: والإرادة هي: ميل المريد إلى ما يوافقه في إرادته. وأما تفسيرها بالثواب والعقاب، فيلزم منه أن تكون صفته -تعالى- مخلوقة، ثم نقول: لسنا بحاجة إلى مثل هذا التأويل السخيف البارد؛ لأن الله - تعالى- ليس كمثله شيء في صفاته، كما أنه لا مثل له في ذاته. ومحبته - تبارك وتعالى - لعبده المؤمن شيء فوق إنعامه، وإحسانه، وعطائه، وإثابته، فإن هذا أثر المحبة وموجبها، أما هي فأعظم من ذلك، وهي التي يتسابق إليها أنبياؤه وملائكته وأولياؤه، وعباده الصالحون، وكم في كتاب الله وسنة رسوله - من نص صريح بأنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، كقوله - تعالى - {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) ، وقوله -تعالى- {اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2) ، {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى   (1) الآية 31 من سورة آل عمران. (2) الآية 222 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (1) ، {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (3) ، والآيات في هذا كثيرة. وأما الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي تنص على أن الله يحب عباده المؤمنين فإحصاؤها عسير، كقوله - صلى الله عليه وسلم-: " لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله" (4) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي" (5) . وأما محبة العباد لربهم فعجيب إنكارها، إذ هي من الضروريات الثابتة بالشرع، والعقل، والفطرة، وإنكارها إنكار للواقع المحسوس. كما أن تأويل المحرفين بأنها الاستقامة على الطاعة، كما ذكره المازري، أو أنها إرادتهم أن ينفعهم، كما نقله الحافظ عن ابن التين (6) ، مخالف للشرع، والعقل، والواقع المحسوس، بل قد يؤول ذلك إلى إنكار أصل دين الإسلام؛ لأن مبنى دين الإسلام على شهادة لا إله إلا الله. ومعنى الإله: المحبوب الذي تألهه القلوب، وتحبه، وتعظمه، وتجله، وتقصده بالإنابة والخضوع والذل، والافتقار إليه، والخوف منه، ورجائه. فمن أنكر ميل القلوب إليه تعالى بالحب والتأله، فقد أنكر حقيقة الإسلام، وهل الشرك- الذي حرمت الجنة على صاحبه - إلا أن يجعل للمخلوق   (1) الآية 76 من سورة آل عمران. (2) الآية 134، 148، من سورة آل عمران، والآية 93 من سورة المائدة. (3) الآية 159 من سورة آل عمران. (4) رواه صاحبا "الصحيحين"، انظر: "الفتح" (6/111) وأماكن أخرى، و "مسلم" (4/1871، 1872) . (5) رواه مسلم في "الزهد" (4/2277) رقم (2965) . (6) انظر: " الفتح" (13/357) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 نصيباً مع الله -تعالى- في هذا الحب؟ كما قال -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} (1) . فبين - تعالى- أن الذي يحب المخلوق كحب الله أنه مشرك قد اتخذ لله نداً، وأخبر - تعالى- عن هؤلاء أنهم سيقولون لأندادهم وهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) ، ولا يجوز أن تكون تسويتهم لهم برب العالمين إلا في الحب؛ لأنه لا يمكن أن يقول عاقل إن أحداً من الخلق يساوي الله -تعالى- في الفعل والتصرف. وقول ابن التين الذي نقله الحافظ: " إن معنى محبة المخلوقين لله: إرادتهم أن ينفعهم" (3) من أبطل الكلام المخالف للواقع وللشرع والعقل ولولا أن هذا مسجل في الكتب المتداولة بين المسلمين، لم يجز ذكره، وهل يوجد أحد من الخلق لا يريد أن ينفعه الله، حتى إبليس، ومن دونه من دعائم الكفر والإلحاد، من الأولين والآخرين؟ بل كلهم يريد أن ينفعهم الله، فهل يقال: إنهم يحبون الله المحبة المأمور بها شرعاً؟ ولا شك أن مثل هذا القول نتيجة نقص العلم بكلام الله وكلام رسوله، ونقص الإيمان بذلك. "وإلا فإن من تيقن أن الله أصدق القائلين، وأن قوله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأن قوله الفصل، ليس بالهزل، وأنه الهدى، والنور، والشفاء لما في الصدور من الجهل والشكوك، وأنه -تعالى- أعلم بنفسه وبغيره من خلقه. وعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في النطق   (1) الآية 165 من سورة البقرة. (2) الآية 97-98 من سورة الشعراء. (3) "الفتح" (13/357) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والبيان، وأنه أنصح الخلق للخلق- من علم ذلك تيقن أنه قد اجتمع له كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة، يجب وجود المطلوب على أكمل وجه. فيجب أن يعلم أن كلام الله ورسوله، أبلغ ما يمكن، وأتم ما يكون وأعظمه بياناً لأمور الدين، من حقوق الله وأسمائه، وصفاته، وغير ذلك. فمن وقر هذا في قلبه لم يجرؤ على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرها العاقل المنصف، وجدها أبعد شيء عن كتاب الله، وعن صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص في علمه، وإيمانه بكلام الله، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- (1) . وقد علم المؤمنون أن محبة العباد لربهم هي حياة القلوب، ونعيم الروح، بل هي أعلى نعيم في الدنيا والآخرة، وهي فوق كل محبة تفترض، ولا نسبة لسائر المحاب إليها، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وبتمامها وكمالها تتفاوت منازل العباد عند الله في الدنيا والآخرة، وقد جاء في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أحبوا الله من كل قلوبكم" (2) . يعني: لا يبقى في القلب موضع لغير محبة الله تعالى. وفي "الصحيحين": مرفوعاً: "ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار" (3) . وأصل التأله: التعبد، والتعبد هو آخر مراتب الحب، يقال: عبده   (1) "مجموع الفتاوى" (17/129) بتصرف وزيادة. (2) رواه ابن إسحاق في "السيرة" مختصرها لابن هشام (2/147) . (3) انظر: " الفتح" (1/72) ، (10/463) و "مسلم" (1/66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الحب وتيمه: إذا ملكه، وذلله لمحبوبه. فالمحبة هي حقيقة العبودية، ولا يمكن وجود العبادة التي يريدها الله ويأمر بها عباده بدونها أبداً، بل لا يوجد أي نوع من أنواع العبادة المطلوبة شرعاً بدونها، مثل الإنابة، والخشية، والخوف، والرجاء، والحمد، والشكر، والصبر، والدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، وغير ذلك من أنواع العبادة، فمنكر المحبة في الحقيقة منكر لجميع مقامات الإيمان والإحسان، وهؤلاء المحرفون مثل هذا النص في المحبة، يغالطون أنفسهم. وهذا الحديث يدل على حسن فهم الصحابة لمعاني القرآن، حيث قالوا عن سورة الصمد: أنها صفة الرحمن، ووجه ذلك: أن هذه السورة تضمنت أنواع التزيه لله - تعالى- والتحميد، ونفي النقائص كلها، وإثبات الكمال جميعه، ولهذا عدلت ثلث القرآن - كما تقدمت الاشارة إليه. (الكلام على معنى أحد وصمد) فالصمدية تثبت الكمال المنافي لكل نقص وعيب، والأحدية تثبت الانفراد بذلك الكمال، فهي تدل على أنه - تعالى- أحد، ليس من جنس شيء من المخلوقات، " وأنه صمد ليس من مادة، بل هو صمد لم يلد ولم يولد، وإذا نفى عنه أن يكون مولوداً من مادة الوالد؛ فلأن ينفي عنه أن يكون من سائر المواد أولى وأحرى، فإن المولود من نظير مادته أكمل من المولود من مادة أخرى " (1) . وقال شيخ الإسلام: " وقد فسر السلف الصمد بأنه: الذي لا جوف له، كما فسروه: بأنه السيد الذي يصمه إليه في الحوائج؛ والأول قول أكثر السلف، من الصحابة والتابعين وطوائف من أهل اللغة، والثاني: قول جمهور أهل اللغة، وطوائف من السلف والخلف.   (1) "مجموع الفتاوى" (17/452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قال الجوهري: صمده يصمده صمداً إذا قصده، والصمد بالتحريك: السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج (1) . وقوله – تعالى -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) أدخل اللام في "الصَّمَد" ولم يدخلها في "أحد" لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف إلا الله –تعالى-، بخلاف النفي وما في معناه، كالشرط، والاستفهام. قال أهل اللغة: تقول: لا أحد في الدار، ولا تقول: فيها أحد. وأما "الصَّمَد" فأدخل عليه الألف واللام، ليبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال. فالمخلوق وإن كان قد يطلق عليه بأنه صمد، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التجزئة، وهو محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوى الله فقير محتاج إلى الله، وليس أحد يصمد كل شيء إليه (3) وهو لا يصمد إلى شيء إلا الله –تعالى-. وليس في المخلوقات شيء إلا ويقبل التجزئة، ويتفرق، وينفصل بعضه من بعض؛ والله سبحانه هو الصمد، الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة ولازمة، لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه؛ فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه" (4) . فقوله –تعالى-: " أحد" مع قوله: " لم يكن له كفوا أحد" ينفي المماثلة، والمشاركة.   (1) انظر: " الصحاح" (2/499) وتمامه: " قال: علوته بحسام ثم قلت له: ... خذها حذيف فأنت السيد الصمد وبيت مصمد –بالتشديد – أي: مقصود ". (2) الآيتان 1-2 من سورة الإخلاص. (3) الصمود هنا هو: الطلب والقصد والتوجه إلى المصمود إليه بالحاجة. (4) "مجموع الفتاوى" (17/237) ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقوله –تعالى-: "الصمد" يتضمن إثبات جميع صفات الكمال، فالنقائص منتفية عن الله- تعالى-، وكل ما يختص له المخلوق فهو من النقائص التي تنزه ربنا عنها – جلا وعلا-. وأما ما يوصف به العبد من بعض الكمالات، مثل العلم، والقدرة، والرحمة، ونحو ذلك، فالذي يثبت لله –تعالى- من هذه المعاني يكون على وجه لا يقاربه فيه أحد من الخلق، فضلاً عن أن يماثله فيه. وقد ثبت أن ما خلقه الله في الجنة من المآكل وغيرها، لا يماثل ما خلقه في الدنيا، وإن اتفقا في الاسم، مع أن كليهما مخلوق، فالخالق- تعالى وتقدس-، أبعد عن مماثلة المخلوقات. والمعنى الصحيح الذي هو نفي المثل، والشريك، والند، قد دل عليه قوله- سبحانه-: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (1) ، وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) . وقوله-تعالى-: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (3) ، وأمثال ذلك، فالمعاني الصحيحة لصفات الله نفياً وإثباتاً، ثابتة بالكتاب والسنة، والعقل يدل على ذلك. وقول بعض أهل الكلام: الأحد، والصمد، هو الذي لا ينقسم، ولا يتفرق، أو ليس بمركب، ونحو ذلك من العبارات، إن عني بها أنه لا يقبل التفرق والانقسام فهو حق، وإن عني بها أنه لا يشار إليه بحال، فهذا يمتنع وجوده، وإنما يقدر وجوده في الذهن تقديراً. وقد علمنا أن العرب حين أطلقوا لفظ الواحد والأحد، نفياً وإثباتاً، لم يريدوا هذا المعنى. ولهذا لما قالوا الذين جادلوا الإمام أحمد، في نفي الصفات-مستدلين باسم الواحد-: لا تكونون موحدين أبداً حتى تقولوا: كان الله ولا شيء.   (1) الآية 4 من سورة الإخلاص. (2) الآية 1 من سورة الإخلاص. (3) الآية 65 من سورة مريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال أحمد: "قلنا: نحن نقول: كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلهاً واحداً؟ وضربنا لهم في ذلك مثلاً، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمار؟ واسمها شيء واحد؟ سميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله-وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد. ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه قدرة، أو كان ولا علم له، حتى خلق له علماً، ولكن نقول: لم يزل عالماً، قادراً، مالكاً، لا متى، ولا كيف" انتهى (1) . وقال أيضاً: "ودل قوله-تعالى-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) على أنه لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ولهذا فسر الصمد بأنه الذي لم يلد، ولم يولد. فإن الصمد: هو الذي لا جوف له، ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء؛ فلا يأكل ولا يشرب، كما قال –تعالى-: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} (3) ، وفي قراءة بفتح الياء الأخيرة". وفسر بعض السلف "الصمد" بأنه الذي لا يخرج منه شيء، وليس مرادهم أنه لا يتكلم، فإنه يقال في الكلام: خرج منه، كما في الحديث: "ما تقرب   (1) "مجموع الفتاوى" (17/449) ، وانظر: رد الإمام أحمد، في "مجموع عقائد السلف" (ص91) . (2) الآيتان1-2من سورة الإخلاص. (3) الآية 14من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 العباد إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه" انتهى (1) . ودل الحديث على استحباب قراءة الآيات التي تشتمل على صفات الله تعالى، خلافاً للمبتدعة الذين يكرهون آيات الصفات عند العامة، وفيه التصريح بأن الله يحب ذلك ويحب من يحبه.   (1) المصدر السابق، والحديث خرجه الترمذي (4/249) ، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" (ص20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 "باب قوله -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (1) ". قال الطبري-رحمه الله تعالى-: "يقول -تعالى ذكره- لنبيه: قل يا محمد لمشركي قومك المنكرين دعاء الرحمن: {ادْعُواْ اللهَ} أيها القوم، {أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} بأي أسمائه-جل جلاله- تدعون ربكم فإنما تدعون واحداً، وله الأسماء الحسنى، وإنما قيل ذلك له-صلى الله عليه وسلم - لأن المشركين، فيما ذكر- سمعوا النبي-صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه: يا ربنا الله، ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فأنزل الله الآية، ثم روي ذلك عن ابن عباس، وعن مكحول" (2) . قال ابن حجر: "كأنه لمح في هذه الترجمة بهذه الآية إلى ما ورد في سبب نزولها، وهو ما أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف، عن ابن عباس: أن المشركين سمعوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم - يدعو: يا الله، يا رحمن، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين. فنزلت، وأخرج عن عائشة بسند آخر نحوه" (3) . قلت: يظهر لي أن مقصود البخاري-رحمه الله- بالترجمة بهذه الآية، بيان اختصاص الله-تبارك وتعالى- بالأسماء الحسنى، وأن أسماءه كاملة المعاني، لا يلحقها نقص، أو عيب، وأن اتصاف المخلوق ببعض ما يتصف الرب تعالى به من المعاني، لا يلزم منه نقص أو عيب في أسمائه وصفاته-تعالى- لأنها حسنى   (1) الآية110من سورة الإسراء. (2) "تفسير الطبري" (15/182) . (3) "الفتح" (13/360) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 كاملة تناسب عظمته، فلا يتوهم أن في ذلك تشبيهاً كما يتزعمه أهل البدع الذين ظنوا أن مجرد المشاركة في الاسم أو المعاني يفيد التشبيه، فنفوا صفات الله-تعالى- من أجل ذلك. وأما المخلوق فأسماؤه وصفاته ليست حسنى، ولا كاملة، فهي تناسب ضعفه وعجزه، والذي يوضح مراد البخاري بذلك الحديثان اللذان ذكرهما"لا يرحم من لا يرحم الناس"، وفي الآخر "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، فإذا كان المخلوق يرحم، ويسمى رحيماً، والله-تعالى- يرحم ويسمى رحيماً، فليس ما يخص الله- تعالى- من هذا الاسم أو الفعل مماثلاً أو مقارباً لما يخص المخلوق، فلا يجوز تأويل أو نفي رحمة الله-تعالى- وغيرها من صفاته، من أجل توهم أن مجرد المشاركة في المعنى يلزم منها التشبيه، والله أعلم. قال ابن القيم: "أسماؤه-تعالى- كلها مدح وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات كمال" (1) . وما ذكره بعض الشراح: مم أن البخاري ذكر هذا الباب ليكون كالأصل لما بعده من الأبواب، وما بعده كالفرع عليه، وقال: إنه قصد الاسمين المذكورين في الآية، وهما "الله"، "والرحمن"؛ لأنهما خاصان بالله-تعالى-، فليس بظاهر، وهذان الاسمان جاء ذكرهما كثيراً فيما بعد، والظاهر لي - والله أعلم- ما أشرت إليه فيما سبق قبل قليل، يوضح ذلك ما جاء في سبب النزول كما قال الحافظ، "والرحمن" يأتي تابعاً "لله" كغيره من الأسماء الحسنى. فهو أراد بهذا الباب ما دلت عليه الآيات الأخرى كقوله-تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) ، وقوله: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (4) .   (1) "مدارج السالكين" (1/125) . (2) الآية 24 من سورة الحشر. (3) الآية 180 من سورة الأعراف. (4) الآية 8 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 6- قال: "حدثنا محمد، أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، وأبي ظبيان، عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم -: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس". جرير هو: أبو عمرو، جرير بن عبد الله بن جابر البجلي، الأحمسي، وأحمس بطن من بجيلة، وبجيلة وخثعم أخوان، وهما من قحطان، وقيل: من ربيعة بن نزار. قدم جرير على النبي-صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته، فبشر به أصحابه، وبسط له رداءه. وكان -رضي الله عنه- صادق الإيمان، صادعاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان يقول كما في "الصحيحين"، وغيرهما: "بايعت النبي-صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" (1) . وبعثه النبي-صلى الله عليه وسلم - لهدم ذي الخلصة، وهو صنم كبير كان لدوس، فهدمه. ودعا له النبي-صلى الله عليه وسلم - ولخيل أحمس ورجالها. وكان حسن الوجه، حيث كان يقال له: يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً إذا ركب الفرس تكاد تخط رجلاه في الأرض. نزل الكوفة، فأرسله علي رسولاً إلى معاوية، ثم اعتزل الحروب بينهما وتحول إلى جزيرة ابن عمر، توفى بقرقيسيا سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها، -رضي   (1) انظر" الفتح" (1/137) وغيره، و"مسلم" (1/75) في "الإيمان" رقم (56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الله عنه- (1) . "قوله: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس" في رواية لمسلم: "من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله". وعند الطبراني: "من لا يرحم من في الأرض، لا يرحمه من في السماء" ورواته ثقات. ولأبي داود، والترمذي، والحاكم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". وفي الطبري: "من لا يرحم المسلمين لم يرحمه الله" (2) . قلت: ومعنى هذه الروايات واحد، ففي هذه الأحاديث وأمثالها كثير، دليل على أن الرحمة صفة تقوم بمن يشاء الله من عباده، الذين يريد-جل وعلا- رحمتهم، وتتخلف عن الأشقياء، الذين لا يرحمهم الله -تعالى-. وقد روى البخاري في " الأدب المفرد"، من حديث أبي هريرة، أن النبي-صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تنزع الرحمة إلا من شقي" (3) . وقد علم من دين الرسل، وكتب الله تعالى، أن الله متصف بالرحمة، وليست رحمته ثوابه وجزاءه، كما يقوله أهل التحريف والمؤولة، من الأشعرية وغيرهم.   (1) انظر: "أسد الغابة" (/333) ، و"الاستيعاب" (1/236) ، و"الإصابة" (1/475) ، و"سير أعلام النبلاء" (2/530) . (2) "الفتح" (10/440) . (3) انظر: "الأدب المفرد" (ص136) ، قال محققه: أخرجه الترمذي (25) ، كتاب البر والصلة (16) بابك ما جاء في رحمة المسلمين، وأبو داود، كتاب الأدب (58) ، باب في الرحمة، وأحمد في " المسند" رقم (7988، 9700، 9941، 9946، 1064) وغيرهم، وسنده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وقد قال الله-تعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (1) . فعطف الرحمة على الفضل يدل على المغايرة، وفضل الله-تعالى- الذي هو الثواب والجزاء-مخلوق، ليس من صفات الله - تعالى- القائمة به، وإن كان الفضل في الآية غير متعين إرادة الثواب به، بل يجوز أن يراد به التفضل الذي هو فعل الله -تعالى-. وإذا كان الإجماع حاصلاً بين الأمة، بأن الله - تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء في ذاته المقدسة، فيجب أن تكون صفاته كصفات خلقه؛ لأن الصفة تتبع الموصوف، فصفات الله-تعالى- من الرحمة، والرضا، والغضب، وغير ذلك، تليق بعظمته، وتناسبه، وصفة المخلوق من ذلك وغيره تليق بضعفه، وعجزه وفقره. وإن من الضلال، والبعد عن كتاب الله، وهدي رسوله، وسبيل المؤمنين حقاً، نفي صفات الله -تعالى- وتعطيله منها اعتلالاً بأنها تفيد التشبيه؛ لأن المخلوق يوصف بتلك الصفات، وهل هذا إلا مثل من يقول: أنا لا أقر بوجود الله- تعالى- لأن المخلوق موجود؟ وقد تقدمت الإشارة إلى أن مجرد الاشتراك في الاسم أو في المعاني العامة لا يقتضي تشبيهاً، وسيأتي لذلك مزيد إن شاء الله- تعالى-.   (1) الآية 58من سورة يونس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 7- قال: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد، قال: كنا عند النبي –صلى الله عليه وسلم – إذ جاءه رسول إحدى بناته تدعوه إلى ابنها في الموت، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فأخبرها، أن لله أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر، ولتحتسب". فأعادت إليه الرسول، أنها أقسمت لتأتينها، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم – وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، فدفع الصبي إليه، ونفسه تقعقع كأنها في شن، ففاضت عيناه، فقال له سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، الكلبي، حب رسول الله-صلى الله عليه وسلم – وابن حبه ومولاه، وابن مولاته أم أيمن. أمره رسول الله-صلى الله عليه وسلم – على جيش فيه كبار المهاجرين، والأنصار، منهم أبو بكر وعمر، وقال فيه –صلى الله عليه وسلم -: "وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة" (1) . وفي البخاري، وغيره أنه –صلى الله عليه وسلم – قال له، وللحسن: "اللهم إني أحبهما، فأحبهما" (2) . وزوجه فاطمة بنت قيس- وهو ابن خمس عشرة سنة، وتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ابن تسع عشرة سنة، وفضله عمر- رضي الله عنهما- في العطاء على   (1) أخرجه البخاري في مواضع من "الصحيح"، انظر: "الفتح" (7/498، 86) و (11/521) . (2) انظر: "الفتح" 7/88، 94) و (10/434) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ابنه عبد الله، وحين راجعه قال له: إنه أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – منك. واعتزل الحروب بين أهل الشام وأهل العراق، ومات بوادي القرى سنة أربع وخمسين، وقيل غير ذلك (1) . قوله: "إحدى بناته" قال الحافظ: "هي زينب، كما جاء في "مصنف ابن أبي شيبة" (2) . قلت: يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة بالسند المذكور هنا، قال: "دمعت عين رسول الله-صلى الله عليه وسلم – حين أتي بابنة زينب، ونفسها تقعقع كأنها في شن، قال: فبكى، قال: فقال له رجل: تبكي وقد نهيت عن البكاء ... " فذكر بقية الحديث كما ذكره البخاري (3) . ثم قال الحافظ: "ووجدت في الأنساب للبلاذري، أن عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت النبي-صلى الله عليه وسلم – لما مات، وضعه النبي –صلى الله عليه وسلم – في حجره وقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء". وفي "مسند البزار"، عن أبي هريرة، قال: ثقل ابن فاطمة، فبعث إلى النبي-صلى الله عليه وسلم - ... فذكر نحو الحديث المذكور هنا، فعلى هذا، فالابن هو محسن بن على بن أبي طالب، وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيراً، في حياة النبي-صلى الله عليه وسلم -، فهذا أولى أن يفسر به الابن، لكن الصواب أن المرسلة؛ زينب، وأن الولد صبية، كما ثبت في "مسند أحمد" بالسند المذكور، ولفظه: "أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- بأمامة بنت زينب، ونفسها تقعقع   (1) انظر: "الإصابة" (1/49) تحقيق البجاوي، و"سير أعلام النبلاء" (2/496) وغيرها. (2) انظر: "الفتح" (3/156) . (3) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (3/392) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 كأنها في شن ... " وذكر بقية الحديث (1) . ومثله في "معجم الطبراني"، وقد شفاها الله- تعالى- فعاشت زمناً بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتزوجها على ابن أبي طالب، بعد وفاة فاطمة، وقتل وهي عنده، -رضي الله عنهم- جميعاً" (2) . قوله: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى"، قال النووي-رحمه الله-: "هذا أحسن ما يعزى به" ثم قال: " وهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام؛ لاشتماله على مهمات كثيرة من أصول الدين، وفروعه، والآداب، والصبر على النوازل كلها، والهموم، والأسقام وغير ذلك، ومعنى قوله: "إن لله ما أخذ" أن العالم كله ملك لله –تعالى-، فلم يأخذ ما هو لكم، بل أخذ ما هو له عندكم، في معنى العارية. ومعنى: "وله ما أعطى" أن ما وهبه لكم ليس خارجاً عن ملكه، بل هو له يفعل فيه ما يشاء، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلا تجزعوا فإن من قبض فقد انقضى أجله المسمى، فمحال تأخره أو تقدمه عنه، فاعلموا ذلك، واصبروا، واحتسبوا ما نزل بكم" (3) . وقوله: "وكل شيء عنده بأجل مسمى" من فقد محبوب، أو حصول مرغوب، وتصرف في هذا الكون الذي هو بأسه ملك لله يفعل فيه ما يريد، وأجل المسمى: هو المقدر بوقت معين لا يتأخر عنه، ولا يتقدم. وفي هذه الجملة من الحديث دليل واضح على أن الله تعالى قدر كل شيء وكتبه، وعلم وقته وحاله، وأن الحوادث كلها تقع على تقدير دقيق، لا تتأخر عن ذلك لحظة ولا تتقدم، وهذا أصل عظيم من أصول الدين الإسلامي، يجب   (1) انظر: "المسند " (5/204) . (2) "الفتح" (3/156) . (3) انظر: "الأذكار" (ص212-213) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أن يعلم. والإيمان به من أركان الدين لابد منه، والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة. قوله: "فلتصبر، ولتحتسب" الصبر: حبس النفس عن الجزع، والتسخط، وحبس الجوارح عما نهى عنه الشرع من شق الثياب، وخمش الوجوه ولطمها، والكلام الذي ينافي التسليم لرب العالمين، وما أشبه ذلك مما يدل على تسخط الأقدار، والاعتراض على القضاء الذي قضاه الله قبل وجود الخلق. والاحتساب: هو نية طلب الثواب من الله على الإيمان بالقدر، والتسليم لأمر الله –تعالى-، والإيمان بوعد الله –تعالى-، فإنه وعد على الصبر الجزاء. قال ابن القيم: "حقيقة الصبر: أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن، ولا يجمل" (1) . قوله: "فأعادت إليه الرسول، أنها أقسمت لتأتينها" جاء في بعض الروايات أنها راجعته ثلاث مرات، وإنما ذهب إليها بعد الثالثة. والحامل لها ما علمت من أن حضور النبي –صلى الله عليه وسلم – فيه الخير والبركة، وأنه يتوقع أن يرفع الله ببركة دعائه وحضوره ما هي فيه وابنتها من ألم وتوجع، وقد حقق الله – تعالى – أملها ورغبتها، فشفا مريضها كما سبق. ولا يعترض على هذا أن القدر لابد من وقوعه، فكيف يتخلف من أجل الدعاء أو غيره، فإن الله تعالى جعل لكل شيء سبباً، ورتب المسببات على أسبابها، فقدر أن هذا الشيء يقع في وقت معين مع سببه، فالدعاء المأمور به لا يلزم أن يكون قدراً مكتوباً، بل إذا أمر الله عباده بالدعاء، فمنهم من يطيعه فيستجيب له دعاءه إن شاء الله أو يمن عليه بما طلبه، فيدل ذلك على أن المعلوم لله –تعالى- المقدر له هو الدعاء والإجابة. ومنهم من يعصي أمر الله تعالى فلا يدعو، فلا يحصل ما علق على الدعاء، فيدل على أن المعلوم لله- تعالى – المقدر: عدم الدعاء وما رتب عليه من الإجابة. فما يحصل بالدعاء قدر الله حصوله بالدعاء لا بدونه، وهو-جل   (1) "عدة الصابرين" (ص12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وعلا- يبتلي خلقه بالمصائب، تأديباً لهم، وتكفيراً لذنوبهم، رحمة منه بهم. قوله: "ونفسه تقعقع كأنها في شن" القعقعة: صوت الشيء اليابس الجاف الخفيف إذا حرك، يعني بذلك: صوت نفسه عند صعوده ونزوله في صدره من شدة الألم. والشن: بفتح الشين وتشديد النون: القربة الخلقة اليابسة. قوله: "ففاضت عيناه"أي ذرفت عينا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بالدموع رحمة لهذا الضعيف، وتوجعاً لما نزل به من ألم شديد. "فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ " كان –صلى الله عليه وسلم – ينهى عن البكاء على الميت، فظن سعد-رضي الله عنه- وغيره أن النهي يدخل فيه دمع العين، وحزن القلب، فبين لهم النبي –صلى الله عليه وسلم – أن المنهي عنه هو التسخط من المقدور، ودعوى الجاهلية من العويل والنوح، وتعداد محاسن الميت، وما أشبه ذلك من لطم الوجه وشق الثياب ونحوه، مما يدل على السخط من الواقع، وعدم الصبر. وأما دمع العين وحزن القلب، فهو من الرحمة للضعفاء التي هي سبب رحمة أرحم الراحمين-جل وعلا-. قوله: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" أي " الدمع الذي رأيته من أثر الرحمة التي جعلها الله – تعالى – في قلوب عباده، الذين أراد -تعالى –رحمتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والإضافة هنا خاصة، أي الذين عبدوه باتباع أمره، واجتناب نهيه، وقد تكون عامة، فإن الكافر قد يرحم الصغير، فيبكي عليه رحمة. قوله: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء" أي: رحمة الله-تعالى- للمحسنين إلى عباده برحمتهم، والرحماء من صيغ المبالغة، ولهذا قال بعض الشراح: "المعنى: أن الله –تعالى- لا يرحم من عباده إلا كثير الرحمة، فالرحماء جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة" (1) .   (1) "المنهل العذب المورود" (8/277) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قلت: هذا الحصر لا ينبغي، وإن كان التركيب في الحديث يفيده، ولكن فيما يظهر لي-والله أعلم- أنه غير مقصود؛ للأدلة على أن رحمة الله وسعت كل شيء، وإنما المقصود هنا رحمة خاصة بمن هذه صفتهم. وهذا القدر من الحديث هو محل الشاهد الذي سيق الحديث من أجله، مع قوله "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" وذلك أن القدر المشترك بين أسماء الله –تعالى- وصفاته، وبين أسماء المخلوقين وصفاتهم في اللفظ والمعنى لا يقتضي المشابهة؛ لأن أسماء الله –تعالى- حسنى، لا يلحقها نقص، ولا عيب، بخلاف أسماء المخلوقين-وإن كان منها الحسن- فليست بحسنى، ولأن الصفات تابعة للموصوف، وكذلك الأسماء، فالرحمة اسمه-تعالى-، والرحمة صفته، والمخلوق يتصف بالرحمة التي يرحم بها، وهي تابعة له في الخلق والمعنى، فهي مخلوقة فيه؛ لأنه مخلوق فصفاته مخلوقة، وهو ضعيف فقير محتاج، وصفاته تناسبه في ذلك مع أنه يسمى "رحيماً" و"راحماً" والله-تعالى موصوف بالرحمة ويسمى "رحيماً"، ولا يكون في ذلك تشبيه؛ لأن المخلوق اسمه وصفته يختص به، والله-تعالى- اسمه وصفته يختصان به، فرحمة الله صفه له عليا، صفة الكمال، وسالمة من كل نقص أو عيب يمكن أن يلحق المخلوق، فليست رحمته-تعالى- عن ضعف أو عجز، بل عن كمال فضله وإحسانه، ولا يجوز أن تؤول بالثواب أو العطاء، أو إرادة ذلك، وما أشبهه مما يقوله أهل التأويل، كما ذكر الحافظ ابن حجر عن شراح البخاري وغيرهم، كقول ابن بطال: "إن المراد برحمته: إرادته تقع لمن سبق في علمه أنه ينفعه، وأما الرحمة التي جعلها في قلوب عباده، فهي من صفات الفعل (1) = وصفها بأنه خلقها في قلوب عباده، وهي رقة على المرحوم، وهو سبحانه منزه عن   (1) صفات الفعل عند الأشعرية: ما فعله-تعالى- منفصلاً عنه- يعني مخلوقاته التي وجدت بصفة الخلق-وليس هناك اشتباه بين ما يسميه ابن بطال صفات فعل، وبين صفات الله، حتى يلزم ما ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الوصف بذلك، فتتأول بما يليق به" (1) . وذكر من هذا النوع أشياء تخالف نصوص كتاب الله، ونصوص سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم – كما هي عادته؛ لأنه- عفا الله عنا وعنه- على المذهب الأشعري الذي يعتمد على تأويل صفات رب العالمين، وإن كان أحياناً يذكر مذهب السلف فيما ينقله، ولكنه لا يتبناه، بل يخلط بينه وبين ما يخالفه. وهذا المذهب- أعني مذهب الأشعرية الذي عليه أكثر المتأخرين- مخالف لما عليه رسل الله صلى الله عليهم وسلم، ومخالف لكتبه، ولما عليه أتباع الرسل، كما أعترف بذلك بعض كبار علماء هذا المذهب، كالفخر الرازي، والجويني، والغزالي، والشهرستاني، وغيرهم، كما يأتي ذكر ذلك، إن شاء الله-تعالى-. وهكذا تبرر الأشعرية تأويل صفات رب العالمين بما تعرفه من صفات المخلوقين، فكأنهم لم يعرفوا من الرحمة إلا أنها العطف والرقة على المرحوم، ولا من الغضب إلا أنه غليان دم القلب ثم طلب الانتقام، وما أشبه ذلك، ولهذا لجأوا إلى التحريف الذي يسمونه تأويلاً، وجعلوه واجباً ضرورياً، حتى لا يلزم التشبيه، فيسلم المسلم من التشبيه والتجسيم على ما زعموا. هذا مع أنهم ينكرون على الفلاسفة تأويلهم نصوص المعاد، وعلى الباطنية تأويلهم الشرائع أشد الإنكار، فما الذي سوغ لهم تأويل نصوص الصفات مع كثرتها ووضوحها؟ وما ادعوه أن العقل يوجب ذلك، بإمكان كل مبطل أن يدعيه. فليس هناك عاصم من الضلال، إلا الوقوف مع نصوص كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في المقدمة.   (1) "الفتح" (13/358) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن على بن المرتضى اليماني-رحمه الله تعالى-: "الأمر الثاني: وهو النقص في الدين، برد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز، من غير حجة قاطعة، تدل على ثبوت الموجب للتأويل، إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد لم يتفقوا عليها، وأفحش ذلك مذهب القرامطة الباطنية في تأويل الأسماء الحسنى كلها، وفيها عن الله-تعالى-، على سبيل التنزيه له عنها، وتحقيق التوحيد بذلك، ودعوى أن إطلاقها يقتضي التشبيه، حتى قالوا: لا يقال" إنه موجود، ولا معدوم. فكما أن كل مسلم يعلم أن هذا كفر صريح، فكذلك المحدث الذي طالت مطالعته للآثار، وقد يعلم أن تأويل بعض المتكلمين مثل ذلك. ومن الضروري ورود أسماء الله الحسنى في كتابه على سبيل التمدح بها والثناء العظيم عليه بها، ألا ترى-مثلاً- أن الرحمن الرحيم متلوان في جميع الصلوات، مذكوران في أكثر محافل المسلمين، مجمعين على أنهما أحسن الثناء على الله- تعالى- متقربين إلى الله-تعالى- بمدحه بهما؟ وكرر-تعالى- التمدح بالرحمة في كتابه أكثر من خمسمائة مرة، باسم الرحمن أكثر من مائة وستين مرة، وباسمه الرحيم أكثر من مائتي مرة، وجمعهما مائة وستين مرة. وجاء الرحيم مقترناً مع التواب مراراً، ومراراً مع الرؤوف، والرأفة أشد الرحمة، مراراً مع الغفور، وهي كثيرة، عرفت منها سبعة وستين موضعاً. وقد فطر الله العقول على معرفة رحمة الله، وسعة علمه، وكمال قدرته. فما هو المانع من إثبات صفة الرحمة ونحوها مما أثبته الله ورسوله، مع نفي النقائص المتعلقة بصفات المخلوقين في حياتهم، وكذلك كل صفة يتصف بها الرب-تعالى- ويوصف بها العبد. فإنه –جل وعلا- يوصف بها على أكمل وجه، خالية عن جميع النقائص، والعبد يوصف بها على ما يناسبه، من نقص وضعف، وبهذا فسر أهل السنة نفي التشبيه، ولم يفسروه بنفي الصفات كما فعل المعطلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ومما يدل على بطلان التأويل: كون المعتزلة يسخرون من تأويل الأشعرية للحكيم، والأشعرية تسخر من تأويل بعض المعتزلة للسميع البصير، وأهل السنة يسخرون من تأويل الفريقين للرحمن الرحيم، وما أشبههما، والكل يسخر من تأويل القرامطة. فيجب إثبات ما وصف الله به ذاته الكريمة، من غير تأويل، ولا تعطيل. ولا يجوز القول بأن ظاهر هذه الأسماء كفر، وضلال، وأن الصحابة والسلف الصالح لم يفهموا ذلك، أو أنهم فهموه ولم يقوموا بالواجب من نصح المسلمين وبيان التأويل الحق؛ لأمرين: الأول: قاطع ضروري، وهو أن العادة توجب أن ما كان كذلك أن يظهر التحذير منه، من رسول الله-صلى الله عليه وسلم – ومن أصحابه، ويتواتر أعظم من تحذيرهم من الدجال الكذاب، ولا يجوز-مع كمال عقولهم وأديانهم- أن يتركوا صبيانهم ونساءهم وعامتهم يسمعون ما ظاهره كفر، منسوباً إلى الله- تعالى- ورسوله ويسكتون عليه، مع بلادة الأكثرين. ولو تركوا بيان ذلك، ثقة بنظر العقول الدقيق، لتركوا التحذير من فتنة الدجال، فإن بطلان ربوبيته أظهر في العقول من ذلك، ألا ترى أن المتكلمين لما اعتقدوا قبح هذه الظواهر، تواتر عنهم التحذير عنها، وتأويلها، فصنفوا في ذلك، وأيقظوا الغافلين، وعلموا الجاهلين، وكفروا المخالفين، وأشاعوا ذلك بين المسلمين، بل بين العالمين، فكان أحق منهم بذلك سيد المرسلين وقدماء السابقين، وأنصار الدين، لو كان ذلك حقاً. الثاني: أنه ثبت تحريم الزيادة في الدين، فلا يصح سكوت الشرع عن النص على ما يحتاج إليه، من مهمات الدين، فالإسلام متبع، لا مخترع، ولذلك كفر من أنكر شيئاً من أركان الدين؛ لأنها معلومة ضرورة، فأولى وأحرى أن لا يجيء الشرع بالباطل منطوقاً متكرراً من غير تنبيه على ذلك، لاسيما إذا كان ما سموه باطلاً، هو المعروف في جميع كتب الله، ولم يأت ما يعارضه من طريق شرعي، ولا عقلي، حتى يجب التأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وكثير منهم يزعم أنه ما جاء التصريح بالحق في آية واحدة تكون هي المحكمة التي رد إليها جميع المتشابه، والله-تعالى- ذكر أنه أنزل في كتابه آيات محكمات، ترد إليها المتشابهات، ولم يذكر أن جميع كتابه متشابه، فبطل ما يقولون. وقد اعترف الرازي- في كتابه "الأربعين" (1) - وهو من أكبر خصوم أهل السنة- أن جميع الكتب السماوية جاءت بصفات الله –تعالى- ولم ينص الله-تعالى- في آية واحدة على أنه منزه عن الوصف بالرحمة والحلم والحكمة، وما أشبه ذلك. والأمر ظاهر وإن لم يعترف به، وهذه الكتب السماوية موجودة. وهبك تقول: هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء" (2) قلت: دعوى المجاز في اسمه –تعالى- "الرحمن" وغيره من الأسماء الحسنى، من أبطل الدعاوى؛ لأن ذلك يتضمن إنكار حقيقة صفة الرحمة، وهو أعظم من إنكار الكفار لاسمه تعالى "الرحمن"، كما ذكر الله –تعالى- عنهم ذلك، قال –تعالى-: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (3) . وقال –تعالى-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (4) . فهؤلاء الذين كفروا بالرحمن، وأنكروه، لم يكفروا بذاته-تعالى- وربوبيته، ولم ينكروا ما يدعيه المؤولة أن معنى اسمه الرحمن هو الإحسان والإنعام إلى خلقه،   (1) كتاب "الأربعين في أصول الدين في علم الكلام". (2) " إيثار الحق على الخلق"، بتلخيص وتصرف (ص129-139) . (3) الآية 30 من سورة الرعد. (4) الآية 60 من سورة الفرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وإنما أنكروا اسمه-تعالى- "الرحمن" أن يسمى به. وإنكار صفة الرحمة أعظم من إنكار الاسم، وهو من أعظم الإلحاد في أسمائه –تعالى-؛ لأن وضع الاسم مقصود به الدلالة على المعنى المراد منه، وهو الرحمة، كما هو معلوم في جميع أسمائه تعالى. وتعليلهم لنفي الرحمة عن الله-تعالى- بأنها رقة القلب التي تحمل الميل إلى المرحوم. جوابه: أن هذه رحمة المخلوق، ووصفه، وأما رب العالمين، فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، فليست رحمته-تعالى- من جنس رحمة خلقه-جل وعلا-. ومما يعجب منه أن أهل التأويل (1) يجعلون الرحمة بالنسبة للمخلوق حقيقة، وبالنسبة لله-تعالى- مجازاً، فكيف تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازاً، ورحمة المخلوق الضعيف حقيقة؟ وكل العقلاء يدركون آثار رحمة الله –تعالى- في الخلق، كما يدركون آثار ربوبيته أو أعظم، وهذا من أظهر الأشياء وأوضحها. ومعلوم أن الأسماء التي تسمى الرب –تعالى- بها –وهي كلها حسنى- لها معان يستدل بها عليها؛ لأنها مشتقة من تلك المعاني، وهذه المعاني هي الصفات، وليست أسماؤه تعالى مجرد أعلام، فالرحمن يدل على الرحمة، والعليم يدل على العلم، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا جميع أسمائه تعالى.   (1) أقصد الذين يؤولون الصفات كما هي طريقة أكثر الأشعرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قال: باب قول الله-تعالى-: (أنا الرزاق ذو القوة المتين) . 8- "حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم -: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم، ويرزقهم". أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري. وأمه ظبية بنت وهب بن عك، هاجر إلى الحبشة قديماً، ثم قدم على النبي-صلى الله عليه وسلم - في خيبر، مع جعفر وأصحابه، وهو من سادات الصحابة وعلمائهم، عرف بالشجاعة والاجتهاد في طلب الخير، وكان قارئاً حسن الصوت، حتى قال فيه النبي-صلى الله عليه وسلم -: "لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود" (1) توفي -رضي الله عنه- بمكة، وقيل: بالكوفة، سنة اثنتين، أو أربع وأربعين، عن ثلاث وستين سنة (2) . أما الآية فهكذا قرأها ابن مسعود، وقال: إنه أقرأه إياها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كما رواه الإمام أحمد بسند صحيح (3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حسن صحيح (4) .   (1) انظر: "البخاري" (6/161) "فضائل القرآن". (2) انظر: "الاستيعاب" (3/979) ، "أسد الغابة" (3/367) ، "الإصابة" (6/194) . (3) انظر: "السند" (1/394) . (4) "تفسير ابن كثير" (7/402) ، وانظر: "سنن أبي داود" (4/291) وفيه: "إني أنا الرزاق" الخ، ومثله في الترمذي (4/262) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وهذه الآية مرتبطة بالآية قبلها في المعنى، وهي قوله-تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) ، والمعنى: أنه -تعالى- خلق العباد ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، فمن أطاعه في ذلك جازاه أتم الجزاء وأحسنه، ومن أبى وعصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم" (2) . فهو-جل وعلا- لم يخلقهم ليستعين بهم أو ليقوى بهم، كما يقصد السادة من عبيدهم. قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} هذه القراءة المجمع عليها، المتواترة، وقراءة ابن مسعود تتفق معها في المعنى. والمعنى: أن الله -تعالى- هو المتكفل بأرزاق الخلق وحاجاتهم؛ وأكد الجملة بـ "إن" والضمير؛ لقطع توهم من يعتمد على قوته، أو علمه وصنعته، أو غير ذلك، في أمور الرزق،؛ ليصرف اعتمادهم إلى الله وحده. {ذُو الْقُوَّةِ} أي القوة العظيمة التي لا تضاهي، ولا تقاس بقوة خلقة مهما بلغت قوتهم، فهو-تعالى- على كل شيء قدير، لا يمتنع عليه شيء. و {الْمَتِينُ} الشديد القوة، الذي لا يطرأ عليه عجز أو ضعف، تعالى وتقدس، وهذا المروي عن ابن عباس كما ذكره الطبري (3) . قال ابن الجوزي: "والمتين: الشديد القوة الذي لا تنقطع قوته،   (1) الآيات 56-58 من سورة الذاريات. (2) "تفسير ابن كثير" (1/402) . (3) انظر: "تفسير الطبري" (27/13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ولا يلحقه في أفعاله مشقة" (1) . ورفع "المتين" على أنه وصف "الرزاق" أو لذو، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بجر "المتين" على أنه صفة للقوة. وهذه الآية ونظائرها تدل بوضوح على أن الله -تعالى- موصوف بالصفات العليا، كما أنه مسمى بالأسماء الحسنى، فالقوة صفته، والرزاق اسمه، وتقدم أن كل اسم لابد أن يتضمن الصفة، وبذلك وغيره يرد على المنكرين للصفات، كما سبقت الإشارة إليه، والله أعلم. وأما معنى الحديث: فقال النووي: "قال العلماء: معناه: أن الله -تعالى- واسع الحلم حتى على الكافر الذي ينسب إليه الولد والند، قال المازري: حقيقة الصبر: منع النفس من الانتقام أو غيره، فالصبر نتيجة الامتناع، فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله -تعالى-. قلت: هذا الكلام فيه نظر فقد جاء في أسمائه تعالى: الصبور، وفي هذا الحديث: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - تعالى - ". قال القاضي: والصبور من أسماء الله - تعالى -، وهو: الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام، وهو بمعنى الحليم في أسمائه - سبحانه وتعالى -، والحليم: هو الصفوح مع القدرة على الانتقام" (2) . قلت: قول المازري: " فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله -تعالى-". فيه نظر، وذلك أن رسوله -صلى الله عليه وسلم- أطلق على ربه الصبر، وأنه ما أحد أصبر منه، وهو -صلى الله عليه وسلم- أعلم الخلق بالله - تعالى - وأخشاهم له، وأقدرهم على البيان عن   (1) "تفسير ابن الجوزي" (8/44) . (2) "شرح النووي على مسلم" (17/146) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الحق، وأنصحهم للخلق، فلا استدراك عليه، فيجب أن يبقى ما أطلقه -صلى الله عليه وسلم- على الله - تعالى - بدون تأويل، إلا إذا كان يريد بذلك تفسير معنى الصبر، ولكن الأولى أن يبقى كما قال؛ لأنه واضح ليس بحاجة إلى تفسير. قوله في الحديث: " اصبر" أفعل تفضيل من الصبر، ومن أسمائه الحسنى "الصبور"، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة (1) . وقال الزجاج: " أصل الصبر في الكلام: الحبس، يقال: صبرته على كذا صبراً: إذا حبسته، ومعنى الصبر والصبور في اسم الله - تعالى - قريب من معنى الحلم" (2) . وقال ابن الأثير: " الصبور: هو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام منهم، بل يؤخر ذلك إلى أجل مسمى، فمعنى الصبور في صفة الله - تعالى - قريب من معنى الحليم، إلا أن الفرق بين الأمرين أنهم لا يأمنون العقوبة في صفة الصبور، كما يأمنون منها في صفة الحليم" (3) . يقصد أن صفة الحلم أكثر رجاء ورحمة وأوسع لعباده، من صفة الصبور، والله أعلم. قوله: "على أذى سمعه من الله" لفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره، وضعف أثره من الشر والمكروه، وذكره الخطابي، قال شيخ الإسلام: "وهو كما قال، بخلاف الضرر، فقد أخبر - سبحانه- أن العباد لا يضرونه، كما قال تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللهَ شَيْئاً} (4) ، فبين أن   (1) "فتح الباري" (13/361) . (2) " تفسير أسماء الله الحسنى" (ص65) . (3) "جامع الأصول" (4/183) . (4) الآية 176 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الخلق لا يضرونه، لكن يؤذونه" (1) . فابن آدم يؤذي الله - تعالى- ويسبه، بإضافة ما يتعالى ويتقدس عنه، مثل نسبة الولد إليه -تعالى- والند، والشريك في العبادة، التي يجب أن تكون خالصة له وحده، ومثل إسناده نعمه وأفعاله إلى غيره، من الدهر، والطبيعة، والكون والمخلوقات، وغير ذلك، ثم يسبون ما أسندوا تلك الحوادث إليه، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادتهم حوادثه، وأهلكتهم كوارث الطبيعة، ويا خيبة الدهر، وهذا زمان سوء، وما أشبه ذلك. وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله-تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره" (2) . وأذية الله-تعالى- بنسبة الحوادث، والكوارث إلى الدهر، أو الطبيعة، وتوجيه اللوم والقدح والسب إلى ذلك كثيرة في كلام أهل الأدب وغيرهم، مع أن ذلك صنع الله وفعله، ولذلك يرجع السبب إليه، تعالى عن قولهم علواً كبيراً، كقول ابن المعتز: يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحداً ... وأنت والد سوء تأكل الولدا وقال أبي الطيب المتنبي: قبحاً لوجهك يا زمان فإنه ... وجه له من كل قبح برقع (3) وقول الطرفي: إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم ... عليك دهر لأهل الفضل قد خانا   (1) "تيسير العزيز الحميد" (ص542) . (2) انظر: "البخاري" (6/166) وتفسير سورة الجاثية (8/574) ، و (10/564) الأدب، و (9/179) التوحيد، و"مسلم"، الأدب (7/45) . (3) "ديوان المتنبي" (ص393) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقول التهامي: ليس الزمان وإن حرصت مسالماً ... خلق الزمان عداوة الأحرار وقول الآخر: وغاض رزقي وعاداني الزمان ولم ... ينظر لما بي من العليا ولا حسبي وقول الحريري: ولا تأمن الدهر الخؤون ومكره ... فكم عالم أخنى عليه ونابه وقوله أيضاً: ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى ... عن الرشد، في إيجابه ومقاصده تعاميت حتى قيل: إني أخو عمى ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده وقوله أيضاً: ولو أنصف الدهر في حكمه ... لما ملك الحكم أهل النقيصة وقول موفق الدين، عبد الله بن عمر الأنصاري، في تخميسه مقصورة ابن دريد: يا زمني ماذا العمى ... فوقت لي من الرزايا أسهما يا دهر كم هذي الحقود ... والإحن ... (1) وقال تميم بن المعتز: يا دهر ما أقساك من متلون ... في حالتيك وما أقلك منصفاً أتروح للنكس الجهول ممهداً ... وعلى الحر اللبيب سيفاً مرهفاً وإذا صفوت كدرت شيمة باخل ... وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا لا أرتضيك وإن كرمت لأنني ... أدري بأنك لا تدوم على الصفا   (1) انظر: " تخميس مقصورة ابن دريد" (ص42) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 زمن إذا أعطى استرد عطاءه ... وإذا استقام بدا له فتحرفا ما قام خيرك يا زمان بشره ... أولى بنا ما قل منك وما كفى وقال عبد الرحيم الاسطنبولي: أرى الدهر يسعف جهاله ... وأوفر حظ به الجاهل ومثل هذا كثير جداً في أشعار أهل الأدب قديماً وحديثاً، وهو لا يجوز؛ لما دل عليه هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه، وللأحاديث الأخرى الصحيحة الصريحة في النهي عن ذلك، كحديث أبي هريرة الآتي: يقول الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، اقلب ليله ونهاره" (1) . يعني: أن الدهر-الذي هو الليل والنهار- مخلوق لله مسخر، وهو مؤتمر بأمر الله –تعالى- مطيع له، فإذا سبه الساب، فإن السب يعود إلى فاعل الدهر وخالقه. ومعلوم أن توجيه الخطاب والملام إلى الأيام والليالي لأنها ظرف لوقوع الحوادث، وما يؤلم، فوجه اللوم إلى الدهر لذلك، وإلا فغالب هؤلاء، إن لم يكن كلهم، لا يعتقدون أن الليل والنهار هو المصرف المدبر، والموجد لما يقع فيه، فرجع اللوم في الحقيقة إلى تلك الحوادث الواقعة في الليل والنهار، فبذلك يعلم أن اللوم والسب يعود إلى مقدرها وموجدها، وهو الله-تعالى- خالق كل شيء، فليحذر المسلم من مجاراة هؤلاء الذين سلكوا طريق أهل الجهل من الكفار، وغيرهم، في القدح في أفعال الله –تعالى-، وسخط أقداره وتدبيراته. قال ابن الجوزي –رحمه الله تعالى-: "ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان، وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ثم نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – عنه، فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" (2) .   (1) سيأتي هذا الباب في قول الله "يريدون أن يبدلوا كلام الله". (2) رواه مسلم في الألفاظ من الأدب وغيره (4/1762) رقم الحديث (2246) وله عدة طرق عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ومعناه: أنتم تسبون من فرق شملكم، وأمات أهليكم، وتنسبونه إلى الدهر، والله –تعالى- هو الفاعل لذلك. وهؤلاء إن أرادوا بالدهر، مرور الزمان، فذلك لا اختيار له، ولا مراد، ولا يعرف رشداً من ضلال، ولا ينبغي أن يلام، فإنه زمان مدبر، ولا يعقل أن يكون ذم هؤلاء يقصد به الزمان الذي لا تصرف له، فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام، ونسبوا القبائح إلى الله –تعالى- فاعتقدوا قصور حكمته، وأنه يفعل ما لا يصلح كما اعتقده إبليس في تفضيل آدم، وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام، ولا فعل صلاة، بل هم شر من الكفار" (1) . قلت: أكثر هؤلاء من الشعراء والأدباء لا يقصدون نسبة القبائح إلى الله –تعالى- من الجور والظلم، وإنما ساروا في ذلك على سبيل المتابعة لأهل الجاهلية والتقليد، بدون تبصر لذلك، والله أعلم. وكذلك يؤذي ابن آدم ربه بمخالفته أوامره –تعالى- وارتكابه نهيه، والإصرار على ذلك، وأذية رسله، وعباده الصالحين، بعيبهم، وتنقصهم، كما في "مسند الإمام أحمد"، من حديث عبد الله بن مغفل المزني –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: "الله، الله، في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم، فمن أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه" (2) . وقد قال الله –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} (3) .   (1) "صيد الخاطر" (ص490) باختصار وتصرف يسير. (2) "المسند" (4/87) . (3) الآية 57 من سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قال ابن جرير –رحمه الله تعالى-: "أي الذين يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه، وركوبهم ما حرم عليهم" (1) . وفي قوله: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله" دليل واضح على تسميته –تعالى- بذلك، أعني "الصبور"، كما جاء في حديث الأسماء الحسنى. قال ابن القيم –رحمه الله تعالى-: "فقد أطلق عليه –تعالى- أعرف الخلق به، وأعظمهم تنزيهاً له، هذه الصفة: "وما أحد أصبر على أذى سمعه من الله "، كما أن ما ورد في الأسماء الحسنى "الصبور" من أمثلة المبالغة، فهو أبلغ من "الصابر" والصبار. ومعنى الصبر معلوم في اللغة، والشرع، والعرف، فلسنا بحاجة إلى تأويلات المتكلمين، التي تبعد عن المعنى المقصود من الخطاب. وصبر الله –تعالى- لا يماثل صبر المخلوق، بل يختلف عنه من وجوه: منها: أنه عن قدرة تامة. ومنها: أنه لا يخاف الفوت، والعبد إنما يستعجل لخوف الفوت. ومنها: أنه –تعالى- لا يلحقه بصبره ألم، ولا حزن، ولا نقص بوجه من الوجوه. وظهور أثر هذا الاسم الكريم مشهود في العالم بالعيان، كظهور اسمه –تعالى- الحليم. والفرق بين الصبر والحلم: أن الصبر ثمرة الحلم، وموجبه، والحلم في صفاته –تعالى- أوسع من الصبر، ولهذا جاء في القرآن في مواضع كثيرة، وجاء مقروناً مع اسمه العليم، كقوله –تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2) ، وقوله –تعالى-: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (3) (4) ، وحلمه –تعالى- من لوازم ذاته.   (1) "تفسير الطبري" (21/44) . (2) الآية 51 من سورة الأحزاب. (3) الآية 12 من سورة النساء. (4) وقد جاء اقترانه باسمه الغفور في مواضع عدة من القرآن كقوله تعالى: {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم] {سورة آل عمران: آية 155] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وأما صبره -تعالى- فمتعلق بكفر عباده، وشركهم، ومسبتهم له -تعالى وتقدس- وسائر معاصيهم، وفجورهم، فلا يدعوه ذلك إلى تعجيل عذابهم، بل يصبر عليهم ويمهلهم، ويرفق بهم، ويستصلحهم بحلمه وصبره ونعمه، حتى إذا لم يبق فيهم موضع للصنيعة ولا يصلحون على الإمهال، ولم ينيبوا إليه، لا من باب الإحسان والنعم، ولا من باب البلاء والنقم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الإعذار إليهم، وبذل النصيحة لهم، ودعائهم من كل باب. وهذا كله من موجبات صفة حلمه، وهي صفة ذاتية له لا تزول. وأما الصبر فإذا زال متعلقه كان كسائر الأفعال التي توجد لوجود الحكمة وتزول بزوالها، فتأمله، فإنه فرق لطيف قل من تنبه له. وقد أشكل على كثير من العلماء مجيء هذا الاسم في أسماء الله الحسنى، وقالوا: لم يأت في القرآن، فأعرضوا عن الاشتغال به. ولو أنهم أعطوه حقه لعلموا أن الرب -تعالى- أحق به من جميع خلقه، كما هو أحق باسم العليم، والرحيم، والقدير، والسميع، وسائر أسمائه الحسنى من المخلوقين، وأن التفاوت الذي بين صبره -تعالى- وبين صبرهم، كالتفاوت الذي بين حياته وحياتهم، وعلمه وعلمهم، وهذا في سائر صفاته -تعالى-، ولهذا قال أعرف خلقه به: " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله" -تعالى- فعلم أرباب البصائر بصبره -سبحانه- كعلمهم برحمته وعفوه وستره، مع أنه صبر مع كمال علم وقدرة، وعظمة وعزة، وهو صبر على أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء، وملك الملوك، وأكرم الأكرمين، ومن إحسانه فوق كل إحسان بغاية القبح، وأعظم الفجور، وافحش الفواحش، ونسبته -تعالى- إلى كل ما لا يليق به، والقدح في كماله، وفي أسمائه وصفاته، والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله -عليهم السلام- ومقابلتهم بالسب والشتم والأذى، وتحريق أوليائه، وقتلهم وإهانتهم- أمر لا يصبر عليه إلا الصبور الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى صبره -سبحانه وتعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ومما يعين على معرفة صبره -تعالى- وحلمه، والفرق بينهما: تأمل قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) ، وقوله -تعالى-: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (2) وقوله -تعالى-: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (3) ، على قراءة فتح اللام. فأخبر -تعالى- أن حلمه ومغفرته يمنعان زوال السماوات والأرض، فالحلم وإمساكهما أن تزولا هو الصبر، فبحلمه صبر عن معاجلة أعدائه. وفي الآية إشعار بأن السماوات والأرض تهم وتستأذن بالزوال؛ لعظم ما يأتي به العباد، فيمسكهما بحلمه، ومغفرته، وذلك حبس عقوبته عنهم، وهو حقيقة صبره -تعالى-. فالذي صدر عنه الإمساك، هو صفة الحلم، والإمساك هو الصبر، وهو حبس العقوبة، ففرق بين حبس العقوبة، وبين ما صدر عنه حبسها، فتأمله" (4) . قال ابن المنير: "وجه مطابقة الحديث للآية (5) : اشتماله على صفتي الرزق، والقوة الدالة على القدرة، أما الرزق، فواضح من قوله: "ويرزقهم"، وأما القوة فمن قوله: "أصبر" فإن فيه إشارة إلى القدرة على الإحسان إليهم، مع إساءتهم، بخلاف طبع البشر، فإنه لا يقدر على الإحسان إلى المسيء إلا من جهة تكلفه   (1) الآية 41 من سورة فاطر. (2) الآيات 88-91من سورة مريم. (3) الآية 46 من سورة إبراهيم. (4) "عدة الصابرين" (ص236-237) . (5) في "الفتح": (مطابقة الآية للحديث) والمناسب ما أثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ذلك شرعاً، وسبب ذلك أن خوف الفوت يحمله على المسارعة إلى المكافأة بالعقوبة، والله -سبحانه- قادر على ذلك حالاً، ومآلاً، لا يعجزه شيء ولا يفوته" (1) . قلت: ليس عجز الإنسان عن الصبر من أجل خوف الفوت فقط، بل ولأنه لا يستطيعه ولا يتحمله، لأن ذلك يضره في نفسه، أو غير ذلك. والذي يظهر أن ما أراده البخاري -رحمه الله- من الحديث، هو البيان بأن الله -تعالى- مسمى بالأسماء الحسنى، ومتصف بالصفات العليا، حقيقة على ما يليق به-تعالى-، وعلى ما يفهم من اللفظ الموضوع للمعنى المتعارف عليه من ظاهر اللغة، الذي أطلقه -تعالى- على نفسه أو أطلقه عليه رسوله، دون تكلف تأويل، أو رجوع إلى اصطلاح متكلم، أو متفلسف، كما بين ذلك قوله: "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم" فهذا هو حقيقة الصبر المعروف في اللغة، ونصوص الشرع، فلا يجوز العدول عن ذلك بالتأويلات التي تبعد المعنى عن مقصود المتكلم من اللفظ، ودل قوله: "ثم يعافيهم، ويرزقهم" على فضله على عباده بالعافية والرزق، وأن كل ما يقع بأيديهم من رزقه، فهو الذي هيأ أسبابه ويسر طرقه. وقوله: "ثم يعافيهم ويرزقهم" أي أنه -تعالى- يقابل إساءتهم بالإحسان، فهم يسيئون إليه -تعالى- بالعيب والسب، ودعوى ما يتعالى عنه ويتقدس، وتكذيب رسله ومخالفة أمره، وفعل ما نهاهم عنه فعله، وهو يحسن إليهم بصحة أبدانهم، وشفائهم من أسقامهم، وكلاءتهم بالليل والنهار مما يعرض لهم، ويرزقهم بتسخير ما في السماوات والأرض لهم، وهذا غاية الصبر والحلم والإحسان، والله أعلم.   (1) "فتح الباري" (13/361) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قال: "باب قول الله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) ، {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) ، و {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (3) ، و {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (4) ، و {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (5) . قال يحيي: الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً". أراد البخاري -رحمه الله- بيان ثبوت علم الله -تعالى- وعلمه -تعالى- من لوازم نفسه المقدسة، وبراهين علمه -تعالى- ظاهرة مشاهدة في خلقه، وشرعه، ومعلوم عند كل عاقل أن الخلق يستلزم الإرادة، ولابد للإرادة من العلم بالمراد، كما قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (6) . والخالق هو: المبدع بتقدير سابق الوجود في الخارج، وهذا يتضمن تقدير المخلوقات في العلم قبل إيجادها في الخارج، وهو أيضاً يستلزم الإرادة والمشيئة، والإرادة مستلزمة تصور المراد والعلم به. ووصف نفسه - تعالى- في هذه الآية بأنه (لطيف) يدرك الدقيق، (خبير) يدرك الخفي. والأدلة على وصف الله بالعلم كثيرة، ولا ينكرها إلا ضال أو معاند مكابر. وفي هذه الآيات التي ذكرها البخاري مدح الله- سبحانه وتعالى- فيها نفسه   (1) الآية 26 من سورة الجن. (2) الآية 34 من سورة لقمان. (3) الآية 166 من سورة النساء. (4) الآية 11 من سورة فاطر، والآية 47 من سورة فصلت. (5) الآية 47 من سورة فصلت. (6) الآية 14 من سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 بأنه عالم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، فكان ذلك دليلاً على أنه لا يعلم الغيب سواه، فعلمه -تعالى- وسع كل شيء في الماضي، والمستقبل، والحال. وفي الآية الأولى استثنى -تعالى- من ارتضاه من رسله، فأطلعهم على ما يشاء من غيبه، عن طريق الوحي إليهم، وإعلامهم به، وجعل ذلك معجزة لهم، ودليلاً على نبوتهم وصدقهم. وليس المنجم والكاهن، ومن ضاهاهما، كالضارب بالحصى، والناظر في الكتب والأكف، وما أشبه ذلك، ممن أرتضاه الله من الرسل، حتى يطلعهم على ما يشاء من الغيوب، بل هم مفترون على الله، يصطادون أموال الجهلة من الناس بالتلبيس والحدس والتخمين الكاذب والادعاء الفارغ. "والغيب" مصدر غاب، إذا استتر عن العين، قال -تعالى-: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (1) ، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان، قال -تعالى-: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (2) ، ويقال للشيء: غيب، وغائب، باعتبار تعلقه بالناس. أما الله -تعالى- فإنه لا يغيب عنه شيء. وقوله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (3) ، أي: ما يغيب عنكم، وما تشهدونه. والغيب في قوله -تعالى-: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (4) : ما لا يقع تحت الحواس، ولا يقتضيه بدائه العقول، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام" (5) .   (1) الآية 20 من سورة النمل. (2) الآية 75من سورة النمل. (3) الآية 22 من سورة الحشر. (4) الآية 3 من سورة البقرة. (5) "المفردات" للراغب (ص366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} قال الحليمي: "معناه أنه يدرك الأشياء على ما هي عليه، وإنما وجب أن يوصف -عز اسمه- بالعالم؛ لأنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له، وأنه لا يمكن فعل إلا باختيار وإرادة، والفعل على هذا الوجه لا يظهر إلا من عالم، كما لا يظهر إلا من حي" (1) . فقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} أي المختص بعلم الغيب، فلا يشاركه فيه أحد. قال ابن جرير: عالم ما غاب عن أبصار خلقه، فلم يروه {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} فيعلمه أو يريه إياه {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك (2) . وقال القسطلاني: "عالم الغيب فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه إلا من ارتضى من رسول لإطلاعه على بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزة له" (3) . وقوله: و {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الواو ليست من الآية، إنما جاء بها للعطف. والمعنى: أن علم وقت مجيء الساعة - الذي هو النفخ في الصور- لا يعلمه إلا الله -تعالى- وحده، فهو خاص به -تعالى- لا يشاركه فيه أحد. قال الخازن: "ومعنى الآية: أن الله عنده علم الساعة، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم، في أي سنة، أو أي شهر أو أي يوم، ليلاً أو نهاراً" (4) . وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: أنزل القرآن، عالماً بما يترتب على إنزاله من الخير   (1) "المناهج" (1/191) . (2) "تفسير الطبري" (29/121) . (3) "إرشاد الساري" (10/363) . (4) "تفسير الخازن" (5/220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 والفلاح وغير ذلك، وعالماً بمن يؤمن به ويقبله، ويسعد بذلك، ومن يكفر به ويرده ويشقى بذلك. أو المعنى: أنزله فيه علمه الذي أراد أن يطلع عليه من يشاء من عباه، من الإيمان به، ومعرفته –تعالى- بأسمائه وصفاته، وما رتب على ذلك من الجزاء في الدنيا والآخرة، ومعرفة حقه، وأمره ونهيه، والآية تدل على كلا المعنيين. وقال ابن الجوزي: "فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنزله وفيه علمه، قال الزجاج. الثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدمشقي. الثالث: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه، قال ابن جرير" (1) . وقال الخازن: "يعني أنه –تعالى- لما قال: لكن الله يشهد بما أنزل إليك، بين صفة ذلك الإنزال، وهو أنه –تعالى- أنزله بعلم تام، وحكمة بالغة. وقيل: معناه: أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك، وأنك مبلغه إلى عباده" (2) . وقال ابن كثير: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا أن يعلمه الله به، كما قال –تعالى-: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (3) ، وقال –تعالى-: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (4) (5) .   (1) "زاد المسير" (2/257) ، وانظر "تفسير الطبري" (6/31) . (2) "تفسير الخازن" (1/625) . (3) الآية 255 من سورة البقرة. (4) الآية 110 من سورة طه. (5) "تفسير ابن كثير" (2/428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (1) اقتصر البخاري-رحمه الله تعالى- على محل الشاهد من الآية والآية بتمامها: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) . يخبر –تعالى- العباد بأنه ابتدأ خلقهم بخلق أبيهم آدم من تراب، ثم جعل خلق ذريته من نطفة –من ماء مهين- وجعلهم أزواجاً، أي ذكراً وأنثى، رحمة منه تعالى ولطفاً، ثم أخبر –تعالى- أنه عالم بأطوار خلقهم، لا يخفى عليه شيء من مبتدئه، ووضعه، ونوعه، وعمره، وعمله، وزيادة عمره، ونقصانه، وأن ذلك عنده في كتاب، وهو سهل عليه يسير {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) ، ففي هذه الآية بيان شمول علمه –تعالى- لكل شيء، فلا تكون حياة، ولا موت، ولا حركة، ولا سكون إلا بعلمه وتصريفه ومشيئته. قوله: {*إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي هو تعالى المختص بعلم الساعة أي وقت مجيئها. قال ابن جرير –رحمه الله تعالى-: "إلى الله يرد العالمون به علم الساعة، فإنه لا يعلم قيامها غيره" (4) . ففي هذه الآيات ونحوها دلالة ظاهرة على ثبوت صفة العلم لله، بحيث لا ينكر ذلك إلا معاند مكابر يجادل بالباطل، ليدحض به الحق، أو جاهل قد تناهى جهله، ومن أوجه البيان في ذلك أنه تعالى أضاف العلم إلى نفسه الكريمة، إضافة حقيقية، والمضاف إلى الله –تعالى- إما أن يكون أعياناً قائمة بنفسها، كبيت   (1) الآية 11 من سورة فاطر. (2) وقال –تعالى-: {*إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من انثى ولا تضع إلا بعلمه] {سورة فصلت: آية 47] . (3) الآية 14 من سورة الملك. (4) "تفسير الطبري" (25/2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الله، وناقة الله، ورسول الله، وعرش الرحمن، وما أشبه ذلك وهذا النوع من إضافة المخلوق إلى خالقه؛ لتفضيلها على غيرها من المخلوقات. وإما إضافة معان، كعلم الله وقدرة الله، وحياة الله، وسمع الله وبصره، وما أشبه ذلك، وهذا النوع لا يكون إلا إضافة صفة إلى من تقوم به؛ لأنها لا تقوم بنفسها كما هو معلوم. ومراد البخاري-رحمه الله- في إيراده هذه الآيات إثبات هذه الصفة لله –تعالى -، والرد على من ينكرها من المعتزلة، ونحوهم ممن عميت بصائرهم، فابتعدوا عن الحق، مغترين بعقولهم. قوله: "قال يحيي: الظاهر على كل شيء علماً، والباطن على كل شيء علماً". قال الحافظ: "يحيي هو ابن زياد الفراء النحوي المشهور، ذكر ذلك في كتاب "معاني القرآن له" (1) . قلت: هو يحيي بن زياد بن عبد الله، بن مروان الديلمي، أبو زكريا، المعروف بالفراء، إمام العربية، وصفه مترجموه بأنه كان متديناً ورعاً، وكان ثقة، له مصنفات كثيرة، ضاع أكثرها، توفي سنة 207 سبع ومائتين. وقول الفراء هذا، جزء من معنى هذين الاسمين الكريمين، وقد كان من عادة السلف أنهم يفسرون الشيء بجزء من معناه، وإلا فهو –تعالى- الظاهر على كل شيء ذاتاً، وقوة وقهراً، وعلماً وحكماً، والباطن على كل شيء إحاطة وقرباً وعلماً، وقد صح عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه –عن النبي –صلى الله عليه وسلم – أنه كان يقول: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك   (1) "فتح الباري" (13/362) ، وانظر: "معاني القرآن" للفراء (3/132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (1) . فهذا أحسن ما يفسر به هذه الأسماء، وأوضحه، وأقربه إلى معنى الكلام، مع كونه من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فلا ينبغي العدول عنه إلى كلام الناس، الذي هو عرضة للخطأ.   (1) انظر: "مسلم" (4/2084) رقم (61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 9- قوله: "حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله -تعالى-". ابن عمر: هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل، القرشي، العدوي،. وأمه: زينب بنت مظعون الجمحية، ولد سنة ثلاث من البعثة النبوية، وهاجر إلى المدينة وهو ابن عشر سنين، وأول مشاهده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخندق، وكان من سادات الصحابة، وعبادهم المجدين، وهو من المكثرين في الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، عرف بالعزوف عن الدنيا، والاستعداد للآخرة، كما عرف بشدة تمسكه بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وتتبع آثاره، له في "الصحيحين" مائتان وثمانون حديثاً، توفي سنة ثلاث وسبعين في مكة، وقد بلغ من العمر سبعاً وثمانين سنة، -رضي الله عنه- (1) . "قوله: مفاتيح الغيب" ذكر البخاري ذلك الحديث في الاستسقاء بلفظ "مفتاح" وفي بعض النسخ "مفاتح" وفي تفسير سورة الأنعام وسورة الرعد بلفظ "مفاتح" وفي بعض النسخ "مفاتيح". والمفاتح جمع مفتح، بكسر الميم، اسم الآلة التي يفتح بها، مثل منجل، ومناجل، وهي لغة قليلة، والمشهور: مفتاح، وجمعه "مفاتيح"، وقد قرأ بها   (1) "الإصابة" (4/181) والرياض النضرة (ص194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ابن السميفع، ويطلق المفتاح على ما كان محسوساً مما يحل غلقاً، كالقفل، وعلى ما كان معنوياً، كما جاء في الحديث الذي صححه ابن حبان: "إن من الناس مفاتيح للخير" الخ (1) . قوله: "مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله"، قد بين هذه الخمس، بأنها: ما يغيض من الأرحام - أي ما ينقص-، وما يكون في الغد من الحوادث والأعمال وغيرها، ومجيء المطر، والمكان الذي يموت به الإنسان، ووقت مجيء الساعة. وعبر عن هذه الأمور الخمسة بالمفاتيح، لتقريب الأمر من السامع=؛ لأن كل شيء جعل بينك وبينه حجاب، فقد غيب عنك، والتوصل إلى معرفته في العادة من باب الحجاب، فإذا كان المفتاح الذي لا يمكن الوصول إلى ما في داخل الحجاب إلا بمعرفته لا يعلم، فكيف بما في داخل الحجاب؟ ودل الحديث على أن هذه الأمور ليست هي الغيب، وإنما هي منه؛ وأن علم الغيب من خصائص الله تعالى. وأما ما جاء عن الأنبياء من الأخبار ببعض المغيبات، كإخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم - بما يقع بعده من الفتن؛ والفتوح على أمته؛ وبعض أشراط الساعة، وكإخبار عيسى -عليه السلام- بما يأكله بنو إسرائيل، وما يدخرونه في بيوتهم، ونحو ذلك، فإن هذا مما استثناه الله تعالى بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا {27} لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} (2) ، وهو من معجزاتهم التي تدل على صدقهم.   (1) "فتح الباري" (8/291) . (2) الآيات 26-28 من سورة الجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وبهذا وغيره يتبين ضلال الذين يزعمون أن فريقاً من الناس- ممن يدعون لهم الولاية- أنهم يعلمون الغيب، وكذا الذين يدعون ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يعلم الغيب إلا الله -تعالى-، وقد أمره الله أن يعلم الناس أنه لا يعلم الغيب، فقال تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1) ، فنفى -تعالى- علم الغيب عن الخلق عموماً، من في السماوات كالملائكة، ومن في الأرض كالأنبياء، فكيف يدعى علم ذلك لغيرهم؟ وأما أصحاب الدجل والتمويه، الذين يحتالون على أكل أموال الناس بالباطل، كالذين يزعمون معرفة ما في المستقبل، بواسطة النجوم، أو بقراءة الكف، أو فنجان القهوة، ونحو ذلك، فهؤلاء لا يخفى ضلالهم وكذبهم إلا على أجهل الناس، والمغفلين منهم. وأما الإخبار عما يسمى "بالطقس" أحوال الجو من أمطار، أو رياح أو غيوم أو صحو أو غير ذلك، فهي توقعات مبنية على مقدمات مستفادة من مراصد الأحوال الجوية التي تتأثر بالرطوبة واليبوسة ونحو ذلك، ولهذا كثيراً ما يكون الأمر على خلاف ما قالوا. "وأراد بالغيب في الحديث المذكور: الغيب الحقيقي؛ إذ لبعض الغيوب علامات ومقدمات يستدل بها على شيء من ذلك، وهذا ليس غيباً حقيقياً؛ فالغيب الحقيقي لا يعلمه إلا الله -تعالى-. ثم الغيب نوعان: أحدهما: ما يتعلق بذات الله -تعالى- وحقائق صفاته. والثاني: يتعلق بمخلوقاته، وهي كلها لديه معلومة، وقد قال -تعالى-: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (2) .   (1) الآية 65 من سورة النمل. (2) الآية 59 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فلما كان كل شيء محصى في كتاب كتبه الله -تعالى- عنده، وعلمه محيط وسابق كل شيء، شبه الرسول- صلى الله عليه وسلم - ذلك بالمخازن التي لها أبواب، والباب له مفتاح، فإذا كان المفتاح لا يعلمه أحد ولا يصل إليه، فكيف بما وراءه؟ وقد قال -تعالى-: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (1) ، وحصر -صلى الله عليه وسلم - مفاتيح الغيب بالخمس لأنها تشمل العوامل كلها. فقوله: "ما تغيض الأرحام" إشارة إلى ما يزيد في النفوس، وما ينقص منها؛ وذكر الأرحام؛ لأن للناس عليها عوائد يعرفونها؛ وتجارب أدركوها، وقد قرر عليها أحكام شرعية، ومع ذلك لا يعلم حقيقتها، ومتى تزيد ومتى تنقص إلا الله -تعالى-، فغيرها مما هو أخفى أولى بأن لا يعلمه الخلق. وأشار بقوله: "ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله تعالى" إلى أمور العالم العلوي، فذكر منه المطر؛ لأن له مقدمات، وعلامات يستدل بها عليه عادة، أجراها الله -تعالى-، ومع ذلك لا يعلم حقيقة الحال إلا الله -تعالى-، فكيف بما وراء ذلك مما في السماوات وما بينهما، وما يجد هناك من المخلوقات، والحوادث، والأوامر التي يريدها الله -تعالى-، ويأمر بها؟ وأشار بقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (2) ، إلى الحوادث الأرضية، وذكر موضع الموت من الأرض، مع أن العادة قد جرت في الغالب أن الإنسان يموت في الأرض التي يستقر فيها؛ ومع ذلك لا أحد يتيقن أنه يموت في مكانه الذي يعيش فيه، ولا يدري أين موضعه الذي يوارى فيه. فإذا كان الأمر في مثل هذا غير معلوم، فكيف بالأمور الأخرى التي لا علامات لها، ولا مقدمات يستدل بها عليها؟   (1) الآية 21 من سورة الحجر. (2) الآية 34 من سورة لقمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وأشار بقوله: "ولا يعلم ما في غد إلا الله" إلى أنواع الزمان، وما فيه من الحوادث والتقلبات الطارئة، وخص منه غداً؛ لأنه أقرب الأزمنة من المخاطب، فإذا خفي ما فيه فما بعده أخفى، وأبعد عن معرفته. وأشار بقوله: " ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" إلى أمور الدار الآخرة، وذكر منها يوم القيامة؛ لأنه أولها إلى الدنيا، ولا يعلم وقت مجيئه إلا الله، فما بعده أولى بأن لا يعلم، فهذا من أبدع الكلام، وأبلغه، فقد حصر فيه جميع أنواع الغيوب، وأبطل جميع الدعاوى الفاسدة" (1) . ويقصد بالدعاوى الفاسدة: كل من يدعي شيئاً في علم الغيب، وهذا الحديث إيضاح لقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) .   (1) انتهى ملخصاً من "بهجة النفوس" (4/272) . (2) الآية 34 من سورة لقمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 10- "حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من حدثك أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد كذب، وهو يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: (لاَّ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) . "كأن سبب هذا القول من عائشة -رضي الله عنها- ما أخرجه عبد الرزاق في هذا الحديث من طريق مجالد عن الشعبي، قال: لقي ابن عباس كعباً، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول: إن محمداً رأى ربه مرتين، فكبَّر كعب، وقال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، قال مسروق: فدخلت على عائشة، فقلت: هل رأى محمد ربه؟ " فذكر الحديث. قال النووي-تبعاً لغيره-: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولاً، وخالفه غيره منهم، لم يكن ذلك حجة اتفاقاً. والمراد بالإدراك: الإحاطة، وهو لا ينافي الرؤية. وهذا عجيب من النووي -رحمه الله- فإن في "صحيح مسلم" الذي شرحه هو: "قال مسروق: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (1) .   (1) الآية 13 من سورة النجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: إنما هو جبريل". وأخرجه ابن مردويه بسند مسلم، فقال: "أنا أول من سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن هذا، فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: "لا، إنما رأيت جبريل منهبطاً" (1) . قلت: أعجب من كلام النووي ما قاله ابن خزيمة -رحمه الله- فإنه ذكر هذا الحديث بعينه - أعني قول عائشة-: "أنا سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عن هذا، قال: "رأيت جبريل نزل في الأفق، على خلقه، وهيئته، ساداً ما بين الأفق" ثم بعد أسطر قال: "إن عائشة لم تحك أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أخبرها أنه لم ير ربه" (2) . فهذا ونحوه هو ما غر النووي -رحمه الله- ودعاه إلى رد قول عائشة من غير تأمل للأدلة؛ والله المستعان. وكثير من العلماء يذكر الخلاف في أن النبي -صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج، "وليس في الأدلة ما يقضي بأنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة صريحاً، ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في "صحيح مسلم"، عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أنى أراه" (3) . وقد قال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (4) ، ولو كان قد رأى ربه بعينه لكان ذكر ذلك أولى، وكذلك قوله -تعالى-: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (5) ، ولو كان رآه لكن ذكر ذلك أولى.   (1) "الفتح" (8/607) . (2) انظر: كتاب"التوحيد"، لابن خزيمة (ص226) . (3) انظر: "صحيح مسلم" (3/12) بشرح النووي. (4) الآية 1 من سورة الإسراء. (5) الآية 18 من سورة النجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وفي "الصحيحين" عن ابن عباس، في قوله -تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} (1) ، قال: هي رؤيا عين، أريها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليلة أسرى به، وهذه رؤيا الآيات؛ لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدقه قوم، وكذبه قوم، ولم يخبرهم بأنه رأى ربه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك لذكره كما ذكر ما دونه" ا. هـ (2) . وبهذا تبين أن قول عائشة -رضي الله عنها- هو الراجح، الذي تؤيده الأدلة -والله أعلم-، وظاهره أن مرادها أنه -تعالى- لا يرى في الدنيا. قوله: "وهو يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} استدلت عائشة - رضي الله عنها - بظاهر الآية على نفي الرؤية، وقد قال بذلك بعض المفسرين، كما رواه ابن جرير بسنده، عن السدي، قال: "لا يراه شيء وهو يرى الخلائق" (3) . وذكر ابن كثير ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى إسماعيل ابن علية أنه قال: "هذا في الدنيا، وعن هشام بن عبيد الله نحوه" (4) . وذكر السيوطي: أن الحسن قال مثل ذلك، قال: أخرجه أبو الشيخ، والبيهقي في كتاب: الرؤية (5) . وبهذه الآية تعلق المعتزلة في نفي رؤية الله -تعالى- في الآخرة، ووجه ذلك أنه جعل متعلق الإدراك البصر، فلما نفاه عنه كان ظاهر ذلك نفي الرؤية. والحق ثبوت رؤية المؤمنين لله -تعالى- في الآخرة، كما تواترت النصوص في ذلك.   (1) الآية 60 من سورة الإسراء. (2) "مجموع الفتاوى" (6/580) . (3) انظر: "تفسير الطبري" (7/301) قال السيوطي: أخرجه ابن أبي حاتم، "الدر المنثور" (3/335) . (4) انظر: "تفسير ابن كثير" (3/303) . (5) "الدر المنثور" (3/335) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 والجواب عما استدلوا به: أن الرؤية ثبتت في آيات أخر، كقوله-تعالى-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) ، وقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (2) ، والأخبار بذلك ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل متواترة، كما سيأتي، إن شاء الله -تعالى-. فيتعين أن المراد بالإدراك المنفي في الآية هو الإحاطة، وبذلك فسره ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من السلف. قوله: "ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: "ولا يعلم الغيب إلا الله" الضمير في قوله: "إنه يعلم" يعود على محمد -صلى الله عليه وسلم - أي: من زعم أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- يعلم الغيب، فقد كذب، لأن علم الغيب يختص بالله -تعالى-، كما قال -تعالى- مخاطباً نبيه -صلى الله عليه وسلم - وأمراً له أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (3) ، والآيات في هذا كثيرة. وعلم الغيب من خصائص الرب -تعالى- التي بعث رسله وأنزله كتبه لبيانها، ونفي ذلك عمن سواه -تعالى-. وأما قول -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) (4) ، فهي كقوله -تعالى-: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (5) ، فهي تبين أن الله -تعالى يطلع من يشاء من رسله على ما يشاء من المغيبات، وذلك بوحيه إليهم، مثل إخباره عما جرى من الأمم الماضية، وما أصيبوا به من   (1) الآية 22-23من سورة القيامة. (2) الآية 15 من سورة المطففين. (3) الآية 50 من سورة الأنعام. (4) الآيتان 26-27 من سورة الجن. (5) الآية 255 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 العذاب وغيره، كما قال -تعالى-: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} (1) ، وكذلك الإخبار عن المستقبل من المعاد، والجنة والنار، التي أطلع الله عليها رسوله فآمن بها المؤمنون، وعرفوها من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم - إجمالاً. وأما الإحاطة بالمعلومات كلياتها وجزئياتها ما كان منها، وما يكون، فهذا إلى الله وحده لا يضاف إلى غيره من الخلق، فمن ادعى شيئاً من ذلك لغير الله -تعالى-، فقد أعظم الفرية على الله -تعالى-، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم -. "فعلم الغيب لله وحده، ولا يقال لغيره: عالم الغيب، ومن أطلع على شيء منه بواسطة الوحي أو غيره، يقال" أطلعه الله عليه، كالإخبار عن حال البرزخ، والحساب، والجنة والنار، وما أشبه ذلك، وما يدعيه المتصوفة في مشايخهم هو من تلاعب الشيطان بهم، وكذا ما يسمونه الكشوف لا أصل له"ا. هـ (2) . "وقول الداودي: (ما أظن قوله: "من حدثك أن محمداً يعلم الغيب" محفوظاً، وما أحد يدعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى) متعقب بأن بعض من لم يرسخ إيمانه يظن ذلك، حتى ظن بعضهم أن صحة النبوة تستلزم إطلاع النبي -صلى الله عليه وسلم - على جميع المغيبات، كما في مغازي ابن إسحاق، أن ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم - ضلت، فقال ابن الصليب: يزعم محمد أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "إن رجلاً يقول: كذا وكذا، إني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في شعب كذا، قد حبستها شجرة، فذهبوا فجاؤوا بها " فأخبر -صلى الله عليه وسلم - أنه   (1) الآية 49 من سورة هود. (2) "غاية الأماني" بتصرف، (1/34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله" (1) . قلت: قد ادعى كثير من المتصوفة والغلاة أن مشايخهم ومعبوديهم من دون الله -تعالى-، يعلمون الغيوب، وكتبهم مشحونة بذلك، مثل الطبقات الكبرى للشعراني، وجامع الأولياء للنبهاني، وغيرهما من الكتب الخرافية.   (1) القسطلاني، ببعض التصرف (10/365) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قال: باب قول الله -تعالى-: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} (1) . أي أن ذلك من أسماء الله -تعالى- التي سمي بها نفسه، ومعناه: السالم من كل نقص وعيب. وسيأتي بيان ذلك. "قال ابن بطال: غرضه بهذا الباب: إثبات اسمان من أسماء الله -تعالى-، قال الحافظ: وفيما ذكره نظر، ولو سلم له ذلك، فإن وظيفة الشارح بيان وجه تخصيص هذه الأسماء بالذكر (2) دون غيرها، وإفرادها بالترجمة، ويمكن أنه أراد بهذا القدر جميع الآيات الثلاث، في آخر سورة الحشر، فإنها ختمت بقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} وقد قال في سورة الأعراف: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وكأنه رحمه الله -تعالى- بعد إثبات القدرة، والقوة، والعلم، أشار إلى أن الصفات السمعية ليست محصورة في عدد معين، بدليل الآية المذكورة. (4) . أو أراد الإشارة إلى ذكر الأسماء التي تسمى الله -تعالى- بها، وأطلق بعد ذلك على المخلوقين، والسلام ثبت في القرآن (5) ، وفي الحديث "أنه من أسماء الله -تعالى".   (1) الآية 23 من سورة الحشر. (2) يعني أنه قصر في بيان وجه إيراد البخاري هذين الاسمين من بين الأسماء الأخرى. (3) الآية 180 من سورة الأعراف. (4) هي قوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ] {سورة الأعراف: آية 180] . (5) كما في الآية المترجم بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقد أطلق على التحية الواقعة بين المؤمنين. والمؤمن يطلق على من اتصف بالإيمان، وقد وقعا معاً من غير تخلل بينهما في الآية المشار إليها، فناسب أن يذكرهما في ترجمة واحدة " (1) ا. هـ. قلت: ما ذكره من أن السلام أطلق على المخلوقين، كالتحية الواقعة بين المؤمنين، غير ظاهر؛ لأن السلام الذي جعل تحية للمؤمنين اسم من أسماء الله –تعالى-، كما رواه البخاري –رحمه الله تعالى- في "الأدب المفرد"، من حديث أنس، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: "إن السلام اسم من أسماء الله –تعالى-، وضعه الله في الأرض، فأفشوا السلام بينكم" (2) ، وإسناده صحيح، وترجم به البخاري في الصحيح فقال: {باب: السلام اسم من أسماء الله –تعالى-} (3) وفي حديث عبد الله بن مسعود المتفق عليه: "إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله ... " وسيذكره في الباب. وقال ابن عباس: "السلام اسم الله، وهو تحية أهل الجنة" أخرجه البيهقي في "الشعب" (4) . ويدل على ذلك حديث المهاجر بن قنفذ، لما سلم على النبي –صلى الله عليه وسلم – لم يرد حتى توضأ، وقال: " إني أن أذكر الله إلا على طهر" رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (5) . قال الحافظ: صححه ابن خزيمة وغيره (6) .   (1) "فتح الباري" (13/366) . (2) "الأدب المفرد" (ص343) . (3) انظر: "الفتح" (11/13) . (4) انظر: "الفتح" (11/12) . (5) انظر: "سنن أبي داود" (1/23) الحديث السابع عشر، النسائي (1/37) ، ابن ماجه رقم (350) . (6) انظر: "الفتح" (11/13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قال الخطابي: "وفيه دليل على أن السلام الذي يحيي به الناس بعضهم بعضاً اسم من أسماء الله –تعالى-" (1) . وقد اختلف في معناه، فنقل عياض أن معناه: اسم الله، أي: كلاءته عليك وحفظه، كما يقال: الله معك ومصاحبك. وقيل: معناه: أن اسم الله يذكر على الأعمال، توقعاً لاجتماع معاني الخيرات فيها، وانتفاء عوارض الفساد. وقيل: معناه: السلامة، كما قال تعالى: {فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} (2) أن المسلم أعلم من سلم عليه أنه سالم منه، وألا خوف عليه منه (3) . قلت: هذه المعاني متلازمة؛ لأنه إذا حصل حفظ الله لعبده وكلاءته، وكان معه، فقد حصل له الخير والبركة والسلامة. قال ابن دقيق العيد: " السلام يطلق على معان، منها السلامة، ومنها التحية، ومنها أنه اسم من أسماء الله –تعالى-، قال: وقد يأتي بمعنى التحية محضاً، وقد يأتي بمعنى السلامة محضاً وقد يأتي متردداً بين المعنيين، كقوله –تعالى-.. (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) (4) ، فإنه يحتمل التحية والسلامة، وقوله –تعالى-: {وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ {57} سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (5) (6) ا. هـ.   (1) "معالم السنن على هامش السنن" (1/23) . (2) الآية 91 من سورة الواقعة. (3) "الفتح" (11/13) . (4) في الآية قراءتان، في إحداهما: السلم، بمعنى الاستسلام والانقياد، أي استسلم وانقاد لطاعة الله وتوحيده، والأخرى: السلام، وفسرت بالتحية بأن يقول: السلام عليكم. (5) الآيتان 57-58 من سورة يس. (6) "الفتح" (11/13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قلت: يمكن إرجاع هذه الإطلاقات إلى معنى واحد، إذ كلها في الحقيقة تدور على طلب السلامة، والخلاص من الشر والأذى، وهذا ما تضمنته التحية المشروعة بين المسلمين. فالصواب: أن السلام أسم من أسماء الله –تعالى- كما تقدم، وقد أمر المسلمون أن يفشوه فيما بينهم، فعندما يلقي المسلم على أخيه ذلك، فإنه يذكر الله –تعالى-، طالباً منه السلامة، متوسلاً إليه بذكر اسمه- تعالى- المناسب لطلبه، فكأنه يقول: أنا مسالم لك أيها الأخ محب، وداع لك، وطالب حصول البركة والخير، والسلامة من كل مؤذ، ممن يملك ذلك، متوسلاً إليه في حصول ذلك باسمه السلام. فتضمن ذلك ثلاثة أشياء: أحدها: ذكر اسم الله –تعالى-. الثاني: إعلام المسلم عليه: أنه مسالم له لا يناله منه أذى. الثالث: طلب السلامة والخير له، وبهذا يظهر أن قول من قال: إنه يطلق على التحية بين المخلوقين، أنه لا يخالف كونه اسماً من أسماء الله، أي أنه ليس قسيماً له، بل التحية الواقعة بين المؤمنين هي ذكر اسم الله –تعالى-، المطلوب به حصول السلامة، وذلك أن السائل يسأل في كل مطلوب من الله بالاسم المناسب لمطلوبه، كما يعلم ذلك عند تأمل الأدعية الواردة في كتاب الله –تعالى-، وفي أحاديث رسوله –صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. والصواب: أن مراد البخاري- رحمه الله تعالى- بهذه الترجمة: تنزيه الله –تعالى- عن مشابهة المخلوق، وأن اشتراكه – تعالى- مع المخلوق في الاسم، أو في معنى من المعاني، لا يكون فيه تشبيه، نحو اليد، والرجل، والاستواء، والمجيء، والضحك، والسخط، والعلم، والسمع، والبصر، وغير ذلك مما أثبته –تعالى- لنفسه، وأثبته له رسوله: لأنه –تعالى – السلام، أي: السالم من كل عيب ونقص يلحق المخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 "قال ابن قتيبة: سمى نفسه سلاماَ؛ لسلامته مما يلحق المخلوق من العيب والنقص والفناء، وقال الخطابي: معناه ذو السلام، والسلام في صفة الله تعالى هو: الذي سلم من كل عيب، وبرأ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين، وقد قيل: هو الذي سلم الخلق من ظلمه"ا. هـ (1) . قلت: هذا القول الأخير لا يخالف الذي قبله، بل كلاهما يدخل في اسمه تعالى: السلام. قال ابن كثير: "السلام من جميع العيوب والنقائص، بكماله في ذاته وصفاته وفي أفعاله" (2) . فالسلام من الكلمات الجامعة، وحقيقته: البراءة الخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريف هذا اللفظ، فمن ذلك: سلمك الله، وسلم فلان من الشر، ومنه دعاء الرسل على الصراط: "اللهم سلم سلم" وسلم الشيء لفلان، أي: خلص له وحده من ضرر الشركة فيه، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ} (3) أي: خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره. والسلم ضد الحرب، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (4) ؛ لأن كل واحد من المتحاربين يسلم من أذى الآخر ويخلص منه، والقلب السليم هو: النقي من الغل والدغل، الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فاستقام على حب الله وحسن معاملته، ولذلك ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته.   (1) "زاد المسير" (8/225) . (2) "تفسير ابن كثير" (8/105) . (3) الآية 29 من سورة الزمر. (4) الآية 61 من سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والإسلام أخذ من هذا المعنى، فإنه: الاستسلام لله والانقياد له، والتخلص من شوائب الشرك، والبدع المضلة. والجنة دار السلام، أي: دار السلامة من كل آفة ونقص وشر، فإطلاق السلام على الله تعالى اسماً من أسمائه، أولى من هذا كله، وهو أحق بهذا الاسم من كل مسمى به؛ لسلامته تعالى من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو –تعالى- السلام الحق بكل اعتبار، سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم. وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، فهو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه، ونزهه به رسوله، فهو السلام من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل، والسلام من الشريك. ولهذا إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاماً مما يضاد كمالها. فحياته –تعالى- سلام من الموت والسنة والنوم، وقيوميته وقدرته سلام من الحاجة والتعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر أو تفكر، وإرادته –تعالى- سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته –تعالى- سلام من الكذب والخلف والظلم، بل تمت كلماته صدقاً وعدلاً، وغناه – تعالى – سلام من الحاجة إلى غيره في وجه من الوجوه، بل كل ما سواه فقير إليه محتاج، وملكه – تعالى – سلام من منازع فيه أو مشارك، أو معاون مظاهر، أو شافع عنده بدون إذنه، وإلهيته – تعالى – سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحلمه، وعفوه، وصفحه، ومغفرته، وتجاوزه، سلام من أن تكون عن حاجة، أو ذل، أو مصانعة، كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وكذلك عذابه، وانتقامه، وشده بطشه، وسرعة عقابه، سلام من أن يكون ظلماً، أو تشفياً، أو غلظة أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله، ووضعه الأشياء مواضعها، فهو يستحق عليه الحمد والثناء، كما يستحق على إحسانه ونعمه. وقدره وقضاؤه سلام من العبث والجور والظلم. وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وعدم مصلحة العباد ورحمتهم" (1) . وهكذا جميع صفاته وأفعاله سلام من كل ما يتوهمه معطل أو يتخيله مشبه، تعالى ربنا السلام عما يضاد كماله. وأما ذكره "المؤمن" مع السلام فلبيان أن ما تسمى الله به، وأطلق على غيره من خلقه، فإنه لا يكون بينه وبين من أطلق عليه مشابهة، فالله – تعالى – سمى نفسه: المؤمن، ومن اتصف بالإيمان من عباده يسمى: مؤمناً، ولكن الله – تعالى – سالم من النقائص والعيوب التي تلزم الخلق؛ لأنه – تعالى – هو السلام. وهكذا كل ما يطلق على غيره –تعالى- مما سمى به نفسه أو اتصف به، نحو العزيز، والكريم، والرؤوف، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم. وهو كثير. فلله- تعالى- ما يليق به من المعاني الكاملة السالمة من النقائص والعيوب، وللمخلوق ما يناسبه ويليق بضعفه، فهو محل كل عيب ونقص. والله أعلم. المؤمن من أسمائه – تعالى- وهو على أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون للدلائل التي دل بها على صدقهم – قضاء وخلقاً – فإنه – سبحانه- أخبر- وخبره الصدق وقوله الحق، أنه لابد أن يري   (1) "بدائع الفوائد" ملخصاً (2/132-136) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 عباده من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق، كما قال –تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) فشهد لرسوله أن ما جاء به حق، ووعده أن يري العباد من آياته الفعلية والخلقية: ما يشهد بذلك أيضاً، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل، وهو شهادته- تعالى- على كل شيء، فإن من أسمائه "الشهيد": الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل هو مطلع على كل شيء وشاهد له، عليم بتفاصيله، وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته " (2) . وقال ابن الجوزي: "فأما المؤمن ففيه ستة أقوال: أحدها: أنه الذي أمن الناس ظلمه، وأمن من آمن به عذابه. الثاني: أنه المجيب. الثالث: أنه الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه. الرابع: أنه الذي وحد نفسه؛ لقوله –تعالى-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (3) . الخامس: أنه الذي يصدق عباده وعده. السادس: أنه الذي يصدق ظنون عباده المؤمنين؛ ولا يخيب آمالهم"أ. هـ (4) .   (1) الآية 53 من سورة فصلت (2) "مدارج السالكين" (3/466) . (3) الآية 18 من سورة آل عمران. (4) "زاد المسير" (8/225) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قلت: هذه الأقوال كلها حق، ويدل عليها اسمه –تعالى- "المؤمن" فهو المصدق الذي يصدق رسله بما يقيمه من الدلائل التي تدل على صدقهم فيما جاؤوا به وبلغوه عنه –تعالى-، ويصدقهم وعده بنصره إياهم على عدوهم، وبصدق عباده ما أخبرهم به من توفيتهم ما يستحقونه جزاء أعمالهم، ولا يضيع أجر أحد منهم ويؤمنهم من الظلم، فلا يخافون ظلماً ولا هضماً، فهو الذي يجير عباده وينجيهم من المهالك والمخاوف، وهو الذي شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 11- قال: " حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا مغيرة، حدثنا شفيق بن سلمة قال: قال عبد الله: كنا نصلي خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول: السلام على الله، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: " إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. عبد الله، هو عبد الله بن مسعود بن غافل، الهذلي، من أهل السوابق، هاجر قديماً إلى الحبشة، وقد شهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميع غزواته، ولازمه، وخدمه، فكان يقال له: صاحب السواك، والنعل؛ لأنه كان يحمل سواك رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ونعله. وفي "الصحيحين" أن أبا موسى قال: " قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما نرى من كثرة دخولهم على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ولزومهم له". وقال حذيفة: " ما نعلم أحداً أقرب سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- من عبد الله بن مسعود، ولقد علم المحظوظون من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة". وهو من علماء الصحابة، وفقائهم، توفي في الكوفة، وقيل: في المدينة، سنة اثنتين- أو ثلاث - وثلاثين، وله بضع وستون وسنة ا. هـ. (1)   (1) "الرياض المستطابة" ملخصاً، وانظر: " الإصابة" (4/233) ، و "تهذيب التهذيب" (6/27) ، و "سير أعلام النبلاء" (1/461) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قوله: "فنقول: السلام على الله"، كأنهم رأوا السلام من قبيل الحمد، والشكر، فجوزوا ثبوته لله - تعالى -، وهو تعالى السلام، والسلام منه بدأ وإليه يعود، إذ هو -تعالى- واهب السلام لعباده، الذي به يسلمون من شرور أنفسهم، وشرور أعدائهم من الجن والإنس، وهو -تعالى- السالم من كل ما فيه نقص أو شين، فلا يطلب له السلام، ولهذا قال معلم الهدى- صلى الله عليه وسلم-: " إن الله هو السلام" أي السالم من أن يلحقه حاجة، أو يناله تغير أو آفة، بل هو الكامل في أوصافه العليا، وأسمائه الحسنى، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه. وهذا الجزء من الحديث هو محل الشاهد الذي سيق من أجله؛ لأنه يدل على أن الله -تعالى- سالم من جميع العيوب والنواقص التي تلحق الخلق، فإذا سمى نفسه باسم قد يتسمى به بعض خلقه، أو وصف نفسه بصفة قد يتصف بها بعض خلقه، فالمعاني التي يدل عليها اسمه أو صفته تخصه- تعالى- لا يشاركه فيها المخلوق. وكل نقص في المخلوق فهو -تعالى- سالم منه، ومتنزه عنه، كما تقدم، فهو السلام المؤمن. قوله: " التحيات لله، قال في "اللسان": " التحيات لله" معناه" البقاء لله، والسلامة من الآفات كلها التي تلحق العباد من العناء، وأسباب الفناء" (1) . وكذا قال غيره من أهل اللغة. وجيء بلفظ الجمع ليدل على أن الله -تعالى- يستحق جميع الكمالات، من العظمة، والبقاء، والملك، والسلامة من الآفات والنقص، وغير ذلك. قال الخطابي: " لم يكن في تحياتهم شيء يصلح به الثناء على الله -تعالى-،   (1) "لسان العرب" (1/775) المرتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فلهذا أبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال: " قولوا: التحيات لله" أي: أنواع التعظيم له" ا. هـ. (1) وقوله: " لله" يفيد وجوب الإخلاص في العبادة، أي أن ذلك لا يجوز أن يكون لغير الله منه شيء. "والصلوات" أي جميع العبادات له استحقاقاً بمقتضى العقل، وبالشرع، وذلك مثل الركوع، والسجود، والقيام، والدعاء، وأنواع العبادة له وحده لا شريك له في ذلك. "والطيبات" أي الأعمال الطيبات له - تعالى- يتوسل بها إليه، وهو -تعالى- لا يقبل إلا طيباً، "وما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله، دون ما لا يليق بصفاته" (2) ، والوصف بالطيب يفيد خلوصها من الشرك، وشوائبه، وسلامتها من البدع. "السلام" اسم الله -تعالى- الدال على سلامته من كل نقص وعيب، فيدعى الله -تعالى- به؛ ليسلم من ذكر عليه هذا الاسم الشريف، من المكاره والمخاوف. "عليك أيها النبي" أمرهم أن يفردوه بالسلام، ويقدموه على أنفسهم، لوجوب حقه عليهم، ووجوب محبته التي يجب أن تكون مقدمة على النفس، وما دونها. والأحاديث متقفة على لفظ الخطاب، وذكر حرف النداء "عليك أيها النبي" وقد عدل بعض الصحابة بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- إلى لفظ خطاب الغائب فقالوا: "السلام على النبي" كما ذكره البخاري في الاستئذان (3) ، وابو عوانة في   (1) "فتح الباري" (2/313) ولفظ الخطابي لما ذكر ألفاظ تحياتهم لمعظميهم قال: " وهذه الألفاظ ونحوها مما يتحيا به الناس فيما بينهم لا يصلح شيء منها للثناء على الله- عز وجل-، فتركت أعيان تلك الألفاظ، واستعمل منها معنى التعظيم، فقيل: قولوا: التحيات لله، أي الثناء على الله والتحميد وأنواع التعظيم له كما يستحقه ويجب له". "أعلام الحديث" (2/545) . (2) المصدر نفسه. (3) انظر: "الفتح" (11/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 مسنده (1) ، وغيرهما. وقال عبد الرزاق: " عن ابن جريج، عن عطاء: أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا يسلمون والنبي-صلى الله عليه وسلم- حي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فلما مات قالوا: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته" (2) . وبهذا السند أيضاً: " سمعت ابن عباس، وابن الزبير، يقولان في التشهد في الصلاة: التحيات المباركات لله، الصلوات الطيبات لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته" (3) . والأولى: اتباع لفظ الحديث كما عليه الجمهور من الصحابة، ومن بعدهم من أهل العلم، وكما أنه لا فرق بين الحاضر معه في وقت حياته، وبين من كان غائباً، فكذلك بعد وفاته. والنداء لطلب استحضار المنادي في القلب، فيخاطبه كأنه شاهد في قلبه، ومثل هذا معروف في كلام العرب، وأشعارهم، يخاطب أحدهم من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع خطابه، قال حسان بن ثابت- رضي الله عنه- في رثائه لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد جزعاً على المهدي أصبح ثاوياً ... يا خير من وطيء الحصى لا تبعد وجهي يقيك لهفي ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا ليتني صبحت سم الأسود (4)   (1) انظر: " مسند أبي عوانة" (ص229) . (2) انظر: " المصنف" (2/204) . (3) المصدر نفسه، (ص203) . (4) انظر: " ديوان حسان" (ص97) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وقال امرؤ القيس: يا أيها الساعي ليدرك مجدنا ... ثكلتك أمك هل ترد قتيلاً (1) وقالت الخنساء في أخيها صخر: ألا يا صخر إن أبكيت عين ... لقد أضحكتني دهراً طويلاً ي بكيتك في نساء معولات ... وكنت أحق من أبدى العويلا دفعت بك الجليل وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا (2) وهذا كثير جدا، ولا يحتاج إلى ذكر الشواهد عليه؛ لشهرته، وبهذا وأمثاله يتبين ضلال المغرورين الذين يستغيثون بالأنبياء، والأولياء، ويتعلقون بشبه واهية، مثل استدلالهم بلفظ النداء، والخطاب المذكور في هذا الحديث، على حضور النبي -صلى الله عليه وسلم- عند كل من يناديه، ويخاطبه؛ ولذلك جوزوا التوجه إليه، ومناداته، في كل ملمة، فضلوا بذلك وأضلوا كثيراً. مع أن هذه الصيغة هي التي كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يقولها في تشهده والأمة تبع له، تقول مثل ما كان يقول، كما في شرح الآثر للطحاوي بسنده إلى عبد الله بن الزبير، قال: " إن تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يتشهد به: بسم الله، وبالله، خير الأسماء، التحيات، الطيبات، الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً، ونذيراً، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم اغفر لي   (1) انظر: " ديوان امرؤ القيس" (ص178) . (2) انظر: " ديوان الخنساء" (ص120) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 واهدني" ا. هـ. (1) وهو أيضاً عند البزار (2) . قال الحافظ: " فإن قيل: لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة، مع أن الوصف بالرسالة أعم في حق البشر؟ أجاب بعضهم: بأن الحكمة فيه أن يجمع له الوصفين؛ لأنه وصفه بالرسالة في آخر التشهد، وإن كانت الرسالة تستلزم النبوة، لكن الجمع بينهما أبلغ" (3) ، ولأنها وجدت في الخارج مقدمة على الرسالة في الوحي كما في قوله -تعالى-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (4) .   (1) "شرح معاني الآثار" (1/265) . (2) انظر: " كشف الأستار" (1/272) . (3) انظر: " الفتح" (2/314) . (4) الآية 1 من سورة العلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قال: "باب قول الله -تعالى-: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ". الملك هو: المتصرف بالأشياء حسب إرادته، ومشيئته، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه. وخص الناس؛ لأنهم الذين يملكون بعض الأشياء، وفيهم ملوك فهو- تعالى- ملك من يملك، وملك الملوك، فدخل غيرهم في المعنى، وملكه - تعالى - دائم لا يزول. قال الطبري: أخبر أنه ملك الناس "وهو ملك جميع الخلق، إنسهم وجنهم وغير ذلك، إعلاماً منه بذلك من كان يعظم الناس تعظيم المؤمنين ربهم، أنه ملك من يعظمه، وأن ذلك في ملكه وسلطانه، تجري عليه قدرته، وأنه أولى بالتعظيم، وأحق بالتعبد له ممن يعظمه، وتعبد له من الناس" ا. هـ. (1) قال الراغب: " الملك هو: المتصرف بالأمر والنهي" (2) . وقال الزجاج: " قال أصحاب المعاني: الملك: النافذ الأمر في ملكه، إذ ليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه، فالملك أعم من المالك، والله -تعالى- مالك المالكين كلهم، إنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته -تعالى-" (3) .   (1) "تفسير الطبري" (30/354) . (2) "المفردات" (ص472) . (3) "تفسير الأسماء الحسنى" (ص30) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقال الطبري: " ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب أن الملك من الملك مشتق؛ وأن المالك من الملك (1) مأخوذ، فتأويل قراءة من قرأ "مالك يوم الدين" أن لله الملك يوم الدين خالصاً؛ دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكاً جبابرة، ينازعونه الملك، ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية، فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأذلة، وأن له - دونهم ودون غيرهم - الملك والكبرياء، والعزة والبهاء، كما قال- جل ذكره وتقدست أسماؤه -: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (2) ، فأخبر - تعالى ذكره- أنه المنفرد يومئذ بالملك، دون ملوك الدنيا، الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار، ومن دنياهم في معادهم إلى خسار" (3) . قوله: " فيه ابن عمر" أي يدخل في هذا الباب حديث ابن عمر، وهو كحديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب سواء، وسيأتي إن شاء الله - تعالى-.   (1) الأول بضم اليم والثاني بكسرها. (2) الآية 16 من سورة غافر. (3) "تفسير الطبري" (1/148-149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 12- قال: " حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد- هو ابن المسيب- عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ". أبو هريرة عرف بكنيته، واختلف في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً، وصحح البخاري والنووي وغيرهما من الحفاظ أن اسمه عبد الرحمن بن صخر. قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلماً وهو يقسم غنائم خيبر، ثم لازم رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حضراً وسفراً، فلم يشغله عن ملازمته أهل ولا مال. وهو أحفظ الصحابة، بل أحفظ الأمة، ولهذا صار هدفاً لأهل الإلحاد بسبب كثرة ما يغضبهم من مروياته. قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث دهراً. (1) جاء في "صحيح مسلم" في قصة إسلام أمه، أنه قال: " قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني الله أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللهم حبب عبدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهما المؤمنين". قال أبو هريرة: " فما خلق الله مؤمناً يسمع بي، ولا يراني، إلا أحبني" (2) . ولهذا صار حبه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق والكفر.   (1) انظر: " تهذيب الأسماء واللغات" (1/270) . (2) "صحيح مسلم" (4/1939) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 توفي- رضي الله عنه- في المدينة، وقيل: بالعقيق، سنة سبع- أو تسع - وخمسين عن ثمان وسبعين سنة. (1) قوله: " يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه"، القبض هو: أخذ الشيء باليد وجمعه، والطي هو ملاقاة الشيء بعضه على بعض، وجمعه - ولفه- وهو قريب من القبض، وهذا من صفات الله -تعالى- الفعلية - التي تتعلق بمشيئته وإرادته، وهي ثابتة بآيات كثيرة وأحاديث صحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي مما يجب الإيمان به؛ لأن ذلك داخل في الإيمان بالله - تعالى-، ويحرم تأويلها المخرج لمعانيها عن ظاهرها، وقد دل على ثبوتها لله -تعالى - العقل أيضاً، فإنه لا يمكن لمن نفاها إثبات أن الله هو الخالق لهذا الكون المشاهد، لأن الفعل لا بد له من فاعل، والفاعل لا بد له من فعل، وليس هناك فعل معقول إلا ما قام بالفاعل، سواءً كان لازماً كالنزول والمجيء، أو متعدياً كالقبض والطي، فحدوث ما يحدثه - تعالى - من المخلوقات تابع لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة به - تعالى -. وهو -تعالى- حي قيوم، فعال لما يريد، فمن أنكر قيام الأفعال الاختيارية به - تعالى- (2) فإن معنى ذلك أنه ينكر خلقه لهذا العالم المشاهد، وغير المشاهد، وينكر قوله: إنه على كل شيء قدير، فالعقل دل على ما جاء به الشرع. (3) وما صرح به في هذا الحديث من القبض والطي، قد جاء صريحاً أيضاً في كتاب الله -تعالى-، كما قال -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (4)   (1) انظر: " الإصابة" (7/425) ، "سير أعلام النبلاء" (2/578) ، "الاستيعاب" (4/1768) ، "أسد الغابة" (6/318) وغيرها. (2) قلنا: الاختيارية؛ لأنها تقع باختياره -تعالى- وإرادته ومشيئته. (3) أنصح القارئ بالرجوع في هذه المسألة العظيمة: إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، كدرء تعارض العقل والنقل والرسالة الكمالية، وغيرهما من كتبه. (4) الآية 67 من سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 والأحاديث والآثار عن السلف في صريح الآية، والحديث المذكور في الباب، كثيرة وظاهرة جلية، لا تحتمل تأويلاً ولا تحتاج إلى تفسير، ولهذا صار تأويلها تحريفاً وإلحاداً فيها، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ذكر ما تيسر من ذلك في باب قوله - تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وقوله: " ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " أي: أنه -تعالى- ينفرد بالملك، فهو الملك حقاً الذي لا منازع له، ولا معاون، ولا ظهير، ولا شريك، وفي ذلك اليوم، عندما يقبض الأرض بيده، ويطوي السماوات بيمينه، ويصبح كل شيء في قبضته، ينادي الذين كانوا ينازعونه في الدنيا ملكه، ويتعدون على سلطانه، من المتكبرين، والمتجبرين، من ملوك الدنيا، وقد انفرد مالك الملك الواحد القهار، ذي السلطان - وهو منفرد به في كل آن، غير أنه في ذلك اليوم ينكشف جلياً - فيناديهم بما يتضمن توبيخهم وتهديدهم: أين ملوك الدنيا؟ فهل يستطيعون منعاً أو رداً؟ وهل لديهم قوة أو حيلة أو فدى؟ لقد ذهب منهم كل شيء، وبقيت التبعات والذل والحسرات. قال بعض شراح البخاري: " قوله: {مَلِكِ النَّاسِ} داخل في معنى التحيات لله، أي: الملك لله، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بأن يقولوا التحيات، امتثالاً لأمر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس {1} مَلِكِ النَّاسِ} ". ثم قال: " وفي الحديث إثبات اليمين صفة لله - تعالى -، من صفات الذات، وليست جارحة خلافاً للمجسمة" (1) . قلت: قوله: " وليست جارحة" من كلام أهل البدع، الذين عدلوا عما جاء في الكتاب والسنة من الألفاظ إلى ما ابتدعوه من الألفاظ الموهمة للنقص -تعالى الله-، توهماً منهم أن تلك الألفاظ الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله،   (1) "فتح الباري" (13/368) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 يتضمن ظاهرها التشبيه لصفات الخلق، وهذا من ظن السوء بالله وبكتابه وبرسوله، الذي أرداهم فضلوا سواء السبيل، وأضلوا كثيراً من عباد الله. وقوله: "خلافاً للمجسمة" يقال له: من هم المجسمة الذين تقصدهم؟ وهل تستطيع أن تعين طائفة تؤمن بكتاب الله وسنة رسوله تقول: إن يمين الله جارحة؟ أو أن الله جسم؟ (1) فهؤلاء لا وجود لهم، ولكن مراده: الذين آمنوا بمثل هذا النص على ظاهره، وقالوا: إن لله يدين حقيقتين بدون تأويل، كما هو الواجب على المسلم؛ لأنه صريح النصوص، وأيقنوا أن تأويل اليد واليمين، ونحوها من صفات الله، بالقوة، أو القدرة، أو النعمة، أو ما أشبه ذلك، تحريف كتحريف اليهود الذين حرفوا الكلم عن مواضعه. فهذا الشارح ومن على نهجه إلى اليوم يسمون هؤلاء مجسمة، ظناً منهم أن من أثبت هذه الصفات على ظاهرها، لزمه أن يكون مجسماً لربه، ومشبهاً له بأجسام الخلق، تعالى الله أن يكون له مثل أو شبيه. قال شيخ الإسلام: "وليس هناك من أطلق لفظ الجسم، لكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبتها مجسماً، بطريق اللزوم، إذ كانوا يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بالجسم، وذلك أنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة، فإن الجسم في اللغة هو البدن، وهم يسمون كل ما يشار إليه جسماً، فيلزم على قولهم أن كل ما جاء به الكتاب والسنة وما فطر الله عليه عباده، وما {عليه} سلف الأمة، وأئمتها، تجسيماً، فهم يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة، على أتباع السلف" (2) .   (1) الذين نسبوا إلى التجسيم وذكرهم أصحاب المقالات بأسمائهم: هشام بن الحكم، وهشام ابن سالم الجواليقي، ومقاتل بن سليمان، وداود الجواربي، وكلهم رافضة، ما عدا مقاتل بن سليمان فإنه لم يثبت أنه قال بالتجسيم، وليس هو من الرافضة. (2) "بيان تلبيس الجهمية" (1/626) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقال: " لفظ الجسم لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف، في حق الله - تعالى - لا نفياً ولا إثباتاً، ولا ذموا أحداً ولا مدحوه بهذا الاسم، ولا ذموا مذهباً ولا مدحوه بهذا الاسم، وإنما تواتر عنهم ذم الجهمية، الذين ينفون الصفات، وذموا طوائف منهم، مثل المشبهة، وبينوا مرادهم بالمشبهة" (1) . قال الحافظ: " الذي يظهر لي أنه أشار {بهذه الترجمة} إلى ما قاله شيخه نعيم بن حماد: " يقال للجهمية: أخبرونا عن قول الله -تعالى- بعد فناء خلقه، {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم، أفهذا مخلوق؟ " (2) قلت: يظهر لي أن مراده بهذا الباب كالباب الذي قبله، أن هذا الاسم الكريم (الملك) من أسماء الله الحسنى، وقد أطلق على بعض خلقه، ولم يكن في ذلك تشبيه، إذ المعنى الذي يختص به الله -تعالى- لا يشاركه فيه أحد من خلقه، فهو مالك الملك، وله الملك التام المطلق، وهو الذي يهب للمخلوق الملك، مع أن ملك المخلوق ناقص يناسب نقصه، قال -تعالى-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) . وأما التوفيق بين الحديث، والترجمة فظاهر، وهو أن الناس الذين يوجد   (1) نفس المصدر (1/47) ، ومراد السلف بالمشبهة: الذين يمثلون صفاته تعالى بصفات خلقه، نحو اليد والوجه، فيجعلون يده تعالى كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، تعالى الله عن ذلك. (2) "الفتح" (13/368) . (3) الآية 26 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 منهم الملوك والجبابرة، والذين يذل لهم ويخضع بعض العباد، وقد يصرفون لهم ما هو خالص حق الله من العبادة، هؤلاء ملك له، تحت قهره، آخذ بنواصيهم، يتصرف فيهم كيف يشاء، ويظهر ذلك جلياً لكل أحد، يوم يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فيعرف قدرهم وقدر ملكهم الذي أورثهم الذل والصغار، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قال: " باب قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (2) ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (3) ، ومن حلف بعزة الله، وصفاته". {العزيز} هو الذي له العزة التامة، والقوة الكاملة، فلا يعجزه شيء، القاهر لكل شيء فلا يمتنع من قوته شيء، المنيع الذي لا ينال ولا يغالب. "فالعزة تتضمن القوة، ولله القوة جميعاً، يقال: عز يعز - بفتح العين- إذا اشتد وقوى، ومنه الأرض العزاز - الصلبة الشديدة - ويعز يعز - بكسر العين- إذا امتنع ممن يرومه، ويعز يعز - بضم العين - إذا غلب وقهر. فأعطوا أقوى الحركات - وهي الضمة- لأقوى المعاني، وهو الغلبة والقهر للغير، وأضعفها - وهي الفتحة - لأضعف هذه المعاني، وهو كون الشيء في نفسه صلباً، والحركة المتوسطة - وهي الكسرة - للمعنى المتوسط، وهو القوي الممتنع عن غيره، ولا يلزم منه أن يقهر غيره، ويغلبه.   (1) الآية 4 من سورة إبراهيم، والآية 60 من سورة النحل، والآية 26، 42 من سورة العنكبوت أيضاً، والآية 27 من سورة الروم، والآية 9 من سورة لقمان، والآية الثانية من سورة فاطر، والآية الأولى من سورة الحديد، والآية الأولى من سورة الحشر، والأخيرة منها، والآية الأولى من سورة الصف، والآية الثالثة من سورة الجمعة. (2) الآية 180 من سورة الصافات. (3) الآية 8 من سورة المنافقون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز، فالعز يقتضي كمال القدرة، ولهذا يوصف به المؤمن، ولا يكون ذماً له، بخلاف الكبر. قال رجل للحسن البصري: إنك متكبر، فقال: " لست بمتكبر، ولكني عزيز". وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (1) . وقال ابن مسعود: " ما زلنا أعزة، منذ أسلم عمر" (2) . وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- " اللهم أعز الإسلام بأحد هذين الرجلين، عمر بن الخطاب، أو أبي جهل بن هشام" (3) . وفي بعض الآثار: " إن الناس يطلبون العزة في أبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة الله - عز وجل - ". وفي الحديث: " اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك". وقال بعضهم: " من أراد عزاً بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة". فالعزة من جنس القوة" اهـ (4) . قال الحافظ: " العزيز الذي يقهر ولا يقهر، فإن العزة التي لله -تعالى- هي الدائمة الباقية وهي العزة الحقيقية الممدوحة، وقد تستعار العزة للحمية والأنفة، فيوصف بها الكافر والفاسق، وهي صفة مذمومة، ومنه قوله -تعالى-: {أخذته العزة بالإثم} (5) ، وأما قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ   (1) الآية 8 من سورة المنافقون. (2) رواه البخاري وغيره، انظر: " الفتح" (7/41) . (3) قال الهيثمي: رواه الطبراني في "الكبير" و "الأوسط"، انظر: "مجمع الزوائد" (9/61) . (4) "طريق الهجرتين" (ص109) (5) الآية 206 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1) ، فمعناه: من كان يريد أن يعز، فليكتسب العزة من الله، فإنها لا تنال إلا بطاعته، ومن ثم أثبتها لرسوله وللمؤمنين، فقال -تعالى-: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} (2) ، وقد ترد العزة بمعنى الصعوبة، كقوله -تعالى-: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (3) ، وبمعنى الغلبة ومنه {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (4) ، وبمعنى القلة: كقولهم: شاة عزوز، إذا قل لبنها، وبمعنى الامتناع، ومنه قولهم: أرض عزاز، بفتح أوله مخففا" ا. هـ (5) . {الحكيم} هو الذي يضع الأشياء مواضعها التي يحسن أن توضع فيها، ولا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، وهذا من أسمائه -تعالى- الحسنى التي كثر ذكرها، في القرآن، وما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو -تعالى- موصوف بالحكمة، وقد دل على ذلك شرعه -تعالى- وخلقه، فمن الضلال إنكار ذلك، وكفى بالمرء ضلالاً أن ينفي عن الله -تعالى- ما وصف به نفسه، ووصفه به رسله. {سُبْحَانَ رَبِّكَ} " أصل التسبيح عند العرب: التنزيه لله عن إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبري من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة: أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر أي: سبحان الله من فخر علقمة، أي تنزيها لله مما أتي علقمة من الافتخار على وجه التكبر منه لذلك" (6) .   (1) الآية 10 من سورة فاطر. (2) الآية 8 من سورة المنافقين. (3) الآية 128 من سورة التوبة. (4) الآية 23 من سورة ص. (5) "الفتح" (13/369) وذكر أن هذا كلام الراغب، ولكن الحافظ تصرف فيه وغير وزاد ونقص، ولهذا أضفته إليه. (6) ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/211) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقال أيضاً: " وسبحان: اسم مصدر، لا تصرف له، ومعناه: نسبحك" (1) . وفي "تاج العروس": " وسبحانه: تنزيها لله عن كل ما لا ينبغي أن يوصف به، قال الزجاج: سبحان في اللغة: تنزيها لله - عز وجل - عن السوء" (2) . فالتسبيح: تنزيه الله - تعالى- عما لا يليق بعظمته، مأخوذ من السبح، وهو الإبعاد والسرعة في السير، يقال: فرس سبوح، إذا كانت تسرع في السبح الذي هو السير والجري، ومنه قوله -تعالى-: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} فسرت بالخيل، وبالسفن، وبالنجوم، وكلها تسبح وتبعد في سبحها. وقوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} أي ذي العزة وصاحبها، فرب هنا بمعنى ذي وصاحب، والعزة صفته، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وأخذ اسمه تعالى "العزيز" منها. وقوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} أي: تنزيها وتقديساً لذي العزة التي لا ترام، عن الذي يصفه به المشركون، من أن له صاحبة أو ولداً، أو شريكاً، أو ولياً من الذل، أو أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، أو أن أحداً يتصرف في ملكه بدون إرادته ومشيئته. وتنزيهاً لذي العزة التي غلب بها كل شيء عما يقوله المعطلون لصفاته، حيث أنكروها أو أولوها تأويلاً يؤول إلى إنكارها، وتنزيهاً له -تعالى- عما يقوله المحرفون الملحدون في صفاته الظانون بالله ظن السوء، حيث توهموا أن اتصافه -تعالى- بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم - يقتضي التشبيه، فحرفوا صفاته عما أراده بناء على أوهامهم الباطلة.   (1) المصدر نفسه (1/221) . (2) "تاج العروس" (2/156) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لله القوة والغلبة والقهر. والعزة من صفات ذاته -تعالى- التي لا تنفك عنه، بعزته وقهر بها كل شيء، وكل عزة حصلت لخلقه فهي منه، وكل من كان إليه أقرب وله أطوع كانت عزته أتم وأكمل من غيره، ولهذا قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وسبب نزول هذه الآية الكريمة قول رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي ذكره الله عنه: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} (1) ، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما (2) ، يقصد بالأعز: نفسه وذويه، وبالأذل: رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وقوله: "ومن حلف بعزة الله وصفاته". وصفاته: من عطف العام على الخاص، ومراده: أنه قد ثبتت النصوص بالحلف بعزة الله وبصفاته، نحو كلماته، وقد تقرر في دين الإسلام، أنه لا يحلف بغير الله -تعالى- وأن الحلف بغيره شرك كما صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من حلف بغير الله، فقد كفر أو أشرك" (3) وعند أبي داود، "من حلف بغير الله فقد أشرك" (4) . وعنده أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" (5) .   (1) الآية 8 من سورة المنافقون. (2) انظر: البخاري مع"الفتح" (8/644) ، و"مسلم" (4/1998) . (3) رواه الترمذي وقال: حسن، انظر: الترمذي مع "تحفة الأحوذي" (2/371) . (4) "السنن" (3/570) ، ورواه أحمد في "مسنده" (2/34) . (5) "السنن" (3/569) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وفي"الصحيحين" عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه، فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً بالله أو ليصمت" (1) . وبهذا يتبين أن الحلف بقدرة الله وعزته وسائر صفاته، أنه كالحلف به-تعالى-، وأن صفاته ليست مخلوقة؛ لأنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا منفصلة عنه-تعالى-. وبهذا يظهر مراد البخاري -رحمه الله- بهذا الباب وهو إثبات الصفات لله -تعالى-، والرد على من أنكرها كالمعتزلة، ومن تابعهم، وقد تقدم الكلام في ذلك. قال الحافظ: "والذي يظهر أن مراد البخاري بالترجمة: إثبات العزة لله، راداً على من قال: إنه عزيز بلا عزة، كما قالوا: العليم بلا علم" (2) . قلت: لا يقصد إثبات العزة بخصوصها، بل مع سائر الصفات كما هو ظاهر. قوله: "وقال أنس: عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: "تقول جهنم: قط قط وعزتك". وقال أبو هريرة: عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: يبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة، فيقول: رب أصرف وجهي عن النار، لا أسألك غيرها". قال أبو سعيد: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "قال الله -عز وجل-: "لك ذلك وعشرة أمثاله". وقال أيوب: "وعزتك، لا غنى بي عن بركتك". هذه المعلقات قد رواها موصولة، فحديث أنس سيذكره في هذا الباب   (1) انظر: "البخاري مع الفتح" (11/530) ، و"مسلم" (4/1239) . (2) "الفتح" (13/370) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 موصولاً، وحديث أبي هريرة يأتي كذلك، وقد تقدم أيضاً في الرقاق، وقول أيوب عليه السلام قد رواه في الوضوء، وفي أحاديث الأنبياء. والمراد من هذه الأحاديث هنا ظاهر، إذ فيها الحلف بعزة الله-تعالى- ولا يحلف إلا بالله أو بصفاته، ولكن حديث أبي هريرة لم يذكر محل الشاهد منه، وإنما أشار إليه، وهو قول الرجل يخاطب رب العالمين: "وعزتك، لا أسألك غيرها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 13- قال: "حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا حسين المعلم، حدثني عبد الله بن بريدة، عن يحيي بن يعمر، عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " أعوذ بعزتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون". قوله: "كان يقول" يدل على أنه سمع ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم - مراراً، لما يفهم من لفظة "كان". وقوله: "أعوذ بعزتك" أعوذ: هو الالتجاء والاعتصام، وحقيقته: الهرب من المخوف إلى المجير العاصم، فالعائذ بالله -تعالى- قد هرب مما يخافه ويؤذيه، أو يهلكه، إلى ربه ومالكه العزيز الذي لا يغالب، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويجير من احتمى به. فالاستعاذة هي: الالتجاء إلى الله، والاحتماء من شر كل ذي شر، والعوذ يكون لدفع الشر، واللوذ يكون لطلب الخير، كما قال بعض الشعراء: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به فيما أحاذره وعزة الله -تعالى- صفته، كما تقدم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالله وأتقاهم له -يتعوذ بصفاته تعالى؛ لأن ذلك من عبادة الله، بل هو من أفضلها، امتثالاً لقوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . ومثل الاستعاذة بصفات الله -تعالى- الحلف بها، كما مر قريباً. وقوله: "الذي لا إله إلا أنت" أي أنت الإله الحق، الذي تجب عبادته على عباده، وكل تأله لغيره فهو ضلال، يوجب الشقاء الأبدي، والخلود في النار، فلذلك لا أتوجه بتألهي إلا إليك يا رب، فلا إله لي غيرك، فبك أعوذ، وإليك ألوذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 "الذي لا يموت" أي فأنت -يا إلهي- الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، لا مبدأ لوجودك ولا منتهى لبقائك، وأنت الغني بذاتك عن كل ما سواك، والخلق كلهم فقراء إليك، وكانوا عدما قبل إيجادك إياهم، وهم عرضة للأمراض، والآفات والتغيرات والفناء، وأنت يا رب الباقي وحدك، والخلق كلهم يموتون، فلا رب سواك يتصرف بالخلق كيف يشاء، ويغير ولا يتغير، -جل وعلا-. قوله: "والجن والإنس يموتون" المقصود بذكر الجن والإنس: جنس الخلق، والمعنى: أن الخلق كلهم يموتون، ولا يبقى إلا الحي القيوم، كما قال-تعالى-: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (1) ، وسمى الجن جناً لاستتارهم عن أعين الناس، من الاجتنان، كما قال-تعالى-: {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (2) ، وأما الإنس فسموا بذلك لأن بعضهم يأنس ببعض غالباً، أو أنهم يرون ويأنسون، أي يحس بهم ويشاهدون، وذكر الجن والإنس لا ينفي عن الملائكة الموت؛ لأن هذا خاص قصد به الجن والإنس، أو على ما تقدم ذكر الجنس، والمقصود عموم الخلق. وقد جاء ما يدل على هلاك عموم الخلق كقوله-تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (3) . وقد قيل: إن الملائكة يدخلون في الجن؛ لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، والله أعلم.   (1) الآيتان 26، 27من سورة الرحمن. (2) الآية 27 من سورة الأعراف. (3) الآية الأخيرة من سورة القصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 14- قال: "حدثنا ابن أبي الأسود، حدثنا حرمي، حدثنا شعبة، عن قتادة عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: "يلقى في النار ... " ح وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، ح. وعن معتمر، سمعت أبي، عن قتادة، عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد، بعزتك وكرمك، ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة". أنس هو ابن مالك بن النضير بن ضمضم، الأنصاري، الخزرجي، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأحد المكثرين من الرواية عنه؛ قدم النبي -صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو ابن عشر سنين، فأتت به أمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعرضت عليه أن يخدمه، فقبل ذلك النبي-صلى الله عليه وسلم - فلازم النبي في السفر والحضر عشر سنين، ودعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأن يكثر ماله وولده، وأن يدخل الجنة، قال أنس: "قد رأيت أثنين، وأنا أرجو الثالثة". توفي في البصرة سنة ثلاث وتسعين، وله مائة وثلاث سنوات، وهو آخر من مات في البصرة من الصحابة. (1) .   (1) "الإصابة" (1/127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قوله: "لا يزال يلقى فيها" الضمير "فيها" يعود إلى جهنم، والمعنى أنه يستمر إلقاء من يستحق النار فيها، وهي تطلب الزيادة منهم، قال الله-تعالى-: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (1) . قال ابن كثير: "يخبر -تعالى- أنه يقول لجهنم: هل امتلأت؟ وذلك أنه وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين، فهو -سبحانه- يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى {فيها} وهي تقول: هل من مزيد؟ أي: هل بقي شيء تزيدني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث" (2) . يقصد بالأحاديث مثل هذا الحديث، فإن ظاهره أن الاستفهام لطلب الزيادة، وهو الصحيح الذي يدل على ظاهر القرآن، والأحاديث الصحيحة. قوله: "حتى يضع فيها رب العالمين قدمه"، في رواية: "حتى يضع رب العزة فيها قدمه" وهذه الرواية هي المناسبة لهذا الباب، ولكن البخاري اكتفى بالإشارة إليها على عادته، وفي رواية أبي هريرة: "يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب -تبارك وتعالى- قدمه عليها"، وفي رواية: "حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ"، وفي أخرى: "حتى يضع رجله، فتقول: قط قط" وهذه الروايات كلها في البخاري، واتفق معه مسلم عليها (3) . وعند الدارقطني في "الصفات": "فأما النار فيلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ -ثلاث مرات- حتى يأتيها -تبارك وتعالى- فيضع قدمه عليها، فتنزوي، وتقول: قدني قدني" (4) .   (1) الآية 30 من سورة ق. (2) "تفسير ابن كثير" (7/381) . (3) انظر"مسلم" (4/2187، 2188) . (4) "الصفات" (ص14، 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وفي رواية: "لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار -تبارك وتعالى- فيها قدمه، فهناك تنزوي" (1) . وأخرج حديث أنس هذا أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ: "حتى يضع الله فيها قدمه" (2) . ففي مجموع هذه الروايات البيان الواضح بأن القدم والرجل-وكلاهما عبارة عن شيء واحد -صفة لله- تعالى- حقيقة على ما يليق بعظمته. كما فيها إبطال تأويل المؤولة، نحو قولهم: "إن القدم: عبارة عن إذلال جهنم إذا بلغت في الطغيان، وقولهم: إن المراد بالقدم: الفرط السابق من المعذبين، أي يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب، وقولهم: المراد بالقدم: قدم بعض المخلوقين، وقولهم: يجوز أن يكون مخلوقاً اسمه القدم، وقولهم: المراد بالقدم: الأخير من أهل النار، وقولهم: إنه اسم مكان عصي الله فيه، فيلقى في النار. وقول الداودي: إن المراد بالقدم: قدم صدق، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم - والإشارة بذلك إلى شفاعته، وقال بعضهم: إن المراد بالقدم: قدم إبليس، إلى غير ذلك من السخافات المضحكة، الدالة على ضلال قائليها. وزعم ابن الجوزي، وابن فورك: أن لفظ الرجل محرف من بعض الرواة عن القدم، وذهب مرة إلى تحريف المسمى بالتأويل، فقال: يحتمل أن يراد بالرجل: الجماعة" (3) ، فهذه التأويلات الباردة يكفي العاقل المنصف مجرد ذكرها عن تكلف ردها بالدليل لظهور بطلانها، فهي في الحقيقة تحريف للكلام الواضح البين، كتحريف اليهود حينما قيل لهم: "ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة" فدخلوا يزحفون على أعجازهم وقالوا: حبة حنطة.   (1) "الصفات" للدارقطني (ص15) (2) "الفتح" (13/370) . (3) انظر: "الفتح"، فقد ذكر جميع هذه التأويلات، وسكت عليها (8/596) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فبطلان قول هؤلاء المعطلة -الذين جعلوا صفات الله-تعالى- نوعاً من المخلوقات، وحاولوا إبطالها بالتأويلات البعيدة السخيفة-واضح وظاهر، وذلك من وجوه: "الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: حتى يضع، ولم يقل: حتى يلقى {فيها} كما في قوله: "لا يزال يلقى في النار". الثاني: أن قوله: "قدمه" لا يفهم منه هذا {الذي قالوه} لا حقيقة، ولا مجازاً، كما تدل عليه الإضافة. الثالث: أن أولئك المؤخرين، إن كانوا من الأصاغر المعذبين، فلا وجه لانزوائها واكتفائها بهم، فإن ذلك إنما يكون بأمر عظيم، وإن كانوا من الأكابر المجرمين، فهم في الدرك الأسفل من النار، وفي أول المعذبين، لا في أواخرهم. الرابع: أن قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض" دليل على أنها تنضم على من فيها فتضيق بهم، من دون أن يلقى فيها شيء. الخامس: أن قوله: "لا يزال يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها قدمه" جعل وضع القدم الغاية التي إليها ينتهي الإلقاء، ويكون عند ذلك الانزواء، فيقتضي أن تكون الغاية أعظم مما قبلها، وليس في قول {هؤلاء} المعطلة معنى للفظ {قدمه} إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأول أحق به من الآخر" (1) . يضاف إلى ذلك: أن هذا الكلام الواضح البين الذي إذا سمعه السامع لم يتبادر إلى ذهنه إلا ظاهره اللائق بجلال الله-تعالى-؛ فلو كان ظاهره غير مراد للمتكلم، وأن المراد منه ما ذكره هؤلاء المحرفون، لصار إلى الألغاز والتعمية أقرب، ولا يكون المتكلم بذلك قد أدى ما وجب عليه من البلاغ والبيان؛ وهذا   (1) "مختصر الفتاوى المصرية" (ص647) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 من أبطل الباطل. وقد علم أن المتكلم بهذا الكلام أفصح الناس وأقدرهم على الإيضاح والبيان لما يريد، وهو أيضاً أنصحهم لأمته، وأعلمهم بالله وبما يجب له، وما يمتنع عليه، وهو أيضا أحرصهم على إيصال الخير والنفع إلى الخلق، ودفع الشر عنهم، فيستحيل مع هذه الأمور أن يكون ظاهر كلامه باطلاً يدل على الكفر والتشبيه -كما زعم المعطلة المؤولة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (1) ، فظهر بذلك بطلان قول المعطلة، والحمد لله رب العالمين. قال أبو سعيد الدارمي: "وما دعوى المعطل بأن القدم: أهل الشقوة الذين تقدم في علم الله أنهم يلقون في جهنم، واستدلاله بما روي عن ابن عباس، في قوله-تعالى-: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} (2) قال: ما قدموا من أعمالهم. فيقال: من المشهور عن ابن عباس، أنه قال: "الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله"، وهذا صحيح مشهور عن ابن عباس (3) ، ودعوى المعطل أنها لا تمتلئ حتى يلقى الله فيها الأشقياء، الذين هم قدم الجبار-عند أهل التأويل- دعوى باطلة، وهل استزادت إلا بعد مصير الأشقياء إليها؟ أفيلقيهم فيها ثانية؟ أو أنه -تعالى- حبس عنها الأشقياء، وألقى فيها السعداء، فلما استزادت ألقى فيها أهل الشقوة؟ وأما ردهم الحديث بقوله - تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ   (1) الآية 5 من سورة الكهف. (2) الآية الثانية من سورة يونس. (3) رواه أبو سعيد الدارمي في "الرد على المريسي" (ص425) ، "مجموع عقائد السلف"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (2/282) ، وابن جرير في "التفسير" (5/398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أَجْمَعِينَ} (1) ، قالوا: إن جهنم لا تمتلئ بغير الجن والإنس، ومن زعم غير ذلك فقد كفر. فيقال: إن هذه الآية لا تخالف قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (2) ، ويصح في الكلام أن يقال للممتلئ: استزاد، كما يمتلئ الرجل من الطعام، والشراب، وهو يقدر أن يستزيد، ويقال: امتلأ المسجد من الناس، وفيه فضل وسعة، وامتلأ الوادي ماء، وهو يحتمل أكثر مما فيه، وكما في الحديث: "يخرج المهدي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً" وفي الأرض سعة لأكثر من ذلك، فكذلك جهنم تمتلئ بما يلقى فيها من الجن والإنس، وتقول هل من مزيد؟ لفضل فيها، غضباً لله-تعالى- على الكفار، حتى يفعل الجبار بها ما أخبر به رسوله، من وضعه قدمه فيها كما يشاء، وكما عنى رسول الله، فحينئذ تقول: حسبي حسبي، ولها خزنة يدخلونها غير معذبين بها، وفيها حيات، وعقارب. وقال-تعالى-: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ {30} وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (3) . فقوله-تعالى-: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (4) ، لا يخالف هذه الآية، كما أنه لا يخالف قول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: "يضع الجبار فيها قدمه"، وإذا كانت جهنم لا تضر الخزنة الذين يدخلونها، ويقومون عليها، فكيف يستنكر وضع رب العالمين عليها قدمه؟ " (5) . وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - تدل على أن كلامها حقيقة، فلا وجه للعدول عن ذلك، كقوله -صلى الله عليه وسلم -: "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا الضعفاء؟ وقالت النار: ما لي يدخلني   (1) الآية 119 من سورة هود. (2) الآية 30 من سورة ق. (3) الآيتان 30و31من سورة المدثر. (4) الآية 119 من سورة هود. (5) رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي، ملخصاً بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الجبارون، والمتكبرون؟ " (1) أخرجاه في "الصحيحين". وفي "مسند الإمام أحمد" بسند فيه عطية العوفي- وهو ضعيف- عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة، بكل جبار، وبمن جعل مع الله إلهاً آخر، وبمن قتل نفساً بغير نفس، فينطوي عليهم، فيقذفهم في غمرات جهنم" (2) . وفيه أيضاً من طريق ابن لهيعة -وفيه كلام معروف- عن عائشة- رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يخرج عنق من النار، فينطوي عليهم، ويتغيظ عليهم، ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة، وكلت بمن دعا مع الله إلهاً آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد، فتنطوي عليهم، وتطرحهم في غمرات جهنم" (3) . وقد ذكر ابن رجب أحاديث بهذا المعنى (4) ، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أن حجراً كان يسلم عليه (5) ، كما صح أن الصحابة كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهم يأكلون، ومن المشهور حنين الجذع الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يخطب عليه حين تركه، فكيف يستنكر كلام جهنم؟ قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض" أي يلتئم بعضها على بعض، وتتضايق على من فيها، فلا يبقى فيها متسع لغير من فيها.   (1) انظر: "البخاري مع الفتح" (13/434) ، (8/595) ، و"مسلم" (4/2186) . (2) "المسند" (3/40) . (3) "المسند" (6/110) . (4) انظر: "التخويف من النار" (ص130) . (5) انظر: "فتح الباري" (13/371) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قوله: "وتقول: قد قد" بفتح القاف، وسكون الدال، وفي رواية: "قط قط" وهو اسم فعل، ومعناه: حسبي وكفاني ما ألقي في، فلا متسع لغيرهم، أي قد امتلئت. قوله: "بعزتك وكرمك" هذا محل الشاهد من الحديث لما ترجم به، وهو قسم من النار بعزة الله وكرمه، أنها قد امتلأت، وأصبحت ليس فيها متسع، وقد تقرر عند المسلمين أن القسم بغير الله لا يجوز. قوله: "لا يزال يلقى فيها، وتقول" هذا القول من جهنم حقيقة، فالله-تعالى- ينطقها بكلام مسموع منها، كما ينطق-جل وعلا- الجوارح وغيرها، والله على كل شيء قدير، وأمور الآخرة أعظمها على خلاف ما يعرفه الناس في الدنيا، والقسم بأسماء الله وصفاته قسم به-تعالى-والمقصود أن الله تعالى متصف بالصفات، فأراد أن يبين ذلك بما ثبت منها في كتاب الله-تعالى- ومنها العزة، وبالأحاديث التي تبين ذلك وتوضحه، وقد تقدم البحث فيها في الباب الأول. قال الحافظ: "يؤخذ منه مشروعية الحلف بكرم الله، كما شرع الحلف بعزة الله" (1) . قوله: "ولا تزال الجنة تفضل، حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة". أي أن أهل الجنة الذين يدخلونها ينتهون، وفيها فضل مساكن لم يصبها أحد؛ لعظم سعتها، قال الله-تعالى-: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (2) ، وقال-تعالى-: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (3) .   (1) "الفتح" (13/371) . (2) الآية 133 من سورة آل عمران. (3) الآية 21 من سورة الحديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقد وعد الله -تعالى- الجنة والنار أن يملؤهما من الجنة والناس، ومما يشاء، فأما النار: فإن الله -تعالى- لا يدخل فيها إلا من يستحقها، ولا يظلم أحداً، ولسعتها أيضاً يتنهي أهلها دخولاً فيها مع كثرتهم، وهي تطلب الزيادة، وتسأل الله وعده، فعند ذلك يضع عليها -تعالى- قدمه، فتتضايق على أهلها، فينزوي بعضها إلى بعض -أي تجتمع- فتصبح ليس فيها موضع لأحد، فيحصل بذلك ملؤها. وأما الجنة: فإن الله -تعالى- يخلق لها خلقاً جديداً فيسكنهم فضلها، أي المساكن التي فضلت عمن دخلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا راد لفضله، ولا مانع لعطائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 قال: "باب قول الله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} (1) قال القرطبي: "بالحق-أي بكلمة الحق- يعني: قوله: كن" (2) . ومثله قال القسطلاني، ثم قال: " وقال ابن عادل في لبابه: قيل: الباء بمعنى اللام، أي إظهاراً للحق؛ لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته، فهو نظير قوله - تعالى -: {مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} (3) . وقال الخازن: " يعني إظهاراً للحق، فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام، لأنه جعل صنعه دليلاً على وحدانيته، وقيل: خلقها بكمال قدرته، وشمول علمه، وإتقان صنعه، وكل ذلك حق. وقيل: خلقها بكلامه الحق، وهو قول "كن" وفيه دليل على أن كلام الله - تعالى- ليس بمخلوق؛ لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق" (4) .   (1) الآية 73 من سورة الأنعام. (2) "تفسير القرطبي" (6/19) . (3) الآية 191 من سورة آل عمران، "هدي الساري" (10/369) . (4) "تفسير الخازن" (2/147) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وقال ابن الجوزي: " فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقاً. والثالث: خلقهما بكلامه، وهو الحق. والرابع: خلقهما بالحكمة" (1) . قلت: هذه الأقوال ليس فيها اختلاف، وهي داخلة في معنى الآية، إلا أن الطبري جعل القول الثاني والرابع قولاً واحداً، كما سيأتي، وهو الأظهر. وقال ابن جرير: " واختلف أهل التأويل في قوله: " بالحق": فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي خلق السماوات والأرض حقاً وصواباً، لا باطلاً وخطأ، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} (2) ، وأدخلت الباء والألف، كما في قولك: فلان يقول بالحق، يعني أنه يقول الحق، أي يصيب في قوله، فالحق صفة للقول، فخلق السماوات والأرض حكمة من حكم الله -تعالى-، والله موصوف بالحكمة في خلقهما، وخلق ما سواهما من سائر الخلق. وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه، وقوله لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (3) فالحق في هذا الموضع معنى به كلامه.   (1) "زاد المسير" (3/67) . (2) الآية 27 من سورة ص. (3) الآية 11 من سورة فصلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 واستشهد لذلك بقوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} (1) ، فالحق هو قوله وكلامه، فالله -تعالى- خلق الأشياء بكلامه وقوله، فما خلق به الأشياء فهو غيرها، فكلام الله -تعالى- الذي خلق الخلق غير مخلوق" (2) . قلت: وبهذا يظهر مراد البخاري - رحمه الله تعالى - فقول الله -تعالى- حق، وهو صفة له، وما وجد بقوله فهو غير القول، بل هو المفعول المخلوق، فقوله -تعالى- الذي خلق به الأشياء، لا يجوز أن يكون مماثلاً لها، فلا بد من التفريق بين قوله الذي هو صفته، وبين مفعولاته التي وجدت بقوله، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - في باب: ما جاء في تخليق السماوات والأرض وهو -تعالى- خلق السماوات والأرض وغيرهما بقوله لها: كوني، كما قال -تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (3) . قال الحافظ: " كأنه أشار بهذه الترجمة إلى ما ورد في تفسير هذه الآية، أن معنى قوله: {بالحق} أي بكلمة الحق، وهو قوله: {كن} ويدل عليه ما في أول الحديث، "وقولك الحق" فكأنه أشار إلى أن القول {في الحديث} الكلمة، وهي "كن" والله أعلم" (4) . وقال ابن المرتضى: " هذا إشارة من البخاري إلى مذهب أهل السنة في إثبات الحكمة" (5) .   (1) الآية 73 من سورة الأنعام. (2) "تفسير الطبري" (11/458-459) تحقيق: محمود شاكر، ملخصاً. (3) الآية 11 من سورة فصلت. (4) "الفتح" (13/371) . (5) "إيثار الحق على الخلق" (ص205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قلت: هذا لا ينافي ما ذكرنا، فيجوز أن يقصد المعنيين، ولكنه في الأول أظهر وأليق بمراد البخاري؛ لأن القول بنفي الحكمة في خلق الله وفعله، ظاهر البطلان. قال البخاري: " الفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله تعالى: {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) . قلت: يريد بذلك التفريق بين ما هو صفة لله تعالى، وبين ما هو مفعول له مخلوق. وقال الراغب: " أصل الحق: المطابقة والموافقة، كمطابقة رجل الباب في حقه لدورانه على استقامة، والحق يقال على أوجه: الأول: يقال لموجد الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله -تعالى- هو الحق، قال -تعالى-: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} (2) ، {فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (3) . الثاني: يقال لما وجد بمقتضى الحكمة، ولهذا يقال: فعل الله -تعالى- كله حق، قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (4) . الثالث: الاعتقاد المطابق لما عليه الشيء في نفسه، كما في الحديث: " ووعدك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق"، قال الله -تعالى-: {هَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (5) .   (1) "خلق أفعال العباد" (ص210) ضمن "العقائد السلفية". (2) الآية 62 من سورة الأنعام. (3) الآية 32 من سورة يونس. (4) الآية 5 من سورة يونس. (5) الآية 213 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الرابع: الفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، قال الله -تعالى-: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (1) . قلت: يأتي أيضاً موصوفا به دين الله وشرعه، وأمره، كما في قوله -تعالى-: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (2) أي: وعده أن يبعثكم ويجازيكم. وقال -تعالى- {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} (3) ، {بِالْحَقِّ مِن رَّبِّك} (4) ، {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} (5) . قال الحليمي: " الحق" ما لا يسمع إنكاره، ويلزم إثباته والاعتراف به. ووجود الباري -تعالى- أول ما يجب الاعتراف به، ولا يسع جحده، إذ لا مثبت تظاهرت عليه الدلائل البينة مثل ما تظاهرت على وجود الباري - جل جلاله-" (6) . وقال أيضاً: " الحق في الأسماء الحسنى معناه - كما قال ابن برجان: الواجب الوجود بالبقاء الدائم، الجامع للخير والمجد، والمحامد كلها، والثناء الحسن، والأسماء الحسنى والصفات العليا.   (1) الآية 13 من سورة السجدة، "المفردات" (ص125) بتصرف. (2) الآية 53 من سورة يونس. (3) الآية 71 من سورة آل عمران. (4) الآية 147 من سورة البقرة، والآية 60 من سورة آل عمران. (5) الآية 149 من سورة البقرة. (6) "المنهاج" (1/188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ومعنى واجب الوجود: أنه اضطر جميع الموجودات إلى معرفة وجوده، وهو الذي أوجدها، قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) . ولما أظهر جملة المخلوقات التي خلقها بالحق وللحق قال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} (2) . فالله -تعالى- هو الحق المبين، ووجوده الحق، وقوله الحق، وصفاته الحق، وأسماؤه الحق" ا. هـ. (3)   (1) الآية 6 من سورة الحج. (2) الآية 44 من سورة العنكبوت. (3) "المنهاج" (1/369) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 15- قال: " حدثنا قبيصة؛ حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو من الليل: اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، أنت إلهي، لا إله لي غيرك". حدثنا ثابت بن محمد، حدثنا سفيان بهذا وقال: " أنت الحق، وقولك الحق". كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا الدعاء بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام في تهجده، كما بينه ابن خزيمة، حيث قال: "باب ذكر الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يحمد بهذا التحميد بعد أن يكبر" ثم ساق بالسند إلى ابن عباس، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر: اللهم لك الحمد " الخ. (1) قوله: "اللهم لك الحمد " الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، و"ال" فيه للاستغراق، والاستقصاء، أي جميع الحمد واجب ومستحق لله تعالى، فهو المحمود على صفاته، وأسمائه، وعلى نعمه، وأياديه، وعلى خلقه وأفعاله، وعلى أمره وحكمه، وهو المحمود أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.   (1) "صحيح ابن خزيمة" (2/184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وأما الشكر: فلا يكون إلا على الصفات المتعدية، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (1) . وقال الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا قوله: " أنت رب السماوات والأرض " أي: أنت مالكهما ومن فيهما، والمتصرف بهما بمشيئتك، وأنت موجدهما من العدم، فالملك لك، وليس لأحد معك اشتراك أو تدبير، تباركت وتعاليت. قوله: " لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن" أي: أنت الذي أقمتهما من العدم، والقائم عليهما بما يصلحهما ويقيمهما، فأنت الخالق الرازق، المالك المدبر، المحيي المميت، الغني عن كل شيء، وكل من سواك فقير إليك، ومصيره إليك كما أنك أنت الذي أوجدته، فلك الحمد. وفي رواية "قيام" وفي أخرى "قيوم"، وكلها من أبنية المبالغة. "والقيم معناه: القائم بأمور الخلق، ومدبرهم، ومدبر العالم في جميع أحواله. والقيوم: هو القائم بنفسه مطلقاً، لا بغيره، ويقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود الشيء ولا دوام وجوده إلا به. وقال النوربشتي: معناه: أنت الذي تقوم بحفظهما، وحفظ من أحاطتا به واشتملتا عليه، وقال " من" تغليباً للعقلاء على غيرهم" اهـ (2) . قوله: " لك الحمد أنت نور السماوات والأرض " قال الحافظ: أي   (1) الآية 13 من سورة سبأ. (2) من القسطلاني (10/369) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 منورهما، وبك يهتدي من فيهما" (1) . وقال القاضي عياض: " معناه: ذو النور، أي خالقه. وقيل: منور الدنيا بالشمس والقمر والنجوم. وقيل: منور قلوب عباده المؤمنين بالهداية والمعرفة " (2) . قلت: هذا تأويل باطل كما سيأتي بيان بطلانه. قال شيخ الإسلام في جواب من قال: إنه يجب تأويل قوله: " الله نور السماوات والأرض " قطعاً. قال: " لا نسلم أنه يجب تأويله، ولا نسلم أن ذلك لو وجب قطعي، بل جماهير المسلمين لا يتأولون هذا الاسم، وهذا مذهب السلفية وجمهور الصفاتية من أهل الكلام والفقهاء والصوفية وغيرهم، وهو قول أبي سعيد ابن كلاب، ورد على الجهمية تأويلهم " اسم النور" وكذا الأشعري" ا. هـ (3) . وقد نص الله -تعالى- في كتابه أنه نور السماوات والأرض، وزاد ذلك رسول الله _صلى الله عليه وسلم_إيضاحاً وبياناً، كما في هذا الحديث وغيره. وقد أخبر -تعالى-: أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره، وصحت النصوص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه يحتجب بالنور، فإذا كانت الأرض تشرق من نوره، فهو - جلا وعلا- نور، كما قاله رسوله: " أنت نور السماوات والأرض". وقال -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (4) وقال -تعالى-: {وَأَشْرَقَتِ   (1) "الفتح" (3/4) . (2) "المشارق" (2/31) . (3) "مجموع الفتاوى" (6/379) . (4) الآية 35 من سورة النور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (1) . وفي الحديث الذي رواه ابن إسحاق في السيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في دعائه: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة " (2) . وقال ابن مسعود: " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه" (3) . وفي حديث أبي ذر في "صحيح مسلم" قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنَّى أراه" وفي رواية "رأيت نوراً" (4) . وفي حديث أبي موسى في "صحيح مسلم" قال: قام فينا رسول الله بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (5) . السبحات هي: نوره وبهاؤه وجلاله.   (1) الآية 69 من سورة الزمر. (2) انظر: "مختصر السيرة" لابن هشام (1/420) ، وقال شيخ الإسلام: رواه الطبراني وغيره، انظر: "مجموع الفتاوى" (6/387) . (3) رواه الدارمي في "الرد على بشر" (ص449) ، وابن منده في "الرد على الجهمية" (ص99) ، قال ابن القيم: رواه الطبراني في "المعجم" وفي "السنة". انظر: "اجتماع الجيوش" (ص6) . (4) انظر: "مسلم" (1/161) . (5) "مسلم" (1/162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فأخبر - صلى الله عليه وسلم- أنه -تعالى- احتجب عن المخلوقات بحجابه النور، وأنه لو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، ومعلوم أن بصره لا يفوته شيء، ولا يستره ساتر، ولا يحول دونه حائل. وفي الترمذي عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل" (1) . فقد جاءت النصوص "بتسمية الرب نوراً، وبأن له نوراً مضافاً إليه، وبأنه نور السماوات والأرض، وبأن حجابه النور، فهذه أربعة أنواع: فالأول: يطلق عليه -تعالى- اسماً له، فإنه النور الهادي. والثاني: يضاف إليه كما تضاف إليه حياته، وسمعه وبصره، وعزته وقدرته وعلمه، ومرة يضاف إليه وجهه الكريم، وأخرى يضاف إلى ذاته المقدسة: فإضافته إلى وجهه -تعالى- كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " أعوذ بنور وجهك " وقوله: "نور السماوات والأرض من نور وجهه". وإضافته إلى ذاته المقدسة كقوله -تعالى-: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (2) .   (1) انظر: " تحفة الأحوذي: (7/401) وقال: حسن، ورواه أحمد بسند صحيح، انظر: "المسند" (2/176) ، وانظر: تحقيق أحمد شاكر (10/127) ، وأخرجه الحاكم وصححه الذهبي. انظر: "المستدرك" (1/10) ، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (1/107) . (2) الآية 69 من سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وكما في حديث عبد الله بن عمرو: " أن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره" الحديث. ويضاف نوره -تعالى- إلى السماوات والأرض، كقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) . وقوله في هذا الحديث: " أنت نور السماوات والأرض ". وكذا حجابه النور كقوله: " حجابه النور - أو النار-" كما في حديث أبي موسى" اهـ. (2) وقال -تعالى-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (3) على القول بأن الضمير يعود إلى الله -تعالى-. قال ابن القيم: " إضافة النور إلى الله -تعالى- على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله. فالأول: كقوله - عز وجل -: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (4) فهذا يكون يوم القيامة، تشرق بنوره -تعالى- إذا جاء لفصل القضاء بين عباده. ومنه قوله في الدعاء المشهور: " أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني، لا إله إلا أنت" (5) . وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات " (6) .   (1) الآية 35 من سورة النور. (2) من "الصواعق" ملخصاً (359) . (3) الآية 35 من سورة النور. (4) الآية 69 من سورة الزمر. (5) هو الحديث المتقدم ذكره، قال في " الفتح الكبير": خرجه الطبراني. انظر لفظه فيه (1/235) . (6) تقدم تخريجه قبل قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الظلمات أشرقت لنور وجهه، كما أخبر الله -تعالى- أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره. الوجه الثاني: ما ذكر في قوله -تعالى-: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (1) ، وقد اختلف على من يعود الضمير في {نوره} ، فقيل: على محمد -صلى الله عليه وسلم- وقيل: على المؤمن، والصحيح عوده على الله -تعالى-. والمعنى: مثل نور الله في قلب عبده المؤمن، وأعظم عباده نصيباً من هذا النور رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فهذا النور يضاف إلى الله -تعالى- على أن معطيه لعبده، وواهبه، كما يضاف إلى العبد؛ لأنه محله وقابله" اهـ (2) . فالله -تعالى- سمى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ودينه نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه في الآخرة نوراً يتلألأ، قال -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) ، قال أبي بن كعب: " بدأ الله بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن" (4) . وفسر بكونه منور السماوات والأرض، وبأنه هادي أهل السماوات والأرض، وهذا لا يمنع أنه -تعالى- في نفسه نور، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسر - بفتح السين - من الأسماء، أو بعض أنواع ذلك المفسر، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات له.   (1) الآية 35 من سورة النور. (2) "اجتماع الجيوش" بتلخيص وتصرف (ص6) . (3) الآية 35 من سورة النور. (4) رواه ابن جرير في "تفسيره" (18/135) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وأما النور الذي هو وصفه فهو قائم به، ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد الأسماء الحسنى، كما دلت على ذلك النصوص، فلا يجوز تحريف ذلك بالتأويلات الباطلة. وأما الأنوار القائمة بأعيان مشاهدة قائمة بأنفسها، فلم تأت إضافتها إلى الله -تعالى- أبداً، فلا يقال لأنوار المصابيح، أو نور الشمس أو القمر أو الكواكب، إنها نور الله. والحديث تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسماوات والأرض: وهي: ربوبيتهما، وقيوميتهما، ونورهما. فكونه - سبحانه - رباً لهما، وقيوماً لهما، ونوراً لهما، أوصاف له -تعالى-، وآثار هذه الأمور الثلاثة قائمة بهما. فأثر الربوبية: الخلق والإيجاد، وأثر القيومية: صلاحهما، وانتظامهما، وأثر نوره -تعالى- استنارة السماوات، وإشراق الأرض بنوره يوم القيامة. وأما صفة الربوبية والقيومية، والنور، فهي قائمة به - تعالى - كما أن صفة الرحمة، والقدرة، والإرادة، والرضا، والغضب، قائمة به -تعالى- والرحمة الموجودة في العالم، والإحسان، والخير، والنعمة، والعقوبة، آثار تلك الصفات. وهكذا علمه -تعالى- القائم به هو صفته، وأما علوم عباده فمن آثار علمه، وقدرتهم من آثار قدرته. وبذلك يعلم أن قول المعطلة: " كل عاقل يعلم بالبديهة أنه الله - سبحانه - ليس هو هذا النور الفائض من جرم الشمس والقمر والمصابيح، فلا بد من حمل قوله: " أنت نور السماوات والأرض" على معنى أنه منور السماوات والأرض، أو هادي أهل السماوات والأرض " يعلم أنه باطل من جنس تحريفاتهم لسائر صفات الله، كما هو نهجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ونحن نقول لهم أيضاً: أسأتم الظن بكلام الله، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث فهمتم أن حقيقته ومدلوله أنه سبحانه هو هذا النور الواقع على الحيطان، وغيرها، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره - تعالى - وجحده. فجمعتم بين الفهم الفاسد، وإنكار المعنى الحق. وليس ما ذكرتم هو نور الرب -تعالى- القائم به، الذي هو صفته، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه، فإن هذه الأنوار المخلوقة، تكون في محل دون محل، فنور الشمس والقمر ينور بعض الأرض لا جملتها، ولا ينور السماوات. فمن ادعى أن نور الشمس والقمر ونحوهما، هو المراد بقوله -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " أنت نور السماوات والأرض " فقد كذب على الله ورسوله (2) . قوله: " وقولك الحق " أي أنت قلته حقاً، فهو صفتك. وما قاله الله -تعالى- فهو صدق وحق، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، لا في خبره، ولا في حكمه وتشريعه، ولا في وعده ووعيده. وهذه الجملة هي محل الشاهد من الحديث، حيث وصف قوله -تعالى- بأنه الحق، فلا يجوز أن يكون مخلوقاً، كما تزعم الفرق الضالة من المعتزلة وغيرهم. قال سفيان في "تفسيره": " إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله" (3) . وقال أبو ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " قال الله -تعالى-   (1) الآية 35 من سورة النور. (2) هذا مقتبس من كلام شيخ الإسلام. انظر: " مجموع الفتاوى" (6/374) . (3) "خلق أفعال العباد " للبخاري (ص124) ، "مجموع عقائد السلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 عطائي كلام، وعذابي كلام، وإذا أردت شيئاً فإنما أقوله له: كن، فيكون" (1) . والذين أراد البخاري - رحمه الله - الرد عليهم من الجهمية والمعتزلة ونحوهم، ينكرون أن يكون لله -تعالى- كلام تكلم به يكون صفة له؛ لأن هذا - بزعمهم - يقتضي أن يكون جسماً حادثاً؛ لأن الكلام - زعموا - من الصفات الدالة على حدوث من قام به؛ لما فيه من الترتيب، والتقديم والتأخير، والتعاقب. ولما رأوا اتفاق الرسل على إثبات الكلام لله -تعالى- وأن القرآن مملوء بذلك، قالوا: إن الله متكلم، بمعنى أنه خالق الكلام. ثم جاءت الأشعرية، فقالوا: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وليس لله كلام منطوق به، مسموع منه، كما سيأتي - إن شاء الله - تفصيل ذلك في أبواب الكلام. وهم بذلك يتفقون مع المعتزلة على إنكار ثبوت الكلام لله حقيقة، كما أنهم يوافقونهم في المعنى على أنه مخلوق، وعلى هؤلاء جميعاً اتجه الرد فيما قصده البخاري وغيره من أهل السنة. ومعلوم "أن: الإيمان الذي جاءت به الرسل عن الله -تعالى- وجاء به خاتمهم مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، هو أن كلام الله صفة له غير مخلوق، وأن القرآن، والتوارة، والإنجيل، وغيرها من كتب الله، هي كلامه. وكلام الله لا يكون مخلوقاً منفصلاً عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلاً عنه، فإن من أنكر ذلك فقد جحد كلام الله الذي هو رسالته، وأنكر حقيقة ما أخبرت به الرسل، وعلمته أممها، وألحد في أسماء الله وآياته، ومثله بالمعدوم، والميت، فإن الحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحو ذلك، صفات   (1) نفس المصدر (ص131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 كمال، والله -تعالى- أحق بكل كمال، فيمتنع أن يثبت للمخلوق كمال إلا والخالق أحق به، كما يمتنع أن يتنزه المخلوق عن نقص إلا والخالق أحق بتنزهه منه؛ لأنه هو الذي أعطى الكمال للكاملين. ومن لم يتصف بصفات الكمال، من الحياة، والعلم، والسمع، والبصر، والقدرة، والكلام، وغير ذلك: فإما أن يكون قابلاً للاتصاف بذلك ولم يتصف به. أو غير قابل للاتصاف به. فإن قبله ولم يتصف به، كان موصوفاً بصفات النقص، كالموت، والجهل، والعمى، والصمم، والعجز، والبكم. فإن لم يقبل الاتصاف بهذه الصفات، كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها. فالحيوان الذي يكون تارة سميعاً، وتارة أصم، وتارة بصيراً، وتارة أعمى، وتارة متكلماً، وتارة أخرس، أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا، ولا هذا، فمن لم يصف الله -تعالى- بصفات الكمال، لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص، أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص (1) . قوله: "ووعدك الحق" أي: لا بد من وقوعه، على ما وعدت، فلا خلف فيه ولا تبديل. "ولقاؤك حق" أي: لا بد للميعاد من ملاقاتك، فتجازيهم على أعمالهم، واللقاء يتضمن الرؤية، والمعاينة، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى -. "والجنة حق، والنار حق" أي: ثابتتان، موجودتان، كما أخبرت بذلك أنهما معدتان لأهلهما، فهما دار البقاء، وإليهما مصير العباد.   (1) "مجموع الفتاوى" (12/355) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 "والساعة حق" أي مجيء يوم القيامة حق لا مرية فيه، فهو ثابت لا بد منه، وهي نهاية الدنيا، ومبدأ الآخرة، وفي ضمن هذه الأخبار: الإخبار عن إيمانه بما ذكر، إيماناً لا يتزعزع، والساعة يعبر بها عن البعث، أي الساعة التي يبعث الله فيها الموتى من قبورهم أحياء، فيجمعهم بعد تفرق أجزائهم وتشتتها، بل واستحالتها تراباً، وهباء، وغير ذلك. فيجمعهم، ويحييهم، كما كانوا في الدنيا، ويجازيهم بعد حسابهم، وحشرهم. وأدخلت الألف واللام في الساعة؛ لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها، وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت، قاله الطبري (1) . "اللهم لك أسلمت" أي: أذعنت لأمرك، وانقدت له، وخضعت لحكمك. " وبك آمنت" أي: صدقت، وعملت بمقتضى ذلك، بعد تحققي بالإيمان بك. "وعليك توكلت" أي: اعتمدت عليك، ووكلت أموري إليك، راضياً بما قضيته لي، بعد أن فعلت الأسباب التي جعلتها إليّ، دينية كانت، أو دنيوية. فالتوكل: هو الاعتماد على الله -تعالى- والثقة به، وفعل الأسباب التي رتبت عليها الأشياء، والتي يستطيع العبد فعلها، وهو من أفضل العبادة، بل جاء ما يدل على أنه شرط في حصول الإيمان، كما في قوله -تعالى-: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (2) .   (1) انظر: "تفسيره" (11/324) ، ولكثرة ما أخبروا بها ووصفت لها، وخوفوا بقربها صارت معلومة لهم، فأدخلت عليها الألف واللام لذلك. (2) الآية 23 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 "وإليك أنبت" أي: رجعت إليك طائعاً منقاداً، مذعناً، خاضعاً لك في جميع أموري. "وإليك حاكمت" أي: كل من أبى قبول الحق، أو جحده، حاكمته إليك وجعلتك الحكم بيني وبينه مجانباً بذلك حكم كل طاغوت، من قانون وضعي، أو كاهن أو غيره، مما يتحاكم إليه البشر، من الأوضاع الباطلة شرعاً. وقدم صلات هذه الأفعال كلها لإرادة التخصيص والحصر، أي: أخصك - يا رب- وحدك فيما ذكر، ولا أعدو ذلك بحال من الأحوال. في هذا الحديث قدم الثناء على الله -تعالى- بأن له الحمد، وبما ذكر من صفاته، ثم توس إليه، -تعالى- بإيمانه بأن قوله حق، ووعده حق، إلى آخر ما ذكر، وأنه مذعن لأمره، منقاد لطاعته، وأنه معتمد عليه، وبه يخاصم وإليه يحاكم، ثم بعد ذلك سأل حاجته، وهي أن يغفر له ما قدم من خطأ، أو تقصير، وما أخر، وما أسر، وما أعلن. ثم ختم ذلك بأنه لا مفزع، ولا ملجأ له، غير ربه -تعالى- فهو إلهه الذي يعبده بما ذكر، ويخاف عقابه - ويؤمل فضله ونواله، فقال: " أنت إلهي لا إله لي غيرك" فلا أتوجه إلى سواك، إذ كل مألوه غيرك باطل ودعوته ضلال ووبال، وهذا هو التوحيد الذي جاءت به رسل الله، وفرضه -تعالى- على عباده. قوله: " فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وأسررت، وأعلنت". أصل الغفر: الستر مع الوقاية، ومنه المغفر؛ لأنه يستر الرأس ويقيه من السلاح. "ما قدمت" أي: قبل وقتي هذا. "وما أخرت" أي: بعد وقتي هذا. أي: اغفر لي ما عملت من الذنوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وما سأعمله، وما ظهر منها لأحد من خلقك، وما خفي عنهم، ولم يعلمه غيرك. وقوله في الرواية الأخرى: " أنت الحق، وقولك الحق، " فيها البيان بأن اسم الحق يقع على ذات الله -تعالى- اسماً، كما سبق بيانه، ويقع على صفاته، كما في قوله: " وقولك الحق". وفي هذا الحديث وأمثاله دليل على وقوع الذنوب من الأنبياء، إذ لو لم يكن له ذنب كيف يسأل المغفرة؟ وقد قص الله -تعالى- ما وقع لبعض الرسل من المخالفات، وهذه مسألة مشهورة عند العلماء، وقد ألف فيها مؤلفات خاصة، وقد اتفق أهل السنة على أن ما يبلغونه من أمر الله وشرعه أنهم معصومون فيه من الخطأ، وأما وقوع الذنوب منهم ففيه الخلاف، وقد بالغ بعض الناس، وكفر من قال بوقوع الذنب منهم، وهذا جهل من قائله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قال شيخ الإسلام: " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغون عن الله -تعالى-، وبهذا يحصل المقصود من البعثة، ولو لم تقع منهم الذنوب لفاتهم ما في التوبة من محبة الله وفرحه، ورفع درجة التائب، وكون التائب بعد التوبة أفضل منه قبلها، مع ما في القول بأن الذنوب لا تقع منهم من تكذيب لكتاب الله، وأخبار رسوله، أو تحريف لها، ومن اعتقد أن كل من لم يكفر، ولم يذنب، أفضل من كل من آمن بعد كفره، أو تاب بعد الذنب، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن من المعلوم أن الصحابة أفضل من أبنائهم الذين ولدوا في الإسلام. وقد قال -تعالى- في أفضل الرسل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لما نزلت قال الصحابة: يا رسول الله، هذا لك، فما لنا؟ فأنزل – عز وجل -: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} . وتوبة الأنبياء واستغفارهم أدلته كثيرة، فكيف يقال: إنه لم يكن لهم ما يوجب التوبة والاستغفار، ولا تفضل الله عليهم بمحبته، وفرحه بتوبتهم، ومغفرته لهم ورحمته، واعتراف جليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى التوبة والاستغفار دليل على صدقه، ورفعته، وتواضعه، وعبوديته لله تعالى – والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: " اللهم اغفر خطئي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي" (1) . قال: " باب: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} " (2) يريد بهذه الترجمة بيان أن هاتين الصفتين – السمع والبصر- ثابتتان لله بالكتاب والسنة، وإجماع أتباع الرسل، وبالعقل، والفطرة، وبيان أن الله -تعالى- لم يزل بصفاته، وبيان أن المنكر لهاتين الصفتين قد ضل عن كتاب الله، وسنة رسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين أتباع الرسل. قال القسطلاني: " وقد علم بالضرورة من الدين، وثبت في الكتاب والسنة، بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله، أن الباري -تعالى- حي سميع بصير، وانعقد إجماع أهل الأديان – بل جميع العقلاء- على ذلك" (3) . "فالسمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحوها، صفات كمال لا نقص فيها، فمن اتصف بها أكمل ممن لا يتصف بها، والنقص في انتفائها لا في ثبوتها بإجماع العقلاء، والقابل للاتصاف بها كالحيوان أكمل، ممن لا يقبل الاتصاف بها كالجماد" (4) قلت: الحامل على إنكار ذلك هو الجهل بالله -تعالى- والقياس الفاسد؛ حيث قاسوا ذلك على ما يعرفون من أنفسهم بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء إلى عصب الصماخ، والبصر عبارة عن وقوع أشعة الإبصار على جسم مقابل. قالوا: هذا لا يكون إلا من جوارح وأجسام.   (1) انظر: " منهاج السنة" (1/227-228) ملخصاً. (2) الآية 134 من سورة النساء. (3) "إرشاد الساري" (10/370) . (4) "مجموع الفتاوى" (6/88) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فيقال لهم: هذه صفة أسماعكم وأبصاركم، أما رب العالمين فصفاته تابعة لذاته، وذاته ليس لها نظير أو شبيه، فكذلك صفاته تعالى. وكيفية صفاته -تعالى- مجهولة للخلق، ويكفينا أن نعلم أنه -تعالى- متصف بما وصف به نفسه ووصفته به رسله حقيقة، وأنه في ذلك ليس له مثل، كما قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . قال الحافظ: " قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على من قال: إن معنى "سميع بصير" عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء، ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتاً، ولا يسمعها، ولا شك أن من سمع وأبصر، أدخل في صفة الكمال، ممن انفرد بأحدهما دون الآخر. فصح أن كونه سميعاً بصيراً، يفيد قدراً زائداً على كونه عليماً. وكونه سميعاً بصيراً يتضمن أنه يسمع بسمع، ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليماً أنه يعلم بعلم، ولا فرق بين إثبات كونه سميعاً بصيراً، وبين كونه ذا سمع وبصر، وهذا قول أهل السنة قاطبة" (1) وقال البيهقي: " السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير من له بصر يدرك به المرئيات، وكل منهما في حق الباري صفة قائمة بذاته" (2) . وقد تكاثرت الأدلة من كتاب الله -تعالى- ومن سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- على إثبات السمع والبصر صفتين لله -تعالى- حقيقتين على ما يليق بعظمته -تعالى- قال الله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3) ، {وَكَانَ اللهُ   (1) "الفتح" (13/373) . (2) "الاعتقاد" (ص58) . (3) الآية 58 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 سَمِيعًا بَصِيرًا} (1) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (2) ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (4) ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (6) ، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) ، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (8) . في آيات كثيرة قد ذكر الله -تعالى- في القرآن السمع والبصر، واصفاً بهما نفسه، فيما يقرب من مائة آية، مرة يجمع بين السمع والبصر، ومرة بين السمع والعلم، ومرة يذكر البصر وحده متعلقاً بعمل العباد، كقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (9) ، {وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (10) . وقد تقرر في الفطر والعقول، أن عدم السمع والبصر، والأرجل والأيدي، نقص وعيب يمتنع معه دعوة الفاقد لذلك؛ لامتناع كونه إلهاً، إذ الإله يجب أن يكون سميعاً بصيراً حياً قادراً، كاملاً، لا نقص فيه، ولا عيب، قال –تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ   (1) الآية 134 من سورة النساء. (2) الآية 61 من سورة الحج. (3) الآية 1 من سورة الإسراء. (4) الآية 75 من سورة الحج. (5) الآية 20 من سورة غافر. (6) الآية 11 من سورة الشورى. (7) الآية 56 من سورة غافر. (8) الآية 1 من سورة المجادلة. (9) الآية 265 من سورة البقرة. (10) الآية 20 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {194} أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (1) . وقال -تعالى- عن خليله إبراهيم في دعوته أبيه إلى الله -تعالى- {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (2) . وأما سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقد جاءت موافقة لما في كتاب الله ومبينة له، وهي كثيرة جداً، نكتفي بذكر يسير منها بالإضافة إلى ما ذكره البخاري في الباب. فمن ذلك ما رواه أبو داود بسنده على شرط مسلم، عن أبي هريرة أنه قرأ قول الله -تعالى-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (3) فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه، وقال: " رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقرأ ويضع إصبعيه" (4) . قال البيهقي عقب روايته لهذا الحديث: " والمراد بالإشارة في هذا الخبر: تحقيق الوصف لله – عز وجل – بالسمع والبصر، فأشار إلى محل السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله -تعالى-، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير، له سمع وبصر، لا على معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب؛ لأنه محل العلوم منا" (5) . ثم ذكر البيهقي لحديث أبي هريرة هذا شاهداً، من حديث عقبة بن عامر، سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: " إن ربنا سميع بصير،   (1) الآيتان 194، 195 من سورة الأعراف. (2) الآية 42 من سورة مريم. (3) الآية 134 من سورة النساء. (4) انظر: " سنن أبي داود" (5/97) . (5) "الأسماء والصفات" (ص179) ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وأشار بيده إلى عينيه" (1) قال الحافظ: سنده حسن (2) ، وروى اللالكائي عن ابن عباس أنه قرأ قوله –تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} فأشار بيده إلى عينيه (3) . قال ابن خزيمة: " نحن نقول: لربنا عينان يبصر بهما ما تحت الثرى، وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى عليه خافية، فهو تعالى يرى ما في جوف البحار ولججها، كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه" (4) . فالسمع والبصر من الصفات الثابتة لله -تعالى- بقوله عن نفسه، ويقول رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وبالعقل، والفطرة، وإجماع أهل العلم والإيمان، ولم ينكر ذلك إلا شواذ الطوائف المارقة من الحق، كالجهمية، وإخوانهم من بعض المعتزلة، وليس معهم على ذلك إلا التحذلق، والكلام الفارغ من الحق والمعنى الصحيح، أو التوهم بأن إثبات الصفات يقتضي التشبيه، حيث توهموا أن صفات الله كصفات خلقه، تعالى الله. قوله -تعالى-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} ، "كان" هنا تدل على الدوام والاستمرار الذي يعم جميع الأوقات، كما قال علماء النحو: " إن "كان" تستعمل بمعنى: بقي على حاله، واستمر شأنه، وسيستمر من غير انقطاع، ولا تقيد بزمن، نحو: كان الله غفوراً رحيماً" (5) . قال ابن جرير: " إن الله لم يزل {سميعاً} بما تقولون، وتنطقون، وهو سميع لذلك منك إذا حكمتم بين الناس، ولما تحاورونهم به.   (1) هذا الحديث لم أجده في "الصفات" المطبوع، فيكون في النسخة التي نقل منها الحافظ. (2) "الفتح" (13/373) . (3) "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (2/411) . (4) كتاب "التوحيد" (ص50) . (5) "النحو الواضح" (1/549) ، وانظر " " المقتضب للمبرد" (4/119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 {بصيراً} بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم، بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه، ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله" (1) قوله: " قال الأعمش، عن تميم، عن عروة، عن عائشة، قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فأنزل الله -تعالى- على النبي –صلى الله عليه وسلم-: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ". هذا الحديث رواه أحمد في "المسند" موصولاً (2) ، وابن ماجه في "السنن" (3) ، والنسائي (4) ، وكلهم بأتم مما ذكر البخاري. ولفظهم: " أنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة – وللنسائي- خولة – إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وأنا في ناحية البيت، وما أسمع ما تقول، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية. ورواه ابن ماجه في كتاب الظهار من "السنن" بأتم مما هنا (5) . قال ابن عبد البر: " روينا من وجوه عن عمر بن الخطاب، أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز، فاستوقفته، فجعل يحدثها وتحدثه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست الناس على هذه العجوز، فقال: ويلك! أتدري من هذه؟   (1) "تفسير الطبري" (8/494) بتحقيق محمود شاكر. (2) انظر: " المسند" (6/46) ، وانظر: " الفتح الرباني " (18/298) . (3) انظر: " سنن ابن ماجه " (1/67) . (4) "المجتبى " (6/168) . (5) انظر: " سنن ابن ماجه" (1/666) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} والله لو أنها وقفت إلى الليل ما فارقتها إلا لصلاة، ثم أرجع إليها " (1) . قال ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم، وساقه بسنده (2) . قوله: " وسع سمعه الأصوات" أي: استوعبها وأدركها فلا يفوته منها شيء وإن خفي، فحينما ذكرت المرأة قصتها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- وقال لها: " قد حرمت عليه" جعلت تقول – بصوت منخفض يخفى على عائشة مع قربها منها-: بعدما كبرت سني ظاهر مني؟ إلى الله أشكو حال صبية إن ضممتهم إليَّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا. فهذه مجادلتها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- التي ذكرها الله –تعالى- بقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} وهذا من أبلغ الأدلة على اتصاف الله –تعالى- بالسمع، وهو أمر معلوم بالضرورة من الدين، لا ينكره إلا من ضل عن الهدى. وقول عائشة هذا يدل على أن الصحابة – رضي الله عنهم، آمنوا بالنصوص على ظاهرها الذي يتبادر إلى الفهم، وأن هذا هو الذي أراده الله منهم ومن غيرهم من المكلفين ورسوله، إذ لو كان هذا الذي آمنوا به واعتقدوه خطأ لم يقروا عليه ولبين لهم الصواب، ولم يأت عن أحد منهم تأويل هذه النصوص عن ظواهرها، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، مع توافر الدواعي على نقل ذلك مما يبين قطعاً أن الذي أريد منهم، ومن كل مؤمن، هو ظاهر الخطاب، وهذا واضح لمن تأمل النصوص، وعرف حال الصحابة. وبهذا يتبين بطلان التأويل، وأنه سلوك غير سبيل الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصحابته، والتابعين لهم، إلى نهاية الدنيا.   (1) "الاستيعاب" (4/1831) بتحقيق البجاوي. (2) انظر: " تفسير ابن كثير" (8/60) مطبعة الشعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 16- قال: " حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي عثمان، عن أبي موسى، قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: " اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، تدعون سميعاً بصيراً قريباً" ثم أتى علىّ، وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: " يا عبد الله ابن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" أو قال: " ألا أدلك به". قوله: " كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا" هذا مما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فكان يكبر إذا علا نشزاً، ويسبح إذا هبط في منخفض من الأرض، وقد بوب البخاري -رحمه الله - على الأمرين في الجهاد والدعوات من "صحيحه"، فقال: باب التسبيح إذا هبط وادياً، وبعده: باب التكبير إذا علا شرفاً. قال المهلب: " تكبيره -صلى الله عليه وسلم- عند الارتفاع، استشعار لكبرياء الله - عزوجل -، وعندما تقع عليه العين من عظيم خلق الله أنه - أكبر من كل شيء. والتسبيح في الأماكن المنخفضة استشعار بتنزيهه -تعالى - عن صفة السفل والانخفاض" (1) . وفيه دليل على علو الله -تعالى- فوق كل شيء، وأنه لا يجوز أن يكون شيء من خلقه فوقه، تعالى وتقدس، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله -تعالى-. قوله: " فقال: " اربعوا على أنفسكم" أي: ارفقوا بأنفسكم، فلا تكلفوها   (1) "فتح الباري" (6/136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 برفع أصواتكم، فإنه لا حاجة إلى ذلك، فإن من تكبرونه وتسبحونه سميع بصير، يسمع الأصوات الخفية كما يسمع الجهرية، ويرى الأشياء وإن دقت، فلا يخفى عليه شيء. قوله: " فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً" قال صاحب "القاموس": "الصمم: انسداد الأذن، وثقل السمع، بحيث لا يسمع الأصوات إلا إذا كانت مرتفعة عالية" (1) . وقيل: هو انسداد الأذن، وذهاب سمعها. قوله: " غائباً" أي: ليس بعيداً ومستور الرؤية والسمع عنكم، فيحتاج إلى المناداة ورفع الأصوات كما قال -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) . ولهذا قال: " تدعون سميعاً بصيراً قريباً" وهذه صيغ مبالغة لله؛ لأن له -تعالى- تمام الكمال من هذه الصفات، فلا يفوت سمعه أي حركة وإن خفيت، فيسمع دبيب النملة على الصفاة الصماء في ظلمة الليل، وأخفى من ذلك، كما أنه -تعالى- لا يحجب بصره شيء من الحوائل، فهو يسمع نغماتكم وأصوات أنفاسكم وجميع ما تتلفظون به من كلمات، ويبصر حركاتكم، وهو معكم قريب من داعيه، وهو أيضاً مع جميع خلقه باطلاعه وإحاطته، وهم في قبضته، ومع ذلك هو على عرشه عال فوق جميع مخلوقاته، ولا يخفى عليه خافية في جميع مخلوقاته مهما كانت، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله - في مكانه. قوله: " قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة" الكنز هو: المال النفيس المحفوظ، والجمع والادخار يسمى: كنزاً.   (1) انظر " القاموس" (4/140) . (2) الآية 186 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وكنز الجنة: الأعمال الصالحة الفضيلة، التي يقبلها الله ويرضاها، فيحفظها ويدخرها لصاحبها، فيكون سبباً في دخوله الجنة ورفع منزلته فيها، وهو دليل على تفاضل الأعمال، والأدلة على ذلك كثيرة جداً. ومعنى هذه الكلمة: لا تحول من حالة إلى أخرى، ولا انتقال من أمر إلى آخر، ولا قوة على ذلك، ولا قدرة إلا بالله، فهو المعين عليه والمهيئ لأسبابه والموجد لها، فهي استسلام لله، وإذعان لقدرته وإرادته، وإقرار بأنه لا يقع حركة أو سكون إلا بمشيئته - جلا وعلا-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 17- قال: " حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، أخبرني عمرو، عن يزيد، عن أبي الخير، سمع عبد الله بن عمرو، أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي من عندك مغفرة، إنك أنت الغفور الرحيم ". عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي، السهمي، أبو محمد، أسلم قديماً، وكان من أفاضل الصحابة وعبادهم، ومن العلماء المكثرين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ثبت عن حافظ الأمة أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله: " ما كان أحد أكثر مني حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب" (1) . ومع ذلك فالمروي عنه أقل بكثير من المروي عن أبي هريرة، وقد قيل: إن السبب في ذلك أن عبد الله سكن مصر، والوارد إليها من الناس قليل، وأبو هريرة سكن المدينة، وهي مجمع الناس. قيل: إنه توفي في مصر، وقيل: في الطائف، وقيل: في مكة، وقيل: في فلسطين، سنة ثلاث وستين؛ أو خمس وستين، عن اثنتين وسبعين سنة، - رضي الله عنه-، وعن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعين. وأما أبو بكر فهو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، القرشي، كان أبيض نحيفاً خفيف العارضين، وهو أفضل من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أعلم الصحابة بالله ورسوله، وهو أول من أسلم من الرجال، ولسرعته إلى تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وشدة قبوله لقوله سمي: الصديق، وهو رفيق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، وصاحبه في الغار، كما قال الله   (1) رواه البخاري، انظر "الفتح" (1/206) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 -تعالى-: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (1) ، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمن الناس عليه، وأنه لو اتخذ من الناس خليلاً لاتخذ أبا بكر خليلاً، كما ثبت في "الصحيحين"، وأخبر أنه أحب الناس إليه من الرجال، وأن ابنته عائشة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب الناس إليه من النساء. أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤم الناس في مرض موته، ولما روجع في ذلك غضب، وقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. وفضائله كثيرة، وقد كتب فيه مؤلفات، توفي - رضي الله عنه - سنة ثلاث عشرة من الهجرة، ودفن جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (2) . قوله: " إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً" الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه. "وهذا يدل على أن الإنسان لا ينفك عن الذنوب، والتقصير في حقوق الله، كما في الحديث: " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (3) ؛ لأنه أطلق هذا الظلم ولم يقيده، أو يخصصه بزمن دون آخر، أو بحالة دون حالة، فلو كان هناك حالة أو زمن من عمر الإنسان لا يكون فيه ظلم ما صح هذا الإطلاق، ولا صار مطابقاً للواقع" (4) . قوله: " ولا يغفر الذنوب إلا أنت " تقدم معنى الغفر في اللغة، والمقصود محو الذنوب ووقاية تبعاتها، وهذا لجوء إلى التوحيد، وأنه لا مفر ولا ملجأ يفزع   (1) الآية 40 من سورة التوبة. (2) "أسد الغابة" (3/309) . (3) رواه ابن ماجه في "السنن"، "الزهد" (2/1420) الحديث (4251) ، والترمذي (4/70) ، وأحمد في "المسند" (3/98) . (4) "شرح العمدة" لابن دقيق العيد (2/78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 إليه في غفران الذنوب، ووقاية شرها إلا الله وحده، ولا طريق يسلك لذلك إلا الانطراح بين يدي رب العالمين، والافتقار إليه، والتوجه بكلية العبد إليه، وإخلاص الدعاء له وحده، رغبة ورهبة، كما قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) . فعلم العبد بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله يضطره إلى اللجوء إليه -تعالى- والإخلاص له، وليس هناك طريق للنجاة إلا هذا الطريق، ولهذا قيل: " إن التوحيد مفزع أولياء الله، وأعدائه" أما أولياء الله فأمرهم ظاهر، وأما أعداؤه: فكانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله وحده، كما ذكر الله عنهم في القرآن، ونظر العقل يؤدي إلى هذا دائماً. قوله: " فاغفر لي من عندك مغفرة" أي أنه لا حيلة لي ولا خلاص إلا بأن تمن علي أنت وحدك بالمغفرة، فتستر ذنوبي، وتعفو عني، وتقيني ما يترتب عليها من تبعات وشرور. وقال: " من عندك" ليبين الاختصاص، أي أن المغفرة منك وحدك تفضل بها عليّ، بدون استحقاق، بل هي محض جودك وكرمك. وقوله: " إنك أنت الغفور الرحيم" ختم هذا الدعاء، بهذين الاسمين الكريمين، لمناسبتهما للمطلوب، فالغفور يناسب طلب المغفرة. والرحيم يناسب طلب التفضل والجود، وهو قريب من الأول، وهذا من معاني دعاء الله بأسمائه الحسنى. " وقد جمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله والتوسل إلى ربه - عز وجل - بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم   (1) الآية 135 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معاً، وهكذا أدب الدعاء، وأدب العبودية" (1) . والمقصود من الحديث في هذا الباب أن المدعو لا بد أن يكون سميعاً يسمع دعوة الداعي إذا دعاه، بصيراً بحاله فيوصل إليه ما طلب بقدرته، وإلا تكون دعوته ضلال وسدى، ففي الدعاء واستجابة الله، -تعالى- لعبده الداعي برهان على أنه سميع، بصير، قادر، حي، عليم، وقد قال الله -تعالى- فيمن يدعو من لا يسمع ولا يبصر: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ {5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2) وقال -تعالى- عن خليله إبراهيم في دعوته لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (3) . " وقد قال ابن عقيل: قد ندب الله -تعالى- إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى. الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى. الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى. الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى. الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى. السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى.   (1) "الوابل الصيب" (ص118) . (2) الآيتان 5، 6 من سورة الأحقاف. (3) الآية 42 من سورة مريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ومن يقول بالطبائع، يعلم أن النار، لا يقال لها: كفي، ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي، لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء، وصلاة الاستسقاء، ليبين كذب أهل الطبائع" (1) . و"فعل السمع يراد به أربعة معان: أحدها: سمع إدراك، ومتعلقه الأصوات. الثاني: سمع فهم، وعقل، ومتعلقه المعاني. الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل. الرابع: سمع قبول، وانقياد. فمن الأول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} ، و {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (2) . ومن الثاني: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} (3) ، أي: سمع فهم وعقل، ومن الثالث: سمع الله لمن حمده، ومن الرابع: قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي: قابلون له، ومنقادون، فسمع الإدراك يتعدى بنفسه، وسمع القبول يتعدى باللام، وبمن، ولإجابته بمن" (4) .   (1) "شرح الطحاوية" (ص457) الطبعة الثالثة. (2) الآية 181 من سورة آل عمران. (3) الآية 104 من سورة البقرة. (4) "بدائع الفوائد" (2/75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 18- قال: " حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني عروة - أن عائشة - رضي الله عنها - حدثته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن جبريل - عليه السلام - ناداني، قال: " إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك". اختصر البخاري هذا الحديث هنا - فذكر الشاهد منه، وقد ذكره بتمامه في بدء الخلق، ولفظه: " قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئاً" (1) . ففي هذا الحديث البيان الواضح في أن الله -تعالى- يسمع أقوال عباده، وأنه لا يخفى عليه -تعالى- من ذلك شيء.   (1) انظر: " البخاري مع الفتح" (6/312) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وصفة السمع والبصر من الصفات اللازمة لله -تعالى- وقد-تعالى- تقدم بيان ثبوت ذلك له -تعالى- عقلاً، وشرعاً، وفطرة، وأن من أنكر ذلك عرف به وأعلم إن كان جاهلاً، وإلا حكم عليه بالكفر؛ لإنكاره الحق الواضح، الواجب اعتقاده والإيمان به؛ لأنه أنكر ما ثبت، وتواترت عليه كتب الله، وجاءت به جميع رسله، فهو أمر ضروري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قال: " باب قول الله -تعالى-: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} (1) ". هذا الخطاب الكريم، وأمثاله كثير في كتاب الله -تعالى- عام شامل، يجب أن يفهم على عمومه، كما يجب أن يفهم مراد الله -تعالى- فيه، وفي غيره من خطاباته -تعالى-. "وقد اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله -تعالى- على كل شيء قدير، كما في نصوص القرآن الكريم، وغيره من كتب الله -تعالى- وما وجد من أفراد مسائل وقع الخلاف فيها، فهو بسبب عدم فهم النصوص، كقول من يدخل في هذا العموم، الممتنع لذاته، مثل الجمع بين الضدين، ككون الشخص ميتاً حياً في آن واحد، والجمع بين الحركة والسكون، والسواد والبياض، وما أشبه ذلك. وكذا من لا يدخل ذلك في هذا العموم، فلا يكون ذلك داخلاً عندهم في عموم القدرة. والحق أن الممتنع لذاته ليس شيئاً، ولا وجود له في الخارج، بل لا يتصوره الفكر ثابتاً في خارج الذهن، ويمتنع تحققه في الأعيان وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل، فهو ليس بشيء، لا في الأعيان، ولا في الأذهان، فلا يصلح أن يقال: إنه خارج من هذا العموم، أو داخل فيه؛ لأن هذا يجعل له وجوداً ولو في الفرض، فيوقع في الشبه والشكوك، بل يقال: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا ليس بشيء. وأما المعدوم، فليس بشيء أيضاً في الوجود الخارج، ولكنه شيء في   (1) الآية 65 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 التصور والذهن، وما علم الله -تعالى- أنه سيكون، فهو شيء في التقدير، والعلم والكتاب، وإن لم يكن شيئاً في الخارج كما قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) . فلفظ الشيء في الآية يتناول ما وجد، وما يتصوره الذهن موجوداً، ولا يستثنى من ذلك شيء، لا أفعال العباد، ولا أفعاله -تعالى-، سواء المتعدية، أو اللازمة، كما قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) . فجمع في الآية بين النوعين من الأفعال، المتعدية واللازمة. والقدرة تتعلق بكل ما تتعلق به المشيئة، فإن ما شاء الله كان، ولا يكون شيء إلا بقدرته -تعالى-: ولهذا قال -تعالى-: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} (3) . {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) والشيء في الأصل، مصدر شاء، يشاء، شيئاً، كنال، ينال، نيلاً، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول، فسموا "المشاء" شيئاً، كما سموا المنال: نيلاً، فقالوا: نيل المعدن، كما يسمى المقدور: قدرة، والمخلوق: خلقاً، فقوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: على كل ما يشاء، فمنه ما قد شاءه فوجد، ومنه ما لم يشأه {فلم يوجد} وهو شيء في العلم، بمعنى أنه قابل لأن يشاءه.   (1) الآية 82 من سورة يس. (2) الآية 4 من سورة الحديد، انتهى من "مجموع الفتاوى" ملخصاً (8/7-11) . (3) الآية 29 من سورة الشورى. (4) الآية 120 من سورة المائدة، المصدر السابق (ص383) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فهذا العموم يتناول ما كان شيئاً في الخارج، والعلم، وما كان في العلم فقط، بخلاف ما لا يجوز أن تتناوله المشيئة، وهو الحق -تعالى- وصفاته، أو الممتنع لنفسه، فإنه غير داخل في العموم، ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفس ليس بشيء" اهـ (1) .   (1) المصدر السابق (ص383) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 19- قال: " حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثنا معن بن عيسى، حدثني عبد الرحمن ابن أبي الموالي، قال: سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن، يقول: أخبرني جابر بن عبد الله، السلمي، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر - ثم تسميه بعينه - خيراً لي، في عاجل أمري وآجله - قال: أو: في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به". جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، الأنصاري الخزرجي، من أكابر علماء الصحابة، والحريصين على تحصيل العلم، فقد ذكر له عدة رحلات في طلب الحديث، منها: أنه رحل من المدينة إلى مصر من أجل حديث واحد، كما ذكره البخاري في "صحيحه" معلقاً، وكان حافظاً مكثراً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مفتي المدينة في زمانه، له مناقب كثيرة. قال الواقدي: توفي سنة ثمان وسبعين، وقال صاحب الحلية: سنة سبع وسبعين. قيل: إنه عاش أربعاً وتسعين سنة، - رضي الله عنه - وعن سائر صحابة رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الله -صلى الله عليه وسلم- (1) . قوله: " يعلمنا الاستخارة" أي: صلاتها ودعاءها، وهذا من تمام شفقته على أمته، وحرصه على حصول الخير لهم، ودفع كل شر عنهم، وبمثل هذا يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليترك باب ما يعتقدونه في ربهم، من الإيمان بأسمائه وصفاته، وما يجب له، وما يمتنع عليه، ما كان ليترك ذلك بدون إيضاح وبيان لا يحصل معه أي التباس أو اشتباه، وهذا واضح جلي من دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن حاله، وهو موجب الرسالة، ومن حالة أصحابه أيضاً. الاستخارة: طلب الخير من أحد الأمرين، الفعل لما هم به، أو الترك، وهي مشروعة في عامة الأمور، كما يدل عليه هذا الحديث، لا يخرج من عموم ذلك إلا الواجب، والمحرم، أما المستحب والمكروه، ففيهما تفصيل، يذكر في كتب الآداب الشرعية، وكتب الفروع. وقوله: " كما يعلمنا السورة من القرآن " بيان لشدة الاهتمام بها والاعتناء، وهذا من محاسن الإسلام الظاهرة لكل عاقل، وقد كان العرب قبل ذلك إذا هم أحدهم بالأمر ذهب يستقسم بالأزلام، أو ذهب يزجر الطير ليستدل بطيرانه أو نعابه على ما سيحصل له في المستقبل، أو ذهب إليه الكهنة وإخوان الشياطين، وهذا كله رجم بالغيب، وشرك بالله، فعوضه الإسلام عن ذلك بالفزع إلى من بيده أزمة الأمور كلها، ومن يملك الخير والشر، فيقدمون بين يدي ذلك ركعتين، لتكونا وسيلة بين يدي الطلب، ثم يتوجهون إلى ربهم بهذا الدعاء، الذي فيه التوسل إليه -تعالى- بأسمائه وصفاته، وتوحيد الطلب والنية والقصد. وقوله: " ليركع" أمر بالركوع، ويحمل على الندب؛ للأدلة الدالة على عدم الوجوب.   (1) انظر: " سير أعلام النبلاء" (3/189) ، و "الإصابة" (1/213) ، و "أسد الغابة" (1/256) و "الاستيعاب" (1/219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قوله: " من غير الفريضة" يدل على عدم حصول سنة الاستخارة بالدعاء عقب صلاة الفرض، بل لابد أن تكون بركعتين غير الفريضة، ثم يدعو بهذا الدعاء. قوله: " اللهم إني أستخيرك" أي: أطلب منك بيان وتيسير ما هو خير لي. قوله: " بعلمك" أي: أسألك وأتوسل إليك بصفتك، صفة العلم، أن ترشدني إلى الخير فيما أريد، فإنك عالم به لا يخفى عليك شيء. وهذا صريح في إثبات صفة العلم لله -تعالى- ودعائه به، والأدلة عليه لا حصر لها، كما سبقت الإشارة إليه. وقوله: " وأستقدرك" أي: أسألك أن تجعلني قادراً على فعل ما أريد، وتهيء أسباب ذلك لي. وقوله: "بقدرتك" وهذا سؤال لله -تعالى- بصفته التي هي القدرة، أي: أنت القادر الذي لا يعجزه شيء، فأسألك بهذه القدرة العظيمة أن تنيلني ما أريد، وهذا هو محل الشاهد من الحديث للباب، كما هو ظاهر. ثم عاد إلى التوسل بهاتين الصفتين، بقوله: " فإنك تقدر ولا أقدر" الخ، يعني: لك القدرة الكاملة الشاملة، فأسألك بها، كما أني أسألك بفقري إليك وعجزي، فليس لي قدرة على شيء حتى تجعلني قادراً عليه، وتيسر لي أسبابه، وأنت تعلم عواقب الأمور، وما تؤول إليه، بل لا يخفى عليك شيء في الماضي، والحاضر، والمستقبل، فعلمك شامل لكل شيء، ولا علم لي بشيء من ذلك إلا ما علمتني. وقوله: " وأنت علام الغيوب" أي: ذلك خاص بك، لا يعلمه سواك. قوله: " ثم يسميه بعينه" ظاهر في أنه يتلفظ به معيناً له باسمه؛ ليكون بذلك أقوى على اجتماع العزم على طلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 "في عاجل أمري وآجله" أي: في دنياي وآخرتي. "أو في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري" شك من الراوي: هل قال الأول أو الثاني؟ والمعنى واحد. وقوله: " فاقدره لي، ويسره لي" اقض به لي، واجعلني قادراً على الحصول عليه، وسهل لي أسبابه بحيث أناله بلا مشقة وكلفة، وفي هذا: أنه لا يحصل شيء إلا بسبب. "ثم بارك لي فيه " اجعل فيه بركة تنميه وتزيده، وفيما يترتب عليه. "اللهم إن كنت تعلم أنه شر لي، في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفني عنه" أي: هيئ الأسباب التي تصرف قلبي وتثني عزمي عن فعله. "واقدر لي الخير حيث كان" أي: قدر لي فعل ما فيه خير لديني ودنياي، في أي مكان، وفي أي وقت. "ثم رضني به" أي: اجعلني رضياً به، قانعاً، ناعم البال، مستغنياً عن خلقك، مستعيناً به على طاعتك، وشاكراً لك منقاداً لأمرك. ومراد البخاري: إثبات صفة القدرة لله -تعالى- وأن قدرته -تعالى- عامة لكل مقدور، والرد على القدرية نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم، الذين يقيدون قدرة الله -تعالى- بما اخترعوه من عند أنفسهم، ولهذا اقتصر على هذا القدر من الآية، أي القادر على كل شيء. فالله -تعالى- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا مانع له، ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده " فهو قادر على كل مقدور". وكل ممكن يكون مقدوراً له، فما من ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه. وأما الممتنع لنفسه، فإنه ليس بشيء عند جميع العقلاء، إن تنازعوا في المعدوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الممكن مثل إيمان الكافر: هل هو شيء أو لا؟ فأما الممتنع لنفسه: فلم يقل أحد إنه شيء في الخارج، والممتنع هو: ما لا يمكن وجوده في خارج الذهن، مثل كون الشيء موجوداً معدوماً (1) ، فإنه لا يعقل ثبوت ذلك، وكذا كون الشيء أسود كله وأبيض كله، وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين، والممتنع يراد به الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور، ويراد به الممتنع لغيره مثل ما علم الله أنه لا يكون، وأخبر أنه لا يكون، وكتب ذلك، فهذا ممتنع، لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله متخلفاً عن معلومه، وخبره بخلاف الواقع، تعالى عن ذلك، ولكن هو ممكن بنفسه والله قادر عليه، كما قال -تعالى-: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (2) ، وقال -تعالى-: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (3) ، وقال -تعالى-: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4) ، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (5) . وأمثال ذلك مما يخبر -تعالى- أنه لو شاء لفعله، فإن هذه الأمور التي أخبر أنه لو شاء لفعلها يلزم أنها ممكنة مقدورة له، فإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له ممكن، لكنه لا يقع، وقد علم الله أنه لا يؤمن، مع كونه مستطيع الإيمان، كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج.   (1) ومن ذلك قول بعض الملاحدة: هل يقدر الله أن يخلق مثل نفسه؟ فهذا ممتنع لنفسه، وإنما يورده جاهل لا يتصور ما يقول، أو ملبس معاند يريد إفساد عقائد عوام المؤمنين، أو التشكيك في قدرة الله -تعالى-. (2) الآية 4 من سورة القيامة. (3) الآية 18 من سورة المؤمنون. (4) الآية 13 من سورة السجدة. (5) الآية 118 من سورة هود عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قال الله -تعالى-: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1) وحقيقة الأمر هو ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير، وهذا هو ما يعتقده أهل السنة المثبتون للقدر" (2) .   (1) الآية 28 من سورة الأنعام. (2) "منهاج السنة" (2/118-122) ملخصاً ببعض التصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 "فعند أهل السنة أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه، وأمثال ذلك" (1) . قال: " باب مقلب القلوب" وقول الله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} (2) . قال الراغب: " تقليب الشيء: تغييره من حال إلى حال، والتقليب: التصرف، وتقليب الله القلوب والبصائر: صرفها من رأي إلى رأي " (3) . قال ابن عباس: " لما جحد المشركون ما أنزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، وردت عن كل أمر " (4) . وقال مجاهد: "ونحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية، فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة" (5) . قال الحافظ: " المراد بتقليب القلوب: تقليب أعراضها، وأحوالها، لا تقليب ذات القلب" (6) . أخبر -تعالى- أنه يعاقب من لا يقبل الحق، أو يرده أول ما يبلغه بتقليب القلب، وتركه يعمه في ضلاله وغيه، كما في هذه الآية المذكورة في الباب، وكما في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (7) ، وفي هذا بيان أن الله -تعالى- إذا منع فضله الإنسان، بالهداية، أنه يكون منحرفاً ضالاً.   (1) المصدر السابق (1/213) . (2) الآية 110 من سورة الأنعام. (3) "المفردات" (ص411) . (4) رواه الطبري، انظر: " التفسير" (12/43، 41) . (5) المصدر نفسه (12/44) . (6) "الفتح" (11/527) . (7) الآية 5 من سورة الصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ومراد البخاري - رحمه الله - وصف الله -تعالى- بأنه المنفرد بالتصرف في خلقه حتى قلوب العباد التي تنطوي على آرائهم، ونياتهم، وما يخططون لمستقبلهم، حيث يرى كثير منهم أو أكثرهم في الظاهر أنهم أحرار في أفكارهم، وما يريدونه، والواقع أن الله - تعالى- هو الذي يصرفهم في ذلك، فلا قدرة لهم إلا بعد مشيئته، وبهذا يشير البخاري - رحمه الله - إلى تمام قدرة الله التي سبق ذكرها في الباب قبل هذا، حيث بين بهذا أن الله هو المتصرف بالقلوب، فإن شاء جعلها مريدة للخير، وإن شاء جعلها مريدة للشر وبذلك يعلم أنه لا قدرة لأحد على شيء إلا بعد أن يجعله الله قادراً عليه، خلافاً لما يقوله الضالون عن الحق، من أهل البدع والانحراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 20- قال: " حدثنا سعيد بن سليمان، عن ابن المبارك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن عبد الله، قال: " أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: لا، ومقلب القلوب". ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث في كتاب القدر، بلفظ: " كثيراً ما كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يحلف" لا، ومقلب القلوب" (1) . وذكر عن ابن عمر - أيضاً -: " كانت يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- لا، ومقلب القلوب" (2) . وفي رواية ابن ماجه: " كان أكثر أيمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا، ومصرف القلوب" (3) . قال الحافظ: " في هذا الحديث دليل على أن أعمال القلب، من الإرادات والدواعي وسائر الأعراض، بخلق الله -تعالى- وفيه جواز تسمية الله -تعالى- بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به" (4) . ففي هذا الحديث، وما هو نحوه من الدلائل، أن الله -تعالى- هو الذي يتولى قلوب العباد يصرفها كيف يشاء، وهذا من تمام ملكه، فلا ينازعه أحد في التدبير والتصرف، ولا يقع في الوجود إلا ما أراده، وبهذا يعلم مدى حاجة العبد إلى ربه، وأنه لا غنى له عنه طرفة عين، فلا بد له من هدايته وتوفيقه، وإلا ضل   (1) انظر: " البخاري مع الفتح" (11/513) . (2) انظر: المرجع السابق (ص523) . (3) انظر: " سنن ابن ماجه" (1/677) رقم (2092) . (4) "فتح الباري" (11/527) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وتاه في مهامه نهايتها الهلاك، والعذاب المؤبد، وهذا لا ينافي تكليف العباد بالأعمال التي يترتب عليها الجزاء، كما سيأتي -إن شاء الله تعالى - في موضعه. وفي " صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين، من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه كيف يشاء" ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك" (1) .   (1) انظر: " مسلم"، كتاب القدر، (4/2045) رقم الحديث (2654) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قال: " باب إن لله مائة اسم إلا واحدة ". مراده بهذا الباب: وجوب إثبات أسماء الله -تعالى- على ما ورد في كتاب الله، وعن رسوله، وأن ذلك من التوحيد الذي بينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعا أمته إلى الإيمان به، ووجوب اعتقاده، قال الله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) ، وقال - جل وعلا - {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) ، وقال - تبارك وتعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (3) . فهذه الآيات وغيرها مما في معناها، تدل على وجوب الإيمان بما لله -تعالى- من الأسماء الحسنى، الدالة على عظيم جلاله، وسمعة أوصافه، فكل اسم من أسمائه دال على كمال عظمته، وبذلك كانت حسنى، أما الأسماء التي لا تدل على صفات الكمال، فليست بحسنى، وكذلك إذا اشتركت دلالتها بين الكمال والنقص، أو دلت على مجرد علم محض، مثل إبراهيم، وزيد، فلا تكون حسنى حتى تدل على كمال الصفة التي اشتق منها الاسم، مثل "العليم" فإنه يدل على أن له علماً عاماً محيطاً بجميع الأشياء، لا يخرج عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، ومثل "القدير" الدال على قدرته التي لا يعجزها شيء، و"الرحيم" الدال على رحمته العظيمة التي وسعت كل شيء.   (1) الآية 180 من سورة الأعراف. (2) الآية 110 من سورة الإسراء. (3) الآية 24 من سورة الحشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وهكذا كل أسمائه - جلا وعلا - وهذا تفصيل وبيان للباب الثاني من الكتاب، ولكونها حسنى أوجب على عباده دعاءه بها، كما يأتي في الباب بعد هذا، وتوعد الملحدين بها. فيدعى بكل مطلوب بما يناسبه منها، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، وتب عليّ إنك عفو كريم، والطف بي يا لطيف، وارزقني يا رزاق، وهكذا. "قوله: " إن لله مائة اسم إلا واحدة" التأنيث في لفظة "واحد" نظراً إلى التسمية أو الكلمة، كما يقول النجاة: " الكلمة اسم أو فعل أو حرف". وقال ابن مالك: " أنت باعتبار معنى التسمية، أو الصفة، أو الكلمة" (1) . وفي بعض روايته: " إلا واحداً". قال ابن عباس: {ذو الجلال} : العظمة، {البر} : اللطيف". في رواية: " ذو الجلال: العظيم"، فيكون "العظيم" تفسيراً لـ" ذو"، وعلى الأولى تفسيراً لـ" الجلال". فذو الجلال: صاحب العظمة، الذي لا تقاس عظمته بشيء من خلقه - جل وعلا-. وأما "البر" فهو: المحسن غاية الإحسان إلى خلقه، من غير استحقاق ولا مقابل، فهو بليغ الإحسان إلى خلقه، وإحسانه شامل لهم. وأما " اللطيف" فهو: العالم بالخفيات، ودقائق الأمور، وغوامضها، والله أعلم.   (1) "فتح الباري" (11/219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقال الزجاج: " اللطيف": المحسن إلى عباده في خفاء وستر، من حيث لا يعلمون" (1) .   (1) "تفسير الأسماء الحسنى" (ص44) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 21- قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة". {أحصيناه} حفظناه. " قال جماعة من العلماء: الحكمة في قوله: " مائة إلا واحداً" بعد قوله: " تسعة وتسعين" أن يقرر ذلك في نفس السامع، جمعاً بين جهتي الإجمال والتفصيل، أو دفعاً للتصحيف الخطي، أو اللفظي" (1) قوله: " إن لله تسعة وتسعين اسماً" هذا لا يقصد به حصر أسماء الله -تعالى- في هذا العدد المذكور، وإنما قصد الإخبار عما يترتب على إحصائها وجزائه، كما تقول: عندي مائة كتاب أعددتها للإعارة، فلا ينفي أن يكون عندك كتب غيرها، فالتقييد بهذا العدد عائد إلى الأسماء الموصوفة بهذه الصفة، وهي قوله: " من أحصاها دخل الجنة" فهذه الجملة محلها النصب صفة " لتسعة وتسعين"، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والمعنى " إن لله أسماء بقدر هذا العدد، من أحصاها دخل الجنة". فأسماء الله -تعالى-، لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد، بدليل ما رواه الإمام أحمد في " المسند"، حدثنا يزيد، أنبأنا ابن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهني (2) ، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال   (1) " الفتح" (11/219) . (2) يزيد هو: ابن هارون، إمام حافظ مشهور. وابن مرزوق هو: فضيل بن مرزوق الأغر الرقاشي الكوفي، من رجال مسلم، وأبو مسلمة وأبو سلمة هو موسى بن عبد الله أو ابن عبد الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ما أصاب أحداً قط هم، ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً" (1) سنده صحيح. قال ابن كثير: " أخرجه الإمام أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" بمثله" (2) . فهذا يدل على أن لله أسماء غير التسع والتسعين. وقوله في الحديث: " أو استأثرت به في علم الغيب عندك" معناه: انفردت بعلمه فلم تطلع عليه أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً. وقسم أسماء الله -تعالى- في هذا الحديث ثلاثة أقسام: أحدها: ما سمى به نفسه، فأظهره لمن شاء، من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزله في كتبه. والثاني: أنزله في كتبه، أو في بعضها، فتعرف به إلى عباده. والثالث: استأثر به في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولهذا قال: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك " أي: جعلته من الغيب الذي لا يعلمه غيرك، وليس المراد أنه -تعالى- انفرد بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزلها في كتبه، وهو ثبوت ما دلت عليه من المعاني اللائقة بعظمته، لا مجرد التسمية.   (1) "المسند" (1/391، 452) ، وانظر: " الفتح الرباني" (14/262) . (2) انظر: " تفسير ابن كثير" (3/517) ط الشعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ومن الأدلة على عدم حصرها فيما ذكر: قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة: " فيفتح عليّ من محامده ما لا أحسنه الآن" وتلك المحامد، هي الثناء عليه -تعالى- بما له من أسماء حسنى وصفات عليا. ومن الأدلة أيضاً قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (1) وأحسن الثناء ما كان بأسمائه الحسنى وصفاته العلية. وبهذا يتبين أن الأسماء الحسنى غير محصورة في العدد المذكور، وإنما خص ذكر هذا العدد لما رتب عليه من الحكم، وهو: " من أحصاها دخل الجنة "، فليس في الحديث حصر أسماء الله -تعالى- ولا يدل على أنه ليس لله اسم غير هذه التسع والتسعين، وإنما أريد به الإخبار بدخول الجنة لمن أحصاها، لا الإخبار بحصرها، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، كما ذكره الحافظ، ونقل النووي الاتفاق على ذلك (2) . قال شيخ الإسلام: " والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصها دخل الجنة " معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسماً، فإن في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأبو حاتم في "صحيحه": " أسألك بكل اسم هو لك" الحديث، وفي "الصحيحين": " لا أحصي ثناء عليك" ولو أحصى جميع أسمائه، لأحصى صفاته، فكان يحصي الثناء عليه؛ لأن صفاته يعبر عنها بأسمائه" (3) . قوله: " من أحصاها دخل الجنة" اختلف في المقصود من الإحصاء، وربما فهم من صنيع البخاري أنه يرى أن إحصاءها هو حفظ ألفاظها، كما فهم   (1) رواه "مسلم" في كتاب الصلاة (1/352) ، و "أبو داود" في الوتر (2/134) وغيرهما. (2) انظر: " فتح الباري" (11/220) . (3) "درء تعارض العقل والنقل" (3/332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 من ذلك الحافظ ابن حجر، وعندي فيه نظر، وذلك أن عادة البخاري التي سار عليها في كتابه هذا، أنه إذا جاء لفظ في الحديث، وفي القرآن لفظ يوافقه في اللفظ والاشتقاق، أنه يذكره وإن كان لا يوافقه في المعنى، وأمثلة ذلك كثيرة: فهو في قوله: " أحصيناه: حفظناه" يشير إلى قوله -تعالى-: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ، قال الأصيلي: " إحصاؤها: العمل بها، لا عدها وحفظها؛ لأن ذلك قد يقع للكافر والمنافق، كما في حديث الخوارج: " يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" (1) . وذكر العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - لإحصائها ثلاث مراتب: "الأولى: إحصاء ألفاظها، وعددها. والثاني: فهم معانيها ومدلولها. الثالثة: دعاؤه -تعالى- بها، كما قال: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . والدعاء نوعان: 1- دعاء ثناء وعبادة. 2- ودعاء مسألة وطلب، وكلا النوعين ورد بهما القرآن بكثرة. فلا يثنى عليه -تعالى- إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، كما لا يسأل إلا بها، ويسأل بها في كل مطلوب بما يناسبه ويقتضيه من الأسماء الحسنى، والصفات العلية الكريمة، كما تقدمت الإشارة إليه. وهذا من أعظم الوسائل إلى الله -تعالى-، وأنفعها، ولهذا جاءت أدعية الرسل مطابقة لذلك" (2) .   (1) "فتح الباري" (11/226) . (2) انظر: " بدائع الفوائد" (1/164) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وبهذا يتبين أن إحصاءها الموعود عليه دخول الجنة، يتضمن حفظها وفهمها، ودعاء الله بها، والله أعلم. قال أبو عمر الطلمنكي: " من تمام المعرفة بأسماء الله -تعالى- وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعرفة بالأسماء والصفات، وما تتضمنه من الفوائد، وتدل عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك لم يكن عالماً لمعاني الأسماء ولا مستفيداً بذكرها ما تدل عليه من المعاني" (1) .   (1) "فتح الباري" (11/226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قال: " باب: السؤال بأسماء الله -تعالى-، والاستعاذة بها". السؤال: هو الطلب بذل وخضوع وافتقار، والاستعاذة هي: العوذ والاحتماء بمن يدفع المكروه، ويرفع البلاء بعد نزوله، وهما من أفضل أنواع العبادة، فالبخاري - رحمه الله- أراد بهذا الباب أن يبين معنى دعاء الله -تعالى- بأسمائه الذي أمر الله به، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بينه. قال ابن بطال: " مقصود بهذه الترجمة: تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى، فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم، كما تصح بالذات" (1) . قلت: هذا بعيد عن مقصود البخاري، وإنما مقصوده بيان كيفية دعاء الله وعبادته بأسمائه التي أمر أن يدعى بها ويعبد، بقوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وبين ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفعله، وأمره، كما في الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب وغيرها. وأما مسألة: هل الاسم هو المسمى، أو غيره؟ فهي من بدع الكلام، التي حدثت بعد القرون المفضلة، والتي اختلط فيها الحق بالباطل. والبخاري - رحمه الله - من أبعد الناس عن مثل ذلك. قال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: " وأما القول في الاسم: أهو المسمى أم هو غيره؟ فإنه من الحماقات الحادثة، التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع، فالخوض فيه شين، والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول أن ينتهي إلى قوله - جل ثناؤه- الصادق، وهو قوله -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ   (1) "الفتح" (13/379) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (1) وقوله: {وللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) . "وكان سبب حدوث هذه المسألة، أن الجهمية قالوا: إن الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق؛ لأن الله -تعالى- وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فإذا كانت أسماؤه غيره، فهي مخلوقة. فرد عليهم السلف، واشتد نكيرهم عليهم؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق، فهو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء. فكان مراد الذين يقولون: الاسم غير المسمى {من أهل السنة} هو هذا. ولهذا روي عن الشافعي، والأصمعي، وغيرهما، أنهم قالوا: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة" (3) . وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: ما ذكره ابن بطال، وإليه ذهب كثير من المنتسبين إلى السنة كأبي القاسم الطبري اللالكائي، والبغوي، وغيرهما. قال البغوي: " والاسم هو المسمى، وعينه، وذاته، قال الله -تعالى-: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (4) . فأخبر أن اسمه يحيى، ثم نادى الاسم، فقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (5) .   (1) الآية 110 من سورة الإسراء. (2) الآية 180 من سورة الأعراف، " عقيدة الطبري" (ص12) . (3) "مجموع الفتاوى" (6/187) . (4) الآية 7 من سورة مريم. (5) الآية 12 من سورة مريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وقال -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} (1) ، وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات. وقال -تعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وقال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَام} . والقول الثاني: أن الاسم غير المسمى. والثالث: أن الاسم للمسمى، وهذا القول دل عليه الكتاب والسنة، قال -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ، وقال -تعالى-: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (3) ، وقال -تعالى-: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (4) ، وقال -تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} (5) . ومن السنة هذا الحديث: " إن لله تسعة وتسعين اسماً". وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب" (6) . هذا مذهب أكثر أهل السنة. فلا يطلقون بأنه المسمى، ولا غيره، بل يفصلون، حتى يزول اللبس. فإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ قالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى.   (1) الآية 40 من سورة يوسف. (2) الآية 180 من سورة الأعراف. (3) الآية 110 من سورة الإسراء. (4) الآية 8 من سورة طه. (5) الآية 24 من سورة الحشر. (6) رواه البخاري، انظره مع "الفتح في التفسير" (8/640) ، وفي "المناقب" (6/544) ، ومسلم في "الفضائل" (4/1828) رقم (2354) ورقم (2355) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وإن أريد بأنه غيره: كونه بائناً عنه، فهو باطل؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلامه صفة له، قائمة به، لا تكون غيره. واسم الله -تعالى- في مثل إذا قيل: " الحمد لله" أو "بسم الله" يتناول ذاته وصفاته، لا ذاتاً مجردة عن الصفات، ولا صفات مجردة عن الذات. وقد نص الأئمة على أن صفاته، داخلة في مسمى أسمائه، فلا يقال: إن علمه وقدرته زائدة عليه. ومن قال من أهل السنة: إن الصفات، زائدة على الذات، فمراده: أنها زائدة على ما أثبته أهل التعطيل، الذين أثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات؛ لأنه ليس في الوجود ذات مجردة عن الصفات، كما لا يمكن وجود صفات بلا ذات، تقوم بها، فتخيل وجود أحدهما دون الآخر من الهوس. ثم إن الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى، ليس مرادهم أن مجرد اللفظ هو الذات، التي وضع لها هذا الاسم، فإن هذا لا يقوله عاقل. كما أن الذين قالوا أن الاسم غير المسمى، لم يريدوا أن مجرد اللفظ غير الذات، فإن هذا لا جدال فيه. وما ذكره البغوي - رحمه الله - محتجاً به على أن الاسم هو المسمى، فهو لا يدل على ما قاله. فقوله -تعالى-: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثم قال {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فاللفظ الذي هو "الياء والحاء والياء" ليس هو ذات المسمى به، فمن زعم ذلك فقد كابر. فالمقصود نداء المسمى لا نداء اللفظ، والمتكلم لا يمكنه نداء من يريد مناداته إلا بذكر اسمه، إلا أن يكون ذلك بالإشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وأما قوله -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} (1) . فليس المراد: أنكم تعبدون الأوثان المسماة، فهم معترفون بذلك. بل المراد: نفي ما كانوا يعتقدونه فيها من الإلهية، والواقع أنه ليس فيها شيء من ذلك. فإذا عبدوها معتقدين ثبوت إلاهيتها، مسمينها آلهة، لم يكونوا في حقيقة الأمر عبدوا إلا أسماء ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان، وليس فيها من معنى الإلهية شيء، فعبادتهم لما تصوروه في أنفسهم من معنى الإلهية وعبروا عنه بألسنتهم. وهذا التصور خيالي، لا حقيقة له، فهم لم يعبدوا في الحقيقة إلا ذلك الخيال الفاسد، الذي تصوروه، وسموه إلهاً، فكان مجرد تسمية فقط، ليس له من معنى الإلهية شيء. وأما قوله -تعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فالمراد به، تسبيحه -تعالى- وتنزيهه عما لا يليق به، معتقداً ذلك بقلبه، متلفظاً باسمه بلسانه، قائلاً: " سبحان ربي الأعلى" والمراد المسمى بهذا الاسم، فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمى. ومن قال: المراد بتسبيح الاسم، أنك لا تسمي به غير الله، ولا تلحد في أسمائه، فهذا المعنى مما يستحقه اسم الله -تعالى- وهو داخل في المراد بالآية، ولكن المقصود المعنى الأول، والله أعلم. وأما قوله -تعالى-: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} فالمعنى: أن البركة تكتسب، وتنال بذكر اسمه.   (1) الآية 40 من سورة يوسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولو كان لفظ الاسم يراد به المسمى، لكفى قوله: تبارك ربك؛ لأن نفس الاسم عندهم هو الرب، فيكون بذكر الاسم تكرار. وبهذا يتبين أن الشبه التي دعت كثيراً من العلماء إلى القول بأن الاسم هو المسمى أنها باطلة، وهي: أن الله -تعالى- وحده هو الخالق، وما سواه مخلوق، فإذا قيل: إن أسماء الله غيره، لزم أن تكون مخلوقة (1) .   (1) هذا البحث من منتصف صفحة (193) كله مقتبس من رسالة شيخ الإسلام في الموضوع المثبتة في المجلد السادس من "الفتاوى" انظر: (ص185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 22- قال: " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا جاء أحدكم فراشه، فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات، وليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". العبد الصادق العبودية، لا ينفك عن عبادة ربه، في أمور حياته كلها، في خروجه من بيته، وفي دخوله، وفي أكله وشربه، وفي نومه ويقظته، وفي مقارفته لأهله، ومعاملته للناس، ولذلك أرشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا النوع من العبادة، في هذا الحديث وغيره، عند النوم، والاستيقاظ منه، وهو من عبادة الله ودعائه بأسمائه. قوله: " فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات" صنفة الثوب: طرفه من الداخل، لما في الرواية الأخرى: " داخلة إزاره" ولو فعل ذلك بغير طرف ثوبه حصل المقصود، والحكمة في ذلك إزالة ما لعله يكون فيه مما يؤذيه، وأمر بأن يكون ذلك ثلاث مرات، للمبالغة، وليكون ذلك وتراً، إذ الوتر معتبر في الشرع. "وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه" لما كان النوم نوعاً من الموت، وقد يموت فيه حقيقة، لجأ إلى ربه بذكر اسمه، داعياً ومتبركاً به، وسائلاً به المغفرة، وهي ستر الذنوب، والعفو عنها، إن أمسك نفسه - أي قبضها في النوم - فلم يردها إلى بدنها. قال -تعالى-: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . "وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " أي: إن رددتها إلى بدنها، فاحفظها من الشياطين، والضلال، والمؤذيات، بحفظك وحمايتك، التي تحمي بها أولياءك الذين تتولى حفظهم من كل مضر ومؤذ. ففي هذا الحديث مشروعية ذكر الله -تعالى- عند النوم؛ ليكون موته الأصغر على اسمه، فيدخل بذلك في العمل بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) . وفيه الاستسلام لله، والافتقار إليه، وسؤاله ما لا غنى له عنه، وهذا كله من عبادة الله تعالى ودعائه بأسمائه، فهو تفسير لقوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (3) ، وهذا هو وجه ذكر البخاري له، ولما يأتي من الأحاديث.   (1) الآية 42 من سورة الزمر. (2) الآية 162 من سورة الأنعام. (3) الآية 180 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 23- قال: " حدثنا مسلم، حدثنا شعبة، عن عبد الملك، عن ربعي، عن حذيفة - رضي الله عنه -: " كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه، قال: " اللهم باسمك أحيا وأموت، وإذا أصبح قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور". حذيفة هو ابن اليمان، واسم اليمان: حسل، أو حسيل، وهو عبسي. كان من كبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن الفقهاء النجباء أهل الفتوى، وصح عنه أنه قال: " كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن أقع فيه" ولهذا اختص بمعرفة الفتن، كما أنه عرف بصاحب السر، حيث أسر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسماء المنافقين، وأمره أن يكتم ذلك، وسأله رجل عن أشد الفتن فقال: " أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تختار" توفي - رضي الله عنه - سنة ست وثلاثين (1) . " إذا آوى إلى فراشه" أي: رجع إليه بعد عمل النهار. "اللهم باسمك أحيا وأموت" أي ذاكراً اسمك في حياتي، مطمئناً به قلبي، إذ لا راحة لي ولا اطمئنان إلا بذكر اسمك، ولا حياة نافعة إلا بذلك. وعلى ذكر اسمك يا رب أموت، متوسلاً به إليك أن تتولاني، وتحفظني في جميع أحوالي. " وإذا أصبح قال: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور". النوم نوع من الموت، واليقظة حياة، وهو نعمة من الله على عباده حتى   (1) انظر: " الاستيعاب" (1/334) ، "الرياضي المستطابة" (ص49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ترتاح أبدانهم، وأفكارهم، وقد ينام الإنسان فلا ترجع إليه روحه، فإذا استيقظ سالماً، قد رجع إليه نشاطه وقوته، استوجب ذلك شكر الله -تعالى- والثناء عليه، فناسب قوله بعد يقظته: " الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا" أي: أرجع إلينا أرواحنا بفضله ومنته. والنشور: هو البعث بعد الموتة الكبرى، فمصيرنا إلى ربنا، حتى يجازينا على أعمالنا كما وعدنا. ففي هذا الحديث كالذي قبله، ذكر اسم الله -تعالى- عند النوم، والتوسل به، والثناء عليه بأن له الحمد، وهذا من الدعاء بأسماء الله الحسنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 24- قال: " حدثنا سعد بن حفص، حدثنا شيبان، عن منصور، عن ربعي بن حراش، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه من الليل قال: باسمك نموت ونحيا، فإذا استيقظ قال: الحمد لله، الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور". أبو ذر الغفاري: اختلف في اسمه، واسم أبيه، وصحح الحفاظ أنه جندب بن جنادة، كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، غير أنه ذهب إلى قومه فتأخرت هجرته، ففاتته غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأولى، وكان عازفاً عن الدنيا، راغباً بما عند الله، وقصة إسلامه في "الصحيحين"، وكان من الحنفاء قبل أن يسلم، له أخبار كثيرة، ومناقب شهيرة، توفي في الربذة سنة اثنتين وثلاثين، -رضي الله عنه- (1) . هذا الحديث ليس فيه زيادة على الذي قبله، إلا قوله: " من الليل"، والأول يدخل فيه نوم الليل والنهار.   (1) انظر: " الاستيعاب" (1/252) ، و "الرياض المستطابة" (ص272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 25- قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً". هذا نوع آخر من الدعاء بأسماء الله -تعالى-. "باسم الله" أي: أفعل ذلك، ذاكراً اسم الله، عابداً ربي بهذا الذكر، ومتبركاً به. "اللهم جنبنا الشيطان" أي: أبعدنا عنه، فلا يشاركنا، ولا يحضرنا. "وجنب الشيطان ما رزقتنا" أي: أبعد الشيطان عن الرزق الذي تقدره لنا من الولد، في هذا الاتصال. ولا بد من الصدق في ذلك من القلب، والرغبة، والإيمان، والثقة بما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يحصل الموعود، وهو عدم مضرة الشيطان للمولود. والمقصود، ذكر الله -تعالى- عند مقاربة الزوجة، والاستعاذة به من الشيطان، أن يشاركه أو يحضره، أو يضر المولود بحال من الأحوال. وهذا كما تقدم من بيان معنى قوله -تعالى-: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 26- قال: " حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا فضيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: سألت النبي-صلى الله عليه وسلم- قلت: أرسل كلابي المعلمة؟ قال: " إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله، فأمسكن فكل، وإذا رميت بالمعراض فخزق فكل". عدي بن حاتم هو: أبو طريف، الجواد بن الجواد، قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعبان سنة تسع، بسبب كثرة كتابة أخته، فأسلم، وقد فرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، وهو ممن ثبت الله قومه على الإسلام - حين ارتد الناس - بسببه، شهد فتوح العراق، وساهم فيها. وكان شريفاً فاضلاً، جواداً عابداً، روي عنه أنه يقول: " ما دخل عليّ وقت صلاة إلا وأنا مشتاق إليها " ومن أقواله: " كثرة الكلام أوضع شيء لمقادير الرجال، وأمضى الأشياء عندي رد السؤال بغير نوال"، له أخبار كثيرة وفضائل، توفي في الكوفة سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك، وكان عمر طويلاً، قيل: كان عمره لما مات مائة وعشرون سنة، - رضي الله عنه- (1) . وأما الحديث، فيدل على نوع آخر من أنواع عبادة الله -تعالى- بذكر اسمه على الصيد، والكلاب المعلمة هي: التي تقبل التعليم، فإذا أمرت فعلت، وإذا نهيت انتهت، فإذا أرسلها صاحبها أمسكت الصيد له، وليس لنفسها، فلا تأكل منه. ومفهوم الحديث: أنه إذا لم يذكر اسم الله -تعالى- عند الإرسال   (1) "الاستيعاب" (3/1057) ، و "أسد الغابة" (3/392) ، و "الإصابة" (2/468) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أنه لا يأكل مما أمسكت الكلاب المعلمة، وكذا إذا لم يخزق المعراض - وهو السهم - أي لم يجرح، ولم يصب الصيد بحده، بأن أصابه بعرضه، فإنه لا يأكل؛ لأن الصيد حينئذ يكون وقيذة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 27- قال: " حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: سمعت هشام بن عروة يحدث: عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قالوا: يا رسول الله، إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك، يأتونا بلحمان، لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: "اذكروا أنتم اسم الله وكلوا". في هذا الحديث أن ذكر اسم الله على الذبيحة شرط في حل الأكل منها، وأنه إذا كان ظاهر الذابح الإسلام، لا يلتفت إلى الاحتمال بأنه ذبحها على غير اسم الله، أو أنه لا يعرف الحكم، وما أشبه ذلك. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " اذكروا اسم الله وكلوا" ليس معناه أن ذكر اسم الله -تعالى- عند الأكل يجعلها حلالاً إذا كانت قد ذبحت على غير اسم الله -تعالى-، ولكن أمرهم بذكر اسم الله عند الأكل؛ لأنه الذي يلزمهم، ومطيباً بذلك قلوبهم، ومشيراً بذلك إلى إطراح الشك، إذ الأصل خلافه، وهو أن ظاهر الذابح الإسلام. وهذا الحديث يدل على نوع آخر من عبادة الله -تعالى- بذكر اسمه على الذبيحة، وعلى الأكل، فهو من جنس ما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 28- قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه- قال: " ضحى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكبشين، يسمي ويكبر". الأضحية هي: النسك الذي يذبح تقرباً إلى الله، - في الوقت المحدد له. والكبش: هو الذكر من الضأن. وقوله: " يسمي ويكبر " يعني عند الذبح، يقول: بسم الله، والله أكبر، أي: أذبح بسم الله متقرباً إليه عبادة له. فهذا - أيضاً - من عبادة الله -تعالى- ودعائه بذكر اسمه -تعالى- في النسك الذي هو من أفضل القرب إلى الله -تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 29- قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن جندب، أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، صلى ثم خطب، فقال: " من ذبح قبل أن يصلي، فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله ". جندب هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، نسبة إلى علقة بن عبقر بن أنمار، سكن الكوفة، ثم البصرة، وتوفي بعد الستين، - رضي الله عنه- (1) . والمراد من الحديث قوله: " فليذبح باسم الله" أي: ذاكراً اسم الله على الذبيحة، عبادة له بذكر اسمه وبالذبح له، متقرباً إليه بذلك، كما أمر الله -تعالى- عباده بأن يخلصوا ذلك له وحده {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} (2) . وقال -تعالى-: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) .   (1) انظر: " الاستيعاب" (1/256) ، و "الرياض المستطابة" (ص46) . (2) الآيتان 162، 163، من سورة الأنعام. (3) الآية 2 من سورة الكوثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 30- قال: " حدثنا أبو نعيم، حدثنا ورقاء، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله". المقصود بالحلف: تأكيد الخبر بذكر اسم الله العظيم، يوقع بالكاذب العقوبة، ففي ضمن ذلك: أن المحلوف به مطلع على حقيقة الأمر، ولذلك صار الحلف بغير الله شركاً؛ لما في الحديث الذي رواه الترمذي: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" (1)   (1) انظر: " سنن الترمذي" (3/45) ، وقال بعد ذكره: هذا حديث حسن، وفيه أن ابن عمر سمع رجلاً يحلف بالكعبة، فقال: لا يحلف بغير الله ... ثم ذكره. ورواه أحمد في "المسند" (2/125) وهو صحيح. ورواه الحاكم في " المستدرك" (4/297) ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ورمز له في حاشية الذهبي (خ م) يعني عند البخاري ومسلم، وليس كذلك. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قال: " باب: ما يذكر في الذات، والنعوت، وأسامي الله - عز وجل- " وقال خبيب: وذلك في ذات الإله. فذكر الذات باسمه -تعالى-. قال الحافظ: "أي: ما يذكر في ذات الله ونعوته، من تجويز إطلاق ذلك عليه، كإطلاق أسمائه عليه، أو منعه، لعدم ورود النص" (1) . وقال عياض: " ذات الشيء: حقيقته، وقد استعمل أهل الكلام الذات، بالألف واللام، وغلطهم أكثر النحاة، وجوزه بعضهم، لأنها ترد بمعنى النفس وحقيقة الشيء، واستعمال البخاري لها على أنها حقيقة الشيء على ما استعملها المتكلمون في حق الله -تعالى-، ولهذا قال: ما جاء في الذات والنعوت، ففرق بينهما على طريقة المتكلمين" (2) . وقال الراغب: " ذات تأنيث "ذو"، وهي كلمة يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، والأنواع، ولا يستعمل شيء منها إلا مضافاً، وقد استعاروا الذات، فجعلوها عبارة عن عين الشيء، جوهراً كان أو عرضاً، واستعملوها مفردة، ومضافة {وأدخلوا عليها} الألف واللام، وأجروا مجرى النفس، والخاصة، وليس ذلك من كلام العرب" (3) . وقال ابن برهان: " إطلاق المتكلمين الذات في حق الله -تعالى- من جهلهم؛ لأن ذات تأنيث ذو، وهو - جلت عظمته - لا يصلح له إلحاق تاء   (1) "الفتح" (13/381) . (2) "مشارق الأنوار" (1/273) ملخصاً. (3) "المفردات" (ص182) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 التأنيث. وقولهم: الصفات الذاتية، جهل منهم أيضاً؛ لأن النسب إلى ذات: ذوى" (1) . وقال الكندي: " ذات بمعنى: صاحبة، تأنيث ذو، وليس لها في اللغة مدلول غير ذلك، وإطلاق المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين" (2) . قال الحافظ: " وتعقب بأن الممتنع: استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى، واستعملت بمعنى الاسمية، فلا محذور؛ لقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (3) أي بنفس الصدور. وقد حكى المطرزي: كل ذات شيء، وليس كل شيء ذات، وأنشد ابن فارس: فنعم ابن عم القوم في ذات ماله إذا كان بعض القوم في ماله وفر (4) وقال النووي: " مرادهم بالذات: الحقيقة، وهذا اصطلاح للمتكلمين، وقد أنكره بعض الأدباء عليهم، وقال: لا يعرف ذات، لي لغة العرب، بمعنى حقيقة، وإنما ذات، بمعنى صاحبة، وهذا الإنكار منكر، بل الذي قاله الفقهاء والمتكلمون صحيح، وقد قال الإمام أبو الحسن الواحدي، في أول سورة الأنفال في قوله -تعالى-: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} (5) . قال أبو العباس أحمد بن يحيى، ثعلب: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي: الحالة التي بينكم، فالتأنيث عنده للحالة، وهو قول الكوفيين.   (1) "الفتح" (13/382) . (2) نفس المرجع. (3) المرجع المذكور. (4) "الفتح" (13/382) . (5) الآية الأولى من سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قال: وقال الزجاج: معنى {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} حقيقة وصلكم، والبين: الوصل. قال الواحدي: فذات عنده بمعنى النفس، كما يقال: " ذات الشيء ونفسه" (1) . قلت: وهذا الذي ذكره النووي هو ما يقصده البخاري - رحمه الله - ولهذا قال: " فذكر الذات باسمه -تعالى- " أي: أقام الذات مقام اسمه -تعالى-. قال الحافظ: " واستعمال البخاري لها، دال على أن المراد بها: نفس الشيء - على طريقة المتكلمين - في حق الله -تعالى-، ففرق بين النعوت، والذات" (2) . وقال شيخ الإسلام: " لفظ ذات تأنيث ذو، وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره، فهم يقولون: فلان ذو علم، وذو قدرة، ونفس ذات علم وقدرة، وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب، لفظ "ذو"، ولفظ "ذات" لم يجيء إلا مقروناً بالإضافة، كقوله -تعالى-: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُم} ، وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقول خبيب: " وذلك في ذات الإله" ونحو ذلك. لكن لما صار النظار، يتكلمون في هذا الباب، قالوا: إنه يقال: إنها ذات علم وقدرة، ثم إنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة، وعرفوه، فقالوا: " الذات" - وهو لفظ مولد - ليس من لفظ العرب العرباء، ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم، كأبي الفتح ابن برهان، وابن الدهان، وغيرهما، وقالوا: ليست هذه اللفظة عربية.   (1) "تهذيب الأسماء واللغات" (2/113) القسم الثاني. (2) "الفتح" (13/382) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ورد عليهم آخرون، كالقاضي، وابن عقيل، وغيرهما. وفصل الخطاب: أنها ليست من العربية العرباء، بل من المولد، كلفظ الموجود، والماهية، والكيفية، ونحو ذلك. فهذا اللفظ يقتضي وجود صفات، تضاف الذات إليها، فيقال: ذات علم، وذات قدرة، وذات كلام، فإنه لا يمكن وجود شيء قائم بنفسه في الخارج، لا يتصف بصفة ثبوتية أصلاً" (1) . وقال ابن القيم: " وأصل هذه اللفظة، هو تأنيث "ذو"، بمعنى صاحب، فذات كذا: صاحبة كذا، في الأصل. ولهذا لا يقال: ذات الشيء، إلا لما له صفات، ونعوت تضاف إليه، فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات، والنعوت. ولهذا أنكر جماعة من النحاة على الأصوليين قولهم: " الذات"، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا، كما لا يقال: "الذو"، في ذو. وهذا إنكار صحيح. والاعتذار عنهم: أن لفظة الذات في اصطلاحهم، قد صارت عبارة عن نفس الشيء، وحقيقته، وعينه. فلما استعملوها استعمال النفس، والحقيقة، عرفوها باللام، وجردوها من الإضافة، وهذا أمر اصطلاحي، لا لغوي. فإن هذا اللفظ يقال لما هو منسوب إليه، أو من جهته، كجنب الشيء. فإذا قالوا: هذا في جنب الله، لا يريدون إلا ما ينسب إليه، وفي سبيله، ومرضاته وطاعته، لا يريدون غير هذا. فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات، على النفس، والحقيقة، ظن من ظن أن هذا هو المراد بمثل قوله: " ثلاث كذبات في ذات الله،   (1) "مجموع الفتاوى" (6/98-99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقوله: " وذلك في ذات الإله"، وهذا غلط، بل الذات هنا كالجنب، في قوله: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: فرطت في نفس الله وحقيقته، ويحسن أن يقال: فرط في ذات الله، كما يقال: قتل في ذات الله، وصبر في ذات الله؟ " (1) . وبهذا يتبين أن هذا الإستعمال صحيح لا ينكر؛ لأنه أمر اصطلاحي على معنى مفهوم معين. وبعض الناس يظن أن إطلاق الذات على الله -تعالى- كإطلاق الصفات، أي أنه وصف له، فينكر ذلك بناء على هذا الظن، ويقول: هذا ما ورد. وليس الأمر كذلك، وإنما المراد التفرقة بين الصفة، والموصوف. وقد تبين مراد الذين يطلقون هذا اللفظ، أنهم يريدون نفس الموصوف وحقيقته، فلا إنكار عليهم في ذلك، كما وضحه كلام شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم. قال القسطلاني: "والظاهر جواز إطلاق لفظ "ذات"، لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون، ولكنه غير مردود، إذا عرف أن المراد النفس؛ لثبوت لفظ النفس في القرآن " (2) . وأما "النعوت" فهو جمع نعت، وهو الوصف، يقال: نعت فلاناً نعتاً، أي وصفه وصفاً، وزنه ومعناه واحد، ومنه الحديث: " لا تباشر المرأة المرأة، فتنعتها لزوجها، كأنه يراها" (3) .   (1) "بدائع الفوائد" (2/7) ببعض التصرف. (2) "إرشاد الساري" (10/379) . (3) رواه البخاري في كتاب النكاح، انظر "البخاري مع الفتح" (9/338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وأما الأسامي، فهي جمع اسم، وتجمع أيضاً على أسماء. قوله: " فذكر الذات باسمه -تعالى- أي: ذكر الله بلفظ الذات، وسمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكره، فصار دليلاً على جواز ذلك. واعترض على استدلال البخاري بذلك؛ لأن خبيباً لم يرد الحقيقة، والنفس، وإنما يعني بقوله: " وذلك في ذات الإله" أي: في سبيله وطاعته. والجواب: أن إطلاق لفظ الذات على الله -تعالى- جائز في الجملة؛ لورود الآثار، فيكون ذلك أصلاً للجواز، ففي الحديث الصحيح المتفق عليه: " أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله" (1) . وفي حديث ابن عباس: " تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله" (2) . قال الحافظ: سنده جيد. وقال أبو الدرداء: " لا تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله ". قال الحافظ: إسناده ثقات، إلا أنه منقطع" (3) . وقد تقدمت الإشارة إلى الفرق بين الأسماء والصفات في الباب الأول. وقد ذكر البخاري - رحمه الله - قصة خبيب وأصحابه، في كتاب المغازي، وهي مشهورة، فنكتفي بنص ما ذكره البخاري هنا.   (1) رواه البخاري، انظره مع "الفتح" (4/410) ، (5/246) ، ومواضع أخر عدة، ومسلم في "الفضائل". (2) قال في "كشف الخفا": رواه أبو نعيم في "الحلية"، وابن أبي شيبة في "العرش" (ص311) (4/1840) . (3) "الفتح" (13/383) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 31- قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية، الثقفي - حليف لبني زهرة، وكان من أصحاب أبي هريرة- أن أبا هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة، منهم خبيب الأنصاري فأخبرني عبيد الله بن عياض، أن ابنة الحارث أخبرته، أنهم حين اجتمعوا، استعار منها موسى يستحد بها، فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه، قال خبيب الأنصاري: ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي شق كان لله في مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع فقتله ابن الحارث، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه خبرهم يوم أصيبوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال: " باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} (1) وقوله - جل ذكره -: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (2) ". المراد بالنفس في هذا: الله -تعالى-، المتصف بصفاته، ولا يقصد بذلك ذاتاً منفكة عن الصفات، كما لا يراد به صفة الذات كما قاله بعض الناس، وسيأتي بيان ذلك من كلام السلف. قال ابن جرير - رحمه الله تعالى -: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به " (3) . وقال: " ويخوفكم الله من نفسه، أن تركبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن إلى الله مرجعكم، فاتقوه واحذروا أن ينالكم عقابه، فإنه شديد العقاب" (4) . وقال ابن خزيمة: "أول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا: ذكر نفسه، جل ربنا عن أن تكون نفسه، كنفس خلقه، وعز عن أن يكون عدماً لا نفس له " (5) .   (1) الآية 28 من سورة آل عمران. (2) الآية 116 من سورة المائدة. (3) "تفسير الطبري" (6/321) بتحقيق: محمود شاكر. (4) المرجع المذكور (6/317) . (5) كتاب "التوحيد" (ص5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ثم ذكر بعض النصوص في ذلك كقوله -تعالى- {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله -تعالى-: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} ثم ذكر ما رواه البخاري في هذا الباب، وحديث ابن عباس: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين خرج إلى صلاة الصبح وجويرية جالسة في المسجد رجع حين تعالى النهار، قال: " لم تزالي جالسة بعدي؟ " قالت: نعم. قال: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، لو وزنت بهن لوزنتهن (1) : سبحان الله العظيم وبحمده. عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه" (2) . وذكر أيضاً حديث محاجة موسى لآدم، وفيه: "قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته، واصطنعك لنفسه ... " (3) ثم قال: "فالله - جل وعلا- أثبت في آي من كتابه أن له نفساً، وكذلك قد بين على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن له نفساً" (4) . وفي "صحيح مسلم" في حديث أبي ذر الطويل: " يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا" (5) . وفي "السنن" عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في آخر وتره: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من   (1) يعني: لو وزنت هذه الأربع بما قلتيه منذ فارقتك لوزنتهن. رواه مسلم في كتاب الذكر. (2) كتاب "التوحيد" (ص7) رواه مسلم، كتاب "الذكر" رقم (2726) (4/2090) . (3) كتاب "التوحيد" (ص9) وهو في "الصحيحين"، انظر: "الفتح (6/441) ، و (8/434) ، و (11/505) ، ومسلم (4/2043، 2044) . (4) كتاب "التوحيد" (ص8) . (5) "صحيح مسلم" (4/1994) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (1) . وتقدم ذكر حديث ابن مسعود في "المسند" مرفوعاً: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك" (2) . فهذه النصوص واضحة في أن المراد بالنفس هو الله -تعالى- كما قلنا. ولا يخالف ذلك ما قاله ابن خزيمة والأئمة؛ لأن مقصودهم إثبات ما أثبته الله من غير تعرض له بتأويل أو تمثيل، تعالى الله عن الأمثال والأنداد، والتمسك بالنصوص التي قالها الله ورسوله، مع الإعراض عما يقوله أهل التأويل، وأصحاب الوساوس الشيطانية، التي تعود على النصوص بالإبطال، وحسب المسلم أن يسعه ما وسع السلف الصالح من الصحابة، ومن سلك طريقهم. وليس معنى ذلك الإعراض عن معاني النصوص، كما يتوهمه بعض الناس من مذهب السلف، ويعبرون عنه بالتفويض. بل المقصود إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، مع فقه المعنى اللائق بعظمة الله -تعالى- وفهمه، على ما دل عليه قوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ونحوها من الآيات المحكمات، والأمر في هذا واضح لمن تمسك بالكتاب والسنة. روى ابن جرير، عن مجاهد، في قوله -تعالى-: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها} (3) .   (1) "سنن أبي داود" (2/134) ، والترمذي (5/187) رقم (3562) ، والنسائي (3/249) ، وابن ماجه (1/373) رقم (1179) ، ورواه مسلم في "صحيحه" (1/352) رقم (222) . (2) "المسند" (5/267) ، (6/153) تحقيق: أحمد شاكر. (3) الآية 15 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 قال: من نفسي. وأصله عن ابن عباس. وروي عن أبي صالح: {أكاد أخفيها} قال: يخفيها من نفسه. وعن قتادة: {أكاد أخفيها} - وهي في بعض القراءات: " أخفيها من نفسي" (1) -: "لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين، ومن الأنبياء المرسلين" (2) . وقال ابن كثير: " أكاد أخفيها" قال الضحاك: عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: "أكاد أخفيها من نفسي"، يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً، وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس، "من نفسه"، وكذا قال مجاهد وأبو صالح، ويحيى بن رافع. وقال السدي: ليس أحد من أهل السماوات والأرض، إلا وقد أخفى الله عنه علم الساعة، وهي في قراءة ابن مسعود: " إني أكاد أخفيها من نفسي" (3) . وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، يقول: إنك يا رب لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لا أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما نطقت به وأظهرته بجوارحي، لو كنت قد قلت للناس: {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما نطقت به؟ {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما علمتنيه" (4) .   (1) هي قراءة ابن مسعود، كما سيأتي عن ابن كثير وابن عباس. (2) "تفسير ابن جرير" (16/149) طبعة الحلبي. (3) "تفسير ابن كثير" (5/272) طبعة الشعب. (4) "تفسير ابن جرير الطبري" (11/238) تحقيق: محمود شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وقال في قوله -تعالى-: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} " أنعمت عليك - يا موسى - هذه النعم، ومننت عليك هذه المنن، اجتباء مني لك، واختباراً لرسالاتي، والبلاغ عني، والقيام بأمري ونهيي" (1) . وقال ابن كثير: "أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي كما أريد وأشاء" (2) . وقال ابن سعيد الدارمي: "وادعى المعارض: أن الله لا يوصف بالضمير، والضمير منفي عن الله، وهي كلمة خبيثة قديمة، من كلام جهم، عارض بها جهم قول الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، يدفع بذلك أن يكون الله -تعالى- سبق له علم في نفسه من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم. فرد عليه بعض العلماء، وقالوا: كفرت بها من ثلاثة أوجه: الأول: أنك نفيت عن الله العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق. الثاني: أنك استجهلت المسيح ابن مريم - عليه السلام - بأنه وصف ربه بأن له خفايا علم في نفسه، إذ يقول: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} . الثالث: أنك طعنت به على محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء به مصدقاً لعيسى.. قال أبو سعيد: "وقول جهم هذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق، ويرد عليه بقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، فذكر المسيح أن لله علماً سابقاً في نفسه، يعلمه الله، ولا يعلمه هو". ثم روى عن أبي البحتري أنه قال: " لا يقولن أحدكم: اللهم أدخلني مستقر رحمتك، فإن مستقر رحمته نفسه" (3) .   (1) "تفسير الطبري" (16/168) مطبعة الحلبي. (2) "تفسير ابن كثير" (4/287) طبعة الشعب. (3) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي، (ص550) "عقائد السلف"، ملخصاً بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقال الراغب: " نفسه: ذاته، وهذا وإن كان قد حصل - من حيث اللفظ - مضاف، ومضاف إليه، يقتضي المغايرة، وإثبات شيئين من حيث العبارة، فلا شيء من حيث المعنى سواه، سبحانه عن الاثنوية من كل وجه" (1) قال الحافظ: قال البيهقي: والنفس في كلام العرب على أوجه: منها: الحقيقة، كما يقولون في نفس الأمر، وليس للأمر نفس منفوسة. ومنها: الذات، قال: وقد قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} إن معناه: تعلم ما أكنه، وما أسره، ولا أعلم ما تسره عني" (2) ، "وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله -تعالى-: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أي: إياه. وحكى صاحب "المطالع" في قوله -تعالى-: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ثلاثة أقوال: أحدها: لا أعلم ذاتك. ثانيها: لا أعلم ما في غيبك. ثالثها: لا أعلم ما عندك، وهو بمعنى قول غيره: لا أعلم معلومك أو إرادتك، أو سرك، أو ما يكون منك" (3) . "قال ابن بطال: في هذه الآيات والأحاديث، إثبات النفس لله -تعالى- وللنفس معان، والمراد بنفس الله -تعالى- ذاته، وليس بأمر مزيد عليه، فوجب أن يكون هو" (4) .   (1) "المفردات" (ص511) . (2) "الفتح" (13/384) . ذكر الحافظ كلام البيهقي بالمعنى، فصار أحسن من كلام البيهقي، ولهذا آثرته، وهو في "الأسماء والصفات" (ص286) . (3) "الفتح" (13/384) . (4) المرجع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقال شيخ الإسلام: "ونفسه هي ذاته المقدسة" (1) . وقال أيضاً: "ويراد بنفس الشيء: ذاته، وعينه، كما يقال: رأيت زيداً نفسه، وعينه، وقد قال -تعالى-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال: {ويحذركم الله نفسه} . وفي الحديث: "سبحان الله رضا نفسه"، وفي الآخر: " إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي". فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: الله نفسه التي هي ذاته، المتصفة بصفاته، ليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات. وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات. كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ" (2) .   (1) "مجموع الفتاوى" (14/196) . (2) "مجموع الفتاوى" (9/292-293) ، باختصار قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 32- قال: " حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وما أحد أحب إليه المدح من الله ". هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع متعددة، فتقدم في تفسير سورة الأنعام، وفيه: "ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه" (1) . "فذكر النفس ثابت في هذا الحديث، وإن كان لم يقع في هذه الطريق، لكنه أشار إليه، كعادته، فإنه - رحمه الله - كثيراً ما يترجم ببعض ما ورد في طرق الحديث الذي يورده" (2) . قلت: وهذه الجملة من الحديث المذكورة في التفسير هي محل الشاهد، فهو يشير إليها. وسيأتي الكلام - إن شاء الله - في الغيرة بعد أربعة أبواب غير هذا، وتقدم الكلام في النفس ما فيه الكفاية. قوله: "من أجل ذلك حرم الفواحش " الحرام هو: الممنوع، وتحريم الله -تعالى- للشيء، هو منعه منه شرعاً، أو قدراً، فالشرع نحو ما في هذا الحديث، وهو كثير جداً، أي أمثلته. وأما القدر فكقوله - تعالى -: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ   (1) انظر: " الفتح" (8/295) . (2) "الفتح" (13/385) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 لا يَرْجِعُونَ} (1) ، وقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} (2) . والفواحش: جمع فاحشة، وهي: ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، في الشرع، أو في العقل، أو في العرف. قوله: " وما أحد أحب إليه المدح من الله " كلمة "أحد" لا يوصف بها في الإثبات شيء من الأعيان إلا الله -تعالى-، ولكنها تستعمل في غير الله، في النفي وما في معناه، كالشرط، والاستفهام، وتستعمل في أول العدد، كأحد اثنين وأحد عشر، ولهذا لم يجيء في القرآن استعمالها لغير الله، إلا في غير الموجب، أو في الإضافة، كقوله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ} قال أهل اللغة: " تقول: لا أحد في الدار، ولا تقل: فيها أحد" (3) . والمدح: هو الثناء الحسن، قال الجوهري: "المدح: الثناء الحسن، وقد مدحه وامتدحه، بمعنى، وكذلك المدحة، والمديح، والأمدوحة" (4) . وفي كليات أبي البقاء، بعدما ذكر قول الجوهري قال: " وقيل: المدح: الثناء باللسان على الجميل مطلقاً، سواء كان من الفواضل، أو من الفضائل، وسواء كان اختيارياً، أو غير اختياري، ولا يكون إلا قبل النعمة" (5) . فالمدح: " ذكر محاسن الممدوح، والإخبار عنها على سبيل الثناء والتعظيم بذلك، فإن اقترن بالحب والإرادة، فهو حمد؛ لأن الحمد هو: ذكر محاسن المحمود، والإخبار عنها، مع حبه وإجلاله، وتعظيمه، فهو خبر يتضمن الإنشاء" (6) .   (1) الآية 95 من سورة الأنبياء. (2) الآية 12 من سورة القصص. (3) "مجموع الفتاوى" (17/137) . (4) انظر: "الصحاح" (1/403) . (5) "الكليات" (4/277) . (6) "بدائع الفوائد" (2/93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ومدح الإنسان نفسه نقص يلام عليه، وكذلك طلبه من الناس، وتكلفه لذلك يدل على نقصه، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المدح ولا سيما في الوجه؛ لأن ذلك مظنة الفتنة والاغترار، وقد يكون المدح بالكذب، وربما حمله المدح على ظلم من لم يمدحه. وفي "صحيح مسلم" عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد فجثا على ركبتيه - وكان رجلاً ضخماً - فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب" (1) . وروى ابن ماجه عن معاوية قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إياكم والتمادح فإنه الذبح" (2) وسنده حسن، وفي ذلك أحاديث كثيرة. قال النووي: " قال العلماء: الجمع بين هذه الأحاديث وما جاء دالاً على الجواز - أي جواز المدح - أن النهي محمول على المجازفة في المدح، والزيادة في الأوصاف، أو على من يخاف عليه الفتنة، من إعجاب ونحوه، إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه ذلك؛ لكمال تقواه، ورسوخ عقله، ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة" (3) . أما الله -تعالى- فلكماله المطلق مدح نفسه؛ لأنه أهل المدح والثناء، ولأن الخلق لا يقدرون على مدحه بما يستحق، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (4) .   (1) "مسلم" (4/1297) ، و "ابن ماجه" (2/1232) رقم (3742) . (2) "السنن" (2/1232) رقم (3743) . (3) "شرح مسلم" (18/126) . (4) سبق تخريجه قريباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 قال النووي: " حقيقة مدح العباد لله -تعالى- هو مصلحة للعباد؛ لأنهم يثنون عليه سبحانه فيثيبهم، فينتفعون، وهو سبحانه غني عن العالمين، لا ينفعه مدحهم، ولا يضره تركهم ذلك، وفيه تنبيه على فضل الثناء عليه سبحانه وتسبيحه، وتهليله، وتحميده، وتكبيره، وسائر الأذكار" (1) .   (1) "شرح مسلم" (15/77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 33- قال: " حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تغلب غضبي". قوله: " لما خلق الخلق " يجوز أن يكون المراد تقدير ذلك وكتابته قبل وجوده وظهوره، ويجوز أن يكون المراد جنس الخلق، فيكون المراد وجوده مخلوقاً. قوله: "كتب في كتابه" يجوز أن يكون المعنى: أمر القلم أن يكتب، كما قال الحافظ. ويجوز أن يكون على ظاهره بأن كتب -تعالى- بدون واسطة، ويجوز أن يكون قال: " كن" فكانت الكتابة، ولا محذور في ذلك كله، وقد ثبت في "سنن الترمذي " و"ابن ماجه" في هذا الحديث: " إن الله - عز وجل - لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي" (1) . ولا يصح أن يراد بالكتابة: الحكم الذي قضاه، نظير قوله -تعالى-: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ؛ لقوله: " فهو عنده فوق العرش". وكتابته -تعالى- ذلك؛ لتأكيد هذا الحكم، وإخبار عباده به؛ حتى يؤمنوا به ويعملوا على مقتضاه، أو لحكمة الله أعلم بها، وليس خوفاً من النسيان -تعالى الله -. قوله: "وهو يكتب على نفسه " جملة حالية يقصد بها بيان أن كتابته   (1) انظر: " سنن الترمذي" (5/210) ، و "ابن ماجه" (2/1435) الحديث رقم (4295) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 -تعالى- لم يحمله عليها أحد، وإنما وقعت بمحض إرادته، تفضلاً منه، وجوداً على خلقه كتبه على نفسه، كما قال -تعالى-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . وقوله: "وهو وضع عنده على العرش" وضع: بفتح الواو، وسكون الضاد، أي موضوع، وكذا جاء في: الجمع بين "الصحيحين"، للحميدي (1) ، وضبط أيضاً بفتح الضاد، على أنه فعل ماض، وبضم الضاد أيضاً، والأول أظهر وأشهر. وقوله: "عنده على العرش" أي أنه -تعالى- وضع الكتاب عنده فوق عرشه، وسيأتي في باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} بهذا اللفظ: "عنده فوق عرشه". وذلك للاهتمام به، حيث وضعه على عرشه الذي استوى عليه. كما يدل على أن الله على العرش، مستو عليه، كما قال -تعالى- عن نفسه في مواضع كثيرة من كتابه، وأخبرت به رسله، ويدل على علوه -تعالى-، وسيأتي ذكر ذلك مستوفى -إن شاء الله - في موضعه. وما نقله الحافظ - عفا الله عنا وعنه - عن شراح كتاب البخاري من تأويل هاتين اللفظتين بالتأويلات الباطلة، المبنية على فساد العقيدة، سيأتي ردها - إن شاء الله - هناك بالبراهين. قوله: " إن رحمتي تغلب غضبي" الرحمة والغضب كلاهما من أوصاف الله -تعالى-، ولكن الرحمة أوسع وأشمل، فرحمته تعالى وسعت كل شيء، كما قال عن حملة العرش، ومن حوله من الملائكة في دعوتهم للمؤمنين، أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (2) ، وقال -تعالى-: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) وهذه هو معنى غلبها للغضب.   (1) قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/385) . (2) الآية 7 من سورة غافر. (3) الآية 156 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وفي هذه النصوص ونحوها كثير أبلغ دليل على ثبوت صفة الرحمة لله -تعالى-، وكذا صفة الغضب، وبذلك يتبين بطلان قول أهل التأويل في هذه الصفة الكريمة من صفات ربنا - تبارك وتعالى -، وقولهم: " إن الرحمة: رقة القلب، وهي تدل على الضعف والخور في طبيعة الراحم، وتألمه على المرحوم" وهذا قول باطل بالنسبة إلى صفة الله -تعالى-، وبيان ذلك على وجوه: الأول: أن هذا وصف رحمة بعض المخلوقين من النساء ونحوهن. وقد علم التفاوت العظيم بين الخالق -تعالى- والمخلوق؛ بالشرع والعقل، والإجماع، وقد تقرر أن الصفة تتبع الموصوف في الكمال، وضده، كما تقدم. الثاني: أن الضعف والخور مذموم، وهو نقص، وأما الرحمة فممدوحة، كما قال -تعالى-: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (1) ، مع نهيه -تعالى- عباده عن الوهن، والحزن، قال -تعالى-: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} (2) ، وحثهم على الرحمة، وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث في ذلك، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " من لا يرحم لا يرحم"، وقوله: " لا تنزع الرحمة إلا من شقي"، وقوله: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". ومستحيل أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي. ولما كانت الرحمة في حق كثير من الناس، تقارن الضعف والخور، ظن من غلط في ذلك أنها كذلك مطلقاً. الثالث: أن أسماء الله -تعالى- حسنى، لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، وصفاته عليا عن النقص أيضاً، والله -تعالى- قد تمدح بهذه الأسماء والصفات، لأنها تدل على الكمال، فمن المحال أن يلحقها ما يلحق رحمة المخلوق.   (1) الآية 17 من سورة البلد. (2) الآية 139 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 34- قال: " حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله -تعالى-: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من منهم، وإن تقرب إلىّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". هذا الحديث من الأحاديث القدسية، وهي: ما يذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- مضافاً إلى الله -تعالى- أنه قاله، ولكنه غير متعبد بتلاوته، ولا هو معجز متحدى به كالقرآن. والظن يأتي بمعنى العلم واليقين، كقوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1) . ويأتي واسطة بين الشك والعلم، أو بمعنى الشك، كقوله -تعالى- عن الكفار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} (2) . والقرائن تبين ذلك وتحدده. فقوله: " أنا عند ظن عبدي بي "، قال صاحب "المرعاة": "يجوز أن يكون على ظاهره، والمعنى: أنا أعامله على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني، من خير أو شر، والمراد: الحث على تغليب الرجاء على الخوف، وحسن الظن بالله -تعالى- على ما دل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".   (1) الآية 46 من سورة البقرة. (2) "المرعاة" (2/414) الطبعة الحجرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ويجوز أن يكون المراد بالظن: العلم الموقن، ويكون المعنى: أنا عند علمه بي ويقينه بأن مصيره إليّ، وحسابه عليَّ، وأن ما قضيت به له أو عليه، من خير أو شر، لا مرد له، لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت" (1) . وقال الحافظ: " أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أن أعامله به، وقال الكرماني: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف، وكأنه أخذه من أن العاقل يختار لنفسه وقوع الخير، وهو مقيد بالمحتضر، لما في الحديث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" (2) . قلت: قول الحافظ هذا خلاف ظاهر الحديث، إذ هو خبر عن الله -تعالى- أنه عند ظن عبده به، يعني أنه -تعالى- يفعل بعبده ما ظنه العبد أنه يفعله به، وقد جاءت أحاديث مصرحة بذلك، كما في "المسند" من حديث واثلة بن الأسقع، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله" (3) ، ورواه ابن حبان، وهذا لفظه، وفي هذا أحاديث كثيرة. وقال في "المفهم": "معنى: "أنا عند ظن عبدي بي" ظن الإجابة عند الدعاء، والقبول عند التوبة، والمغفرة عند الاستغفار، والإثابة على العمل، إيماناً بوعده -تعالى-؛ لما في الحديث "ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة" (4) . ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في العمل، موقناً بأن الله يقبله، ويغفر له؛ لأنه وعد بذلك، وهو لا يخلف وعده.   (1) "المرعاة" (2/414) الطبعة الحجرية. (2) "فتح الباري" (13/385-386) . (3) انظر: " المسند" (3/491) و (4/106) ، وانظر: " موارد الظمآن" (ص184) . (4) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انظر "السنن" (5/180) قلت: هو ضعيف؛ لأن في سنده صالح المري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 هذا إذا أتى بالعبادة بشروطها، فإن اعتقد أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس، وهو من الكبائر، وأما ظن المغفرة مع الإصرار على الذنوب، فهو محض الجهل، والغرور. (1) والحديث معناه واضح كما تقدم، وما ذكره صاحب المفهم من معناه، ووراء ذلك معنى أدق، وهو قرب الله من عبده المنيب إليه، وخير ما يفسر به كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلامه، ولكن لا يعارض النصوص الكثيرة المحذرة من عذاب الله -تعالى- وعقابه، فالأمر كما قال -تعالى-: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49} وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} (2) ، وحسن الظن يكون مع حسن العمل، وقد تشعر الإضافة في قوله: " عبدي" بحسن العمل، أي أنه عبد الله، وليس للشيطان أو للدنيا أو غيرهما. والله أعلم. قوله: " وأنا معه إذا ذكرني" أي: معه بالإجابة، والتوفيق، وبسماع كلامه، وإثابته عليه، أو بحسب ما قصد في ذكره، ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم، فهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في مثل قوله -تعالى-: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (3) . ومعية الله -تعالى- بالنسبة لعباده نوعان: معية عامة للخلق كلهم، كما قال -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4) . وقال -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (5) ، ومن مقتضى هذه المعية: اطلاعه -تعالى-   (1) من "الفتح" (13/385-386) . (2) الآيتان 49، 50 من سورة الحجر. (3) الآية 46 من سورة طه. (4) الآية 7 من سورة المجادلة. (5) الآية 4 من سورة الحديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وعلمه بكل شيء، ومراقبته، وشهوده أفعال عباده، فتفيد الخوف منه -تعالى-. والنوع الثاني: المعية الخاصة، وهي المذكورة في هذا الحديث، ونحوه، كقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (1) ، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (2) ، ومن مقتضى هذه المعية: النصر والتأييد والهداية والحماية. و"معيته -تعالى- لخلقه، لا تخالف علوه، واستواءه على عرشه، فكل ذلك حق على ظاهره، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، كما جمع بينهما في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (3) . فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الأوعال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه" (4) . وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت، فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال. فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.   (1) الآية 128 من سورة النحل. (2) الآية 40 من سورة التوبة. (3) الآية 4 من سورة الحديد. (4) رواه أبو داود في باب في الجهمية (5/53) ، والترمذي (5/97) ، وابن ماجه (1/69) الحديث رقم (193) ، وقد صححه ابن القيم، وأبطل حجج المضعفين له، انظر: " تهذيب السنن" (7/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (1) ، دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (2) حق على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية: الاطلاع والنصر والتأييد، ومثل ذلك قوله {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (3) ، وقوله: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (4) " (5) ، وسيأتي لذلك بقية. قوله: "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" أي: إن ذكر ربه سراً في نفسه، فإن الله -تعالى- يذكره سراً في نفسه، من غير اطلاع أحد من خلقه على ذلك. وهذا هو محل الشاهد من الحديث، حيث أثبت النفس لله -تعالى- على ما سبق توضيحه. قوله: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" الملأ: الجماعة، والمعنى: أن العبد إذا ذكر ربه ظاهراً في جماعة يسمعون ذكره لربه، فإن الله -تعالى- يذكره ويثني عليه في جماعة أفضل من الجماعة الذين ذكر العبد ربه فيهم؛ لأن الذين يذكر الله عبده فيهم في الملأ الأعلى عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.   (1) الآية 4 من سورة الحديد. (2) الآية 40 من سورة التوبة. (3) الآية 46 من سورة طه. (4) الآية 128 من سورة النحل. (5) "مجموع الفتاوى" (5/102-104) ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وهذا من أقوى أدلة القائلين بتفضيل الملائكة على صالحي بني آدم، وهي مسألة مشهورة، والراجح فيها: أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أفضل من الملائكة، وتفضيل فرد من النوع لا يلزم منه تفضيل النوع كله على الآخر، والله أعلم. قوله: " وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". قرب الله -تعالى- من عابده وداعيه، ثبت في نصوص كثيرة، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) . وقوله - صلى الله عليه وسلم-: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (2) . فالعبد إذا قرب إلى الله -تعالى- بالتوجه والمحبة، وإخلاص العمل، والصدق في ذلك، فإن الله -تعالى- يقرب إليه أكثر من قربه، فكلما زاد قرب العبد إلى ربه بالطاعة والإنابة والحب والإخلاص، زاد قرب الله إليه، حتى يكون قلب العبد بين يدي ربه، كأنه يشاهده بعينيه، وهو -جل وعلا- على عرشه. قال شيخ الإسلام: " فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر، زاده الرب قرباً إليه، حتى يكون كالمتقرب إليه بذراع، فكذلك قرب الرب من قلب العابد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرب، والإيمان به، وهو المثل الأعلى" (3) . وبهذا يتبين أن معنى قوله: " إذا تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً" أن العبد إذا تقرب إلى ربه بطاعته والإقبال عليه، أن الرب تعالى يزيده قرباً إليه، جزاءً من جنس عمله، وأكثر من قرب العبد الذي حصل باختياره.   (1) الآية 186 من سورة البقرة. (2) رواه مسلم،: (1/350) ، وأبو داود (1/545) ، والنسائي (2/226) . (3) "مجموع الفتاوى" (5/510) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وقال: "فإذا قرب العبد من ربه بالإنابة إليه، قرب الرب إليه، فيدنو قلبه من ربه، وإن كان بدنه على الأرض، ومتى قرب أحد الشيئين من الآخر، صار الآخر إليه قريباً بالضرورة، وإن قدر أنه لم يصدر من الآخر تحرك بذاته، كما أن من قرب من مكة، قربت مكة إليه" (1) . وقال أيضاً: "ومن الناس من غلط فظن أن قربه -تعالى- من جنس حركة بدن الإنسان إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى. والإنسان يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس، من غير أن ينصرف عمن هي قريبة منه، وكذلك يجد نفسه تبعد بعيداً عن بعض النفوس بعداً غير ما يقوم بالبدن" (2) . وقال أيضاً: " وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمل العبد عبودية ربه قرب إليه -تعالى-؛ لأنه - سبحانه - بر، جواد، محسن، يعطى العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه، كان أغنى له، وكلما عظم ذله له، كان أعز له، فإن النفس- لما فيها من أهوائها المتنوعة، وتسويل الشيطان لها - تبعد عن الله -تعالى- حتى تصير ملعونة بعيدة عن الرحمة، واللعنة هي: البعد عن الله ورحمته. ومن أعظم ذنوب العبد: علوه في الأرض، ونسيانه ربه، ولهذا لما كان السجود هو غاية سفول النفس، صار أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وكذلك الذكر المتضمن للإقبال على الله، والخضوع له " (3) .   (1) "مجموع الفتاوى" (5/509) . (2) المرجع المذكور ببعض التصرف (ص247) . (3) المرجع المذكور بتصرف (ص238) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 "وقوله: من تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً ... " إلخ، هذا قربه -تعالى- من عابده، وأما قربه من داعيه فكما في الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) ، وقربه تعالى من عابده وداعيه قرب خاص، أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه" (2) . "فالداعي والساجد تتوجه روحه إلى الله -تعالى-، والروح لها عروج يناسبها فتقرب من الله -تعالى- بلا ريب، بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون الله - عز وجل - منها قريباً، قرباً يلزم منه قربها. ويكون منه قرب آخر، كقربه عشية عرفة، وفي جوف الليل، وإلى من تقرب منه شبراً، تقرب منه ذراعاً" (3) . قلت: وبهذا يتبين أن قربه -تعالى- من عباده نوعان: أولهما: قربه -تعالى- من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، وهذا أمر معروف لا يجهل، فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة به تعالى، وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، وهذا متفق عليه بين الناس، لم ينكره منهم أحد. والثاني: ما دل عليه هذا الحديث - الذي نحن بصدد شرحه - ونحوه، مثل قربه عشية عرفة، وقربه آخر الليل، كما ثبتت بذلك النصوص، وهذا القرب ينكره أكثر المتكلمين، من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، وإنكاره منكر.   (1) الآية 186 من سورة البقرة. (2) "بدائع الفوائد" (3/8) ملخصاً. (3) "مجموع الفتاوى" (5/241) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قال شيخ الإسلام: "وقربه - سبحانه - ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، قال -تعالى-: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (1) . والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف، والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وأما دنوه نفسه، وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، وهو مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر" (2) . وقوله: "وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" الهرولة: السرعة في المشي، بين المشي والعدو، وهو تمثيل لكرم الله وجوده على عبده، وأنه إذا أقبل إليه، فهو - سبحانه - أسرع إقبالاً وتفضلاً على عبده، من غير مقابل يناله من العبد، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ويؤخذ من الحديث: عظم فضل الله وكرمه، وعظم فضل الذكر.   (1) الآية 52 من سورة مريم. (2) "مجموع الفتاوى" باختصار (5/460-466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قال: "باب قول الله -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) . أراد البخاري بهذا الباب؟ إثبات صفة الوجه لله -تعالى- وهو ثابت لله -تعالى- في آيات وأحاديث كثيرة، سيأتي ذكر شيء منها. قال ابن كثير: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إخبار بأنه الدائم الباقي، الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أي: إلا إياه" (2) . قلت: قوله: " فعبر بالوجه عن الذات" لا يقصد نفي صفة الوجه عن الله -تعالى-، وإنما مراده: أن الذات تابعة للوجه، فاكتفى بذلك. وقد ذكر البخاري - رحمه الله - هذه الآية في التفسير، وأعقبها بقوله: " إلا ملكه، ويقال: إلا: ما أريد به وجهه" (3) . ولم يذكر غير هذا، فقد يقال: إن هذا تأويل سلك البخاري فيه طريق أهل التأويل، وليس الأمر كذلك. قال الحافظ: " في رواية النسفي (4) : وقال معمر ... فذكره، ومعمر هذا هو أبو عبيدة {معمر} بن المثنى، وهذا كلامه في مجاز القرآن، لكنه بلفظ:   (1) الآية 88 من سورة القصص. (2) "تفسير ابن كثير " (6/272) . (3) انظر: " الفتح " (8/505) . (4) النسفي من رواة الصحيح عن البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 إلا هو، وكذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية، وكذا ذكره الفراء" (1) . قلت: الذي في كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيده، يخالف ما ذكره البخاري، وزعم الحافظ أنه كلامه. فإنه قال على الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} مجازه: إلا هو، وما استثنوه من جميع فهو منصوب" (2) ، وكذا ما ذكره الفراء في "معاني القرآن" فإنه قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا هو، قال الشاعر: أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل أي: " إليه أوجه عملي" (3) . وبهذا يتبين أن الأمر ليس كما قال الحافظ؛ لأن ما ذكره البخاري يختلف عما ذكره الفراء وأبو عبيدة، لفظاً ومعنىً. قال الحافظ: " قال ابن التين: قال أبو عبيدة: {إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا جلاله، وقيل: إلا إياه، تقول: أكرم الله وجهك، أي: أكرمك الله". وقوله: ويقال: " إلا ما أريد به وجهه" نقله الطبري - أيضاً - عن بعض أهل العربية، ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف، عن مجاهد مثله، ومن طريق سفيان الثوري قال: إلا ما ابتغي به وجه الله من الأعمال الصالحة" اهـ (4) . وفي "الدر المنثور": " وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا ما أريد به وجهه.   (1) "الفتح" (8/505) . (2) "مجاز القرآن" (2/112) . (3) "معاني القرآن" (2/314) . (4) "الفتح" (8/505) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال: إلا ما أريد به وجهه. وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن سفيان: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال: إلا ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة " (1) . "قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} بعد قوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ {86} وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2) . فإن ذكر ذلك بعد نهيه عن الإشراك، وأن يدعو معه إلهاً آخر، وقوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} يقتضي في أظهر الوجهين، وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان، والأعمال. روي عن أبي العالية قال: إلا ما أريد به وجهه. وعن جعفر الصادق: إلا دينه، ومعناهما واحد" (3) . قال ابن كثير: "وقال مجاهد والثوري " في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في "صحيحه" كالمقرر له. وهذا القول لا ينافي القول الأول، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله - عز وجل - من الأعمال الصالحة، المطابقة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والقول الأول مقتضاه: أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلا ذاته -تعالى-، فإنه الأول، والآخر، الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء" (4) .   (1) "الدر المنثور" (6/447) . (2) الآيات 86- 88 من سورة القصص. (3) "مجموع الفتاوى" (2/427) . (4) "تفسير ابن كثير" (6/272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 والقول الأول هو ما ذكرناه عنه في أول الباب. فعلى هذا لا يكون قوله: " ما أريد به وجهه" تأويلاً للوجه الذي هو صفة لله -تعالى-، بل هو من المعاني المستنبطة من الآية، كما يشير إليه سياق الآية، فإنه -تعالى- يقول: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) . وأما قوله: " إلا ملكه" فهذا تأويل بعيد، وهو مخالف لصنعه هنا، حيث ذكر الآية ثم أتبعها بحديث جابر، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أعوذ بوجهك". فهذا ظاهر جداً في أنه أراد إثبات الوجه صفة لله -تعالى-. ومما يدل على بطلان ذلك: أن الأشياء كلها ملك لله -تعالى-، فهل يجوز أن يقال: كل شيء هالك إلا كل شيء؟ بخلاف قوله: إلا ما أريد به وجهه، فإن هذا مما تدل عليه الآية عن طريق المفهوم - مع بقائها نصاً - في إثبات الوجه لله -تعالى- والله أعلم.   (1) الآيتان 87، 88 من سورة القصص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 35- قال: " حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} (1) ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- " أعوذ بوجهك"، فقال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أعوذ بوجهك"، قال {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذا أيسر". يخوف الله -تعالى- عباده إن لم يطيعوه، ويعبدوه وحده لا شريك له، ويتبعوا رسوله، بأنه قادر على أن يرسل عليهم عذاباً من السماء، كما أرسل على قوم لوط وقوم شعيب، وغيرهم، أو نوعاً آخر مما يشاء. وهو كذلك قادر بأن يبعث العذاب من تحتهم، إما بخسف أو زلازل، وبراكين، أو غير ذلك مما يشاء، كما قال -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (2) ، وعندما سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا التهديد من الله -تعالى- عاذ بوجه ربه الكريم أن يكون ذلك. قال الحافظ: " وقد روى ابن مردويه، من حديث ابن عباس، ما يفسر به حديث جابر، ولفظه: " عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبي أن يرفع عنهم الأخريين".   (1) الآية 65 من سورة الأنعام. (2) الآيتان 16، 17 من سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فيستفاد من هذه الرواية: المراد بقوله: " مِّن فَوْقِكُمْ، أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ "، ويستأنس له بقوله -تعالى-: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (1) . وقد وقع أصرح من ذلك، عند ابن مردويه، من حديث أبي بن كعب، قال: في قوله -تعالى-: {عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} قال: الرجم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: الخسف. وروى ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن شيوخه: أن المراد العذاب من فوق: الرجم، ومن تحت: الخسف. وأخرج ابن عباس: " أن المراد بالفوق: أئمة السوء، وبالتحت: خدام السوء " انتهى (2) . وذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآية أحاديث وآثاراً كثيرة. قلت: في هذه الآية الكريمة التي ترجم بها البخاري، والحديث الذي ذكره، دليل واضح على وجوب الإيمان بوجه الله الكريم، وقد جاءت نصوص كثيرة من كتاب الله وسنة رسوله تثبت ذلك، ولم يزل أهل العلم والإيمان يسألون ربهم بوجهه الكريم، ويدعونه بأن يرزقهم النظر إليه في الجنة. ولم ينكر ذلك إلا الجهمية، ومن شايعهم على مذهبهم الفاسد. قال الله -تعالى-: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (3) . و"ذو" في الآية: وصف للوجه، فوصف -تعالى- وجهه الكريم بأنه ذو الجلال والإكرام، وهذا يبطل دعوى أن المراد بالوجه: الذات، كما يبطل دعوى كونه زائداً في الكلام.   (1) الآية 68 من سورة الإسراء. (2) "الفتح" (8/292) . (3) الآيتان 26، 27 من سورة الرحمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وفي "صحيح مسلم" عن أبي موسى الأشعري، قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: " إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (1) سبحات وجهه هي: نوره، وبهاؤه، وجلاله. وقال أبو سعيد الدارمي - رحمه الله -: " حدثنا سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو: " اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم". حدثنا موسى بن إسماعيل، وغيره، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" قال: النظر إلى وجه الله -تعالى- (2) . حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحناط، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، عن ابن عمر، رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- " أن أهل الجنة إذا بلغ النعيم منهم كل مبلغ، وظنوا أن لا نعيم أفضل منه، تجلى لهم الرب، فنظروا إلى وجه الرحمن، فنسوا كل نعيم عاينوه، حين نظروا إلى وجه الرحمن". وذكر ابن إسحاق في "السيرة" حديثاً طويلاً - فيه: " أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين" (3) .   (1) انظر: " مسلم" (1/162) رقم (293) . (2) رواه مسلم في "صحيحه" بلفظ: " النظر إلى الله تعالى "، انظر: (1/163) الحديث رقم (180) . (3) ذكره ابن كثير في "تاريخه" (3/196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 قال أبو سعيد: "وعلى تصديق هذه الآثار، والإيمان بها، أدركنا أهل الفقه والعلم" (1) وذكر أحاديث في ذلك. وقد تكاثرت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالاستعاذة بوجه الله -تعالى- كما في هذا الحديث الذي ذكره البخاري، وكما في " الموطأ"، و"مسند أحمد" أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: " أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات" (2) وفي هذا أحاديث كثيرة. وكذلك صح عنه -صلى الله عليه وسلم- سؤاله لذة النظر إلى وجه الله الكريم، كما في الحديث السابق وغيره. وبذها يتبين أن إثبات الوجه والإيمان به متعين، وأنه داخل في الإيمان بالله -تعالى- وهو كسائر صفات الله الثابتة، يجب معرفتها والإيمان بها بدون تأويل، أو تشبيه، بل على ما يجب لله من الإجلال والتعظيم، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، ولا في أفعاله - تعالى وتقدس - عن ظنون أهل الانحراف والزيغ من المؤولين والمعطلين الذين جعلوا أنفسهم هي الأصل، فقاسوا عليها ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر عنه رسوله، فحرفوا وعطلوا.   (1) الرد على بشر المريسي (ص518) " عقائد السلف". (2) " الموطأ" (2/950- 951) مرسل، و "المسند" (2/419) وهو حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 قال: " باب قول الله -تعالى- {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) - تغذى- وقوله - جل ذكره-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (2) ". ققد دل كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- صراحة، وإجماع أهل العلم بالله والإيمان به، على أن الله -تعالى- موصوف بأن له عينين، حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته. وقد جاء ذكر العين وصفاً لله -تعالى- في القرآن مفردة، مضافة إلى الضمير المفرد، كما جاءت مجموعة، مضافة إلى ضمير الجمع، كما في هاتين الآيتين اللتين ذكرهما البخاري. ولم يأت ذكر العين وصفا لله -تعالى- في القرآن مثناة، ولكن جاء ذلك في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والحديث إذا صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجب الإيمان بما دل عليه، والعمل به. قال ابن القيم: " ذكر العين مفردة، لا يدل على أنها عين واحدة، ليس إلا كقولك: افعل هذا على عيني، لا يريد له أن له عيناً واحدة. ولما أضيفت العين إلى اسم الجمع، ظاهراً أو مضمراً، حسن جمعها مشاكلة للفظ، كقوله -تعالى-: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (3) ، وقوله -تعالى- {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (4)   (1) جزء من الآية 39 من سورة طه. (2) جزء من الآية 14 من سورة القمر. (3) جزء من الآية 14 من سورة القمر. (4) جزء من الآية 37 من سورة هود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وهذا نظير لفظ اليد المضافة إلي المفرد، كقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (1) ، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (2) ، ولما أضيفت إلى ضمير الجمع جمعت، كقوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} (3) . وقد جاء في كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ذكر العين مضافة إلى الله -تعالى- مفردة، ومجموعة. وجاءت السنة بإضافتها إليه -تعالى- مثناة، كما قال عطاء: عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت قال له ربه: إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني ". وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن ربكم ليس بأعور" صريح بأنه ليس المراد إثبات عين واحدة، فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عنه. وهل يفهم من قول الداعي: " اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام" أنها عين واحدة ليس إلا، إلا ذهن أقلف، وقلب أغلف؟ وقد استدل السلف على إثبات العينين لله -تعالى- بقوله - جل وعلا - {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} وممن صرح بذلك أبو الحسن الأشعري في الإبانة، والموجز، والمقالات" (4) . قوله -تعالى-: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فسر البخاري "تصنع" بتغذى، من التغذية، يقال: صنعت الفرس، إذا أحسنت القيام عليه (5) .   (1) جزء من الآية مفتتح سورة الملك. (2) جزء من الآية 26 من سورة آل عمران. (3) الآية 71 من سورة يس. (4) " مختصر الصواعق" (ص24) ط الإمام. (5) " الفتح" (13/389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قال ابن كثير: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله -تعالى- وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بحيث أرى. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "يعني: أجعله في بيت الملك، ينعم ويترف، غذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة" (1) . وأسند ابن جرير هذه الأقوال، وروى عن ابن جريج: أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر. واختار قول قتادة. وقال: " وعنى بقوله: {عَلَى عَيْنِي} بمرأى مني، ومحبة، وإرادة" (2) . قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، قال ابن جرير: " يقول - جل ثناؤه-: تجري السفينة التي حملنا نوح فيها، بمرأى منا، ومنظر" (3) . قلت: وكذا قال غيره من المفسرين، ومن لازم الرؤية والنظر وجود العين، ففي هاتين الآيتين، وغيرهما من نصوص كتاب الله وحديث رسوله كثير، إثبات العينين لله -تعالى- اللتين ينظر بهما إلى ما يريد، ولا يحجب نظره حاجب، وقد تقدم وجه الجمع والإفراد في ذلك. وقال الأزهري: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} قال أصحاب النقل والأخذ بالأثر: الأعين: يريد به العين، قال: وعين الله لا تفسر بأكثر من ظاهرها، ولا يسع أحداً أن يقول: كيف هي، أو ما صفتها؟ - ذكره عن ابن الأنباري-" (4) .   (1) "تفسير ابن كثير" (5/278) ط الشعب. (2) "تفسير الطبري" (16/162-163) ط الحلبي. (3) المرجع السابق (27/64) . (4) انظر: " تهذيب اللغة" (3/205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 36- قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله، قال: ذكر الدجال عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: " إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية". الدجال: الكذاب، ودجله: سحره وكذبه؛ لأنه يدجل الحق بالباطل، أي: يغطيه، وهو رجل من اليهود، يخرج في آخر هذه الأمة، كما جاءت الأحاديث بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو علي القالي: عن ابن دريد: " كل شيء غطيته فقد دجلته، ومنه اشتقاق دجلة، كأنها غطت الأرض إذا فاضت عليها ". والدجال من هذا الاشتقاق؛ لأنه يغطي الحق بالباطل. وقال قوم: سمي بذلك لأنه يغطي الأرض بكثرة جموعه. وقال آخرون: " يغطي على الناس بكفره" (1) . وقال الحافظ: الدجال: فعال، بفتح أوله، والتشديد، من الدجل، وهو التغطية، وسمي الكذاب دجالاً، لأنه يغطي الحق بباطله. وقال ثعلب: " الدجال: المموه" (2) . قوله: " إن الله لا يخفى عليكم" المؤمن بالله وبأوصافه التي تعرف بها إلى عباده، لا يخفى عليه رب العالمين، فهو -تعالى- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، ليس له كفؤ ولا ند، فلا يمكن أن يشابه المخلوق الضعيف، المحتاج   (1) "البارع" (ص35) . (2) "الفتح" (13/91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الناقص، وكل مخلوق له صفة الضعف والحاجة والنقصان، ولا بد، تعالى عن مشابهة خلقه علواً كبيراً. قوله: " إن الله ليس بأعور" هذه الجملة هي المقصودة من الحديث وفي هذا الباب، فهذا يدل على أن لله عينين حقيقة؛ لأن العور فقد أحد العينين، أو ذهاب نورها. قال في " القاموس": " العور: ذهاب حس إحدى العينين ... والرديء من كل شيء، والضعيف الجبان البليد الذي لا يدل، ولا يندل، ولا خير فيه " (1) . وعلى كل: العور نقص وعيب في الاتفاق، والمقصود أنه في اللغة هو ذهاب ضوء إحدى العينين. ولهذا صار هذا الحديث من الأدلة الواضحة على إثبات تثنية العين لله -تعالى-، ويزيد ذلك وضوحاً إشارته -صلى الله عليه وسلم- إلى عينه لتحقيق الوصف، يعني أن لله عينين سالمتين من كل عيب كاملتين، بخلاف الدجال الفاقد لإحدى عينيه، وذلك من أعظم الأدلة على كذبه. وقال ابن المنير: " وجه دلالة الحديث على إثبات العين لله، من حديث الدجال من قوله: " إن الله ليس بأعور" من جهة أن العور عرفاً: عدم العين، وضد العور ثبوت العين، فلما نزعت هذه النقيصة لزم ثبوت الكمال بضدها، وهو وجود العين" (2) . قلت: الحديث فيه إثبات العينين لله -تعالى-، لا عين واحدة، كما قد يتوهمه كلامه. وقوله: " عرفاً " بل هو لغة قبل العرف.   (1) "القاموس" (2/97) . (2) "الفتح" (13/390) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 "وقال شهاب الدين السهروردي في كتاب العقيدة له: أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله، الاستواء، والنزول، والنفس، واليد، والعين، فلا يتصرف فيها بتشبيه، ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى". " قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح ". وقال غيره: لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحد من أصحابه، من طريق صحيح، التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك، ولا المنع من ذكره. ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إليه من ربه، وينزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} ثم يترك هذا الباب، فلا يميز ما يجوز نسبته إليه مما لا يجوز، مع حضه على التبليغ عنه بقوله: "ليبلغ الشاهد الغائب" حتى نقلوا أقواله، وأفعاله، وأحواله، وصفاته، وما فعل بحضرته. فدل على أنهم اتفقوا على الإيمان بها، على الوجه الذي أراده الله منها. ووجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، بقوله -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم، فقد خالف سبيلهم، وبالله التوفيق" انتهى (1) . قال الإمام ابن خزيمة: " بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لله عينين، فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التنزيل". ثم ذكر بسنده حديث أبي هريرة، وقرأ قوله -تعالى- {إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} " رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضع إبهامه على أذنه، وإصبعه التي تليها على عينه" (2) .   (1) المرجع المذكور. (2) كتاب "التوحيد" (ص42، 43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قوله: " كأن عينه عنبة طافية " أي: قد ذهب ماؤها، فهي ضامرة ملتوية؛ ولهذا جاءت الأحاديث بوصفه بأنه ممسوح العين، كما في "سنن أبي داود" عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إني قد حدثتكم عن الدجال، حتى خشيت أن لا تعقلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة، وجحراء، فإن لبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور" (1) . في هذا بيان أن عينه - قبحه الله - قد ذهب ماؤها، فضمرت، وبقيت سادة مكانها، لم تكن غائرة، ولا ناتئة مرتفعة، وهذا هو وصف العنبة إذا ذهب ماؤها.   (1) "سنن أبي داود" (4/496) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 37- قال: " حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، أخبرنا قتادة، قال: سمعت أنساً - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: كافر". الإنذار: هو الإخبار مع التخويف، وفي قوله: " ما من نبي " عموم يشمل جميع النبيين، وهو يدل على عظم فتنته وخطره. وقوله: " الأعور الكذاب" تقدم أن الأعور: من عميت إحدى عينيه بآفة، فأصبح لا يرى إلا بعين واحدة. ووصف بأنه الكذاب؛ لعظم كذبه، حيث يزعم أنه رب الناس، مع ظهور كذبه، وهو يتدرج في كذبه، فأولا: يدعي أنه مصلح، ثم يدعي أنه نبي، ثم يدعي أنه إله، وهذا أعظم الكذب، وأبينه. وقد عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عينه العوراء، أنها اليمنى، كما في حديث عبد الله ابن عمر، الذي قبل هذا وغيره. واعلم أن المتكلمين من المعتزلة، والأشعرية، ونحوهم، يزعمون أن من أثبت لله عينين، ويدين، ووجهاً، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص، من أثبت ذلك على ظاهر اللفظ، أنه يثبت جوارح، تشبه جوارح الخلق على حد زعمهم، تعالى الله وتقدس عن زعمهم، وظنهم السيء في الله ورسوله، حيث ظنوا أن ظاهر وصف الله نفسه، وظاهر وصف رسوله إياه يقتضي التشبيه، ولهذا تجد الذين تلقوا هذا الفكر، وتأثروا به، من الذين يشتغلون بالحديث، إذا جاء ذكر ذلك قالوا: مثلاً: إثبات صفة اليد لا من حيث الجارحة، إثبات صفة الوجه لا من حيث الجارحة، ونحو ذلك كما يقوله البيهقي في كتابه " الأسماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 والصفات" وسائر شراح الحديث الذين لا يجرؤون على رد النصوص، فهم عندما يتكلمون على مثل هذه النصوص يبادرون إلى نفي الجارحة، كما قال بعض زعمائهم ما يلي: "زعم قوم، أن لله عينا، يريدون: كجارحة العين من الإنسان، وأرادوا التركيب، واحتجوا بقوله -تعالى-: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) ، و {اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (2) ، و {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (3) . قال أبو سعيد الدارمي - رحمه الله تعالى - في الرد عليه: " أما ما ادعيت أن قوماً يزعمون أن لله عيناً، فإنا نقوله؛ لأن الله -تعالى- قاله، ورسوله. وأما زعمك أنهم يثبتون جارحة كجارحة العين من الإنسان، على التركيب، فهذا كذب، ادعيته علينا عمداً، وأنت تعلم أن أحداً لم يقله، ولكنك تريد التشنيع، ليكون هنالك مقبولاً لدى الجهال، والكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، فمن الذي قال: إنها جارحة مركبة؟ اذكره، فإن قائله كافر. وكم تشنع بما تقرر من قولك: جسم مركب، وجوارح، وأجزاء، وأبعاض، تريد أن يكف المؤمنون، عن وصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصف به رسوله. ونحن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين، ولا بعضو، ولا بجارحة، لكنا نصفه بما يغيظك من هذه الصفات، التي أنت ودعاتك لها منكرون، فنقول: إنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصر البصير" (4) .   (1) جزء من الآية 39 من سورة طه. (2) جزء من الآية 37 من سورة هود. (3) الآية 48 من سورة الطور. (4) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي، بتصرف (ص545-546) " عقائد السلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وقوله: " إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور" اشتملت هذه الجملة على تأكيد وصف الدجال الكذاب، بأنه أعور العين، أي أنه ناقص، معيب، قد لحقه الضر لفقد إحدى عينيه، فمثله محال أن يكون إلهاً، لأنه فقير محتاج إلى غيره، بالإضافة إلى النقص والعيب الذي فيه، وقد جاء بأعظم الكذب والبهتان، حيث ادعى أنه إله، يتوجه إليه، بطلب الإسعاد، وصرف الشقاء. كما اشتملت هذه الجملة من الحديث على وصف الله -تعالى- بكمال العينين، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: " وإن ربكم ليس بأعور". فهذا بيان واضح بوصف الله -تعالى- بأن له عينين كاملتين، على ما يليق بعظمته. قال النووي: " هذه علامة بينة تدل على كذب الدجال، دلالة قطعية، بديهية، يدركها كل أحد" (1) . قوله: " مكتوب بين عينيه كافر" وفي رواية: " يقرأه كل مؤمن، كاتب، وغير كاتب". قال النووي: " والصحيح الذي عليه المحققون: أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية، جعلها الله آية، وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره، وكذبه وإبطاله، يظهرها الله -تعالى- لكل مسلم كاتب، وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك " (2) . وهذا من رحمة الله بعباده، حيث أظهر علامات كذبه، إظهاراً لا يخفى إلا على من أريد فتنته، وعمي قلبه، وأشرب بحب الباطل، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.   (1) "شرح مسلم " (18/60) . (2) "شرح مسلم " (18/60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 قال: " باب قول الله -تعالى-: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (1) . قال ابن جرير: " يقول -تعالى- ذكره: هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارئ الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته، المصور خلقه كيف شاء، وكيف يشاء" (2) . ومراد البخاري بهذا: بيان أن الله -تعالى- متصف بأنه الخالق، البارئ، المصور في الأزل، والأبد، فهو الخالق قبل وجود المخلوق، وهو البارئ قبل وجود المبري، وهو المصور قبل وجود المصوَّر، فهو -تعالى- لم يزل بصفاته ولا يزال، كما يريد أيضاً بيان أن الخلق الذي هو وصفه -تعالى- غير المخلوق، خلافاً لأهل البدع الذين يشير بهذا إلى الرد عليهم. قال الزجاج: " أصل الخلق في الكلام: التقدير، يقال: خلقت الشيء خلقاً، إذا قدرته، كما قال زهير: لأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري يعني: أنك إذا قدرت الأمر مضيت في عزمك وفعلته، ولست ممن يقدر الأمر ثم لا يعزم على فعله، بل ينثني عن ذلك. فالخلق في اسم الله -تعالى- هو: ابتداء تقدير النشء. فاله -تعالى- خالقها، ومنشئها، وهو متممها، ومدبرها، فتبارك الله أحسن الخالقين. {البارئ} يقال: برأ الله الخلق إذا فطرهم. والبرء: خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق، وليس كل مخلوق مبروءاً، لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء، كما يقال: برأت من المرض، ومن الدين.   (1) الآية 24 من سورة الحشر. (2) "تفسير الطبري" (18/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فإذا فصل بعض الخلق من بعض، سمي فاعله بارئاً. فهو المعنى الذي به انفصلت الصورة بعضها من بعض، فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو، وصورة حمار مفارقة لصورة فرص، فتبارك الله خالقاً بارئاً. {المصور} أي: مصور كل صورة، لا على مثال احتذاه - ولا رسم ارتسمه، -تعالى- عن ذلك علواً كبيراً " (1) . أي أنه لم يتقدمه أحد فعل ذلك، لا تقديراً، ولا إظهاراً وإيجاداً. وقال الحافظ: " قال الطيبي: قيل: الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهو وهم. فإن {الخلق} : من الخلق، وأصله التقدير المستقيم، ويطلق على الإبداع، وهو إيجاد الشيء على غير مثال، كقوله -تعالى-: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وعلى التكوين، كقوله -تعالى-: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} و {البارئ} من البرء، وأصله خلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل الخلوص منه، كبرء الرجل من مرضه، والمديون من دينه. أو على سبيل الإنشاء، كبرء الله النسمة. و {المصور} مبدع صور المخترعات، ومرتبها على حسب مقتضى الحكمة، فالله -تعالى- خالق كل شيء، بمعنى أنه موجده من أصل، ومن غير أصل، وبارئه، بحسب ما تقتضيه الحكمة، من غير تفاوت، ولا اختلاف، ومصوره في صورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله. فالتقدير يقع أولاً، ثم الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانياً، ثم التصوير بالتسوية يقع ثالثاً " (2) .   (1) "تفسير أسماء الله الحسنى" ببعض التصرف (ص26-27) . (2) "فتح الباري" (13/391) ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وبهذا يتبين الفرق بين هذه الأسماء الثلاثة: فالخالق: مبدع الأشياء على غير مثال سابق. والبارئ: موجد الأشياء، ومظهرها إلى الوجود، من أصل ومن غير أصل. والمصور: الذي خص كل مخلوق بما يميزه عن الآخر، وما تحصل به مصلحته، كما قال تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (1) . ويظهر أن "البارئ" أخص من "الخالق" كما تقدم في كلام الزجاج ما يشير إلى ذلك، وإذا أضيف الخلق إلى الإنسان، فمعناه التقدير، ويأتي بمعنى الكذب.   (1) الآية 50 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 38- قال: " حدثنا إسحاق، حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا موسى - هو ابن عقبة- حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد الخدري، في غزوة بني المصطلق، أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن، ولا يحملن، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن العزل، فقال: " ما عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة"، وقال مجاهد: عن قزعة، سمعت أبا سعيد، فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ليست نفس مخلوقة، إلا الله خالقها ". "العزل": هو إنزال الماء خارج فرج المرأة، خوفاً أن تحمل. قال الحافظ: " هو النزع بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج" (1) . "قوله: ما عليكم أن لا تفعلوا " أي: لا يضركم عدم العزل؛ لأن ما قدره الله -تعالى- من الخلق، فلا بد من وجوده، عزل الإنسان أو لم يعزل، يوضحه ما في رواية مسلم فقال: "لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون" (2) . وفي قصة الرجل الذي سأل عن العزل عن جاريته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن ذلك لن يمنع شيئاً أراده الله " (3) . قال الحافظ: " وفي رواية: " لا عليكم أن لا تفعلوا " أي: لا حرج عليكم أن لا تفعلوا العزل، ففيه نفي الحرج عن عدم الفعل، فأفهم ثبوت الحرج في فعل العزل.   (1) "الفتح" (9/305) . (2) "مسلم مع النووي" (10/10) . (3) "مسلم مع النووي" (10/10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ولو أراد نفي الحرج عن العزل لقال: " لا عليكم أن تفعلوا " (1) . وفي مسلم لما ذكر هذا الحديث "قال محمد" وقوله: " لا عليكم" أقرب إلى النهي" ومحمد هذا هو ابن حاتم. وفيه أيضاً: " وقال ابن عون: فحدثت به الحسن، فقال: والله لكأن هذا زجر" (2) . قوله: " فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة" هذا يبين عدم فائدة العزل؛ لأن كل نفس قدر الله -تعالى- خلقها، لا بد أن يخلقها، عزلتم أم لا، وما لم يشأ خلقها لا يقع ولو لم يعزلوا، فإن كان الله أراد أن يخلق في تلك المقارنة وذلك الوقت، فلا بد من وجود ذلك ولو حرصتم كل الحرص على عدم الإنزال في الرحم، فلا غالب على أمره، وهو الخالق وحده. وهذا هو وجه استدلال البخاري في الحديث، فإن الله -تعالى- هو الخالق البارئ المصور وحده، وأن كلا من الأب والأم، لا دخل لهما في ذلك، بل الله -تعالى- هو الذي يقدر خلق هذا المخلوق شاء الناس ذلك أو لم يشاؤوا، وأنه، هو بارئ النسمة من الذكر والأنثى، أو مما يشاء، والخلق كلهم لا يستطيعون فعل شئ من ذلك. وهو -تعالى- المصور لهذا الإنسان السوي من نطفة متساوية الأجزاء، لو اجتمع عليها أمهر الأطباء، بكل ما أوتوا من علوم وآلات وإمكانيات، لم يستطيعوا أن يصوروا منها شيئاً حياً، فتبارك الله أحسن الخالقين. فإن قيل: قد يتحكم الإنسان بالحمل إما بالعقاقير أو بوسائل أخرى. فجوابه: أن ذلك من تقدير الله -تعالى-، ولا يمكن أن يكون شيء خارجاً عن مشيئته وتقديره، وإذا أراد أن يخلق مخلوقاً فلا بد من وجوده، وإن استعملت الوسائل المانعة لذلك.   (1) "الفتح" (9/307) . (2) "مسلم مع النووي" (10/11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 "قال ابن بطال: الخالق في هذا الباب، يراد به: المبدع المنشيء لأعيان المخلوقين، وهو معنى لا يشارك الله فيه أحد ". "وقال الكرماني: " معنى قوله: إلا وهي مخلوقة، أي مقدرة الخلق، أو معلومة الخلق عند الله -تعالى- لابد من إبرازها إلى الوجود" (1) . قال شيخ الإسلام: والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف: أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بأفعال الرب وصفاته، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" (2) فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه. وقد استدل أئمة السنة كأحمد وغيره، على أن كلام الله غير مخلوق، بأنه استعاذ به، فكذلك معافاته ورضاه غير مخلوقة؛ لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن الإنسان مخلوقة، فإنها نتيجة معافاته " (3) . وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بسط ذلك وإيضاحه في محله.   (1) "الفتح" (13/392) . (2) تقدم تخريجه. (3) "مجموع الفتاوى" (6/229-230) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قال: " باب قول الله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ". أراد - رحمه الله - بهذه الترجمة بيان ما أثبته الله -تعالى- لنفسه، من صفة اليدين، وأثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ظاهر ما نطقت به النصوص المتنوعة الدلالة في ذلك، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -. قال الله -تعالى-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} (2) . وقال -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) . وقال -تعالى-: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (4) ، {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (5) ، {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في آيات كثيرة وقد ذكر البخاري في ذلك عدة أحاديث.   (1) الآية 75 من سورة ص. (2) الآية 64 من سورة المائدة. (3) الآية 67 من سورة الزمر. (4) جزء من الآية 10 من سورة الفتح. (5) فاتحة سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 39- قال: " حدثني معاذ بن فضالة، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " يجمع الله المؤمنين يوم القيامة، كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا نوحاً، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا إبراهيم -خليل الرحمن - فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطاياه التي أصابها، ولكن ائتوا موسى، عبداً آتاه التوراة وكلمه تكليماً فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وكلمته، وروحه، فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيأتوني، فانطلق، فاستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تطعه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة. ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فاحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة. ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فاحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة. ثم أرجع فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود. قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة. ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة". هذا حديث الشفاعة المشهور، وقد ذكره البخاري في أماكن متعددة من جامعه. والمقصود هنا: قوله: "خلقك الله بيده" حيث جعل ذلك ميزة لآدم من بين الخلق، فدل على أن اليد هنا على ظاهرها، يد حقيقة، ولو كانت كما يقول أهل التأويل: إنها القدرة، لم يكن لآدم اختصاص بذلك، إذ الخلق كلهم مخلوقون بقدرة الله -تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 قوله: " يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك " قال الحافظ: " هكذا للجميع، وأظن أول هذه الكلمة لام – أي لذلك – والإشارة ليوم القيامة – أو لما يذكر بعد. وعند مسلم: " يجمع الله المؤمنين، يوم القيامة، فيهتمون لذلك، وفي رواية "يلهمون لذلك" (1) . ومعنى: يهتمون ويلهمون متقارب، أي أنهم يعنون بسؤال الشفاعة، وإزالة الكرب الذي هم فيه، أو أن الله -تعالى- يلهمهم سؤال ذلك، والإلهام: أن يلقي الله -تعالى- في النفس أمراً يحمل على فعل الشيء أو تركه" (2) . قوله: " فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا " هذا هو الذي يهتمون له – أو يلهمونه – أي لو طلبنا مما هو موجود معنا من الرسل الذين لهم مقام عند الله من يشفع لنا عند ربنا! ليريحنا من عناء هذا الموقف وكرباته، فيحاسبنا ربنا، ويجزينا بأعمالنا، وما نستحق، ثم نصير إلى منازلنا. قوله: " فيأتون آدم" إلى عيسى، وكلهم يعتذر، ويذكر لهم ذنبه. فآدم – عليه السلام – يقول: نهاني عن الأكل من الشجرة فعصيته. ونوح – عليه السلام – يقول: دعوت على قومي، فأغرقوا، وسألت ما ليس لي به علم. وإبراهيم – عليه السلام – يقول: كذبت ثلاث كذبات، مع أنهن في سبيل الله، وهن: قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: للظالم العنيد لما سأله عن زوجته، قال: " إنها أختي"؛ لأنها أخته في الإسلام، ولو قال: إنها زوجته، لأخذها منه ذلك الظالم.   (1) "الفتح" (13/394) . (2) "شرح النووي على مسلم" (3/53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وموسى – عليه السلام – يقول: قتلت نفساً بغير حق، ولم يذكر لعيسى عليه السلام ذنباً، وهذا كله مع قول عيسى عليه السلام: " ولكن ائتوا محمداً، عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر" يدل على وقوع الذنوب من الأنبياء، وهؤلاء المذكورون هم أفضل الأنبياء، وهي مسألة مشهورة، ولا خلاف أن الكفر بعد النبوة غير واقع منهم، كما أنه لا خلاف في عصمتهم فيما يبلغونه عن طريق القول. وأما الفعل، فقد يقع منهم السهو أو النسيان، أو الخطأ الذي لا يقرون عليه، كما أنهم محفوظون من الذنوب، التي تزري بفاعلها، وتسقط مروءته. وأما الصغائر فجائز وقوعها منهم، كما دل عليه هذا الحديث في الجملة، وغيره من النصوص الكثيرة، والله أعلم. وقد تطرف بعض شراح الكتاب وزعم أن من قال بهذا أنه كافر. ويدل على عظم الأمر، كيف اعتذر من هم أفضل البشر عن الشفاعة معتلين بذنوب أكثر الخلق لا يعدها ذنوباً، وهم قد تابوا منها، واستغفروا ربهم فغفر لهم، وهذا يدل على عظم الله، وعظيم قدره في قلوبهم، وعلى صعوبة الموقف بين يدي الله وشدته، فهل يفهم هذا من يهرع إلى قبور الموتى يطلبون منهم ما لا يطلبه أولو العزم من الرسل من الله -تعالى-؟ وقول كل واحد منهم: " لست هناكم" أي: لست كما تظنون أني أستطيع أن أشفع لكم، فليس ذلك عندي. قوله: " فأنطلق، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه " يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم- يقصد مكاناً معيناً، يرى فيه ربه، وسيأتي في باب الرؤية في هذا الحديث " فاستأذن على ربي في داره " وقد قيل: إن المراد بداره هنا الجنة، فالله أعلم. قوله: " فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً " صريح في أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يرى ربه عياناً في ذلك الموقت، وسيأتي ذلك – إن شاء الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 قوله: " فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع" أي: أن الله -تعالى- يمهل له في السجود، فيبقى ساجداً وقتاً طويلاً، يسبح ربه، ويمجده، ويثني عليه، ويحمده، فلا يرفع رأسه من سجوده حتى يأمره الله -تعالى- برفعه، ثم يأذن له -تعالى- بأن يطلب من ربه مراده، وقد علم الله مقصده، ولهذا قال له: اشفع تشفع، وهذا كله من رحمته -تعالى-، فهو الذي ألهم عباده طلب الشفاعة من الأنبياء، وهو الذي أذن في الشفاعة وقبلها، وحقيقة الأمر هو إرادة الله -تعالى- رحمة الخلق وإراحتهم من عناء الموقف، وإظهار كرامة محمد –صلى الله عليه وسلم- للخلق في ذلك الموقف العظيم، وإلا فالشفاعة كلها لله. قوله: " فأحمد ربي بمحامد علمنيها " قد تقدم أن هذا يدل على عدم حصر أسماء الله الحسنى، في تسع وتسعين؛ لأن هذه المحامد بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وقد جاء في الرواية الأخرى: " فيفتح الله عليّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن ". قوله: " ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة" أي: أن الله –تعالى- يعين له من يشفع فيهم، وهذا من الأدلة الواضحة على أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يشفع فيمن يريد، بل لمن يأذن الله له في الشفاعة فيهم، وبذلك يتبين أن الشفاعة لله جميعاً، كما صرحت بذلك آيات من كتاب الله –تعالى-: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا   (1) الآيتان 43 و 44 من سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) . بهذه الآية يتبين أن المدعو يجب أن يكون مالكاً لما يدعى من أجله، وإلا كانت دعوته ضلالاً مبيناً، فإن لم يكن مالكاً يكون مشاركاً للمالك، فإن انتفى الأمران، يكون معاوناً وظهيراً مساعداً للمالك، فإن لم يكن ذلك، فلا أقل من أن يكون شافعاً مقبول الشفاعة عند من يملك المطلوب، فنفى الله -تعالى- عن المدعوين من دونه هذه الأمور الأربعة، وبين أن الشفاعة لا تنفع إلا بعد إذنه، وهو – جل وعلا – لا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي عمله، وهم أهل الإخلاص، ومتابعة الرسول وهو -تعالى- لا يرضى عن المشرك، الذي يدعو غير الله -تعالى-. فيجب على العاقل الذي تعز عليه نفسه أن لا يغتر بما اغتر به كثير من الناس الذين يعتمدون على الشفاعة، مع ما هم فيهم من المعاصي، فأفضل الشفعاء يحد الله له حداً، يقول: هؤلاء أشفع فيهم. قوله: " فأقول: يا رب، ما بقي إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود" أي: أن أهل التوحيد الذين استحقوا دخول النار بذنوبهم قد خرجوا منها بالشفاعة التي حقيقتها رحمة الله إياهم، بواسطة الشفاعة؛ ليظهر كرامة الشافع كما تقدم، وبقى من نص القرآن على أنه من أهل النار، الذين لا تنالهم شفاعة الشافعين. قوله: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ... " إلى قوله: " ما يزن برة" يدل على أن مجرد قول: لا إله إلا الله، من دون أن يقوم في القلب شيء من الإيمان، لا ينفع، ولا يخرج من النار، فالمقصود بالخير: الإيمان الذي يقوم في القلب، وإن قل. كما أنه يدل دلالة واضحة على تفاوت الإيمان وتفاضله، وأن أهل الكبائر من المؤمنين يدخل من يدخل منهم النار ثم يخرجون منها، والله أعلم.   (1) الآيتان 22 و 23 من سورة سبأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 40- قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : " يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار" وقال: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده". وقال: " عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض، ويرفع". جاء في أول هذا الحديث في تفسير سورة هود: " أنفق أنفق عليك" (1) . وسيأتي كذلك، في باب قوله -تعالى-: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} . وهو عند مسلم بلفظ: " إن الله قال لي: أنفق أنفق عليك" وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يمين الله ملأى" إلى آخره (2) . وسيأتي في باب " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء " بلفظ: " إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه عل الماء، وبيده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض" وهو أبلغ في الدلالة على إثبات اليدين لله -تعالى- مما ها هنا. وقد اضطرب أهل التأويل في تأويلهم اليد اضطراباً يدل على أنهم على باطل. والعاقل المنصف يعجب إذا رأى ما كتبه ابن حجر في شرحه لهذا الباب،   (1) انظره مع الفتح (8/352) . (2) انظر: " مسلم" (2/691) الحديث رقم (37) ، و (ص690) الحديث رقم (36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فإنه ذكر بعض أقوال أئمة الأشعرية، ثم قال: " واليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون ومعنى" (1) والنصوص في هذا الباب جاءت معينة معنى واحداً لا غير، هو يدا الله الكريمتان، وما عدا ذلك فهو بهتان عظيم. قوله: " يد الله ملأى" ذكرنا أنها عند مسلم، وعند البخاري في مواضع غير هذا، بلفظ "يمين الله " بدل: " يد الله"، قال الحافظ: " يتعقب بهذه الرواية على من فسر اليد بالنعمة، وأبعد منه من فسرها بالخزائن " (2) . قلت: هذا التفسير باطل، ولا يصح أن يسمى تفسيراً، وإنما هو تحريف للكلام عن مواضعه، كفعل اليهود، كما سيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى -. و"ملأى" بفتح الميم، وسكون اللام، وهمزة، مع القصر، أي أنها: شديدة الامتلاء بالخير. قوله: " لا يغيضها " أي: لا ينقصها، يقال: غاض الماء يغيض، إذا نقص. قوله: " سحاء" بفتح السين والحاء المشددة، ممدوداً، أي دائمة الصب. "الليل والنهار" منصوبان على الظرفية، أي: يد الله دائمة السح في الليل والنهار. قوله: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ " استدلال، وإيضاح لكثرة نفقته تعالى، وتنبيه لمن له بصيرة إلى ذلك. قوله: " فإنه لم يغض ما في يده" أي: هذا الإنفاق الهائل، المستمر الدائم بدون توقف، لم ينقص ما في يده -تعالى-؛ لأن بيده الخير كله لا مانع لما أعطى، ولا معطي لمن منعه، وإذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون. قوله: "وعرشه على الماء" قال الحافظ: " مناسبة ذكر العرش هنا: أن   (1) انظر " فتح الباري" (13/394) . (2) "الفتح" (13/395) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 السامع يتطلع من قوله: " منذ خلق السماوات والأرض " ماذا كان قبل ذلك؟ فذكر أن عرشه قبل خلق السماوات والأرض، كان على الماء " (1) . قوله: " وبيده الأخرى، الميزان، يخفض ويرفع" الميزان: العدل، الذي به يرفع من يكون أهلاً لأن يرفع، ومن هو موضع له، فيتفضل عليه برفعه بالإيمان وقبول الحق، بأن يحبب إليه الإيمان، ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق، والعصيان، ويجعله من الراشدين، وهذا أعظم الرفع. ويخفض من ليس أهلاً لذلك، بأن يمنع فضله عنه، ويكله إلى نفسه، فيضل، ويتولاه عدوه فيصبح خاسراً، وهذا أعظم الخفض؛ لأنه يصير إلى أسفل سافلين، في جهنم - نعوذ بوجه الله منها - وأمور الدنيا تبع لذلك. "قال الطيبي: يجوز أن يكون "ملأى" و"لا يغيضها" و"سحاء" و"أرأيتم" أخبار مترادفة ليد الله، ويجوز أن تكون الثلاثة أوصافاً "لملأى" ويجوز أن يكون "أرأيتم" استئنافاً فيه معنى الترقي، كأنه لما قيل: "ملأى" {خشي} إيهام جواز النقصان، فأزيل بقوله: " لا يغيضها" وقد يمتلئ الشيء ولا يغيض، فقيل: "سحاء" إشارة إلى الفيض - وهو كثرة العطاء - وقرنه بما يدل على الاستمرار، من ذكر الليل والنهار، ثم أتبعه بما يدل على أن ذلك ظاهر غير خاف على ذي بصر وبصيرة، بقوله: " أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض" وهذا الكلام إذا أخذته بجملته أبان عن زيادة الغنى، وكمال السعة والجود، والبسط في العطاء" (2) . قلت: الاستدلال بهذا الحديث على ثبوت اليدين لله -تعالى- حقيقة، ظاهر جداً، وسيأتي تقرير ذلك - إن شاء الله - في آخر الباب.   (1) المصدر المذكور. (2) "الفتح" (13/395) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 41- قال: " حدثنا مقدم بن محمد، قال: حدثني عمي، القاسم بن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك" رواه سعيد عن مالك. القبض: " إمساك الشيء بجميع كف اليد، فقبض اليد على الشيء: جمعها بعد تناوله" (1) ، فقبض الشيء هو: جمعه في الكف. فقوله: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض" أي يجمعها بيده، فتكون في قبضته، كما قال -تعالى-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وقوله: " وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك" أي أنه -تعالى- يطوي السماوات بيده اليمنى، والأرض مقبوضة بيده الأخرى، وأنه يهزهن ثم يقول - يعظم نفسه-: أنا الملك - أي: الذي يتصرف في كل شيء كيف يشاء، ولا يشاركه في ذلك أحد، ولهذا جاء فيه: أنه -تعالى- إذا قبضهن، يهزهن، ويقول: " أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ ". وهذا الحديث مطابق لقوله -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) . وفيه الدليل الواضح على ثبوت اليدين لله -تعالى-، وهو نص لا يقبل تأويلاً، ولهذا صارت تأويلات المعطلين ليدي رب العالمين، شبه اللعب في كلام الله وكلام رسوله، الذي يترفع عنه العقلاء، فضلاً عن أهل التقى.   (1) انظر: " المفردات" للراغب (ص391) . (2) الآية 67 من سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 42- قال: " وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يقبض الله الأرض ". تقدم تفسير القبض، وهذا الحديث مر في باب قوله -تعالى-: {مَلِكِ النَّاسِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 43- قال: " حدثنا مسدد، سمع يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني منصور، وسليمان، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أن يهودياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضيين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (1) ". وقال يحيى بن سعيد، وزاد فيه فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله: " فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعجباً وتصديقاً له".   (1) الآية 67 من سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 44- قال: " حدثنا عمر بن حفص عن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، سمعت إبراهيم قال: سمعت علقمة يقول: قال عبد الله: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضيين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أن الملك، أنا الملك، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ". هذا الحديث يدل على عظمة الله -تعالى- حيث يضع السماوات كلها على إصبع من أصابع يده الكريمة العظيمة، وعدد المخلوقات المعروفة للخلق بالكبر والعظمة، وأخبر أن كل نوع منها يضعه -تعالى- على إصبع، لو أراد تعالى - لوضع السماوات والأرضيين ومن فيهن على إصبع واحدة من أصابع يده - جل وعلا-. وهذا من العلم الموروث عن الأنبياء المتلقى عن الوحي من الله -تعالى-، ولهذا صدقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل وأعجبه ذلك وسر به، ولهذا ضحك حتى بدت نواجذه، تصديقاً له، كما قال عبد الله بن مسعود، ولا التفات إلى قول من تبنى التعطيل، وصار نصيبه من معرفة هذه الأوصاف الكريمة العظيمة - التي تعرف الله بها إلى عباده - هو ما يعرفونه من أنفسهم، فحملهم ذلك على تعطيل الله -تعالى- من هذه الأوصاف، مرة برد هذه النصوص والطعن في رواتها بلا حجة سوى روايتهم لها، ومرة بتأويلها التأويل الباطل الذي يخرجها عن مراد المتكلم بها {قل ءأنتم أعلم أم الله} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 هذا وقد تنوعت النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على إثبات اليدين لله -تعالى- وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض بهما وتثنيتهما، وأن إحداهما يمين، كما مر، وفي نصوص كثيرة، والأخرى شمال كما في "صحيح مسلم" (1) ، وأنه -تعالى- يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل (2) ، وأنه -تعالى- يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه فيربيها لصاحبها (3) ، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين (4) ، وغير ذلك مما هو ثابت عن الله ورسوله، وسأذكر شيئاً يسيراً من ذلك - إن شاء الله - وبعضه يكفي المؤمن المريد للحق. وهذا الذي أشرت إليه كله يمنع تأويل اليدين بالنعمة، أو القوة، أو الخزائن، أو القدرة، أو غير ذلك، ويجعل التأويل في حكم التحريف، بل هو تحريف. وقد آمن المسلمون بهذه النصوص، على ظاهرها، وقبلوها، ولم يتعرضوا لها بتأويل تبعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، وأئمة الهدى، بل وكل من قبل ما جاءت به الرسل، وآمن به. قال الإمام ابن خزيمة معلقاً على هذا الحديث: " معناه أن الله - جل وعلا - يمسك ما ذكر في الخبر على أصابعه، على ما في الخير سواء، قبل تبديل الله الأرض غير الأرض؛ لأن الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء، وهو مفهوم في اللغة التي خوطبنا بها؛ لأن الإمساك على الشيء بالأصابع، غير القبض   (1) سيأتي ذكره بعد قليل. (2) سيأتي تخريجه. (3) سيأتي ذكره بعد قليل. (4) سيأتي ذكره في هذا الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 على الشيء" (1) . قال الحافظ في شرحه لهذا الحديث: " زاد ابن خزيمة، عن محمد بن خلاد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، فذكر الحديث، قال محمد: عدها علينا يحيى بأصابعه. وكذا أخرجه أحمد في السنة، عن يحيى بن سعيد، وقال: وجعل يحيى يشير بأصبعه يضع إصبعاً على إصبع، حتى أتى على آخرها، قال: ورواه الخلال في كتاب السنة، عن أبي بكر المروزي، عن أحمد، وقال: ورأيت أبا عبد الله يشير بإصبع إصبع" (2) . قلت: تبعوا في ذلك ما وقع من الحبر الذي حدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث كان يشير بأصابعه، ولم ينكر عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل أقره، وصدقه. فهذه النقول عن هؤلاء المذكورين من السلف، تدل على أنهم فهموها على ظاهرها، وأنها أصابع حقيقة. قال عبد الله ابن الإمام أحمد: " قال أبي: قال يحيى: قال: فضيل بن عياض ... فضحك رسول الله تعجباً وتصديقاً، سمعت أبي يقول: حدثني يحيى بن سعيد، بحديث سفيان، عن الأعمش، ومنصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يمسك السماوات على إصبع". قال أبي: وجعل يحيى يشير بأصابعه، وأراني أبي كيف جعل يحيى يشير بأصابعه، يضع إصبعاً إصبعاً حتى أتى على آخرها" (3) . وفي الترمذي عن ابن عباس، قال: " مر يهودي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا يهودي، حدثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم، إذا   (1) كتاب "التوحيد" (ص79) . (2) "فتح الباري" (13/397) . (3) كتاب "السنة" (ص54) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وضع السماوات على ذه، والأراضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ - وأشار محمد بن الصلت - أبو جعفر - بخنصره أولاً، ثم تابع حتى بلغ الإبهام - فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح" (1) . ورواه ابن جرير في "تفسيره"، وسنده حسن (2) . وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: " حدثني أبي، حدثنا حسين بن حسن، حدثنا أبو كريبة، عن عطاء عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: مر يهودي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس، قال: كيف تقول يا أبا القاسم، يوم يجعل الله السماء على ذه - وأشار بالسبابة - والأرضيين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلائق على ذه- وجعل يشير بأصابعه -؟ فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . حدثني عبد الله بن عمر، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: مر يهودي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا يهودي خوفنا، فقال: يا أبا القاسم، كيف بيوم تكون الأرضون على هذه، والسماوات على هذه، والماء على هذه، والخلق على هذه؟ - يعني أصابعه - ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) . فمثل هذه الأحاديث هى مستند السلف في الإشارة بالأصابع، تحقيقاً لإثبات أصابع الرحمن - جل وعلا - وقدوتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.   (1) "سنن الترمذي" (5/49) . (2) انظر: " تفسير الطبري" (24/26) . (3) كتاب "السنة" (لعبد الله ابن الإمام أحمد (ص55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وهذه النصوص التي فيها ذكر الأصابع تدل دلالة قاطعة - عند المؤمنين الذين يحكمون الشرع - على ثبوت اليدين لله - تعالى -، وقد تنوعت الدلائل على ذلك - كما أشرنا إليه آنفا - من ذكر الأصابع، والقبض، والبسط، والتثنية، وذكر اليمين والشمال. ففي "الموطأ" و"الترمذي" و"سنن أبي داود ": أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله - تبارك وتعالى - خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريته" (1) ورواه أحمد. وفي "الترمذي" و"سنن أبى داود" مرفوعاً: " أن الله - تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة، قبضها من جميع الأرض " (2) وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً، في حديث طويل في خلق آدم، وفيه: " فقال الله له: ويداه مقبوضتان، اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين، مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها ذريته " (3) . وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يطوي الله - عز وجل - السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " (4) . وفيه أيضاً عنه مرفوعاً، "قال: يأخذ الله - عز وجل - سماواته، وأرضيه،   (1) "الموطأ" (2/898- 899) ، و "الترمذي" في التفسير رقم (3077) ، و "سنن أبي داود" في السنة رقم (4703) ، و "المسند" (1/324) . (2) "الترمذي" رقم (2948) في التفسير، و "أبو داود" في السنة، في القدر، رقم (4693) . (3) "سنن الترمذي" في التفسير في باب: من سورة المعوذتين، رقم (3365) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص67) . (4) "مسلم" (4/2148) رقم (2788) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 بيديه، فيقول: أنا الله - ويقبض أصابعه، ويبسطها - أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " (1) ورواه أحمد. وفيه أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن المقسطين عند الله؛ على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا " (2) . وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما تصدق أحد بصدقة، من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله" (3) . وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل" (4) . وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ينزل الله في السماء الدنيا، لشطر الليل، أو لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ أو يسألني فأعطيه؟ ثم يبسط يديه - تبارك وتعالى - يقول: من يقرض غير عدوم، ولا ظلوم " (5) .   (1) "صحيح مسلم" الموضع المذكور، وانظر: " المسند" (2/72، 87، 88) . (2) "مسلم" (3/1458) رقم (1827) . (3) "مسلم" (2/702) رقم (1014) . (4) انظر: " البخاري مع الفتح" (3/278) و (13/415) ، و "مسلم" (2/702) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص61-63) . (5) "مسلم" (1/176) ، وابن خزيمة في "التوحيد" عن عبد الله بن مسعود (ص58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وفيه من حديث المغيرة بن شعبة في سؤال موسى ربه عن أدنى أهل الجنة منزلة، "رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن" (1) . وفي "الصحيحين" مرفوعاً من حديث أبي سعيد الخدري، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلاً لأهل الجنة" (2) . وفيهما من حديث أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " واحتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ " (3) . وفي رواية لمسلم: " احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته ... " (4) . وروى البيهقي في " الأسماء والصفات" بسنده: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لما خلق الله -تعالى- آدم وذريته، قالت الملائكة: يا رب، خلقتهم يأكلون ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال الله -تعالى-: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن، فيكون" (5) .   (1) "مسلم" (1/176) ، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص69-70) . (2) "البخاري مع الفتح " (11/372) ، و "مسلم" (4/2151) رقم (2792) . (3) "البخاري مع الفتح" (11/505) ، و "مسلم" (4/2042) . (4) "مسلم " (4/2043) . (5) " الأسماء والصفات " (ص317) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وروى بسند حسن، عن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " خلق الله -تعالى- جنة عدن، وغرس أشجارها بيده، فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون" (1) . ورواه ابن جرير موقوفاً (2) ، وذكره الحافظ ابن كثير، عن ابن أبي الدنيا مرفوعاً (3) . وقال ابن جرير في قوله -تعالى-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يقول -تعالى- ذكره -: والأرض كلها قبضته في يوم القيامة {والسماوات} كلها {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ثم روى عن ابن عباس، قال: " ما السموات السبع، والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم". وروى عن ربيعة الجرشي قال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قال: " ويده الأخرى خلو ليس فيها شيء". وعن ابن عباس، قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} يقول: قد قبض الأرضين والسموات جميعاً بيمينه، ألم تسمع أنه قال: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يعني: الأرض والسماوات جميعاً؟ قال ابن عباس: وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه. وعن الحسن: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: " كأنها جوزة بقضها وقضيضها". حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر - يخطب الناس، فمر بهذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ   (1) المصدر المذكور (ص318) . (2) "تفسير الطبري "، مفتتح الجزء (18) . (3) "تفسير ابن كثير" (5/455) ط الشعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الْقِيَامَةِ} فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يأخذ السموات، والأرضين السبع فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما - كما يقول الغلام بالكرة -: أنا الله الواحد، أنا الله العزيز" حتى لقد رأينا المنبر، وإنه ليكاد أن يسقط به (1) . وذكر أحاديث وآثاراً في هذا. والأحاديث والآثار عن السلف في ذلك كثيرة. وروى ابن ماجه - قال في "الزوائد": وسنده صحيح، والإمام أحمد، عن النواس بن سمعان، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه" (2) . وبهذا - وغيره كثير لم نذكره - يعلم خطأ الخطابي، وفريق أهل التأويل، قطعاً، حيث يقول: "لم يقع ذكر الإصبع في القرآن، ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة، حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يكيف، ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، وأما ضحكه -صلى الله عليه وسلم- من قول الحبر، فيحتمل الرضا والإنكار، وأما قول الراوي: "تصديقاً له" فظن منه وحسبان" (3) . ونحن نجيبه بما أجاب به عبد الله بن مسعود، لما قيل له: إن المنع من تعليق التميمة ليس في كتاب الله. فنقول: بلى، إن ذكر الأصابع قد وقع في القرآن؛ لأن الله -تعالى- يقول فيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه} ، وقد أتانا - صلى الله عليه وسلم- بذكر الأصابع،   (1) "تفسير الطبري" (24/27-28) . (2) "سنن ابن ماجه" (1/72) رقم (199) ، و "المسند" (4/182) ، والآجري في الشريعة (ص317) ، والحاكم (4/321) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/98) ، وذكر عدداً من الأحاديث بهذا اللفظ. (3) من "الفتح" (13/398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وذكر الكف، وذكر اليمين، والشمال، واليدين، مرة مثناة، ومرة منصوص على أنها واحدة، وأنه يفعل بها كذا وكذا، وأن الأخرى فيها كذا، كما تقدمت النصوص بذلك، وهو تبع لأهل الكلام – المذموم- ينكر وصف الله -تعالى- باليدين حقيقة، مع أن القرآن قد جاء بذلك صراحة، كما قال -تعالى- {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (2) ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (3) . وهو مع ذلك لا يقبله؛ لأنه على خلاف تلقاه عن أهل البدع، ولهذا نراه – عفا الله عنا وعنه – يحاول رد النصوص بدون حجة، وكل ما يمكن أن يعتمد عليه هو – وكل من سلك مسلكه من أهل التأويل – ادعاؤهم أن العقل بخلاف ذلك، وأنه محال في العقل، وهو أمر غير منضبط، كما سنشير إليه – إن شاء الله – ودعوى بدون برهان. قوله: " ولا حديث مقطوع به "، هذا عجيب من الخطابي، الذي كثر اشتغاله بالحديث تأليفاً، ورواية، وشرحاً لمتونه، وأسانيده، ثم يقول هذا القول، الذي هو عنوان لأهل البدع، فهم كلما ألجأتهم الحجج إلى المضائق رموها بهذه الدعوى " أنها أدلة غير مقطوع بها". فإذا كانت أحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم- مع ثبوت أسانيدها غير مقطوع بها، فما هي الحجج المقطوع بها في نظر هؤلاء؟ هل هي أقوال أقوام متهمين على الدين الإسلامي، وتحوم حولهم شكوك كثيرة؟ كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وبشر المريسي، وأحمد بن أبي دؤاد، وابن الثلجي ونحوهم، فإن هؤلاء هم سلف متأخري الأشعرية في تأويلاتهم. وإننا نربأ بالخطابي أن يسلك هذا المسلك المنحرف عن الهدى.   (1) الآية 75 من سورة ص. (2) الآية 67 من سورة الزمر. (3) الآية 64 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وهذا دليل على ضعف مسلك التأويل في هذه النصوص، وأنه غير مقنع. ثم هو يقصد بقوله: غير مقطوع به، عدم التواتر؛ لأنه لا يقبل من الحديث في باب الصفات إلا ما كان في القرآن، أو تواتر عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كما ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد علم أن القرآن جاء بصفة اليدين لله صراحة ومعلوم أن الصحابة ومن سلك نهجهم لم يفرقوا بين أصول الدين وفروعه في الثبوت، ومعظم الدين الإسلامي ثبت بأخبار الآحاد وهذه الصفات التي ينكرها هؤلاء، قد ثبتت في أحاديث مقطوع بصحتها عند أهل العلم، وإذا صح الحديث وجب قبوله، والعمل به، والإيمان بما دل عليه، وحرمت مخالفته ولا فرق بين كونها في العمليات، أو الاعتقادات، خلافاً لأهل البدع الذين يفرقون بين ذلك ومعلوم أن الذي جاء بهذه النصوص – في الصفات – هو الذي جاء بالأمر بعبادة الله، وتحريم الشرك، وبيان عدد ركعات الصلوات الخمس، وأنصباء الزكاة، وبيان واجبات كثيرة، ومحرمات كثيرة، لم يأت تفصيلها في القرآن، ولا في أخبار متواترة، فلماذا يقبل هذا، ويرد ذاك؟ إن هذا التفريق فعل الذين جعلوا دينهم شيعاً، وآمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقد تقدم ما فيه كفاية لمن قصده الحق من ذكر النصوص في هذه المسألة، وغيرها من مسائل الصفات نظيرها، وقد يكون أوضح منها دليلاً كما سيأتي بعض ذلك وقوله: " وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة، حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع" حقيقة هذا الكلام: أن اليد ليست يداً، حتى يلزم ثبوت الأصابع، ومعلوم أن الله –تعالى- خاطبنا باللغة العربية، وبألفاظ معلومة المعاني للمخاطبين، فالمخاطبون بهذه النصوص، علموا أن المراد بها ما دلت عليه بظاهرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وكذلك المخاطب أراد منهم ذلك، ولهذا لم يأت عنه –صلى الله عليه وسلم- ولا من طريق ضعيف، أنه قال: لا تعتقدوا ظاهرها، ولا سيما وظاهرها عند الخطابي وفريقه كفر وتشبيه فهل يعقل أن الله ورسوله يخاطبان العباد بما ظاهره الكفر، ثم لا يبين ذلك لهم، ويحذرهم من اعتقاده؟ ولو كان لهذه النصوص معنى عند رسول الله غير ظاهرها لبينه؛ لأنه واجب عليه بمقتضى الرسالة والصحابة سمعوا هذه النصوص، ورووها، ولم يسألوا عن معان لها غير ظاهرها، فلما سكتوا دل ذلك على أنهم علموا أن المراد بها هو الظاهر، فوجب علينا أن نسكت حيث سكتوا، وأن نقبل ونسلم كما قبلوا وسلموا لها بدون تأويل ونحن نسأل هؤلاء: مَنْ مِنَ المسلمين الذين يعتد بقولهم، قال: إن يد الله جارحة؟ وهل جاء ذلك، ولو بحديث ضعيف؟ إن هذا لا وجود له، ولكنها الأوهام، والإتجاهات الفاسدة، وإرادة التشنيع على أتباع الرسل ونحن – بحمد الله وله المنة – وكل من تلقى عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالقبول والتسليم، وفهم المراد – نعتقد مطمئنين أن لله يدين حقيقتين لهما أصابع يضع عليها السموات والأرض وما شاء يوم القيامة، وإن زعمت أنوف الأشعرية، وإمامنا في ذلك رسولنا محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – وأصحابه، وأتباعه إلى يوم القيامة، وهو معلم الخير والهدى قال الإمام أحمد: " الحديث عندنا على ظاهره، كما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره" (1)   (1) "طبقات الحنابلة" (1/242) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ويقصد بالكلام فيه: التأويل الذي يخرجه عن ظاهره وقال البربهاري (1) : " إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، ولا يقبلها، أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاتهمه على الإسلام، لأنا إنما عرفنا الله ورسوله، وعرفنا القرآن، والخير والشر، بالآثار" (2) وقال: " واعلم أنها لم تكن زندقة، ولا كفر، ولا شكوك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام وأهل الكلام، والجدل، والمراء، والخصومة وكيف يجترئ الرجل على المراء، والخصومة، والجدال، والله يقول: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) " وقال أيضاً: " واعلم إنما جاء هلاك الجهمية، من أنهم فكروا في الرب – عز وجل – فأدخلوا: لم، وكيف، وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاؤوا بالكفر عيانا، لا يخفى أنهم كفروا، وكفروا الخلق، واضطرهم الأمر إلى أن قالوا بالتعطيل" (4) وقال: " إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يردها، ويريد غيرها، فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع" (5) وقال القاضي، أبو الحسين محمد بن أبي يعلي: "قرأت على المبارك، عن علي بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا أبي،   (1) هو شيخ الحنابلة في وقته الحسن بن علي بن خلف، كان شديد الإنكار على أهل البدع، وكان حافظاً ثقة، وأصولياً متقناً، له تصانيف كثيرة مفقودة، توفي سنة 329 "شذرات الذهب" (2/319) (2) "طبقات الحنابلة" (2/25) (3) المرجع المذكور (ص27) (4) المرجع المذكور (ص30) (5) المرجع المذكور (ص36) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 حدثنا محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يعقوب ابن زوران – لفظاً – حدثنا أبو العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي، الاصطخري، قال: قال أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل – وذكر العقيدة إلى أن قال – "وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، ويوعيها ما أراد، وخلق آدم بيده، على صورته، والسموات والأرض يوم القيامة في كفه، ويضع قدمه في النار، فتنزوي" وذكر عقيدة طويلة جامعة (1) . وقال الحسن بن علي بن خلف البربهاري: " وكل ما سمعت من الآثار شيئاً لم يبلغه عقلك، نحو قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: " قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن" وقوله: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وينزل يوم عرفة، وينزل يوم القيامة، وأن جهنم لا يزال يطرح فيها، حتى يضع عليها قدمه، وقوله للعبد: إن مشيت إليَّ هرولت إليك، وقوله: خلق الله آدم على صورته، وقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: " رأيت ربي في أحسن صورة" (2) ، وأشباه هذه الأحاديث، فعليك بالتسليم، والتصديق، والتفويض (3) والرضا، ولا تفسر شيئاً من هذه بهواك (4) ، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فسر شيئاً من هذا بهواه، أو رده، فهو جهمي" (5) . وهذا الذي ذكره الإمام أحمد، والبربهاري، هو مذهب السلف، الذين تلقوا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- ولم يزل السلف يوصي بعضهم بعضاً بالتمسك به، والتحذير ممن يخالفه؛ لأنه الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.   (1) "طبقات الحنابلة" (1/24-29) (2) هذه رؤية منام كما هو مصرح به في الرواية. (3) المقصود بالتفويض: تفويض الحقيقة، والكيف، فهو يوكل إلى الله -تعالى- فإن الخلق لا علم لهم بذلك. (4) مراده التفسير: التأويل، وتعيين معنى لا يدل عليه اللفظ إلا بتكلف أو بغرابة. (5) "طبقات الحنابلة" (2/23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وقوله: " بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يكيف، ولا يشبه "، يعني أن لفظ اليد الثابت بكتاب الله، وبالسنة، توقيف أطلقه الشارع، فلا يوقف له على معنى، فهو – عنده- لا يدل على ما وضعت له كلمة "يد" في اللغة، ومضمون ذلك أن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم لها معان تطابق ألفاظها، وتؤخذ منها، ويلزم على هذا أن الشارع خاطب الناس بما ظاهره غير مقصود، ولا مطلوب منهم الإيمان بظاهره، بل قد يكون ظاهره باطلاً وكفراً، فمعنى قوله: " لا يكيف، ولا يشبه" أي: لا يثبت لها معنى مطابقاً للفظها في وضع اللغة، فلا يوصف الله –تعالى- باليد الحقيقية التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله –صلى الله عليه وسلم-؛ لأن هذا تشبيه، فهذه النصوص في هذا الباب ونحوه فيها تشبيه لله –تعالى- عند هؤلاء، ولهذا صار تأويلها متعيناً. فضاعت النصوص التي تعرف الله بها إلى عباده بين مردود (1) ومؤول. وقوله: " ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي"، جوابه: أنه قد تقدم من ذكر بعض النصوص التي تبطل هذا الهراء، والقول الجائر، أن الخطابي – عفا الله عنا وعنه – بهذا القول إنما يشنع في الحقيقة على رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والله المستعان. وقوله: " فإن اليهود مشبهة، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين "، ونحن لا نبرئ اليهود من الباطل، ولكن نقول: إن الحق يجب أن يقبل ممن قاله، سواء كان من اليهود أو من غيرهم. وهو لم يبين هذه الألفاظ التي تدخل في باب التشبيه على حد قوله.   (1) القاعدة عند الخطابي: أن الأحاديث الموافقة للقرآن، أو المتواترة، هي التي تقبل في الصفات، أما ما عدا ذلك، فإنه لا يثبت به صفة لله -تعالى-، وهذه القاعدة أخذت من كلامه، كما سبق قوله في الأصابع إنه لم يثبت فيه حديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ولكن نعلم من طريقته أن كل من أثبت لله من الصفات ما ينكره هو ومن سلك نهجه، أنهم يسمونه مشبهاً، ولو كان متمسكاً بالكتاب والسنة، فعنده من أثبت لله يداً حقيقية فهو مشبه، وكذلك الوجه، والرجل، والأصابع، والعينين، ونحو ذلك. وقوله: " وأما ضحكه –صلى الله عليه وسلم- من قول الحبر، فيحتمل الرضا، والإنكار". فجوابه: أن الحق الذي لا نشك فيه أنه لا يحتمل إلا الرضا، والموافقة؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا يضحك من الباطل والكفر الذي هو تشبيه رب العالمين بالخلق، كما هو مقتضى مذهب الخطابي. ومقتضى الإيمان بالرسول –صلى الله عليه وسلم- يمنع من أن يكون ضحكه من أجل التشبيه الذي يقوله اليهودي – كما زعم الخطابي – عفا الله عنا وعنه -. إن ما يقوله هؤلاء في الحقيقة قلب للحقائق، حتى تسلم عقيدة الأشعرية من معاول النصوص، التي تأتي على أسسها بالاقتلاع (1) ، ولو استطاع كثير منهم الرد على الله ورسوله لفعلوا، ولكن كما يقول الله -تعالى-: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (2) وأما قوله: " وأما قول الراوي: " تصديقاً له، فظن وحسبان" يعني: أن عبد الله بن مسعود ظن ظناً أخطأ الحق، وأبعد عن الصواب، حيث خالف عقيدة أهل الكلام، فيرد قوله.   (1) قال ابن خزيمة: " وقد أجل الله قدر نبيه، عن أن يوصف الباري بحضرته بما ليس من صفاته، فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكاً حتى تبدو نواجذه؛ وتعجباً لقائله، لا يصف النبي –صلى الله عليه وسلم- بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته" كتاب "التوحيد" (ص76) . (2) الآية 18 من سورة الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ونحن نقول: أيهما أولى عند الله، وعند المؤمنين، بالفهم عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: صحابته الذين عايشوه، وتربوا بين يديه، ونقلوا لنا ديننا عنه، أم الخطابي وذووه؟ ولو سلم ذلك لأمكن كل مبطل أن يقول في أي نص جاء عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصحابته كقولك هذا: إنه ظن وحسبان، وأن الصواب خلافه، فتبطل الشريعة كلها. تقدم ذكر الآيات الدالة صراحة على وصف الله -تعالى- باليدين. قال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله -: " حدثنا أحمد بن يونس، عن فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أنه قال: " ضحك من قول الحبر، تعجباً لما قال، وتصديقاً له" (1) . "وقد تواتر في السنة مجيء اليد – وصفاً - لله-تعالى- فعلم من ذلك أن لله -تعالى- يدين مختصتين به، ذاتيتين له، كما يليق بجلاله، وأنه -تعالى- خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه – سبحانه – يقبض الأرض، ويطوي السموات بيده اليمنى، وأن {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) . ومعنى بسطهما: بذل الجود، وسعة العطاء، لأن العطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها. فإذا قيل: هو مبسوط اليد، فهم منه يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبذل. وقد اعتمد أهل التأويل، في تأويلهم اليد، أنها النعمة والعطية، تسمية للشيء باسم سببه، كما يسمى المطر والنبات: سماء، ومن ذلك قولهم: لفلان عندي أياد، وقول أبي طالب لما فقد النبي –صلى الله عليه وسلم-: يا رب رد راكبي محمداً رده عليَّ واصطنع عندي يداً وقول عروة بن مسعود لأبي بكر يوم الحديبية: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. وقد تكون اليد بمعنى القدرة، تسمية للشيء باسم مسببه، لأن القدرة هي تحرك اليد، يقال: فلان له يد في كذا وكذا، أي له قدرة، ومنه قول زياد   (1) الرد على بشر المريسي (ص418) "عقائد السلف"، ورواه ابن خزيمة في "التوحيد" (2/182) . (2) الآية 64 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 لمعاوية: " إني قد أمسكت العراق بإحدى يدي، والأخرى فارغة " يريد نصف قدرته. وقد يضاف الفعل إلى اليد إضافته إلى الشخص نفسه؛ لأن غالب الأفعال تكون بها، فصار ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه، كما قال –تعالى-: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (1) . وتقول العرب: " يداك أوكتا، وفوك نفخ" توبيخاً لكل من جر إلى نفسه شراً، لأن أول من قيل له ذلك، فعل بيديه وفمه. ولذلك قالوا في مثل قوله -تعالى-: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: نعمته في الدنيا الآخرة، واللفظ كناية عن نفس الجود، من غير أن يكون هناك يد حقيقة، بل هذه اللفظة صارت حقيقة في العطاء والجود. وقالوا في قوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) أي: خلقته أنا، وليس هناك يد حقيقية، ونحو هذه التأويلات. والجواب: أننا لا ننكر لغة العرب التي نزل بها القرآن، وأن ما ذكر معروف في اللغة، ولكن ننكر تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وصفاته. فإن لفظ "اليدين" بصيغة التثنية، لم يستعمل في النعمة، ولا في القدرة؛ لأن من لغة العرب استعمال الواحد في الجمع، كقوله –تعالى-: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) . ولفظ الجمع في الواحد كقوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} (4) ، والقائل واحد. ولفظ الجمع في الإثنين كقوله -تعالى-: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (5) .   (1) الآية 182 من سورة آل عمران. (2) الآية 75 من سورة ص. (3) الآية 2 من سورة العصر. (4) الآية 173 من سورة آل عمران. (5) الآية 4 من سورة التحريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أما استعمال لفظ الواحد في الإثنين، والاثنين في الواحد، فلا أصل له في اللغة؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، فلا يجوز أن تقول: عندي رجل، وأنت تريد اثنين، ولا عندي رجلان، وأنت تريد واحداً، ولا عندي رجلان، وأنت تريد الجنس؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس، والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد. فقوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد. ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية. ولا يجوز أن يكون كما قالوا: لما خلقت أنا؛ لأن العرب إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل. كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (1) ، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (2) ، ومن هذا قوله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ً} (3) . أما إذا أضيف الفعل إلى الفاعل، وعدى الفعل إلى اليد بحرف الجر كقوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه يكون نصاً في أنه فعل ذلك بيديه. ولهذا لا يجوز لمن تكلم، أو مشى، أن يقول: فعلت ذلك بيدي، ولكن يقال: فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: " فعلت" كاف في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان قوله: {بيدي} زيادة لا فائدة فيها، ولا تجد في كلام العرب أن فصيحاً يقول: فعلت هذا بيدي، إلا وأنه فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يقول ذلك وهو ليس له يد" (4) .   (1) الآية 10 من سورة الحج. (2) الآية 182 من سورة آل عمران. (3) الآية 71 من سورة يس. (4) "مجموع الفتاوى" (6/363-366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وأما تعليله لإنكاره إثبات اليد لله -تعالى- والأصابع، بأن اليد المتعارف عليها هي الجارحة، وذلك ممتنع على الله -تعالى-. فالجواب: أن هذا ممتنع لو كانت اليد التي أثبتها الله لنفسه من جنس أيدي المخلوقين، أما إذا كانت يداً تناسب ذاته وتليق بعظمته، فما هو المانع من ذلك في العقل والشرع؟ وما هو الموجب لتلك التمحلات؟ وكل ما يذكر أهل التأويل إنما يدل على امتناع وصفه –تعالى- بما يستحقه المخلوق، وخصائص المخلوقين منفية عنه –تعالى-، وكل ما أثبت لله –تعالى- من الصفات فهي كمال، وفقدها نقص –تعالى- عنه. ثم هل يجوز مع كثرة ما في كتاب الله، وسنة رسوله، من ذكر اليد، دالاً على الحقيقة، مثل ذكر خلق آدم بيديه، وأنهما مبسوطتان، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، وأن السموات مطويات بيمينه، وأن بيده الملك، وفي السنة ما لا يحصى إلا بمشقة، مثل ذكر الأصابع، والقبض، والبسط، واليمين، والشمال، وأن يديه كلتاهما يمين، ثم لا يبين الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن هذا غير مراد منه الظاهر والحقيقة، مع حضه لنا على الفهم؟ وهل يجوز أن يفهم صحابته والتابعون لهم من هذه النصوص غير الحق المراد منها، ولا يعرف الحق فيها إلا جهم بن صفوان – بعد انقراض عهد الصحابة – وبشر بن غياث- وأشباههما ممن هو مغموص عليه في النفاق؟ مع أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد علم أمته كيف يقضون الحاجة، وكيف يأكلون ويشربون، وينامون، ويدخلون بيوتهم ويخرجون، حتى أنزل الله –تعالى- عليه في آخر ما أنزل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (1) ، والرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: " تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" (2) .   (1) الآية 3 من سورة المائدة. (2) تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 هل يجوز – مع هذا كله وغيره – أن يترك الكتاب المنزل عليه، وسنته الغراء، مملوءان بما يزعم أهل التأويل أن ظاهره تشبيه وتجسيم، ومن اعتقد ظاهره – بزعمهم- فهو ضال مشبه لله ومجسم، ثم لا يبين ذلك ولا يوضحه، بل يكثر من ذكر ما يؤيد الظاهر بكل صراحة؟ إنه لا يعتقد ذلك ويقوله إلا ضال في دينه لم يعرف ما أنزل الله على رسوله، ولم يعرف الرسول حق المعرفة. قال ابن القيم: " واطراد لفظ اليد في موارد استعمالها، وتنوع ذلك، يوجب أن تكون اليد حقيقة، كقوله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) ، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) . فلو كان المراد: القدرة، أو النعمة، لم يستعمل منه لفظ "يمين"، كما في الحديث "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين" (4) ، فلا يصح أن تكون يد القدرة، والنعمة، وقوله: " يقبض الله سماوات بيده، والأرض باليد الأخرى، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك" (5) فالهز والقبض، وذكر اليدين، يمنع ذلك. ولما ذكر ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جعل يقبض يديه ويبسطهما، تحقيقاً للصفة، لا تشبيهاً لها، كما أنه –صلى الله عليه وسلم- لما قرأ قوله -تعالى-: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (6) وضع إصبعه على عينه والأخرى على أذنه؛ تحقيقاً لصفة السمع والبصر.   (1) الآية 75 من سورة ص. (2) الآية 64 من سورة المائدة. (3) الآية 67 من سورة الزمر. (4) تقدم تخريجه. (5) تقدم تخريجه. (6) الآية 134 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقوله –صلى الله عليه وسلم-: " لما خلق الله آدم قبض بيديه، وقال: اختر، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين ففتحها، فإذا فيها أهل اليمين من ذريته" (1) . وقوله –صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل" (2) اهـ. وقد تقدمت الإشارة إلى بعض النصوص في ذلك. فاقتران الطي والقبض، والإمساك باليد، جعل تأويلها بالقدرة والنعمة تحريفاً باطلاً. قال الإمام ابن خزيمة: " نحن نقول: الله – جل وعلا- له يدان، كما أعلمنا الباري في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفي –صلى الله عليه وسلم- ونقول: كلتا يدي ربنا يمين، على ما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- ونقول: إن الله – عز وجل – يقبض الأرض بإحدى يديه، ويطوي السماء بيده الأخرى " (3) . فمن أثبت لله -تعالى- يدين، وأثبت لهما أصابع، على ما جاء في النصوص الصحيحة، لا يكون مشبهاً، بل يكون متبعاً لكتاب الله وسنة رسوله، مطيعاً لله ورسوله في ذلك؛ لأنه أثبت لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله –صلى الله عليه وسلم-. والله -تعالى- ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه؛ لأن الوصف تابع للموصوف. وقال البغوي: " الإصبع المذكورة في الحديث صفة، من صفات الله – عز وجل – وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل، في صفات الله -تعالى-، كالنفس، والوجه، والعين، واليد والرجل، والإتيان، والمجيء،   (1) مضى تخريجه. (2) "مختصر الصواعق" (ص337) . (3) كتاب "التوحيد" (ص83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح. قال الله -تعالى- لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (1) ، وقال – عز وجل – {ولتصنع على عيني} (2) ، وقال – سبحانه وتعالى -: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (3) ، وقال – عز وجل -: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (4) ، وقال تعالى: {بل يداه مبسوطتان} (5) ، وقال – جل وعلا-: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (6) ، وقال -تعالى-: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (7) ، وقال -تعالى-: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (8) ، وقال – سبحانه وتعالى -: {وجاء ربك والملك صفا صفاً} (9) ، وقال – تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (10) ، وقال -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (11) . وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر" (12) ، وروى أنس، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع   (1) الآية 41 من سورة طه. (2) الآية 39 من سورة طه. (3) الآية 88 من سورة القصص. (4) الآية 27 من سورة الرحمن. (5) الآية 64 من سورة المائدة. (6) الآية 75 من سورة ص. (7) الآية 67 من سورة الزمر. (8) الآية 210 من سورة البقرة. (9) الآية 22 من سورة الفجر. (10) الآية 5 من سورة طه. (11) الآية 59 من سورة الفرقان. (12) سيأتي شرحه، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 رب العزة فيها قدمه"، وفي رواية أبي هريرة: " حتى يضع الله رجله" (1) ، وفي حديث أبي هريرة في آخر من يخرج من النار "فيضحك الله منه، ثم يأذن له في دخول الجنة" (2) ، وفي حديث جابر: " فيتجلى لهم يضحك" (3) ، وفي حديث أنس وغيره: " لله أفرح بتوبة عبده، من أحدكم يسقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة" (4) . فهذه ونظائرها صفات لله -تعالى-، ورد بها السمع، يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضاً فيها عن التأويل، مجتنباً التشبيه، معتقداً أن الباري – سبحانه وتعالى- لا يشبه شيء من صفاته صفات خلقه، كما لا تشبه ذاته ذوات خلقه، قال -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (5) . وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعاً بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله – عز وجل -. قال سفيان بن عيينة: " كل ما وصف الله -تعالى- به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسره إلا الله -تعالى- ورسوله ". وقال الزهري: " على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم". وقال بعض السلف: " قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم" (6) . ومراده بقوله: " ووكلوا العلم فيها إلى الله " علم الكيفية، وأما ما يفهم منها في الوضع اللغوي في ظاهر ومعلوم، وكذا ما ذكره عن سفيان أنها لا تفسر، أي تؤول وتطلب معرفة كيفيتها.   (1) تقدم، وهو في "مسلم" رقم (2848) . (2) متفق عليه، وسيأتي، إن شاء الله. (3) رواه مسلم في " الإيمان " رقم (191) . (4) انظره في "مسلم" (4/2104) رقم (2747) . (5) الآية 11 من سورة الشورى. (6) "شرح السنة " (1/168-171) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وهذا كثير في أقوال العلماء والسلف من أهل السنة. وقال ابن القيم: "ورد لفظ اليد في القرآن، والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، في أكثر من مائة موضع، وروداً متنوعاً، متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقة، من الإمساك، والطي، والقبض، والبسط، والمصافحة، والحثيات، والنضح باليد، والخلق باليدين، والمباشرة بهما، وكتب التوارة بيده، وغرس جنة عدن بيده، وتخمير طينة آدم بيده، ووقوف العبد بين يديه، وكون المقسطين عن يمينه، وقيام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه، فقال: " اخترت يمين ربي"، وأخذ الصدقة بيمينه، يربيها لصاحبها، وكتابته بيده على نفسه: أن رحمته تغلب غضبه، وأنه مسح ظهر آدم بيده، ثم قال له – ويداه مقبوضتان – "اختر"، فقال: " اخترت يمين ربي"، وكلتا يديه يمين مباركة، وأن يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، وبيده الأخرى القسط، يرفع ويخفض، وأنه خلق آدم من قبضه قبضها من جميع الأرض، وأنه يطوي السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يطوى الأرض باليد الأخرى، وأنه خط الألواح التي كتبها لموسى بيده" (1) .   (1) "مختصر الصواعق" (ص348) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 قال: " باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لا شخص أغير من الله". وقال عبيد الله بن عمرو بن عبد الملك: لا شخص أغير من الله. الغيرة - بفتح الغين - وإسكان الياء - وهي في اللغة مأخوذة من التغير الحاصل من الأنفة، والحمية. والشخص: هو ما شخص وبان عن غيره. ومقصد البخاري أن هذين الاسمين يخبر بهما عن الله -تعالى- وصفاً له؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثبتهما لله، وهو أعلم الخلق بالله -تعالى-. قال النووي: " قال العلماء: الغيرة بفتح الغين، وأصلها المنع، والرجل غيور على أهله، أي: يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر، أو حديث، أو غيره، والغيرة صفة كمال" (1) . قال الحافظ: " وقد فسر الرسول - صلى الله عليه وسلم- غيرة الله في قوله: " إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله " (2) . ومعناه: أن الله يغار إذا انتهكت محارمه، وليس انتهاك المحارم هو غيرة الله؛ لأن انتهاك المحارم فعل العبد، ووقوع ذلك من المؤمن أعظم من وقوعه من غيره. وغيرة الله -تعالى- من جنس صفاته التي يختص بها، فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته، مثل الغضب، والرضا، ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها.   (1) "شرح مسلم " (10/132) . (2) "الفتح" (9/319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقد تقرر أنه -تعالى- ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته، وأفعاله، ولكن لابد من الاشتراك في ألفاظ الأسماء التي تضاف إلى الله صفات له، وبين ألفاظ الأسماء التي يوصف بها العباد؛ لأنه لا يمكن معرفة ما غاب عنا إلا بمعرفة ما شهدناه، فنعتبر بعقولنا الغائب بالشاهد. فلولا أنا نجد من أنفسنا جوعاً، وعطشاً، وشبعاً، ورياً، وحباً، وبغضاً، ولذةً، وألماً، ورضاً، وسخطاً، لم نعرف حقيقة ما نخاطب به إذا وصف لنا وأخبرنا به عن غيرنا. ولو لم نعلم ما في المشاهد من الحياة، والقدرة، والعلم، والكلام، لم نفهم ما نخاطب به من ذلك في الغائب. فلا بد فيما شهدناه، وما غاب عنا، من قدر مشترك، هو مسمى اللفظ. وقد أخبرنا عن نعيم الآخرة، وعذابها مما يؤكل، ويشرب، ويفرح، ويحزن، وينعم، ويؤلم، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا، لم نفهم ما وعدنا به من ذلك، مع علمنا أن حقائق ما في الآخرة ليست كحقائق ما في الدنيا، كما قال ابن عباس في تفسير قوله -تعالى-: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} : " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء " (1) ، ولكن بين ما في الدنيا، وما في الآخرة، مشابهة واشتراك من بعض الوجوه. وبذلك نفهم المراد، فنحب النعيم، ونرغب فيه، ونكره المؤلم، وننفر عنه، فنعرف معنى العسل، واللبن، والحرير، والذهب، ونفرق بينهما؛ لما عرفناه من نظيرها في الشاهد، وإن كانت حقائقها فيما هي عليه لا يعلمها إلا الله -تعالى-، كما قال - جل وعلا -: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2) .   (1) رواه ابن جرير في "تفسيره" انظر (1/393-394) بتحقيق: محمود شاكر. (2) الآية 17 من سورة السجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فإذا كان هذا في صفات المخلوق، فكيف في صفات الخالق - جل وعز - فإنها أشد مباينة، مثال ذلك: إذا قال نفاة الصفات: النزول، والاستواء، من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل إلا لجسم مركب، والله منزه عن ذلك. فيقال لهم: وكذلك الحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والكلام، هي من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل من يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، ويتكلم، ويكون حياً، إلا الجسم. فإن قالوا: سمعه ليس كسمعنا، وعلمه ليس كعلمنا، وبصره ليس كبصرنا، وكذا البقية. قيل: فكذلك نزوله، واستواؤه، وغضبه، وفرحه، وحبه، وغيرته، وسائر صفاته، والذين يؤولون النصوص في ذلك، مخالفون لها، ومتناقضون. قوله: " وقال عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك: " لا شخص أغير من الله" قال الحافظ: " يعني أن عبيد الله بن عمرو، روى الحديث المذكور، عن عبد الملك، بالسند المذكور فقال: " لا شخص" بدل كلمة " لا أحد" وقد وصله الدارمي، ثم ذكر سنده، وساقه أبو عوانة - يعقوب الإسفرائيني - في "صحيحه" عن محمد بن عيسى العطار، عن زكريا بتمامه، وقال في المواضع الثلاثة: " لا شخص". قال الإسماعيلي - بعد أن أخرجه -: من طريق عبيد الله بن عمرو القواريري، وأبي كامل - فضيل بن حسين الجحدري - ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثلاثتهم عن أبي عوانة - الوضاح البصري - بالسند الذي أخرجه {به} البخاري، ولكن قال في المواضع الثلاثة: " لا شخص" بدل " لا أحد". ثم ساقه من طريق زائدة بن قدامة عن عبد الملك كذلك. فكأن هذه اللفظة لم تقع في رواية البخاري في حديث أبي عوانة، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 عبد الملك، فلذلك علقها عن عبيد الله بن عمرو. قلت: وقد أخرجه مسلم، عن القواريري، وأبى كامل، كذلك" ا. هـ (1) . ولفظ مسلم، بعد ذكر السند: " قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله، من أجل ذلك وعد الله الجنة" (2) . ورواه الإمام أحمد في "المسند" بهذا اللفظ (3) ، قال عبد الله ابن الإمام أحمد بعد ذكره، قال عبيد الله القواريري: ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث. وبهذا يتبين خطأ ابن بطال في قوله: " أجمعت الأمة على أن الله -تعالى- لا يجوز أن يوصف بأنه شخص، لأن التوقيف لم يرد به " ا. هـ ذكره الحافظ (4) . وهذه مجازفة ودعوى عارية من الدليل، فأين هذا الإجماع المزعوم؟ ومن قاله؟ سوى المتأثرين ببدع أهل الكلام، كالخطابي، وابن فورك، وابن بطال- عفا الله عنا وعنهم- وقوله: " لأن التوقيف لم يرد به " يبطله ما تقدم من ذكر ثبوت هذا اللفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطرق صحيحة لا مطعن فيها.   (1) "الفتح" (13/400) . (2) "صحيح مسلم " (2/1136) رقم (1499) . (3) "المسند" (4/248) ورواه الدارمي في "سننه" (2/73) (4) انظر: " الفتح" (13/400) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وإذا صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به، والقول بموجبه سواء كان في مسائل الاعتقاد، أو في العمليات، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- إطلاق هذا الاسم - أعني الشخص - على الله -تعالى- خبراً، فيجب اتباعه في ذلك على من يؤمن بأنه رسول الله، وهو -صلى الله عليه وسلم- أعلم بربه وبما يجب له وما يمتنع عليه -تعالى- من غيره من سائر البشر. وتقدم أن الشخص في اللغة: ما شخص، وارتفع، وظهر. قال في "اللسان": " الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور" (1) . والله -تعالى- أظهر من كل شيء، وأعظم، وأكبر، وليس في إطلاق الشخص عليه محذور على أصل أهل السنة الذين يتقيدون بما قاله الله ورسوله.   (1) انظر: " لسان العرب" (2/281) المرتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 45- قال: " حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبد الملك، عن وراد كاتب المغيرة، عن المغيرة، قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة ". نكتفي بما تقدم من كلام على معنى الحديث، ونذكر موجزاً من الكلام مما فيه فائدة، وتقدم معنى الغيرة، وأنها صفة كمال، كما تقدم أنا لا يمكن أن نفهم ما خوطبنا به إلا بواسطة المعلوم لنا في الشاهد المشارك له في المعنى في الجملة، وإن كان البون شاسعاً. قال النووي: " أخبر - صلى الله عليه وسلم- أن سعداً غيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه، وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش، فهذا تفسير لمعنى غيرة الله -تعالى-، أي: أنها منعه - سبحانه وتعالى - الناس من الفواحش" (1) . ققلت: ليس هذا هو غيرة الله -تعالى- ولكنه مقتضى الغيرة، كما يوضحه قوله: " ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش" فبين أن تحريم الفواحش، والمنع منها، ليس هو الغيرة، وإنما هو من آثارها. قوله: " لو رأيت رجلاً مع امرأتي، لضربته بالسيف غير مصفح" أي:   (1) "شرح مسلم" (10/132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لضربته بحد السيف لا بصفحه، يعني: لقتله بدون توقف، وقد أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وأخبر أنه أغير من سعد، وأن الله أغير منه، وأما قول القرطبي وغيره: إن قوله: " ولا أحد أحب إليه العذر من الله " إشارة إلى الإنكار على سعد، فغير صحيح، بل مدلول الحديث خلافه، ولا بد من الغيرة، والذي لا غيرة له ديوث، والديوث لا يدخل الجنة، كما في "سنن النسائي" (1) وغيرها. ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: " تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني" الخ. قوله: " ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن" أي: من أثر غيرة الله: منع عباده من قربان الفواحش، وهي: ما عظم وفحش في النفوس الزاكية والعقول السليمة مثل الزنا. والظاهر: يشمل ما فعل علناً، وما باشرته الجوارح وإن كان سراً. والباطن: يشمل ما في السر، وما انطوت عليه القلوب. قوله: " ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين". العذر: هو طلب العفو عن فعل سابق مع الاعتراف بالذنب والندم على وقوعه منه، ويراد به الإعذار، وهو إقامة البينات، والحجج، وإيضاح طريق الخير والشر، وكلاهما يدخل فيما ذكر، والمبشرون والمنذرون هم الرسل، وفي رواية مسلم: " بعث المرسلين مبشرين ومنذرين" وفي رواية له أيضاً: " ولذلك أنزل الكتب والرسل". قال عياض: المعنى: بعث المرسلين للإعذار والإنذار لخلقه، قبل   (1) "المجتبي" (5/80) ، رواه أحمد في "المسند" (2/134) وفي سنده عبد الله بن يسار، روى له النسائي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وبقية رجاله ثقات مشهورون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 أخذهم بالعقوبة، وهو كقوله -تعالى-: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) . قوله: " ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة" هذا لكماله المطلق، فهو -تعالى- يحب من عباده أن يثنوا عليه ويمدحوه على فضله وجوده، ومن أجل ذلك جاد عليهم بكل نعمة يتمتعون بها، ويرضى عنهم إذا حمدوه عليها. ومهما أثنوا عليه ومدحوه لا يمكن أن يصلوا إلى ما يستحقه من المدح والثناء، ولهذا مدح نفسه كما تقدم، فوعد الجنة ليكثر سؤاله، والثناء عليه من عباده ومدحه، ويجهدوا في ذلك غاية ما يستطيعون؛ لأن الجنة هي منتهى الإنعام.   (1) من "الفتح" (13/400) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 قال: " باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ} (1) " " فسمى الله -تعالى- نفسه شيئاً، وسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن شيئاً، وهو صفة من صفات الله، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (2) ". يريد بهذا أن يطلق على الله -تعالى- أنه شيء، وكذلك صفاته، وليس معنى ذلك أن "الشيء" من أسماء الله الحسنى، ولكن يخبر عنه -تعالى- بأنه شيء، وكذا يخبر عن صفاته بأنها شيء؛ لأن كل موجود يصح أن يقال: إنه شيء. قال الحافظ: " الشيء يساوي الموجود، لغةً، وعرفاً، وأما قولهم: فلان ليس بشيء فهو على طريق المبالغة في الذم، فلذلك وصف بصفة العدم" (3) . وقال: " أي: إذا جاءت استفهامية، اقتضى الظاهر أن تسمى باسم ما تضاف إليه، فعلى هذا صح الاستدلال بها على تسمية الله -تعالى- شيئاً. واسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك الشيء هو الله. ويصح أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: الله أكبر شهادة والله أعلم " (4) . وقوله -تعالى-: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قال الحافظ: " الاستدلال بهذه الآية للمطلوب، ينبني على أن الاستثناء متصل، فإنه يقتضي اندراج المستثنى في المستثنى منه، وهو الراجح، على أن لفظ شيء يطلق على الله -تعالى- وهو الراجح أيضاً ". (5)   (1) الآية 19 من سورة الإنعام. (2) الآية 88 من سورة القصص. (3) "الفتح" (13/402) . (4) نفس المصدر. (5) نفس المصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 قال الإمام عبد العزيز الكناني، في محاجته لبشر المريسي، لما سأله بشر عن القرآن: أهو شيء أم ليس بشيء؟ قال: " فقلت لبشر: سألت عن القرآن، هو شيء أم غير شيء؟ فإن كنت تريد أنه شيء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، فنعم هو شيء. وإن كنت تريد أن الشيء اسم له، وأنه كالأشياء فلا. فإن الله أجرى كلامه على ما أجراه على نفسه، إذ كان كلامه من ذاته، ومن صفاته، فلم يتسم بالشيء، ولم يحمل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً للزنادقة، ومن تقدمهم ممن جحد معرفته، وأنكر ربوبيته، من سائر الأمم، فقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (1) ، فدل على نفسه أنه شيء، لا كالأشياء، وأنزل في ذلك خبراً خاصاً مفرداً، لعلمه السابق أن جهماً وبشراً، ومن قال بقولهما، سيلحدون في أسمائه وصفاته، ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في الأشياء المخلوقة، فقال - عز وجل-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2) ، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة، بهذا الخبر، تكذيباً لمن ألحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه. وعدد أسماءه في كتابه، ولم يتسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه" (3) . ونقل الحافظ عن ابن بطال: " أن الآيات والآثار المذكورة في هذا الباب ترد على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله -تعالى- أنه شيء، كما صرح به   (1) الآية 19 من سورة الأنعام. (2) الآية 11 من سورة الشورى. (3) "الحيدة" (ص24-25) مطابع القصيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عبد الله الناشيء المتكلم (1) وغيره. كما ترد على من زعم أن المعدوم شيء، وقد أطبق العقلاء على أن لفظ "شيء" يقتضي إثبات موجود، وعلى أن لفظ " لا شيء" يقتضي نفي موجوده، إلا ما تقدم من إطلاقهم "ليس بشيء" في الذم" (2) . وهذا الذي ذكره الحافظ عن ابن بطال واضح، وقد تقدم ما يدل عليه.   (1) هو: أبو العباس عبد الله بن محمد الناشيء الشاعر المتكلم - يعرف بابن شرشير، أصله من الأنبار، وأقام ببغداد مدة طويلة، ثم خرج إلى مصر، وتوفي بها سنة ثلاث وتسعين ومائتين. "الشذرات" (2/214) . (2) "الفتح" (13/402-403) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 46- قال: " حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل: " أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا - لسور سماها-". سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلب بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة الأنصاري، من مشاهير الصحابة، ذكر ابن حبان أن اسمه حزن، فغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اسمه، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن خمس عشرة سنة وعمر طويلاً، فكان آخر من مات في المدينة من الصحابة، على أحد الأقوال، رضوان الله عليهم أجمعين، وله أحاديث كثيرة في كتب الحديث، مات سنة إحدى وتسعين من الهجرة (1) . هذا الحديث مختصر من قصة الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم- لما قال له رجل من أصحابه: إن لم يكن لك بها حاجة، فزوجنيها يا رسول الله، قال له -صلى الله عليه وسلم-: " أمعك شيء تعطيها إياه؟ قال: لا، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فلما لم يجد، قال له: هل معك شيء من القرآن؟ - أي: هل تحفظ شيئاً منه؟ - قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا، لسور سماها. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " زوجتكها على ما معك من القرآن" أي يكون تعليمه لها ما معه من سور القرآن صداقاً لها. والمقصود هنا أنه أطلق الشيء على القرآن، بقوله: " أمعك شيء من القران؟ " وهو صفة من صفات الله -تعالى- والصفة لها حكم الموصوف، فيصح إطلاق ذلك على الله -تعالى-. وقد تقم في كلام عبد العزيز الكناني " أن لفظ الشيء يطلق على القرآن   (1) "الإصابة" (2/87) ، "الاستيعاب" (2/94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 إثباتاً لوجوده، وحقيقته، ونفياً لعدمه، وليس لفظ الشيء اسماً له، كما أنه يطلق على الله -تعالى- كذلك. وأن الله أجرى كلامه على ما أجره على نفسه، إذ كان كلامه من ذاته، ومن صفاته، فلم يتسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء، وأنه أكبر الأشياء، إثباتاً للوجود، ونفياً للعدم، وتكذيباً للزنادقة ومن تقدمهم، ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم" (1) .   (1) انظر: " الحيدة" (ص24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قال: " باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (1) ، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2) ". قال الأزهري: " العرش في كلام العرب: سرير الملك يدل على ذلك سرير ملكة سبأ، سماه الله - جل وعز- عرشاً، فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (3) . قلت: والعرش في كلام العرب - أيضاً -: سقف البيت، وجمعه عروش، ومنه قول الله - جل وعز -: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (4) . قال الكسائي: {عَلَى عُرُوشِهَا} على أركانها. وقال غيره من أهل اللغة: على سقوفها، أراد أن حيطانها قائمة، وقد تهدمت سقوفها، فصارت في قرارها، وانقعرت الحيطان من قواعدها، فتساقطت على السقوف المتهدمة قبلها" (5) . "وقال الليث: العرش: السرير للملك، والعرش، والعريش: ما يستظل به. قال: وعرش الرجل: قوام أمره، فإذا زال قوام أمره، قيل: ثل عرشه" (6) . وقال الجوهري: " العرش: سرير الملك، وعرش البيت: سقفه، والعرش،   (1) الآية 7 من سورة هود. (2) الآية 129 من سورة التوبة. (3) الآية 23 من سورة النمل. (4) الآية 259 من سورة البقرة. (5) "تهذيب اللغة" (1/413) . (6) المصدر نفسه (1/415) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 والعريش: ما يستظل به، وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها، وفيه الأصابع، وعرش البئر" طيها بالخشب، بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة قدر قامة، فذلك الخشب هو العرش، والجمع عروش. وعرش يعرش ويعرش عرشاً، أي: بنى بناء من خشب" (1) . ويظهر مما ذكره أهل اللغة: أن العرش اسم للسرير المرتفع العظيم، الذي يجلس عليه الملك، ويطلق على السقف وعرش الرب - جل وعلا - له المعنيان فهو محل استوائه تعالى، وهو سقف المخلوقات. قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) قال ابن جرير: " يقول -تعالى-: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض، وما فيهن". ثم روى عن مجاهد: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئاً. وروى بسنده عن قتادة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} ينبئكم ربكم - تبارك وتعالى- كيف كان بدء خلقه، قبل أن يخلق السموات والأرض. ثم روى حديث أبي رزين العقيلي: " قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق خلقه؟ قال: " كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء". وفي رواية: " قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ " الخ (3) .   (1) "الصحاح" (3/1010) . (2) الآية 7 من سورة هود. (3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/11، 12) ، والترمذي في "التفسير" من "سننه" (4/351) وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه في "السنن" (1/64) رقم (182) والطبري أيضاً في "التاريخ" (1/19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ثم روى عن ابن عباس، أنه سئل: " وكان عرشه على الماء، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح" (1) . وقال الترمذي: " حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس (2) ، عن عمه أبي رزين، قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء"، قال أحمد: " قال يزيد: العماء، أي ليس معه شيء" (3) . قال أبو عبيد: " العماء في كلام العرب، السحاب الأبيض"، قال الأصمعي وغيره، هو ممدود. وقال الحارث بن حلزة اليشكري: وكأن المنون تردي بنا أعـ ... ـصم ينجاب عنه العماء يقول: هو في ارتفاعه، قد بلغ السحاب ينشف عنه، يقول: نحن في عزنا مثل الأعصم، فالمنون إذا أرادتنا، فكأنما تريد أعصم. وإنما تأولنا هذا الحديث، على كلام العرب المعقول عنهم، ولا ندري كيف كان ذلك العماء، وما مبلغه، والله أعلم. وأما العمى في البصر، فإنه مقصور، وليس هو من معنى الحديث في شيء " ا. هـ (4) ، نقل هذا الكلام الأزهري، ثم قال: "قلت: وقد بلغني، عن أبي الهيثم- ولم يعزه لي إلى ثقة - أنه قال في تفسير هذا الحديث، ولفظه: أنه كان في عمى مقصور، قال: وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول، فهو عمى، والمعنى: أنه كان حيث لا تدركه عقول بنى آدم، ولا يبلغ كنهه وصف.   (1) "تفسير الطبري" (15/245-249) بتحقيق محمود شاكر. (2) قال الترمذي: هكذا يقول حماد بن سلمة: وكيع بن حدس. (3) "سنن الترمذي" (4/351) . (4) "الغريب" (2/8-9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قلت أنا (1) : والقول عندي، ما قاله أبو عبيد، أنه العماء، ممدود، وهو السحاب، ولا يدري كيف ذلك العماء، بصفة تحصره، ولا نعت يحده، ويقوى هذا القول قول الله - جل وعز -: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (2) فالغمام معروف في كلام العرب. إلا أنا لا ندري كيف الغمام الذي يأتي الله - عز وجل - يوم القيامة في ظلل منه، فنحن نؤمن به، ولا نكيف صفته، وكذلك سائر صفات الله - عز وجل- " ا. هـ (3) . فعلى ما ذكره يزيد بن هارون، وأقره الترمذي، يكون المعنى: ليس مع الله شيء، فيدل على أن الله -تعالى- كان، ولم يكن معه شيء، كما سيأتي في حديث عمران، - إن شاء الله تعالى -. وعلى قول من فسر العماء بالسحاب الرقيق، ورجحه الأزهري، لا يدل على قول الفلاسفة الدهرية، بقدم العالم، وتبنى مذهبهم الماديون اليوم، وذلك أن الله -تعالى- أخبرنا في كتابه، بابتداء الخلق، وإعادته كما قال -تعالى-: {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده} (4) ، كما أخبر بخلق السماوات، والأرض وما بينهما في ستة أيام، في مواضع كثيرة من كتابه -تعالى- (5) .   (1) القائل هو الأزهري. (2) الآية 210 من سورة البقرة. (3) "تهذيب اللغة" (3/246) . (4) الآية 27 من سورة الروم. (5) انظر: " نقض تأسيس الجهمية" (1/154) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقوله: {وهو رب العرش العظيم} (1) أي: هو -تعالى- المالك للعرش، الذي هو أكبر المخلوقات، وأعظمها، وهو المتصرف فيه، وهو عرشه الذي استوى عليه، فاختاره لذلك. فالإضافة تقتضي اختصاصاً للعرش من بين المخلوقات، فهو -تعالى- رب كل مخلوق، فإضافة العرش إليه - تعالى - ووصفه بأنه عظيم، يدل على خصوصية للعرش، ليست لغيره من سائر المخلوقات، كما يدل على أنه -تعالى- مالك لكل ما دون العرش بطريق الأولى. والمتصرف فيه كيف يشاء. قال ابن جرير: " وإنما عنى بوصفه - جل ثناؤه - نفسه بأنه " رب العرش العظيم" الخبر عن جميع ما دونه، أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه؛ لأن العرش إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش، دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم، دون غيره، وأن من دونه، في سلطانه وملكه، جار عليه حكمه وقضاؤه" (2) . وقال ابن كثير: " وهو رب العرش العظيم" أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع المخلوقات، من السماوات والأرضين، وما فيهما، وما بينهما، تحت العرش، مقهورون بقدرة الله - تعالى -، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل" (3) . "قال - جل وعلا-: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (4) ، وقال - جلت عظمته-: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (5) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} (6) ، وقال   (1) آخر آية سورة التوبة. (2) "تفسير الطبري" (14/587) بتحقيق محمود شاكر. (3) "تفسير ابن كثير" (4/179-180) ط الشعب. (4) الآية 15 من سورة البروج. (5) الآية 75 من سورة الزمر. (6) الآية 7 من سورة غافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) . وأقوال أهل التفسير {متفقة} على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه، والطواف به، كما خلق في الأرض بيتاً، وأمر بنى آدم بالطواف به، واستقباله في الصلاة. وفي الآيات المتقدمة دلالة على صحة ما ذهبوا إليه " ا. هـ (2) . والأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، والتابعين لهم، في ذكر العرش ووصفه، وأن الله -تعالى- مستو عليه، كثيرة جداً، وسيأتي طرف يسير منها، - إن شاء الله تعالى -. ففي "الصحيحين" عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد" (3) . "وقال ابن مسعود في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال: العرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه" (4) . وقال سليمان التيمي: لو سئلت: أين الله؟ لقلت: في السماء، فإن قال: أين كان عرشه قبل السماء؟ لقلت: على الماء، فإن قال: فأين كان عرشه قبل خلق الماء؟ قلت: لا أعلم. قال البخاري: " وذلك لقوله -تعالى-: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} يعني: إلا بما بين" (5) .   (1) الآية 17 من سورة الحاقة. (2) " الأسماء والصفات" للبيهقي (ص392) ، والمفروض أن يقول: خلقه الله واستوى عليه وأمر ملائكته الخ. ولكن أبي عليه المذهب ذلك. (3) "البخاري مع الفتح" (7/123) ، و"مسلم" (4/1915) . (4) "خلق أفعال العباد" (ص43) . (5) المصدر نفسه (ص37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وقال أبو نصر السجزي في "الإبانة": " وأئمتنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وبن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله - سبحانه - فوق العرش، وعلمه بكل مكان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء" (1) . والنصوص في ذكر العرش، وأن الله -تعالى- مستو عليه، كثيرة جداً. وآمن الصحابة وأتباعهم بذلك، على ما دلت النصوص عليه ظاهراً، دون تأويل أو تحريف، وبلا تشبيه ولا تمثيل، كما سيأتي بعض ذلك، - إن شاء الله تعالى -. قوله: " قال أبو العالية: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ارتفع، {فسواهن} خلقهن وقال مجاهد: {استوى} : علا على العرش". هذا الذي ذكره البخاري عن أبي العالية، ومجاهد، هو الذي يقوله ويعتقده عامة السلف من الصحابة وأتباعهم إلى اليوم. وهو الحق الذي دلت عليه النصوص، وجاءت تعبيراتهم في ذلك في أربعة ألفاظ، ما ذكره البخاري هنا، وثالثها "صعد"، ورابعها "استقر"، وسوف أذكرها مع أسانيدها إليهم: قال ابن جرير: " حدثت، عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} يقول: ارتفع إلى السماء" (2) . وروى اللالكائي بسنده، عن بشر بن عمر، قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : ارتفع " (3) .   (1) نقلاً عن "سير أعلام النبلاء" (17/650) . (2) "تفسير الطبري" (1/429) بتحقيق محمود شاكر. (3) "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (3/397) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قال ابن عبد البر: " الاستواء: الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله - عز وجل- فقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (1) ، وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (2) . وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد خلق النجم اليماني فاستوى وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى؛ لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل -وكان ثقة مأموناً، جليلاً في علم الديانة، واللغة - قال: "حدثني الخليل - وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا، فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال؟ قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه، إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله - عز وجل -: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (3) ، فصعدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير، وماء نمير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سألكم متاركة لا خير فيها، ولا شر، قال الخليل:   (1) جزء من الآية 44 من سورة هود. (2) الآية 28 من سورة المؤمنون. (3) الآية 11 من سورة فصلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 هو من قول الله - عز وجل-: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (1) " (2) ا. هـ. قال البغوي: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي، ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد". ثم قال: " وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة، فيقولون: الاستواء على العرش صفة لله -تعالى- بلا كيف، يجب على العبد الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله - عز وجل - " (3) . وقال البخاري: " حدثت عن يزيد بن هارون، قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى، على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي" (4) . ومراده: أن الاستواء من الأمور الواضحة، التي يفهمها عامة المسلمين إذا كانوا من أهل اللغة العربية. كما أن مراد البغوي في قوله: " ويكل العلم فيه إلى الله - عز وجل - ": علم الكيفية، وأما معناه في اللغة، فهو معلوم ظاهر، كما يأتي في كلام الإمام مالك، وشيخه ربيعة، وأم سلمة. قال ابن جرير: الاستواء في كلام العرب يأتي على وجوه: منها: انتهاء شباب الرجل، وقوته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل. ومنها: استقامة ما كان فيه أود، من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره، إذا استقام بعد أود، ومنه قول الطرماح بن حكيم: طال على رسم مهدد أبده وعفا واستوى به بلده   (1) الآية 63 من سورة الفرقان. (2) "التمهيد" (7/131، 132) . (3) "تفسير البغوي" (2/237) . (4) "خلق أفعال العباد " (ص127) مجموعة عقائد السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 يعنى استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء، يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسؤوه بعد الإحسان إليه. ومنها: الاحتياز، والاستيلاء، كقولهم: استوى على المملكة، بمعنى: احتوى عليها، وحازها. ومنها: العلو، والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به: علوه عليه" (1) . قلت: قد أنكر أهل اللغة المعنى الثالث، والرابع، مما ذكره ابن جرير في الاستواء المعدى بعلى. قال ابن القيم: "ولفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله به وأنزل به كلامه نوعان، مطلق، ومقيد. فالمطلق: ما لم يوصل معناه بحرف، مثل قوله: {ولما بلغ أشده واستوى} ، وهذا معناه: كمل وتم، استوى الزرع واستوى الطعام. وأما القيد: فثلاثة أضرب: أحدها: مقيد بإلى، كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} (2) ، واستوى فلان إلى السطح، وقد ذكر - تبارك وتعالى - هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابه، في البقرة في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، والثاني في سورة حم السجدة، قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} وهذا بمعنى العلو والارتفاع، بإجماع السلف.   (1) "تفسير الطبري" (1/429) بتحقيق محمود شاكر. (2) الآية 29 من سورة البقرة، والآية 11 من سورة فصلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الثاني: مقيد بعلى، كقوله -تعالى-: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} (1) ، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (2) ، وقوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (3) ، وهذا معناه - أيضاً - العلو والارتفاع والاعتدال، بإجماع أهل اللغة. الثالث: المقرون بواو المعية، التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو: استوى الماء والخشبة، بمعنى: ساواها. فهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها "استولى" البتة، ولا نقله أحد من أئمة اللغة، الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخرو النحاة، ممن سلك طريق المعتزلة، والجهمية. والذين قالوه، لم يقولوه نقلاً، فإن ذلك مجاهرة بالكذب، ولكن قالوه استنباطاً وحملاً منهم للفظة " استوى" على "استولى" ولذلك لما سمع أهل اللغة ذلك أنكروه غاية الإنكار. قال ابن الأعرابي - وقد سئل هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ - فقال: لا تعرف العرب ذلك - وهو من أكابر أئمة اللغة-" ا. هـ (4) . قال ابن جرير: " وأولى المعاني بقول الله - جل ثناؤه-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} : علا عليهن، وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات، والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم، من كلام العرب، في تأويل قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الذي هو بمعنى العلو، والارتفاع، هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك - أن يكون إنما علا   (1) الآية 13 من سورة الزخرف. (2) الآية 44 من سورة هود. (3) الآية 29 من سورة الفتح. (4) "مختصر الصواعق" (ص320) ببعض التصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى تأويله بالمجهول، المستكره، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: " استوى ": أقبل، أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها، علو ملك، وسلطان، لا علو انتقال وزوال، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً، إلا لزم في الآخر مثله" (1) . قوله: " فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال" هو من جنس كلام أهل البدع، فلا ينبغي، وهو خلاف الظاهر من النصوص، بل هو من التأويل الباطل. قال ابن القيم: " نقل معنى الاستواء، كنقل لفظه، بل أبلغ، فإن الأمة كلها تعلم بالضرورة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه، من يحفظ القرآن منهم، ومن لا يحفظه، كما قال مالك، وأئمة السنة: الاستواء معلوم، غير مجهول، كما أن معنى السمع، والبصر، والقدرة، والحياة، والإرادة، وسائر ما أخبر به -تعالى- عن نفسه معلوم، وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر، فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية، ولم يرد منهم العلم بها. فإخراج الاستواء عن حقيقته المعلومة، كإنكار لفظه، بل أبلغ، وهذا مما يعلم أنه مناقض لما أخبر الله به ورسوله، فإن فهم معنى اللفظ هو المراد منه، وهو المقصود بالذات، لا اللفظ، فإن اللفظ مقصود قصد الوسائل للتعريف بالمراد، فإذا انتفى المعنى، وكانت إرادته محالاً - كما زعموا - لم يبق لذكر اللفظ فائدة، بل كان تركه أنفع من الإتيان به، فإن الإتيان به يحصل منه إيهام التشبيه، ويوقع الأمة في اعتقاد الباطل - على حد زعمهم - ولا ريب أن هذا إذا نسب إلى آحاد الناس كان ذمة أولى من مدحه، فيكف يجوز أن ينسب إلى من في كلامه الهدى، والشفاء؟ ومن المتفق عليه أنه لا يجوز أن يتكلم الله ورسوله   (1) "تفسير الطبري" (1/430) بتحقيق محمود شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 بالشيء ويريد خلاف ظاهره" (1) . وقال - أيضاً-: " وظاهر الاستواء: العلو، والارتفاع، كما نص عليه جميع أهل اللغة، وأهل التفسير المقبول، فلا يحتمل استواء الرب - تبارك وتعالى - على عرشه المعدى بعلى، المعلق بالعرش، المعرف بالألف واللام، المعطوف على خلق السماوات والأرض بثم مطرداً في " موارده" بهذا الأسلوب، لا يحتمل إلا معنى واحداً، لا معنيين، ولا كما يقول صاحب "العواصم والقواصم" (2) : إذا قال لك المجسم: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، فقل: " استوى على العرش" يستعمل على خمسة عشر وجهاً، فأيها تريد؟ فيقال له: كلا والذي استوى على العرش، لا يحتمل هذا اللفظ معنيين ألبتة، والمدعي للإحتمال عليه الدليل، والأصل عدم الاشتراك والمجاز، ولم تذكر على دعواك دليلاً، ولم تبين الوجوه المحتملة، مع ذكر الدليل عليه. والمقصود: أن استواء الرب -تعالى- على عرشه، المختص به، الموصول بأداة "على" نص في معناه، لا يحتمل سواه" ا. هـ (4) . وقال الحافظ: " نقل أبو إسماعيل الهروي، في كتابه: الفاروق، بسنده إلى داود ابن علي بن خلف، قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي - يعني يحيى بن زياد اللغوي- فقال له رجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (5) ، فقال: هو على العرش، كما أخبر، قال: يا أبا عبد الله إنما معناه: استولى، فقال: اسكت، لا يقال: استولى على شيء، إلا أن يكون له مضاد.   (1) "مختصر الصواعق" (ص331-332) . (2) هو ابن العربي المالكي. (3) الآية 5 من سورة طه. (4) "مختصر الصواعق" ملخصاً (ص332-334) . (5) الآية 5 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي، سمعت ابن الأعرابي يقول: أرادني أحمد بن أبي دؤاد، أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) بمعنى استولى، فقلت: والله ما أصبت هذا. وقال غيره: لو كان بمعنى استولى، لم يختص بالعرش؛ لأنه غالب على جميع المخلوقات" ا. هـ (2) . وروى اللالكائي بسنده من طريق الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، قالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. وروى عن مالك، جاء إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء، كموجدته من مقالته، وعلاه الرحضا- يعنى العرق- قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينظرون ما يأتي منه فيه، فسري عن ذلك، فقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج. وذكر بسنده عن ابن عيينة، قال: سئل ربيعة، عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".   (1) ورواه اللالكائي في "شرح أصول السنة" (2/399) . (2) "الفتح" (13/406) ، وذكر آثاراً كثيرة بهذا المعنى فليراجع. (3) "شرح أصول السنة" اللالكائي (2/398) . (4) "شرح أصول السنة" (2/398) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وذكر البيهقي بسنده، عن الأوزاعي، قال: " كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة، من صفاته" (1) . قال الحافظ: سنده جيد (2) . وقال: " وأخرج الثعلبي، من وجه آخر، عن الأوزاعي، أنه سئل عن قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) . فقال: هو كما وصف نفسه" (4) . "قال أبو الأثرم، في كتاب "السنة": حدثنا إبراهيم بن الحارث - يعني العبادي- حدثني الليث بن يحيى، سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر - هو صاحب الفضيل - سمعت الفضيل بن عياض، يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؛ لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) فلا صفة أبلغ مما وصف الله - عز وجل - نفسه، وكل هذا النزول، والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم فيه كيف، وكيف، وإذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء. وقال الخلال: وأنبأنا محمد بن علي الوراق: حدثنا أبو بكر الأثرم، حدثني محمد بن إبراهيم القيسي، قال: قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك، قيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد، فقال أحمد: هكذا هو عندنا.   (1) " الأسماء والصفات " (ص408) . (2) "الفتح" (13/406) . (3) الآية 5 من سورة طه. (4) "الفتح " (13/406) . (5) سورة الإخلاص كاملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وأخبرني حرب بن إسماعيل، قال: قلت لإسحاق - يعني ابن إبراهيم - هو على العرش بحد؟ قال: نعم بحد. وذكر عن ابن المبارك، قال: هو على عرشه، بائن من خلقه، بحد. وأخبرنا المروزي، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء، في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام، وبطون الأودية، وفي كل موضع، كما يعلم علم ما فوق السماوات السبع، وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علماً، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر، ولا رطب ولا يابس، إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره" (2) . ومعنى قولهم: "بحد" أنه -تعالى- بائن من خلقه، غير حال فيهم، ولا مخالط لهم - تعالى وتقدس - وقد قيدوا الحد، بأنه لا يعلمه إلا هو -تعالى- وهو قريب من قول الإمام مالك وغيره: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول"، فبين أن كيفية استوائه -تعالى- على العرش مجهولة للعباد، ولكنه لم ينف ثبوت ذلك في نفس الأمر، فكذلك قولهم: له حد لا يعلمه إلا هو، والله أعلم. قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - رحمه الله تعالى - في رده على بشر المريسي: " والله -تعالى- له حد، لا يعلمه غيره، ولا يجوز أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن نؤمن بالحد، ونكل علم ذلك إلى الله -تعالى-، ولمكانه حد، وهو على عرشه، فوق سماواته، فهذان حدان" (3) . وقال عبد العزيز بن يحيى المكي الكناني، صاحب " الحيدة في الرد على الزنادقة والجهمية": " زعمت الجهمية في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ   (1) الآية 5 من سورة طه. (2) درء تعارض العقل والنقل" (2/24، 34-35) . (3) رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص382) " مجموع عقائد السلف " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 اسْتَوَى} (1) أنما المعنى: استوى، كقول العرب: استوى فلان على مصر، استوى فلان على الشام، يريد: استولى عليها. فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟ فإذا قال: لا. قيل له: فمن زعم ذلك؟ فمن قوله: من زعم ذلك، فهو كافر. يقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك أن الله - تبارك وتعالى - أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض. قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) ، فأخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، وقال -تعالى-: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) ، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} (4) . فأخبر أنه استوى على العرش، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان على العرش فيها، قبل خلق السماوات، والأرض، ليس الله بمستول عليه، إذ كان: استوى على العرش، معناه عندك: استولى. فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله " ثم ذكر حديث عمران الآتي وحديث أبي رزين المتقدم، ثم قال: " فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى على العرش؟ أهو كما يقال: استوى فلان على السرير، فيكون السرير قد حوى فلاناً وحده إذا كان عليه؛ لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا؟   (1) الآية 5 من سورة طه. (2) الآية 7 من سورة هود. (3) الآية 4 من سورة السجدة. (4) الآية 29 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فيقال له: أما قولك: كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه كيف، وقد أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يخبرنا كيف استوى، فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم، باستوائه على العرش، وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى؛ لأنه لم يخبرهم كيف ذلك، ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون. فآمنوا بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم "كيف استوى" إلى الله. ولكن يلزمك - أيها الجهمي- أن تقول: إن الله محدود، وقد حوته الأماكن، إذا زعمت في دعواك، أنه في الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان، إلا والمكان قد حواه، كما تقول العرب: فلان في البيت، والماء في الجب، فالبيت قد حوى فلاناً، والجب قد حوى الماء. ويلزمك اشنع من ذلك؛ لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى، وذلك أنهم قالوا: إن الله - عز وجل - في عيسى، وعيسى بدن إنسان واحد، وكفروا بذلك، وأنتم تقولون: إنه في كل مكان، وفي بطون النساء كلهن، و {في} بدن عيسى، وأبدان الناس كلهم. ويلزمك أيضاً أن تقول: إنه في أجواف الكلاب، والخنازير، لأنها أماكن، وعندك أن الله في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً" (1) . وقال أبو الحسن الأشعري في "الإبانة": " إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله - عز وجل - مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ، وقال -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (3) ، فالسموات فوقها العرش، فلما كان   (1) "درء تعارض العقل والنقل" (6/115-118) . (2) الآية 5 من سورة طه. (3) الآية 16 من سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 العرش فوق السموات قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} لأنه مستو على العرش، الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس ذا قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش، الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله - عز وجل- ذكر السموات فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (1) ، ولم يرد أن القمر يملأهن جميعاً، وأنه فيهن جميعاً. ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا، نحو السماء، لأن الله - عز وجل- مستو على العرش، الذي هو فوق السماوات، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ولو كان كما تقوله المعتزلة، والجهمية، أن معناه: استولى، وملك، وقهر، لم يكن هناك فرق بين العرش، والأرض السابعة، ولكان مستوياً على العرش، وعلى الأرض، وعلى السماء، وعلى الحشوش، والأقذار" (2) ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقال الباقلاني - وهو من أئمة الأشاعرة -: " فإن قال قائل: أتقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبرنا في كتابه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) ، وقال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (5) .   (1) الآية 16 من سورة نوح. (2) "الإبانة" (ص85-87) ملخصاً. (3) الآية 5 من سورة طه. (4) الآية 10 من سورة فاطر. (5) الآية 16 من سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان، وفمه، وفي الحشوش، والمواضع التي نرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا، وإلى يميننا، وشمائلنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئة قائله" (1) . وقال شيخ الإسلام: " وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله، أو تظله، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إليه، كاحتياج المحمول، إلى حامله، فإنه كافر؛ لأن الله غني عن العالمين - حي، قيوم - الغنى المطلق، وما سواه فقير إليه. مع أن أصل الاستواء على العرش، ثابت بالكتاب، والسنة، واتفاق سلف الأمة، وأئمة السنة، بل ثابت في كل كتاب، أنزل على كل نبي أرسل" (2) وذكر عن أبي عمرو الطلمنكي: أنه قال: " قال أهل السنة، في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) : أن الاستواء من الله على عرشه المجيد، على الحقيقة، لا على المجاز " (4) . وقال ابن عبد البر في شرح حديث النزول: " وفيه دليل على أن الله في السماء، على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله في كل مكان، وليس على العرش.   (1) "التمهيد" (ص260) . (2) "مجموع الفتاوى " (2/188) . (3) الآية 5 من سورة طه. (4) "مجموع الفتاوى " (3/261) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ومن الدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ". قال شيخ الإسلام: " وفي الفقه الأكبر، المروي عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - قال: " من قال: لا أعرف ربي في السماء، أم في الأرض، فقد كفر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سماواته. قلت: فإن قال: أنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري، العرش في السماء، أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه -تعالى- في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل. وفي لفظ: سألت أبا حنيفة: عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء، أم في الأرض؟ قال: قد كفر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وعرشه فوق سبع سماوات. قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في الأرض، أو في السماء؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر". ثم قال: " ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة، عند أصحابه؛ أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي، في السماء، أم في الأرض. فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء، أو ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى   (1) "التمهيد " (7/129) . (2) الآية 5 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الْعَرْشِ اسْتَوَى} يبين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش. ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء، أم في الأرض؛ قال: لأنه أنكر أنه في السماء، لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل. وهذا تصريح من أبي حنيفة - رحمه الله - بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء. واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى، لا من أسفل. وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك، فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر" (1) وكلام العلماء من أهل السنة من السلف وأتباعهم في هذا الموضوع كثيرة جداً، فنكتفي بهذا الطرف اليسير؛ لأن العاقل المنصف، الذي يريد الحق، ويطلبه إذا بان له الدليل، كفاه اليسير، وأما من ضل وعاند فلا يفيده البيان والإكثار من الكلام، والله الهادي، وهو المستعان. قوله: " وقال ابن عباس: المجيد: الكريم، والودود: الحبيب. يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد، محمود من حمد ". قول ابن عباس انتهى عند قوله: يقال. قال الحافظ: " وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله -تعالى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: المجيد الكريم، وبه - أي بالسند - عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} . قال: الودود: الحبيب" (2) .   (1) "مجموع الفتاوى" (8/47-49) . (2) "الفتح" (13/408) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وذكر السيوطي أنه خرجه ابن جرير، وقال المنذر، والبيهقي في "الصفات" في الموضعين" (1) . قلت: يقصد البخاري - رحمه الله - أن العرش أضيف إلى الله -تعالى- الإضافة الدالة على المصاحبة، والاختصاص، حيث قال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} أي: صاحب العرش، فدل ذلك على اختصاص العرش المذكور بالله -تعالى- دون سائر المخلوقات، والمجيد قرئ بالرفع صفة لذو، الذي هو الله -تعالى- وقرئ بالجر صفة للعرش. قال ابن جرير: " قرأ عامة قراء المدينة ومكة، وبعض الكوفيين، بالرفع، رداً على قوله: {ذُو الْعَرْشِ} ، على أنه صفة الله - تعالى ذكره - وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة خفضاً، على أنه من صفة العرش. والصواب من القول: أنهما قراءتان، معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب" (2) . قال أبو حيان: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} خص العرش بإضافة نفسه، تشريفاً للعرش، وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات" (3) . و"المجيد" فسره ابن عباس بالكريم، وقد جاء في القرآن وصف العرش بأنه كريم، قال -تعالى-: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (4) ، فوصف العرش بأنه كريم لسعته وحسنه، وهو في وصف الله: الجواد، واسع العطاء، كثير الخير، حميد الصفات.   (1) "الدر المنثور" (8/471) ، وانظر: " الطبري" (30/138، 139) . (2) "تفسير الطبري" (30/139) . (3) "البحر المحيط" (8/452) . (4) الآية 116 من سورة المؤمنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 قال في "القاموس": {المجيد} الرفيع العالي، والكريم، والشريف الفعال" (1) . قوله: {الودود} الحبيب، تقدم أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس بسند متصل، الود: خالص الحب وصافيه. وفي القاموس: " الودود" كثير الحب، وقد تقدم الكلام في صفة المحبة. " الْوَدُودُ " فعول من الود، قال الله عن شعيب عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (2) ، وقال -تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (3) ، فقرنه بالرحيم في موضع، وبالغفور في موضع. قال أبو بكر بن الأنباري: {الْوَدُود} معناه: المحب لعباده، من قولهم: وددت الرجل أوده، وداً، ووداً، ووداً. ويقال: وددت الرجل، وداداً، ووداداً، وودادة. وقال الخطابي: هو اسم مأخوذ من الود، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون فعولاً في محل مفعول، كما قيل: رجل هيوب، بمعني مهيب، وفرس ركوب، بمعنى مركوب. والله - سبحانه وتعالى - مودود في قلوب أوليائه؛ لما يعرفونه من إحسانه إليهم. والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الود، أي أنه تعالى يود عباده الصالحين. قال -تعالى-: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (4) فسرت بأنه يحبهم، ويحببهم إلى عباده.   (1) (1/336) . (2) الآية 90 من سورة هود. (3) الآية 14 من سورة البروج. (4) الآية 96 من سورة مريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ويؤيده الحديث الصحيح: " إذا أحب الله عبداً نادى: يا جبريل، أني أحب فلاناً، فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً، فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض " وسيأتي - إن شاء الله تعالى -. والأكثرون على ما ذكره ابن الأنباري، أنه فعول بمعنى فاعل، أي هو الواد، كما قرنه بالغفور، الذي يغفر، وبالرحيم هو الذي يرحم (1) . وقوله: " يقال: حميد مجيد، كأنه فعيل من ماجد، محمود من حمد" قال الحافظ: " أصل هذا قول أبي عبيدة، في مجاز القرآن، في قوله: عليكم أهل البيت أي: محمود ماجد" (2) . قال الكرماني: " غرضه منه، أن مجيداً بمعنى فاعل، كقدير بمعنى قادر، حميداً بمعنى مفعول، فلذلك قال: " مجيد من ماجد، حميد من محمود، قال: وفي بعض النسخ: محمود من حميد، وفي أخرى: من حمد، مبنى للفاعل، والمفعول أيضاً، وذلك لاحتمال أن يكون حميد بمعنى حامد، ومجيد بمعنى ممجد، ثم قال: وفي عبارته تعقيد" (3) قال الحافظ: " قلت: وهو في قوله: " محمود من حمد" وقد اختلفت الرواة فيه، والأولى فيه ما وجد في أصله، وهو كلام أبي عبيدة " (4) . "فالحميد الذي له من الصفات، وأسباب الحمد، ما يقتضى أن يكون محموداً، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه.   (1) "النبوات" (ص71-72) ملخصاً. (2) "الفتح" (13/408) . (3) "شرح الكرماني على البخاري" (25/129) . (4) "الفتح" (13/408) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 والمحمود: من تعلق به حمد الحامدين، والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود، فمن أحببته ولم تثن عليه لم تكن حامداً له. وهذا الثناء والحب، يتبع الأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال، والإحسان إلى الغير، فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل، كان الحمد والحب أتم وأعظم. والله - سبحانه - له الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه، والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب، فهو أهل أن يحب لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه، ولكل ما صدر منه. والمجد مستلزم للعظمة، والسعة، والجلال، كما يدل عليه موضوعه في اللغة" (1) . يقال: استمجد المرخ والعفار؛ لكثرة النار فيهما. قال ابن القيم: " ومن أسمائه -تعالى- ما هو دال على جملة أوصاف عديدة، لا يختص بصفة معينة، بل هو دال على معناه، لا على معنى مفرد، نحو المجيد، العظيم، الصمد، فإن المجيد: من اتصف بصفات متعددة، من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع في اللغة للسعة، والكثرة، والزيادة، فمنه: استمجد المرخ والعفار، وأمجد الناقة علفاً، ومنه {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} صفة للعرش، لسعته وعظمته وشرفه" (2) .   (1) "جلاء الأفهام" (ص187) . (2) "بدائع الفوائد " (1/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 47- قال: " حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين، قال: " إني عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: " اقبلوا البشرى يا بنى تميم" قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن، فقال: " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: " كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" ثم أتاني رجل، فقال: يا عمران، أدرك ناقتك، فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، فإذا السراب ينقطع دونها، وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم". عمران، هو أبو نجيد، بضم النون وفتح الجيم، ابن حصين، الخزاعي، البصري، أسلم عام خيبر، سنة سبع، وشهد ما بعدها من غزوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من فضلاء الصحابة، وكانت الملائكة تسلم عليه مواجهة، وكان مجاب الدعوة، بعثه عمر إلى أهل البصرة يفقههم، وكان الحسن البصرى يحلف بالله ما قدمها مثله، اعتزل الناس في الفتنة، فلم يشهد شيئاً من حروبها، مات في البصرة سنة اثنتين وخمسين، - رضي الله عنه - (1) . قوله: إني عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرواية التي ذكرها في بدء الخلق: " دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعقلت ناقتي بالباب (2) .   (1) "الرياض المستطابة" (ص219) . (2) انظر: " البخاري مع الفتح" (6/286) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ويظهر أن هذه الواقعة في المدينة، في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا ذكرها البخاري في آخر المغازي، في ذكر الوفود على النبي -صلى الله عليه وسلم-. قوله: " اقبلوا البشرى يا بني تميم" وفي رواية: " أبشروا يا بني تميم"، والمراد بهذه البشرى: الخير العظيم الذي يترتب على الإسلام، والنجاة من العذاب العظيم الذي يترتب على عدم الدخول في الإسلام، وذلك في الدنيا والآخرة. قال الحافظ: " والمراد بهذه البشارة: أن من أسلم نجا من الخلود في النار، ثم بعد ذلك يترتب جزاؤه على وفق عمله، إلا أن يعفو الله" (1) . "وتميم: اسم رجل، وهو تميم بن مر بن إد بن طابخة - واسم طابخة- عمرو بن إلياس بن مضر، والتميم في اللغة: الشريد" (2) . " قالوا: بشرتنا فأعطنا" يظهر أنهم ما فهموا مقصد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما أراده بالبشرى، أو أن رغبتهم في العاجلة، فعلقوا بها آمالهم، فقدموا ذلك على التفقه في الدين، والإقبال على تفهم ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولهم، كما في الرواية الأخرى، وغير لون وجهه حيث استشعر قلة فقههم في الدين، ورغبتهم في الآخرة، والله أعلم. "فدخل ناس من أهل اليمن " تقدم ذكر اليمن، وسبب تسميته في شرح حديث معاذ، "فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم" البشرى: اسم من البشير، وهي الإخبار بما يسر ويفرح غالباً، وسميت بذلك لأنه يظهر أثرها على بشرة الوجه. قال الحافظ: " أي: اقبلوا مني ما يقتضي أن تبشروا بالجنة، إذا أخذتم به" (3) . ويؤخذ من هذا: أنه ينبغي - بل يتعين - قبول ما جاء عن الله ورسوله،   (1) "الفتح" (13/409) . (2) انظر: " نهاية الأرب" (ص188، 322) . (3) "الفتح" (6/288) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بدون توقف أو استفسار، أو طلب للعلة والسبب؛ لأن قول بني تميم: " بشرتنا فأعطنا" لا يدل بظاهره على أنهم لم يقبلوها، ومع ذلك جعل عدم فهمهم للمقصود وطلبهم لأمر عاجل، عدم قبول للبشرى. قوله: " جئناك لنتفقه في الدين" الفقه هو الفهم، أي: فهم المراد، أي: أننا قد آمنا بك، وبما جئت به، وأتينا إليك لتفهمنا ديننا الذي جئت به، وتعلمنا ما نعتقده، ونعمل به، وهذا من توفيق الله لعبده؛ أن يهتم بالتفقه في دينه، حتى يعبد ربه على علم وبصيرة. قله: " ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان "؟ الإشارة في قوله: " هذا" تعود إلى شيء مشاهد، حاضر، موجود، وهو هذا الخلق المرئي، من السماوات والأرض، وما بينهما، وما فيهما، والمعنى: جئنا نسأل عن مبدأ خلق هذه المخلوقات المشاهدة، وهذا هو الظاهر. قال الحافظ: " كأنهم سألوا عن أحوال هذا العالم، وهو الظاهر، ويحتمل أن يكونوا سألوا عن أول جنس المخلوقات" (1) . قلت: الاحتمال الثاني بعيد، بل باطل، كما يأتي بيانه في كلام شيخ الإسلام، وقوله في الحديث: " عن أول هذا الأمر" برده؛ لأن الإشارة إلى المخلوقات المشاهدة كما تقدم، وجوب السؤال يدل على أنهم سألوا عن مبدأ هذا العالم المشاهد، والأمر يطلق ويراد به المأمور، ويراد به المصدر، الذي هو حكم الأمر، والأول هو المراد هنا قطعاً. وقد رد شيخ الإسلام احتمال كونهم سألوا عن أول جنس المخلوقات من وجوه كثيرة، وبين أن ذلك باطل، وذكر أن الحديث روي بثلاثة ألفاظ: أحدها: المذكور هنا: " كان الله ولم يكن شيء قبله". والثاني: " كان الله، ولم يكن شيء معه".   (1) "الفتح" (6/288) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 والثالث: " كان الله ولم يكن شيء غيره". ثم قال: " لا بد أن يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال أحدها؛ لأن المجلس كان واحداً، وسؤالهم وجوابهم في ذلك المجلس، وعمران الذي روى الحديث لم يبق في المجلس إلى انقضائه، بل ذهب لما أخبر بذهاب راحلته، وهو أخبر بلفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يرو هذا الحديث غيره، فدل ذلك على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال واحداً من هذه الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، فيكون ما قاله: هو لفظ "القبل"؛ لما في "صحيح مسلم"، من قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أنت الأول فليس قبلك شيء" (1) . وأكثر أهل الحديث يرويه بهذا اللفظ، وهو ذكر الجمل الثلاث بالواو، وهي: 1- " قوله: كان الله، ولم يكن شيء قبله ". 2- " وكان عرشه على الماء". 3- " وكتب في الذكر كل شيء". ولم يذكر شيئاً منها بثم، وإنما جاء ذلك في خلق السماوات والأرض. والواو، لا تفيد الترتيب، على الصحيح، فلا يكون في ذلك ذكر أول المخلوقات، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش، والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقاً، ولكن المقصود أن جوابه لأهل اليمن، عند بدء خلق السموات والأرض، وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء ما خلقه الله قبل ذلك. ويدل على ذلك، أنه أخبر عن تلك الأشياء بما يدل على وجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها، سواء قال: " خلق السموات والأرض" أو قال: " وثم خلق السموات والأرض" فعلى التقديرين، أخبر بخلق ذلك، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن. فتبين أنه لم يكن مقصوده الإخبار عن أول جنس المخلوقات، بل ولا الإخبار عن خلق العرش والماء، وإنما مقصوده الإخبار عن بدء خلق السموات   (1) انظر: " صحيح مسلم" (4/2084) الحديث رقم (2713) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 والأرض وما بينهما، حين كان عرشه على الماء" (1) وقد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء " (2) . ولما كان شيخ الإسلام يقرر هذا، وهو أن الله لم يزل فعالاً لما يريد، ويرد على من يقول: المعنى: كان الله ولا شيء معه، أي: لا مخلوق، ولا فعل، ولا مفعول، ثم صار يخلق ويفعل بعد أن لم يكن يفعل ويخلق، وهذا هو قول الجهمية، والمعتزلة. لما كان يقرر ذلك، ويرد قول الجهمية والمعتزلة، ظن كثير ممن لم يفهم مراده ولم يعرف مذهب أهل السنة في هذه المسألة، زن أنه يقول بقدم العالم؛ لأنه يقول بحوادث لا أول لها، لأنهم يسمون أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بإرادته: حوادث. وما علم هؤلاء أن لازم قولهم، أشنع، وأفظع، وهو أن الرب -تعالى- كان معطلاً عن الفعل، ثم صار فعالاً لأفعاله بعد أن لم يكن كذلك. مع أن ما قاله شيخ الإسلام هو مذهب السلف، مثل الإمام أحمد والدارمي والبخاري وغيرهم. قال الإمام أحمد في رده على الجهمية: " فلما ظهرت عليه الحجة، قال: إن الله يتكلم، ولكن كلامه مخلوق. قلنا: وكذا بنو آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق.   (1) "مجموع الفتاوى" (18/216-222) بتصرف. (2) "صحيح مسلم" (4/2044) رقم (2653) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ففي مذهبكم: قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق الله لهم كلاماً. وقد جمعتم بين كفر، وتشبيه، وتعالى الله عن هذه الصفة. بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان، ولا يتكلم حتى خلق الكلام، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة له، حتى خلق لنفسه القدرة، ولا نقول: إنه كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له، حتى خلق لنفسه عظمة. فقال الجهمية - لما وصفنا الله بهذه الصفات -: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى، حين زعموا أن الله لم يزل ونوره، ولم يزل وقدرته. قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره، متى قدر، ولا كيف. فقالوا: لا تكونوا موحدين أبداً، حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول: قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا: إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس إنما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟ وضربنا لهم مثلاً في ذلك، فقلنا: أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جذع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله - وله المثل الأعلى - بجميع صفاته، إله واحد. ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق له قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ولا نقول: قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق له علماً، والذي لا يعلم هو جاهل" (1) . بين الإمام - رحمه الله تعالى - أنه -تعالى- لم يزل متكلماً، قادراً، فعالاً لما يريد، فلم يكن قبل وجود الخلق معطلاً عن الفعل، كما هو مقتضى قول الذين أنكروا وجود حوادث لا أول لها، وزعموا أن هذا قول الفلاسفة الدهرية، وفي الواقع هو قول السلف، وهو الذي دلت عليه نصوص الشرع، وأيده العقل، وإن كان كل مفعول معين حادث بعد أن لم يكن، وأما فعل الله الذي هو صفته فلم يزل، فلا أول له. فمفعولات الله -تعالى- باعتبار أعيانها لها مبدأ فهي كائنة بعد العدم. أما باعتبار كون الفعل صفة من صفات الله -تعالى-، وإن لم يكن متعلق موجود، فهو لا أول له. قال الإمام أبو سعيد الدارمي - رحمه الله -: " والله -تعالى وتقدس اسمه - كل أسمائه سواء، لم يزل كذلك، ولا يزال، لم تحدث له صفة ولا اسم لم يكن، كذلك كان خالقاً قبل المخلوقين، ورازقاً قبل المرزوقين، وعالماً قبل المعلومين، وسميعاٌ قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، بصيراً قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة" (2) . والمقصود أن الله - سبحانه وتعالى - لم يزل فعالا لما يريد، وأنه لم يكن معطلاً عن الفعل حتى خلق هذا الكون المشهود، الذي سأل عن مبدئه أهل اليمن، قال شيخ الإسلام: " لا نزاع بين أهل الملل أن الله - سبحانه - كان قبل أن يخلق هذه الأمكنة والأزمنة، وأن وجوده لا يجب أن يقارن هذه الأزمنة والأمكنة" (3) . قوله: " كان الله، ولم يكن شيء قبله " تقدم في كلام شيخ الإسلام أن هذا اللفظ هو الذي قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن اللفظين الآخرين رويا بالمعنى، وهما " لم يكن شيء غيره " و" لم يكن شيء معه"، وأيد ذلك بأنه من معنى قوله - تعالى -: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) .   (1) "الرد على الجهمية" (ص90-92) عقائد السلف. (2) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي. (3) "نقض التأسيس" (1/562) . (4) الآية 3 من سورة الحديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فقوله -تعالى-: {هُوَ الأَوَّلُ} هو الذي ليس قبله شيء، كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء" (1) . وأما قول الحافظ: " قضية الجمع بين الروايتين، تقتضي حمل هذه على رواية: "ولا شيء غيره"، لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالاتفاق" (2) فيقال له: هذا لو احتمل أن يكون الحديث صدر منه -صلى الله عليه وسلم- في مقامين، أما إذا كان في مجلس واحد، والراوي واحد، وقد أخبر أنه لم يبق إلى نهاية المجلس، بل قام لما سمع هذا القول من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولحق براحلته، فلا بد أن اللفظ الذي سمعه أحد هذه الألفاظ الثلاثة، والآخران رويا بالمعنى، فأصبح الجمع لا وجه له. وحمل هذه الرواية على رواية " ولا شيء غيره" بلا دليل، حمل عليه التعصب للمذهب، وإلا فالواجب حملها على المعروف من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- الموافق لكلام الله -تعالى- كما تقدمت الإشارة إليه. وأما قوله: إن هذه المسألة من مستشنع ما ينسب لابن تيمية، فقد تقدم أن هذا هو مذهب السلف، وأن ما يريد ترجيحه الحافظ هو مذهب الجهمية والمعتزلة، والأشعرية، من أهل البدع، والله أعلم. وكلمة "كان" هنا تفيد الأزلية، والأزلية هي: ما لا بداية له. قال الطيبي: " لفظة كان في الموضعين - يعني " كان الله" و"كان   (1) تقدم تخريجه. (2) "الفتح" (13/410) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 عرشه على الماء"- بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأول: الأزلية والقدم، وبالثاني الحدوث بعد العدم" (1) . "وقال ابن عباس: "كان ولا يزال" ولم يقيد كونه بوقت دون وقت، ويمتنع أن يحدث له غيره، صفة، بل يمتنع توقف شيء من لوازمه على غيره - سبحانه- فهو المستحق لغاية الكمال، وذاته هي المستوجبة لذلك الكمال المطلق، وهو المحمود على ذلك، أزلاً وأبداً، ولا يحصي الخلق ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه" (2) . وقال الراغب: " كان عبارة عما مضى من الزمان، وفي كثير من وصف الله -تعالى- تنبئ عن معنى الأزلية، قال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (3) ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (4) ، وما استعمل منه في جنس الشيء متعلقاً بوصف له هو موجود فيه، فتنبيه على أن ذلك الوصف لازم له، قليل الانفكاك منه، نحو قوله في الإنسان: {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} (5) ، وإذا استعمل في الزمان الماضي، فقد يجوز أن يكون المستعمل فيه على حالته، ويجوز أن يكون قد تغير، نحو: كان فلان كذا ثم صار كذا" (6) . ومعنى قوله: "كان الله، ولم يكن شيء قبله" أنه -تعالى- هو الأول قبل كل شيء، الذي لا يتصور لأوليته مبدأ، حتى يمكن أن يتصور قبله شيء، بل هو الأول بلا بداية، كما أنه الآخر بلا نهاية، فما من غاية يقدرها العقل إلا وأزليته -تعالى- قبلها، بلا غاية محدودة، والأزل معناه عدم الأولية، فليس الأزل   (1) "الفتح" (13/410) . (2) "مجموع الفتاوى" (18/232-233) . (3) الآية 26 من سورة الفتح، والآية 40 من سورة الأحزاب. (4) الآية 27 من سورة الأحزاب، والآية 21 من سورة الفتح. (5) الآية 67 من سورة الإسراء. (6) "المفردات في غريب القرآن " (ص444) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 شيئاً محدوداً، فلو قدر أن الأرض كلها وعاء مملوء ذرات، وبعد مليون سنة تفنى ذرة واحدة فقط، لفنيت الذرات كلها، والأزل باق، بل لو فرض أضعاف أضعاف ذلك بالملايين، والمقصود بذلك التقريب إلى الفهم فقط، وإلا فالأزل ليس له بداية أبداً. قوله: " وكان عرشه على الماء" أي: وقت خلق السموات والأرض كان عرشه على الماء، والمراد هنا الإخبار بكون العرش على الماء، عند ابتداء خلق السموات والأرض. قال ابن خزيمة: " معنى قوله: "وكان عرشه على الماء" كقوله: {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (1) ، يعني: أن "كان" هنا لا تدل على أن ذلك أمر قد مضى، وانقضى، بل تدل على ثبوته، فهو كان، ولا يزال على ما كان، و"ليس معنى ذلك أن شيئاً من مفعولاته قديم معه، بل هو خالق كل شيء، ولك شيء سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، مع أنه -تعالى- لم يزل بصفاته خالقاً فعالاً لما يريد". ومن المعلوم أن الخلق صفة كمال، كما قال -تعالى-: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (2) ، فلا يجوز أن ينفك عن هذه الصفة، ولكن كل مخلوق محدث، مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم، ولا شك أن هذا أبلغ في الكمال، من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل. وأما جعل المفعول المعين مقارناً له -تعالى- أزلاً وأبداً، فهو باطل عقلاً وشرعاً، ولا يقوله إلا جاهل أو معطل. "والأدلة على بدء خلق الأفلاك، وخلق الزمان - الذي هو مقدار حركة الفلك - كثيرة، أخبرت بها الرسل، كما أخبرت أنها خلقت من مادة موجودة قبلها، وفي زمان قبل هذا الزمان، فإن الله -تعالى- أخبر أنه خلق السموات   (1) كتاب "التوحيد" (ص103) . (2) الآية 17 من سورة النحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 والأرض وما بينهما في ستة أيام، وسواءً قيل: إن تلك الأيام بمقدار هذه الأيام المعروفة بطلوع الشمس وغروبها، أو أنها أكبر منها، وأن كل يوم قدره ألف سنة. والحق أن تلك الأيام، التي خلقت فيها السموات والأرض غير هذه الأيام، وغير الزمان الذي هو مقدار حركة هذه الأفلاك، وأن تلك الأيام مقدرة بحركة أجسام موجودة قبل خلق السماوات والأرض. وقد أخبر - سبحانه وتعالى - أنه {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (1) فخلقت من الدخان. وقد جاءت الآثار عن السلف، أنها خلقت من بخار الماء، وهو الماء الذي كان العرش عليه، قبل وجود هذا الخلق، كما قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} (2) . فأخبر -تعالى- أنه خلق السماوات والأرض في مدة، ومن مادة، ولم يذكر القرآن أنه خلق شيئاً من لا شيء، ولا يعارض هذا بقوله -تعالى-: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (3) ؛ لأنه تعالى قد أخبر أنه خلقه من نطفة" (4) ، وخلق أباه من تراب، وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الملائكة خلقت من نور، والجن من النار. وهذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد، وهو دليل على عظم العرش، وأن له شأناً غير شأن السماوات والأرض، وأن وجوده قبل وجودهما. وقوله: " ثم خلق السماوات والأرض " نص في ذلك؛ لأن "ثم" تفيد الترتيب مع التراخي، أي: ترتيب خلق السماوات والأرض على وجود العرش والماء. ولا شك أن العرش والماء مخلوقان، ولم يذكر الله - جل وعلا- لنا وقت خلق العرش والماء، كما لم يذكر لنا أن له مخلوقات قبلهما، ولكن النصوص من الوحي، والفطرة والعقل السليم، تدل على أن الله -تعالى- لم يزل يفعل ما يشاء، ويتكلم   (1) الآية 11 من سورة فصلت. (2) الآية 7 من سورة هود. (3) الآية 9 من سورة مريم. (4) "مجموع الفتاوى" (18/235) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بما يشاء، وهذا من الكمال الواجب له، والذي يليق به -تعالى-. وما يقوله المتكلمون من المعتزلة، والأشاعرة، ومن تبعهم، من أن هذا الكون المشاهد لنا، وما يتصل به من السموات والأرض، وكذلك العرش والماء، هو مبدأ فعله وخلقه، وليس قبله شيء من مفعولاته، يخالف كماله الواجب له -تعالى-. فإنه وصفه -تعالى- بأنه لم يكن قادراً على الفعل والكلام ونحوهما من صفات الكمال، ثم صار قادراً على ذلك، فيه نقص يجب أن ينزه عنه، وقدرته التامة الكاملة التي هي من لوازم ذاته -تعالى- تفيد خلاف هذا القول، وهي من أظهر صفات الكمال، ولا يجوز أن تقيد صفاته -تعالى- وأفعاله بوقت دون وقت. وباليقين العقلي يمتنع أن يكون قادراً بعد أن لم يكن كذلك، إلا بأمر جعله قادراً، ومن المحال أن يؤثر فيه شيء غيره، فإذا لم يكن هناك إلا العدم المحض استحال كونه قادراً، بعد أن لم يكن كذلك. كما يمتنع أن يكون عالماً بعد أن لم يكن كذلك، وأن يكون سميعاً بصيراً، بعد أن لم يكن، أما المخلوق المفعول، مثل الإنسان، فإنه كان غير عالم، ولا قادر، فجعله الله عالماً قادراً. وقوله: " وكتب في الذكر كل شيء" الكتابة هنا أضيفت إلى الله -تعالى- ولا يتعين منه أنه -تعالى- باشر الكتابة بنفسه، بل يجوز أن يأمر بذلك ما يشاء. وقد جاء الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضحاً ذلك، كما في حديث عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" (1) . والمقصود بالذكر هنا: محل الكتابة، وهو اللوح المحفوظ.   (1) رواه أبو داود في "السنن" (5/76) رقم (4700) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 "والمراد أنه -تعالى- كتب كل ما أراد إيجاده من تلك الساعة التي جرت فيها الكتابة إلى قيام الساعة. ولفظة "كل شيء" يعم في كل موضع بحسب ما سيقت له، كما في قوله -تعالى-: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} و {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} و {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . و {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} و {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} (1) . وقوله: " فإذا السراب ينقطع دونها" أي يشاهدها من خلق السراب، فهو ينقطع بينه وبينها لبعدها، فيراها مرة، وأخرى يكاد يخفيها السراب. وقوله: " وايم الله " قيل معناه: يمين الله، فهو قسم مشهور عند العرب، وفيه لغات عدة. وقوله: " لوددت أنها ذهبت، ولم أقم" يقول: إن رغبتي والأحب إليَّ أني بقيت في مجلسي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتعلم منه الإيمان والعلم، ولم أقم في طلب راحلتي، بل أتركها مؤثراً ما أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غذاء القلب والروح، على راحلتي، وهذا شأن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهم - في حرصهم على التعلم منه، والبحث عن الهدى والخير، ولهذا حفظوا كل ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما فعله، والبحث عن الهدى والخير، ولهذا حفظوا كل ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم - وما فعله، حتى نقلوا لنا تحرك شعر لحيته وهو يصلي، وغير ذلك، فجزاهم الله خيراً، وقاتل من يبغضهم وينتقصهم.   (1) "مجموع الفتاوى" (18/233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 48- قال: " حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، حدثنا أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض - أو القبض- يرفع، ويخفض". قد تقدم هذا الحديث في باب قول الله -تعالى-: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وتقدم الكلام عليه، وما هنا يختلف عن الماضي في سنده، وفي بعض ألفاظه، على عادة المؤلف - رحمه الله- إذا كرر الحديث، فلا بد أن يأتي بما يغاير السابق، أما في السند والمتن، أو في أحدهما، إلا إذا تيسر له ذلك، وهو نادر. والذي تقدم فيه "يد الله ملأى" وما هنا " إن يمين الله ملأى". وما تقدم فيه " وقال: أرأيتم"، وهنا كلمة "قال" ليست موجودة. وما تقدم فيه " فإنه لم يغض ما في يده"، وما هنا " فإنه لم ينقص ما في يمينه" وما تقدم فيه "وقال: عرشه على الماء "، وهنا لفظة "قال" غير موجودة. وما تقدم " وبيده الأخرى الميزان"، وهنا "وبيده الأخرى الفيض - أو القبض-" هذا في المتن، وأما السند فهو غير المتقدم. والمقصود قوله: " وعرشه على الماء" أي أنه -تعالى- لما خلق السماوات والأرض، كان عرشه على الماء، فوجود العرش والماء سابق وجود السماوات والأرض بزمن طويل جداً -تعالى- الله أعلم بمقداره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 49- قال: " حدثنا أحمد، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: جاء زيد بن حارثة، يشكو، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال (1) أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله -تعالى- من فوق سبع سماوات". وعن ثابت: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ نزلت في شأن زينب وزيد بن حارثة". زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. ذكر الحافظ في "الإصابة" نقلاً عن الكلبي بسنده، قال: " زارت سعدى أم زيد قومها وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر، على أبيات بني معن، فاحتملوا زيداً وهو غلام يفعة، فأتوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهبته له، ثم جاء والده حارثة، وعمه كعب، يريدان فداءه، فطلبا ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله: " ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي أختار على من أختارني " فاختار زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فقال له والده وعمه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال: إني رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً.   (1) في بعض نسخ البخاري: قالت عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك خرج به إلى المحجر، وقال: اشهدوا أن زيداً ابني، عند ذلك طابت نفس والده وعمه. وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش، وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب، ثم لم يتلاءما، فطلقها زيد، فزوجها الله -تعالى- نبيه؛ لحكمة ذكرها الله -تعالى- في القرآن. قال ابن عمر: " إن زيد بن حارثة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (1) . كان زيد هو الأمير في غزوة مؤتة، واستشهد فيها رضي الله عنه" (2) . قوله: " جاء زيد بن حارثة يشكو" أي: جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو زوجه زينب ويستشيره في طلاقها؛ لأنها كانت تترفع عليه، وتقابله ببعض الكلام غير المناسب؛ لحدة كانت فيها، كما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: " جاء زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إن زينب اشتد عليَّ لسانها، وأنا أريد أن أطلقها؟ فقال له: " اتق الله، وأمسك عليك زوجك" (3) . وهذا منقطع، وقد ذكر كثير من المفسرين والمؤرخين آثاراً موضوعة، مكذوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصة زواجه -صلى الله عليه وسلم- بزينب، وبعضها ضعيف، لا يثبت به حكم. ثم استغل تلك الأخبار بعض أعداء الرسل، من زنادقة وكفار ملاحدة، متقدمون، ومتأخرون، واغتر بذلك كثير من الجهلة.   (1) الآية 5 من سورة الأحزاب، ورواه البخاري، انظره مع الفتح (8/517) . (2) "الإصابة" (2/599-601) . (3) "الفتح" (8/524) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وقد بين الله -تعالى- المقصود من زواج رسوله -صلى الله عليه وسلم- بزينب بقوله: {فلما قض زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} (1) . المعنى: لما فرغ زيد منها وطابت نفسه عنها، وطلقها، أمرناك بتزوجها؛ لئلا يبقى في قلوب المؤمنين حرج في تزوج زوجات أدعيائهم، الذين تبنوهم، فصاروا يدعون إليهم، فيقال: ابن فلان، وليس ابناً له، إذا فارقوهن. وهذا إمعان في إبطال هذا التبني، الذي كان معروفاً في الجاهلية الأولى كما عرف في الجاهلية الحاضرة، حيث أمر الله -تعالى- إمام المسلمين وقدوتهم بذلك، وكان زيد بن حارثة قد تبناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تقدمت الإشارة إليه، فكان يدعى بزيد بن محمد، فأبطل الله -تعالى- ذلك بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ {4} ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (2) . فهو -تعالى- يعلم عباده أن أدعياءهم الذين هم مواليهم، ودعوهم أبناء لهم، أنهم ليسوا لهم بأبناء؛ لأنهم أبناء رجال آخرين. وقد أوحى الله -تعالى- إلى رسوله بأنه سوف يتزوج زينب، أوحى الله بذلك إليه قبل أن يطلقها زيد، فلما جاء يشكوها إليه، ويستشيره في طلاقها، قال له: " اتق الله يا زيد، وأمسك عليك زوجك" فعاتبه الله -تعالى-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي   (1) الآية 37 من سورة الأحزاب. (2) الآيتان 4 و 5 من سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (1) . الآية. والذي كان -صلى الله عليه وسلم- يخفيه، هو كراهيته لزواجها؛ خوفاً من قالة الناس أنه تزوج زوجة ابنه. قال ابن حجر: " والحاصل: أن الذي كان يخفيه هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان الجاهلية عليه، من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعي ابناً {له} ، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم. وإنما وقع الخبط في تأويل متعلق الخشية، والله أعلم " (2) . يشير إلى ما ذكره بعض المفسرين من أقوال باطلة، وقصص موضوعة مكذوبة. قوله: "قال أنس: لو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئاً لكتم هذه". أي: لو قدر على سبيل الفرض الممتنع شرعاً كتم شيء من الوحي، لكان في هذه الآية، ولكنه غير واقع بل ممتنع شرعاً. وهذه الآية من أعظم الأدلة لمن تأملها على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فالله - تعالى - يخبر عما وقع في نفسه من خشية الناس، فبلغه كما قال الله -تعالى- مع ما تضمنه من لومه، بخلاف حال الكذاب، فإنه يتجنب كل ما يمكن أن يكون فيه عليه غضاضة، ومثل ذلك قوله -تعالى-: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} إلى آخر الآيات ونظائرها في القرآن. وقوله: " فكانت زينب تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ".   (1) الآية 37 من سورة الأحزاب. (2) "الفتح" (8/524) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الفخر: هو ذكر المحاسن، وعدها، مباهاة بها غيره. قال الجوهري: " الفخر: الافتخار، وعد القديم" (1) . فزينب - رضي الله عنها - تعتد بأن زواجها برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بأمر الله له بذلك، وأنه من أعظم فضائلها، وأنه لا يساويها في ذلك من أزواجه أحد. قوله: " تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات". هذا القدر من الحديث هو محل الشاهد، وهو ثبوت علو الله -تعالى- وتقرره لدى المؤمنين، فهو أمر مسلم به بين عموم المسلمين، بل بين عموم الخلق إلا من غيرت فطرته، لهو من الصفات المعلومة بالسمع، والعقل، والفطرة، عند كل من لم تنحرف فطرته. وأما الاستواء على العرش فهو من الصفات المعلومة بالسمع، لا بالعقل، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام (2) ، وغيره من الأئمة. ومعنى قولها: " وزوجني الله" أي: أمر رسوله بأن يتزوجها بقوله -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} وتولى -تعالى- عقد زواجها عليه. وقوله في الرواية الأخرى: " نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش". آية الحجاب هي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} إلى آخر الآية. (3) قوله: " وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً". أي: صنع وليمة لزواجه بها، من   (1) "الصحاح" (2/779) . (2) انظر: " مجموع الفتاوى" (5/227) . (3) الآية 53 من سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الخبز، واللحم، وهذا النوع من الطعام هو أعلى ما يمكن في زمنه -صلى الله عليه وسلم-. قوله: " تقول: إن الله أنكحني في السماء". هو كقولها السابق: " وزوجني الله من فوق سبع سماوات "، وكثير ما تأتي "في" بمعنى "على" أي: إن زواجي صدر من الله -تعالى- حيث أمر رسوله به، وتولى عقد نكاحها عليه، والله في السماء. فإما أن تكون "في" بمعنى على، أو يراد بالسماء العلو، وكلاهما صحيح مستقيم جاءت به النصوص، قال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} (1) وقال -تعالى-: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء} (2) . ولما كان مستقراً في نفوس المخاطبين أن الله -تعالى- هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: " أنه في السماء" أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء ولهذا قالت: " من فوق سبع سماوات ". وكذلك الجارية، لما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم-: " أين الله؟ قالت: في السماء" (3) إنما أرادت: العلو، وإذا قيل: العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به، إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله -تعالى-. وكذلك إذا قيل: العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق، وإن قدر أن السماء المراد بها الأفلاك، وكان المراد أنه عليها، كما قال: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} (4) ، وقال: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (5) ، وقال: {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} (6) ، ويقال: فلان في الجبل، وفي   (1) جزء من الآية 15 من سورة الحج. (2) رواه مسلم وغيره. (3) رواه مسلم وغيره. (4) الآية 2 من سورة براءة. (5) جزء من الآية 71 من سورة طه. (6) الآية 137 من سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 السطح، وإن كان على أعلى شيء منه، فإن حرف "في" يتعلق بما قبله، وبما بعده، فيكون بحسب المضاف إليه. ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الماء في الإناء، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الكتاب، وكون العرش والجنة في السماء، فإن لكل نوع من هذه خاصة يتميز بها عن غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 50- قال: " حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد؛ عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي". قوله: " قضى الله الخلق" قضي: يأتي بمعنى حكم، وأمر، وقدر، وفرغ، وأمضى، وأتقن، ومعناها هنا: فرغ من خلق المخلوقات، فهو نحو قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أو فرغ من تقدير الخلق، ويدل لذلك الرواية الآتية في آخر الكتاب " قبل أن يخلق الخلق". وتقدم هذا الحديث في باب قول الله،: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} وقد غاير بين سنده هنا وهناك، وفي متنه بعض الاختلاف، ففي الرواية المتقدمة " لما خلق الله الخلق " وهنا " إن الله لما قضى الخلق"، وهناك "كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش، وهنا "كتب عنده، فوق عرشه" وهناك " إن رحمتي تغلب غضبي"، وهنا "سبقت غضبي". وقد مضى شرحه، والمقصود هنا، قوله: " عنده، فوق عرشه، " هذان ظرفان مختصان بالمكان، وقد أضيفا إلى الله -تعالى-، فلا بد أن هذه الإضافة تقتضي تخصيصاً للعرش على غيره من السماوات والأرض. "فإضافة العرش إلى الله إضافة مخصوصة، وقد قال -تعالى-: {عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (1) ، فإذا كان العرش مضافاً إلى الله في هذه الآية ونحوها إضافة اختصاص، فذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله -تعالى- من النسبة ما ليس لغيره، فما يذكره الجهمية من الاستيلاء، والقدرة، وغير ذلك، أمر مشترك بين العرش، وسائر المخلوقات" (2) . وما في هذا من قوله: " عنده فوق عرشه"، والآيات نحو {ذُو الْعَرْشِ} ، و {عَرْشَ رَبِّكَ} ينفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك بين سائر   (1) الآية 17 من سورة الحاقة. (2) "نقض التأسيس" (1/570-577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المخلوقات، كما تقوله الجهمية وأتباعهم، ويوجب اختصاصاً للعرش بالله ليس لغيره من سائر 339 المخلوقات، وقد علم المسلمون أنه استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، كما أخبرهم ربهم بذلك، ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-. وما نقله الحافظ عن الخطابي أن معنى "فوق العرش" أي: " عنده علم ذلك فهو لا ينساه، ولا يبدله" هو من تخبطات أهل التأويل، ويقال له: وهل علم الله يختص بهذا الكتاب، فهو الذي لا ينساه، ولا يبدله، وأما سائر الكون فليس عنده علمه أو ينساه ويبدله؟ إن الأجدى بالخطابي ومن يشتغل بالحديث أن يتبع كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يحمله على المذاهب الباطلة، بل يجب أن يصونه عن مثل هذه التحريفات الباردة. والحق أن قوله: "عنده فوق عرشه" على ظاهره، وأن كل تأويل له عن ظاهره، تبديل للمعنى الذي أراده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نؤمن إيماناً يقيناً قاطعاً - وكل المؤمنين- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحرص على عقيدة المسلمين، وعلى تنزيه الله -تعالى- من هؤلاء المحرفين لكلامه، وهو كذلك أقدر على البيان والإيضاح منهم، وهو كذلك أعلم بالله، وما يجب له وما يمتنع عليه من هؤلاء المتخبطين. فهذا كتاب خاص، وضعه عنده فوق عرشه، مثبتاً فيه ما ذكر؛ لزيادة الاهتمام به، ولا ينافي ذلك أن يكون مكتوباً أيضاً في اللوح المحفوظ. وهو كتاب حقيقة، كتبه -تعالى- كما ذكر لنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حقيقة، وهو عند الله حقيقة، فوق عرشه حقيقة، والمقصود أن الله، -تعالى- مستو على عرشه على الحقيقة، وعرشه فوق مخلوقاته كلها عالٍ عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 51- قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثني محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، حدثني هلال، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". قوله: " من آمن بالله ورسوله " هذا هو الأساس الذي يبنى عليه العمل، فلا بد من الإيمان بالله ورسوله أولاً قبل العمل، فكل عمل مشروط لصحته أن يكون العامل مؤمناً، قال الله -تعالى-: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} (1) . وقال -تعالى-: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه} (2) . وقد ذكر الله -تعالى- عن رسله الذين أرسلهم إلى الناس أنهم دعوهم إلى الإيمان بالله، وعبادته وحده، وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: " أمرت أن أقاتل   (1) الآية 40 من سورة غافر. (2) الآية 94 من سورة الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله " كما سبق، وتقدم حديث معاذ، حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وقال له: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " الخ. والإيمان بالله -تعالى- يدخل فيه الإيمان بأنه المالك لكل شيء، المتصرف كيف يشاء، وأنه الإله الحق، الذي يجب أن يعبد وحده، لا شريك له في ذلك، لا ملك ولا نبي، ولا أحد من الخلق مهما علت منزلته، وحسنت عبادته. ويدخل فيه الإيمان بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وأن يثبت له ما أثبته لنفسه، وأثبت له رسله، من غير تحريف ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. قوله: " وأقام الصلاة" إقامة الصلاة: الإتيان بها على وفق أمر الله -تعالى- وأمر رسوله، كاملة في أفضل أوقاتها. قوله: " وصام رمضان" الصيام في اللغة: هو الإمساك، وفي الشرع: إمساك مخصوص، عن أشياء مخصوصة، من طلوع الفجر، إلى غروب الشمس، تعبداً لله تعالى. قال الحافظ: وسقط ذكر الحج، على أحد الرواة؛ لأنه قد جاء ذكره في الترمذي، والحديث لم يذكر لبيان الأركان، فيجوز أنه اقتصر على ذكر البعض، لأنه هو المتكرر غالباً، وأما الزكاة فلا تجب إلا على من له مال، بشرطه، والحج لا يجب إلا مرة على التراخي" (1) . والمقصود من الحديث: أن من حصل له الإيمان بالله، وما يلزم له، من إيمان برسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، وبقضاء الله وقدره، مع التزام ما شرعه الله لعباده من الأمر، والنهي، وجاهد في سبيل الله، مع ما ذكر، استحق دخول الجنة على الله، ولا بد أن يوفي الله -تعالى- بذلك.   (1) "الفتح" (6/12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 قوله: " كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" قد تقدم الكلام على حق العباد على الله، في حديث معاذ، في الباب الأول، وهو حق أحقه الله -تعالى- على نفسه كما قال -تعالى-: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (1) . قال الحافظ: " ليس معنى ذلك، أنه لازم له، لأنه لا آمر له، ولا ناهي يوجب عليه، ويلزمه المطالبة به، وإنما معناه إنجاز ما وعد به من الثواب، وهو لا يخلف الميعاد" (2) . قلت: لا يلزم من كونه حقاً واجباً، أن يكون له آمر وناه يوجب عليه ذلك، بل هو -تعالى- الذي أوجبه على نفسه، فلا بد من وقوعه، كما أخبر -تعالى-. قوله: " هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها" الهجرة في اللغة هي: الترك، والمفارقة. والمقصود بها هنا: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، وهي واجبة على المسلم إذا خاف الفتنة في دينه، أو منع من ممارسة شعائر دينه، وإعلانه ظاهراً. وتكون الهجرة بالنية والقصد، وتكون باللسان، وبالبدن. قال الراغب: " الهجر، والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، قال -تعالى-: {واهجروهن في المضاجع} (3) كناية عن عدم قربهن. وقال تعالى: {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} (4) ، فهذا هجر بالقلب واللسان. وقوله: {واهجرهم هجراً جميلاً} (5) يحتمل الثلاثة، وقوله: {والرجز   (1) الآية 54 من سورة الأنعام. (2) "الفتح" (13/413) . (3) الآية 34 من سورة النساء. (4) الآية 30 من سورة الفرقان. (5) الآية 10 من سورة المزمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فاهجر} (1) ، حث على المفارقة بالوجوه كلها. والمهاجرة في الأصل: مصارمة الغير، ومتاركته، من قوله عز وجل: {والذين هاجروا وجاهدوا} (2) ، وقوله: {للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} (3) ، وقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله} (4) ، وقوله: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله} (5) ، فالظاهر منه: الخروج من دار الكفر، إلى دار الإيمان، كمن هاجر من مكة إلى المدينة" (6) . ويدخل في ذلك هجران المعاصي، والشهوات، والأخلاق الذميمة، وجميع المعاصي ورفضها واجتنابها. قال ابن القيم: " وللعبد في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب، والمحبة، والعبودية، والتوكل، والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، وصدق اللجاء. وهجرة إلى رسوله –صلى الله عليه وسلم- في حركاته وسكناته، الظاهرة، والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفضيل محاب الله، ومرضاته، ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه" (7) . وسبيل الله: طاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه، واتباع رسوله – صلى الله عليه وسلم-.   (1) الآية 4 من سورة المدثر. (2) الآية 218 من سورة البقرة. (3) الآية 8 من سورة الحشر. (4) الآية 100 من سورة النساء. (5) الآية 89 من سورة النساء. (6) "المفردات" (536-537) . (7) "طريق الهجرتين" (ص7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قوله: " أو جلس في أرضه التي ولد فيها" وفي رواية: " في بيته". والمعنى: أنه بقي في بلده يعبد ربه، ولا يشرك به شيئاً، ولم يهاجر إلى المدينة النبوية، وذلك أن الهجرة كانت فرضاً على كل قادر، فلما فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأصبحت جزيرة العرب كلها دار إسلام، إلا القليل، نسخت الهجرة لأجل ذلك، ولكن حكمها باق إلى يوم القيامة. قال الحافظ: " فيه تأنيس لمن حرم الجهاد، وأنه ليس محروماً من الجر، بل له من الإيمان والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة، وإن قصر عن درجة المجاهدين" (1) . قوله: " فقالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك؟ " رأوا أن هذا فيه بشارة للمسلمين، وتسهيل عظيم عليهم، في عدم لزوم الهجرة، فإن ترك الوطن، والأهل والأقارب، والمألوفات، كل ذلك يشق على النفس، ولا يقوى عليه كل أحد. قال الحافظ: " الذي خاطبه بذلك هو معاذ بن جبل – كما في رواية الترمذي- أو أبو الدرداء، كما وقع عند الطبراني، وأصله في النسائي، لكن فيه: فقلنا" (2) . قوله: " إن في الجنة مائة درجة " جاء في رواية الترمذي، عن معاذ، " قلت: يا رسول الله، ألا أخبر الناس؟ قال: " ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة" (3) . فظهر أن المراد: لا تبشر الناس بما ذكر من دخول الجنة، لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه، فيقفوا عند ذلك، ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد، وهذه هي النكتة في قوله: " أعدها الله   (1) "الفتح" (6/12) . (2) "الفتح" (6/12) . (3) انظر "السنن للترمذي" (4/82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 للمجاهدين"، وفي هذا تعقب على بعض شراح المصابيح، في قوله: " سوى النبي –صلى الله عليه وسلم- بين الجهاد في سبيل الله، وبين عدمه، وهو الجلوس في الأرض التي ولد فيها؛ لأن التسوية ليست على عمومها، وإنما هي في أصل دخول الجنة، لا في تفاوت الدرجات " (1) . وهذه الدرجات للمجاهدين في سبيل الله خاصة، ولا ينفي هذا وجود درجات أخر لغير المجاهدين في الجنة، كما جاء في "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صححه": يقال لصاحب القرآن: " اقرأ وارتق، ورتل، كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها" (2) وعدد آيات القرآن ست وثلاثون ومائتان وستة آلاف، على اختلاف في ذلك. ولهذا قال: " أعدها الله للمجاهدين في سبيله، قال ابن القيم: " يجوز أن تكون هذه المائة من جملة الدرج، ويجوز أن تكون نهايتها هذه المائة " (3) ، ورجح الأول. "الجهاد: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس" (4) ، وتدخل كلها في الجهاد في سبيل الله، ويشملها قوله -تعالى-: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم} (5) ونحوها من الآيات.   (1) "الفتح" (6/12) . (2) انظر " سنن أبي داود" (2/153) ، و "الترمذي" (4/248) ، "فضائل القرآن " (رقم 2915) . (3) "حادي الأرواح" (ص6) . (4) "المفردات" (ص101) . (5) الآية 218 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وقال الحافظ: " الجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً، بلغت المشقة، وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق". فأما مجاهدة النفس، على تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان، فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار، فتقع باليد، والمال، واللسان، والقلب. وأما مجاهدة الفساق: فباليد، ثم اللسان، ثم القلب" (1) . قوله: " كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض " المقصود بالدرجة: المنزلة المعدة لمن يستحقها من أهل الإيمان، والعمل، ودرجات الجنة كثيرة، كما تقدمت الإشارة إليه، ولا شك أن كل درجة تختلف عن التي دونها بما فيها من أنواع النعيم والحسن. وهذا التفاوت العظيم في الدرجات لتفاوت أعمال العاملين في الإيمان، والمقاصد، والخشية، والإخلاص، والمحبة، والإنابة، والجد، وكثرة العمل، وغير ذلك. قال الحافظ: " عند الترمذي: ما بين كل درجتين مائة عام، وللطبراني: خمسمائة عام، فإن كانتا محفوظتين، كان اختلاف العدد بالنسبة إلى اختلاف السير، وفي رواية للترمذي: لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم" (2) . وقال ابن القيم: لا تناقض بين تقدير ما بين الدرجتين، لاختلاف السير في السرعة، والبطء، والنبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر هذا تقريباً للأفهام" (3) .   (1) "الفتح" ج6 فاتحته. (2) المصدر نفسه (ص12-13) . (3) "حادي الأرواح" (ص61) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 قوله: " فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس"، الفردوس: اسم يطلق على جميع الجنة، ويطلق على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات. قال -تعالى-: {أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (1) . وقال -تعالى-: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً} (2) . وأصل الفردوس: البستان، والفراديس: البساتين، قال الليث: الفردوس: الجنة ذات الكروم، يقال: كرم مفردس، أي معرش. وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة بالأشجار، واختاره المبرد، وقال: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب. وقال مجاهد: هو البستان بالرومية واختاره الزجاج، وقال: حقيقته: البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين" (3) . وفي "اللسان": " الفردوس: البستان؛ قال الفراء: هي عربي، قال ابن سيده: الفردوس: الوادي الخصيب عند العرب، وهو بلسان الروم: البستان" (4) ، وذكر نحو ما تقدم. قوله: " فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة" قال الحافظ: " المراد بالأوسط   (1) الآيتان 10 و 11 من سورة المؤمنون. (2) الآية 107 من سورة الكهف. (3) "حادي الأرواح" (ص74-75) . (4) "لسان العرب" (2/1069) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 هنا: الأعدل والأفضل، كقوله -تعالى-: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} (1) ، فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد. وقال الطيبي: المراد بأحدهما: العلو الحسي، وبالآخر: العلو المعنوي. وقال ابن حبان: المراد بالأوسط: السعة، وبالأعلى: الفوقية " (2) . قلت: الظاهر أن المراد أن الفردوس، هو وسط الجنة، وهو أعلاها، على ظاهر النص، يعني: أن الجنان الأخرى عن جوانبه، ومن تحته، وهو أعلاها، ويدل على ذلك قوله: " وفوقه عرش الرحمن " فليس فوق الفردوس إلا عرش الرحمن - جل وعلا-، كما يدل عليه أيضاً قوله: " ومنه تفجر أنهار الجنة "؛ لأن الأنهار عادة تنبع من الأعلى، والله أعلم. قوله: " وفوقه عرش الرحمن " هذه الجملة هي المقصود من سياق الحديث؛ لأنه يدل على أن أعلى مخلوق هو العرش، وليس فوق العرش مخلوق، ولكن الرحمن - جل وعلا- فوقه. قال ابن خزيمة: " فالخبر يصرح أن عرش ربنا - جل وعلا - فوق جنته، وقد أعلمنا - عز وجل - أنه مستوٍ على عرشه، فخالقنا عالٍ فوق عرشه، الذي هو فوق جنته" (3) وذكر بسنده، عن عبد الله بن مسعود: " قال: ما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم" (4) .   (1) الآية 143 من سورة البقرة. (2) "الفتح" (6/13) . (3) كتاب " التوحيد" (ص104) . (4) كتاب " التوحيد" (ص105) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وذكر له طرقاً عدة، وهو صحيح، ورواه البيهقي عن أبي ذر مرفوعاً، قريباً من لفظه. (1) وعلو الله -تعالى- واستواؤه على عرشه، مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ومن تبعهم، ولم يخالف فيه إلا من هو منهم على الإسلام، أو مغرور بالتقليد لمن يحسن به الظن. " وأول من ابتدع بأن الله -تعالى- ليس فوق العرش في الإسلام هو الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وشيعتهما، وهم عند أئمة المسلمين من شرار أهل الأهواء، وقد أطلق السلف من القول بتكفيرهم ما لم يطلقوه على أحد، وقالوا: نحكي كلام اليهود، والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، كما قال عبد الله بن المبارك، وقالوا: اتفق المسلمون، واليهود، والنصارى، على أن الله -تعالى- فوق العرش، وقالت الجهمية: ليس الله فوق العرش" (2) .   (1) انظر: " الأسماء والصفات" (ص401) . (2) "نقض التأسيس" (1/127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 52- قال: " حدثنا يحيى بن جعفر، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم - هو التيمي - عن أبيه، عن أبي ذر، قال: " دخلت المسجد، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس؛ فلما غربت الشمس قال: يا أبا ذر، هل تدري أين تذهب هذه؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب تستأذن في السجود، فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، ثم قرأ: (ذلك مستقر لها) في قراءة عبد الله". قوله: " أتدري أين تذهب هذه؟ " هذا الأسلوب من التعليم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعمله مع أصحابه، وهو من الأساليب التي ترسخ المعلومات في الذهن؛ لأن المسئول يبقى بعده يتطلع إلى الجواب بإقبال ولهف، فإذا ورد عليه الجواب وهو بهذه الحال، ثبت في قلبه، ورسخ لديه، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. قوله: " ذلك مستقر لها" هذا تفسير لقوله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (1) ، قال ابن كثير: " فيه قولان: أحدهما: أن المراد: مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض، من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، وليس بكرة، كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قبة ذات قوائم، تحمله الملائكة، وهو فوق العالم، مما يلي رؤوس الناس، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك، وقت الظهيرة، تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارت في فلكها الرابع، إلى مقابلة هذا   (1) الآية 38 من سورة يس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 المقام، وهو وقت نصف الليل، صارت أبعد ما تكون من العرش، فحينئذ تسجد، وتستأذن في الطلوع، كما جاءت بذلك الأحاديث " ثم ذكر هذا الحديث بطرقه، ثم قال: " والقول الثاني: أن المراد بمستقرها" هو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتكور، وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا مستقرها الزماني" (1) . قوله: " تستأذن في السجود، فيؤذن لها" أي: تطلب من الله الإذن في مواصلة سيرها في حالة سجودها، فيأذن الله -تعالى- لها إلى الوقت الذي تستأذن، ثم لا يؤذن لها، فتبقي في مكانها، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فينعكس سيرها، حيث تطلع على الناس من المغرب، ولا بد أن تطلع على كل الناس من مغربها، وعند ذلك يؤمنون، ولكن لا ينفعهم إيمانهم، كما أخبر الله -تعالى- بذلك، وهذا إيذان بانقضاء هذه الدار. قال الكرماني: " القراءة المشهورة المتواترة هي: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وقراءة عبد الله بن مسعود: ذلك مستقرها" (2) . هكذا قال، والذي في "البخاري": مستقر لها، ولم يقرأ بها أحد من القراء. قال ابن كثير: " قرأ ابن مسعود، وابن عباس: (والشمس تجري لا مستقر لها) أي: لا قرار لها، ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر، ولا تقف" (3) . فعلى هذا يكون لابن مسعود فيها قراءتان، وافقه ابن عباس على إحداهما، وهما شاذتان. وقد ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث في بدء الخلق، وفيه " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش".   (1) "تفسير ابن كثير" (6/562-563) . (2) الكرماني (25/633) . (3) "تفسير ابن كثير " (6/563) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وسيأتي في آخر الباب بعد هذا، وفيه، " قال: مستقرها تحت العرش"، وذكر أيضاً هذين اللفظين في تفسير سورة يس، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للباب، فذكره لأجل ما فيه من قوله: " تذهب حتى تسجد تحت العرش"، وقوله: " مستقرها تحت العرش" في غير هذه الرواية هنا. قال الحافظ: " وأخرجه النسائي بلفظ: " تذهب حتى تنتهي تحت العرش، عند ربها" (1) ، وهو واضح في أن سجودها في أرفع ما تكون، وأقرب ما تكون إلى العرش، ومعلوم أنها دائماً تحت العرش، ولكن سجودها في مكان معين من مسيرها، وهو دليل واضح على العرش، وارتفاعه العظيم، وهذا هو مراد البخاري - رحمه الله - من الحديث، ومعلوم أن الله -تعالى- فوق العرش كما سبق. قال الحافظ: " قوله: تحت العرش" قيل: معناه: هي حين محاذاتها، ولا يخالف هذا قوله تعالى: {وجدها تغرب في عين حمئة} (2) ، فإن المراد بها: نهاية مدرك البصر إليها حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب". قال: " وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها: غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة ". وقيل: مستقرها: منتهى أمرها، عند انتهاء الدنيا. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش: أنها تستقر تحته استقراراً لا نحيط به نحن، وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق سيرها ودورانها فيه. قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار: وقوعه في كل ليلة ويوم عند سجودها، ومقابل الاستقرار: المسير المعبر عنه بالجري " انتهى (3) .   (1) "الفتح" (8/541) . (2) الآية 86 من سورة الكهف. (3) "الفتح" ملخصاً (8/542) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقال أيضاً: " وظاهر الحديث: أن الشمس هي التي تسير، وتجري. وقال ابن العربي: أنكر قوم سجودها، وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع من أن تخرج عن مجراها، فتسجد ثم ترجع. قلت: إن أراد بالخروج: الوقوف، فواضح، وإلا فلا دليل على الخروج" اهـ. (1) قلت: وكونها تسجد تحت العرش لا يقتضي مفارقتها لفلكها وانتظامها في مسيرها بالنسبة للأرض، فهي دائمة الطلوع على جزء من الأرض، والأوقات بالنسبة إلى أهل الأرض تختلف بمقدار سيرها. ومعلوم أن تعاقب الليل والنهار واختلافهما يترتب على مسيرها، فربما يقول قائل: أين سجودها تحت العرش؟ ومتى يكون؟ وسيرها مستمر، وبعدها عن الأرض لا يختلف في وقت من الأوقات كما أن سيرها لا يتغير، كما هو مشاهد. والجواب: أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، كما أخبر به الصادق المصدوق، وهي طالعة على جانب من الأرض، مع سيرها في فلكها، وهي دائماً تحت العرش، في الليل والنهار، بل وكل شيء من المخلوقات تحت العرش، لكنها في وقت من سيرها، وفي مكان معين، يصلح سجودها، الذي لا يدركه الخلق، ولكن علم بالوحي، وهو سجود يناسبها على ظاهر النص. أما التسخير: فهي لا تنفك عنه أبداً. والله أعلم. قال شيخ الإسلام: " فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أنها تسجد كل ليلة تحت العرش، فقد علم اختلاف حالها بالليل والنهار، مع كون سيرها   (1) "الفتح" (6/299) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 في فلكها من جنس واحد، وأن كونها تحت العرش لا يختلف في نفسه، وإنما ذلك اختلاف بالنسبة والإضافة، علم أن تنوع النسب والإضافة لا يقدح فيما هو ثبات في نفسه لا مختلف" (1) . يعني: أن اختلاف السير يكون بالنسبة لمن في الأرض، فهي تطلع على جانب منها وتغرب عن جانب آخر، مع أن سيرها في فلكها ليس فيه هذا الاختلاف، فلا يختلف سجودها باختلاف الليل والنهار؛ لأن هذا الاختلاف يكون بالنسبة إلى من في الأرض، وبالإضافة إليهم، أما هي فسجودها في مكان معين من سيرها، وفي وقت معين لا يختلف. ثم قال -رحمه الله -: " ومن هنا يظهر الجواب عما ذكره ابن حزم، وغيره في حديث النزول (2) ، حيث قالوا: قد ثبت أن الليل يختلف بالنسبة إلى الناس، فيكون أوله ونصفه وثلثه بالمشرق قبل أوله، ونصفه وثلثه بالمغرب، قالوا: فلو كان النزول هو النزول المعروف، للزم أن ينزل في جميع أجزاء الليل، إذ لا يزال في الأرض ليل، قالوا: أو لا يزال نازلاً وصاعداً، وهو جمع بين الضدين. وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله -تعالى- ما يتخيلونه من نزول أحدهم، وهذا عين التمثيل، ثم إنهم بعد ذلك جعلوه كالواحد العاجز منهم، الذي لا يمكنه أن يجمع من الأفعال ما يعجز غيره عن جمعه. وقد جاءت الأحاديث بأنه يحاسب خلقه يوم القيامة، كل منهم يراه مخلياً به، ويناجيه، لا يرى أنه متخلياً لغيره، ولا مخاطباً لغيره" (3) . وسيأتي - إن شاء الله تعالى - إيضاح الرد على شبههم هذه وغيرها في   (1) "بيان تلبيس الجهمية" (2/228) . (2) سيأتي شرحه - إن شاء الله تعالى -، وهذا الكلام محله شرح حديث النزول، ولكن لشدة ارتباطاه بما ذكر في سير الشمس أحببت إثباته هنا. (3) "بيان تلبيس الجهمية" (2/228) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 شرح الحديث. وفي "صحيح مسلم"، عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قول الله -تعالى-: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} قال: " مستقرها تحت العرش" (1) . وهذا يعين المقصود بالمستقر، وأنه: الموضع الذي تسجد فيه لربها، وتستأذن بمواصلة سيرها، وأن هذا يكون كل ليلة بالنسبة إلينا، ويجوز أن يكون بالنهار بالنسبة لغيرنا كأمريكا مثلاً. وقد روى مسلم هذا الحديث مبسوطاً مبيناً، حيث قال بعد ذكر السند: " عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال يوماً: " أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي، أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها، لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً" (2) . وقد ذكر الله -تعالى- في كتابه أن الشمس والقمر يسجدان له تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (3) .   (1) "صحيح مسلم" (1/39) . (2) "صحيح مسلم" (1/138) ، وانظر: " شرح النووي" (2/195) . (3) الآية 18 من سورة الحج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 53- قال: " حدثنا موسى، عن إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت. وقال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن ابن السباق، أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إلىَّ أبو بكر، فتتبعت القرآن، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (1) حتى خاتمة براءة ". زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان، النجاري، الأنصاري، أبو سعيد، ويقال: أبو خارجة، قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهو ابن إحدى عشرة سنة. وكان يكتب الوحي، قال الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين، الفرائض، والقرآن، وكان أحد أصحاب الفتوى من الصحابة. وقال مسروق: " قدمت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم"، وفضائله كثيرة، توفي سنة 4، وقيل: 51، وقيل: 55، وقيل غير ذلك" (2) . ومقصود البخاري - رحمه الله - من هذا الحديث: هو ذكر العرش في الآية الكريمة، حيث قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) .   (1) الآية 128 من سورة براءة. (2) "تهذيب التهذيب" (3/399) . (3) آخر آية من سورة براءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 قال الإمام ابن جرير - رحمه الله تعالى -: " يقول - تعالى ذكره - فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك، من قومك، فأدبروا عنك، ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى، فقل: {حَسْبِيَ اللهُ} يكفيني ربي {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري، ومعيني، على من خالفني وتولى عني ومن غيركم من الناس، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي يملك ما دونه، والملوك كلهم مماليكه، وعبيده. وإنما عنى بوصفه - جل ثناؤه - نفسه بأنه رب العرش العظيم: الخبر عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه، وسلطانه؛ لأن العرش العظيم إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه ذو العرش، دون سائر خلقه، وأنه المالك العظيم، دون غيره، وأن من دونه في سلطانه، وملكه، جار عليه حكمه وقضاؤه" (1) . وقال ابن كثير: " وهو رب العرش العظيم" أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ لأن العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات، وجميع الخلائق من السماوات والأرضيين وما فيهما وما بينهما، تحت العرش، مقهورون بقدرة الله -تعالى-، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل" (2) . وثبت عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن (3) . وقد تقدم أن تخصيصه -تعالى- العرش بأنه ربه، وإضافته إليه -تعالى- يدل على أمر زائد على ما في المخلوقات غيره من السماوات والأرض بأنه ربها.   (1) "تفسير الطبري" (11/77-78) بتحقيق محمود شاكر. (2) "تفسير ابن كثير" (4/179-180) ط الشعب. (3) انظر: المصدرين السابقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وكذلك وصفه إياه بأنه عظيم وكريم ومجيد، وهذه الأوصاف والإضافة لم تأت في غير العرش من المخلوقات؛ وهذا لأنه تعالى اختاره لقربه، واستوائه عليه. قوله: " حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره" يعني: أنه ما وجدها مكتوبة، مثبتة بالكتابة، إلا عند أبي خزيمة. وليس معنى ذلك أنه لم يحفظها إلا أبو خزيمة، فإن زيداً وأُبياً، وأبا بكر، وغيرهم من الصحابة، كانوا يحفظون القرآن كله، وهو يريد من كتبها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدون واسطة. قال الحافظ: " قوله: لم أجدها مع أحد غيره" أي: مكتوبة؛ لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما زيد كان يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة. ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها، كما تذكرها زيد، وفائدة التتبع: المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال الخطابي: هذا مما يخفى معناه، ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية بخبر الشخص الواحد، وليس كذلك، فقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت، وأبو خزيمة، وعمر". ثم علق الحافظ على كلام الخطابي بقوله: "وكأنه ظن أن قولهم: لا يثبت القرآن بخبر الواحد، أي: الشخص الواحد، وليس كما ظن، بل المراد بخبر الواحد: خلاف التواتر، فلو بلغت رواة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الخبر عدداً كثيراً، وفقد شيئاً من شروط المتواتر (1) ، لم يخرج عن كونه خبراً لواحد. والحق أن المراد بالنفي: نفي وجودها مكتوبة، لا نفي كونها محفوظة" (2) . ثم ذكر أحاديث تؤيد ما قال. وقال في موضع آخر: " والذي يظهر أن الذي أشار إليه أنه فقده، فقد وجودها مكتوبة، لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده، وعند غيره، ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن: " فأخذت أتتبعه، من الرقاع والعسب" (3) وقال أيضاً: " والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة - بالكنية- والذي وجد معه الآية من سورة الأحزاب خزيمة. وأبو خزيمة، قيل: هو ابن أوس بن يزيد بن أحرم، مشهور بكنيته، دون اسمه، وقيل: هو الحارث بن خزيمة. وأما خزيمة، فهو ابن ثابت ذو الشهادتين" (4)   (1) من كون الناقلين عدداً كثيراً، يمتنع تواطؤهم على الكذب، من أول السند إلى نهايته. (2) "فتح الباري" (9/15) . (3) "الفتح" (8/518) . (4) "الفتح" (9/15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 54- قال: " حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول عند الكرب: " لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم ". قوله: " يقول عند الكرب" الكرب - بفتح الكاف، وسكون الراء - قال الأزهري: "هو: الغم الذي يأخذ النفس، يقال: كربه الغم، وإنه لمكروب النفس، والكربة الاسم، والكريب: المكروب" (1) . وقال الجوهري: " الكربة بالضم: الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذلك الكرب، على مثال الضرب، تقول منه: كربه الغم، إذا اشتد عليه، والكرائب: الشدائد، الواحدة: كريبة" (2) . قوله: " كان يقول عند الكرب" كان: تدل على كثرة وقوع ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن لفظة "كان" تدل على الاستمرار غالباً. وقوله: " لا إله إلا الله " الإله هو: المعبود الذي تأله القلوب، وتذل له، وتحبه، وتعظمه، وتخافه، وترجوه، فالإله هو الذي يقصد بالخوف والرجاء، مع الذل والتعظيم، وكلما زاد الخوف والرجاء، والذل والتعظيم، صارت العبادة أكمل.   (1) "تهذيب اللغة" (10/205) . (2) "الصحاح" (1/211) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 قال شيخ الإسلام: " الإله هو: الذي يؤله، فيعبد، محبة وإنابة، وإجلالاً وإكراماً" (1) . فقوله: " لا إله إلا الله " أي: لا أتوجه بقلبي عابداً وخاضعاً، متذللاً، خائفاً، راجياً، إلا إلى الله وحده، فهو إلهي، ومعبودي، الذي يملك نفعي وضري، وبإخلاص التأله له كمال حياتي، وسعادتي، وفي عدم ذلك الشقاء والهلاك. "فالعبد كلما كان أذل لله، وأعظم افتقاراً إليه، وخضوعاً له، كان أقرب إليه وأعز له، وأعظم لقدره عنده، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله تعالى، فأما المخلوق فكما قيل: احتج لمن شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن لمن شئت تكن أميره. فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق: إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو بشربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته؛ ليكون الدين كله لله، لا يشرك به شيء. والرب -تعالى- أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه، وهو -تعالى- يعلم ما يصلح عبده، ويقدر على ذلك، ويريده، رحمة منه وفضلاً، وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريداً، راحماً، بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء" (2) . قوله: " العليم الحليم" أي: هو تعالى العظيم بكل شيء، فيعلم حالي. وما نزل به، ويعلم أسبابه، وما يترتب عليه، لا يخفى عليه خافية، فعلمه محيط بكل شيء.   (1) "مجموع الفتاوى" (1/22) . (2) "مجموع الفتاوى" (1/39-40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وهو -تعالى- حليم لا يعجل بالعقوبة لمن يستحقها، بل يعفو ويتجاوز، وحلمه عن علم وحكمة، فله -تعالى- الكمال المطلق قال -تعالى-: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً {42} سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {43} تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) . وكثيراً ما يأتي وصفه -تعالى- بالحلم مقروناً بالمغفرة، مما يدل على أن الحلم هو: عدم المعاجلة لمن استحق العقوبة، وأنه -تعالى- يحلم على عباده، ويغفر لهم جرائمهم، ولهذا أخبر -تعالى- أنه لو يؤاخذ الناس بظلمهم وما كسبت أيديهم ما ترك على ظهر الأرض من دابة، قال -تعالى-: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} (2) قوله: " لا إله إلا الله رب العرش العظيم " كرر التوسل بإلهيته تعالى، والتبري من كل ما سواه من مألوه، وهذا أعظم الوسائل إلى الله -تعالى-، وهو إخلاص العبادة والتوجه إلى الله بصدق، ورغبة، ورهبة. ولهذا صار إخلاص التأله والدعاء لله وحده، مفزع جميع العقلاء من المؤمنين والكفار، في كل كرب وشدة، كما ذكر الله -تعالى- هذا المعنى عن السابقين من الكفار، وغيرهم من أهل الإيمان. قال تعالى: {لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ   (1) الآيات من 42- 44 من سورة الإسراء. (2) الآية 61 من سورة النحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} (1) ، وقال -تعالى- عن الطاغية الجبار: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، وقال -تعالى-: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} (3) ، وقال -تعالى- عن نبيه يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وهذا كثير في القرآن، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك. قوله: " لا إله إلا الله رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم" هذا تكرير للتوسل إلى الله -تعالى- بألوهيته، وربوبيته، فبدأ بما يدل على إخلاص التأله له -تعالى-، ثم توسل باسميه الكريمين: العليم والحليم، ثم بأنه رب العرش العظيم، ثم بأنه رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم. فاشتمل هذا الدعاء العظيم على التوجه إلى الله -تعالى- بأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. والربوبية نوعان: عامة، وخاصة، فهو -تعالى- رب كل شيء ومليكه، المتصرف فيه كيف يشاء، وهو القائم على كل مخلوق بما يصلحه، ويربيه، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، وقد جمع النوعين في هذا الحديث، فتوسل بأنه رب العرش العظيم الكريم، وبأنه رب السماوات والأرض، والرب هو: المالك المتصرف، القائم على كل مربوب بما يحتاجه من تربية في شؤون حياته كلها. والمقصود من الحديث: قوله: " رب العرش العظيم" وقوله: " رب العرش   (1) الآيتان 63 و 64 من سورة الأنعام. (2) الآية 90 من سورة يونس. (3) الآية 8 من سورة الزمر. (4) الآية 87 من سورة الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 الكريم" وكلاهما وصف للعرش، وصف بأنه عظيم، وبأنه كريم، والعظمة تدل على الكبر، والسعة، والكرم يدل على الحسن، والجمال، والسعة أيضاً. قال الكرماني: "وصف العرش بالعظمة، هو من جهة الكمية، وبالكرم، أي: الحسن من جهة الكيفية، فهو ممدوح ذاتاً وصفة، وخص بالذكر لأنه أعظم أجسام العالم، فيدخل الجميع تحته دخول الأدني تحت الأعلى، وذكر لفظ " الرب" من بين سائر الأسماء الحسنى؛ ليناسب كشف الكروب، الذي هو مقتضى التربية، ولفظ "الحليم"؛ لأن كرب المؤمن غالباً إنما هو على نوع تقصير أو غفلة في الطاعات" (1) . وربوبيته -تعالى- للعرش، مع وصفه بأنه عظيم وكريم، تفيد تخصيصاً له عن غيره من السماوات والأرض، وذلك لأنه قد خصه بقربه، واستوائه -تعالى- عليه، ذكر شيخ الإسلام، عن أبي عمرو الطلمنكي – وهو من أئمة أهل السنة – أنه قال: " وأجمعوا – يعني أهل السنة والجماعة – على أن لله عرشاً، وعلى أنه مستوٍ على عرشه، وعلمه، وقدرته، وتدبيره بكل ما خلقه. قال: فأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (2) ، ونحو ذلك في القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه، كيف شاء. قال: وقال أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) : الاستواء من الله -تعالى- على عرشه المجيد، على الحقيقة، لا على المجاز. واستدلوا بقول الله -تعالى-: {فإذا استويت أنت ومن معك على   (1) "شرح الكرماني على البخاري" (21/149) . (2) الآية 4 من سورة الحديد. (3) الآية 5 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الفلك} (1) ، وبقوله: {لتستوا على ظهوره} (2) ، وبقوله: {واستوت على الجودي} (3) ، إلا أن المتكلمين من أهل الإثبات في هذا على أقوال: فقال مالك – رحمه الله تعالى -: إن الاستواء معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال عبد الله بن المبارك، ومن تابعه من أهل العلم، وهم كثير: إن معنى استوى على العرش: استقر. وهو قول القتيبي. وقال غير هؤلاء: استوى، أي: ظهر. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: استوى بمعنى: علا. وتقول العرب: استويت على ظهر الفرس، بمعنى: علوت عليه، واستويت على سقف البيت، بمعنى: علوت عليه. ويقال: استويت على السطح، بمعناه. فقوله تعالى: {استوى على العرش} بمعنى: علا على العرش. وقول الحسن (4) ، وقول مالك، من أنبل جواب وقع في هذه المسألة، وأشده استيعاباً، لأن فيه نبذ التكييف، وإثبات الاستواء المعقول، وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه، واستحسنوه" (5) . ثم تكلم على فساد قول من تأول استوى بمعنى استولى، وقد مضى ما يغني عن ذكره.   (1) الآية 28 من سورة المؤمنون. (2) الآية 13 من سورة الزخرف. (3) الآية 44 من سورة هود. (4) الحسن يقول: معنى استوى: ارتفع. (5) إلى هنا ينتهي كلام الطلمنكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ثم قال: " وقال الثعلبي: قال الكلبي، ومقاتل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يعني: استقر، قال: وقال أبو عبيدة: صعد. وقيل: استولى، وقيل: ملك، واختار هو (1) ما حكاه عن الفراء وجماعة أن معناه: أقبل على خلق العرش، وعمد إلى خلقه، قال: ويدل عليه قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (2) أي: عمد إلى خلق السماء. وهذا من أضعف الوجوه (3) ، فإنه قد أخبر أن العرش كان على الماء قبل خلق السماوات، والأرض، وكما مر في حديث عمران: " كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض ". فإذا كان العرش مخلوقاً، قبل خلق السماوات والأرض، فكيف يكون معنى استوائه عليه، بعد خلق السماوات والأرض، هو عمده إلى خلقه، مع أنه لا يعرف في اللغة "استوى" بمعنى: عمد إلى فعل كذا، لا حقيقة، ولا مجازاً، لا في النثر، ولا في النظم. ومن قال: استوى، بمعنى عمد، ذكره في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (4) ؛ لأنه عدى بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا، ولا قصدت عليه، مع أن هذا أيضاً غير معروف في اللغة، ولا هو قول أحد من مفسري السلف، بل المفسرون من السلف بخلاف ذلك.   (1) يعني الثعلبي، وهذه الأقوال منقولة من تفسيره، وهو يجمع فيه بين المتناقضات، وليس لديه تميز لمذهب السلف. (2) الآية 11 من سورة حم فصلت. (3) بل هو باطل مخالف للنصوص الواضحة، وقد تقدم بيان بطلانه. وهذا الذي اختاره الثعلبي هو قول الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الأشعرية وغيرهم من أهل البدع. (4) الآية 11 من سورة حم فصلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وإنما هذا القول وأمثاله ابتدع في الإسلام، لما ظهر إنكار أفعال الرب -تعالى- التي تقوم به، ويفعلها بقدرته، ومشيئته، واختياره، فصار كل يفسر القرآن على ما يوافق قوله، واعتقاده. وأما السلف فأقوالهم في هذا الباب متفقة، وإن اختلفت عباراتهم، فمقصودهم واحد، وهو إثبات علو الله واستوائه على عرشه. فإن قيل: إذا كان الله لا يزال عالياً على المخلوقات، فكيف يقال: ثم ارتفع إلى السماء وهي دخان؟ أو يقال: ثم علا على العرش؟ فالجواب: أن هذا كما أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يصعد، وروي: " ثم يعرج" وكما أخبر أنه يجيء لفصل القضاء بين عباده، وهو سبحانه لم يزل فوق، فإن صعوده من جنس نزوله ومجيئه، وهو –تعالى- في نزوله ومجيئه، لا يصير شيء من المخلوقات فوقه، فهو سبحانه يصعد، وإن لم يكن منها شيء فوقه. فإن قيل: فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقبل ذلك: هل كان على العرش، أو لم يكن؟ قيل: الاستواء علو خاص، فكل مستوٍ على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستو عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عالياً على غيره: إنه مستو عليه، ولكن كل ما قيل: إنه استوى على كذا، فهو عالٍ عليه. والذي أخبر الله -تعالى- أنه كان – خلق السماوات والأرض – الاستواء، لا مطلق العلو، مع أنه يجوز أنه كان مستوياً عليه قبل خلق السماوات والأرض، لما كان عرشه على الماء، ثم لما خلق هذا العالم كان عالياً على العرش، ولم يكن مستوياً عليه، ثم استوى عليه بعد ذلك (1) . والأصل أن علوه على المخلوقات، وصف لازم له، كما أن عظمته وكبرياءه   (1) أو يقال: إن الاستواء بعد خلق السماوات والأرض، استواء خاص غير الذي قبل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله سبحانه بمشيئته وقدرته، ولهذا قال فيه: ثم استوى" (1) . وقال ابن عبد البر: " وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى. فلا معنى له؛ لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا، إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله – عز وجل – إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم. ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه " (2) . وقد تقدم ذكر بعض ما قاله السلف والأئمة في ذلك، في أول الباب، والجواب عما اعتمده أهل التأويل.   (1) "مجموع الفتاوى" (5/519-523) ببعض التصرف. (2) "التمهيد" (7/131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 55- قال: " حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال النبي: " يصعقون يوم القيامة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش". 56- " وقال الماحشون: عن عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: " فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش". "الصعق: غشي يلحق من سمع صوتاً شديداً أو يرى شيئاً هائلاً مفزعاً" (1) . وفي الأبي: " الصعق، والصعقة، والصاعقة، والهلاك، والموت، وقيل: كل عذاب مهلك، وهو أيضاً: الغشية تعتري من فزع لسماع صوت {مفزع، أو رأى مهولاً} (2) " وقد اختلف في هذا الصعق المذكور في هذا الحديث: أهو نفخة الصور للبعث، أو غيرها؟ فقيل: أنها نفخة البعث؛ لأن النفخة الأولى، لا يحس بها الأموات، وإنما هي لموت من كان حياً، وإنهاء الدنيا، وابتداء الآخرة. ولكن يشكل على هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: " فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أو حوزي بصعقة الطور" ومعلوم أن موسى عليه السلام قد مات، فلا يجوز أن يكون المعنى: " فلا أدري: هل موسى مات، أم جوزي عن الموت بصعقة الطور". وقد اختلف في النفخ في الصور: هل هو مرتان أو ثلاث؟   (1) "الفتح" (6/444) . (2) " شرح الأبي على مسلم" (6/167) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قال الإمام ابن جرير – رحمه الله – في قوله تعالى: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} (1) اختلف في الصور في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان، إحداهما لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت، واعتلوا لقولهم ذلك، بقوله: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (2) وقال على قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (3) . اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله: {فإذا نفخ في الصور} من النفختين، أيهما عنى بها؟ فقال بعضهم: عنى بها النفخة الأولى. ثم ذكر عن ابن عباس: قال: فذلك في النفخة الأولى، فلا يبقى على الأرض شيء. وروي ذلك أيضاً عن السدي. ثم ذكر القول الثاني: أن المراد بذلك النفخة الثانية، وروي ذلك عن ابن مسعود وغيره" (4) وهذا الذي ذكره الطبري – رحمه الله – يدل على أن النفخ في الصور مرتين، الأولى لموت من كان حياً على وجه الأرض، والثانية لبعث الموتى. وعليه يكون الإشكال في الحديث ظاهراً، وسيأتي ذكر ألفاظ الحديث في "البخاري" و"مسلم".   (1) الآية 73 من سورة الأنعام. (2) الآية 68 من سورة الزمر. (3) "تفسير الطبري" (11/462) بتحقيق محمود شاكر. (4) "تفسير الطبري" (18/54) ط الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وقد أجاب القرطبي عن الإشكال بقوله: " المعنى: فلا أدري: أبعثه الله قبلي؟ تفضيلاً له، من هذا الوجه، كما فضل بالدنيا بالتكليم، أو كان جزاء له بصعقة الطور قدم بعثه على بعث الأنبياء، الآخرين، بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل؟ " (1) فعي هذا يكون المعنى في قوله: " أو جوزي بصعقة الطور" أي قدم بعثه عليَّ جزاء له بما حصل من صعقته في الطور، وهذا غير صحيح؛ لأمور عدة: منها: أن الحديث على هذا يصبح فيه تكرار لا معنى له، إذ لا يكون المعنى على قول القرطبي: " فلا أدري أبعث قبلي؟ أو جوزي ببعثه قبلي بصعقة الطور". ومنها: أن ظاهر الحديث يرد هذا؛ لأن قوله: " فلا أدري أبعث قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور؟ " ظاهره: فلا أدري أصعق فبعث قبلي؟ أم أنه لم يصعق، وإنما جوزي عن الصعق بصعقة الطور؟ ولهذا لم يقتنع القرطبي بهذا الجواب، فذكر جواباً آخر – سيأتي- ثم قال: وقال شيخنا أحمد بن عمر: وظاهر حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية، نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولهذا قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون موسى – عليه السلام – ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل بما صح من النصوص بذكر موته. قال: وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع، بعد النشر، حين تنشق السماوات والأرض، قال: فتستقل الأحاديث والآيات، والله أعلم. ثم قال: قال شيخنا أبو العباس: وهذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه   (1) التذكرة (1/208) ، وهو أخذ هذا عن الحليمي كما في المنهاج، انظر: الورقة 214 من المخطوطة، وانظر المطبوع (1/432) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 السلام حين يخرج من قبره يلقى موسى، وهو متعلق بالعرش، وهذا عند نفخة البعث. قلت: وسيأتي ما يوضح ذلك في روايات الحديث التي أذكرها، - إن شاء الله -. ثم قال: " قال شيخنا أحمد بن عمر: والذي يزيح هذا الإشكال – إن شاء الله تعالى – أن الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم، أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين، مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا. وإذا كان هذا في الشهداء، كان الأنبياء بذلك أحق، وأولى، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السماوات والأرض، إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق" (1) . قلت: وحاصل هذا الجواب: أن الصعقة المذكورة في الحديث هي الأولى، وأن الصعق يكون للأرواح، كل ذلك باطل؛ لأنه سيأتي أن الحديث ينص على أنها نفخة البعث، ومعلوم أن الأرواح لا تموت، فكيف يكون صعق غير الأنبياء موت مع أنه زعم أن الصعق للأرواح، وكل ذلك يفتقر إلى دليل، والأدلة خلافه. ولهذا قال ابن القيم: " وحمل الحديث على هذا لا يصح، لأنه –صلى الله عليه وسلم- تردد: هل أفاق موسى قبله، أو لم يصعق، بل جوزي بصعقة الطور؟ فالمعنى: لا أدري: أصعق أم لم يصعق؟ وقد قال في الحديث: " فأكون أول من يفيق"، وهذا يدل على أنه –صلى الله عليه وسلم- يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى، هل صعق وأفاق قبله من صعقته، أو لم يصعق؟   (1) "التذكرة" (1/208-209) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ولو كان المراد به: الصعقة الأولى، وهي صعقة الموت، لكان – صلى الله عليه وسلم- قد جزم بموته، وتردده: هل مات موسى، أو لم يمت، وهذا باطل؛ لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع، لا صعقة موت، والآية لا تدل على أن الأرواح كلها تموت، عند النفخة الأولى، وإنما تدل على أن من لم يذق الموت قبلها يموت، وأما من مات، أو من لم يكتب عليه الموت، فلا يموت " (1) . وقال السفاريني: " وصعق الأرواح عند النفخ في الصور، لا يلزم منه موتها. ففي "الصحيحين": " أن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور؟ ". فهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ، يصعق الخلائق كلهم، قال تعالى: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} (2) . ولو كان هذا الصعق موتاً، لكانت موتة أخرى " (3) ثم ذكر كلام ابن القيم السابق، وقال ابن القيم بعد ما قرر أن هذا الصعق المذكور، إنما هو في الموقف، إذا جاء رب العالمين – جل وعلا – لفصل القضاء بين عباده. قال: " فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله في الحديث: " إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش"؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي، حديث في حديث، فركب بين اللفظين، فجاء هكذا، والحديثان هكذا أحدهما:   (1) "الروح" (ص36) . (2) الآية 45 من سورة الطور. (3) "لوامع الأنوار البهية" (2/38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 " أن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق". والثاني: " أنا أول من تنشق عنه الأرض، يوم القيامة "، فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر، وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يقول ذلك " (1) . قلت: وهذا احتمال بعيد جداً، ويحتاج إلى دليل، ولا وجود له، إذ لا يجوز تخطئة الراوي بمجرد إشكال يعرض للإنسان في لفظ الحديث، فما قال ابن القيم – رحمه الله – هنا غير صحيح، وسيتبين ذلك عند ذكر روايات الحديث. فلفظ حديث أبي سعيد في "البخاري": " لا تخيروا الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري: أكان فيمن صعق؟ أم حوسب بصعقته الأولى " (2) ثم رواه في أماكن متعددة من "صحيحه" بألفاظ متقاربة، ليس فيها: " فأكون أول من تنشق عنه الأرض" إلا في هذا الموضع. ولكن في رواية أبي هريرة: أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تفضلوا بين أولياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقته يوم الطور، أم بعث قبلي؟ " (3) . قال الحافظ: " وقع في رواية: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية "، وفي أخرى: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" (4) . ورواه في "التفسير" بسند آخر، مختصراً، ولفظه: " إني أول من يرفع   (1) "الروح" (ص37) . (2) انظر: " البخاري مع الفتح " (5/70) . (3) انظر: " الفتح" (6/451) . (4) "الفتح" (6/444) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 رأسه، بعد النفخة الأخيرة، فإذا أنا بموسى، متعلق بالعرش، فلا أدري، أكذلك كان، أم بعد النفخة" (1) ثم ذكره معلقاً في الموضع نفسه بلفظ: " فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش" ورواه مسلم، ولفظه: " لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله – قال- ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، أو في أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقة يوم الطور، أو بعث قبلي؟ ". ثم رواه بسند آخر – وفيه: " فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق" (2) . وأما حديث أبي سعيد المتقدم، في ذكر الانشقاق، فقد رواه أيضاً الإمام أحمد، فقال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " لا تخيروا بين الأنبياء، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأفيق، فأجد موسى متعلقاً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري: أجزي بصعقة الطور، أو أفاق قبلي؟ " (3) . وذكر الحافظ أن في رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة – عند ابن مردويه-: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأنفض التراب عن رأسي، فآتي قائمة العرش فأجد موسى قائماً عندها، فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله" (4) . فهذه الرواية تدل على أن الصعق المذكور هو النفخة الثانية في الصور، فإن قوله في رواية أبي هريرة: " فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات   (1) "الفتح" (8/551) . (2) "مسلم" (4/1844) رقم (2373) . (3) "المسند" (3/33) . (4) "الفتح" (6/445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بالعرش" وفي الرواية الأخرى: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش"، وفي أخرى: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الثانية ". وفي رواية مسلم: " ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث". فهذا واضح وصريح في أن المقصود: البعث من الموت الحاصل بنفخ الصور النفخة الثانية، وبه يتبين أن ما قاله القرطبي وغيره مما سبق ذكره، وكذا ما ذهب إليه ابن القيم، كله غير صحيح كما سبق، وكذا قول الحليمي في "المنهاج": "أن ظاهر الحديث أن هذه صعقة غشي يوم القيامة، لا صعقة الموت، الحادث عن نفخ الصور" (1) مردود بما صرحت به الروايات المذكورة. الصواب ما نصت عليه هذه الروايات من أن موسى عليه السلام يبعث قبل نبينا –صلى الله عليه وسلم-، وأما تردده: أأصابه الصعق فبعث قبله، أو كان ممن استثنى الله – تعالى-، أو جوزي عن الصعق بصعقة الطور، كل ذلك يقتضي أنه بعث قبله. ولكن يبقى الإشكال في أن النفخة التي استثنى الله -تعالى- منها هي الأولى، ومعلوم أن موسى عليه السلام قد مات قبلها، فكيف يصح استثناؤه منها؟ فيقال: وكذا نبينا –صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء لا ينالهم ذلك، وإنما ينال من كان حياً في ذلك الوقت، ويكون الأقرب ما قاله الحليمي: " أن المعنى: إذا نفخ في الصور مرة أخرى، كنت أول من بعث، فأجد موسى مبعوثاً قبلي، فلا أدري: أفضل بذلك على سائر الخلق، أو أن ذلك جزاء له بصعقة الطور؟ " (2) .   (1) انظر: " المنهاج" المخطوط رقم 214، وانظر: المطبوع (1/432) وهو كثير التحريف. (2) انظر: " المنهاج" الورقة 214، أو المطبوع (1/432) وهذا معنى كلامه وليس لفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وهذا بناء على أن النفخ في الصور مرتان، وهو الذي تؤيده الأدلة الصحيحة، كما مر في هذه الروايات السابقة. قال الحافظ: " ثبت في "صحيح مسلم" أنهما نفختان، ولفظه في أثناء حديث مرفوع: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً، ثم يرسل الله مطراً كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون". وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه: " بين النفختين أربعون"، وفي ذلك دلالة على أنهما نفختان فقط، والتغاير في كل منهما باعتبار من يسمعهما، فالأولى: يموت بها كل من كان حياً، ويغشى على من لم يمت ممن استثنى الله تعالى، والثانية: يعيش بها من مات، ويفيق بها من غشي عليه" (1) . وقد ذهب إلى أنها ثلاث نفخات بعض العلماء، كالحافظ ابن كثير، وحمل قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} على أنها نفخة الفزع، وممن ذهب إلى ذلك القرطبي وابن العربي وغيرهما، وعمدتهم في ذلك حديث الصور، حيث صرح فيه أن النفخات ثلاث، ولكنه حديث ضعيف مضطرب، كما بينه الحافظ ابن حجر – رحمه الله – فلا يعتمد عليه لذلك، وآية الزمر واضحة الدلالة في أن النفخ في الصور مرتين. وأما قوله تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض} فالظاهر أنها النفخة الأولى، ذكرها بمقدماتها، ومما يدل على أنها نفختان فقط: قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة} . قوله: " فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش " وفي رواية أبي هريرة: " آخذ بالعرش" أي: أنه –صلى الله عليه وسلم- يجد موسى عليه السلام بعد ما بعث، ممسكاً بأحد قوائم العرش، والمراد بالعرش: عرش رب العالمين.   (1) انظر " فتح الباري" (11/369-370) و (6/446) ، وانظر: الحديث الذي يشير إليه في "صحيح مسلم" (4/2258، 2259) رقم (2940) ، وانظر: حديث أبي هريرة في "البخاري مع الفتح" (8/551، 689) ، وفي "مسلم" (4/2270) رقم (2955) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ففي هذا فضل لموسى عليه السلام، حيث بعث قبل نبينا –صلى الله عليه وسلم- وهذه القبلية إما مجرد فضيلة خصه الله بها كما خص بالتكليم، وإما جزاء بالصعقة التي أصابته، يوم سأل ربه الرؤية عندما تجلى الله -تعالى- للجبل، والله أعلم. ومما تقدم من النصوص التي ذكرها البخاري – رحمه الله – هنا وغيرها، يعلم أن الله -تعالى- خص العرش من بين مخلوقاته، بأنه استوى عليه، وأنه فوق جميع المخلوقات، وأنه له حملة، ويوم القيامة، وأنه -تعالى- تعبد من شاء من ملائكته بأن يحفوا به، ويطوفوا به، وأن حملته ومن حوله من الملائكة يسبحون الله -تعالى- ويستغفرون للمؤمنين، وأنه أول المخلوقات المعلومة لنا، فقد أخبر تعالى أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما قال -تعالى-: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} (1) . وأنه- تعالى – كان ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض. وقد تقدم ذكر حديث عبد الله بن عمرو: " إن الله قدر مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" وهو في "صحيح مسلم". كما في هذه النصوص، وصف العرش بأنه عظيم، وأنه كريم، وأنه مجيد. وكثيراً ما يمدح الله -تعالى- نفسه بأنه ذو العرش، كما قال -تعالى-: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً (42) سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً (43) تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده لكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} (2) .   (1) الآية 7 من سورة هود. (2) الآيات 42و 43و 44 من سورة الإسراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وقال -تعالى-: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (1) ، وقال – جل وعلا-: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ {14} ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} (2) ، وقال -تعالى-: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (3) ، إلى غير ذلك. كما جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أنه أثقل الأوزان، كما في قوله –صلى الله عليه وسلم- لجويرية: " لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" (4) . كما في النصوص المتقدمة أنه سقف أعلى الجنان، وهي الفردوس، وأن له قوائم، وغير ذلك مما بينته النصوص التي جاءت بها الرسل، وكل ذلك يدل على أن الله فوق العرش مستوٍ عليه، وقد اتفق على هذا الأنبياء كلهم، وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف، إلا من ضل الحق واتبع غير سبيل المؤمنين من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم.   (1) الآية 15 من سورة غافر. (2) الآيتان 14 و 15 من سورة البروج. (3) الآية الأخيرة من سورة براءة. (4) "صحيح مسلم" (4/2090) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 قال: " باب قول الله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (1) ، وقوله - جل ذكره-: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب} (2) . قال الأزهري: في عرج: " قال الله - جل وعز -: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، أي: تصعد، يقال: عرج، يعرج، عروجاً. وقوله - جل وعز -: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (3) ، قال قتادة: ذي المعارج: ذي الفواضل، والنعم، وقيل: معارج الملائكة، وهي مصاعدها التي تصعد وتعرج فيها، ذكر ذلك أبو إسحاق. وقال الفراء: ذي المعارج، من نعت الله؛ لأن الملائكة تعرج إلى الله، فوصف نفسه بذلك (4) . وقال الليث: عرج يعرج، عروجاً، ومعروجاً، قال: والمعرج: المصعد، والمعرج: الطريق الذي تصعد فيه الملائكة.   (1) الآية 4 من سورة المعارج. (2) الآية 10 من سورة فاطر. (3) الآية 3 من سورة المعارج. (4) انظر: " معاني القرآن " للفراء (3/184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 قال: والمعراج: يقال: شبه السلم، أو درجة، تعرج فيه الأرواح، إذا قبضت" (1) . وقال الجوهري: " عرج في الدرجة، والسلم، يعرج، عروجاً: إذا ارتقى. والمعراج: السلم، ومنه: ليلة المعراج، والجمع: معارج، ومعاريج" (2) . وقال الراغب: " العروج: ذهاب في صعود، قال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (3) ، {فظلوا فيه يعرجون} (4) ، والمعارج: المصاعد، قال: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (5) ، وليلة المعراج، سميت لصعود الدعاء فيها، إشارة إلى قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} (6) ". قوله: سميت، لصعود الدعاء فيها، يعني: المعارج سميت لذلك، ولا يعني ليلة المعراج. وقال الطبري، في قوله -تعالى-: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} (7) : " وأما قوله: {يعرجون} ، فإن معناه: يرقون فيه، ويصعدون، يقال منه: عرج يعرج، عروجاً: إذا رقي وصعد" (8) .   (1) "تهذيب اللغة" (1/355) . (2) "الصحاح" (1/328) .. (3) الآية 4 من سورة المعارج. (4) الآية 14 من سورة الحجر. (5) الآية 3 من سورة المعارج. (6) "المفردات" (ص329) . (7) الآية 14 من سورة الحجر. (8) "تفسير الطبري" (14/11) ط. الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وقال في قوله -تعالى-: {ذي المعارج} : يعني: ذا العلو، والدرجات، والفواضل والنعم" – ثم روى ذلك عن ابن عباس، وقتادة، وروى عن مجاهد، قال: معارج السماء. ثم قال: " وقوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} : يقول –تعالى ذكره- تصعد الملائكة، والروح – وهو جبريل – عليه السلام {إليه} يعني: إلى الله – جل وعز- والهاء في قوله: {إليه} عائدة على اسم الله " (1) . قوله: {والروح} هو: جبريل هذا هو الظاهر من سياق الآية، فيكون من عطف الخاص على العام. وقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} قال مجاهد: " العمل الصالح يرفع الكلم الطيب". قال الحافظ: " وصله الفريابي من رواية ابن نجيح، وأخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " الكلم الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائض الله فمن ذكر الله، ولم يؤد فراضه، رد كلامه" (2) ورواه ابن جرير. (3) قلت: أثر مجاهد، رواه ابن جرير في "تفسيره"، ولفظه: " الكلام الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عليه ذكر الله، فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله، فكان أولى به ".   (1) "تفسير الطبري" (29/70) . (2) "الفتح" (13/416) . (3) "تفسير الطبري" (22/121) ط. الحلبي، وانظر: " الأسماء والصفات" (ص426) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وقال ابن جرير: {إليه يصعد الكلم الطيب} يقول -تعالى ذكره -: إلى الله يصعد ذكر العبد إياه وثناؤه، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به " (1) ثم روى عن ابن مسعود أنه قال: " إذا حدثناكم بحديث، أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله -تعالى-، إن العبد المسلم، إذا قال: سبحان الله وبحمده، الحمد لله، لا إله إلا الله والله أكبر، تبارك الله، أخذهن ملك، فجعلهن تحت جناحيه، ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة، إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن - ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) ". ثم روى قول مجاهد الذي ذكره البخاري، وروى عن الحسن، وقتادة: " لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، من قال وأحسن العمل، قبل الله منه" (3) . ومقصود البخاري بهذا الباب: ذكر بعض الأدلة على علو الله -تعالى-، وبيان أن ذلك ثابت بكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبالعقل، والفطرة، فقد فطر الله تعالى العباد على الإيمان بذلك، وآمن الصحابة به، واتبعهم عليه كل من سلك طريق الرسل. فالإيمان بعلو الله -تعالى- وفوقيته، فطري عقلي شرعي، ومن خالف ذلك فقد انحرف عن طريق الرسل، وسلك في ذلك غير سبيل المؤمنين. ولبيان أن الإيمان بذلك فطري، عقلي، ذكر قول أبي ذر، قبل أن يسلم، أنه قال لأخيه: " أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء " كما يأتي بيانه.   (1) "تفسير الطبري" (22/120) . (2) المرجع السابق. (3) "الطبري" (22/121) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ومعلوم أن الخبر، لا يأتي إلا من مخبر، والمخبر الذي يرسل الرسل بأوامره، ونواهيه، هو الله – جل وعلا – وهو في السماء، أي في العلو، بائن من خلقه. وهذه المسألة من كبار مسائل العقيدة الإسلامية، ومع ظهورها، وكثرة الأدلة عليها وتنوعها، واتفاق الرسل والكتب وأتباع الرسل عليها، ضل فيها طوائف كثيرة كالجهمية، والمعتزلة، وأكثر الأشعرية، ولا يزال على الضلال فيها خلق كثير ممن يتبنى مذهب الأشعرية، والماتريدية، معتقدين أن ذلك الضلال هو الحق وأنه مذهب أهل السنة، وأن أدلة كتب الله ووحيه إلى رسله ظواهر تدل على التشبيه بظاهرها، فلهذا يجب صرفها عن ذلك الظاهر. ويرى هؤلاء من اعتقد ما دل عليه القرآن والسنة بظاهرهما، أنه مشبه ومجسم، مع أن العقل والفطر السالمة من الانحراف، يتفقان على ما دل عليه وحي الله -تعالى-، ولهذا ترمي الأشعرية كل من اعتقد علو الله واستواءه على عرشه على الحقيقة، بالتشبيه، والتجسيم، وأحياناً يصرحون بكفرهم كما هو عقيدتهم في قرار نفوسهم، ومع هذا ترى كثيراً منهم رافعاً عقيرته داعياً إلى الاتفاق والوئام، وهذا لن يكون أبداً ما دام في الأرض معتقد للحق؛ لأنه لا اتفاق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، وكيف يكون اتفاق مع من يرى أن من اعتقد ما دلت عليه النصوص الصريحة، الواضحة الكثيرة، أنه ضال ومشبه؟ كما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. قوله: " وقال أبو جمرة: عن ابن عباس، لما بلغ أبا ذر مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال لأخيه: أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء ". هذا التعليق قد تقدم تاماً موصولاً، في " المناقب"، وفي "الفضائل" (1) . ومقصوده من ذلك: بيان أن علو الله -تعالى- على خلقه، أمر مفطور عليه الخلق، ومعلوم بالعقل، والوحي جاء مؤيداً لذلك، وموضحاً له.   (1) انظر: " الفتح" (6/549) و (7/173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 57- قال: " حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". "يتعاقبون": التعاقب: إتيان فريق، عقب فريق، ثم يعود الأول، بعد إتيان الثاني. وإنما يكون التعاقب بين طائفتين، أو رجلين، ومنه: تعقيب الجيوش، بأن يرسل طائفة من الجيش إلى مدة، ثم يرسل مكانهم طائفة أخرى، ويرجع الأولون. والضمير في قوله "فيكم" يعود إلى المخاطبين، وهم الأمة المستجيبة للرسول –صلى الله عليه وسلم -. والأظهر أن هؤلاء الملائكة غير الحفظة، كما قاله القرطبي، وأيده الحافظ، بأنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل، غير حفظة النهار، وبغير ذلك. (1) "ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر" أي: يجتمع في صلاة العصر الهابطون ليبيتوا مع العباد، والذين كانوا معهم في النهار، فالفريقان يحضران صلاة العصر، وصلاة الفجر، فيصعد الذين صحبوا العباد بالنهار،   (1) انظر: " الفتح" (2/34-35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 عقب صلاة العصر، ويبقى الذين يبيتون معهم ليلاً، ثم بعد اجتماع الفريقين أيضاً في صلاة الفجر يصعد الذين باتوا مع العباد، ويبقى الذين نزلوا في صلاة الفجر من السماء. والله -تعالى- يسأل كل فريق عن العباد، كيف تركتم عبادي، أي: على أي حال تركتموهم؟ - وهو جل وعلا – أعلم من الملائكة المصاحبين لهم بهم، ولكن يسأل –تعالى- الملائكة عنهم؛ لإظهار كرامتهم، فضلاً منه، وإحساناً إليهم، وبهذا يعلم أهمية المحافظة على هاتين الصلاتين في الجماعة. قوله: " ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم – وهو أعلم – كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم، وهم يصلون". تقدم معنى العروج، وأنه: الصعود، والارتفاع، والذهاب إلى العلو، وهذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن السؤال حصل بعد صعودهم، حيث يصلون إلى المكان المحدد لهم، والله –تعالى- فوقهم، وهو –تعالى- يخاطبهم بذلك، بدون واسطة، كما هو ظاهر النص، ولو كان ذلك بوحي لم يكن هناك فرق بين كونهم في السماء، أو في الأرض. وهذا الحديث يتفق في المعنى مع قوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وكأن البخاري يشير بذلك إلى تفسيرها، وأن عروج الملائكة المذكور في هذا الحديث، داخل في مدلولها. ودل قوله: " وهم أعلم بهم" أن المقصود من السؤال: إظهار كرامة المؤمنين من بني آدم، بطاعتهم لربهم، وعبادتهم إياه، والتنويه بفضلهم عند الملائكة الذين في السماء، والملائكة المسؤولون فهموا من الله-تعالى- ما أرادوه، ولهذا قالوا في الجواب: " تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". وفي هذا دليل على أن من جلس في مصلاه، يذكر الله ويدعوه، أنه في صلاة، لأن الملائكة يحضرون الصلاة معهم، وبعد الفراغ منها يصعدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 قال الحافظ: " ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة، بورك في رزقه، وفي عمله. ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما، والاهتمام بهما. وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره. وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان. وفيه الإخبار بما نحن فيه، من ضبط أحوالنا، حتى نتيقظ، ونتحفظ في الأوامر والنواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا، وسؤال ربنا عنا. وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا، لنزداد فيهم حباً، ونتقرب إلى الله -تعالى- بذلك. وفيه كلام الله -تعالى- مع الملائكة، وغير ذلك من الفوائد " (1) . وفيه كثرة الملائكة، وأن لكل منهم وظائف مكلفون بها، وبيان نصحهم لبني آدم، وحبهم الخير لهم، وأن استقرارهم في السماء، وإنما ينزلون إلى الأرض حسب أوامر الله لهم.   (1) "الفتح" (2/37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 58- قال: " وقال خالد بن مخلد: حدثنا سليمان، حدثني عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل ". " الصدقة: ما يخرجه الإنسان من ماله، على وجه القربة، كالزكاة، لكن الصدقة –في الأصل – تقال للمتطوع به، والزكاة للواجب، وقد يسمى الواجب صدقة إذا تحرى صاحبها الصدق في فعلها " (1) . وسميت صدقة، من الصدق؛ لأنه تدل على صدق إيمان المتصدق غالباً. قوله: " بعدل تمرة" بفتح العين، قال القاضي عياض: " العدل – بالفتح – المثل وما عادل الشيء، وكافأه، من غير جنسه، وبالكسر: ما عادله من جنسه وكان نظيره، وقيل: الفتح والكسر لغتان فيها، وهو قول البصريين" (2) . والمعنى: من تصدق بقدر تمرة، أو بقيمتها. قوله: " من كسب طيب " أي: تصدق بمال حلال، جيد، وإن كان قليلاً. " ولا يصعد إلى الله إلا الطيب" تقدم هذا الحديث في الزكاة بسند   (1) "المفردات " للراغب (ص278) . (2) "المشارق" (2/69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 متصل غير هذا، وفيه "ولا يقبل الله إلا الطيب" (1) . فالذي يقبله الله -تعالى- يصعد إليه، فيبارك به لصاحبه، وينميه. وهذه الجملة من الحديث هي المقصود منه هنا، حيث دل على علو الله -تعالى- وأنه فوق، وما قبله الله من الأعمال، فإنه يصعد إليه، وقد تقدم أن الملائكة تصعد إلى الله -تعالى- وتعرج إليه، والصعود والعروج سواء في المعنى، كما تقدم في كلام ابن جرير. وقد اختار البخاري بعض النصوص في هذا الباب، التي فيها ذكر الصعود والعروج ونحوهما؛ لوضوح الدلالة في ذلك على علو الله –تعالى- كما أنه نوع الأدلة في ذلك كما تقدم للإيضاح، وأدلة علو الله -تعالى- كثيرة جداً ومتنوعة، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك. قوله: " فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوه"، أي: أن الله -تعالى- يقبلها من صاحبها، فيأخذها بيده اليمنى، وكلتا يديه يمين، فينميها لصاحبها، ويبارك فيها، ويعتني بها عناية بالغة، كما يعتني أحدنا بأغلى ما لديه من المال، وأنفسه، وهو ولد الفرس، الذي يعد لمدافعة الأعداء وقتالهم، وحماية الأعراض، والنفوس، والأموال، حتى يصير ما هو بقدر التمرة – لشدة عناية الله تعالى به – مثل الجبل. وقد تخبط شراح الحديث ممن سلك طريق الأشاعرة، في شرح هذه الجملة، وجاؤوا بما ليس له وجه، مع أن المتكلم به قد أعطي من الفصاحة والبيان والنصح للسامع، والحرص على وصول الخير إليه، ما ليس عليه مزيد، فيجب أخذ كلامه على ظاهره، والإيمان به، وإحسان الظن به، فهو – صلوات الله وسلامه عليه – أقدر على إيضاح ما يريد من هؤلاء، كما أنه –صلى الله عليه وسلم- أعلم بالله منهم، فليس   (1) انظر: " الفتح" (3/378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 كلامه بحاجة إلى تلك التأويلات الباردة (1) ، والتمحلات المتكلفة، كالتي ذكر ابن حجر – عفا الله عنا وعنه -.   (1) انظر: بعض ما قاله هؤلاء المؤولة في "فتح الباري" (3/280) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 59- ثم ذكر حديث ابن عباس: في دعاء الكرب. وقد تقدم في الباب قبل هذا، وفيه اختلاف في سنده ومتنه، كما هي عادته. والمقصود منه هنا قول: " رب العرش العظيم" وقوله: " رب العرش الكريم"، وقد تقدم أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، وليس فوقه مخلوق، وقد وصفه -تعالى- بأنه عظيم، وبأنه كريم، وأضافه -تعالى- إليه مما يدل على أن له خصوصية دون غيره من السماوات والأرض، كما تقدم. وقد أخبرنا -تعالى- بأنه استوى عليه فهو من دلائل علوه -تعالى- فوق خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 60- قال: " حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي نعم – أو أبي نعم، شك قبيصة -، عن أبي سعيد، قال: بعث إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- بذهيبة، فقسمها بين أربعة ". وحدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري، قال: " بعث علي، وهو في اليمن، إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- بذهيبة في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان، فتغيظت قريش، والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا –؟ قال: " إنما أتألفهم"، فأقبل رجل، غائر العينين، ناتيء الجبين، كث اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: يا محمد: اتق الله، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: " فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟ " فسأل رجل من القوم قتله – أراه خالد بن الوليد – فمنعه النبي –صلى الله عليه وسلم- فلما ولى، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: " إن من ضئضئ هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويعدون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ". أرسل النبي –صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب إلى اليمن، يدعو الله -تعالى- ويقبض الزكاة من أصحابها، ويقضي في المنازعات، وكان ذلك قبل حجة الوداع، كما ذكره البخاري في آخر المغازي، ثم إن علياً وافى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بمكة، في حجة الوداع راجعاً من اليمن، وكان قد أرسل بذهيبة، تصغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ذهبة، أي قطعة من الذهب، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين هؤلاء الأربعة المذكورين رجاء إسلامهم، وكانوا رؤساء قبائلهم، فإذا أسلموا، أسلم تبعاً لهم خلق كثير، ولهذا أعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- المال ترغيباً لهم في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم عليه، كما بينه -صلى الله عليه وسلم- في جوابه للصحابة، الذين قالوا: " يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا". وقوله: " في تربتها" أي: أنها لم تخلص من ترابها، فليست ذهباً خالصاً؛ لأنها مختلطة بالتراب. قيل: أنها من الخمس، واستبعد ابن حجر أن يكون من أصل الغنيمة، ويمكن أن تكون زكاة. قوله: " فتغيظت قريش، والأنصار " من الغيظ، أي غاظها ذلك، حيث لم يعطهم منها، وفي رواية: " فغضبت" من الغضب. "فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد، ويدعنا" الصناديد: جمع صنديد، وهو: الرئيس، وفي "القاموس": الصندد {بفتح الصاد، وإسكان النون، وكسر الدال الأولى} (1) : السيد، الشجاع، أو الحليم، أو الجواد، أو الكريم " اهـ. قوله: " إنما أتألفهم" أي: أعطيهم ليألفوا الدين، ويجتمعوا على حبه، والرغبة فيه، فأرغبهم فيه على طريق الإحسان إليهم بالدنيا حتى يصل إلى قلوبهم، فيحبوه ويرغبوا فيه، أو لأجل ما يتحصلون عليه من الدنيا، ثم بعد ذلك لما يرجونه من جزاء الله وثوابه في الآخرة. والتأليف من الإلف، وهو الإجتماع والالتئام مع الحب. والمعنى: إني أعطيهم؛ ليكون ذلك داعياً لهم إلى حب الإسلام، والرغبة فيه والإجتماع عليه، حتى يكونوا من أنصاره، ويتبعهم على ذلك أقوامهم وعشائرهم،   (1) ما بين المعقوفتين من حاشية "القاموس" (1/309) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فيحصل بذلك عز الإسلام، ونصره، فهذا العطاء مما يحبه الله ويثيب عليه، وهو من الإنفاق في سبيل الله -تعالى- بل من أفضله. ووصفه الرجل المعترض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي أمور اتفقت فيه، وليست هذه الأوصاف الظاهرة في هذا الهالك مذمومة لذاتها. وقوله: " فمن يطيع الله إذا عصيته؟ " يعني: أنه -صلى الله عليه وسلم- هو أحق الناس وأولاهم بطاعة الله -تعالى- وتقواه. وهذا هو الضلال؛ أن يتصور الإنسان الطاعة معصية، فهذا الرجل المعترض تصور أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصية، وأنه من الجور، فنصب نفسه آمراً بتقوى الله، فقال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: " اتق الله" مع أن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو تقوى، ومن أعظم الطاعات له، فهو يعطي الله، ولنصر دينه، وهداية عباده. قوله: " فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني" أي يأمنني الله -تعالى- على الرسالة التي أرسلني بها إلى الأرض، ولا تأمنني أنت أيها المعترض، ومن على شاكلتك ممن ضل طريق الرشد، لا تأمنوني على حطام الدنيا أن أضعه حيث يجب أن يوضع، على وفق أمر الله -تعالى-. والرواية التي ذكرها في "المغازي": "فقال: ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً" (1) . وهذا اللفظ أظهر، وأوضح في المقصود، من الرواية المذكورة هنا. قال الحافظ: " وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة، لكنه جرى على عادته في إدخال الحديث في الباب، للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة   (1) انظر "الفتح" (8/67) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 لذلك الباب، يشير إليها، ويريد بذلك شحذ الأذهان، والبعث على كثرة الاستحضار" (1) . قلت: ولا يخلو اللفظ المذكور من الدليل على المقصود، الذي هو علو الله -تعالى-؛ لأن قوله: " فيأمنني على أهل الأرض" يدل على أن الآمن الذي هو الله -تعالى- في السماء. ومعنى قوله: " من في السماء" أي: الله الذي في السماء، و"في" هنا بمعنى "على" كما ذكر البيهقي، عن أبي بكر، أحمد بن إسحاق الضبعي: " أن العرب قد تضع "في" بموضع "على" قال الله -تعالى-: {فسيحوا في الأرض} (2) ، وقال: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (3) ومعناه: على الأرض، وعلى جذوع النخل. فكذلك قوله: " في السماء" أي: على العرش، فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- " (4) . وهذا الحديث مثل قول الله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ً} (5) . فإما أن تكون "في" بمعنى "على" كما تقدم، أو يقصد بالسماء: العلو، أي: أأمنتم من في العلو، وكلاهما صحيح سائغ في اللغة والمعنى.   (1) "الفتح" (13/418) . (2) الآية 2 من سورة التوبة. (3) الآية 71 من سورة طه. (4) " الأسماء والصفات " (ص421) . (5) الآيتان 16 و 17 من سورة الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 قوله: " فسأله رجل من القوم قتله، أراه خالد بن الوليد، فمنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- " أي: استأذن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وقد تقدم في المناقب أن السائل هو عمر بن الخطاب. (1) قال الحافظ: " لا تنافي بين الروايتين، إذ يجوز أن يكون كل واحد منهما طلب ذلك" (2) . وقد جاء أن سبب منعه من قتله، خوف أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، فيصير بذلك تنفيراً عن الدخول في الإسلام. قوله: " إن من ضئضئ هذا، قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم" قال في "النهاية": "الضئضئ: الأصل، يقال: ضئضئ صدق، وضؤضؤ صدق، يريد أن يخرج من نسله وعقبه " (3) وفي "اللسان": "الضئضئ، والضؤضؤ: الأصل، والمعدن" (4) . والمقصود، الإخبار بأنه يأتي من جنس هذا الرجل الضال، قوم يسلكون مسلكه، يقرأون القرآن، ولكن لا يصل إلى قلوبهم، فهم لا يفهمونه على ما أريد، بل يضعونه في غير موضعه؛ لأنهم ضالون، وجاهلون، ولهذا يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، أي: يخرجون من الإسلام بسرعة وسهولة، غير متأثرين به، كأنهم لم يدخلوه، وهذا يدل على أنهم دخلوا في الإسلام، ولكن لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، ولم يفهموه على وجهه، ولهذا صار من أوصافهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون الكفار عباد الأوثان، ومن أجل ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: " لئن أدركتهم، لأقتلنهم قتل عاد" أي لا أبقي منهم   (1) انظر: "الفتح" (6/618) . (2) المرجع السابق (6/618) . (3) "النهاية" (3/69) . (4) "لسان العرب" (2/503) المرتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أحداً، يشير بذلك إلى قوله -تعالى- في وصف هلاك عاد: {فهل ترى لهم من باقية} (1) ولم يرد أنه يقتلهم بالشيء الذي قتلت به عاد بعينه. ويحتمل أن يكون من الإضافة إلى الفاعل، ويراد به: " القتل الشديد القوي، ويكون في ذلك إشارة إلى وصفه بالشدة والقوة، ويؤيده أنه وقع في طريق أخرى "قتل ثمود" (2) .   (1) الآية 8 من سورة الحاقة. (2) قاله الحافظ في "الفتح" (6/377) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 61- ثم ذكر حديث أبي ذر الذي تقدم في الباب قبل هذا فقال: "حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ؟ قال:: " مستقرها تحت العرش". قد تقدم شرحه والشاهد منه هنا: أن الشمس في ارتفاعها، وأبعد ما تكون عن الأرض التي عليها المخاطبين آنذاك، تكون تحت العرش، فالمخلوقات كلها تحته، والله -تعالى- فوق العرش، فهو عالٍ على خلقه كلهم وفوقهم. في هذا الباب والذي قبله قصد البخاري - رحمه الله تعالى - إثبات علو الله، واستواءه على العرش، كما هو ثابت في نفس الأمر، وتضافرت عليه أدلة الوحي، والعقول والفطر، وكما هو مذهب السلف من الصحابة، وأتباعهم إلى اليوم. والنصوص التي ذكرها البخاري ظاهرة الدلالة على ذلك، وهي نزر يسير جداً من النصوص الكثيرة المتنوعة في ذلك. قال ابن أبي العز: " ومن سمع أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر. ولا ريب أن الله - سبحانه - لما خلق الخلق، لم يخلقهم في ذاته المقدسة، فإنه الأحد الصمد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته. ولو لم يتصف - سبحانه - بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للخلق؛ لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية، حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو، والفوقية، لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم أنه موجود قائم بنفسه، ليس وجوده ذهنياً، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، يتعين أن يكون متميزاً عن خلقه، عالياً عليهم. وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة، أن ما كان وجوده خارج الأذهان، فهو إما أن يكون داخلاً في الخلق، أو بائنا منهم خارجاً عنهم. وإنكار ذلك إنكار لما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية، بلا ريب، فلا يستدل بدليل على وجوده، إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين. وإذا كانت صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص، ولا تستلزم نقصاً، ولا محذور فيها، ولا تخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقتها يكون عين الباطل والمحال، الذي لا تأتي به شريعة أصلاً، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده -تعالى-، وتصديق رسله، والإيمان بكتابه، وما جاء به رسوله، إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة، المتنوعة في الدلالة، على علو الله -تعالى- على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً: أحدها: التصريح بالفوقية، مقروناً بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات، كقوله -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (1) .   (1) الآية 50 من سورة النحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 الثاني: ذكر الفوقية، مجردة عن الأداة، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1) الثالث: التصريح بالعروج إليه، كقوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (2) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: " فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم" كما تقدم. الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله -تعالى-: {إليه يصعد الكلم الطيب} (3) . الخامس: التصريح برفعه -تعالى- بعض خلقه إليه، كقوله -تعالى-: {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (4) ، وقوله: {إني متوفيك ورافعك} (5) . السادس: التصريح بالعلو المطلق، الدال على جميع مراتب العلوم، ذاتاً وقدراً، وشرفاً، كقوله -تعالى-: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (6) ، وقوله -تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (7) ، وقوله -تعالى-: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (8) .   (1) الآية 18 و 61 من سورة الأنعام. (2) الآية 4 من سورة المعارج. (3) الآية 10 من سورة فاطر. (4) الآية 158 من سورة النساء. (5) الآية 55 من سورة آل عمران. (6) الآية 255 من سورة البقرة. (7) الآية 23 من سورة سبأ. (8) الآية 51 من سورة الشورى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله -تعالى-: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) ، وقوله: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (2) ، وهو كثير. الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات، بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله -تعالى-: {إن الذين عند ربك} (3) ، وقوله -تعالى-: {وله من في السموات والأرض ومن عنده} (4) ، ففرق تعالى بين من عنده عموماً، وبين من عنده من الملائكة، وقد تقدم قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله لما خلق الخلق كتب كتاباً، فهو عنده فوق عرشه". التاسع: التصريح بأنه -تعالى- في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (5) ، وتقدم أن ذلك، على وجهين، إما أن تكون "في" بمعنى "على" أو يراد بالسماء العلو، لا يجوز غير ذلك. العاشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله -تعالى-: كقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله يستحي من عبده، إذا رفع إليه يديه، أن يردهما صفراً" (6) . الحادي عشر: التصريح بالاستواء، مقروناً بأداة "على" مخصوصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات.   (1) الآية الأولى من سورة الزمر. (2) الآية 2 من سورة غافر. (3) آخر آية من سورة الأعراف. (4) الآية 19 من سورة الأنبياء. (5) الآية 16 من سورة الملك. (6) أخرجه أبو داود في "السنن" (2/165) رقم (1488) ، والترمذي في الدعوات (5/217) ، وابن ماجه في "السنن" (2/1271) الحديث رقم (3865) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الثاني عشر: التصريح بنزوله -تعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل. الثالث عشر: الإشارة الحسية إليه في العلو، كما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبته في حجة الوداع، حيث قال: " إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فرفع إصبعه إلى السماء، وقال: اللهم اشهد" (1) . الرابع عشر: سؤال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلفظ "أين الله؟ " وإخباره عمن قال: " الله في السماء" بأنه مؤمن (2) . الخامس عشر: اتفاق الكتب المنزلة من الله والرسل على أن الله فوق عباده عال عليهم، كما قال -تعالى- عن فرعون: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً} (3) ؛ لأن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء، فقال هذا القول ليموه على السذج أتباع كل ناعق بدون بصيرة. السادس عشر: عروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه -تعالى- وإخباره أنه تردد بينه -تعالى- وبين موسى، يطلب التخفيف من عدد الصلوات" (4) . وقد غلط أكثر المتكلمين في مسمى السماء، حيث ظنوا أن السماء يقصد به مكان معين محاط، فتوهموا أن من قال: إن الله في السماء، أن مكاناً يحيط به أو يحويه - تعالى وتقدس-.   (1) رواه مسلم في "صحيحه" وغيره، انظر: "مسلم" (2/890) الحديث رقم (1218) ، وهو حديث جابر الطويل في صفة الحج. (2) انظر: " صحيح مسلم" (1/382) الحديث رقم (537) . (3) الآيتان 36 و 37 من سورة غافر. (4) "شرح الطحاوية" بتصرف (ص256-260) الطبعة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 قال شيخ الإسلام: " من توهم أن كون الله في السماء أن السماء تحيط به، أو تحويه، فهو كاذب أن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه. وما فهم هذا أحد من النصوص، ولم ينقل عن أحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله: إن الله في السماء، أن السماء تحويه؟ لبادروا إلى القول: بأن هذا شيء ما خطر بالبال. فمن الضلال أن يجعل ظاهر نصوص الكتاب والسنة في ذلك دالة على الباطل والتشبيه. بل عند الناس قولك: إن الله في السماء، وقولك: الله فوق العرش، سواء، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى: أن الله في العلو، لا في السفل. وقد علم المسلمون أن كرسيه - سبحانه وتعالى - وسع السموات، والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله، لا نسبة له إلى عظمة الله تعالى. فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره أو يحويه؟ وقد قال -تعالى-: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (1) ، وقال -تعالى-: {فسيروا في الأرض} (2) ، بمعنى: على الأرض، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازاً، وهذا يعلمه من عرف حقائق الحروف" (3) . وعلو الله -تعالى- ظاهر جداً، وقد تقدم أن البخاري - رحمه الله - أشار بما ذكره في هذا الباب، إلى أن علو الله -تعالى- وفوقيته ثابت بالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطر. أما ثبوته بالكتاب والسنة فواضح.   (1) الآية 71 من سورة طه. (2) الآية 137 من سورة آل عمران، والآية 36 من سورة النحل. (3) "مجموع الفتاوى" (5/106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وأما الإجماع: فأشار إليه بقصة زينب: أنها كانت تفتخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: " زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات" فهذا يدل على الإجماع؛ لأن ذلك متقرر عندهم، ولم ينكر ذلك أحد، بل يذكر في كل مناسبة، ومن ذلك هذا الذي قالته زينب، فالإجماع عليه ظاهر، والإجماع لا يكون على خلاف المعقول، ومن أيمان العرب قولهم: " لا والذي يراني من فوق سبعة أرقعة" (1) . وأما الفطرة، فأشار إليها بما ذكره عن أبي ذر أنه قال لأخيه، قبل أن يسلم: " أعلم لي علم هذا الرجل، الذي يأتيه الخبر من السماء" أي: يأتيه الخبر من الله الذي في السماء؛ لأنه يقول للناس: أنا رسول الله إليكم. قال شيخ الإسلام: " تبين وجوب إثبات العلو لله -تعالى- من وجوه: أحدها: أن القرآن، والسنن المستفيضة، المتواترة، وغير المتواترة، وكلام السابقين والتابعين وأهل القرون الثلاثة، مملوء بما فيه إثبات العلو لله، وأنه مستوٍ على عرشه، بأنواع من الدلالات. فالله -تعالى- يخبرنا تارة، أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. وتارة يخبر بعروج الأشياء، وصعودها، وارتفاعها إليه، كقوله -تعالى-: {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} (2) ، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (3) ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4) ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} # (5) .   (1) انظر: " أيمان العرب" للنجيرمي (ص15) . (2) الآية 158 من سورة النساء. (3) الآية 55 من سورة آل عمران. (4) الآية 4 من سورة المعارج. (5) الآية 10 من سورة فاطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وتارة يخبر بنزولها منه، أو من عنده، كقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ} (1) ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) ، {حم {1} تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (3) ، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (4) . وتارة يخبر بأنه العلي الأعلى، كقوله -تعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (5) ، وقوله -تعالى-: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (6) . وتارة يخبر بأنه في السماء، كقوله -تعالى- أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (7) ، فذكر السماء دون الأرض، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: " ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء؟ " وقوله للجارية: " أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: " اعتقها، فإنها مؤمنة" ولم يعلق ذلك بألوهية أو غيرها، كما في قوله -تعالى- وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله (8) ، وقوله: وهو الله في السماوات وفي الأرض (9) ، أي: هو المألوه المعبود في السموات والأرض. وتارة يجعل بعض الخلق عنده، دون بعض، كقوله وله من في   (1) الآية 114 من سورة الأنعام. (2) الآية 102 من سورة النحل. (3) فاتحة سورة فصلت. (4) فاتحة سورة الجاثية والأحقاف. (5) فاتحة سورة الأعلى. (6) الآية 255 من سورة البقرة، والآية 4 من سورة الشورى. (7) الآيتان 16 و 17 من سورة الملك. (8) الآية 84 من سورة الزخرف. (9) الآية 3 من سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} (1) . فلو كان موجب العندية معنى عاماً، كدخولهم تحت قدرته، ومشيئته، ونحو ذلك، لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبراً عن عبادته. وأما الأحاديث، والآثار عن الصحابة، والتابعين فلا يحصيها إلا الله -تعالى-. فلا يخلو أن يكون ما اتفقت عليه هذه النصوص، من إثبات علو الله -تعالى- على خلقه هو الحق، أو الحق نقيضه، إذ الحق لا يخلو عن النقيضين. فإذا كان نفي العلو هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا، لا نصاً، ولا مفهوماً، وكذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا أحد من الصحابة وأتباعهم، ولا أحد من أئمة المسلمين، ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد منهم شيئاً من ذلك، بل نقيضه هو المستفيض عنهم، كما هو الموافق للكتاب والسنة. ويلزم على ذلك أن يكون الله ورسوله والمؤمنون، لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل تكلموا بما يدل على الضلال، إما نصاً، أو ظاهراً. فإن قيل: هذه النصوص ما أريد بها إثبات علو الله على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة والقدر. قيل: فكان يجب على المتكلم بها أن يبين للناس الحق، الذي يجب أن يؤمن به ويعتقد، ظاهراً وباطناً، وأنه لم يرد بهذا الكلام مفهومه، ومقتضاه. فإن قيل: إنه تكلم بالمجاز، المخالف للحقيقة. قيل: من المعلوم باتفاق العقلاء: أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-   (1) الآية 19 من سورة الأنبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الذي بين للناس ما نزل إليهم - يعلم أن المراد بالكلام خلاف مقتضاه وظاهره، وجب عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، ولا سيما إذا كان ذلك المعنى باطلاً، ولا يجوز اعتقاده في الله -تعالى-، وهذا يجب ولو لم يخاطبهم بما يفهم منه خلاف الحق، الذي يجب اعتقاده، إذا كان مخوفاً عليهم، فكيف إذا كان في كلامه ما يفهم منه خلاف الحق" (1) . فلا عذر لمن أنكر علو الله، ونفاة العلو والصفات، يقولون: إن هذه النصوص لم يرد بها الحقيقة والظاهر المفهوم منها، والقرينة الصارفة عن ذلك هي دلالة العقل، فاكتفى المتكلم بهذه القرينة؛ لأنها عقلية، عند كل عاقل. فيقال لهم: إذا كان ما تكلم به الله ورسوله، إنما يفيد مجرد الضلال، والهدى إنما يستفاد من العقول، فلماذا ينزل الله الكتاب، ويرسل الرسول؟ للعناء والشقاء؟ فإن تركهم على جاهليتهم خير لهم من أن ينزل عليهم الكتاب، ويرسل إليهم الرسول، هذا هو لازم هذا القول الباطل. ويقال أيضاً: الرسول جاء بإثبات العلو، والصفات، وذلك أظهر في العقل من قولكم. ثم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أما أن يتكلم بالهدى، أو بالضلال، أو يسكت عنهما. ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بالضلال. وبذلك يعلم بالعقل، أنه لم يسكت عن بيان الحق، والهدى، والتحذير من اعتقاده الباطل، وبذلك يتفق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع العقل الصحيح، الذي لم تفسده الشياطين، والهوى المضل. فالعقل يوافق ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا ما يقوله نفاة الصفات،   (1) "مجموع الفتاوى" (5/164-168) ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وليس بين العقل الصريح والنقل الصحيح تناقض أصلاً، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وغيره. فقولهم: إن القرينة الصارفة عن الظاهر، هي العقل، خطأ محض، إذ العقل يوافقها لا يخالفها كما توهموه، كما أن إثبات الصفات ليس فيه تشبيه كما زعموا، ولكن الأوهام وسوء الظن بالله ورسوله أرداهم. ومن حججهم الباطلة التي حملتهم على صرف النصوص عن ظاهرها، ورأوا وجوب تأويلها لذلك، هي قاعدتهم في أن جميع الأجسام حادثة لملازمتها للأعراض التي هي الصفات، فوجب تنزيه الرب -تعالى- عن كل صفة تستلزم التركيب، أو الجسمية؛ لأن الأعراض لا تكون إلا في جسم، والجسم لا بد أن يكون مركباً من الجواهر - كما زعموا-، ولهذا قالوا: إن الاستواء والعلو، يلزم منهما النقلة، والمكان، والحركة، وهذه من صفات الأجسام. فيقال لهم: الحياة، والعلم، والسمع، والبصر - مما جوزتم لأنفسكم أن تصفوه به- لا يعقل أن تقوم إلا بجسم، مع أنكم تسمون الصفات: أعراضاً، ولا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه في المعنى، ألا يجوز لغيركم أن يصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه، ووصفته به رسله بأنه -تعالى- مستوٍ على عرشه، وعالٍ على خلقه، وبأن له وجهاً ويدين حقيقة، ونحو ذلك مما تسمونه: أبعاضاً، تستلزم التركيب، والجسمية؟ كما افتريتموه على رب العالمين، ورميتم من وصف الله -تعالى- بما وصف به نفسه، بالتشبيه، والتجسيم، مع أنهم أقرب إلى المعقول منكم، وقد سلم لهم المنقول بدون تحريف. قال شيخ الإسلام: " ولا ريب أن الله موجود، قائم بنفسه، وترفع إليه الأيدي عند الدعاء، كما فطر على ذلك جميع عباده، ولا ريب أنه تجوز رؤيته في الآخرة، كما أخبر بذلك في كتابه، فإذا سموا هذه المعاني تجسيماً، فلا ينبغي لنا أن نترك ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، ونذهب إلى تأويلها، لمجرد هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 التسميات الحادثة المبتدعة" (1) وقال أيضاً: " ولفظ الظاهر فيه إجمال، واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد. والسلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً، وباطلاً. والله سبحانه - وتعالى - أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه، لا يظهر منه إلا ما هو كفر، أو ضلال. والذين يجعلون ظاهرها ذلك، يغلطون من وجهين: أحدهما: أنهم جعلوا المعنى الفاسد، هو ظاهر نص كلام الله وكلام رسوله، ولذلك أوجبوا تأويله، ليخالف الظاهر الذي زعموا، وليس الأمر كذلك. الثاني: أنهم ردوا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ؛ لاعتقادهم أنه باطل، كقولهم في الحديث: " قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن "، قالوا: لا يجوز أن يراد به الظاهر، فليس في قلوبنا أصابع. ومعلوم أنه ليس ظاهره أن القلوب متصلة بالأصابع، ولا مماسة لها، ولا أن أصابع الرحمن في جوف العبد، ولا يفهم من قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرته ليديه. وإذا قيل: إن السحاب بين السماء والأرض، لم يقتض أن يكون مماساً للسماء، أو الأرض، ونظائر ذلك كثيرة " (2) .   (1) "مجموع الفتاوى" (3/43-45) ملخصاً. (2) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وقال أبو نصر السجزي في "الإبانة": "وأئتمنا، كسفيان، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، والفضيل، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما يشاء" (1) . وقال ابن عبد البر في شرحه لحديث النزول: "وفيه دليل على أن الله - عز وجل - في السماء على العرش، من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم: إن الله - عز وجل - في كل مكان، وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق: قوله - تعالى -: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقوله -تعالى-: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (3) ، وقوله -تعالى-: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ} (4) ، وقوله -تعالى-: {إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} (5) ، وقوله -تعالى-: {إليه يصعد الكلم الطيب} (6) ، وقوله -تعالى-: {تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} (7) ، وقوله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (8) ، وقوله -تعالى-: {سبح اسم ربك الأعلى} ، وهذا من العلو، وكذلك قوله -تعالى-: {العلي العظيم} (9) ،   (1) ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (17/656) . (2) الآية 5 من سورة طه. (3) الآية 4 من سورة آلم السجدة. (4) الآية 11 من سورة حم فصلت. (5) الآية 42 من سورة الإسراء. (6) الآية 10 من سورة فاطر. (7) الآية 143 من سورة الأعراف. (8) الآية 16 من سورة الملك. (9) الآية 255 من سورة البقرة، والآية 4 من سورة الشورى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وقوله -تعالى-: {الكبير المتعال} (1) ، وقوله -تعالى-: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (2) ، وقوله -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (3) ، والجهمي يزعم أنه أسفل. وقال - جل ذكره -: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (4) ، وقال -تعالى-: تعرج الملائكة والروح (5) ، وقال -تعالى- لعيسى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (6) ، وقال -تعالى-: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ (7) ، وقال -تعالى-: فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (8) ، وقال -تعالى-: وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (9) ، وقال تعالى: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ {2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (10) ، والعروج: الصعود. وأما قوله -تعالى-: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (11) ، فمعناه: من على السماء، يعني على العرش، وقد يكون "في" بمعنى "على" ألا ترى إلى قوله -تعالى-: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (12) ، وقوله -تعالى-: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (13) ؟ أي: على الأرض، وهذا كله يعضده قوله -تعالى-: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (14) ، وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا الباب" (15) ا. هـ.   (1) الآية 9 من سورة الرعد. (2) الآية 15 من سورة غافر. (3) الآية 50 من سورة النحل. (4) الآية 5 من سورة آلم السجدة. (5) الآية 4 من سورة المعارج. (6) الآية 55 من سورة آل عمران. (7) الآية 158 من سورة النساء. (8) الآية 38 من سورة فصلت. (9) الآية 19 من سورة الأنبياء. (10) الآيتان 2 و 3 من سورة المعارج. (11) الآية 16 من سورة الملك. (12) الآية 71 من سورة طه. (13) الآية 2 من سورة التوبة. (14) الآية 4 من سورة المعارج. (15) "التمهيد" (7/129-130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وقال أيضاً: " وما روي عن ابن عباس في قوله -تعالى-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (1) ، أنه قال على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان". فالجواب: أنه منكر، ونقلته مجهولون، وضعفاء، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يحتجون بمثل هذا الأثر الساقط؟ وأما تعلقهم بقوله -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (2) ، وقوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية (3) ، وزعمهم أنه الله - تبارك وتعالى - في كل مكان بنفسه وذاته. فيقال لهم: أنتم لا تخالفون بأنه ليس في الأرض دون السماء، بذاته، فيجب حمل هذه النصوص على المعنى الصحيح المجمع عليه، وهو أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وهو الذي قاله أهل العلم بالتفسير. وقوله -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (4) الآية، ليس فيها حجة لهم؛ لأن علماء الصحابة والتابعين، الذين روي عنهم التفسير، قالوا في هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان. ولم يخالفهم في ذلك من يعتد به. ثم ذكر عن ابن مسعود: قال: " الله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" وذكر عن الضحاك، وسفيان الثوري مثله" (5) .   (1) الآية 5 من سورة طه. (2) الآية 84 من سورة الزخرف. (3) الآية 7 من سورة المجادلة. (4) الآية 7 من سورة المجادلة. (5) "التمهيد" (7/133-139) ملخصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فتبين بما ذكره أن هذه الآيات التي تعلق بها نفاة العلو، تدل على عكس قولهم، فهي متفقة مع النصوص الصريحة في الدلالة على علو الله -تعالى-. من الحجج القاطعة أن الله تعالى فوق السماوات على عرشه: أن كل داع يدعو الله -تعالى- يجد في نفسه دافعاً إلى الاتجاه إلى الله فوقه، وهو أمر ضروري وقطعي، فلا يمكن لأي سائل يسأل الله ويطلب منه إلا – رفع – يديه، واتجه بقلبه إلى من يستغيث به، الذي هو عال فوق جميع مخلوقاته، مستو على عرشه، فالعلم بذلك فطري ضروري عقلي، ونصوص الشرع جاءت مؤيدة ذلك مقررة له. قال شيخ الإسلام: " ذكر محمد بن طاهر المقدسي، عن الشيخ الجليل أبي جعفر الهمداني، أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني، وهو يقول: كان الله، ولا عرش {ولا مكان} وهو على ما {كان} عليه {قبل خلق المكان} ، أو كلام من هذا المعنى، فقال: يا شيخ، دعنا من ذكر العرش، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟. فصرخ أبو المعالي، ولطم رأسه، وقال: " حيرني الهمداني" (1) . وقد تعلق نفاة العلو أيضاً: بأن الله -تعالى- لو كان في مكان، لأشبه المخلوقات؛ لأن ما أحاطت به الأمكنة فهو مخلوق. فيقال: هذا نشأ عن القياس الفاسد، والتشبيه المستكن في نفوس هؤلاء، إذ لو آمنوا بأن الله على كل شيء قدير، وأنه ليس كمثله شيء، ما انطلت هذه الشبه وهذا الهراء على نفوسهم. ويقال أيضاً: ألستم تقرون بأن الله -تعالى- موجود قبل خلق الكون،   (1) "الاستقامة" (1/167) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 فهو -تعالى- كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: " كان الله، ولم يكن شيء معه" (1) ونحن وأنتم وكل العقلاء، لا نعقل وجود أحد منا، إلا في مكان، وما ليس في مكان، فهو عدم، والله بخلاف ذلك، فلا يجوز أن يقاس بخلافه كما فعلتم، قلتم: لو كان في مكان لأشبه خلقه. فإن زعموا أنه يلزم من كونه -تعالى- في العلو، التغير، والانتقال؛ لأنه، كان ولا مكان، فلما خلق المكان صار في العلو، فزال عن صفته في الأزل وصار في مكان. قيل: وأنتم يلزمكم أقبح من ذلك، وهو زعمكم أنه -تعالى- كان، لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندكم معبودكم، وانتقل من لا مكان، إلى كل مكان، وهذا لازم لكم، لا انفكاك لكم منه. وقولهم: كان الله، ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، كلام فاسد، متناقض، وذلك أن النفاة للاستواء والعلو، وغيرهما، على قسمين: قسم يقول: إن الله لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا أمام، ولا خلف، ولا داخل العالم، ولا خارجه، وهذا لا يفهم منه إلا العدم المحض، فليس له وجود فعلي على هذا الوصف، فهو إذاً ليس له مكان أصلاً، إذ لا وجود له. وقسم يقول: إنه في كل مكان، فيلزم أنه كان في كل مكان، قبل خلق المكان، فهو إذا في هذا الكون كله، قبل خلقه له، وهذا قول ظاهر الفساد، إذ معناه: كان في الأمكنة، قبل خلقها. فالحق " أن الله -تعالى- ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في فعله، ولا في   (1) تقدم هذا الحديث مشروحاً، وبين أن هذا اللفظ مروي بالمعنى، وأن الصواب: "ولم يكن شيء قبله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 صفاته، ولا في مفعولاته، فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئاً مما يستحقه؛ لعدم نظيره في الشاهد المحسوس، صار ما يثبته بدل نفيه أبعد عن المعقول، والمشهود" (1) . ومن الحجج المشهورة على وجوب علو الله -تعالى-: ما تقدم في كلام ابن أبي العز: وهو أن يقال: لما خلق الله الخلق، لا بد أن يكون خلقه بائناً منه، فلا يجوز أن يكون الخالق -جل وعلا- في المخلوق، وأن يكون المخلوق حاوياً له، تعالى عن ذلك، فلا بد أن يكون بائناً عنه، ولا يجوز أن يكون المخلوق فوق الخالق -تعالى وتقدس - فلا بد أن يكون عالياً فوق خلقه. قال شيخ الإسلام: " معرفة القلوب، وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها، أن ربها فوق العالم، ودلالة الكتاب والسنة على ذلك، وظهور ذلك في خاصة الأمة وعامتها، وكلام السلف في ذلك، أعظم من كونه -تعالى- يرى بالأبصار يوم القيامة، أو أن رؤيته بالأبصار جائزة. ويشهد لهذا أن الجهمية، أول ما ظهروا في الإسلام، في أوائل المائة الثانية، وكان حقيقة قولهم في الباطن: تعطيل الرب -تعالى- من الصفات كلها، ولا يصفونه -تعالى- إلا بالسلوب المحضة، التي لا تنطبق إلا على المعدوم، وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى، أو يتكلم، أو أنه فوق العرش، أو أن يكون موصوفاً بالصفات التي جاءت بها كتب الله، أو دلت عليها مع ذلك الدلائل العقلية، لكن ما كانوا يظهرون من قولهم للناس، ما هو ظاهر البطلان، وما ليس فيه شبهة، مثل نفي العلو المعروف، المتيقن من الدين بالضرورة عند العامة والخاصة، وإنما يظهرون ما فيه شبهة، ولهم عليه حجة، ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية، الشرعية، وهذا شأن كل من أراد أن يظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق، فإنهم لا ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة ابتداء" (2) . ومن المؤسف أن بعض ضلالات الذين ذكرهم الشيخ، قد ورثها كثير من علماء المسلمين، كالأشعرية الذين يزعمون أنهم أعداء لهم وخصوم، مع أنهم   (1) "بيان تلبيس الجهمية" (1/147) . (2) "بيان تلبيس الجهمية" (2/78-79) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 يتفقون معهم على إنكار علو الله تعالى، واستوائه على عرشه، ومجيئه لفصل القضاء بين عباده، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، كما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. كما أنهم يؤولون الصفات إلا قليلاً، تأويلاً يؤول إلى الإنكار، مثل اليدين، والرجلين، والوجه، والرحمة، والمحبة، والضحك، والرضا، والغضب، والسخط، والمقت، وغير ذلك. ويوافقون الجهمية في كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يجعلون الكلام قسمين: نفسي، وهو المعنى القائمة بالنفس، وهذا هو الذي يصفون الله به، ولفظي حرفي وهو المكتوب في المصاحف، وهو ليس كلاماً لله عندهم، بل هو عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، وهذا قول الجهمية الذين كفرهم السلف من أجله. والمقصود: أن علو الله -تعالى- واستواءه على عرشه ثابت بنصوص الكتب المنزلة على رسل الله، وأما العلو فهو ثابت بذلك، وبالفطر التي عليها عباده، وبالعقول التي لم تنتكس بفعل الشياطين، وبإجماع أهل العلم والإيمان من جميع الأمم، كما تقدمت الإشارة إليه، ولم يعرف خلاف في هذه المسألة، ونحوها إلا بعدما دخل كثير من الزنادقة في الإسلام نفاقاً، وقصداً لإفساد الدين، بعد المائة الأولى للهجرة، وإن كان قد وجد قبل ذلك بعض المفسدين المتطرفين، الذين كان لهم الأثر السيء في الأمة. قال شيخ الإسلام: " افترق الناس، في علو الله واستوائه، أربع فرق: الأولى: الجهمية، النفاة، يقولون: ليس داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق، ولا تحت، وجميع الطوائف، من أهل البدع يتمسكون بنصوص، إلا الجهمية. وقسم ثان منهم يقولون: إنه بذاته في كل مكان، ويدخل فيهم الأشاعرة، وهؤلاء هم الفرقة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الثالثة: من يقول: إنه فوق العرش، وهو في كل مكان، ويزعم أنه بذلك يجمع بين النصوص. الرابعة: المتبعون للكتاب، والسنة، الذين أثبتوا ما أثبته الله ورسوله، من غير تحريف، فآمنوا بالله فوق سماواته، مستوٍ على عرشه" (1) . وقد تقدم ذكر بعض الآيات الدالة على علو الله -تعالى- صراحة، وبعض الأحاديث مما ذكره البخاري وغيره. ومما لم يذكره: قصة معراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه فوق السماوات كلها، وهي ثابتة ثبوتاً قطعياً بدون ريب. وفي حديث الرقية: " ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك" (2) . وفي حديث الأوعال: " والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (3) وفي "سنن أبي داود"، عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: " ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته وأرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة" (4) .   (1) "مجموع الفتاوى" (5/229-231) ملخصاً. (2) رواه أبو داود في "السنن" (4/218) رقم (3892) ، وأحمد في "المسند" (6/21) . (3) رواه أبو داود (5/93) والترمذي وقال: حسن غريب (5/424) رقم (3320) ، وابن ماجه (1/69) وأحمد في "المسند" (1/206-207) وغيرهم. (4) أخرجه أبو داود في "السنن" (5/94) ، وأبو سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص272) ، وفي الرد على المريسي (ص447) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وفي خطبته -صلى الله عليه وسلم- في عرفة، في أعظم جمع اجتمع له -صلى الله عليه وسلم- بعدما أمر، ونهى، جعل يقول: " ألا هل بلغت؟ " فيقولون: نعم، عند ذلك يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: " اللهم اشهد" - غير مرة - (1) . والنصوص في ذلك كثيرة جداً، والحق في هذه المسألة واضح جلي، بل وفي كل ما يجب لله -تعالى- وما يمتنع عليه، ومعلوم أن الله -تعالى- قد أكمل لهذه الأمة دينها على لسان رسولها، وأتم عليها النعمة بذلك، وأنزل كتابه فيه تبيان كل شيء، ومعرفته -تعالى- بما له من الأوصاف، ومعرفة ما يمتنع عليه، هي أجل أمور الدين وأعظم أصوله، فلا بد أن يكون هذا قد بين غاية البيان. ثم إنه ليس بين علو الله -تعالى- على جميع خلقه، ومعيته لخلقه، وقربه من عباده، منافاة، فعلوه -تعالى- واستواؤه على عرشه، ثابت ثبوتاً قطعياً، كما وضح ذلك -تعالى- في كتابه، وبينه رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك معيته -تعالى- لخلقه، قد وضحها وبينها رسوله، فوجب الإيمان بذلك، فكما أنه تعالى مستوٍ على عرشه، وعالٍ على خلقه، حقيقة، فهو كذلك موصوف بالقرب والمعية على الحقيقة. قال شيخ الإسلام: " لا يخالف ما ثبت من علو الله، وأنه فوق العرش، معيته لخلقه، الثابت بمثل قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (2) . وقوله - صلى الله عليه وسلم-: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه" (3) ونحو ذلك. وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، كما جمع الله بينهما في   (1) تقدم أنه أخرجه مسلم. (2) الآية 4 من سورة الحديد. (3) رواه البخاري في الصلاة، باب 33 (ص75) وفي أماكن متعددة، ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) ، فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث الأوعال: " والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه" (2) . وذلك أن كلمة "مع" في اللغة، إذا أطلقت، لم يكن ظاهرها، في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة، أو محاذاة، عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني، دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي، لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة. ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فقوله -تعالى-: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (3) دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية، ومقتضاها: أنه مطلع عليكم شهيد عليكم، ومهيمن، عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته. وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (4) ، حق على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية: الاطلاع، والنصر، والتأييد، ومثلها قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} (5) ، وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم   (1) الآية 4 من سورة الحديد. (2) تقدم تخريجه. (3) الآية 4 من سورة الحديد. (4) الآية 40 من سورة التوبة. (5) الآية 46 من سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 مُّحْسِنُونَ} (1) حق، وحكمها النصر، والتأييد" (2) . و المعية نوعان : عامة وخاصة. فالأولى: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (3) . والثانية: هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (4) ، فهذه خاصة بأنبيائه وأوليائه، وعباده المؤمنين، فهو -تعالى- معهم دون أعدائهم، ومعهم بسمعه ورؤيته، ونصره وتأييده، كما أنه -تعالى- معهم بإحاطته وقبضته. والمعية لا تدل على المخالطة، والممازجة، وإنما تدل على المصاحبة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل" (5) . فهو - سبحانه - مع المسافر في سفره، ومع أهله في وطنه، وهو فوق عرشه، وكل ذلك على ظاهره، غير محتاج إلى تأويل، ولا يلزم منه أن تكون ذاته مختلطة بذوات خلقه -تعالى الله وتقدس عن ذلك -؛ وذلك لأن المفهوم من المعية في اللغة العربية: المصاحبة والمقارنة، حكمها حسب مورد الخطاب، فقوله -تعالى-: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (6) أي: على الإيمان، لا أن ذواتهم حالة في ذاته، بل هم مصاحبون له ومتبعون له على الإيمان، وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} يدل على موافقتهم في الإيمان، وموالاتهم.   (1) الآية 128 من سورة النحل. (2) "مجموع الفتاوى" (5/102-104) . (3) الآية 4 من سورة الحديد. (4) الآية 46 من سورة طه. (5) رواه مسلم في "الصحيح" (2/978) الحديث رقم (1342) ورواه غيره. (6) الآية 29 من سورة الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فالله -تعالى- مع عباده، يراهم، ويسمع كلامهم، وهو محيط بهم، وعلمه بهم من لوازم معيته لهم، وليست المعية هي العلم كما يتوهمه بعض الناس، فعلمه - تعالى - محيط بكل شيء ولا يختلف أو يتغير، ولذلك صارت المعية إلى خاصة، وعامة، وكل واحدة لها مقتضاها وحكمها، فمن مقتضى العامة: المراقبة، والتخويف، والاطلاع على جميع التصرفات، وما تكنه الصدور. ومن مقتضى الخاصة: النصر، والتأييد، والحفظ. وتفسير من فسرها بالعلم من السلف، يقصد بيان أن الله ليس مختلطاً بخلقه أو حالاً فيهم، أو أن شيئاً من مخلوقاته تحويه، أو تظله، أو تقله - تعالى وتقدس-. وأما القرب، فقد جاء على صيغتين: الإفراد، نحو قوله -تعالى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) ، وكما في حديث أبي موسى المتقدم: " إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهو -تعالى- فوق عرشه، ويقرب ممن يشاء من خلقه، كيف يشاء، كما قرب من موسى - عليه السلام - حين كلمه، وهو فوق عرشه، فوق السماوات كلها، فلا تنافي بين علوه، وقربه ومعيته؛ لأنه تعالى أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، تعالى الله عن ظنون السوء الكاذبة. فعلو الله العلي العظيم، واستواؤه على عرشه، ومعيته وقربه، كل ذلك ثابت له، حق على ظاهره، كما أخبر به -تعالى- عن نفسه، وأخبرت به رسله، فالكل ثابت لله -تعالى- في الكتب الإلهية، وفي نصوص الأنبياء. وأهل الفطرة العقلية السليمة، من الأولين والآخرين، يقولون: إنه -تعالى- فوق عرشه، عالٍ على خلقه، وهو معهم، بعلمه ورؤيته، وسمعه وإحاطته، وقبضته وهيمنته عليهم.   (1) الآية 186 من سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ومع أنبيائه وأوليائه بذلك، وبنصره، وتأييده، وحفظه. ومعيته -تعالى- من صفاته الخاصة به. وأما الصيغة الأخرى للقرب: صيغة الجمع، كقوله -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (1) ، وهذا يقصد به لغة العرب: الواحد العظيم، الذي له عبيد يطيعونه، ويسارعون في أمره، وإذا وقع الفعل منهم عن أمره قال: نحن فعلنا، كما يقول الرئيس: نحن أمرنا بكذا، والله -تعالى- رب الملائكة، وخالقهم، وخالق أفعالهم، وهم ممتثلون لأمره: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2) ، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (3) ، مع أنه -تعالى- غني بذاته عن ملائكته، وجميع خلقه، وهو الذي أقدر خلقه على ما يفعلون، وأعطاهم القدرة على ذلك، وإذا شاء سلبهم ذلك، فإذا قال -تعالى-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (4) ، إذا كان المراد الملائكة، كان من هذا الباب. والمقصود: أن علو الله -تعالى- ثابت له بالفعل، وأدلة الكتاب، وما بلغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته، وثابت بالضرورة الفطرية، والأدلة عليه لا تحصى، ومنكره منكر للمعلوم بالضرورة من الدين، والمعلوم بالضرورة العقلية الفطرية، وليس بين علو الله واستوائه على عرشه، وبين معيته لخلقه، ولأوليائه وأنبيائه، وقربه منهم تعارض. تم الجزء الأول من الشرح ويليه الجزء الثاني وأوله: باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}   (1) الآية 16 من سورة ق. (2) الآية 6 من سورة التحريم. (3) الآية 27 من سورة الأنبياء. (4) الآية 85 من سورة الواقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري تأليف عبد الله بن محمد الغنيمان رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الجزء الثاني قال: باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) . قال ابن جرير: ((يقول - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم القيامة, {نَّاضِرَةٌ} حسنة جميلة من النعيم, يقال: نَضُر وجه فلان: إذا حسن من النعمة, ونضَّرَ الله وجهه: إذا حسنه كذلك)) (2) . ثم روى ذلك بأسانيده عن المفسرين من السلف. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تلك الوجوه النضرة, تنظر بأبصارها إلى ربها, وذلك أعلى نعيم الآخرة. روى ابن جرير, عن عكرمة, والحسن, وعطية العوفي: ينظرون إلى ربهم. روي عن مجاهد, وأبي صالح: تنتظر ثواب ربها. ثم قال: والصواب القول الأول: أنها تنظر إلى خالقها, وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - حدثني علي بن الحسين بن أبجر, قال: حدثنا مصعب بن المقدام, قال: حدثنا إسرائيل بن يونس, عن ثوير, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((إن أدنى أهل الجنة منزِلة, لَمَن ينظر في مُلْكه ألفي سنة - قال -   (1) الآيتان 22 , 23 من سورة القيامة (2) انظر: ((تفسير ابن جرير)) (29/191) . وإن أفضلهم منزلة, لمن ينظر في وجه الله كل يوم مرتين)) ثم تلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} , قال: البياض, والصفاء, {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} تنظر كل يوم في وجه الله - عز وجل -)) . حدثنا محمد بن منصور الطوسي, وإبراهيم بن سعيد الجوهري, قالا: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق, قال: حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي (1) , عن عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} , قال: تنظر وهي تنظر إلى ربها نظراً. حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق, قال: سمعت أبي يقول: أخبرني الحسن بن واقد, في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} من النعيم {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أخبرني يزيد النحوي, عن عكرمة, وإسماعيل بن أبي خالد, وأشياخ من أهل الكوفة, قال: تنظر إلى ربها نظراً. حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري, قال: حدثنا آدم, قال: حدثنا المبارك عن الحسن, في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} قال: حسنة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال تنظر إلى الخالق, وحق لها أن تنضَّر وهي تنظر إلى الخالق (2) . وقال ابن كثير: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} من النضارة, أي: حسنة بهية مشرقة مسرورة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي تراه عياناً, كما رواه البخاري في ((صحيحه)) : ((إنكم ستَرَوْن ربكم عَياناً)) [أي: معاينة ينظرون إليه] .   (1) هو يزيد بن أبي سعيد , أبو الحسن , القرشي بالولاء , المروزي , ثقة عابد. قتل ظلماً سنة إحدى وثلاثين ومائة , انظر: ((التقريب)) (2/365) و ((تهذيب التهذيب)) (11/332) . (2) ((تفسير الطبري)) (29/192-193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الدار الآخرة, في الأحاديث الصحاح, من طرق متواترة عند أئمة الحديث, لا يمكن دفعها, ولا منعها)) (1) ثم ذكر طرفاً منها. وقال البغوي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة {نَّاضِرَة} قال ابن عباس: حسنة, وقال مجاهد: مسرورة, وقال ابن زيد: ناعمة, وقال مقاتل: بيض يعلوها النور, وقال السدي: مضيئة, وقال يمان: مسفرة, وقال الفراء: مشرقة بالنعيم, يقال: نضر الله وجهه, ينضر نضراً, ونضره الله, وأنضره, ونَضُر وجهه, ينضر نضرة ونضارة، قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم} (2) . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة} قال ابن عباس, وأكثر الناس: تنظر إلى ربها عياناً بلا حجاب. قال الحسن: تنظر إلى الخالق, وحق لها أن تنضَّر وهي تنظر إلى الخالق. ثم روى بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه, وأزواجه, ونعيمه, وخدمه, وسرره, مسيرة ألف سنة, وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) . وهذا الحديث هو الذي نقلته عن تفسير الطبري قريباً, وفيه ثوير بن أبي   (1) ((تفسير ابن كثير)) (8/304) . (2) الآية 24 من سورة المطففين. (3) تفسير البغوي على هامش الخازن (7/185-187) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 فاختة, سعيد بن جهمان, ضعيف, قال الحافط: ((أطبقوا على تضعيفه)) (1) . وقال ابن عدي: ((أثَرُ الضعف بَيِّنٌ على رواياته, وهو إلى الضعف أقرب منه إلى غيره)) (2) . وهذا لا يمنع من الاستشهاد بحديثه, كما هي طريقة العلماء فيما لا يخالف الثابت الصحيح, بل يوافقه. وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج ابن مردويه, عن ابن عباس, في قوله - تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى وجه ربها)) (3) . وذكر أحاديث في ذلك وآثاراً كثيرة. و الأحاديث في رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة كثيرة جداً, وقد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وتلقاها أتباعه بكل قبول وارتياح وانشراح لها, وكلهم يرجو ربه ويسأله أن يكون ممن يراه في جنات عدن, يوم يلقاه. ولم يرد هذه الأحاديث إلا أهل البدع والضلال, الذي اعتاضوا بهداية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - آراء فاسدة, زعموا أنها معقولات, وهي ضلالات وجهالات وشبهات, كما سيأتي بيان ذلك, إن شاء الله تعالى. وقد أفرد كثير من أهل السُّنَّة هذه المسألة بمؤلفات خاصة. قال البيهقي: ((لا يخلو النظر أن يكون الله - تعالى - عنى به: نظر الاعتبار,   (1) ((الفتح)) (13/424) . (2) انطر: ((الكامل)) (2/534) . (3) (8/350) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 كقوله – تعالى -: {َفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (1) . أو عنى به: نظرَ التعطف والرحمة, كقوله – تعالى -: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} (2) . أو عنى به: الانتظار, كقوله – تعالى -: {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} (3) أو عنى به: الرؤية, كقوله – تعالى -: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (4) . ولا يجوز أن يكون عنى بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر التفكر والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار, وإنما هي دار اضطرار. ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار؛ لأن ليس في شيء من أمر الجنة انتظار؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير, والآية خرجت مخرج البشارة, وأهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, من العيش, فهم مُمَكَّنون مما أرادوا, وإذا خطر ببالهم شيء, أُتوا به مع خطوره, فلم يجز أن يكون الله أراد بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} نظر الانتظار. ولأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه فمعناه: نظر العينين اللتين في الوجه, كما قال – تعالى -: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} (5) , أراد بذلك تقلب عينيه نحو السماء, ولأنه قال: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .   (1) الآية 17 من سورة الغاشية. (2) الآية 77 من سورة آل عمران. وفي أن المقصود بالآية: العطف والرحمة، نظر. (3) الآية 17 من سورة يس. (4) الآية 20من سورة محمد. (5) الآية 144 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ونظر الانتظار لا يكون مقروناً بإلى؛ لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار ((إلى)) إذا كان معناه الانتظار, قالت بلقيس فيما أخبر الله - تعالى - عنها: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (1) . ولا يجوز أن الله - تعالى - أراد نظر التعطف والرحمة؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم, فإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة, صح القسم الرابع من أقسام النظر, وهو معنى قوله - تعالى -: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} , أنها رائية ترى الله عز وجل. ولا يجوز أن يكون معناه: إلى ثواب ربها ناظرة؛ لأن ثواب الله غير الله, والله - تعالى - قال: {إِلَى رَبِّهَا} لم يقل: إلى غير ربها ناظرة. والقرآن على ظاهره, وليس لنا أن نزيله عن ظاهره, إلا بحجة. ألا ترى أنه لما قال: ((اعْبُدُونِي, وَاشْكُرُواْ لِي)) لم يجز أن يقال: أراد: ملائكتي أو رسلي. ثم نقول: إنْ جاز لكم أن تدَّعوا هذا, في قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} جاز لغيركم أن يدعيه في قوله - تعالى -: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (2) فيقول: أراد بها: لا تدرك غيره, ولم يرد أنها لا تدركه هو, وإذا لم يجز ذلك لم يجز هذا)) (3) ************ 62 - قالَ: ((حدثنا عمرُو بنُ عَوْن, حدثنا خالدٌ وهُشَيمٌ, عن إسماعيلَ, عن قيسٍ, عن جَرير, قالَ: كُنا جُلوساً عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا نظرَ إلى القمر ليلةَ البدر, قالَ: ((إنَّكم سترونَ رَبَّكُم,   (1) الآية 35 من سورة النمل. (2) الآية 103 من سورة الأنعام. (3) ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص74-75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 كما ترونَ هذا القمرَ, لا تُضامُّونَ في رؤيتِهِ, فإنَ استطعتُمْ أنْ لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ, وصلاةٍ قبلَ غروبِ الشمسِ, فافعَلُوا)) . 63 – حدثنا يوسفُ بنُ موسى, حدثنا عاصمُ بنُ يوسفَ اليَرْبُوعِيُّ, حدثنا أبو شهابٍ, عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ, عن قيس بن أبي حازمٍ, عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ, قالَ: قالَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترونَ رَبَّكُم عِيَاناً)) . 64 – حدثنا عَبْدَةُ بنُ عبدِ اللهِ, حدثنا حُسَينٌ الجُعْفِيُّ, عن زائدةَ, حدثنا بَيانُ بنُ بِشْرٍ, عن قيسِ بن أبي حازمٍ, حدثنا جريرٌ, قال: خرج علينا رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ليلةِ البدرِ, فقالَ: ((إنكم سَتَروْنَ رَبَّكُم يومَ القيامةِ, كما تَرَونَ هذا, لا تُضَامُون في رؤيتهِ)) . هذا حديث واحد, ذكره هنا من ثلاثة طرق إلى قيس بن أبي حازم, اقتصر على المقصود في الطريقين الأخيرين, وقد رواه في الصلاة, وفي التفسير. قوله: ((كنا جلوساً عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ نظر إلى القمر ليلة البدر)) هذا يدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – بدأهم بذلك, وسيأتي في حديث أبي هريرة, وأبي سعيد, أن الناس سألوه عن ذلك, فهي قضية أخرى. فهو – صلى الله عليه وسلم – أخبرهم ابتداء بأنهم يرون ربهم يوم القيامة, ووقع من بعضهم السؤال, فأجابهم بأنهم يرونه. وليلة البدر: هي ليلة أربع عشرة, سميت ليلة البدر؛ لأن القمر يكمل فيها ويبدر, وإبداره: كماله وتمامه. قوله: ((إنكم سترون ربكم, كما ترون هذا القمر)) , هذا بيان بليغ, وتأكيد عجيب, فأكده بأن, وبالفعل المضارع المسبوق بالسين, وبقوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ((كما ترون هذا القمر)) مع إشارته إليه, فليس بعد هذا البيان بيان, ولا مزيد على هذه التأكيدات, فمن حاول تأويل رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بعد ما سمع هذا البيان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو يجادل بالباطل ليدحض به الحق, قد اختار الباطل على الحق, وسوف يولّه الله ما تولى. وإذا دخلت السين على الفعل, صار وقوعه في المستقبل. ورؤية العباد لربهم – تعالى – لا تقع إلا في الآخرة, كما سيأتي, إن شاء الله تعالى. وفي ((صحيح مسلم)) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((أما إنكم سَتُعرَضون على ربكم فَتَرَونه)) (1) . ففي كلا اللفظين تأكيد بليغ منه – صلى الله عليه وسلم – بأن المؤمنين يرون ربهم رؤية حقيقية بأبصارهم, مؤكدة كما سيأتي بيان ذلك, إن أراد الله تعالى. قوله: ((لا تضامون في رؤيته)) يروى بضم التاء وتخفيف الميم, والمعنى: لا ينالكم في رؤية ربكم ضيم, أي ظلم وهضم. ويروى بفتح التاء, وتشديد الميم, والمعنى: أنكم ترون ربكم رؤية واضحة, لا تحتاجون في رؤيته أن ينضم بعضكم إلى بعض لتتساعدوا على الرؤية, كما يقع عند رؤية الأمور الخفية. ويروى أيضا: ((تضارون)) بفتح التاء, وضمها, والمعنى: لا يضر بعضهم بعضاً في رؤية الله – تعالى -, فيراه بعضهم, ويحجب عن رؤيته آخرون منهم, بل يراه المؤمنون رؤية واضحة, كوضوح الشمس والقمر. قال الحافظ: ((تضارون بضم أوله, وبالضاد, وتشديد الراء, بصيغة   (1) انظر: مسلم بشرح النووي (5/134) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 المفاعلة من الضرر, وأصله: تضاررون, بكسر الراء وفتحها, أي لا تضرون أحداً, ولا يضركم, بمنازعة ولا مضايقة. وجاء – أيضا – بتخفيف الراء, من الضير, وهي لغة في الضر, أي لا يخالف بعض بعضاً, فيكذبه وينازعه, فيضيره بذلك, يقال: ضاره, يضيره. وقيل: المعنى: لا يحجب بعضكم بعضاً عن الرؤية, فيضر به)) (1) . والمقصود من هذا كله أنهم يرون ربهم, رؤية واضحة, لا يلحقها نقص وليس فيها خفاء, ولا يحتاجون معاونة عليها. قوله: ((فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس, وصلاة قبل غروبها, فافعلوا)) تعقيب الخبر عن رؤيتهم لربهم بالفاء المقترنة بالحث على فعل الصلاة المذكورة, يدل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب حصول الرؤية. وعلق ذلك بالاستطاعة؛ لأنها مناط التكليف, فالله – تعالى – لا يكلف إلا بالمستطاع, كما تدل لذلك النصوص من الكتاب والسُّنَّة. ولهذا قال: ((فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس, وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا)) . والمقصود بالصلاة قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر, والصلاة قبل غروبها: صلاة العصر. وقد جاءت أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالحض على زيادة الاعتناء بهاتين الصلاتين.   (1) ((الفتح)) (11/446) ، وانظر: ((النووي على مسلم)) (3/18) و (5/134) و ((الفتح)) (13/427) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 ففي ((الصحيحين)) عن أبي موسى الأشعري, أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من صلى البردين دخل الجنة)) . وفي ((صحيح مسلم)) عن عمارة بن رؤيبة, عن أبيه, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس, وقبل غروبها – يعني صلاة الفجر والعصر -)) (1) . وفي ذلك أحاديث كثيرة: وقد قال الله – تعالى -: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (2) . وقال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (3) . وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (4) . قوله: ((إنكم سترون ربكم عياناً)) هذا اللفظ من أبلغ النصوص في إثبات الرؤية, فقد أكد رؤية المؤمنين لربهم عدة تأكيدات, كما سبق في الطريق الأولى, غير أنه هنا قال: ((عياناً)) وهو لا يحتمل أي تأويل. ومعنى عياناً: معاينة مقابلين له – تعالى – ينظرون إليه بأعينهم, وفي هذا أبلغ الرد على منكري الرؤية الحقيقية, كما فيه الرد على المتطرفين من الصوفية الذين يزعمون بأنهم يرون الله في الدنيا؛ لأنه قال: ((سترون ربكم)) وهذا   (1) ((مسلم)) (1/440) رقم (634) . (2) الآية 39 من سورة ق. (3) الآية 238 من سورة البقرة. (4) الآية 78 من سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 يكون في المستقبل وفي الرواية الأخرى قيد الرؤية بيوم القيامة, وفي ((صحيح مسلم)) : ((وتعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)) (1) والواقع أن هؤلاء الأدعياء يرون آلهتهم من الشياطين الذين أضلوهم. قال الأزهري: ((رأيت فلاناً عياناً, أي: مواجهة)) (2) . وهذا التفسير لقوله: ((سترون ربكم عياناً)) متفق عليه عند أهل الأثر, وأهل اللغة, وهو من الأمور الواضحة, ولكن لما جاء أهل البدع والتحريف احتيج في ذلك إلى ذكر أقوال العلماء, وسيأتي لذلك مزيد بيان, إن شاء الله تعالى. قوله: ((إنكم سترون ربكم يوم القيامة, كما ترون هذا, لا تضامون في رؤيته)) قيد الرؤية بيوم القيامة, لئلا يتوهم أحد أنه يرى ربه قبل يوم القيامة. وقوله: ((كما ترون هذا)) الإشارة إلى القمر تلك الليلة التي هي ليلة البدر والقمر فيها أتم ما يكون, وأوضح ما يكون, فشبه الرسول – صلى الله عليه وسلم – رؤية المؤمنين لربهم – تعالى – برؤيتهم القمر تلك الليلة في تمامه واستوائه, ووضوحه, والمعنى: أنكم ترون ربكم يوم القيامة رؤية واضحة جلية, لا لبس فيها, ولا خفاء, كما ترون القمر وقت تمامه وكماله ليلة أربع عشرة من الشهر, ليس بينكم وبينه حائل ولا قتر. وهذا غاية البيان والإيضاح في أن المؤمنين يرون الله – تعالى – يوم القيامة, ومع هذا يأبى من غلبت شقوته وضلاله الإيمان بذلك، ويحاول تحريف النصوص الواضحة, لتتفق مع مذهبه الفاسد. 65 – قالَ: حدثنا عبدُ العزيزِ بنُ عبدِ اللهِ, حدثنا إبراهيمُ بنُ   (1) ((مسلم)) (4/2245) رقم (2931) . (2) ((تهذيب اللغة)) (3/206) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 سعدِ, عن ابنِ شهابٍ, عن عطاءِ بنِ يزيدَ الليثيِّ, عن أبي هريرةَ, أنَّ الناسَ قالوا: يا رسولَ اللهِ, هل نَرى ربنا يومَ القيامةِ؟ فقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تضارونَ في القمرِ ليلةَ البدرِ؟)) . قالوا: لا يا رسولَ اللهِ, قالَ: ((فهل تضارونَ في الشمسِ ليسَ دونها سحابٌ؟)) . قالوا: لا يا رسولَ اللهِ, قال: ((فإنَّكم ترونَهُ كذلكَ, يجْمَعُ اللهُ الناسَ يومَ القيامِة, فيقولُ: مَنْ كانَ يعبدُ شيئاً فليتَّبِعْهُ, فَيَتَّبِعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ الشمسَ الشمسَ, ويَتَّبِعُ مَنْ كانَ يعبدُ القمرَ القمرَ, ويتبعُ منْ كان يعبدُ الطواغيتَ الطواغيتَ, وتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ, فيها شافِعُوها – أو مُنَافِقُوها – شكَّ إبراهيمُ فيأتِيهُمُ اللهُ فيقولُ: أنا ربكم, فيقولونَ: هذا مكانُنا حتّى يأتِينَا ربُّنا, فإذا جاءَ ربُّنا عَرَفْناهُ, فيأتِيهُمُ اللهُ في صُورَتِهِ التي يعرفُونَ, فيقول: أنا ربكم, فيقولونَ: أنتَ رَبُّنا, فَيَتَّبعُونَهُ, ويُضْرَبُ الصراطُ بين ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ, فأكُونُ أنا وأُمَّتي أوَّل مَنْ يجيزُها. ولا يتكلمُ يومئذٍ إلا الرسلُ, ودعوى الرسلِ يومئذٍ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وفي جهنمَ كلاليبٌ مثلُ شَوْكِ السَّعْدانِ, هل رَأيْتُمُ السَّعدانَ؟)) قالوا: نَعَمْ يا رسولَ اللهِ, قال: ((فإنها مثلُ شوكِ السعدانِ, غيرَ أنّه لا يَعْلَمُ ما قَدْرُ عِظَمِها إلا اللهُ, تَخْطَفُ الناسَ بأعمالهم, فمنهم المُوبَقُ, بَقِيَ بعَمَلِهِِ, أو الموثَقُ بعَمَلِهِ, ومنهمُ المُخَرْدَلُ, أو المُجازَى – أو نحوه -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 ثم يتجلّى, حتى إذا فرغَ اللهُ مِنَ القضاءِ بينَ العِبادِ, وأرادَ أنْ يُخْرِجَ برحمتِهِ مَنْ أرادَ مَنْ أهل النارِ, أمرَ الملائكةَ أنْ يُخرجوا مِنَ النارِ مَنْ كان لا يُشركُ بالله شيئاً, ممن أرادَ اللهُ أنْ يرحمَهُ, ممن يشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ, فيعرفونهم في النارِ بأثرِ السجودِ, تأكلُ النارُ ابنَ آدمَ إلا أثَرَ السجودِ, حَرَّم اللهُ على النارِ أن تأكلَ أثرَ السجودِ, فيخرجونَ من النارِ قد امْتُحِشُوا, فَيُصَبُّ عليهم ماءُ الحياةِ, فينبتونَ تحتَهُ, كما تنبتُ الحبةُ في حميلِ السيلِ, ثم يَفْرُغُ اللهُ مِنَ القضاءِ بينَ العبادِ, ويبقى رَجُلٌ مقبلٌ بوجههِ على النارِ, هو آخرُ أهلِ النارِ دُخُولاً الجنةَ. فيقولُ: أيُ ربِّ, اصْرِفْ وَجْهي عَنِ النارِ, قَدْ قَشَبَني ريحُها, وأحْرَقنيِ ذكاؤُها, فيدعو الله بما شاءَ أنْ يدعُوه, ثم يقول اللهُ: هل عَسَيْتَ إن أعْطَيْتُكَ ذلك أن تَسْألني غيرَه. فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ لا أسألكَ غيرَه, ويعطي رَبَّهُ منْ عهودِ ومواثيقَ ما شاءَ, فيصرف وجهَهُ عن النارِ, فإذا أقبلَ على الجنةِ ورآها سكتَ ما شاءَ اللهُ أنْ يسكتَ, ثم يقولُ: أيْ رَبِّ, قدِّمني إلى بابِ الجنةِ, فيقولُ اللهُ: ألستَ قد أعطيتَ عهودَك ومواثيقَكَ أنْ لا تسألَني غيرَ الذي أُعطِيتَ أبداً؟ ويلكَ يا ابن آدمَ, ما أغْدَرَكَ. فيقول: أيْ رَبِّ, ويدعو الله, حتى يقولَ: هل عسيتَ إنْ أُعطيتَ ذلك أن تسألَ غيرَهُ؟ فيقول: لا وعزتكَ, لا أسألكُ غيرَهُ, ويُعطي ما شاءَ مِنْ عهودٍ ومواثيقَ, فيقدَّمه إلى بابِ الجنةِ. فإذا قامَ إلى بابِ الجنةِ انْفَهَقَتْ له الجنةُ, فرأى ما فيها من الحَبْرَةِ, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 والسرورِ, فيسكتُ ما شاءَ اللهُ أنْ يسكتَ. ثم يقولُ: أيْ رَبِّ, أدْخِلْني الجنةَ, فيقولُ اللهُ: ألستَ قد أعطيتَ عهودَكَ ومواثيقَكَ أنْ لا تسألَ غيرَ ما أُعطيتَ؟ فيقول: ويلكَ يا ابنَ آدمَ, ما أغدركَ. فيقول: أيْ رَبِّ, لا أكُونَنَّ أشْقَى خَلْقِكَ, فلا يزالُ يدعُو حتى يضحكَ اللهُ مِنْهُ, فإذا ضحكَ مِنْهُ, قالَ له: ادْخُلِ الجنةَ, فإذا دَخَلَها, قالَ اللهُ له: تَمَنَّهْ. فسألَ رَبَّهُ وتمنّى, حتى إنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ, يقولُ: كَذا وكَذا, حتى إذا انقطعتْ بهِ الأمانيُّ, قالَ اللهُ: ذلكَ لَكَ, ومِثْلُهُ مَعَهُ)) . قال عَطَاءُ بنُ يزيدَ: وأبو سعيدٍ لخُدْرِيُّ مع أبي هريرةَ, لا يَرُدُّ عليهِ مِنْ حديثِهِ شيئاً, حتى إذا حَدَّثَ أبو هريرةَ أنَّ اللهَ – تَباركَ وتعالى – قالَ: ذلك لكَ, ومِثلُهُ مَعَهُ, قال أبو سعيد الخدريُّ: وَعَشَرَةُ أمثَالِهِ مَعَهُ, يا أبا هريرةَ. قال أبو هريرةَ: ما حفظتُ إلا قولَهُ: ذلك لك, ومثلُهُ معهُ. قال أبو سعيد الخدريُّ: أشْهَدُ أني حفظتُ مِنْ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَوْلَهُ: ذلكَ لكَ, وعشرةُ أمثالِهِ. قال أبو هريرة: فذلكَ الرَّجُلُ آخِرُ أهلِ الجنةِ دُخُولاً الجنة)) . قوله: إن الناس قالوا: هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) , هذا السؤال تكرر من الصحابة في مجالس متعددة, كما تدل على ذلك الأحاديث, وسبب ذلك الدافع الإيماني, والاشتياق من المؤمنين صادقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الإيمان, إلى رؤية ربهم, تبارك وتعالى. وقد أجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواباً شافياً, وواضحاً غاية الوضوح, حتى لو تكلف أحد أن يوضحه أكثر من إيضاح الرسول – صلى الله عليه وسلم – له ما استطاع. فلذلك صار من لم يقبل ذلك تاركاً للحق عناداً وقصداً, والله يوليه ما تولى. ولذلك قال: ((هل تضارون في القمر ليلة البدر)) أي: هل يضر بعضكم بعضاً في مشاهدة القمر, في أتم ما يكون, وأكمل ما يكون, وهذا أمر واضح جداً. ولهذا قالوا: لا. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - ((فهل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)) أي: لم يحل دونها حجاب, مع صحة أبصاركم, قالوا: لا يا رسول الله, قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) أي: أنكم ترون ربكم, رؤية واضحة, كرؤيتكم للقمر ليلة أربع عشرة, وكوضوح الشمس طالعة ليس دونها ما يحول بينكم وبينها. فأي وضوح أوضح وأجلى من ذلك؟ قوله: ((يجمع الله الناس يوم القيامة)) أي أنه: - تعالى - يبعثهم من قبورهم أحياء, ثم يجمعهم جميعاً في مكان واحد, من أولهم – الذي هو أبوهم آدم عليه السلام – إلى آخر مولود منهم, ثم يقفون في ذلك المكان, وقوفاً طويلاً جداً, ينتظرون ربهم يأتيهم فيقضي بينهم, قال الله – تعالى -: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) , فيأتيهم – تعالى – ((فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه)) يعني من كان في الدنيا يعبد شيئاً غير الله فإنه يمثل له, أو يؤتى بذلك المعبود   (1) الآية 6 من سورة المطففين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 نفسه – إن لم يكن ممن يطيع الله – كهيئته في الدنيا, سواء كان ذلك المعبود رجلاً, أو صنماً, أو مالاً, أو شهوة, أو غير ذلك, ثم يؤمر بتلك المعبودات إلى النار ((فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس, ويتبع من كان يعبد القمر القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت)) الطواغيت هي: كل معبود من دون الله, وتطلق على الأصنام, والأوثان, والقبور, التي يتجه إليها بالعبادة, قال الأزهري: ((قال أبو إسحاق: كل معبود من دون الله: جبت وطاغوت. وقيل: الجبت والطاغوت: الكهنة والشياطين. وفي بعض التفسير: الجبت والطاغوت: حيي بن أخطب, وكعب بن الأشرف, اليهوديان, وهذا غير خارج مما قال أهل اللغة؛ لأنهم إذا اتبعوا أمرهما فقد أطاعوهما من دون الله)) (1) . وقال ابن القيم: ((الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود, أو متبوع, أو مطاع, فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله – تعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم أو يعبدونه, من دون الله, أو يتبعونه على غير بصيرة من الله, أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله, فهذه طواغيت العالم, إذا تأملتها, وتأملت أحوال الناس, رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت, وعن التحاكم إلى الله, وإلى الرسول, إلى التحاكم إلى الطاغوت, وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته)) (2) . قلت: أكثر الخلق اليوم واقعون فيما ذكره ابن القيم, فهم يعبدون   (1) ((تهذيب اللغة)) (8/168) . (2) ((إعلام الموقعين)) (1/50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 الطواغيت من الأحياء والأموات ويتحاكمون إليها, ويدينون لها بالولاء والطاعة, ويجعلون السيادة للقانون الذي هو طاغوت يحكمونه من دون الله ويستخفون بشرع الله وحكمه, مع تيسر الوصول إليه, ولكنهم لا يريدون حكم الله, وإنما يريدون حكم الجاهلية, وقد قال الله – تعالى -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (1) . قوله: ((تبقى هذه الأمة فيها شافعوها – أو منافقوها – شك إبراهيم)) قال ابن أبي جمرة: ((يحتمل أن يكون المراد بالأمة: أمة محمد – صلى الله عليه وسلم -، يحتمل أن يدخل فيه جميع أهل التوحيد, حتى من الجن, ويدل عليه ما في بقية الحديث: ((ممن كان يعبد الله من بر وفاجر)) (2) . قال الحافظ: ((ويدل له أيضاً قوله: ((فأكون أول من يجيز)) فإن فيه إشارة إلى أن الأنبياء يجيزون أممهم بعده)) (3) . وفي رواية أبي سعيد: ((حتى يبقى من يعبد الله من بر وفاجر)) كما سيأتي. قوله: ((فيها شافعوها – أو منافقوها -)) هذه رواية إبراهيم بن سعد. قال الحافظ: ((والمعتمد: رواية ((منافقوها)) كما هي رواية الأكثر)) (4) . ويأتي في رواية أبي سعيد: ((حتى يبقى من كان يعبد الله, من بر وفاجر, وغبرات من أهل الكتاب)) وفي رواية مسلم: ((وغبر)) وكلاهما: جمع غابر, والغبرات: جمع غبر, وغبر: جمع غابر, ويجمع أيضا على أغبار, والمراد البقية,   (1) الآية 65 من سورة النساء. (2) ((بهجة النفوس)) (2/24) وما نقل هنا بالمعنى. (3) ((الفتح)) (11/449) . (4) المرجع المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 أي بقايا قليلة من اليهود والنصارى, الذين كانوا يعبدون الله – تعالى – وحده, أما معظمهم, فقد ذهب بهم إلى جهنم, عندما قال الله: ((ليتبع كل عابد ما كان يعبده)) . وفي قصة لوط – صلى الله عليه وسلم – قول الله – تعالى -: {إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِين َ} (1) . والمراد: أن كل من يعبد – غير الله تعالى – يحضر له معبوده الذي كان يعبده في الدنيا أو يمثل له, فيقال: اتبعه, ويذهب به إلى النار, ويبقى الذين لا يعبدون إلا الله من المؤمنين الصادقين, والمنافقين. قوله: ((فيأتيهم الله)) هذا من أوصاف الله وأفعاله التي يفعلها إذا شاء, وهي مما يجب الإيمان به على ظاهر النص, كما هي طريقة سلف هذه الأمة الذين تلقوا ذلك عن الله ورسوله بالقبول, والتسليم, ومعلوم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أغير على الله, وأعظم تعظيماً له, وأعلم به وبما يجب له, وما يمتنع عليه, من أهل التأويل الذين يزعمون أنهم ينزهون الله عن أوصاف المحدثين, كما يقولون, ولهذا تجدهم يجهدون أنفسهم في تحريف كلام الله – تعالى – وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – زاعمين أنه لو أُجري على ظاهره لأفاد التشبيه والتجسيم, فلذلك جعلوا تأويله واجباً. والواقع أن ما يسمونه من ذلك تأويلاً هو تحريف وإلحاد, كما أشرنا إليه فيما سبق. وفي هذه الجملة من الحديث, وهي قوله: ((فيأتيهم الله, فيقول: أنا ربكم، فيقولون: ((هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه)) شاهد للباب, لأن ظاهره أنهم يرونه, غير أنهم في هذه المرة لم يعرفوه؛   (1) الآية 171 من سورة الشعراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 لأنه تعالى لم يظهر لهم بأوصافه التي يعرفونه بها, وقد جاء في رواية أبي سعيد الآتية: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) ولهذا قالوا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه)) . قوله: ((فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا, فيتبعونه)) وهذه الجملة أيضاً هي المرادة من سياق الحديث في الباب؛ لأن فيها دلالة واضحة على رؤية المؤمنين ربهم في ذلك الموقف, وسيأتي بحث ذلك والرد على شبه النفاة, إن شاء الله تعالى. وفي هذه الجملة من الحديث, والتي قبلها, كثر اضطراب شراح الحديث, وتخبطوا كثيراً؛ لأنهم على عقيدة الأشاعرة, وسأذكر بعض أقوالهم في ذلك؛ للعبرة, ثم أذكر ما يبين بطلانها, مستعيناً بالله تعالى. ثم إنه يجب على كل مسلم أن يعلم بأن الله تعالى – قد أكمل لهذه الأمة دينها, وبينه بياناً لا يحتاج معه إلى استدراك أحد من الناس, وسيأتي دليل ذلك, ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أقام الحجة وأوضح المحجة, فيجب على المسلم أن يؤمن بأنه أكمل الخلق هداية, وأنه بلغ عن الله ما أمره الله بتبليغه, وأنه أفصح الناس, وأقدرهم على بيان مراده, وأنه أنصح الخلق لأمته وأحرصهم على هدايتهم, وهو أعظم الناس خوفاً من الله, وتعظيماً له, وهو أعلم الناس بالله, وبما يجب له - تعالى - وما يمتنع عليه. فلابد أن يبين لأمته ما يجب عليهم أن يعتقدوه في ربهم, بياناً لا لبس فيه, ولا غموض, فلا يحتاجون معه إلى بيان غيره, وإلا لا يكون بلغ البلاغ المبين, قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) , وقد سأل الناس: هل بلغ رسالة   (1) الآية 67 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 ربه؟ فشهدوا له بأنه بلغ البلاغ المبين. وأخبر – صلوات الله وسلامه عليه – أنه ترك أمته على البيضاء, ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك (1) . ولا يعقل أنه يبين لأمته آداب الأكل والشرب والنوم, ودخول المنزل والخروج منه, وركوب الدابة, ولبس النعل والثوب, وقضاء الحاجة, وغير ذلك مما لو تركه المسلم لم يأثم على تركه, ثم يترك معرفة الله, وما يجب أن يعتقد ويثبت له - تعالى -, وما يجب أن ينفى عنه مجهولاً, أو ملتبساً حقه بباطله. إن من يترك التعصب ويتخلص من التقليد الأعمى, وينظر بعقل وإنصاف, فلابد أن يقتنع بأن الذي قاله الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبلغه هو الحق. ثم صحابة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذين تلقوا العلم والإيمان منه لابد أن تكون هدايتهم أتم وأكمل ممن جاء بعدهم, لا يخالف في هذا إلا ضال أو مضلل تائه, لا يعرف الإسلام. ولم يأت عنهم – رضوان الله عليهم – كما لم يأت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما يشير, ولو إشارة, إلى أن ظاهر النصوص التي فيها أوصاف الله – تعالى – أنه لا يجوز اعتقاد ما دلت عليه ظاهراً, أو أنه ينبغي تأويلها. قال الله -تعالى -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دينًا} (2) . وقال – تعالى -: {ِ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ   (1) انظر ((سنن ابن ماجه)) (1-4) . (2) الآية 3 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال – تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) , وقال – تعالى -: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) وقال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (4) . ولا يشك مسلم بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد امتثل أمر ربه, فبلغ البلاغ المبين, حتى ترك أمته على المحجة البيضاء, ليلها كنهارها, لا لبس فيها, ولا غموض. وأعظم ذلك باب معرفة الله - تعالى – بأسمائه وصفاته. وبهذا يتبين أن قول أهل التأويل باطل قطعاً, وأن الحق فيما قاله الله – تعالى – عن نفسه, وما قاله رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن ظاهر قول الله – تعالى – وقول رسوله – صلى الله عليه وسلم – حق وهدى. ولكن يجب أن يفهم مراد الله – تعالى – في خطابه لعباده, ومراد رسوله – صلى الله عليه وسلم, من غير تقصير, ولا غلو. وإن من الخذلان أن ينصرف العبد عما تعرف الله به إلى عباده, من أسمائه وأوصافه, ويعتقد أنها تدل على خلاف الحق, وأن الحق والهدى في كلام أهل الجدل والفلسفة, الذين يعتمدون على آرائهم, وعقولهم, فيما يجب لله, وما يمتنع عليه, مع أنهم لم يجنوا من ذلك إلا الحيرة والشك, فإذا حضرهم الموت, أقروا على أنفسهم بأنهم لم يعلموا شيئاً. قال شيخ الإسلام: ((بلغني بإسناد متصل, عن بعض رؤوسهم, وهو الخونجي,   (1) الآية 44 من سورة النحل. (2) الآية 89 من سورة النحل. (3) الآية 64 من سورة النحل. (4) الآية 67 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وهو عند كثير منهم, غاية في هذا الفن (1) ، أنه قال عند الموت: ((أموت, وما علمت شيئاً, إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب, ثم قال: الافتقار: وصف عدمي, أموت وما علمت شيئاً. قال: وذكر الثقة, عن الآمدي أنه قال: ((أمعنت النظر في الكلام, وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام)) . وقال الأصبهاني للشيخ إبراهيم الجعبري: ((بت البارحة أفكر إلى الصباح, في دليل على التوحيد سالم عن المعارض, فما وجدته)) (2) . وحدثني من قرأ على ابن واصل الحموي, أنه قال: ((أبيت بالليل, وأستلقي على ظهري, وأضع الملحفة على وجهي, وأبيت أقابل أدلة هؤلاء, بأدلة هؤلاء, وبالعكس, وأصبح وما ترجح عندي شيء)) كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة)) (3) ولهذا وأمثاله قال الشافعي: ((لئن يبتلى العبد بكل ذنب نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام)) . بعض أقوال شراح الحديث: قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله-: ((نسبة الإتيان إلى الله, عبارة عن رؤيتهم إياه, وقيل: الإتيان: فعل من أفعال الله (4) يجب الإيمان به مع تنزيه الله عن سمات الحدوث.   (1) يعني: فن الكلام الذي يسمونه: التوحيد. (2) يعني: ما يسمونه بالأدلة العقلية، وهي جهالات توصل إلى ظلمات الشك. (3) ((درء تعارض العقل والنقل)) (3/262-264) . (4) تقدم أن الفعل عند الأشاعرة المراد به: المفعول المخلوق المنفصل عن الله – تعالى -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وقيل: فيه حذف, تقديره: يأتيهم بعض ملائكته, ورجحه عياض, ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها؛ لما رأوا فيها من سمة الحدوث. ويحتمل وجهاً رابعاً: وهو أن المعنى: يأتيهم الله بصورة – أي بصفة - تظهر لهم, من الصور المخلوقة, التي لا تشبه صفة الإله, ليختبرهم بذلك, فإذا قال لهم هذا الملك: أنا ربكم, رأوا عليه من علامة المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم)) (1) وقال الرازي: ((الكلام على هذا الحديث من وجوه: الأول: أن تكون ((في)) بمعنى الباء, والتقدير: فيأتيهم الله بصورة, غير الصورة التي عرفوها في الدنيا, وذلك بأن يريهم ملكاً من الملائكة, ونظيره قول ابن عباس في قوله – تعالى -: {هَل يَنظُرُونَ إَّلا أَن يَأتِتَهُمُ اللهُ فيِ ظُلَلِ مّنَ الغَمَامِ} . أي: بظلل من الغمام. ثم إن تلك الصورة تقول: أنا ربكم, وكأن ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الآخرة. أما قولهم: ((إذا جاء ربنا عرفناه)) فيحمل على أن يكون المراد: فإذا جاء إحسان ربنا عرفناه. وقوله: ((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها)) فمعناه: فيأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان. الثاني: أن يكون المراد من الصورة: الصفة, والمعنى: أن يظهر لهم من بطش الله, وشدة بأسه, ما لم يألفوه, ولم يعتادوه من معاملة الله – تعالى – معهم, ثم يأتيهم بعد ذلك بأنواع الرحمة والكرامة, على الوجه الذي اعتادوه   (1) ((الفتح)) (11/450) وانظر: كلام النووي في ((شرح مسلم)) (3/19) فإنه متفق مع ما هنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وألفوه)) (1) . وقال الخطابي: ((الذي يجب على كل مسلم أن يعلم أن ربنا ليس بذي صورة, ولا هيئة, فإن الصورة تقتضي الكيفية, وهي عن الله وعن صفاته منفية, وقد يتأول معناها على وجهين: أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة, كقول القائل: صورة هذا الأمر كذا وكذا, يريد صفته, فوضع الصورة موضع الصفة. والثاني: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هو صور وأجسام, كالشمس والقمر, والطواغيت, ونحوها, ثم لما عطف عليها ذكر الله – سبحانه – خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة, فقيل: يأتيهم الله في صورة كذا)) (2) . وهذا كثير من كلام أهل التأويل ممن يتصدى لشرح الحديث, وغيرهم ممن يتكلم في العقائد, حتى لا تكاد تجد من تكلم على هذا الحديث بالصواب. لهذا سأجعل الكلام على هذه الجملة من الحديث في أربعة فصول: الأول: في ذكر ما تيسر من روايات الحديث. الثاني: في معنى الصورة في اللغة. الثالث: في تعيين المراد من الحديث. الرابع: في رد التأويل الباطل الذي يُؤول به الحديث, كما ذكرت أمثلة منها.   (1) تأسيس التقديس)) (ص88-89) . (2) نقلا من: ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص296) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الفصل الأول في ذكر ما تيسر من روايات الحديث فحديث أبي هريرة هذا رواه البخاري في الصلاة, في باب فضل السجود, ولفظه: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها, فيأتيهم الله, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) إلخ (1) . ورواه في ((الرقاق)) ولفظه: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها, فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا أتانا ربنا عرفناه, فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)) ورواه في ((التوحيد)) : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله, حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب)) إلخ, وقد مضى ذكر لفظه. وأخرجه مسلم, ولفظه: ((وتبقى هذه الأمة, فيها منافقوها, فيأتيهم الله – تبارك وتعالى – في صورة غير صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه, فيأتيهم الله – تعالى – في صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا, فيتبعونه)) إلخ (2) . وذكر الدارقطني له عدة ألفاظ بطرق عدة, في إحداها: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة, جاء الرب – عز وجل – إلى المؤمنين, فوقف عليهم, والمؤمنون على كوم – قالوا لعقبة: وما الكوم؟ قال: المكان المرتفع – فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إن عرفنا نفسه عرفناه, فيقول لهم الثانية: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إن عرفنا نفسه عرفناه, قال: فيتجلى   (1) ((البخاري)) (1/133) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة. (2) ((صحيح مسلم)) (1/113) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 لهم – عز وجل – فيضحك في وجوههم فيخرون له سجداً)) (1) . وذكر روايات كثيرة كلها تتفق مع لفظ البخاري ومسلم, وفي بعض رواياته: ((فيأتيهم الله – عز وجل – في غير صورته, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه, فيأتيهم الله – عز وجل – في صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا)) إلخ (2) . ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري, وسيأتي – إن شاء الله تعالى – ولفظ الشاهد منه: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا, فلا يكلمه إلا الأنبياء)) . ورواه في ((التفسير)) ولفظه: ((حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله, من بر وفاجر, أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها, فيقول: ماذا تنتظرون)) ولم يذكر بقيته (3) . ورواه في ((الرقاق)) وفي ((الإيمان)) مختصراً جداً. ورواه مسلم مطولاً: ((حدثني سويد بن سعيد, قال: حدثني حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيد الخدري: أن ناساً في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: يا رسول الله, هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نعم – قال– هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله, قال: ((ما تضارون   (1) كتاب ((الرؤية)) (ص64) رسالة دكتوراه من الجامعة الاسلامية. (2) المرجع المذكور (ص99) . (3) ((البخاري مع الفتح)) (8/249، 663) و (1/72) و (11/416، 446) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 في رؤية الله – تبارك وتعالى – يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما, إذا كان يوم القيامة, أذن مؤذن: ليتبع كل أمة ما كانت تعبد, فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله – سبحانه – من الأصنام والأنصاب, إلا يتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله, من بر وفاجر, وغُبَّرُ أهل الكتاب, فيدعى اليهود, فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيزاً ابن الله, فيقال: كذبتم, ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد, فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا, فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار, كأنها سراب, يحطم بعضها بعضاً, فيتساقطون في النار. ثم يدعى النصارى, فقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله, فيقال لهم: كذبتم, ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد, فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا, قال: فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم, كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً, فيتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله, من بر وفاجر, أتاهم رب العالمين - سبحانه وتعالى - في أدنى صورة من التي رأوه فيها, قال: فماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا, فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم, ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, لا نشرك بالله شيئاً - مرتين أو ثلاثاً - حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب. فيقول: هل بينكم وبينه آية, فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم, فيكشف عن ساق, فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود, ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء, إلا جعل الله ظهره طبقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 واحدة, كلما أراد أن يسجد خر على قفاه. ثم يرفعون رؤوسهم, وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة, فقال: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا)) (1) وذكر بقية الحديث. ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنَّة)) وفيه: ((فيبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر, ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة, فيقول: أيها الناس, لحقت كل أمة ما كانت تعبد, وبقيتم, فلا يكلمه يومئذ إلا الأنبياء: فارقنا الناس ونحن إلى صحبتهم أحوج, لحقت كل أمة ما كانت تعبد, ننتظر ربنا الذي كنا نعبد. فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك, فيقول: هل بينكم وبين الله آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم, فيكشف عن ساق, فيخرون سجداً أجمعين، ولا يبقى أحد كان يسجد في الدنيا سمعة ولا رياء, ولا نفاقاً, إلا على ظهره (2) طبق, كلما أراد أن يسجد خر على قفاه. ثم يرفع برنا ومسيئنا, وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة, فيقول: أنا ربكم, فنقول: نعم)) (3) . وفيه مع رواية مسلم التصريح بأنهم قد سبق أن رأوه مرة قبل هذه. وفي هذه المرة تنكر لهم في غير صورته التي تبدى لهم بها قبلها, وذلك للامتحان, ولهذا قالوا: نعوذ بالله منك, لا نشرك بالله شيئاً, هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه, فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم, الساق, فيكشف عن ساقه, عند ذلك يعرفونه, فيخرون   (1) ((صحيح مسلم)) (1/167) . (2) هكذا في المطبوعة بتحقيق الألباني ويظهر أنها محرفة من ((إلا عاد ظهره طبقا) والمطبوعة كثيرة التحريف. (3) ((السُّنّة)) لابن أبي عاصم (1/285) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 له سجداً, فإذا رفعوا رؤوسهم من السجود، إذا هو قد عاد في صورته التي رأوه فيها أول مرة. وهذا الحديث كما يقول ابن فورك: ((يدخل في باب المستفيض الذي تلقاه أهل العلم بالقبول, ولم ينكره منهم منكر)) (1) وقد جاء ذكر الصورة في أحاديث أخرى, ثابتة لا مطعن فيها, كما في ((الصحيحين)) من حديث أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم -, قال: ((خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا, فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس, فاستمع ما يحيونك, فإنها تحيتك وتحية ذريتك, فقال: السلام عليكم, فقالوا: السلام عليك ورحمة الله, فزادوه: ورحمة الله – فكل من يدخل الجنة على صورة آدم, فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (2) . وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإن الله خلق آدم على صورته)) (3) وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان, عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)) (4) . وقال أيضاً: ((حدثنا يحيى, عن ابن عجلان, عن سعيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, ولا تقل: قبح الله وجهك, ووجه من أشبه وجهك, فإن الله – تعالى –   (1) ((مشكل الحديث)) (ص4) . (2) ((البخاري)) (8/43) و ((مسلم)) (4/2183) وأحمد في ((المسند)) (2/315) . (3) البخاري في كتاب ((العتق)) (3/131) وليس فيه ذكرُ الصورة، ولفظه لمسلم (4/2017) . (4) ((المسند)) (2/244) وإسناده في أعلى درجات الصحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 خلق آدم على صورته)) (1) , وفي رواية الدارقطني: ((فإن الله خلقه على صورته)) . حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا المثنى بن سعيد, وبهز, قالا: حدثنا همام, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم, فليجتنب الوجه, قال ابن المهدي: فإن الله – تعالى – خلق آدم على صورته)) (2) . قال: حدثنا سليمان بن داود, أخبرنا المثنى, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن أبي هريرة, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله – عز وجل – خلق آدم على صورته)) (3) . وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن عجلان, حدثنا سعيد, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, ولا يقول قبح الله وجهك, ووجه من أشبه وجهك)) (4) . وقال أيضاً: كتب إلى قتيبة بن سعيد, يذكر أن الليث حدثهم, عن ابن عجلان, عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك, ووجه من أشبه وجهك, فإن الله خلق آدم على صورته)) (5) 0) .   (1) ((المسند)) (2/251، 434) وسنده حسن، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/229) . (2) ((المسند)) (2/463) . (3) ((المسند)) (2/519) . (4) ((السُّنّة)) لعبد الله ابن الإمام أحمد (ص161) . (5) ((السُّنّة)) (ص169) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 وقال أيضاً: حدثني أبو معمر, حدثنا جرير, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبحوا الوجه, فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) (1) وقال: حدثني أبو بكر الصاغاني, حدثنا أبو الأسود, وهو النضر بن عبد الجبار, حدثنا ابن لهيعة, عن أبي يونس, عن أبي هريرة, عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإن صورة الإنسان على وجه الرحمن)) (2) . وقال ابن أبي عاصم: ((حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء, حدثني عمي محمد بن سواء عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أبي رافع, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإن الله – تعالى – خلق آدم على صورة وجهه)) (3) هذا إسناد صحيح, وهو ظاهر في إبطال قول من جعل الضمير في قوله ((على صورته)) عائداً إلى آدم. وقال: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا جرير, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر, قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبحوا الوجوه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن)) (4) . هذا حديث صحيح صححه الأئمة, الإمام أحمد, وإسحاق بن راهويه, وليس لمن ضعفه دليل إلا قول ابن خزيمة, وقد خالفه من هو أجل منه.   (1) كتاب ((السُّنّة)) (ص170) ورواه ابن خزيمة في ((التوحيد)) ، وقد اشترط أنه لا يدخل فيه إلا حديثاً صحيحاً، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) وسيأتي، والبيهقي في ((الصفات)) (ص291) . (2) المرجع السابق (ص215) . (3) ((السُّنّة)) (1/227-228) وقول الألباني: لكني في شك من ثبوت قوله ((على صورة وجهه)) لا وجه له، وإن كان هو في شك من ذلك، فالحفاظ من أهل الحديث لم يشكوا فيه. (4) المرجع السابق (ص228-229) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 ((قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: ((وأما تضعيف ابن خزيمة لحديث ابن عمر بأن الثوري أرسله, فخالف فيه الأعمش, وأن الأعمش وحبيباً مدلسان. فيقال: قد صححه إسحاق بن راهويه, وأحمد بن حنبل, وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس. وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء بن أبي رباح إذا أرسل هذا الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلابد أن يكون قد سمعه من أحد (1) , فإذا كان في إحدى الطريقين قد بين أنه أخذه عن ابن عمر, كان هذا بياناً وتفسيراً لما تركه وحذفه في الطريق الأخرى, ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً)) (2) ويأتي بقيته – إن شاء الله تعالى -. وقال ابن أبي عاصم أيضاً: ((حدثنا عمر بن الخطاب, حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا ابن لهيعة, عن أبي يونس – سليم بن جبير -, عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من قاتل فليجتنب الوجه, فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن)) (3) , وسنده أقل درجاته الحسن, فابن لهيعة رمي بسوء الحفظ, وهو في هذا لم يخالف غيره من الثقات, كما في الذي قبله. وقال الخلال: أخبرنا علي بن حرب الطائي, حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن ابن لهيعة, عن أبي يونس, والأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن عز وجل)) (4) .   (1) لأنه قد علم أن القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب. (2) ((نقض التأسيس)) (2/2636) والجزء مكتوب عليه أنه الثالث، وهو خطأ. (3) ((السُّنّة)) لابن عاصم (1/230) . (4) ((نقض التأسيس)) (2/223) ، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/230) ، والدارقطني في ((الصفات)) (ص37) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وروى الإمام أحمد, والترمذي, وابن خزيمة, من حديث معاذ بن جبل قال: احتبس عنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات غداة, عن صلاة الصبح, حتى كدنا نترائى قرن الشمس, فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سريعاً, فثوب بالصلاة, فصلى, وتجوز فيها, فقال: ((إنما حبسني أني رأيت ربي – عز وجل – في أحسن صورة)) (1) . وأخرج الدرامي, عن عبد الرحمن بن عائش, سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب, فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي, فعلمت ما في السماوات والأرض)) وذكر بقيته مطولاً)) (2) . وأخرج الترمذي عن ابن عباس, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أتاني ربي في أحسن صورة, فقال: يا محمد, فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب – أعادها ثلاثاً – فرأيته وضع كفه بين كتفي, حتى وجدت برد أنامله بين صدري, فتجلى لي كل شيء وعرفت,   (1) ((المسند)) (5/243) ، والترمذي في تفسير سورة ص، (5/369) رقم (3288) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هذا صحيح، وقال: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم. ورواه الدارقطني في كتاب: ((الرؤية)) وذكر له طرقاً عدة (ص385-394) رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية. (2) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (1/520) ، وابن جرير: في ((التفسير)) ، وابن منده في: الرد على الجهمية (ص90) ، والآجري في: الشريعة (ص497) ، والدارقطني في: ((الرؤية)) (ص395/411) وذكر له طرقاً متعددة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فقال: يا محمد, فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات)) (1) إلى آخره. وروي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة, منهم: أنس, وأبي أمامة, وعمران بن حصين, وعبد الله بن عمر بن الخطاب, وثوبان مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -, وغيرهم, ذكر أحاديثهم الدراقطني في ((الرؤية)) وغيره. *******   (1) الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، (5/45) رقم (3287) ، ورواه ابن أبي عاصم في ((السُّنّة)) (1/204) ، والآجري في: الشريعة (ص496) ، والدراقطني في: ((الرؤية)) ، وذكر له عدة طرق رقم (244) (ص411) رسالة دكتوراه في الجامعة الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الفصل الثاني في معنى الصورة في اللغة ((وهو شكل الشيء, وحقيقته, وهيئته)) , وفي متن اللغة: ((الصورة: الشكل, والهيئة, والحقيقة)) (1) . قال في ((القاموس)) : ((الصورة, بالضم: الشكل, جمعها صور)) . وقال في ((شرحه)) : ((الصورة بالضم: الشكل, والهيئة, والحقيقة, والصفة)) (2) . وقال الراغب: ((الصورة: ما ينتقش به الأعيان, ويتميز بها عن غيرها, وذلك ضربان: أحدهما: محسوس, يدركه الخاصة والعامة, بل يدركه الإنسان, وكثير من الحيوان, كصورة الإنسان, والفرس والحمار, بالمعاينة والرؤية. والثاني: معقول, يدركه الخاصة دون العامة, كالصورة التي اختص الإنسان بها, من العقل والرؤية, والمعاني التي خص بها. وإلى الصورتين أشار بقوله - تعالى -: {فَأَحَسَنَ صُوَرَكُم} , {يُصَوِرُكُم فِي الأَرحَامِ} , فالصورة المراد بها: ما خص الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر, والبصيرة, وبها فضله على كثير من خلقه)) (3) .   (1) ((متن اللغة)) (4/514) . (2) ((تاج العروس)) (3/342) . (3) ((المفردات)) (ص289) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وقال ابن الأثير: ((الصورة ترد في كلام العرب على ظاهرها ,وعلى معنى حقيقة الشيء, وهيئته, وعلى معنى صفته)) (1) . وقال ابن فارس: ((الصورة جمعها صور, وهي هيئة خلقته)) (2) . وبهذا يتبين أن الصورة في اللغة: هيئة الشيء القائم بنفسه, وشكله, وكل موجود غير مفتقر لغيره يكون قائماً بنفسه, تصح رؤيته ومشاهدته, يكون له صورة وحقيقة, والله – عز وجل – أعظم موجود وأكبره, وهو مستغن بنفسه عن غيره, وهو القائم بنفسه, والقائم على كل شيء بما يصلحه, فهو – تعالى – حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم, ورؤيته تعالى جائزة في العقل في الدنيا؛ لأن كليم الله موسى سألها, ولا يسأل نبي الله إلا ما هو جائز, وواقعة في الآخرة للمؤمنين والمنافقين أيضاً في الموقف, كما نطقت بذلك الأحاديث. وأما في الجنة فلا يراه إلا المؤمنون, والمنافقون لا يدخلون الجنة. قال شيخ الإسلام: ((الصورة: هي الصورة الموجودة في الخارج, ولفظ ((صَ وَرَ)) يدل على ذلك, وما من موجود من الموجودات إلا له صورة في الخارج, وما يكون من الوقائع يشتمل على أمور كثيرة لها صورة موجودة في الخارج, ثم تلك الصورة الموجودة ترتسم في النفس صورة ذهنية, فمثلاً صورة الواقعة, أو صورة المسألة, إما أن يراد بها الصورة الخارجية, أو الصورة الذهنية)) (3) . وقد يقصد بالصورة: الوجه, كما في ((المسند)) من حديث ابن عمر مرفوعاً: ((ونهى أن تضرب الصور – يعني الوجه-)) (4) .   (1) ((النهاية)) (3/59) . (2) ((مقاييس اللغة)) (3/320) . (3) ((نقض التأسيس)) (3/245) . (4) ((المسند)) (2/118) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وفيه أيضاً عن ابن عمر أنه كان يكره العلم في الصورة, أو قال: ((نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ضرب الصور – يعني الوجه -) (1) . وقال شيخ الإسلام أيضاً: ((لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات, التي قد يسمى المخلوق بها, على وجه التقييد, وإذا أطلقت على الله اختصت به, مثل العليم, والقدير, والرحيم, والسميع, والبصير, ومثل خلقه بيديه, واستوائه على العرش, ونحو ذلك)) (2) . وقال أيضاً: ((وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به, فلابد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها, ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها)) (3) . وبهذا يتبين أن الصورة كالصفات الأخرى, فأي صفة ثبتت لله تعالى بالوحي, وجب إثباتها والإيمان بها.   (1) ((المسند)) (8/189) رقم ((5991)) تحقيق أحمد شاكر، والعلم هو: الوسم. (2) ((نقض التأسيس)) (3/396) . (3) ((نقض التأسيس)) (3/275) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الفصل الثالث في المعنى المراد من حديث الصورة إن من يتتبع روايات هذه الأحاديث يتبين له بوضوح المعنى المراد بها, وقد تقدم ما فيه الكفاية من ذكر الروايات, لمن كان قصده الحق. قال ابن قتيبة: ((الصورة ليست بأعجب من اليدين, والأصابع, والعين, وإنما وقع الإلف لتلك؛ لمجيئها في القرآن, ووقعت الوحشة من هذه؛ لأنها لم تأت في القرآن, ونحن نؤمن بالجميع, ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد)) (1) . قال شيخ الإسلام: ((وقد ذكر الخلال في ((السُّنَّة)) ما ذكره إسحاق بن منصور الكوسج عن أحمد, وإسحاق, أنه قال لأحمد: لا تقبحوا الوجه, فإن الله خلق آدم على صورته, أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح, وقال إسحاق: صحيح. وذكر عن يعقوب بن بختان, أن أبا عبد الله, أحمد بن حنبل, سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله آدم على صورته؟)) قال: الأعمش يقول: عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر (2) . وقد رواه أبو الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((على صورته)) , فنقول كما جاء بالحديث.   (1) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص221) . (2) يعني حديثه: ((فإن آدم خلق على صورة الرحمن)) ، فأحمد يشير بذلك إلى أن الواجب القول بظاهر الحديث؛ لأنه ظاهر مراد المتكلم به، وقوله: صحيح، يعني أن الحديث صحيح، فيجب اعتقاد ما دل عليه، والقول بموجبه، وفي ذلك رد لقول ابن خزيمة ومن قلده، وسيأتي ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 قال: وسمعت أبا عبد الله, يقول: لقد سمعت الحميدي بحضرة سفيان بن عيينة, وذكر هذا الحديث: ((خلق الله آدم على صورته)) , فقال: من لا يقول بهذا الحديث, فهو كذا وكذا – يعني من الشتم – وسفيان ساكت, لا يرد عليه شيئاً. قال المروزي: أظن أني ذكرت لأبي عبد الله, عن بعض المحدثين بالبصرة أنه قال: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله آدم على صورته)) , قال: صورة الطين, قال: هذا جهمي, وقال: نسلم للخبر كما جاء. وروى الخلال, عن أبي طالب, من وجهين, قال: سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد بن حنبل – يقول: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي. وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟ قال الخلال: أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني, قال: سمعت إسحاق – ابن راهويه – يقول: قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نطق به. قال إسحاق: حدثنا جرير, عن الأعمش, عن حبيب بن أبي ثابت, عن عطاء, عن ابن عمر, عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) . فقد صحح إسحاق حديث ابن عمر مسنداً, خلاف ما قاله ابن خزيمة. وقال الخلال: أخبرنا علي بن حرب الطائي, حدثنا يزيد بن أبي الزرقاء, عن ابن لهيعة, عن أبي يونس, والأعرج, عن أبي هريرة, عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه, فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن – عز وجل -)) (1) .   (1) ((نقض التأسيس)) المخطوط (3/223) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وقال الحافظ: ((الأكثر على أن الضمير يعود على المضروب؛ لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه, ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها)) . وقال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله, متمسكاً بما ورد في بعض طرقه: ((إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) , قال: وكأن من رواه أورده بالمعنى, متمسكاً بما توهمه, فغلط. وقد أنكر المازري ومن تبعه صحة هذه الزيادة. ثم قال: وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري – سبحانه وتعالى -. قلت: الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في ((السُّنَّة)) والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات, وأخرجها ابن أبي عاصم أيضاً من طريق أبي يونس, عن أبي هريرة ,بلفظ يرد التأويل الأول (1) , ولفظه: ((من قاتل فليجتنب الوجه, فإن صورة وجه الإنسان, على صورة وجه الرحمن)) . فتعين إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السُّنَّة, من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه (2) , أو من تأويله على ما يليق بالرحمن (3) - جل جلاله -. وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم (4) , أي على صفته, أي خلقه موصوفاً بالعلم الذي فضل به على الحيوان, وهذا محتمل. وقال حرب في كتاب ((السُّنَّة)) : ((سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) .   (1) وهو كون الضمير يعود إلى المضروب (2) مذهب السلف اعتقاد ما دلت عليه النصوص بلا تفويض ولا تشبيه ولا تأويل. (3) التأويل باطل , وهو مذهب المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم. (4) سيأتي إبطال ذلك , إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وقال إسحاق الكوسج: سمعت أحمد يقول: هو حديث صحيح. وقال الطبراني: في كتاب السُّنَّة: حدثنا عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل قال: قال رجل لأبي: إن رجلاً قال: خلق الله آدم على صورته, أي صورة الرجل, فقال: كذب, هو قول الجهمية)) (1) . ********   (1) ((الفتح)) (5/183) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 الفصل الرابع في بيان بطلان قول أهل التأويل الفاسد فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في تأويل إتيان الله - تعالى - بأنه رؤيتهم إياه, أو أنه مجاز حذف تقديره: ((يأتيهم بعض ملائكة الله, أو: أن يأتيهم بصورة من الصور المخلوقة)) إلى آخر ما ذكر. والجواب: أن هذه التأويلات مخالفة لكتاب الله - تعالى - ولأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفة صريحة, بحيث يجوز أن نقول: إنها تكذيب لكلام الله وكلام رسوله, ورد له, وفتح لباب الزندقة والكفر. لأن النصوص في ذلك جلية واضحة, فإذا صح تأويلها بما ذكر, أمكن كل مبطل أن يؤول ما شاء من التأويل. قال الله - تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الامُورُ} (1) . وقال- تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ أوْ يَأتِىَ رَبُّكَ} (2) . فبين تعالى أن إتيانه غير إتيان الملائكة, وغير إتيان الآيات. وقال - جل وعلا -: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3) .   (1) الآية 21 من سورة البقرة. (2) الآية 158 من سورة الأنعام. (3) الآية 22 من سورة الفجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وغير ذلك من الآيات, وأما الأحاديث, فكثيرة جداً, وسيأتي ذكر بعضها, إن شاء الله – تعالى -. فالحق الذي دلت عليه نصوص الوحي: أن لله – تعالى – أفعالاً اختيارية يفعلها بمشيئته, كالاستواء, والنزول, والمجيء, والخلق, والرزق, ونحو ذلك. قال ابن كثير: ((قوله – تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ} , يعني: يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين, فيجزي كل عامل بعمله, إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, ولهذا قال – تعالى -: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الامُورُ} (1) . وقال ابن جرير: ((والأولى بالصواب من وجه قوله: {فيِ ظُلَلِ مِنَ الغَمَامِ} أنه من صلة فعل الله – تعالى – وأن معناه: ((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام, وتأتيهم الملائكة)) ؛ لما حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا إبراهيم بن المختار, عن ابن جريح, عن زمعة بن صالح, عن سلمة بن وهرام, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفاً)) , وذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} (2) . ثم ذكر حديث الصور الطويل المشهور, وفيه: ((فيقول الله لي: يا محمد, فأقول: نعم, وهو أعلم, فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب, وعدتني الشفاعة, فشفعني في خلقك (3) , فاقض بينهم, فيقول: قد شفعتك, أنا آتيكم فأقضي بينكم ... فبينا نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً,   (1) ((تفسير ابن كثر)) (1/248) . (2) الآية 210 من سورة البقرة. (3) هذه الجملة من الحديث فيها نكارة؛ لأنها تخالف النصوص الثابتة قطعاً من أن الشفاعة لا تطلب من الله رأساً بدون دعاء , وكذلك له تعالى , حتى يأمر – جلا وعلا – بها , قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشفَعُ عِندَهُ إِلا بِإذنِهِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 فهالنا فنزل أهل السماء الدنيا, بمثلي من في الأرض من الجن والإنس, حتى إذا دنوا من الأرض, أشرقت الأرض بنورهم, وأخذوا مصافهم, فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا, وهو آت)) . ثم ذكر مثل ذلك في كل سماء, ثم قال: ((حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام, والملائكة, ولهم زجل من تسبيحهم, يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت, سبحان رب العرش ذي الجبروت, سبحان الحي الذي لا يموت, سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت, سبوح قدوس, رب الملائكة والروح, قدوس, قدوس, سبحان ربنا الأعلى, سبحان ذي السلطان والعظمة, سبحانه أبداً أبداً، فينزل - تبارك وتعالى - يحمل عرشه يومئذ ثمانية)) (1) . وهذا صريح في أن إتيان الله – تعالى – على ظاهره, يأتي إلى الأرض, يفصل بين عباده, ويتولى حسابهم بنفسه – تعالى -, وكل واحد منهم سوف يخاطبه, كما سيأتي في حديث عدي بن حاتم. وهذا الحديث الذي استشهد به الإمام الطبري, وإن كان سنده ضعيفاً, إلا أن هذا القدر منه قد دلت عليه النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة, فوجب قبوله, والإيمان به. والله – عز وجل – ليس كمثله شيء لا في ذاته, ولا في أوصافه, ولا في أفعاله, فمجيء الله – تعالى – ونزوله, وعلوه, واستواؤه, خاص به, على ما يليق بعظمته. ((والمجيء والإتيان, والصعود والنزول, توصف به روح الإنسان التي تفارقه بالموت, وتوصف به الملائكة, وليس نزول الروح وصعودها من جنس نزول   (1) ((تفسير الطبري)) (1/191) طبعة بولاق الأولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 البدن وصعوده, فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السماوات ثم تهبط إلى الأرض فيما بين قبضها ووضع الميت في قبره. وهذا زمن يسير لا يمكن صعود البدن ثم نزوله في مثله. وكذلك صعودها في النوم, وذهابها إلى أماكن نائية, ثم عودها إلى البدن في اليقظة, لا يمكن للبدن مثل ذلك. فإذا كانت الروح تعرج إلى السماء في هذا الوقت القصير, فهذا يدل على أن عروجها ومجيئها ليس من جنس عروج البدن ومجيئه, ومثل ذلك يقال في الملائكة. فمجيء الرب تعالى, وصعوده, واستواؤه, فوق ذلك كله وأجل منه وأعظم, فإنه – تعالى – أبعد عن مماثلة كل مخلوق, من مماثلة مخلوق لمخلوق كالروح والبدن مثلاً)) (1) . وقوله: ((نسبة الإتيان إلى الله عبارة عن رؤيتهم إياه)) . فنقول: هذا من التحريف الجلي, فالناس كلهم يفرقون بين الإتيان والرؤية, فإن الإتيان المذكور في الحديث فعل الله – تعالى – يفعله إذا شاء, وأما الرؤية فهي تقع من الخلق. وقد ذُكرت في أول الحديث في قوله: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) وذلك بعد مجيئه – تعالى – إليهم في الموقف, وقوله لأهل ذلك الموقف: ((ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون, فتمثل لهم معبوداتهم, ثم يتبعونها إلى النار)) . فهذا التأويل بطلانه ظاهر, وهو أشبه باللعب في كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -,   (1) ((شرح حديث النزول)) (ص 75 , 92 , 93) بتلخيص وتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 بل هو تحريف كتحريف الباطنية والفلاسفة وأهل الزندقة. وأما قوله: ((وقيل: الإتيان: فعل من أفعال الله يجب الإيمان به مع تنزيه الله عن سمات الحدوث)) . فيقال: لو أن الحافظ رحمه الله اقتصر على هذا القول الذي ذكره بصيغة التمريض, لكان أولى له وأعذر عند الله – تعالى – وعند عباده المؤمنين؛ لأنه لا يخالف لفظ الحديث, وإن كان الفعل عند الأشعرية يقصد به المفعول, كما تقدم. وأما قوله: ((وقيل: فيه حذف تقديره: يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض)) فيقال: بطلان هذا أظهر مما تقدم. وكل مَنْ قَبِلَ ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسلم له منقاداً, فإنه يعلم يقيناً بطلان هذا القول, بل هذا يعلمه كل عاقل يتصور ما يقول. ونحن نسأل أصحاب هذا القول الذي رجحه عياض: هل يجوز للمَلَك الذي يأتيهم – كما زعموا- أن يقول لأهل ذلك الموقف: أنا ربكم؟ وقد قال الله – تعالى – عن الملائكة أجمعين: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ} (1) . والله – تعالى – لا يأمره بذلك؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر, فإن هذا شرك وكفر, والله – تعالى – لا يأمر به. ومثل هذا, التأويل الرابع, الذي جعله محتملاً له, وهو قولهم: إن الله – تعالى – يأتيهم بصورة مخلوقة, تقول لهم: أنا ربكم)) فهذا كلام سخيف مضحك, وشر البلية ما أضحك. فلولا أنه مسطور في الكتب المتداولة بين طلبة العلم لنزهت كتابي عن ذكره,   (1) الآية 29 من سورة الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 فإن مثله يجب أن تنزه عنه كتب العلم؛ لأنه منكر من القول وزور, وهو أقرب إلى السخرية والتهكم بكلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من كونه يحتمله, ولا يشك من يعرف معاني الكلام أن هذا تحريف لكلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتعطيل لله – تعالى – عن الإتيان, والصعود والاستواء, أو فعل ما يريد من ذلك. ولكن هؤلاء المحرفون يجهدون أنفسهم ويبذلون وسعهم في تحريف كلام الله وكلام رسوله, وصد الناس عن قبوله على ظاهره, ثم يغلبون وتكون جهودهم عليهم حسرة, وسوف يندمون عند ظهور الحقائق. قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: ((وأما أهل التحريف والتأويل, فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر, وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا. ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات, التي يحتاج فيها إلى إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة, وإلى الاستعانة بغرائب المجازات, والاستعارات. وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علماً يقيناً أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه. وهؤلاء كثيراً ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض, فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده متكلم, لا يقصدون طلب مراد المتكلم به, وحمله على ما يناسب حاله. وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم, وتفسير كلامه بما يعرف به مراده, وعلى الوجه الذي يعرف مراده, فصاحبه كاذب على من تأول كلامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل, بل يقولون: يجوز أن يراد كذا, وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ. فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين, وغيرهم)) (1) . ومن تأمل هذه الأحاديث التي تقدم ذكر بعضها, وتفهم سياقها, وما دلت عليه من المعاني, وما اتفقت عليه من الأخبار بأن الله يأمر كل من عبد غيره أن يتبعه, بعدما يمثل له ذلك المعبود, وأنه لا يبقى في الموقف إلا من يعبد الله وحده, من بر وفاجر, فيأتيهم الله في صورة لا يعرفونه فيها, امتحاناً, فيثبتهم, ثم يتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة, وذلك بعد أن كشف لهم عن ساقه فسجدوا له, هل يصح عند عاقل أنهم يسجدون لصورة مخلوقة؟ فمن تأمل ذلك علم قطعاً أن الذي يأتيهم هو رب العالمين, وليس ملكاً ولا شيئاً آخر مما ذكره المحرفون, وعلم قطعاً بطلان تأويلهم. وأما قوله: ((يحتمل أن المعنى: يأتيهم الله بصورة, تظهر لهم من الصور المخلوقة)) , فهذا الاحتمال هو ما ذكره الرازي في تأسيسه, وقد تكفل شيخ الإسلام بدحض باطلة, قال رحمه الله -: ((الوجه الثاني: أن قوله: تكون ((في)) بمعنى الباء, والتقدير: فيأتيهم الله بصورة, غير الصورة التي عرفوها في الدنيا إلى آخره. يقال: أولاً: هذا تبديل للغة, وقلب [لها] , فإن الباء في مثل قولك: جئت بكذا, تكون لتعدية الفعل, فالمجرور بالباء في مثل هذا اللفظ يدل دلالة صريحة على أنه أوقع الفعل ممن غيره, فهو جعل غيره آتياً, كقوله – تعالى -: {عَسَى   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/12) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} (1) . وقوله: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ} (2) . وقوله: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} (3) . فليس في هذا النظم إشعار بأن المأتي به ظرف للفاعل, ولا أنه فوقه, أو في جوفه, أو غير ذلك من المعاني التي يدل عليها لفظ ((في)) ولذلك لا تصلح أن توضع ((في)) موضع الباء في هذا الاستعمال, فلا تقول: ((عسى الله أن يأتيني فيهم)) ((إنما يأتيكم فيه الله)) . وأما قوله: {فَلَنَأتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ} , فإذا كان هو الذاهب بالجنود, فإنه يصح أن يقول ((فلنأتينهم في جنود)) وإلا لم يصح, وهذا من المشهور في اللغة يعرفه عامة علماء اللغة. فلذلك صار هذا التأويل تحريفاً لكلام الله, وكلام رسوله, فإن قوله – تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} (4) , لا يصلح أن يراد به أنه يرسل ذلك، ولا يأتي هو. ثم قال: ((الوجه الثالث)) : أن قوله: ((فيأتي الله في صورته التي يعرفون)) وقوله: ((فيأتيهم الله في صورة غير صورته)) . وقوله: ((أتاهم رب العالمين في أدني صورة من التي رأوه فيها أول مرة)) . وقوله: ((في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) ، ونحو ذلك،   (1) الآية 83 من سورة يوسف عليه السلام. (2) الآية 33 من سورة هود عليه السلام. (3) الآية 37 من سورة النمل. (4) الآية 210 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 لو احتمل أن يكون بمعنى: فيأتيهم بصورة، فإن لفظ الصورة المضاف إلى شيء هو من باب الإضافة النفسية, لا الخلقية، فإن الإضافة تكون فيما هو قائم بنفسه، كما في قوله ((ناقة الله)) و ((بيت الله)) و ((أرض الله)) ونحو ذلك مما فيه دلالة على أنه منفصل عن المضاف إليه، وأما الصفات، مثل العلم، والقدرة، ونحو ذلك، فإذا أضيف كانت إضافته إضافة نفسية، إذا لم يتبين خلاف ذلك. والصورة صفة قائمة بذي الصورة، فليست من الأعيان المنفصله عن المضاف إليه، حتى تجعل بمعنى الملك، فلا يمكن أن تكون صورة الله التي يأتي فيها مخلوقاً منفصلاً عنه. الوجه الرابع: أنه قال: فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون (1) ، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا)) ، وفي لفظ: ((أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم)) (2) . ومعلوم أن أحداً من الملائكة لا يقول للخلق: أنا ربكم، بل لا يدعي هذه الدعوى إلا كافر بالله، كفرعون, والدجال، والشيطان. بل الملائكة عباد مطيعون لله – تعالى –، لا يدعون الربوبية، ولا الإلهيَّة، كما قال – تعالى -: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ} (3) . ولا يأمر الله أحداً من الخلق أن يقول لجميع العباد: أنا ربكم، فإنه - تعالى – لا يأمر بالشرك.   (1) هذه رواية مسلم في حديث أبي هريرة، انظر: ((صحيح مسلم)) (1/164) . (2) هذه أيضا رواية مسلم من حديث أبي سعيد، إلا أنه ليس فيها ((أول مرة)) ، انظر: ((مسلم)) (1/168) . (3) الآية 29 من سورة الأنبياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 ومن زعم أن الله يأمر بهذا، فهو مفتر على الله. وإن كان الملك يقول امتحاناً، فهذا لا يصلح، كما لا يصلح أن يقول أحد من الأنبياء والمرسلين للناس: أنا ربكم، على سبيل الامتحان. ولسنا ننكر الامتحان في القيامة، فإن المحنة لا تنقطع إلا بدخول دار الجزاء، الجنة أو النار، ولكن المحنة من الملائكة أن يقول للعبد: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ الوجه الخامس: أنه لو كان الممتحن لهم في ذلك الموقف، ملكاً من الملائكة، لقال لهم: من ربكم؟ ومن تعبدون؟ ويقال لهم: هلا تذهبون مع ربكم؟ إذ من الممكن أن يظهر لهم صورة، ويقول لهم الملك: هلا تذهبون مع هذه الصورة؟ كما أنه في أول الحديث قال: وأذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد. فلو كان المخاطب لهم عن الله – تعالى – لقال ما يصلح له، كما في نظائر ذلك، ولكن من شأن الجهمية أنهم يجعلون المخاطب للعباد بدعوى الربوبية غير الله، كما قالوا: إن الخطاب الذي سمعه موسى، بقوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (1) ، كان قائماً بمخلوق، كالشجرة، وكما قالوا: في قوله: ((من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)) (2) . إنه يقول هذا ملك من الملائكة. وهذا كله من الكفر والإلحاد. وكما يزعم الرازي في قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3) . أن ربه ملك من الملائكة.   (1) الآية 12 من سورة طه. (2) الحديث سيأتي. (3) الآية 22 من سورة الفجر، انظر: ((تفسير الرازي)) (31/ 173) ومراده قوله: ((الرب هو المربي، ولعل ملكاً هو أعظم الملائكة هو مربِّ للنبي – صلى الله عليه وسلم – جاء، فكان هو المراد من قوله: وجاء ربك)) (ص 174) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الوجه السادس: أنه قال: ((فيأتيهم الله في صورة، غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) (1) ، وهذا نص في أنهم رأوا الله قبل هذا الخطاب في صورة غير الصورة [التي ظهر لهم فيها حال الخطاب] ، فلو كان المخاطب لهم ملكاً لكان المرئي قبل ذلك هو الملك، لا الله، والحديث نص في أنهم رأوا الله قبل هذه المرة. الوجه السابع: أنه قال: ((فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه)) (2) . وفي الحديث الآخر: ((إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله، من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة، من التي رأوه فيها (3) . وفي رواية: ((إنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، فيأتيهم الجبار في صورة، غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) (4) . وفي رواية: ((أتاهم رب العالمين، في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فيقال: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم؟ فيقولون: لا نشرك بالله شيئاً، مرتين، أو ثلاثاً فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد   (1) سيأتي ذلك في حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى. (2) سيأتي ذلك في حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى. (3) تقدم ذلك في حديث أبي هريرة، وهو متفق عليه. (4) في حديث أبي سعيد، وهو متفق عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (1) . وهذا صريح بأن الذي أتاهم، وقال: أنا ربكم، هو الذي أراهم العلامة حتى عرفوه فسجدوا له بعد ذلك، وعرفوا أنه رب العالمين، ولو كان القائل: أنا ربكم، ملكا، لكان الملك هو الذي اعترفوا آخر اً أنه رب العالمين، وهو الذي سجدوا له، وهذا من أعظم الكفر والضلال. الوجه الثامن: أن قوله: ((فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) وأنه يبدي العلامة التي ذكرها، فيسجدون له، صريح بأن الذي يسجدون له، قد جاء في الصورة التي يعرفون، ويتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وذلك صريح بأن الله هو الآتي، في الصورة التي عرفوه فيها، ويسجدون له لما عرفوه)) (2) . وقولهم: ((يحتمل أن يكون المراد: إذا جاء إحسان ربنا عرفناه)) ، وقوله: ((فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون)) ، معناه: بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان. فيقال: هذا باطل، فإن معرفة آياته تكون في الإحسان والعقاب، في الدنيا والآخرة، والله – تعالى – هو الخالق لكل شيء، كما قال – تعالى -: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} (3) . وقال – تعالى - {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (4) .   (1) ((نقض التأسيس)) (3/223) ، وكل هذه الروايات التي ذكرها في ((الصحيحين)) . (2) ((نقض التأسيس)) (3/223) ، وكل هذه الروايات التي ذكرها في ((الصحيحين)) . (3) الآية 93 من سورة النمل. (4) الآية 53 من سورة فصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فمعرفة الله بآياته ليست موقوفة على الإحسان، فبطلان هذه الدعوى واضح، كما أن الأوجه التي ذكرها شيخ الإسلام كلها تبطل هذا الزعم. ومما يبطله أيضاً ما ذكر في الأحاديث، أنه إذا قال لهم أولاً: ((أنا ربكم، يقولون: لا نشرك بالله شيئاً، أو نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى ممن كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود)) إلى آخره. وقد قال أهل التأويل الباطل: إن المراد بقوله: ((فيكشف عن ساق)) : الشدة، كما يقال: كشفت الحرب عن ساق. كما قالوا في قوله: ((فيأتيهم في الصورة التي يعرفون)) إنها أمارات الإحسان)) وهذا تناقض، حيث جعلوا ما تتوقف معرفته عليه: مرةً الإحسان، ومرة أخرى هو الشدة والعذاب. ومما يبطل قولهم أيضاً ما في حديث جابر: ((ثم يأتينا ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه)) (1) ، وهذا صريح أن الذي أتاهم، والذي تجلى لهم هو ربهم – تعالى – وأنهم عرفوه لما تجلى لهم يضحك. ثم إن جميع ألفاظ الحديث صريحة في أن الذي يأتي، وجاء إليهم، وقال: أنا ربكم، ورأوه، هو الذي سجدوا له، فاقتضى ذلك أن يكون المتجلي لهم، المسجود له، هو الذي جاءهم في الصورة، وتكرر ذلك، فلا يجوز أن يكون ذلك ملكاً، أو بعض النعم المخلوقة، أو شدة، أو غير ذلك مما زعمه المبطلون.   (1) رواه مسلم في ((صحيحه)) رقم (316) ، ورواه الإمام أحمد، انظر: ((المسند)) (3/345) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 ولهذا كان الإمام أحمد يحتج على إثبات الرؤية بالمجيء والإتيان، كما ذكر الخلال في السنة، عن أبي طالب، قال: ((وقول الله تعالى: {هَل يَنِظُرُونَ إِلا أَن يَأتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلائِكَةُ} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاَ صَفَّاَ} فمن قال: إن الله لا يرى فقد كفر)) . فبين أن هذه الآيات تدل على أنه يأتي، ويجيء، وذلك يقتضي الرؤية, كما صرحت به الأحاديث المفسرة لكتاب الله تعالى. ومما يبين فساد قول المؤولين: أن في حديث ابن مسعود فرقاً بين إتيان الرب نفسه، وإتيان سائر المعبودات، وذلك يفسر ما ورد في بقية الأحاديث، فإنه قال: ((ثم ينادي مناد: يا أيها الناس، ألا ترضون من ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولاه، ويعبده في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا, قال: فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون. فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان من الحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون، قال: ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويتمثل لمن كان يعبد عزيزاً شيطان عزيز. قال: فيتمثل لهم الرب فيأتيهم فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، بيننا وبينه علامة، إذا رأيناها عرفناه، فيقول: ما هي؟ قال: فيقولون: يكشف عن ساقه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساقه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 قال: فيخر من كان يسجدله طوعاً، ويبقى قوم ظهورهم كأنها صياصي البقر)) (1) . فلما ذكر تلك المعبودات، ذكر أنه يمثل أشباهها، وأن المعبود من الأنبياء تأتي شياطينهم؛ لأنهم قد اتبعوها في الدنيا وعبدوها، وذكر أن الرب - تعالى - لما امتحن العباد هو الذي يتمثل لهم، وهو الذي أظهر لهم العلامة التي عرفوه بها حتى سجدوا. فلو كان الآتي هو ملك من ملائكة الله، أو شيء من مخلوقاته، لكان بيان هذا أولى من بيان أن أولئك إنما جاءت أشباههم، إذ في هذا من المحذور ما ليس في ذلك، بل هذا التفريق بين هذا وهذا دليل واضح على أن الذي أتاهم هو رب العالمين، الذي تمثل لهم في الصورة، والذي اتبعه المشركون هو أشباه المعبودات، وشياطين الأنبياء. ومما يبين ذلك ما أخبر به: أنه بعد إتيانه إياهم في الصورة التي يعرفون، وإظهار الآية التي عرفوه بها، وسجود المؤمنين له دون المنافقين أنهم اتبعوه حتى مروا على الصراط، كما بين ذلك في حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر وابن مسعود، فلو كان الذي جاء في هذه المرة الثانية هو بعض النعم – كما زعم المحرفون – لكانوا قد اتبعوا تلك النعمة المخلوقة، وليس الرب الذي عبدوه، وهو خلاف نصوص الأحاديث، وخلاف العدل الذي أخبر به الحديث، وذلك أن العبادة مستلزمة كمال المحبة للمعبود، وكمال التعظيم له، فإن المعبود هو الذي يقصد ويحب لذاته، والمرء مع من أحب، وهذا حقيقة العدل: أن يكون الإنسان مع المحبوب الذي يحبه محبة كاملة بحيث يحبه لذاته.   (1) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في ((السنة)) (2/521) فقرة (1203) ، ورواه الدراقطني في كتاب: الرؤية، انظر: (ص 297) رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون المؤمنون متبعين لغير الله، والذي جاءهم هو الذي اتبعوه، وهو الله، وهو الذي جاءهم في الصورة التي عرفوه فيها. ولا ريب أن عند الجهمية ممتنعاً أن يكونوا متبعين لله، كما يمتنع أن يكون هو الآتي، وكما يمتنع أن يكون قد أتاهم في صورة، وكما يمتنع أن يتجلى لهم ضاحكاً، وكما يمتنع أن يكشف عن ساقه، بل أن يكون له ساق. فأحد الأمرين لازم: إما أن يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم – هو الحق، أو ما يقوله هؤلاء الجهمية – المحرفون -. وهما متناقضان غاية التناقض، ومن عرف ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم - ثم وافقهم فلا ريب أنه منافق)) (1) . وأما قولهم: ((يحتمل أن يراد بالصورة: الصفة (2) ، والمعنى: أنه يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه ما لم يألفوه، ولم يعتادوه، ثم يأتيهم بعد ذلك بأنواع الرحمة والكرامة، على الوجه الذي اعتادوه وألفوه)) (3) . قال شيخ الإسلام: ((هذا التأويل أفسد من الذي قبله، وأكثر الوجوه التي أبطل بها التأويل السابق تبطل هذا، ولهذا خصائص تظهر بوجوه: أحدها: أن تفسير الصورة بمجرد الصفة فاسد (4) ، فحيث دل لفظ الصورة على صفة قائمة بالموصوف، أو على صفة قائمة بالذهن واللسان، فلا بد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية. الثاني: أن إظهار الشدة في تسمية ذلك صفة، كإظهار النعمة، وكإظهار   (1) ((نقض التأسيس)) (3/365-375) المخطوط، ببعض التصرف. (2) هذا التأويل غير التأويل المشهور، الذي يظن كثير من الناس أنه قول أهل السنة، وهو أن المراد بالصورة: أن خلق فيه السمع والبصر والإرادة، ونحو ذلك، وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى -. (3) هذا من كلام الرازي في تأسيسه. (4) سيأتي بيان فساده إن شاء الله تعالى -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 الملك، إذ جميع ذلك عبارة عن خلق شيء من الأجسام وإظهاره. فتسمية هذا صفة دون الملك والإحسان تحكم باطل. الثالث: أن الناس مازالوا يألفون أن الله يبتليهم بالسراء والضراء، فدعوى أن أحدهما مألوف دون الآخر باطل. الرابع: أن الله إذا أظهر عذابه وشدته، لم يجز الامتناع من السجود له في هذه الحال، ولا يجوز إنكار ربوبيته، حتى يقول الأنبياء والمؤمنون: نعوذ بالله منك، وينكرون أن يكون هو ربهم، ومعلوم أن السجود في حال إظهار الشدة أولى منه في حل إظهار النعمة، كما في الكسوف والخسوف ونحوهما. الخامس: أن هذا يكون قبل مرورهم على الصراط، وقبل تميز المنافقين من المؤمنين، والنعيم والعذاب والشدة بعد ذلك، إذا مروا على الصراط وتميز السعداء من الأشقياء. السادس: أنه أخبر في الأحاديث أن المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً آخر قد صاروا إلى العذاب، وبعد ذلك يأتي المسلمين ربُّهم في غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها. فلم يظهر الشدة والبطش والعذاب إلا للكفار من المشركين وأهل الكتاب. السابع: أن في الأحاديث: ((إذا سجد المسلمون، لم يتمكن من السجود المنافقون)) ، وفي أحاديث أخرى (1) : أنهم يعطون بعد هذا الأنوار, على قدر أعمالهم, ثم يمرون على الصراط، فناج مسلم، وهو الذي ينجو بلا أذى، وناج مخدوش، وهو الذي يصيبه من لفح النار، ومكدوس في نار   (1) كحديث جابر، وحديث ابن مسعود، وقد تقدم ذكر من خرجهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 جهنم، وهم المعذبون. فلم يكن العذاب والشدة إلا بعد هذا كله، حيث المرور على الصراط، فكيف يقال: إن إتيانه أولاً في غير صورته التي يعرفون، هو إتيان عذابه وبأسه، وهو لم يأت منه شيء بعد؟ الثامن: أنهم تأولوا كشفه عن ساقه بأنه إظهار الشدة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي [لا] يعرفونها يكشف لهم عن ساقه فيسجدون له، فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة. التاسع: أنه ليس في ما ذكره إلا أنه يجيء بعض مخلوقاته، إما التي تسر، وإما التي تضر، ومن المعلوم أن الله – تعالى – لا يوصف بنفسه مخلوقاته، بل كونها ليست صفات له أظهر من كونها ليست صورة له، فقول القائل: يأتيهم الله في صورته التي يعرفون، أو التي لا يعرفون، أي في صفته التي يعرفون، أو التي لا يعرفون، ثم يؤول ذلك بمجيء بعض ما يخلقه من الضراء أو السراء، من أفسد الكلام، فإن النعم والنقم ليست من صفات الله التي يوصف بها، وإنما يوصف بأنه يخلقها ويحدثها ويفعلها، فلا يصح أن يكون مجيئها مجيء الله في صفته. العاشر: أن أكثر هؤلاء المؤولة أشاعرة، وعندهم أن الخلق هو المخلوق، كما سيأتي – إن شاء الله – بيانه، فليس الخلق صفة لله – تعالى – عندهم، كالمعتزلة، فإذا كان كذلك كيف يكون المخلوق المكون من صفات الله تعالى؟ الحادي عشر: أنه لو كان اللفظ: فيأتيهم الله في صورة عظيمة، أو: في صفة عظيمة، كما يقال: وجاء الملك في صورة عظيمة، ودخل المدينة على صفة عظيمة، ونحو ذلك، لأمكن صحة دعواهم أن الصورة أو الصفة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 المخلوقات؛ لأن قوله: في صورة، أو صفة، نكرة مثبتة لم يعين صاحبها. فإذا قيل: في صورته التي يعرفون، أو صورته التي لا يعرفون، أو: في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، وقيل: إن الصورة بمعنى الصفة، كان ذلك صفة له، فيمتنع أن يكون عائداً إلى غيره. الثاني عشر: أن ألفاظ الحديث في هذا كله مصرحة بأن الله – تعالى – هو الآتي، وهي بذلك موافقة لدلالة القرآن مفسرة له، حيث أخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – في أول الأحاديث بأنهم يرون ربهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب، جواباً لهم لما سألوه: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ وأخبرهم أيضاً ابتداءً بدون سؤال، فإنه – صلى الله عليه وسلم – كان يحدثهم بهذا الحديث مرات متعددة. ثم وصف هذه الرؤية، فأخبر أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، وأخبر باتباع المشركين لما كانوا يعبدونه، ثم قال: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم، أنت ربنا، فيتبعونه)) . وفي الحديث الآخر يقال لهم: ((هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً, ثم يرفعون رؤوسهم، وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة)) . وفي الحديث الآخر: ((ثم يأتينا ربنا، بعد ذلك، فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 لهم يضحك، قال: فينطلق بهم فيتبعونه)) . وفي الحديث الآخر: قال: ((يجمع الله الأولين والآخرين لميقات)) (1) يوم معلوم، قياماً، أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، قال: وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد ... )) الخ. وإذا كانت الأحاديث مصرحة بمجيء الرب نفسه صريحاً يعلمه الخاص والعام، ويزيل كل شبهة، علم أن هذه التحريفات، تكذيب للرسول – صلى الله عليه وسلم -, لا تصدر إلا من جاهل بما أخبر به أو منافق، ليس بمؤمن به. فأما من آمن به، وعلم ما جاء به، فلا يكون إلا مصدقاً بمضمونها. ومضمون ما يقوله هؤلاء المحرفون: أن العبادة تكون لغير الله، وهذا من جملة شركهم، فإنهم دخلوا في الشرك من وجوه: منها: إثباتهم خصائص الربوبية لغير الله، حتى جعلوه يدعي الربوبية، ويحاسب العباد, ويسجدون له)) (2) . واعلم أن لهم تأويلات غير ما ذكر هنا، من ذلك ما ذكره الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد، وما ذكره الفخر الرازي في ((تأسيسه)) ، وتبعه على ذلك كل من جاء بعده من شراح الحديث, إلا من شاء الله – تعالى -, فلذلك ننقل ما فيه شبهة قد تشكل على من قرأ كلامهم، وننقل رد شيخ الإسلام عليهم، أما ما هو ظاهر البطلان، فلا حاجة إلى ذكره. قال الرازي: ((اعلم أن الصورة ما وردت في القرآن، ولكنها واردة في الأخبار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) وقوله: ((لا يقولن أحدكم لعبده: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) . ثم قال: ((والجواب: اعلم أن الهاء في قوله: على صورته،   (1) وكل هذه الروايات ثابتة في ((الصحاح)) وغيرها، وسبقت الإشارة إلى ذكر من رواها. (2) ((نقض التأسيس)) (3/377 – 383) مخطوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 يحتمل أن تكون عائدة على شيء غير صورة آدم، وغير الله، ويحتمل أن تكون عائدة إلى آدم، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الله، فهذه طرق ثلاث)) . ثم ذكر الطريقين الأولين والتأويل فيهما، ولظهور بطلان ما ذكره نعرض عنهما؛ لأننا قد ذكرنا فيما تقدم ما يبين بطلان كون الضمير عائدا إلى غير الله – تعالى -. ثم قال: (الطريق الثالث أن يكون ذلك الضمير عائداً إلى الله – تعالى – وفيه وجوه: الأول: المراد من الصورة: الصفة، فيكون المعنى: أن آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات، قادراً على استنباط الحرف, والصناعات, وهذه صفات شريفة, مناسبة لصفات الله من بعض الوجوه, فصح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق آدم على صورته)) بناءً على هذا التأويل. فإن قيل: المشاركة في صفات كمال تقتضي المشاركة في الإلهية. قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المساواة في الإلهية, ولهذا المعنى قال الله – تعالى - {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} (1) , وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((تخلقوا بأخلاق الله)) (2) . الثاني: أنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف، فقد يصح إضافتها إلى الخالق، والموجد, فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور, بمزيد الكرامة والجلالة.   (1) الآية 27 من سورة الروم. (2) سيأتي – إن شاء الله تعالى – أنه حديث باطل لا أصل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قال: والخبر الثاني: ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه ((التوحيد)) بإسناده عن ابن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) ، قال: واعلم أن ابن خزيمة ضعف هذه الرواية، ويقول: إن صحت هذه الرواية فلها تأويلان: الأول: أن يكون المراد بالصورة: الصفة على ما بيناه. الثاني: أن يكون المراد من هذه الإضافة: بيان شرف هذه الصورة، كما في قوله: ((بيت الله)) و ((ناقة الله)) (1) . وقد تولى شيخ الإسلام – رحمه الله – رد هذه التأويلات, ردا مقنعاً، عن علم، وبإنصاف، ولخطورة هذه المسألة، ومكانة شيخ الإسلام، فإني أكتفي بنقل كلامه هنا، وهو كاف واف. قال – رحمه الله – بعدما نقل الكلام المتقدم عن الرازي: ((فيقال: هذا الحديث مخرج في ((الصحيحين)) من وجوه: ففي ((الصحيحين)) عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، ثم قال له: اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاستمع ما يحيونك به فإنها تحيتك, وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم)) (2) . قال في رواية جعفر بن محمد بن رافع على صورته. وروى البخاري من حديث أبي سعيد المقبري، ويحيى بن همام عن   (1) ((تأسيس التقديس)) للرازي (ص 83 91) . (2) انظر: ((البخاري مع الفتح)) (6/362) و (11/2) و ((مسلم)) (4/2183) رقم (2841) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) (1) . وذكر بعض ما تقدم من روايات الحديث، ثم قال: لم يكن بين السلف، من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في هذا الحديث عائد إلى الله – تعالى – فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك، وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين، من الكتب، كالتوراة، وغيرها، وما كان من العلم الموروث عن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -، فلنا أن نستشهد عليه بما عند أهل الكتاب، كما قال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (2) . ولكن كان العلماء في القرن الثالث، من يكره روايته، ويروي بعضه، كما يكره رواية بعض الأحاديث، لمن يخاف أن يلم نفسه ويفسد عقله، أو دينه، كما قال عبد الله بن مسعود: ((ما من رجل يحدث قوماً حديثاً، لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم)) (3) . وفي البخاري، عن علي بن أبي طالب، أنه قال: ((حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)) (4) . وإن كانوا مع ذلك، لا يرون كتمان ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – مطلقاً، بل لا بد أن يبلغوه، حيث يصلح ذلك، ولذلك اتفقت الأمة على تبليغه، وتصديقه، وإنما دخلت الشبهة في الحديث؛ لتفريق ألفاظه، فإن من ألفاظه   (1) انظر: ((الفتح)) (5/182) ، ورواه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وفيه: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) (4/2017) . (2) آخر آية من سورة الرعد. (3) رواه مسلم في ((مقدمة الصحيح)) (1/11) . (4) رواه في كتاب العلم، باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم؛ كراهية أن لا يفهموا، انظر: ((الفتح)) (1/225) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 المشهورة: ((إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته، ولا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (1) . وهذا فيه حكم عملي، يحتاج إليه الفقهاء، وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بالإخبار، عن خلق آدم، فكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط، وهي قوله: ((فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) ولم يذكر الثانية. وعامة أهل الأصول والكلام، إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله: ((خلق الله آدم على صورته)) ، ولا يذكرون الجملة الطلبية, فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين، وصاروا متفقين على تصديقه، لكن مع تفريق بعضه عن بعض، وإن كان هو محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم. وقد ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – ابتداءً في إخباره بخلق آدم، في ضمن حديث طويل، إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة. ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة، جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله – تعالى -، حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة، في عامة أمورهم، كأبي ثور، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم، ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة. قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتاب ((الفصول في الأصول)) : ((فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة، فغير مقبول، وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف، غير مجهول، نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة، في تأويل الحديث: ((خلق الله آدم   (1) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (9/445) ، والدراقطني في ((الصفات)) (ص 35، 36) ، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/228، 229) ، وابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/81 –86) . ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 على صورته)) ، فإنه: يفسر ذلك بذلك التأويل، ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث، كما روينا عن أحمد – رحمه الله -، ولم يتابعه أيضاً من بعده، حتى رأيت في كتاب الفقهاء للعبادي الفقيه: أنه ذكر الفقهاء، وذكر عن كل واحد منهم مسألة انفرد بها، فذكر الإمام ابن خزيمة، وأنه انفرد بتأويل هذا الحديث: ((خلق الله آدم على صورته)) ، على أني سمعت عدة من المشايخ رووا أن ذلك التأويل مزور مربوط على ابن خزيمة، وإفك مفترى عليه، فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقبله ولا يلتفت إليه)) . قلت: ذكر الحافظ أبو موسى المديني، فيما جمعه من مناقب إسماعيل بن محمد التيمي، قال: سمعته يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه ذلك، بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب. قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قلَّ من إمام إلا وله زلة، فإذا ترك ذلك الإمام لأجل زلته, ترك كثير من الأئمة. إذا عرف ذلك فيقال: أما عود الضمير إلى غير الله – تعالى -، فباطل من وجوه: أحدها: ما في ((الصحيحين)) ابتداءً ((أن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً)) . وفي أحاديث أخر: ((أن الله خلق آدم على صورته)) ولم يقدم ذكر أحد يعود الضمير إليه. وما ذكر بعضهم: من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى رجلاً يضرب رجلاً، ويقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فقال: (خلق الله آدم على صورته)) أي صورة هذا المضروب. فهذا شيء لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث. الثاني: أن الحديث الآخر لفظه: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الله خلق آدم على صورته) (1) وليس في هذا ذكر أحد يعود الضمير إليه. الثالث: أن اللفظ الذي ذكره ابن خزيمة, وتأوله، وهو قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجهاً أشبه وجهك, فإن الله خلق آدم على صورته)) (2) , ليس فيه ذكر أحد يصلح عود الضمير إليه، وقوله في التأويل: أراد – صلى الله عليه وسلم – أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب, والذي قبح وجهه، فزجر – صلى الله عليه وسلم – أن يقول: ووجه من أشبه وجهك. فيقال له: لم يتقدم ذكر مضروب، فيما رويته عن النبي – صلى الله عليه وسلم -, ولا في لفظه ذكر ذلك، بل قال: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، ولم يقل: إذا قاتل أحدكم أحداً، أو إذا ضرب أحداً، والحديث الآخر ذكرته (3) من رواية الليث بن سعد، ولفظه: ((ولا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجهاً أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) (4) . وليس في هذا ذكر مضروب، حتى يصلح عود الضمير إليه. فإن قيل: قد يعود الضمير إلى ما دل عليه الكلام، وإن لم يكن مذكوراً، كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} (5) أي: البخل؛ لأن لفظ البخل يدل على المصدر الذي هو البخل، ومنه قول الشاعر   (1) تقدم تخريجه قريباً. (2) تقدم تخريجه. (3) الخطاب لابن خزيمة، فإنه رواه من هذا الطريق. (4) انظر: كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة (81 – 86) . (5) الآية 180 من سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف أي: إلى السفه. قيل: إنما يكون ذلك فيما لا لبس فيه، حيث لم يتقدم ما يصلح لعود الضمير إلا ما دل عليه الخطاب، فيكون العلم بأنه لا بد للظاهر من مضمر يدل على ذلك، أما إذا تقدم اسم صريح قريب إلى الضمير، فلا يصلح أن يترك عوده إليه، ويعود إلى شيء متقدم، لا ذكر له في الخطاب، وهذا مما يعلم بالضرورة فساده في اللغات. الرابع: أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر، بأن الله خلق آدم على صورته، في غاية البعد. لا سيما وقوله: ((إذا قاتل أحدكم)) ، و ((إذا ضرب أحدكم)) عام في كل مضروب. والله خلق آدم على صورهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير. وكذلك قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك)) عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم. الخامس: أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم، لم يخلق آدم على صورهم. فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم في الوجود، لا يقال: إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، كما يقال: خلق الخلق على غير مثال, أو نسج هذا على منوال هذا، ونحو ذلك، فإنه في جميع هذا إنما يكون المصنوع المقيس متأخراً في الذكر، عن المقيس عليه. وإذا قيل: خلق الوالد على صورة ابنه، أو على خلق ابنه، كان كلاماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 فاسداً، بخلاف ما إذا ذكر التشبيه بغير لفظ الخلق، وما يقوم مقامه، مثل أن يقال: الوالد يشبه ولده، فإن هذا سائغ؛ لأن قوله: ((خلق)) إخبار عن تكوينه، وإبداعه، على مثال غيره، ومن الممتنع أن الأول يكون على مثال ما لم يكن بعد، وإنما يكون على مثال ما قد كان. السادس: أنه إذا كان المقصود أن هذا المضروب والمشتوم يشبه آدم، فمن المعلوم أن هذا من الأمور الظاهرة، المعلومة للخاص والعام، فلو أريد التعليل بذلك لقيل: ((فإن هذا يدخل فيه الأنبياء، إذ هذا يدخل فيه آدم، أو نحو ذلك من العبارات، التي تبين قبح كلامه، وهو اشتمال لفظه على ما يعلم هو وجوده)) . أما مجرد إخباره بما يعلم وجوده كل أحد، فلا يستعمل في مثل هذا الخطاب. السابع: أن يقال إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته، لم يحتج إلى لفظ ((خلق)) على كذا، فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فعل على مثال غيره، بل يقال: ((فإن وجهه يشبه وجه آدم)) ، أو ((فإن صورته تشبه صورة آدم)) . الثامن: أن يقال: مثل هذه تصلح لقوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك)) فكيف يصلح لقوله: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه)) . ومعلوم أن كون صورته تشبه صورة آدم، لا توجب سقوط العقوبة عنه، فإن الإنسان لو كان يشبه نبياً من الأنبياء، أعظم من مشابهة الذرية لأبيهم في مطلق الصورة والوجه، ثم وجبت على ذلك الشبيه بالنبي عقوبة, لم تسقط عقوبته بهذا الشبه باتفاق المسلمين، فكيف يحوز تعليل تحريم العقوبة بمجرد المشابهة المطلقة لآدم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 التاسع: أن في ذرية آدم من هو أفضل منه، وتناول اللفظ لجميعهم واحد، فلو كان المقصود بالخطاب ليس ما يختص به آدم، من ابتداء خلقه على صورته، بل المقصود مجرد مشابهة المضروب المشتوم له، لكان ذكر سائر الأنبياء أولى، كإبراهيم، وموسى، وعيسى، وإن كان آدم أباهم، فليس هذا المقام مقاماً له به اختصاص، على زعم هؤلاء. العاشر: - وهو قاطع أيضاً – أن يقال: كون الوجه يشبه وجه آدم، هو مثل كون سائر الأعضاء تشبه أعضاء آدم، فإن رأس الإنسان يشبه رأس آدم، ويده تشبه يده، ورجله تشبه رجله، وبطنه، وظهره، وفخذه، وساقه، يشبه بطنه وظهره وفخذه وساقه، فليس للوجه بمشابهة آدم اختصاص. بل جميع أعضاء البدن بمنزلته في ذلك، فلو صح أن يكون هذا علة لمنع الضرب، لوجب أن لا يجوز ضرب شيء من أعضاء بني آدم؛ لأن ذلك جميعه على صورة أبيهم آدم. وفي إجماع المسلمين على وجوب ضرب هذه الأعضاء، في الجهاد للكفار والمنافقين، وإقامة الحدود - مع كونها مشابهة لأعضاء آدم، وسائر النبيين – دليل على أنه لا يجوز المنع من ضرب الوجه، ولا غيره؛ لأجل هذه المشابهة. الحادي عشر: أنه لو كان علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه: أنه يشبه وجه آدم, لنهي أيضاً عن الشتم والتقبيح لسائر الأعضاء [فيقال] : لا يقولن أحدكم: قطع الله يدك، ويد من أشبه يدك. الثاني عشر: أن ما ذكروه من أنه إبطال لقول من يقول: إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال: عظيم الجثة، طويل القامة، وإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أشار إلى إنسان معين، وقال: إن الله خلق آدم على صورته، أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان، من غير تفاوت البتة. فيقال لهم: الحديث المتفق عليه في ((الصحيحين)) ، مناقض لهذا التأويل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 مصرح فيه بأن خلق آدم أعظم من صور بنيه بشيء كثير، وأنه لم يكن على شكل أحد من أبناء الزمان. فعن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعاً، ثم قال له: اذهب، فسلم على أولئك الملائكة، فاسمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم. قال: فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (1) . قال في رواية يحيى بن جعفر، ومحمد بن رافع: ((على صورته)) ، وذكر فيه: طوله ستون ذراعاً، وأن الخلق لم يزل ينقص حتى الآن، وأن أهل الجنة يدخلون على صورة آدم. ولم يقل: إن آدم على صورتهم، بل قال: على صورة آدم. وقد روي: أن عرض أحدهم سبعة أذرع، فهل في تبديل كلام الله ورسوله أبلغ من هذا؟ أن يجعل ما أثبته النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخبر به، وأوجب التصديق به، قد نفاه، وأبطله، وأوجب تكذيبه، وإبطاله؟ الثالث عشر: أنه قد روي من غير وجه: ((على صورة الرحمن)) (2) . وأما عود الضمير على آدم ففاسد، وبيان ذلك من وجوه: أحدهما: أنه إذا قيل: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق   (1) تقدم الحديث. (2) تقدم تخريجه، وانظر كتب ((التوحيد)) لابن خزيمة (2/85) وذكر من خرجه هناك غيره، ورواه الدراقطني في ((الصفات)) (36 - 37) وهو حديث ثابت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 آدم على صورة آدم)) أو: ((لا يقل أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة آدم)) . كان هذا من أفسد الكلام، فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً؛ فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم، فأي تفسير فسر، فليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه، ولا عن تقبيحها، وتقبيح ما يشبهها. وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرق الحديث: فروى قوله: ((إذا قاتل أحدكم، فليتق الوجه)) وحده مفرداً. وروى قوله: ((إن الله خلق آدم على صورته)) مفرداً. أما مع أداء الحديث على وجهه، فإن عود الضمير إلى آدم، يمتنع فيه؛ وذلك أن خلق آدم على صورة آدم، سواء كان فيه تشريف لآدم، أو كان مجرد إخبار بالواقع، لا يناسب الحكم. الوجه الثاني: أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم، فلو كان ذلك مانعاً من ضرب الوجه وتقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الأعضاء, وتقبيح سائر الصور، وهذا معلوم الفساد في العقل والدين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة، من أقبح الكلام. وإضافة ذلك إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يصدر إلا عن جهل عظيم، أو نفاق شديد، إذ لا خلاف في علمه، وحكمته، وحسن كلامه. فإن هذا مثل أن يقال: لا تضربوا وجوه بني آدم، فإن أباهم له صفات يختص هو بها دونهم، مثل كونه خلق من غير أبوين. أو يقال: لا تضربوا وجوه بني آدم، فإن أباهم خلق من تراب. الوجه الثالث: أن هذا تعليل للحكم بما يوجب نفيه، وهذا من أعظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 التناقض، وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة، وعلقة، ومضغة، وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة، بواسطة العناصر، وبنوه قد خلقوا من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضعة، وخلقوا في مدة من عناصر الأرض. فإن كانت العلة المانعة من الضرب للوجه وتقبيحه كونه خلق على هذا الوجه، وهذه العلة منتفية في بنيه، فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه، وتقبيحها؛ لانتفاء العلة فيها، فإن آدم هو الذي خلق على صورته دونهم، إذ هم لم يخلقوا على صورهم التي هم عليها، كما خلق آدم، بل نقلوا من نطفة إلى علقة، ثم إلى مضغة. الوجه الرابع: ما أبطل به الإمام أحمد هذا التأويل، حيث قال: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق؟ وهذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد يعم الأحاديث كلها، قوله ابتداء: ((إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً)) . وقوله: ((لا تقبحوا الوجه)) إلى آخره، و ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) . وذلك أن قوله: ((خلق آدم على صورته)) يقتضي أنه كان له صورة قبل الخلق [خلقه] عليها. فإن هذه العبارة لا تستعمل إلا في مثل ذلك، وبمثل هذا أبطلنا قول من يقول: إن الضمير عائد إلى المضروب، فإن المضروب متأخر عن آدم، فجميع ما يذكر من التأويلات مضمونها أن صورته تأخرت عنه، فتكون باطلة. وأيضاً: فمن المعلوم بالضرورة أنه لم تكن لآدم صورة خلق عليها قبل صورته التي خلقها الله – تعالى -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الوجه الخامس: أن جميع ما يذكر من التأويلات، كقولهم: خلق آدم على صورة آدم، موجود نظيره في جميع المخلوقات، سواء أريد بذلك الصورة الثابتة قدراً في علم الله وكتابه، أو غير ذلك. وأما كونه خلق على صورته ابتداء، أو في غير مدة، فإنه ليس كذلك، بل خلقه تنقل من حال إلى حال، من التراب إلى الطين، ثم إلى الصلصال، كبنيه فإنهم من نطف، إلى علق، ثم إلى مضع. فإذا جاز أن يقال في أحدهما: خلق على صورته، مع تنقل إلى هذه الأطوار، جاز ذلك في الآخر. ولاشك أن هذه الأحاديث وردت في تخصيص آدم، بأنه خلق على صورته دون غيره من الخلق، وإن كان بنوه تبعاً له في ذلك. ولكن هذا كخلقه بيده، وإسجاد ملائكته له، وبهذا علم بطلان ما يوجب الاشتراك، ويزيل الاختصاص. الوجه السادس: أن المعنى الذي تدل عليه هذه العبارة التي ذكروها هي من الأمور المعلومة ببديهة العقل، التي لا يحسن بيانها، والخطاب بها لتعريفها، فإن قول القائل: إن الشيء الفلاني خلق على صورة نفسه، لا يدل لفظه على غير ما هو معلوم بالعقل، إن كان مخلوقاً على الصورة التي خلق عليها. وهذا مثل أن يقال: أوجد الله الشيء، كما أوجده، وخلق الله الأشياء على ما هي عليه، وعلى الصورة التي هي عليها، ونحو ذلك، مما هو معلوم ببديهة العقل، ومعلوم أن بيان هذا وإيضاحه قبيح جداً. الوجه السابع: أن ما ذكروه من كون آدم خلق على صورة آدم، أو أنه خلق من غير نطفة، ثم علقة، ثم من مضغة، أو أنه لم يخلق من مادة، أو بواسطة القوى والعناصر – كما يدعون – لا دليل عليه، وليس في هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 الأحاديث ما يدل عليه بحال من الأحوال. الوجه الثامن: أن الحديث، وري من وجوه، بألفاظ تبطل دعوى الضمير إلى آدم، مثل قوله: ((لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)) (1) . وقوله في الطريق الآخر، من حديث أبي هريرة: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن)) (2) . وقول ابن عباس فيما ذكره عن الله – تعالى -: ((تعمد إلى خلق من خلقي، خلقتهم على صورتي، فتقول لهم: اشربوا يا حمير)) (3) . وأما تضعيف ابن خزيمة لحديث ابن عمر، بأن الثوري أرسله، فخالف فيه الأعمش، وأن الأعمش وحبيباً مدلسان. فيقال: قد صححه إسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس. وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء بن أبي رباح، إذا أرسل هذا الحديث، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا بد أن يكون قد سمعه من أحد. فإذا كان في إحدى الطريقين، قد بين أنه أخذه عن ابن عمر، كان بياناً وتفسيراً لما تركه، وحذفه في الطريق الأخرى، ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً. ولو قدر أن عطاء لم يذكره إلا مرسلاً، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، فمن المعلوم أن عطاء من أجل التابعين قدراً، فإنه هو، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، من أئمة التابعين في زمانهم.   (1) تقدم تخريجه (2) تقدم أيضا ذكر ما رواه. (3) روي أن هذا الخطاب موجه إلى موسى صلى الله عليه وسلم لما ضرب الحجر وانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 ومن المعلوم أن مثل عطاء، لو أفتى في مسألة فقه، بموجب خبر أرسله، لكان ذلك يقتضي ثبوته عنده. ولهذا يجعل الفقهاء احتجاج المرسل بالخبر دليلاً على ثبوته عنده. والأخبار التي توجب العلم أعظم من التي توجب العمل. فإذا كان عطاء، قد جزم بهذا الخبر العلمي، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الباب العظيم، فلا يمكن أن يستجيز ذلك من غير أن يكون ثابتاً عنده. واتفاق السلف على رواية هذا الخبر، ونحوه، مثل عطاء، وحبيب بن أبي ثابت، والأعمش، والثوري، وأصحابهم، من غير نكير سمع من أحد لمثل ذلك، في ذلك العصر، مع أن هذه الروايات المتنوعة في مظنة الاشتهار، دليل على أن علماء الأمة [لا] تنكر إطلاق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، بل كانوا متفقين على إطلاق مثل هذا. وكراهة بعضهم لرواية ذلك في بعض الأوقات، له نظائر، فإن الشيء قد يمنع سماعه لبعض الجهال، وإن كان متفقاً عليه بين علماء المسلمين. والله – تعالى – قد وصف هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها تأمر بالمعروف، وتنهي عن المنكر، فمن الممتنع أن يكون في عصر التابعين، يتكلم أئمة ذلك العصر بما هو كفر، وضلال، ولا ينكر عليهم أحد. فلو كان قوله: ((خلق آدم على صورة الرحمن)) ، باطلاً، لكانوا مقرين للباطل، غير منكرين له. وقد روي بهذا اللفظ من طريقين مختلفين، كما روي عن أبي هريرة، فيؤيد أحدهما الآخر، ويشهد له، ويعتبر به، بل قد يفيد ذلك العلم، إذا خيف في الرواية من تعمد الكذب، أو من سوء الحفظ. فإذا كان الرواة ممن لا يتواطأون في العادة على الكذب، لم يبق إلا سوء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الحفظ، فإذا تبين أن كل واحد منهم حفظ مثل ما حفظ الآخر، كان ذلك دليلاً على أن الحديث محفوظ، ولهذا مَنْ منع مِن الاحتجاج بالمرسل، إذا روي من وجه آخر؛ احتج به. ولهذا الترمذي وغيره، يجعل الحسن: ما وري من وجهين مختلفين، وليس في طريقه متهم بالكذب، ولم يكن مخالفاً للأخبار المشهورة، وأدنى أحوال هذا الحديث ذلك. ويؤيده أن الصحابة تكلموا بمعناه، كما تقدم عن ابن عباس. وليس ذلك مأخوذاً عن أهل الكتاب؛ لأنه كان ينهى عن الأخذ عنهم، كما في البخاري وغيره، ولا يجوز أن يكون ذلك من قبيل الرأي. وهذه الوجوه كلها مبطلة لقول من يعيد الضمير إلى آدم. فهي أدلة مستقلة في الإخبار بأن الله خلق آدم على صورة نفسه – تعالى -. وبهذا يحصل الجواب عما يذكر من كون الأعمش وحبيب مدلسين، فقد أخذه عنهما الأئمة، ووافقهما الثوري, وتلقاه العلماء – مثل أحمد وإسحاق وسفيان، وغيرهم – بالقبول. وقد قدمنا أنه يجوز الاستشهاد بما عند أهل الكتاب، مما هو موافق لما أثر عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – ففي السفر الأول من التوراة: ((سنخلق بشراً على صورتنا، يشبهنا)) (1) . وأما قول المؤولة: إن الله لم يغير صورة آدم، ولم يمسخها كل مسخ غيره، كالحية والطاووس، ولهذا قيل: خلق آدم على صورته، أي: على صورة آدم.   (1) هذا النص يوجد في التوراة السامرية هكذا: ((وقال الله: نصنع إنساناً يشبهنا وصورتنا، ليستولي على سمك البحر)) (ص36) طبعة السقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 فيقال: العبارة المعروفة عن هذا المعنى أن يقال: أبقى آدم على صورته، أو تركه على صورته، أو لم يغير صورة آدم، لا يقال: خلقه على صورة نفسه، فإن هذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى. ولهذا قال الله – تعالى – عن الذين مسخ منهم قردة، وخنازير: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} (1) ، ولم يقل: وخلق منهم. كما أن من المعروف الظاهر لكل أحد: أن صورة آدم كانت كهذه الصور لبنيه لم تمسخ، وما ذكروه من مسخ غير آدم غير معلوم، ولا مذكور. وأما قولهم: إنه أراد به بيان بطلان قول الدهرية، في أن الإنسان لا يتولد إلا من نطفة، ودم الطمث. فيقال لهم: قد أخبر الله – تعالى – أنه خلق آدم من الماء والتراب، ومن الطين، ومن الحمأ المسنون، فهذه نصوص ظاهرة متواترة، يسمعها العام والخاص، تبين أنه لم يخلق من نطفة، ودم الطمث، وتبطل هذا القول إبطالاً بيناً معلوماً بالاضطرار. وأما قوله: إن آدم خلق على صورة آدم، فليس فيه دلالة على إبطال قول الدهرية ولا غيرهم. وقولهم: خلق آدم ابتداء من غير تقدم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة. يقال لهم: بعد تقدم، تراب، وطين، وصلصال. وأما قولهم: إن الصورة تذكر ويراد بها الصفة، يقال: شرحت له صورة هذه الواقعة، وذكرت له صورة هذه المسألة. والمراد: أن الله – تعالى – خلق آدم من أول الأمر كاملاً، تاماً، في علمه، وقدرته، وكونه سعيداً، عارفاً، تائباً.   (1) الآية 60 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 فيقال: الصورة: هي الصورة الموجودة في الخارج، ولفظ ((صَ وَرَ)) يدل على ذلك، وما من موجود من الموجودات إلا [له] صورة في الخارج. وما يكون من الوقائع، يشتمل على أمور كثيرة، لها صور موجودة. وكذلك المسئول عنه من الحوادث، وغيرها، له صور موجودة في الخارج، ثم تلك الصور الموجودة، ترتسم في النفس صورة ذهنية. فقوله: شرحت له صورة الواقعة، وأخبرني بصورة المسألة. إما أن يكون المراد به الصورة الخارجية، أو الصورة الذهنية. وأما الصفة: فهي في الأصل: مصدر وصفت الشيء، أصفه، وصفاً، ثم يسمون المفعول، باسم المصدر [صفة] . وإذا كان ما في النفس من العلم بالشيء، يسمى مثلاً له، وصفة. فالصورة الذهنية: هي المثل الذي يسمى أيضاً صفة، ومثلاً. ولهذا يقال: تصورت الشيء، وتمثلت الشيء، وتخيلته، إذا صار في نفسك صورته ومثاله وخياله. كما يسمى مثاله الخارجي: صورة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله المصورين)) (1) . كما يسمى ذلك تمثالاً، في مثل قول علي: ((بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأمرني أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) (2) . وقوله: لفظ الصورة يذكر ويراد به: الصفة.   (1) سيأتي الحديث مشروحاً – إن شاء الله – وهو متفق عليه. (2) رواه مسلم , انظر: (رقم 969) (2/666) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 إن أراد به أن الصورة توصف بالقول، وأن لفظ الصورة يراد به ما يوصف بالقول من الصورة الخارجية, أو ما يطابقه من الصورة الذهنية، فهذا قريب. ولكن هذا يوجب أن يكون له صورة خارجية، وإن طابقتها الصورة الذهنية. وإن أراد به أن لفظ الصفة قد لا يراد به إلا ما يقوم بالأعيان، كالعلم، والقدرة، فهذا باطل، لا يوجد في الكلام أن قول القائل – مثلاً -: صورة فلان يراد بها مجرد الصفات القائمة [به] ، من العلم، والقدرة، ونحو ذلك. بل هذا من البهتان على اللغة وأهلها. وأيضا فقول القائل: خلق آدم، على صورة آدم، بمعنى: على صفة آدم، لا يدل على أنه خلق على صفات الكمال ابتداء، ولو أريد بالصورة ما يتأخر عن وجوده، فإن المخلوق على صفة من الصفات، يخلق عليها في وقت خلقه وبعده، يبين ذلك أنه جعل أحد المحملين كونه خلق عارفاً، تائباً، مقبولاً عند الله – تعالى – ومعلوم أن هذه الصفة تأخر وجودها عن ابتداء خلقه، فإن التوبة كانت بعد الذنب. فإذا كان لا ينافي كونه مخلوقاً عليها تأخرها، فكذلك صفة العلم والقدرة، لا ينافي كونه مخلوقاً عليهما تأخرهما عن ابتداء خلقه، وإذا كان كذلك، فلا فرق بينه وبين غيره. وعلى كلِّ فما ذكره من أن معنى الحديث: أنه خلق كاملاً، باطل، فإن آدم لم يجعل ابتداء على صفة الكمال، بل بعد أن خلقه الله – تعالى – علمه الأسماء التي لم يكن بها عالماً، كما علم بنيه البيان، بعد أن خلقهم. فهذه التأويلات: تارة يكون المعنى المحمول عليه النص فيها باطلاً، وتارة يكون غير دال عليه، وتارة يكون النص دالاً على نقيض ما يقول المؤول، ومضاداً له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وتارة يجمع من ذلك ما يجمع، وهذا شأن أهل التحريف، والإلحاد، ومن ذلك ما ذكر لأحمد، فقال: إن قائل ذلك جهمي، وهو قوله: ((خلق على صورة الطين)) ، وهذا وإن كان أجود من هذه التأويلات المذكورة، فإنه فاسد، فإن هذا يقتضي أن تكون له صورة أخرى، خلقت على تلك الصورة، وآدم بعينه هو تلك الصورة، التي خلق فيها الروح. بل تصويره هو خلقه من تراب، ثم من طين، كما قال – تعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (1) فقدم الخلق على التصوير، فكيف تكون الصورة لآدم سابقة على الخلق، حتى يقال: خلق آدم على تلك الصورة. ولو أريد أنه خلق من صورة الطين، لا من أبوين، لقيل كما قال الله – تعالى -: {مِن تُرَابِ} ، وقال تعالى -: {خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ} (2) ، وقال – تعالى -: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (3) . وكذلك لو تأوله متأول على الصورة المقدرة له، وهي ما سبق له في علم الله – تعالى – وكلامه، وكتابه، أي خلق آدم على الصورة التي قدرها له، فهذا لا يصح، وإن كان الله – تعالى – خلق كل شيء على ما سبق من تقديره، فتأويل الحديث بذلك باطل؛ لأن جميع الأشياء خلقها الله - تعالى – على ما قدره، فلا اختصاص لآدم بذلك، كما أنه لا يصح أن يقول: لا تقبحوا الوجه، ولا يقول أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على ما قدره؛ فإن الوجه وسائر المخلوقات خلقها الله على ذلك، فينبغي أن لا يصلح تقبيح شيء من الأشياء البته؛ لعموم العلة.   (1) الآية 11 من سورة الأعراف. (2) الآية 71 من سورة ص. (3) الآية 28 من سورة الحجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وقوله في الحديث: ((فكل من يدخل الجنة يدخلها على صورة آدم)) صريح في أنه أراد صورة آدم المخلوقة، لا المقدرة. وتسمية ما قدر ((صورة)) ليس له أصل في كلام الله وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم. وإن كان بعض المتأخرين يقول: لفلان عند فلان صورة عظيمة، وهذا الأمر مصور في نفسي، لكن مثل هذا لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا خطابه لأمته، لأنه ليس من لغته)) (1) . وأما قوله: المراد من الصورة الصفة، كما بيناه، فيكون المعنى: أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات، قادراً على استنباط الحرف والصناعات، وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله من بعض الوجوه، فصح قوله: إن الله خلق آدم على صورته على هذا التأويل. فالكلام عليه من وجوه: أحدهما: أنه تقدم أن لفظ الصفة، سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء، وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني، أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف، فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك، بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج، أو لما يطابقها من العلم والقول، وذلك المطابق يسمى صفة, ويسمى صورة. وأما الحقيقة الخارجية، فلا تسمى: صفة, كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها: صورة. وإذا كان كذلك، فقوله: ((على صورته)) لا بد أن يدل على الصورة الموجودة في الخارج، القائمة بنفسها، التي ليست مجرد المعاني القائمة بها، من العلم والقدرة, وإن كان لتلك [المعاني] صورة، وصفة ذهنية؛ إذ   (1) ((نقض التأسيس)) (3/202 – 250) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وجود هذه الصورة الذهنية مستلزم لوجود [الصورة الخارجية] وإلا [كانت الصورة الذهنية] جهلاً لا علماً. فسواء عنى بالصورة، الصورة الخارجية، أو العلمية، لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات، والمثال العلمي المطابق لذلك. الوجه الثاني: أن قوله: إن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بالعلم والقدرة، إن أراد به امتيازه عن بنيه، فليس كذلك، وإن أراد امتيازه عن الملائكة والجن، فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة، فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم، كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه؛ وإن كان علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه. فقد ثبت باتفاق الطوائف، أن آدم لم يخلق على صفة من العلم والقدرة امتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام، بل فيها من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر. الوجه الثالث: أن يقال: المشاركة في بعض الصفات، واللوازم البعيدة، إما أن يصحح قول القائل: إن الله خلق آدم على صورة الله، أو لا يصحح ذلك، فإن لم يصحح ذلك، بطل قولك. وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق، جاز أن يقال: إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته، بل خلق كل حي على صورته؛ إذ ما من شيء من الأشياء، إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة، كالوجود، والقيام بالنفس، وحمل الصفات. فعلى هذا يصح أن يقال في كل جسم وجوهر: أن الله خلقه على صورته. [فبطل هذا التأويل على التقديرين] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 الوجه الرابع: أن لفظ الحديث: ((إذ قاتل أحدكم، أو ضرب أحدكم، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) فنهى عن ضرب الوجه؛ لأن الله خلق آدم على صورته، فلو كان المراد مجرد خلقه عالماً قادراً، ونحو ذلك، لم يكن للوجه بذلك اختصاص، بل لا بد أن يريد الصورة التي يدخل فيه الوجه، ومثل ذلك يقال في اللفظ الآخر: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، فهو يقتضي النهي عن ذلك؛ لتناوله الله – تعالى -، وأن وجه ابن آدم داخل فيما خلقه الله على صورته. فإن قيل: هذا تصرح بأن وجه الله يشبه وجه الإنسان، كما ورد: ((صورة الإنسان على صورة الرحمن)) (1) . فالجواب: أن هذا أيضاً لازم للمنازع، ولهذا أورده الرازي، وأجاب عنه بقوله: ((فإن قيل: المشاركة في صفات الكمال، تقتضي المشاركة في الإلهية، قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة، مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة، لا تقتضي المساواة في الإلهية، ولهذا المعنى قال – تعالى - {وَلَهُ المَثَلُ الأعلَى} (2) ، وقال – صلى الله عليه وسلم -: ((تخلقوا بأخلاق الله)) (3) . فيقال: لا ريب أن كل موجودين، لا بد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى من الآخر، وإلا إذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلاً، ولا يشتركان فيه، لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية، التي لا يتنازع فيها العقلاء، الذين يفهمونها. وهذا الذي جاءت به السنة من ثبوت هذا الشَّبه من بعض الوجوه، وقد أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – فوجب قبوله، والإيمان به، والله – تعالى – هو الذي   (1) تقدم ذكر من رواه. (2) الآية 27 من سورة الروم. (3) ((أساس التقديس)) (ص 86 – 87) ، والحديث غير معروف، بل هو موضوع، كما قاله شيخ الإسلام، انظر: ((نقض التأسيس)) (3/272) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 خلق آدم على صورته، وهذا لا يناقض قوله – تعالى -: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءُُُ ُ} لأن المماثلة منفية عن الله – تعالى - على كل حال، فهو – جل وعلا – لا يماثله شيء، وليس له سمي، ولا ند، ولا كفء، وكل ذلك لا يمنع المشابهة من بعض الوجوه البعيدة، كالوجود مثلاً، والعلم، والحياة، ونحو ذلك. الوجه الخامس: أن يقال: المحذور الذي فروا منه إلى تأويل الحديث، على أن الصورة بمعنى الصفة، أو الصفة المعنوية؛ أو الروحانية، ونحو ذلك، يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا [منه] . فإذا كان مثل هذا لازماً على التقديرين، لم يجز ترك مقتضي الحديث، ومفهومه، مع أنه لا محذور فيه. وذلك أن كون الإنسان على صورة الله - تعالى – التي هي صفته، أو صورته المعنوية، أو الروحانية، فيه نوع من المشابهة كما أنه إذا أقر الحديث كما جاء فيه نوع من المشابهة، غايته أن يقال: المشابهة هنا أكثر، ولكن مسمى نوع من المشابهة لازم على التقديرين. والتشبيه المنفي بالنص، والإجماع، والأدلة العقلية الصحيحة، منتف على التقديرين. وإذا ادعى المنازع أن هذا فيه نوع من التجسيم المقتضي للتركيب، فقد تقدم أن ما يسمونه تركيباً لازم على القول بثبوت الصفات، بل على القول بنفس الوجود الواجب، بل هو لازم لمطلق الوجود. وتقدم بيان ذلك، وبيان أن جميع ما يدعى من الأدلة العقلية المانعة من ذلك أنها فاسدة، ومتناقضة. ومعنى فسادها ظاهر، ومعنى تناقضها: أن ما يدعيه يلزمه من الإثبات نظير ما نفاه، فيكون جامعاً بين النفي، وإثباته، وإثبات نظيره. الوجه السادس: أن يقال: إذا كان مخلوقاً (1) على صورة الله - تعالى –   (1) التقدير: إذا كان آدم مخلوقاً ... الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 المعنوية، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك مقتضياً لكون صفات العبد المعنوية، من جنس صفات الله، بحيث تكون حقيقتها من جنس حقيقتها، أو لا يقتضي ذلك، بل يقتضي المشابهة فيها مع تباين الحقيقتين. فإن كان مقتضى الحديث الأول، فهو تصريح بأن الله له مثل، وهذا باطل، وهو أيضا ممتنع في العقل. فإن المتماثلين في الحقيقة، يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه. والمخلوق يجب أن يكون معدوماً، محدثاً، مفتقراً، ممكناً. والخالق يجب أن يكون قديماً، واجب الوجود غنياً. [فيلزم] أن يكون الشيء الواحد واجباً، ممكناً، غنياً، فقيراً، موجوداً، معدوماً، وهذا جمع بين النقيضين. فثبت أن الحديث لا يجوز حمله على هذا [المعنى] . وأيضا: فإنه لا هذا التقدير لا يكون في حمله على الصورة الظاهرة محذور، ولم يكن ذلك مقتضياً لكون صفات العبد من [جنس] صفات الرب – تعالى -، بحيث تكون الحقيقة من جنس الحقيقة، مع كون هذا عالماً، وهذا عالماً، وهذا حياً، وهذا حياً، وهذا قادراً، وهذا قادراً، وهذا سميعاً بصيراً، وهذا سميعاً بصيراً، بل هذا موجود، وهذا موجود، مع كون الحقيقتين، والعلم، والقدرة، متشابهات. وكذلك لا يجب إذا كان لهذا وجه وصورة، ولهذا وجه وصورة، أن تكون الحقيقة من جنس الحقيقة، مع تشابه الحقيقتين. يوضح ذلك أنه على التقديرين، لا بد أن يكون بين الذات والذات مشابهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 إذا كان على الصفة المعنوية، فإن كون هذا عالماً قادراً، وهذا عالماً قادراً، وهذا موجوداً، وهذا موجوداً، وهذا ذاتاً لها صفات، وهذا ذاتاً لها صفات، لا بد أن يثبت التشابه كما تقدم. الوجه السابع: أن الأدلة الشرعية، والعقلية، التي يثبت بها تلك الصفات، يثبت بنظيرها هذه الصورة. فإن وجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل، وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل. كذلك ثبوت ذات، لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل. وثبوت المشابهة في بعض الوجوه، في الأمور الكمالية، معلوم بالشرع والعقل. وكما أنه لا بد لكل موجود من صفات تقوم به، فلا بد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها. الوجه الثامن: أن هذا المعنى الذي ذكروه، وإن كان ثابتاً بنفسه (1) ، ويمكن أن يكون الحديث دالاً عليه باللزوم والتضمن، لكن قصر الحديث عليه باطل قطعاً، كما تقدم. الوجه التاسع: أن ثبوت الوجه، والصورة لله – تعالى – قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب، والسنة المتواترة، واتفق على ذلك سلف الأمة. [وقد تقدم بعض النصوص التي فيها إثبات الوجه والصورة لله – تعالى -] مع أن النصوص في الوجه لا يمكن استقصاؤها.   (1) يعني أن آدم متصف بالعلم، والقدرة، والحياة، وغير ذلك من الصفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 فإن قيل: قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة، فسلم عليهم واستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهب، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله. قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) (1) . وهذا الحديث إذا حمل على صورة الله – تعالى -، كان ظاهره أن الله طوله ستون ذراعاً، والله – تعالى – كما قال ابن خزيمة: جل أن يوصف بالذرعان، والأشبار. ومعلوم أن هذا التقدير في حق الله – تعالى – باطل، على قول من يثبت له حداً ومقداراً من أهل الإثبات، وعلى قول النفاة كذلك. أما النفاة فظاهر، وأما المثبتة فعندهم قدر الله – تعالى – أعظم، وحده لا يعلمه إلا هو، وكرسيه قد وسع السماوات والأرض، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والعرش لا يعرف قدره إلا الله – تعالى -. وقد قال – تعالى -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) . وقد تواترت النصوص عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، أن الله يقبض السماوات والأرض بيديه. قال ابن عباس: ((ما السماوات السبع وما بينهما، وما فيهما، في يد   (1) تقدم ذكر من رواه. (2) الآية 67 من سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)) (1) . وإذا كان الأمر كذلك، كان – جل وعلا – أكبر وأعظم من أن يقدر بهذا المقدار. وهذا من المعلوم بالضرورة، من العقل والدين. [وليس ما ذكر هو ظاهر الحديث] ، ومن زعم أن الله طوله ستون ذراعاً، فهو مفتر كذاب، ملحد، وفساد هذا معلوم بالضرورة، ومعلوم عدم ظهور ذلك من الحديث، فإن الضمير في قوله: ((طوله)) عائد إلى آدم، الذي قيل فيه ((خلق آدم على صورته)) ثم قال: ((طوله ستون ذراعاً)) ، أي: طول آدم، ولفظ الطول وقدره، ليس داخلاً في مسمى الصورة، حتى يقال: إذا قيل: خلق الله آدم على صورته، وجب أن يكون على قدره. ومن المعلوم أن الشيئين المخلوقين يكون أحدهما على صورة الآخر، مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما، وقدر ذواتهما. والإضافة تتنوع دلالتها بحسب المضاف إليه، فلما قال في آخر الحديث: ((فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً)) اقتضى ذلك مشابهة الجنس في القدر؛ لأن صورة المضاف، من جنس صورة المضاف إليه، وحقيقتهما واحدة. وأما قوله: ((خلق الله آدم على صورته)) ، فإنها تقتضي نوعاً من المشابهة فقط، لا تقتضي تماثلاً في حقيقة، ولا قدر. وأما قول ابن خزيمة: فإن الإضافة [فيه] إضافة خلق، كما في ((ناقة الله)) و ((بيت الله)) و ((أرض الله)) و ((فطرة الله))   (1) رواه ابن جرير في ((تفسيره)) (24/25) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 فالكلام عليه من وجوه: أحدهما: أنه لم يكن قبل آدم صورة مخلوقة، خلق عليها، فقول القائل: خلق على صورة مخلوقة - لله – وليس هناك إلا صورة آدم، بمنزلة قوله: على صورة آدم، وقد تقدم إبطال هذا من وجوه كثيرة. الثاني: أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها، كالناقة والبيت، والأرض، والفطرة، التي هي [السنة] المطردة. فأما الصفات القائمة بغيرها، مثل العلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، إذا أضيفت كانت إضافة صفة إلى الموصوف. وهذا هو الفرق بين [الإضافتين] وإلا التبست الإضافة التي هي إضافة صفة إلى موصوف، والتي هي إضافة مملوك ومخلوق إلى المالك والخالق، وذلك هو ظاهر الخطاب في الموضعين؛ لأن الأعيان القائمة بنفسها، قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله – تعالى – فيعلمون أنها ليست إضافة صفة. وأما الصفات القائمة بغيرها، فيعلمون أنه لا بد لها من موصوف تقوم به، وتضاف إليه. وعلى هذا، فالصورة قائمة بالموصوف بها، المضافة إليه. فصورة الله، كوجه الله، ويد الله، وعلم الله، وقدرة الله، ومشيئة الله، وكلام الله، ويمتنع أن تقوم بغيره. الوجه الثالث: أن الأعيان المضافة إلى الله، لا تضاف إليه؛ لعموم كونها مخلوقة مملوكة له؛ إذ ذلك يوجب إضافة جميع الأعيان إلى الله – تعالى -؛ لأنها كلها مخلوقة له، مملوكة. فلو كان قوله في ناقة صالح: {نَاَقَةَ اللهِ} بمعنى: الله خلقها، وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 ملكه؛ لوجب أن تضاف سائر النوق إلى الله بهذا المعنى، فلا يكون حينئذ لها اختصاص بالإضافة، وكذلك قوله: {وَطَهِر بَيتِيَ} لو كان المراد به: خلقي وملكي؛ لوجب إضافة سائر البيوت إلى الله – تعالى – لمشاركتها في هذا المعنى. فلابد أن يكون في العين المضافة معنى يختص بها، تستحق به الإضافة، فبيت الله هو الذي اتخذ لذكر الله - تعالى – وعبادته، وهذه إضافة من جهة كونه معبوداً فيه، فهو إضافة إلى إلهيته، لا إلى عموم ربوبيته، وخلقه، كما في لفظ العبد، فإن قوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (1) ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} (2) ، هو إضافة إليه؛ لأنهم عبدوه، لا لعموم كونه عَبَّدهم بخلقه لهم، فإن هذا يشركهم فيه جميع الناس. وهو تعالى قد خص بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (3) ، وقوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا} (4) ، ونحو ذلك [خصهم من بين الناس بالإضافة إليه] . كذلك الناقة فيها اختصاص بكون الله – تعالى – جعلها آية، ففيها معنى الإضافة إلى إلهيته. وأما قوله – تعالى -: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (5) ،   (1) الآية 19 من سورة الجن. (2) الآية 63 من سورة الفرقان. (3) الآية 42 من سورة الحجر. (4) الآية 6 من سورة الإنسان. (5) الآية 56 من سورة العنكبوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} (1) ، ففي الإضافة تخصيص للأرض، التي هي باقية على ما خلقها الله – تعالى – فلم يستول عليها الكفار، والفجار من عباده، ويمنعوا – باستيلائهم عليها – من عبادة الله عليها. ولهذا لم تدخل أرض الحرب في هذا العموم. وقد يقال: الإضافة لعموم الخلق؛ لأن الأرض واحدة لم تتعد، كما تعددت النوق، والبيوت، والعبيد. وقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (2) ، تضاف إلى الله – تعالى – من الوجهين، من جهة أن الله خلقها، فتكون إضافة إلى جهة ربوبيته. ومن جهة أنه – تعالى – فطرها على الإسلام، الذي هو عبادة الله، فتكون الإضافة إلى ألوهيته. وأما الصورة المخلوقة، فهي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه، فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله – تعالى -؟. وأيضاً فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله – تعالى – خلق ذلك جميعه، فينبغي أن يضاف سائر الأعضاء إلى الله – تعالى – بهذا الاعتبار، حتى يقال [ليد الإنسان] : يد الله، ولوجهه: وجه الله، ولقدمه: قدم الله، ونحو ذلك؛ لأن الله خلقه. الوجه الرابع: أن قوله: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)) ، لو كانت الإضافة خلق وملك؛ لوجب أن   (1) الآية 97 من سورة النساء. (2) الآية 30 من سورة الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 لا يضرب شيء من الأعضاء؛ لأن إضافته إلى خلق الله – تعالى - وملكه كإضافة الوجه سواء. الوجه الخامس: أن قوله: ((لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)) يدل على أن المانع هو مشابهة وجهه لصورة الله – تعالى -. فلو أريد صورة يخلقها الله – تعالى -؛ لكان كونه هو مخلوقاً لله أبلغ من كونه مشبهاً لما خلقه الله، فيكون عدولاً عن التعليل بالعلة الكاملة إلى ما يشبهها. الوجه السادس: أن العلم بأن الله خلق آدم، من أظهر العلوم، عند العامة والخاصة، فلو لم يكن في قوله: ((على صورته)) معنى إلا أن الله – تعالى – خلقها، وهي ملكه؛ لكان قوله: ((خلق آدم)) كافيا ً. إذ على هذا التقدير: ((خلق آدم)) و ((خلق آدم على صورته)) سواء، ولا فرق بين قول القائل: ((هذا مخلوق الله، وقوله: هذا خلقه الله على الصورة التي خلقها الله)) ومثل هذا الكلام لا يجوز أن يضاف إلى أدنى الناس، ممن يعرف اللغة، فكيف يضاف إلى النبي – صلى الله عليه وسلم –؟ الوجه السابع: أن قوله: ((خلق آدم على صورته)) ، أو ((على صورة الرحمن)) يقتضي أن برأه، وصوره على تلك الصورة. فلو أريد الصورة المخلوقة المملوكة، التي هي صورة آدم المضافة إليه تشريفاً، لقيل: ((صورة آدم صورة الله)) ، أو ((صورة الإنسان صورة الله)) ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإضافة المجردة، وإن كان في ذلك ما فيه. أما إذا قيل: ((خلقه على صورته)) ، ولم يرد إلا أن صورته المخلوقة هي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 المضافة إلى الله؛ لكونها مخلوقة له، فهذا تناقض ظاهر، لا يحتمله اللفظ)) (1) . وأكتفي بهذا النقل المطول عن شيخ الإسلام رحمه الله، وقد اختصرته كثيراً، وتصرفت فيه قليلاً جداً؛ لأجل الإيضاح، ومن أراد الاستيعاب فليرجع إليه، فإن فيه علماً غزيراً، وإبطالاً لتأويل المتكلمين، بحجج وبراهين مقنعة لمن يريد الحق. قوله: ((وضرب الصراط بين ظهري جهنم)) معنى ضرب: نصب ووضع فوق النار، والصراط: هو الجسر الذي يعبر عليه، كما هو معلوم في حياة الناس اليوم. ومعنى قوله: ((بين ظهري جهنم)) يعني: فوقها، ويمتد من طرفها إلى طرفها الآخر. يقال: أقام الرجل بين ظهراني القوم، إذا أقام معهم في أرضهم، كما في الحديث: ((أنا برىء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين)) (2) . ومعنى ذلك: أن الصراط الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة يؤتى به في ذلك اليوم، فيوضع فوق النار، فيعبرون عليه، فليس لهم طريق إلى الجنة، إلا من فوق جهنم، ومع ذلك، فقد جاء وصف الصراط بأنه دقيق جداً، وغير ثابت، بل هو متحرك، ومضطرب، وهو في منتهى الحرارة؛ لأنه فوق جهنم، فالعبور عليه شديد جداً، والحقيقة أن العبور بالأعمال، فمن كان مستقيماً على صراط الله في الدنيا الذي هو دينه، استقام على ذلك الصراط. وأما تثنية الظهر في قوله: ((بين ظهري جهنم)) فإنه يدل على أن الصراط مستوعب جهنم، يعني يمر عليها كلها، والله أعلم.   (1) ((نقض التأسيس)) (3/273 - 275) ملخصا. (2) رواه أبو داود في ((الجهاد)) ، باب: النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، (3/105) ، والترمذي في ((السير)) باب: كراهية المقام بين أظهر المشركين، رقم (1604) (4/155) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 قوله: ((فأكون أنا وأمتي أول من يجيز)) يعني: رسولنا محمداً – صلى الله عليه وسلم -، وأمته الذين هم أتباعه على دينه، هم أول من يعبر الصراط، إلى الجنة، وفيه دليل على فضله – صلى الله عليه وسلم – على سائر الأنبياء، وفضل أمته على الأمم. ثم يعبر الأمم الأخرى من أتباع الرسل مع رسلهم، فكل أمة معها رسولها. قوله: ((ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل)) وذلك لهول الموقف، وعظم ذلك المنظر، وشدة الأمر، فالطريق الذي يمكن أن ينجو من سلكه من فوق جهنم، وهو كما مر دقيق، وغير ثابت، وفي منتهى الحرارة، وعليه كلاليب تخطف بعض الناس، فإذاً لا بد من النار، ومن أجل ذلك خرست الألسن، فلا أحد يستطيع أن يتكلم، وإنما ينفرد بالتكلم رسل الله، حيث أمنوا بأمان الله لهم، وكلامهم هو تضرع إلى الله – تعالى – بقولهم: ((اللهم سلم سلم)) . قوله: ((وفي جهنم كلاليب)) جمع كلوب، وهو حديدة معقوف رأسها ومحدد، بحيث تدخل في الشيء الذي يراد إمساكه بها، وقد يقسم رأسها إلى عدة كلاليب يستخرج بها ما يسقط في البئر، أو غيرها، وقد يعلق بها اللحم. ولكن هذه الكلاليب على خلاف المعهود للناس من كلاليب الدنيا، ولهذا قال: ((مثل شوك السعدان)) ، السعدان عشب تحبه الإبل، وتسمن عليه، له شوك مفلطح، يشبه القرص، وعلى دائرته شويكات كثيرة معقفة، وفي أحد جانبيه شويكات كذلك معقفة، إذا أمسكت شيئاً يصعب استخراجها، ولما كان شوك السعدان ليس كبيراً، قال: ((غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله)) ، يعني: لا أحد يستطيع وصف كبرها، وقدرتها على خطف من أمرت بخطفه، وإنما يعلم ذلك خالقها وحده. قوله: ((تخطف الناس بأعمالهم)) أي: بسبب أعمالهم، التي عصوا الله بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وخالفوا أمره، ولهذا قال: ((فمنهم الموبق)) أي: الهالك الذي أهلكته ذنوبه، وهو من سقط في النار. ((والمخردل)) وهو من يلقى في النار، ويرمى به فيها، والمعنى: أن الكلاليب تمسكه فتلقيه في النار صريعاً، إلقاء بقوة وشدة. قوله: ((أو المجازى، ونحوه)) هو شك من الراوي: هل قال: المخردل، أو المجازى؟ والمجازى: هو الذي يجزى بعمله، فإذا لم يعف الله – تعالى - عن عبده فإنه يهلك. قوله: ((ثم ينجلي)) أي: ينجلي ذلك الأمر الهائل، وينكشف، وهو العبور على النار، والمحاسبة، وغير ذلك من عظائم يوم القيامة. قوله: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد)) كل عمل له بداية ونهاية، ونهايته الفراغ منه، والمعنى: أن الله تعالى يتولى محاسبة عباده بنفسه وينتهي من ذلك، وهو – تعالى – أسرع الحاسبين، وجاء وصف الله – تعالى – بذلك في كثير من النصوص، وهو من أوصاف الفعل، وهي كثيرة. قوله: ((وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار)) المقصود بأهل النار هنا: أهل التوحيد، الذين دخلوا النار بذنوبهم، وموبقات أعمالهم، وهم كثيرون. أما المشركون، والكافرون، فإنهم لا يخرجون من النار، بل هم خالدون فيها، وأوضح ذلك بقوله: ((أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يشهد أن لا إله إلا الله)) فهذا صريح في أنه يدخل النار خلق كثير ممن لا يشرك بالله شيئاً، ولكنهم عصوا الله بفعل المحرمات، غير الشرك، وبترك الأوامر، ولهذا قال: ((ممن يشهد أن لا إله إلا الله)) يعني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 يعبد الله وحده، ولا يشرك معه غيره في العبادة. قوله: ((فيعرفونهم في النار، بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؟ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)) وهذا أيضاً صريح وواضح في أنهم كانوا يصلون، ويسجدون لله - تعالى – ويعبدونه وحده. وأثر السجود هي الأعضاء التي يسجد عليها، وهي: الجبهة والأنف، وبطون الكفين، والركبتان، وأطراف القدمين. وفي هذا دليل على فضل السجود لله - تعالى – وهو من آيات الله تعالى الدالة على قدرته الباهرة، حيث تأكل النار جسم ابن آدم إلا هذه المواضع المختلفة في البدن، فإنها لا تضرها، ولا تغيرها؛ لأن الله حرمها عليها، والنار لا تأكل إلا ما أمرها الله بأكله. قوله: ((فيخرجون من النار قد امتحشوا)) امتحشو: يعني احترقوا، وقد استدل بهذه الجملة من يقول: إنهم يموتون في النار، وقيل: إنهم لا يموتون، فالله أعلم. أما قوله: ((فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته، كما تنب الحبة في حميل السيل)) فالمراد: نبات لحومهم وغيرها التي أحرقتها النار، ولا يلزم من ذلك أنهم ماتوا، وفارقتهم الحياة، بل الظاهر أنهم بقوا أحياء يذوقون العذاب، جزاء لإجرامهم، وسيأتي أنهم يموتون موتاً حقيقيًّا، فالله أعلم. وماء الحياة، جاء تفسيره بأنه نهر من أنهار الجنة، وسيأتي في حديث أبي سعيد: أنهم يلقون في ذلك النهر، ثم ينبتون على حافتيه. ((والحبة)) هي: البذرة التي ينبت منها الزرع وغيره. وحميل السيل هو: ما يحمله من الغثاء، ويلقيه على جوانب الوادي، والنبات يكون فيه أسرع، وأقوى؛ لما فيه من الأسمدة. قوله: ((ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار)) يعني: أنه أخرج من النار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وأوقف قريباً منها، وجعل وجهه إليها، لا يستطيع أن يصرف وجهه عنها، وذلك من بقية عذابه، ولهذا يدعو ربه بأن يصرف وجهه عن النار، ويكون ذلك هو أعظم ما يتمناه ويريده، بل هو مراده. قوله: ((هو آخر أهل النار دخولاً الجنة)) أهل الفساد قسمان: قسم خلق للنار، وهم المشركون والكفار باختلاف أنواعهم، فهؤلاء لا يخرجون من النار أبداً. وقسم يكون من أهل النار مؤقتاً، وهؤلاء هم عصاة المؤمنين من الذين لا يعبدون إلا الله وحده، إلا أنهم ارتكبوا ذنوبا عظاماً استوجبوا بها النار، وهم خلائق لا يحصيهم إلا الله - تعالى -، ويتفاوتون في لبثهم في النار تفاوتاً عظيماً، ولكن لا يبقى في النار منهم أحد وإن طال لبثه، وهذا الرجل المذكور في الحديث هو آخر من يخر ج من النار من الموحدين الذين أدخلوا النار، وهو أدنى أهل الجنة منزلة، كما سيأتي التصريح بذلك في هذا الحديث. قوله: ((قشبني ريحها)) قال النووي: معنى قشبني: سمني، وآذاني، وأهلكني، قاله جماهير أهل اللغة. وقال الخطابي: قشبه الدخان: ملأ خياشيمه وأخذ بكظمه، وأصل القشب: خلط السم بالطعام، يقال: قشبه، إذا سمّه (1) . والمعنى: أن ريح النار الكريه عذّبه، وبلغ منه مبلغ الهلاك. قوله: ((وأحرقني ذكاؤها)) ذكاؤها: حرها ووهجها. ((ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء)) .   (1) ((فتح الباري)) (11/459) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 هذا الرجل الذي هو آخر من يخرج من النار، من أهل الإيمان، يخاطبه الله - تعالى - بعد أن يدعوه، ويسأله بأن يصرف وجهه عن النار، فهو قد قصر مسألته لله على صرف وجهه عن النار فقط. ولهذا يقول الله له: لعلك إذا أعطيتك ما سألتني، أن تسأل غيره، وليس ذلك لأن الله - تعالى - يكبر عليه شيء، بل لتحصل هذه المحاورة بين رب العالمين وبين هذا الرجل الذي هو أدنى أهل الجنة منزلة، وليظهر ضعف العبد، وقصر نظره، وغنى الرب - تعالى -، وكمال حلمه وعلمه، وحكمته ورحمته، وسيعيد البخاري هذا الحديث مستدلاً به على وقوع الكلام من الله - تعالى - لمن يشاء من عباده يوم القيامة. قوله: ((فإذا أقبل على باب الجنة، ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب: قدمني إلى باب الجنة)) أي: أنه يرى الجنة، ظاهراً، فيحاول أن يفي بعهوده ومواثيقه التي أعطاها ربه، فيسكت وقتاً، ولكن لضعفه وفقره، وحاجته إلى فضل ربه، لا يستطيع الصبر، فيعود مرة أخرى ناكثاً لعهوده ومواثيقه بأنه لا يسأل غير ما سأل أول مرة، ولكن الله - تعالى- يعفو عنه ويعذره؛ لأنه لا يستطيع الصبر على ما يرى. وقول الله - تعالى - له: ((ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك)) يعني: أنك كثير الغدر والخيانة، فقد نكثت بالعهود والمواثيق التي أعطيتها بأنك لا تسأل غير ما سألت مرات متعددة. قوله: ((انفهقت له الجنة)) أي: انفتحت، وانزاحت الستائر التي تحجب الرؤية، قوله: ((الحبرة والسرور)) أي: يرى أنواع النعيم، من المأكولات، وغيرها، فالخير كله بحذافيره في الجنة. قوله: ((لا أكون أشقى خلقك)) يقول ذلك، لأنه يشاهد أهل الجنة يتنعمون بأنواع النعيم، وما هم فيه من الفرح والسرور، وهو ممنوع عن دخولها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فتصور عند ذلك أنه أشقى خلق الله، وليس كذلك. قوله: ((حتى يضحك الله منه)) صفة الضحك تكاثرت عليها الأدلة، وهي صفة من صفات الفعل، يجب الإيمان بها على ظاهر ما دلت عليه النصوص، ولا يجوز تأويل الضحك بلازمه، كما يقوله أهل الباطل، من الجهمية ومن سار على نهجهم، من أن الضحك هو الرضا أوالعطا، ونحو ذلك مما هو من مخلوقات الله - تعالى -. قال أبو سعيد الدرامي - رحمه الله -: [وادعى المعارض أن ضحك الرب: رضاه ورحمته، وصفحه عن الذنوب، كقولك: رأيت زرعاً يضحك. فيقال له: كذبت بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - إذ شبهت ضحكه بضحك الزرع؛ لأن ضحك الزرع ليس بضحك، وإنما هو خضرته ونضارته، ولم تسبق إلى هذا التفسير، فأنت محرف لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف تجعل ضحك الرب إلى أوليائه، كضحك الزرع، الذي هو عبارة عن نضارته وخضرته؟ فهو ما دام كذلك فهو يضحك لكل من رآه، لمن يسقيه، ومن يحصده. وقولك: إن ضحكه: رضاه ورحمته، تصديق لبعض الحديث، وتكذيب للبعض الآخر، حيث رددت الضحك وقبلت الرضا، والله - تعالى - لا يضحك لأحد إلا عن رضا، فيجتمع منه الضحك والرضا. ولم نسمع عن أحد من أهل السنة أنه يشبه ضحك الله - تعالى - أو شيئاً من أفعاله بشيء من فعل المخلوقين، كما ادعيت أيها المعارض. بل نقول: إن الله - تعالى - يضحك كما يشاء، وكما يليق به. ثم ادعيت تفسيراً أوحش من هذا، فقلت: يحتمل أن يكون ضحكه أن يظهر من خلقه ضاحكاً، يأتيهم يبشرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 مع أن الحديث الذي ذكره المؤول يرد عليه، وفيه قول أبي رزين: ((قلت: يا رسول الله، أو يضحك ربنا؟ قال: نعم)) ، ولم يقل: يخلق ربنا من يضحك. ثم قال أبو رزين: ((لن نعدم من رب يضحك خيراً)) فجعل الضحك من الرب - تعالى - دليلاً على حصول الخير. ثم ادعى المعارض ما هو أبعد من هذا كله، فزعم أن معنى: يضحك الله من كذا، أي: يجعله ضاحكا. فيقال: إذا تحولت اللغة العربية إلى لغتك، ولغة أصحابك، جاز فيها أنكر من هذا التأويل، وأفحش. ولو كان كما ذكر، لكان سؤال أبي رزين، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - يدل على الجهل، حيث سأل، أو يُضحك ربنا الخلق؟ وهو يعلم أن كل الخلق الذي يضحكهم هو الله - تعالى -، وقد قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (1) . ثم ذكر بسنده حديث ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - قال: ((آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي، يكبو على الصراط مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي أنجاني منك، فترفع له الجنة، فيقول: يا رب أدنني إليها، وفيه: ((ألا تسألوني: مم أضحك؟)) فقالوا: مم تضحك؟ فقال: من ضحك رب العالمين)) (2) . وذكر الحديث: ((ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)) (3) .   (1) الآية 43 من سورة النجم. (2) رواه مسلم في ((الصحيح)) (1/174 - 175) في الإيمان. (3) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (4/11، 12) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وحديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة يضحك الله - تعالى - إليهم يوم القيامة: رجل قام من الليل، والقوم إذا صفوا للقتال، والقوم إذا صفوا للصلاة)) (1) . وحديث نعيم بن عمار ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم - فقال: أي الشهداء أفضل؟ قال: ((الذين يلقون في الصف، ولا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك الذين يتبلطون (2) في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، وإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه)) (3) . وحديث عبد الله بن عمرو: ((يضحك الله إلى صاحب البحر ثلاث مرات، حين يركبه، ويخلى من أهله، وحين يميد متشطحاً، وحين يرى البر ... )) . وحديث ابن مسعود: ((إن الله يضحك إلى اثنين: رجل قام من جوف الليل، فتوضأ وصلى، ورجل كان مع قوم، فلقوا العدو فانهزموا وحمل عليهم، فالله يضحك إليه)) (4) . وحديث أبي هريرة: ((يضحك الله من رجلين قتل أحدهما صاحبه، وكلاهما دخل الجنة)) (5) . وحديث أسماء بنت يزيد بن السكن: لما توفي سعد بن معاذ، صاحت أمه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا يرقأ دمعك، ويذهب حزنك؟ فإن   (1) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (3/80) وابن ماجه (1/73) والبغوي في ((شرح السنة)) (4/2) . (2) قال في ((القاموس)) : تلبط: تحير، وعدا، واصجع، وتمرغ، فمعناه: تبوأ المكان واستقر فيها. (3) قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد حسن، انظر: ((الترغيب والترهيب)) (2/319) . (4) رواه ابن ماجه في ((سننه)) من حديث أبي سعيد الخدري (1/73) . (5) متفق عليه، انظر: ((الفتح)) (6/39) ومسلم (3/1504، 1505) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 ابنك أول من يضحك الله إليه)) (1) ] (2) . ((والضحك في موضعه المناسب له، صفة مدح وكمال، وإذا قُدِّر حَيَّان: أحدهما يَضْحَكُ منه، والآخر لا يضحك، فإن الأول أكمل من الثاني. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينظر إليكم الرب قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب)) . فقال له أبو رزين العقيلي: يا رسول الله، أو يضحك الرب؟ قال: ((نعم)) قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً)) . فجعل الأعرابي العاقل - بصحة فطرته - ضحكه دليلاً على إحسانه وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك، مذموم بذلك. وإذا كان الضحك فينا مستلزماً لشيء من النقص، فالله - تعالى - منزه عن ذلك، فضحكه - تعالى - يليق به، لا يلزم عليه شيء من النقص)) (3) . ولأصحاب التأويل، تأويلات مضحكة، وحجج متهافتة سخيفة، يحاولون أن ينفوا عن الله - تعالى - ما أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كقولهم: لو كان يضحك، لكان هذا القول - مثلا - مضحكاً له، وقوله: لو جاز عليه الضحك لجاز عليه البكاء. وهكذا تكون حجج أهل الضلال والهوى، وطرد قولهم أن يقال: لو جاز عليه العلم لجاز عليه الجهل، ولو جاز أن يكون حياً لجاز أن يموت.   (1) قال في ((مجمع الزوائد)) : رواه الطبراني (9/309) (2) الرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدرامي (ص 530 536) ملخصاً في عقائد السلف. (3) ((مجموع الفتاوى)) (6/121- 122) بشيء من التصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 فكيف تجعل صفات الكمال مستلزمة لثبوت صفات النقص؟ أليس هذا هو قلب الحقائق، وعين المحال؟ سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم. ومن لا يكتفي بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتخذه إماماً هادياً، اجتالته الشياطين، وتقاذفته الأهواء، ومن حكم عقله على الوحي فسوف يلقيه في مكان سحيق. قوله: ((فإذا ضحك منه، قال له: ادخل الجنة)) الضحك دليل على الرضا، ولهذا لما ضحك الله - تعالى - من هذا الرجل، رضي عنه فأمره بدخول الجنة، وهذا مما يبطل قول أهل التأويل الذين يفسرون الضحك في الله - تعالى - بالثواب. قوله: ((فإذا دخلها قال الله له: تمنه)) أي: اسأل ما تريد، واطلب ما يخطر على بالك. قوله: ((فسأل ربه، وتمنى)) السؤال لما يتوقع حصوله، والتمني لما لا يتوقع حصوله، بل هو بعيد المنال. قوله: ((حتى إن الله ليذكره، يقول: كذا وكذا)) أي يقول له: اسأل كذا وكذا، من الأشياء التي لم تخطر على فكره. قوله: ((حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله: ذلك لك ومثله معه)) كان أبو سعيد الخدري يستمع لأبي هريرة، فلما قال: ((ذلك لك ومثله معه قال له: ((عشرة أمثاله معه يا أبا هريرة)) يعني: أن الله - تعالى - يعطي هذا الرجل كل ما سأل وتمنى، ومعه عشرة أمثاله، قال أبو هريرة: ((ما حفظت إلا قوله: ((ذلك لك، ومثله معه)) ، قال أبو سعيد: ((أشهد أني حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((ذلك لك، وعشرة أمثاله)) . وهذا يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حدث أصحابه بهذا الحديث مرات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 متعددة، في بعضها ذكر ما حفظه أبو سعيد، حيث حضر ذلك المجلس الذي قال فيه: ((ذلك لك وعشرة أمثاله)) وغاب عنه أبو هريرة، ولا منافاة، ومثل ذلك يحصل كثيراً. قوله: ((قال أبو هريرة: فذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولاً الجنة)) . وهو أدنى أهل الجنة منزلة، ومع ذلك يعطى ما ذكر، وقد جاء في بعض الروايات أنه يعطى عشر مرات. 66 - قال: حدثنا يحيي بن بكير، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قلنا: لا، قال: ((فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما)) . ثم قال: ((ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبرات من أهل الكتاب. ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيز ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة، ولا ولد، فما تريدون؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم. ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون [في جهنم] . حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا. قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق. فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعه، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً. ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة، مزلة، عليه خطاطيف، وكلاليب، وحسكة مفلطحة، لها شوكة عقيفاء، تكون بنجد، يقال لها: السعدان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً، فما أنتم بأشد لى مناشدة في الحق، قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار. وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا، إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا. فيقول الله - تعالى – اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا. ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا. ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا. قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرءوا {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (1) . فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون. فيقول الجبار جل جلاله: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار   (1) الآية 40 من سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض. فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة. فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه. فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)) . قوله: ((قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) في رواية مسلم: ((أن ناساً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا ... الخ)) فما هنا تفسير لها. قوله: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟)) في رواية مسلم: ((في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب)) يعني: في وقت خلو السماء من السحاب والقتر، فقوله: ((ليس معها سحاب)) زيادة إيضاح لقوله: ((صحواً)) . قوله: ((ثم ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون)) تقدم في حديث أبي هريرة قوله: ((يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه)) . فيكون المنادي هو الله تعالى، ومعلوم أن النداء هو رفع الصوت بالكلام، فما أبلغ هذا في إثبات تكلم الله تعالى حقيقة. قوله: ((فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم)) يعني: عبَّاد الصليب، وهم النصارى كما هو معلوم. ((والأوثان هي الأصنام، وقد تطلق على كل معبود من دون الله تعالى)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 قال ابن الأثير: ((الفرق بين الوثن، والصنم: أن الوثن: كل ما له جثة معمولة، من جواهر الأرض، أو من الخشب أو الحجارة، كصورة الآدمي تعمل وتنصب، فتعبد، والصنم: الصورة بلا جثة. ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلعهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة)) (1) . وقد جاء في قصة عدي بن حاتم أنه قال: ((قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: ((ألق هذا الوثن عنك)) (2) وهذا يدل على أن الوثن يطلق على كل ما عبد من دون الله، وقد قال الأعشى: تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن (3) يريد بالوثن: الصليب. قوله: ((وأصحاب كل آلهة مع آلهتم)) ، قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُون} (4) والمقصود بأزواجهم: نظراؤهم وإخوانهم في العمل. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (5) . فالله تعالى يحشر كل عابد مع معبوده؛ لأنهم كانوا في الدنيا يزعمون أن معبوداتهم من دون الله سوف تتولاهم، وتشفع لهم وتنفعهم، فجمعهم الله مع معبوداتهم ليظهر كذبهم وغرورهم، وفقر كل من العابد والمعبود.   (1) ((النهاية)) (5/151) . (2) أخرج قصته أحمد (4/378) والترميذي رقم (2956) وابن هشام في ((السيرة)) (2/578) . (3) انظر ((ديوان الأعشى)) ص (209) . (4) الآيات 22-25 من سورة الصافات. (5) الآية 17 من سورة الفرقان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وفي رواية عبد الله بن مسعود: ((يقول الله – تعالى – للناس في ذلك الموقف: أليس عدل مني أن أُوَلِّيَ كل عابد ما كان يعبد؟)) . قوله: ((حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبرات من أهل الكتاب)) . البر: هو المطيع لله، المتبع لرسله، والفاجر هو: الخارج عن الطاعة، ولو في بعض الأمور. والغبرات جمع غبر، بضم الغين وفتح الباء، المقصود: بقايا من اليهود والنصارى قليلة، وأما معظمهم وجُلُّهم فقد ذهب بهم مع أوثانهم إلى جهنم. قوله: ((ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب)) في ذلك الموقف أمور عظام ومهولة، وله أحوال متعددة، وحقائقها لا تعلم إلا بالمعاينة، ولكن الرسل، ولا سيما خاتمهم، جاءوا بما يكفي المؤمن في الإتقان من أوصاف ذلك اليوم. وفي هذا: ((أن جهنم يؤتى بها كأنها سراب)) وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) (1) . فيؤتى بجهنم بهذه الصفة تعرض على الناس في ذلك الموقف، وهناك: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (2) . والسراب: هو ما يرى في الأرض الخالية المستوية وقت ما تشتد حرارة الشمس من أثر انعكاس أشعتها على الأرض، فيرى في القيعان كأنه ماء، فإذا قرب إليه الرائي أُبعد عنه، فهو كما قال الله تعالى:   (1) انظر ((صحيح مسلم)) (8/149) . (2) الآية 2 من سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (1) . قوله: ((فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيزاً ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد)) السؤال لتبكيتهم، وتقريرهم بما يستحقون به العذاب، وهو عبادتهم لغير الله. وفيه دليل على أن الناس في ذلك اليوم يكونون على عقائدهم في الدنيا؛ لأن هؤلاء اليهود والنصارى لما سئلوا عما كانوا يعبدون قالوا: عزيزاً ابن الله والمسيح ابن الله، فهم لا يزالون يعتقدون أن عزيزاً ابن الله، وكذلك النصارى يظنون ذلك في المسيح. والكذب الذي أضيف إليهم هو قولهم: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله، ولهذا قال: لم يكن لله صاحبة ولا ولد. قوله: ((فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم)) في ذلك الموقف يشتد الظمأ لتوالي الكربات، وترادف الشدائد المهولات، ولهذا صار أول مطلبهم الماء، وقد مثلت لهم جهنم كأنها ماء، كما سبق في قوله: ((كأنها سراب)) فيقال لهم: اذهبوا إلى ماترون، وتظنونه ماء، فاشربوا فيذهبون فيجدون جهنم يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون فيها، ومثل ذلك يقال للنصارى بعدهم. قوله: ((حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر)) تقدم في الحديث قبله: ((وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها)) وما هنا أعم، وتقدم الكلام عليه. قوله: ((فيقال لهم: ما يحبسكم، وقد ذهب الناس؟ فيقولون: فارقناهم، ونحن أحوج منا إليه اليوم)) الذي يخاطبهم بذلك هو رب العالمين، كما هو واضح في السياق. والرواية التي ذكرها البخاري في ((التفسير)) : ((حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر أو فاجر، أتاهم رب العالمين)) (2) ، وهذا من الامتحان   (1) الآية 39 من سورة النور. (2) انظر ((البخاري)) (6/65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 والابتلاء؛ ليتبين ثباتهم وصدقهم، ولذلك قالوا: فارقنا الناس في الدنيا ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وذلك لأنهم عصوا الله وخالفوا أمره وناصبوا من أطاعه العداوة، فعاديناهم لذلك، وزايلناهم بغضاً لهم في الله، وإيثاراً لطاعة ربنا، كما قال إبراهيم عليه السلام، والذين معه من الرسل والمؤمنين: {قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) . قوله: ((إليه)) قال مصححو الطبعة البولاقية: ((هكذا في جميع النسخ متناً وشرحاَ بضمير الإفراد، وهو مخالف لما ذكره الشارح [يعني: القسطلاني] نقلاً عن البرماوي والكرماني والعيني، حيث قال: ((وكنا في ذلك الوقت أحوج إليهم)) وتقدم في تفسير سورة النساء بضمير الجمع)) (2) . وقد أشار الحافظ إلى صحة الإفراد، وأن عياضاً رجحه، وجعل الضمير عائداً إلى الله تعالى، والمعنى: ((فارقنا الناس في معبوداتهم، ولم نصاحبهم، ونحن اليوم أحوج إلى ربنا من أي يوم كان، أي: إنا محتاجون إليه)) (3) . قوله: ((وإنا سمعنا منادياً ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا)) يعني: أنهم امتثلوا قول المنادي، وليسوا ممن يعبد تلك المعبودات التي أحضرت إلى عابديها، ثم سيقوا معها إلى النار، وقد علموا أن ربهم تعالى سيأتيهم. قوله: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) . وقد تقدم الكلام في الصورة بما يكفي، وفي الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) : ((أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة)) وهو لفظ   (1) الآية 4 من سورة الممتحنة. (2) حاشية البخاري ((طبعة بولاق)) (9/159) . (3) انظر ((فتح الباري)) (11/450) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 رواية مسلم (1) ، وفي السنة لابن أبي عاصم: ((ثم يتبدى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أول مرة)) ، وفي رواية عنده أيضا: ((ثم يرفع برنا ومسيئنا، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أول مرة)) (2) وقد تقدم. وفي صحيح مسلم في هذا الحديث: ((ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا)) (3) . ففي هذه الألفاظ بيان صريح بأنهم قد رأوه في صورة عرفوه فيها، قبل أن يأتيهم هذه المرة، وفي ذلك رد لما قاله الإمام أبو سعيد الدرامي - رحمه الله -، حيث جعل معرفتهم إياه بصفاته التي تعرف بها إليهم في الدنيا. وكذلك قوله: ((إن هذا التحول من صورة إلى صورة، هو تمثيل يمثله الله في أعينهم. أما هو - تعالى - فلا يتحول من صورة إلى صورة، وهذا خلاف ما صرحت به الأحاديث كما ذكرنا (4) . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قول أبي سعيد هذا، ورده من وجوه عدة، فقال بعد ما ذكر أقوال أهل التأويل، من الجهمية والحلولية، لحديث الصورة وإتيان الرب - تعالى - إلى أهل الموقف بصورته، فقال: ((وأقرب ما يكون عليه إتيان الله - تعالى - في صورته بعد صورة - وإن كان تأويلا باطلاً - أيضاً ما ذكره بعض أهل الحديث، مثل أبي عاصم   (1) انظر ((صحيح مسلم مع النووي)) (3/27) . (2) انظر ((السنة)) (1/285) . (3) ((صحيح مسلم)) (1/169) ، رقم (302) . (4) انظر الرد على ((المريسي)) (ص421) مجموعة عقائد السلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 النبيل، أنه كان يقول: ذلك تغيير يقع في عيون الرائين، كنحو ما يخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة. وقال عثمان بن سعيد في نقضه على بشر المريسي: ((وأما إنكارك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة، في غير صورته، فيقولون: نعوذ بالله منك، ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها، فيتبعونه، فزعمت أن من أقر بهذا فهو مشرك. فيقال لهم: أليس قد عرفتم ربكم في الدنيا، فكيف جهلتموه عند العيان، وشككتم فيه؟ وقد صح بهذا الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كأنك تسمعه يقوله من جودة إسناده. ولو أن الله تجلّى لهم أول مرة في صورته التي عرّفهم صفاتها في الدنيا، لاعترفوا بما عرفوا، ولكنه يُرى نفسه في أعينهم؛ لقدرته، ولطف ربوبيته، في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا؛ ليمتحن الله بذلك إيمانهم، ثانية في الآخرة، أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه، واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك. فإذا مثل في أعينهم غير ما عرفوا من الصفة نفروا، وأنكروا، إيماناً منهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا بها، من غير أن يتحول الله من صورة إلى صورة. ولكن يمثل ذلك في أعينهم، كما مثل جبريل مع عظم صورته، في صورة دحية الكلبي، وكما مثل لمريم بشراً، وكما شبه عيسى في أعين اليهود)) (1) .   (1) نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص421 – 423) ، وانظر ((نقض التأسيس)) (3/397-401) المخطوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وهذا باطل من وجوه: أحدها: أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه: ((فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة)) . ... وفي لفظ: ((في أدنى صورة من التي رأوه فيها)) ، وهذا يفسر قوله في حديث أبي هريرة: ((فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون)) ، ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة، في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها. وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون، هي التي عرفهم صفاتها في الدنيا، وليس الأمر كذلك؛ لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة، لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا. ولفظ الرواية صريح في ذلك، وقد بينا أنه في غير حديث ما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة. الثاني: أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة، ولم يروه في الدنيا في صورة، فإن ما وصف الله – تعالى – به نفسه، ووصفه به رسوله، لا يوجب لهم معرفة صورة يعرفونه فيها، ولهذا قال – تعالى -: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءُُُ} (1) ، فلو أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك. فعلم أنهم لم يطبقوا الصورة التي رأوه فيها أول مرة [على ما علموه في الدنيا] (2) . وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في سدرة المنتهى: ((فغشيها من أمر الله ما غشاها، حتى لا يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها)) (3) ، فالله أعظم من أن يستطيع   (1) الآية 11 من سورة الشورى. (2) ليست من كلام الشيخ، وإنما زدتها للإيضاح. (3) انظر ((صحيح مسلم)) (1/146) ، الحديث رقم (259) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 أحد أن ينعت صورته، وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم. ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر، ومع هذا فقد قال: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) (1) فالخالق أن لا يكونوا يطيقون معرفة صفاته كلها أولى. الوجه الثالث: أن في حديث أبي سعيد: ((فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة)) فقوله: ((لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم)) مخالف لهذا النص. الوجه الرابع: أن في حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، من طريق العلاء: ((أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون)) وفي لفظ ((أشباه ما كانوا يعبدون)) . ثم قال: ((ويبقى محمد وأمته، فيتمثل لهم الرب – تبارك وتعالى 0 فيأتيهم فيقول: ((ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد)) ، فقد أخبر أن الله – تعالى – هو الذي يتمثل لهم، ولم يقل لهم كما قال في معبودات المشركين، وأهل الكتاب. الوجه الخامس: أن في عدة أحاديث، كحديث أبي سعيد، وابن مسعود: ((قال: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فيسجدون له)) . وهذا بيِّن أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا، بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف. وكذلك في حديث جابر: ((قال: فيتجلى لنا يضحك)) ، ومعلوم أنه وإن   (1) رواه البخاري في عدة مواضع من ((صحيحه)) ، وسيأتي، ومسلم: انظر (4/2174) رقم (2824) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وصف بالدنيا بالضحك فصورته لا تعرف بغير المعاينة. الوجه السادس: أنه مثل ذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} (1) ، وبقوله: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم ْ} (2) ، وهذا غير مناسب؛ لأن اليهود غلطوا في الذي رأوه، حيث ظنوه المسيح، ولم يكن هو، ولكن ألقى شبهه عليه، وكذا الذي رأته مريم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، هو جبريل نفسه في صورة آدمي، فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم ير؟ وأما التقليل والتكثير في أعينهم فهو في المقدار، ليس في نفس المرئي، ولكن في صفته. الوجه السابع: أن هذا المعنى كان مقيداً بالرائي، لا بالمرئي، مثل قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ْ} (3) ، فقيد ذلك بأعين الرائين، يقال: كان هذا في عين فلان رجلاً، فظهر امرأة، وكان كبيراً، فظهر صغيراً، ونحو ذلك. لا يقال: جاء فلان في صورة كذا، ثم تحول في صورة كذا، ويكون التصوير في عين الرائي فقط)) (4) . قوله: ((فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن الضمير في قوله: ((فيكشف عن ساقه)) يعود إلى الله تعالى، ففي ذلك إثبات الساق صفة لله تعالى، ويكون هذا الحديث ونحوه تفسيراً لقوله تعالى: {يَوْمَ   (1) الآية 44 من سورة الأنفال. (2) الآية 157 من سورة النساء. (3) الآية 44 من سورة الأنفال. (4) ((نقض التأسيس)) (3/397 – 404) المخطوطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ْ} (1) . قال البخاري في ((التفسير)) من ((صحيحه)) : ((باب: ((يوم يكشف عن ساق)) : حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد – رضي الله عنه _ قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)) وهذا حديث متفق على صحته، وفيه التصريح في أن الله تعالى يكشف عن ساقه، وعند ذلك يسجد له المؤمنون. ومن تأوّله التأويلات المستكرهة، فقد استدرك على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يرض بما جاء به عن ربه تبارك وتعالى. ومعلوم أن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ْ} (2) ليس نصاً في أن الساق صفة لله – تعالى -؛ لأنه جاء نكرة غير معرف بالإضافة إلى الله – تعالى -، فيكون قابلاً كونه صفة، وكونه غير صفة، وتعينه لواحد من ذلك يتوقف على الدليل، وقد دل الدليل الصحيح على أنه صفة لله – تعالى – فلا يجوز تأويله بعد ذلك. أما ما جاء عن ابن عباس وغيره أن ذلك: الشدة والكرب يوم القيامة، فهذا بالنظر إلى لفظ الآية؛ لأنها كما قلنا لم تدل على الصفة بلفظها، وإنما الدليل هو الحديث المذكور، مع أنه جاء عن أبي سعيد، راوي الحديث، وجاء عن غيره أيضاً، أنهم جعلوها دالة على الصفة. قال شيخ الإسلام: ((وقد طالعت التفاسير المنقولة، عن الصحابة،   (1) الآية 42 من سورة ن. (2) الآية 42 من سورة ن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وما رووه من الحديث، ووقفت على أكثر من مِائَة تفسير، فلم أجد عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات، أو أحاديثها، بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ْ} فروي عن ابن عباس، وطائفة، أن المراد به: الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد، وطائفة، أنهم عدوها في الصفات، للحديث الذي رواه أبو سعيد في ((الصحيحين)) . ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة، لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر)) (1) . وقال أيضاً: ((الصحابة قد تنازعوا في تفسير هذه الآية، هل المراد به: الكشف عن الشدة، أو المراد: أنه يكشف الرب عن ساقه؟ ولم يتنازع الصحابة والتابعون فيما يذكر من آيات الصفات، إلا في هذه الآية، بخلاف [قوله: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَى َّ {} وَيَبقَى وَجهُ رَبِكَ} ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيها الصحابة والتابعون] ، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله – تعالى – [يعني قوله – تعالى -: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} ؛ لأنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} ، ولم يقل عن ساق الله، ولا قال: يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقاً نكرة غير معرفة، ولا مضافة. وهذا اللفظ بمجرده، لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله – تعالى –أثبتوه بالحديث الصحيح، المفسر للقرآن، وهو   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/394 - 395) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 حديث أبي سعيد الخدري، المخرج في ((الصحيحين)) الذي قال فيه: ((فيكشف الرب عن ساقه)) . وقد يقال: إن ظاهر القرآن يدل على ذلك، من جهة أنه أخبر أن يكشف عن ساق، ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضاً فحمل ذلك على الشدة، لا يصلح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال: كشف الله الشدة – أي: أزالها – كما قال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} (1) وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2) . وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة – أي: أزالها – فلفظ الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق} وهذا يراد به الإظهار والإبانة، وأيضاً هناك تحدث الشدة، لا إزالتها، فلا تكشف الشدة يوم القيامة. لكن هذا الظاهر [من كون القرآن دالاً على الصفة] ليس ظاهراً من مجرد لفظة ((ساق)) بل بالتركيب، والسياق، وتدبر المعنى المقصود)) (3) . وبهذا يتبين بطلان قول من يقول: المراد بالساق: الأمر الشديد المهول، أو أنه مَلَكٌ يجعله الله علامة يعرفونها، ونحو ذلك من التأويلات الباردة السخيفة التي يجب أن ينزه عنها كلام العقلاء، فضلاً عن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وكل من جرّد نفسه لله، وطرح عنه التعصب، والتقليد، فإنه يعلم بطلان هذه التأويلات، وسخافتها. قوله -: ((فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة، فيذهب   (1) الآية 50 من سورة الزخرف. (2) الآية 75 من سورة المؤمنون. (3) ((نقض التأسيس)) (3/15-16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 كيما يسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)) ، وهذا مما يدل على أن الساق صفة لله – تعالى – حيث عرفه المؤمنون بذلك فسجدوا له، ومعلوم أن الشدائد في ذلك اليوم متوالية، من النفخ في الصور، وجمع الناس في صعيد واحد من أولهم إلى آخرهم، فيطول وقوفهم، شاخصة أبصارهم، حفاة، عراة، غرلاً، جياعاً عِطاشاً، ثم يؤتى إليهم بجهنم، تُجر بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، ثم تتوالى الأهوال من نصب الموازين، والصراط، والعبور على النار، حتى ينجو المؤمنون إلى الجنة، وأما من عداهم فلا يخرجون من شدة إلا إلى ما هو أشد منها، وكل هذه الأمور وغيرها لم توجب للمؤمنين السجود. فلما مثل لكل قوم ما يعبدون، وأمروا باتباع معبوداتهم إلى النار، وبقي المؤمنون ينتظرون معبودهم، حتى إذا جاءهم في صورة لا يعرفونه بها، وقال: أنا ربكم، فيتعوذون بالله منه، خوفاً أن يكون غير ربهم؛ لأنهم لم يكونوا يشركون به شيئاً ثم يقول لهم: هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، الساق، عند ذلك يكشف عن ساقه - جل وعلا -، فيخرُّون له سُجَّداً. وأما المنافقون الذين يراءون الناس بعبادتهم، فمنعوا من السجود، وجعلت ظهورهم طبقاً واحداً، لا يستطيعون الانحناء، ولا السجود؛ لأنهم ما كانوا في الحقيقة يسجدون لله في الدنيا، وإنما كانوا يسجدون لأغراضهم الدنيوية. قوله: ((ثم يؤتى بالجسر، فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مدحضة، مزلة)) المدحضة: الذي لا تستمسك فيه الأقدام، ومزلة: صفة لمدحضة، يعني: أن القدم إذا وطئ عليه لا يثبت، بل يزل، والدحض: هو الموضع الذي فيه طين وأصابه الماء، فأصبح يدحض من وطئ عليه، أي: يزله، ولا يثبت عليه قدم. قوله: ((عليه خطاطيف)) هو الحديدة المعقوفة، المحددة؛ لأجل أن تمسك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 من أريد خطفه بها، فهي قريبة من الكلوب، وتقدم شرحها وتفسير السعدان. قوله: ((المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب)) يعني: مرورهم على النار يختلف باختلاف إيمانهم، فمن كان إيمانه كاملاً، وعمله صالحاً خالصاً لله، فإنه يمر من فوق جهنم كلمح البصر، ومن كان دون ذلك يكون مروره بحسب إيمانه وعمله، كما فصل ذلك في الحديث، ومثل بالبرق، والريح، إلى آخره. قوله: ((فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحباً)) جعل المارين على الصراط أربعة أصناف: الأول: الناجي المسلم من الأذى، وهؤلاء يتفاوتون في سرعة المرور عليه كما سبق. والثاني: الناجي المخدوش، والخدش هو الجرح الخفيف، يعني: أنه أصابه من لفح جهنم، أو أصابته الكلاليب والخطاطيف التي على الصراط بخدوش. والثالث: المكدوس في النار، الملقى فيها بقوة، قال ابن الأثير: ((كأن الإنسان تجمع يداه، ورجلاه، ويشد، ويلقى في النار، وهو بمعنى المكردس، وجاء في بعض نسخ مسلم ((مكدوش)) (1) . والرابع: الذي يسحب على الصراط سحباً قد عجزت أعماله عن حمله. قوله: ((فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم، من المؤمن يومئذ للجبار)) هذا من كرم الله، ورحمته، حيث أذن لعباده المؤمنين في مناشدته وطلب عفوه عن إخوانهم الذين ألقوا في النار، بسبب جرائمهم التي كانوا   (1) ((جامع الأصول)) (11/314) مطبعة أنصار السنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 يبارزون بها ربهم، ومع ذلك ألهم المؤمنين الذين نجوا من عذاب النار وهول الصراط، ألهمهم مناشدته، والشفاعة فيهم، وأذن لهم في ذلك؛ رحمة منه لهم – تبارك وتعالى -. ((يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا)) مفهوم هذا أن الذين لا يصلون مع المسلمين، ولا يصومون معهم، لا يشفعون فيهم، ولا يناشدون ربهم فيهم. وهو يدل على أن هؤلاء الذين وقعت مناشدة المؤمنين لربهم فيهم كانوا مؤمنين، موحدين؛ لقولهم: ((إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ولكن ارتكبوا بعض المآثم، التي أوجبت لهم دخول النار. وفي هذا رد على طائفتين، ضالتين، الخوارج، والمعتزلة، في قولهم: إن من دخل النار، لا يخرج منها، وإن صاحب الكبيرة في النار. ((فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم، وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني، فاقرؤوا: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (1) أما كون المؤمنين يذهبون ِإلى النار، وكيف يستطيعون الوصول إليها؟ وكيف يعرفون من في قلبه مثقال دينار، أو نصف دينار، أو مثقال ذرة من إيمان؟ هذه كلها من أمور الآخرة، التي لا تقاس بما تعارف   (1) الآية 40 من سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 عليه الناس في الدنيا، ولا يستطيع عقل البشر الحكم عليها، وإنما تعرف حقائقها يوم القيامة، فهناك يأتي تأويلها، وإنما يجب علينا تصديقها، والتيقن منها. وليس بمستنكر في قدرة الله – تعالى – أن يجعل النار غير مؤذية لهؤلاء المؤمنين الذاهبين إلى إخوانهم في النار، كالملائكة الذين فيها. والمقصود بالصور في قوله: ((ويحرم صورهم على النار)) وجوههم، وقد تقدم أن الله يحرم على النار مواضع السجود، وذلك من آيات الله وعظيم قدرته. واستشهاد أبي سعيد بالآية ظاهر في أن العبد إذا كان معه مثقال ذرة من إيمان، فإن الله يضاعفه له، فينجيه بسببه. قوله: ((فيشفع النبيون، والملائكة، والمؤمنون)) صريح في أن هؤلاء الأقسام الثلاثة يشفعون، ولكن يجب أن يعلم أن شفاعة أي شافع، لا تقع إلا بعد أن يأذن الله فيها، كما تقدم في مناشدتهم ربهم وسؤالهم إياه، ثم يأذن لهم فيقول: اذهبوا فمن وجدتم، إلى آخره. قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (1) . ولا تقع أيضا إلا لمن يرضى الله – تعالى – عنه، وهو تعالى لا يرضى إلا عن أهل التوحيد والإخلاص، أما المشركون، ومنهم عباد الأولياء والقبور فحرام عليهم الشفاعة، كحرمة الجنة عليهم، كما هو معلوم من نصوص الشرع. قوله: ((فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج   (1) الآية 255 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 أقواماً قد امتحشوا)) الله تعالى هو مالك الشفاعة، والأمر له في كل شيء، والملائكة، والرسل، والمؤمنون، يطلبون منه أن يشفعهم في من دخل النار من المؤمنين بأن يخرجهم، وهو – تعالى – الذي يُلقي هذا الطلب في نفوسهم كما سبق، والمراد بشفاعته – تعالى – رحمته لهؤلاء المعذبين، فيخرجهم من النار. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون} (1) . وقال تعالى {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (2) . والعهد: هو شهادة ألاَّ إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صادقاً مخلصاً، وعمل بما دلت عليه هذه الشهادة. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} (3) . ففي هذه الآيات – ونحوه كثير – البيان الواضح في أن الشفاعة لله وحده، وأنها لا يمكن أن تقع من أحد عند الله إلا بعد أن يأذن لمن يشفع، ويرضى عن المشفوع له، وحقيقة الشفاعة أن الله يكرم الشافع بإذنه له في ذلك، ويرحم المشفوع فيه.   (1) الآيتان 43 – 44 من سورة الزمر. (2) الآية 87 من سورة مريم. (3) الآية 4 من سورة السجدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قوله: ((فيقبض قبضة)) فيه إثبات القبض لله تعالى، ومِنْ لازِمِهِ إثبات اليد التي يقبض بها، وكم في كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من نص يثبت ذلك، ولكن أهل التأويل الفاسد المحرِّفين يأبون قبول ذلك، والإيمان به، وسوف يعلمون أن الحق ما قاله الله وقاله رسوله، وأنهم قد ضلوا السبيل في هذا الباب. قوله: ((قد امتحشوا)) يعني: احترقوا، وفي رواية مسلم: ((قد عادوا حمماً)) أي: صاروا حمماً، والحمم - بضم الحاء وفتح الميم الأولى المخففة - هو الفحم. والامتحاش: احتراق الجلد، وظهور العظم، وليس المقصود هنا أن عظامهم ظهرت، وإنما المقصود احتراقهم ظاهراً. وبهذا استدل على أن من يدخل النار من الموحدين يموتون فيها؛ لأنهم احترقوا، وصاروا حمماً، وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً، أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل)) (1) . قال ابن رجب: ((وظاهر الحديث يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة، وتفارق أرواحهم أجسادهم، ويدل على ذلك: ما أخرجه البزار، من حديث عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن مسلمة، أخبرني موسى بن جبير، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أدنى أهل   (1) ((صحيح مسلم)) (3/37) مع شرح النووي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الجنة حظاً – أو نصيباً – قوم يخرجهم الله من النار، فيرتاح لهم الرب – تعالى – أنهم كانوا لا يشركون بالله شيئاً، فينبذون بالعراء، فينبتون كما تنبت البقلة، حتى إذا دخلت الأرواح إلى أجسادها، قالوا: ربنا كما أخرجتنا من النار، وأرجعت الأرواح إلى أجسادها، فاصرف وجوهنا عن النار، فيصرف وجوههم عن النار)) (1) . قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لكن ناس أصابتهم النار)) إلى آخره، معناه: أن المذنبين من المؤمنين يميتهم الله – تعالى – إماتة بعد أن يعذبوا المدة التي أرادها الله – تعالى -، وهذه الإمامة، إماتة حقيقية، يذهب معها الإحساس، ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم، ثم يميتهم، ثم يكونون فحماً، فيُحملون ضبائر، كما تحمل الأمتعة، ويلقون على أنهار الجنة، فيصب عليهم ماء الحياة، فيحيون، وينبتون نبات الحبة في حميل السيل، في سرعة نباتها، وضعفها، فتخرج لضعفها صفراء، ملتوية، ثم تشتد قوتهم، ويصيرون إلى منازلهم، وتكمل أحوالهم، هذا هو ظاهر الحديث. وحكى القاضي عياض فيه وجهين، أحدهما: أنها إماتة حقيقية، والثاني ليس بموت حقيقي، ولكن يغيب عنهم إحساسهم بالألم، والمختار ما قدمناه)) (2) . قوله: ((فينبتون في حافتيه، كما تنبت الحبة في حميل السيل)) المقصود: نبات لحومهم وأبصارهم وعظامهم التي احترقت في النار، ولا يلزم عند من يقول إنهم لا يموتون موتاً حقيقياً أنهم ماتوا في النار بحيث تفارق أرواحهم أجسامهم، والله أعلم.   (1) ((التخويف من النار)) (ص152) . (2) ((شرح النووي على مسلم)) (3/38) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 و ((الحبة)) بكسر الحاء، قال الحافظ: ((هي بزور الصحراء، وجمعها: حبب، بكسر الحاء، وأما الحبة بفتح الحاء – وهو ما يزرعه الناس – فجمعها حبوب)) (1) (2) ((في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل كان أبيض)) يعني بذلك: سرعة خروج لحومهم؛ لأن النبت في حميل السيل – كما ذكر – يخرج بسرعة، ولهذا يكون من جانب الظل أبيض، ومن جانب الشمس أخضر، وذلك لضعفه ورقته، ولا يلزم أن يكون نبتهم كذلك – كما قاله بعضهم: بأن الذي من جانب الجنة يكون أبيض، والذي من جانب النار يكون أخضر – بل المراد تشبيههم بالنبت المذكور في سرعة خروجه، ورقته، ولذلك قال: ((فيخرجون كأنهم اللؤلؤ)) يعني: في صفاء بشرتهم، وحسنها. قوله: ((فيجعل في رقابهم الخواتيم)) خواتيم: جمع خاتم، وهذه الخواتيم يكتب فيها ((عتقاء الرحمن من النار)) كما ذكر في الرواية الأخرى. قوله: ((فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة، بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه)) يعني أنهم لم يعملوا صالحاً في الدنيا، وإنما معهم أصل الإيمان، الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان برسولهم. قال الكرماني: ((ليس معهم إلا مجرد الإيمان، دون أمر زائد عليه، من الأعمال والخيرات، وعلم منه أن شفاعة الملائكة، والنبيين، والمؤمنين، فيمن كان له طاعة غير الإيمان الذي لا يطلع عليه إلا الله)) (3) ، وتقدم في الحديث   (1) ((شرح النووي على مسلم)) (3/38) . (2) انظر ((الفتح)) (11/458) . (2) ((شرح الكرماني)) (25/150) . (3) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 أنهم يخرجون من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان، ومن كان في قلبه مثقال نصف دينار، ومن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، والله أعلم. قوله: فيقال لهم: ((لكم ما رأيتم، ومثله معه)) يظهر أنهم يدخلون أماكن من الجنة خالية، ولهذا قيل لهم ذلك. ومحل الشاهد من الحديث قوله: ((فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته، التي رأوه فيه أول مرة)) ، وقوله: ((فيكشف عن ساق، فيسجد له كل مؤمن)) مع قوله: ((فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما)) جواباً لسؤالهم: ((هل نرى ربنا يوم القيامة)) وهي كما ترى أدلة واضحة صريحة، وهذا من أوضح الأدلة على أن عموم أهل الموقف من الرجال، والنساء، والمنافقين، يرونه، فإن الناس يعمهم، والحشر مشترك بينهم. فقد ظهر مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – لكل عاقل عارف باللغة بقوله: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب)) أن مراده رؤيتهم إياه بأبصارهم، لا يستريب في ذلك من عرف دلالة الألفاظ على المعاني، وليس في الممكن عبارة أوضح من هذا. ******* 67 – وقال حجاج بن منهال: حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة، حتى يهموا بذلك. فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا، فيأتون آدم. فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، لتشفع لنا عند ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 قال: فيقول: لست هناكم، قال: ويذكر خطيئته التي أصاب، أكله من الشجرة وقد نهي عنها، ولكن ائتوا نوحاً، أول نبي بعثه الله – تعالى – إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، أول نبي بعثه الله – تعالى – إلى أهل الأرض، فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم. ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهن، ولكن ائتوا موسى، عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً. قال: فيأتون موسى، فيقول: إني لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، قتله النفس، ولكن ائتوا عيسى، عبد الله ورسوله، وروح الله وكلمته. قال: فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً – صلى الله عليه وسلم – عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فيأتوني، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعط. قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وسمعته أيضا يقول: ((فأخرج فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – ثم أعود فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه. قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال: ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وسمعته يقول: فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه. قال: ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة – قال قتادة: وقد سمعته يقول: فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة – حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن – أي: وجب عليه الخلود -، ثم تلا الآية: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُكَ مَقَامَا مَّحمُودَا} . قال: وهذا المقام المحمود، الذي وعده نبيكم - صلى الله عليه وسلم –)) . هذا حديث الشفاعة المشهور، وقد تقدم في باب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} . وقد جاء من رواية عدد من الصحابة، ((وأول حديث أبي هريرة: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، يجمع الله الناس، الأولين والآخرين، في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، ولا يحتملون)) وزاد في رواية إسحاق بن راهويه: ((فتدنو الشمس من رؤوسهم، فيشتد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 عليهم حرُّها، ويشق عليهم دنُّوُّها، فينطلقون من الضجر والجوع مما هم فيه)) . وأول حديث أبي بكر: ((عُرض عليَّ ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيفظع الناس لذلك، والعرق كاد يلجمهم)) . وفي حديث عبادة بن الصامت: ((إني لسيد الناس يوم القيامة – بغير فخر -، وما من الناس إلا من هو تحت لوائي، ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد)) (1) وبهذا يتبين أن قوله في رواية أنس: ((يحبس المؤمنون يوم القيامة)) أن قبله كلاماً محذوفاً، وأن المقصود الخلق عامة، ولهذا جاءت أكثر الروايات بالتعبير ((بالناس)) . وفي هذه الرواية – زائداً على ما تقدم -، ذكر الذنوب التي يعتذر بها الأنبياء، وتقدم أن هذا من الأدلة على وقع الذنوب في الجملة من الأنبياء، وتقدم الكلام في هذه المسألة. ومن ذلك قوله: ((فاستأذن على ربي في داره)) ، وتكرر ذلك ثلاثا، قيل: المراد الجنة، والظاهر أن المراد مكان معين، كما في حديث الشفاعة الطويل ((فآتي تحت العرش)) ، وفي حديث الصور: ((فآتي مكاناً تحت العرش، يقال له: الفحص)) ، فيكون المعنى: المكان الذي تحت عرشه. وما ذكره الحافظ، نقلاً عن الخطابي، أن قوله: ((فأستأذن على ربي في داره)) يوهم المكان، والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره التي اتخذها لأوليائه، وهي الجنة، أضيفت إليه إضافة تشريف، مثل بيت الله وحرم   (1) انظر ((الفتح)) (11/432) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الله)) (1) . فيقال له: ماذا تقصد بالمكان؟ إن كنت تريد مكاناً يحويه ويحيط به، فالله - تعالى - منزه عن ذلك. وإن كنت تريد أنه ليس فوق عرشه، عال على خلقه، كما هو مذهب أهل الباطل من أشعرية، ومعتزلة، وغيرهم، فقد أثبت الله - تعالى - ذلك لنفسه وأثبتته له رسله، واتفقت عليه كتبه، وأجمعت عليه أتباع الرسل، وفطر الله - تعالى - عليه خلقه، فإنكار ذلك عناد، ومكابرة للعقول السليمة من الانحراف، ومخالفة للشرع، وقد تقدم من الأدلة على ذلك ما يكفي بعضه لمن يريد الحق. ومما لم يتقدم في الرواية السابقة قوله: ((فأخرج)) فأخرجهم من النار)) يعني: يخرج من المكان الذي استأذن في الدخول فيه. وفيه ألفاظ أُخر تختلف عما سبق، ولكن المعنى متقارب. والمقصود منه هنا قوله: ((فأستأذن على ربي في داره، فإذا رأيته وقعت ساجداً)) كرر ذلك ثلاث مرات، وهو صريح في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى ربه عياناً في ذلك المكان، فيسجد له، وإذا رآه جاز أن يراه غيره. وأما تلاوة الآية إلى آخر قول أنس، فهو تفسير للمقام المحمود، وسيأتي. وفي هذا الحديث إشكال ظاهر، حتى قال الداودي: ((أول هذا الحديث ليس متصلاً بآخره، بل بقي بين طلبهم الشفاعة، وبين قوله: ((فأستشفع)) ، أمور كثيرة من أمور القيامة)) (2) ، وقال: ((وكأن راوي الحديث ركّب شيئاً على غير أصله، وذلك أن أول الحديث في ذكر الشفاعة، في الإراحة من كرب الموقف، وآخره في الشفاعة لإخراج بعض العصاة من النار، وهذا إنما يكون   (1) ((الفتح)) (13/429) . (2) ذكره الحافظ في ((الفتح)) (13/426) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 بعد انتهاء الوقوف، والقضاء بين الخلق، وذهاب أهل الجنة إليها، وأهل النار إليها)) ، قال الحافظ: ((وهذا إشكال قوي)) (1) ثم ذكر جوابه، عن القاضي عياض، قال: وتبعه عليه النووي. وحاصله: أن الحديث فيه اختصار، وحذف، وذكر بعض الروايات التي تبين ذلك. منها ما في حديث أُبي بن كعب، عند أبي يعلى: ((ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم، فيمرون)) . ومنها ما في رواية ابن عباس عند الإمام أحمد: ((فيقول - عز وجل - يا محمد، ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا رب، عجِّل حسابهم)) . وذكر جواب القرطبي، ((بأن قوله في حديث أبي هريرة: ((أدْخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب)) فهذا يدل على الشفاعة في تعجيل الحساب)) (2) وذكر غير ذلك مما هو مخالف لظواهر الأحاديث، فلا يعول عليه. وقال ابن أبي العز: ((والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، ولا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في إتيان الرب - تعالى - لفصل القضاء، مع أنه المقصود من سياق الحديث. فإن الناس يطلبون الشفاعة ليقضى بينهم، فيستريحوا من عناء الموقف. وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور المشهور، فإن فيه:   (1) ((الفتح)) (11/ 437 - 438) ببعض التصرف. (2) ((الفتح)) (11/438) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 ((فأذهب فأسجد تحت العرش، في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك؟ - وهو أعلم - فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس)) ، ثم ذكر ((انشقاق السماوات، وتنزل الملائكة، ثم يجيء الرب - تعالى - لفصل القضاء)) إلى آخره. وكأن السلف اقتصروا على هذا القدر من الحديث، للرد على الخوارج، ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار، بعد دخولها، فذكروا القدر الذي فيه التصريح بذلك)) (1) . وبذلك يزول الإشكال، فإن حديث الصور مشهور، وإن كان سنده ضعيفاً، ولكن له شواهد كثيرة صحيحة، فيصلح أن يكون جواباً لهذا الإشكال، والله أعلم. وأما قوله تعالى: ((عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)) فقال ابن جرير: ((يقول تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم: أقم الصلاة المفروضة، في أوقاتها التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتجهد فرضاً فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاماً تقوم فيه محموداً، تحمده وتغبط فيه. قال أكثر أهل العلم: إنه الشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه، من شدة ذلك اليوم ... ثم ذكر الآثار في ذلك. وذكر بسنده، عن مجاهد: أن المقام المحمود: أن يجلسه معه على عرشه. ثم قال: الصواب: ما صح به الخبر، أنه الشفاعة ... وذكر بعض أحاديث الشفاعة، ثم قال: ((وما قاله مجاهد، غير مدفوع صحته سنداً، ولا نظراً،   (1) ((شرح الطحاوية)) (ص193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 إذ لا خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن صحابته، ولا التابعين بإحالة ذلك)) (1) . قال الحافظ: ((الجمهور على أن المراد بالمقام المحمود: الشفاعة، وبالغ الواحدي ونقل فيه الإجماع. ثم قال: والراجح أن المراد به الشفاعة، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان: الأول: العامة في فصل القضاء. والثاني: الشفاعة في إخراج المذنبين من النار)) (2) . ***** 68 - قال: حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثني عمي، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدثني أنس بن مالك - رضي الله عنه - ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة، وقال لهم: اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض)) . ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث من رواية أنس رضي الله عنه - في سبعة مواضع غير هذا الموضع، منها في غزوة الطائف، ولفظه: ((قال ناس من الأنصار - حين أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما أفاء، من أموال هوازن، فطفق النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي رجالاً المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم غيرهم.   (1) ((تفسير الطبري)) (15/143 - 147) ملخصاً. (2) ((الفتح)) (11/426 - 427) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فلما اجتمعوا قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما حديث بلغني عنكم؟)) . فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس منا، حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر، أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به)) قالوا: يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض)) (1) . وله ألفاظ وروايات متعددة، من رواية أنس وغيره. والأثرة: اختصاص غيرهم واستبدادهم بما يستحقونه هم، والمعنى: أن الناس يختصون بالدنيا، ويستأثرون بها، دون الأنصار، مع استحقاق الأنصار لها وهم الذين اجتمعوا على نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآووه إلى بلادهم، وعاقدوه على أن ينصروه، ويمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأولادهم منه، فلنصرهم لله ورسوله سموا الأنصار، وهو أشرف أسمائهم وقد وقع لهم ما أخبرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك تقدير الحكيم العليم، حيث استأثر الناس عليهم بالدنيا، مع أنهم الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم، وهذا من فضل الله عليهم، حتى يجازيهم على أعمالهم الدرجات العالية في جنات عدن، فتظهر هناك فضيلتهم، ويغبطهم الناس الذين استأثروا عليهم بالدنيا أعظم غبطة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. قوله: ((جمعهم في قبة من أدم)) القبة: كل ما كان مقبباً، وفي الأصل   (1) انظر ((الفتح) (8/52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 أن يكون عالي الوسط متداني الأطراف، والأدم: الجلود. وتقدم تفسير الصبر. وقوله: ((حتى تلقوا الله ورسوله)) هذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لأن اللقاء يتضمن الرؤية والمعاينة كما قال أهل اللغة. قال الأزهري: ((كل شيء استقبل شيئاً، أو صادفه، فقد لقيه، من الأشياء كلها)) (1) وقال ابن فارس: ((اللقاء: الملاقاة، وتوافي الاثنين متقابلين، ولقيته لقيا، ولقيانا، واللقية: فعلة من اللقاء والجمع: لقى، قال: وإني لأهوى النوم من غير نعسة لعل لقياكم في المنام تكون)) (2) . وقال الراغب: ((اللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته معاً، وقد يعبر به على كل واحد منهما، يقال: لقيه يلقاه لقاء، ولقياً، ولقية. ويقال ذلك: في الإدراك بالحس، وبالبصر، وبالبصيرة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} (3) . وقال تعالى: {لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (4) . وملاقاة الله عبارة عن القيامة، وعن المصير إليه، قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} (5) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ} (6) .   (1) ((تهذيب اللغة)) (9/299) . (2) ((مقاييس اللغة)) (5/261) . (3) الآية 143 من سورة آل عمران. (4) الآية 62 من سورة الكهف. (5) الآية 223 من سورة البقرة. (6) الآية 249 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 واللقاء: الملاقاة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيه} ِ (2) ، وقال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا (3) } ) ، أي: نسيتم القيامة، والبعث والنشور)) (4) . وقد ذكر لقاء الله في القرآن في أكثر من عشرين موضعاً، كقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (5) كقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} (6) وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ} (7) ، وقوله تعال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} (8) ، وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين} (9) ، وقوله تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ (10) } ) ، وقوله تعالى: {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (11) ، وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (12) ، وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ   (1) الآية 15 من سورة يونس. (2) الآية 6 من سورة الانشقاق. (3) الآية 14 من سورة السجدة. (4) ((المفردات)) (ص453) . (5) الآية 44 من سورة الأحزاب. (6) الآية 77 من سورة التوبة (7) الآية 31 من سورة الأنعام. (8) الآية 154 من سورة الأنعام. (9) الآية 45 من سورة يونس. (10) الآية 5 من سورة العنكبوت. (11) الآية 2 من سورة الرعد. (12) الآية الأخيرة من سورة الكهف.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ َ} (1) ، وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (2) ، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} َ (3) ، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي َ} (4) . فمن قرأ هذه الآيات ونحوها مما لم نذكر، مؤمناً بها، علم يقيناً أن مضمونها إخبار الله تعالى بأن العبد سيلقى ربه، لقاء يتضمن المحاسبة والكلام والمقابلة والمعاينة، والجزاء بالعمل الذي كان العبد يعمله في الدنيا. ولم يزل أهل السُّنَّة من السلف، وأتباعهم، يستدلون بمثل هذه الآيات على رؤية الله تعالى. وسيأتي حديث عدي بن حاتم، وفيه: ((واعلموا أن كل واحد منكم سيلقى ربه، ليس بينه وبينه ترجمان)) . فمن أنكر ذلك فقد خالف كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسلك غير سبيل المؤمنين. والله تعالى - جعل التكذيب بلقائه كفراً، لا ينفع معه عمل كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (} َ (5) . قال ابن بطة: ((سمعت أبا عمر الزاهد اللغوي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا {43} تَحِيَّتُهُمْ   (1) الآية 8 من سورة الروم. (2) الآية 54 من سورة فصلت. (3) الآية 105 من سورة الكهف. (4) الآية 23 من سورة العنكبوت. (5) (الآية 23 من سورة العنكبوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ َ} (1) : أجمع أهل اللغة أن اللقاء ها هنا لا يكون إلا معاينة ونظرة بالأبصار)) (2) . وقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: ((اللقاء فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن رؤيته - سبحانه وتعالى - واحتجوا بآيات اللقاء على من أنكر رؤية الله في الآخرة، من الجهمية، والمعتزلة وغيرهم. وجعلوا اللقاء يتضمن معنيين، أحدهما: السير إلى الملك. والثاني: معاينته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهَِ} (3) . فذكر أنه يكدح إلى الله، فيلاقيه، والكدح يتضمن السلوك والسير إليه، واللقاء يعقبها. وأما المعاينة من غير سير إلى المعاين - كمعاينة الشمس، والقمر - فلا يسمى لقاء. وقول الذين يجعلون المراد من اللقاء، هو الجزاء، دون لقاء الله، معلوم الفساد بالاضطرار، بعد تدبر الكتاب والسُّنَّة. ويظهر فساده من وجوه: أحدها: أنه خلاف التفاسير المأثورة عن الصحابة والتابعين. الثاني: أن حذف المضاف إليه لا بد أن يقارنه قرائن تبين ذلك، كما في   (1) الآيتان 43 - 44 من سورة الأحزاب. (2) انظر ((مجموع الفتاوي)) (6/488) . (3) الآية 6 من سورة الانشقاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (1) ولو قال قائل: رأيت زيداً أو لقيته، وأراد بذلك أنه رأى غلامه، أو أباه، أو لقيهما، لم يجز ذلك في لغة العرب بلا نزاع. ولقاء الله - تعالى - قد ذكر في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع كثيرة مطلقاً غير مقترن بما يدل على أنه أريد بلقاء الله بعض مخلوقاته من ثواب وغيره. الثالث: أن اللفظ إذا تكرر ذكره في الكتاب، ودار مرة بعد مرة على وجه واحد، وكان المراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق، ولم يبين ذلك، كان تدليساً وتلبيساً يجب أن يصان كلام الله عنه، الذي أخبر أنه شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وأنه بيان للناس. وقد علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين، وأنه بين للناس ما نزل إليهم. وأما قول أهل البدع: إن القرينة الدالة على أن لقاء الله غير مراد من هذه النصوص: هو ما في العقل من امتناع ذلك وإحالته. فهو مردود من وجهين: أحدهما: أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك، بل البراهين العقلية تتفق مع القرآن، كما قال الله - تعالى -: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (2) . وما يدعيه نفاة لقاء الله ورؤيته من الحجج العقلية التي تخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، ليست حججاً، وإنما هي شبهات فاسدة، عند من له خبرة جيدة بالمعقولات، وإنما تنطلي على المقلدين.   (1) الآية 82 من سورة يوسف. (2) (الآية 6 من سورة سبأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الثاني: أنه لو فرض أن هناك دليلاً عقلياً ينافي مدلول القرآن لكان خفياً، له مقدمات طويلة، متنازع فيها، ليس فيها واحدة متفق عليها، والواقع أنها شبهات فاسدة، أورثها صدودهم عن كتاب الله. ومن الضروري أن الذي أخبر أنه بيان للناس، وأن كلامه هدى ورحمة، وشفاء، وبلاغ مبين، إذا أراد بكلامه الموصوف بما ذكر ما يقوله هؤلاء المتكلمون، فإنه بعكس تلك الأوصاف، فيكون فيه الضلال، واللبس؛ لأنه لا يدل على قولهم. واتفاق المسلمين على وجوب تنزيه كلام الله ورسوله من ذلك أمر ضروري. الوجه الرابع: أنه سيأتي في حديث ابن عباس، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق)) . ففرق بين لقائه، وبين الجنة والنار. ومعلوم أن الجنة والنار، تتضمن جزاء المطيعين، والعصاة، فعلم أن لقاء الله غير لقاء الثواب، والعقاب. الوجه الخامس: ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة أن العباد سوف يلقون ربهم، وقد ذكر البخاري في هذا الباب قليلاً منها، مثل حديث عدي بن حاتم ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب يحجبه، ولا ترجمان)) . الوجه السادس: أنه لو أريد بلقاء الله ما يخلقه من ثواب أو عقاب أو غير ذلك، لكان ذلك واقعاً في الدنيا والآخرة، كما في عقاب الأمم المكذبة، ونصر المؤمنين، وإسعادهم. وقد علم أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لقاء الله - تعالى - لا يكون إلا بعد الموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 كما علموا بطلان قول أهل البدع: إن لقاء الله هو لقاء بعض مخلوقاته. وعلى قولهم، فليس في اللفظ ما يدل على تعيين مخلوق دون مخلوق، فإذا قالوا: إن لقاء الله هو الجنة، أو النار، جاز أن يقال: بل هو بعض ملائكته أو بعض الشياطين، أو غير ذلك، إذ ليس دلالة اللفظ على تعيين هذا بأولى من دلالته على تعيين هذا، فبطل قولهم. الوجه السابع: أن لقاء الله لم يستعمل في لقاء غيره، لا حقيقة ولا مجازاً، بل وفي المخلوق كذلك، فلا يقال: لقيت زيداً، وأنت تريد عمراً. الوجه الثامن: النصوص الكثيرة التي تفرق بين لقاء الله، وثوابه وجزائه، كقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (1) ، فلو كان لقاؤه هو لقاء جزائه، لكان هو الأجر الكريم، ولا يحسن أن يخبر بأنه أعده لهم بعد ما حصل لهم؛ لأنهم لقوه، فلقاؤه وسيلة، وإعداد الأجر الكريم مقصود، فكيف يخبر بالوسيلة بعد حصول المقصود. ومثل هذا يصان عنه كلام أوسط الناس، فضلاً عن كلام رب العالمين، ولا سيما وقد قرن اللقاء بالتحية، التي لا تكون إلا في اللقاء. الوجه التاسع: ما في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) (2) ، فلو كان لقاء الله هو جزاءه، لامتنع أن يحب جزاء عبده، ويكره جزاء آخر. والله تعالى لا يكره جزاء عباده بما يستحقون، بل يحب ذلك، ولا يجزيهم إلا بما يستحقون، والجزاء لا يلقاه الله - تعالى -، ودلائل بطلان هذا القول   (1) الآية 44 من سورة الأحزاب. (2) رواه البخاري، انظر ((الفتح)) (11/357) في الرقاق، ورواه مسلم في ((الذكر والدعاء)) (4/2065، 2066، 2067) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 لا حصر لها)) (1) . فيكتفى بما ذكر، وبذلك يتضح أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: ((اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله)) يتضمن معاينتهم لربهم، وتكليمه لهم ومجازاتهم، وتكريمه لهم بمخاطبتهم قبل أن يدخلهم دار النعيم الأبدي. فهو - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: تسلَّوا عما فاتكم من الدنيا مما تستحقونه، بما يكون لكم بعد البعث من الموت، عندما تلقون ربكم، فيكرمكم بتحيته لكم ومخاطبتكم، ورؤيتكم إياه، فذلكم اليوم الذي تسعدون فيه حقاً. وكذلك تلاقون نبيكم على حوضه، الذي منّ الله به عليه، فأكرمه به في الموقف الذي يشتد فيه الظمأ، فأنتم أحق من يرد ذلك الحوض، فتشربون منه دون معوق، أو مكدر، فلا ينالكم بعد ذلك نصب، ولا وصب، ولا ظمأ، ولا أذى. 69 - قال: ((حدثني ثابت بن محمد، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تهجد من الليل قال: اللهم ربنا لك الحمد، أنت قيم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك خاصمت، وبك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وأسررت، وأعلنت، وما أنت أعلم به مني، لا إله إلا أنت)) .   (1) ((مجموع الفتاوي)) بتصرف وتلخيص (6/462-475) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 قال أبو عبد الله: قال قيس بن سعد، وأبو الزبير، عن طاوس: قيام. وقال مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء، وقرأ عمر: القيام، وكلاهما مدح)) . تقدم شرح هذا الحديث، والمقصود منه هنا قوله: ((أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق)) ففرق بين لقائه وجزائه، بقوله: ((ووعدك حق، ولقاؤك حق، والنار حق)) . فلقاؤه غير وعده، وغير جزائه، الذي هو الجنة والنار. فدل على أن تفسير لقائه بثوابه أو نحو ذلك تفسير باطل، لم يدل عليه لا كتاب ولا سنة، بل الأدلة من الكتاب والسُّنَّة تبين بطلانه. وبذلك يتبين أن لقاءه - تعالى - يتضمن رؤيته، ومعاينته، وهو ما أراده البخاري من هذا الحديث، وذلك ما قاله السلف، وهو واضح. ***** 70 - قال: ((حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو أسامة، حدثني الأعمش، عن خيثمة، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه)) . قوله: ((ما منكم من أحد)) الخطاب للصحابة، ويتناول جميع المؤمنين، سابقهم ولاحقهم، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة. والترجمان: هو الواسطة بين اثنين أو أكثر الذي ينقل الكلام من لغة إلى أخرى، أو يبلغ عن المتكلم كلامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 والمقصود هنا أنه ليس بين العبد وربه أحد يبلغه عنه، لا من الملائكة ولا من البشر. بل الله - تعالى - هو الذي يتولى كلام عباده في ذلك الموقف بنفسه، فيحاسبهم على أعمالهم، وقد بين ذلك في لفظ الحديث، لكن الإمام البخاري - رحمه الله - اختصره، واقتصر على محل الشاهد منه. ولفظه: ((بينا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل. فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد نبئت عنها. قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة (1) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحداً إلا الله. - قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء (2) الذين سعروا البلاد؟ - ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك الحياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من الذهب أو الفضة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحداً يقبله منه. وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى. فيقول ألم أعطك مالاً، وأفضل عليك؟ فيقول: بلى.   (1) الظعينة: الهودج فيه المرأة، وهو شبه الغرفة الصغيرة يوضع فوق البعير، فتركب في وسطه المرأة ليسترها، والظعن هو: الخروج من المكان والسير. (2) الدعار - بضم الدال - مأخوذ من الدعارة، هي: الخبث، والتلصص، وقطع الطريق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم. قال عدي: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج ملء كفه)) (1) . وفي رواية: ((كنت عند رسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجلان، أحدهما يشكو العيلة، والآخر يشكو قطع السبيل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير (2) . وأما العيلة، فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه. ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى، ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولا؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) (3) . ففي هاتين الروايتين بيان جلي بأن الله - تعالى - يتولى كلام عباده ومحاسبتهم بنفسه بدون واسطة بينه وبينهم، وفي ضمن ذلك رؤيته - تعالى - وسماع كلامه. قوله: ((ولا حجاب يحجبه)) أي: ليس بين العبد وبين ربه ما يمنع رؤيته ومشاهدته. وهذا ظاهر الدلالة على رؤية المؤمن ربه يوم يحاسبه، وعلى سماعه كلامه.   (1) انظر البخاري (6/110) ، وانظر ((فتح الباري)) (6/610) (2) (الخفير: هو من يحمي سالك الطريق ويجيره ممن يريده بسوء. (3) انظر ((فتح الباري)) (3/281) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وفيه دليل على أن لله تعالى حجاباً يحتجب به عن خلقه، والأدلة على ذلك كثيرة، وأهل البدع ينكرون حجاب الله تعالى، فهو عندهم كما يقول الفخر الرازي: ((هو عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين. وهذا محال على الله)) (1) . ونقل الحافظ عن ابن بطال، أن الحجاب هو: الآفة المانعة من النظر التي تكون على أبصار المؤمنين، ومعنى رفع الحجاب: إزالة الآفة من أبصار المؤمنين المانعة لهم من الرؤية، فيرونه لارتفاعها عنهم، بخلق ضدها فيهم)) (2) . ومقتضى هذا الكلام أن الذي يمنع المؤمنين في الدنيا من رؤية الله تعالى هو الآفة التي على أبصارهم، ولو زالت تلك الآفة لرأوه. فالحجاب عند هؤلاء: هو عدم الإدراك في أبصار الخلق، وما وصف به الله - تعالى - من الحجاب راجع إلى الخلق. وشبهتهم: أن ما ستر بالحجاب، فالحجاب أكبر منه، ويكون متناهياً، ومحاذياً للحجاب، وهذا لا يكون إلا للأجسام. نقل ابن حجر، عن العلائي قوله: ((المراد بالحاجب، والحجاب: نفي المانع من الرؤية)) ثم قال: ((وقد ورد ذكر الحجاب في عدة أحاديث صحيحة. والله - سبحانه - منزه عما يحجبه، إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس، ولكن المراد بحجابه: منعه أبصار خلقه، وبصائرهم، بما شاء متى شاء كيف شاء، وإذا شاء كشف ذلك عنهم)) (3) . وهكذا شراح الحديث وغيرهم - الأشاعرة - ساروا على هذا المنوال.   (1) ((تأسيس التقديس)) (ص99) . (2) ((الفتح)) (13/430) . (3) المرجع المذكور (ص431) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ويلزم من ذلك أن الله - تعالى - وصف نفسه وكذلك رسوله وصفه بما يجب أن ينزه عنه، فهؤلاء المبتدعة أعلم من الله، ومن رسوله بالله، وأحرص على تنزيه الله من الله ورسوله، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} (1) . قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا} (2) . وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (3) ، وعدم الإدراك الذي زعموا ليس شيئاً موجوداً فيكون حائلاً دون رؤيتهم ربهم، بل هو عدم، والعدم لا وجود له. وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (4) . فتجليه للجبل يدل على أنه محتجب بحجاب كشف للجبل منه ما جعله دكاً. وفي صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري، قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (5) .   (1) الآية 5 من سورة الكهف. (2) الآية 52 من سورة الشورى. (3) الآية 15 من سورة المطففين. (4) الآية 143 من سورة الأعراف. (5) انظر ((صحيح مسلم)) (1/162) الحديث رقم (179) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ومعلوم أن بصر الله تعالى لا ينتهي دون شيء، ولا يحول دونه شيء، فهو بكل شيء بصير، فلولا الحجاب الذي احتجب به لما بقي شيء من المخلوقات إلا ذاب واحترق، فكيف جاز لهؤلاء الذين جعلوا أقيستهم وعقولهم هي الحكم على ما يوصف الله - تعالى - به، وما يمتنع عليه. وسيأتي حديث أبي موسى، وفيه: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) . وفي ((صحيح مسلم)) ، عن صهيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله - تبارك وتعالى -: ((تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل)) (1) والنصوص في إثبات الحجب لله - تعالى - كثيرة، يؤمن بها أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعلمون بما ورثوه من نور النبوة بأن الله - تعالى - احتجب بالنور، وبالنار، وبما شاء من الحجب، وأنه لو كشف عن وجهه الكريم الحجاب لما قام لنوره شيء من الخلق، بل يحترق، ولكنه تعالى في الدار الآخرة يكمل خلق المؤمنين ويقويهم على النظر إليه - تعالى - فينعمون بذلك، بل هو أعلى نعيمهم يوم القيامة. وقد تولى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إبطال شبه هؤلاء المنكرين لحجب الله - تعالى -، في كتابه ((نقض تأسيس الجهمية، وإبطال بدعهم الكلامية)) بوجوه كثيرة، أكثر من أربعين وجهاً، كل وجه منها كاف في إبطال قولهم.   (1) ((صحيح مسلم)) (1/163) الحديث رقم (181) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 قال - رحمه الله -: ((أحدها: أنهم يقولون: إن الحجاب هو ما يخلقه الله في العين من الرؤية المتعلقة به تعالى. وهذا باطل بالضرورة؛ لأنهم فسروا الحجاب بعدم الإدراك في أبصارهم، والعدم لا يخلق ولا وجود له، فهو ليس شيئاً. الثاني: أنه ثبت في الحديث قوله: ((فيكشف الحجاب، فينظرون إليه)) . وكشف الشيء: إزالته ورفعه، وهذا لا يوصف به المعدوم، فإنه لا يزال، ولا يرفع، وإنما الذي يُزال ويُرفع: الموجود. الثالث: أنه قال: ((فيكشف الحجاب فينظرون إليه)) فجعل النظر متعقباً لكشف الحجاب. وعند هؤلاء المبتدعة: الحجاب هو عدم خلق الرؤية، وضده خلق الرؤية، فيكون زوال ذلك العدم هو عين الرؤية، لا يكون شيئاً يتعقب [كشف] الحجاب، وتقدم أن العدم ليس شيئاً. الرابع: أن في الحديث: ((حجابة النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه)) . ولو كان كما زعموا هو خلق الرؤية لم يكن كشف ذلك يحرق شيئاً. فالمؤمنون يرون ربهم في عرصات القيامة، وفي الجنة، ولا تحرق رؤيتهم شيئاً. الخامس: [أنه] ثبت في ((الصحيحين)) : ((وما بين القوم وبين أن ينظرون إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن)) . وعلى قول هؤلاء: ما بينهم وبين أن ينظرون إليه إلا زوال ذلك العدم بخلق الرؤية في أعينهم. ومعلوم أن عدم خلق الرؤية فيهم ليس هو رداء الكبرياء، ولا هو على وجه الله الكريم، ولا هو في جنة عدن، ولا هو شيء أصلاً حتى يوصف بصفات الموجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 السادس: أن من تأمل نصوص الكتاب والسُّنَّة، وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة والتابعين، علم بالضرورة علماً يقيناً لا يستريب فيه أن لله حجاباً، وحجباً منفصلة عن العباد، يكشفها إذا شاء، فيتجلى، وإذا شاء لم يكشفها. وإذا كان الحجاب كما يقول الرازي وذووه: ((هو الجسم المتوسط بين جسمين)) فلازم الحق حق، لا يمكن أن يدفع حيث علم بالاضطرار من دين المرسلين، فلا يدفع بما أحدثه سلف الرازي، وأئمته، ولا بما يشنعون به على أهل السُّنَّة من اصطلاحات، وألفاظ ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان. فإن من أعظم بدعهم: قولهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وهذا هو الصنم الأكبر الذي صدوا به عباد الله عن معرفته، والإيمان به. وهو الذي عُطل الله به من أسمائه وصفاته. بل هو أساس الشرك والردة، والنفاق، وإن كان قد اغتر به طوائف من أهل الإيمان، لم يعلموا ما قصده واضعوه الذين أفسدوا به فطرة العباد التي فطرهم الله عليها، وأفسدوا به معاني كتاب الله، وصدوا به عن سبيل الله. وهو لهؤلاء المبتدعة كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى للمشركين القدماء. فإن الله - تعالى - لم ينزل في شيء من كتبه، ولا قال أحد من رسله، ولا أحد من ورثتهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وإن كان إثبات ذلك أيضاً بدعة وضلالة، إلا أن نفيه أعظم وأضل. السابع: أن الله - تعالى - قال: {وَمَا كَاَنَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحيًا أَو مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} ومعلوم أن هذا التكليم مثل ما حصل لموسى، وهو أرفع درجة من التكليم بالوحي، وإرسال الرسول باتفاق المسلمين، كما دل على ذلك الكتاب والسُّنَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فإذا كان الحجاب كما يقول هؤلاء: هو عدم خلق الرؤية، فذلك مشترك بين الأقسام الثلاثة، فلا يكون لمن كلم من وراء حجاب ميزة. وبطلان ذلك ظاهر. وقوله تعالى: {مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} معناه: من خلف حجاب، وعدم خلق الرؤية عدم محض، ليس له خلف، ولا أمام، فعلم أن الحق إثبات الحجاب لله حقيقة؛ لأنه موجود. والتقدير على قولهم: أن يقال: ((أو من وراء عدم خلق الرؤية)) وهذا يشبه كلام المجانين، ولا يجعل هذا معنى كلام الله إلا زنديق متلاعب بالقرآن. الثامن: أنه تعالى قال في الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (1)) ، فجعل حجابهم يوم القيامة، ولو كان الحجاب هو عدم خلق الرؤية لكانوا محجوبين في الدنيا والآخرة، ولكان المؤمنون أيضاً داخلين في ذلك، معذبين بهذا الحجاب الذي عذب به الكفار في الآخرة. ولكنه حجاب خاص يحجب الله به الكفار حين يتجلى للأبرار. ثم هذا الذي قالوه في الحجاب حمل للفظ على ما لا تحتمله اللغة بوجه من الوجوه فهو تبديل للغة، كما هو تحريف للقرآن وتبديل لمعانيه)) (2) . قوله: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه)) . وفي رواية ((حاجب)) وهذا يدل على وجود الحاجب كما تقدم، ويدل على جواز أن يكون له ترجمان يبلغ عنه.   (1) الآية 15 من سورة المطففين. (2) ((نقض التأسيس)) بتصرف وتلخيص، وانظر بقية الوجوه فيه (3/145-154) مخطوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وقد جاء نص القرآن بأن التكليم يكون من وراء حجاب، وعلى قول المنكرين للحجاب لا يمكن أن يكون بينه وبين عباده حجاب حقيقي، ولا ترجمان، وهذا يلزم منه إما إنكار وجود الله، أو أنه حال مع خلقه، تعالى الله عن ذلك. ومذهبهم في المسألتين من أعظم الباطل - أعني الرؤية والكلام - لأنهم يقولون: التكليم: هو خلق إدراك الكلام؛ لأن كلام الله معنى قائم بنفسه. كما أنهم يقولون: الرؤية هي رفع الموانع، وخلق الرؤية في العين، فعلى هذا يكون الذي يراه المؤمنون في الجنة شيئا مخلوقاً، والنصوص تبطل ذلك، وكذلك العقل والفطر إذا سلمت من الانتكاس، والتغيير. 71 - قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن أبي عمران، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) . قال الحافظ: في رواية الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، في أول هذا الحديث: ((جنان الفردوس أربع، ثنتان من ذهب)) ... الخ. وهذا يبين أن الحديث قد حذف شيء من أوله. وهو يدل على تفاوت منازل الجنة ودرجاتها، فبعضها أعلى من بعض حساً ومعنى، حيث يكون بناؤها من الذهب، وأوانيها من الذهب، ومعلوم أن الذهب هو أغلى المعادن وأنفسها لدى المخاطبين بالقرآن عند نزوله، ويجوز أن يكون فيها ما هو أعلى من الذهب وأرفع؛ لأن الله - تعالى - أخبر أن فيها ما لا عين رأته، ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر، وتقدم البحث في درجات الجنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 قوله: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن. هذا الشاهد من الحديث للباب، إذ فيه التصريح بقرب نظرهم إلى ربهم فإذا أراد تعالى أن ينعمهم ويزيد في كرامتهم رفع رداء الكبرياء عن وجهه فنظروا إليه، وفي الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) ، ((رداء الكبر على وجهه)) (1) لقد تخبط شراح الحديث هنا من الأشاعرة - تخبطهم في كثير من صفات الله - تعالى - فأخرجوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ظاهره إلى المجازات البعيدة، وطلبوا له التأويلات المستكرهة، تحريفاً له وتعطيلاً لله من أوصافه، ظانين أن ما وصفه به رسوله في مثل هذا الحديث فيه تجسيم وتشبيه، كما هي طريقتهم. نقل الحافظ كثيراً من كلامهم على هذا الحديث، فنقل عن القاضي عياض قوله: ((من أجرى هذا الكلام على ظاهرة أفضى به إلى التجسيم)) . وقال الكرماني: ((هذا من المتشابهات، فإما مفوض، وإما متأول بأن المراد من الوجه الذات، والرداء صفة من صفات الذات اللازمة، المنزه عما يشبه المخلوقات)) ، وقال المازري: ((عبر عن زوال الموانع، ورفعها عن أبصارهم برداء الكبرياء) (2) . ونحن نجيبهم عما قالوا بجوابين، أحدهما مجمل، والآخر مفصل. أما المجمل، فنقول: نحن لا نشك، ولا يشك مسلم عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرف قدره، أنه أفصح منكم، وأقدر على بيان الحق وإيضاح ما يريد   (1) انظر البخاري (6/121) تفسير سورة الرحمن. (2) انظر بقية كلامهم في ((الفتح)) () 13/433 فإني اختصرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 منكم ومن أئمتكم، وأنه أنصح للأمة وأشفق عليها وأحرص على هدايتها، وسد طرق الكفر والضلال عنها، منكم ومن غيركم، وأنه أعلم بالله وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنه أخشى لله وأتقى له، فمع ذلك يمتنع أن يتكلم بما ظاهره الكفر والضلال، أو بما يؤدي إلى الباطل، بل كلامه فيه الهدى والنور والعصمة من الضلال والانحراف لمن آمن به واتبعه. بخلاف كلام غيره من الناس فإنه لا بد من عرضه على قول الله وقول رسوله، فإن وافقه قبل، وإلا رد على قائله. فالحق قطعاً فيما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في قول من خالفه ممن يتلقى عقيدته عن أهل الكلام والفلسفة المبنية على آراء الرجال وتخرصاتهم. وأما الجواب المفصل: فمن وجوه: أحدها: أن ما قالوه خلاف ظاهر النصوص، كما صرحوا بذلك، وليس في اللفظ المذكور ولا في غيره مما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ما قالوه. ومعلوم أن صرف اللفظ عن ظاهره يحتاج إلى دليل يدل على ذلك، وإلا صار التأويل تحريفاً وتلاعباً. أما ما يدعون من قرينة دلالة العقل، فمجرد دعوى تفتقر إلى برهان، والحق أن العقل يدل على ما دل عليه نص الشرع. الوجه الثاني: أنه قال: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) ، ومن المعلوم أن الكبرياء من صفات الله - تعالى - ولا يجوز للعباد أن يتصفوا بها، فقد توعد الله المتكبر بجهنم، كما قال تعالى َ {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينََ} (1) .   (1) الآية 72 من سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) (1) . فلا يجوز أن يكون رداء الكبرياء إلا وصفاً لله - تعالى - فبطل قولهم: ((إن المقصود من رداء الكبرياء: زوال الموانع)) . الوجه الثالث: أنه أضاف رداء الكبرياء إلى وجه الله الكريم حجاباً له. فقال: ((إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)) ، فلا يجوز أن يكون رداء الكبرياء ما في أعين العباد من المانع الذي منعهم من رؤية الله كما يقوله هؤلاء، وقيد ذلك في جنة عدن. وعلى مقتضى قولهم أنه لو زال المانع عن أعين العباد لرأوه في الدنيا. الوجه الرابع: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله - تعالى -: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) (2) . ورواه مسلم، ولفظه: ((العز إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته)) (3) . ورواه ابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم)) (4) . ووصف الله - تعالى - بأن العظمة إزاره، والكبرياء رداؤه، كسائر صفاته، تثبت على ما يليق به، ويجب أن يؤمن بها على ما أفاده النص دون تحريف ولا تعطيل.   (1) رواه مسلم (1/93) . (2) رواه أبو داود في ((السنن)) (4/350) . (3) ((صحيح مسلم)) (4/2023) رقم (2620) . (4) انظر ابن ماجه (2/1397) رقم (4174) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 قوله: ((في جنة عدن)) قيد لكونهم ليس بينهم وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم - جل وعلا - إلا رداء الكبرياء. وهذا دليل على فضل جنة عدن، وعلوها، ومن لازم ذلك علو الله - تعالى -؛ لأنهم ينظرون إليه - تعالى - من فوقهم، وتقدم بحث ذلك بما فيه الكفاية. وأما قول ابن بطال: ((لا تعلق به للمجسمة في إثبات المكان؛ لما ثبت من استحالة أن يكون جسماً، أو حالاً في مكان. فيكون تأويل الرداء: الآفة الموجودة في أبصارهم، المانعة لهم من رؤيته، وسماه رداء لتنزله في المنع منزلة الرداء الذي يحجب الوجه عن رؤيته، فأطلق عليها الرداء مجازاً، وقوله: ((في جنة عدن)) راجع إلى القوم)) (1) . فيقال له أولاً: من هم المجسمة؟ ومعلوم أنه يقصد من أثبت أن الله فوق عرشه، وأنه يراه أهل الجنة من فوقهم، ولا شك أن نصوص الكتاب والسُّنَّة في إثبات ذلك أكثر من أن يحاط بها. وعلى اصطلاح ابن بطال وذويه، كل من أثبت ذلك فهو مجسم. والله - تعالى - قد أثبت ذلك لنفسه، وأثبته رسوله له، ونحن نتبع ذلك، سواء سماه أهل البدع تجسيماً شنعوا على من اعتقده، أو قاله، أو لم يسموه، فإنه هو الحق الذي لا مرية فيه عند أهله. وأما قوله: ((لما ثبت من استحالة أن يكون - سبحانه - جسماً، أو حالاً في مكان)) فكما سبق أن هذه البدعة هي التي عُطل رب العالمين من أسمائه وصفاته بها، وأنها الصنم الذي عبده المتكلمون، وصدوا به عباد الله عن معرفته وعبادته بأسمائه وصفاته.   (1) ((الفتح)) (13/433) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 ثم هذا القول من ابن بطال ومن قال به مجرد دعوى، لا برهان عليها، فمن أين لهم استحالة أن يكون الله في مكانه، وكتب الله وسنة رسوله ظاهرة في ذلك جلية تنادي بأن الله فوق عرشه مستو عليه، عال على خلقه؟ أما يستحيون من الدعاوى الكاذبة، التي يريدون بها التشنيع على أتباع الرسل؟! وقد علم أن مقصودهم بالجسم: ما شغل مكاناً، أو ما يصلح أن يقال إنه هنا أو هناك، أو ما صحت الإشارة إليه، أو ما كان له مقدار. وتقدم من الأدلة على استواء الله - تعالى - على عرشه، وعلوه على خلقه، وأنه يشار إليه، ويقال: إنه في السماء، ما فيه مقنع لمن يريد الحق. وأما قوله: ((في جنة عدن راجع إلى القوم)) فمراده: أن القوم في جنة عدن، وأنه لا يجوز أن يقال: إن الله يرى في جنة عدن، وإنما معناه الإخبار بأن القوم في جنة عدن. فيقال: أولاً: هذا رد صريح لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفى بذلك ضلالاً، وبعداً عن سبيل المؤمنين. ويقال: ثانيا: إن هذا من جنس تأويلات أهل البدع الباردة، التي لا تصدر عن عربي يعرف معنى ما يقول، فضلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفصح العرب، وكونهم في جنة عدن قد علم من أول الحديث؛ لأنه قال: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما)) ... الخ، ثم أخبر أن رؤيتهم لربهم قريبة، ليس دونها إلا رفع الحجاب، فهم يرونه في جنة عدن من فوقهم، يوضحه الحديث المتقدم: ((إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن)) ، ومن أجل ذلك أورده البخاري - رحمه الله - في هذا الباب مستدلاً به على رؤية الله - تعالى - كما هو واضح وصريح في ذلك. **** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 72 - قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الملك بن أعين، وجامع ابن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة؛ لقي الله وهو غضبان)) . قال عبد الله: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} ُ (1) الآية. قوله: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة)) ((مَن)) مِن أدوات العموم، والأغلب أن تكون لخطاب من يعقل. و ((مال)) نكرة، أضيفت إلى نكرة موصوفة بالإسلام، فشملت كل مسلم، وكل ما يسمى مالاً، قليلاً كان أو كثير. روى الطبراني من حديث جابر بن عتيك، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار)) ، قالوا: يا رسول الله، وإنْ شيء يسير؟ قال: ((وإن كان سواكاً)) (2) . ورواه الحاكم، ولفظه: ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأدخله النار)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: ((وإن كان سواكاً، وإن كان سواكاً)) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة (3) . وقال الذهبي: صحيح.   (1) الآية 77 من سورة آل عمران. (2) ((معجم الطبراني الكبير)) (2/210) . (3) ((المستدرك)) (4/295) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 ((اقتطع)) من القطع؛ لأنه قطعه عن صاحبه، أو أخذ قطعة من ماله بالحلف الكاذب. قوله: ((لقي الله وهو عليه غضبان)) هذا محل الشاهد من الحديث الذي أورده من أجله، وتقدم أن اللقاء يتضمن النظر والمعاينة، وأن السلف استدلوا بلفظ اللقاء على الرؤية. قال الحافظ: ((في حديث وائل بن حجر عند مسلم: ((لقي الله وهو عنه معرض)) . وفي رواية كردوس، عن الأشعت، عند أبي داود: ((لقي الله، وهو أجذم)) قال: وفي حديث أبي أمامة عند مسلم، والنسائي، نحو ما في هذا الحديث: ((فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)) ، وفي حديث عمران، عند أبي داود ((فليتبوأ مقعده من النار)) (1) . وهذا وعيد شديد جداً لمن يفعل ذلك، فعلى المسلم أن يحذر كل الحذر من أموال المسلمين بأي وسيلة كانت، فإن ذلك من أسباب سخط الله - تعالى -. قوله: ((مصداقه من كتاب الله جل ذكره)) إلى آخره، أي: الذي يصدق هذا الحديث ويوافقه. قال ابن كثير: ((يقول تعالى: إن الذين يعتاضون عما عاهدهم عليه من اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكر صفته للناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة، بالأثمان القليلة الزهيدة - وهي عرض الدنيا الزائلة - {أُولَئِكَ لاَ خَلَقَ لَهُم فِي الأَخِرَةِ} أي: لا نصيب لهم فيها، ولا حظ لهم منها، {وَلاَ يُكَلِمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنُظُر إِلَيهِم يَومَ القِيامَةِ} برحمة منه لهم،   (1) ((الفتح)) (11/559) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 بمعنى: لا يكلمهم كلام لطف بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة {وَلاَ يُزَكِيهِم ِ} أي: من الذنوب، والأدناس، بل يأمر بهم إلى النارِ، {وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُ ِ} (1) مؤلم شديد الألم. قال الحافظ: ((يؤخذ من الآية تفسير قوله: ((لقي الله وهو عليه غضبان)) ، ومقتضاه: أن الغضب سبب لمنع الكلام، والرؤية، والرضا سبب لوجودهما)) (2) . وفيه وصف الله - تعالى - بالغضب، وأنه يغضب على بعض عباده بسبب ذنوبهم، وفيه أن الغضب غير العقاب، وإذا كان يغضب فهو تعالى يرضى، والأدلة على ذلك كثيرة. 73 - قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى، وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله - تعالى - يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) . قوله: ((ثلاثة لا يكلمهم الله)) أي: ثلاثة من أجناس الناس، يعم الذكور والإناث، والأحرار والعبيد. وعدم تكليم الله لهم يوم القيامة دليل على غضبه عليهم، ومقتضاه: أنهم   (1) ((تفسير ابن كثير)) (2/51) ط الشعب. (2) ((الفتح)) (13/433) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 يذهب بهم إلى النار بدون سؤال ومحاسبة؛ لأنهم قد تناهى جرمهم في القبح، فاستحقوا أليم العذاب، مع الإعراض عنهم وإهانتهم من أول الأمر، فيكون هذا الحديث مخصصاً لحديث عدي السابق، وهو قوله: ((ما منكم من أحد إلاَّ سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) . وقوله: ((ولا ينظر إليهم)) نظر الله - تعالى - إلى العبد يقتضي الرحمة، وهؤلاء فعلوا أفعالاً مقتهم الله عليها، فأعرض عنهم، ومن أعرض الله عنه فهو هالك، الهلاك الأكبر. والمقصود بالنظر المنفي هنا، نظر خاص يتضمن الإحسان والرحمة، ويفهم منه نظر العبد إلى الله - تعالى - لا يحجب بصره شيء أبداً، في أي وقت كان. وهذا القدر من الحديث: أعني قوله: ((لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة)) هو محل الشاهد لما مر، ولأن الكلام والنظر المقيد بيوم القيامة يدل على اللقاء، واللقاء يتضمن المعاينة. ثم ذكر أفعالهم التي استحقوا عليها هذا الوعيد الشديد، وهي ثلاثة أنواع: أحدها: الحلف على السلعة التي يريد بيعها، أنه أعطى بها أكثر مما يريد المشتري أن يأخذها به، وهو كاذب في حلفه، وذلك لأنه اشترى بيمينه ثمناً قليلاً بخساً، مما يدل على رغبته في الدنيا وزهده في الآخرة، واليمين دين يتعبد الله به، فمن خاف الله في يمينه، فلم يكذب فهو من المتقين في ذلك. ومن بذل يمينه بعرض من الدنيا، فهو فاجر يستحق العقوبة، مستخف بحرمات الله. والسلعة هي: كل بضاعة عرضت للبيع. والنوع الثاني - وهو أخص من الذي قبله - وهو الحلف على يمين كاذبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 بعد العصر، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، وهذا يكون عند من يحكم بين الحالف والمحلوف له، وهو الحاكم؛ لأن المحلوف له يلزم بأن هذا المال للحالف بمقتضى يمينه، وهذا هو معنى الاقتطاع. وخص المسلم لأن ماله أشد حرمة، وحقه على أخيه المسلم أعظم، وإلا فمال الكافر غير المحارب لا يجوز أخذه إلا بحق. وخص وقت بعد العصر لفضله، ولأنه آخر النهار الذي أثنى الله على المسبحين فيه لقرب نهاية النهار وختم عمله، وقرب الليل الذي فيه النوم المذكر بالمصير إلى الله - تعالى -، وهو وقت أصوات الداعين لله والمسبحين. وهذه اليمين هي الغموس سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم فلا يخرج منه إلا أن يشاء الله - تعالى - فإنه يخرج الحي من الميت. النوع الثالث: منع فضل الماء الذي زاد عن حاجته، ويحتاج إليه سالك الطريق؛ وذلك لأن الماء يتجدد بدله كلما أخذ منه، ولا يضر بذله، فمانعه لا يكون إلا لئيماً خبيث النفس، يقصد الأذية، وليس لديه رحمة للخلق، ولا رغبة في الخير. وفهم من قوله: ((فضل ماء)) أن ما يحتاجه لشربه هو ومن يلزمه إعاشته لا يلزمه بذله. ولكون الماء يتجدد بما أخذ منه، ولا صنع للإنسان فيه، كالطعام مثلاً واللباس الذي يحتاج معالجة وعملاً، لأجل ذلك يقول الله - تعالى - يوم القيامة: ((اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) . ومن منع فضل الله فهو الخاسر الخسران الأبدي. وقوله: ((يقول الله)) إلى آخره، لا يعارض أول الحديث أن هؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 لا يكلمهم الله، لأنه لا يلزم أن يكون هذا القول مواجهاً به صاحب هذا العمل فقد يكون للملائكة الذين يتولون عذابه، أو غير ذلك، والله أعلم. 74 - قال: ((حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن محمد، عن ابن أبي بكرة عن أبي بكرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه يسميه بغير اسمه، قال: ((أليس ذا الحجة؟)) قلنا: بلى. قال: ((أي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس البلدة؟)) قلنا: بلى، قال: ((فأي يوم هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس يوم النحر؟)) قلنا: بلى. قال: ((فإن دماءكم وأموالكم - قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى من بعض من سمعه)) . فكان محمد إذا ذكره، قال: صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((ألا هل بلغت، ألا هل بلغت)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 هذا الحديث قاله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته العظيمة يوم النحر، في حجة الوداع، وفي هذا الحديث بيان وجوب الاجتماع على الحق، والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعظم حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ووجوب سلوك طريقه - صلى الله عليه وسلم -، وبيان أن الله - تعالى - أتم عليهم نعمته بنبيه، وأخذهم بما جاء به. وحذرهم من ترك هذا الهدى والرجوع إلى الضلال وكفر النعمة والفرقة الداعية إلى التصارم والقتال، فإن ذلك من الكفر. وبين أن الزمان قد عاد كما خلقه الله، بعد تبديل المشركين الشهور المحرمة بالتقديم والتأخير حسب أهوائهم، حتى يستحلوا القتال في الأشهر الحرم. وفيه بيان تأكد حرمة الأشهر الحرم التي حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، وحرمة مكة، وأن هذا التحريم مستمر إلى يوم القيامة لا يستحله إلا من جانب طريق الرسل، وأحل شعائر الله والشهر الحرم والبلد الحرام، وذلك من العظائم. قوله: ((الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) كان المشركون لا يستحلون القتال في الأشهر الحرم، ولما كان منها ثلاثة متواليات، طالت عليهم، فتحيلوا على تأخير المحرم وتقديم صفر مكانه، فيحلون المحرم عاماً ويحرمون صفر بدله ويحرمونه عاماً، فيجعلون المحرم هو صفر في هذا العام مثلاً، وفي العام الآخر يبقون المحرم وصفر على ما هما عليه، يفعلون ذلك تحيلاً على استحلال القتال، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ِ} (1) . فيستحلون القتال في الشهر الحرام، ويسمونه بغير اسمه، ويحرمون في   (1) الآية 37 من سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الشهر الحلال ويسمونه محرماً؛ ليتفق ذلك مع عدة ما حرم الله - تعالى- من الأشهر؛ لأن توالى ثلاثة شهور محرمة يطول عليهم، ففعلوا ذلك لأجل قتال أعدائهم، ولغير ذلك من أغراضهم. وفي السَّنة التي حج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفق أن الأشهر الثلاثة كلها محرمة، لأنها السَّنة التي كانوا يحرمون القتال في محرم على ما هو عليه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) أي: رجع تحريم الأشهر الحرم في حساب المشركين وعملهم متفقاً مع حكم الله وشرعه، فقد جعل الله السَّنة اثني عشر شهراً، منها أربعة حرم، يحرم القتال فيها، والظلم فيها أعظم منه في غيرها. قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، ((كان جنادة بن عوف بن أمية الكناني، يوافي الموسم في كل عام، وكان يُكْنَى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا إن محرم العام الأول هذا العام حلال، فيحله الناس، فيحرم صفر عاماً ويحرم المحرم عاماً)) . قال شاعرهم - وهو عمير بن قيس الذي يقال له: جذل الطعان - يفتخر بذلك: لقد علمت معدُّ بأن قومي ... كرام الناس إن لهم كراما ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما فأى الناس لم ندرك بوتر ... وأي الناس لم نعلك لجاما وقوله: ((ورجب مضر)) إضافة إليهم؛ لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه وحرمة القتال فيه، أكثر من غيرهم، وكان بعض العرب يعمل فيه ما يعملونه في محرم حسب حاجتهم إلى القتال. وقوله: ((الذي بين جمادى وشعبان)) تأكيد لتعريفه، ونَص عليه. والمراد بالزمان في قوله: ((إن الزمان قد استدار)) : السَّنة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 قال الخطابي: ((كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير؛ لأسباب تعرض لهم. منها: استعجال الحرب، فيستحلون الشهر الحرام، ثم يحرمون بدله شهراً غيره، فتتحول بذلك السنة وتتبدل، فإذا أتى عدة من السنين استدار الزمان، وعاد الأمر إلى أصله، فاتفق وقوع حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك)) (1) . فعلى هذا يكون المراد بالزمان: مطلقة. قوله: ((أي شهر هذا؟)) إلى قوله: ((أليس يوم النحر؟)) لما كان متقرراً عندهم حرمة ذي الحجة وحرمة البلد الحرام، وحرمة يوم النحر، أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بالتمثيل البالغ في الحرمة منتهاها. وفيه تعظيم شأن الدماء والأموال والأعراض وشدة حرمتها، حيث قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) فهذا غاية ما يمثل به شدة حرمة الشيء وتعظيمه. وقد صح أن أول ما يبدأ به في المُقَاصَّة بين الناس يوم القيامة: الدماءُ. قوله: ((وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم)) هذا هو المقصود من الحديث؛ لأنه ظاهر في مواجهتهم لله - تعالى - ومخاطبته لهم، فيدل على أنهم يرونه، كما تقدم أن اللقاء يتضمن المعاينة والرؤية. وهذه الجملة تأكيد لما سبق من ذكر حرمة الدماء، وما عطف عليها، إذ المعنى: إذا تأكد لديكم شدة حرمة ذلك، فاحذروا أن تقعوا فيه، فإنكم   (1) انظر ((فتح الباري)) (8/325) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 سوف تلاقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وهو أعلم بها منكم. والسؤال يتضمن الجزاء. وقوله: ((فلا ترجعون بعدي ضلالاً، يضرب بعضكم رقاب بعض)) أي: إياكم أن تعرضوا عما تركتكم عليه، وحضضتكم عليه، وهو التمسك بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فإنه الصراط المستقيم، الذي يوصلكم إلى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، فإنكم إن ملتم عن ذلكم ضللتم الطريق السوي، وارتكبتم أعظم ما حذرتكم منه، وهو الوقوع في الدماء، فيصبح بعضكم يضرب رقاب بعض، وهذا هو الضلال. قوله: ((ألا ليبلغ الشاهد الغائب)) هذا من الواجب الذي لا يجوز الإخلال به أو التساهل؛ لأن الأمة لا تصلح إلا بمعرفة ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - العمل به، كما قال الإمام مالك: ((إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها)) . ولما جهلت الأمة طريق الرسول كثر الضلال فيها، والتخبط في ظلمات الجهل والخرافة، فظهرت فيها الرافضة، والصوفية، والباطنية، والملاحدة والزنادقة، وكل منهم يدعي أن الحق معه لا يعدوه، ومن خالفه فهو ضال أو كافر حلال الدم والمال، وغالب ذلك بسبب الجهل بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإن كان رؤساء هذه الطرق بالغالب ملاحدة يتسترون بالإسلام، هدفهم هدمه من أساسه، {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ واللهُ خَيرُ المَاكِرِينَ} . قوله: ((فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى من بعض من سمعه)) . الوعي: هو الفهم والمعرفة ثم الامتثال، والمراد تبليغ أقواله – صلى الله عليه وسلم – المتضمنة لأحكام الدين الذي جاء به. وقوله: ((فلعل)) مشعر بقلة ذلك، ولهذا جاء في رواية بدل ((فلعل)) ((رُبَّ)) المفيدة للتقليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 قال الحافظ: ((فيه الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية، وأن الفهم ليس شرطاً في الأداء، وأنه يأتي في الآخر من يكون أفهم من بعض من تقدم ولكن بقلة)) (1) هذه النصوص التي ذكرها المؤلف – رحمة الله – كلها دلت على أن الله – تعالى – يُرى في الآخرة، دلالة متنوعة. منها ما هو نص جلي لا يحتمل أي تأويل، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر)) . وقوله: ((إنكم سترون ربكم عياناً)) . وقوله جواباً لسؤالهم: ((هل نرى ربنا يوم القيامة؟)) فقال: ((هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ، إلا كما تضارون في رؤيتهما)) . وقوله: ((فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون. فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه)) . وقوله في حديث الشفاعة: ((فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي، فإذا رأيته وقعت ساجداً)) كرر ذلك مراراً، كل هذه الألفاظ صريحة في الرؤية، غير قابلة لتأويل وصرف عن ظاهرها. فلا عذر لمن خالفها، ولا حجة له، إلا اتباع الهوى، والتقليد الأعمى أو التعصب، أو الضلال البعيد، أو الكفر والجحود. فقد وضح مراد النبي – صلى الله عليه وسلم – من هذه الأحاديث لكل عاقل، عارف باللغة،   (1) ((الفتح)) (1/159) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 لا يستريب في ذلك من عرف دلالة الألفاظ على المعاني؛ أن مراده بهذه الألفاظ المذكورة رؤيتهم إياه بأبصارهم، وليس في الممكن أوضح من هذه العبارات. وهناك نصوص كثيرة غير ما ذكره هنا دالة على رؤية الله – تعالى – في الآخرة دلالة ظاهرة، استقصاها كثير ممن ألف في هذا الموضوع. قال ابن القيم: ((اتفق [على أن الله يُرَى في الآخرة] الأنبياء، والمرسلون وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام، على تتابع القرون. وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مَسبَّةِ أصحاب رسول الله عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون. وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال، وشيعة اللعين، وأعداء الرسول وحزبه)) (1) . وقال شيخ الإسلام: ((والذي يجب على كل مسلم اعتقاده: هو أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة، في عرصة القيامة (2) ، وبعد ما يدخلون الجنة، على ما تواترت به الأحاديث، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عند العلماء بالحديث، فإنه أخبر أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر، والشمس عند الظهيرة، لا نُضَام في رؤيته)) (3)   (1) ((حادي الآرواح)) (ص212) . (2) عرصة القيامة، أو عرصاتها: هي مواقفها التي يقف الناس فيها مجتمعين. (3) ((مجموع الفتاوي)) (6/485) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 واعلم أن الذين أنكروا رؤية الله - تعالى - اعتمدوا على شبه سموها براهين عقلية، وتعلقوا ببعض الأيات والأخبار، وهي في الحقيقة مبطلة لقولهم. ومن أعظم الفرق إنكاراً لرؤية الله - تعالى - بالأبصار: المعتزلة، وبنوا إنكارهم لها على التشبيه المستكن في نفوسهم؛ لأنهم بنوا علمهم على الجدل، الذي أصله القياس المبني على تشبيه الغائب بالمشاهد، فإذا نظرت فيما ذكروه وجدت ذلك واضحاً في استدلالاتهم وتعليلاتهم إلى جانب التعصب للآراء. قال عبد الجبار: ((قال أهل العدل بأسرهم، والزيدية، والخوارج وأكثر المرجئة: لا يجوز أن يُرَى الله - تعالى - بالبصر، ولا يدرك به على وجه، لا لحجاب ومانع، لكن لأن ذلك يستحيل)) (1) 1 - ثم استدل ((بأن الرؤية لا تصح إلا بحاسة البصر، والله لا يجوز أن يوصف بأن له حواس)) (2) فالله عنده لا يَرى ولا يُرى - تعالى الله عن ذلك -. 2 - ((ولأن البصر لا يصح أن يَرَى إلا ما كان مقابلاً، أو في حكم المقابل، وهذا لا يكون إلا للجسم ذي الألوان، وهو محال على الله)) (3) . 3 - ((ما يصح أن يُرى، لا يجوز أن يختص بصحة رؤيته بعض الرائين دون بعض، كما أن ما يصح أن يُعلم لا يجوز أن يختص بالعلم به بعض الأحياء دون بعض)) (4) .   (1) ((المغني)) للقاضي عبد الجبار المعتزلي (4/139) . (2) المصدر السابق (ص36) . (3) المصدر السابق (ص140) . (4) المصدر السابق (ص89) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 4 – ((ولأن الموانع من الرؤية لا تختص بشيء تصح رؤيته دون شيء، وهي القرب المفرط، والبعد المفرط، والحجاب، واللطافة، والرقة، وأن يكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي، أو يكون حالاً فيما هذا سبيله، فإذا زالت هذه الموانع، وجب أن يُرى ما صحت رؤيته)) (1) والحجاب عندهم مستحيل على الله، كما تقدم. فهذه جملة من أدلة هذه الفرقة، التي يسمونها براهين، إذا تأملها العاقل وجدها مبنية على قياس رب العالمين على المخلوق، وتحكيم الآراء، ولهذا ذهبت هيبة الله وعظمته من قلوبهم، واستخفوا بكتابه، فاجتهدوا في تحريف معانيه وصرفه عما قصد به. والمقصود ذكر بعض أدلتهم العقلية – كما يقولون – وهي في الحقيقة شبه داحضة، وضلالات بينَّة لمن عرف الحق. وهم لا يقبلون أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإن كانت أسانيدها في غاية الصحة والجودة، ويقبلون قول فلان وفلان؛ لأنهم يزعمون أن ذلك براهين عقلية. فقوله: ((إن لله لا يرى بالبصر، لا لحجاب يحجبه، أو مانع يمنع رؤيته، لكن لأن رؤيته مستحيلة)) فيقال له: هذا مجرد دعوى غير مقبولة، وهو في مقابلة قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ.} وقوله في المعذبين: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} . وقوله تعالى: {للَّذينَ أَحسَنُواْ الحُسنَى وَزِيَادَةُ} وفسر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، ((كما في صحيح مسلم)) ، وهو أيضا مصادم لقول   (1) المصدر السابق (116) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته)) كما سبق. فأيهما أحق بالاتباع: قول طائفة الاعتزال، عبّاد الآراء والأهواء، أم قول الله ورسوله؟ إن المقارنة بين هذا وهذا غير سائغة ولا مقبولة، لولا أن المسلمين قد بُلُوا بمن يعظّم آراء المعتزلة ويرى لها وزناً. وكل ما أشرنا إليه عن المعتزلة هو في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة، فلا يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر الاعتداد بها، أو جعلها أدلة على أمر قد بان ووضح غاية الوضوح من كتاب الله وسنة رسوله. ((وقد ثبت اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وثبت في النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته)) . وقال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر صحواً ليس دونه سحاب)) (1) . وقولهم: ((إن ما يُرى يجب أن يكون مقابلاً للرائي، وأن يكون متحيزاً في جهة، ولا يكون ذلك إلا لجسم، والله يتعالى عن ذلك؛ لأن هذا صفة المحدث. وهذا شيء لازم للرؤية، ولهذا سخر المعتزلة وغيرهم من الأشعرية لما قالوا: إن الله يُرى لا من جهة؛ لأن هذه رؤية غير معقولة؛ لإثباتهم الرؤية ونفيهم الجهة. وأهل السُّنَّة يقولون: لا مانع من كون المرئي – الذي هو رب العالمين –   (1) ((نقض التأسيس)) (2/406) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 جل وعلا – في مقابلة الرائين من عباده المؤمنين، فهم يرونه من فوقهم، كما صرحت به النصوص، ولا محذور فيه. وأما اللوازم الباطلة، التي يدعيها المعتزلة وغيرهم، فهي منتفية عن الله – تعالى -. ونحن نستفسر منهم: ما هو مرادكم بكونه مقابلاً للرائي؟ هل تريدون أنه لا بد له من مكان يحويه ويحيط به؟ فإن كان هذا ما أردتم، فالله – تعالى – له مكان هو فوق عرشه، ولا يحيط به شيء، ولا يحويه شيء – جل وعلا – وهو أكبر من كل شيء وأعظم، فهو – تعالى – يطوي السماوات كلها بيمينه، ويقبض الأرض كلها بيده الأخرى، وتكون كالخردلة في يد أحدنا، ولله المثل الأعلى. قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) . وأما التحيز، فإن أردتم أن الله مختلط بخلقه لئلا يلزم أن يكون متحيزاً، فنحن نكفر بقولكم هذا، ونتيقن أنه باطل، والنصوص من الشرع ترده، وكذلك العقل يرده. وإن أردتم أن الله لا حقيقة له تميزه عن خلقه، فكذلك هذا كفر وضلال. وإن أردتم أن الله – تعالى – متميز من خلقه، وأنه بائن منه، فهذا حق، والنصوص فيه أكثر من أن تحصى، وهو ما يعتقده المسلمون ويؤمنون به، واتفق عليه سلف هذه الأمة وأئمتها قبل ظهور المعتزلة والفرق الضالة، ومثل ذلك يقال في الجهة.   (1) الآية 67 من سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وتقدم من أدلة الكتاب والسُّنَّة، والعقل، وإجماع أهل الحق، وأدلة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، على أن الله في السماء مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه ما يكفي عن ذكر شيء من ذلك هنا. قال شيخ الإسلام – رحمه الله تعالى -: ((كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله في جهة من الرائي أمر ثبت بالنصوص المتواترة، كما في قوله: ((هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ولا قتر؟)) . قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) . وذكر الحديث بطوله. قال أبو سعيد: أشهد لحفظته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فهذا فيه مع إخباره أنهم يرونه، إخبارهم أنهم يرونه في جهة منهم، من وجوه: أحدها: أن الرؤية في لغتهم لا تعرف إلا لرؤية ما يكون في جهة منهم، فأما رؤية ما ليس في جهة فلم يكونوا يتصورونه، فضلا عن أن يكون اللفظ دالاً عليه، بل لا يتصور أحد من الناس وجود موجود في غير جهة. الثاني: أنه قال: ((فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحواً، وكما ترون القمر صحواً)) فشبه لهم رؤيته برؤية الشمس والقمر، وهما يريان من جهة. الثالث: أنه قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟)) . فشبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه وبين المرئي. وفي لفظ في ((الصحيح)) : ((إنكم ترون ربكم عياناً)) (1) .   (1) ((نقض التأسيس)) (2/409-415) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 ((فقد أخبرنا أنا نراه، وأخبرنا أيضاً أنه قد استوى على العرش، فهذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته، وأنه فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم، ولا مداخل له، محال في بديهة العقل. فإذا كانت رؤيته تعالى مستلزمة هذه المعاني التي شنعتم بها، فهي حق، وإذا سميتم أنتم هذا قولاً بالجهة والتجسيم، لم تكن هذه التسمية نافية لما علم بالشرع والعقل. ثم يقال: ما تعنون بقولكم: إن هذا إثبات للجهة، والجهة ممتنعة على الله؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أردتم الأول، فقد علم أنه ليس هناك موجود إلا الخالق والمخلوق، والله – تعالى – فوق مخلقاته، بائن منها. وعليه فليس الله – تعالى – في جهة موجودة. وقولكم: إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة، باطل، فإن سطح العالم مرئي، وليس هو في عالم آخر. وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي – كما تقولون -: ((إن الجسم في حيز، والحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً)) . فيقال: الجهة والحيز إذا كانا أمراً عدمياً فهو ليس شيئاً، وما كان في جهة عدمية أو في حيز عدمي فليس هو في شيء. ولا فرق بين قول القائل: هذا ليس في شيء، وبين قوله: هو في العدم، أو أمر عدمي. فإذا كان الخالق – تعالى – مبايناً للمخلوقات عالياً عليها، وما ثم موجود إلا الخالق، أو المخلوق، لم يكن معه غيره من الموجودات، فضلاً عن أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 يكون هو سبحانه في شيء موجود يحصره ويحيط به)) (1) . ((وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟)) تشبيه لرؤيتهم لربهم برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن بينهم وبينها حجاب منفصل عنهم يحول بينهم وبين المرئي. ومن يقول: إنه يُرى في غير جهة، يمتنع عنده أن يكون بينه بين العباد حجاب منفصل، إذ الحجاب لا يكون إلا للجسم ولما يكون في جهة. والحجاب عندهم عدم خلق الإدراك في العين، كما تقدم. الرابع: أنه أخبر أنهم لا يضارون في رؤيته، وفي رواية ((لا يضارون)) ، ونفي الضير، والضيم، إنما يكون لما يمكن لحوقه للرائي، ومعلوم أن رؤية ما ليس بجهة من الرائي، لا فوقه ولا في شيء من جهاته، لا يتصور فيها ضير ولا ضيم حتى ينفي ذلك. وقد روى ابن ماجه، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله – تعالى - {سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} . قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته في ديارهم)) (2) وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند، فإن الأدلة الصحيحة تؤيده. الخامس: أن كون الله – تعالى – يُرى بجهة من الرائي، ثبت بإجماع السلف، ونصوصهم في ذلك مشهورة.   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/153-254) ببعض التصرف. (2) ((سنن ابن ماجه)) (1/65 - 66) ، رقم (184) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ((فسلف الأمة وأئمتها متفقون على أن الله يُرى في الآخرة عياناً كما نرى الشمس والقمر، وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذُّرُها في حال أخرى، بل قد يرى الشيء في حال دون حال، كما أن الأنبياء يرون ما لا يراه غيرهم)) (1) . السادس: ((أن كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون في جهة، والله – تعالى – هو الحق، وهو فوق خلقه، عال عليهم)) (2) . وأما ما تعلقوا به من مثل قوله: {لَن تَرَاني} ، وقوله: لاَ تُدرِكُهُ الأبصَارُ} ونحو ذلك، فكله يدل على عكس ما قالوا. والإدراك المنفي هو الإحاطة، وليست الرؤية، كما بيّن ذلك حبر الأمة ابن عباس، ومثَّل ذلك بالسماء، والشمس، حيث قال للسائل: ((ألست ترى السماء؟ قال: بلى. فقال: أكلها ترى؟ قال: لا. قال: فالله أعظم)) . وما يذكر عنه أنه فسر الآية بنفي الرؤية كذب عليه. وقد قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61} قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (3) . فأثبت الرؤية ونفى الإدراك، فدل ذلك على أن الإدراك غير الرؤية. وبهذا أجاب العلماء عن استدلالهم بهذه الآية.   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/132) . (2) ((نقض التأسيس)) (2/409-415) ملخصاً. (3) الآيتان 61، 62 من سورة الشعراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 قال: ((باب ما جاء في قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) . الرحمة المضافة إلى الله - تعالى - تكون صفة له ذاتية، كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} ٍ (2) ، وقوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة (3) } وقوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} (4) وقوله تعالى: {ِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (5) . ونحو ذلك وهو كثير. وتكون مفعولاً له مخلوقاً، وهي من أثر صفة الرحمة الذاتية، كقوله تعالى:: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} (6) ، وقوله تعالى: {ِ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (7) } وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (8) . وقوله تعالى: {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (9) } وهو أيضا كثير.   (1) الآية 56 من سورة الأعراف. (2) الآية 156 من سورة الأعراف. (3) الآية 132 من سورة الأنعام. (4) الآية 147 من سورة الأنعام. (5) الآية 218 من سورة البقرة. (6) الآية 21 من سورة يونس. (7) الآية 9 من سورة هود. (8) الآية 48 من سورة الفرقان. (9) الآية 63 من سورة النمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ومن ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه، وخبّأ عنده مِئَةً إلا واحدة)) (1) . ومثله ما يأتي من قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)) . ومراده بيان أن الرحمة تطلق على المخلوق، فتكون مخلوقة لله مفعولاً له، وذلك من آثار رحمته التي هي صفته تعالى، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - جواباً لسعد بن عبادة، لما قال له: ما هذا؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عبادة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) . ولكن أشار إلى هذا اللفظ كعادته بذكره غير الصريح، والاكتفاء بالتلويح. وفي الآية التي ترجم بها إشارة إلى مراده، فكأنه لحظ أن الرحمة فيها الجنة، وهي قريب من المحسنين، كما في الحديث: ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك)) يعني: من المسيئين. وبذلك تظهر المناسبة بين الآية المترجم بها وأحاديث الباب. والله أعلم)) . وقال الحافظ: ((المراد أنه يدخل من أحسن الجنة التي وعد المتقين برحمته، وقد قال للجنة: أنت رحمتي، وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة، والعلم عند الله)) (2) . وليس هذا من التأويل المذموم؛ لأنه من المعنى الذي دلت عليه الآية ضمناً، وإلا فمنطوقها دال على صفة الرحمة الموصوف بها رب العالمين - جل وعلا -. ومما يبين ذلك أن هذه الآية جاءت عقب الأمر بالدعاء تضرعاً وخفية،   (1) رواه مسلم، انظر (17/69) بشرح النووي. (2) ((الفتح)) (13/437) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 والنهي عن الاعتداء والإفساد في الأرض بالمعاصي، ثم أمر تعالى بدعائه خوفاً وطمعاً، وهذه حال المتقين، الذين أحسنوا في أعمالهم، وأحسنوا إلى عباد الله بالنصح لهم، وإصلاح الأرض بالطاعة، والبعد عن مساخط الله التي هي الإفساد في البلاد والعباد، وهؤلاء هم المحسنون الذين قريبة منهم رحمة الله - تعالى -، ومنها الجنة. قال ابن جرير: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} يقول جل ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا قريب منهم، وذلك هو رحمته؛ لأنه ليس بينهم وبين أن يصيروا إلى ذلك من رحمته وما أعد لهم من كرامته إلا أن تفارق أرواحهم أجسادهم. ولذلك ذكَّرَ قوله: ((قريبٌ)) وهو خبر عن الرحمة، والرحمة مؤنثة؛ لأنه أريد به القرب في الوقت)) (1) . وقال ابن كثير: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره، كمال قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (2) . وقال: ((قريب)) ولم يقل قريبة؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله. وقال مطر الوراق: ((استنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين)) رواه ابن أبي حاتم (3) . ****   (1) ((تفسير الطبري)) (12/488) ط: المعارف. (2) الآية 156 من سورة الأعراف. (3) ((تفسير ابن كثير)) (2/222) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 75 - قال: ((حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، عن أسامة، قال: كان ابن لبعض بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي، فأرسلت إليه أن يأتيها، فأرسل: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل إلى أجل مسمى، فلتصبر، ولتحتسب)) ، فأرسلت إليه فأقسمت عليه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمت معه، ومعاد بن جبل، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت، فلما دخلنا ناولوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي، ونفسه تقلقل في صدره، حسبته قال: كأنها شنة، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سعد بن عبادة: أتبكي؟ فقال: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) . تقدم هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: {قُلِ أدعُواْ اللهَ أَوِ أدعُواُ الرَّحَمَنَ} . وتقدم شرحه هناك، والشاهد منه قوله: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) أي: الذين جعل الله في قلوبهم الرحمة، التي يرحمون بها عباد الله، فرحمة الله منهم قريب. وسبق أن اللفظ الذي تقدم في الباب المشار إليه أوضح وأظهر في الدلالة على مقصوده هنا، ولكنه عدل عنه كعادته، إيثاراً للإشارة على التصريح في العبارة، حتى يروّض ذهن القارئ على التفطن والاستنباط، ولأن عادته أيضاً إذا أعاد الحديث فلا بد أن يختاره بألفاظ غير لفظه المتقدم، ما وجد إلى ذلك سبيلاً في المتن وفي رجال السند، أو على الأقل في أحدهما. هنا السند أكثرهم غير من تقدم، والمتن فيه تغاير عما سبق. 76 - قال: ((حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب، ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار: يعني: أوثرت بالمتكبرين؟ فقال الله - تعالى - للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. قال: فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد - ثلاثاً - حتى يضع فيه قدمه، فتمتلئ، ويرد بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط)) . الاختصام: هو التنازع بين فريقين، يذكر كل واحد منهما حجته أمام من يحكم بينهما. وتقدم هذا الحديث في ((التفسير)) بلفظ تحاجت الجنة والنار. وفي ((صحيح مسلم)) : ((احتجت)) ، والمعنى واحد. قال المهلب: ((يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة، بأن يخلق الله فيهما فهماً، وكلاماً، والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازاً، كقولهم: ((امتلأ الحوض، وقال قَطْنِِي)) ، والحوض لا يَتكلم، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه)) (1) . قلت: الأول هو المعتمد، وتقدم الكلام فيه والاستدلال له في شرح حديث أنس: ((لا يزال يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد)) .   (1) انظر ((الفتح)) (13/436) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وقال النووي: ((هذا الحديث على ظاهره، وأن الله – تعالى – يجعل في النار والجنة تمييزاً تدركان له، فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز دائماًً)) (1) . قال الحافظ: ((وحاصل اختصامهما: افتخار إحداهما على الأخرى بمن يسكنها، فتظن النار أنها بمن ألقي فيها من عظماء الدنيا أبر عند الله من الجنة. وتظن الجنة أنها بمن أسكنها من أولياء الله – تعالى – أبر عند الله. فأجيبتا: بأنه لا فضل لأحدهما على الأخرى من طريق من يسكنها، وفي كلامهما شائبة شكاية إلى ربهما، إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت به، وقد ردَّ الله الأمر في ذلك إلى مشيئته)) (2) . قلت: الظاهر أن افتخار النار على الجنة بأنها محل انتقام الله – تعالى – من الطغاة والمجرمين الذين عصوا الله وكذبوا رسله، وسخروا منهم وبارزوا الله بالجرائم والآثام. وغالب هذا النوع من قادة الناس ورؤسائهم وأغنيائهم، وأهل السيادة والقيادة فيهم، وأهل التجبر والتكبر. وأما الجنة فإنها اشتكت لكون من يدخلها الضعفاء والفقراء وأهل المسكنة غالباً، ولهذا قالت: ((ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟)) . قوله: ((قالت الجنة)) إلى آخره. تقدم أن الصحيح أن هذا بلسان المقال، أي: أنه قول قالته الجنة حقيقة، وأن الله جعل لها شعوراً وتمييزاً، وعقلاً ونطقاً، والله لا يعجزه شيء.   (1) ((شرح مسلم)) (17/181) . (2) ((شرح مسلم)) (17/181) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وليس هذا خاصاً بالجنة والنار، فقد ذكر الله – تعالى – أن الجبال كانت تسبح مع نبي الله داود عليه السلام. وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (1) . وقوله: ((فقالت: يا رب ما لها)) . عدول بالخطاب من المتكلم إلى الغائب، كأن الراوي كره أن يأتي به على أصله خشية أن يظن ظان أنه مضاف إليه، وهذا كثير في روايات الحديث. والمقصود بضعفاء الناس: فقراؤهم، وأهل المسكنة والتواضع، الذين لا يبغون في الأرض علواً ولا فساداً، ولا يترفعون على عباد الله، بل هم متواضعون لله خاضعون له، أذلة على المؤمنين، وإن كانوا عند ذوي السلطان حقيرين ساقطين في أعينهم، لا يؤبه لهم لديهم، فهم عند الله عظماء رفعاء. قوله: ((قالت النار: يعني: أوثرت بالمتكبرين)) أي: خصصت بأهل التكبر على عباد الله والتجبر والظلم للناس باحتقارهم، وغمط حقوقهم. قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي، وقال للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء)) . هذا هو حكم الله بينهما، يعني: أن الله – تعالى – خلق الجنة ليرحم بدخولها من شاء من عباده، من يتفضل عليه ويجعله مؤهلاً لذلك. وأما النار فخلقها لمن عصاه وكفر به، وبرسله، يعذبهم بها. وذلك كله ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولكن لا يدخل النار إلا من استوجبها بعمله.   (1) الآية 44 من سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وهذه الجملة وهي قوله: ((فقال الله للجنة: أنت رحمتي)) هي الشاهد للباب، فالجنة قريب من المحسنين، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. ثم قال: ((ولكل واحدة منكما ملؤها)) وهذا وعد من الله – تعالى – لهما بأن يملأهما بمن يسكنهما، وفي هذا إشعار بأنهما يرغبان ذلك، وقد جاء الطلب من النار صريحاً، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ (1) } ، وأقسم الله – تعالى – ليملأن جهنم من الجِنَّةِ والناس أجمعين)) . فهما يمتلآن من بني آدم ومن الجن. فمن آمن وعبد الله وحده، واتبع رسله، فمصيره إلى الجنة، ومن عصى وبغى، وطغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى. قوله: ((فأما الجنة، فإن الله لا يظلم من خلقه أحداً، وأنه ينشئ للنار من يشاء فيلقيهم فيها)) ، وتقدم حديث أنس في باب قول الله – تعالى -: {هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزال يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع فيها رب العالمين قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، ثم تقول: قد قد بعزتك وكرمك. ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة)) (2) . وفي ((صحيح مسلم)) في هذا الحديث قال: ((فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله – تبارك وتعالى – رجله، تقول: قط قط قط، فهناك تمتلئ، ويُزْوَى بعضها إلى بعض، ولا يظلم ربك من خلقه أحداً.   (1) الآية 30 من سورة ق. (2) انظر الجزء الأول من هذا الشرح (ص140) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً)) (1) ، ورواه البخاري بهذا اللفظ في ((التفسير)) (2) . وبهذا يتبين أن قوله: ((وأنه ينشئ للنار من يشاء فيلقيهم فيها)) أنه خطأ، وإنما انقلب على الراوي، فصار ما للجنة للنار، فإن إنشاء الخلق يكون للجنة، وأما النار فإن الله – تعالى – يضع عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتتضايق على من فيها، وبذلك تمتلئ ولا يظلم ربك أحداً. ويؤيد ذلك أن هذا الحديث جاء في ((التفسير)) من ((صحيح البخاري)) ، وجاء كذلك في مسلم على الوجه الصحيح، كما ذكره آنفاً، وبأنه خطأ قد انقلب على الراوي جزم به شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، ويؤيده أيضا قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: من ذريتك وممن تبعك من بني آدم. فلو دخلها أحد من غير أتباع الشيطان من ذريته وذرية آدم لم تمتلئ منهم. قال الحافظ: قال أبو الحسن القابسي: ((المعروف في هذا الموضع أن الله ينشئ للجنة خلقاً، وأما النار فيضع فيها قدمه. قال: ولا أعلم في شيء من الأحاديث أنه ينشئ للنار خلقاً إلا هذا) انتهى. وقد مضى في تفسير سورة ق، من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: ((ويقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد، فيضع الرب عليها قدمه، فتقول: قط قط)) . ومن طريق همام بلفظ: ((فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط، فهناك تمتلئ، ويُزْوَى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً)) (3) .   (1) ((صحيح مسلم)) (4/2187) رقم (2846) . (2) انظر ((الفتح)) (8/595) . (3) انظر ((الفتح)) (13/436-437) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وقال: ((وقد قال جماعة من الأئمة: إن هذا الموضع من الحديث مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط، واحتج بأن الله – تعالى – أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه من بني آدم، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني، واحتج بقوله: {وَلاَ يَظلِمُ رَبُكَ أَحَدَا} . ثم ذكر تأويلات بعيدة جداً، بل باطلة، ثم قال: ((وفي الحديث دلالة على اتساع الجنة والنار، بحيث تسع كل من كان، ومن يكون إلى يوم القيامة، وتحتاج إلى زيادة، وقد تقدم أن آخر من يدخل الجنة يُعطى مثل الدنيا عشر مرات. وقال الداودي: يؤخذ من الحديث أن الأشياء توصف بغالبها؛ لأن الجنة يدخلها غير الضعفاء، والنار قد يدخلها غير المتكبرين، وفيه رد على من حمل قول النار: {هَلْ مِن مَّزِيد} على أنه استفهام إنكار، وأنها لا تحتاج إلى زيادة)) (1) . وقال شيخ الإسلام: ((قوله: وأما الجنة، فيبقى فيها فضل، فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم)) : ((ووقع في بعض طرق البخاري غلط، قال فيه: ((وأما النار فيبقى فيها فضل)) ، والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب؛ ليبين غلط هذا الراوي، كما جرت عادته بمثل ذلك، إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ، ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب، وما علمت وقع فيه غلط إلا وقد بين فيه الصواب)) (2) . وقال ابن القيم: ((وأما اللفظ الذي وقع في ((صحيح البخاري)) في حديث أبي هريرة: ((وأنه ينشئ للنار من يشاء، فيلقى فيها، فتقول: هل من مزيد)) فغلط من بعض الرواة، انقلب عليه لفظه، والروايات الصحيحة ونص القرآن يرده، فإن الله سبحانه أخبر أنه يملأ جهنم من إبليس وأتباعه،   (1) ((الفتح)) (13/437) . (2) ((منهاج السنة)) (3/25) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 فإنه لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة، وكذب رسله، قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (1) ، ولا يظلم الله أحداً من خلقه)) (2) . 77 - قال: ((حدثنا حفص بن عمر، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليصيبن أقواماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم: الجهنميون)) . ((سفع)) بفتح السين، وسكون الفاء، هو أثر تغير البشرة من حر النار أي: يصيبهم من لهبها ما يغير ألوانهم، وتقدم أنهم يحترقون حتى يكونوا فحماً. قوله: ((بذنوب أصابوها)) أي: أن إصابتهم بسفع النار جزاء على ما اقترفه من الذنوب عقوبة لهم. ((ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته)) أي: يرحمهم الله تفضلاً منه وجوداً عليهم من غير استحقاق للجنة، وهذا محل الشاهد من الحديث، ووجهه أن هؤلاء لما كان معهم شيء من الإيمان صارت رحمة الله قريبة إليهم بالنسبة لمن هو في النار، وبقدر ما معهم من إيمان وإحسان. والجهنميون نسبة إلى جهنم؛ لأن أثر إحراقهم ظاهر عليهم. قولُهُ: ((وقال هَمّامٌ: حدثنا قتادة، حدثنا أنس)) إلى آخره. يريد بيان أن عنعنة قتادة محمولة على السماع؛ لأنه صرح بالتحديث من هذه الطريق. والله أعلم.   (1) الآيتان 8، 9 من سورة تبارك. (2) ((حادي الأرواح)) (ص295) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 قال: ((باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا} (1) . قال ابن كثير: ((أخبر تعالى عن قدرته العظيمة، التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما، فلا تضطربا عن أماكنهما، كما قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (2) ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ (3) (4) } . وقوله تعالى: {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} (5) ، أي: لا يقدر على إبقائهما بلا زوال واضطراب إلا هو - تعالى -، ومع موجب زوالهما واضطرابهما من جرائم بني آدم أمسكهما، فحلم الله الواسع، ومغفرته العظيمة، تدعوه تعالى إلى إمساكهما، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورَا} فيحلم ويغفر، ويستر، ويصفح عن العظيم مما يبارزه به عباده من الجرائم، كما ذكر تعالى عن بعض المجرمين ما يقتضى تفطر السماوات، وتشقق الأرض، وانهداد الجبال الراسيات منه، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (6) .   (1) الآية 41 من سورة فاطر. (2) الآية 65 من سورة الحج. (3) ((تفسير ابن كثير)) (6/543) ط: الشعب. ... (4) الآية 25 من سورة الروم. (5) الآية 41 من سورة فاطر. (6) الآيات 88 - 91 من سورة مريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ومراد البخاري - رحمه الله - من هذا الباب إثبات جنس الفعل لله تعالى؛ لقوله في الآية: ((يمسك)) وقوله في الحديث: ((يضع السماوات على إصبع)) إلى آخره، وإن تقدم ذكر الاستواء المتضمن للعلو فهو من صفات الذات والفعل، وأما هذا فهو نوع آخر من صفات الله - تعالى - الدالة على أنه تعالى فعَّال لما يريد، وهذا ما أنكره أهل الباطل من معتزلة وغيرهم، فأراد البخاري أن ينبه عى بطلان قولهم. يعني: أن الله - تعالى - هو الممسك للسماوات والأرض بقدرته، وإذا أراد أن يطوي السماوات والأرض لترك إمساكهما فزالتا، فهو تعالى يفعل باختياره ما شاء، وفعله غير خلقه، وهذا يرد مذهب المعتزلة ومن قال بقولهم، حيث قالوا: إن أفعال الله - تعالى - مخلوقة. قال المؤلف - رحمه الله - في كتابه ((خلق أفعال العباد)) : ((ادعت المعتزلة: أن فعل الله مخلوق، وأن أفعال العباد غير مخلوقة، وهذا خلاف علم المسلمين، إلا من تعلق من البصريين بكلام سنسويه، كان مجوسياً فادعى الإسلام)) (1) . يعني: أن المسلمين مجمعون على خلاف ما يقوله المعتزلة من أن فعل الله - تعالى - مخلوق، ومراده بذلك: أنه لا فرق عندهم بين الفعل والخلق، فليس لله فعل يفعله باختياره وإرادته، وإنما يخلق، والخلق هو المخلوق المفعول. وقوله: ((إلا من تعلق بكلام سنسويه من البصريين)) ، يقصد القدرية الذين أنكروا علم الله بالأشياء قبل وجودها، وتقديره لها، وخلقه إياها، فهؤلاء شذوا عن المسلمين. وقد اتفق سلف هذه الأمة وأئمتها على أن الله - تعالى - متصف بصفات   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص75) ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 الأفعال كما أنه متصف بصفات الذات، ولم يخالف في ذلك إلا الجهمية والمعتزلة. ولا ينبغي أن يعد خلاف هؤلاء خلافاً؛ لأنهم تركوا صريح الأدلة في ذلك من كتاب الله - تعالى -، ومن سنة رسوله، ومن العقل أيضاً. وقد علم أن الأفعال نوعان: متعد، ولازم، والله - تعالى - متصف بالنوعين. فالمتعدي مثل الرزق، والإحياء، والإماتة، والخلق، ونحو ذلك. واللازم مثل المجيء، والنزول، والإتيان، والاستواء، ونحوه. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) ، فجمع النوعين في هذه الآية، وكل ذلك واقع بمشيئته تعالى. وهذا معنى قول أهل السُّنَّة: إن الله موصوف بالأفعال الاختيارية، أي: التي يفعلها باختياره تعالى، وأدلة ذلك في كتاب الله، وسنة رسوله، كثيرة جداً، وسوف يذكر فيما يأتي طرفاً من ذلك. ومراده بيان أن أفعال الله من صفاته، وهي ثابتة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع من أهل العلم والإيمان، وبالعقل السليم، وسيأتي في الباب بعد هذا التفرقة بين الفعل والمفعول، وما يأتي بعده إلى آخر الكتاب تفريع عليه. *** 78 - قال: ((حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إن الله يضع السماء على إصبع،   (1) الآية 4 من سورة السجدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والأنهار على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يقول بيده: أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ} . سبق هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} وذكره هناك من طريقين، غير الطريق التي هنا، وتقدم شرحه هناك، وجرياً على عادته إذا أعاد ذكر الحديث؛ فلا بد أن يغاير بين لفظه اللاحق وبين السابق، وبين سنديه، فإن لم يمكن ذلك فعل ما أمكنه منه. وهنا قد غاير بين لفظه هنا وهناك، وكذلك في الإسناد. ففي الباب السابق ((أن يهودياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) . وفي الطريق الأخرى: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب)) . وهنا: ((جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الراغب: ((الحبر: الأثر المستحسن، ومنه ما روي: (يخرج من النار رجل قد ذهب حبره، وسبره)) أي: جماله، وبهاؤه، ومنه سمي الحبر بالكسر، والحبر: العالم، وجمعه أحبار - سموا بذلك - لما يبقى من أثر علومهم في قلوب الناس، ومن آثار أفعالهم الحسنة المقتدى بها)) (1) ، وفي ((القاموس)) : الحبر: ((العالم أو الصالح)) . قوله: ((ثم يقول بيده: أنا الملك)) ، أي: أنه تعالى يهزهن، استخفافاً لهذه المخلوقات، واستصغاراً لها أمام عظمة الله وقوته - جل وعلا -، وقد جاء مصرحاً بذلك في الروايات الأخرى. قال ابن جرير: ((وحدثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن المفضل، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، عن منصور، عن خيثمة بن عبد الرحمن،   (1) ((المفردات)) (ص106) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه حبر من أحبار اليهود، فجلس إليه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حدثنا؟)) قال: إن الله - تبارك وتعالى - إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والماء الشجر على إصبع، وجميع الخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه؛ تصديقاً لما قال، ثم قرأ هذه الآية: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشرِكُونَ} (1) . ثم رواه من طريق أخرى، وهو صحيح لا مطعن فيه، وقد رواه أحمد والبخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمر، ولفظه: ((قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((يطوي الله - عز وجل - السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) وهذا لفظ رواية مسلم (2) . وقال ابن جرير: ((حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، يخطب الناس، فمر بهذه الآية: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتُ بِيمِينِهِ} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأخذ السماوات والأرضين السبع فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما - كما يقول الغلام بالكرة -: أنا الله الواحد، أنا الله العزيز)) حتى لقد رأينا   (1) ((تفسير الطبري)) (24/26) . (2) انظر ((صحيح مسلم)) (4/2148) رقم (2788) وقد تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 المنبر وإنه ليكاد يسقط به)) (1) وقال أيضاً: ((حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا ابن أبي حازم، قال: حدثني أبو حازم، عن عبيد الله بن مقسم، أنه سمع عبد الله بن عمر، يقول: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: ((يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيديه)) وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه، وجعل يقبضهما، ويبسطهما، قال: ((ثم يقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)) وتمايل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) (2) . وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث في هذا، ففي هذه ونحوها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر صفات الله - تعالى - فى المجامع العامة، ويخطب ببيانها على المنبر، ويبالغ في إيضاحها، وتفهيم السامعين لها، حتى إنه يقبض يديه ويبسطهما عند ذكره لقبض الله - تعالى - السماوات والأرض، خلافاً لمن زعم أنه لا ينبغي ذكر صفات الله عند عامة الناس، وهو زعم باطل مخالف للحق وطريق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان يعرف الناس بربهم، ويذكر لهم صفاته وأفعاله وأقواله في كل موطن، ويكرر ذلك في مجالسه، وخطبه، يعرف ذلك من سبر حاله، وتتبع سنته، صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدع مجالاً للشك في أن المراد من هذه النصوص هو ما دلت عليه ظاهراً، وأن تأويلها وصرفها عن ظاهرها باطل قطعاً، وتحريف للكلم عن مواضعه.   (1) ((تفسير الطبري)) (24/26) ، ورواه البخاري (6/104) ، ومسلم (4/2147) ، رقم (2786) . (2) المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ويزيد ذلك تأكيداً وبياناً أن أحداً من الصحابة لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يستفسر عن شيء منها؛ لأنهم فهموا المراد من ظاهر الخطاب ونصه. ومما يزيد ذلك تأكيداً أيضاً، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر ولا حرفاً واحداً يدل على وجوب التأويل كما يقوله الموجبون للتأويل. ومعلوم أن بيان ما أنزل الله إلى عباده واجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد فعل بقوله، وفعله، كما كان يقبض يديه ويبسطهما عندما ذكر قبض الله - تعالى - لسماواته وأرضه بيديه، تقريراً منه - صلى الله عليه وسلم - لظاهر النص، وتأكيداً لما يفهمه كل مخاطب عربي يسمع هذا الكلام، ولو كان من أبلد الناس. وهذا الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو فعله أحد أمام من يدعون التحقيق، وأنهم أهل السُّنَّة، لصاحوا به، وعدوه مشبهاً مجسماً. وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل مثل ذلك كثيراً عند ذكر صفات الله - تعالى -، كما سبق أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ قول الله - تعالى -: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعَا بَصِيراً} . وضع إصبعه على عينه، والأخرى على أذنه، زيادة إيضاح وتبيين أنه أراد ظاهر الخطاب، وكما سبق أيضاًً أنه قال: ((إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ولا قتر)) ، وغير ذلك. وفي هذا الحديث ثبوت صفة الكف لله - تعالى -؛ لقوله: ((فيجعلهما في كفه)) . وتقدم أن ضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفرحه بما قاله الحبر حيث ذكر ما يصدق ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - مما أوحاه الله إليه، ولهذا قرأ قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدرِهِ وَالأَرضُ جَمِيعَا قَبضَتُهُ يَومَ القِيامِةِ وَالسَّماواتُ مَطوِيَّاتٌ بِيمِينِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمَّا يُشرِكُونَ} (1) ؛ لأن هذه الآية مطابقة لما قاله الحبر،   (1) الآية 67 من سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وهو من العلم الموروث عن الأنبياء الذي أوحاه الله إليهم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك؛ لأنه إخبار عن شيء لم يقع، وإنما سيقع كما هو ظاهر. وقد تقدم ذكر الأدلة في إثبات يدي الله - تعالى - وأصابعه، وتفنيد تأويلات المنكرين لها، وبيان أن تأويلها من تحريف الكلم عن مواضعه. **** قال: ((باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض، وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب - تبارك وتعالى - وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره [وكلامه] وهو الخالق، هو المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكون)) . التخليق: مصدر، والمصدر هو: الحدث الذي لم يقترن بزمن، والحدث لا بد له من محدث، فتخليق السماوات والأرض هو فعل الله الذي وجدت به، فالله - تعالى - هو الخالق، والخلق والتخليق فعله الواقع منه على المخلوق، فالمخلوقات وجدت بفعل الله. والمخلوق ليس هو فعل الله، وإنما هو مفعوله، أي: مخلوقه الذي صدر عن تخليقه. وأفعاله الله نوعان: لازم، ومتعدَّ، فاللازم: نحو نزوله، ومجيئه، والمتعدي: نحو خلقه ورزقه، ولابد لهذا النوع من مفعول يتعدى إليه، وهو المخلوق، والمرزوق، بخلاف الأول. قوله: ((وهو فعل الرب - تبارك وتعالى - وأمره)) يعني: أن التخليق فعل الرب - تعالى - والمقصود بالأمر هنا: قوله للمخلوق: ((كن)) . قوله: ((فالرب بصفاته وفعله وأمره [وكلامه] يعني: أن صفاته وأمره وفعله، وكلامه، داخل في مسمى اسم الرب - تعالى - لا يكون شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 منها غيره؛ لأن صفة الشيء تقوم به، وفعله يقوم به - لا بغيره - وكذا أمره وكلامه. ولفظه: ((وكلامه)) ثبتت في بعض نسخ الصحيح، وهي رواية أبي ذر، أحد رواة الصحيح عن البخاري، وهو من عطف الخاص على العام. قوله: ((وهو الخالق، المكوِّن، غير مخلوق)) المكون بكسر الواو المشددة، وهو بمعنى المصوِّر. قوله: ((وما كان بفعله وأمره، وتخليقه، وتكوينه، فهو مفعول مخلوق مكوَّن)) يعني: أن الفعل غير المفعول، فالفعل من صفات الفاعل يقوم به، والمفعول هو ما وجد بالفعل، فهو مفعول له محدث بعد أن لم يكن، بخلاف الفعل، فإنه قائم بالفاعل، فهو صفته، فالمفعول مخلوق، مكوَّن - بفتح الواو المشددة - بعد أن لم يكن. ومراد البخاري - رحمه الله - الرد على من لم يفرق بين الفعل المفعول، كما بين ذلك في كتابه ((خلق أفعال العباد)) فإنه قال فيه: ((اختلف الناس في الفاعل، والمفعول، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله. وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله. وقالت: الفعل والمفعول واحد، لذلك قالوا: لـ ((كن)) مخلوق، وقال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقه؛ لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (1) ، يعني: السر والجهر من القول، ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق)) (2)   (1) الآيتان 13، 14 من سورة الملك. (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص144) ، تحقيق عبد الرحمن عميرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وقال أيضاً: ((وأما الفعل من المفعول، فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} (1) ، فالسماوات والأرض مفعولة، وكل شيء سوى الله بصفاته - فهو مفعول - فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله، ففعله من ربوبيته، حيث يقول: ((كن فيكون)) ، و ((كن)) من صفته، وهو الموصوف به، كذلك قال: رب السماوات، ورب الأشياء، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رب كل شيء ومليكه)) (2) . وهذا شرح لما ترجم به هنا، وبيان لمراده، وهو واضح. وبه يتبين خطأ ابن بطال في قوله: ((غرضه بيان أن جميع السماوات والأرض وما بينهما مخلوق؛ لقيام دلائل الحدوث عليها)) إلى آخره، كما ذكره الحافظ عنه في ((الفتح)) (3) ؛ لأن هذا أمر ظاهر، لا ينكره أحد. **** 79 - قال: ((حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرها محمد بن جعفر، أخبرني شريك ابن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بت في بيت ميمونة ليلة، والنبي -صلى الله عليه وسلم - عندها، لأنظر كيف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ: {إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} إلى قوله: {لأُوْلىِ الأَلبَابِ} ثم قام فتوضأ، واستن،   (1) الآية الأولى من سورة الأنعام. (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص113) ، تحقيق الدكتور عميرة. (3) انظر: ((الفتح)) (13/440) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى للناس الصبح)) . هذا الحديث أكثر البخاري - رحمه الله - من تكراره، فقد ذكره فيما يقرب من عشرين موضعاً، كما بينته في دليل القارئ. وميمونة: أم المؤمنين بنت الحارث الهلالية، وهي خالة ابن عباس أخت أمه لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب. وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء، سنة سبع، بسرف، وهو حلال غير محرم، وتوفيت - رضي الله عنها - بسرف، سنة إحدى وخمسين، وقيل غير ذلك، وصلى عليها ابن عباس، ودفنت هناك (1) . قوله: ((بت في بيت ميمونة)) في رواية مسلم: ((فرقبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي)) ، وفي أخرى له، قال: ((بعثني العباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)) . وكان العباس بعثه في حاجة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني، بت عندنا الليلة)) ذكره الحافظ، عن قيام الليل، لمحمد بن نصر (2) ، فانتهز ابن عباس هذه الفرصة لينظر إلى عمل رسول الله - في الليل، فيتخذه قدوة. قوله: ((فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة)) كان - صلى الله عليه وسلم - خير الناس لأهله، فكان يفعل ما يأنسون به من المحادثة، والتعليم لكل خير، من أمور الدنيا والآخرة.   (1) انظر ((الإصابة)) (8/126) ، و ((الاستيعاب)) (4/1914) ، و ((أسد الغابة)) (7/272) ، وغيرها كثير. (2) انظر ((فتح الباري)) (2/482) ، وانظر ((مختصر قيام الليل)) (ص105) وفيه: ((بعثني أبي العباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء الآخرة في حاجة له، فلما بلغته إياها قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أي بني، بت عندنا هذه الليلة)) ... الخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 قوله: ((فلما كان ثلث الليل الأخير)) يجوز أن يكون التقدير: فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلث الليل الأخير، ويجوز أن تكون (كان) تامة، والتقدير: فلما جاء ثلث الليل، وهذا هو الأظهر. قوله: ((أو بعضه)) أي: بعض الليل، والبعض يصدق على كل فترة منه. وقد جاء في غير هذا الموضع: ((حتى انتصف الليل، أو قريباً منه)) . قوله: ((قعد، فنظر إلى السماء، فقرأ: {إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} إلى آخره، المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم حين استيقظ نظر إلى السماء معتبراً بخلقها، ولهذا قرأ الآيات المذكورات، وجاء في روايات أنه قرأ العشر آيات من آخر سورة آل عمران، وهذا هو محل الشاهد من الحديث للباب؛ لأن فيها قوله: {إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} ، مع قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً} ، فالمنظور إليه، المشاهد، المشار إليه بقوله: {مَا خَلَقتَ هَذَا بَاطِلاً} ، مفعول مخلوق، وهو غير الفعل الذي هو صفة الفاعل، والفعل نتج عنه المفعول المحدث، هذا هو وجه الاستدلال الذي أراده البخاري - رحمه الله -. قوله: ((ثم قام فتوضأ واستن)) أي: استاك بالسواك دالكاً به أسنانه. وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، ويحث عليه، وأخبر أنه مطهرة للفم، ومرضاة للرب - تعالى. قوله: ((ثم صلى إحدى عشرة ركعة)) هذه سنته - صلى الله عليه وسلم - التي استمر عليها كما أخبرت بذلك زوجه عائشة - رضي الله عنها - أنه ما كان يزيد على إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره. قوله: ((ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى ركعتين)) هاتان الركعتان، غير ما سبق ذكره من أنه صلى إحدى عشرة ركعة، بل هما سنة الفجر، لأنه صلاهما بعد الأذان، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصليهما في بيته، ويحافظ عليهما حضراً وسفراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قوله: ((وصلى للناس الصبح)) أي: صلى بهم إماماً، كما هو ظاهر، وقد تقدم شرح بعض هذا الحديث في باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِ} . **** قال: ((باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (1) . قال ابن جرير: ((يقول جل ذكره: ولقد سبق منا القول لرسلنا إنهم لهم المنصورون، أي: مضى بهذا منا القضاء، والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النصرة والغلبة، بالحجج)) ثم روى عن قتادة: قال: سبق هذا من الله لهم أن ينصرهم. ثم ذكر أن بعضهم فسر السبق: بالسعادة، أي: سبق القضاء، والحكم لهم بالسعادة، وذكر أنه روي في قراءة عبد الله: (ولقد سبقت كلمتنا على عبادنا المرسلين) فجعلت ((على)) مكان اللام، فكأن المعنى: حقت عليهم ولهم، كما قيل: {عَلَى مُلكِ سُلَيمانَ} ، وفي ملك سليمان، إذ كان المعنى في ذلك واحداً)) (2) . والسبق هو التقدم على الشيء، والكلمة المضافة إلى الله - تعالى - هي كلمته الكونية القدرية. والقدر يتضمن علم الله بالشيء، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ثم إيجاده له وفق تقديره، وهذا لابد أن يكون بكلامه. وقد علم أن كلام الله - تعالى - ينقسم إلى: كوني قدري، وإلى شرعي أمري، وهذا الذي يخالفه أكثر العباد، ويعصونه.   (1) الآية 171 من سورة الصافات. (2) ((تفسير الطبري)) (23/114) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 أما القسم الأول فلا يخالفه أحد، بل لابد من وقوعه وحصوله، وهو قد يكون متفقاً مع الكلام الشرعي الأمري، وقد يكون مخالفا له، وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله تعالى - في موضعه. ومراد البخاري - رحمه الله - أن كلمة الله - تعالى - سبقت وجود الرسل والمرسل إليهم، فهي قبل الخلق الذي هو المخلوق، وهي غيره؛ لأنها صفة الله - تعالى -، وأما نصر الرسل وإسعادهم فهو جزاء عملهم وطاعتهم، فهو من إثابته لهم وفضله عليهم، فهو مخلوق بكلمته - تعالى -. وأما قول الحافظ: ((أشار به إلى ترجيح القول بأن الرحمة من صفات الذات؛ لكون الكلمة من صفات الذات، فمهما استشكل في إطلاق السبق في صفة الرحمة، جاء مثله في صفة الكلمة، ومهما أجيب عن قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُناَ} حصل به الجواب عن قوله: ((سبقت رحمتي)) ، وقد غفل عن مراده من قال: دل وصف الرحمة بالسبق على أنها من صفات الفعل)) (1) . فهذا بعيد كل البعد عن مراد البخاري، وهو مبني على مذهب الأشعرية القائلين بأن الكلام من صفات الذات، وهو المعنى القائم بذات الله - تعالى -، وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله، واعتقاد أهل السُّنَّة، وإنما مراده ما ذكرت. والله أعلم. وأما صفات الرحمة فتكون صفة ذات وصفة فعل، كما سبق الكلام في ذلك. وفي كتاب ((خلق أفعال العباد)) للبخاري - رحمه الله - نقلاً عن أبي عبيدة: {إنمَاَ قَولُنَاَ لِشَيءٍ إِذَا أَرَدناهُ نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فأخبر أن أول خلقه بقوله، وأول خلق هو من الشيء الذي قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ} فأخبر   (1) ((فتح الباري)) (13/441) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 أن كلامه قبل الخلق)) (1) ، وهذا قريب مما ذكره هنا، وهو يعين على فهم مراده. قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)) . تقدم هذا الحديث في باب قول الله - تعالى -: ((ويحذركم الله نفسه)) لكن بلفظ يختلف عما هنا، فلفظه هناك: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتابه - وهو يكتب على نفسه، وهو وضع عنده على العرش -: إن رحمتي تغلب غضبي)) والمعنى لا يختلف، والمقصود بالقضاء: التقدير، ويأتي القضاء بمعنى الأمر والحكم، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (2) ، ويأتي بمعنى: قدر وأمضى، كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} (3) ، ويأتي بمعنى: فرغ من الشيء وأتقنه، نحو قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (4) ، والمعنى هنا: لما فرغ من تقدير الخلق، كما في الرواية الآتية في باب قول الله تعالى -: {بَل هُوَ قُرءَانُ مَّجِيدُ} ؛ أن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق)) . ومراد البخاري من هذا الحديث: أن الكتاب الذي كتبه قبل خلق الخلق فيه سبق رحمته لعباده المرسلين، أي: أن كلمته التي سبقت بنصره عباده المرسلين قبل وجودهم.   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص44) ، تحقيق عبد الرحمن عميرة. (2) الآية 23 من سورة الإسراء. (3) الآية 4 من سورة الإسراء. (4) الآية 12 من سورة فصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وبهذا يتبين أن قوله غير خلقه، ونصرته لعباده المرسلين من رحمته التي سبقت غضبه، وتقدم الكلام على قوله ((عنده فوق عرشه)) ، وأنه يدل على استوائه على عرشه، وعلوه على خلقه، كما تقدم الكلام في صفة الرحمة والغضب. 80 - قال: ((حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأعمش، سمعت زيد بن وهب، سمعت عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)) . علماء الأمة يعدون هذا الحديث أصلاً كبيراً من أصول الإسلام؛ لأن فيه بيان وجوب الإيمان بالقدر، وهو أحد أركان الإيمان بالله ورسوله. قوله: ((الصادق المصدوق)) وصف للنبي - صلى الله عليه وسلم - مستمر، أي: أنه صادق فيما يخبر به، وما يفعله، فلا يخبر إلا بالحق المطابق للواقع. والصدق يطلق أيضاً على الفعل، يقال: صدق القتال، وهو صادق فيه والرسول - صلى الله عليه وسلم - صادق في أقواله وأفعاله. ((المصدوق)) فيما يأتيه من الأخبار؛ لأنه وحي من الله - تعالى -. قوله: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً وأربعين ليلة)) يعني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 أنه في هذه المدة يكون نطفة داخل بويضة المرأة، فيستمر هذه المدة، وتغلب عليه هذه الصفة في الأربعين الأولى - يعني: وصف النطفة، وفي الثانية: وصف العلقة، وفي الثالثة: وصف المضغة، وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره. قوله: ((ثم يكون علقة مثله)) يعني: بعد مضى أربعين على النطفة في الرحم، تصير علقة، وهي قطعة دم جامد، فتنقلب النطفة بعد دخولها بويضة المرأة، ومرور أربعين يوماً، إلى علقة، بدون تخطيط ولا روح. ((ثم يكون مضغة مثله)) يعني: بعد تمام الأربعين الثانية تصير العلقة مضغة. والمضغة: قطعة لحم على قدر ما يمضغ الإنسان في فمه، وفي هذا الدور يبدأ تخطيط خلقه. فالحديث يدل على أن خلق الإنسان يتقلب في مِئَة وعشرين يوماً في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يوماً منها يكون في طور، فهو في الأربعين الأولى نطفة، وفي الثانية علقة، وفي الثالثة مضغة، وبعد ذلك يأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتابة رزقه وأجله، وشقاوته أو سعادته. ((ثم يبعث إليه الملك)) جاء في الحديث الذي رواه مسلم، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمسة وأربعين ليلة، فيقول: يا رب، أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي: رب، أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص)) (1) . وفيه أيضاً عنه قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا مر بالنطفة اثنتان   (1) ((مسلم)) (4/2037) رقم (2644) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر، ولا ينقص)) (1) . وقد يبدو أن هذا يخالف حديث عبد الله بن مسعود؛ لأن ظاهر حديث عبد الله – كما تقدم- أنه يبقى أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين أخرى علقة، ثم أربعين مضغة، ثم يبعث إليه الملك بعد الأربعين الثالثة. قال ابن رجب: ((ظاهر حديث حذيفة يدل على أن تصوير الجنين، وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في الأربعين الثانية، فيلزم أن يكون في الأربعين الثانية لحماً وعظاماً، وهذا خلاف ظاهر حديث عبد الله، وظاهره أنه يصورها، ويخلق هذه الأجزاء كلها، وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام، فلا يكون بين الحديثين اختلاف. وتأول بعضهم على أن الملك يقسّم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء، فيجعل بعضها للجلد، وبعضها للحم، وبعضها للعظام، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، وهذا خلاف ظاهر الحديث)) (2) . قال ابن رجب: ((وقد ذكر علماء الطب ما يوافق الحديث، قالوا: إن المني إذا وقع في الرحم حصل له زبدة ورغوة ستة أيام، أو سبعة أيام، وفي هذه الأيام تصور النطفة من غير استمداد من الرحم (3) ، ثم بعد ذلك تستمد منه.   (1) المرجع المذكور. (2) شرح الأربعين (1/117-118) الطبعة السعدية. (3) تبين في الطب الحديث أن نطفة الرجل تحمل حيوانات منوية كثيرة جداً، وإذا صادف واحد من هذه الحيوانات بويضة المرأة يكون انعقاد التلقيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام، وقد يتقدم ويتأخر يوماً، ثم بعد ستة أيام، وهو الخامس عشر من وقت العلوق، ينفذ الدم إلى الجميع، فيصير علقة، ثم تتميز الأعضاء تميزاً ظاهراً، ويتنحى بعضها عن مماسة بعض، وتمتد رطوبة النخاع، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الأصابع [ويتميز] تميزاً يستبين في بعض، ويخفى في بعض. قالوا: وأقل مدة يتصور فيها الذكر ثلاثون يوماً، والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يوماً، وقد يتصور في خمسة وأربعين يوماً، ولم يوجد في الإسقاط ذكر تم قبل ثلاثون يوماً، ولا أنثى قبل أربعين يوماً. فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة في التخليق في الأربعين الثانية، ومصيره لحماً فيها أيضاً)) (1) . وقال ابن القيم: ((إذا اشتمل الرحم على المني، ولم يقذف به إلى الخارج، استدار على نفسه وصار كالكرة، وأخذ بالشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهو موضع القلب، ونقطة في أعلاه، وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين، وهي نقطة الكبد، ثم تتباعد تلك النقط، ويظهر بينها خطوط حمر، إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير المجموع سبعة وعشرين يوماً، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بيناً في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه. وهذا مطابق لقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)) واكتفى صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن التفصيل، وهذا يقتضي أن الله قد جمع   (1) ((شرح الأربعين)) (1/118-119) الطبعة السعدية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 خلقه فيها جمعاً خفياً)) (1) . وهذا الذي ذكره ابن رجب وشيخه ابن القيم – رحمهما الله تعالى – يكاد يكون متفقاً مع ما يقرره الأطباء حديثاً، وقد أصبحت الأجنة مشاهدة بواسطة آلات التصوير والمناظير، فصارت عند علماء الأجنة من الأطباء من الأمور الظاهرة، وعندهم التخليق يبدأ مبكراً من أيام الأربعين الأولى، وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا تخالف الواقع، وإنما يأتي الغلط من عدم فهم مراده - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكر خلق الإنسان في مواضع عديدة من القرآن، كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (2) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3) وحديث عبد الله يتفق مع هذه الآية الكريمة. ولدلالة خلق الإنسان على خالقه، وعظيم قدرته، وعلى إعادته بعد موته، وعلى وجوب عبادة الله وحده، أكثر الله – تعالى – من ذكره في كتابه، وأمر عباده بالاعتبار به. والملك الذي يرسل إلى النطفة في الرحم خلقه الله لذلك، وجعل ذلك وظيفته، وقد جعل الله – تعالى – لملائكته أعمالاً يختص بها كل فريق منهم. قوله: ((فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)) .   (1) ((التبيان)) (ص337) . (2) الآية 14 من سورة نوح. (3) الآيات 12 – 14 من سورة المؤمنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 قال الحافظ: ((المراد بالكلمات: القضايا المقدرة، وكل قضية تسمى كلمة)) (1) . وهذا هو الذي عناه العلماء بقولهم في هذا الحديث: وجوب الإيمان بالقدر، فكل ما سيجري على هذه النطفة التي ذكر تكوينها في أول بدايتها، مكتوب مفروغ منه، قبل وجودها، فما تأكله مكتوب مسجل، لا يزيد ولا ينقص، وما تعمله كذلك، وبقاؤها حية في هذه الدنيا كذلك، ونهايتها ومصيرها مسجل معلوم لله – تعالى -: فالسعادة والشقاوة قد سبق بهما الكتاب، غير أن ذلك مقدر بحسب الأعمال التي يعملها هذا المخلوق، ومرتب عليها، بمعنى أن الله علم ذلك فكتبه، وكل ميسر لما خلق له. وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام، لا يمكن أن يستقيم لأحد دينه إلا بالإيمان به، وهو محل الشاهد الذي ساقه البخاري من أجله، فقد سبقت كلمة الله لعباده السعداء بالسعادة قبل وجودهم، وذلك فضل من الله ورحمة تفضل عليهم بذلك. وظاهر حديث عبد الله بن مسعود هذا أن الكتابة تكون بعد الأربعين الأخيرة، وحديث حذيفة بن أسيد ظاهر في أن الكتابة تكون بعد الأربعين الأولى. قال ابن رجب: ((جمع بعضهم بينهما بأن الكتابة تكون مرتين، ثم قال: وقد يقال: إن إحداهما في السماء، والأخرى في بطن أمه. والأظهر أنها مرة واحدة. ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين   (1) ((الفتح)) (11/482) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة)) (1) . وقال ابن القيم: ((ما في حديث ابن مسعود تقدير ثان بعد التقدير الذي ذكره في حديث حذيفة، فأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان. والتقدير الثاني: تقدير عند كمال خلقه، ونفخ الروح، فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره)) (2) . قوله: ((ثم ينفخ فيه الروح)) في رواية لمسلم: ((ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات)) . قال الحافظ: ((ويجمع بأن هذه الرواية صريحة في تأخير النفخ؛ للتعبير بقوله: ((ثم)) ، والأخرى محتملة، فترد إلى الصريحة، ولأن قوله في رواية مسلم: ((ويؤمر بأربع كلمات)) معطوفة بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب فيكون عطف جملة على جملة، والتقدير: ((يجمع خلقه في هذه الأطوار، ويؤمر الملك بالكتابة)) ، وجاء قوله: ((ينفخ فيه الروح)) متوسطاً بين الجمل)) (3) . وقال ابن رجب: ((إما أن يكون هذا من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإما أن يكون المراد ترتيب الأخبار فقط، لا ترتيب ما أخبر به)) . وعلى كل فحديث ابن مسعود يدل على تأخير نفخ الروح في الجنين وكتابة الملك [ما أمر به] إلى ما بعد أربعة أشهر، حتى تتم الأربعون الثالثة. فأما نفخ الروح فقد روي صريحاً عن الصحابة – رضي الله عنهم – أنه   (1) ((شرح الأربعين)) (1/129) . (2) ((التبيان)) (ص345) . (3) ((الفتح)) (11/485) بمعناه ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود)) (1) . وقال عياض: ((اختلفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم تختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يوماً، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، وهذا موجود في الشاهد، وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام، وقيل: إنه الحكمة في عدة الوفاة)) (2) . والحديث يدل صراحة أن الملك هو الذي ينفخ في الجنين الروح، التي تحصل بها الحياة، وتسري في الجسد، وهي سر من الله، لا يعلم حقيقتها إلا هو تعالى، كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (3) . قوله: ((فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها)) . هذا مما يدل على ما أراده البخاري – رحمه الله -؛ لأن سبق الكتاب لما سيكون صريح في هذا النص، وهو دليل على كمال علم الله تعالى – وكمال قدرته، وإحاطته بكل شيء، فهو – تعالى – يعلم الأشياء قبل وجودها، وكتب كل ما هو كائن، فكل الحوادث تقع وفق علمه وكتابته. فإذا وضعت النطفة التي يتكون منها الإنسان في رحم المرأة، وأراد - تعالى - تكوينها مخلوقاً أمر بكتابة ما يعمله هذا المخلوق، وما يكون له من رزق، وما سيلاقيه في حياته، وما يؤول إليه وينتهي، من سعادة أو شقاوة.   (1) ((شرح الأربعين)) (1/123-124) . (2) من ((الفتح)) (11/485) . (3) الآية 85 من سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وهذه الكتابة غير كتابة المقادير السابقة لخلق الخلائق، المذكورة في مثل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا (1) } . وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم، عن عبد الله بن عمرو، قال: ((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) ونحو ذلك من النصوص. وليس في كتابة الله تعالى وتقديره كل شيء قبل وجوده منافاة لمشيئة الإنسان واختياره، كما يتوهمه بعض الناس. لأن الله – تعالى – كتب علمه بما يعمله هذا المخلوق، وما يترتب على عمله، ولم يجبره على فعل المعاصي، بل نهاه عنها وزجره وحذره من فعلها، وتوعده على ذلك، وخلّى بينه وبين نفسه ليختار ما يريد من غير إكراه وإلزام. والمقصود أن هذا يدل على سبق الرحمة من الله لأهل السعادة قبل وجودهم، حيث قدر ذلك وكتبه، تفضلاً منه وإحساناً، ثم هيأهم للعمل لذلك ويسره لهم، فيدخل ذلك في قوله تعالى: {وَلَقد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعبَادِنَا المُرسَلِينَ} . ثم هذا يدل على أن الجزاء مرتب على العمل، فلا يدخل أحد الجنة إلا إذا عمل بعمل أهل الجنة، ولا يدخل أحد النار إلا إذا عمل بعمل أهل النار. قال ابن رجب: ((فيه أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلاً ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة أو الشقاوة)) (2) .   (1) الآية 22 من سورة الحديد. (2) ((شرح الأربعين)) (1/132) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وفيه أن الإنسان قد يعمل بعمل أهل الجنة، وهو في الحقيقة من أهل النار، فلا بد أن يعمل بعمل أهل النار قبيل موته، فيختم له بذلك وبالعكس؛ لأن الكتاب سبق بذلك، والحقيقة أن الذي سبق هو علم الله بأنه سوف يكون كذلك، وقد كتب الله ذلك. وهذا هو الذي أزعج كثيراً من السلف، وأقلقهم. قال ابن رجب: ((بكى أحد الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك؟ فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الله – تعالى – قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار)) ولا أدري في أي القبضتين كنت. وقال بعض السلف: الذي أبكى العيون أشد البكاء هو الكتاب السابق)) . وقال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر. فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته. وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال ذلك الرجل: تركتني لا أفرح أبداً. وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق، والخواتيم، فكان يبكي، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، ويبكي ويقول: أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت. وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضاً على لحيته ويقول: يا رب، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك؟ وقال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار، فهو مغتر، فلا يأمن الشقاء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار، ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان؟ والثاني: لما خلق في الظلمات الثلاث، حين نادى الملك بالشقاوة أو السعادة ولا يدري: أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟ والثالث: ذكر هول المطلع بعد الموت، فلا يدري: أيبشر برضاء الله، أم بسخطه؟ والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتاً، فلا يدري مع أي الفريقين يسلك به؟ وقال سهل التستري: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر. وكان الصحابة – رضوان الله عليهم – ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه. فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر. وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في دعائه: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) فقيل له: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ فقال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن – عز وجل – يقلبها كيف يشاء)) (1) . وفي الجملة: فالخواتم ميراث السوابق، فكل شيء سبق في الكتاب السابق.   (1) أخرجه أحمد في المسند (3/122، 256) و (6/91، 315) ، والترمذي من حديث أنس وأم سلمة وعائشة، انظر الترمذي (5/538) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتم، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟)) (1) . 81 - قال: ((حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عمر بن ذر، سمعت أبي يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا جبريل، ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)) فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ لَهُ مَا بَينَ أَيدِيِنَا وَمَا خَلفَنَا وَمَا بَينَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا} قال: كان الجواب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -)) . المقصود: أن كل شيء بتصريف الله وتدبيره، فلا أحد يملك معه شيئاً حتى يملكه هو ما يريد، فله الأمر من قبل وجود الخلق، ومن بعد وجودهم، وما بين ذلك، فلا يخرج من قبضته شيء، فإذا وقع في خلقه خير وفضل فبرحمته التي سبقت منه لهم، وإن وقع غير ذلك، فبعدله وسبب ذنوب خلقه، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وأمره تعالى غير خلقه وأفعاله، فلهذا قال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} فالتنزيل فعل جبريل، ولا يقع إلا بأمر الله - تعالى -، فأمره تعالى سابق خلقه وما يفعلونه. ذكر ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} قال: احتبس جبريل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تكلم المشركون في ذلك، واشتد ذلك على نبي الله، فأتاه جبريل، فقال: اشتد عليك احتباسنا عنك، وتكلم في ذلك المشركون، وإنما أنا عبد الله ورسوله، إذا أمرني بأمر أطعته، {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} أي: بقول ربك، {لَهُ مَا بَينَ أَيدِيِنَا وَمَا خَلفَنَا} معناه: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة؛ لأن ذلك لم يجيء [وهو   (1) ((شرح الأربعين)) (1/137-139) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 آت] ، فهو بين أيديهم، وما خلفنا من أمر الدنيا، وذلك ما قد خلفوه فمضى، فصار خلفهم بتخليفهم إياه، وما بين ذلك ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الآخرة)) (1) . وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا} أي: أنه تعالى علم كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عنه صغير أو كبير، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أكبر من ذلك ولا أصغر إلا في كتاب مبين، قد كتبه قبل وجود خلقه لا من خشية نسيان أو فوات. ووجه الاستشهاد بهذا الحديث: أن الأمر الذي قال جبريل عنه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} يدخل فيه الأمر الكوني القدري الذي سبق كل ما هو كائن، والأمر الشرعي التكليفي، ونزول جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون إلا بالخير والبركة والنصر والتأييد للمؤمنين، فهو مما سبقت به كلمته تعالى لرسوله ومن معه، والله أعلم. قال البخاري في كتابه ((خلق أفعال العباد)) : ((قال الله - عز وجل - عن جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأمرِ رَبِكَ} فبين أن التنزيل غير الأمر)) (2) . وتقدم أن أمر الله سابق لخلقه. 82 - قال: ((حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، وهو متكئ على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، فسألوه، فقام متوكئاً على العسيب، وأنا خلفه، فظننت   (1) ((تفسير الطبري)) (16/401-405) ببعض التصرف. (2) (ص183) تحقيق بدر البدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 أنه يوحى إليه، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه)) . قال ابن جرير: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يعني: أنه من الأمر الذي يعلمه الله دونكم، فلا تعلمونه، ويعلم ما هو. {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} خرج الكلام خطاباً لمن خوطب به، والمراد: جميع الخلق؛ لأن علم كل أحد سوى الله - تعالى - وإن كثر، فهو في علم الله - تعالى - قليل، والمعنى: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلاً من كثير مما يعلم الله)) (1) . قوله: ((في حرث بالمدينة)) في رواية لابن مردويه: ((في حرث للأنصار)) ، وعند مسلم: ((كان في نخل)) وكل هذه الألفاظ تؤكد أن هذه الواقعة كانت في المدينة، ومعلوم أن سورة الإسراء مكية، فإما أن يقال: إن هذه الآية مدنية، وهو الأوجه، فكثير من السور المكية يكون فيها آيات مدنية، أو يقال: إنها نزلت مرتين للتأكيد، كما قيل في الفاتحة، وغيرها. وأما كونه - صلى الله عليه وسلم -لم يجبهم بها من أول وهلة، فلعله كان ينتظر الأمر يأتيه من الله، إما بزيادة أو بغير ذلك. والله أعلم. قوله: ((وهو متكئ على عسيب)) أي: معتمد عليه وهو يمشي، والعسيب بوزن عظيم، هو جريد النخل، بمنزلة الغصن من الشجرة، ويسمى عسيباً إذا كان فيه خوصة، فإذا أزيل فهو جريدة. قوله: ((فظننت أنه يوحى إليه)) ، في الرواية الأخرى: ((فعلمت أنه يوحى   (1) ((تفسير الطبري)) (15/157) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 إليه)) وقد يستعمل الظن بمعنى العلم. قال ابن كثير: ((قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم، ولهذا قال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء - تبارك وتعالى -. والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه - تعالى -. وقد اختلف في الروح المسؤول عنها هنا، فقيل، المراد: أرواح بني آدم، قال العوفي: عن ابن عباس في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية، وذلك أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرنا عن الروح، وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ ولم يكن نزل فيه شيء فلم يحر إليهم جواباً، فأتاه جبريل، فقال له: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقالوا: من جاءك بهذا؟ فقال: ((جاءني به جبريل من عند الله)) . وقيل: المراد هنا: جبريل - عليه السلام -، قاله قتادة. وقيل: المراد: ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها، قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس: قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} يقول: الروح: ملك عظيم. وقيل: المراد طائفة من الملائكة)) (1) .   (1) ((تفسير ابن كثير)) (5/112-113) طبعة الشعب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وقال الحافظ: ((قال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد، وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه. وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح. وقال الرازي: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه. وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن ماهيته، أو عن صفته، أو كيفية تعلقه بالبدن، أو غير ذلك، وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء)) (1) . وقال ابن القيم: ((في المراد بالروح في هذه الآية خلاف بين السلف والخلف. وأكثر السلف، بل كلهم، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم، بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة، وهو ملك عظيم)) (2) . قال الحافظ: ((الراجح أنها روح الإنسان)) . وهذا هو الظاهر، أن المراد: الروح الذي تحصل به الحياة، وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين من المتأخرين وشراح الحديث. وأما قول ابن القيم - رحمه الله -: ((ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف   (1) ((الفتح)) (8/402) بتصرف. (2) ((الروح)) (ص237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 إلا بالوحي، وذلك هو الروح الذي عند الله، لا يعلمها الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب، وقد تكلم فيها طوائف من الناس، من أهل الملل وغيرهم، فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة)) (1) . فيقال: بل الروح من الغيب الذي لا يعلمه الناس، فإن هذه الروح التي في بني آدم وإن تكلم فيها طوائف من الناس فهي مجهولة الحقيقة، لا يعلمها إلا الله، والذين تكلموا فيها تكلموا بالظنون، ولم يصلوا إلى معرفة شيء من حقيقتها. ((قال بعض السلف في تفسيرها: جرى بأمر الله في أجساد الخلق، وبقدرته استقر، وهذا بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان)) (2) . ((قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} من المعلوم قطعاً أنه ليس المراد بالأمر ها هنا الطلب الذي هو أحد أنواع الكلام، فيكون المعنى: إن الروح كلامه الذي يأمر به، بل المراد بالأمر هنا: المأمور، وهو عرف مستعمل في لغة العرب، وفي القرآن منه كثير، كقوله تعالى: {أَتَى أَمرُ اللهِ فَلاَ تَستَعجِلُوهُ} أي: مأموره الذين قدره وقضاه، وقال له: كن، فيكون، وقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ} (3) ، أي: مأموره الذي أمر به، من إهلاكهم)) (4) . ومقصود البخاري من الحديث: قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يعني: أنها كانت ووجدت بأمر الله، فأمر الله ليس هو الروح، وإنما وجدت الروح   (1) ((الروح)) (ص237) . (2) المرجع السابق. (3) الآية 101 من سورة هود. (4) المرجع المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 بأمره، وهو سابق لما وجد به. 83 - قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته، بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر أو غنيمة)) . ((تكفل)) معناه: ضمن له حصول ما ذكره، فلا يمكن فواته؛ لأن الله - تعالى - إذا ضمن شيئاً فلا بد من حصوله لمن ضمنه له. وفي رواية: بدل ((تكفل)) : ((انتدب الله لمن خرج)) ومعناه: سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل: أجاب إلى المراد، ففي الصحاح: ندبت فلاناً فانتدب، أي: أجاب إليه، وقيل: معناه: تكفل بالمطلوب، ويدل عليه رواية ((تكفل)) (1) . قلت: المعنى الأخير هو الصواب، والمعنيان الأولان يدخلان فيه، وقد جاء في رواية مسلم ((تضمن الله لمن خرج في سبيله)) ، والمعنى واحد. وهذا من باب التأكيد، وإلا فوعد الله لابد من وقوعه، فإن الله لا يخلف وعده، والتكفل: وعد وزيادة تأكيد لوقوعه بالضمان. قوله: ((لمن جاهد في سبيله)) الجهاد، والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، فهو بذل للجهد بالنفس والمال. قال الراغب: ((الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله - تعالى - {وَجَاهِدُوا   (1) ((الفتح)) (1/93) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (1) {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} (2) و {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} ِ (3) . والمجاهدة تكون باليد، واللسان)) (4) وقال الحافظ: ((الجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة، يقال: جهدت جهاداً: بلغت المشقة. وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس، والشيطان، والفساق. فأما مجاهدة النفس؛ فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان؛ فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار؛ فيقع باليد، والمال، واللسان، والقلب. وأما مجاهدة الفساق؛ فباليد، ثم اللسان، ثم القلب)) (5) . ((سبيل الله)) : طريقه الذي شرعه لعباده المؤمنين، وهو دينه وشرعه. قوله: ((لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته)) أي: ليس له أي دافع غير ذلك، بل الجهاد في سبيل الله، والإيمان بوعده للمجاهدين في سبيله هو الحامل له على الخروج، وهذا هو الإخلاص لله - تعالى - في الجهاد،   (1) الآية 78 من سورة الحج. (2) الآية 41 من سورة التوبة. (3) الآية 72 من سورة الأنفال. (4) ((المفردات)) (ص101) . (5) ((الفتح)) (6/3) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 والإخلاص هو الذي يجعل العمل القليل كثيراً عظيماً، مع أنه شرط في قبول العمل. والتصديق بكلمات الله - تعالى - يشمل الإيمان بكلماته الأمرية الشرعية والعمل بها، والإيمان بكلماته الكونية القدرية، وهي التي سبقت بتقدير الأشياء كلها قبل وجودها. وهذه الجملة هي المقصودة من الحديث هنا؛ لهذا المعنى المذكور. قوله: ((بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة)) هذا هو الذي كفله الله لمن يخرج مجاهداً في سبيله. وسبيل الله - تعالى - هو الجهاد لإعلاء كلمته التي هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أي: عبادة الله وحده، ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يحكم إلا بشرعه، ولا يتعبد إلا بما جاء به رسوله. فهذا هو غاية المجاهد في سبيل الله، فمن خرج مجاهداً لهذا الغرض، فإن قتل أو مات في مخرجه ذلك فهو في الجنة، وإن فاته ذلك فلا بد أن يصل إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من الأجر، والغنيمة، فهو متحصل على إحدى الحسنيين على كل تقدير، وهذا هو الربح. **** 84- ((حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي موسى، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) . الحمية: مأخوذة من الحم: وهو الحرارة المتولدة من الجواهر المتوقدة، كالنار والشمس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وعبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية. وإذا كانت من أجل الباطل، ومدافعة الحق، فهي حمية الجاهلية. والمقصود بالحمية هنا: القتال لأجل القومية، أو الدنيا من أرض أو ملك أو غير ذلك، لا لأجل إعلاء دين الله - تعالى -. وأما الشجاعة: فهي الجرأة والإقدام على العدو بقوة، ودون تهيب، وهي من الصفات المحمودة، إذا كانت في الحق، وهي من المفاخر التي يفتخر بها الناس، فقد يقدم المرء على القتال لأجل إظهار شجاعته وحبه للقتال فقط. وأما الرياء، فهو: مراءاة الناس للأعمال الحسنة، حتى يثنى عليه أو يحبوه ونحو ذلك، وهذا كله من الشرك، فقد يكون شركاً أكبر، وقد يكون أصغر، على حسب الدافع وما يقوم بالنفس. وقوله: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) جواب جامع شامل لما ذكر في السؤال وغيره من الأغراض والدوافع التي قد تدفع الإنسان إلى القتال، فمن كان قصده في قتاله: رفع دين الله وإعزازه، وأن لا يعبد معه غيره، ولا يحكم إلا بشرعه، فهو في سبيل الله، وإلا فليس في سبيل الله. والمقصود من الحديث قوله: ((لتكون كلمة الله هي العليا)) والذي يقاتل لذلك هو الذي سبقت له كلمة الله الكونية أنه من المنصورين؛ لأنه من أتباع المرسلين، فهو منهم في هذا الحكم، وهذا وجه الشاهد، والله أعلم. **** قال: ((باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ} . قال ابن كثير: ((أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء، وإنما إذا أمر به مرة واحدة كان من غير تأكيد فيما يأمر به، فإنه تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 لا يمانع ولا يخالف)) (1) . قال ابن بطال: ((غرضه الرد على المعتزلة، في زعمهم أن أمر الله مخلوق، فبين أن الأمر هو قوله للشيء ((كن)) فيكون بأمره له، وأن أمره وقوله بمعنى واحد، وأنه يقول: ((كن)) حقيقة، وأن الأمر غير الخلق، لعطفه عليه بالواو)) (2) . وقال الحافظ: ((قال ابن أبي حاتم في كتاب ((الرد على الجهمية)) : حدثنا أبي قال: قال أحمد بن حنبل: دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة ((أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب)) الحديث، وإنما نطق القلم بكلامه؛ لقوله: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فكلام الله سابق على أول خلقه، فهو غير مخلوق. وعن الربيع بن سليمان، سمعت البويطي يقول: خلق الله الخلق بقوله: ((كن)) فلو كان ((كن)) مخلوقاً، لكان قد خلق الخلق بمخلوق، وليس كذلك)) (3) . وقال البخاري: ((قال سفيان: إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه يقول للشيء: ((كن)) فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله)) (4) . وقال: ((وقيل لأبي عبيد: إن المريسي سئل عن ابتداء خلق الأشياء، وعن قول الله - عز وجل -: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن   (1) ((تفسير ابن كثير)) ملخصاً (4/490-491) . (2) من ((الفتح)) (13/443) . (3) ((الفتح)) (13/444) . (4) خلق أفعال العباد)) (ص34.) (4) وقال ابن عطية: ((من الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله - تعالى - ذكر القرآن في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعاً، ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك، في ثمانية عشر موضعاً، كلها نصت على خلقه، وقد افترق ذكرهما على هذا النحو في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 فَيَكُونُ} فقال: كله صلة (1) ، فمعنى قوله: {أَن نَّقُولَ} صلة، كقوله: قالت السماء فأمطرت، وكقوله: قال الجدار فمال، قال الله - تعالى -: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} (2) ، والجدار لا إرادة له، فمعنى قوله: إذا أردناه: كوناه، فكان. لم يكن عند المريسي جواب أكثر من هذا، يعني: أن الله - تعالى - لا يتكلم. قال أبو عبيد، القاسم بن سلام: أما تشبيه قول الله - تعالى -: {إِذَا أَرَدنَاهُ} ، بقوله: قالت السماء فأمطرت، أو: قال الجدار فمال. فإنه لا يشبهه، وهذه أغلوطة أدخلها؛ لأنك إذا قلت: قالت السماء، ثم سكت، لم يدر ما معنى ((قالت)) ، حتى تقول: فأمطرت. وكذلك إذا قلت: أراد الجدار، ثم لم تبين ما معنى: أراد، لم يدر ما معناه، وإذا قلت: ((قال الله)) اكتفيت بقوله ((قال)) . فـ ((قال)) كافٍ، لا يحتاج إلى شيء يستدل به على ((قال)) ، كما احتجت، ((إذا قال الجدار فمال)) ، وإلا لم يكن لقال الجدار معنى. ومن قال هذا فليس شيء من الكفر إلا وهو دونه. ومن قال هذا، فقد قال على الله ما لم يقله اليهود، والنصارى، ومذهبه التعطيل للخالق)) (3) . يعني: أن القول إذا أسند إلى ما لا يعقل فلا بد أن يقيد بالفعل الذي يصدر من ذلك المسند إليه؛ لأن القول عبارة عن ذلك الفعل.   (1) يعني: زائداً ليس له معنى. (2) الآية 77 من سورة الكهف. (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص35) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فالمراد بقوله: قال الجدار فمال: الإخبار على ميل الجدار، وقوله حسب ما يليق به، أما إذا أسند القول إلى من يتكلم حقيقة فلا يحتاج إلى أي قيد، بل إذا قلت: قال أبو بكر، فهم السامع أنه نطق بكلام ينتظر أن نذكره له. وأراد البخاري أن يبين أن القول غير الشيء الذي أراد الله إيجاده، فالقول صفة لله - تعالى -، وبه يوجد الأشياء التي يريد وجودها، فإذا قال لها: ((كوني)) كانت بلا مهلة ولا امتناع، والقول والأمر سواء. *** 85 - قال: ((حدثنا شهاب بن عباد، حدثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس، حتى يأتيهم أمر الله)) . في رواية مسلم عن المغيرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) (1) . وفيه عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) (2) . وفيه أيضاً من حديث جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة)) (3) . قوله: ((لا يزال من أمتي قوم ظاهرين)) أي: يستمرون في الظهور على   (1) ((صحيح مسلم)) (3/1523) رقم (1921) . (2) المرجع المذكور رقم (1920) . (3) ((صحيح مسلم)) (3/1524) رقم (1923) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الناس، يعني: أنهم يكونون على الحق منصورين ظاهرين على عدوهم. قوله: ((حتى يأتيهم أمر الله)) أي: حكمه وقضاؤه، إما بقيام الساعة كما في حديث جابر: ((إلى يوم القيامة)) ، أو بالريح التي يموتون منها، كما جاء في الحديث. قال الحافظ: ((أي: غالبون من خالفهم، أو المراد بالظهور: أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أولى؛ لما في مسلم: ((لن يبرح هذا الدين قائماً تقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة)) ، وفيه أيضاً من حديث عقبة بن عامر: ((لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة)) (1) ، والمراد بالساعة: الريح التي تقبض روح كل مؤمن، وذلك قبيل الساعة، فلا يبقى إلا شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة، وهذا معنى الذي في مسلم: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)) . وهذه الطائفة هم أتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البخاري - رحمه الله -: ((هؤلاء هم أهل العلم)) (2) أي: العلم الشرعي، الذين علموا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعملوا به. وقال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث: ((سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث)) (3) . وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله، محمد بن علي بن عبد الحميد الأدمي بمكة يقول:   (1) ((صحيح مسلم)) (3/1524 - 1525) رقم (1922، 1924) . (2) انظر ((الفتح)) (13/393) . (3) انظر ((سنن الترمذي)) (4/504 - 505) رقم (2229) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 سمعت موسى بن هارون، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن معنى هذا الحديث، فقال: ((إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم)) وهذا إسناد صحيح، قال الحاكم: ((فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر، أن الطائفة المنصورة، التي يرفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة، هم أصحاب الحديث)) (1) . والمقصود من هذا الحديث قوله: ((حتى يأتيهم أمر الله)) وهو أمره الكوني القدري الذي قضاه، وكتبه قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فأوحاه الله إلى رسوله ليعلم أمته به فيؤمنوا به، ويصدقوه، فإذا وصل وقته قال الله - تعالى -: كن، فيكون كما أراد. ومراد البخاري أن أمر الله من صفاته، فهو غير المخلوق، وغير المأمور، وهو مرادف للقول. ****** 86 - قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جابر، حدثني عمير بن هانئ، أنه سمع معاوية، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من كذبهم، ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) . فقال مالك بن يخامر: سمعت معاذاً يقول: وهم بالشام، فقال معاوية: ((هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم بالشام)) . ((الأمة)) تطلق على الجماعة من الناس، كما قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا   (1) ((علوم الحديث)) (ص3) . (2) الآية 23 من سورة القصص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً (1) } . فالأمة: كل جماعة يجمعهم أمر من الأمور؛ إما دين، أو زمان، أو مكان. ويراد بها الملة والدين، كما في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} (2) . ويراد بها الطائفة من الزمان، كما في قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعدَ أُمَّةٍ} (3) ، أي: بعد حين. ويراد بها: الإمام القدوة المتبع، كما في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا} (4) . والمقصود أن جماعة من هذه الأمة تبقى ظاهرة على دين الله، منصورة إلى قيام الساعة، وهذا من فضل الله - تعالى - أن جعل الحق باقياً، لا يذهب ولا يضمحل وإن كثر محاربوه وأعداؤه، كما هو الواقع، والحمد لله على ذلك. قوله: ((لا يضرهم من كذبهم، ولا من خذلهم)) هذا من نصر الله - تعالى -، وتأييده لهذا الدين، ومن آياته: بقاء هذه الأمة ظاهرة، منصورة على عدوها، مع كثرة الأعداء، ومحارتهم لها بأنواع الأسلحة المادية والمعنوية، ومع خذلان من هم على دينها من المسلمين. فقوله: ((من كذبهم)) يقصد بهم: الكفار من جميع الأجناس، من ملاحدة، ويهود، ونصارى، ومشركين، ومرتدين، وغيرهم. وقوله: ((ولا من خذلهم)) يقصد بهم: من قعد عن نصرتهم ممن هو على   (1) الآية 36 من سورة النحل. (2) الآية 23 من سورة الزخرف. (3) الآية 45 من سورة الزخرف. (4) الآية 120 من سورة النحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 دينهم ممن آثر الحياة الدنيا، وركن إلى الدعة والراحة. قال النووي: ((المراد بقوله: ((حتى يأتي أمر الله)) : الريح التي تأخذ كل مؤمن ومؤمنة، ورواية ((حتى تقوم الساعة)) أو ((إلى يوم القيامة)) ، يعني: قربها، وهو خروج تلك الريح. وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم. وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري من هم. وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السُّنَّة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض. وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة، فإن هذا الوصف ما زال - بحمد الله تعالى - من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور، وفيه دليل لكون الإجماع حجة)) (1) . وروى مسلم في ((الصحيح)) من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق، حتى تقوم الساعة)) (2) . قال النووي: ((قال علي بن المديني: هم العرب، والمراد بالغرب: الدلو   (1) ((شرح مسلم)) (13/66-67) . (2) ((مسلم)) (3/1525) رقم (1925) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الكبيرة، وهي خاصة بهم. وقال آخرون: المراد الغرب من الأرض. وقال القاضي عياض: المراد بأهل الغرب: أهل الشدة والجلد)) (1) . قال الحافظ: ((ذكر يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني، قال: المراد بالغرب: الدلو، أي: العرب؛ لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم. لكن في حديث معاذ: ((وهم أهل الشام)) ، فالظاهر أن المراد بالغرب: البلد؛ لأن الشام غرب الحجاز، كذا قال، وليس بواضح (2) . ووقع في بعض طرق الحديث ((المغرب)) وهو يرد التأويل، ولكن يحتمل أن يكون بعض الرواة نقله بالمعنى الذي فهمه. وقيل: هم أهل القوة، والاجتهاد. ووقع في حديث أبي أمامة، عند أحمد أنهم بيت المقدس (3) ، وعند الطبراني ونحوه، وله أيضاً في الأوسط، عن أبي هريرة: ((يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس، وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة)) . قلت: ويمكن الجمع بأن المراد: قوم يكونون ببيت المقدس، وهي: من الشام، ويسقون بالغرب، وتكون لهم قوة في جهاد العدو)) . ثم ذكر كلام النووي المتقدم، ثم قال: ((ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل   (1) ((الفتح)) (13/295) ملخصاً. (2) يعني: أن الشام ليست غرب الحجاز، وإنما هي شماله كما هو معلوم. (3) في ((المسند)) عن أبي أماةه، قال: لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بالشام)) ((المسند)) (5/249) ، فلعل الحافظ لديه نسخة فيها ما ليس في المطبوعة، فإن فيها سقطاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم، أولا، فأولاً، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله)) (1) . وقوله: ((فإذا انقرضوا جاء أمر الله)) هذا خلاف ظاهر الحديث، فإن أمر الله يأتي عليهم. والمقصود من الحديث قوله: ((حتى يأتي أمر الله)) أي: الأمر الذي يكون بقوله: ((كن)) فأمره هنا مأموره، الصادر عن قوله، فقوله الذي هو ((كن)) يصدر عنه ذلك الأمر الآتي، والفرق بينهما واضح، فإن قوله صفة له لا يدخل في المخلوقات، وأما مأموره كالريح التي تقبض كل مؤمن ومؤمنة، والساعة التي هي النفخ في الصور، فإن ذلك مأموره، والله أعلم. ***** 87 - قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، حدثنا نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على مسيلمة في أصحابه، فقال: ((لو   (1) ((الفتح)) (13/295) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله)) . ذكر هذا الحديث في علامات النبوة، وفي المغازي، بأبسط مما ها هنا، ولفظه: ((عن ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: ((لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أُريت، وهذا ثابت يجيبك عني)) ثم انصرف عنه. قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإني لأراك الذي أُريت فيه ما أُريت)) فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحى إليَّ في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة)) (1) . وهذا كان في آخر حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان في سنة عشر من الهجرة، وكان مسيلمة مع وفد قومه بني حنيفة. قال الواقدي: كانوا بضعة عشر رجلاً، وكان معهم الرحال بن عنفوة، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، وكان في رحالهم، فلما أسلموا وأعطاهم جائزتهم، ذكروا له أن مسيلمة في رحالهم، فقال: ((أما إنه ليس بشَرَّكُمْ مكاناً)) يعني: لكونه بقي يرصد رحالهم، ويخدمهم في ذلك. فأخبروه بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتعلق بهذه الكلمة، وقال: إنما قال ذلك؛ لأنه عرف أن الأمر لي من بعده. واشتدت فتنته لما شهد له الرحال، بأنه شريك في النبوة، وقد كان تعلم شيئاً من القرآن، فكان يلقي على مسيلمة مما يحفظه من القرآن، فيدعي مسيلمة أنه أوحي إليه، فعظمت بذلك فتنته)) (2) . هذا خلاصة ما ذكره المؤرخون، عن ابن إسحاق وغيره. قال الحافظ: ((وسياق ما ذكره البخاري يخالف ما ذكره ابن إسحاق:   (1) ((البخاري)) (5/140) . (2) ((البداية والنهاية)) (5/59) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 أنه قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه له إلى آخر ما ذكره، وهذا - مع شذوذه - ضعيف السند؛ لانقطاعه. وأمر مسيلمة كان عند قومه أكبر من ذلك، فقد كان يقال له: رحمان اليمامة؛ لعظم قدره عندهم. وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف مع قوله - في هذا الحديث الصحيح - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمع به، وخاطبه، وصرح له بحضرة قومه أنه لو سأله قطعة الجريد التي كانت بيده ما أعطاه إياها؟ ويحتمل أن مسيلمة قدم مرتين، الأولى كان تابعاً، والرئيس غيره، ولهذا أقام في رحالهم يحفظها، ومرة متبوعاً، وفيها خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو القصة واحدة، وكان تخلفه في رحلهم أنفةً منه واستكباراً)) (1) ، والظاهر أنها مرة واحدة، والمعتمد ما ثبت في ((الصحيحين)) ، كما ذكر في هذا الحديث. ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قصده الرئاسة والعلو، وأنه ليس أهلاً لما يطمع فيه، وأن ذلك يخالف ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، فلم يأت لتأسيس حكم يورث من بعده، وإنما جاء بالنبوة، كما أخبر أن خلافة النبوة بعده تكون ثلاثون سنة ثم يكون ملكاً)) (2) . ولهذا قال له: لو سألتني هذه القطعة من الجريد التي لا تساوي شيئاً لم أعطكها؛ لأنها خير منك، ولأنك ليس لك من الأمر شيء ولا تستحق، وما أنت بأهل لذلك. قوله: (ولن تعدو أمر الله فيك)) يعني: حكمه وقضاءه، من شقاوتك التي حكم بها عليك قبل وجودك، وأمر الله هنا هو أمره الكوني القدري   (1) ((الفتح)) (8/89-90) . (2) انظر ((المسند)) (5/44) ، و ((سنن أبي داود)) رقم (4635) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وهذه الجملة هي المقصود من الحديث كما مر التنبيه على ذلك. قوله: ((لئن أدبرت ليعقرنك الله)) أي: أعرضت عن الحق الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنك لا تعجز الله، فسوف يأخذك أخذ عزيز مقتدر، وقد فعل، فقتل شر قتلة، فقطع دابر القوم الذين لا يؤمنون، والحمد لله رب العالمين. **** 88 - قال: ((حدثنا موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، عن ابن مسعود، قال: بينا أنا أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض حرث المدينة، وهو يتوكأ على عسيب معه، فمررنا على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه؛ أن يجيء فيه بشيء تكرهونه. فقال بعضهم: لنسألنه، فقام إليه رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلمت أنه يوحى إليه. فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قال الأعمش: ((هكذا في قراءتنا)) . تقدم أن هذه الواقعة كانت في المدينة، وفي هذه الرواية نص على ذلك، وفي هذا دليل على أن اليهود يعلمون أنه نبي؛ لعلمهم أن الروح لا يعلم حقيقتها إلا الله، ولأنهم قالوا: لا تسألوه أن يجيء فيه بشيء تكرهونه، وهذا لا يأتي إلا بالوحي، والذي منعهم من متابعته: الحسد والبغي والكبر والعناد، وقد تقدم شرح هذا الحديث. والمقصود هنا قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: مأموره الذي قال له: كن، فيكون، فهو تعالى أوجد الأرواح بقوله، فقوله غير الذي أوجده به، كما تقدم إيضاح ذلك. ***** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 قال: ((باب قول الله - تعالى -: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) . {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (2) . {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) . سخر: ذَلَّلَ)) . هذه ثلاث آيات، أما الأولى والثانية فمعناهما واحد. قال الحافظ: ((جاء في سبب نزولها ماأخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن ابن عباس، في قصة سؤال اليهود عن الروح، ونزول قوله تعالى -: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} . قالوا: كيف وقد أوتينا التوراة؟ فنزلت: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية. وأخرج عبد الرزاق في تفسيره من طريق أبي الجوزاء، قال لو كان كل شجرة في الأرض أقلاماً، والبحر مداد، لنفد الماء، وتكسرت الأقلام قبل أن تنفد كلمات الله.   (1) الآية 109 من سورة الكهف. (2) الآية 27 من سورة لقمان. (3) الآية 54 من سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وعن معمر، عن قتادة، أن المشركين قالوا في القرآن: يوشك أن ينفد، فنزلت)) (1) . وقال ابن جرير: ((يقول - عز ذكره - لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم -: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} للقلم الذي يكتب به كلمات ربي، لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً. يقول: ولو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مدداً، من قولك: جئتك مدداً لك)) (2) . وقال في تفسير آية لقمان: ((يقول تعالى ذكره: لو أن شجر الأرض كلها، بريت أقلاماً: والبحر يمده)) يقول: والبحر له مداد، والهاء في قوله ((يمده)) عائدة على البحر، وقوله: ((من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله)) في هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه عنه، وهو يكتب كلامه بتلك الأقلام، وبذلك المداد، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفد ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله)) (3) . وقال ابن كثير: ((يقول تعالى - مخبراً عن عظمته، وكبريائه، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد -: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً، ومده سبعة أبحر معه، فكتب بها كلمات الله، لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مدداً، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر، ولا أن هناك سبعة أبحر تحيط بالأرض. فليس المراد بقوله: ((بمثله)) آخر فقط، بل بمثله، ثم بمثله، ثم بمثله، ثم   (1) ((الفتح)) (13/445) . (2) ((تفسير الطبري)) (16/39) . (3) المصدر السابق (21/80-81) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 هلم جرّاً؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته)) (1) . ففي هاتين الآيتين أكبر دليل على أن كلام الله غير مخلوق، وأنه من صفاته، إذ المخلوق لا بد أن يكون له نهاية ونفاد، فإنه مسبوق بالعدم فلا بد أن يلحقه العدم. أما كلام الله - تعالى - فلا نهاية له، ولا نفاد، وقد قرب تعالى إلى أفهام المخاطبين بما ضرب من المثل بما ذكر من كون البحار كلها ويزاد معها مثلها مرات كثيرة، وكون جميع ما وجد على وجه الأرض من عود أقلاماً يكتب بها كلامه تعالى لنفد البحر، وأمسحت الأقلام، وكلمات الله كما هي لم تنقص. وليس معنى قوله: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أن كلمات الله لها نهاية، وأنها يمكن أن تنفد، بل المعنى أنها لا نهاية لها أبداً؛ لأنها من صفاته تعالى. وليس هذا وصف المخلوق، وهذا وجه استدلال البخاري بهاتين الآيتين. ومراده الرد على القائلين بخلق كلم الله - تعالى -. كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} الآية. ففيها يعلم تعالى عن عباده بأنه ربهم ومالكهم، المتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يصلح لهم حياتهم ويربيهم بنعمه الظاهرة والباطنة. وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وقد جاء بيانها في السنة أن أولها الأحد وآخرها يوم الجمعة، وأنه بعد خلقه السماوات والأرض استوى على عرشه، وهو السرير العظيم، وهو سقف المخلوقات، وقد تقدم الكلام فيه.   (1) ((تفسير ابن كثير)) (6/351) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ويعلمهم - تعال - أنه يدخل الليل في النهار والنهار في الليل، أي يجعل أول هذا متصلاً بآخر هذا. وأما قوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل ِ} (1) فكل واحد يطلب الثاني، أي: يتبعه ((حثيثاً)) أي: سريعاً. ويعلمهم أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، أي: منقادة طائعة لأمره، فجميع الكون بما فيه يسير حسب مشيئته، فالخلق والأمر له وحده. وفسر البخاري كلمة ((مسخر)) بأنه مذلل، أي: هي خاضعة له منقادة لأمره، وهو تعالى لا يمتنع عليه شيء فكل شيء من حس وجامد في الأرض والسماوات وما بينهما مسخر لأمره الكوني القدري. {تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ} أي: تعاظم وتقدس عن قول الظالمين الذين لم يقدروه حق قدره، و ((العالمين)) جميع الخلق، فكل ما سواه تعالى عالم، وهو ربهم الذي يتصرف فيهم كيف يشاء. والمقصود من الآية قوله: ((ألا له الخلق والأمر)) فهو دليل على أن الخلق غير الأمر، لعطف الأمر على الخلق؛ لأن العطف كما هو معلوم يقتضي المغايرة، وبهذه الآية استدل الأئمة على أن الكلام غير الخلق، وبها وأمثالها ردوا على المعتزلة الذين قالوا بخلق الكلام. قال البخاري: ((والقرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأّرضَ فيِ سِتَّةِ أَيّامِ ثُمَّ استَوَىَ عَلَى العَرشِ يُغشِى الَّليلَ النَّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثَا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مَسَخَّراتِ بأَمرِهِ} فبين أن الخلائق، والطلب الحثيث، والمسخرات، بأمره، ثم شرح فقال: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} .   (1) الآية 6 من سورة الحديد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 قال ابن عيينة: قد بين الله الخلق من الأمر بقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ} . فالخلق بأمره، كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ (1) } ، وكقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) ، وكقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (3) ولم يقل: بخلقه. حدثنا أصبغ، أخبرني عبد الله بن وهب، أخبرني يحيى بن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قلت لعبد الله بن عباس: ما القدر؟ قال: يا مجاهد، أين قوله: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأمرُ} (4) . **** 89- قال: ((حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته، أن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه، بما نال من أجر أو غنيمة)) . تقدم هذا الحديث في باب قوله تعالى: {وَلَقَد سَبَقَت كَلمِتُنَا لِعِبَادِنَا المُرسَليِنَ} وتقدم شرحه هناك. والمقصود منه هنا: قوله: ((وتصديق كلمته)) ، إذ هي غير الجهاد في سبيله، وغير التصديق، سواء قيل: هي كلمته الدينية الشرعية، أو الكونية القدرية، فكلمته من صفاته كما تقدم، وهي غير خلقه، هذا ما أراده البخاري - رحمه الله - من الحديث، والله أعلم.   (1) الآية 4 من سورة الروم. (2) الآية 82 من سورة يس. (3) الآية 25 من سورة الروم. (4) ((خلق أفعال العباد)) (ص45) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 قال البخاري: قال سفيان في ((تفسيره)) : ((إن كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، وكلامه أعظم من خلقه؛ لأنه إنما يقول للشيء: كن فيكون، فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق، والقرآن كلام الله)) (1) . ****** قال: ((باب في المشيئة والإرادة)) . أي: مشيئة الله وإرادته، وهذا مما يتعلق بربوبيته - تعالى -، وهو رب كل شيء وخالقه ومالكه، يدخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، مثل أفعال العباد، فإنه - تعالى - خالق العبد وفعله، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان ذلك. وهو سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، ولا يمتنع عليه شيء يريده، بل هو القادر على كل شيء. كما أنه سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد ذكر الله - تعالى - مشيئته عامة في القرآن، في ما يقرب من أربع مِائةِ موضع. كقوله تعالى - {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (3) ، وقوله: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (4) وقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (5) . وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء   (1) ((خلق أفعال العباد)) (34) تحقيق عميرة. (2) الآية 35 من سورة الأنعام. (3) الآية 48 من سورة المائدة. (4) الآية 149 من سورة الأنعام. (5) الآية 99 من سورة يونس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} (1) ، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) ، وقوله: {مَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (3) ، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (4) ، وقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (5) ففي هذه الآيات ونحوها الرد على طائفتي الضلال، نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة الله لأفعال العباد وحركاتهم، وهداهم، وضلالهم، وهذا هو مراد البخاري من هذا الباب، وسيذكر تفصيلاً لهذا الباب في الأبواب الآتية. والله – سبحانه وتعالى – علق وجود كل شيء وعدمه بمشيئته، فمرة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وأخرى يخبر أن ما لم يشأ لم يكن، ومرة يخبر أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عصي، ولو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة. فكل ما وجد من عين أو حركة، أو موت أو حياة، أو مصيبة، أو عز أو ذل، أو غير ذلك، فهو بمشيئته، وكل ما لم يوجد، ولم يقع، فهو لعدم مشيئته لوجوده، وهذا معنى كونه على كل شيء قدير، وهو حقيقة ربوبيته لكل شيء، ومعنى كونه القيوم بتدبير عباده، فلا خلق، ولا رزق، ولا عطاء، ولا منع، ولا قبض، ولا بسط، ولا ضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاء، إلا بمشيئته وتكوينه، إذ لا مالك غيره ولا رب سواه (6) .   (1) الآية 26 من سورة آل عمران. (2) الآية الأخيرة من سورة التكوير. (3) الآية 39 من سورة الأنعام. (4) الآية 13 من سورة السجدة. (5) لآية 133 من سورة النساء. (6) انظر ((شفاء العليل)) (ص44) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فمشيئته تعالى تتعلق بخلقه، وأمره الكوني والشرعي بما يحب وما يكره، كل شيء داخل تحت مشيئته، فقد شاء وجود إبليس والشياطين، والكفار والفساق، وهو يكره ذلك ويبغضه. وكذلك ما يحبه ويرضاه كوجود الرسل والصِّدِّيقين، والشهداء والصالحين والطاعات، وأمثال ذلك من امتثال أمره الديني الشرعي، فهو أيضاً بمشيئته. وأما الإرادة فقد بين الله – تعالى – أنها نوعان: أحدهما: الإرادة الكونية القدرية، وهي مرادفة للمشيئة، وهذه الإرادة تستلزم وقوع المراد ولا بد، ولا يلزم أن يكون مرادها محبوباً لله مرضياً له. بل قد يكون مكروهاً مسخوطاً له، ككفر الكافرين، ومعاصي العاصين، ووجود المفسدين. وقد يكون مرادها محبوباً مرضياً لله تعالى، كوجود إيمان المؤمنين، وطاعات الطائعين، ووجود رسل الله وعباده المخلصين، والصديقين والشهداء والصالحين. وهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (1) . قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (2) . وقوله تعالى: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} (3) ، وقوله تعالى: ... {ْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ   (1) الآية 125 من سورة الأنعام. (2) الآية 253 من سورة البقرة. (3) الآية 34 من سورة هود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (1) ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على عموم إرادته لما يشاء، وأنه لا راد لمراده تعالى، ولهذا صارت هذه الإرادة مرادفة للمشيئة، فالإرادة الكونية القدرية هي المشيئة، ولهذا لا بد أن يقع مرادها. والنوع الثاني: الإرادة الدينية الأمرية الشرعية، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) ، وقوله تعالى: {ُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه} ُ (3) . وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {26} وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا {27} يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} (4) ، وأمثال ذلك من الآيات، فهذه الإرادة يحب الله مرادها، ويأمر به ويرضاه، ولا يلزم أن يقع المراد بها إلا أن يتعلق به الإرادة الكونية. وقد أشار البخاري – رحمه الله – إلى نوعي الإرادة بالمثال، فأشار إلى الإرادة الكونية بقوله تعالى: {تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ} ، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} ، وقوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاىءٍ إِنيِ فَاعِلٌ ذَلكَ غَدًا {23} إِلاَ أَن يَشَاءَ اللهُ} ، وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} ؛ لأن الإرادة الكونية هي المشيئة العامة التي لا يخرج عنها شيء. وأشار إلى النوع الثاني من الإرادة بقوله: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ   (1) الآية 41 من سورة المائدة. (2) الآية 185 من سورة البقرة. (3) الآية 6 من سورة المائدة. (4) الآيات 6-8 من سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 بِكُمُ الْعُسْرَ} فهذه الإرادة الدينية الأمرية، التي تتضمن الأمر والمحبة والرضا، فهذا ما دلت عليه نصوص كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ومذهب أهل السُّنَّة، وبه تتفق الدلائل، وتنحل الإشكالات، وتفصيل ذلك أن يقال: الأشياء كلها لا تخرج عن أربعة أقسام: ((أحدها: ما تعلقت به الإرادتان، الكونية، والدينية، وهو ما يقع في الوجود من الأعمال الصالحة الموافقة لأمر الله وشرعه، فإن الله أرادها ديناً وشرعاً، فأمر بها، أرادها كوناً، وقدراً، فوجدت، ولولا إرادته إياها كوناً لم توجد؛ لأنه لا يوجد ما لا يريد وجوده، ولا يمتنع عليه ما يريد وجوده كما تقدم. والثاني: ما تعلقت به الإرادة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى أمره فيها الكفار، والفساق، فلم يفعلوها، فتلك الأعمال تعلقت بها الإرادة الدينية فقط؛ لأنه أمر ربها، وطلب فعلها، ولم يردها كوناً وقدراً، ولهذا تخلف وجودها، وإن كان يحب وجودها، ويرضاه، ولكن لا يلزم وجود ما يحب ويرضى. ولا يقال: هذا يخالف كونه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ لأنه تعالى يريد قدراً وكوناً ما لا يحب ويرضى، كوجود إبليس، وجنوده المفسدين في الأرض بالمعاصي والكفر والفسوق، وذلك لحِكَمٍ عظيمة يعلمها تعالى، ويُطلع على ما يشاء منها من يشاء من عباده. الثالث: ما تعلقت به الإرادة الكونية فقط، وهو ما قدره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها، كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمر بها، ولم يرضها ولم يحبها، إذ هو – تعالى – لا يأمر بالفحشاء والمنكر، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا إرادته الكونية، وقدرته، وخلقه لذلك، لما كان شيء منها، فإنه – تعالى – ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، فهذا ما لم يكن، ولن يكون، من الأفعال والأعيان)) (1) . وبهذا البيان والتفصيل تزول الإشكالات التي يوردها أصحاب الشكوك والأهواء، الذين لم يستنيروا بنور كتاب الله – تعالى-. قوله: {تُؤتِي المُلكَ مَن تَشَاءُ} يخبر تعالى أن الملك بيده، فيعطى ملك الدنيا من يشاء من عباده، وينزعه ممن يشاء، ولهذا قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) فبين أن جميع التصرف في الكون ومن فيه بيده، وأنه على كل شيء قدير. وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} (3) في هذه الآية الكريمة الرد على طائفتي الضلال، القدرية، والجبرية، حيث أثبت – تعالى – للعباد مشيئة تتعلق بأفعالهم، وأخبر أن مشيئتهم وفعلهم موقوفان على مشيئته لهم، فلا تحصل لهم المشيئة ولا الفعل حتى يشاء تعالى ذلك، وسيأتي تفصيل ذلك، وبيان بطلان قول القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم ويوجدونها استقلالاً دون مشيئة الله، وقول الجبرية الذين يجعلون العبد بمنزلة الآلة التي لا تصرف لها ولا خيار. قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} (4) . هذه الآية نزلت في عم النبي – صلى الله عليه وسلم – أبي طالب، ففي ((الصحيحين))   (1) انظر ((مجموع الفتاوى)) (8/188-189) . (2) الآية 26 من سورة آل عمران. (3) الآية 30 من سورة الإنسان، الآية 29 من سورة التكوير. (4) الآية 56 من سورة القصص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت الوفاة أبا طالب، جاءه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: ((أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب – آخر ما كلمهم -: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ((والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)) ، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ} (1) الآية، وأنزل الله في أبي طالب، وقال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ} (2) (3) . قال ابن كثير: ((يقول تعالى لرسوله – صلى الله عليه وسلم -: إنك يا محمد ((لا تهدي من أحببت)) أي: ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {ليْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (4) . وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (5) . وهذه الآية أخص من ذلك كله، فإنه قال: {إِنَّكَ لاَ تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ} ، أي: هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، وقد ثبت في ((الصحيحين)) أنها نزلت في أبي طالب)) (6) . *****   (1) الآية 113 من سورة التوبة. (2) الآية 56 من سورة القصص. (3) انظر ((البخاري)) (6/65) و ((مسلم في الإيمان)) (1/24) . (4) الآية 272 من سورة البقرة. (5) الآية 103 من سورة يوسف. (6) ((تفسير ابن كثير)) (6/257) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 90 – قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم: إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له)) . الدعاء عبادة للمدعو بالرغبة والرهبة، والذل والاستكانة والافتقار، ولهذا صار صرفه لغير الله شركاً أكبر، لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. والله جل وعلا هو رب الخلق وإلههم، خلقهم وتعبدهم، وجعل مصيرهم إليه، وهو يملك كل شيء، حتى أفعالهم الاختيارية لا يمكن أن تقع إلا بمشيئته. ويملك هداية قلوبهم وإزاغتها، وهو الذي يحبب الإيمان إلى من يشاء، ويكرهه إلى من يشاء، ويكره الكفر والفسوق والعصيان إلى من يشاء، ويحببه إلى من يشاء، وبهذا يعلم شدة حاجة الإنسان إلى دعاء الله – تعالى – بصدق وإلحاح، وعزم قوي، ورغبة شديدة؛ لأنه فقير فقراً ذاتياً لا ينفك عنه لحظة واحدة إلى ربه، ولا خلاص له من العذاب السرمدي إلا إذا منّ الله عليه وتفضل بهدايته، لذلك وجب أن لا يعلق الدعاء على مشيئته – تعالى -، فهذه علة النهي، والعلة الثانية ما ذكره – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((فإنه لا مستكره له)) فإن تعليق الدعاء بالمشيئة يشعر بأن الله – تعالى – يعطي ما لا يريد، كما يحصل لابن آدم، وهذا لا يجوز اعتقاده في الله. والمقصود أنه يحرم تعليق الدعاء بالمشيئة لعلتين: إحداهما: إشعار ذلك باستغناء الداعي عما يدعو، وهو خلاف الواقع، وخلاف العبودية الواجبة على العبد. والثانية: إشعار ذلك بأن الله قد يعطي ما يكره عطاءه، فيجب على العبد أن يدعو ربه بعزم لا تردد فيه، وبرغبة وإلحاح وإظهار الافتقار والفاقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي هريرة: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما يشاء، لا مُكْرِه له)) . وفي رواية: ((ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) . قال النووي: ((قال العلماء: عزم المسألة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئته ونحوها)) . وقيل: هو حسن الظن بالله – تعالى – في الإجابة. قال العلماء: سبب كراهته: أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه، والله – تعالى – منزه عن ذلك، وقيل: لأن في هذا صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه)) (1) . وكلا المعنيين مشعر به الحديث، والظاهر منه تحريم ذلك، فالحديث ظاهر فيه، ولا صارف له عنه، والله أعلم. ***** 91 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، ح. وحدثنا إسماعيل، حدثني أخي عبد الحميد، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين أن حسين بن علي – عليهما السلام – أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طرقه وفاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة، فقال لهم: ((ألا تصلون؟)) قال علي:   (1) ((شرح النووي لمسلم)) (17/17) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه، ويقول: {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلاَ} . علي بن أبي طالب بن هاشم بن عبد مناف: ابن عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، كان من السابقين إلى الإسلام، وعمره لم يجاوز العشر، وكان في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، شهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سائر مشاهده مع الكفار ما عدا تبوك، خلفه ليقوم بمصالح أهله، ولما قال المنافقون: إنه استثقله لحق به، فقال له: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ أنه لا نبي بعدي)) . هلك فيه طوائف من الرافضة؛ غلوّاً فيه، بين قائل بألوهيته، وقائل بأنه وصي معصوم. قتل سنة أربعين في رمضان، رضي الله عنه وعن سائر صحابة النبي – صلى الله عليه وسلم - (1) . ((طرقه)) : أتاه ليلاً، وكل آت ليلاً فهو طارق، وقد يطلق على من يأتي نهاراً، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((وأعوذ بك من طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير)) (2) ، ولهذا قال: ((طرقه وفاطمة بنت رسول الله)) وهي زوجه؛ لأنهما كانا نائمين. ((فقال لهم: ألا تصلون؟)) الخطاب لعلي وفاطمة، وقد جمع الضمير العائد إليهما في قوله لهم: ((ألا تصلون؟)) ، وهو سائغ في اللغة.   (1) انظر ((الرياض المستطابة)) (163) ، ((أسد الغابة)) (4/91) ، ((الإصابة)) (2/105) ، ((تاريخ بغداد)) (1/133) ، ((تاريخ الخلفاء)) (166) ، ((تذكرة الحفاظ)) (1/10) ، ((طبقات ابن سعد)) (3/11) . (2) ((مجموع الفتاوى)) (8/244) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ((ألا تصلون)) عرض عليهما، يدل على أن الأمر غير واجب، وإنما هو التماس يدل على الاستحباب. ((فقلت: يا رسول الله إنما نفوسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا)) إلى آخره. هذا هو محل الشاهد من الحديث، وأراد بيان أنه لا يجوز معارضة الأمر الشرعي بالقدر، كما صنع سلف القدرية المشركون في قوله: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} (1) . ففي هذا الحديث بيان أنه لا ينبغي معارضة الأمر بالقدر، فإن قوله: ((إنما نفوسنا بيد الله)) إلى آخره، استناد إلى القدر في ترك امتثال الأمر، وهذا القول في نفسه حق، ولكن لا يصلح لمعارضة الأمر، بل معارضة الأمر بهذا من باب الجدل المذموم الذي قال الله فيه: {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلاَ} . (2) ولهذا انصرف عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – كارهاً لمقالته، وتلا قوله تعالى: {وَكَانَ الإِنَسَانُ أَكثَر شَيءٍ جَدَلاَ} وضربه فخذه يدل على كراهته لذلك أيضاً، وتعجبه من علي كيف يعارض قوله له: ((ألا تصلون؟)) بتلك المقالة. ومعلوم أن كل شيء بمشيئتة الله، فلو أن كل من أمر بأمر قال: إذا شاء الله فعلته، وإذا شاء لم أفعله، لتعطلت الأوامر كلها، وساد هوى النفوس، قال الحافظ: ((فيه أن الإنسان طبع على الدفاع عن نفسه بالقول والفعل، وأنه ينبغي له أن يجاهد نفسه لقبوله النصيحة ولو كان في غير واجب)) (3) ****   (1) الآية 148 من سورة الأنعام. (2) انظر ((مجموع الفتاوى)) (8/244) . (3) انظر ((الفتح)) (13/314) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 92 – قال: ((حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر، كمثل الأرزة، صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء)) . قال في ((المصباح)) : ((الخامة الغضة من النبات، والجمع خام، وخامات، والخام من الثياب: الذي لم يقصر، وثوب خام، أي: غير مقصور)) (1) . وقال الحافظ: ((هي الطاقة الطرية اللينة، أو الغضة، أو القضبة، قال الخليل: ((خامة الزرع: أول ما ينبت على ساق واحد)) (2) . قلت: قول الخليل هو الصواب، فالزرع في أول أمره يكون على ساق واحد، ويكون ليناً طيعاً للريح ينثني معها حيث أتت، ولا تؤثر على صحته واعتداله، فإذا سكنت رجع على ساقه قائماً كأن لم يصبه شيء، بل ربما ازداد قوى ونضارة، وهذا هو المقصود من المثل، فإن المؤمن تأتيه المصائب من نواح شتى، ففي كل مرة يقال: هذه تهلكه، ثم تنجلي ويعود إلى صحة إيمانه قوياً سليماً، كأن لم يصب بأذى. قال البكري: الخامة الغضة من الزرع: أول ما تستقل على ساق، وألفه منقلبة عن ياء، قال أبو عبيد: هي الغضة الرطبة، وأنشد: إنما نحن مثل خامة زرع ... فمتى يأن يأت محتصده (3)   (1) ((المصباح)) (1/251) . (2) ((الفتح)) (10/106) . (3) ((فصل المقال)) (ص7، 8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 ومعنى ((يفيء)) : يميل مع الريح ثم يرجع إلى اعتداله. ومعنى ((تكفئها)) : تميل بشدة. قوله: ((ومثل الكافر، كمثل الأرزة صماء معتدلة)) إلى آخره، في رواية: ((ومثل المنافق)) ، وفي أخرى: ((الفاجر)) والمثل يصدق على الكافر والمنافق، والفاجر هو الكافر، وكلهم أريد بالمثل. والأرزة هي شجرة الصنوبر، وهو شجر قوي معتدل، ولا بد له من نهاية، فإذا شاء الله قصمه، وأهلكه، فإذا انثنى انكسر فلا يعود إلى اعتداله كخامة الزرع. وكذلك الكافر والمنافق غالب حاله أنه معافى من المصائب، كالمرض وغيره من مصائب المال والولد؛ لأنه يعطى نصيبه من السعادة في الدنيا، ثم يوافى الآخرة مفلساً صفر اليدين، فتكون حسرته أشد، وهلاكه أنكى وأعظم، وقد يصاب أيضاً في الدنيا. أما المؤمن: فمن رحمة الله – تعالى – به أن قدر عليه المصائب في الدنيا، حتى يكتسب بذلك الثواب، أو يكفر عنه به من ذنوبه، ليسلم له جزاء عمله في الآخرة. قال البكري: ((الأرزة: شجرة معروفة، وهي من أصلب الخشب، قال أبو عبيد: وأهل العراق يسمونها الصنوبر، وإنما الصنوبر: ثمر الأرز. ومعنى الحديث – والله أعلم -: أنه شبه المؤمن بالخامة التي تميلها الريح؛ لأنه مرزَّء في نفسه، وأهله، وماله، وولده، وأما الكافر، فمثل الأرزة التي لا تميلها الريح، والكافر لا يرزَّء شيئاً حتى يموت، وإن رزئ لم يؤجر عليه، فشبه موته بانجعاف تلك [الشجرة] حتى يلقى الله بذنوبه كملاً، والانجعاف: السقوط والانقلاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 والشاهد قوله: ((حتى يقصمها الله إذا شاء)) فكل شيء ينتهي إلى مشيئة الله – تعالى – فلا يحدث حدث صغير أو كبير إلا إذا شاء الله، كما أن مشيئة الله عامة لكل شيء، وهو معنى أنه على كل شيء قدير. ***** 93 – قال: ((حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو قائم على المنبر، يقول: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا حتى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطيتهم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة: ربنا، هؤلاء أقل عملا وأكثر أجرا؟ قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، فقال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء)) . قوله: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)) أي: أن نسبة مدة هذه الأمة إلى مدة من تقدم من الأمم، كنسبة ما بعد العصر إلى غروب الشمس، إلى بقية النهار، و ((في)) في قوله: ((فيما قبلكم)) بمعنى إلى. قوله: ((أعطي أهل التوراة، التوراة)) إلى آخره، شرح وبيان لما تقدم من تقدير مدة بقاء هذه الأمة بالنسبة لبقاء الأمم قبلها. قوله: ((قيراطاً قيراطاً)) كرره ليدل على تقسيم القراريط على العمال؛ لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته، فيقولون: أقسم هذا المال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 على بني فلان درهماً درهماً، أي: لكل واحد درهم (1) . قوله: ((ثم عجزوا)) لا يلزم ما نقله الحافظ عن الداودي من الإشكال في أنه إذا كان المراد من مات مسلماً فلا يوصف بالعجز، وإن أريد من مات بعد التبديل والتغيير، فهو كافر لا يعطى أجراً. وهذا غير لازم ولا مراد، ولا داعي لتكلف الجواب عليه؛ لأن المقصود ضرب المثل لهذه الأمة مع أهل الكتاب مجموع هؤلاء مع أولئك، ولا يقصد كل فرد بعينه، وهذا واضح. قال ابن العربي: ((المثل بفتح الميم والثاء: عبارة عن تشابه المعاني المعقولة. والمثل بكسر الميم وإسكان الثاء: عبارة عن تشابه الأشخاص المحسوسة ويدخل أحدهما على الآخر)) (2) . والقيراط: النصيب المقدر، وهو في الأصل: نصف دانق، والدانق: سدس درهم، وقد يقصد بالقيراط، الشيء الكثير، كما في الحديث: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان)) وقيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)) (3) . قوله: ((ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غروب الشمس)) مثل انتهاء الدنيا باليوم الكامل، فجعل لليهود من أول النهار إلى صلاة الظهر، وللنصارى من صلاة الظهر إلى العصر، ولهذه الأمة من صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو نهاية الدنيا، فكان نصيب هذه الأمة من الزمن أقل، ونصيبهم من الأجر أكثر وأوفر، وعندما اعترض أصحاب العمل الأكثر على ذلك قال لهم: ((هل ظلمتكم من عملكم شيئاً؟ قالوا: لا، فذلك فضلي أوتيه من أشاء)) .   (1) ((الفتح)) (2/39) . (2) ((طرح التثريب)) (8/221) . (3) رواه البخاري (رقم 1325) ومسلم (2/652) رقم (945) ، والترمذي (2/358) رقم (1040) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وهذا هو المقصود من الحديث، أن مشيئة الله نافذة، لا يحكمها عرف أو نظر أو غير ذلك، بل ما شاء فِعْلَهُ فَعَلَهُ، وما لم يشأ لا يقع. وبهذا وأمثاله كثير يتبين ضلال المعتزلة، ومن سلك طريقهم، الذين يحكمون على الله بعقولهم القاصرة، بأنه يجب أن يفعل كذا، ويمتنع أن يفعل كذا، كقولهم: يجب أن يعذب العاصي، ويثيب المطيع، بحكم العقل قياساً منهم على المخلوق، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. **** 94 – قال: ((حدثنا عبد الله المسندي، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت، قال: بايعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رهط، فقال: ((أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فأخذ به في الدنيا فهو كفارة وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) . عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم، الأنصاري، الخزرجي: أحد النقباء، من أعيان البدريين، وسادة الصحابة وكبارهم، شهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غزواته كلها، وكان من حفظة كتاب الله – تعالى -، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، رضي الله عنه وعن جميع صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - (1) . المبايعة: عبارة عن المعاهدة على فعل شيء أو تركه، سميت بذلك تشبيهاً   (1) انظر ((سير أعلام النبلاء)) (2/5) ، ((الاستيعاب)) (2/807) ، ((أسد الغابة)) (3/16) ، ((تهذيب التهذيب)) (5/111) ، ((الإصابة)) (5/322) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 بالمعاوضة المالية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشتَرَىَ مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأموَالَهُم بِأَنَ لَهُمُ الجََنَّةَ} (1) . بدأ بما هو أعظم المحرمات، وهو الشرك بالله بأن يجعل ما هو لله من العبادة لغيره، أو شيئاً منها، ولكونه أعظم المحرمات حرمت الجنة على المشرك، كما قال تعالى: {مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) ومنع صاحبه المغفرة إلا إذا تاب منه، لهذا وجب على العبد أن يهتم بمعرفته حتى لا يقع فيه وهو لا يشعر، كما هو حال كثير من الناس. وقوله: ((شيئاً)) نكرة في سياق النهي، فيعم جميع أنواع الشرك، كبيره وصغيره، فعلاً كان أو قولاً. والسرقة: هي أخذ مال غيره المحرز، على وجه الخفية، والخيانة فيه، وهي من الجرائم الكبيرة، فقد نفي الإيمان عن السارق. وأما الزنا: فهي أيضاً جريمة شنيعة موجبة لسخط الله – تعالى – ومقته، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (3) . وقوله: ((ولا تقتلوا أولادكم)) خص قتل الأولاد؛ لأنه أشنع قتل، وأعظمه ذنباً، ولأن بعض العرب كان يستسيغه، خوفاً من العار، أو الفقر؛ ولأن الأولاد ليس لهم من يدافع عنهم إذا كان والدهم هو الذي يقتلهم. والمقصود جميع أنواع القتل بغير حق، فإنه من أكبر الكبائر، وفاعله متوعد بالخلود في النار، ولعنه الله وغضبه، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا   (1) ((الفتح)) (1/16) . (2) الآية 72 من سورة المائدة. (3) الآية 32 من سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 عَظِيمًا} (1) . وقوله: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)) البهتان: الكذب الذي يبهت سامعه؛ لأنه خلاف الواقع. قال الحافظ: ((وخص الأيدي والأرجل بالافتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، ولذلك يسمون الصنائع: الأيادي. وقد يعاقب الرجل بجناية قولية، فيقال: هذا بما كسبت يداك، ويحتمل أن يكون المراد: لا تبهتوا الناس كفاحاً، وبعضكم يشاهد بعضاً)) (2) والأول أولى. قوله: ((ولا تعصوني في معروف)) المعروف: ما عرف حسنه. وما جاء به الرسول وأمر به فهو معروف، وحسن، والشرع لا يأتي مخالفاً للعقل والفطرة. والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يأمر إلا بالمعروف. قال النووي: ((يحتمل أن يكون المعنى: ولا تعصوني، ولا أحداً ولِّيَ الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقيد بالمعروف متعلقاً بشيء بعده. وقال غيره: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله)) (3) ودخل في قوله: ((ولا تعصوني في معروف)) : فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.   (1) الآية 93 من سورة النساء. (2) ((الفتح)) (1/65) . (3) الفتح (1/65) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 قوله: ((فمن وَفَّى منكم)) أي: ثبت على العهد الذي أخذ عليه، ووفى به، دون وقوع في مخالفة (وفى)) بالتخفيف، وفي رواية بالتشديد، وكلاهما بمعنى واحد. وقوله: ((فأجره على الله)) أطلق الأجر، ولم يعينه، لتفخيمه، وجاء في رواية تعيينه بالجنة، وهي الغاية التي يتسابق إليها العاملون. قوله: ((ومن أصاب من ذلك شيئاً فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور)) يعني: إذا وقع في معصية مما ذكر أنه لا يفعله، ثم أقيم عليه الحد في الدنيا، فإن إقامة الحد عليه تكون كفارة له، وطهوراً يطهره، وهذا كما قال النووي مخصوص بالشرك، فإنه لا كفارة له إلا بالتوبة منه. قال النووي: ((فيه تحريم هذه المذكورات، وما في معناها، وفيه الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر، ولا يقطع لصاحبها بالنار، إذا مات ولم يتب منها، بل هو بمشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، خلافاً للخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يكفرون بالمعاصي، والمعتزلة يقولون: لا يكفر، ولكن يخلد في النار، وفيه أن إقامة الحد تكفر)) (1) . قوله: ((ومن ستره الله، فذلك إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) . هذا هو محل الشاهد من الحديث، وهو أن الله يفعل ما يشاء، لا يحكمه شيء، ولا يمنعه عما يريد شيء، وهو حكيم عليم، فمن أصاب معصية مما ذكر أو غيره فاستتر، ولم يؤخذ بها في الدنيا ثم مات بدون توبة، فإن أمره إلى الله إن شاء أن يعذبه عذبه، وإن شاء أن يعفو عنه عفا عنه. وقد تقدم التنبيه أن هذا فيه رد لمذهب المعتزلة، مشبهة الأفعال، نفاة   (1) ((شرح مسلم)) (11/223-224) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 الصفات، الذين يحكمون على الله بمثل ما يحكمون به على الناس، تعالى الله عن قولهم، وفيه الرد على إخوانهم في الضلالة، الخوارج، الذين يكفرون المؤمنين بالمعاصي. ***** 95 – قال: ((حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، أن نبي الله سليمان – عليه السلام – كان له ستون امرأة، فقال: لأطوفن الليلة على نسائي فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارسا يقاتل في سبيل الله، فطاف على نسائه، فما ولدت منهن إلا امرأة، ولدت شق غلام. قال نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارسا يقاتل في سبيل الله)) . قال في الجهاد: ((باب من طلب الولد للجهاد)) ، ثم ذكر هذا الحديث، يعني: أن الذي ينوي عند جماع زوجته حصول الولد؛ لأجل أن يجاهد في سبيل الله يحصل له بذلك أجر نيته، وإن لم يولد له، أو ولد له ولم يجاهد. قوله: ((كان له ستون امرأة)) جاء في رواية: سبعون، وفي أخرى: تسعون، وفي أخرى تسع وتسعون، وفي أخرى مائة، وكلها صحيحة. قال الحافظ: ((يجمع بينها بأن له ستين حرائر، والزائد سراري، أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون، والمائة، فما كان دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون، ألغى الكسر، ومن قال: مائة، جبره)) (1) . قوله: ((لأطوفن الليلة على نسائي)) يقصد وطأهن، وقد استدل ((المصنف))   (1) ((الفتح)) (6/460) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 به على جواز مثل هذا الكلام أمام الناس. وفيه: ما أُعطي سليمان عليه السلام من القوة. قوله: ((فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارساً يقاتل في سبيل الله)) قال هذا على سبيل التمني للخير، وإنما جزم به؛ لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد الخير وأمر الآخرة، لا عرض الدنيا. قال بعض السلف: ((نبه – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، ولذلك نُسِّي الاستثناء ليمضي فيه القدر)) (1) . قلت: جاء في رواية ذكرها البخاري في الجهاد والأنبياء، أن سليمان عليه السلام لما قال ذلك قال له صاحبه: قل: إن شاء الله، وفي أخرى: قال له الملك، فلم يقل: إن شاء الله، وهذا يدل على أنه لم ينس، وأنه جزم بذلك لحسن قصده، وقيام السبب، فجوزي بعدم حصول المراد، وهذه الرواية أظهر في المقصود بهذا الباب. وجاء في رواية أخرى: ونسي أن يقول: إن شاء الله، فيحمل على أن معنى النسيان: تركه مع علمه، غير قاصد خروج ذلك عن مشيئة الله – تعالى -. قوله: ((فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام)) الشق: النصف، أي: أنها جاءت بغلام ناقص، لا يستطيع أن يعمل شيئاً. وهذا يدل على أنه ليس لأحد مهما ملك من الأسباب أن يخرج عن مشيئة الله – تعالى -، سواء كان نبياً، أو ملكاً، أو غير ذلك، فمشيئة الله هي النافذة في كل شيء، ومشيئة الخلق مقيدة لها، لا يعملون شيئاً، ولا يتم لهم، إلا بعد أن يشاءه الله – تعالى -. قوله: ((لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن، فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله)) .   (1) المصدر المذكور (ص461) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 في رواية: لو قال: ((إن شاء الله)) فهذا هو الاستثناء المراد هنا. وفي هذا قدرة الله – تعالى – على تغيير الواقع إلى ضده، وما علم تعالى أنه لا يكون، وما يمتنع صدوره عنه، فلعدم إرادته، لا لعدم قدرته عليه، كما قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (1) ، وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (2) ونحو ذلك مما يبين فيه أنه – تعالى – لو شاء أن يفعل أموراً لم تكن، بل كان خلافها، لفعل، فدل ذلك على أنه قادر على ما علم أنه لا يكون. وإذا قيل: هذا ممتنع، قيل: امتناعه لعدم مشيئة الرب تعالى له، لا لكونه ممتنعاً في نفسه، ولا لكون الله تعالى غير قادر عليه. ووجه الاستدلال بالحديث ظاهر. **** 96 – قال: ((حدثنا محمد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل على أعرابي يعوده، فقال: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) قال: قال الأعرابي: طهور؟! بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فنعم إذا)) . كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعود المريض، ويتفقد أحوال المؤمنين، وهذا الأعرابي يجوز أنه مهاجر إلى المدينة فمرض، أو أنه جاء لحاجة. والأعرابي: ساكن البراري، وأما العربي فهو أعم منه؛ لأنه من ينتسب إلى العرب، أو من يتكلم العربية.   (1) الآية 13 من سورة السجدة. (2) الآية 118 من سورة هود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 قوله: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) أي: أن المرض يزول، ويكون ذلك مكفراً لخطاياك، أو: أنه لا بأس عليك في مستقبلك؛ لأن المرض يطهرك من ذنوبك، فإن حصلت العافية اكتسب فائدتين، وإلا حصل له التكفير، وهذا دعاء خرج مخرج الخبر، ولهذا علقه بالمشيئة؛ لأنه أمر مستقبل، وكل ما يأتي يقيد بمشيئة الله – تعالى -، أما ما وقع فقد علم أن الله شاءه. وقول الأعرابي: ((طهور؟!)) ، كأنه رد لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستبعاد له، ولهذا قال: ((بل هي حمى تفور)) أي: تغلى في جسمه ((على شيخ كبير)) والشيخ الكبير يكون ضعيفاً لا يتحمل ما يتحمله الشاب القوي ((تزيره القبور)) أي: يموت منها ويذهب به إلى المقبرة. فلما رد ما قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يقبله، واختار ما ذكره هو، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((فنعم إذاً)) أي: إذا لم تقبل ما قلت لك، فالأمر كما تقول أنت. قال الحافظ: ((روى الطبراني أن الأعرابي أصبح ميتاً، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أما إذ أبيت فهي كما تقول، قضاء الله كائن)) فما أمسى من الغد إلا ميتاً)) (1) . والمقصود من الحديث قوله: ((لا بأس عليك، طهور إن شاء الله)) وقد جاءت النصوص بأن المصائب كفارات للذنوب، كما جاء ترتيب الجزاء على أعمال معينة، فكل ذلك يكون مقيداً بمشيئة الله تعالى، فعلى العبد أن يضرع إلى الله تعالى بذل وافتقار، ويسأله من فضله أن يهديه لما يرضيه. والأمور كلها بيده – تعالى – يتصرف فيها كيف يشاء، والخلق عبيده، وفقراء إليه، ولا يظلم ربك أحداً. *****   (1) ((الفتح)) (6/625) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 97 - قال: ((حدثنا ابن سلام، أخبرنا هشيم، عن حصين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، حين ناموا عن الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء)) فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت، فقام فصلى)) . هذا الحديث مختصر، وقد ذكره في مواقيت الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت، وقد اختلف في أي مسير كان ذلك. قال الحافظ: ((جزم بعض الشراح بأنه في رجوعه من خيبر، معتمداً على ما قع عند مسلم، وفيه نظر؛ لما بينته في باب الصعيد الطيب)) (1) . وقال في باب الصعيد الطيب: اختلف في تعيين هذا السفر، ففي مسلم أنه وقع في رجوعهم من خيبر قريب من هذه القصة. وفي أبي داود: ((أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ليلاً، فنزل، فقال: ((من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا)) الحديث (2) . وفي ((الموطأ)) عن زيد بن أسلم مرسلاً: ((عَرَّسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطريق مكة، ووكل بلالاً)) الحديث (3) . وفي ((مصنف)) عبد الرزاق مرسلاً: أن ذلك بطريق تبوك، وفي ((الدلائل)) للبيهقي نحوه (4) ، وذكر أشياء غير ذلك، ومال إلى تعدد القصة كعادته في مثل هذا.   (1) ((الفتح)) (2/67) . (2) ((السنن)) (1/310) . (3) ((الموطأ)) (1/14) . (4) ((الفتح)) (1/488) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 ولم أجد في ((مصنف عبد الرزاق)) تعيين السفر، فإنه قال: ((أخبرني عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينا هو في بعض أسفاره)) فذكره (1) . وكذلك ما في ((الدلائل)) ليس فيه ذكر تبوك، وإنما ذكر ما في ((الموطأ)) ، وسنن أبي داود، ومسلم، والصحيح أن ذلك في مرجعه من خيبر، كما قال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: ((لما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر، أسرى ليله، حتى إذا كان آخر الليل عدل عن الطريق، ثم عَرَّسَ، وقال: من يحفط علينا الصلاة؟ فقال بلال: أنا)) وذكر الحديث (2) وهذا مرسل. ورواه أبو داود موصولاً، عن سعيد، عن أبي هريرة (3) . ورواه مسلم في ((صحيحه)) مطولاً (4) . قوله: ((وإن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء)) أي: أن الله - تعالى - له ملك كل شيء، فروح الإنسان التي بها حياته وتصرفه، هي بيد الله، إذا شاء قَبضَها من بدنها، وأصبح الإنسان ميتاً لا يستطيع أي عمل، وإذا شاء رَدَّها إلى بدنها فاستطاع العمل والتصرف، وكذلك الإنسان لا يستطيع أن ينام متى شاء، ويستيقظ متى شاء، إلا بمشيئة الله - تعالى -، قال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (5) } .   (1) انظر ((المصنف)) (1/588) . (2) ((المصنف)) (1/587) . (3) انظر ((السنن)) (1/302) . (4) انظر مسلم (1/471) رقم (680) . (5) الآية 42 من سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 قوله: ((فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت فقام فصلى)) يعني: أنهم حين استيقظوا مع طلوع الشمس لم يستعجلوا بأداء الصلاة، بل قضوا حوائجهم مما يحتاجه عادة من يقوم من النوم من بول ونحوه، وتوضؤوا ثم انتظروا حتي ابيضت الشمس، ومعنى ابيضاضها ارتفاعها عن الأفق، ثم قام وصلى بهم، فهذا وقت صلاتهم، لأن النائم وقت صلاته إذا استيقظ، وكذلك الناسي، والله أعلم. 98 - قال: ((حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة والأعرج. وحدثنا إسماعيل، حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: ((استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين، في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بالذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري: أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله)) . قال الحافظ: ((المسلم هو أبو بكر الصديق، جاء مصرحاً به فيما أخرجه سفيان ابن عيينة في ((جامعه)) ، وابن أبي الدنيا في ((كتاب البعث)) من طريقه، عن عمرو بن دينار، قال: هو أبو بكر الصديق)) (1) .   (1) انظر ((الفتح)) (6/450) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 ولكن يعارض ذلك ما في الأنبياء في هذا الحديث: ((قال اليهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه)) (1) . قوله: ((استب)) استب: افتعل، من السب، أي: كل واحد منهما سب الآخر، وهو الشتم وذكر العيوب والمثالب، أو الدعاء عليه. وسبب ذلك قول اليهودي حينما كان يعرض سلعته، فأُعطي فيها ما لا يرضى، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فغضب المسلم ولطمه؛ لأنه فهم من كلامه تفضيل موسى على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه متقرر عند المسلمين أن محمداً أفضل البشر على الإطلاق. وجاء في رواية أبي سعيد: أن المسلم لما دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له: ((أضربته؟)) قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث، على محمد – صلى الله عليه وسلم -؟ فأخذتني غضبة، ضربت وجهه)) (2) . وفهم المسلم أن اليهودي بحلفه ذلك ينتقص محمداً – صلى الله عليه وسلم – فلهذا غضب، ولطمه، ولما ذكر قول اليهودي للنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعاقبه، بل نهى عن تفضيل بعض النبيين على بعض، في مثل هذا المقام الذي يكون فيه الغضب والسب؛ لأن ذلك مدعاة إلى هضم حق بعضهم، أو التنقص لهم، أو الافتخار، وذلك من الكفر. وأما ذكر الواقع للعلم به، واعتقاده، فلا يدخل في النهي، وقد قال الله – تعالى -: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ َ} (3) ، وقال تعالى: {وَلَقَد   (1) انظر المصدر نفسه. (2) ((الفتح)) (5/70) . (3) الآية 253 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 ْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا َ} (1) . وصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) (2) . قال البيهقي عن الخطابي: معنى النهي عن التخيير بين الأنبياء: ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم، والإخلال بالواجب من حقوقهم والإيمان بهم. وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم، فإن الله – عز وجل – قد أخبر أنه فاضل بينهم، فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} . وقوله: ((أنا سيد ولد آدم)) إنما هو إخبار عما أكرمه الله به من الفضل، والسؤدد، وتحدث بنعمة الله – تعالى – عليه، وإعلام لأمته بعلو مكانه عند ربه؛ ليكون إيمانهم بنبوته واعتقادهم لطاعته على حسب ذلك، وبيان هذا لأمته من اللازم له، والمفروض عليه)) (3) . قوله: ((لا تخيروني على موسى)) أي: لا تقولوا: أنا خير من موسى، وجاء النهي عن التخيير بين الأنبياء عامة، وهذا خاص بموسى؛ لأن المقام يقتضي ذلك لأجل ما وقع بين اليهودي والمسلم، وسبق وجه النهي. ثم ذكر ما يقتضي تفضيل موسى في كونه يجده باطشاً بجانب العرش، فيكون قد أفاق قبله أو لم يصبه الصعق، كما سبق بيانه. والمقصود هنا قوله: ((أو كان ممن استثنى الله)) أي: في قوله تعالى:: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ َ} (4) ، ففي هذه الآية أن الخلق لا ينجو أحد منهم   (1) الآية 55 من سورة الإسراء. (2) رواه مسلم (4/1782) رقم (2278) . (3) ((دلائل النبوة)) (5/495-496) . (4) الآية 68 من سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 من صعق نفخة الصور، إلا من يشاء الله، فدل على أن مشيئة الله عامة شاملة لكل شيء، فلا يخرج عنها ما يعم الخلق كنفخ الصور، ولا ما يخص بعضهم، ومن أجل ذلك – والله أعلم – جاء قوله في أهل الجنة وأهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ َ} (1) فما شاء الله كان كما يشاء، وما لم يشأ لم يكن. واختلف في الذين استثناهم الله – تعالى – من صعقة الصور. قال ابن جرير: ((قال بعضهم: عنى به جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت)) ، ثم روى ذلك عن السدي، وروى فيه حديثاً مرفوعاً بسند فيه يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، عن أنس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرأ هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ} الآية، فقيل له: من هؤلاء الذين استثنى الله يا رسول الله؟ قال: جبريل وميكائيل وملك الموت)) وذكره بطوله، ثم قال: ((وقال آخرون: عنى بذلك: الشهداء)) ، وروى ذلك عن سعيد بن جبير، واختار أن المستثنى من الفزع الشهداء ومن الصعق: جبريل وملك الموت، وحملة العرش، واستدل لذلك بحديث الصور، وهو ضعيف، وبأن الصعق في هذا الموضع: الموت، والشهداء قد ماتوا، فلا يذوقون الموت مرة أخرى، وذكر أن بعض السلف توقف فيه)) (2) . وقال ابن كثير: ((قال أبو يعلى: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: سألت جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ   (1) الآية 107 من سورة هود. (2) انظر ((تفسير ابن جرير)) (24/29-30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ َ} من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم الشهداء، مقلدون أسيافهم حول عرشه، تتلقاهم الملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت، نمارها ألين من الحرير، مد خطاها مد أبصار الرجال، يسيرون في الجنة، يقولون عند طول النزهة: انطلقوا بنا إلى ربنا – عز وجل – لننظر كيف يقضي بين خلقه، يضحك إليهم إلهي، وإذا ضحك إلى عبد في موطن، فلا حساب عليه)) قال ابن كثير: ((رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش فهو غير معروف)) (1) . ****** 99 – قال: ((حدثنا إسحاق بن أبي عيسى، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، ولا الطاعون، إن شاء الله)) . تقدم وجه تسمية الدجال. قال الحافظ: ((ومما يحتاج إليه في أمر الدجال: أصله، وهل هو ابن صياد، أو غيره؟ وإذا كان غيره: فهل كان موجوداً في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – أو لا؟ وما الذي يدعيه؟ وما الذي يظهر عند خروجه؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما صفته؟ وما هي الخوارق التي تظهر على يديه، حتى يكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن يقتله؟)) (2) . وقد تبين أنه ليس ابن صياد؛ لأن ابن صياد قد مات في المدينة، وقد دخل مكة وولد له، والدجال لا يولد له، ولا يدخل مكة ولا المدينة، ويقتله   (1) انظر تفسير ابن كثير (7/108) . (2) انظر ((فتح الباري)) (13/91) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 عيسى ابن مريم عليه السلام، ويكون رئيساً لليهود، وله خوارق عظيمة، وفتنة هائلة، ولم يحصل لابن صياد من ذلك شيء. وحديث الجساسة في ((صحيح مسلم)) يدل على ذلك، وليس الأمر فيه مشكلاً كما قاله النووي – رحمه الله -؛ لأن ابن صياد أول الدجاجلة الذين يتقدمون الدجال الأكبر، وأما كونه موجوداً في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم-، فخبر تميم الداري في قصة الجساسة يدل على وجوده. وأما سبب خروجه، فجاء في ((صحيح مسلم)) ما يدل على أن سبب خروجه غضبة يغضبها، وسأذكر ذلك إن شاء الله – تعالى -. وخروجه في آخر الزمان، إذ خروجه من علامات الساعة الكبار. وهو خارج من المشرق، كما سيأتي. وأما صفته فقد أوضحها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم أنه أعور العين اليمنى، وأنه مكتوب بين عينيه: كافر. وإذا خرج ادعى أنه مصلح، ويريد القضاء على الفساد، كما هي عادة كل دجال وطاغوت من طواغيت العالم ودجاجلته الموجودين اليوم وقبله، ثم يدعي الولاية، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي أنه رب الخلق المتصرف فيهم. قال الحافظ: ((وأخرج الطبراني من طريق سليمان بن شهاب، قال: نزل عليَّ عبد الله بن المعتمر، وكان صحابيَّا، فحدثني عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق، فيدعو إلى الدين، فيتبع، ويظهر فلا يزال حتى يقدم الكوفة، فيظهر الدين ويعمل به، فيتبع ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبي، فيفزع من ذلك كل ذي لب ويفارقه، فيمكث بعد ذلك، فيقول: أنا الله، فتغشى عينه، وتقطع أذنه، ويكتب بين عينيه: كافر، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 من إيمان)) قال: ((وسنده ضعيف)) (1) . وأما ما ثبت في ((الصحيحين)) عن محمد بن المنكدر قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدجال، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم ينكره النبي – صلى الله عليه وسلم (2) . وفي ((صحيح مسلم)) عن ابن عمر قال: لقيته مرتين، قال: فلقيته فقلت لبعضهم: هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا والله، قال: قلت: كذبتني، والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالاً وولداً، فكذلك هو – زعموا – اليوم، قال: فتحدثنا، ثم فارقته، قال: فلقيته لقية أخرى، وقد نفرت عينه، قال: فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري، قال: قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه، فنخر كأشد نخير حمار سمعت: قال: فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأما أنا فوالله ما شعرت. قال: وجاء حتى دخل على أم المؤمنين، فحدثها، فقالت: ما تريد إليه؟ ألم تعلم أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه)) (3) . قال النووي: ((قال العلماء: قصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هو الدجال المشهور، أو غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة. وظاهر الأحاديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يُوحَ إليه بأنه الدجال،، ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يقطع بأنه الدجال، ولا غيره)) (4) .   (1) ((الفتح)) (13/91) . (2) البخاري (9، 88) ، ومسلم (4/2243) رقم (2929) . (3) مسلم (4/2246) . (4) ((شرح النووي)) (18/46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 قلت: ابن صياد فيه كلام كثير للعلماء، وفيه أحاديث بعضها في مسلم. وليس هو الدجال المشهور، وإنما هو من جملة الدجالين كما سبق. والله أعلم. قوله: ((المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال)) . قد أثبت إتيانه إليها، ولكن لا يستطيع دخولها؛ لأن الملائكة تصده عنها، وذلك لأن سلطان المسلمين قد ضعف عن مقاومة الكفر وأهله، فلهذا جعل الله – تعالى – الملائكة هي التي تصد الدجال عن مدينة رسوله وعن مكة. وفي مسند الإمام أحمد عن محجن بن الأدرع أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطب الناس فقال: ((يوم الخلاص، وما يوم الخلاص، يوم الخلاص وما يوم الخلاص)) ثلاثاً، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: ((يجيء الدجال، فيصعد أحداً، فينظر المدينة فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكاً مصلتاً، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق، ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة، إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص)) (1) . قوله: ((ولا الطاعون إن شاء الله)) الطاعون: من الطعن والوخز، وهو الوباء، وهذا من تكريم الله – تعالى – لرسوله، حيث منع الوباء من مدينته، وجاء في بعض الروايات أن مكة كذلك لا يدخلها الطاعون. والشاهد قوله: ((إن شاء الله)) يعني: أن ذلك معلق بمشيئة الله، فلو شاء لم يحصل المنع.   (1) انظر ((المسند)) (4/338) و (5/31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وذكر البخاري هذا الحديث في فضائل المدينة بأبسط مما ها هنا، ولفظه: ((ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله كل كافر ومنافق)) (1) . قال الحافظ: ((هذا الخبر على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: لا يدخل وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد؛ لقصر مدته، وغفل عما في ((صحيح مسلم)) أن بعض أيامه كسنة)) (2) . وقوله: ثم ترجف المدينة، أي: يحصل لها زلزلة بعد أخرى، حتى يخرج منها من ليس مؤمناً، ويبقى المؤمنون الصادقون، فلا يسلط عليهم ولا ينالهم شره وفتنته. ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة: ((لا يدخل المدينة رعب الدجال)) ؛ لأن المراد برعبه: ما يحدث من الفزع من فعله وعتوه، لا الرجفة التي تقع لإخراج المنافقين والكافرين، وحمل بعض العلماء حديث ((إنها تنفي الخبث)) على هذا، والصحيح أنه خاص بناس، وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مراداً، نفي غيره)) . **** 100 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثني أبو سلمة ابن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((لكل نبي دعوة فأريد – إن شاء الله – أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) .   (1) انظر ((الفتح)) (4/95) . (2) المصدر السابق (ص96) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 أي: لكل نبي من أنبياء الله دعوة مستجابة، كدعوة نوح – عليه السلام – على قومه: بقوله: {ربِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (1) فاستجاب الله دعوته فأغرق أهل الأرض عموماً، وكدعوة صالح، وشعيب، ولوط، وغيرهم مما ذكره الله – تعالى – في كتابه. والصحيح أن لكل نبي دعوة عامة مستجابة في أمته، وأما الدعوات غير العامة فكثيرة، منها ما يستجاب، ومنها ما لا يستجاب. قال النووي: ((معناه أن لكل نبي دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم، فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب، وبعضها لا يجاب)) (2) . قوله: ((فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) . هذا من رحمة الله – تعالى – بهذه الأمة، حيث ألهم رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يجعل دعوته العامة المستجابة في أمته، شفاعة له فيهم. وقد بين أنها للموحدين، فلا نصيب لمشرك في هذه الدعوة العامة، كما في رواية مسلم ((فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً)) (3) . قال النووي: ((في هذا الحديث كمال شفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته ورأفته بهم، واعتناؤه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر – صلى الله عليه وسلم – دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم)) (4) .   (1) الآية 26 من سورة نوح. (2) ((شرح مسلم)) (3/75) . (3) انظر: مسلم (1/189) رقم (199) . (4) المصدر السابق (3/76) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وقال في قوله: ((إن شاء الله - تعالى -)) : هو على جهة التبرك والامتثال لقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (1) (2) . قلت: ليس كما قال - رحمه الله - إن التعليق للتبرك وامتثال الأمر، ولكنه تعليق حقيقة، إذ لو شاء الله لم يقع ذلك، غير أنه تعالى شاء وقوعه فأخبر به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وخبره حق، والمقصود أن كل شيء بمشيئة الله. ***** 101 - قال: ((حدثنا يسرة بن صفوان بن جميل اللخمي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أنا نائم رأيتني على قليب فنزعت ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم أخذها عمر، فاستحالت غربا، فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس حوله بعطن)) . هذه رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء نوع من أنواع الوحي، كما في حديث عائشة: ((إن أول ما بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة)) . والرؤيا: هي ما يراه الإنسان في نومه. قوله: ((بينا)) هي ((بين)) الظرفية الزمانية، والألف للإشباع. ((رأيتني على قليب)) أي: رأيت نفسي على قليب وهي البئر المحفورة لاستخراج الماء منها، وقال النووي: ((هي البئر غير المطوية)) (3) .   (1) الآية 23 من سورة الكهف. (2) المصدر السابق. (3) ((شرح مسلم)) (15/159) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 قوله: ((فنزعت ما شاء الله أن أنزع)) النزع هو: استخراج الماء من البئر بالدلو، وهذا محل الشاهد من الحديث حيث أسند كمية النزع إلى مشيئة الله – تعالى -، وقد سبق أن مشيئة الله عامة لا يخرج عنها شيء، والإنسان وإن كان له مشيئة، فهي داخلة تحت مشيئة الله تعالى -، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} (1) . قوله: ((ثم أخذها ابن أبي قحافة)) أبو قحافة هو: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، والد أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما -. ((فنزع ذنوباً أو ذنوبين)) الذنوب: الدلو المملوء ماء. ((وفي نزعه ضعف، والله يغفر له)) ، في رواية مسلم: ((وفي نزعه – والله يغفر له – ضعيف)) (2) . وفي رواية له: ((بينا أنا نائم رأيت أني أنزع على حوضي أسقي الناس، فجاء أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليروحني، فنزع دلوين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم أر نزع رجل قط أقوى منه، حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر)) وهذا يفسر الرواية المذكورة هنا. والضعف المذكور إشارة إلى قلة المال من المغانم ونحوها في وقته، بالنسبة إلى زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وزمن عمر، وذلك لما حصل من انتكاسة الناس وارتداد أكثر العرب عن الإسلام، فانشغل في قتالهم، وإدخالهم في الإسلام مرة أخرى، وهذا العمل أفضل مما حصل في وقت عمر – ومن بعده من الخلفاء – من الفتوح.   (1) الآية 30 من سورة الإنسان، الآية 29 من سورة التكوير. (2) انظر: مسلم (4/1860) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وقوله: ((والله يغفر له)) إشارة إلى أن ما يقع في الأمة من صدود عن الله أو انحراف، فإن الإمام قد يكون مسؤولاً عن ذلك، إذ هو القائد الذي يجب أن يقودهم إلى الصلاح والخير، ويحملهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ولذلك أخبر أن هذه المسؤولية مغفورة لأبي بكر؛ لأنه بذل جهده في ردهم إلى الإسلام حتى استقاموا على الحق، والعلم عند الله. قوله: ((ثم أخذها عمر، فاستحالت غرباً)) أي: الدلو، تحولت إلى غرب، والغرب – بفتح الغين المنقوطة وإسكان الراء – هي: الدلو العظيمة المتخذة من جلود الإبل أو البقر، والمعنى: أن الدلو التي كنت أنزع بها وأخذها مني أبو بكر، لما أخذها عمر بعد أبي بكر، صارت غرباً كبيراً يتسع لماء كثير. ((فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريَّه)) العبقري: الكامل من كل شيء. قال في ((القاموس)) : العبقري: الكامل من كل شيء، والسيد من الرجال، قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء، عن العبقري؟ قال: يقال: هذا عبقري قوم، كقولك: هذا سيد قوم، وكبيرهم، وشديدهم، وقويهم، ونحو ذلك. وقيل: العبقري: الذي ليس فوقه شيء، يعني: من جنسه. قال أبو عبيد: وأصل هذا فيما يقال إنه نسب إلى ((عبقر)) وهي أرض يسكنها الجن، فصارت مثلاً لكل منسوب إلى شيء رفيع)) (1) وقال الراغب: (عبقر: قيل: هو موضع للجن، ينسب إليه كل نادر من إنسان، وحيوان، وثوب، ولهذا قيل في عمر: لم أر عبقرياً مثله، {وَعَبقَرِيٍ حِسَانِ} هو ضرب من الفرش – فيما قيل – جعله الله – تعالى – مثلاً   (1) ((تاج العروس)) (12/514) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 لفرش الجنة)) (1) . ((يَفْري فَرِيَّهُ)) بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الراء، وفتح الفاء الثانية وكسر الراء وفتح الياء المشددة، قال ابن الأثير: ((أي: يعمل عمله، ويقطع قطعه، ويُروي: ((يفري فريه)) بسكون الراء الثانية والتخفيف، وحكي عن الخليل أنه أنكر التثقيل، وغلط قائله. وأصل الفري: القطع، يقال: فريت الشيء أفريه فرياً: إذا شققته وقطعته للإصلاح، فهو مفري)) (2) . وقال النووي: ((أما يفري، بفتح الياء، وإسكان الفاء، وكسر الراء، وأما فريه، فروى بوجهين: أحدهما: فريه بإسكان الراء وتخفيف الياء، والثانية بكسر الراء وتشديد الياء، وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد، وقال: هو غلط. واتفقوا على أن معناه: لم أر سيداً يعمل عمله، ويقطع قطعه، ثم ذكر ما ذكره ابن الأثير)) (3) . والمعنى: فلم أر رجلاً كاملاً، قوياً، يستخرج الدلاء من البئر مثله، حتى كثر الماء وشرب الناس، وجلسوا حول الحوض الذي يصب فيه الماء لا حاجة لهم فيه، وهذا معنى قوله: ((حتى ضرب الناس حوله بعطن)) كما في رواية مسلم. ((فلم أر نزع رجل قط أقوى منه، حتى تولى الناس، والحوض ملآن يتفجر)) (4) .   (1) ((المفردات)) (ص320) . (2) ((النهاية)) (3/442) ، وانظر ((الفتح)) (7/46) ، و ((مشارق الأنوار)) (2/64) . (3) ((شرح مسلم)) (15/162) . (4) تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 قال النووي: ((قال القاضي عياض: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة، وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جيمعاً؛ لأن ذلك تم بنظرهما، وتدبيرهما، وقيامهما بمصالح المسلمين، وضرب الناس بعطن؛ لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين، وألَّف بينهم، وابتدأ الفتوح، ومهد الأمور، وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما)) (1) . وقال أيضاً: ((قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – في خلافتهما، وحسن سيرتهما، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومن بركته، وآثار صحبته، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره، وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأنزل الله – تعالى: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم} ، ثم توفي - صلى الله عليه وسلم - فخلفه أبو بكر – رضي الله عنه – سنتين وأشهراً، وهو المراد بقوله: ((ذنوباً أو ذنوبين)) وهذا شك من الراوي، بل هما ذنوبان، كما صرح به في الرواية الأخرى. وحصل في خلافته قتال أهل الردة، وقطع دابرهم، واتساع الإسلام، وعودة قوة المسلمين وهيبتهم. ثم توفي، فخلفه عمر – رضي الله عنه – فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبّر بالقليب عن أمر المسلمين؛ لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقي لهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر – رضي الله عنه -: ((وفي نزعه ضعف)) .   (1) ((شرح مسلم)) (15/162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فليس فيه حط من فضيلته، ولا إثبات لفضل عمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها، ولاتساع الإسلام وبلاده وكثرة الأموال، وغيرها من الغنائم والفتوح، وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين. أما قوله: ((والله يغفر له)) فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذنب، وإنما هي كلمة كان المسلمون يقولونها: افعل كذا، والله يغفر لك. قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر، وصحة ولايتهما، وبيان صفتها، وانتفاع المسلمين بها)) (1) . أما ما ذكره من أنه إعلام بصحة ولايتهما، فهو أمر متفق عليه عند أتباع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين آمنوا به، ولم يخالف فيه إلا الذين دخلوا الإسلام تستراً لأجل هدمه ومحاربته، أمثال الرافضة والإسماعيلية والنصيرية، وهم ليسوا من المسلمين في شيء، ومن نظر في كتبهم تيقن أنهم من أبعد الناس عن الإسلام. وأما ما ذكر من أن قوة نزع عمر لطول مدته، وضعف نزع أبي بكر لقصر مدته، فهو خلاف ظاهر الحديث، وإنما قوة نزع عمر كناية عن قوته في الحق وصلابته وقوة عزيمته، وضعف نزع أبي بكر كناية عن لينه ورقته، ولا يلزم من ذلك أن عمر أفضل من أبي بكر إذا فضله في خصلة من الخصال. وأما المدة، فعبر عنها بالدلاء، فأبو بكر لم ينزع إلا ذنوبين، بينما عمر نزع حتى روى الناس، وتركوا الحوض ملآن. ****** 102 – قال: ((حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه   (1) ((شرح النووي على مسلم)) () 15/161. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 السائل - وربما قال: جاءه السائل أو صاحب الحاجة - قال: ((اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء)) . الرسول - صلى الله عليه وسلم - معلم الخير والداعي إليه، فلم يترك طريقاً يوصل الخلق إلى اكتساب الخير إلا دلهم عليه، وحضهم على سلوكه، حتى الأمور التي قد يظن بعض الناس أنها أمور عادية لا تدخل في العبادة، مثل ما في هذا الحديث، وخصوصا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتصور مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمنع أحداً ما يستحقه، أو يبخسه شيئاً من ذلك، ومع ذلك أمر بالشفاعة عنده، وأخبر أن شفاعتهم لا تأثير لها في مشيئة الله - تعالى -، بل المقصود حصول الثواب للشافع. وأما ما يقع للمشفوع له فهو ما يقضيه الله - تعالى - ويشاؤه، ولهذا قال: ((اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء)) . والشاهد فيه: أن مشيئة الله - تعالى - لا تؤثر فيها شفاعة ولا غيرها، بل ما شاء فِعْلَهُ فَعَلَهُ، وما شاء تَرْكَهُ تَرَكَهُ، لا راد لما أراد، ولا يمنع ذلك فعل الأسباب، ولا كون المسببات مرتبة على أسبابها، فكلها بمشيئة الله. ****** 103 - قال: ((حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، سمع أبا هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مكره له)) . تقدم هذا الحديث من رواية أنس، وبينا الحكمة في النهي عن ذلك. قال النووي: ((قال العلماء: عزم المسالة: الشدة في طلبها، والجزم من غير ضعف في الطلب، ولا تعليق على المشيئة ونحوها. وقيل: هو حسن الظن بالله - تعالى - في الإجابة. ومعنى الحديث: استحباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة. قال العلماء: كراهة ذلك أنه لا يتحقق استعماله المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه، والله - تعالى - منزه عن ذلك، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: ((فإنه لا مكره له)) . وقيل: سبب الكراهة أن في هذا اللفظ صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه)) (1) . وقال الحافظ: ((النهي لأن التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء، فيخفف الأمر عليه، ويعلمه بأنه لا يطلب منه الشيء إلا برضاه، والله - تعالى - منزه عن ذلك، فلا فائدة لتعليق. وقيل: لأن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب، والمطلوب منه، والأول أولى)) (2) . قلت: كلا الأمرين دل عليهما النهي، ويدخلان فيه، كما تقدم. وكلام النووي - رحمه الله - ظاهره أن النهي للكراهة، وليس للتحريم، ومثله كلامه في الأذكار، فإنه قال: ((ويكره أن يقول في الدعاء: اللهم اغفر لي إن شئت، أو إن أردت، بل يجزم بالمسألة)) (3) . وهذا خلاف ظاهر الحديث، ولا أدري ما دليله على ذلك؟ وقد جاء في رواية في ((الصحيحين)) ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء)) (4) ، وهذا ظاهر في التحريم، والقاعدة: أن النهي يحمل على التحريم، ما لم يدل دليل على أنه لكراهة التنزيه.   (1) ((شرح مسلم)) (17/7) . (2) ((الفتح)) (1/140) . (3) (ص496) . (4) انظر ((الفتح)) (11/139) ، و ((مسلم)) (4/2063) رقم (2679) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 قال ابن عبد البر: ((لا يجوز لأحد أن يقول: اللهم أعطني إن شئت، [سواء] من أمور الدين أو الدنيا؛ لأنه كلام مستحيل لا وجه له، إذ لا يفعل إلا ما يشاء)) . قال الحافظ: ((وظاهره أنه حمل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحمله النووي على كراهة التنزيه، وهو أولى)) (1) . قلت: بل الأولى ما دل ظاهر النص عليه، وهو التحريم. والمقصود من الحديث هنا قوله: ((إنه يفعل ما يشاء لا مكره له)) أي: أنه تعالى لا يحمله دعاء ولا غيره على فعل ما لا يريد، فلا يمكن أن يقع في الوجود إلا ما شاء، أما المخلوق فإنه قد يكره على فعل ما لا يريد. ****** 104 - قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو حفص عمرو، حدثنا الأوزاعي، حدثني ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، في صاحب موسى، أهو خضر، فمر بهما أبي بن كعب الأنصاري، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى، الذي سأل السبيل إلى لقيه، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شأنه؟ قال: نعم. إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول: بينا موسى في ملأ بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال موسى: لا، فأوحي إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت   (1) انظر ((الفتح)) (1/144) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فارجع، فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن ذكره، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، فوجدا خضراً، وكان من شأنهما ما قص الله)) . المراء: المجادلة، يقال: ماريته، أماريه مماراة ومراء، ولا يكون المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال، فإنه يكون ابتداء، واعتراضاً، فهو أعم)) (1) . فقوله: ((تماريت)) أي: جادلت معترضاً عليه، وهو كذلك، في أن صاحب موسى هو الخضر، وكان الحر بن قيس يرى أنه غيره. قال الحافظ: ((لم يذكر ما قال الحر بن قيس، ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق الحديث، والخضر: بفتح أوله، وكسر ثانيه، أو بكسر أوله، وإسكان ثانيه)) (2) . وفي ذلك جواز المجادلة في العلم، إذا كان بغير تعنت وازدراء لغيره. وفيه إنصاف الصحابة وأدبهم في طلب العلم. وقد جاء في بعض طرق الحديث في الصحيح، أن ابن عباس لما رأى أُبيّاً قام إليه وسأله. وفيه الرجوع إلى العلماء عند التنازع وقبول الحق ممن قاله، وقبول خبر الواحد الصدوق، وفضل العلم وأهله. قوله: ((بينا موسى في ملأ بني إسرائيل)) أي: في أشرافهم، ورؤسائهم.   (1) ((المصباح)) (2/782) . (2) ((الفتح)) (1/169) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 قال في ((المصباح)) : ((الملأ - مهموز -: أشراف القوم، سموا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف، وجودة الرأي؛ لأنهم يملؤون العيون أبهة، والصدور هيبة)) (1) . وقال الراغب: ((الملأ: جماعة يجتمعون على رأي، يملؤون العيون، رواءً ومنظراً، والنفوس بهاء وجلالاً)) (2) . وجاء هذا اللفظ في كتاب الله - تعالى - كثيراً. ((إذ جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك)) كأن هذا الرجل أعجبه ما سمعه من موسى - عليه السلام - من العلم، فدعاه ذلك إلى هذا السؤال، ويدل لذلك ما ذكره في ((التفسير: ((أن موسى ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولَّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟)) (3) . وفي ((صحيح مسلم)) : ((بينما موسى - عليه السلام _ في قومه، يذكرهم بأيام الله - وأيام الله: نعماؤه - إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً خيراً، أو أعلم، مني)) (4) . ((فأوحى إلى موسى: بلى، عبدنا خضر)) قال الحافظ: ((ظاهر هذا أن الخضر نبي، بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى، وهو باطل)) .   (1) (2/797-798) . (2) ((المفردات)) (ص473) . (3) انظر ((الفتح)) (8/441) . (4) ((مسلم)) (4/1850) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 ثم قال: ((والحق أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص؛ لقوله بعد ذلك: ((إني على علم من علم الله علمنية، لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله، لا أعلمه)) ، والمراد بكون النبي أعلم أهل زمانه: أي: ممن أرسل إليهم، ولم يكن موسى مرسلاً إلى الخضر، فلا نقص على موسى إذا كان الخضر أعلم منه. ومن أوضح ما يستدل به على نبوة الخضر: قوله تعالى: {وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي} وينبغي اعتقاد كونه نبياً؛ لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي)) (1) وهذا لا يكفي لاعتقاد كونه نبياً، بل يجب الاعتماد على الأدلة الشرعية، وقوله: {وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمرِي} دليل على أنه فعله عن أمر الله بالوحي إليه، ومن يوحى إليه فهو نبي. ((فسأل موسى السبيل إلى لقيه)) أي: سأل ربه أن يدله على الطريق إليه، ويهيئ له أسباب ذلك. ((فجعل له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه)) . جاء بيان ذلك في الرواية الأخرى، أنه حمل حوتاً بمكتل، ووكل موسى - عليه السلام - ذلك إلى غلامه، وقال له: إذا فقدته فأخبرني، فنزلا مكاناً فيه صخرة على سيف البحر، فاضطرب الحوت ودخل البحر، ونسي الغلام أن يخبر موسى، حتى تعبا، وقبل ذلك لم ينلهما تعب، عند ذلك ((قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً)) يعني: الحوت كان طريقه يقف الماء عنه فيبقى لا ماء فيه.   (1) ((الفتح)) (1/219-220) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ((قال موسى: ذلك ما كنا نبغي)) أي: هو الذي نريد، حيث جعل فقد الحوت علامة لنا على وجود الخضر. ((فارتدا على آثارهما قصصاً)) أي: رجعا يتبعان آثارهما ويقصانها، فلما وصلا الموضع الذي فقدا فيه الحوت وجدا خضراً، وكان من شأنهما ما قص الله)) . يعني: من خرق السفينة، وإقامة الجدار بدون أجر، وقتل الغلام. وقد اختصر البخاري الحديث، ولم يذكر محل الشاهد منه، وهو قوله: ((ستجدني إن شاء الله صابراً)) فوعد بأنه يصبر على ما يراه منه، وأن يطيع أمره، وعلق ذلك بمشيئة الله - تعالى - وهو عازم على ذلك، ولكن الله - تعالى - لم يشأ لموسى الصبر على ما يراه من الخضر، فلم يصبر. فمهما كان عند المخلوق من القوة والعزم، فإنه لا يستطيع فعل شيء إلا أن يشاء الله - تعالى -. ***** 105 - قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري. وقال أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ننزل غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر - يريد المحصب -)) . ذكر هذا الحديث في كتاب الحج بلفظ يوضح ما هنا، حيث قال: ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغد يوم النحر - وهو بمنى -: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر - يعني بذلك المحصب - وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا هو تقاسمهم على الكفر، وفي هذا أن هذا القول وهو بمنى في اليوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الثاني عشر، وذلك في حجة الوداع. ويخالفه ما في الفضائل: ((قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين أراد حنيناً: ((منزلنا غداً – إن شاء الله – بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر)) (1) . وفي أخرى: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف، حيث تقاسموا على الكفر)) فهذه والتي قبلها صريحتان في أن ذلك في فتح مكة، ولهذا قال بعض العلماء بتعدد هذا القول منه – صلى الله عليه وسلم – في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نزل هناك بعد ما خرج من منى)) (2) . ((وكان تقاسمهم على الكفر في أول يوم من محرم السَّنة السابعة من البعثة كما ذكر ذلك أصحاب المغازي والسيرة، وذلك لما رأت قريش أن الصحابة الذين هاجروا قد وجدوا أرضاً أمنوا فيها الافتتان والأذية، وأن أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقوي ويزداد ظهوراً، فقد دخل في الإسلام عمر بن الخطاب، وفشا الإسلام في القبائل، لذلك اجتمع رأيهم على أن يقتلوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم، وبني عبد المطلب، فأدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبهم، ومنعوه ممن أراد قتله. لذلك كتبت قريش عهداً بينهم بمقاطعة بني هاشم، وبني عبد المطلب، بأن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يتعاملوا معهم، وكتبوا ذلك في صحيفة، وعلقوها بالكعبة. قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك ثلاث سنين، حتى اشتد الأمر عليهم، فسعى في نقض هذا العهد بعض رجالات قريش، فهذا هو تقاسمهم على   (1) انظر ((الفتح)) (7/192) . (2) انظر ((الفتح)) (8/14) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 الكفر)) (1) . قال الحافظ: ((ويختلج في خاطري أن ما بعد قوله: ((يعني: المحصب)) مدرج من كلام الزهري)) . والخيف بسكون الياء: ما ارتفع من الوادي قليلاً من مسيل الماء، ولا يكون إلا بين جبلين، ومنه مسجد الخيف بمنى؛ لأنه في خيف الجبل، والأصل: مسجد خيف منى، فخفف (2) . وكنانة: هو ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهو الجد الرابع عشر للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وأولاد كنانة أربعة: النضر، ومالك، وعبد مناف، وملكان. والنضر: هو قريش، فما كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، ولذلك قال في الحديث: ((إن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبن عبد المطلب)) . وقيل: قريش هو: فهر بن مالك بن الضر بن كنانة، فمن كان من ولد فهر فهو قرشي، وإلا فليس بقرشي، والله أعلم (3) والمقصود من الحديث قوله: ((ننزل غداً إن شاء الله)) حيث علق ما هو عازم على فعله، وقد توافرت أسباب ذلك لديه على مشيئة الله – تعالى – فإنه لو شاء لجعل الممكن الميسور عسيراً ممتنعاً، وليس قول ذلك لمجرد التبرك، بل لأن حصول ذلك مشروط بمشيئة الله – تعالى -. *****   (1) المصدر السابق (7/192) . (2) انظر ((المصباح)) (1/254) . (3) انظر ((مختصر السيرة)) لابن هاشم (1/96) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 106 – ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمر قال: حاصر النبي – صلى الله عليه وسلم – أهل الطائف فلم يفتحها، فقال: ((إنا قافلون غداً إن شاء الله)) ، فقال المسلمون: نقفل ولم نفتح؟ قال: ((فاغدوا على القتال)) ، فغدوا، فأصابتهم جراحات، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إنا قافلون غدا إن شاء الله)) فكأن ذلك أعجبهم، فتبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -)) . الحصار: هو المنع أن يخرج أحد منهم، أو يدخل إليهم شيء، والتضييق عليهم. وكان ذلك بعد فراغه - صلى الله عليه وسلم - من غزوة حنين، وتحصن الكفار بالطائف، فرأى - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحتاجون إلى مطاولة، وهم أهل رماية، فقد ينالون من المسلمين ما لا يناله المسلمون منهم، ورجاء أن تفتح عليه بأقل من ذلك العناء، وأشفق على أصحابه، فقال: ((إنا قافلون غداً إن شاء الله)) وهذا عرض عليهم من باب المشاورة وإشراكهم في الرأي، كما هي عادته - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا لم يلزمهم، ولما قالوا: نقفل ولم نفتح؟ قال: ((اغدوا على القتال)) ثم أعاد هذا القول من الغد بعد ما أمضوا يومهم ذلك في القتال، ولم يتحصلوا على طائل، وقد أصابتهم جراحات، ففرحوا بما قال رسولهم – صلى الله عليه وسلم – وعلموا أن الخير والبركة في رأيه، عند ذلك تبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما رأى فرحهم، وقد كانوا بالأمس قد كرهوا ذلك، تعجباً من سرعة تغير رأيهم، ولإجماعهم على تصويب ما رآه - صلى الله عليه وسلم - أولاً. والمقصود منه قوله: ((إن شاء الله)) فقد أخبر أولاً بأنهم قافلون، معلقاً ذلك بمشيئة الله، فلم يحصل؛ لأن الله لم يشأ ذلك. وفي المرة الثانية شاءه، فحصل بإيجاد الله له الأسباب التي جعلتهم يفرحون بذلك، وهكذا كل ما لا يريد الله – تعالى – حصوله، لا بد أن يوجد له من الأسباب ما يمنع وجوده، وبالعكس. ***** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) ولم يقل: ماذا خلق ربكم)) . أخبر تعالى أنه المالك لكل شيء، وأنه لا يقع لأي فرد من خلقه ضر أو نفع إلا بإرادته وتدبيره، فهو المالك للشفاعة وغيرها، فلا تقع الشفاعة لديه إلا بإذنه، ولا تنفع إلا لمن رضي عمله وقوله، فهو - تعالى - لا يأذن في الشفاعة إلا فيمن رضي عمله، وهو لا يرضى إلا بعبادته الخالصة. قال النووي: ((أهل السُّنَّة متفقون على وقوع الشفاعة، ودل عليه العقل والسمع، فقد ثبت ذلك في كتاب الله وسنة رسوله، كما في هذه وغيرها، والأحاديث فيها بلغت حد التواتر، وأجمعوا على وقوعها للمذنبين من أهل التوحيد، وإنما خالف فيها أهل البدع، الذين سلكوا غير سبيل المؤمنين)) (2) . قال في ((اللسان)) : ((فزع عنه)) أي: كشف عنه الخوف (3) . وقال الأزهري: ((اتفق أهل التفسير، وأهل اللغة، أن معنى قوله: {فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} : كشف الفزع عن قلوبهم، وتأويل الآية: أن ملائكة سماء الدنيا كان عهدهم قد طال بنزول الوحي من السماوات، فلما نزل جبريل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما بعث نبياً، ظنت الملائكة الذين في السماء الدنيا أن جبريل نزل لقيام الساعة، ففزعوا له، فلما تقرر عندهم أنه نزل لغير ذلك، كشف الفزع عن قلوبهم، فأقبلوا على جبريل ومن معه من   (1) الآية 23 من سورة سبأ. (2) انظر ((شرح مسلم)) للنووي (3/35) . (3) (8/253) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 الملائكة، وقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} والذين فزع عن قلوبهم ها هنا ملائكة السماء الدنيا. وقيل: إن ملائكة كل سماء، فزعوا لنزول جبريل، ومن معه من الملائكة، فقال كل فريق منهم لهم: ((ماذا أنزل ربكم؟)) (1) . وهذه الآية لها تعلق بما قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ {22} وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} (2) . قال ابن كثير: ((بين تعالى أنه الإله الواحد الأحد الذي لا نظير له، ولا شريك له، بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك، ولا منازع، ولا معارض، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ} أي: من الآلهة التي عبدت من دونه، {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} كما في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} (3) . وقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: لا يملكون شيئاً استقلالاً، ولا على سبيل الشركة: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} أي: ليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه)) (4) . والمقصود: أن الملائكة الذين سمعوا كلام الله يفزعون له خوفاً، ولم يفهموا كلامه من شدة فزعهم، فإذا ذهب فزعهم، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون: ماذا قال ربكم؟ فيجيب المسؤولون، بأنه تعالى: قال الحق، فيقولون كلهم: قال الحق، وهو العلي الكبير. كما وضح ذلك في الأحاديث التي ذكر هنا بعضها.   (1) تهذيب اللغة (2/145-146) . (2) الآيتان 22، 23 من سورة سبأ. (3) الآية 13 من سورة فاطر. (4) ((تفسير ابن كثير)) (6/501) طبعة الشعب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 ومراد البخاري – رحمه الله – من الآية: أنها تدل على أن لله كلاماً يتكلم به ويقوله بصوته، وأنه يسمع منه كما هو ظاهر الآية: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ، وأن قوله صفة له تعالى، لا يكون مخلوقاً، كما زعم الضالون، ولهذا ذكر الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله ينادي بصوت، كما يأتي، وفي ذلك أبلغ دليل على بطلان قول المعتزلة، ومن تابعهم، على أن الله لا يتكلم بكلام يسمع منه، وإنما كلامه ما يخلقه في غيره، أو هو المعنى القائم في نفسه – تعالى الله عن قولهم – وأنه لا يكون بحرف وصوت يسمع، ((وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس، والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي، حروف، ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس، وأنها من مبادئ العلم وأسبابه المدارك)) (1) . وما نقله الحافظ عن ابن بطال: من أن مراد البخاري: أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته، لم يزل موجودا ً به (2) ، ولا يزال كلامه لا يشبه [كلام] المخلوقين)) (3) إلى آخره. فهو بعيد كل البعد عن مراد البخاري، بل هذا القول يدخل في قول من قصد البخاري الرد عليهم، ولكن ابن بطال يريد من البخاري أن يكون متفقاً معه في العقيدة، وبينهما مثل ما بين المشرق والمغرب. قوله: ((ولم يقل ماذا خلق ربكم)) يشير بذلك إلى الرد على القائلين بخلق القرآن وغيره من كلام الله – تعالى – فالآية صريحة في إبطال قولهم. قال الحافظ: ((هذا أول باب تكلم فيه البخاري على مسألة الكلام، وهي   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/92) ، نقله عن أبي نصر السجزي. (2) هكذا في النسخة التي عندي، وأظن الصواب: ((موصوفاً به)) . (3) ((الفتح)) (13/453) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 طويلة الذيول)) (1) . قال: ((وقال جل ذكره: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (2) . وهذا استفهام إنكار، ينكر تعالى على من يزعم أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه، كما هو المعهود في الدنيا لدى العظماء، فإن الشفاعة عندهم تحصل بدون إذنهم. أما رب العالمين فلعظمته وتمام ملكه، لا يستطيع أحد أن يقدم على الشفاعة عنده، مهما كان مقامه، حتى يأذن له، كما تقدم في حديث الشفاعة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأستأذن على ربي، فإذا رأيته خررت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح علي من المحامد والثناء، ثم يقول: ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع)) وفيه: ((فيحد لي حداً، فيقول: هؤلاء اشفع فيهم)) فعاد الأمر كله لله وحده، كما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ {43} قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا (3) } . والشاهد من الآية للباب قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فإن الإذن يكون بالقول المسموع، الذي يسمعه المأذون له على الأقل. وأما قول الحافظ فيما ظنه: ((أن البخاري أشار بهذه الآية إلى ترجيح أن الضمير في قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} للملائكة)) (4) إلى آخره، وأن فاعل الشفاعة في قوله: ((ولا تنفع الشفاعة عنده)) هم الملائكة، فهو بعيد عن مراد البخاري، وإن كان هذا الذي ذكره هو الصواب في كون الضمير للملائكة، وفاعل الشفاعة هم.   (1) ((الفتح)) (13/454) . (2) الآية 255 من سورة البقرة. (3) الآيتان 43، 44 من سورة الزمر. (4) انظر ((الفتح)) (13/456) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 ((وقال مسروق: عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً، فإذا فزع عن قلوبهم، وسكن الصوت، عرفوا أنه الحق، ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق)) . قال الحافظ: رواه أحمد موصولاً، ولفظه: ((أن الله – عز وجل – إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل، فزع عن قلوبهم، قال: ويقولون: يا جبريل، ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول: الحق، قال: فينادون: الحق، الحق)) (1) . ورواه البخاري موصولاً في ((خلق أفعال العباد)) (2) . وقال أبو داود: ((حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، وعلي بن الحسين بن إبراهيم، وعلي بن مسلم، قالوا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال: فيقولون: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول: الحق، فيقولون: الحق، الحق)) (3) . وقال ابن جرير: ((حدثني زكريا بن أبان المصري، قال: حدثنا نعيم، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي زكريا، عن جابر بن حيوة، عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله   (1) ((الفتح)) (13/456) . (2) انظر (193) ((مجموع عقائد السلف)) . (3) ((سنن أبي داود)) (5/106) كتاب السّنَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة، خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله)) (1) . وبهذه الأحاديث يتبين معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أن هذا الفزع الذي يصيبهم من شدة خوفهم من الله – تعالى -، عندما يسمعون صوت السماء، ويعملون أن ذلك الصوت الذي هو كجر السلسلة على الصفاء هو رعدة السماوات، وخوفها من الله لما سمعت كلامه بالوحي، فعند ذلك تصعق الملائكة خوفاً أن يكون الله – تعالى- أمر بقيام الساعة التي يجازي عز وجل فيها كل عامل بعمله، هذا مع قيامهم بأمر الله وطاعته، وعظيم عبادتهم له، يخافون هذا الخوف الشديد، فكيف بمن يبارز الله – تعالى – بالمعاصي؟ وفي هذه الأحاديث ونحوها الدلالة الواضحة بأن الله يتكلم بكلام تسمعه السماوات ومن فيهن، من الملائكة، وأن كلامه لا يشبه كلام خلقه، وأن من أنكر كلام الله، فليس معه إلا مجرد الوهم وشُبَه الشيطان الباطلة. وفيها إثبات الصوت لله – تعالى – وأن صوته لا يشبه صوت العباد كما سيأتي. ***** 107 – قال: ((ويذكر عن جابر، عن عبد الله بن أنيس، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: ((أنا الملك، أنا الديان)) .   (1) ((تفسير الطبري)) (12/91) . وقال ابن كثير: رواه ابن أبي حاتم وابن خزيمة، انظر ((تفسير ابن كثير)) (6/504) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 هذا الحديث ذكره في مواضع من ((صحيحه)) ، مرة بصيغة الجزم، ومرة بصيغة التمريض، وقد رواه في ((الأدب المفرد)) مسنداً مرفوعاً، حيث قال: ((حدثنا موسى، قال: حدثنا همام، عن القاسم بن عبد الواحد، عن ابن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثه، أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه، أن جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخرج فاعتنقني. قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت. قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يحشر الله العباد - أو الناس - عراة، غرلاً، بهما. قلنا: ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد - أحسبه قال: كما يسمعه من قرب -: أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف، وإنما نأتي الله عراة بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات)) (1) . قوله: ((يحشر الله العباد)) الحشر: الإخراج والجمع. قال الراغب: ((الحشر: إخراج الجماعة عن مقرهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، وروي ((النساء لا يحشرن)) أي: لا يخرجن إلى الغزو، ويقال ذلك في الإنسان وغيره، ولا يقال: الحشر، إلا في الجماعة، قال تعالى: {فَأرسَلَ فِرعَوَنُ فيِ المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} .   (1) انظر ((الأدب المفرد) (ص337) ، ورواه الحاكم في ((المستدرك)) (3/438) و (4/574-575) ، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي، ورواه أحمد في ((المسند)) (3/495) ، والخطيب في ((الرحلة)) (109-117) ، قال الحافظ: وأخرجه الطبراني وأبو يعلى. انظر ((الفتح)) (13/457) ، وأخرجه غيرهم، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وقال تعالى: {وَالطَّيرَ مَحشُوَرَةً كُلُ لَّهُ أَوَّابُُ} ، {وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ} ، {وَإِذَا حُشِرَ النَاسُ} ، {فَسَيَحَشُرُهُم إِلَيهِ جَمِيعًا} وسمي يوم القيامة: يوم الحشر، كما سمي يوم البعث، ويوم النشر)) (1) . لأن الله – تعالى – يحيي كل من مات من خلقه، فيجمعهم في مكان واحد ليحاسبهم، فيجزيهم بعملهم. قوله: ((فيناديهم بصوت)) النداء لا يكون إلا بصوت، ولا يعرف الناس نداء بدون صوت، فذكر الصوت هنا لتأكيد النداء، وهذا في غاية الصراحة والوضوح في أن الله يتكلم بكلام يسمع منه تعالى، وأن له صوتاً، ولكن صوته لا يشبه أصوات خلقه، ولهذا قال: ((يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)) فهذه الصفة تختص بصوته تعالى، وأما أصوات خلقه فيسمعها القريب منها فقط، حسب قوة الصوت وضعفه، وقد كثرت النصوص المثبتة لذلك، منها ما ذكره البخاري – رحمه الله – في هذا الباب، ومنها ما ذكره الله – تعالى – في كتابه في أكثر من عشرة مواضع، بلفظ النداء الذي لا يكون إلا بصوت. منها قوله تعالى: {ِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا} (2) . وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (3) . وقوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4) . وقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ   (1) ((المفردات)) (119-120) . (2) الآية 22 من سورة الأعراف. (3) الآية 52 من سورة مريم. (4) الآية 10 من سورة الشعراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) } يعني: أن المنادي هو الله العزيز الحكيم. وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) أي: ناداه تعالى بهذا القول: ((يا موسى إني أنا الله رب العالمين)) . ومنها: قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (3) . وقوله في السورة أيضاً {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (4) } وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (5) . وقوله: {َ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} (6) . وقوله: {َ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15} إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (7) } فهذه عشرة مواضع كلها صريحة في أن الله ينادي، منها ما وقع في الدنيا، ومنها ما سيقع يوم القيامة. وليس مع من ينكر نداء الله، وأنه تعالى يسمع من يشاء من خلقه نداءه،   (1) الآيتان 8، 9 من سورة النمل. (2) الآية 30 من سورة القصص. (3) الآية 62 من سورة القصص. (4) الآية 74 من سورة القصص. (5) الآية 65 من سورة القصص. (6) الآية 47 من سورة فصلت. (7) الآيتان 15، 16 من سورة النازعات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 إلا مجرد الوهم والقياس الفاسد، الناتج عن الأفكار المضللة. قال البخاري – رحمه الله -: ((ويذكر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت، ويكره أن يكون رفيع الصوت، وأن الله – عز وجل – ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب. فليس هذا لغير الله – جل ذكره – وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق؛ لأن صوت الله – جل ذكره – يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا. وقال – عز وجل -: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} (1) فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين)) (2) . ((قال الخلال: وأخبرنا المروذي: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله، وعدو للإسلام: فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن هذا، عافاه الله)) (3) . و ((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم، قال: إن أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فقد كفر بالله، وكذب القرآن ورد على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال: وسمعت أبا عبد الله قال: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيماً} فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال يؤكد كلامه: {تَكلِيماً} .   (1) الآية 22 من سورة البقرة. (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص1992) ، ((مجموع عقائد السلف)) . (3) ((شرح الأصفهانية)) ، رسالة دكتوراه (ص193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 قلت لأبي عبد الله: الله – عز وجل – يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله – عز وجل -؟ يكلم عبده، ويسأله. الله متكلم لم يزل يأمر بما يشاء، ويحكم، وليس له عدل ولا مثيل، كيف شاء، وأنى شاء. أخبرنا محمد بن علي بن بحر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت، فقال: بلى، تكلم بصوت، وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها، لكل حديث وجه، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر. قال شيخ الإسلام: ((قلت: وهذا الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من العبد، بل ذلك صوت العبد كما هو معلوم لعامة الناس. وقد نص على ذلك الأئمة، أحمد وغيره، فالكلام المسموع من العبد حال تلاوته القرآن هو كلام الله، لا كلام غيره، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} (1) . وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلا م ربي، فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي)) رواه أبو داود وغيره (2) . وقال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (3) ، وقال: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) (4) .   (1) الآية 6 من سورة التوبة. (2) انظر ((السنن)) (4/324) . (3) انظر ((سنن أبي داود)) (2/99) ، والنسائي (2/139) ، وابن ماجه (2/246) ، والدرامي (2/474) ، وأحمد في ((المسند)) (4/283، 285) . (4) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/38-40) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ((وقال أبو نصر السجزي: ((فأما الله – تعالى – فإنه متكلم فيما لم يزل، ولا يزال، إذا شاء ذلك، ويكلم من يشاء تكليمه بما يعرفه [المخاطب] ولا يجهله، وكلامه أحسن الكلام، وفيه سور، وآي، وكلمات، وكل ذلك حروف، وهو المسموع منه على الحقيقة سماعاً يعقله الخلق، وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم في حال واحدة، يما يريده من كل واحد منهم، من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا)) (1) . وقال أيضا: ((لما وجدنا أحكام الشريعة المتعلقة بالكلام منوطة بالنطق الذي هو حرف وصوت، دون ما في النفس، علمنا أن حقيقة الكلام هو الحرف والصوت. فلو حلف امرؤ أنه لا يتكلم ساعة من النهار، فأقام في تلك الساعة يحدث نفسه بأشياء، ولا ينطق بها، كان باراً، غير حانث. ولو كان الكلام هو ما في النفس، حنث في أول ما يحدث به نفسه)) (2) . وقال أيضا: (فالله – تعالى – قد بين في كتابه ما كلامه، وبين ذلك الرسول – صلى الله عليه وسلم – واعترف به الصدر الأول والسلف الصالح، فقال الله - تعالى-: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} (3) ، وقال: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن} ِ (4) ، والمستجير لا يسمع إلا كلاماً ذا حروف، والقارئ لا يقرأ إلا كلاماً ذا حروف. ولما سمى تعالى هذا القرآن كلامه، علم أن كلامه حروف، وقد أكد ذلك بذكر الحروف المقطعة في أوائل السور ... {كَهيعص} ونحوها.   (1) المصدر السابق (ص88) ملخصاً. (2) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) لأبي نصر، رسالة ماجستير (ص176) . (3) الآية 6 من سورة التوبة. (4) الآية 20 من سورة المزمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 فمن زعم أن هذه الحروف ليست من القرآن فهو كافر، ومن قال: إنها من القرآن، والقرآن ليس كلام الله، فهو كافر، ومن زعم أنها عبارة عن الكلام الذي لا حروف فيه، فهو جهل وغباء؛ لأن ذلك لا يعرف، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من قرأ القرآن، فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: ((الم)) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، وبهذا يتبين أن القرآن سور، وآيات، وحروف، وهكذا كلام الله)) (1) . وقال أيضاً: ((الأصل الذي يجب أن يعلم: أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمَّيْن بها، فنحن إذا قلنا: إن الله موجود، رؤوف، واحد، حي، عليم، سميع، بصير، متكلم، وقلنا: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان موجوداً، حيا، عالماً، سميعاً، بصيراً، متكلماً، لم يكن ذلك تشبيهاً، ولا خالفنا به أحداً من السلف، والأئمة. بل الله موجود لم يزل، واحد، حي، قديم، قيوم، عالم، سميع، بصير، متكلم فيما لم يزل، ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات. والموجود منا إنما وجد من عدم، وحين ينقضي أجله ثم يصير ميتاً يزول ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم وسمع وأبصر وتكلم بحوارح تلحقها الآفات. فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق – سبحانه وتعالى – وإن اتفقت مسميات هذه الصفات)) (2) . ((وقد بين الله في كتابه أن الكلام لا يكون إلا بصوت وحروف، قال تعالى: {وَإِذ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} والعرب لا تعرف نداء إلا صوتاً.   (1) ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص186) ، رسالة ماجستير. (2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/89-90) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك، فإن أنكروا الظاهر كفروا، وإن قالوا إن النداء غير صوت خالفوا لغات العرب. وإن قالوا: نادى الأمير إذا أمر بالنداء، دفعوا فضيلة موسى – صلى الله عليه وسلم – المختصة به من تكليم الله إياه بذاته، من غير واسطة، ولا ترجمان. وليس في وجود الصوت من الله – تعالى – تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق، كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه، وكلام الله حروف، وأصوات بحكم النص)) (1) . ((والله – تعالى – لم يزل متكلماً إذا شاء، وإذا شاء تكلم بصوت يسمع، وبحروف، وكل ما قام بذات الله – تعالى – فليس بمخلوق، سواء كان قديما أو حادثاً، وكلامه – تعالى – وفعله متعلق بمشيئته وإرادته، هذا قول أهل السُّنَّة والجماعة. قال عبد الله ابن الإمام أحمد: ((سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى، لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت. وقال أبي: حديث ابن مسعود: ((إذا تكلم الله سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان)) . قال أبي: وهذا الجهمية تنكره، قال أبي: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر)) (2) . وقال أيضا: ((حدثني أبي: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن   (1) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/93) . (2) ((كتاب السُّنَّة)) (ص70) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله: ((إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء، ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا)) (1) . وقال أبو يعلى بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره: ((اعلم أن هذه الأخبار تدل على أن كلام الله – تعالى – بحرف وصوت، لا كحروف الآدميين وأصواتهم، كما أن له علماً وقدرة لا تشبه صفات الآدميين، وقد نص أحمد في رواية الجماعة على إثبات الصوت)) (2) ، وكلام أهل العلم من السلف وأتباعهم في هذا كثير. قوله: ((أنا الملك أنا الديان)) يعني: أن النداء الذي يسمعه أهل الموقف كلهم يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، هو بهاتين الكلمتين: ((أنا الملك أنا الديان)) ، فهو تعالى الملك الذي بيده ملك السماوات والأرض، ومن فيهن، وهو الديان الذي يجازي عباده بعملهم، من عمل خيراً جازاه بأفضل مما عمل، ومن عمل شراً جازاه بما يستحق. وفي هذا الحديث دليل على أن بعض أهل الموقف أقرب إلى الله من بعض. ودل على هذا المفهوم آيات من كتاب الله، وأحاديث ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذيِنَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ} ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْملُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ} ، ونحو ذلك، وعند الذين ضلوا في هذا الباب، الخلق بالنسبة إلى الله سواء بالقرب والبعد، وكفى بذلك ضلالاً أنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله، وللفطر والعقول. *****   (1) المصدر المذكور (71) ، رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص194) ، مجموع عقائد السلف. (2) ((إبطال التأويل)) ، مخطوط (ص304) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 108 – قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة يبلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على الصفوان)) . قال علي: وقال غيره: ((صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير)) . قوله: ((إذا قضى)) المراد بالقضاء هنا: الأمر بالشيء، والحكم، بأن يتكلم آمراً ملائكته، كما في حديث ابن مسعود المتقدم، وحديث النواس بن سمعان: إذا تكلم الله بالوحي. قوله: ((ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)) صريح بأن الملائكة تسمع قوله: ولا يعقل شيء يدركه السمع إلا ما كان بصوت وحروف. هذا هو مراد البخاري – رحمه الله – أن كلام الله يسمع منه؛ لأنه يتكلم حقيقة، والكلام الحقيقي الذي يسمع لا بد أن يكون بصوت وحروف، وهذا الذي فهمه صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منه، وهو الذي أراد منهم فهمه، وكذا فهمه أتباعه إلى اليوم. ((خضعاناً)) مصدر لخضع، كغفران مصدر لغفر، والمعنى: أن الملائكة تخضع لله عند سماع كلامه، وتستكين، فتضرب بأجنحتها من الخضوع. والصفوان هي الحجارة الكبيرة الصلبة. قوله: ((ينفذهم ذلك)) يعني: أن الصوت المذكور يبلغهم كلهم ويسمعونه. قوله: ((قال سفيان: قال عمرو: سمعت عكرمة، حدثنا أبو هريرة بهذا، قلت لسفيان: قال: سمعت عكرمة ... )) إلى آخره. يقصد بيان أن عكرمة قد صرح بالتحديث، فينتفي احتمال التدليس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 قوله: ((فزع)) قال سفيان: هكذا قرأ عمرو، فلا أدري سمعه هكذا أم لا. قال سفيان: ((وهي قراءتنا)) . هذه القراءة بضم الفاء وبالراء المهملة المشددة، وبالغين المعجمة، قال في إتحاف فضلاء البشر: ((قي قراءة الحسن)) (1) . وعمرو المذكور هو ابن دينار. قوله: ((فلا أدري سمعه هكذا أم لا)) أي: سمعه من عكرمة، أو قرأها كذلك من قبل نفسه بناء على أنها قراءته. وقول سفيان: هي قراءتنا، يريد نفسه، ومن تابعه (2) . قال الحافظ بعد أن ذكر عدة روايات تتعلق بهذا الحديث، سجود الملائكة عند سماعهم صوت الوحي من الله، قال: ((فهذه الأحاديث ظاهرة جداً في أن ذلك وقع في الدنيا، بخلاف قول بعض المفسرين الذين أقدموا على الجزم بأن الضمير في قوله: ((عن قلوبهم)) للكفار، وأن ذلك يقع يوم القيامة، مخالفين لما صح من الحديث النبوي، من أجل خفاء معنى الغاية في قوله: ((حتى إذا فزع عن قلوبهم)) . وما قاله هو الذي يجب أن يعتمد، ولا يلتفت إلى غيره؛ لأن الأحاديث أوضحته غاية الإيضاح. **** 109 - قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أنه كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن)) وقال صاحب له: يريد: يجهر به)) .   (1) انظر (ص360) ، والحسن هو البصري. (2) انظر ((الفتح)) (3/459) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 قال ابن كثير: ((معناه: أن الله – تعالى – ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت؛ لكمال خلقهم، وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك. وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم، برهم فاجرهم، كما قالت عائشة – رضي الله عنها -: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات)) . ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم، كما قال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (1) ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ، كما دل عليه هذا الحديث العظيم. ومنهم من فسر الإذن ها هنا بالأمر، والأول أولى؛ لقوله: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن)) أي: يجهر به، فالأذن: الاستماع؛ لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ {1} وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} فالإذن هنا الاستماع، ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجه بسند جيد، عن فضالة بن عبيد، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن، من صاحب القينة إلى قينته)) . وقول سفيان بن عيينة: إن المراد بالتغني: يستغني به، فإن أراد أنه يستغني به عن الدنيا – وهو الظاهر من كلامه – فخلاف الظاهر من مراد الحديث؛ لأنه فسره بعض رواته بالجهر، وهو تحسين القراءة، والتحزين بها)) (2) . ثم قال: ((والمراد من تحسين الصوت بالقرآن: تطريبه، وتحزينه، والتخشع به، كما رواه بقي بن مخلد، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله   (1) الآية 61 من سورة يونس. (2) ((فضائل القرآن)) لابن كثير (ص116) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم: ((يا أبا موسى، لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة)) قلت: أما – والله – لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرتها لك تحبيراً)) (1) . ومن تأمل الأحاديث الواردة في ذلك تبين له أن معنى قوله: ((يتغنى بالقرآن)) : تحسين الصوت وتزيينه بما يستطيع القارئ، والتغني لا يكون إلا بالكلام ذي الحروف، كما أن الاستماع لا يكون إلا للكلام المصوت به، وهذا هو وجه استدلال البخاري بهذا الحديث. فالقرآن الذي يحب الله من عبده أن يتغنى به، ويحب استماعه إليه في ذلك، ينطق به بالحروف ويصوت به. والله – تعالى – قد تكلم به بصوت نفسه، وبهذه الحروف المكتوب بها. ((وذكر الطبري)) عن الشافعي، أنه سئل عن تأويل ابن عيينة: ((التغني بالاستغناء)) فلم يرتضه، وقال: ((لو أراد الاستغناء، لقال: يستغني وإنما أراد تحسين الصوت)) ويؤيده ما في رواية الطبري: ((ما أذن لنبي في الترنم في القرآن)) . وفي رواية عبد الرزاق: ((ما أذن لنبي حسن الصوت)) ، وهو عند مسلم. وفي رواية للطحاوي: ((حسن الترنم بالقرآن)) . قال الطبري: الترنم لا يكون إلا بالصوت، إذا أحسنه القارئ، وطرب به، ولو كان معناه: الاستغناء، لما كان لذكر الصوت والجهر معنى)) . ولا نعلم في كلام العرب ((تغنى بمعنى استغنى، ولا في أشعارهم)) .   (1) المصدر السابق (ص122) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ومثل ذلك قال الإسماعيلي، وقال: الاستغناء لا يحتاج إلى استماع؛ لأن الاستماع أمر خاص، زائد على الاكتفاء به، والاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع، ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة. وقال عمر بن شبة: ذكرت لأبي عاصم النبيل: تفسير ابن عيينة – يعني: يستغني به – فقال: لم يصنع شيئاً، حدثني ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال: كان داود – عليه السلام – يتغنى – يعني: حين يقرأ – ويَبكي ويُبكي. وظواهر الأخبار ترجح أن المراد: تحسين الصوت بالقراءة، ويؤيده قوله: ((يجهر به)) فإن كان ذلك مرفوعاً قامت الحجة، وإن كان غير مرفوع، فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره، ولا سيما إذا كان فقيهاً. وقد جزم الحليمي بأن ذلك من قول أبي هريرة، والعرب تقول: سمعت فلاناً يتغنى بكذا، أي: يجهر به، قال ذو الرمة: أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم يعني: أجهر بذكر اسم حبيبتي من غير تورية. والحاصل: أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة. وهو أنه يحسن به صوته، جاهراً به، مترنماً، على طريق التحزن، مستغنياً به عن غيره من الأخبار، طالباً به غنى النفس، راجياً به غنى اليد)) (1) . قلت: في هذا الجمع نظر، فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد بذلك معنى معيناً، وظواهر أقواله في ذلك أنه أراد تحسين الصوت، وكذا التحزن الذي يستجلب به الخشوع ومحبة القرآن والإقبال إلى استماعه.   (1) ((فتح الباري)) (9/72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 ولا يلزم الجمع بين التأويلات، بل كل تأويل خالف النص يجب رده على من قاله. قال الحافظ: ((ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب، وإجراء الدمع. ولا خلاف بين السلف في استحباب تحسين الصوت بالقراءة، وتقديم حسن الصوت على غيره. وإنما اختلفوا في التلحين، بين مانع ومجيز. والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقراءة مطلوب، فإن لم يكن حسناً فليحسنه ما استطاع، كما قال ابن أبي مليكة، أحد رواة الحديث، أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح. ومن جملة تحسينه: أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن الحسن الصوت يزداد بذلك حسناً، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه. وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يفِ تحسين الصوت بقبح الأداء. ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وجد من يراعيهما معاً، فلا شك أنه أرجح من غيره، لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت، ويتجنب الممنوع من حرمة الأداء. والله أعلم)) (1) . ****** 110 – قال: ((حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال:   (1) ((الفتح)) (9/72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)) . قال محب الدين الطبري: ((لبيك: مصدر مثنى، للتكثير والمبالغة، ومعناه: إجابة بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك. وتثنيته للتوكيد، لا تثنية حقيقة، قال ابن الأنباري: ثنوا لبيك، كما ثنوا حنانيك، أي: تحنناً بعد تحنن)) (1) . وقال ابن الأنباري: ((سمعت أبا العباس يقول: معنى قولهم: لبيك: أنا مقيم على طاعتك، وإجابتك، من قولهم: قد لبَّ الرجل في المكان وألبَّ، إذا أقام فيه، قال الشاعر: محل الجهر أنت به مقيم ملب ما يزول ولا يريم وقال الفراء: معنى لبيك: إجابتي لك يا رب، ونصب على المصدر، وثني؛ لأنه أراد إجابة بعد إجابة. وقال آخرون: معناه: اتجاهي إليك، مأخوذ من قولهم: داري تلبُّ دارك، أي: تواجهها. وقال آخرون: معناه: محبتي لك، من قولهم: امرأة لبَّة، إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه)) (2) ، ويذكر مثل ذلك الجوهري (3) .   (1) ((القري)) (ص145) . (2) ((الزاهر)) (1/197-198) ملخصاً. (3) انظر ((الصحاح)) (15/336) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وقال الزمخشري: ((معنى لبيك: دواماً على طاعتك، وإقامة عليها مرة بعد أخرى، من ألب بالمكان: إذا أقام به، وألب على كذا: إذا لم يفارقه، ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير، ولا يكون عامله إلا مضمراً، كأنه قال: ألب إلباباً بعد إلباب. والتلبية من لبيك، بمنزلة التهليل من لا إله إلا الله)) (1) . ((وقال الخليل: هي من قولهم: دار فلان تلب داري، أي: تواجهها. فيكون معناه: اتجاهي وقصدي إليك يا رب، مرة بعد أخرى. وقيل: هي من قولهم: حب لباب، إذا كان خالصاً محضاً، ومنه: لب الطعام ولبابه، فعل هذا معناه: إخلاصي لك يا رب، مرة بعد أخرى. وقيل: هو من الإلباب، أي: القرب: أي: قربي منك، وقيل: من قولهم: أنا ملب بين يديك، أي: خاضع)) (2) . قوله: ((فينادي بصوت)) قال الحافظ: ((أكثر الرواة، رووه بكسر الدال - يعني رواة صحيح البخاري - قال: وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: ((إن الله يأمرك)) تدل ظاهراً على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك)) (3) . قلت: هذا مجانب للإنصاف، وبعيد عن ظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل الظاهر أن المنادي هو الله - تعالى -. والنداء صفة كمال، لا محذور فيه كما توهمه أهل التأويل الباطل.   (1) ((الفائق)) (3/295) . (2) ((القرى)) (ص145) . (3) ((الفتح)) (13/460) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وقد ثبت بالنصوص الكثيرة اتصاف الله - تعالى - بالكلام، والنداء منه. وأي محذور يخشاه هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم لتحريف كلام الله وكلام رسوله، وصرفه عن الظاهر المراد منه، حتى عطلوه - تعالى-، حتى جعلوا المخلوق أكمل منه، ولذلك قالوا: المنادي ملك يأمره الله أن ينادي آدم، هذا مع وضوح الكلام وكونه يأبى هذا التحريف، فإنه قال: ((يقول الله: يا آدم، فينادي بصوت)) فقوله: ((فينادي بصوت)) تفسير لقوله: ((يقول الله: يا آدم)) ، وبيان له، ولكن الذين تأثروا بأصول الجهمية ظنوا أن اتصاف الله - تعالى - بالكلام حقيقة والنداء من التشبيه، فنفوا ذلك عن الله - تعالى - ظانين أن هذا قول أهل السُّنَّة فصار الأخذ بظاهر هذا النص ونحوه لا يجوز؛ لأنه عندهم على خلاف أصولهم، التي منها: نفي حقيقة الكلام عن الله - تعالى -، فوجب تأويله - كما زعموا -، والحق خلاف ظنهم. ثم نقول: إذا كان الله - تعالى - ليس هو المنادي، وإنما يأمر ملكاً ينادي، نقول: بأي شيء يأمر الملك، وأنتم تقولون: لا يتكلم بكلام يسمع منه؟ أيكون أمره بالإشارة؟ وبذلك يكون الملك أكمل من رب العالمين. أم يكون الأمر بأن يخلقه بقلبه؟ فإن قالوا ذلك فيلزم أن يكون الأمر صفة للملك؛ لأن ما كان مخلوقاً فيه فهو صفة له. فالحق أن الله يتكلم بصوت مسموع يسمعه من شاء من عباده، وليس الصوت الذي يتكلم الله به قديماً كما يقوله بعض أهل البدع، بل لم يزل يتكلم متى شاء، وسيكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم، كما في حديث عدي بن حاتم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) . ولما علم أئمة الأشعرية القدماء أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة العين، لم يمكنهم أن يقولوا: القديم هو الحروف، والأصوات؛ لأنها لا تكون إلا متعاقبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 والصوت عرض، لا يبقى زمانين إلا بواسطة ما يمسكه كشريط التسجيل ونحوه، فلذلك قالوا: القديم معنى واحد، لامتناع معانٍ لا نهاية لها عندهم، وهذا هو أصلهم الذي بنوا عليه مذهبهم الباطل. ((والاختلاف في القرآن والكلام، هل هو حرف وصوت أو غير ذلك؟ محدث حدث في حدود المائة الثالثة، وانتشر في المائة الرابعة. فإن ابن كلاب والأشعري ونحوهما لما ناظروا المعتزلة في إثبات الصفات، وأن القرآن ليس مخلوقاً، وأنه لا يمكن أن يكون قديماً إلا أن يكون معنى قائماً بنفس الله، كعلمه. وزادوا: إن الله لا يتكلم بصوت، ولا لغة، ولا قديم ولا غير قديم، لما رأوا امتناع قيام أمر حادث به، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين. والآثار شاهدة بأن الله يتكلم بصوت، ولهذا جعل الإمام أحمد من أنكر ذلك: جهمياً. قال عبد الله: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت؟ فقال: هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل)) (1) قال شيخ الإسلام: ((السلف والأئمة يقولون: إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه تعالى قديم النوع، بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء، فإن الكلام صفة الكمال، ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، ومن لا يزال متكلماً بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام ممكناً له بعد أن يكون ممتنعاً)) (2) .   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/579) . (2) المصدر السابق (12/372) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وقال أيضاً: ((والصواب أن الله - تعالى - لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حتى أتى، لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم)) (1) . وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: ((حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن منصور، عن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن فروة بن نوفل الأشجعي، قال: كنت جاراً لخباب، فخرجنا يوماً من المسجد، وهو آخذ بيدي فقال: يا هناه، تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)) يعني: القرآن. وروي بسند حسن، عن جبير بن نفير، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) يعني: القرآن. وقال: ((حدثني أبو معمر، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال: ((كأن الناس إذا سمعوا القرآن من في الرحمن يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك. وحدثني أبي، سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى، تكلم بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت)) (2) . يعني: أنها لا تؤول، بل يجب الإيمان بها على ما يدل عليه ظاهرها، من أن الله يتكلم، وأن كلامه بصوت.   (1) المصدر السابق (12/598) . (2) ((كتاب السُّنَّة)) (ص26-71) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 ولو كان ما يفهم من ظاهرها باطل، لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله - تعالى - كلفه ببيان ما نزل إليه. ثم قال: ((سمعت أبا معمر الهذلي يقول: من زعم أن الله لا يتكلم، ولا يسمع ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى - وذكر أشياء من هذه الصفات - فهو كافر بالله)) . حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجداً، حتى إذا فرغ عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال كذا وكذا، ورواه مرفوعاً)) (1) . وفي الترمذي، عن عمران بن حصين، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فتفاوت بين أصحابه في السير، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته بهاتين الآيتين: {يَأيُّها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُم إِنَ زَلزَلَةَ السَاعِة شَيءُ عَظِيمُ} إلى قوله: {عَذَابَ اللهِ شَدِيدُ} ، فلما سمع ذلك أصحابه حثوا المطى، وعرفوا أنه عنده قول يقوله، فقال: ((هل تدرون أي يوم ذلك؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذاك يوم ينادي الله فيه آدم، فيناديه ربه، فيقول: يا آدم، ابعث بعث النار)) إلى آخر الحديث، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح)) (2) . فهذا ظاهر جداً في أن المنادي هو الله - تعالى -، والنداء لا يكون إلا بصوت يسمع من بعدٍ عن المنادي، فللَّه - تعالى - صوت يليق به، فصوته لا يشبه أصوات خلقه، كصفاته.   (1) ((كتاب السُّنَّة)) (ص70-71) . (2) ((جامع الترمذي)) (5/324) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 ولثبوت ذلك بالأدلة التي ذكر شيء منها في هذا يتعين على المؤمن الإيمان بأن الله - تعالى - يتكلم بكلام يُسْمِعُه من يشاء من خلقه، وأنه بصوت، إذا شاء صوت به. فتبين أن قول الحافظ: ((إن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك)) باطل، إذ هو خلاف الحق، وأن المنادي هو الله. وإذا كان الله - تعالى - لا يتكلم بكلام مسموع منه، فكيف يأمر الملك؟ وكيف يرسل الرسل؟ أو ليس الكلام صفة كمال، ومن يتكلم وينادي أكمل ممن لا يقدر على ذلك؟ فما هو المسوغ لتحريف كلام الله وكلام رسوله؟ مع أن السلف وأهل السُّنَّة مجمعون على وصف الله بالكلام، وأن من نفى ذلك ضال سالك غير سبيل المؤمنين. قال الألوسي: ((الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي، والأشعري، وغيرهما من المحققين، أن موسى عليه السلام سمع كلام الله - تعالى - بحرف وصوت، كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغاً لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، بل قد ورد في إثبات الصوت لله - تعالى - أحاديث لا تحصى)) (1) . ***** 111- قال: ((حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة)) . تقدم هذا الحديث في الفضائل، والنكاح، والأدب، وفي ألفاظ متنه وفي   (1) روح المعاني (ج 1) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 إسناده اختلاف عما هنا، وقد بينت عائشة - رضي الله عنها - سبب غيرتها: أنه كثرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وثناؤه عليها، وجاء في رواية ((لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره ربه أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن)) (1) . والغيرة عند النساء جبلة لا يستطعن التخلي عنها، ولهذا لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة، وفي هذا الحديث فضل خديجة - رضي الله عنها -. والمقصود من الحديث هنا قوله: ((ولقد أمره ربه أن يبشرها)) ؛ لأن الأمر عند الإطلاق لا يكون إلا بالكلام، فلذلك قال العلماء: إن من نفي الكلام عن الله - تعالى - فقد نفى الرسالة، والشرائع كلها؛ لأنها أمر ونهي. ((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرني علي بن عيسى، أن حنبلاً حدثهم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه)) . قال: وسمعت أبا عبد الله: قال الله - تعالى-: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيماً} فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال -تعالى - يؤكد كلامه: {تَكلِيماً} . قلت لأبي عبد الله: الله - تعالى - يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل؟ يكلم الله عبده ويسأله، لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم، وليس له عدل ومثل، كيف شاء، وأنى شاء)) (2) . ********   (1) انظر ((الفتح)) (9/336) و (7/113) و (10/435) . (2) ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/37-38) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 قال: ((باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة)) . يريد بهذا تنويع الأدلة، وأن الله يتكلم متى شاء، ويكلم من يشاء من ملائكته في أي وقت أراد، وسبق الكلام في النداء. ((وقال معمر:: {وَإِنّكَ لَتُلَقَّى القُرآنَ} أي: يلقى عليك، وتلقاه أنت - أي: وتأخذه عنهم - ومثله: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ} قال الحافظ: ((معمر هذا يتبادر أنه ابن راشد، شيخ عبد الرازق، وليس كذلك، بل هو أبو عبيدة، معمر بن المثنى اللغوي. قال أبو ذر الهروي: وجدت ذلك في كتاب المجاز له، فقال في تفسير سورة النمل في قوله عز وجل: {وَإِنّكَ لَتُلَقَّى القُرآنَ} أي: تأخذه عنه، ويلقى عليك. وقال في سورة البقرة: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ} أي: قبلها، وأخذها عنه، قال أبو عبيدة: وتلا علينا أبو مهدي آية، فقال: تلقيتها من عمي، تلقاها عن أبي هريرة، تلقاها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال في قوله تعالى: {وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلا الصَابِروُنَ} أي: لا يوافق لها، ولا يرزقها ولا يلقنها. وحاصله: أنها تأتي بالمعاني الثلاثة، وأنها هنا صالحة لكل منها. وأصله: اللقاء، وهو: استقبال الشيء ومصادفته)) (1) .   (1) ((الفتح)) (13/461) ، وانظر ((مجاز القرآن)) (1/38) و (2/92، 111) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ومقصوده بالمعاني الثلاثة: تأخذها، وتقبلها، وتوفق لها وترزقها. وبعضها قريب من بعض. وقال ابن جرير: ((وإنك يا محمد لتحفظ القرآن، وتعلمه)) (1) . وقال: {فَتَلَقَّىَ آدَمُ مِن رَّبّهِ كَلِمَاتٍ} قيل: إنه أخذ وقبل، وأصله: التفعل من اللقاء، كما يتلقى الرجل مستقبله عند قدومه من غيبته، أو سفره. فكأنه استقبله، فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه، أو أخبره، ومعناه: فلقَّى الله آدم كلمات توبة، فتلقاها آدم من ربه، وأخذها عنه تائباً)) (2) . **** 112 - قال: ((حدثني إسحاق، حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في أهل الأرض)) . قال الحافظ: ((وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها، ففي حديث ثوبان: أن العبد يلتمس مرضاة الله - تعالى - فلا يزال كذلك حتى يقول: يا جبريل، إن عبدي فلانا يلتمس أن يرضينى، ألا وإن رحمتي غلبت عليه)) (3) . يعني: أن المراد بالمحبة هي الرحمة، كما يقوله الأشاعرة، وليس كذلك،   (1) ((تفسير الطبري)) (19/132) . (2) ((تفسير الطبري)) (1/541) تحقيق محمود شاكر. (3) ((الفتح)) (10/462) ، وقال: أخرجه أحمد والطبراني في ((الأوسط)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 بل المحبة صفة الله - تعالى - غير صفة الرحمة، ورحمة الله - تعالى - لعبده من لوازم محبته له، وقد تقدم تقرير ذلك، والرد على المحرفين من الأشاعرة وغيرهم (1) . وأسباب محبة الله - تعالى - لعبده متعددة، حسب ما دلت عليه النصوص في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، منها: التوبة، فالله - تعالى - يحب التوابين، ومنها: التطهير من الأنجاس الحسية والمعنوية: {إِنَّ اللهَ يُحِبُ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُ المُتَطَهِرِينَ} ومنها: الثبات أمام العدو صفوفاً كالبنيان المرصوص: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} . وفي الحديث الصحيح: ((لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)) الحديث. قوله: ((إن الله تبارك وتعالى)) قال ابن عباس: تبارك: تفاعل من البركة، وهو كقول القائل: تقدس ربنا)) (2) . وقال الأزهري: ((أخبرني المنذري عن أبي العباس، أنه سئل عن تفسير ((تبارك الله)) فقال: ارتفع، والمتبارك: المرتفع، ومعنى البركة: الكثرة في كل خير، وتبارك: تعالى وتعاظم، وقال ابن الأنباري: تبارك الله: أي: يتبرك باسمه في كل أمر، وقال الليث: تبارك الله: تمجيد وتعظيم، وقال أبو بكر: تبارك: تقدس، أي: تطهر، والمقدس: المطهر)) (3) . وقال: ((عن الليث: ((تعالى)) هو: العلي المتعالي، العالي الأعلى، ذو العلاء والعُلا والمعالي، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهو الأعلى - سبحانه -   (1) انظر (ص59) من الجزء الأول من هذا الشرح. (2) انظر ((تفسير الطبري)) (18/179) . (3) ((تهذيب اللغة)) (10/230) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 بمعنى العالي، وتفسيره ((تعالى)) : جل عن كل ثناء، فهو أعظم وأجل وأعلى مما يثنى عليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) (1) . يعني: أن ثناء الخلق عليه - تعالى - لا يبلغ ما يستحقه من الثناء، ولا قريباً من ذلك، بل هو كما أثنى على نفسه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحصي ثناء عليك، بل أنت كما أثنيت على نفسك)) (2) . قال الأزهري: ((وتفسير هذه الصفات لله - تعالى - يقرب بعضها من بعض، فالعلي: الشريف، فعيل من علا يعلو، وهو بمعنى العالي، وهو الذي ليس فوقه شيء، ويقال: هو الذي علا الخلق فقهرهم بقدرته. وأما المتعالي: فهو الذي جل عن إفك المفترين، وتنزه عن وساوس المتحيرين، وقد يكون المتعالي بمعنى العالي. والأعلى هو الله الذي أعلى من كل عال، واسمه الأعلى، أي: صفته أعلى الصفات)) (3) . وقال ابن القيم: ((الرب تعالى يقال في حقه: تبارك، ولا يقال: مبارك. ثم قالت طائفة - منهم الجوهري -: إن تبارك بمعنى: بارك، مثل قاتل وتقاتل، إلا أن فاعل يتعدى، وتفاعل لا يتعدى. وهذا غلط عند المحققين، وإنما تبارك: تفاعل من البركة، وهذا الثناء في حقه - تعالى - إنما هو لوصف رجع إليه، كتعالى، فإنه تفاعل من العلو، ولهذا يقرن بين هذين اللفظين فيقال: تبارك وتعالى، وهو سبحانه أحق بذلك وأولى من كل أحد، فإن الخير كله بيده،   (1) المرجع المذكور (3/186) . (2) رواه أبو داود في ((السنن)) (2/134) ، والترمذي رقم (3561) ، والنسائي (1748) ، وابن ماجه رقم (1179) . (3) ((تهذيب اللغة)) (3/186) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة، وخيرات لا شرور فيها. وهذا ثناء يشعر بالعظمة والرفعة والسعة، كما يقال: تعاظم، وتعالى ونحوه، فهو دليل على عظمته، وكثرة خيره، ودوامه، واجتماع صفات الكمال فيه، وأن كل نفع في العالم كان ويكون، فمن نفعه - سبحانه - وإحسانه. ويدل هذا الفعل أيضاً في حقه على العظمة، والجلال وعلو الشأن)) (1) . قوله: ((إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل)) . صريح في أن الله - تعالى - يحب من يشاء من عباده من أهل الطاعة له والتقوى، كما هو صريح أيضاً في أنه - تعالى - يتكلم وينادي متى يشاء لمن يشاء، وفي هذا الحديث النداء لجبريل خاصة، وتقدم أن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع، وأن مثل هذه النصوص من أبلغ الأدلة على إثبات صفة الكلام لله - تعالى -، وهذا القدر من الحديث هو المقصود، إذ هو محل الشاهد، وفيه: أن جبريل عليه السلام بمجرد إخبار الله له بأنه تعالى يحب العبد يحبه، وأنه هو سفير الله - تعالى - إلى الملائكة، كما أنه سفيره إلى الرسل من البشر، ولهذا قال: ((ثم ينادي جبريل في السماء)) ، مما يعجب له العاقل أن جميع شراح الحديث الذين اطلعت على أقوالهم يقولون: إن هذا النداء من جبريل نداء حقيقي يسمع منه بصوته، تسمعه ملائكة السماء، وأكثرهم يقول: إن النداء المسند إلى الله - تعالى ليس حقيقياً، وإنما معناه: أمره لمن ينادي، أو إعلام جبريل بما يفهم منه أن الله يحب ذلك العبد.   (1) ((جلاء الأفهام)) (ص206-207) . وانظر بقية الكلام فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وهكذا يتلاعبون بكلام الله كلام رسوله، مما سبَّب ضلال كثير من الخلق. والله - جل وعلا - سوف يسألهم عن ذلك، وسوف يعلمون حين يقفون بين يديه أي جناية جنوها عليه وعلى أنبيائه، وعلى شرعه، وعلى عباده. والمراد بالسماء هنا: الجنس، أي: السماوات، ونداؤه فيهم يقول: ((إن الله قد أحب فلاناً، فأحبوه)) . ((فيحبه أهل السماء)) أي: أن ملائكة السماوات بمجرد إخبار جبريل وأمره يحبونه؛ لأنهم يحبون الله ويحبون ما يحبه، ومن ثمرات ذلك: استغفارهم لهذا العبد، وموالاتهم له، وهذا في الحقيقة هو الشرف والرفعة، وبه تحصل السعادة بمشيئة الله - تعالى -. ((فيوضع له القبول في أهل الأرض)) أي: تقبله قلوبهم وتحبه؛ لأن الله - تعالى - يحبه، ومن أحبه الله - تعالى - حببه إلى عباده في السماوات والأرض. فشهدوا له بالخير ورجوا له الفلاح؛ لما وقع في قلوبهم له. ******* 113 - قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) . تقدم هذا الحديث وشرح في باب قوله تعالى: {تَعرُجُ المَلاَئِكَةُ وَالُّروحُ إِليهِ} ، والمقصود منه في هذا الباب قوله: ((فيسألهم - وهو أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 بهم - كيف تركتم عبادي؟)) ؛ لأن الظاهر من السؤال أنه بالكلام وسماع صوت السائل. وملائكة الله لكل منهم مقام معلوم لا يتجاوزه، وأعلاهم مقاماً جبريل عليه السلام، وقد سبق أنه تعالى يناديه، فهؤلاء أولى بالمناداة؛ لأنهم أنزل مقاماً منه. وفي الأنبياء: ((الملائكة يتعاقبون، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار)) فعلى هذه لا يكون فيه شاهد لما يسمى بلغة (أكلوني البراغيث)) . وفي سؤال الله - تعالى - عن عباده، مباهاة بهم، وإظهار لفضلهم عند الملائكة، وبيان لشيء من عظيم كرم الله - تعالى - وإحسانه. ****** 114 - قال: ((حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن واصل، عن المعرور، قال: سمعت أبا ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: ((وإن سرق، وإن زنى)) . قوله: ((أتاني جبريل)) يعني: بالوحي من الله، فهو لا يأتي إلا بأمر الله - تعالى - له. ((فبشرني)) ، البشرى: هي الإخبار بما يسر؛ لأن ذلك يغير بشرة الوجه؛ لأن النفس إذا سرت انتشر الدم في الجسم كانتشار الماء في عروق الشجرة، فيظهر ذلك على وجه المبشر. وقد تستعمل البشارة فيما يسوء، من باب النكاية والتهكم والإياس من الخير (1) .   (1) انظر ((المفردات)) للراغب (ص48) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ((من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)) يعني: وإن حصل منه تقصير بالواجبات، وفعل لبعض المحرمات غير الشرك، فإن من مات على ذلك دخل الجنة، ولا ينافي هذا حصول العذاب له، بل قد يعذب في قبره، وبعد ما يبعث، وقد يدخل النار، ثم يخرج منها بعدما يطهر من الخطايا التي تلطخ بها في الدنيا، وقد يعفو الله عنه فيدخله الجنة بلا عذاب، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جداً. فكل عاص لله - تعالى - من الموحدين لا بد من دخوله الجنة، وإن أصابه ما أصابه، وإنما الشأن في اجتناب الشرك، فهو أمر صعب إلا على من هدى الله قلبه، وهو أنواع، منها الجلي والخفي. فقوله: ((لا يشرك بالله شيئاً)) يعم أنواع الشرك كلها؛ لأنه نكرة بعد النفي، فيدخل فيه الأصغر، والقليل، والله المستعان. ((قلت: وإن سرق، وإن زنى)) كأنه فهم من هذا الإطلاق أن ما عدا الشرك من الذنوب يحصل دخوله مع وجوده، فأراد أن يتثبت عن هذا المفهوم، فأخبره أن ذلك صحيح، وأن من اجتنب الشرك دخل الجنة، وإن تفاوت دخول العصاة غير المشركين الجنة في الوقت والمكان، أعني تقدم الدخول والمنزلة. والشاهد منه: قوله: ((فبشرني أنه من مات)) إلى آخره؛ لأن هذه البشارة لا بد أن تكون من الله، أرسل جبريل بها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والرسالة لا تكون إلا بالكلام، والنداء داخل فيه، فالله - تعالى - قد نادى جبريل أن يذهب بهذا الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والله أعلم. ***** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 قال: باب قول الله - تعالى -: {أَنَزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلاَئِكَةُ يَشهَدُونَ} . الضمير في (أنزله)) يعود إلى القرآن، كما هو واضح من الآية، وهي قوله تعالى: {لَكِن اللهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِليكَ أَنَزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلاَئِكَةُ يَشهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} . {لَكِن} للاستدراك مما سأله اليهود فيما ذكره الله عنهم بقوله: {يَسأَلُكَ أَهلُ الكِتابِ أَن تُنَزِلَ عَلَيهِم كِتَاباً مِنَ السَمَاءِ} ، فهم يرون أن مجيء الوحي إليه بواسطة جبريل غير كافٍ في الدلالة على نُبُوَّته، وأنه إذا كان صادقاً فليأت بكتاب من السماء، كما جاء موسى - عليه السلام - بالتوراة مكتوبة. ثم ذكر تعالى أنهم سألوا موسى ما هو أكبر من ذلك، سألوه أن يُرِيَهم الله جهرة، وعدَّد تعالى ما فعلوه من الظلم، والتعنت، والبهتان العظيم، والكفر، ورميهم مريم بالزنا، ومحاولتهم قتل رسول الله عيسى، وأكلهم الربا، وذكر ما أصابهم بسبب ذلك، ثم ذكر تعالى أن منهم راسخين في العلم، ومؤمنين بما أنزل الله من كتاب، ثم أخبر تعالى أنه أوحى إلى محمد كما أوحى إلى النبيين من قبله، وعدد بعضهم، وبعضاً منهم لم يذكره، وأنه تعالى خص موسى بتكليمه، ثم ذكر الحكمة من إرسال الرسل؛ لئلا يكون للناس على الله حجة، ثم قال تعالى: {لَكِن اللهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِليكَ} الآية. قال ابن جرير: ((يعني بذلك - جل ثناؤه - إن يكفر بالذي أوحينا إليك يا محمد اليهود الذين سألوك أن تُنزِّل عليهم كتاباً من السماء، وقالوا لك: ما أنزل الله على بشر من شيء، فكذبوك، وليس الأمر كما قالوا، ((لكن الله يشهد)) بتنزيله إليك من الكتاب، والوحي، أنزل ذلك إليك، بعلم منه بأنك خِيرَته من خلقه، وصَفيَّه من عباده، ويشهد لك بذلك الملائكة، فلا يَحزُنك تكذيب من كذبك، وخلاف من خالفك، وحسبك بالله شاهداً على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 صدقك، فإنه لا يضرك مع ذلك تكذيب من كذبك)) (1) . ومراد البخاري بهذه الترجمة أن يبين أن القرآن من علم الله - تعالى - وصفة له، فليس مخلوقاً، فكأنه يقول: أنزله فيه علمه، أي: هو من علمه، وقد احتج الإمام أحمد على كفر من قال: القرآن مخلوق، بأن القرآن من عِلْم الله، فمن زعم أن عِلْم الله مخلوق فهو كافر، واستدل على ذلك بنحو قوله تعالى: {فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِن العِلمِ} وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} (2) . وتقدم الكلام على هذه الآية وذكر أقوال المفسرين فيها (3) قوله: ((قال مجاهد: {يَتَنَزَّلُ الأَمرُ بَيَنهُنَّ} بين السماء السابعة، والأرض السابعة)) . مقصوده أن الله - تعالى - أخبر بأنه خلق السماوات السبع ومن الأرض مثلهن، ثم ذكر أن الأمر يتنزل بينهن، أي: بين السماوات وبين الأرضين، فالأمر غير الخلق، ثم قال تعالى: {لِتَعلمُواْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِ شَيءٍ عِلمَا} فأمره تعالى الذي يتنزل بين السماوات والأرض بعلمه، وأمره، وعلمه من صفاته. فأمر الله - تعالى -، وعلمه، وحكمه، وتصرفه، ينفذ في السماوات السبع والأرضين السبع، لا يمتنع عليه شيء، ولا يخفى عليه فيهن شيء فالكل في قبضته وتحت تصرفه، وفي علمه واطلاعه جل وعز. وما يذكره كثير من المفسرين عند هذه الآية من أن الأرضين سبع طبقات   (1) ((تفسير الطبري)) (9/409) تحقيق محمود شاكر. (2) انظر ((السُّنَّة)) لعبد الله بن الإمام أحمد (ص9-10) . (3) انظر الجزء الأول من هذا الشرح من (93) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 منفصل بعضها عن بعض، وبين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمِئَة عام، وبعضهم يذكر أن في كل أرض أنبياء مثل الذين ذُكِروا في القرآن وعلى أسمائهم، إلى آخر ما ذكروه مما يشبه هذيان المجانين، كل ذلك خرافات مصدره زنادقة اليهود وإخوانهم من كل شيطان رجيم. قال القرطبي: {وَمِنَ الأَرضِ مِثلَهُنَّ} أي: سبعاً، واختلفوا فيهن على قولين: أحدهما: قول الجمهور، أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: ((ومن الأرض مثلهن)) أي: سبعاً من الأرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق، بخلاف السماوات. والأول أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه)) (1) . قلت: بل قول الضحاك هو الصواب، والأول باطل قطعاً بدون شك، وما زعمه من أنه قول الجمهور، وأن الأخبار دالة عليه، ليس كما زعم. نعم، قد روي عن ابن عباس، فإن صح فهو مما تلقاه من أهل الكتاب ممن هو متهم بالكذب منهم، وأما دلالة الأخبار عليه فليس فيه أخبار صحيحة صريحة في الدلالة عليه، بل نقطع أن الأخبار عن الله ورسوله لم تدل عليه؛ لأن كلام الله وكلام رسوله حق، لا يؤيد الباطل ولا يدل عليه، بل الأخبار دلت على أن الأرضين سبع فقط، بدون فتوق، كما في ((الصحيحين)) ((من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين)) ونحوه من الأحاديث. فيتعين حملها على أنها طبقات غير مفتوقة كما قاله الضحاك.   (1) ((تفسير القرطبي)) (18/174-175) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وفي هذا الوقت أمكن الدوران على الأرض في وقت وجيز جداً مما يبين بالحس والمشاهدة بطلان ما رجحه القرطبي. ***** 115 – قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا أبو الأحوص، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا فلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً)) . البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري، الأوسي، استصغره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم بدر هو وابن عمر، فردَّهما، وشهد أُحداً وما بعدها من الغزوات، وروي عنه أنه غزا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – أربع عشرة غزوة، وفي رواية: خمس عشرة، قال الحافظ: إسناده صحيح. وقال: سافرت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثمانية عشر سفراً. أخرجه أبو ذر الهروي (1) . وكان يقول: أنا الذي أرسل معه النبي – صلى الله عليه وسلم – السهم إلى قليب الحديبية فجاش بالري. قال الذهبي فيه: ((الفقيه الكبير، من أعيان الصحابة، نزل الكوفة، توفي سنة اثنتين وسبعين، أو إحدى وسبعين، عن بضع وثمانين سنة)) (2) .   (1) ((الإصابة)) (1/278) ، وانظر ((أسد الغابة)) (1/205) . (2) ((سير أعلام النبلاء)) (3/194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 قوله: ((يا فلان)) جاء في الروايات الأخرى أن المُخاطَب هو البراء بن عازب، ففي الدعوات عند المؤلف: ((عن عبيدة قال: حدثني البراء بن عازب، قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .... )) وذكر الحديث (1) ، وفيه: ((إذا أتيت إلى مضجعك فتوضأ وضوءَك للصلاة)) . قال الحافظ: ظاهره استحباب تجديد الوضوء لكل من أراد النوم، ولو كان على طهارة. ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن كان محدثاً)) (2) . ((إذا أويت إلى فراشك)) أوى إلى مكان: إذا أقام فيه، ورجع إليه، والمعنى: إذا جئت إلى فراشك تريد النوم. ((فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك)) قال الحافظ: ((على رواية ((فتوضأ)) الأمر فيه للندب، وله فوائد، منها: أن يبيت على طهارة؛ لئلا يبغته الموت، فيكون على هيئة كاملة، ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب؛ لأنه أولى من طهارة البدن. وقد أخرج عبد الرازق، عن مجاهد قال: قال لي ابن عباس: ((لا تنامن إلا على وضوء، فإن الأرواح تُبعث على ما قبضت عليه)) . وروي عن أبي مرثد العجلي، قال: ((من أوى إلى فراشه طاهراً، ونام ذاكراً، كان فراشه مسجداً، وكان في صلاة وذِكْر حتى يستيقظ، ومن أوى إلى فراشه غير طاهر، ونام غير ذاكر، كان فراشه قبراً، وكان جيفة حتى يستيقظ)) (3) . ويتأكد ذلك في حق الجنب، وإن اغتسل قبل نومه فهو أفضل.   (1) انظر ((الفتح)) (11/109) . (2) ((الفتح)) (1/358) . (3) ((المصنف)) (11/37، 79) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 ومنها: أن يكون ذلك أبعد عن تلاعب الشيطان، وأصدق للرؤيا)) (1) . وقوله: ((اللهم أسلمت نفسي إليك)) أي: استسلمت لك، نفسي منقادة مذعنة لك، راضية بك رباً، وبدينك شرعاً، وبنبيك رسولاً، ومنقادة لحكمك وقضائك، لا إله إلا أنت. ((ووجهت وجهي إليك)) أي: جعلت قصدي ومرادي إليك، راجياً ثوابك، خائفاً من عقابك. ((وفوضت أمري إليك)) أي: توكلت عليك مستكفياً بك، فأمري كلَّه إليك تتصرف فيَّ كيف تشاء، ورغبتي في جودك وفضلك. ((وألجأت ظهري إليك)) أي: أنت عمادي، وعليك استنادي، فأعتمد عليك بأن تكفيني كل ما أهمني، وتحميني من كل ما يؤذيني. ((رغبة ورهبة إليك)) أي: أفعل ذلك راغباً في فضلك وإحسانك، وراهباً من عقابك وعذابك بسبب ذنوبي. ((لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)) أي: لا مهرب ينجي من هرب منك، ولا نجاة لمن أردته بعذابك، إلا بالرجوع إليك، والاستسلام لك، والإنابة إليك. ((آمنت بكتابك الذي أنزلت)) أي: أتوسل إليك بأني أصدِّق وأوقن بأن الكتب التي أنزلتها على رسلك هي قولك حقاً، وفيها الهدى والنور، الذي هو شرعك، ولمن اتبعها السعادة، ومن أعظمها القرآن الذي أنزلته على عبدك ورسولك محمد خاتم الرسل – صلى الله عليه وسلم - فأنا أؤمن بذلك، وأرغب إليك بأن تستجيب دعائي لذلك.   (1) ((الفتح)) (11/110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وهذا القدر من الحديث هو محل الشاهد، فإن كتاب الله هو كلامه وفيه عِلْمه، كما قال الزَّجَّاج: {أَنزَلهُ بِعِلمِهِ} أي: أنزل القرآن الذي فيه علمه)) (1) . فمن زعم أن القرآن مخلوق، لزمه أن يكون عِلْم الله مخلوقاً، وهذا كفر، كما قال الأئمة أحمد وغيره. ((ونبيك الذي أرسلت)) أي: أتوسل إليك بإيماني واتباعي لنبيك محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي أرسلته إلينا ليبلغنا كلامك، وأمرك ونهيك، كما أؤمن بكل نبي لك أوحيت إليه وأرسلته إلى عبادك. ((فإنك إن مت في ليلتك مت على الفطرة)) يعني: إن كانت نومتك تلك فيها قبض روحك، وفراقها لبدنك، فإنك تموت على السُّنَّة التي جاء بها نبيك، ومن مات عليها فهو السعيد. ((وإن أصبحت أصبت خيراً)) أي: إن رُدَّت روحك بعد النوم إلى جسمك وأصبحت حياً، نلت بهذا الدعاء أجراً عند الله. ***** 116 – قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، وزلزلهم. زاد الحميدي: حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي خالد، سمعت عبد الله، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم -.   (1) انظر ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 عبد الله بن أبي أوفى – واسم أبي أوفى: علقمة بن خالد الأسلمي – هو وأبوه صحابيان، شهد الحديبية، وبايع بيعة الرضوان، وقال: غزوت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ست غزوات نأكل الجراد (1) . لما قبض النبي – صلى الله عليه وسلم – ذهب عبد الله إلى الكوفة، وهو آخر من توفي فيها من الصحابة، ثبت أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اللهم صل على آل أبي أوفى)) توفي رضي الله عنه سنة ست وثمانين، أو ثمان وثمانين (2) . قوله: ((يوم الأحزاب)) يدل على أن هذا الدعاء كان في غزوة الأحزاب، وجاء في روايات: ((أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بعض أيامه التي لقي العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: ((لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ثم قال: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) . وهو يدل على أنه يدعو بذلك عند لقاء العدو. ((اللهم منزل الكتاب)) هذا توسل إلى الله – تعالى – بفضله على عباده من إنزاله الكتاب الذي فيه حياة القلوب، والاعتصام من الضلال، وفيه وعده الكريم لعباده بالنصر والتأييد، كقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (3) . ((سريع الحساب)) قال ابن جرير: ((إنما وصف – جل ثناؤه – نفسه بسرعة الحساب؛ لأنه – جل ذكره – يحصي ما يحصي من أعمال عباده بغير عقد أصابع،   (1) انظر ((تحفة الأحوذي)) (5/547، 548) . (2) انظر ((الإصابة)) (4/18) ، و ((أسد الغابة)) (3/182) ، ((سير أعلام النبلاء)) (3/428) . (3) الآية 14 من سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 ولا فكر، ولا روية – فعل العجزة الضعفة من الخلق – ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما. ثم هو تعالى مجاز عباده على كل ذلك، فلذلك امتدح نفسه – جل ذكره – بسرعة الحساب، وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمثيل، فيحتاج في حسابه إلى عقد كف أو وعي صدر)) (1) . وقال على قوله: {وَهُوَ أَسرَعُ الحَسِبِينَ} أي: أسرع من حسب عددكم، وأعمالكم وآجالكم، وغير ذلك من أموركم – أيها الناس -، وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها؛ لأنه لا يحسب بعقد يد، ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية، {لاَ يَعزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرَّةٍ فيِ السَّمَاوَاتِ وَلا فيِ الأَرضِ وَلاَ أصغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكبَرُ إِلا فيِ كِتَابِ مُّبِينٍ} )) (2) . وهو – جل ذكره – سريع محاسبة عباده يوم القيامة، حيث لا يشغله محاسبة واحد عن الآخر. ((اهزم الأحزاب وزلزلهم)) الهزيمة هي: القهر والإذلال، والزلزلة: الاضطراب، وعدم الثبات، فهو يدعو عليهم بأن يقهرهم، ويذلهم بأيدي المسلمين، وأن ينزل عليهم الرعب والخوف الذي يزلزل قلوبهم وأجسامهم. قوله: ((زاد الحميدي)) إلى آخره: مراده به: التصريح بالسماع، بخلاف قتيبة بن سعيد فإنه عنعن السند. والمقصود من الحديث قوله: ((اللهم منزل الكتاب)) فإنه تعالى أنزله منه، فهو قوله ووصفه، ولو كان مخلوقاً كما يقوله الضالون، ما احتاج إلى إنزال بل يخلقه في أي مكان، فهو تعالى أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله   (1) ((تفسير الطبري)) (4/207-208) بتحقيق محمود شاكر. (2) المصدر السابق (11/413) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 شهيداً، ونحن نشهد بذلك، ونرجو من منزل الكتاب، وسريع الحساب وهازم الأحزاب ومزلزهم، أن يثبتنا على هذه الشهادة ويثيبنا عليها خير ثواب. 117 – قال: ((حدثنا مسدد، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخِافِت بِهَا} قال: أنزلت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- متوار بمكة، فكان إذا رفع صوته سمع المشركون فسبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، وقال الله – تعالى -: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخِافِت بِهَا} لا تجهر بصلاتك حتى يسمع المشركون، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم {وَابتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن)) . المراد بالصلاة في الآية: القراءة، وقد قال ابن جرير – رحمه الله - ((لولا أننا لا نستجيز مخالفة أهل التفسير فيما جاء عنهم، لاحتمل أن يكون المراد: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاتِكَ} أي: بقراءتك نهاراً، {وَلاَ تُخِافِت بِهَا} أي: ليلاً، وكان ذلك وجهاً لا يبعد في الصحة)) (1) . وقد جاء ذلك مفسراً كما في هذا الحديث أن المراد: القراءة وهو يصلي، فكان صلوات الله وسلامه عليه يرفع صوته في القراءة، رجاء أن يؤثر فيمن يسمعه من كفار قومه فيسلموا، ويسمعه من معه من المسلمين فيحفظوا، وكان للقرآن وقع عظيم في قلوبهم وأثر بالغ في نفوسهم، ولذلك منعه الملأ من الكفار؛ خوفاً أن يتأثر به بعضهم فيسلموا، كما جربوا ذلك وقالوا: إن رفعت صوتك به هجوناك، وهجونا من قاله، ومن جاء به، فأمره الله – تعالى – أن لا يرفع   (1) انظر ((تفسير الطبري)) (15/188) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 صوته، وألا يخافت به بحيث لا يسمعه من عنده من المسلمين، بل يبتغي بين الجهر والإخفات سبيلاً، فيكون وسطاً بين الجهر والإخفات. والمقصود قوله: ((أُنْزِلَت ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – متوار بمكة)) والإنزال غير الخلق، بل هو كلامه، نزل بعلمه – تعالى – فهو صفته. فلا يجوز أن يعطى حكم المخلوق المفعول، كما أن المخلوق لا يجهر به ولا يخافت، وكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – وغيره ممن يقرؤه، يرفع صوته به أو يخفضه، لا يخرجه من كونه كلام، بل هو دليل على أنه كلام الله – تعالى – قرأه عبده، فرفع به صوته أو خفضه؛ لأن الكلام لمن قاله مبتدئاً، لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، كما سيأتي بيان ذلك. قال: ((باب قول الله – تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، {إِنَّهُ لَقَولُ فَصلُ} حق. {وَمَا هُوَ بِالهزلِ} باللعب. قال الله – تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (1) . قال ابن جرير: ((يقول – تعالى ذكره – لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم -: سيقول لك المخلفون في أهليهم عن صحبتك – إذا سرت معتمراً، تريد بيت الله الحرام، إذا انطلقت أنت ومن صحبك في سفرك ذلك إلى ما أفاء الله عليك وعليهم من الغنيمة {لِتَأخُذُوهَا} ، وذلك ما كان الله وعد أهل الحديبية من مغانم خيبر -: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر، فنشهد معكم قتال أهلها: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، يقول: أن يغيروا وعد الله لأهل الحديبية،   (1) الآية 15 من سورة الفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وذلك أن الله – تعالى – جعل مغانم خيبر لهم، ووعدهم ذلك، عوضاً من غنائم أهل مكة، إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئاً)) (1) . ثم روى ذلك عن مجاهد، وقتادة، ومقسم. قال الحافظ: ((قال ابن بطال: أراد بهذه الترجمة، وأحاديثها، ما أراد في الأبواب قبلها – أن كلام الله تعالى – صفة قائمة به، وأنه لم يزل متكلماً ولا يزال. والذي يظهر أن غرضه أن كلام الله، لا يختص بالقرآن، فإنه ليس نوعاً واحداً، وأنه وإن كان غير مخلوق، وهو صفة قائمة به، فإنه يلقيه على من يشاء من عباده بحسب حاجتهم في الأحكام الشرعية وغيرها من مصالحهم، وأحاديث الباب كالمصرحة بهذا المراد)) (2) . قال في: ((خلق أفعال العباد)) : ((باب: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر ويروي عن ربه – عز وجل -)) ثم ذكر نحو ما ذكره هنا من الأحاديث. ويمكن أنه أراد بيان أن كلام الله يكون بأمره وشرعه، ووعده وجزائه، بخلاف خلقه، فإنه الصادر عن قوله: ((كن)) ، وخلق الله لا يبدل، كما قال – تعالى -: {لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ} أما قوله: فيمكن أن يبدل، أو يحرف. وهذه الآية من الأدلة على أن هذا القرآن كلام الله – تعالى -، وأن ما يقوله الأشاعرة أن كلام الله: ما قام في نفسه، باطل، إذ لا يمكن أن يبدل ما في نفسه تعالى. وقد تبين بما ذكره ابن جرير – رحمه الله – أن معنى قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} هو خروج المتخلفين عن الحديبية إلى خيبر؛ لأن الله – تعالى – وعدهم مغانم خيبر خاصة بهم. والقول الثاني في الآية: أن المراد تبديله هو قوله تعالى: {فَقُل لَّن تَخرُجُواْ مَعِيَ أَبَدَاً} . غير أن ابن جرير رد هذا القول.   (1) ((تفسير الطبري)) (26/79-80) . (2) ((الفتح)) (13/467) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وسياق الآية يؤيد هذا القول، فإنه تعالى قال: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُم قَالَ اللهُ مِن قَبلُ} . والله أعلم. قال البغوي: {إِنَّهُ} يعني: القرآن {لَقَولٌ فَصلٌ} حق وجد، يفصل بين الحق والباطل. {وَمَا هُوَ بِالهزلِ} باللعب، والباطل)) (1) . ***** 118 - قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - تعالى - يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل، والنهار)) . قال ابن كثير: ((معناه أنهم يقولون: يا خيبة الدهر، فعل كذا وكذا. فيسندون أفعال الله - تعالى - إلى الدهر، ويسبونه، وإنما الفاعل هو الله - عز وجل -، فنهى عن ذلك، هكذا قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء)) (2) . وقال شيخ الإسلام: ((للناس في هذا الحديث قولان: أحدهما: قول أبي عبيد وأكثر العلماء: إنه خرج الكلام فيه لرد ما يقوله أهل الجاهلية، ومن أشبههم: فإنهم إذا أصابتهم مصيبة، أو منعوا أغراضهم، أخذوا يسبون الدهر، والزمان، يقول أحدهم: قبح الله الدهر الذي شتت شملنا، ولعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا، وما يقع كثيرا من الشعراء، وأمثالهم، كقولهم: يا دهر، فعلت كذا، وهم يقصدون سب من فعل تلك الأمور ويضيفونها إلى الدهر، فيقع السب على الله لانه هو الذي   (1) تفسير البغوي على هامش الخازن (7/234) . (2) ((تفسير ابن كثير)) (3/517) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 فعل تلك الأمور، وأحدثها، والدهر مخلوق له، هو الذي يصرفه، ويقلبه. والتقدير: أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور، وأنا فعلتها، فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل، وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فالدهر لا فعل له، وإنما الفاعل هو الله وحده. وهذا كرجل قضى عليه قاض بحق، أو أفتاه مفت بحق، فجعل يقول: لعن الله من قضى بهذا، أو أفتى بهذا، ويكون ذلك من قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتياه، فيقع السب عليه، وإن كان الساب لجهله أضاف الأمر إلى المبلغ، وهو ليس له إلا فعل التبليغ. وأما الزمان، فلا فعل له، وإنما الله هو الذي يقلبه ويصرفه. والقول الثاني: قول نعيم بن حماد، وطائفة معه: أن الدهر من أسماء الله، ومعناه: القديم الأزلي. وهذا المعنى صحيح؛ لأن الله - تعالى - هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، ولكن لا يسمى بالدهر، الذي هو الزمان، أو ما يجري مجرى الزمان)) (1) . وقال ابن قتيبة: ((معناه: أن العرب في الجاهلية يقولون: أصابني الدهر في مالي، ونالتني قوارع الدهر، وبوائقه، ويقول الهرم: حناني الدهر. فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله - عز وجل - عليهم من موت، أو سقم، أو ثكل، أو هرم إلى الدهر، ويلعنونه، ويسمونه: المنون، كما ذكر الله عنهم: {أَم يَقُولُونَ شَاعِرُ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيبَ المَنُونِ} والمنون: المنية، قال أبو ذؤيب:   (1) ((مجموع الفتاوى)) (2/493-494) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا الدهر، إذا أصابتكم المصائب ولا تنسبوها إليه، فإن الله - عز وجل - هو الذي أصابكم بذلك، لا الدهر)) (1) . وهذا هو ما ذكره شيخ الإسلام عن جمهور العلماء. وكثير من الناس واقعون في هذا المنكر. وتقدم الكلام فيه. والمقصود هنا: قوله: ((قال الله: يؤذيني ابن آدم)) . وهذا خبر يتضمن النهي، والله - تعالى - يتأذى من فعل بني آدم، ولكن لا يضره شيء تعالى وتقدس، ووجه الشاهد منه أن هذا القول صدر من الله فيه إخباره - تعالى - عما يقع له من بني آدم، وهو بمعنى النهي والزجر، ومعلوم أنه لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته، ومن يسب الدهر كأنه يريد تبديل حكم الله وأمره الذي وجدت به الكائنات. وقوله: ((وأنا الدهر)) لا يدل على أنه تعالى اسمه الدهر؛ لأنه فسره بقوله: ((بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)) فكونه تعالى بيده الأمر يقلب الليل والنهار، هو معنى قوله: ((أنا الدهر)) . **** 119 - قال: ((حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله - عز وجل - الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته، وأكله وشربه من أجلي، الصوم جنة، وللصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) .   (1) ((تأويل مختلف الحديث)) (ص151) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 ((الصوم لي)) يعني: أن الصوم غالباً يكون خالصاً لله - تعالى - سالماً من شوائب الشرك، من إرادة غير الله - تعالى -؛ لأنه أمانة بين العبد وربه لا يطَّلع عليه إلا الله - تعالى - فإنه يجوز أن يظهر للناس أنه صائم، وهو في حقيقة الأمر غير صائم. فإذا امتنع من شهوته وأكله وشربه، دل ذلك على أنه أراد ما عند الله - تعالى - وقد فسره بقوله: ((يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)) . قوله: ((وأنا أجزي به)) يعني: أن جزاء الأعمال قد أخبر الله - تعالى - عباده بها، أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمِائَة ضعف، أما الصوم فالله يجزي به بدون تقدير؛ لعظيم جزائه، وهذا يدل على فضل الصوم إذا كان خالصاً لله - تعالى -. ((يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)) هذا هو السبب في كونه لله، وأنه يتولى جزاءه بغير تقدير، وفسرت الشهوة بالجماع، والأولى أن تكون عامة في كل ما يشتهي، ويكون عطف الأكل والشرب من عطف الخاص على العام. ((الصوم جنة)) في رواية سعيد بن منصور: ((جنة من النار)) ، ومثله عند النسائي. وفي رواية له من حديث عثمان بن أبي العاص: ((الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال)) . والجنة: بضم الجيم: الوقاية، والستر، وهذا أولى ما فسر به متعلق الجنة. واختار النووي: أنه جنة من جميع الشرور. وفي رواية لأحمد: ((الصيام جنة ما لم يخرقها)) ، زاد الدارمي: ((بالغيبة)) (1) .   (1) انظر ((الفتح)) (4/104) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 ((وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه)) يعني: أنه يفرح إذا كمل يومه صائماً، فيؤمل ثواب ذلك عند الله، ويتناول طعامه وشرابه الذي أحله الله له بعد ما منعه منه لأجل صومه. ويفرح إذا لقي ربه عندما يجزيه أعظم جزاء، وهذه أعظم فرحة وأحلى. ((ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) الخلوف هو: تغير الفم من أثر خلو المعدة من الطعام، فيتصاعد منها أبخرة تغير رائحة الفم. ولما كان ذلك بسبب الطاعة كان عند الله طيباً، كدم الشهيد، فإنه يأتي يوم القيامة لونه لون الدم، ورائحته رائحة المسك)) . والمقصود من الحديث قوله: ((يقول الله - تعالى - الصوم لي)) إلى آخره، كالذي قبله. ووجه الشاهد منه: أن الله يقول هذا القول الذي فيه حث العباد وترغيبهم في الصوم، فهو مما شرعه الله - تعالى - لعباده، ورضيه لهم بقوله وأمره، وهو قول أنزله على رسوله ليبلغه. ***** 120 - قال: ((حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما أيوب يغتسل عرياناً، خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك)) . ((بينما أيوب يغتسل عرياناً)) يعني: وهو خال: استدل به البخاري على جواز الغسل عرياناً في الخلوة، فقال: باب من اغتسل عرياناً وحده في الخلوة، ومن تستر فالستر أفضل)) (1) .   (1) انظر ((الصحيح)) (1/53) الباب رقم (20) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ((خر عليه رجل جراد من ذهب)) رجل الجراد: القطعة من الجراد، كما قال الأزهري: ((الرجل: القطعة من الجراد)) (1) . وهذا جراد على خلاف المعهود، وإنما هو ذهب أنزله الله على نبيه أيوب، على صور الجراد، وذلك من جزاء صبره على البلاء، ورضاه بما قدره الله. ((فجعل يحثي في ثوبه)) أي: يجمع من ذلك الذهب بيديه جميعاً، ويضعه في ثوبه. ((فنادى ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك؟)) هذا النداء يجوز أن يكون بواسطة، ويجوز أن يكون بدون واسطة على ظاهره؛ لأنه تجرد عن قرينة تعين ذلك. وقوله: ((ألم أكن أغنيتك؟)) يدل على أن الله - تعالى - قد أعطاه من المال قبل هذا ما فيه غناه، ولهذا قال: ((بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك)) سمي هذا الذهب بركة؛ لأنه أرسل عليه بدون صنع آدمي أو كده، بل هو من عند الله - تعالى -، ففي ذلك طلب الزيادة من الخير. وفيه ما جبل عليه الإنسان من حب المال. والمقصود منه قوله: ((فنادى ربه: ألم أكن أغنيتك عما ترى؟)) إذ هو من كلام الله - تعالى - لنبيه أيوب، المتضمن إفضاله عليه، وتكريمه له بما أعطاه بدون حساب. **** 121- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتنزل ربنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، من يسألني،   (1) ((تهذيب اللغة)) (11/30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) . هذا الحديث له طرق متعددة ومستفيضة، قال ابن عبد البر: ((هذا الحديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة، من أخبار العدول، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (1) . وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها، في كل زمان، على الإيمان بهذا الحديث وتلقيه بالقبول، كما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قاله علانية. وبلغه الأمة تبليغاً عاما، لم يخص به واحداً دون الآخرين. وكان الصحابة وأتباعهم يذكرونه، ويروونه، ويبلغونه تبليغاً عاماً. ولهذا ثبت في عامة كتب الإسلام، فمن أنكره، أو زعم أنه لا يجوز ذكره عند عامة الناس، أو تأوله على غير ظاهره، فهو ضال، سالك غير سبيل المؤمنين في ذلك. ومن زعم أنه يدل على ما يجب أن ينزه الله عنه، من النقص المنافي لكماله، فقد أُتي من فهمه الخاطئ، وسوء ظنه بالله العظيم. فإن وصف الله - تعالى - بالنزول كوصفه بغيره من الصفات، مثل الاستواء والفوقية والمجيء، والرضا والغضب، وغير ذلك مما وصف تعالى به نفسه ووصفته به رسله، يجب أن يؤمن به كله على وتيرة واحدة، إيماناً بلا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تحريف ولا تأويل. ولا يجوز للإنسان مهما كان من العلم أن ينصب نفسه مستدركاً على الله ورسوله: {قُل أأنتٌم أَعلَمُ أَمِ اللهُ} {وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثَا} .   (1) انظر ((التمهيد)) (7/128) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 قال ابن عبد البر: ((إن من نظر إلى إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن، وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا، علم أن الله – عز وجل – لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة، ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة، ولا من باب الكل والبعض، ولا من باب كان ويكون. ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجباً، [أو النظر] في الجسم ونفيه، والتشبيه ونفيه، لازماً ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم. ولو كان ذلك من عملهم مشهوراً، أو من أخلاقهم معروفاً، لاستفاض عنهم، ولشهروا به، كما شهروا بالقرآن. وقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)) عندهم مثل قول الله – عز وجل -: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} ، ومثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} كلهم يقول: ينزل، ويتجلى، ويجيء، بلا كيف، ولا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلى؟ وكيف ينزل؟ ولا من أين جاء، ولا من أين يتجلى؟ ولا من أين ينزل؟؛ لأنه ليس كشيء من خلقه، تعالى عن الأشياء، لا شريك له. وفي قول الله – عز وجل -: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجلياً للجبل، وفي ذلك ما يفسر معنى حديث النزول، ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله – عز وجل - {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ} فلينظر في تفسير بقي بن مخلد، ومحمد بن جرير، وليقف على ما ذكرا، ففيما ذكرا منه كفاية، وبالله العصمة والتوفيق)) (1) .   (1) ((التمهيد)) (7/152-153) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وما ذكره الحافظ في شرح هذا الحديث من كلام أهل التأويل فإن كل من آمن بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بلغ ما أرسل به البلاغ المبين وآمن بأنه - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وأنصحهم للخلق، من آمن بهذا علم أن ما ذكره كله باطل، وتغبير في وجه الحق، وزبد يذهب جفاء أمام نور النبوة. فقوله: إن الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم المشبهة. يقال له: بل الذين حملوه على ظاهره وحقيقته هم الصحابة عموماً وأتباعهم إلى يوم الدين، ولا تستطيع أن تأتي بكلمة واحدة عن الرسول، أو عن أصحابه، تؤيد قول أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم أهل السُّنَّة. قال شيخ الإسلام: ((والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها، ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السُّنَّة والحديث أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السُّنَّة، ولكن بعض الخائضين بالتأويلات الفاسدة، يتشبث بألفاظ تنقل عن بعض الأئمة، وتكون إما غلطاً، أو محرفة، كقول الأوزاعي في النزول: ((يفعل الله ما يشاء)) فسره بعضهم بأن النزول مفعول مخلوق، وليس الأمر كذلك)) (1) . وقال أبو عثمان الأنصاري: ((ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب – سبحانه وتعالى – كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون ما أنزله الله – عز اسمه – في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/409) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 في قوله – عز وجل -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } . وقوله – تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} نؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، فلو شاء أن يبين لنا كيفية ذلك لفعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه. ثم روى بسنده عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: قال لي الأمير عبد الله ابن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي تروونه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا)) كيف ينزل؟ قال: قلت أعز الله الأمير: لا يقال لأمر الرب: كيف، إنما ينزل بلا كيف. ثم روى عن أحمد بن سعيد الرياطي، قال: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر، ذات يوم، وحضر إسحاق بن راهويه، فسئل عن حديث النزول، أصحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب، أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ فقال له إسحاق: أثبته فوق، حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: أثبته فوق؟! فقال إسحاق: قال الله – عز وجل -: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} ، فقال الأمير عبد الله: يا أبا يعقوب، هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ (2) . وقوله: ((ويكلون علمه إلى الله)) يعني: علم الكيفية، لا يبحث فيها؛ لأن الكيفية تتوقف على المشاهدة، والله تعالى لا يُرى في الدنيا، وكذا قول إسحاق بن راهويه: ((إنما ينزل بلا كيف)) ، يعني: بلا كيف يعلمه العباد، وإلا ففي   (1) الآية 210 من سورة البقرة. (2) ((عقيدة أصحاب الحديث)) ، ((مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/112) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 حقيقة الأمر له كيف يعلمه الله – تعالى -. قال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله -: ((فمن ما يعتبر به من كتاب الله – عز وجل – في النزول، ويحتج به على من أنكره: قوله – تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } ، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} ، وهذا يوم القيامة، فالذي يقدر على النزول يوم القيامة من السماوات كلها، للفصل بين عباده، قادر أن ينزل كل ليلة من سماء إلى سماء. فإن ردوا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النزول، فماذا يصنعون بقول الله – عز وجل -؟)) (2) . ثم ذكر بعض أحاديث النزول، ثم قال: ((فهذه الأحاديث قد جاءت كلها – وأكثر منها – في نزول الرب – تبارك وتعالى – وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها، حتى ظهرت هذه العصابة، فعارضت آثار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بردها، وتشمروا لدفعها بجد، فقالوا: كيف نزوله؟ قلنا: لم نكلف كيفية نزوله في ديننا، ولا تعقله قلوبنا، وليس كمثله شيء من خلقه فنشبه منه فعلاً أو صفة بفعالهم وصفتهم، ولكن ينزل بقدرته، ولطف ربوبيته، كيف يشاء. فالكيف منه غير معقول، والإيمان بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نزوله واجب، ولا يُسأل الرب عما يفعل، وكيف يفعل، وهم يُسألون؛ لأنه القادر على ما يشاء، وإنما يقال لفعل المخلوق الضعيف، الذي لا قدرة له إلا ما أقدره الله – تعالى – عليه: كيف يصنع، وكيف قدر.   (1) الآية 210 من سورة البقرة. (2) ((رد عثمان بن سعيد على الجهمية)) (ص63) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 ولو قد آمنتم باستواء الرب على عرشه، وارتفاعه فوق السماء السابعة بدءاً إذ خلقها، كإيمان المؤمنين به، لقلنا لكم: ليس نزوله من سماء إلى سماء بأشد عليه ولا أعجب من استوائه عليها إذ خلقها بدءاً، فكما قدر على الأولى كيف يشاء يقدر على الأخرى كيف يشاء. وليس قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نزوله بأعجب من قول الله – تبارك وتعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (1) } . وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} (2) فلما قدر على هذا يقدر على ذاك، فهذا الناطق من قول الله – عز وجل -، وذاك المحفوظ من قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأخبار ليس عليها غبار. فإن كنتم من عباد الله المؤمنين لزمكم الإيمان بها كما آمن بها المؤمنون، وإلا فصرحوا بما تضمرون، ودعوا هذه الأغلوطات، التي تلوون بها ألسنتكم، فلئن كان أهل الجهل في شك من أمركم، فإن أهل العلم من أمركم لعلى يقين)) (3) . وقال أبو عمرو الطلمنكي: ((أجمعوا – يعني: أهل السُّنَّة والجماعة – على أن الله يأتي يوم القيامة، والملائكة صفاً صفاً؛ لحساب الأمم وعرضها، كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (4) } ، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} (5) وأجمعوا على أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، على ما أتت   (1) الآية 210 من سورة البقرة. (2) الآية 22 من سورة الفجر. (3) ((الرد على الجهمية)) لعثمان بن سعيد الدارمي (ص79-80) . (4) الآية 210 من سورة البقرة. (5) الآية 22 من سورة الفجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 به الآثار، كيف يشاء لا يجدون في ذا شيئاً)) (1) . ولا يعرف عن السلف وأهل العلم المقتدى بهم من أنكر النزول، أو تأوله، فإنه مثل صفات الله الأخرى، كالاستواء والمجيء، والرضا، والغضب، بل والخلق، والرزق، والإحياء والإماتة، فمن آمن بشيء من ذلك لزمه الإيمان بالباقي؛ لأن الباب واحد، ولا يجوز فيه قياس أو تمثيل، تعالى الله عن قول أهل الباطل من المحرفين بالتأويلات الفاسدة، والمعطلين. وما ذكره الحافظ في شرحه لهذا الحديث عن البيضاوي من قوله: ((لما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية، والتحيز، امتنع عليه النزول، على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه. فالمراد: نور رحمته، أي: ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام، إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة)) (2) . فهذا من كلام أهل البدع الذين اعتاضوا عن كلام الله ورسوله بنحاتة أفكار أهل الاعتزال، والتجهم، الذين لم يعرفوا من أوصاف الله – تعالى – إلا ما يعرفونه من أنفسهم، فقاسوا نزول الله، واستواءه على عرشه، ومجيئه يوم القيامة، على نزولهم من أعلى إلى أسفل، واستوائهم على ما هو مرتفع، ومجيئهم من مكان إلى آخر. ولهذا قال: منزه عن الجسمية، والتحيز؛ لأنه اعتقد أن هذه الصفات لا تثبت إلا للجسم، والمتحيز، مع أن الجسمية والتحيز من الألفاظ المجملة   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/578) . (2) ((الفتح)) (3/31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 التي تحتمل حقاً وباطلاً. فإن كان يريد بالجسمية: القائم بنفسه البائن عن غيره، فالله – تعالى – قائم بنفسه، وبائن من خلقه، وإن كان يريد بالجسمية: الذي تصح الإشارة إليه، ويكون في مكان، فالله – تعالى – يشار إليه وتتوجه قلوب عباده إليه من فوقهم، وهو فوق عرشه مستوٍ عليه، كما علم المؤمنون. وإن كان يريد بالجسمية البدن، والجسد المركب من الأعضاء واللحم والدم ونحو ذلك، فالله – تعالى – ليس كمثله شيء، وهو منزه عن ذلك، ولم تدل النصوص على هذا. وإن كان يريد بالمتحيز: الذي تحوزه الأشياء وتحيط به، فالله – تعالى – أجلُّ وأعظم من أن يحيط به شيء مخلوق. وإن كان يريد أنه تعالى منحاز عن خلقه فلا يحيطون به، وليس حالاً فيهم، ولا شيء من مخلوقاته فيه – تعالى وتقدس، فالله – تعالى – كذلك، وقد علم أن مراد هؤلاء تعطيل الله – تعالى – عما وصف به نفسه وعما وصفه به رسوله، ولكنهم لم يجرؤوا على رد ذلك صراحة، فجاؤوا بمثل هذه الألفاظ المجملة، التي يظنها من لا يعرف مرادهم مراداً بها التنزيه، وهم يريدون تعطيل الله من أوصافه. ولا يجوز أن يرد كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمثل هذه الأغلوطات، التي يزعم البيضاوي وفريقه أنها أدلة قطعية، والحقيقة أنها شبهات تقطع المفتون بها عن سبيل الهدى. ثم نقول لهؤلاء: أأنتم أعلم بالله من الله؟ أم أنتم أعلم بالله من رسوله؟ أم أنتم أعظم تنزيهاً لله من رسوله؟ أم أنتم أقدر على البيان من رسوله؟ أم أنتم أحرص على هداية الأمة، وسلامة عقيدتها من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ أم أنتم أشد غيرة على الله من رسول الله؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قال شيخ الإسلام: ((إذا قال [أهل التأويل] : النزول، والاستواء، ونحو ذلك من صفات الأجسام، فإنه لا يعقل النزول، والاستواء، إلا لجسم مركب، والله منزه عن هذه اللوازم، فيلزم تنزيهه من ذلك. أو قالوا: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب. وكذلك إذا قالوا: الرضا والغضب، والفرح، والمحبة، ونحو ذلك هو من صفات الأجسام. فيقال لهم: وكذلك الإرادة، والسمع والبصر، والعلم، والقدرة، من صفات الأجسام، فكما لا يعقل ما يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، إلا جسم. وإن قالوا: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته وعلمه وقدرته. قيل: وكذلك نزوله، واستواؤه، ورضاه، وغضبه، وفرحه، ليس كنزولنا واستوائنا، ورضانا وغضبنا وفرحنا. فإن قالوا: لا يعقل في الشاهد نزول إلا انتقال، فيقتضى تفريغ مكان، وشغل آخر. قيل: كذلك لا يعقل في الشاهد إرادة إلا ميل القلب إلى جلب ما يحتاج إليه المريد وينفعه، وفي ذلك فقره إلى ما سواه، ودفع ما يضره. والله أخبرنا كما في الحديث الإلهي بقوله: ((إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني)) . فهو منزه عن الإرادة التي لا يعقل في الشاهد إلا هي، وكذا السمع لا يعقل إلا بدخول صوت في الصماخ، وذلك لا يكون إلا في جوف، والله منزه عن ذلك، فهو أحد صمد، كما قال ابن مسعود، وابن عباس، وغيرهما من السلف: ((الصمد: الذي لا جوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 له)) (1) . والمقصود أن هؤلاء المؤولة، أهل التحريف، يلزمهم على أصلهم أن لا يثبتوا لله صفة، وكفى بذلك ضلالاً وكفراً. أو أن يؤمنوا بصفات الله – تعالى – كلها، على ما جاءت بها النصوص، بلا تحريف، ولا تمثيل، على ما يليق بعظمة الله وجلاله، كما أخبر تعالى بأنه لا سمي له، ولا ند له، ولا مثيل له، فإن الباب واحد. ويجب أن يؤمن بصفات الله – تعالى – على وتيرة واحدة، وأن يطرح القياس وتوهم التمثيل، ويسلم للنص. وما ذكره الحافظ، عن ابن العربي، أنه اختار التأويل، وأن النزول راجع إلى أفعاله، لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه ... إلى آخر كلامه المتهافت. فيقال أولا: بئسما اخترت، فإنك اخترت الباطل. ثم يقال له أيضاً: أخبرنا من أين ينزل أمره ونهيه، وأنت وقبيلك تنكرون أن يكون الله فوق مخلوقاته؟ أينزل أمره ونهيه من العدم؟ ويلزمكم أن يكون الملك الذي ينزل بأمره ونهيه – كما يزعمون – أكمل من رب العالمين؛ لأنه كان عالياً، ومن يكون أعلى فهو أكمل ممن هو أسفل منه. ثم يقال له أيضاً: الملائكة لا تزال تنزل إلى الأرض، وإلى السماء الدنيا وغيرها بأمر الله، بالليل والنهار، فما بال هذا النزول يتحدد له ثلث الليل الآخر؟   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/352) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ويقال له أيضاً: إن في الحديث قوله – تعالى -: ((من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له)) وهذا لا يجوز أن يقوله إلا رب العالمين، وهل يجوز أن الملك يقول: من يستغفرني؟ وهذا كافٍ في إبطال قول المتأولين، كما يبطل قول الحافظ: ((مما يقوي التأويل ما رواه النسائي في بعض طرق الحديث: ((ينادي مناد: هل من داع فيستجاب له)) الحديث، وزعم القرطبي أن هذا يزيل الإشكال. ونحن نقول لهؤلاء: إن الإشكال لازم لمذهبكم ولن ينفك عنه، ولن تجدوا ما يؤيده وإن أجهدتم أنفسكم، فهذه الرواية لا تخالف اللفظ الصريح الواضح الذي ضيق خناقكم، وقد جاء في بعض طرقه عند النسائي وابن ماجه قوله: ((لا أسأل عن عبادي غيري)) . مع أنه يجوز أن الله – تعالى – مع قوله ذلك – يأمر من ينادي، ولكن المنادي لا يقول: ((من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) . ومن زعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: إن الله يأمر منادياً يقول ذلك، فهو كاذب؛ لأنه خلاف المستفيض المتواتر عنه أن المنادي هو رب العالمين. وأما قول البيضاوي: ((إن ذلك عبارة عن نور رحمته)) إلى آخر ما قال. فيقال: رحمة الله – تعالى – تنزل كل وقت وآن، لا يختص نزولها بوقت معين، ونور الرحمة لا يقول: من يسألني فأعطيه ... إلى آخره. ((والأمر والرحمة إما أن يراد بهما أعيان قائمة بنفسها كالملائكة، أو يراد بها صفات، وأعراض. فإن أريد الأول، فالملائكة تنزل كل وقت، والنزول المذكور في الحديث خص بجوف الليل، وجعل منتهاه السماء الدنيا، ومعلوم أن الملائكة نزولهم لا يختص لا بهذا الزمن، ولا بذاك المكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وإن أريد صفات، وأعراض، مثل ما يحصل في قلوب العابدين في وقت السحر من الرقة، والتضرع، وحلاوة العبادة، ونحو ذلك، فهذا حاصل في الأرض ليس منتهاه السماء الدنيا. ونزول أمره ورحمته لا يكون إلا منه، وحينئذ فهذا يقتضي أنه فوق العالم، فنفس تأويلهم يبطل مذهبهم. وكذلك يبطله ما جاء من ألفاظ الحديث، مثل قوله: ((ثم يعرج)) وفي لفظ: ((ثم يصعد)) . يضاف إليه قوله: ((ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر)) . ومعلوم أنه لا يجيب الدعاء، ويغفر الذنوب، ويعطي كل سائل سؤاله، إلا الله، وأمره ورحمته لا تفعل شيئاً من ذلك)) (1) قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي لما أوَّل بشر الحديث بمثل ما ذكره الحافظ: ((فيقال: هذا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان؛ لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة، ووقت، وأوان، فما بال النبي – صلى الله عليه وسلم – يحد لنزوله الليل دون النهار، ويوقت من الليل شطره، أو الأسحار، أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار؟ أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه، فيقولان: هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/415-416) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 إلى الإجابة والاستغفار، بكلامهما، وهذا محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟ وقد علمتم ذلك ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان عند شطر الليل ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان؟)) (1) . وليس نزوله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلثه الآخر كنزول المخلوق الذي يتخيله الجهال، حتى يلزم منه أنه دائم النزول، وأنه تحت السماوات، وفوق السماء الدنيا مقدار ثلث الليل على كل بلد، ولو كان كما يتخيله الجهال لكان النزول ممتنعاً؛ وذلك لوجوه: أحدها: أنه لا يكون فوق العرش أبداً، بل لا يزال نازلاً. الثاني: أنه على هذا التقدير يلزم أن يكون الزمان بقدر ما هو عليه مرات كثيرة، ليقع النزول في ثلث ليل كل بلد، مع أن الليل يختلف طوله وقصره باختلاف عرض البلاد، واختلاف الأوقات. الثالث: أنه لو كان كما تخيله الجاهل، فكيف يبقى عند هؤلاء إلى طلوع فجرهم، ويكون نازلاً عند من هم غربهم ولم يطلع فجرهم؟ وهلم جراً. والحق أن نزول الله – تعالى – الذي أخبر به الصادق المصدوق ليس كنزول المخلوق كما يتخيله الجهال بالله – تعالى – وأوصافه، بل يمكن أن يكون نزوله في وقت واحد لخلق كثير، ويمكن أن يكون قدره لبعض الناس أكثر، ولا يمتنع على الله – تعالى – أن يقرب إلى بعض عباده دون بعض، فيقرب إلى داعيه دون من لم يدعه. وهذا كما أنه تعالى يحاسب عباده يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة، وكل واحد منهم يخلو به، فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسب لا يرى أنه يحاسب غيره.   (1) رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي (ص378) ، مجموع عقائد السلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 وكما أنه سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} ، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . والمقصود من الحديث قوله: ((فيقول: من يدعوني فأستجيب له)) إلى آخره؛ لأن هذا من كلام الله الذي يحض به عباده المؤمنين بنزوله إلى التعرض إلى فضله وكرمه، فيستجيب للداعي، ويعطي السائل سؤله، ويغفر للمستغفر ذنبه، فما أكرم هذا الرب، وأقربه ممن يؤمن بقربه، وما أوسع عطاءه، ولكن أهل التعطيل والتحريف من أبعد الناس عنه، تعالى وتقدس عما تتصوره أفكارهم المنحرفة. وقوله وكلامه – تعالى – غير خلقه، فأهل التأويل والتعطيل يريدون أن يبدلوا كلامه ذلك وقوله، وأما خلقه فإنه لا يبدل، {لاَ تَبدِيلَ لِخلقِ اللهِ} . ***** 122 – قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، أن الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) وبهذا الإسناد: ((قال الله: أنفق أنفق عليك)) . قوله: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) يعني: أن هذه الأمة آخر الأمم في الدنيا وعليها تقوم الساعة، وهم أول الأمم دخولاً الجنة، ويحاسبون قبل الناس كلهم. والمقصود قوله: ((قال الله: أنفق أنفق عليك)) إذ هو قول الله، رواه رسوله عن ربه – تبارك وتعالى – وفي هذا القول أمره لنبيه بالإنفاق في سبيل الله، والدعوة إلى دينه، ووعده – تعالى – أن ينفق عليه – أي: يعطيه ما يحتاجه لذلك وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وهذا القول يضاف إلى الله - تعالى - قولاً له حقيقة، وليس هو من القرآن، وقول الله - تعالى - غير خلقه، وتقدم هذا الحديث. **** 123 - قال: ((حدثنا زهير بن حرب، حدثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة - فقال: ((هذه خديجة أتتك بإناء فيه طعام، أو إناء فيه شراب، فأقرئها من ربها السلام، وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) . قوله: ((فقال: هذه خديجة)) القائل هو جبرائيل، كما صرح به في باب تزويج خديجة. قوله: ((أتتك)) في رواية: ((تأتيك)) . قوله: ((بإناء فيه طعام، أو إناء فيه شراب)) شك من أحد الرواة، وفي بعض نسخ البخاري حذفت ((فيه)) الثانية. قوله: ((فأقرئها من ربها السلام)) أي: أخبرها. قال الحافظ: ((زاد الطبراني في الرواية المذكورة: فقالت: هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبرائيل السلام. قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها، لأنها لم تقل: وعليه السلام، عرفت أن الله لا يرد عليه السلام، كما يرد على المخلوقين؛ لأن السلام اسم من أسمائه - تعالى -، وهو دعاء بالسلامة، وذلك لا يصلح أن يرد به على الله. ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام، وعلى من بلغه. واستدل بهذه القصة على أن خديجة أفضل من عائشة؛ لأن الله أرسل إليها السلام، وأما عائشة فأرسل إليها السلام جبرائيل)) (1) .   (1) ((الفتح)) ملخصاً (7/139) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 قوله: ((وبشرها ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) تقدم معنى البشارة، والقصب هو قصب اللؤلؤ كما جاء مفسراً في الحديث)) . قال الحافظ: ((عند الطبراني في ((الأوسط)) ، عن ابن أبي أوفي: ((يعني: قصب اللؤلؤ)) ، وفي ((الكبير)) من حديث أبي هريرة: ((ببيت من لؤلؤة مجوفة)) وأصله في مسلم. وفي ((الأوسط)) من حديث فاطمة: قلت: يا رسول الله، أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا، من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت)) (1) . والصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت. والنصب: التعب. قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين: أنها أجابت النبي – صلى الله عليه وسلم – طوعاً، ولم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة، ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون بيتها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها)) (2) . والمقصد من الحديث قوله: ((فأقرئها من ربها السلام)) إلى آخره؛ لأن الله – تعالى – خاطب جبريل بذلك حينما أرسل معه السلام إليها، والبشارة، فهذا من كلام الله المتضمن الإكرام والإفضال على زوج سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم – ورضي الله عنها وعن سائر أزواجه وأصحابه أجمعين، وهذا من كلام الله المتعلق بمشيئته الذي أكرم به من شاء من خلقه، وهو غير القرآن وغير خلقه، فإن الخلق لا يرسل به. ****** 124 – قال: ((حدثنا معاذ بن أسد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا   (1) المصدر السابق من (138) ملخصاً. (2) ((الفتح)) (7/138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: قال الله: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) . قال: قال الله تعالى: ((فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)) (1) . فلا يعلم بما أعد الله لهم من الكرامة والنعيم إلا الله – تعالى – الذي خلقه، ولذلك قال: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) فلا أحد يستطيع وصفه؛ لأنه لم يره، ولم يسمع بمثله، ولا يتصوره أحد، وإنما يعلمه الله وحده. روى مسلم في ((صحيحه)) ، من حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه، قال: ((سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: هذا لك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت يا رب. قال: رب، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه في كتاب الله – تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2) قال القرطبي: ((وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلاً، كما بينه   (1) الآية 17 من سورة السجدة. (2) الآية 17 من سورة السجدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 هذا الحديث)) (1) . والمقصود قوله: ((أعددت لعبادي الصالحين)) إلى آخره، فهو من قول الله – تعالى – الذي خاطب به عباده، مخبراً إياهم بما أعده – تعالى – لعباده الصالحين. والصالح: هو الذي يفعل ما أمره الله به، ويجتنب ما نهاه عنه، وإن فرط منه معصية، بادر بالتوبة والإنابة إلى ربه. وقول الله وكلامه لا يختص بالكتب المنزلة على رسله كهذه الأحاديث، فهي من كلام الله، وكلامه غير خلقه. ********** 125- قال: ((حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني سليمان الأحول، أن طاوساً أخبره، أنه سمع ابن عباس يقول: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا تهجد من الليل قال: ((اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت)) . تقدم شرح هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِ} ، وبعض ألفاظه تختلف عما سبق، كما هي عادته إذا أعاد الحديث،   (1) ((تفسير القرطبي)) (14/104) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وسبق التنبيه عليه. وفي هذا الحديث ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – من المداومة على قيام الليل؛ لأن لفظه ((كان)) تدل على ذلك غالباً. وفيه إخباته - صلى الله عليه وسلم - في قيامه، واجتهاده في الدعاء والتضرع، والإخلاص، والثناء على الله – تعالى – والتوسل إليه تعالى بالإيمان بوعده ووعيده، وقوله، والتسليم له. والإنابة: الرجوع إلى الخير خاصة. أما الرجوع إلى الشر فلا يكون إنابة، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (1) أي: عودوا إلى ما يرضى به عنكم من التوبة والانقياد لأوامره، والانتهاء عن زواجره. والمراد من الحديث قوله: ((وقولك الحق)) أي: الثابت الذي فيه الهدى والعدل، فمحاولة المنافقين والكافرين والمفسدين تبديله، عدول منهم عن الحق، ولا يضرون بذلك إلا أنفسهم، كما أن من زعم أن الله لا يقول ولا يتكلم قد جانب الحق واستبدل به الباطل، وكلام الله – تعالى – لا نفاد له، وهو غير خلقه. ****** 126- قال: ((حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا عبد الله بن عمر النميري، حدثنا يونس بن يزيد الأيلي، قال: سمعت الزهري، قال: سمعت عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله، عن حديث عائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكل حدثني طائفة من الحديث الذي حدثني، عن عائشة، قالت: ولكن والله   (1) الآية 54 من سورة الزمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فأنزل الله - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفكِ} العشر الآيات)) . ((الإفك)) : أبلغ ما يكون من الكذب، والافتراء، وقيل: هو البهتان، لا تشعر به حتى يفجأك، وأصله: الإفك، وهو القلب؛ لأنه قول مأفوك عن وجهه. فبرَّأها الله مما قالوا، أي: بيَّن براءتها من ذلك الإفك، الذي قاله المنافقون وروجوه في مجتمع المدينة، فآذوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته وأصحابه. ولا يزال إلى اليوم فريق ممن يتستر بالإسلام - وهو يحاربه - ينمّي ذلك الإفك، ويشيعه، ويلفق الكذب والزور، ويحاول أن يلبِّس على السذج والمغفلين. ولا شك أن من يفعل ذلك أنه معاند لله ورسوله، وسالك غير سبيل المؤمنين، ومؤذن لله ورسوله والمؤمنين بالحرب، وليس هو من الإسلام في شيء، بل هذا من أعظم الكفر والتكذيب لله ولرسوله. قال الزمخشري: ((نزلت فيه ثماني عشرة آية، كل واحد منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية، وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها)) (1) .   (1) ((الكشاف)) (3/53) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وقال أيضاً: ((ولو قلبت القرآن كله، وفتشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله - تعالى - قد أغلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة - رضوان الله عليها - ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه، على طرق مختلفة، وأساليب مفننة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى، حيث جعل القَذفَةَ ملعونين في الدارين جميعاً، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب (1) الذي هم أهله)) (2) . وقال ابن القيم: ((فإن قيل: فما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توقف في أمرها، وسأل وهو أعلم بالله، وبمنزلته عنده؟ هلاّ قال: سبحانك هذا بهتان عظيم)) . فالجواب: أن هذا من تمام الحِكَم التي جعل الله هذه القصة سبباً لها، وابتلاءً لرسوله، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بها أقواماً، ويضع آخرين. ومن تمام الابتلاء أن تأخر الوحي، ليزداد المؤمنون إيماناً، والمنافقون إفكاً، ونفاقاً، وليظهر لرسوله والمؤمنين من سرائرهم، وتتم العبودية والمنة على الصدّيقة وأبويها.   (1) قوله: ((الواجب)) إشارة إلى أن نفاذ الوعيد واجب، كما هو مذهب المعتزلة، وهو غير مسلم، فإن الله - تعالى - أخبر أنه يغفر الذنوب ما عدا الشرك لمن يشاء، فلا يجوز الحكم على الله - تعالى - بأنه يجب أن يعذب العصاة. (2) ((الكشاف)) (3/56-57) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان هو المقصود بالأذي، فلذلك تولى الله - تعالى - الدفاع عنه، والرد على أعدائه، وذمهم، وتوعدهم بالعذاب العظيم)) (1) . قولها: ((ولكن والله - الله - ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم فيّ بأمر يتلى)) كانت رضي الله عنها في نفسها صغيرة، ولكنها عند الله، وعند المؤمنين، عظيمة كبيرة؛ لأنها زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبيبته، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه، حينما سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، فقال السائل: ومن الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر)) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) أخرجاه في ((الصحيحين)) (3) . وهكذا أهل الفضل يحتقرون أنفسهم، ويزدرونها في حق الله - تعالى -، وذاك مما يعلي منازلهم عند الله - تعالى -. وفيه التصريح بأن الله يتكلم بما يوحيه إلى نبيه، وكلامه - تعالى - منه ما يتعبد بتلاوته كالقرآن، وغيره كهذه الأحاديث التي ذكر البخاري شيئاً منها، وفيه أن كلامه ينزل من الله، فالله فوق خلقه، وكلامه غير مخلوق، وغير محصور في الكتب المنزلة، وهذا هو وجه الدليل منه. وقولها: ((ولكني كنت أرجو أن يرى رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها)) وذلك ليقينها ببراءتها، وثقتها بأن ذلك سوف يظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت تطمع   (1) ((زاد المعاد)) (3/261-263) ملخصاً. (2) رواه مسلم (7/109) . (3) البخاري (5/36) ومسلم (7/138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وترجو الله - تعالى - أن يرى نبيه في المنام ما يكون فيه براءتها، ولكن الله بر كريم، وعدل حكم، له فيما يشرعه من الحكم والمنن على خلقه ما لا يحاط به، ومن ذلك ما أنزله على نبيه ببراءة زوجه أم المؤمنين، مما رماها به أهل النفاق والبهت، فحصل بذلك سروره، وسرور زوجه ووالديها والمؤمنين إلى يوم القيامة. كما حصل بذلك فضيحة المنافقين وخزيهم وبيان كذبهم، وظهور نياتهم الخبيثة، وانكشاف شيء من مؤامراتهم ضد نبي الله، وما جاء به من هذا الدين العظيم، وغير ذلك من الحكم. قوله: ((فأنزل الله - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفكِ} العشر الآيات، الذي نزل في هذه الواقعة ثماني عشرة أية، كما سبق في كلام الزمخشري - رحمه الله -. والمقصود من الحديث - كما سبق قريباً - قولها: ((ما كنت أظن أن الله ينزل براءتي وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى)) ؛ لأن فيه التصريح بأن الله يتكلم بأمره، وما يشرعه لعباده، وما يحكم به بينهم، وما يعدهم، أو يتوعدهم به، على أعمالهم، وينزل ذلك منه على نبيه، الذي يبلغ عنه. ولا يمكن أن يأمر وينهى ويحكم، ويعد ويتوعد، ويجزي، إلا بقوله الذي يتكلم به، وليس قوله محصوراً في كتبه التي تَعَبَّدَ عباده بتلاوتها، في الصلاة وغيرها، ولكن كل ما يحكم به بين خلقه، وما يشرعه لعباده، وعده ووعيده كله بكلامه. والمنافقون والكفار يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي هو شرعه ودينه فيخالفونه، أو لا يمتثلونه، والله يجزيهم بما يستحقون ولا يظلمهم. ولا أحد يستطيع تغيير خلق الله - تعالى -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وبهذا وأمثاله يتضح أن قول أهل الاعتزال ومقلديهم من الروافض وغيرهم ممن يزعم أن قول الله - تعالى - مخلوق قول خطل، بعيد عن الصواب كل البعد. ****** 127 - قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعلمها، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها، إلى سبعمائة)) . الإرادة: هي العزم على الشيء، وقد جاء في رواية ابن عباس بلفظ ((الهم)) وهو: ترجيح قصد الفعل على الترك، تقول: هممت بكذا، أي: قصدته بهمتي، وهو فوق خطور الشيء في القلب. وقد يطلق الهم على الإرادة. وهذا الخطاب من الله - تعالى - للملائكة الموكلين بحفظ عمل الإنسان وكتابته، وهو يدل على فضل الله على الإنسان، وتجاوزه عنه. قوله: ((إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعلمها)) . قد تكون الإضافة في قوله: ((عبدي)) بمعنى العابد المطيع، أي: عابدي، وقد تكون بمعنى المعبد المذلل، والظاهر أنه مقيد بالمؤمن. والعمل قد يراد به عمل القلب والجوارح، وهو الظاهر؛ لأنه قد جاء ما يدل على أن عمل القلب يؤاخذ به، ويجزي عليه، قال الله - تعالى -: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1)   (1) الآية 25 من سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وفي الحديث الصحيح: ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في المنار)) ، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصاً على قتل أخيه)) (1) . وقد جاء قيد الهم بالعزم الجازم، ففي المسند من حديث خريم بن فاتك: ((من هم بحسنة يعلم الله أنه قد أشعر بها قلبه، وحرص عليها، كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة، لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة، ولم تضاعف عليه)) (2) . فهذه النصوص تصلح لتخصيص عموم قوله: ((إذا أراد أن يعمل سيئة فلا تكتبوها حتى يعملها)) وهذا لا يخالف قوله في السيئة: ((لم تكتب عليه)) ؛ لأن عزم القلب وتصميمه عمل. قوله: ((فإن علمها فاكتبوها بمثلها)) ، يعني: سيئة واحدة، قال الله – تعالى -: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (3) . وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4) . قوله: ((فإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)) قيد تركها بأنه من أجل الله – تعالى – أي: خوفاً منه، وحياءً، أما إذا تركها عاجزاً، أو خوفاً من الخلق، أو لعارض آخر، فإنها لا تكتب له حسنة، بل ربما كتبت عليه سيئة.   (1) رواه البخاري في الإيمان وغيره، انظر ((الفتح)) (1/84) ، ومسلم رقم (2888) (4/2213) . (2) ((المسند)) (4/345، 346، 322) . (3) الآية 160 من سورة الأنعام. (4) الآية 40 من سورة غافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وفي حديث ابن عباس: ((ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة)) (1) ، فأكدها بقوله: ... ((عنده)) ، وبقوله: ((كاملة)) ، وهو مقيد بما في هذا الحديث، يعني: أن يكون عدم عملها من أجل الله - تعالى -. قوله: ((وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة)) إلى آخره. وجاء وصفها في حديث ابن عباس المشار إليه، بأنها كاملة، وهذا تفضل من الله - تعالى - الكريم المنان على عباده، فله الحمد والمنة، فأي كرم أعظم من هذا، الهم بالحسنة يكتب الله به حسنة كاملة، وعمل الحسنة يكتب به عشر حسنات إلى سبعمائة حسنة، وفي حديث ابن عباس المشار إليه: ((إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة)) يعني: أكثر من سبعمائة، فالحمد لله ذي الطول والكرم، فلن يهلك على الله إلا من لا يصلح للتفضل، وليس هو أهل لذلك. والمقصود من الحديث كما تقدم في نظائره السابقة، قوله: ((يقول الله: إذا أراد عبدي)) فأسند القول إلى الله، واصفاً له بذلك، وهذا القول من شرعه الذي فيه وعده لعباده، وتفضله عليهم، وهو غير القرآن، وليس مخلوقاً، فقوله تعالى غير خلقه. ***** 128 - قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني سليمان بن بلال، عن معاوية ابن أبي مزرد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة.   (1) رواه البخاري في ((الرقاق)) ، الباب 31، وانظر ((الفتح)) (11/323) ، ومسلم رقم (131) (1/118) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 قيام الرحم واستجارتها بالله من القطيعة ومعنى إضافة الحقو إلى الله تعالى فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب قال: فذلك لك)) . ثم قال أبو هريرة: {فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُواْ فيِ الأرضِ وَتُقَطِعُواْ أَرحَامَكُم} . ((أل)) في الخلق تدل على الشمول، فهي عامة لجميع الخلق، ويدل عليه قوله: ((فلما فرغ)) أي: انتهى من خلق المخلوقات، وهو يدل على أن ذلك وقع في وقت محدد، وإن كان الله - تعالى - لا حد لقدرته، ولا يشغله شأن عن شأن، ولكن اقتضت حكمته أن يجعل لفعله ذلك وقتاً معيناً، وهذا من الأدلة على أن أفعاله تتعلق بمشيئته، فمتى أراد أن يفعل شيئاً فعله. وليس معنى قوله: ((لما فرغ)) أنه تعالى انتهى من خلق كل شيء، بل مخلوقاته - تعالى - لا تزال توجد شيئا بعد شيء، ولكن سبق علمه بها، وتقديره لها وكتابته إياها، ثم هي تقع بمشيئته، فلا يكون إلا ما سبق به علمه، وتقديره وكتابته، وشاءه فوجد. قال ابن أبي جمرة: (( (ظاهر الحديث: الإخبار بعظم ما جعل الله - تعالى - للرحم من الحق، وأن وصلها من أكبر أفعال البر، وأن قطعها من أكبر المعاصي)) (1) . قوله: ((قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) . هذه الأفعال المسندة إلى الرحم، من القيام، والقول، ظاهر الحديث أنها على ظاهرها حقيقة، وإن كانت الرحم معنى يقوم بالناس، ولكن قدرة الله -   (1) ((بهجة النفوس)) (4/146) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 تعالى - لا تقاس بما يعرفه عقل الإنسان، ولا داعي أن يقال: إن الله - تعالى - جعلها في جوهر، وجعل لها حياة، وأنطقها بعد ذلك، فقد جاء أن أعمال العبد تأتيه، وتخاطبه، وتجادل عنه، وهذا من جنسه، والله أعلم. وقيام الرحم قيام مخصوص، غير القيام المتبادر من لفظه، وقد جاء إيضاحه في الرواية التي ذكرها في ((التفسير)) : وفيه: ((قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن)) (1) . قال الحافظ: قال القابسي: ((أبى أبو زيد المروزي أن يقرأ لنا هذا الحرف؛ لإشكاله، ومشى بعض الشراح على الحذف، فقال: ((أخذت بقائمة من قوائم العرش)) . وقال عياض: الحقو معقد الإزار، وهو الموضع الذي يستجار به، على عادة العرب؛ لأنه من أحق ما يحامى عنه ويدفع، كما قالوا: نمنعه مما نمنع منه أزرنا، فاستعير ذلك مجازاً للرحم في استعاذتها بالله من القطيعة. انتهى. وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه، كما في حديث أم عطية: ((فأعطاها حقوه، فقال: أشعرنها إياه)) يعني: إزاره، وهو المراد هنا، وهو الذي جرت العادة بالتمسك به عند الإلحاح في الاستجارة، والطلب، وهذا المعنى صحيح مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة)) (2) . قلت: هذا على مذهب أهل التأويل المذموم، والصواب عدم حمل كلام الله ورسوله على الاصطلاحات الحادثة بعد مضي عصر الصحابة وأتباعهم؛ لأن الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - خاطب الناس بلغة العرب، والمخاطبون فهموا مراده، وما كانوا يفرقون بين الحقيقة والمجاز، وتقدمت الإشارة إلى ذلك.   (1) البخاري مع ((الفتح)) (8/579) . (2) ((الفتح)) (8/580) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في رده على الرازي في زعمه أن هذا الحديث يجب تأويله. قال: ((فيقال له: بل هذا من الأخبار التي يقرها من يقر نظيره، والنزاع فيه كالنزاع في نظيره. فدعواك أنه لا بد فيه من التأويل بلا حجة تخصه، لا تصح)) (1) . وقال: ((وهذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات، التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه، وما ذكره الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق، فهذا بحسب علمه، حيث لم يبلغه فيه عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت. قال ابن حامد: ومما يجب التصديق به: أن لله حقواً. قال المروزي: قرأت على أبي عبد الله كتاباً، فمر فيه ذكر حديث أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خلق الرحم حتى إذا فرغ منها أخذت بحقو الرحمن)) فرفع المحدث رأسه، وقال: أخاف أن تكون كفرت. قال أبو عبد الله: هذا جهمي. وقال أبو طالب: سمعت أبا عبد الله يسئل عن حديث هشام بن عمار، أنه قرئ عليه حديث الرحم، تجيء يوم القيامة فتعلق بالرحمن – تعالى – فقال: أخاف أن تكون قد كفرت؟ فقال: هذا شامي ما له ولهذا؟ قلت: فما تقول: قال: يمضي كل حديث على ما جاء)) (2) . وقال القاضي أبو يعلى: ((اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره،   (1) ((نقض التأسيس)) (3/127) . (2) المصدر المذكور (128/141) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وأن ((الحقو)) و ((الحجزة)) صفة ذات، لا على وجه الجارحة، والبعض، وأن الرحم آخذة بها، لا على وجه الاتصال، والمماسة، بل نطلق ذلك تسمية كما أطلقها الشرع. وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله – رحمه الله – هذا الحديث في كتابه، وأخذ بظاهره، وهو ظاهر كلام أحمد)) (1) . قلت: قوله: ((لا على وجه الجارحة، والبعض)) وقوله: ((لا على وجه الاتصال والمماسة)) قول غير سديد، وهو من أقوال أهل البدع، التي أفسدت عقول كثير من الناس. فمثل هذا الكلام المجمل لا يجوز نفيه مطلقاً، ولا إثباته مطلقاً؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً، فلا بد من التفصيل في ذلك، والإعراض عنه أولى؛ لأن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم - خال منه، وليس هو بحاجة إليه فهو واضح. وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزاراً ورداءً من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس، مما يصنع من الجلود والكتان والقطن وغيره، بل هذا الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد. فإنه لو قيل عن بعض العباد: أن العظمة إزاره، والكبرياء رداؤه؛ لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء، اللذين ليسا من جنس ما يلبس من الثياب. فإذا كان هذا المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق؛ لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك، وبين المعنى المراد، فكيف يدعى أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله – تعالى -؟ فإن كل من يفهم الخطاب، ويعرف اللغة، يعلم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يخبر عن ربه بلبس الأكسية والثياب، ولا أحد ممن يفهم الخطاب يدعي في قوله – صلى الله عليه وسلم – في خالد بن الوليد ((إنه سيف الله)) أن خالداً حديد، ولا في قوله – صلى الله عليه وسلم – في الفرس: ((إنا وجدناه بحراً)) أن ظاهره أن الفرس ماء   (1) إبطال التأويل (ص232) مخطوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 كثير، ونحو ذلك)) (1) . قوله: ((مه)) هي كلمة ردع وزجر، أو استفهام. قوله: ((هذا مقام العائذ بك من القطيعة)) الإشارة إلى ما ذكر في الرواية التي أشرت إليها، وهي قوله: ((قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن)) ، وهذا أعظم مقام، والعائذ به استعاذ بأعظم معاذ، وهو دليل على تعظيم صلة الرحم، وعظم قطيعتها. والقطيعة: عدم الوصل، والوصل: هو الإحسان إلى ذوي الرحم، والتودد له والقرب منه، ومساعدته بإسعافه بما يرضيه، ودفع ما يؤذيه، والحرص على جلب ما ينفعه في الدنيا والآخرة. قوله: ((ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك)) من وصله الله، وصل إلى كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة، ولا بد أن تكون نهايته مجاورة ربه في الفردوس؛ لأن الوصل لا ينتهي إلا إلى هناك فينظر إلى وجه ربه الكريم. ومن قطعه الله فهو المبتوت المقطوع مع عدو الله الشيطان الطريد الرجيم، ولو أراد الخلق كلهم صلته ونفعه، لم يفده ذلك. فأي تحذير وتهديد أعظم من هذا؟ وأي وعد وثواب أكبر من ثواب صلة الرحم؟ ولهذا قرأ أبو هريرة الآية مستشهداً بها، وفيها أن قطيعة الرحم مجلبة للعنة الله وغضبه وشديد عقابه. والمقصود من الحديث: ما فيه من مخاطبة الله – تعالى – للرحم، بقوله: ((مه)) وقوله: ((ألا ترضين)) إلى آخره، وهو خطاب كريم يجب أن يؤمن   (1) ((نقض التأسيس)) (3/157) ببعض التصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 به على ظاهره، وما فيه من وعده، ووعيده، وحكمه وشرعه، وخطابات الله - تعالى - وكلامه غير محصور في كتبه المنزلة على رسله، وكلامه تعالى غير مخلوقاته، كما سبق التنبيه عليه مراراً، والله أعلم. ****** 129- قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن صالح، عن عبيد الله، عن زيد ابن خالد، قال: مطر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (قال الله: أصبح من عبادي كافر بي، ومؤمن بي)) . زيد بن خالد الجهني، صاحب لواء جهينة يوم فتح مكة، من أهل بيعة الرضوان، قال ابن عبد البر: اختلف في سنة وفاته، وفي وقتها ومكانها، اختلافاً كثيراً، فقيل: توفي في المدينة سنة ثمان وستين، وقيل: بمصر سنة خمسين، وقيل: بالكوفة في آخر خلافة معاوية، - رضي الله عنه - وعن سائر الصحابة أجمعين)) (1) . قوله: ((مطر)) أي: نزل عليه المطر ليلاً، وذلك في الحديبية، كما جاء مبيناً في هذا الحديث، ولكن المؤلف - رحمه الله - اختصره هنا، واقتصر على محل الشاهد منه. قوله: ((كافر بي، ومؤمن بي)) جاء بيان ذلك في نفس الحديث، حيث قال: (أما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب)) .   (1) ((الاستيعاب)) (2/549) ، ((أسد الغابة)) (2/284) ، ((الإصابة)) (2/603) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ومعنى الإيمان هنا: الاعتراف بفضل الله، ونسبة النعم وإنزال المطر والتصرف في الكون إلى الله – تعالى -؛ لأنه هو مالك كل شيء، وخالقه والمدبر شؤون خلقه. ومعنى الكفر في هذا الحديث: نسبة النعم، وإنزال المطر، والتأثير في الكون، إلى غير الله – تعالى – كقولهم: مطرنا بالنوء الفلاني. والنوء هو: النجم الذي ينزله القمر، وغيره. قال ابن عبد البر: ((النوء في كلام العرب: واحد أنواء النجوم، يقال: ناء النجم ينوء: إذا نهض للطلوع، وقد يكون يميل للمغيب)) (1) . فلا يجوز نسبة نزول المطر، وغيره إلى النجم، وإن لم يكن ذلك عن اعتقاده، فإن النجوم لا تفعل شيئاً، وليس لها تأثير، وتصريف لأحوال الجو وغيره. أما من اعتقد أنها تفعل شيئاً من ذلك حقيقة، فهو مشرك الشرك الأكبر. قال ابن عبد البر: ((معنى نسبة المطر إلى النوء هو عندي على وجهين: أحدهما: اعتقاد أن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله – تعالى -، فذلك كافر كفراً صريحاً، يجب استتابته عليه وقتله؛ لنبذه الإسلام، ورده القرآن. الثاني: أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء، على ما قدره الله، وسبق في علمه، فهذا وإن كان وجهاً مباحاً، فإن فيه أيضاً كفراً بنعمة الله – عز وجل -، وجهلاً بلطيف حكمته؛ لأنه ينزل الماء متى شاء. قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول: مطرنا بنوء كذا، وإن كان النوء   (1) ((التمهيد)) (16/287) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 عندنا: الوقت، والوقت مخلوق، لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر، ولا يحبس شيئاً من المطر، وإنما يقول: مطرنا وقت كذا، كما يقول: بشهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وسمع الحسن رجلاً يقول: طلع سهيل، وبرد الليل، فكره ذلك، وقال: إن سهيلاً لم يأت قط بحر ولا برد. وكره مالك أن يقول الرجل للغيم، أو السحابة: ما أخلقها للمطر. وهذا يدل على أنهم احتاطوا، فمنعوا الناس من الكلام بما فيه أدنى متعلق من أمر الجاهلية)) (1) . والمقصود من الحديث هنا: إسناد القول إلى الله – تعالى -، وهو قول حقيقة يخاطب به رسله من الملائكة والبشر، ويبين فيه حكمه وشرعه، وما يثيب عليه وما يعاقب عليه، وأنه يقول، ويأمر، وينهى متى شاء – جل وعلا -، وأن قوله غير مخلوق، وغير محصور في القرآن ونحوه، وقوله غير مفعولاته. ***** 130- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((قال الله: إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وإذا كره لقائي، كرهت لقاءه)) . ((إذا)) هنا ظرف للزمن المستقبل، وفيها معنى الشرط. وتقدم الكلام في صفة محبة الله – تعالى – وأنه تعالى يحب أهل طاعته من عباده، وأن ذلك ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله، وأدلته لا تكاد تنحصر، ومنكره   (1) ((التمهيد)) (16/285-287) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 ضال عن طريق المنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، سالك طريق أهل الضلال والتحريف والتبديل. وتقدم كذلك الكلام على حب العباد لله – تعالى – وأن ذلك أصل الدين، ومعنى لا إله إلا الله، وأن من لم يحب الله – تعالى – حب ذل وخضوع وتعظيم أنه ليس بمسلم ولا يعرف الإسلام. قال ابن عبد البر: ((هذا خبر عن حال الطائفتين عند لقاء ربهم، فمن أحب لقاء الله، فهو الذي يحب الله لقاءه، ومن كره لقاء ربه عند الموت، فذاك الذي يكره الله لقاءه)) (1) . وفي هذا الحديث وصف الله – تعالى – بأنه يكره بعض عباده، وبعض الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ} (2) ، وقال جل وعلا: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (3) . وفي ((صحيح مسلم)) ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) (4) . وفيه عن أبي هريرة مرفوعاً: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً ... )) الخ (5) .   (1) من ((الفتح)) (11/358) بالمعنى. (2) الآية 46 من سورة التوبة. (3) الآية 38 من سورة الإسراء. (4) ((مسلم)) (3/1341) . (5) ((صحيح مسلم)) (3/1340) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وجاء في الرواية التي ذكرها في الرقاق بعد قوله: ((كره الله لقاءه)) قالت عائشة، أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟ ((قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)) . قال الزرقاني: ((عند حضور أجله إن عاين ما يحب أحب لقاء الله، وإن عاين ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا، هذا معناه كما تشهد به الآثار المرفوعة، وذلك حين لا تقبل التوبة، وليس المراد الموت؛ لأنه لا يخلو من كراهته أحد، ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا، وكراهة أن يصير إلى الله – تعالى –، قاله ابن عبد البر)) (1) . والمقصود من الحديث الجملة المذكورة هنا، إذ فيها قول الله – تعالى – إنه يحب لقاء بعض عباده، ويكره لقاء بعضهم. فالمتقي يحب لقاء ربه عند انقطاع عمله، وانقضاء أجله، فيحب ربه لقاءه ليكرمه، ويجزيه فوق ما يتصوره، فضلاً من ربه تعالى. وأما الفاجر فإنه عند معاينة رسل الله إليه، وإخبارهم إياه بعذاب الله، يكره عند ذلك ملاقاة الله، فيكره الله لقاءه، فأخبر تعالى عباده بهذا قولاً منه على لسان رسوله، وقوله غير خلقه، وأقواله تعالى غير محصورة في كتبه. وتقدم أن لقاء الله يتضمن معاينته ورؤيته، وكل أحد من عباد الله سوف يلاقي ربه، فيسأله عن عمله، كما في حديث عدي المتقدم، والله أعلم. *****   (1) ((شرح الموطأ للزرقاني)) (2/85) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 131- قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله - تعالى -: أنا عند ظن عبدي بي)) . هذا الحديث تقدم في باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِرُكُمُ اللهُ نَفسَهُ} . والمقصود منه هنا واضح كما تقدم في الأحاديث قبله، وهو أن الله - تعالى - تكلم بهذا القول مخاطباً عباده بما يريد منهم أن يفعلوه فيثيبهم عليه، وبما يريد منهم أن يجتنبوه، حتى لا يعاقبهم، وتقدم أن الكلام صفة كمال، وأن الله - تعالى - متصف بها، وأن كلامه يتعلق بمشيئته، فمتى شاء أن يتكلم تكلم، وكما أنه تعالى في الأزل يتكلم بما يشاء، فكذلك في المستقبل، وفي كل وقت، إذا أراد أن يتكلم وكلام الله غير محصور ولا نفاد له، وهو غير خلقه. ****** 132- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال رجل لم يعمل خيراً قط: إذا مات فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم، فغفر له)) . الظاهر أن هذا الرجل من بني إسرائيل، ولهذا أورده المصنف رحمه الله في أحاديث بني إسرائيل. وقوله: ((لم يعمل خيراً قط)) الظاهر أن المقصود عمل الجوارح، وأن عنده أصل الإيمان في قلبه، فهو مؤمن بالله، وبالجزاء والحساب، وهذا واضح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 من قوله: ((فعلت ذلك من خشيتك وأنت أعلم)) ، ومن قوله: ((فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني)) ... الخ. وفي الرواية التي في أحاديث الأنبياء: ((وكان رجل يسرف على نفسه)) (1) . قوله: ((إذا مات فحرقوه)) عدل عن خطاب المتكلم إلى الغائب، كراهية إسناد هذه الأفعال المخبر عنها، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، إذا كرهوا العمل المخبر عنه، ذكروه بلفظ خطاب الغيبة كراهة إضافته إلى المتكلم لفظاً. وقد جاء على الأصل في الرواية المذكورة في أحاديث بني إسرائيل، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وحذيفة، كلهم بلفظ المتكلم: ((إذا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني)) . قوله: ((واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر)) أي: فرقوا أجزاءه المسحوقة في الريح، التي تبعثر ذراته بعد التحريق والطحن، إمعاناً في تفرقة أجزائه، حتى لا تجتمع، ظاناً أن الله لا يقدر على جمعه وبعثه، ولهذا قال: ((فو الله لئن قدر الله عليه)) أي: قدر على جمعي، وبعثني حياً بعد الموت، وفي الرواية المشار إليها: ((فو الله لئن قدر الله عليَّ)) . وهذا هو ظاهر الروايات جميعها، بل هو صريحها، وما ذكر من التمحلات والتكلفات من كثير من الشراح، لا داعي لها، وهي خلاف صريح اللفظ كقولهم: ((قدر)) من التقدير، وهو التضييق، أو قدر على العذاب، ونحو ذلك مما يجزم المتتبع لروايات الحديث والناظر في السياق أنه خطأ محض. فهو شاك في قدرة الله على جمعه، وإحيائه بعد ذلك، ومع هذا عذره   (1) انظر ((الفتح)) (6/514) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 الله – تعالى – بجهله، وحسن قصده، وهذا يدل على أن الجاهل قد يغفر الله له وإن عمل ما يدل على كفره لو كان عالماً. قال شيخ الإسلام: ((فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهو كفر باتفاق المسلمين)) (1) . وقال: ((وهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل بقدرة الله – تعالى – على إعادة ابن آدم بعد ما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك)) (2) . وقال أيضاً: ((فهذا شك في قدرة الله، وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وقد غفر الله له)) (3) . وهذا هو المتبادر من الحديث، فلا يعدل عنه لا بدليل يوجب ذلك، وليس هناك ما يوجب صرفه عن ظاهره. وقال أيضاً: ((فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك أنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله، وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته)) (4) . قوله: ((فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه)) الروايات التي اطلعت عليها كلها بلفظ الماضي الذي وقع وانتهى.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (3/231) . (2) ((مجموع الفتاوى)) (12/490-491) . (3) ((مجموع الفتاوى)) (23/347) . (4) ((الاستقامة)) (1/164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 قال الحافظ: ((هذا جميعه كما قال ابن عقيل: إخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم: إنه خاطب روحه، فإن ذلك لا يناسب قوله: ((فجمعه الله)) ؛ لأن التحريق والتفريق إنما وقع على الجسد، وهو الذي يجمع، ويعاد عند البعث)) (1) . وأقول: ليس هناك ما يمنع أن يكون ذلك وقع، بل هذا هو الظاهر من الحديث برواياته المتعددة، وهو الظاهر من صنيع البخاري – رحمه الله -، حيث أورده في أحاديث بني إسرائيل التي وقعت لهم، وأورده في هذا الباب مستشهداً به على أن الله – تعالى – خاطب هذا الرجل، كما في سائر أحاديث الباب، فيكون الله – تعالى – قد أحياه، وخاطبه، ثم مات أخرى، كما حصل لقتيل بني إسرائيل، الذي أمر الله – تعالى – أن يضرب بجزء من البقرة فحيى. أو تكون حياته بعد جمعه حياة برزخية، يخاطب فيها ويجيب، ويدرك ويعرف، كما خاطب الله – تعالى – والد جابر بعد ما قتل، قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجابر: ((ألا أبشرك عما لقي أبوك؟ إن الله كلم أباك من غير حجاب، فقال له: عبدي، سلني ... )) الحديث (2) ، وعلى كُلِّ فقدرة الله – تعالى – صالحة لما ذكر وغيره، والله أعلم. قوله: ((فقال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم، فغفر له)) . أي: لماذا أمرت أولادك بأن يحرقوك، ويذروك في يوم عاصف، نصفك في البر والنصف الآخر في البحر؟ وهذا يدل على أن من أمر بشيء، ففعل حسب أمره، أنه هو المسؤول   (1) ((الفتح)) (6/523) . (2) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 عن ذلك وعليه تبعته، ولا يرفع ذلك المسؤولية عن المباشر للفعل،، ولا سيما إذا كان فيه معصية لله – تعالى -، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – تعالى -. والله – تعالى – يسأله، وهو أعلم بقصده، وما أراده، وإنما ذلك لتقريره بذنبه، حتى يتم الجزاء، فلما كان الدافع له على ما أقدم عليه هو خوف الله بقصد حسن، غفر الله له، وإن كان فعله خطأ، وجهلاً بقدرة الله – تعالى – ومع ذلك عذره الله، وغفر له. والشاهد منه قوله: ((ثم قال: لم فعلت؟)) ؛ لأنه خطاب من الله – تعالى – لهذا يسأله عن فعله، الذي خالف فيه مقتضى الإيمان بكمال قدرة الله – تعالى -، وقول الله – تعالى – وخطابه غير ما يخلقه، ويفعله مفعولاً له، وكلام الله – تعالى – داخل في أفعاله الاختيارية، ولهذا أخبر تعالى أنه لا نفاد له، ولا يجوز قصر كلام الله على كتبه. ****** 133- قال: ((حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام حدثنا إسحاق بن عبد الله، سمعت عبد الرحمن بن أبي عمرة، قال: سمعت أبا هريرة، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن عبداً أصاب ذنباً – وربما قال: أذنب ذنباً – فقال: رب أذنبت ذنبا – وربما قال: أصبت ذنبا – فاغفر لي: فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبا – أو أذنب ذنبا – فقال: رب أذنبت – أو أصبت – آخر، فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا – وربما قال: أصاب ذنبا – فقال: رب أصبت – أو أذنبت – آخر فاغفر لي، فقال: أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي - ثلاثا - فليعمل ما شاء)) . قوله: ((إن عبداً أصاب ذنباً)) هذا جنس يعم كل من كان بهذه الصفة، أي: من أذنب، ثم رجع إلى ربه هارباً من عذابه، طالباً المغفرة تائباً. قوله: ((أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به)) أي: أنه حقق هذا العلم باعترافه بالذنب، وإنابته إلى ربه، راغباً في مغفرته، خائفاً من عقوبته، فلذلك غفر له، ثم قال في الثالثة: ((فليعمل ما شاء)) يعني: ما دام يذنب ثم يستغفر ويتوب، فإن ربه - تعالى - يغفر ذنبه. ولا يدل ذلك على أنه مصر على الذنب، فإن الإصرار على الذنب أعظم منه، ولكنه يتوب ويستغفر، ثم يغلبه الطبع، وهوى النفس، وتزيين الشياطين، فيواقع الذنب، ثم يفر بعد ذلك إلى ربه تائباً نادماً، راجياً خائفاً، فشروط التوبة متحققة فيه، وهي الإقلاع عن الذنب، والندم على الوقوع فيه، والعزم على أن لا يعاوده. قال القرطبي في المفهم: ((يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله، وسعة رحمته، وحلمه، وكرمه. لكن هذا الاستغفار، هو الذي ثبت معناه في القلب مقارناً للسان، لينحل به عقد الإصرار، ويحصل معه الندم، فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث: ((خياركم كل مفتن تواب)) ، ومعناه: الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب، عاد إلى التوبة. لا من قال: أستغفر الله بلسانه، وقلبه مصر على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 قلت (1) : ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا، من حديث ابن عباس، مرفوعاً: ((التائب من الذنب، كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه)) . والراجح أن قوله: (والمستغفر)) إلى آخره، موقوف. وأوله عند ابن ماجه، والطبراني، من حديث ابن مسعود، وسنده حسن. وحديث: ((خياركم كل مفتن تواب)) ذكره في مسند الفردوس، عن علي. قال القرطبي: ((وفائدة هذا الحديث: أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم، والإلحاح في سؤاله، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه)) (2) . والمقصود من الحديث، وقوع كلام الله – تعالى – مخاطباً هذا العبد المذنب، وإن كان العبد لا يسمع ذلك الخطاب، ولم يعلم به، فهو مما أوحاه الله – تعالى – إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وهو واقع من الله - تعالى -، فهو دال على مراد الإمام البخاري - رحمه الله -، من أن الله يتكلم متى شاء، بما يشاء من أمره، وشرعه، وتدبيره لخلقه، وتصريفه ملكه – جل وعلا – وكلامه لا حصر له ولا نفاد، وهو غير مخلوق؛ لأن الكلام صفة المتكلم متعلق به وقائم به، وأما خلقه فهو مفعول له، ليس من صفاته، وإنما هو من مفعولاته. والله أعلم. ****** 134- قال: ((حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا معتمر، سمعت أبي، حدثنا قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أنه ذكر رجلاً فيمن سلف – أو فيمن كان   (1) القائل هو الحافظ ابن حجر، رحمه الله. (2) ((الفتح)) (13/471-472) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 قبلكم – قال كلمة يعني أعطاه الله مالاً وولداً – فلما حضر الوفاة، قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر – أو لم يبتئز – عند الله خيراً، وإن يقدر الله عليه يعذبه، فانظروا إذا مت، فأحرقوني، حتى إذا صرت فحما فاسحقوني – أو قال: فاسحكوني – فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها)) . فقال نبي الله – صلى الله عليه وسلم -: ((فأخذ مواثيقهم على ذلك – وربي – ففعلوا، ثم أذروه في يوم عاصف. فقال الله – عز وجل -: كن، فإذا هو رجل قائم، قال الله: أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال: مخافتك – أو قال: فرق منك – قال: فما تلافاه أن رحمه عندها)) . وقال مرة أخرى: ((فما تلافاه غيرها)) فحدثت به أبا عثمان، فقال: سمعت هذا من سلمان، غير أنه زاد فيه: ((أذروني في البحر)) أو كما حدث)) . ((حدثنا موسى، حدثنا معتمر، وقال: لم يبتئر)) . ((وقال لي خليفة: حدثنا معتمر، وقال: لم يبتئز: فسره قتادة: لم يدخر)) . هذا هو الحديث المتقدم قريباً، أعاده من طرق أخرى من حديث أبي سعيد الخدري. وفيه من الزيادة قوله: ((فيمن سلف – أو فيمن كان قبلكم -)) وتقدم أن الإمام البخاري – رحمه الله – أورده في أحاديث بني إسرائيل من كتاب الأنبياء، مما يدل على أنه منهم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وفيه أن وصيته وأمره لأولاده كانت عند وفاته، بقوله: ((أي أب كنت لكم؟)) ليكون ذلك أدعى إلى تنفيذ أمره، فكأنه يقول: ما دمتم تعرفون أني كنت لكم خير أب، فمن جزائي عليكم أن تفعلوا ما آمركم به. وفيه أن سبب أمره لأبنائه بذلك أنه مسرف على نفسه، ولم يقدم خيراً، فقوله ((لم يبتئز خيراً عند الله)) معناه: لم يقدم عملا صالحاً، وفسره قتادة بأنه لم يدخر عند الله خيراً. والمقصود أنه لم يعمل خيراً يرجو به النجاة. وفيه قوله: ((حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني – أو قال: فاسحكوني – فإذا كان يوم عاصف فأذروني فيها)) وقد فهم هذا كله من الحديث السابق، والسحق، والسحك، كلاهما بمعنى واحد، وهو أن يطحن حتى يصير ذرات صغيرة جداً، ولهذا أمرهم أن يذروه في اليوم الذي تكون الريح فيه عاصفاً، أي: شديدة؛ إمعاناً في تفريق أجزائه، ظناً منه أن الله لا يقدر على إعادته بعد ذلك، وهذا هو مقصده. وفيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فأخذ مواثيقهم على ذلك – وربي)) ففيه مشروعية القسم على الأمر المؤكد تقوية وتأكيداً للسامع؛ حتى لا يرتاب في ذلك، والرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الصادق المصدوق فيجب تصديق خبره بدون أي تردد، أو شك، ولو لم يقسم، ولكنه يشرع لأمته صلوات الله وسلامه عليه. والمواثيق جمع ميثاق وهي: العهود، والأيمان المؤكدة على أن يفعلوا ما أمرهم به. وفيه أن الله – تعالى – قال له: ((كن، فإذا هو رجل قائم)) وهو ظاهر فيما قلنا إنه واقع في الدنيا، وسبق أن حديث جابر يدل على ذلك، ولفظه: ((قال جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أبشرك عما لقي أبوك؟ إن الله كلم أباك من غير حجاب، فقال له: عبدي، سلني، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 فقال: يا رب، ردني إلى الدنيا حتى أقتل فيك، قال: فإني قد قضيت عليهم ألا يرجعوا، قال: يا رب فأبلغهم عنا، فأنزل - عز وجل - {وَلاَ تَحَسَبَنَ الَّذِينَ قُتِلُوا فيِ سَبِيلِ اللهِ أموَاتاً بَل أَحيَاءُ عِندَ رَبّهِم يُرزَقُونَ} (1) . وفيه: أن الله - تعالى - قال له: ((أي عبدي، ما حملك على أن فعلت ما فعلت)) وهو بمعنى ما تقدم. وقوله: ((مخافتك - أو فرق منك)) الفرق: هو الخوف، وهو بمعنى ما تقدم من قولك: ((خشيتك)) . وفيه قوله: ((فما تلافاه أن رحمه عندها)) وقال مرة أخرى: ((فما تلافاه غيرها)) يعني: أنه تعالى عندما قال هذه الكلمة، رحمه دون إمهال، بل أسرع إليه برحمته، فغفر له، فما أعظم هذا الكرم، وأوسع هذا الحلم والرحمة، هذا مع شك هذا الرجل في قدرة الله، وعدم إيمانه بما يجب عليه بأنه تعالى على كل شيء قدير، ولكن رحمة الله تغلب غضبه. وتقدم بيان الشاهد منه، وهو قول الله - تعالى- وخطابه لهذا الرجل، مما يدل على أنه تعالى يقول ويتكلم متى شاء، ويكلم من يشاء، وكلامه تعالى لا حصر له ولا نفاد، وهو غير خلقه؛ لأن الكفار والمنافقين يريدون أن يبدلوا كلام الله، وذلك قد يقع، وأما خلق الله - تعالى - فلا تبديل له. كما في هذه النصوص إثبات الصفات الاختيارية لله - تعالى - وهي من تمام حمده، فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود، ولا أنه رب العالمين.   (1) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص42) ، ورواه الإمام أحمد ولفظه: ((أعلمت أن الله أحيا أباك، فقال له: تمن، فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون)) انظر ((المسند)) (3/361) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 فإن الحمد ضد الذم، وهو: الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له، كما أن الذم هو: الإخبار بمساوئ المذموم مع بغضه، وجماع المساوئ فعل الشر، كما أن جماع المحاسن فعل الخير. فمن كان يفعل الخير بمشيئته وقدرته استحق الحمد، ومن لم يكن له فعل اختياري يقوم به ويفعله بمشيئته وقدرته لا يكون خالقاً ولا رباً للعالمين. وقد علم بالاضطرار أن الله – تعالى – هو الخالق وحده، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهذا هو الفعل الاختياري، فوجب إثباته لله – تعالى -. وكذلك اتصافه بالصفات مثل الرحمن الرحيم، فإن الرحمن الرحيم: الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته، وكذلك يعذب من عصاه بمشيئته وقدرته، فتصرفه في ملكه دلت عليه أسماؤه وصفاته تعالى، فمن أنكر صفاته لزمه تعطيله عن تصرفه في ملكه. قال تعالى: - {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} (1) فعلق الرحمة والعذاب بمشيئته. وهو – تعالى – لم يزل بصفاته يفعل ما يشاء، له الكمال المطلق في كل وقت في الأزل وفي الأبد، وهذا مما أراده البخاري- رحمه الله – بذكر هذه النصوص، خلافاً لما يقوله أهل البدع. *****   (1) الآية 54 من سورة الإسراء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 قال: ((باب كلام الرب - عز وجل - يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم)) . هذا هو الباب الثامن مما يستدل به الإمام البخاري - رحمه الله - على إثبات الكلام لله - تعالى -. فذكر أولاً قوله - تعالى -: {وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعبَادِنَا المُرسِلينَ} ثم بوب على قوله تعالى: - {إِنَّمَا قَولُنَا إِذَا لَشَيْءٌ أَرَدناهُ} ، ثم على قوله تعالى: - {قُل لَّو كَانَ البَحرُ مِدَادَاً لِكَلمَاتِ رَبّي} الآيات، ثم ذكر المشيئة والإرادة إشارة منه إلى أن كلامه - تعالى - بمشيئته وإرادته، وأنه إذا شاء أن يتكلم تكلم، ثم ذكر ما بيَّن الله من حال الملائكة عند سماعهم صوت الله - تعالى - بالكلام، وأنهم يصعقون، فإذا أفاقوا قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم، وفيه إثبات الصوت لله - تعالى-، وأن كلامه بصوت، وهذا من أبلغ الأدلة على إثبات الكلام لله حقيقة، ثم ذكر قول الله - تعالى -: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يريد بذلك إبطال قول من يزعم أن كلام الله مخلوق؛ لأن الخلق لا يبدل بخلاف الكلام، فإنه يمكن تبديله، أو يريد أن الأحاديث القدسية من كلام الله حقيقة، وأن كلامه تعالى لا ينحصر في كتبه المنزلة، ثم ذكر هذا الباب الذي نحن في صدد شرحه، وهو كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، يقصد بذلك أن كلامه تعالى لا انقطاع له ولا نهاية بل متعلق بمشيئته متى شاء تكلم، فكما أنه تعالى تكلم في الأزل، وبعده كلما أراد، فهو يتكلم في المستقبل وفي الحال حسب إرادته. ثم ذكر قوله تعالى: - {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} ليبين أن كلامه حقيقة، وأنه يكون خاصاً وعاماً، ولهذا أعقبه بقوله: باب كلام الرب مع أهل الجنة، ثم ذكر مسألة خلق أفعال العباد، والفرق بين فعل الله تعالى وفعل العبد، ووجوب عدم مشابهة الرب في ذلك وغيره، ولهذا أعقب ذلك بأن ترجم بقول الله - تعالى -: - {فَلاَ تَجعَلُواْ للهِ أَندَاداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وَأَنتُم تَعلَمُونَ} ثم بين الفرق بين فعل العبد وما هو صفة لله مثل القراءة والمقروء، وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله – تعالى -، وكل ما ذكره أدلة واضحة صريحة، ومخالفتها ضلال بيّن. ***** 135- قال: ((حدثنا يوسف بن راشد، حدثنا أحمد بن عبد الله قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا حميد قال: سمعت أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان فيه قلبه أدنى شيء، فقال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -)) . هذا مختصر من حديث الشفاعة، وتقدم شرحه. قوله: (( (شفعت)) مبني للمجهول، ومعلوم أنه لا يشفع في ذلك الموقف إلا الله – جل وعلا -، ولا تقع الشفاعة إلا بكلام الله وأمره، وبهذا يرد قول ابن التين، الذي نقله الحافظ: ((أنه قال: هذا فيه كلام الأنبياء مع الرب، ليس كلام الرب مع الأنبياء)) (1) ، وكذلك قوله: ((ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء)) يدل على أن الله يكلمه. والمراد بالشيء: الإيمان، وتصدق على ما يسمى شيئاً، وهو أقل جزء من الإيمان، وهذا دليل واضح على تفاوت الإيمان بين الناس، كما دلت عليه النصوص الكثيرة. قوله: ((كأني أنظر إلى أصابع رسول الله –صلى الله عليه وسلم -)) ، يعني: أنه كان يشير بأصابعه يصف قلة ما عند هذا المخرج من النار من الإيمان. *****   (1) ((الفتح)) (13/475) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 136 – قال: ((حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي، قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه، يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا، وهو قاعد على فراشه. فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة، جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة. فقال: حدثنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد – صلى الله عليه وسلم -، فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر لهرساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، من النار، من النار، فأنطلق فأفعل)) . فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن، وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثنا بما حدثنا أنس بن مالك، فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة. فقال: هيه، فحدثنا بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه، فقلنا: لم يزد لنا عن هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فلا أدري أنسي، أم كره أن تتكلوا. فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثنا، فضحك، وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم. حدثني كما حدثكم به، قال: ((ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)) . تقدم شرحه، والمقصود منه هنا إثبات كلام الله – تعالى – لرسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 في الموقف، فإن فيه محاوره بين رب العالمين – جل وعلا -، وبين عبده ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم -. وهو واضح الدلالة على المراد، من أنه تعالى يتكلم ويخاطب من يشاء من عباده يوم القيامة، فإذا ثبت ذلك دل على أن كلامه بمشيئته، وأنه متى شاء تكلم، يوم القيامة، وقبلها. وهذا أمر من ضروريات دين الإسلام، لا ينكره إلا من هو دخيل فيه، أو زنديق قد تلبس بثوب الإسلام لأجل النيل منه، والإجهاز عليه إذا واتته الفرصة، أو ضال لعبت به الأهواء، واجتالته شياطين الإنس والجن بعيداً عن الحق والهدى. ولا يضر ما في هذه الخطابات الكريمة من الأفعال المبنية للمجهول كقوله: ((فأستأذن فيؤذن لي)) ، وقوله: ((فأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك)) لأنه قد علم أنه لا يقول ذلك إلا رب العالمين، وليس لمخلوق في ذلك الموقف العظيم أن يأمر، وينهي، ويتصرف في الخلق، بإدخال بعض العباد النار، وإخراج البعض منها، وإنما الفاعل لذلك كله والآمر به هو رب العباد – عز وجل -. وهو الذي يقول لرسوله: ((يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع)) ، وهو – تعالى – القائل له: ((انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان)) . ودل صراحة على تفاوت هؤلاء المخرجين من النار في الإيمان، وقد تكاثرت النصوص على ذلك. كما دل على أن من معه أصل الإيمان، ولم يخرج منه بمكفر، أنه لا يخلد في النار، وإن عظمت ذنوبه، وإن ضعف إيمانه. قال القرطبي: ((المراد بالإيمان هنا: أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 فيكون دليلاً على أن الأعمال الصالحة من الإيمان. وقد قيل: إن المراد: أعمال القلوب، ويجوز أن يراد به: رحمة لمسلم، رقة على يتيم، خوفاً من الله، رجاء له، توكلاً عليه، ثقة به، مما هو أفعال القلوب دون الجوارح، وسماها إيماناً؛ لكونها في محل الإيمان)) (1) . والظاهر أن المراد أصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إذ هو الباعث على عمل ما ذكر، ولكن قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يقوى على دفع صاحبه إلى العمل. ودل على تكرار الشفاعة مرات متعددة، وذلك من رحمة الله بعباده، ولهذا يفتح الله – تعالى – على نبيه من المحامد والثناء ما يرضى به عنه، ويأذن له بالشفاعة، وما لم يكن – صلى الله عليه وسلم – يعرفه من قبل. واستدل بهذا على أن أسماء الله – تعالى- لا حصر لها؛ لأن الثناء على الله – عز وجل – يكون بأسمائه الحسنى وصفاته. وفي الحقيقة الشفاعة لله – تعالى – فهو الذي يأمر بها فيقول لنبيه ((اشفع)) ويشفعه، وتقدم أن حقيقة الشفاعة: رحمة الله – تعالى – للمشفوع فيه، وإظهار كرامة الشافع. ودل الحديث على شفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أمته. وقد جاء أن الأنبياء والملائكة والمؤمنين يشفعون، وتقدم بيان ذلك في باب قول الله – تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ودل الحديث على عظم ذلك اليوم، إذ أن أفضل الرسل تحجم عن الشفاعة، ويعتذرون بأنهم قد أصابوا ذنوباً، تابوا منها وقبلت توبتهم،   (1) ((التذكرة)) (2/418) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 ولكنهم يستحيون من الله. وفيه دليل على جواز وقوع الذنوب في الجملة من الرسل، ولكنهم يوفقون إلى التوبة، والرجوع إلى الله – تعالى -، وسبقت الإشارة إلى ذلك. قوله: ((من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان)) التكرار للتأكيد، أو التوزيع على الحبة والخردلة، أي: أقل حبة من أقل خردلة من الإيمان)) قاله الحافظ (1) . وقوله: ((من النار، من النار، من النار)) هو للتأكيد والمبالغة. وتقدم ما في الحديث من الإشكال؛ لأن أوله غير متصل بآخره، والجواب عنه. ويستفاد منه أن الشفاعة لا تطلب إلا ممن يملكها. كما يستفاد أنه لا يطلب من الشافع أن يشفع إلا إذا كان يقدر على الشفاعة بأن يكون حياً حاضراً، قادراً على ذلك، ففيه بيان ضلال الذين يتعلقون بالموتى، ويطلبون منهم التوسط لهم عند الله، وهذا عين شرك المشركين الذين أرسلت إليهم الرسل، ينهونهم عن ذلك، وينذرونهم عذاب الله إن لم يتوبوا منه. ودل صراحة على أن الشفاعة لا تنال إلا من أمر الشافع أن يشفع فيه، ولهذا ذكر أنه في كل مرة يحد الله له حداً، فيقول له: اشفع فيهم، فهو – تعالى – يعين له نوعاً متميزاً فيأمره أن يشفع فيهم بحيث لا يمكن دخول من ليس منهم معهم، ولذلك قال في الأولى: ((من في قلبه شعيرة من إيمان)) ، وفي الثانية: ((من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل)) ، وفي الرابعة:   (1) انظر ((الفتح)) (13/475) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 ((من قال: ((لا إله إلا الله)) ، وهذا يعطي بظاهره أنه ولو لم يكن في قلبه شيء من الإيمان، وقد تؤول بأن المقصود: الإيمان الزائد على أصل الإيمان الذي يحصل به الخروج من الكفر، وادعى بعض العلماء الإجماع على ذلك. والذي يظهر من هذا الحديث، وغيره مما جاء في معناه: أنه لا يشترط ذلك، فالله أعلم. ***** 137- قال: ((حدثنا محمد بن خالد، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار، رجل يخرج حبواً، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، فكل ذلك يعيد عليه، الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار)) . قوله: ((إن آخر أهل الجنة دخولا)) هذا على إطلاقه، يعني: أنه لا يدخلها بعده أحد حيث لم يبق في النار من يخرج منها، وهذا أقل المؤمنين إيمانا وأكثرهم معاصي، ويجوز أن يكون واحداً بعينه، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون نوعاً، أو جنساً من هذا النوع، وقد تقدم في باب قوله - تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أنه بعد إخراج من يخرج من النار يبقى رجل مقبل بوجهه إلى النار، فيدعوا ربه: رب اصرف وجهي عن النار، ويقسم لله أنه لا يسأله غير ذلك، ثم إذا صرف وجهه عن النار يسأل ربه: يا رب، قربني إلى الجنة، ويقسم لربه ألا يسأله غير ذلك، فإذا رأى ما في الجنة سأل ربه أن يدخله الجنة، فإذا أدخله الجنة قال له: تمنّ، فإذا انقطعت أمنيته قال الله له: لك ذلك وعشرة أمثاله معه. فقد يقال: إن ذاك هو المراد هنا، وقد يكونان اثنين أو نوعين، فالله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 قال عياض: ((جاء نحو هذا في آخر من يجوز على الصراط، فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان وإما جنسان، وعبر فيه بالواحد عن الجماعة؛ لاشتراكهم في الحكم الذي كان سبب ذلك، ويحتمل أن يكون الخروج هنا بمعنى الورود، وهو الجواز على الصراط، فيتحد المعنى، إما في شخص واحد أو أكثر. قال الحافظ: ((قلت: وقع عند مسلم ما يقوي الاحتمال الثاني، وهو أن المراد بالخروج، معنى الورود، ولفظه: ((وآخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك)) (1) . قلت: الظاهر أنه رجل واحد، لا جنس ولا نوع، فالأحاديث تدل على ذلك، مثل الخطاب الذي يجري بينه وبين رب العالمين، وكل سياق الحديث بألفاظه تدل على ذلك. وقد ذكر القرطبي في ((التذكرة)) ما يؤيد هذا، حيث قال: ((قال ابن عمر، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له: جهينة، تقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين)) ، ذكره الميانشي أبو حفص عمر بن عبد المجيد، في كتاب ((الاختيار في الملح من الأخبار والآثار)) . ورواه الخطيب، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين، سلوه: هل بقي من الخلائق أحد)) ورواه الدارقطني. انتهى (2) . وعند تأمل النصوص يتبين عدم الاتحاد، فيجوز أن يكون هذا المذكور في رواية مسلم آخر من يدخل الجنة ممن لا يلقى في النار، وإنما يبطئ به   (1) ((الفتح)) (11/443) . (2) ((التذكرة)) (2/515) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 عمله على الصراط فيحبو مرة، ويزحف أخرى، حتى يجاوز النار. والمذكور في هذا الحديث المشروح هنا آخر من يدخل الجنة ممن يلقى في النار من أهل الإيمان، وبذلك تتفق النصوص، والله أعلم. قوله: ((آخر أهل النار خروجاً من النار)) يعني: بأهل النار من الموحدين الذين يدخلون النار بذنوبهم، أما أهل النار الذين ماتوا على الكفر فهم لا يخرجون منها أبد الآباد، كما قال تعالى:: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (2) } والآيات في ذلك كثيرة. قوله: ((يخرج حبواً)) يعني: على ركبتيه ويديه، لا يستطيع الاعتماد على رجليه، والمشي عليهما يسمى حبواً، قال في ((اللسان)) : ((حبا حُبُوّاً: مشى على يديه وبطنه، وحبا الصبي حَبْواً: مشى على استه، وأشرف بصدره)) (3) . وقال النووي: ((قال أهل اللغة: الحبو: المشي على اليدين والرجلين، وربما قالوا: على اليدين والركبتين، وربما قالوا: على يديه ومقعدته. وأما الزحف، فقال ابن دريد، وغيره: هو المشي على الاست مع إفراشه بصدره، فحصل من هذا: أن الحبو والزحف متماثلان، أو متقاربان، ولو ثبت اختلافهما حمل أنه في حال يزحف، وفي حال يحبو: والله أعلم)) (4) .   (1) الآية 107 من سورة هود. (2) الآية 6 من سورة البينة. (3) انظر ((اللسان)) (1/560) المرتب. (4) ((شرح مسلم)) (3/39) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 قوله: ((فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، وفي كل ذلك يعيد عليه: الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار)) هذا هو محل الشاهد من الحديث؛ لما فيه من كلام الله – تعالى – ومخاطبته لهذا الرجل، الذي هو آخر من يدخل الجنة، وهو دليل أيضاً على جواز تكليم الله – تعالى – لمن هو أعلى منزلة منه، كما جاءت النصوص في ذلك، وتقدم بعضها. وهذا الحديث اختصره هنا، ولفظه كما في كتاب الرقاق، قال: ((قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها – أو إن ذلك مثل عشرة أمثال الدنيا – فيقول: تسخر مني – أو تضحك مني – وأنت الملك؟ فلقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) (1) . وواضح من هذا أن الله يكلمه بدون واسطة، وأن ذلك يتكرر، ثم يقول له في النهاية: إن لك مثل الدنيا عشر مرات، ولهذا بهت الرجل من ذلك، ورأى أنه لا يستحق ولا قريباً من ذلك، فقال: أتسخر مني – أو قال: أتضحك مني – وأنت الملك؟ ففيه إثبات الضحك لله – تعالى -، وأنه يسخر من بعض خلقه، ومثل هذه الأفعال الصادرة من الله – تعالى يجب أن تثبت له – تعالى – على ما يليق بعظمته   (1) انظر البخاري (8/99) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 وفق ما جاء النص بها، فلا يجوز تأويلها بما يغير معناها، ولا تعطيلها، بل يؤمن بها على ما جاءت، وكما أخبر بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو أعلم بالله من غيره، وأحرص على هداية الأمة، وإبعادها عن الضلال، وهو أقدر الخلق على البيان، وإيضاح الحق. 138 – قال: ((حدثنا علي بن حجر، أخبرنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن خيثمة عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولا بشق تمرة)) . قال الأعمش، وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة مثله، وزاد فيه: ((ولو بكلمة طيبة)) . تقدم هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وفيه: ((ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حاجب يحجبه)) وهو واضح الدلالة على عموم كلام الله – تعالى – للمؤمنين؛ لأن قوله: ((ما منكم من أحد)) نكره سبقت بالنفي، فهي من صيغ العموم، غير أن قوله: ((منكم)) يجوز أن يكون قيداً في المؤمنين، ويخرج من ذلك العموم الكفار؛ لأنهم ليسوا منا. وقوله: ((سيكلمه ربه)) السين للاستقبال من الزمان؛ لأن هذا التكليم لا يكون إلا يوم القيامة، والترجمان: هو الواسطة التي تنقل الكلام من المتكلم إلى المكلم، سواء اختلفت اللغة، أو لم تختلف. قال في ((اللسان)) : ((التُّرجُمان، والتَّرجُمان: المفسر للسان، وهو الذي يترجم الكلام، أي: ينقله من لغة إلى لغة)) (1) وليس هذا من تمام التعريف، بل   (1) ((اللسان)) (1/316) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 لا يلزم أن يكون نقله من لغة إلى أخرى. ومعنى ذلك أن العبد سيقف بين يدي الله – تعالى – يوم القيامة، فيحاسبه على ما كلفه به من دينه هل قام به، أو أهمله، ويحاسبه على أعماله، وكل تصرفاته، وذلك بدون واسطة من خلقه، بل هو - جل جلاله - يتولى ذلك بنفسه، فيكلم عبده ويسائله. وقوله: ((فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم)) أي: أن أعماله تكون حاضرة عن يمينه، وعن شماله، فالحسنات عن يمينه، والسيئات على شماله، لا يغادره في ذلك الموقف شيء منها، ولهذا قال: ((فلا يرى إلا ما قدم)) ، وقد يكون كما قال ابن هبيرة: إنه ينظر عن يمينه وعن شماله، كحالة الذي دهمه أمر عظيم، فهو يتلفت يطلب النجاة، أو الغوث. قوله: ((وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه)) وذلك أن النار في ذلك الموقف حائلة بين الناس وبين الجنة، فلا بد من ورودها لكل أحد، ثم ينجي الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثياً. ولهذا قال: ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) يعني: نصفها، والمقصود تقديم العمل الصالح الذي يكون واقياً لصاحبه من النار، وساتراً له منها، وهذا يدل على وجوب تقديم العمل الصالح، المنبعث عن تقوى الله – تعالى – والإيمان به، وبملاقاته ومحاسبته، ويدل على نفع العمل الصالح ولو قل. قوله: ((قال الأعمش)) إلى آخره، يقصد بذلك بيان صحة السند؛ لأن الأعمش قد صرح بالتحديث فأمن التدليس بذلك. **** 139- قال: ((حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله – رضي الله عنه – قال: جاء حبر من اليهود، فقال، إنه إذا كان يوم القيامة، جعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الله السماوات على إصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك. فلقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحك، حتى بدت نواجذه، تعجباً، وتصديقا لقوله، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله: {يُشرِكُونَ} . تقدم هذا الحديث في باب قوله - تعالى -: {لِمَا خَلَقتُ بِيَدَىَّ} وتقدم الكلام عليه هناك. والمقصود منه هنا قوله: ((ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك)) فإنه خطاب لخلقه، ولا سيما الذين كانوا ينازعونه في ملكه في الدنيا من الجبارين، والمتكبرين، ولهذا جاء فيه بعد قوله: ((أنا الملك)) قوله: ((أين ملوك الدنيا؟)) كما تقدمت الإشارة إليه. **** 140- قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، أن رجلا سأل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ قال: ((يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) . النجوى هي المحادثة بين اثنين أو أكثر سراً، بحيث لا يسمع حديثهم من قرب منهم، والمقصود هنا: كلام الرب - تعالى - مع عبده سراً. قال في ((اللسان)) : ((نجاه نجواً: ونجوى: ساره، النجوى، والنَّجِيُّ: السر، النجوى: السر بين اثنين، يقال: نجوته نجواً، أي: ساررته، وكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 ناجيته، والاسم: النجوى)) (1) . قال الحافظ: ((المراد من النجوى في الحديث: المناجاة التي تقع من الرب – سبحانه وتعالى – يوم القيامة مع المؤمنين)) (2) . قوله: ((يدنو أحدكم من ربه)) في الرواية الأخرى. ((يدنو المؤمن من ربه)) . والله - تعالى - وصف نفسه بأنه يدنو، ويقرب من بعض عباده، دون بعض، وقد تكاثرت النصوص في ذلك، حتى بلغت ما يقرب من خمسمائة آية في كتاب الله – تعالى -، كلها تدل على أنه – تعالى - يقرب من بعض خلقه، ويدنو إليهم، كقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (3) . وقوله – تعالى -: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} (4) . وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ} (5) ، وقوله – تعالى -: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (6) ، وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ (7) } والآيات في هذا كثيرة جداً. وكذلك ما تقدم من الأدلة على علو الله - تعالى - واستوائه على العرش، تدل على ذلك، فإنه إذا كان الله – تعالى – على العرش أمكن القرب منه   (1) ((اللسان)) (3/592) المرتب. (2) ((الفتح)) (10/488) . (3) الآية 281 من سورة البقرة. (4) الآية 223 من سورة البقرة. (5) الآية 7 من سورة الزمر. (6) الآية 156 من سورة البقرة. (7) الآية 39 من سورة النور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 بالصعود إليه والعروج، كما عرج النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه، وكذا الملائكة وبعض الأرواح وغير ذلك، وببعض هذه النصوص الكثيرة يحصل العلم الضروري، لمن آمن بها، وبما دلت عليه، من أن الله – تعالى – يقرب إلى عباده، ويقربون إليه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) ودلالة النصوص الشرعية على هذا من أعظم المتواترات، والعلم بها مستقر في فطر المسلمين، عامتهم، وخاصتهم، كما أنه مستقر في فطرهم أن الله فوقهم. وليس من الخلق أحد إلا ويعلم أن عباد الله منهم المقرب إلى الله – تعالى -، ومنهم المبعد الملعون المطرود، وكلهم يسمون الطاعات: قربات، يتقرب بها العبد إلى الله – تعالى -، وكلهم يرفعون أيديهم إلى الله، وكونه تعالى فوقهم يستلزم أنه يقرب إليه بالعلو والصعود، كما رفع عيسى ابن مريم إليه، والملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم إذا صعدوا إليه سألهم: كيف تركتم عبادي؟ والأدلة على هذا الأصل العظيم لا حصر لها، واتفق السلف الصالح، ومن تبع كتاب الله، وسنة نبيه، وآمن بهما، على القول بذلك، والإيمان به. ((قال الخلال في ((السُّنَّة)) : أخبرنا جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا أحمد بن محمد المصرمي، حدثنا سليمان بن حرب، قال: سأل بشر بن السري حماد بن زيد، فقال: يا أبا إسماعيل، الحديث الذي جاء: ((ينزل الله إلى السماء الدنيا)) يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد، ثم قال: ((هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء)) (2) .   (1) الآية 186 من سورة البقرة. (2) ((بيان تلبيس الجهمية)) (3/184) المخطوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وقال شيخ الإسلام: ((أهل السُّنَّة يثبتون أن الله على عرشه، وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما عرج به إلى السماء صار يزداد قرباً إلى ربه بعروجه، وصعوده. وعروجه إلى الله – تعالى – لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود، وإن كان بدنه متواضعاً، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص من الكتاب والسُّنَّة)) (1) . فالله – تعالى – يقرب بنفسه إلى من يشاء من خلقه، وهو فوق عرشه، عال على خلقه، ولا يجوز تأويل النصوص في ذلك مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه)) . ولا يلزم أن يكون كل نص في القرب يراد به قرب الله – تعالى – بنفسه، بل ينظر في النص الوارد في ذلك، فإن دل على قربه بنفسه حمل عليه كما في هذا الحديث، وإن دل على قرب ملائكته ورسله حمل عليه، كقوله – تعالى - {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد} ِ (2) ، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (3) . وهذا الحديث ظاهر في أن العبد يدنو من ربه، بل هو نص صريح في ذلك، فصرفه عن ظاهره تحريف لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلاعب به، يعد من عظائم الذنوب، يجب على المؤمن التحرز منه. وما نقله الحافظ عن ابن التين أنه قال: ((يعني يقرب من رحمته، وهو   (1) ((مجموع الفتاوى)) (6/7) . (2) الآية 16 من سورة ق. (3) الآية 85 من سورة الواقعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 سائغ في اللغة، يقال: فلان قريب من فلان، ويراد الرتبة)) (1) . فهو تأويل الجهمية المعروف الذي ذكره السلف عنهم، وردوه، وبينوا أنه مخالف لقول الله – تعالى – ولقول رسوله –صلى الله عليه وسلم – ولعقيدة أهل العلم والإيمان، وهو سلوك غير سبيل المؤمنين. قال شيخ الإسلام: ((وبيان بطلان هذا التأويل من وجوه: أحدها: أن ما يدنو إليه العبد من الرحمة، والإيمان، وغير ذلك، إما أن تكون أعياناً قائمة بأنفسها، أو صفات قائمة بغيرها، فإن كانت صفات، فمعلوم أن القرب إلى الصفة لا يكون إلا بالقرب إلى الموصوف نفسه. فأما قربه من صفته القائمة به دون قربه من نفسه، فظاهر البطلان والفساد، ولهذا لم يقله أحد من العباد، بل الذي يحيل القرب إلى نفسه هو للقرب إلى صفاته أشد إحالة، إن كان يثبت له صفة. ومن المعلوم أن قوله: ((يدنو العبد من ربه، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه – أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أعرف رب)) وقوله: إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه)) وقوله: ((فيدنيه الله منه فيضع عليه كنفه)) ، [وقوله: ((يدنو أحدكم من ربه فيضع عليه كنفه] (2) ، كل هذه الألفاظ صريحة واضحة، كل من سمعها علم بالاضطرار أن الذي يدني العبد، ويضع عليه كنفه، ويقرره بذنوبه، ويغفرها له، هو الله، لا أحد من خلقه، فكيف يجوز أن يقال: لا يدنو العبد من ربه، وإنما يدنو من بعض مخلوقاته؟ (3) . وهل ذلك إلا بمثابة من يقول: إن من يقرره بذنوبه هو بعض مخلوقاته؟ كما يقوله الجهمية، القائلون بأن الله – تعالى – لا يقوم به كلام،   (1) ((الفتح)) (13/477) . (2) هذا لفظ الحديث المشروح هنا، ولم يذكره الشيخ. (3) لأن الرحمة التي فسروا بها دنو العبد هو الثواب واللطف والإحسان، فهي إذاً مخلوقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 وإنما الكلام يقوم ببعض مخلوقاته، وهو أيضاً بمنزلة أن يقال: إن الله لا يغفر له، وإنما يغفر له بعض مخلوقاته. وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خلاف ما أخبرت به الرسل، وأنه شرك صريح في إلاهية الله وربوبيته، ولهذا قال بعض السلف: إن من زعم أن قوله لموسى: {إِنِيّ أَنَاْ رَبُّكَ} مخلوق، فهو كافر؛ لأنه جعل هذا الكلام قائماً بمخلوق يلزم أن يكون هو الرب، وسائر تأويلات الجهمية وأهل الباطل من هذا الجنس. الثاني: أن هذا الدنو، ووضع الكنف، والمخاطبة، تكون وقت السؤال، والعبد خائف غير آمن، ولا يظهر له أنه يغفر له ويرحم، كما هو صريح الحديث الصحيح بقوله: ((يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) . فإذا كان العبد حين هذا الدنو من الله، والمخاطبة، والتقرير بذنوبه، يرى أنه قد هلك قبل أن يذكر له الرب – تعالى – أنه غفر له، امتنع أن يكون ما ذكره من دنوه من الله، هو دنوه من رحمته، وأمانه وتعطفه. الثالث: أن الرحمة والعطف، والأمان، إن كانت صفات الله – تعالى -، كان القرب إليها قرباً إلى الموصوف، كما تقدم، وإن كانت أعياناً قائمة بنفسها مخلوقة لله – تعالى -، فمن المعلوم أن حين الحساب في عرصات القيامة لا يكون هناك أجسام مخلوقة من الرحمة التي أعدها الله – تعالى – لعباده، ولكن هو يحكم بالعفو والمغفرة، ثم ينقلون إلى دار الرحمة، فامتنع أن يكون أحد حال المحاسبة مقرباً إلى أجسام هي رحمة قبل أن يؤذن لهم في دخول الجنة. الرابع: أن يقال: من المعلوم أن الله – تعالى – أخبر في كتابه بأصناف ما ينعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 به على عباده من المآكل والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، وقد أجمل ما لم يفصله في قوله تعالى: {فَلاَ تَعلَمُ نَفسٌ مَّا أُخفِىَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعيُنٍ} . وهذه الأمور يباشرها المؤمن مباشرة، لا يكون جزاؤه مجرد قربه منها دون مباشرتها، بل ذلك يكون حسرة وعذاباً، فدعوى الإكرام بمجرد التقريب من هذه الأمور دون مباشرتها، كلام باطل، لا حقيقة له. الخامس: أن المؤمن لم يزل في رحمة الله في الدنيا والآخرة، فلا يجوز تخصيص حال السؤال بقربه من رحمته، دون ما قبل ذلك وما بعده، بل هو مازال مباشراً لما يرحمه الله به قبل وبعد، فأي فائدة في أن يوصف بالقرب من شيء ما زال مباشراً له، لا ينفصل عنه؟ السادس: أنه في العرض على الله يظهر له من الأهوال والشدة ما يكون أعظم عليه وأشد لرهبه وألمه من كل ما كان قبل ذلك وبعده، فكيف يجوز تخصيص أشد الأحوال عليه بأنه يقرب فيه مما يرحم به؟ مع أن ما قبلها وما بعدها كان ما يرحمه به إليه أقرب، وهو له أعظم مباشرة ونيلاً. السابع: أن قولهم: ((يقرب من رحمة الله، وأمانه ولطفه، ونحو ذلك)) من تأويلهم، لا ريب أنه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. ومن المعلوم في اللغة العربية أن هذا لا يجوز إلا إذا اقترن بالكلام ما يبين المحذوف، فلا يقال: جاء زيد، والمقصود غلامه، أو رسوله (1) . والحديث نص في أن الله – تعالى – هو الذي يدني عبده من نفسه، ولهذا لا يسمع أحد هذا الكلام، فيفهم أن الله يدنيه من شيء آخر ولا يخطر هذا ببال المستمع، فكيف يجوز أن يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد الباطل الذي قالوه؟   (1) وهذا يرد ما نقله الحافظ عن ابن التين أن ذلك سائغ في اللغة، كما تقدم ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 الثامن: أن قوله: ((فيدنيه منه، فيضع عليه كنفه، ثم يقرره بذنوبه)) الجمع بين الإدناء ووضع الكنف، وتقريره بذنوبه، قرينة تعين أن الله – تعالى – هو الذي يدني إليه عبده، ويضع عليه كنفه، فيستره من الناس، كما صرح به في الحديث. التاسع: أن هذا الحديث دل على ما دل عليه القرآن من وقوف العباد على الله، وخطابه لهم، ومن المعلوم بالاضطرار من رسالات الرسل، ومن دين الإسلام، أن هذا إنما هو يوم القيامة، وأن أحوال العباد مع الله يوم القيامة غير أحوالهم في الدنيا، وعلى قول هؤلاء المؤولة لا فرق بين الدنيا والآخرة، فإن الله لا يقرب إليه شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يقفون على ربهم، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ويصيرون إليه، وإنما ذلك كله إلى بعض مخلوقاته، ومقدوراته، كما أن خطابه لهم عند الجهمية وأتباعهم)) (1) ، ومعناه أنه يخلق كلاماً في بعض مخلوقاته يكلمهم منها، وعند الأشاعرة - الذين هم فرع عن الجهمية – يخلق إدراكاً في العباد يفهمون به المعنى الواحد القائم بذاته – تعالى – وهذا تكذيب لكتاب الله ولرسوله، ومناقضة لدين الإسلام الذي فطر على قبوله العباد. قوله: ((حتى يضع كنفه عليه)) جاء الكنف مفسراً في الحديث بأنه ((الستر)) ، والمعنى: أنه – تعالى – يستر عبده عن رؤية الخلق له؛ لئلا يفتضح أمامهم، فيخزى، لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويظهر على وجهه الخوف الشديد، ويتبين فيه الكرب والشدة. قال الأزهري: ((قال الليث: الكنفان: الجناحان، وأنشد: سِقْطا من كنفي نعام جافل   (1) انتهى من ((بيان تلبيس الجهمية)) (2/177) المخطوطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وكنفا الإنسان: جانباه، وناحيتا كل شيء: كنفاه. وقولهم: في حفظ الله وكنفه، أي: في حرزه وظله، يكنفه بالكلاءة وحسن الولاية، وقال ابن المبارك: ((يضع عليه كنفه)) يعني: ستره)) (1) . ((قال الخلال في كتاب السُّنَّة: باب يضع كنفه على عبده، تبارك وتعالى: أخبرني محمد بن أبي هارون، ومحمد بن جعفر، أن أبا الحارث حدثهم قال: قلت لأبي عبد الله: ما معنى قوله: ((إن الله يدني العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه؟)) قال: هكذا نقول: يدنيه ويضع كنفه عليه، كما قال، يقول له: أتعرف ذنب كذا؟ قال الخلال: أنبأنا إبراهيم الحربي قال: قوله: فيضع عليه كنفه، يقول: ناحيته. قال إبراهيم: أخبرني أبو نصر، عن الأصمعي، يقال: نزل في كنف بني فلان، أي: في ناحيتهم)) (2) . قوله: ((فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره)) هذا هو المقصود من إيراد الحديث هنا؛ لأن فيه مخاطبة الله لعبده وتقريره بذنوبه، ثم يقول له: ((أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) وهو واضح جداً في أن الله يكلم عباده يوم القيامة، ويخاطبهم مخاطبة فيها محاسبتهم وتقريرهم بنعم الله عليهم، وبذنوبهم، ويخاطبهم في غير ذلك كما تقدم. فمنكر هذا ضال وسالك غير سبيل المؤمنين، وحريٌّ أنْ يوليه الله – تعالى – ما تولى ويسلك به غير سبيل المؤمنين فى الآخرة، وذلك هو الخسران المبين.   (1) ((تهذيب اللغة)) (10/274) ، وقول ابن المبارك رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) . (2) ((نقض التأسيس)) (2/185) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 قوله: ((ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) هذا أيضاً صريح في أنه تعالى يكلم عباده بذلك ممتناً عليهم بأنه قد ستر عليهم في الدنيا حيث كانوا يبارزون الله بالذنوب، فيستر عليهم مع عصيانهم له، ثم غفرها لهم في الآخرة. فهذا الكرم العظيم، والحلم الواسع، والفضل الجزيل. والمغفرة: هي محو الذنب ووقاية تبعته. وعلى كل فالدلالة من هذا الحديث ظاهرة جداً، وصريحة فيما ذكره من أجله، وهو كونه تعالى يتكلم إذا شاء بما شاء، ويكلم من يشاء من عباده، إما إكراماً له، أو امتناناً عليه، أو تهديداً له وتوبيخاً، أو غير ذلك. فمن نفى ذلك عن الله – تعالى – فقد قال خلاف قول الله ورسله وأتباعهم ممن فهم مراد الله ورسوله، وسوف يجزيه الله – تعالى – بما يستحق. وقد جاء ما يدل على أن الله – تعالى – يكلم بعض أهل النار، كما في ((الصحيحين)) ، عن أنس، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يقول الله – تعالى – لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا، وما فيها، ومثلها معها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك)) (1) . ******   (1) البخاري، انظر ((الفتح)) (6/363) و (11/416) ، ومسلم (4/2160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 قال: ((باب ما جاء في قوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} . ((قال الأئمة هذه الآية أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة. قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً، فإذا قال: ((تكليما)) وجب أن يكون كلاماً على الحقيقة التي تعقل)) (1) . ((وقد استقر مذهب أهل السنة والجماعة، وأعلام الملة، وجماهير الأمة في شرق الأرض وغربها، على أن الله يتكلم حقيقة، متى شاء، وأن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله - تعالى -، وأن كلامه صفة له، لا يكون منفصلاً عنه، كما لا يكون كلام المتكلم منفصلاً عنه قائماً بغيره، ومعلوم بالحس أن الكلام لا يقوم بنفسه، ومن قال إن كلام الله منفصل عنه، أو أنه يقوم بغيره، فإنه بذلك ينكر كلامه الذي هو رسالته، ويدفع حقيقة ما أنبأت به الرسل، وأعلمته أممهم، ويلحد في أسماء الله وآياته، ويجعله مثلاً للميت، والمعدوم. وهذا كله كفر وضلال، ومن أجل ذلك كفَّر أئمة الإسلام من يقول: إن كلام الله مخلوق. والكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس بائناً منه، بل أسمعه لجبريل ونزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال- تعالى -: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (2) . ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، بل يقال   (1) الفتح (13/479) . (2) الآية 114 من سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقولهم: منه بدأ، رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق بدأ. فبينوا أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من غيره، وإليه يعود، أي: لا يبقى في الصدور منه شيء، ولا في المصاحف حرف، في آخر الزمان، إذا ترك العمل به وعطل، رفع إلى قائله رب العالمين، أو أنه إليه يعود صفة له)) (1) . قال: عبد الله ابن الإمام أحمد: ((سمعت أبي يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله – عز وجل -. قال الله – عز وجل -: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (3) ، وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وقال عز وجل: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (5) والخلق غير الأمر)) (6) . ((والوصف بالتكلم كمال، وضده نقص، قال الله – تعالى -: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/561) . (2) الآية 61 من سورة آل عمران. (3) الآية 120 من سورة البقرة. (4) الآية 145 من سورة البقرة. (5) جزء من الآية 54 من سورة الأعراف. (6) ((كتاب السنة)) (1/103) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (1) فكان عبَّاد العجل _ مع كفرهم _ أعرف بالله من المعتزلة، فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم، وقال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (2) } . فعلم أن عدم رجوع القول، ونفي التكلم، نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل. وغاية شبهة النفاة أنهم يقولون: يلزم من إثبات الكلام، التشبيه والتجسيم؛ لأنهم توهموا أن كلام الله يلزم له من اللوازم ما لكلام المخلوق. ونحن نقول: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلالة، وبذلك تنتفي شبهتهم. وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) ، فهذا كما هو ظاهر، كلام حقيقي، يسمع من هذه الأعضاء. فالمؤمنون يؤمنون بذلك مع عدم علمهم بكيفيته. فإذا كان هذا في مخلوق، فكيف الخالق جل وعلا؟ ومثل ذلك تسبيح الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى، ومنه تسبيح الطعام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، وتسبيح الحصا، وسلام الحجر عليه، كل ذلك حق على ظاهره، وقد سمعه المؤمنون، وآمنوا بما لم يسمعوه، ولم يعلموا كيفيته، وهو كلام بصوت يسمع، وهذه ليس لها أفواه يخرج منها الكلام والصوت الصاعد المعتمد على مقاطع الحروف)) (4) . وقد سمع موسى عليه السلام كلام الله منه – تعالى – بدون واسطة،   (1) الآية 148 من سورة الأعراف. (2) الآية 89 من سورة طه. (3) الآية 65 من سورة يس. (4) ((شرح الطحاوية)) (ص194) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 وكذلك جبريل – عليه السلام – يسمع كلام الله بدون واسطة، فيبلغه الرسل بأمر الله له، هذا ما يعتقده المسلمون من دينهم، وهو أمر ظاهر. ((وحقيقة كلام الله – تعالى – الخارجية: هي ما يسمع منه، ومن المبلغ عنه. فإذا سمعه السامع، علمه وحفظه، فكلام الله مسموع، معلوم، محفوظ. فإذا قرأه السامع، فهو مقروء له، متلو، فإن كتبه، فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها، لا يجوز نفيه، فلا يكون مجازاً فيها، إذ المجاز يجوز نفيه، وأن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا قرأ القارئ كلام الله. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ (1) } ، وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله – تعالى -، وهذه الآية تدل على بطلان قول من يقول: إن المسموع عبارة عن كلام الله. [والحق] أن المسموع هو كلام، وليس عبارة عنه، كما تزعمه الأشعرية، ومن جعل ما في المصحف عبارة عن كلام الله، فقد خالف ما أنزل الله على رسوله، وسلك غير سبيل المؤمنين، وكفى بذلك ضلالاً)) (2) . والكلام اسم للفظ والمعنى جميعاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن)) (3) .   (1) الآية 6 من سورة التوبة. (2) ((شرح الطحاوية)) (ص194) . (3) رواه النسائي (3/13) ، والإمام أحمد ((المسند)) (5/447) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وقال: ((إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة)) (1) . واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، كما اتفقوا على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لها، وما أشبه ذلك لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها الكلام الملفوظ به، فعلم بذلك بطلان قول من يجعل كلام الله معنى قائماً بالنفس. وفي الحديث المتفق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم، أو تعمل)) (2) ففرق بين حديث النفس، فجعله معفواً عنه، وبين الكلام، فدل على أن حديث النفس لا يسمى كلاماً حتى ينطق به ويتلفظ به، وهذا باتفاق من يعتد بقوله من العلماء. وعلى كل فإنكار كلام الله ضلال وكفر، وإنكار للرسالة، والشرع؛ لأن الشرع أمر، ونهي، فإذا لم يكن الله يأمر وينهى، فليس له شرع ولا رسالات، وقد أوجد هذا القول لهدم الإسلام، والعلماء عرفوا ذلك، ولهذا يقول الإمام البخاري في مبدأ كتابه ((خلق أفعال العباد)) : باب: ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله – عز وجل -، ثم روى، عن عبد الله بن إدريس، أن رجلاً جاء إليه، فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قوم يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: أمن اليهود؟ قال: لا، قال: فمن النصارى؟ قال: لا، قال: فمن المجوس؟ قال: لا، قال: ممن ... ؟ قال: من أهل التوحيد.   (1) رواه أبو داود (1/567) ، والنسائي (3/19) ، والإمام أحمد (1/409، 415، 435) . (2) انظر ((الفتح)) (5/160) ، ومواضع أخر، ولكن بلفظ: ((ما وسوست به صدورها)) ، ومسلم (1/116) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 قال: ليس هؤلاء من أهل التوحيد، هؤلاء زنادقة، من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله – تعالى-: بسم الله الرحمن الرحيم، فالله لا يكون مخلوقاً، والرحمن لا يكون مخلوقاً، والرحيم لا يكون مخلوقاً، وهذا أصل الزندقة، من قال هذا فعليه لعنة الله)) (1) . قال شيخ الإسلام: ((القول بأن القرآن مخلوق معناه أن الله لم يصف نفسه بالكلام أصلاً، بل حقيقته أن الله لم يتكلم، كما أفصح به رأسهم الأول، الجعد بن درهم، حيث زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، لأن الخلة إنما تكون من المحبة، وعنده أن الله لا يحب شيئاً في الحقيقة، ولا يحبه شيء في الحقيقة، فلا يتخذ شيئاً خليلاً. وكذلك الكلام يمتنع عنده على الرب – تعالى – وكذلك نفت الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن يكون لله كلام قائم به، أو إرادة قائمة به، وادعوا ما باهتوا به صريح العقل المعلوم بالضرورة، أن المتكلم يكون متكلماً بكلام يكون في غيره. وقالوا أيضاً: يكون مريداً بإرادة ليست فيه، ولا في غيره، أو الإرادة وصف عدمي، أو ليست غير المرادات المخلوقة، وغير الأمر، وهو الصوت المخلوق في غيره. فكان حقيقة قولهم التكذيب بحقيقة ما أخبرت به الرسل، من كلام الله ومحبته ومشيئته، وإن كانوا قد يقرون بإطلاق الألفاظ التي أطلقها الرسل [تستراً] وهذا حال الزنادقة، والمنافقين)) (2) . والبخاري – رحمه الله – أراد بهذا الباب الرد على هؤلاء ونحوهم، الذين   (1) ((خلق أفعال العباد)) (29-30) . (2) التسعينية (ص42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 ينكرون كلام الله حقيقة، وإذا وصفوا الله بالكلام فمرادهم أن الله خلق كلاماً في غيره، إما في الهوى، أو بين ورق الشجرة التي كلم منها موسى، أو في غير ذلك. ولا يشك من عرف ما جاءت به الرسل أن هذا تبديل للحق بالباطل، وللحقيقة التي فطر الله عليها عباده، واللغة التي اتفق عليها بنو آدم، إلا من اجتالته الشياطين فغَّيرت فطرته. فالمتكلم هو الذي يقوم به الكلام، ويتصف به ويصدر منه، كما أن المحب من يقوم به الحب، والقادر من تقوم به القدرة، والعالم من يقوم به العلم. وعلى قول أولئك الضلاّل الذين يرد عليهم الإمام البخاري في هذا الباب وغيره، أن الذي قال لموسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (1) أنه الشجرة، وهذا الكفر ما وراءه كفر. ويلزم على قولهم إن كل كلام خلقه الله هو كلامه، والله خالق كل شيء، فيدخل في ذلك أفعال العباد، وحركاتهم، وكلامهم، فيلزم أن يكون كلامهم كلاماً له بما فيه من الكذب والكفر وقول الزور، وغير ذلك، حتى نباح الكلاب، فأي قول أفسد من قول هذا لازمه؟ وأي ضلال أبعد منه؟ وكلام أئمة الإسلام في بيان بطلان هذا القول كثير جداً. قال الإمام ابن جرير - رحمه الله -: ((وأما قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسىَ تَكليِماً} فإنه يعني بذلك - جل ثناؤه -: وخاطب الله بكلامه موسى خطاباً. وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا نوح   (1) الآية 14 من سورة طه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليماً؟ فقال: مشافهة)) (1) . وذكر البخاري عن ابن عباس قال: كلم الله موسى كان النداء في السماء، وكان الله في السماء)) (2) . ولهذا الخصوصية التي خص الله موسى بها، صار له بذلك شرف وفضل على غيره من الأنبياء، ولهذا يذكر الناس له هذه الفضيلة في الموقف، إذ طلبوا منه الشفاعة. ****** 141- قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق! فحج آدم موسى)) . اختصر الإمام البخاري – رحمه الله – هذا الحديث، وفي بعض ألفاظه الثابتة في ((الصحيحين)) قوله: ((احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليماً، وكتب لك التوراة، فكم تجد فيها مكتوباً: {وَعَصَىَ آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىَ} قبل أن أخلق؟ قال: بأربعين سنة، قال: فحج آدم موسى)) يعني: غلبه بالحجة.   (1) ((تفسير الطبري)) (9/403) تحقيق محمود شاكر. (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 قال شيخ الإسلام: ((قد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاث أحزاب: فريق كذبوا بهذا الحديث، كأبي علي الجبائي، وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بل جميع الأنبياء، وأتباعهم، أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله. وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: حجه؛ لأنه أبوه، والابن لا يلوم أباه. وقول بعضهم: حجه؛ لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى. وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة. وفريق ثالث: جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله. والصواب: أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ ولم يقل: لماذا خالفت الأمر ولماذا عصيت؟ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس، أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (1) ، قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم (2) .   (1) الآية 11 من سورة التغابن. (2) في ((الدر المنثور)) ، أخرجه سعيد بن منصور، انظر (8/184) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وفي الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (1) فأمره بالحرص على ما ينفعه، وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة أن لا ينظر إلى تقدير ما لم يقع، وهو قوله: لو أني فعلت كذا وكذا، لكان كذا وكذا، فإن هذا ليس فيه إلا التحسر، والمضرة، ولكن لينظر إلى الواقع، ويوقن بأنه بقدر الله تعالى وقضائه، ولا بد من وقوعه، فلا مخلص منه، فيرضى به ويسلم لقدر الله – تعالى – وقضائه، كما قال بعضهم: الأمر أمران: أمر فيه حيلة، فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه، فلا تجزع منه. وما زال أئمة الهدى يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت المصيبة بفعل آدمي، فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي، ومات ولم يخلف لأولاده مالاً، أو ظلم الناس بظلم صاروا يبغضون أولاده من أجل ظلمه، فلا يعطونهم ما يعطون أمثالهم، فهذه مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب أبيهم. فإذا قالوا لأبيهم: أنت فعلت بنا هذا، قيل لهم: هذا كان مقدراً عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعل من الظلم، أو الإنفاق في المعصية، ملوم على ذلك، لا يرتفع عنه الذم والعقاب بالقدر السابق. فإن تاب توبة نصوحاً، وقبل الله توبته، وغفر له، لم يجز ذمه حينئذ ولومه بحال، لا من جهة حق الله، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله،   (1) رواه مسلم (4/2052) رقم (2664) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 إذ لم يكن هو ظالماً لأولئك، فإن تلك المصيبة مقدرة عليهم، وهذا مثل قصة آدم، فإنه لم يظلم أولاده، وإنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وهبط هو وحواء، ولم يكن معهما أولاد، فلم يظلم أولاده ظلماً يستوجب ملامه منهم، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر مقدر عليهم. وهو قد تاب من ذنبه، كما قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (1) . وموسى أعلم من أن يلومه على ذنب قد علم أنه تاب منه، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن الذنب لا ملام عليه، وقد علم أن لعن إبليس بسبب ذنبه، وهو مقدر عليه. ولو كان الاحتجاج بالقدر نافعاً من الذنب لفعله آدم، ولكنه تاب من الذنب واستغفر ربه)) (2) . فتبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى لوم آدم على ما كان سبباً في مصيبة أبنائه، وأن آدم احتج بأن هذه المصيبة سبق بها القدر، ولا بد من وقوعها، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (3) . وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) . وسواء في ذلك المصائب التي تحصل بأفعال العباد، أو غيرها، فإن على   (1) الآيتان 121، 122 من سورة طه. (2) ((مجموع الفتاوى)) (8/303-322) ملخصاً. (3) الآية 11 من سورة التغابن. (4) الآية 22 من سورة الحديد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 العبد الصبر والتسليم، ولا يسقط بذلك لوم الجاني وعقابه. قال الله - تعالى -: {وَاصبِر لِحُكمِ رَبِكَ} (1) ، وحكم الله نوعان: خلق، وأمر، فالأول: ما يقدره من المصائب. والثاني: ما يأمر به وينهى عنه، وهو شرعه ودينه. والعبد مأمور بالصبر على النوعين، فعليه أن يصبر على فعل المأمور، وترك المحظور، وعلى ما قدره الله وقضاه)) (2) . ((فالمصائب الحاصلة بقدر الله التي لم يبق فيه حق يؤخذ، أو ذنب يعاقب عليه، ليس فيها إلا التسليم للقدر، وقصة آدم من هذا القبيل، فإن موسى لامه من أجل ما أصابه وذريته. وآدم قد تاب من الذنب الذي هو سبب المصيبة، وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فلا حيلة أمامها إلا التسليم والرضا. ولهذا قال: ((أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق)) . وقوله: ((احتج آدم وموسى)) أي: كل واحد منهما ذكر حجته أمام الآخر، وهذا يجوز أن يكون بعد وفاة موسى، أو أنه في الرؤيا، فإن رؤيا الأنبياء وحي. ((وقال ابن عبد البر: ((مثل هذا يجب فيه التسليم، ولا يوقف فيه على تحقيق؛ لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلاً)) (3) .   (1) الآية 48 من سورة الطور. (2) ((الفتح)) (11/324-325) ملخصاً. (3) ((الفتح)) (11/507) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 والمقصود هنا قوله: ((أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه)) والاصطفاء هو: الاختيار والتفضيل، وفرق بين الرسالة والتكليم، فهو قدر زائد على الرسالة؛ أنها تحصل بإرسال ملك إليه أو بالوحي. وأما التكليم فهو بإسماعه كلامه، وهذا الذي اختص به موسى من بين الرسل، فدل هذا على أن الله – تعالى – كلمه بدون واسطة، بل أسمعه كلامه منه إليه، وهو أمر واضح. وجاء في رواية ذكرها الحافظ: ((قال: أنت كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه)) (1) . ((قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد، فكل أحد يصبر لما قدر له بما سبق في علم الله – تعالى -، وليس فيه حجة للجبرية)) (2) . وقال الخطابي – رحمه الله تعالى -: ((قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه، معنى الإجبار، والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كان من هذا الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه. وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله – سبحانه – بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم، وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها، خيرها وشرها، والقدر: اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر، كما أن الهدم، والقبض، والنشر، أسماء لما صدر عن فعل الهادم، والقابض، والناشر. يقال: قدّرْت الشيء، وقدرته، خفيفة وثقيلة، بمعنى واحد.   (1) ((الفتح)) (11/508) . (2) المرجع المذكور (ص509) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله – تعالى -: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1) أي: خلقهن. وإذا كان الأمر كذلك: فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم، أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد، وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها. وجماع القول في هذا الباب: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما رام هدم البناء ونقضه (2) . وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى – صلوات الله وسلامه عليهما – أن الله – سبحانه – إذا كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه. وبيان هذا في قوله – سبحانه -: {وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إِني جَاعِلٌ فيِ الأَرضِ خَلِيفَةَ} فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض، وأنه لا يتركه في الجنة، حتى ينقله عنها إلى الأرض، وإنما كان تناوله من الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها وليكون فيها خليفة، ووالياً على من فيها، وإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه، ولذلك قال: ((أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن أخلق)) . فإن قيل: على هذا يجب أن يسقط اللوم أصلاً.   (1) الآية 12 من سورة فصلت. (2) يعني: تقدير الله للأشياء، وسبق علمه بها، وأفعال العباد وأكسابهم وإرادتهم واختيارهم، فالقدر بمنزلة الأساس، وأفعال العباد مبنية عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 قيل: اللوم ساقط من قبل موسى، إذ ليس لأحد أن يعيِّر أحداً بذنب كان منه؛ لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء. وقد روي: ((لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا إليها كأنكم عبيد)) . ولكن اللوم لازم لآدم من قبل الله – سبحانه – إذ كان قد أمره ونهاه فخرج إلى معصيته، وباشر المنهي عنه، ولله الحجة البالغة – سبحانه – لا شريك له. وقول موسى، وإن كان في النفوس منه شبهة، وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي جعل أمارة لخروجه من الجنة، فقول آدم في تعلقه بالسبب – الذي هو بمنزلة الأصل – أرجح وأقوم، والفلج فيه قد يقع مع المعارضة بالترجيح، كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له. والله أعلم)) (1) . فحجة آدم عليه السلام ظهرت؛ لأن ما قدر عليه أمر لا يمكن تغييره ولا رده، بل هو قدر قدره العليم القدير، فلا يمكن دفعه، ولا رفعه بعد وقوعه، فليس أمامه إلا التسليم، ومع ذلك لا يكون القدر حجة فيما لم يقع؛ لأن الإنسان مأمور بفعل الطاعة، واجتناب المعصية، وهو لا يعلم ما هو المقدر عليه حتى يقع، فإذا وقع الأمر وتعذر دفعه هناك يسلم للقدر، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، ويستغفر من ذنبه ويتوب إلى ربه. **** 142- قال: ((حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يجمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا   (1) ((معالم السنن)) (7/69-72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون له، أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا. فيقول لهم: لست هناكم، فيذكر لهم خطيئته التي أصاب)) . تقدم الكلام على هذا الحديث، والمراد منه هنا قوله فيه: ((ولكن ائتوا موسى، عبداً آتاه الله التوراة، وكلمه وقربه نجياً)) ، فهذا واضح كل الوضوح في الدلالة على ما أراده من إثبات كلام الله حقاً، والرد على من ينكر ذلك، إما صراحة كفعل الجهمية والمعتزلة، أو مراوغة كالأشعرية أو بعضهم، وكلهم ضالون في هذا الباب. ***** 143- قال: ((حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله، أنه قال: سمعت ابن مالك يقول ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة: إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال أحدهم، خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتي بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوا إيمانا وحكمه، فحشا به صدره ولغاديده - يعني: عروق حلقه - ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بعث؟ قال: نعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 قالوا: فمرحبا به وأهلا، فيستبشر به أهل السماء، ولا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم. فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلم عليه، فسلم عليه، ورد عليه آدم، وقال: مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت. فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذان النيل والفرات، عنصرهما. ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك. ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد – صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبا به وأهلا. ثم عرج به إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى، والثانية. ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا مثل ذلك، ثم عرج به إلى السادسة، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 فيها أنبياء قد سماهم، فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلامه لله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع عليّ أحدا، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك، كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إلى خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل - صلى الله عليه وسلم - كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات. ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا، وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك. كل ذلك يلتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء، أجسادهم وقلوبهم، وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، فقال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد – والله – راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك، فليخفف عنك أيضا. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا موسى، قد – والله – استحييت من ربي مما اختلفت إليه. قال: فاهبط باسم الله. قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) . ((الإسراء)) ، من سرى، وأسرى: إذا سار ليلاً. والصواب أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وكذا المعراج، وهو في مكة قبل الهجرة، وأنه يقظة لا مناماً، وأنه بروحه وجسده. قوله: ((ليلة أسري برسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه)) ، ذكر البيهقي بسنده من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: ((أسري برسول الله - إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة)) . ثم قال: ((وكذلك ذكره ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، وروى السدي،، قال: ((فرض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخمس في بيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 المقدس ليلة أسري به، قبل مهاجره بستة عشرة شهراً)) (1) . قوله: ((في بيت المقدس)) يعني: أن أول صلاة صلاها بعد فرض الصلوات في بيت المقدس، وهي صلاة الفجر، فعلى قول الزهري وعروة يكون الإسراء في ربيع الأول، وعلى قول السدي يكون في ذي القعدة، ومن زعم أنه في رجب فليس له مستند، قال ابن كثير: لا أصل لذلك)) (2) . قوله: ((أنه جاءه ثلاثة نفر)) قال في ((اللسان)) : ((النفر بالتحريك: ما دون العشرة من الرجال، وقالوا: النفر، والقوم، والرهط: جموع لا واحد لها من لفظها)) (3) . وجاء أن منهم جبريل، وهذا ظاهر من الحديث لا خفاء فيه، وميكائيل. قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) هذه الجملة مما أنكره العلماء على شريك، وخَطَّؤُوه فيها، منهم الخطابي، وابن حزم، والقاضي عياض، والنووي. وخرجها ابن كثير على أن المجيء مرتين، الأولى: قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء، والثانية وهي التي حصل فيها شق الصدر، ثم الإسراء، والعروج إلى السماء وعبارته: ((وفي سياق حديث شريك غرابة من وجوه، منها قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) والجواب: أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه، فكانت تلك الليلة، ولم يكن فيها شيء، ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى، ولم يقل في ذلك ((قبل أن يوحى إليه)) ، بل جاءوا بعد ما أوحى إليه، فكان الإسراء قطعاً بعد الإيحاء، إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو عشر سنين، كما زعمه   (1) ((دلائل النبوة)) (2/107) . (2) انظر السيرة له (2/94) . (3) ((اللسان)) (3/687) المرتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 آخرون، وهو الأظهر)) (1) . قال الحافظ: ((وصرح الخطابي، وابن حزم والقاضي عياض، والنووي، بأن شريكاً انفرد بهذه اللفظة، وفي دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس، عن أنس، أخرجه سعيد بن يحيى الأموي، في كتاب المغازي من طريقه)) (2) . ثم قال: ((قوله: ((فلم يرهم)) أي: بعد ذلك، ((حتى أتوه ليلة أخرى)) ، ولم يعين المدة التي بين المجيئين، فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحي إليه، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج)) (3) ، أي: بعد النبوة والوحي. ويجوز أنه يقصد بقوله: ((قبل أن يوحى إليه)) أي: في شأن الإسراء والمعراج، أي: أنهم فاجَؤُوه بدون سابق إعلام له بذلك. قوله: ((وهو نائم في المسجد)) وفي آخره: ((واستيقظ وهو في المسجد)) وبهذا ونحوه تعلق من يقول: إن الإسراء والمعراج وقعا مناماً. والحق أنهما وقعا يقظة لا مناماً، وأن ذلك ببدنه وروحه،، وهو قول جمهور أهل السنة، والدليل قول سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظيمة والآيات الباهرة، ولو كان مناماً لم يكن فيه كبير أمر؛ لأنه لا يستنكر. ومما يدل على ذلك إنكار كفار قريش له، وتعظيمهم إياه، واستبعادهم وقوعه، حتى ارتد بسبب ذلك بعض من أسلم، ولو كان مناماً لم ينكره   (1) ((السيرة)) لابن كثير (2/98) . (2) ((الفتح)) (13/480) . (3) المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 أحد، وأيضاً فالعبد اسم لمجموع الروح والبدن. ودلالة الأحاديث على ذلك ظاهرة، فعلى هذا يكون قوله: ((وهو نائم في المسجد)) يعني ذلك المجيء الأول الذي لم يحصل فيه الإسراء، ثم المجيء الثاني كان يقظان. ويحمل ما في آخر الحديث على الإفاقة مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الآيات العظيمة والملكوت، وقد ينشغل الإنسان بما يقع له من أمر مهم، فإذا انجلى عنه ذلك الأمر كأنه أفاق من نوم، كما جاء في قصة ذهابه إلى الطائف، وفيها: ((فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب)) . ويجوز أنه نام بعد رجوعه، وكان إذا أوحي إليه يستغرق قلبه في الوحي، فإذا انقطع الوحي سري عنه، فيجوز أن يكون هذا مثله. قوله: ((فقال أولهم: أيهم هو؟)) يدل على أنه كان نائماً مع جماعة. قال الحافظ: ((قد جاء أنه كان معه عمه حمزة, وجعفر بن أبي طالب)) (1) . ((فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة)) كانت هنا تامة، والتقدير: وجدت تلك الليلة، ولم يحصل فيها شيء من الإسراء، وذهبوا ولم يرهم. ((حتى أتوه ليلة أخرى)) بعد زمن طويل، كما تقدم، وبهذا يرتفع الإشكال في قوله: ((قبل أن يوحى إليه)) وقوله: ((وهو نائم)) . قال الحافظ: ((وبه يسقط تشنيع الخطابي، وابن حزم، وغيرهما، بأن شريكاً خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة)) (2) .   (1) ((الفتح)) (13/480) . (2) المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 ومما يدل على ذلك قوله لما استفتح جبريل باب السماء: ((أبعث إليه؟ قال: نعم)) يعني: أنه أرسل إلى الناس. قوله: ((فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء)) . هذا من الخصائص التي خص بها الأنبياء، ومعنى يقظة القلب: أنه يدرك الحسيات المتعلقة به: كالألم والحدث ونحو ذلك، لا ما يتعلق بالعين من رؤية الأشياء، قاله النووي (1) . قوله: ((فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم)) هذا يختلف مع رواية الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، أنه قال: ((فرج سقف بيتي وأنا بمكة)) وفي رواية الواقدي بأسانيده، أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني: ((أنه بات في بيتها، ففقدته من الليل، فقال: إن جبريل أتاني)) . قال الحافظ: ((والجمع بين هذه الأقوال: أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيتها، وأضافه إليه؛ لكونه يسكنه، فنزل منه الملك، فأخرجه إلى المسجد، فكان به مضطجعاً، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه إلى باب المسجد، فأركبه البراق)) (2) . قوله: ((فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين نحره إلى لبّته)) يعني: أن جبريل شق صدره، وبطنه، فاستخرج قلبه وأحشاءه فغسلها بماء زمزم بيده حتى أنقاه من كل ما فيه من دخل، ثم أتي بطست من ذهب، وفيه تور من ذهب، وهو إناء صغير، قد يكون من صفر، أو من حجر، والطست مملوء إيماناً وحكمة، فحشا به صدره، ولغاديده – يعني: عروق حلقه، ثم أطبقه فخاطه،   (1) نقله الحافظ في ((الفتح)) (1/450) . (2) ((الفتح)) (7/204) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 ولم يتألم من ذلك أو يتأثر، وقد جاء أن أثر الشق بقي فيه واضحاً. و ((اللبة)) هي موضع القلائد في أعلى الصدر، وهي التي ينحر البعير منها. وتكرر شق صدره صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: ((ثبت ذلك في غير رواية شريك في ((الصحيحين)) ، من حديث أبي ذر، ووقع أيضاً له ذلك عند البعثة، كما أخرجه أبو داود الطاليسي في ((مسنده)) ، وأبو نعيم في ((الدلائل)) ، ووقع أيضا في حديث أبي هريرة، وهو ابن عشر سنين، كما في ((المسند)) من زيادات عبد الله)) (1) . قوله: ((ثم عرج به إلى السماء الدنيا)) حذف قبل هذا جملة من الحديث مما هو ثابت في الروايات الأخرى؛ لأن القصة واحدة، وتقدير المحذوف: ثم أتي بالبراق، فركبه، فأسري به إلى المسجد الأقصى، فربط البراق وصلى ركعتين تحية المسجد، ثم عرج به. والعروج هو الصعود، والارتقاء، وعروجه - صلى الله عليه وسلم - هذا آية باهرة من آيات الله العظيمة، التي لا يدرك حقيقتها العقل البشري؛ لأن ارتفاع السماء عن الأرض ارتفاع هائل، لا يعلم قدره إلا الله – تعالى -، وقد تبين للناس اليوم أن الإنسان إذا ارتفع عن الأرض إلى حد قريب ينعدم الأكسجين الذي به الحياة، فيختنق ويموت في لحظات، وما فوق السماء الدنيا إلى تليها مسافة بعيدة جداً، لو قدرت بسير الإنسان، وما يستخدمه من آلات حديثة، لكانت بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، وهكذا كل ما بين سماء وأخرى، ومع هذا كله يذهب الرسول – صلى الله عليه وسلم – ببدنه وروحه ويجاوز السماوات السبع بارتفاع   (1) ((الفتح)) (13/481) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 لا يعلم قدره إلا الله – تعالى – في ما يقرب من اثنتى عشرة ساعة، ثم يعود، ولهذا قال جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . والتسبيح يكون عند الأمور العظيمة الدالة على قدرة الله، كما سبق. فإن قيل: لماذا لم يذكر المعراج في القرآن مع أنه آية عظيمة دالة على عظيم قدرة الله – تعالى -؟ قيل: لأن الإسراء قد ذكر، وهو من جنسه، من حيث قطع المسافة الشاسعة في الوقت القصير، ولأنه يدل عليه. ولأن إخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم – به وبما وقع فيه كاف عن ذكره في القرآن. قوله: ((فضرب باباً من أبوابها)) يدل على أن السماء مبنية بناء محكماً ولها سمك وكثافة، وأنها لا تدخل إلا من أبوابها. قوله: ((فناداه أهل السماء من هذا؟)) يدل على سماكة السماء وكثافتها، وأن من فيها لا يرى من يأتي من أسفلها، فدل على بطلان قول أهل الهيئة قديماً بأن السماء شفافة، لا تستر من فوقها، ولا من تحتها، وهذا من خرصهم الذي لا يستند إلى برهان. ودل أيضاً على بطلان قول ملاحدة هذا العصر، الذين ينكرون وجود السماء المبنية المحكمة، ويقولون: إنما هو فضاء تسبح فيه الكواكب، وهذا خلاف نصوص الشرع، وخلاف الواقع، وهم لا يؤمنون إلا بالمحسوس. قوله: ((فقال: جبريل)) يدل على أن المسؤول عند الاستئذان يسمي نفسه العلم حتى يعرف، ولا يأتي بكلام مبهم مثل قوله: ((أنا)) ونحوه مما لا يعين المستأذن. ((قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بعث إليه؟ مقتضى السياق أن تكون ((قال)) الأخيرة للجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وهذا يدل على حراسة السماء، وأنه لا يدخلها أحد إلا من أمر الله بإدخاله. وقولهم: ((وقد بعث إليه)) يعني: بعث نبياً، فهو يدل على أنهم لم يعلموا ذلك، والظاهر كما قال القسطلاني أن المعنى: أبعث إليه في المجيء إلى السماء؟ لأن البعثة لا تخفى عليهم. وعلى كل فهو يدل على أن معراجه – صلى الله عليه وسلم – بعد النبوة، وهو أمر ظاهر. ((فقالوا: فمرحباً، وأهلاً)) أي: أتيت مكاناً رحباً واسعاً، وفيه لك أهل يفرحون بقدومك، وهذا كلام مشهور، تقوله العرب لمن يستضيفها ولمن تكرمه، ومعناه: إنك حللت في مكان رحب، سهل واسع، لا ضيق عليك فيه، وأنت عند من هو مثل أهلك، يفرح بك ويكرمك. قوله: ((فيستبشر به أهل السماء)) يدل على أن عندهم علماً بأنه سيبعث نبياً ويعرج به، ويدل على حبهم له وفرحهم برؤيته – صلى الله عليه وسلم -. ((لا يعلم أهل السماء بما يريد به في الأرض حتى يعلمهم)) ؛ لأنهم لا يعلمون الغيب، وهو يرد قول بعضهم أنه مرسل حتى إلى الملائكة؛ لأنهم ليسوا بحاجة إلى رسالته، ولو أرسل إليهم رسولاً لكان من جنسهم، كما جرت سنة الله في خلقه، وكيف يرسل لمن في السماوات؟!. ((فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلم عليه)) وهكذا في كل سماء يجد فيها أنبياء، فيعلمه جبريل من هم، ويأمره بالسلام عليهم، وهم في السماوات حسب منازلهم عند الله، فمن هو أفضل فمنزلته أرفع، والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يعرفهم حتى يعلمه جبريل بهم، مما يدل على أنه لم يرهم قبل هذا اللقاء. ((فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات، عنصرهما)) أي: أصلهما، أو ما يمدان منه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وهذا يدل على أن ذينك النهرين ليسا النيل والفرات؛ لأن النيل والفرات في الأرض، وذانك النهران في السماء. وفي حديث مالك بن صعصعة أنه رأي في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار، وذكر منها النيل والفرات، فيجوز أن يكون ذلك مثل، والله أعلم بذلك. ((ثم مضى به في السماء، فإذا بنهر عليه قصر من لؤلؤ، وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك)) وهذا مما استشكل في هذا الحديث، لأنه ثبت أن الكوثر في الجنة، والجنة في السماء السابعة، كما جاء في المسند من حديث أنس ((دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي في مجرى مائه فإذا مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله – تعالى -)) (1) . قال الإمام أحمد: ((حدثنا محمد بن فضيل، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك قال: ((أغفى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إغفاءة، فرفع رأسه مبتسماً، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: إنه أنزلت عليَّ آنفاً سورة، فقرأ: {بِسمِ اللهِ الرَحَمَنِ الرّحَيمِ إِنَّا أَعطَيناكَ الكَوثَرَ} حتى ختمها، فقال: هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هو نهر أعطانيه ربي – عز وجل – في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب: إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) (2) . يجوز أن يكون رآه في السماء الدنيا وأصله في الجنة، أو أنه مثِّل له، والله على كل شيء قدير.   (1) انظر ((المسند)) (3/103، 115، 263) . (2) ((المسند)) (3/102) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وقال القرطبي: ((والصحيح أن للنبي – صلى الله عليه وسلم – حوضين: أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة، وكلاهما يسمى كوثراً، والكوثر في كلام العرب: الخير الكثير)) (1) . قال الحافظ: ((فيه نظر؛ لأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثر؛ لكونه يمد منه)) (2) . وظاهر الأحاديث مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا فرطكم على الحوض)) ، وقوله لأنس لما طلب منه أن يشفع له يوم القيامة وقال: ((أنا فاعل)) ، قال: أين أجدك، قال: ((اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض)) (3) وغير ذلك، ظاهرها أن الحوض في الموقف، وفي حديث لقيط ما يدل على أنه بعد الصراط فإن فيه: ((فينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون، فيسلكون جسراً من النار، يطأ أحدكم الجمرة فيقول: حس، فيقول ربك: أو إنه؟ ألا فيطلعون على حوض الرسول على أظمأ – والله – ناهلة رأيتها أبداً)) (4) . ((قال القرطبي في المفهم، تبعاً للقاضي عياض: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله – سبحانه وتعالى – قد خص نبيه محمداً – صلى الله عليه وسلم – بالحوض المصرح باسمه وصفته، وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة، التي يحصل بمجموعها العلم القطعي)) (5) . قوله: ((ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت في الأولى)) .   (1) ((التذكرة)) (1/362) . (2) ((الفتح)) (11/466) . (3) رواه أحمد والترمذي، انظر ((المسند)) (3/178) والترمذي في كتاب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصراط (2438) . (4) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في ((زوائد المسند)) (4/13) ، وفي ((السنة)) (2/485) . (5) ((الفتح)) (11/467) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 يعني: أن جبريل استفتح، فقالوا: من؟ فأخبرهم كما مضى. قوله: ((كل سماء فيها أنبياء، قد سماهم فأوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة)) قال الحافظ: ((كذا في رواية شريك، وفي حديث الزهري عن أنس، عن أبي ذر، فذكر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وعيسى، وإبراهيم، ولم يثبت منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة، وهو موافق لرواية شريك، والأكثرون خالفوا ذلك، فذكروا أن موسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، كما في رواية قتادة، وسياق روايته يدل على رجحانها، فإنه ضبط اسم كل نبي، والسماء التي هو فيها)) (1) . وقد حاول الحافظ أن يجمع بين الروايات بأن موسى كان وقت العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة، ثم انعكس الأمر عند هبوطه. وهذا جائز، ولكن يحتاج إلى دليل، قال: ويحتمل أنه لقي موسى في السادسة، ثم صعد معه إلى السابعة؛ لأنه هو الذي صارت المحاورة بينه وبينه من أجل تخفيف الصلوات، فالله أعلم)) (2) . والراجح ما صرح به في هذه الرواية، وقد نص على أن سبب رفعه إلى السابعة ما خصه الله به من التكريم بكلامه، كما قال: ((وموسى في السابعة بتفضيل كلامه لله)) وفي بعض النسخ: ((بتفضيل كلام الله)) وهي أظهر على المراد؛ لأن المقصود إثبات تكليم الله – تعالى – لموسى، وليس تكليم موسى لله – تعالى -.   (1) ((الفتح)) (13/482) . (2) المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 وهذا هو محل الشاهد من الحديث، وإن كان بقية الحديث فيه دلالة واضحة على تكليم الله – تعالى – لمحمد – صلى الله عليه وسلم -، ويجوز أن البخاري أراد ذلك أيضاً، فكأنه يقول: كما أن الله – تعالى – قد كلم موسى تكليماً، وموسى في الأرض، فقد كلم عز وجل محمداً وهو فوق سبع سماوات. قوله: ((فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع عليَّ أحداً)) ، وفي رواية: ((أن يرفع)) بالياء، قال ابن بطال: ((فهم موسى من اختصاصه بكلام الله – تعالى – في الدنيا دون غيره من البشر، كما قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} (1) أن المراد بالناس: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحداً، فلما رفع محمداً – صلى الله عليه وسلم – علم أنه فضل عليه، ومن ذلك قال هذا القول)) (2) . قوله: ((ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى)) . قال الحافظ: ((هذا مما خالف فيه شريك غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة، وعند بعضهم في السادسة، ولعل في السياق تقديماً وتأخيراً، وأن ذكر سدرة المنتهى قبل قوله: ((ثم علا به فوق ذلك)) ، وفي رواية أبي ذر: ((ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) (3) أي: صوت كتابة الأقلام، التي تكتب ما أمر الله به من تقدير، وأمر ونهي. ثم قال الحافظ: ((وفي رواية ميمون بن سياه عن أنس عند الطبري بعد ذكر إبراهيم في السابعة: فإذا هو بنهر)) فذكر أمر الكوثر.   (1) الآية 144 من سورة الأعراف. (2) ((الفتح)) (13/483) بتصرف. (3) المصدر نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 قال: ثم خرج إلى سدرة المنتهى، وهذا موافق للجمهور، ويحتمل أن يكون المراد بما تضمنته هذه الرواية من العلو البالغ لأعلى سدرة المنتهى وما تقدم لأصلها)) (1) . قوله: ((ودنا الجبار، رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى)) . وفي رواية ميمون بن سياه، عن أنس: (فدنا ربك – عز وجل – فكان قاب قوسين أو أدنى)) . وفي رواية البيهقي من طريق ثابت البناتي، عن أنس قال: ((فدنا فتدلى فأوحى إلى عبده ما أوحى)) (2) . وفي رواية أبي سعيد التي رواها البيهقي وغيره: ((وكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى)) (3) . وذكر السيوطي أن ابن مردويه أخرج حديث أنس من طريق كثير بن خنيس، وفيه: ((فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى)) (4) . قال الخطابي: ((ليس في هذا الكتاب – يعني: صحيح البخاري – حديث أشنع ظاهراً، ولا أشنع مذاقاً، من هذا الفصل، فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل.   (1) المصدر نفسه. (2) ((دلائل النبوة)) (2/384) . (3) المصدر المذكور (2/395) . (4) ((الدر المنثور)) (5/190) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 ثم اختار أن هذا الحديث رؤيا منام، أو أن أنساً حكاه من تلقاء نفسه لم يعزه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -)) (1) . أقول: أما كون هذا الفصل شنيعاً ظاهراً ومذاقاً، فذلك في نظر الجهمية الذين يزنون كلام الله وكلام الرسول بما يظنونه براهين عندهم، وهي مجرد شبهات وأوهام، أو يزنون كلام الله ورسوله بأذواقهم. وهذه الشناعة التي يظنها الخطابي – عفا الله عنا وعنه – قد ترد لو كان ما يختص الله به من الأفعال والصفات على وفق مذاق أهل التعطيل ومذهبهم، وقياساتهم الفاسدة. أما إذا كان العبد منقاداً لما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وموقناً بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعلم بالله، وأخشى له من كل الناس قاطبة، وأنه أقدرهم على البيان والإفصاح عما يريد، وهو أيضاً أنصحهم للأمة، وأحرصهم على هدايتها، إذا كان العبد موقناً بذلك كله، فلن يكون هذا الفصل وأمثاله مما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – شنيعاً لا ظاهراً ولا مذاقاً كما زعم الخطابي. وأما محاولته الطعن في راوي الحديث – أنس بن مالك – رضي الله عنه، وأنه إنما حكى هذا القول من عند نفسه، وقد سبق أن قال في عبد الله بن مسعود مثل هذا، وهذا زلة منه عظيمة، وخروج عن نهج أهل الحق، وهذا ما يتمناه كل زنديق، ورافضي خبيث، حتى يتسنى لهم إبطال الشرع كله؛ لأن كل أحد يمكنه أن يقول ما شاء إذا انفتح هذا الباب، وهو الطعن في الصحابة بأنهم لم يفهموا ما يقولون، وينقلون الباطل والضلال، كما هو مقتضى قول الخطابي. مع أن قوله هذا خلاف ما اتفق عليه أئمة الإسلام من المحدثين والفقهاء،   (1) ((الفتح)) (13/483) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وأن مرسل الصحابي له حكم الاتصال؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون رواه عن صحابي، أو سمعه من الرسول – صلى الله عليه وسلم -. وكذلك طعنه في شريك بن عبد الله غير مقبول، بل هو خلاف الحق. ((قال أبو الفضل ابن طاهر: ((تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفات منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكاً قبله أئمة الجرح والتعديل ووثقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به)) (1) . وقال ابن عدي: ((مشهور من أهل المدينة، حدث عن مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف)) . قال ابن طاهر: ((وحديثه هذا رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال)) (2) . ثم إن شريكاً لم ينفرد بهذا اللفظ كما تقدم. وأما قول الخطابي: ((إن ذلك يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما)) . فجوابه أن كثيراً من النصوص في كتاب الله وسنة رسوله تقتضي ذلك، بل تدل عليه نصاً، وقد سبق في باب قوله تعالى: {وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ} من ذكر بعض النصوص في ذلك، وبعض أقوال أئمة السلف ما فيه مقنع لمن يريد الحق. وأما المكابر والضلال فلا حيلة فيه إلا طلب الهداية له من الله – تعالى -.   (1) إذا قال يحيى بن معين: لا بأس به، فمعناه عنده: ثقة. (2) ((الفتح)) (13/485) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 ثم مفهوم هذا القول من الخطابي أنه لا تمييز بين مكان الخالق والمخلوق ولا مسافة، ولا تحديد، وهذا لا يعدو أمرين لا ثالث لهما: إما: أن يكون الرب – تعالى – حالاَّ في الخلق، ومداخلاً لهم، فهو في كل مكان، لا يختص به مكان دون آخر، حتى أجواف الحيوانات والناس والأمكنة الخبيثة، وهذا مذهب الحلولية الذين هم من أضل خلق الله، وأبعدهم عن معرفة الله والتمييز بينه وبين خلقه، وهذا غاية الكفر ومنتهاه. الثاني: أنه لا مكان لله أصلاً، ومن ليس له مكان – بمعنى أنه ليس في جهة – فهو عدم لا وجود له، والعدم هو إله المعطلة والملاحدة. ومعلوم ثبوت وصف الله – تعالى – بالقرب، والدنو، من بعض خلقه، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (1) . وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي موسى لما رفعوا أصواتهم بالتكبير قال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع بصير قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) وقد تقدم، والنصوص في هذا كثيرة. قال شيخ الإسلام: ((قرب الله – سبحانه – ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف. وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (2) } .   (1) الآية 186 من سورة البقرة. (2) الآية 52 من سورة مريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 والنداء هو: رفع الصوت، والنجي هو القريب لمن يكلمه ويناجيه، وأكد ذلك بقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ، والمنادي لموسى هو ربه – تعالى – وهو المناجي له أيضاً، ونداؤه ومناجاته قائمة به – تعالى – ليست مخلوقة منفصلة عنه، ووقعت مناداته ومناجاته لرسوله موسى في وقت واحد معين. وفي ((الصحيحين)) من حديث أبي موسى، أنهم كانوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال: ((أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) . وفيهما: ((يقول الله – تعالى -: من تقرب إلىَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)) (1) . ((والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وكذلك يثبتون استواءه على العرش، فصار مستوياً عليه. وأما دنوه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر. وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية، ومن وافقهم)) (2) . وقد ثبت في ((الصحيحين)) من حديث ابن عمر قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم –   (1) ((مجموع الفتاوى)) (5/463-464) ملخصاً. (2) المصدر (ص466) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 يقول: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)) . وسبق الكلام عليه قريباً. وفي لفظ: ((يؤتى المؤمن يوم القيامة فيدنيه الله منه، فيضع عليه كنفه)) . قال أبو يعلى: ((غير ممتنع حمله على ظاهره، وأنه دنو من ذاته، وقد أخذ أحمد بظاهره، في رواية أبي الحارث، وقد سأله: ما معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – إن الله يدني العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه؟ قال: هو كما قال، ونقول به، فقد نص أحمد على الأخذ بظاهره)) (1) . قوله: ((فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط بهم حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: ((عهد إليَّ خمسين صلاة كل يوم وليلة)) . استدل بذلك على عظيم قدر الصلاة عند الله، والاهتمام بها، وأنها من أفضل ما تفضل الله به على هذه الأمة؛ لأنها صلة بين العبد وربه وقرب منه، فينبغي للمسلم أن يهتم بها ويجتهد في أدائها في خشوع وحضور قلب. وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (2) . وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (3) } .   (1) ((إبطال التأويل)) (ص155) مخطوط. (2) الآية 153 من سورة البقرة. (3) الآية 45 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 ومما يزيد في أهميتها أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يذكر أنه فرض عليه في ذلك الموقف القريب إلى الله تعالى إلا الصلاة. وقد علم موسى – صلى الله عليه وسلم – أن الله سوف يفرض عليه فروضاً، ولهذا استوقفه. وفي ذلك بيان نصحه وشفقته على هذه الأمة، فصلاة الله وسلامه عليه وجزاه الله خير الجزاء، حيث جعله الله سبباً لتخفيف الواجب على هذه الأمة. قوله: ((إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت)) وهذا كله بإرادة الله، فهو – جل وعلا – الذي ألهم موسى – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل نبينا – صلى الله عليه وسلم – وأن يأمره بالرجوع إلى الله ليطلب التخفيف، فالحمد لله الذي أتم نعمته على عباده، وأظهر فضل أوليائه من رسله. قوله: ((فعلا به إلى الجبار)) فيه دلالة صريحة واضحة على علو الله – تعالى – وأن الذي يصعد في العلو، يقرب من الله، وأن الذي في السماء أقرب إليه ممن في الأرض، وأن من في السماء السابعة أقرب إليه ممن هو تحتها، وهذا أمر فطر الله عليه عباده، لا ينكره إلا الجهمية والمعتزلة، ومن سلك نهجهم ممن اجتالتهم الشياطين فغيرت فطرهم، وزينت لهم تعطيل الله – تعالى – مما وصف به نفسه، وقد سبق الكلام في ذلك. قوله: ((فقال وهو مكانه)) الضمير عائد إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – أي: وهو في مكانه الذي أوحى الله إليه فيه قبل نزوله إلى موسى. ((يا رب، خفف عنا، فإن أمتي لا تستطيع هذا)) إلى آخره، استدل بهذا أهل الأصول على جواز النسخ قبل التمكن من العمل، وعلى كل ففي هذا عظيم فضل الله ومنته على عباده، حيث أمر وأوجب، ثم لطف فخفف ورحم. قوله: ((ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله، لقد راودت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 بني إسرائيل قومي)) إلى آخره، هذا يدل على كمال نصح نبي الله وكليمه موسى – صلى الله عليه وسلم – لهذه الأمة، ويدل على أن نبي إسرائيل قد فرض عليهم صلوات هي أقل مما فرض على هذه الأمة، كما يدل على أن الخلق يضعفون، كلما تأخروا في الزمن ضعفوا في جميع خلقهم وقواهم. ((فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشرة أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك)) هذا المقطع من الحديث صريح في أن الله – تعالى – كلم نبينا – صلى الله عليه وسلم – بلا واسطة، وأنه سمع كلامه، وخطابه بقوله: ((يا محمد)) وأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: لبيك وسعديك. وهذا ما قصده البخاري – رحمه الله – إثباته وإيضاحه، ولا يخفى وضوحه. وأم الكتاب هو: اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل ما هو كائن. وجعل الله إعطاء هذه الأمة بالحسنة عشر حسنات تخفيفاً. ثم أمسكه موسى وأمره بالرجوع، وطلب التخفيف شفقة منه على هذه الأمة أن تعجز عن أمر الله فتهلك، فجزاه الله أعظم ما يجزي به أولياءه، ما أعظم نصحه وشفقته – صلى الله عليه وسلم -. ((قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا موسى، قد – والله – استحييت من ربي مما اختلفت إليه)) أي: من كثرة التردد إليه، وفيه دليل على أن هناك مكاناً معيناً كان يتردد إليه هو أقرب إلى الله – تعالى – من المكان الذي فيه موسى – صلى الله عليه وسلم -. لما قال لموسى ذلك قال له: فاهبط باسم الله متبركاً به ومستعيناً. قوله: ((واستيقظ وهو في المسجد الحرام)) تقدم الكلام على هذه الفقرة. ((قال القرطبي: يحتمل أن يكون استيقاظاً من نومه نامها بعد الإسراء؛ لأن إسراءه لم يكن طول ليلته، وإنما كان في بعضها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ويحتمل أن يكون المعنى: أفقت مما كنت فيه، مما خامره من مشاهدة الملأ الأعلى؛ لقوله تعالى: {لَقَد رَأىَ مِن أيَاتِ رَبّه الكُبرَىَ. (1) } قال ابن كثير بعد ما ذكر روايات الإسراء والمعراج: ((إذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها، وحسنها، وضعيفها، يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه، أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة، فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يتحصل على مطلب، وقد صرح بعض المتأخرين بأنه – صلى الله عليه وسلم – أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماء، وفرح بهذا المسلك، ورأى أنه ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات. وهذا بعيد جداً، ولم ينقل عن أحد من السلف. ولو حصل هذا التعدد لأخبر به الرسول –صلى الله عليه وسلم – أمته، ولنقله الناس. والحق أنه أسري به مرة واحدة، يقظة لا مناماً، من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد، ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين. ثم أُتي بالمعراج، وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها، فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على   (1) ((الفتح)) (13/487) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 الأنبياء الذين في السماوات بحسب مراتبهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما صلى الله وسلم عليهم أجمعين. حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف أقلام القدر بما هو كائن، وغشي سدرة المنتهى من أمر الله فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى جبريل على هيئته التي خلق عليها، له ستماِئَة جناح، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم مسنداً ظهره إليه، ورأى ما يدخله من الملائكة كل يوم سبعين ألف، لا يعودون إلى مثلها أبداً. ورأى الجنة والنار، وفرضت عليه الصلوات، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء، فصلى بهم فيه، يحتمل أنها صلاة الصبح. ثم خرج راكباً البراق، وعاد إلى مكة بغلس)) . (1) والمقصود أن الله موصوف بالتكلم في الماضي والحاضر والمستقبل، وأنه يكلم من يشاء من عباده بما يشاء، وأي وقت شاء، وقد كلم الله – تعالى – موسى كلاما حقيقياً سمعه موسى من الله، وموسى في الأرض، والله في السماء، وكذلك كلم محمداً وهو في السماء كما في هذه القصة، قال – تعالى- مخاطباً موسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} (2) ، وهذا بيان أوضح من النهار في أن الله – تعالى – خص موسى في الدنيا من بين الناس بكلامه، وفيه الدليل على أنه تعالى إذا شاء أن يكلم أحداً من خلقه لم يمنعه مانع، وأنه متصف بالكلام المتعلق بمشيئته دائماً. *****   (1) ((تفسير)) ابن كثير (3/22-23) . (2) الآية 144 من سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 قال: ((باب كلام الرب مع أهل الجنة)) . مراده بيان أن الله - تعالى - متصف بالكلام في كل وقت إذا شاء؛ لأن الكلام متعلق بمشيئته - تعالى - فأي وقت شاء أن يتكلم تكلم، وقد سبق أن الكلام صفة كمال، وفقده نقص يتقدس الله عنه، وسبق ذكر أنواع من كلام الله - تعالى-. ***** 144- قال: ((حدثنا يحيى بن سليمان، حدثني ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا)) . الظاهر أن هذا الخطاب الكريم من الله - تعالى - لعموم أهل الجنة، وأنه بعد استقرارهم فيها. وأما قول الحافظ في استظهاره، أن هذا يقال للذين يخرجون من النار، بناء على أن هذا الحديث مختصر من الحديث الطويل السابق، الذي فيه المرور على الصراط، وفيه رؤية المؤمنين لربهم في الموقف، كما تقدم في باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فليس فيه ما ذكر هنا، فيحتاج إلى دليل، وقد دل هذا الحديث بظاهره على أن هذا القول من الله - تعالى - لعموم أهل الجنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قال الحافظ: ((هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم، وأحمد، من حديث صهيب، رفعه: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم موعداً عند الله، يريد أن ينجزكموه)) الحديث. وفيه: ((فيكشف الحجاب، فينظرون إليه)) ، وفيه: ((فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه)) (1) . وسبق معنى: لبيك، وسعديك. قوله: ((والخير في يديك)) أي: أن الخلق لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً حتى تمن به عليهم، فكل خير مصدره منك، وكل شر فهو من المخلوق. قوله: ((فيقول: هل رضيتم؟)) هو جل وعلا يعلم أنهم قد رضوا، ولا يخفى عليه شيء في صدورهم، ولكن يريد تقريرهم بالمنة والفضل الذي يسديه إليهم، وكل فضل نالهم، فهو - تعالى - ابتدأهم به من غير استحقاق له، ولا حق لهم عليه بل بمحض فضله، ومنَّته، وأول ذلك أن جعلهم مسلمين، ثم يسر لهم العمل الصالح الذي كان سبباً لدخولهم الجنة، ثم ثبتهم على الهدى حتى وافوه مؤمنين، فما أعظم منَّته عليهم. قوله: ((فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك)) . ولا يحسن أن يقولون غير هذا، وقد أعطاهم فوق ما يتصورون، فلا بد من الرضا، ولهذا لما قال: ((ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟)) يقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فهم يستبعدون أن يكون شيء أفضل مما هم فيه.   (1) ((الفتح)) (11/422) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 قوله: ((فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) . قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (1) } . فرضوان الله - تعالى - عليهم أكبر من الجنة وما فيها، وبذلك تمت سعادتهم، وكملت حياتهم، وطابت لذاتهم، لما رضي سيدهم عنهم. والحديث واضح الدلالة على مقصود الترجمة، ففيه التصريح بأن الله - تعالى - يقول لأهل الجنة، فيسمعون قوله، ويجيبونه، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد علم أن ذلك يتكرر، وسبق أن كلام الله - تعالى - بمشيئته، فكلما شاء أن يتكلم تكلم، ويكلم من يشاء من خلقه. ***** 145- قال: ((حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوما يحدث، وعنده رجل من أهل البادية، أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال: أولست فيما شئت؟ قال: بلى ولكن أحب أن أزرع، فأسرع وبذر، فتبادر الطرف نباته، واستواؤه، واستحصاده، وتكويره، أمثال الجبال، فيقول الله - تعالى - ((دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء، فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) .   (1) الآية 72 من سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 أهل البادية، خلاف الحاضرة؛ لعدم الساتر فيها من المباني ونحوها، وغالباً يكون عندهم جرأة في الكلام، وعدم مجاملة، ولذلك كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يحبون أن يكون معهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل العاقل من أهل البادية، حتى يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستفيدوا من جوابه. قوله: ((إن رجلاً من أهل الجنة)) الخ، قد فهم الأعرابي أن هذا الرجل كان في الدنيا زراعاً، ففيه دليل على إلف النفوس لما تزاوله من الأعمال، حتى تحبه، ويصير من مشتهياتها، ويكون لها فيه متعة وراحة، وهذا الرجل بقيت معه هذه المحبة إلى الجنة. وفيه أن ما يشتهيه أهل الجنة من أمور الدنيا يمكن حصوله لهم، وأنهم يطلبون ما أرادوا من ربهم تعالى. قوله: ((أولست فيما شئت؟)) يعني: لست بحاجة إلى الزرع، فكل ما تريده من مأكول، أو مشروب، أو غير ذلك بين يديك. وقوله: ((بلى، ولكن أحب أن أزرع)) يعني: أن ذلك ليس عن حاجة، وإنما هو مجرد محبة للزرع الذي كان يزاوله في الدنيا. قوله: ((فأسرع، وبذر، فتبادر الطرف نباته، واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال)) يعني: أن الله أذن له فبذر، وخرج الزرع فاستوى وانحصد، واجتمع حباً متراكماً أمثال الجبال في لحظة واحدة؛ لأن الجنة ليس فيها نصب وكد وتعب، وإنما فيها تنعم وراحة، وما يشتهون. وهذا من عجائب قدرة الله القادر على كل شيء. ((فيقول: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء)) دونك منصوب على الإغراء، أي: خذ ثمار الزرع الذي طلبت. ولا يفهم من قوله: ((فإنه لا يشبعك شيء)) أن الجنة يحصل فيها حاجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وجوع، ولكن يدل على أن نفس الإنسان فيها من الشره فوق ما تحتاجه، وقول الأعرابي: لا نجد هذا، إلى آخره، من باب المزاح، والاعتزاز بأن هذا الرجل ليس من الأعراب، وإنما هو من أهل الزرع في الدنيا، وهم الحاضرة، وفيه تعريض بذلك الرجل، حيث طلب من الله ما لا يحسن طلبه؛ لأنه لا حاجة له فيه. والشاهد من الحديث واضح جداً، فإن هذا الرجل خاطب ربه فكلمه، وتكرر كلامه معه، وهو من الأدلة الدالة على اتصاف الله - تعالى - بالكلام، وتعلقه بمشيئته، فمتى شاء الكلام تكلم. قال: ((باب ذكر الله بالأمر، وذكر العباد بالدعاء والتضرع، والرسالة، والبلاغ؛ لقوله: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} . {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ {71} فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} غمة: هم وضيق. قال مجاهد: اقضوا إلى ما في أنفسكم، افرق: اقض. وقال مجاهد: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} إنسان يأتيه، فيستمع ما يقول، وما أنزل عليه، فهو آمن حتى يأتيه فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاءه. والنبأ العظيم: القرآن، صواباً: حقا في الدنيا، وعمل به)) . مقصوده بهذا: بيان الفرق بين فعل الله وما هو صفة له، وبين فعل العبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وما هو صفة له، والرد على الذين لم يفرقوا بين ذلك، كما أوضح ذلك في كتابه ((خلق أفعال العباد)) ، قال - رحمه الله - بعد ما ذكر حديث أبي هريرة: ((يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي)) الحديث قال: ((فبين أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة)) (1) . وقال: ((وأما قوله: فهل يرجع إلى الله إلا باللفظ الذي تلفظ به. فإن كان الذي تلفظ به قرآناً فهو كلام (2) . قيل له: ما قولك: تلفظ به؟ فإن اللفظ غير الذي تلفظ به؛ لأنك تلفظت بالله، وليس الله هو لفظك، وكذلك تلفظ بصفة الله بقول الله، وليس قولك: الله، هو الصفة، وإنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بصفته، وكلامه، فهو الله)) (3) . يعني: أن اللفظ غير المتلفظ به، فإذا قرأ القرآن، فاللفظ هو فعل العبد وصوته بحركة لسانه وما يلزم للتلفظ، وأما الملفوظ به فهو كلام الله - تعالى -، وكذلك إذا وصفت الله بقوله - تعالى - الذي وصف به نفسه، كقوله تعالى: {اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} فلفظك بهذه الآية ليست هي الصفة، ولكن لفظك بها فعلك، تصف الله بما قاله - تعالى - واصفاً به نفسه، هذا معنى قوله: ((وليس قولك: الله هو الصفة، إنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بكلامه)) ثم قال:   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص105) تحقيق عبد الرحمن عميرة. (2) هذا قول من يقول: اللفظ هو الملفوظ، وهو قول باطل، بيّن بطلانه البخاري بهذا الكلام. (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص108) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 ((كالواصف الذي يصف الله بكلام غير الله)) يعني: أن العبد إذا وصف الله بكلام الله الذي وصف به نفسه، فالوصف فعل العبد، والكلام الذي وصف به الله هو كلامه - تعالى - وصفته، وهو - تعالى - الموصوف، وهذا معنى قوله: ((وأما الموصوف بصفته وكلامه فهو الله)) . ثم قال: ((ففي قولك: تلفظ به، وتقرأ القرآن، دليل بيَّن أنه غير القراءة، كما تقول: قرأت بقراءة عاصم، وقراءتك على قراءة عاصم، لا أن لفظك وكلامك، كلام عاصم بعينه، ألا ترى أن عاصما لو حلف أن لا يقرأ اليوم ثم قرأت أنت على قراءته لم يحنث عاصم؟)) (1) . يعني: أن قولك: تلفظت به، كقولك: قرأت القرآن، فالتلفظ مثل القراءة، وهما غير المتلفظ به، والمقروء، كما تقول: قرأت بقراءة عاصم، يعني: قرأت على قراءة عاصم، أما قراءة عاصم فهي فعله)) ثم قال: ((وقال أحمد رحمه الله: لا يعجبني قراءة حمزة، ولا يقال: لا يعجبني القرآن)) (2) ، وهذا واضح، فإن المراد فعل حمزة، وما فيه من المد الطويل، فأحمد كره فعل حمزة، لا ما يقرأ حمزة، ثم قال: ((واعتل بعضهم (3) فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} . قيل له: إنما يقال: حتى يسمع كلام الله، لا كلامك، ونغمتك ولحنك؛ لأن الله - عز وجل - فضل موسى بكلامه، ولو كنت تسمع الخلق كلام الله، كما أسمع الله موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لموسى عليك فضل، إذا سمعت كلام الله وسمع موسى كلام الله، قال الله عز وجل: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} (4) .   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص172) تحقيق بدر. (2) المصدر نفسه. (3) يعني: بعض الذين يرون أنه لا فرق بين اللفظ والملفوظ. (4) الآية 144 من سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا سليمان بن بلال،، عن شريك بن عبد الله، عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به قال: ((رأيت موسى في السماء السابعة بتفضيل كلام الله)) (1) . يعني: أن استدلال من يزعم أن لا فرق بين اللفظ والملفوظ، بقوله تعالى: {اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} - استدلال باطل؛ لأن السامع لذلك يسمع كلام الله بصوت المبلغ ولفظه، لا بصوت الله - تعالى - ولفظه، ولو كان الأمر كما زعم هذا المستدل، لم يكن هناك فرق بين موسى حين كلمه الله، وبين من يسمع كلام الله ممن يتلوه، ويقرؤه، ثم استدل بالحديث حيث رأى موسى في السماء السابعة بتفضيله بكلام الله له، ولهذا قال: ((وإن ادعيت أنك تسمع الناس كلام الله، كما أسمع الله كلامه لموسى [لما] قال له: {إنيِ أنَا رَبُّكَ} فهذه دعوى الربوبية، إذ لم تميز بين قراءتك، وبين كلام الله، فإن الله تعالى قال: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} ، {فَاذكُرُوا اللهَ كَذكُِركُم} [وهذا] يشرح أن ذكر العبد ربه غير ذكر الله عبده، لأن ذكر العبد: الدعاء والتضرع، وذكر الله: الإجابة، كما قال الله عز وجل، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لا أقول إلا ما في القرآن)) . حدثنا ضرار، حدثنا صفوان بن أبي الصهباء، عن بكير بين عتيق، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله عز وجل: من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أنا في الجنة، سمعت صوت رجل بالقرآن)) . فبين أن الصوت غير القرآن. حدثنا إسماعيل، حدثنا أخي، عن سليمان، عن موسى بن عقبة وابن   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص108) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بينا أنا أمشي في الجنة، سمعت صوت رجل بالقرآن، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان، فذلكم البر، فذلكم البر)) ، وكان حارثة من أبر الناس. ويقال له: أصفة الله - جل ذكره - وعلمه، وكلامه، وأسماؤه، وعزته، وقدرته، بائن من الله - تعالى - أم لا؟ أو قولك وكلامك بائن من الله أم لا؟)) (1) . يعني: أن كلام الله مثل صفاته الأخرى، من العزة والقدرة، لا يكون شيء منها مفارقاً لله - تعالى - وبائناً منه، بخلاف كلام الخلق وأقوالهم فإنها بائنة من الله، وليست من صفاته، بل صفات لمن قالها، وتكلم بها. ثم قال: ((وقال الله - تعالى -: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (2) . وقال عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} (3) ، فالإبلاغ، والإنذار من نوح، وهو نذير مبين، يأمرهم بطاعة الله، وأما الغفران، فإنه من الله؛ لقوله - عز وجل: {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} ، ثم قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} . فذكر الدعاء سراً وعلانية من نوح، وذكر فعل نوح بقومه. ثم قال: {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا {12} وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} فذكر خلق القوم طوراً بعد طور. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا   (1) المصدر نفسه. (2) الآيتان 39، 40 من سورة النجم. (3) الآية 1 من سورة نوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (1) . حدثنا موسى، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت، فجلس في بيته، وقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجهر له بالقول، وقد حبط عملي، وأنا من أهل النار. ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل فقال: إنه يقول: كذا وكذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو من أهل الجنة. وكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة كان من بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل وقد تكفن وتحنط، وقال: بئس ما تعودون أقرانكم، فقاتل حتى قتل)) (2) . وقد سمى ابن عمر الصوت بالقرآن: عبادة. حدثني أبو يعلى محمد بن الصلت، حدثنا أبو صفوان، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن، أبيه قال: ((أول ما ينقص من العبادة: التهجد بالليل، ورفع الصوت فيها بالقراءة)) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة)) . وقال ابن مسعود: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوم كانوا يقرؤون القرآن فيجهرون به: ((خلطتم عليَّ)) ، يقول: علت أصواتكم فشغلتموني برفعها فوق صوتي، فخلطتم عليَّ، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع بعضهم على بعض صوته، ولا يخلطون على الناس في جهرهم، وأصواتهم، ولم ينه عن القرآن، ولا عن كلام الله الذي كلم به موسى قبل أن يخلق هذه الأمة.   (1) الآية 2 من سورة الحجرات. (2) رواه الطبراني في ((الكبير)) بأسانيد عدة، انظر (2/56-60) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن ربيعة بن زيد، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، أنها قالت: {وَلِذِكرُ اللهِ أَكبَرُ} ، وإن صليت فهو من ذكر الله، وكل خير تعمله، فهو من ذكر الله، وكل شر تجنبه فهو من ذكر الله، وأفضل ذلك تسبيح الله)) . وقال موسى: صلى الله عليه وسلم: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي {27} يَفْقَهُوا قَوْلِي} (1) . وقال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (2) . وقال بعضهم في قوله عز وجل: {يَزِيدُ فيِ الخَلقِ مَا يَشَاءُ} قال: الصوت الحسن. وقال عز وجل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمرِ رَبِكَ} فبين أن التنزيل غير الأمر. وقال بعضهم: إن أكثر مغاليط الناس من هذه الأوجه، الذين لم يعرفوا المجاز من التحقيق، ولا الفعل من المفعول، ولا الوصف من الصفة. ولم يعرفوا الكذب لم صار كذباً؟ ولا الصدق لما صار صدقاً؟ فأما بيان المجاز من التحقيق، فمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للفرس: ((وجدته بحراً)) - وهو الذي يجوز بين الناس - وتحقيقه أن مشيه حسن. ومثل قول القائل: علم الله معنا، وفينا، وأنا في علم الله، إنما المراد من ذلك أن الله يعلمنا، وهو التحقيق، وأشباهه في اللغات كثيرة. وأما الفعل من المفعول: فالفعل إنما هو إحداث الشيء، والمفعول هو الحدث؛ لقوله: {خَلَقَ السَمَاواتِ وَالأرضَ} (3) .   (1) الآيتان 27، 28 من سورة طه. (2) الآية 23 من سورة الذاريات. (3) الآية 32من سورة إبراهيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 فالسماوات، والأرض مفعوله، وكل شيء سوى الله بقضائه فهو مفعول، فتخليق السماوات فعله؛ لأنه لا يمكن أن تقوم سماء بنفسها من غير فعل الفاعل، وإنما تنسب السماء إليه لحال فعله. ففعله من ربوبيته حيث يقول: {كُن فَيَكُونُ} و ((كن)) من صفته، وهو الموصوف به، كذلك قال رب السماوات، ورب الأشياء. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رب كل شيء ومليكه)) . وكذلك مؤدى جميع لغات الخلق، من غير اختلاف بينهم، وإنما هو الفاعل والفعل والمفعول. فالفعل صفة، والمفعول غيره، وبيان ذلك في قوله - تعالى - {مَا أَشهَدتُّهُم خَلق َ السَمَاواتِ وَالأرضَ وَلاَ خَلقَ أَنفُسهِم} (1) . ولم يرد بخلق السماوات نفسها، قد ميز فعل السماوات من السماوات وكذلك فعل جملة الخلق. وقوله: {وَلاَ خَلقَ أَنفُسهِم} فقد ميز الفعل والنفس، ولم يصر فعله خلقاً. وأما الوصف من الصفة: فالوصف إنما هو قول القائل، حيث يقول: هذا رجل طويل، وثقيل، وجميل، وحديد، فالطول، والجمال، والحدة، والثقل إنما هو صفة الرجل، وقول القائل وصف. كذلك إذا قال: الله رحيم، والله عليم، والله قدير، فقول القائل وصف، وهو عبادة، والرحمة، والعلم، والقدرة، والكبرياء، والقوة، كل هذا صفاته)) (2) .   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص114) . (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص114) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 يعني: أن فعل الواصف الذي هو قوله يصف الموصوف إذا تكلم بذلك ونطق به، يسمى وصفاً، وهو عبادة إذا كان يصف الله - تعالى -؛ لأنه يثني عليه بذكر صفته. وأما الصفة: فهي قائمة بالموصوف، لا تفارقه، مثل رحمة الله، وعلمه وقدرته، وقوته، وعزته، وكبريائه، وغير ذلك من أوصافه. ثم قال: ((وأما الكذب من الصدق: فقول القائل: فلان ها هنا وهو غائب، فهو كذب. فلو كان حاضراً لكان صدقاً، والكلمة واحدة، وإنما صار كذباً وصدقاً لحال المعنى. وكذلك لو أن رجلاً قال: إن الله رحيم، ويرحم، والله عليم ويعلم، والله قدير ويقدر، والله سميع ويسمع، ولم يكن لقوله معنى كما وصفنا في شأن الكذب والصدق، لكان قوله كذباً، وإنما صار هذا القول صدقاً وعبادة وطاعة لحال المعنى. واختلف الناس في الفاعل والمفعول، فقالت القدرية: الأفاعيل كلها من البشر، ليست من الله. وقالت الجبرية: الأفاعيل كلها من الله. وقالت الجهمية: الفعل والمفعول واحد، لذلك قالوا: ((كن)) مخلوق. وقال أهل العلم: التخليق فعل الله، وأفاعيلنا مخلوقة؛ لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (1) . يعني: السر والجهر من القول.   (1) الآية 13 من سورة الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق. ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف، ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن ما ذكر الله في القرآن من الجن، والإنس، والملائكة، والمدائن، ومكة، والمدينة، وغيرهما، وإبليس، وفرعون، وهامان، وجنودهما، والجنة، والنار: عاينتهم بأعيانهم في المصحف؛ لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب فيه. ويلزمك أكثر من هذا، حين تقول في المصحف: [الله، لأنه مكتوب فيه {اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} . وهذا أمر بيِّن؛ لأنك تضع يدك على هذه الآية، وتراها بعينك] (1) . فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله: {اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيوُّمُ} (2) هو قرآن. وكذلك جميع القرآن هو قوله - تعالى - والقول صفة القائل، موصوف به. فالقرآن قول الله عز وجل. والقراءة، والكتابة، والحفظ للقرآن، هو فعل الخلق، وهو طاعة الله {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّه} (4)   (1) ما بين الحاصرتين تصرفت فيه بالتقديم والتأخير؛ لأن فيه ارتباكاً وتعقيداً، والمقصود منه واضح، وأظن أنه حصل فيه الاضطراب من النساخ. (2) الآية 255 من سورة البقرة و 2 من سورة آل عمران. (3) الآية 106 من سورة الإسراء. (4) الآية 29 من سورة فاطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 وقال تعالى: {وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِكرِ فَهَلَ مِن مُدَّكِرِ} (1) وقال عز وجل: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (2) فذلك كله مما أمر الله به. ولذلك قال: {وَأَقِيمُواْ الصَلاةَ} فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة. فالصلاة طاعة لله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على الألسن. والقراءة، والحفظ، والكتابة، مخلوق، وما قرئ، وحفظ، وكتب ليس بمخلوق. ومن الدليل عليه: أن الناس يكتبون الله، ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه. والخالق الله بصفته. ويقال له: أترى القرآن في المصحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى في الدنيا، وهذا رد لقول الله عز وجل: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (3) في الدنيا، وإن قال: يرى كتابة القرآن فقد رجع إلى الحق. ويقال له: هل تدرك إلا اللون؟ فإن قال: لا، قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى)) (4) . يعني: أن الذي في المصحف هو كتابة القرآن، والكتابة فعل العباد، أما القول فلا يرى، وإنما يسمع، وهو صفة القائل قائم به.   (1) الآية عدد من آيات سورة: اقتربت الساعة. (2) جزء من الآية 67من سورة المائدة. (3) جزء من الآية 103 من سورة الأنعام. (4) ((خلق أفعال العباد)) (114-116) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 والمقصود: أن وجود القرآن في المصحف ليس كوجود الأعيان المشاهدة، وإن كان له وجود حقيقي، فقد اتفق المسلمون على أن القرآن في المصحف قال ابن القيم: ((من المعلوم بالفطرة المستقرة عند العقلاء قاطبة أن الكلام يكتب في المحالِّ من الرق والخشب وغيرهما، ويسمى محله كتاباً، ويسمى نفس المكتوب كتاباً. فمن الأول: قوله تعالى: {إنَّهُ لَقُرآنٌ كَريمٌ {77} فيِ كِتَابِ مَكنُونِ} . ومن الثاني: قوله تعالى: {وَلَو نَزَّلنَا عَلَيكَ كِتاباً فيِ قرِطَاسٍ} . وقوله تعالى: {يَتلُواْ صُحُفَاً مُطَهَّرةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِمَةٌ} . والقول بأن الكلام في الصحيفة من العلم العام الذي لم ينازع فيه أحد من العقلاء إذا سلمت الفطرة من الانحراف، وقد قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (1) وفي حديث ابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (2) ، ومعلوم بالضرورة أنه لا محذور في السفر إلى أرض العدو بالمداد والورق، وإنما المحذور أن يسافر بالكلام الذي تضمنه الورق)) (3) . وسيأتي مزيد لهذا في موضعه. وقد أطلت النقل عن البخاري - رحمه الله -؛ لأن ذلك مراد فيما ترجم به، فهو كالشرح له، وبذلك وضح مقصده وضوحاً جلياً. فقوله: ((ذكر الله بالأمر)) أي: أمره الذي يأمر به عباده، وهو صفته، فإذا أمرهم فقد ذكرهم، وكذلك إذا رحمهم وأنعم عليهم، فقد ذكرهم. ((وذكر العباد بالدعاء والتضرع، والرسالة والبلاغ)) أي: ذكرهم الله بأن   (1) الآيتان 21، 22 من سورة البروج. (2) رواه مسلم رقم (1869) (3/1490-1491) ، والإمام أحمد في ((المسند)) (2/7، 63، 128) وغيرهما، ورواه البخاري (4/45) باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو. (3) ((مختصر الصواعق)) (443/444) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 يدعوه، ويتضرعوا إليه، ويفعلوا ما أمرهم به، ودعاؤهم بذكر أسمائه وصفاته، وثناؤهم عليه بها. وكذلك القيام بإبلاغ رسالته، التي أرسل بها رسله. قوله: ((لقوله تعالى: {فَاذكُرُونِي أَذكُركُم} قال الحسن: اذكروني فيما افترضت عليكم، أذكركم فيما أوجبت لكم على نفسي)) . وقال سعيد بن جبير: ((اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي)) وفي رواية ((برحمتي)) (1) . {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اذكر لقومك، وقص عليهم خبر نبي الله نوح - صلى الله عليه وسلم -، حين قال لقومه يبلغهم رسالة ربه إليهم، وذلك من ذكره لربه: إن كان عظم عليكم، وشق بكم قيامي فيكم أذكركم بنعم الله، وأخوفكم نقمه، وأدعوكم إلى طاعته وتوحيده بالعبادة والطاعة، إن كان ذلك عَظُمَ عليكم فتهيؤوا واستعدوا لما تريدون أن تصنعوه بي، فإني توكلت على الله لا على غيره، فسوف يكفيني ويحميني، أما أنتم فأجمعوا قوتكم، واستعينوا بمعبوداتكم من دون الله، واحذروا أن يكون أمركم عليكم وبالاً وعذاباً ونكالاً، وهمَّاً وضيقاً؛ لأنكم تحاربون الله ورسوله ومن كان حربا لله ورسوله، فهو مخذول، ومرذول ومقهور. {ثُمَّ اقضُواْ إِلىَّ وَلاَ تُنظِروُنِ} أي: عجلوا إليَّ بما تريدون أن تصنعونه بي، ولا تؤخروني ساعة، فهو صلى الله عليه وسلم يتحداهم بذلك؛ لأنه واثق بالله تمام الثقة، فلم يستطيعوا أن ينالوه، وهذا من علامات نبوته، كيف رجل واحد، لا جنود معه ولا سلطة، يقف أمام هذه الأمة العظيمة يتحداهم بأن ينزلوا به كل ما يستطيعون من عذاب، ويستحثهم على ذلك، فلا يستطيعون أن يصلوا إليه بأذى مع عداوتهم الشديدة له؟   (1) ((تفسير ابن كثير)) (1/196) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 {فَإِن تَوَلَّيتُم فَمَا سَأَلتُكُم مِن أَجرٍ} أي: إن أعرضتم عما أدعوكم إليه، فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ولم أطلب منكم على ذلك شيئاً من أموالكم، ولكن أجري على ربي، فهو الذي سيجزيني على إبلاغ رسالته إليكم، وهذا كله من ذكر نوح عليه السلام لربه. {وَأُمِرتُ أَن أَكُونَ مِنَ المُسلِمينَ} يعني: أمرني ربي أن أسلم له وأنقاد لأمره، مذعناً، خائفاً من عذابه، راجياً ثوابه، وهذا من ذكر الله - تعالى - لعبده ورسوله نوح عليه السلام. ((افرق)) اقض. كلمة افرق في آية أخرى، ولكن عادة البخاري - رحمه الله - أنه يذكر النظير مع نظيره، لاجتماعهما في المعنى، ولهذا ذكر قوله تعالى: {النَّبأِ العَظيمِ} ؛ لمناسبته مع قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} . وما ذكره عن مجاهد في الآية واضح، ومراده أن المستجير يسمع كلام الله من المبلغ بصوت المبلغ، ونطقه، وصوته ونطقه من فعله، وهو مخلوق، أما المبلغ المنطوق به، فهو كلام الله - تعالى - وصفته، كما تقدم بيان ذلك من كلام البخاري، رحمه الله. وقوله: ((صواباً: حقاً في الدنيا وعمل به)) . قال ابن بطال: ((يريد قوله تعالى: {أَذِنَ لَهُ الرَّحمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} أي: حقاً في الدنيا، وعمل به، فهو الذي يؤذن له في الكلام، بين يدي الله بالشفاعة لمن أذن له. قلت (1) : وهذا وصله الفريابي، عن مجاهد، بالسند المذكور. قال الكرماني: عادة البخاري أنه إذا ذكر آية لمناسبة الترجمة، يذكر معها ما يتعلق بتلك السورة، التي فيها تلك الآية مما ثبت عنده من تفسير ونحوه، على سبيل التبعية، وكأنه لم يظهر له وجه مناسبة هذه الآية الأخيرة بالترجمة.   (1) القائل هو الحافظ ابن حجر - رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 والذي يظهر في مناسبتها: أن تفسير قوله: {صَوَاباً} بقول الحق والعمل به في الدنيا يشمل ذكر الله باللسان، والقلب مجتمعين، ومنفردين، فناسب قوله: ((ذكر العباد بالدعاء والتضرع)) انتهى (1) . **** قال: باب قول الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله جل ذكره: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين} ، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {65} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين} وقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} . قال في ((اللسان)) : ((الند بالكسر: المثل والنظير، وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره، ويناده، أي: يخالفه. قال الأخفش: الند: الضد، والشبه، وقوله: ((يجعلون لله أنداداً)) أي: أضداداً، واشباهاً، قال حسان: أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء أي: لست له بمثل في شيء من معاينة)) (2) . وقال ابن جرير في قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} الأنداد جمع ند، والند: العدل، والمثل، كما قال حسان، ثم ذكر البيت، ثم قال: يعني: بقوله: ((ولست له بند)) : لست له بمثل، ولا عدل. وكل شيء كان نظيراً لشيء وشبيهاً فهو له ند. ثم ذكر بسنده إلى قتادة، قال: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: عدلاء، وعن مجاهد: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: عدلاء.   (1) ((الفتح)) (13/490) . (2) ((اللسان)) (3/607) المرتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وعن ابن عباس وابن مسعود: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي: أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله. وعن ابن أبي زيد: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له، وعن ابن عباس: أشباهاً. وعن عكرمة: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، ولولا كلبنا صاح في الدار، ونحو ذلك، فنهاهم الله - تعالى - أن يشركوا به شيئاً، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له نداً، وعدلاً، في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكاً ونداً من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم مني)) (1) . وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج الطستي، عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله - عز وجل - {أَندَاداًً} ؟ قال: الأشباه والأمثال، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد: أحمد الله فلا نِدَّ له بيديه الخير ماشا فعل وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في ((الأدب المفرد)) والنسائي وابن ماجه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده)) . وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة،   (1) ((تفسير الطبري)) (1/368-369) تحقيق محمود شاكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 والبيهقي عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقولوا: ما شاء الله وفلان، قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) وذكر أحاديث في ذلك (1) . وهذا يدل على أن جعل الند لله عام في الأفعال، والأقوال، والنيات، ويكون في الشرك الأكبر، والأصغر، كما في الرواية عن عكرمة: هو قول الرجل: لولا كلبنا لدخل علينا اللصوص. وكذلك في كل ما هو لله فشرك المخلوق فيه، مثل أن يجعل كلامه تعالى ككلام عباده، أو صفة من صفاته كصفة عباده، فيكون بذلك جعل لله نداً، وهذا مراد البخاري - رحمه الله - من الاستدلال بهذه الآيات التي ذكرها هنا. قال ابن كثير: ((وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن محمد، عن عكرمة، أو سعيد ابن جبير، عن ابن عباس: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأنتُم تَعلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة. ثم ذكر عن ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداًً} . قال: الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: ((لولا الله   (1) ((الدار المنثور)) (1/87-88) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك)) (1) وهذا تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعظم، وذلك أن الشرك أن يجعل المخلوق مشاركاً لله في شيء من خصائص الله مطلقاً، كما سبق قريباً، فالحلف بغير الله شرك، سواء كان المحلوف به معظماً كالنبي والكعبة، أو غير معظم، ويدخل في ذلك مراد البخاري كما أشرت إليه. ((قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب، إثبات نسبة الأفعال كلها لله - تعالى - سواء كانت من المخلوقين خيراً أو شراً، فهي لله - تعالى - خلق وللعباد كسب، ولا ينسب شيء من الخلق لغير الله - تعالى - فيكون شريكاً ونداً، ومساوياً له. وقال الكرماني: الترجمة مشعرة بأن المقصود إثبات نفي الشريك عن الله سبحانه - تعالى -، فكان المناسب ذكره في أوائل كتاب التوحيد. لكن ليس المقصود هنا ذلك، بل المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله - تعالى - إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أنداداً لله، وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر. وتضمن الرد على الجهمية في قولهم: لا قدرة للعبد أصلاً، وعلى المعتزلة، حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله - تعالى- فيها. والمذهب الحق: ((أن لا جبر ولا قدر، بل أمر بين أمرين)) (2) . يعني: لا جبر، كما تقول الجهمية الذين جعلوا العبد كالآلة، لا قدرة له ولا اختيار.   (1) ((تفسير ابن كثير)) (1/57-58) . (2) ((الفتح)) (13/491) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 ولا ينفى تقدير الله – تعالى – لأفعال العباد في الأزل، وخلقها، كما تقوله المعتزلة، بل الحق إثبات قدرة العبد، وأنه يفعل باختياره، وإرادته، لا أحد يجبره على الفعل، والله – جل وعلا – خلقه وخلق أفعاله، وقدر عليه كل ما يجري عليه قبل إيجاده، وكتب ذلك، وعلمه تعالى محيط بكل شيء، ونفس فعل العبد، وإن كان الله خالقه، فالعبد هو الفاعل لفعله حقيقة، فهو المتحرك بالأفعال، باختياره، وبه قامت أفعاله، ومنه صدرت، والله خالقه، وخالق أفعاله. قال الحافظ: ((غرضه هنا الرد على من لم يفرق بين التلاوة والمتلو، ولذلك أتبع هذا الباب بالتراجم المتعلقة بذلك، مثل باب: {لاَ تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} ، وباب {وَأَسِرُّواْ قَولَكُم أَوِ اجهَرُواْ بَهِ} وغيرهما. وهذه المسألة هي المشهورة بمسألة اللفظ، ويقال لأصحابها: اللفظية. وقد ظن بعضهم أن البخاري خالف أحمد فيها، وليس كذلك، بل من تأمل كلامه لم يجد فيه خلافاً معنوياً. لكن العالم من شأنه إذ ابتلي في رد بدعة يكون أكثر كلامه في ردها، دون ما يقابلها. فلما ابتلي أحمد بمن يقول: القرآن مخلوق، كان أكثر كلامه في الرد عليهم حتى بالغ، فأنكر على من يقف، ولا يقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، وعلى من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لئلا يتذرع بذلك من يقول: القرآن بلفظي مخلوق، مع أن الفرق بينهما واضح لا يخفى عليه، لكنه قد يخفى على البعض (1) .   (1) قوله: ((حتى بالغ فأنكر على من يقف)) إلى آخر كلامه عن أحمد، كلام غير سديد، بل إنكار أحمد رحمه الله ذلك؛ لأن الواقف لم يفرق بين الحق والباطل، والواجب أن يعرف الحق ويقول به، ولا يقف متردداً، لأن وقوفه يوهم باطلاً. وكذلك قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، يوهم باطلاً؛ لأنه قد يراد باللفظ: الملفوظ، وهو القرآن، وإذا قال غير مخلوق: يدخل فيه فعل القارئ، من حركات لسانه، وصوته، وفعل القارئ مخلوق، فهذا هو مراد أحمد رحمه الله، ولدقته قال البخاري رحمه الله: إنهم لم يفهموا كلام أحمد، ولذلك أنكره ابن قتيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وأما البخاري، فابتلي بمن يقول: أصوات العباد غير مخلوقة، حتى بالغ بعضهم، فقال: والمداد، والورق بعد الكتابة. فكان أكثر كلامه في الرد عليهم، وبالغ في الاستدلال بأن أفعال العباد مخلوقة بالآيات والأحاديث، وأطنب في ذلك حتى نسب أنه من اللفظية)) (1) . وقال أبو بكر الضبعي: ((لم يزل الله متكلماً، ولا مثل لكلامه؛ لأنه نفى المثل عن صفاته، كما نفى المثل عن ذاته، ونفى النفاد عن كلامه، كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال: {لَنَفِذَ البَحَرُ قَبلَ أَن تَنفَذَ كَلِمَاتُ رَبيِ} وقال: {كُلُ شَيءٍ هَالِك إِلا وَجهَهُ} (2) . فيجب التفرقة بين ما هو لله صفة وفعلاً، وبين ما هو للمخلوق صفة وفعلاً، وأن يوحد الله في خصائصه وحقوقه، وأن لا يجعل لأحد من الخلق شركة في صفات الله وأفعاله، ومن ذلك الفرق بين أفعال التالي لكتاب الله، وما هو صفة لله وهو كلامه المتلو. ومذهب أهل السنة أن الله خالق كل شيء وهو ربه ومالكه، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، وأنه خلق العبد هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً. وإن العبد فاعل لأفعاله حقيقة، وله مشيئة وقدرة حقيقة، كما قال تعالى:   (1) ((الفتح)) (13/492) . (2) ((الفتح)) (13/492) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ {28} وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) . وقال تعالى: {فَمَن شَاءَ اتَخَذَ إِلىَ رَبِهِ سَبِيلاً} (2) . فبيَّن تعالى أن العباد لهم مشيئة يفعلون بها إذا شاؤوا، وأنها تابعة لمشيئة الله؛ لأنه المالك لكل شيء، المتصرف فيه. وزعمت المعتزلة أن أفعال العباد القبيحة، من الكفر والمعاصي، غير داخلة في مشيئة الله وتقديره؛ لأن الله منزه عن فعل القبيح باتفاق المسلمين. وقالت الجبرية: ليس للعبد فعل في الحقيقة، والأفعال كلها لله، والعبد كاسب لا فاعل، وقدرة العبد لا تأثير لها في حدوث مقدورها، غير أن الله – تعالى – أجرى العادة بخلق مقدورها مقارناً لها، فيكون الفعل خلقاً من الله، وإبداعاً وإحداثاً منه تعالى، وكسباً من العبد لوقوعه مقارناً لقدرته، والعبد ليس محدثاً لأفعاله، ولا موجداً لها. وهذا قول الأشعرية، ومع ذلك ينكرون أن يكونوا جبرية؛ لأنهم يقولون: نحن نثبت للعبد قدرة حادثة، والجبرية لا تثبت ذلك. وفرقوا بين الكسب الذي أثبتوه للعبد، وبين الخلق الثابت لله، بأن الكسب: عبارة عن اقتران قدرة العبد الحادثة بالمقدور، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة. وبأن الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه. وهذا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة، أو خارجاً   (1) الآيتان 28، 29 من سورة التكوير. (2) الآيتان 29، 30 من سورة الإنسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 عن محلها، لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه. والصواب أنه لا فرق بين كون العبد فاعلاً الفعل، أو كاسباً له، فإن الكسب مرادف للفعل والعمل، فيقال: فعل وعمل، وكسب وأوجد، وأحدث وصنع، كلها بمعنى واحد. وعمل العبد، وصنعه، وإحداثه، وكسبه، مقدور له بقدرته الحادثة، وهو قائم في محل القدرة. والاقتران الذي ذكروه، لا يكون كسباً، ولا فعلاً، وإنما هو تخيل لا حقيقة له. وأصل خطئهم من عدم التفريق بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول، وزعمهم أن الله – تعالى – ليس له أفعال تقوم به، وأن فعله للشيء هو عين المفعول. ومن المستقر في الفطر والعقول: أن فاعل الإيمان هو العبد المؤمن، وفاعل الكفر هو العبد الكافر، وفاعل الصدق هو الصادق، وفاعل الكذب هو الكاذب، وفاعل الظلم هو الظالم، كما أن فاعل الأكل هو الآكل، وفاعل الشرب هو الشارب. وهكذا كل فعل لا بد أن يقوم بالفاعل، كما أن العالم: مَنْ قام به العلم، والحي: مَنْ قامت به الحياة، وكل صفة تقوم بالمتصف بها. والقرآن مملوء بما يدل على هذا كقوله – تعالى -: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (2) ، وقوله: {إِنَّ   (1) الآية 17 من سورة السجدة. (2) الآية 105 من سورة التوبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} (1) ، وأمثالها كثير جداً. واتفق العقل مع الشرع على أن العبد يحمد ويذم على فعله. قال شيخ الإسلام: ((قول القائل: هذا فعل هذا، وعمل هذا، لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالعمل نفس الفعل، وتارة يراد مسمى المصدر، فيقول: فعلت هذا، أفعله فعلاً، وعملت هذا أعمله عملاً، فإذا أريد بالعمل نفس الفعل الذي هو مسمى المصدر، كصلاة الإنسان، وصيامه، ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل. وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب، وبناء الدار، ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال الله – تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} (2) ، فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن. ومن هذا الباب: قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعملُونَ} ، فإنه في أصح القولين ((ما)) بمعنى الذي، والمراد به ما تنحتونه من الأصنام، كما قال تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ {95} وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (3) أي: والله خلقكم، وخلق الأصنام التي تنحتونها. ومنه حديث حذيفة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله خالق كل صانع وصنعته)) (4) . لكن قد يستدل بالآية على أن الله خالق أفعال العباد من وجه آخر، فيقال: إذا كان خالقاً لما يعملون من المنحوتات، لزم أن يكون هو الخالق؛ لتأليف   (1) الآية 277 من سورة البقرة. (2) الآية 13 من سورة سبأ. (3) الآيتان 95، 96 من سورة الصافات. (4) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 الذي أحدثوه فيها، فإنها إنما صارت أوثاناً بذلك التأليف، وإلا فهي بدون ذلك ليست معمولة لهم. وإذا كان خالقاً للتأليف كان خالقاً لأفعالهم. والمقصود أن لفظ الفعل، والعمل، والصنع، وأنواع ذلك كلفظ البناء والخياطة والنجارة، تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول. وكذلك لفظ التلاوة والقراءة، والكلام، والقول، يقع على نفس مسمى المصدر، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول، والكلام. فيراد بالتلاوة والقراءة: نفس القرآن، المقروء المتلو، كما يراد به مسمى المصدر، فإذا قال القائل: هذه التصرفات فعل الله، أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر، فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، وإن أراد أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات، فهذا حق)) (1) . فالذين أنكروا أن يكون لله – تعالى – فعل يقوم به، لم يفرقوا بين فعله ومفعوله، وخلقه، ومخلوقه. والفرق واضح، فأعمال العباد مخلوقة لله – تعالى – مفعولة له، ليست هي نفس فعله، وإنما هي فعل العباد، قائمة بهم، وهي أيضا مفعولة لهم إذا أريد بالفعل المفعول. وخلق الله – تعالى – لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، كما تقدم التنبيه على ذلك. فأفعال العباد مخلوقة لله كسائر مخلوقاته، ومفعولة له، وهي فعل العباد حقيقة، وقائمة بهم حقيقة. فالكفر، والكذب، والظلم، ونحو ذلك من القبائح، يتصف بها من قامت   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/121-122) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 به وفعلها، ولا يتصف بها من خلقها، وجعلها صفة لغيره. فكما أن الله – تعالى – لا يكون متصفاً بما خلقه في خلقه من الألوان والروائح، والطعوم، فكذلك لا يكون متصفاً بالفعل الذي خلقه في عباده، وجعله وصفاً لهم. وبهذا تزول شبهة المعتزلة ومن وافقهم، في نفيهم الأفعال القبيحة أن تدخل تحت مشيئة الله وخلقه محتجين بأنه تعالى منزه عن القبيح. والله أعلم. قوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أول الآية: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) . ينكر تعالى على المشركين الكافرين به، الذين يعبدون معه غيره، من الأوثان التي لا تملك لهم، ولا لنفسها نفعاً، ولا ضراً، ومع ذلك يجعلونها نظراء وشبهاء لله رب العالمين، في التوجه إليها بالعبادة، يطلبون منها أن تتوسط لهم عند الله وتشفع لهم، وهي ملك لله يتصرف فيها كيف يشاء. والمقصود من الآية: أن من سوى المخلوق بالله في صفة من الصفات، أو فعل من الأفعال، أو في ما يجب له من الحق، فقد جعل لله نداً، وأشرك بالله غيره. فقول الله، وكلامه، لا يشبه قول عباده وكلامهم، فمن زعم أن قول العباد يشبه قول الله، فقد جعل لله نداً، وكذلك سائر أوصافه. قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .   (1) الآية 9 من سورة فصلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 قال ابن جرير: ((يقول تعالى لنبيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ َ} يقول: لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد ليبطلن عملك، ولا تنال به ثواباً، ولا تدرك به جزاء إلا جزاء من أشرك بالله. وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، أي: أوحي إلى الذين من قبلك من الرسل مثل الذي أوحي إليك، فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك)) (1) . وفي هذه الآية تعظيم أمر الشرك؛ لأن الله تعالى وجه الخطاب إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – بأنه لو أشرك لحبط عمله، وأصبح من الخاسرين، فكيف بغيره من سائر الناس؟ ومثلها قوله – تعالى – بعد ما ذكر فضل الأنبياء ونعمته عليهم: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (2) . ووجه الاستدلال بالآية: التحذير من الوقوع في أي نوع من أنواع الشرك، مثل أن يعتقد أن صفة الله كصفات الخلق، أو كلامه ككلامهم، فمن وقع في ذلك، فقد وقع في الشرك المحبط للأعمال، وصاحبه من الخاسرين. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا أخَرَ} هذه الآية في سياق ثناء الله – تعالى – على عباده المؤمنين، الذين يخشونه، ولا يخشون أحداً غيره، ويتجهون إليه بالدعاء والعبادة وحده، ويبيتون ليلهم سجداً لله وقياماً، رجاء ثوابه، وخوفاً من عقابه. وهذه الآية بمعنى الحديث الآتي، وقد جاء في رواية: أن ابن مسعود لما ذكر الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: فنزل تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية.   (1) ((تفسير الطبري)) (11/16) طبعة بولاق. (2) الآية 88 من سورة الأنعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 والمقصود: الثناء على المؤمنين الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر غيره، ومثل ذلك الابتعاد عن القول بأن شيئاً من أوصاف الله وأفعاله يكون مثل أوصاف المخلوقين وأفعالهم، تعالى الله وتقدس. فمن ابتعد عن الشرك كله بأنواعه، فهو المستحق لثناء الله، وهو عبد الله المستوجب لوعده بقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا {75} خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (1) . ولكون الشرك يقع من الناس كثيراً، وأكثرهم يجهل أنواعه، ذكر قول عكرمة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} . {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقهُمَ} ، و {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ} ، فذلك إيمانكم، وهم يعبدون غيره)) . يعني: أن إيمانهم هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، وعلمهم بأن الله هو المتفرد بالخلق. روى ابن جرير، عن عكرمة، في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} قال: هو قول الله – تعالى - {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فإذا سئلوا عن الله، وعن صفته، وصفوه بغير صفته، وجعلوا له ولداً، وأشركوا به)) (2) . قوله: ((وما ذكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم)) يعني: أن أفعالهم، وأكسابهم مخلوقة لله – تعالى -، وإن كانت فعلاً لهم حقيقة، ولا فرق بين الفعل، والكسب، كما قال – تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} فالكسب هو العمل. والذين يجعلون أفعال العباد وأكسابهم فعلاً لله – تعالى – مشركون؛   (1) الآيتان 75، 76 من سورة الفرقان. (2) انظر ((تفسير الطبري)) (16/287) . تحقيق محمود شاكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 لأنهم جعلوا له ما للمخلوق. كما أن الفريق الضال الآخر الذين يجعلون العباد خالقين لأفعالهم، وموجدين لها، مشركون بذلك، وهذا وجه إيراد البخاري – رحمه الله – للآيات التي سبق ذكرها، وتقدم الكلام على أفعال العباد. ثم استدل على دخول أفعال العباد في مخلوقات الله – تعالى – بقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَرَهُ تَقدِيراً} فدخلت أفعالهم في عموم {كُلَّ شَيءٍ} ، ودل قوله: {فَقَدَرَهُ تَقدِيراً} على أنه – تعالى – أتقن ذلك، غاية الإتقان، حيث خلقها وجعلها مفعولة للعباد، واقعة منهم، بإرادتهم، واختيارهم، لم يرغموا عليها، بل فعلوها راغبين في فعلها، مختارين لها، ولذلك استحقوا عليها الثواب، والعقاب. قوله: ((وقال مجاهد: {مَا نُنَزِلُ المَلائِكَةَ إِلا بِالحَقّ} يعني: بالرسالة، والعذاب. يعني: أن تنزل الملائكة هو فعلهم بأمر الله – تعالى – لهم طائعين ممتثلين أمر ربهم، فالنزول منهم فعل لهم يستوجبون به الثناء من الله؛ لأنهم أطاعوه بذلك، فأفعالهم قائمة بهم يفعلونها باختيارهم، كبني آدم. وأما قوله: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فهو فعل الله، والضمير في {لَهُ} عائد إلى الذكر في قوله: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ} . وقوله: {عِندِنَا} أراد به، بيان أن هذا فعل الله الخاص به. وبيَّن ذلك بقوله: {لِيسأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدقِهِم} ((المبلغين المؤدين من الرسل)) أي: المؤدين الرسالة، كما أمرهم الله. فالصدق: فعل الصادقين، والصادق هو: المتصف بالصدق، الذي قام به الصدق فعلاً له، فالصدق فعلهم وعملهم، والله تعالى – يسألهم عن عملهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 والسؤال من الله فعله – تعالى – وقوله، يسأل به الرسل، عن تبليغهم ما أمرهم بإبلاغه لعباده، وزاد ذلك إيضاحاً بقوله: {وَالَّذي جَاءَ بِالصِدقِ} القرآن: {وَصَدَّق بِهِ} المؤمن، يقول يوم القيامة: ((هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه)) . فبين أن القرآن – الذي فسر به الصدق – غير التصديق، بل التصديق فعل المصدق – وهو المؤمن، أو الرسول – وهو عمله الذي يثاب عليه. ولهذا يجيب ربه إذا سأله يوم القيامة: ((ماذا عملت بما علمت؟)) قائلاً: هذا الذي أعطيتني – يعني القرآن – عملت بما فيه. فتبين أن القرآن غير عمل القارئ، فتحريك اللسان، والشفتين، والصوت، ورفعه، وخفضه، هو عمل الرجل الذي يقرأ، وأما المقروء المتلفظ به، فهو القرآن كلام الله، وكلام الله غير عمل القارئ، ولهذا قال: هذا الذي أعطيتني عملت بما فيه، مجيباً ربه. ******** 146 – قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نداً، وهو خلقك)) ، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تزاني بحليلة جارك)) . الذنوب تتفاوت في العظم، فبعضها أعظم من بعض، فيكون ما يترتب عليها من العقوبات كذلك. وأعظم الذنوب الشرك بالله – تعالى -، قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) ، فالشرك أعظم الذنوب عند الله، فلذلك حرم على صاحبه الجنة، وأخبر أن مأواه النار، وأنه لا يخرج منها كما قال تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (4) . فلذلك يتعين على المرء أن يجتهد غاية وسعه في التعرف على أنواع الشرك، حتى يجتنبها؛ لأنه إذا لم يعرفها يوشك أن يقع فيها وهو لا يشعر، فيكون في ذلك هلاكه الأبدي. وتقدم القول في النِّد. قوله: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) أسند الجعل إلى العبد؛ لأنه فعله، ولهذا استحق عليه عقاب الله وعذابه. وقوله: ((وهو خلقك)) يعني: أن الدلائل على وجوب عبادة الله وحده، وإخلاص العبادة له، واضحة جلية، مثل كونه تعالى هو المنفرد بالخلق، والإيجاد من العدم، وبالرزق، فهو المستحق للعبادة وحده. وقول عبد الله: ((إن ذلك لعظيم)) يعني: أن عظمه وقبحه مستقر في نفوس العقلاء، والناظرين في شرع الله، ودلائل وجوب عبادته. قوله: ((قلت: ثم أي؟)) يعني: ما هو الذنب الذي يلي الشرك في العظم عند الله؟   (1) الآية 13 من سورة لقمان. (2) جزء من الآية 167 من سورة البقرة. (3) الآية 72 من سورة المائدة. (4) الآية 116 من سورة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 ((قال: ((أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك)) . قتل النفس بغير حق عمداً عظيم جداً، كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) . وفي الحديث الذي رواه أبو داود، عن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بَلَّحَ)) (2) ، أي: لا يزال مسرعاً في سيره إلى الله، وإنما يحبسه ويمنعه من السير إصابته الدم الحرام، معنى ((بلح)) انقطع من العجز والإعياء، فلم يستطع المشي. وهذا جزء من حديث طويل، ولفظه: ((عن أم الدرداء، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركاً، أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً)) . فقال هاني بن كلثوم: سمعت محمود بن الربيع يحدث، عن عبادة بن الصامت، أنه سمعه يحدث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله، لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) ، قال لنا خالد: ثم حدثني ابن أبي زكريا عن أم الدرادء، عن أبي الدرداء، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح)) (3) . وعن البراء بن عازب، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لزوال الدنيا أهون   (1) الآية 93 من سورة النساء. (2) ((سنن أبي داود)) (4/464) . (3) انظر ((السنن)) (4/463-464) رقم (4270) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 على الله من قتل مؤمن بغير حق)) (1) ، والأحاديث في هذا فيها كثرة. والقتل مع عظمه يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، وأعظمه أن يقتل الرجل ولده؛ لأن الله جعل له من الشفقة، والحنو، والحب، ما لا ينكر، وأمر الله – تعالى – بمراعاة حقه، فإذا بدل مكان الإحسان الواجب له أعظم إساءة – وهي القتل – استحق على ذلك أعظم العقوبة، فكيف إذا كان الباعث على القتل خوف الفقر، وأن يشاركه في مأكله؟ فإنه ينضاف إليه بذلك جرائم أخرى. قوله: ((قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني بحليلة جارك)) ، الزنا جريمة نكراء، ويتفاوت جرمه حسب قرب المزني بها وبعهدها عنه، وحسب الحقوق التي تجب مراعاتها أكثر في الشرع. فإذا كانت ذات قرابة من جهة النسب فالزنا بها أعظم، وكذلك إذا كانت زوجة قريب منه، أو زوجة من له حق الجوار، فإن جريمة ذلك أعظم مما لو زنا بمن هي بعيدة عنه قرابة وجواراً. قوله: ((أن تزاني)) يدل على المفاعلة، ومعنى ذلك أن تطاوعه المرأة على الفاحشة، وفي ذلك دليل على أنها إذا لم تطاوعه فالذنب أعظم. والحليلة: هي التي يحل وطؤها، وتحل معه في فراش واحد. والشاهد من الحديث قوله: ((أن تجعل لله نداًً وهو خلقك)) . فالإنسان هو الذي يجعل الند، ويفعل ذا حقيقة، فهو فعله الذي يباشره ويقوم به، ويتصف به، فإذا فعل ذلك فهو المشرك، ولذلك استحق العذاب العظيم، وأضيف إليه الذنب؛ لأنه صدر منه.   (1) رواه ابن ماجه في ((السنن)) (2/874) رقم (2619) ، قال المنذري: إسناده حسن، ورواه النسائي رقم (3987) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 فتبين الفرق بين قول الله - تعالى - وفعله، وبين قول العبد وفعله، وهو ما أراده المؤلف. فإذا قرأنا القرآن فإنما نقرؤه بأصواتنا المخلوقة التي لا تماثل صوت الرب تعالى، وما نقرؤه من القرآن فهو كلام الله - تعالى- مبلغاً عنه، لا مسموعاً منه، وإنما سمعه منه جبريل، ونحن نقرؤه بحركاتنا، وأصواتنا. فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ. وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِن أحَدٌ مِنَ المُشرِكينَ استَجَارَكَ فَأَجِرهُ حَتَّىَ يَسمَعَ كَلاَمَ اللهِ} فهو يسمع كلامه ممن يقرؤه عليه يبلغه إياه، لا من الله - تعالى -. ***** قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} . روى مسلم، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك، فقال: ((أتدرون مم أضحك؟)) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداًً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام قال: فيقول: بعداً لكُنَّ، وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)) (1) . ((قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب إثبات السمع لله، وأطال في تقرير ذلك، وتقدم في أوائل التوحيد في قوله: {كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} . والذي أقول: إن غرضه في هذا الباب: إثبات ما ذهب إليه أن الله يتكلم   (1) ((مسلم)) (8/217) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 متى شاء)) (1) . والظاهر أن غرضه في هذا الباب قريب من الذي قبله، وهو بيان أن أعمال العباد واقعة بفعلهم، وأن الكلام يكون صفة لمن تكلم به، فالأعضاء حين تشهد على صاحبها تنطق بكلام لها حقيقة، مضاف إليها على الحقيقة، فهو صفة لها؛ لأنه قام بها، فكذلك كل متكلم، فكلامه فعله ووصفه. وهذا يدل على أن المتكلم بكلام لغيره لا يكون ذلك الكلام مضافاً إليه وصفاًً له، بل هو ناقل أو مبلغ، وأما حركة لسانه وشفتيه، وتصويته به، فهي أفعاله، والمصوت به الذي تحرك اللسان والشفتان به هو كلام ذلك الغير، كما تقدم. وأعمال العباد كلها مخلوقة محدثة. قال البخاري – رحمه الله -: ((وكل من لم يعرف الله بكلامه، أنه غير مخلوق، فإنه يعلم، ويرد جهله إلى الكتاب والسنة، فمن أبى بعد العلم به كان معانداً؛ لقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (2) . فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد (3) ، ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام، والخوض،   (1) ((الفتح)) (13/496) . (2) الآية 115 من سورة النساء. (3) يعني: الذين يقولون: ألفاظنا وتلاوتنا للقرآن مخلوقة، فإن حقيقة قول هؤلاء أن القرآن مخلوق، والفريق الثاني: الذين يقولون: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 والتنازع، إلا فيما جاء فيه العلم، وبينه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – قوماً يتدارءون فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه بعضاً، ما علمتم منه فقولوا، وما لا فكلوه إلى عالمه)) . وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه، كما قال عبد الله بن عمرو، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يدخل في المتشابهات إلا ما بين له. حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ثم ذكر حديث ابن مسعود الآتي. ثم قال: حدثنا موسى، عن وهيب، عن داود، عن الشعبي، في بيع المصاحف: ((أنه لا يبيع كتاب الله، وإنما يبيع عمل يديه)) . ثم ذكر آثاراً في ذلك، وذكر قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في أبي موسى: ((أوتي مزماراً من مزامير آل داود)) ، وقوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) ثم قال: ((وعامة هذه الأخبار مستفيضة عند أهل العلم، ولا ريب في تخليق مزامير آل داود، وندائهم؛ لقوله عز وجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ} )) . ثم ذكر قوله تعالى: {وَاتلُ مَا أُوحِىَ إِليكَ مِن كِتَابِ رَبِكَ} ، ثم قال: ((فبين أن التلاوة من النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، وأن الوحي من الرب)) . ثم ذكر أحاديث وآيات وآثاراً كثيرة، ثم قال: ((ومما يقوي قول الشعبي في بيع المصاحف أنه إنما يبيع عمل يديه، قول زياد بن لبيد – رضي الله عنه – للنبي – صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 ((كيف يرفع العلم وقد ثبت ووعته القلوب؟)) (1) . فهذا الذي ذكره يبين ما أراده هنا، وهو ظاهر من الآية التي ترجم بها، عند التأمل؛ لأنها في سياق ما ذكره الله عن أهل النار، من كلام أعضائهم، قال الله – تعالى -: {وَيَومَ يُحشَرُ أَعدَاءُ اللهِ إلىَ النَّارِ فَهُم يُوزَعُونَ {19} حَتىَ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيِهِم سَمعُهُم وأَبصَارُهُم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ {20} وَقَالُواْ لِجُلُودِهِم لِمَ شَهِدتُم عَلينَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الذِي أنطَقَ كُلَّ شيءٍ وَهُوَ خَلَقَكُم أَوَلَ مَرةٍ وَإليهِ تُرجَعُونَ {21} وَمَا كُنتُم تَستَرُونَ} الآية. قال ابن كثير: ((أي: تقول لهم الأعضاء والجلود، حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلون، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر، والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم)) (2) . وبهذا يتبين أن هذا قول الأعضاء ذكره الله عنها على ما سيقع يوم القيامة. ولهذا لا يقال: إن هذا ليس كلام الله، بل هو كلام الأعضاء حكاه الله عنها؛ لأن الأعضاء لم تتكلم إلى الآن، وإنما ستتكلم يوم القيامة، والله – عز وجل – علم ما سيكون وما تتكلم به، فذكره لعباده ليحذروا الوقوع فيما يوجب شهادة الأعضاء عليهم، فهو كلام الله تكلم به، وأخبر به عما سيقع، وحتى الكلام الذي وقع وذكره تعالى عمن قاله، فإن ذلك يكون كلامه، كما حكى عن الأنبياء وقومهم وغيره. والمقصود أن الاستدلال بالآية المذكورة على أن أعمال الإنسان وأقواله – ومن ذلك قول الأعضاء – تقع منهم على الحقيقة، وتقوم بهم، وعليها   (1) انظر كتاب ((خلق أفعال العباد)) (70-105) تحقيق بدر. (2) ((تفسير ابن كثير)) (4/96) طبعة الحلبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 يستحقون الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وأن أعمال العبد مخلوقة لله - تعالى -؛ لأن الله هو الخالق وحده، وجعلهم عاملين لها حقيقة، وتقدم بيان ذلك. ****** 147- قال: ((حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي - كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر: يسمع إذا جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله - تعالى -: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} الآية. قوله: ((كثيرة شحم بطونهم)) كثيرة: صفة لشحم وأنثه؛ لأن شحم مضاف إلى البطون، وكذا صفة القلوب، والمعنى: أن هؤلاء كبار الجسوم، لكن فقههم قليل، ولهذا صدرت منهم تلك المقالة الدالة على قلة فهمهم. والشاهد من الآية لمقالتهم هذه: قوله تعالى: {وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، كما في قول أحدهم: إن جهرنا سمع، وإن أخفينا لم يسمع، والآخر الذي هو أفقه من هذا علق علم الله بذلك بقوله: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فهو شاك في ذلك، ولهذا وصفهم عبد الله - رضي الله عنه - بقلة الفقه، وتقدم وجه استدلال المؤلف بذلك. ****** قال: باب قول الله - تعالى -: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} ، {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} ، وقوله تعالى: {لَعَلَّ اللهَ يُحدِثُ بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} ، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ} . وقال ابن مسعود عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) . يريد بهذا بيان أن الله – تعالى – يحدث ما يريد إحداثه، في أي وقت أراد، وأن إحداثه ذلك من أفعاله التي هي أوصاف له، فيحدث الأمر من أمره – تعالى – والكلام، ويطلق عليه أنه حدث، ومحدث؛ لأنه وجد بعد ما قبله، ويسمى كلامه حديثاً، ويطلق عليه أنه حادث، ومحدث بمعنى الجديد الذي تكلم به بعد كتبه السابقة له، ولهذا قال: وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين. فمن ذلك كلامه، ومخاطبته لمن يريد أن يخاطبه من خلقه، وأمره لمن يأمره، ونهيه، وإجابته لمن يدعوه، وإحياؤه لمن يريد حياته، وإماتته لمن يريد أن يميته، وإذلال من يريد ذله، وإعزاز من يشاء، وهدايته من يشاء، وإضلال من يشاء، وتصرفه في خلقه وملكه كيف يشاء. ((قال عبيد بن عمير: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} قال: من شأنه أن يجيب داعياً، ويعطي سائلاً، أو يفك عانياً، أو يشفي سقيماً)) . وقال مجاهد: ((كل يوم يجيب داعياً، ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً)) . وقال قتادة: ((لا يستغني عنه أهل السماوات، والأرض، يحيي حياً، ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم، ومنتهى شكواهم)) . وقال سويد بن جبلة: ((إن ربكم كل يوم في شأن، فيعتق رقاباً، ويعطي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 رغاباً، ويقحم عقاباً)) (1) . وروى ابن جرير، عن عبد الله بن مثيب الأزدي، قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – هذه الآية: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} ، فقلنا: يا رسول الله، وما ذاك الشأن؟ قال: ((أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين)) (2) وعلقه البخاري جازماً به، عن أبي الدراداء، موقوفاً)) (3) ، ورواه ابن ماجة مرفوعاً (4) . ونقل الحافظ في كلامه على هذه الترجمة قول ابن بطال، وقول الكرماني وغيرهما، وأطال فيما هو بعيد عن مراد البخاري؛ لأنهم يحاولون شرح ما ذكره على ما يتفق مع عقيدة الأشاعرة، مع أنه مباين لها. قوله: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} قيل هذه الآية، كقوله تعالى: {اقتَرَبَ لِلنَّاس حِسَابُهُم وَهُم فيِ غَفلَةِ مُّعرِضُونَ} أي: دنت القيامة وقربت، والناس عنها غافلون لاهون في دنياهم. وإذا جاءهم ذكر من الله جديد، قريب العهد بالله، فيه تذكيرهم وأمرهم بالأخذ لما فيه سعادتهم، وفيه عظتهم عن التشاغل بالدنيا ونسيان الآخرة، استمعوه سماع غافل لاه لاعب. قال ابن كثير: ((أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله. فقال: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} أي: جديد إنزاله)) (5) .   (1) ((تفسير ابن كثير)) (7/470) طبعة الشعب. (2) انظر ((تفسير الطبري)) (27/79) . (3) انظر ((البخاري)) (6/181) . (4) انظر ((السنن)) (1/73) رقم (202) ، ورواه ابن حبان في ((صحيحه)) ، عن أبي الدرداء، مرفوعاً، قال: ((من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين)) ((الإحسان) (238) . (5) ((تفسير ابن كثير)) (5/225) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وقال أبو جعفر ابن جرير – رحمه الله -: (يقول – تعالى ذكره -: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس، ويذكرهم به، ويعظهم، إلا استمعوه، وهم يلعبون)) (1) . وقوله: ((لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)) لما ذكر الله – جل وعلا – حكمه في المطلقة، وأمره بأن تطلق لعدتها، وأمر بإحصائها، ونهى عن إخراجها من بيت زوجها، ما دامت في العدة، وأنها لا تخرج منه إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، وأخبر – تعالى – أن هذا من حدوده التي حدها،، ونهى عن تعديها، وأن من تعداها فقد ظلم نفسه، بعد ذلك قال تعالى: {لاَ تَدري لَعَلَ اللهَ يُحدِث بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} . يعني: يحدث للزوجين حالاً غير ما كانا عليه وقت الطلاق، بأن تتبدل الكراهية رغبة، والبغض حباً، وأن يراجع الرجل نفسه فيندم على ما حصل منه، والزوجة كذلك. قال ابن جرير: {لاَ تَدري لَعَلَ اللهَ يُحدِث بَعدَ ذَلِكَ أَمراً} : يقول – جل ثناؤه -: لا تدري ما الذي يحدث، لعل الله يحدث بعد طلاقكم إياهن رجعة)) (2) . والمقصود الذي أراده المؤلف – رحمه الله – من هاتين الآيتين: أن الله – تعالى – يتكلم بعد أن لم يكن تكلم بذلك الكلام بعينه، ويأمر، وينهى بعد أن لم يكن أمر بذلك المأمور وذلك المنهي عنه بعينه، لمن وجه إليه الأمر والنهي، وهذا هو معنى الحدث الذي أراد بيانه، وهو: الفعل المتجدد الذي يتعلق بمشيئته تعالى، سواء كان كلاماً، أو أمراً، أو نهياً، أو إحياء لميت، أو إماتة لحي، أو هداية ضال، أو ضلال غاو، أو تغيراً لحكم شرعه قبل   (1) (17/2) . (2) ((تفسير الطبري)) (12/87) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 ذلك، أو أذن به، أو تغيير ما في نفوس بعض خلقه، أو غير ذلك مما يشاؤه ويريده – جل وعلا -، كما تقدم في معنى قوله تعالى: {كُلَّ يَومٍ هُوَ فيِ شَأنٍ} . وقوله تعالى: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} وقوله: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ إلاَ كَانُوا عَنهُ مَعرِضينَ} ، قال شيخ الإسلام: ((هذا يدل على أن الذكر منه محدث، ومنه ما ليس بمحدث؛ لأن النكرة إذا وصفت ميز بها بين الموصوف وغيره، كما لو قال: ما يأتيني من رجل مسلم إلا أكرمته، وما آكل إلا طعاما حلالا، ونحو ذلك. ويعلم أن المحدث في الآيتين ليس هو المخلوق، الذي يقوله الجهمية. ولكنه الذي أنزل جديداً، فإن الله كان ينزل من القرآن شيئاً بعد شيء، فالمنزل أولاً قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً، وكل ما تقدم على غيره فهو قديم في لغة العرب، كمال قال: {كَالعُرجُونِ القَديمِ} ، وقال: {تَاللهَ إِنَكَ لَفي ضَلاَلِكَ القَديِمِ} (1) . ومراد الإمام البخاري – رحمه الله – من هاتين الآيتين الرد على من ينكر أفعال الله – تعالى – من القول والفعل ونحوهما مما يتعلق بمشيئته وإرادته وقدرته، فإن هذا الأصل أنكرته الجهمية، والمعتزلة، ومن تشعب عنهما، ظانين أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات وجود الخالق له – تعالى – إلا بإثبات حدوث الأجسام، ولا يمكن حدوث الأجسام إلا بإثبات حدوث ما يقوم بها من الصفات والأفعال المتعاقبة، التي يسمونها: الحوادث، فلذلك قالوا: كل من قامت به الحوادث أو كان محلاً لها فهو حادث.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/522) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وهذا الذي حدا بهم إلى إنكار صفات الله، وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته. وعليهم توجه رد الإمام البخاري – رحمه الله – في هذا الكتاب، كما قال: ((باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب، وأمره، فالرب – تعالى – بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكون، غير المخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، فهو مفعول مكون مخلوق)) . ثم بعد ذلك قال: ((باب قول الله – تعالى -: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ولم يقولوا: ماذا خلق ربكم)) . ثم ذكر قول عبد الله بن مسعود: ((إذا تكلم الله بالوحي)) إلى آخره، وذكر حديث عبد الله بن أنيس وفيه: ((فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب)) . وذكر حديث أبي هريرة: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها)) إلى آخره، وحديث أبي سعيد الخدري: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ... )) ، إلى آخر ما ذكره من الأبواب التي من تدبرها، وتأمل ما تحتها من النصوص، تبين له دقه فهمه رحمه الله، وتبين له بطلان مذهب أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم. والمقصود أن الإمام البخاري – رحمه الله – يرى أن الله – تعالى – يوصف بأنه يحدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ما يشاء من القول، والأمر، والفعل، وهذا ما دل عليه العقل والفطرة وكتب الله، ولهذا قال: ((وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ} . فكما أنه تعالى لا مثل له في ذاته، كذلك في أفعاله، وأوصافه وأحداثه التي يحدثها مما يتعلق بمشيئته، وهي أفعاله، وهذا هو الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة. قوله: ((وقال ابن مسعود، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إن الله عز وجل يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) . هذا طرف من حديث رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن حبان في ((صحيحه)) وصححه، من طريق عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: ((كنا نسلم في الصلاة، ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصلاة قال: ((إن الله – عز وجل – يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله – تعالى – قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة، فرد عليَّ السلام)) (1) . وفي رواية النسائي: ((وإن مما أحدث)) ، وأصل القصة في ((الصحيحين)) . فقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحدث ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)) موافق لقوله تعالى: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرِ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} ولا يصف الله أعلم منه – تعالى – ولا أعلم من رسول بعده، ومن لم يرض بما قاله الله ورسوله فبعداً له. ***** 148- قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا حاتم بن   (1) انظر ((سنن أبي داود)) (1/212) ، باب: رد السلام في الصلاة، وانظر ((المسند)) (1/409، 415، 435) ، وانظر ((الإحسان)) (3/19) رقم (1221) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وردان، حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: ((كيف تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله، أقرب الكتب عهداً بالله، تقرؤونه محضا لم يشب)) . يعني: أن الله قد أغناكم بما جاءكم به نبيكم – صلى الله عليه وسلم – فقد أنزل الله عليه آخر الكتب التي قضى الله – تعالى – أن تنزل إلى الأرض من عنده، فهو أحدثها بالله، وأقربها عهداً به، وقد وصل إلينا خالصاً، ليس فيه ما يداخله من غيره، فكيف بعد ذلك يسوغ للمسلم أن يذهب يسأل اليهود والنصارى عما في أيديهم من كتبهم؟ وقد أعلمنا الله – تعالى – أنهم حرفوها، وزادوا فيها ونقصوا منها، ثم كذبوا على الناس بأن قالوا: هذا من عند الله، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (1) . وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) . وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) إلى غير ذلك مما ذكره الله – تعالى – عنهم من الكذب،   (1) الآية 79 من سورة البقرة. (2) الآية 78 من سورة آل عمران. (3) الآية 71 من سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 والتزوير، وتحريف كلام الله عن مواضعه، وتغييره وتبديله. والشاهد فيه قوله: ((وعندكم كتاب الله أقرب الكتب عهدا بالله)) . وهذا معنى كونه محدثاً، يعني: أنه قريب عهده بالله – تعالى -، بأن تكلم به وأنزله بعد الكتب السابقة، بل تكلم به تعالى في مناسبات تعرفون كثيراً منها. ومعنى قوله: ((محضاً لم يشب)) : يعني: أنه لم يخالطه شيء من غيره. 149 – قال: ((حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله ابن عبد الله، أن عبد الله بن عباس قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم، أحدث الأخبار بالله، محضا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله، وغيروا فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا بذلك ثمنا قليلا، أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم)) . هذا يدل على أنه كان من المسلمين في عهد ابن عباس من يسأل أهل الكتاب ويكتب أخبارهم، وذلك في آخر عهد الصحابة، وكان الصحابة ينهون عن ذلك، ويحذرون منه؛ لأنهم يعرفون كذبهم، وتحريفهم لكتاب الله، ولاستغنائهم بما جاء به نبيهم – صلى الله عليه وسلم -. وقد روى البخاري أن أمير المؤمنين معاوية – رضي الله عنه – أنه كان يحدث رهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين، الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب)) (1) أي: نجرب عليه الكذب في أخباره.   (1) انظر ((الفتح)) (13/333) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ((روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة من حديث جابر، أن عمر أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب أصابه من أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل، فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)) ورجاله ثقات إلا أن مجالداً فيه ضعف)) (1) . ولهذا نهى ابن عباس عن سؤالهم، وبين أنه ليس هناك ما يدعو إلى سؤالهم، وقد أغنى الله المسلمين بكتابه الذي تولى حفظه بنفسه، فلا يقدر أحد على تغييره وتبديله، وهو أيضا آخر الكتب نزولا من عند الله، فهو أحدثها به، نزل عليكم بعد كل الكتب التي يحدثونكم عنها. مع أن الذي عندهم قد اختلط الحق فيه بالباطل، فلا يتميز، وما كان فيه من حق فهو منسوخ بالقرآن الذي جاء به خاتم النبيين – صلى الله عليه وسلم -. ومما يدل على أن أهل الكتاب لا يريدون الحق: كونهم لا يسألون المسلمين عما جاء به نبيهم، وهذا مما يمنع من سؤالهم. وقد سبق ذكر بعض الآيات التي تنص على تحريفهم وتبديلهم الكتاب بما يكذبونه؛ ليشتروا به من حطام الدنيا ما استطاعوا، فمثل هؤلاء حرام سؤالهم؛ لأنهم يضلون من سألهم والشاهد قوله: ((وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم – صلى الله عليه وسلم – أحدث الأخبار بالله)) ، والحديث هو الجديد، ضد القديم، وهذا معنى قوله في الآية: {مَا يَأتِيهِم مِن ذِكرٍ مِن رَّبِهِم مُّحدَثٍ} أي: جديد. وقوله: ((محضاً لم يشب)) أي: خالصاً، لم يخالطه شيء من غيره. ******* قال: ((باب قول الله – تعالى -: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – حين ينزل عليه الوحي)) .   (1) ((الفتح)) (13/334) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 يقصد بهذا التمييز بين فعل العبد، وفعل الرب - تعالى - وصفاته. فتحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسانه بالوحي هو فعله، ولكن المحرك به اللسان هو كلام الله وصفته، ولهذا قال: ((وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي، يعني: أنه كما قال ابن عباس: يعالج من الوحي شدة، وكان يحرك شفتيه بالقرآن، وذلك عندما يتلوه عليه جبريل، فيحرك لسانه وشفتيه بما يقرؤه جبريل، خوفا من أن يفوته شيء منه، فنهاه الله - تعالى- عن ذلك حيث يقول: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} أي: تستعجل بحفظه، مخافة أن يفوتك فلا تحفظه. وتكفل الله له بأن يحفظه إياه، فقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يقول تعالى لنبيه: لا تستعجل إذا سمعت جبريل يقرأ عليك القرآن، فتحرك به لسانك وشفتيك مخافة أن لا تحفظه، بل أنصت، واستمع لما يقرأه جبريل، فنحن نجمعه، فلا يذهب منه شيء. و ((قرآنه)) يعني: قراءته التي يقرؤها عليك جبريل، فإذا قرأه فاتبع قرآنه)) فكان - صلى الله عليه وسلم - يستمع لما يقرؤه عليه جبريل، فإذا انتهى قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله من تحريك شفتيه ولسانه وما يعالج من الشدة كل ذلك فعله وعمله، وهو مخلوق. أما ما يحرك به لسانه وشفتيه، فهو كلام ربه - جل وعلا -، ومثل ذلك جبريل. قال المؤلف في بدء الوحي، بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ} قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله – تعالى - {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، قال: جمعه لك في صدرك، وتقرأه،: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له وأنصت،: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – كما قرأه)) (1) وسيأتي قريباً. وقال في ((خلق أفعال العباد)) : ((سمعت عبد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى ابن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة، - يعني: حركاتهم، وأصواتهم، واكتسابهم، وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف، المسطور، المكتوب، الموعى في القلوب، فهو كلام الله، ليس بمخلوق، قال الله – تعالى -: {بَل هُوَ قُرآنٌ مَّجِيدٌ {21} فيِ لَوحٍ مَّحفُوظِ} ، فذكر أنه يحفظ ويسطر)) (2) . وقال أيضاً: ((فأما المداد، والرق ، ونحوه، فإنه مخلوق، كما أنك تكتب ((الله)) ، فالله في ذاته هو الخالق، وخطك واكتسابك من فعلك خلق؛ لأن كل شيء دون الله بصنعه، وهو خلق، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) . وقال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4) ، وقال تعالى: {بَل هُوَ قُرآنٌ مَّجِيدٌ {21} فيِ لَوحٍ مَّحفُوظِ} (5) . وقال أيضا: ((وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل حين سأله عن الإيمان، قال: أن   (1) البخاري (1/4) . (2) ((خلق أفعال العباد)) (47) . (3) . الآية 2 من سورة الفرقان. (4) الآية 4 من سورة الزخرف. (5) ((خلق أفعال العباد)) (49) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم، ثم قال: ما الإسلام؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله. فذكره، قال: إذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم. فسمى الإيمان، والإسلام، والشهادة، والإحسان، والصلاة بقراءتها وما فيها من حركات الركوع والسجود، فعلاً للعبد)) (1) . وقال: ((قال الله - عز وجل -: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، ولكنه كلام الله تلفظ به العباد، والملائكة، وبين ذلك ما حدثني به عبد العزيز بن عبد الله – وذكر سنده – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا أحب الله عبداً، نادى جبريل: يا جبريل أحب فلاناً، فينوه بها جبريل في حملة العرش، فيحبه أهل العرش، فيسمع أهل السماء السابعة لغط أهل العرش – وذكره -)) (2) . فحب جبريل، ونداؤه لأهل العرش وأهل السماوات هو فعل جبريل، وهو مخلوق. وأما حب الله للعبد ونداؤه لجبريل فهو فعله تعالى. وقال أيضا: ((قال معاوية: لو شئت أن أحكي لكم قراءة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لفعلت. وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم - أي الناس أحسن قراءة؟ قال: ((الذي إذا سمعته رأيت عليه أنه يخشى الله عز وجل)) .   (1) المصدر السابق (57) . (2) المصدر نفسه (72-73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 ويذكر عن سعد – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: خير الذكر الخفي. وقال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1) . وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (2) . وسمع معاذ قارئا يرفع صوته بالقرآن، فقال: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصَوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ} . حدثنا مسدد، حدثنا معتمر، سمعت أبي، سمعت أبا عثمان يقول: ما سمعت صنجاً قط، ولا بربطاً، ولا مزماراً أحسن صوتاً من أبي موسى، إلا فلاناً، إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة من حسن صوته. ويذكر عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ أنه قال: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول، ويكتب علينا؟ قال: وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟)) . فبين النبي - صلى الله عليه وسلم- أن أصوات الخلق، وقراءتهم، ودراستهم، وتعليمهم، وألسنتهم، مختلفة بعضها أحسن، وأزين، وأحلى، وأصوت، وأرتل، وألحن، وأعلى، وأخف, وأغض، وأخشع. وقال تعالى: {وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} (3) ، وأجهر، وأخفى، وأمد، وأمهر، وألين، وأخفض من بعض)) (4) .   (1) الآية 55 من سورة الأعراف. (2) الآية 205 من سورة الأعراف. (3) الآية 108 من سورة طه. (4) ((خلق أفعال العباد)) (72-73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 قوله: ((وقال أبو هريرة: عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله – تعالى – أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه)) . هذا التعليق وصله المؤلف في ((خلق أفعال العباد)) (1) . ومراده من الحديث أن قوله: ((وتحركت بي شفتاه)) وكذا قوله: ((إذا ذكرني)) أنه فعل العبد وعمله الذي يجازيه الله عليه، والشفتان واللسان تتحرك بذكر الله واسمه وصفته، لا بذاته تعالى. فمثل ذلك قراءة القرآن، فإن اللفظ والصوت والحركة فعل العبد، وهو مخلوق، وأما ما يلفظ به ويقرؤه فهو كلام الله – تعالى -، وقد تكرر هذا لأن المؤلف يكرره؛ لأنه قد بلي بمن يقول: قراءة العباد غير مخلوقة. قال رحمه الله: ((القراءة هي التلاوة، والتلاوة غير المتلو، وقد بينه أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: اقرءوا إن شئتم: يقول العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) ، فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: ((مالك يوم الدين)) فيقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: ((إياك نعبد, وإياك نستعين)) ، فيقول الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) . فبين أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء، والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة. ثم روى عن أبي الدرداء: ((سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفي كل صلاة قراءة؟ قال: ((نعم)) ، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اقرءوا إن شئتم)) .   (1) (ص141) تحقيق بدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 فالقراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه. وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) فذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن بعض الصلاة أطول من بعض، وأخف، وأن بعضهم يزيد على بعض في القراءة، وبعضهم ينقص، وليس في القرآن: زيادة ولا نقصان، فأما التلاوة فإنهم يتفاضلون في الكثرة والقلة والزيادة والنقصان. وقد يقال: فلان حسن القراءة، ورديء القراءة، ولا يقال: حسن القرآن، ورديء القرآن. وإنما نسب إلى العباد القراءة، لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الرب جل ذكره. والقراءة فعل العبد، لا يخفى معرفة هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه، ولم يوفقه، ولم يهده سبيل الرشاد. وليس لأحد أن يشرع في أمر الله – عز وجل – بغير علم، كما زعم بعضهم: أن القرآن بألفاظنا، وألفاظنا به شيء واحد، التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء. فقيل له: إن التلاوة فعل التالي، وعمل القارئ فرجع، وقال: ظنتهما مصدرين. فقيل له: هلا أمسكت، كما أمسك كثير من أصحابك؟ ولو بعثت إلى من كتب عنك، فاسترددت ما أثبت، وضربت عليه؟ فزعم أن كيف يمكن هذا وقد قلتُ، ومضى؟ فقيل له: كيف جاز لك أن تقول في الله – عز وجل – شيئاً لا يقوم به شرح وبيان، إذ لم تميز بين التلاوة والمتلو؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 فسكت إذ لم يكن عنده جواب)) (1) . ****** 150- قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أحركهما لك كما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه. فأنزل الله عز وجل: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ {16} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، قال: جمعه في صدرك، ثم تقرؤه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قال: فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – كما أقرأه)) . قوله: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} أي: لا تحرك بالقرآن لسانك، فدل على أن المحرك به غير الحركة والتحرك، فذلك فعل العبد، بخلاف المحرك به فإنه القرآن. قوله: (يعالج من التنزيل شدة)) أي: أنه كان يتحمل هماً، ويعاني كرباً وخوفاً من أن يذهب عنه ما يلقيه جبريل إليه، فلذلك كان يحرك لسانه وشفتيه بترديد ما يقوله جبريل، لعله يثبت معه، وقد وصف ابن عباس لسعيد بالتمثيل، مما يدل على أن ابن عباس قد شاهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تلك الحالة.   (1) ((خلق أفعال العباد)) (104-105) ، والظاهر أن هذه المحاور بين البخاري وبعض من خالفه في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 فلما نهاه ربه تعالى عن ذلك الفعل، وأخبره أنه سوف يثبته في صدره، وإنما عليه أن يستمع إلى جبريل، وأن الله يتولى جمعه في صدر النبي – صلى الله عليه وسلم – وحفظه، ترك ما كان يفعله، وهذا من الحفظ للقرآن الذي أخبر تعالى أنه يحفظه، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكرَ وإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ} . فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستمع إلى جبريل، فإذا انتهى قرأه النبي – صلى الله عليه وسلم – كما قرأه جبريل. قوله: ((لتعجل به)) أي: إن تحريكه لسانه به ليتعجل بحفظه خوفاً من فواته عليه أو نسيانه، فقال الله – تعالى -: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال ابن عباس: في صدرك، ثم تقرؤه كما كان جبريل يقرؤه. قوله: {وَقُرْآنَهُ} يعني: قراءته، والمقصود قراءة جبريل له، وبهذا سميت القراءة قرآناً. قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي: إذا قرأه عليك جبريل الذي أمره الله بذلك، فاتبع قراءته، فإسناد الفعل إلى ضمير المتكلم المعظم، الذي هو الله – تعالى -؛ لأنه - جل وعلا - هو الآمر، وهو المتكلم به، وجبريل رسوله إلى محمد – صلى الله عليه وسلم -، والرسول يبلغ رسالة من أرسله. قال في ((خلق أفعال العباد)) ((حدثنا عبيد الله بن موسى، وذكر سنده إلى سعيد ابن جبير أنه سئل عن قوله تعالى: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} ؟ فقال: قال ابن عباس: كان يحرك لسانه إذا نزل عليه، فقيل: {لاَ تُحرِك بِهِ لِسَانَكَ} يخشى أن يتفلت، ثم {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: جمعه في صدرك {وَقُرْآنَه ُ} أن تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} يقول: أنزل عليه، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} أن نثبته على لسانك)) (1) وفي رواية: ((قال:   (1) (ص84) ورواه في ((الصحيح)) (6/203) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 علينا أن نجمعه في صدرك {وَقُرآنَهُ {17} فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ ُ} فإذا أنزلناه فاستمع {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله)) (1) . ****** قال: ((باب قول الله - تعالى -: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} يتخافتون: يتسارون. قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: ((يقول جل ثناؤه: أخفوا قولكم، وكلامكم أيها الناس، أو أعلنوه وأظهروه، {إِنَهُ عَلِيمُ بِذاتِ الصُدُورِ} يقول: إنه ذو علم بضمائر الصدور التي لم يتكلم بها، فكيف بما نطق به وتكلم به، أخفى ذلك أو أعلن؛ لأن من لم تخف عليه ضمائر الصدور، فغيرها أحرى أن لا يخفى عليه. {أَلاَ يَعلَمُ} الرب جل ثناؤه {مَن خَلَقَ} من خلقه، يقول: كيف يخفى عليه خلقه الذي خلق، {وَهُوَ اللَّطِيفُ} بعباده {الخَبِيرُ} بهم وبأعمالهم)) (2) ؟ قال الحافظ: ((أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره. فإن كان بالقرآن، فالقرآن كلام الله، وهو من صفات ذاته فليس بمخلوق؛ لقيام الدليل القاطع بذلك، وإن كان بغيره فهو مخلوق، بدليل قوله تعالى {أَلاَ يَعلَمُ مَن خَلَقَ} بعد قوله: { {إِنَهُ عَلِيمُ بِذاتِ الصُدُورِ.} قال ابن بطال: ((مراده إثبات العلم لله صفة ذاتية؛ لاستواء علمه بالجهر   (1) انظر ((الصحيح)) (6/203) . (2) ((تفسير الطبري)) (29/5) طبع بولاق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 من القول والسر)) (1) . قلت: كلا القولين لم يردهما البخاري، أما قول ابن بطال، فلا يتفق مع أحاديث الباب، وظاهر أنه لم يرد ما زعمه ابن بطال. وأما قول الحافظ، فينطبق على مذهب الأشاعرة الذين يجعلون كلام الله صفة ذاتية، يعني: أنه معنى قائم بذات الله – تعالى -، والبخاري – رحمه الله – من أبعد الناس عن مثل هذا القول الباطل، المتناقض. والصواب: أنه أراد بيان أن أفعال الله وأوصافه لا تشتبه بأفعال العباد وأوصافهم، فإن أقوال العباد الموصوفة بأنهم يجهرون بها أو يسرونها هي أقوالهم وأعمالهم التي يجازيهم ربهم عليها بالثواب أو العقاب. أما كلام الله – تعالى – وفعله فلا يكون وصفاً للعباد، بأنه قول لهم أو فعل لهم. وقد بين مراده هذا في كتابه ((خلق أفعال العباد)) ، فقال: ((فأما المتلو فقول الله الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (2) ، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} (3) . وقال عبد الله بن عمرو، عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيشفع لصاحبه)) ، وهو اكتسابه وفعله. قال الله – تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4) ، قال صعصعة، عم الفرزدق، لما سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ هذه الآية: حسبي، قد علمت فيم الخير، وفيم الشر.   (1) ((الفتح)) (13/501) . (2) الآية 11 من سورة الشورى. (3) الآية 29 من سورة الجاثية. (4) الآية 7، 8 من سورة الزلزلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وقد دخل في ذلك قراءة القرآن، وغيرها. وقد بين الله ذلك قولاً للمخلوقين حين قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (1) . فأخبر أن العمل من الحياة، ثم بين خلقه فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {13} أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) . مع أن الجهمية، والمعطلة، إنما ينازعون أهل العلم على قول الله، أن الله يتكلم، وإن تكلم فكلامه مخلوق، فقالوا، إن القرآن بعلم الله مخلوق، فلم يميزوا بين تلاوة العباد، وبين المقروء. وقد رفع أبو بكر صوته بقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (3) (4) . يعني: أن الصوت الذي صوت به أبو بكر ورفعه هو من عمله وصفته، أما المصوت به فهي آية من كتاب الله، وهو كلام الله، فيجب التفريق بين ما هو فعل العبد وصفته، وبين ما هو من فعل الرب وصفته. وبهذا يتضح مراد البخاري، وأنه ليس كما ذكر الحافظ، وابن بطال، والغريب أنه ذكر عن ابن المنير ما هو الصواب، ولم يقتنع به فيما يظهر. قال ابن المنير: ((قصد البخاري الإشارة إلى النكتة التي كانت سبب محنته، حيث قيل عنه: إنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر، وذلك يستدعي كونها مخلوقة)) .   (1) الآية 2 من سورة الملك. (2) الآية 13، 14 من سورة الملك. (3) جزء من الآية 28 من سورة غافر. (4) ((خلق أفعال العباد)) (74-75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وفي قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} ، ثم قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} تنبيه على أن قولهم مخلوق، وقوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} يعني: بقراءتك، دل على أنها فعله، وقوله:: ((من لم يتغن بالقرآن)) فأضاف التغني إليه، دل على أن القراءة فعل القارئ)) (1) . قوله: ((يتخافتون)) : يتسارون، بيان لقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} (2) بأن المخافتة من الإسرار، وذلك من أعمالهم. ****** 151- قال: ((حدثني عمرو بن زرارة، عن هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهاَ} قال: نزلت، ورسول الله مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلاَ تُخَافِت بِهاَ} عن أصحابك فلا تسمعهم، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} . - حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: نزلت هذه الآية: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهاَ} في الدعاء. فقوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} واضح في أن المقصود القراءة، وأن الجهر فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وكذا الإخفات الذي نهي عنه، ومثلهما التوسط بينهما، كل ذلك فعله، فلذلك صح أن ينهى عنه، ولا يقول أحد بأن النهي عن القرآن، أو عن الصلاة. وبينه بقوله: ((فكان إذا صلىبأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن، ومن جاء به)) فنهاه الله – تعالى – عن رفع الصوت به؛ لئلا يسبه المشركون، كما نهاه عن الإسرار به؛ لئلا يخفى على أصحابه، وأمره بأن يقرأه قراءة يسمع بها أصحابه الذين معه، ولا يسمعه المشركون الذين   (1) ((المتوارى)) (ص428) . (2) الآية 103 من سورة طه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 خارج البيت الذي هو فيه، وهذا معنى قوله: {وَابْتَغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} . فبين بهذا أن القراءة غير المقروء، وأن الصوت غير المصوت به، وأن الجهر والإسرار، والتوسط بينهما، كل ذلك فعل القارئ، التالي، وهو من عمله الذي يؤمر به، أو ينهى عنه، ويجازى عليه. أما المقروء، والمصوت به، فهو قول من كان ذلك القول له، وصفته. فإن كان من القرآن، فهو قول الله – تعالى -، وإن كان من غيره فهو قول ذلك الغير الذي قاله مبتدءاً. وقول عائشة في الآية المذكورة: أنها نزلت في الدعاء، لا يخالف ما ذكره ابن عباس؛ لأن الآية تنزل في سبب معين، ويدخل في معناها غير ذلك المعين الذي نزلت من أجله. وقد أمر الله – تعالى – بإخفاء الدعاء بقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (1) } ، وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (2) } مع أن القراءة والصلاة من دعاء العبادة. ووجه الدليل من الآية واضح وبيَّن فيما سبق. ***** 152- قال: ((حدثنا إسحاق، حدثنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) وزاد غيره ((يجهر به)) . ((ليس منا)) يعني: من المسلمين، وهو وعيد لمن لم يفعل ذلك. والأولى أن لا يتعرض لمثله بالتأويلات التي تخرج الكلام عن مراد المتكلم. وسبق القول بأن الصواب في التغني أنه: تحسين الصوت وتزيينه بالقرآن.   (1) الآية 55 من سورة الأعراف. (2) الآية 205 من سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 وجاء الأمر به كما رواه المؤلف – رحمه الله – في ((خلق أفعال العباد)) ورواه غيره، قال: ((حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي عن الأعمش، سمع طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) (1) وتفسير التغني بالجهر لا ينافي ما ذكرته؛ لأن السلف يفسرون الكلام ببعض ما دل عليه، ومقصودهم بهذا التفسير أن لا يدخل فيه ما يشبه الغناء، فإنه مكروه كراهة شديدة، أو محرم. قال الكرماني: ((لم يتغن به)) أي: يجهر بقراءة القرآن، وقيل: يستغني به. وأشار بالترجمة إلى أن تلاوة الناس تتصف بالجهر، والإسرار، وذلك يدل على أنها مخلوقة لله – تعالى -، وكذا قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} دليل على أن قولهم مخلوق، وكذا قوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ} أي: بقراءتك، يدل على أنها فعله، وكذا قوله: ((من لم يتغن بالقرآن)) أضاف الفعل إليه)) (2) . وقال أيضا: ((يجهر به)) يتغنى، ومعناه: يجهر به بتحسين الصوت، وتخزينه وترقيقه، ويستحب ذلك ما لم تخرجه الألحان عن حد القراءة، فإن أفرط حتى زاد حرفا، أو أخفى حرفا، فهو حرام)) (3) . وقال الخطابي: ((إن العرب كانت تولع بالغناء والنشيد في أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب أن يكون هجيراهم مكان الغناء، فقال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) (4) . والشاهد من الحديث: أن التغني والجهر فعل العبد، وهو مخلوق. وأما المتغنى به المجهور به، فهو كلام الله – تعالى -. فتبين بذلك الفرق بين أفعال العباد، وأوصافهم، وأوصاف أعمالهم، وبين فعل الله، ووصفه، ومرادنا بفعله الذي هو وصفه، لا مفعوله كما هو اصطلاح الأشاعرة.   (1) (ص78، 82، 83) من طرق عدة، وأحمد (4/283) ، وابن أبي شيبة (2/251، 252) . (2) ((شرح الكرماني)) (25/219) . (3) المصدر السابق (19/30) . (4) المصدر السابق (19/31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 قال: ((باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل. فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله)) . هذه الترجمة كالتي قبلها، وكذا الأبواب الآتية كلها في بيان أن أعمال العباد منوطة بهم يفعلونها باختيارهم، وأنها مخلوقة مثلهم. وذلك مثل أصواتهم وتحريك ألسنتهم وشفاههم، وحفظهم ودعائهم، وتبليغهم، وصلاتهم، وكون الإنسان خلق هلوعا جزوعا منوعا، فهذه أوصاف الإنسان، والله خلقه كذلك. وكذا روايتهم، وبيانهم عن معاني كلام الله، وأصواتهم حسنها وقبيحها، ومهارتهم بالقرآن وغيره، وكتابتهم، وأدواتهم التي يكتبون بها، وغير ذلك كلها عمل لهم، وهم وأعمالهم مخلوقون. فقوله: ((آتاه الله القرآن)) يعني: يسر له حفظه، وأقدره عليه، فحفظه وعمل به. ((فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)) أي: يتلوه ويتهجد به في الصلاة وخارجها أوقات الليل والنهار، وهذا من أفضل الأعمال التي يؤجر عليها العبد. فدل ذلك على أن تلاوته القرآن من عمله وعمله مخلوق، فلزم أن تكون غير المتلو. فالتلاوة عمل العبد، وفعله، والمتلو قول الرب تعالى وصفته، كما تقدم. ((ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل)) . هذا يبين أن التلاوة، والقيام بالقرآن فعل التالي، وعمله، كما هو واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 ولهذا قال: ((لو أوتيت مثل ما أوتي هذا فعلت كما يفعل)) . قال البخاري – رحمه الله -: ((فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله)) . وذكر ما ذكره هنا في كتابه ((خلق أفعال العباد)) بنصه (1) ، ثم ذكره بسنده، قال ابن المنير: ((ثبت عن البخاري أنه قال: من نقل عني أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فقد كذب، وإنما قلت: إن أفعال العباد مخلوقة، قال: وقد قارب الإفصاح في هذه الترجمة بما رمز إليه في التي قبلها)) (2) . قوله: ((وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} . أي: من الدلالات الواضحة على وحدانية الله، ووجوب عبادته، ورجوعكم إليه للحساب والجزاء، وأن الأمر والملك كله له، خلق السماوات والأرض، وما فيهما من العجائب، والآيات الدالة على الله، ومن ذلك اختلاف ألسنتكم، أي: أصواتكم بحيث لا يلتبس صوت واحد بآخر على كثرتهم، وكذا اختلاف اللغات، واختلاف الألوان، فهذا بشرته بيضاء، وهذا سوداء، وبين ذلك. والمقصود أن إضافة الألسنة إلى الناس يدل على أنها أعمالهم وأوصافهم، فإذا قرأ القارئ كلام الله – تعالى – فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام الباري. فكما أن الألوان صفتهم، فكذلك النطق، والتكلم، والتصويت. قال في ((خلق أفعال العباد)) ، بعد أن ذكر هذه الآية: ((فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد)) .   (1) (ص118) تحقيق عميرة و (ص196) بدر. (2) ((الفتح)) (13/503) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 وقال تعال: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِي عَمِلي وَلَكُم عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعمَلُ وَأَنَا بَرِئٌ مِمَّا تَعمَلُونَ} (1) . قوله: ((وقال – جل ذكره -: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} )) . قال الحافظ: ((الآية الأولى: المراد منها اختلاف ألسنتكم؛ لأنها تشمل الكلام كله، فتدخل القراءة، وأما الثانية فعموم فعل الخير يتناول قراءة القرآن والذكر، والدعاء، وغير ذلك، فدل على أن القراءة فعل القارئ)) (2) . وقال المصنف في ((خلق أفعال العباد)) {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ، فأثبت الخير منهم فعلاً)) (3) . يعني: أن الله – تعالى – أمر عباده أن يفعلوا الخير، فدل على أن ذلك فعلهم، ومن فعل الخير: قراءتهم القرآن، وذكرهم لله – تعالى – ودعائهم إياه، فالقراءة والذكر والدعاء فعل لهم يثابون عليه، كما تقدم. *** 153 – قال: ((حدثنا قتيبة حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحاسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا، لفعلت كما يفعل، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقه فيقول: لو أوتيت مثل ما أوتي عملت فيه مثل ما يعمل)) . قد ذكر هذا الحديث في فضائل القرآن بأتم من هذا اللفظ، ونصه:   (1) (ص195-196) . (2) ((الفتح)) (13/502) . (3) (ص197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 ((أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً، فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل)) . وترجم له هناك بقوله: ((باب اغتباط صاحب القرآن)) فجعل هذا من الغبطة، وليس من الحسد، وتسميته حسداً من باب التجوز. قال الحافظ: ((معنى قوله: ((لا تحاسد إلا في اثنتين)) أي: لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين، أو لا يحسن الحسد – إن حسن -، وأطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين)) (1) . وقال النووي: قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي، ومجازي، فالحقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرام بإجماع الأمة، مع النصوص الصحيحة. وأما المجازي: فهو الغبطة، وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره، من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد من الحديث لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما)) (2) . قوله: ((آتاه الله القرآن)) أي: منَّ عليه بحفظه، وهي من أعظم المنن، فإذا انضم إلى ذلك العمل به تمت نعمة الله، وذلك الذي قصد بقوله: ((فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار)) ومعنى: يتلوه: يقرؤه، ويعمل به.   (1) ((الفتح)) (9/73) . (2) ((شرح مسلم)) (6/97) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 وآناء الليل والنهار: ساعاتهما، يعني: أنه يلازم ذلك في غالب أوقاتهما. قوله: ((فهو يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)) هذا هو الذي أطلق عليه بأنه حسد، وهو حسد جائز؛ لأنه يتمنى الخير من غير ضرر بالغير. فهو لم يتمن زوال ما أوتي صاحب النعمة، كما يفعل إخوان الشياطين، ولكنه تمنى أن يكون مثله، قد أوتي القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار. وكذلك الآخر الذي تمنى أن يكون له من المال مثل ما للمنفق ماله في وجوه الخير. ولم يرد زوال النعمة عن ذلك المنفق. والشاهد من الحديث قوله: ((آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار)) فحفظ القرآن، وتلاوته، والقيام به، وكل ذلك عمل الإنسان، وهو مخلوق، وأما القرآن المحفوظ في الصدور، والمتلو المقوم به فهو كلام الله – جل وعلا -. 154- قال: ((حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)) . هذا الحديث كالذي قبله، فنكتفي بما تقدم. *********** قال: ((باب قول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . قال الكرماني: ((لا بد في الرسالة من ثلاثة أمور: المرسل، والمرسل إليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 والرسول، ولكل منهم أمر، للمرسل الإرسال، وللرسول التبليغ، وللمرسل إليه القبول والتسليم)) (1) . قلت: بقي أمر رابع، وهو الرسالة التي يرسل بها الرسول، وهي أوامر الله ونواهيه وحكمه لمن أرسل إليهم، أما الإرسال فهو تكليف الرسول بالرسالة، واكتفى عن ذلك بقوله: ((وللمرسل إليه القبول والتسليم)) ؛ لأن القبول والتسليم يكون للرسالة. قال ابن جرير: ((أمر الله نبيه بإبلاغ أهل الكتاب والمشركين ما أنزل الله عليه فيهم، من معايبهم، وما أمرهم به، ونهاهم عنه، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه بمكروه إذا قام فيهم بأمر الله، وأن لا يتقي إلا الله، فإنه كافيه كل أحد، ودافع عنه كل مكروه. وأعلمه أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزله إليه فيهم فهو من عظيم ما ارتكب من الذنب، بمنزلة ما لو لم يبلغ من الرسالة شيئا)) ثم روى عن ابن عباس: ((إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك لم تبلغ رسالاتي)) (2) . ومقصوده بهذا الباب: أن إبلاغ الرسالة من الرسول فعل له يثيبه الله عليه، وأن الكلام الذي جاء به يبلغه صفة لربه، وأنه ليس فيما بلغه ما يدل على قول الذين يقولون بخلقه، أو خلق شيء منه. قال في ((خلق أفعال العباد)) ، بعد ما ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) . فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإبلاغ منه، وأن كلام الله من ربه، ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ما وصفنا، وهم   (1) ((شرح الكرماني)) للبخاري (25/221) . (2) ((تفسير الطبري)) (10/467) ملخصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 الذين أدوا الكتاب والسنة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – قرنا بعد قرن)) (1) . يعني: أنه ليس فيما بلغه النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء مما يقوله الجهمية وأشباههم. وقال: ((ما جاء في قول الله – عز وجل -: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – ((بلغوا عني ولو آية)) ، ((وليبلغ الشاهد الغائب)) ، وأن الوحي قد انقطع، ثم ذكر حديث عائشة ((من زعم أن محمداً كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . وقال صالح: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} (2) ، وقال شعيب: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} (3) ، وقال تعال: {لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغُواْ رِسَالاتِ رَبّهِم} (4) . فبين أن الرسالة من الله، والإبلاغ من الرسل، ثم روى خطبته - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، وفيها: ((اللهم هل بلغت؟ فليبغ الشاهد الغائب، ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) . وقال ابن عباس: ((والذي نفسي بيده إنها الوصية إلى أمته)) . وروي عنه أيضا قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولكن بعثني الله إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص60) . (2) الآية 79 من سورة الأعراف. (3) الآية 93 من سورة الأعراف. (4) الآية 28 من سورة الجن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه إليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم)) (1) . وذكر أحاديث في هذا المعنى. وقال أيضاً: ((وقال الله – عز وجل -: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} فذلك كله مما أمر به، ولذلك قال: ((وأقيموا الصلاة)) فالصلاة بجملتها طاعة الله، وقراءة القرآن من جملة الصلاة، فالصلاة طاعة الله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ وحفظ وكتب ليس بمخلوق. ومن الدليل عليه أن الناس يكتبون ((الله)) ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه. والخالق الله بصفته. ويقال له: أترى القرآن في المصحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى، وهذا رد لقول الله – تعالى - {لا تُدرِكُهُ الأَبصَارُ} في الدنيا {وَهُوَ يَدرِكُ الأَبصَارَ} . وإن قال: يرى كتابة القرآن، فقد رجع إلى الحق. ويقال له: هل تدرك الأبصار إلا اللون؟ فإن قال: لا (2) . قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى)) (3) . وقال أيضاً: ((قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص125-138) . (2) أي: اعتراف بأن الأبصار لا تدرك إلا اللون. (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص115-116) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، فذكر إبلاغ ما أنزل إليه، ثم ذكر فعل تبليغ الرسالة، فقال: ((إن لم تفعل فما بلغت رسالته)) فسمى تبليغه الرسالة وتركه فعلاً. فلا يمكن لأحد أن يقول على الرسول: ((إنه لم يفعل ما أمر به من الرسالة)) . ثم روى عن ابن عباس، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خطب الناس يوم النحر ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: ((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) . قال ابن عباس: والذي نفسي بيده إنها الوصية إلى أمته، فليبلغ الشاهد الغائب. وذكر حديث أبي الأحوص، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((وأتتني رسالة من ربي، فضقت بها ذرعاً، ورأيت أن الناس سيكذبونني، فقيل لي: لتفعلن، أو لنفعلن بك)) (1) يعني: أنه إذا بلغ فقد فعل ما أمر به، وتلاوته ما أنزل عليه من تبليغه، وذلك فعله. ومقصوده من الآية: أن تبليغ الرسالة، وعدمه، كلاهما فعل للعبد وهو مخلوق، والرسالة هي أمر المرسل، ونهيه وقوله، وهو الله – تعالى -، وذلك ليس بمخلوق. وقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} أي: تفعل التبليغ لعموم ما أنزله الله إليك، ولا تذر منه شيئاً، وهذا يدل على بطلان ما لم يبلغه من الأعمال، والاعتقادات وغيرها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بلغ كل ما أنزله الله عليه. وقال الحافظ: ((احتج أحمد بهذه الآية على أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه   (1) المرجع نفسه (75-76) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 لم يرد في شيء من القرآن، ولا من الأحاديث أنه مخلوق، ولا ما يدل على ذلك. وذكر عن الحسن البصري أنه قال: ((لو كان ما يقول الجعد (1) حقا لبلغه النبي – صلى الله عليه وسلم -)) (2) . قوله: ((وقال الزهري: من الله – عز وجل – الرسالة، وعلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – البلاغ، وعلينا التسليم)) . يعني: أن الرسالة من الله أمراً وقولاً له، وذلك مما يضاف إليه فعلاً ووصفاً، وعلى الرسول البلاغ، وهو: إيصال أمر الله وقوله إلى الناس، وإفهامهم إياه، وأمرهم بقبوله، وترغيبهم على ذلك، وتخويفهم من عذاب الله إن لم يقبلوا رسالاته ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، وهذا عمل الرسول، وفعله الذي يثيبه الله عليه، أو يعاقبه على تركه. ((وعلينا التسليم)) أي: التسليم للرسالة بقبولها والانقياد لها، وعدم المعارضة، والعمل بفعل المأمور، واجتناب المحظور، وهذا فعل العباد الذي عليه يترتب الثواب، أو العقاب عند المخالفة. قال الحافظ: ((أخرجه الحميدي في النوادر، ومن طريقه الخطيب (3) قال الحميدي: ((حدثنا سفيان، قال: قال رجل للزهري: يا أبا بكر، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من شق الجيوب)) ما معناه؟ فقال الزهري: من الله العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)) . وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الأدب)) (4) ، ورواه ابن أبي عاصم في الزهد، ولفظه: ((أخبرنا دحيم، أخبرنا   (1) هو: الجعد بن درهم، أول من أنكر صفات الله – تعالى – ومحبته لعباده، فقتله خالد بن عبد الله القسري، أحد قواد بني أمية سنة (32) . (2) في ((الجامع)) . (3) في ((الجامع)) . (4) ((الفتح)) (13/504) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمه، عن أبي هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) قال الأوزاعي: قلت للزهري: يا أبا بكر، ما هذا الحديث؟ قال: فقال: من الله العلم، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)) (1) . قوله: ((وقال: {لِيَعلَمَ أَن قَد أَبلَغُواْ رِسَالاتِ رَبّهِم} . قال ابن الجوزي: فيه خمسة أقوال: أحداها: ليعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – أن جبريل قد بلغ إليه، قاله ابن جبير. الثاني: ليعلم محمد - صلى الله عليه وسلم – أن الرسل قبله قد بلغوا رسالات ربهم، وأن الله قد حفظهم، ودفع عنهم، قاله قتادة (2) . الثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد. الرابع: ليعلم الله – عز وجل – ذلك موجودا ظاهرا يجب به الثواب، فهو كقوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} (3) . الخامس: ليعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج (4) . قلت: هذا بمعنى الأول، ومعناه: ليعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – أن الملائكة التي تنزل بالوحي، أو يحرسون من ينزل به من استراق الشياطين، أنهم جاءوا بما أرسلوا به كاملاً.   (1) ((كتاب الزهد)) لابن أبي عاصم (ص33-34) . (2) اختار هذا القول ابن جرير. (3) الآية 142 من سورة آل عمران. (4) ((زاد المسير)) (8/386) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 والقول الثاني هو الأولى، والأقرب، ويليه الرابع، ولكن وجوب الثواب وجوب تفضل وكرم من الله – تعالى -، والقول الثالث داخل في معنى الآية، فإن الله – تعالى – يؤيد رسله بالآيات الدالة على صدقهم، حتى يتيقن قومهم صدقهم. والمراد من الآية هو ما دلت عليه الآية الأولى، فإن الرسل لهم أفعالهم وأعمال يعملونها، وتطلب منهم، وتضاف إليهم على أنها أعمالهم حقيقة، ولا تشتبه أعمالهم وأفعالهم بأفعال الله وأوصافه تعالى. قوله: ((وقال تعالى: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} . المراد منها ظاهر مما سبق قبلها، كما أوضحناه. قوله: ((وقال كعب بن مالك حين تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} . قال الحافظ: تقدم هذا مسنداً في تفسير براءة في حديثه الطويل، وفي آخره. قال الله – تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ومراد البخاري: تسمية ذلك عملاً (1) . قال الكرماني: ((ومناسبته للترجمة: التفويض، والانقياد، والتسليم، ولا ينبغي لأحد أن يزكي عمله، بل يفوض إلى الله سبحانه وتعالى)) (2) . قال بعض المتأخرين: موضع احتجاج البخاري: ((وقال كعب حين تخلف)) ؛ لأن القول والتخلف فعل كعب)) وهذا غير صحيح؛ لأنه لا خصوص لقول   (1) ((الفتح)) (13/504) . (2) ((شرح الكرماني)) (25 /) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 كعب، بل مثل كل قول، وإنما احتج بقوله: {فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونُ} فهو نص في أن لهم عملاً يجازون عليه بالثواب أو العقاب. قوله: ((وقالت عائشة: إذا أعجبك حسن عمل امرئ فقل: {فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُونُ} ، ولا يستخفنك أحد)) . مقصوده: أن العمل يضاف إلى العامل فعلاً له، مثل الصلاة، والقراءة، والصوم، والحفظ، وهو مخلوق؛ لأنه عمل مخلوق. أما الأمر بالصلاة والصوم فهو من الله، وليس بمخلوق. وكذا القراءة هي فعل القارئ وفعله مخلوق، وما يقرؤه ليس مخلوقاً، بل هو كلام الله تعالى. ومعنى قولها: ((ولا يستخفنك أحد)) أي: لا تغتر بعمل أحد يظهر لك منه الخير والصلاح، فتثني وتمدح، فإنه عرضة للانتكاس، ما لم تره واقفاً عند حدود الشرع، متأسياً بالأبرار، متبعاً لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. وقد روى المؤلف هذا الأثر مبسوطاً في كتابه: ((خلق أفعال العباد)) ، حيث قال: ((حدثني يحيى بن بكير، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة – رضي الله عنهما -، وذكرت الذي كان من شأن عثمان بن عفان: ((وددت أني كنت نسياً منسياً، فوالله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا وقد انتهك مني مثله، حتى والله لو أحببت قتله، لقتلت، يا عبيد الله بن عدي، لا يغرنك أحد بعد الذي تعلم، فوالله ما احتقرت أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى تهجم النفر الذين طعنوا في عثمان، فقالوا قولاً لا يحسن مثله، وقرءوا قراءة لا يحسن مثلها، وصلوا صلاة لا يصلى مثلها، فلما تدبرت الصنيع إذ هم والله ما يقاربون أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 فإذا أعجبك حسن قول امرئ فقل: {اعمَلُواْ فَسَيَرَىَ اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فلا يستخفنك أحد)) (1) . يعني أن أولئك الخوارج كانوا يجتهدون اجتهاداً في العبادة ما اجتهده أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم يرتكبون العظائم والجرائم، وهذا بمعنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – في وصفهم: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصومه مع صومهم)) . قال الحافظ: ((وأخرجه ابن أبي حاتم، من رواية يونس بن أبي يزيد، عن الزهري، أخبرني عروة، أن عائشة كانت تقول: ((احتقرت أعمال أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – حين نجم القراء الذين طعنوا على عثمان ... فذكر نحوه، وفيه: ((فوالله ما يقاربون عمل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا أعجبك حسن عمل امرئ منهم فقل: اعملوا)) الخ (2) . والمراد بالقراء: الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان، وأنكروا عليه أشياء الحق فيها معه، وبعضها هو معذور فيها، فاقتحموا عليه بيته فقتلوه، وفتحوا بذلك على الأمة فتنة لا تزال الأمة تصلى نارها. قوله: ((وقال معمر: {ذَلِكَ الكِتابُ} هذا القرآن، {هُدَى للِمُتَّقِينَ} بيان ودلالة، كقوله تعالى: {َ ذَلِكُم حُكمُ اللهِ} هذا حكم الله {لاَ رَيبَ فِيهِ} لا شك. {تِلكَ أَياتُ اللهِ} يعني: هذه أعلام القرآن، ومثله: {حَتَى إِذا كُنتُم فيِ الفُلكِ وَجَرَينَ بِهمِ} يعني: بكم)) . معمر هو: ابن المثنى، أبو عبيدة، قال الحافظ: ((ومناسبة الآية لما تقدم،   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص56) . (2) ((الفتح)) (13/505) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 من جهة أن الهداية نوع من التبليغ)) (1) يعني: الهداية المضافة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مثل قوله تعالى: {وَإِنَكَ لَتَهدِي إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ} . وأقول: يجوز أنه أراد: أن الهدى في القرآن، وما خالفه فهو ضلال. وأن المتقين إذا حصل بينهم خلاف يرجعون إلى القرآن، فيحصلون على الهدى، وقد أوضح الله – تعالى – في القرآن أن أعمال العباد مخلوقة، فمن خالف ذلك ضل في هذه المسألة، كما أن هذا القرآن مما جاءنا به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبلغنا إياه. ولهذا قال في ((تفسيره)) : ((بيان ودلالة)) أي: مبين للحق، ودال عليه، كما أنه مبين للباطل، ومحذر منه. قوله: {ذَلِكَ الكِتابُ} ، يعني: هذا الكتاب الذي بين أيديكم تقرءونه، فيه الهدى لمن اتبعه واتقى، وبين أن الإشارة المستعملة للبعيد، قصد بها القريب، على خلاف المعتاد فيها. وبين أن هذا يستعمل أحياناً، فمثل له بقوله: {ذَلِكُم حُكمُ الله ِ} أي: هذا حكم الله الذي حكم به بينكم. ثم فسر قوله: {لاَ رَيبَ فِيهِ} بأنه: لا شك فيه، أي: في هدايته ودلالته على الحق، فمن اهتدى به فهو المهتدي، ومن جانبه وترك ما دل عليه فهو الضال. ثم ذكر ما هو نظير ذلك في الإشارة إلى البعيد، والمراد القريب، وهو قوله تعالى: {تِلكَ أَياتُ اللهِ} قال: يعني: هذه أعلام القرآن، أي: دلائله وبيناته الدالة على الصراط المستقيم، وهي الفارقة بين الحق والباطل، ثم قال:   (1) ((الفتح)) (13/506) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 ((ومثله)) أي: ومثل هذا الاستعمال بالإشارة إلى القريب بما هو للبعيد. قوله تعالى: {حَتَى إِذا كُنتُم فيِ الفُلكِ وَجَرَينَ بِهمِ} يعني: بكم، أي: أن الضمير الذي جعل للغائب، قصد به في هذه الآية الحاضر، فيكون مثل الإشارة للقريب بما هو موضوع للبعيد، وهذا سائغ في اللغة. وعلماء البلاغة يقولون: إذا خرج اللفظ عما وضع له، فمقصود به نكتة بيانية، فالإشارة التي للبعيد إذا استعملت للقريب، دل على علو مكانة المشار إليه ورفعته. قوله: ((وقال أنس: بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – خاله حراما إلى قوم. وقال أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ فجعل يحدثهم)) . هذا طرف من حديث أخرجه في عدة أماكن من كتابه الصحيح، منها في الجهاد في أبواب متعددة، وفي أحدها قال: ((بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – أقواما من بني سليم إلى بني عامر، في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم فأمنوه، فبينما يحدثهم عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلاً أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل – عليه السلام – النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم، وأرضاهم، فكنا نقرأ: بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا، ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحاً، على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وبني عصية، الذين عصوا الله ورسوله)) (1) .   (1) انظر ((البخاري)) (4/22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 والمقصود أن تبليغ الرسالة عمل الرسول، ونقل قول المرسل إلى المرسل إليه، فلذلك قال: ((أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فجعل يحدثهم)) . فحديثه إياهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو إبلاغهم الرسالة، وهو ما فيه أمره ونهيه مما هو شرع لله الذي كلف العباد به. والله – تعالى – كلف رسله إبلاغ قومهم، وعلى ذلك يجزيهم ما يستحقون من الأجر، والجزاء يكون على عمل العامل. 155 – قال: ((حدثنا الفضل بن يعقوب، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا المعتمر بن سليمان، حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي، حدثنا بكر بن عبد الله المزني، وزياد بن جبير بن حية، عن جبير بن حية، قال المغيرة: أخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن رسالة ربنا، أنه من قتل منا صار إلى الجنة)) . هذا قطعة من حديث طويل يخاطب به المغيرة بن شعبه – رضي الله عنه – ترجمان عامل كسرى، لما سأله: ما أنتم؟ قال: ((نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين – تعالى ذكره وجلت عظمته – إلينا نبياً من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا، رسول ربنا أن نقاتلكم، حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة، في نعيم لم ير مثلها، ومن بقي منا ملك رقابكم)) (1) . والمقصود قوله: ((أخبرنا نبينا عن رسالة ربنا)) فهذا من الإبلاغ الذي   (1) انظر ((الصحيح)) (4/118) باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 أبلغهم، وكل ما أخبرهم به من أمر، أو نهي، أو وعد، أو وعيد، أو قصص، عن الأنبياء وأممهم، أو غيرهم، وغير ذلك، فإنه من إبلاغ الرسالة التي أرسل بها. ودل قوله: ((عن رسالة ربنا)) أن الرسالة تكون بالكلام الذي يخاطب به المرسل الرسول، وإبلاغ المرسل إليهم ذلك الكلام هو إبلاغ الرسالة، وإبلاغ الرسالة فعل الرسول وقوله وعمله، وهو غير الرسالة، وهو مخلوق. فالرسالة قول المرسل، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وإخباره عن جزائه وغير ذلك، وهذا ليس فعلاً للرسول، بل كلام الله بأمره ونهيه. ***** 156- قال: ((حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: من حدثك أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – كتم شيئاً. - وقال محمد: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: من حدثك أن النبي - صلى الله عليه وسلم – كتم شيئاً من الوحي، فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} . هذا الحديث تقدم بعضه في باب قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيبِ} . وقولها: ((فلا تصدقه)) يعني: أن من زعم ذلك فهو كاذب، ولا يكفي أنه لا يصدق، بل لا يصح إسلامه، ويجب تعريفه أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلغ رسالة ربه فإن اعترف بذلك وآمن به وإلا قتل مرتداً. ومقصودها – رضي الله عنها -: أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بلغ جميع ما يلزم الأمة في دينها، وما يصلحها وينفعها، ولم يترك شيئاً مما ينبغي العمل به أو علمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 واعتقاده إلا وأخبر به وبلغه كما أمر. فكل ما لم يخبر به أو يأمر به أمته فليس من رسالته، وهو بدعة منكرة. فيجب الوقوف مع ما جاء به من الكتاب والسنة، ولا بد أنه - صلى الله عليه وسلم - امتثل ما أمره الله به من إبلاغ الرسالة قولاً وعملاً، فبلغها على الوجه الأتم الأكمل. وسبق أن إبلاغ الرسالة من فعله وقوله وعمله، وفعله وعمله مخلوق، فلا يلتبس ذلك بقول الله وكلامه الذي هو الرسالة، فهذا صفة الله، والإبلاغ فعل الرسول، وهذا التفريق هو ما قصده الإمام البخاري – رحمه الله -. ***** 157- قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، قال: قال عبد الله: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله تعالى؟ قال: أن تدعو لله ندا وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزني حليلة جارك. فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} الآية. تقدم الكلام على هذا الحديث، ومقصوده هنا أن ما بلغه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمته، سواء كان من قوله الذي هو سنته، أو مما أنزله الله عليه قولاً لله – تعالى -، فإن ذلك كله من تبليغ الرسالة، فحين أخبر السائل بما هو أعظم الذنوب، أنزل الله عليه تصديق ما قاله من كلام الله الذي تعبد عباده بتلاوته، مع أنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما عن الوحي الذي يوحيه الله إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 قال الحافظ (1) : ((مناسبة هذا الحديث للترجمة أن التبليغ على نوعين: أحدهما – وهو الأصل -: أن يبلغه بعينه، وهو خاص بما يتعبد بتلاوته، وهو القرآن. وثانيهما: أن يبلغ ما يستنبط من أصول ما تقدم إنزاله، فينزل عليه موافقته فيما استنبطه، إما بنصه، وإما بما يدل على موافقته بطريق الأولى، كهذه الآية، فإنها اشتملت على الوعيد الشديد في حق من أشرك، وهي مطابقة للنص، وفي حق من قتل النفس بغير حق وهي مطابقة للحديث بطريق الأولى، لأن القتل بغير حق وإن كان عظيماً، لكن قتل الولد أشد قبحاً من قتل من ليس بولد القاتل، وكذا القول في الزناة، فإن الزنا بحليلة الجار أعظم قبحاً من مطلق الزنا. ويحتمل أن يكون نزول هذه الآية سابقا على إخباره - صلى الله عليه وسلم - بما أخبر به، لكن لم يسمعها الصحابي إلا بعد ذلك. ويحتمل أن يكون كل من الأمور الثلاثة (2) نزل تعظيم الإثم فيه سابقاً، ولكن اختصت هذه الآية بمجموع الثلاثة في سياق واحد مع الاقتصار عليها، فيكون المراد بالتصديق: الموافقة في الاقتصار عليها. فعلى هذا فمطابقة الحديث للترجمة ظاهرة جداً، والله أعلم (3) ((واستدل أبو المظفر ابن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض، وقالوا: الجسم: ما اجتمع من الافتراق، والجوهر: ما حمل العرض، والعرض: ما لا يقوم   (1) أصل الكلام للكرماني: انظر شرحه (25/224) ، ولكن الحافظ تصرف فيه. (2) يعني المذكور في الحديث، وهي الشرك، وقتل الولد خشية الفقر، والزنا بحليلة الجار. (3) ((الفتح)) (13/507) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 بنفسه، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا الأخبار في خلق الروح قبل الجسد، والعقل قبل الخلق (1) ، واعتمدوا على حدسهم، وما يؤدي إليه نظرهم، ثم يعرضون عليه النصوص، فما وافقه قبلوه، وما خالفه ردوه، ثم ساق الآيات ونظائرها مما فيه الأمر بالتبليغ. قال: وكان مما أمر بتبليغه التوحيد، بل هو أصل ما أمر به، فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله، وقواعده، وشرائعه إلا بلغه، ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه. فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، بطريق محدث مخترع، لم يكن عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا أصحابه – رضي الله عنهم -. ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن، والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق. فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاكتراث بمقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاماً يوازيه، أو يقاربه، فكل بكل مقابل، وبعض ببعض معارض، وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقهم أنا إذا جربنا على ماقالوه، وألزمنا الناس بما ذكروه، لزم من ذلك تكفير العوام جميعاً؛ لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد. ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم، فضلاً عن أن يصير منهم صاحب نظر.   (1) لم يصح بذلك خبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، بل الأخبار تدل على نقيضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 وإنما غاية توحيدهم: التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين والعض عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات، وملازمة الأذكار، بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك. فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه، ولو قطعوا إرباً إرباً، فهنيئاً لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة. فإذا كفر هؤلاء، وهم السواد الأعظم، وجمهور الأمة، فما هذا إلا طي بساط الإسلام، وهدم منار الدين، والله المستعان)) (1) . وتقدم بعض ما يتعلق بذلك في أول الكتاب. ***** قال: ((باب قول الله تعالى: {قُل فَأتُواْ بِالتَورَاةِ فَاتَلُوهَا} . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطي أهل التوراة، التوراة، فعملوا بها، وأعطي أهل الإنجيل، الإنجيل، فعملوا به، وأعطيتم القرآن، فعملتم به)) . قال الحافظ: ((مراده بهذه الترجمة: أن يبين أن المراد بالتلاوة: القراءة، وقد فسرت التلاوة بالعمل، والعمل من فعل العامل)) (2) . أقول: مراده: بيان أن التلاوة والقراءة فعل العباد، وأن المتلو غير التلاوة، والمقروء غير القراءة، كما سبق بيانه. وهو ينوع الأدلة على ذلك ويكررها؛ ليتضح الأمر، ويتبين الحق؛ لأنه - رحمه الله - قد ابتلي بمن يقول: التلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء،   (1) ((الفتح)) (13/507) . (2) ((الفتح)) (13/508) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وذلك غير مخلوق، ورمي بأنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد صرح بأن ذلك كذب عليه. قال شيخ الإسلام: (إذا قرأ الناس كلام الله، فالكلام في نفسه غير مخلوق إذا كان الله قد تكلم به، وإذا قرأه المبلغ لم يخرج بذلك عن كونه كلام الله، فإن الكلام كلام من قاله مبتدئاً، أمراً يأمر به، أو خبراً يخبره، وليس هو كلام المبلغ له عن غيره، إذ ليس على الرسول إلا البلاغ المبين. وإذا قرأه المبلغ فقد يشار إليه من حيث هو كلام الله، فيقال: هذا كلام الله، مع قطع النظر عما بلغه به العباد من صفاتهم، وقد يشار إلى نفس صفة العبد، كحركته، وصوته، وقد يشار إليهما. فالمشار إليه الأول غير مخلوق؛ لأنه كلام الله، والمشار إليه الثاني مخلوق، لأنه صفة العبد، والمشار إليه الثالث ومنه ما هو مخلوق، ومنه ما ليس بمخلوق. وما يوجد في كلام الآدميين من نظير هذا، هو نظير صفة العبد، لا نظير صفة الرب. وإذا قال قائل: القاف في قوله تعالى: {وَأقِم الصَّلاةَ لِذِكرِي} كالقاف في قول الشاعر ((قفا نبك من ذكرى حبيب؟)) . قيل: ما تكلم الله به، وسمع منه، لا يماثل صفة المخلوقين. ولكن إذا بلغنا كلام الله، فإنما نبلغه بصفاتنا، وصفاتنا مخلوقة، والمخلوق يماثل المخلوق. وكلام المتكلم في نفسه واحد، فإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم به، فإذا أنشد منشد قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه، مع أن أصوات المنشدين له تختلف، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 وكذلك من روى حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – بلفظه، كقوله: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) كان هذا كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لفظه ومعناه، ويقال لمن رواه: أدى الحديث بلفظه، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول. فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم. ولهذا قال الإمام أحمد، وغيره من أئمة السنة: من قال: اللفظ بالقرآن – أو لفظي بالقرآن – مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع؛ لأن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظاً، وذلك فعل العبد، ويراد به القول الذي يلفظ به اللافظ، وذلك كلام الله، لا كلام القارئ، فمن قال: إنه مخلوق فقد قال: إن الله لم يتكلم بهذا القرآن، وإن هذا الذي يقرأه المسلمون ليس هو كلام الله. ومعلوم أن هذا مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول. وأما صوت العبد فهو مخلوق، وقد صرح أحمد وغيره أن الصوت المسموع صوت العبد، ولم يقل قط: إن من قال: صوتي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وإنما قال: من قال: لفظي بالقرآن، والفرق بينهما واضح. والفرق بين لفظ الكلام وصوت مبلغه فرق واضح. فكل من بلغ كلام غيره بلفظ ذلك الغير، فإنما بلغ لفظ ذلك الغير لا لفظ نفسه، وهو إنما بلغه بصوت نفسه، لا بصوت ذلك الغير. واللفظ، والقراءة، والتلاوة، والكتابة، ونحو ذلك، لما كان يراد به المصدر الذي هو حركات العباد، وما يحدث عنها من أصواتهم، وشكل المداد، ويراد به نفس الكلام الذي يقرأه التالي، ويتلوه، ويلفظ به، ويكتبه، منع أحمد وغيره من إطلاق النفي والإثبات الذي يقتضي جعل صفات الله مخلوقة، أو جعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 صفات العباد ومدادهم غير مخلوق)) (1) . ومما يدل على أن التلاوة فعل التالي، وأنها غير المتلو: قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {91} وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} (2) ، أي: وأمرت أن أتلو القرآن. وقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} (3) وغير ذلك من الآيات، فقد أمر الله عبده ورسوله بالتلاوة، كما أمره بالعبادة، فدل ذلك على أن التلاوة من العبادة التي يفعلها العبد، وتضاف إليه فعلاً له، ويثاب عليها، والأدلة على أن التلاوة غير المتلو كثيرة، قد ذكر المؤلف – رحمه الله – جملة كبيرة منها في كتابه: ((خلق أفعال العباد)) بالإضافة إلى ما ذكره في هذا الكتاب. فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((زينوا القرآن بأصواتكم (4) وتقدم. وحديث البراء عن عازب: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً، أو قراءة منه)) . فالقارئ يكون حسن الصوت وقبيح الصوت؛ لأنه فعله، وقد جعل الله اختلاف ألسنة الناس وألوانهم من الآيات الدالة عليه – تعالى – وعلى وجوب عبادته وحده، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يجوز الحلف بكلام أحد من الخلق؛ لأنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، وكلامهم مخلوق. قال البخاري – رحمه الله تعالى -: ((وليس لأحد أن يحلف بالمخلوقين، ولا بأعمالهم ولا بكلامهم، ولا كلام الكفار والمنافقين، ولا بقول إبليس.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/71-75) ملخصاً. (2) الآيتان 91، 92 من سورة النمل. (3) الآية 27 من سورة الكهف. (4) رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) (ص159-160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 فمن حلف بقول المجوس أو نحوهم لم يلزمه حنث. وإنما يذكر عن ابن مسعود، وإبراهيم، وعن النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلاً: ((من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة)) فأما أصوات المخلوقين فليس فيها كفارة)) (1) . وقال: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: كان في خاتم رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((محمد رسول الله)) . وقد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – كتاباً فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر، على قيصر وأصحابه. ولا نشك في قراءة الكفار، وأهل الكتاب، أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله العزيز المنان، ليس بمخلوق، فمن حلف بأصوات قيصر، وبنداء المشركين الذين يقرون بالله، لم يكن عليه يمين دون الحلف بالله؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحلفوا بغير الله)) . وليس لأحد أن يحلف بالخواتيم، والدراهم البيض (2) ، وألواح الصبيان التي يكتبونها، ثم يمحونها مرة بعد مرة، وإن حلف، فلا يمين عليه؛ لقوله عز وجل: {فَلاَ تَجْعلُواْ للهِ أَندَاداً} (3) . وقال: ((فإن احتج محتج فقال: قد روي ((إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)) . قيل له: لو صح هذا الخبر لم يكن لك فيه حجة؛ لأنه قال: ((كلام الله)) ، ولم يقل: قول العباد المؤمنين والمنافقين، وأهل الكتاب، الذين يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا واضح بيَّن عند من كان عنده أدنى معرفة، أن القرآن غير المقروء.   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص196) عقائد السلف. (2) يعني: التي كتب عليها اسم الله أو شيء من القرآن. (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص197) عقائد السلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وليس لكلام الفجرة وغيرهم فضل على كلام غيرهم، كفضل الخالق على المخلوق، وتبارك ربنا وتعالى وعز وجل عن صفة المخلوقين. وإن قال قائل: فقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) . قيل له: أليس القرآن خرج منه، فخروجه منه ليس كخروجه منك، إن كنت تفهم، مع أن هذا الخبر لا يصح؛ لإرساله وانقطاعه. فإن قال: فإن لم يكن الذي يتكلم به العبد قرآناً، لِمَ تُجْزِهِ صلاته؟ قيل له: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاة إلا بقراءة)) . وقال أبو الدرداء: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أفي كل صلاة قراءة؟ فقال: ((نعم)) . والقراءة هي التلاوة، والتلاوة غير المتلو، وقد بينه أبو هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اقرءوا إن شئتم، يقول العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) فيقول الله: حمدني عبدي، يقول العبد: ((الرحمن الرحيم)) يقول الله – عز وجل -: ((أثنى عليّ عبدي)) ، يقول العبد: ((مالك يوم الدين)) يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: ((إياك نعبد وإياك نستعين)) ، يقول الله: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)) . فبيَّن أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة. وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) . فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعض الصلاة أطول من بعض، وأخف، وأن بعضهم يزيد على بعض في القراءة، وبعضهم ينقص، وليس في القرآن زيادة ولا نقصان، وأما التلاوة فإنهم يتفاضلون في الكثرة والقلة، والزيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 والنقصان، وقد يقال: فلان حسن القراءة، أو رديء القراءة، ولا يقال حسن القرآن، أو رديء القرآن، وإنما نسب إلى العباد القراءة، لا القرآن؛ لأن القرآن كلام الله – عز وجل -، والقراءة فعل العبد، ولا يخفي هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه (1) . قال: ((وأما قوله: ((فهل يرجع إلى الله إلا باللفظ الذي تلفظ به)) (2) فإن كان الذي تلفظ به قرآناً فهو كلام الله؟ قيل له: ما قولك: تلفظ به؟ فإن اللفظ غير الذي تلفظ به؛ لأنك تلفظت بالله، وليس الله هو لفظك، وكذلك تلفظ بصفة الله، تقول: الله، وليس قولك: الله، هو الصفة، وإنما تصف الموصوف، فأنت الواصف، والله الموصوف بكلامه، كالواصف الذي يصف بكلام غير الله، وأما الموصوف بصفته وكلامه فهو الله)) (3) . يعني: أن الذي يقرأ كلام الله، فما يلفظ به هو كلام الله، وليس هو كلام القارئ، وإنما للقارئ حركة لسانه وشفتيه وصوته، وذلك فعله. وإذا قرأ صفة الله في القرآن التي وصف الله بها نفسه، فليس القارئ هو الواصف لله – تعالى – وإنما يتلفظ بصفة الله التي قالها الله – تعالى – واصفاً بها نفسه. ((قال الضحاك: لم يحرم الله على بني إسرائيل طعاماً، وإنما حرموه على أنفسهم اتباعاً لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه لله – عز وجل – فكذبهم الله – تعالى – فقال: {قُل فَأتُواْ بِالتَورَاةِ} أي: قل يا محمد لهم: ائتوا بالتوراة، التي فيها التحريم والتحليل {فَاتَلُوهَا} أي: فاقرءوها؛ حتى يتبين   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص199-200) . (2) يعني المحتج بقول صلى الله عليه وسلم: ((إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه)) ، والعبد لا يرجع إلى الله إلا بعلمه، فيكون لفظه بالقرآن عمله. (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص204) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 ما قلتم، {إِن كُنتُم صَادِقينَ} ، فيما ادعيتم، فلم يأتوا بها؛ خوفاً من الفضيحة)) (1) فالتلاوة في هذه الآية هي القراءة، وهي فعل العبد وعمله، والمتلو كتاب الله وكلامه. قوله: ((وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أعطي أهل التوراة التوراة)) إلى آخره، معنى ((أعطي)) هنا: أنزل عليهم، أي: أنزل الله التوراة على موسى، فعمل بها قومه، باتباعها وتلاوتها للتفهم والتعبد. وأنزل الله الإنجيل على عيسى، فعمل به من شاء الله أن يعمل من النصارى بأن آمنوا به واتبعوه، وقرؤوه للفهم والعبادة ومثل ذلك أهل القرآن، ففي ذلك دليل على أن التلاوة من عمل العباد، وكسبهم، وأنها غير المتلو، كما تقدم إيضاح ذلك. قوله: ((وقال أبو رزين: يتلونه حق تلاوته: يعملون به حق عمله)) . أبو رزين هو: مسعود بن مالك الأسدي الكوفي، من كبار التابعين. ومعنى ذلك أن التلاوة، يراد بها القراءة كما سبق، ويراد بها الاتباع والعمل. قال الراغب: ((التلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة، تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي، وترغيب وترهيب وهو أخص من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة)) (2) .   (1) ((تفسير الخازن)) (1/382) . (2) ((المفردات)) (ص75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 وقال الأزهري: ((قال الليث: يقال: تلا يتلو، يعني: قرأ، قراءة، وتلا: إذا تبع، فهو تال، أي: تابع)) (1) . ((وقال أبو زيد في قوله – عز وجل -: {يَتلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتهِ} قال: يتبعونه حق اتباعه. وقال مجاهد: يعملون به حق عمله. وقال ابن عباس: يتبعونه حق اتباعه، فيعملون به حق عمله. وقال أبو عبيدة في قوله: {وَاتَّبعُواْ مَا تَتلُواْ الشَّياطِينُ} قال: ما تتكلم به، كقولك: يتلو فلان كتاب الله، أي: يقرؤه، ويتكلم به. وقال عطاء: {مَا تَتلُواْ الشَّياطِينُ} : ما تحدث، وما تقص)) (2) . فتبين بهذا أن التلاوة تطلق على القراءة، وعلى الاتباع، وإذا قيل: تلاه حق تلاوته، يكون المعنى: عمل به حق عمله، يعني: العمل الكامل والاتباع في كل ما جاء به. قوله: ((يقال: يتُلىَ: يُقرأ)) هذا تفسير لقوله تعالى: {أَنَّا أَنزَلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ يُتلَىَ عَلَيهِم} أي: يقرأ عليهم. قال ابن جرير: {يُتلَىَ عَلَيهِم} يقرأ عليهم، وذكر بسنده إلى يحيى بن جعدة أن ناساً من المسلمين، أتوا نبي الله – صلى الله عليه وسلم – بكتب قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر فيها ألقاها، ثم قال: ((كفى بها حماقة قوم – أو ضلالة قوم – أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، إلى قوم غيرهم)) فنزلت: {أَوَلَم يَكفِهم أَنَّا أَنزَلنَا عَلَيكَ الكِتَابَ يُتلَىَ عَلَيهِم   (1) ((تهذيب اللغة)) (14/316) . (2) المصدر المذكور (14/319) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 إِنَ فيِ ذَلِكَ لَرَحمَةً وَذِكرَى لِقَومٍ يُؤمِنُونَ} (1) . ومثل ذلك قوله تعالى: {وَيَستَفتُونَكَ فِي النِسَاءِ قُلِ اللهُ يُفتِيكُم فِيهِنَّ وَمَا يُتلَىَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النّسَاءِ} ، والذي يتلى عليهم هو آيات الفرائض من المواريث وغيرها. قال الحافظ: ((هذا الذي ذكر البخاري هو كلام أبي عبيدة في كتاب مجاز القرآن: {يُتلَىَ عَلَيهِم} يقرأ عليهم. وقوله: {وَمَا كُنتَ تَتلُواْ مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ} ما كنت تقرأ كتاباً قبل القرآن)) (2) . أقول: الآية التي ذكرها البخاري لم يتكلم عليها أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن، وهذه التي ذكرها غير تلك، فكيف يقال: إن ما ذكره البخاري هو كلام أبي عبيدة؟ وإن كان نظيراً له فليس هو (3) . قوله: ((حسن التلاوة: حسن القراءة للقرآن)) . يعني: أن التلاوة فعل العباد، وليس هي المتلو، ولهذا يوصف التالي بأنه حسن التلاوة، أو سيئها، ولا يجوز أن يوصف القرآن بذلك. قال البخاري – رحمه الله -: ((القراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) . وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الصلاة أفضل؟ قال: ((طول القنوت)) ثم ذكر ماتقدم قريباً (4) .   (1) ((تفسير الطبري)) (21/7) ، وقال السيوطي: أخرجه الدارمي، وأبو داود في المراسيل، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والإسماعيلي: انظر ((الدر المنثور)) (6/471) . (2) ((الفتح)) (13/509) . (3) انظر مجاز القرآن (2/116) . (4) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص166) تحقيق بدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 قوله: ((لا يمسه)) لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلا الموقن؛ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) يعني: أن الطهارة المذكورة في قوله - تعالى - {لاَّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} هي الطهارة من الشرك، والكفر، والغفلة والإعراض، ويتبع ذلك الذنوب. قال الفراء: ((ويقال: لا يمسه: لا يجد طعمه ونفعه إلا المطهرون، من آمن به)) (2) . ((وهذا من باب الاعتبار والقياس؛ لأنه إذا كان ورق المصحف لا يمسسه إلا المطهرون، فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة. ومثل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب)) فإذا كان الملك لا يدخل البيت الذي فيه كلب، فكذلك المعاني التي تحبها الملائكة لا تدخل القلب الذي فيه أخلاق الكلاب)) (3) . قال الحافظ: ((حاصل هذا التفسير، أن معنى: لا يمس القرآن: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، وأيقن بأنه من عند الله، فهو المطهر من الكفر، ولا يحمله بحقه إلا المطهر من الجهل والشك، لا الغافل عنه الذي لا يعمل [به] فيكون كالحمار الذي يحمل ما لا يدريه)) (4) . ((وعلى القول بأن المراد بقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ}   (1) الآية 5 من سورة الجمعة. (2) ((معاني القرآن)) (3/130) . (3) ((مجموع الفتاوى)) (5/551-552) بتصرف. (4) ((الفتح)) (13/509) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 هو اللوح المحفوظ، أو المصحف، فكما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فكذلك معاني القرآن لا يذوقها إلا القلب الطاهر، وهو قلب المتقي. وهذا قول طائفة من السلف)) (1) . ((والصحيح أنه يجب الوضوء لمس المصحف، وهو مذهب الأئمة الأربعة؛ لما في الكتاب الذي كتبه النبي – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم، وفيه ((وأن لا يمس القرآن إلا طاهر)) . وقال الإمام أحمد: لا شك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كتبه له. وهذا هو المعروف عن الصحابة، سعد، وسلمان، وابن عمر)) (2) . واختلف أقوال السلف في المراد بالكتاب، وبالمطهرين: فقيل: الكتاب هو: ما بأيدي الملائكة، كما في قوله تعالى: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ {13} مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ {14} بِأَيْدِي سَفَرَةٍ {15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ} ، وهذا اختيار الإمام مالك، فعلى هذا يكون المراد بالمطهرين: الملائكة. وقيل: المراد بالكتاب: المصحف الذي كتب فيه القرآن. وقال القرطبي: وهو الأظهر، واستدل بما في كتابه – صلى الله عليه وسلم – لعمرو بن حزم، وبحديث ابن عمر: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (لا تمس القرآن إلى وأنت طاهر)) وبقول أخت عمر له، لما دعا بالصحيفة قبل أن يسلم: ((لا يمسه إلا المطهرون)) (3) . وقال ابن كثير: ((وقال آخرون: {لاَّ يَمَسُهُ إِلا المُطَهَّرُونَ} من الجنابة والحدث، فلفظ الآية خبر، ومعناها الطلب)) . والمراد بالقرآن ها هنا: المصحف، كما روى مسلم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو)) . واحتجوا   (1) ((مجموع الفتاوى)) (13/242) . (2) المرجع قبله (21/288، 266) ببعض التصرف. (3) انظر تفسير القرطبي (17/225- 226) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 بما في كتاب عمرو بن حزم، وبما روى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري، قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ولا يمسن القرآن إلا طاهر)) . وهذه وجادة جيدة، ومثل هذا ينبغي الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني، عن عمرو بن حزم، وعبد الله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منها نظر)) (1) . ((قال ابن عبد البر: كتاب ابن حزم روي مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم، معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد)) (2) . قوله: ((وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم -: الإسلام والإيمان والصلاة: عملاً)) . قال الحافظ: ((أما تسمية الإسلام عملاً، فاستنبطه من حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وقال عن الإسلام: أن تسلم وجهك لله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)) الحديث. فسمى الإيمان، والإسلام، والصلاة بقراءتها، وما فيها من حركات الركوع والسجود فعلاً)) (3) . قلت: الظاهر أن مراده: ما ذكره في ((خلق أفعال العباد)) ، حيث قال: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟   (1) ((تفسير ابن كثير)) (8/22) ملخصاً. (2) انظر ((الموطأ)) (1/199) . (3) ((الفتح)) (13/509) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) ، ورواه في ((الصحيح)) من حديث أبي ذر، في العتق، في باب أي الرقاب أفضل، ورواه في كتاب الإيمان، باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقوله تعالى: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ} وفي أماكن أخر، وسيأتي في آخر الكتاب. وقال بعد ما ذكره في ((خلق أفعال العباد)) : ((فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان والتصديق، والجهاد، والخير، عملاً)) (1) . وهذا واضح جداً، ولم يختلف فيه أهل السنة، وهو دليل على أن القراءة ليست هي المقروء؛ لأنها من عمل القارئ الذين يؤجر عليه. وإذا ثبت أن الإيمان من عمل المؤمن، فمثله الإسلام؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جعل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. وأما كون الصلاة عملاً فهو ظاهر جداً. قوله: ((وقال أبو هريرة: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لبلال: ((أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام؟ قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر إلا صليت) . ذكر هذا الحديث بسنده موصولاً في مناقب بلال، ووجه الدلالة منه: أنه سمى الصلاة عملاً، مع ما فيها من القراءة والتكبير، والتسبيح والتحميد، وغير ذلك. قوله: ((وسئل: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد، ثم حج مبرور)) . تقدم قريباً، والاستدلال به واضح، فإنه جعل الإيمان والجهاد والحج عملاً. *****   (1) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص48-53) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 158- قال: ((حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهري، أخبرني سالم، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة، التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل، الإنجيل، فعملوا به حتى صليت العصر، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملا، وأكثر أجرا؟ قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. فقال: فهو فضلي أوتيه من أشاء)) . تقدم هذا الحديث في باب المشيئة والإرادة، ومعنى قوله: ((إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم)) أن بقاء هذه الأمة في الدنيا كنسبة ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بالنسبة لليوم. فالمعنى: أن مدة هذه الأمة بالنسبة إلى من سبقها من الأمم قليلة. وإذا كان مدة مجموع الأمة قليلة، لزم أن يكون عمر كل فرد منها قصيراً، وكأن الحديث قصد به الإخبار بقلة بقاء هذه الأمة في الدنيا، وبكثرة أجرها، وفضلها، ولذلك ضرب المثل لها ولأهل الكتاب؛ لأن اليهود والنصارى، وهذه الأمة كلهم أعطوا كتبا جاءتهم من الله ليعملوا بها، ورواية الترمذي توضح ذلك، ونصها: ((إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغارب الشمس، وإنما مثلكم، ومثل اليهود والنصارى، كرجل استعمل عمالاً، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط، فعملت اليهود على قيراط قيراط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 ثم أنتم تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر أعمالاً، وأقل عطاء؟ قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء)) هذا حديث حسن صحيح)) (1) . ففي هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن شيئين: أحدهما: مدة بقاء هذه الأمة في الدنيا بالنسبة لمن سبقها من الأمم، وأنه مثل نسبة ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بالنسبة لليوم الكامل. والثاني: مثل هذه الأمة، ومثل اليهود والنصارى، فعلى هذا لا يكون قوله: ((أوتي أهل التوراة)) إلى آخره شرح وتفصيل لما تقدم، كما قاله الحافظ، وإنما هو كلام مستأنف، أريد به بيان فضل هذه الأمة على اليهود والنصارى، وكثرة أجورها. قوله: ((أوتي أهل التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا)) كأنه أريد منهم أن يعلموا جميع النهار، ولهذا قال: ((ثم عجزوا)) أي: عن العمل بقية النهار. قوله: ((فأعطوا قيراطاً قيراطاً)) أي: كل فرد منهم أعطي قيراطاً. قوله: ((ثم أوتي أهل الإنجيل)) إلى آخره، مثل سابقه. ((ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس)) أي: أن هذه الأمة أكملت العمل الذي طلب من اليهود والنصارى فعجزوا عن أدائه، فلذلك أعطوا ضعفي ما أعطي من قبلهم من الأجر. ويفهم منه أن هذه الأمة يستمر عملها بالقرآن إلى قيام الساعة؛ لأنه   (1) ((جامع الترمذي)) (5/153) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 قال: ((فعملتم به حتى غربت الشمس)) ، كما يدل على حسد اليهود والنصارى للمسلمين على ما هم عليه من الحق، ويدل على عظم فضل الله على هذه الأمة. والمقصود منه في هذا الباب قوله: ((أوتي أهل التوراة) إلى آخره. فإنه يدل على أن العمل فعل العباد، ومن ذلك قراءة الكتاب الذي أوتوه، وتلاوته، وأن ما يعطيه الله العبد غير عمله، بل هو جزاء عمله. وكذلك الكتاب الذي آتاه الله اليهود والنصارى، والمسلمين ليس هو عملهم وتلاوتهم، فالذي أوتوه وحي أنزله الله على رسله إليهم، وعملهم به هو فعلهم من تلاوته، وامتثال أوامره، والانتهاء عن مناهيه. قال في ((خلق أفعال العباد)) : ((باب قول الله عز وجل: {فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَاَ إِن كُنتُم صَادِقِينَ} ، وقال تعالى: {وَمِن آيَاتِهِِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافُ أَلسِنتِكُم وَأَلوانِكُم} فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد، وقال تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّيِ عَمَليِ وَلَكُم عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعمَلُ وَأَنَا بَرِئٌ مِمَّا تَعمَلُونَ} . وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل)) . فبين أن قيامه بالكتاب هو فعله. وقال الله تعالى: {وَافعَلوُاْ الخَيرَ} . فأثبت الخير منهم فعلاً)) (1) . معنى: قيام العبد بالكتاب هو: فعل العبد الذي يجازى عليه، وليس هو الكتاب، وبهذا يتضح مراده بهذه النصوص. *****   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص195-197) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 قال: ((باب: وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة عملاً. وقال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) . يعني: أن الصلاة فعل من أفعال العباد، وفيها قراءة القرآن، وأقل ذلك قراءة الفاتحة؛ لأن الصلاة لا تصح بدون قراءة الفاتحة، فتبين بذلك أن القراءة ليست هي المقروء، وإنما هي عمل العبد وفعله وكسبه، فالقراءة من جملة الصلاة، وقد سمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة كلها عملاً. ***** 159- قال: ((حدثني سليمان، حدثنا شعبة، عن الوليد، وحدثني عباد بن يعقوب الأسدي، أخبرنا عباد بن العوام، عن الشيباني، عن الوليد بن العيزار، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله)) . الرجل السائل هو ابن مسعود كما صرح به في الرواية الأخرى. وهو يدل على حرص الصحابة على فعل الأفضل، وتحريهم الأعمال الفاضلة في التقديم؛ لأن عمر الإنسان قصير، وربما شغل عن كثير من العمل، وفي كثير من الأوقات. قال ابن دقيق العيد: ((سؤاله عن أفضل الأعمال طلبا لمعرفة ما ينبغي تقديمه، وحرصا على معرفة الأصل؛ ليتأكد القصد إليه، وتشتد المحافظة عليه، ولعله أراد بالأعمال هنا: الأعمال البدنية، كما قال الفقهاء: ((أفضل عبادات البدن: الصلاة)) ، فلا تكون أعمال القلوب داخله فيه، فعلى هذا لا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة: ((أفضل الأعمال إيمان بالله)) (1) .   (1) ((شرح العمدة)) (1/131-132) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 وقال الحافظ: ((محصل ما أجاب به العلماء عن الأحاديث التي اختلفت فيها الأجوبة، بأن كل واحد منها أفضل الأعمال، أن الجواب اختلف؛ لاختلاف أحوال السائلين، بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم. أو كان الاختلاف، باختلاف الأوقات، بأن يكون العمل في وقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال، أو أن ((أفضل)) ليست على بابها، بل المراد بها الفضل المطلق)) (1) . ((الصلاة لوقتها)) يعني: في الوقت الذي عينه الشارع، وهو وقت الاختيار. وبر الوالدين: التوسع في الإحسان إليهما، وضده العقوق. ويراد بالبر أيضا التوسع في فعل الطاعة، كما في قوله تعالى: {ٍ لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى آخر الآية (2) . والجهاد: استفراغ الوسع وبذل الجهد في قتال العدو ومدافعته، وهو ثلاثة أنواع: جهاد العدو الظاهر من الكفار وغيرهم. وجهاد العدو الخفي، وهو الشيطان، وجهاد النفس، وكلها يشملها الحديث، وتدخل في قوله تعالى: {وَجَهِدُواْ بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم فِي سَبِيِل اللهِ} وغير ذلك من النصوص الآمرة بالجهاد. والمقصود من الحديث هنا: تسمية الصلاة عملاً، حيث أجاب النبي – صلى الله عليه وسلم –   (1) ((الفتح)) (2/9) ملخصاً. (2) الآية 177 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 السائل الذي قال: أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((الصلاة لوقتها)) فجعلها عملاً، ومعلوم أن الصلاة فيها قراءة القرآن، فدل على أن القراءة من عمل العبد؛ لأنها فعل القارئ، كما سبق، وتقدم نقل كلام البخاري في هذا، وقوله: ((قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سؤال العبد غير ما يعطيه الله للعبد، وأن قول العبد غير كلام الله، هذا من العبد الدعاء والتضرع، ومن الله الأمر والإجابة. والقراءة لا تكون إلا من الناس، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) (1) . يعني: أنه جعل القراءة إلى إرادة المخاطبين في قوله: ((إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وقول العبد: الحمد لله)) الخ، هي قراءته، فهو يقرأ الفاتحة، وهي من كلام الله - تعالى -. وقوله: ((وقد تكلم الله بالقرآن من قبل، وكلامه قبل خلقه)) يعني: جنس الكلام؛ لأن الكلام هو الذي يوجد به الخلق عندما يقول الله له: كن، يكون موجوداً، ولا يدل ذلك على أن القرآن قديم، كما يقول أهل البدع، فالله تكلم بالقرآن ثم أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال: باب قول الله - تعالى -: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} هلوعاً: ضجوراً. قال ابن جرير: ((الهلع: شدة الجزع، مع شدة الحرص والضجر)) وروى بسنده عن بن عباس: ((الهلع هو: الجزوع الحريص، وعن سعيد بن جبير: هلوعاً: شحيحاً جزوعاً.   (1) انظر ((خلق أفعال العباد)) (ص164) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وعن عكرمة: ضجوراً، وقال الضحاك: بخيل منوع للخير، جزوع إذا نزل به البلاء)) (1) . وقال الفراء: ((الهلوع: الضجور، وصفته كما قال الله – تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} فهذه صفة الهلوع. ويقال منه: هلع، يهلع هلعاً، مثل جزع، يجزع جزعاً)) (2) . وقال المبرد: ((الهلع: من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ بالله من الهلع. ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير، ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (3) . وكل هذه الأقوال متفقة في المعنى، والمعنى: أن هذه الأوصاف المذكورة خلقت في الإنسان، ولكنها فعله الذي يصدر منه عن إرادته، فيلام عليها أو يثنى عليه بها، فهو ضجور غير ثابت، قليل الصبر، ومنوع هلوع، فإذا أصابه الخير منع، وإذا وقع في شدة جزع، وذلك كله فعله المضاف إليه فعلاً له على الحقيقة، والله خلقه على ذلك، فدل هذا على أن الله – تعالى – خالق أفعال الإنسان كما أنه خالقه. قال الحافظ: ((مقصود البخاري: أن الصفات المذكورة بخلق الله – تعالى – في الإنسان، لا أن الإنسان يخلقها بفعله)) (4)   (1) ((تفسير الطبري)) (29/78) . (2) ((معاني القرآن)) (3/185) . (3) ((الكامل)) (3/1092) . (4) ((الفتح)) (13/511) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 160- قال: ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا جرير بن حازم، عن الحسن، حدثنا عمرو بن تغلب، قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – مال فأعطى قوما، ومنع آخرين، فبلغه أنهم عتبوا، فقال: ((إني أعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب، فقال عمرو: ما أحب أن لي بكلمة النبي - صلى الله عليه وسلم – حمر النعم)) . عمرو بن تغلب، النمري، من النمر بن قاسط، ويقال: العبدي، من عبد القيس من أهل جواثا، قرية من قرى البحرين، صحابي جليل القدر. روى عنه الحسن البصري، ولم يرو عنه غيره، فيما قاله غير واحد. وقال ابن عبد البر: روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج، وعداده في أهل البصرة، وهو كغيره من كثير من الصحابة الذين لم تعرف أخبارهم، ولم تدون مآثرهم، فعليهم رضوان الله ورحمته أجمعهم)) (1) . قوله: ((أتي النبي - صلى الله عليه وسلم- مال)) الخ، هذا المال إما من الخمس الذي أفاءه الله على رسوله، أو من الغنائم، أو من الزكاة. وفي الرواية التي ذكرها البخاري في الجمعة: ((أتى بمال، أو سبي)) (2) . وكانت سنته - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا جاءه شيء من المال وزعه في مصالح الإسلام ولا يدخر شيئا، ومن المصالح: إعطاؤه من لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، فيؤثروا   (1) انظر ((تهذيب الكمال)) (2/1027) مخطوط، ورجال البخاري للكلاباذي (2/537) . (2) انظر ((الفتح)) (2/403) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 الآخرة على الدنيا، يعطيهم خوفاً عليهم من الجزع، وعدم الصبر، فيتزعزع إيمانهم، فهذا الذي جعله يعطي قوماً، ويمنع آخرين، يمنع كُمَّلَ الإيمان الذين ذاقوا طعمه وحلاوته، التي لا تعادلها الدنيا بأسرها، بل ولا شيئاً منه، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)) . ((فبلغه أنهم عتبوا)) قال الأزهري: ((قال ابن شميل، وابن المظفر: العتب: الموجدة، تقول: عتب فلان على فلان، إذا وجد عليه)) (1) . والمعنى: أنه صار في نفوسهم عليه شيء بسبب منعهم من هذا المال؛ لأنهم يرون أنهم أحق من غيرهم، وذلك لخفاء الأمر عليهم، وإلا فالمتعين الرضا بما يفعله الرسول – صلى الله عليه وسلم – والتسليم لأمره وفعله، وهذا شأن الصحابة رضوان الله عليهم غالباً. ((فقال: إني أعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي)) الخ. يعني: أن تخصيصه بعض الناس بالعطاء ليس دليلاً على أنه - صلى الله عليه وسلم - يحب المعطي أكثر من غيره، بل يعطيه خوفاً عليه من الجزع، وعدم الصبر على بلوى الإعواز، وقلة ذات اليد، فإذا لم يحصل لهؤلاء ما يتطلعون إليه من العطاء كان ذلك عونا للشيطان عليهم، في إرجاعهم عن الإسلام، أو اعتراضهم على النبي – صلى الله عليه وسلم -، فيكون في ذلك هلاكهم. أما الذين أودع الله في قلوبهم الخير والغنى بالإسلام ومحبته والرغبة فيه، والرجاء لما أعد الله لهم في الآخرة، فإنهم أحب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ممن أعطاهم من ذلك المال وغيره، ولم يثنه عن عطائهم إلا ما علمه من الغنى في قلوبهم، وثقتهم بوعد الله لهم، وإيمانهم الذي لا يتزعزع، وحبهم لله ورسوله، بحيث يحبون ما أحبه الله ورسوله، فلا يرون أن غير ما فعله أحسن مما فعله.   (1) ((تهذيب اللغة)) (2/277) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 قال الحافظ: ((وفيه أن الرزق في الدنيا ليس على قدر درجة المرزوق في الآخرة، ففي الدنيا تقع العطية والمنع بحسب السياسة الدنيوية، فكان – صلى الله عليه وسلم – يعطي من يخشى عليه الجزع والهلع لو مُنع، ويمنع من يثق بصبره واحتماله، وقناعته عنه بثواب الآخرة. وفيه أن البشر جبلوا على حب العطاء وبغض المنع، والإسراع إلى إنكار ذلك قبل الفكرة في عاقبته، إلا من شاء الله. وفيه أن المنع قد يكون خيراً للممنوع، كما قال تعالى: {وَعَسَىَ أَن تَكرَهُواْ شَيئاً وَهُوَ خَيرٌ لَّكُم} ومن ثم قال الصحابي: ((ما أحب أن لي بتلك الكلمة حمر النعم)) ، والباء في قوله: ((بتلك)) للبدلية، أي: ما أحب أن لي بدل كلمته [النوق الحمر] ؛ لأن الصفة المذكورة تدل على قوة إيمانه المفضي به إلى دخول الجنة، وثواب الآخرة خير وأبقى. وفيه استئلاف من يخشى جزعه، أو يرجى بسبب إعطائه طاعة من يتبعه، والاعتذار إلى من ظن ظناً، والأمر بخلافه)) (1) . والمقصود من الحديث، قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما في قلوبهم من الجزع، والهلع)) ، وقوله: ((وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)) ، فإن الهلع والجزع، وكذلك غنى القلب والإيمان، كل ذلك وصف للإنسان، وهو فعله وعمله، والله خالقه. فإن الله خلق الإنسان وخلق أفعاله، فجعله فاعلاً لهذه الأشياء. قال الكرماني: ((الغرض من هذا الباب: إثبات أن أخلاق الإنسان، من الهلع، وضده، الضجر، وعدمه، والانقياد، والامتناع، وغيرهما، بخلق الله تعالى)) (2) . ********   (1) ((الفتح)) (13/511) . (2) انظر ((شرح الكرماني)) (24/227-228) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 قال: ((باب ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم -، وروايته عن ربه)) . قال العيني: ((أي: هذا باب في ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه – أي بدون واسطة جبريل – صلى الله عليه وسلم – ويسمى بالحديث القدسي)) (1) . وكذا قال أكثر الشراح. وقال الحافظ: ((يحتمل أن تكون الجملة لأولى محذوفة المفعول، والتقدير: ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – ربه عز وجل. ويحتمل أن يكون ضمن الذكر معنى التحديث، فعداه بعن، فيكون قوله: ((عن ربه)) متعلق بالذكر والرواية معا، وقد ترجم هذا في كتاب: ((خلق أفعال العباد)) ، بلفظ: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر ويروي عن ربه)) وهو أوضح)) (2) . وأقول: إن مراده أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي عن ربه ما قاله – تعالى – وأنزل عليه، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يذكر بلفظه الذي هو فعله كلام ربه تعالى – وكلام الله – تعالى -، غير فعل الرسول ولفظه، فاللفظ للرسول والملفوظ به هو كلام الله، فهذا الباب كسابقه مما فيه التفريق بين فعل العبد المخلوق، وبين ما هو وصف لله غير مخلوق، وهذا هو الذي تتفق معه الأحاديث التي ذكرها، والله أعلم. ***** 161- قال: ((حدثني محمد بن عبد الرحيم، حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع الهروي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يرويه عن ربه عز وجل: ((قال: إذا تقرب العبد إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذ أتاني مشيا أتيته هرولة)) .   (1) ((عمدة القاري)) (25/188) . (2) ((الفتح)) (13/512) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 قال شيخ الإسلام: ((ظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة. فلا يخلو إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه هو تقرب بالمساحة المذكورة، أو لا يكون. فإن كان ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ، فإما أن يكون ممكنا، أو لا يكون. فإن كان ممكنا، فالآخر أيضا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر. فإن لم يكن ممكنا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه. وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضا ظاهرا في الخطاب، فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق. ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرا، وذراعا, ومشيا، وهرولة)) (1) . وبهذا يظهر معنى الحديث، وأنه ليس المراد منه: التقرب إلى الله – تعالى – بحركة البدن بهذه المقادير، والهيئة، وإنما المقصود التقرب إلى الله – تعالى – بالإنابة والرجوع وإقبال القلب، وفعل الطاعات التي تقرب العبد إلى ربه، وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) (2) . وتقدم أن قرب الله – تعالى – ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم خلوه من فوق عرشه، بل يقرب إلى من يشاء من عباده وهو فوق عرشه، لا يكون   (1) ((نقض التأسيس)) (3/21-92) مخطوط. (2) سبق تخريجه في الجزء الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 شيء من خلقه فوقه أبداً، ولما قرب كليمه موسى إليه نجيا كان – جل وعلا – فوق عرشه، وكذلك غير موسى إذا قربه إليه، فإنه يقرب إليه وهو فوق عرشه – تعالى وتقدس -، وسبق الكلام على هذا الحديث (1) . والشاهد من الحديث قوله: ((يرويه عن ربه – عز وجل – قال: إذا تقرب)) إلى آخره، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي عن ربه هذا الكلام، الذي تكلم الله به فرواه عنه، سواء كان ذلك بواسطة جبريل – وهو الظاهر – أو بغير واسطة، والصحابة سمعوا هذا الكلام بلفظ الرسول – صلى الله عليه وسلم، وصدقوه بأنه كلام الله ورواه رسوله عنه. ***** 162- قال: ((حدثنا مسدد، عن يحيى، عن التيمي، عن أنس بن مالك، عن أبي هريرة، قال ربما ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا تقرب العبد مني شبرا تقربت منه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا – أو بوعا)) . الباع معروف، وهو قدر مد اليدين، من أطراف أصابع اليد إلى أطراف الأصابع الأخرى، والبوع بفتح الباء مصدر باع، وبالضم جمع باع. قوله: ((وقال معتمر: سمعت أبي، سمعت أنسا، عن أبي هريرة، عن ربه – عز وجل -. قصده التصريح بأنه مرفوع، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – رواه عن ربه – عز وجل -. ****** 163- قال: ((حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم، قال: ((لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به، ولخلوف فم   (1) يراجع الجزء الأول (ص339) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) . قوله: ((لكل عمل كفارة)) يعني: جزاء وثوابا معينا، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولكن الصوم يضاعف بدون حساب. والسبب أنه يكون خالصا؛ لأنه سر بين العبد وربه فإنه يمكنه أن يظهر للناس أنه صائم وهو يأكل في الخفاء، فإذا التزم العبد الصوم دل على خوفه من الله، ورجائه لثوابه، وتقدم شرح الحديث المقصود منه ظاهر، وهو كالذي قبله. ***** 164- قال: ((حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة، عن قتادة. ح. وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه، قال: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: إنه خير من يونس بن متى)) ، ونسبه إلى أبيه)) . يونس بن متى، هو نبي كريم من أنبياء الله - تعالى - الذين جاءوا بالهدى والنور؛ لإخراج الناس من الظلمات. ((قال العلماء: إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك تواضعا، إن كان قاله بعد أن علم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل علمه بذلك فلا إشكال. وقيل: خص يونس - عليه السلام - بهذا القول؛ لما يخشى عليه من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقص له، فبالغ - صلى الله عليه وسلم - في ذكر فضله؛ لسد هذه الذريعة. وقد روى قصته السدي بأسانيده، عن ابن مسعود وغيره: أن الله بعث يونس إلى أهل نينوى - وهي من أرض الموصل - فكذبوه، فوعدهم بنزول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 العذاب في وقت معين، وخرج عنهم مغاضبا لهم، فلما رأوا آثار ذلك خضعوا لله، وتضرعوا، وآمنوا فرحمهم الله، وكشف عنهم العذاب، وذهب يونس، وركب سفينة فلجّت به، فاقترعوا فيمن يطرحونه فوقعت القرعة عليه ثلاثا، فطرحوه، فالتقمه الحوت)) (1) {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَ إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبحَانَك إِنِي كُنتُ مِنَ الظَّالِمينَ} فاستجاب الله له، وأمر الحوت بطرحه على ساحل البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين تظله)) والظلمات هي ظلمات البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل. وما ذكره من أنه خص بالذكر إلى آخره، هو المناسب لما جاء من النهي عن المفاضلة بين الأنبياء؛ لئلا يفضي ذلك إلى تنقص أحد منهم. ولهذا جاء في رواية لهذا الحديث ذكرها البخاري في الأنبياء بلفظ ((ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس)) . وفي أخرى: ((لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس)) (2) . قال الحافظ: ((وعند الطبراني: ((لا ينبغي لأحد أن يقول)) إلى آخره. وفي أخرى عنده: ((ما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس)) . وهذا يؤيد أن المراد تفضيله على النبي – صلى الله عليه وسلم -)) (3) . وهذا يدل على أن المقصود: النهي عن المفاضلة بين أنبياء الله؛ لئلا يكون ذلك طريقا إلى تنقص أحد منهم. والمراد من الحديث قوله: ((فيما يرويه عن ربه)) بهذا لفظ الرسول – صلى الله عليه وسلم – يروي هذا الكلام عن ربه، يعني: أن الله تكلم به، فرواه لنا عنه رسوله – صلى الله عليه وسلم – بلفظه الذي هو فعله، وهو مخلوق، وما رواه فهو كلام الله غير مخلوق.   (1) ((الفتح)) (6/452) . (2) ((الفتح)) (6/451) . (3) ((الفتح)) (6/451) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 ((ونسبه إلى أبيه)) يعني: أن ((متى)) هو أبوه، وليس ذلك اسم أمه، وأراد به الرد على من زعم أن ((متى)) اسم أمه، كما روي عن كعب الأخبار. ****** 165- قال: ((حدثنا أحمد بن أبي سريج، أخبرنا شبابة، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة المزني، عن عبد الله بن المغفل المزني، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح – أو من سورة الفتح – قال: فرجع فيها. قال: ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال: آآ آثلاث مرت)) . عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني أبو سعيد، ذكر البخاري عن يحيى بن معين أنه كان يكنى أبا زياد، وهو من مشاهير الصحابة رضوان الله عليهم، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك، أسفا على فوت تلك الغزوة عليهم، وشهد بيعة الرضوان، وهو أحد العشرة الذين بعثهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليفقهوا الناس بالبصرة، وهو أول من دخل من باب مدينة تستر. توفي في البصرة سنة تسع وخمسين أو سنة ستين، أو إحدى وستين، رضي الله عنه، وعن جميع إخوانه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . ((يوم الفتح)) هو فتح مكة، وكان في رمضان، من سنة ثمان من الهجرة. وسورة الفتح نزلت في غزوة الحديبية، وكانت في ذي القعدة سنة ست في قول الجمهور، نزلت في مرجعه منها، والفتح المذكور في السورة هو صلح الحديبية على قول أكثر المفسرين من الصحابة وغيرهم، ولا ينافي ذلك دخول   (1) انظر ((الإصابة)) (4/242) ، و ((الاستيعاب)) (3/966) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 فتح مكة فيه، وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة الفتح في ذلك اليوم يدل على أن فتح مكة داخل في قوله: {إِنَّا فَتَحنَا لَكَ فَتحَاً مُبِيناً} . ((فرجع فيها)) بتشديد الجيم، أي: ردد الصوت في حلقه، وجهر به مكررا بعد إخفائه. قال المؤلف في فضائل القرآن: ((باب الترجيع، ثم ذكر هذا الحديث – وفيه – قال: رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ، وهو على ناقته – أو جمله – وهي تسير به، وهو يقرأ سورة الفتح – أو من سورة الفتح، قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع)) (1) . قال الحافظ ابن كثير: الترجيع هو: الترديد في الصوت، كما جاء أنه يقول: آآ آ، وكأن ذلك صدر من حركة الدابة تحته، فدل على جواز التلاوة عليها، وإن أفضى إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب الزيادة في الحرف، بل هو مغتفر للحاجة، كما يصلي على الدابة حيث توجهت به مع إمكان تأخير ذلك والصلاة إلى القبلة)) (2) . والصواب أنه قصد الترجيع، وليس ذلك من حركة الدابة كما زعم ابن كثير، وكثيرا ما كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في أسفاره، ولم يذكر ذلك عنه إلا في هذه الواقعة، فدل على قصده ذلك. قال الحافظ: ((الترجيع: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت، ترديده في الحلق، وقد فسره بقوله: آء آء آء، ثلاث مرات، بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى. قالوا: يحتمل أمرين: أحدهما: أن ذلك حدث من هز الناقة. والآخر: أنه أشبع المد في موضعه فحدث ذلك، وهذا أقرب، لأنه قال:   (1) انظر ((الفتح)) (9/92) و (13/515) . (2) ((فضائل القرآن)) في آخره ((تفسير ابن كثير)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 ((لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت)) . وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع، كما في الشمائل للترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود، واللفظ له من حديث أم هانئ: ((كنت أسمع صوت النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقرأ، وأنا نائمة على فراشي، يرجع القرآن)) . والذي يظهر: أن في الترجيع قدرا زائدا على الترتيل، فعند ابن أبي داود عن علقمة، قال: بت مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام، ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه، لا يرفع صوته، ويسمع من حوله، ويرتل ولا يرجع. قال ابن أبي حمزة: معنى الترجيع: تحسين التلاوة، لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة. قال: ((وفي الحديث: ملازمته – صلى الله عليه وسلم – للعبادة؛ لأنه حالة ركوبه وهو يسير لم يترك العبادة بالتلاوة، وفي جهره في ذلك إرشاد إلى أن الجهر بالعبادة قد يكون في بعض المواضع أفضل من الإسرار، مثل إرادة التعليم، وإيقاظ الغافل، ونحو ذلك)) (1) . والمقصود أن الترجيع فعل الرسول –صلى الله عليه وسلم – بحركة لسانه وشفتيه يرجع كلام ربه الذي أبلغه الأمة عن الله – تعالى -. فالمسموع بصوته هو كلام الله، والصوت هو صوت المبلغ، ولهذا يرفعه إن شاء، ويخفضه، ويرجعه إن شاء ولا يرجعه؛ لأنه فعله يتعلق بإرادته، وهو يبلغ كلام الله بأي وجه كان من أوجه التبليغ، بصوته الذي يؤدي به   (1) ((الفتح)) (9/92) ببعض التصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 عن الله، سواء رجع الكلام، أو لم يرجع، فلا يخرجه ذلك عن كونه كلام الله، أبلغه إلى أمته عن ربه بصوته وروايته، ولكن هو يتصرف بصوته فيرفعه تارة، ويخفضه أخرى، ويرجع الكلام مرة، ويترك الترجيع أخرى، إذ ذلك فعله الذي يفعله إذا شاء. ***** قال: ((باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها، لقول الله – تعالى: {قُل فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} . تقدم الكلام على هذه الآية، ومراده: أن التفسير والإيضاح والتفهيم لكلام الله من فعل المفسر، والمبين الموضح لمن لا يفهم ذلك الكلام، وهذا كله فعل العباد وهو مخلوق، كما أن القراءة، والكتابة، والحفظ، فعل العبد وهو مخلوق. وأما المكتوب المقروء والمحفوظ إذا كان من كتب الله، فهو كلام الله. وكذلك التفسير، والتبليغ، والتبيين، فعل العبد المفسر المبين، وهو مخلوق، وأما المفسر المبين المبلغ فهو كلام الله. ومثل ذلك الترجمة من لغة إلى أخرى، فإن الترجمة فعل المترجم، ولهذا استدل في كتابه: ((خلق أفعال العباد)) ، على أن كلام العباد مخلوق، وهو من أفعالهم بقوله تعالى: {وَمِن أيَاتِهِ خَلقُ السّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلاَفُ أَلسِنَتِكُم وَألَوَانِكُم} ، ثم قال: ((فمنها العربي، ومنها العجمي، فذكر اختلاف الألسنة والألوان، وهو كلام العباد)) (1) . وروى عن حماد بن زيد أنه قال: ((من قال: كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر)) (2) .   (1) انظر (196) . (2) المصدر (193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 وقال أيضا: ((وقد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – كتابا فيه ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر، على قيصر وأصحابه، ولا نشك في قراءة الكفار وأهل الكتاب أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله العزيز المنان، ليس بمخلوق، فمن حلف بأصوات قيصر، وبنداء المشركين الذين يقرون بالله لم يكن عليه يمين دون الحلف بالله؛ لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحلفوا بغير الله)) (1) . يعني: أن الصوت الذي تكون به القراءة ونحوها فعل ذلك المصوت، وفعل العبد مخلوق. قال الحافظ: ((وجه الدلالة من الآية: أن التوراة بالعبرانية، وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب، وهم لا يعرفون العبرانية، فقضية ذلك الإذن بالتعبير عنها بالعربية)) (2) . وتقدم وجه مراده بالباب. قوله: ((وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقرأه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل، و {يَا أَهلَ الكِتابِ تَعَالَواْ إِلىَ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَينَنَا وَبَيَنكُم} الآية. أبو سفيان كنية، ويكنى أيضا بأبي حنظلة، واسمه: صخر بن حرب بن أمية مشهور باسمه وكنيته، أسلم عام الفتح، وكان رئيسا لقومه قبل ذلك، وشهد مع النبي – صلى الله عليه وسلم – حنينا والطائف، وروي أن عينه أصيبت يوم الطائف، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن شئت دعوت فردت عليك، وإن شئت فالجنة)) قال: الجنة، مات في خلافة عثمان سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك، رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله جميعاً (3) . هرقل هو: ملك الروم، هذا اسمه، وهو بكسر الهاء وفتح الراء، وسكون   (1) المصدر السابق (158) . (2) ((الفتح)) (13/516) . (3) انظر ((الإصابة)) (3/412) ، و ((الاستيعاب)) (2/714) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 القاف، ولقبه قيصر، وهو لكل من ملك الروم، كما أن كسرى لقب لمن ملك الفرس. وهذا جزء من الحديث الطويل المذكور في بدء الوحي وغيره. قال الحافظ: ((ووجه الدلالة منه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربي، ولسان هرقل رومي، ففيه إشعار بأنه اعتمد في إبلاغه ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، والمترجم المذكور هو الترجمان)) . واستدل في ((خلق أفعال العباد)) بقصة هرقل على أن القراءة فعل القارئ. فقال: قد كتب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قيصر: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وقرأه ترجمان قيصر على قيصر وأصحابه، ولا يشك في قراءة الكفار أنها أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله – تعالى – ليس بمخلوق، ومن حلف بأصوات الكفار ونداء المشركين لم يكن عليه يمين، بخلاف ما لو حلف بالقرآن)) (1) . وتقدم نقل هذا، والحافظ تصرف فيه. وفيه دليل على جواز إرسال الكتب التي فيها شيء من القرآن إلى الكفار، وفيه كتابة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) في أول الكتب، وبداءة صاحب الكتابة بنفسه، وفيه قرن العبودية بالرسالة. ***** 166- قال: ((حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية،   (1) ((الفتح)) (13/516) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصدقوا أهل الكتاب, ولا تكذبوهم، و {قُولُواْ أَمنَّا بِاللهِ وَمَاَ أُنزِلَ} الآية. المقصود بأهل الكتاب هنا اليهود، والعبرانية: لغتهم التي أنزلت التوراة بها وقد أخبر الله – تعالى – أنهم تعمدوا تحريفها، والزيادة فيها والنقصان منها؛ لتتفق مع أهوائهم، وما يريدون، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يوثق بترجمتهم وتفسيرهم لها، مع أن الله – تعالى – قد أغنانا عما في أيديهم بما أنزل علينا من كتابه المهيمن على جميع الكتب قبله، وبما جاء به نبينا – صلى الله عليه وسلم – من الحكمة التي تفسر القرآن وتبينه. روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، من حديث جابر، أن عمر أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه عليه، فغضب، وقال: ((لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)) قال الحافظ: ((رجاله موثقون إلا أن مجالداً فيه ضعف)) (1) . وقد أمرنا الله – تعالى – أن نقول: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {136} فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) . وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كثيرا ما يقرأ هذه الآية: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ} ، والآية التي في سورة آل عمران {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء}   (1) ((الفتح)) (13/334) . (2) الآيتان 136 و 137 من سورة البقرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 الآية (1) في ركعتي الفجر. وفي ((الدر المنثور)) : ((أخرج ابن أبي حاتم، عن معقل بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن)) (2) . قوله: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) . قال الحافظ: أي: إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً؛ لئلا يكو في نفس الأمر صدقا، فتكذبوه، أو كذبا فتصدقوه، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، نبه على ذلك الشافعي - رحمه الله -. ويؤخذ من هذا الحديث التوقف عن الخوض في المشكلات، والجزم فيها بما يقع في الظن، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف من ذلك)) (3) . والمقصود أن الترجمة والتفسير ليست هي ذلك الكتاب المترجم أو المفسر، ولا تسمى الترجمة أو التفسير قرآنا، أو إنجيلا، أو توراة. ((بل اتفق المسلمون على جواز مس المحدث لكتب التفسير، واتفقوا على أنه لا تجوز الصلاة بتفسيره، وكذلك ترجمته بغير العربية عند عامة أهل العلم، وتجويز إقامة الترجمة مقامه في بعض الأحكام لا يقتضي تناول اسمه لها، كما أن القيمة في الزكاة إذا أخرجت عن الإبل أو البقر أو الغنم لم تسم إبلا ولا بقرا، ولا غنما، بل تسمى باسمها كائنة ما كانت)) (4) .   (1) الآية 64 من سورة آل عمران. (2) (1/338) . (3) ((الفتح)) (8/170) . (4) ((مجموع الفتاوى)) (6/542) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 ((مع أن أكثر المنتسبين إلى العلم من المسلمين لا يستطيعون القيام بترجمة معاني القرآن، وتفسيره، وبيانه؛ فلأن يعجز اليهود عن ترجمة ما عندهم، وبيانه أولى. لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلاً، وأحسن حديثاً، ولغتهم أوسع لا سيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطل كثير، فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعب؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه)) (1) والمقصود أنه إذا ترجم كتاب الله من لغة إلى أخرى فإن الترجمة ليست هي كلام الله، وإنما هي ترجمة لكلامه تعالى، وهي غير المترجم، بل هي عمل المُتَرجِم، ومعلوم أن عمل الإنسان مخلوق مثله. وليس الأمر كما تقوله الأشعرية إن كلام الله لا يختلف باختلاف اللغات، فبأي لسان قرئ فهو كلام الله. بل إذا ترجم من لغة إلى أخرى، لم يكن هو كلام الله – تعالى -، وهذا هو ما أراد البخاري بيانه فيما يظهر، والله أعلم. 167- قال: ((حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: أتي النبي – صلى الله عليه وسلم – برجل، وامرأة من اليهود، قد زنيا، فقال: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما، ونخزيهما، قال: {قُل فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} فجاءوا فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، قال: ارفع يدك، فإذا   (1) المرجع (4/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 فيه آية الرجم تلوح، فقال: يا محمد: إن عليهما الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما، فرأيته يجانئ عليها الحجارة)) . قد أمر الله نبيه أن يحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله عليه، أو أن يعرض عنهم، فإنهم لا يضرونه شيئاً. وأخبر تعالى أنهم إذا جاءوه ليحكم بينهم ليس قصدهم حكم الله، فإنهم يعلمونه في كتابهم، وإنما يحكمونه رجاء أن يحكم بينهم بما يهوونه، قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ... {41} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {42} وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (1) } . فنهى الله – تعالى – رسوله أن يحزن على المسارعين في الكفر من أهل الكتاب وأهل النفاق، الخارجين عن طاعة الله، وطاعة رسله، المقدمين لآرائهم وأهوائهم على شرائع الله – تعالى -، ومن الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خاوية منه، منطوية على الكفر بالله ورسله وعبادة الشهوات، وهم ما بين يهودي قد نصب العداء لله ولدينه ومن اتبعه، فهو يجهد نفسه في محاربته، أو زنديق كره الحق ومن جاء به ومن اتبعه، وكل منهم قد أكل قلبه الحقد على هذا الدين، وعلى من اتبعه، وكل منهم سَمّاع للكذب يقوله،   (1) الآيات 41- 43 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 وينميه، ويسمعه ويقبله، وأكَّال للسحت غير مبال بعاقبته، وهم مع ذلك أهل تحريف وتزييف؛ اتباعاً لأهوائهم، وبعداً عن الحق، ومحاربة له، يوصي بعضهم بعضاً بعدم قبول ما يخالف أهواءهم، وأنظمتهم التي وضعوها وفق ما يشتهون، وما توحيه إليهم شياطينهم أولئك الذين أراد الله – تعالى – فتنتهم، فلا أحد يملك هدايتهم؛ لأن قلوبهم نجسة فلا تقبل طهارة الإيمان، وإنما هي محل للكفر وكل خلق خبيث. وقد خير الله رسوله بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم، وأمره إن حكم أن يحكم بينهم بالعدل، وإن كانوا أعداء لله ورسوله، فإن الله حكم عدل يحب العدل وأهله. وأخبر تعالى أن أمر هؤلاء عجيب، كيف يحكمونك وعندهم كتاب الله التوراة فيها حكمه واضح لهم، ولكنهم يعرضون عنه طلباً لما يهوونه، وليس هذا شأن المؤمنين، ولكنه نهج الكافرين. روى أبو داود من حديث أبي هريرة قال: ((زنى رجل من اليهود، وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتياً دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: ((أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه - والتجبية: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما -. قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت، ألظ به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدنا، فإنا نجد في التوراة الرجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في امرة من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فإني أحكم بما في التوراة)) فأمر بهما فرجما. قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إِنَا أَنَزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدَىَ وَنُورُ يَحكُم ُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسلمُواْ} كان النبي – منهم)) (1) . فهذه القصة تبين سبب مجيئهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن الذي جاء بالزانيين هم اليهود، رجاء أن يحكم عليهما بغير ما أتى في التوراة من الرجم، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - أحيا حكم الله فيها بعد ما أماتوه. قوله: ((ما تصنعون بهما؟)) يعني: ما هو حكم الله فيهما الذي في كتابكم؟ فكتموه، وقالوا: ((نسخم وجوههما، ونخزيهما)) أي: نسود وجوههما بالفحم، ويركبان على حمار يطاف بهما في الطرق، قفا كل واحد إلى قفا الثاني، وهذا هو الخزي الذي يفعلونه بهما. فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: {فَأتُواْ بِالتَّوراةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} أن ما ذكرتم هو حكم الله فيهما الذي في التوراة. ومعلوم أنهم ينقلون ما فيها بالعربية كما هو ظاهر؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يعرف العبرانية. ((فقالوا لرجل ممن يرضون: يا أعور، اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه)) يرضون، يعني: يثقون به، وأنه موافق لهم على كتمان   (1) ((السنن)) (4/598) رقم (4450) وفيه رجل مجهول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 آية الرجم، ويحتمل أن الكتاب الذي يقرأ بغير العربية، وأنه يقرأه ويترجمه، ويحتمل أنه قد ترجم إلى العربية، فعلى الأول وضعه يده على الموضع الذي فيه آية الرجم؛ لإخفائها عمن يعرف لغتهم ممن أسلم، أو لا يوافقهم، وعلى الثاني ظاهر. قوله: ((ارفع يدك، قيل: إن القائل عبد الله بن سلام، كما في بعض الروايات، وهذا يؤيد الاحتمال الأول. ((تلوح)) يعني: أنها واضحة لمن يقرأ ذلك الكتاب. ((نتكاتمه فيما بيننا)) يعني: يتواطئون على كتمانه، وعدم إظهاره لأحد. ((يجانئ عليها الحجارة)) يعني: أنه يقيها بنفسه عن الحجارة. والمقصود: أن الأمر بتلاوة التوراة على من لا يعرف اللغة التي كتبت بها لا بد أن يكون ذلك عن ترجمة لها، ثم اعتماد تلك الترجمة مما يقتضي الاكتفاء بترجمة المترجم وإن كان واحداًً. والترجمة ليست هي المُتَرْجَم، وإنما هي فعل المُتَرْجِم وعمله. وفعله وعمله مخلوق، وهذا هو المراد بالاستدلال بهذه القصة. وفيه دلالة ظاهرة في أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها، وأنهم يعرفون الحق، ولا يتبعونه، بل يتعمدون تركه. قال: ((باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((الماهر بالقرآن مع السفرة البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم)) . قصد البخاري – رحمه الله – بهذا الباب: زيادة إيضاح ما سبق في الأبواب قبل هذا، من أن التلاوة فعل التالي، فهي داخلة في أفعال العباد، ولهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 توصف بالمهارة، وهي جودة الحفظ، وعدم التردد في التلاوة، وتوصف بالحسن والمد، والترتيل، والتطريب، وتحسين الصوت، وبأضداد ذلك، كما سبق وصفها بالترجيع، والخفض، والرفع، ومد الصوت. وهذا كله يحقق أن التلاوة فعل القارئ الذي يقرأ القرآن. قوله: ((الماهر)) قال الأزهري: ((الماهر: الحاذق بكل شيء، وأكثر ما يوصف به السابح، يقال: مهرت بهذا الأمر، أمهر به، مهارة: إذا صرت به حاذقاً)) (1) . قال الحافظ: ((الماهر هو: الحاذق، والمراد به هنا: جودة التلاوة مع حسن الحفظ. والمراد بالسفرة: الكتبة، جمع سافر، مثل كاتب، وزنه ومعناه، وهم هنا: الذين ينقلون من اللوح المحفوظ (2) ، وصفوا بالكرام؛ لكثرة طاعتهم، وبعدهم عما يشين. والبررة: المكثرون في الطاعة، المبالغون فيها)) . وقال الحافظ: ((المطيعون، المطهرون من الذنوب، والكرام: المكرمين عند الله)) (3) . ومعلوم أن إكرام الله لهم لطاعتهم، وبرهم. ورواية مسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)) (4) .   (1) ((تهذيب اللغة)) (6/298-299) . (2) ((الفتح)) (13/518) . (3) المصدر المذكور. (4) انظر مسلم (1/549-550) رقم (798) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 فالمهارة بالقرآن: جودة الحفظ، وجودة التلاوة، من غير تردد فيه؛ لأن الله – تعالى يسره عليه كما يسره على الملائكة الكرام البررة، فكان مثلهم في قراءة القرآن ومعهم في الدرجة عند الله – تعالى -. وتقدم الكلام على معنى قوله: ((زينوا القرآن بأصواتكم)) ، وأن المراد به: تحسين الصوت حتى يجذب المستمع إلى الإصغاء إليه، ويجد به لذة، وينفتح له قلبه، وتحسين الصوت فعل العبد، ووصفه، ولهذا قال في ((خلق أفعال العباد)) : ((فبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أن أصوات الخلق،، وقراءتهم، ودراستهم وتعليمهم، وألسنتهم مختلفة، بعضها أحسن، وأزين، وأحلى، وأصوت، وأرتل، وأعلى، وألحن، وأخف، وأغض، وأخشع، قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصوَاتُ لِلرَّحمَنِ فَلاَ تَسمَعُ إِلا هَمساً} ، وأجهر، وأخفى، وأمهر، وأمد، وألين، وأخفض من بعض، ثم ذكر بسنده عن عائشة – رضي الله عنها -، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يشتد عليه له أجران)) (1) . ***** 168- قال: ((حدثني إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي حازم، عن يزيد، عن محمد ابن إبراهيم عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن، يجهر به)) . رواية مسلم: ((ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) (2) وكأن قوله ((يجهر به)) مدرج في الحديث، ومعنى ((ما أذن)) : ما استمع   (1) ((خلق أفعال العباد)) (93-94) . (2) انظر ((صحيح مسلم)) (1/545) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 لشيء كاستماعه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، فالله – تعالى – يحب حسن الصوت فيمن يتلو كتابه، ويستمع لذلك الصوت أكثر من غيره، وإلا فهو تعالى لا يفوت سمعه صوت. والقرآن هنا اسم جنس لكل كتاب أنزله الله – تعالى – على نبي من أنبيائه. وقوله: ((يجهر به)) تفسير لقوله: ((يتغنى به)) ، وهو كلام لأحد رواة الحديث، وتقدم شرح هذا الحديث في باب قول الله – تعالى -: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعةُ عِندَهُ إِلا لِمَن أَذِنَ لَهُ} . والمقصود منه هنا قوله: ((ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن)) فأضاف حسن الصوت إلى النبي، لأنه فعله وعمله، وبين أنه مطلوب منه، ومحبوب لله – تعالى -، فتبين بهذا أن التلاوة وتحسين الصوت بها، والجهر بها، وخفض الصوت، كله فعل العبد، والعبد وأفعاله مخلوق. وأما القرآن الذي يحسن صوته به، ويرفعه أو يخفضه، فهو كلام الله غير مخلوق. 169- قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عبد الله، عن حديث عائشة – حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكل حدثني طائفة من الحديث – قالت: فاضطجعت على فراشي، وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله يبرئني، ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، وأنزل الله – عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفكِ} عشر الآيات كلها)) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 ((الإفك)) هو: الكذب الظاهر البين، وهو من عظائم الذنوب. ((طائفة من الحديث) أي: قطعة منه، وهو جمع حديثهم، ولم يكونوا متفقين على جميعه، والقائل هو ابن شهاب الزهري. ((وأنا حينئذ أعلم أني بريئة)) يعني: أن ما قاله أهل الإفك، بعيد عنها، وليست من أهله، فهي أعلم بنفسها، وعلى يقين من أن الله سيظهر براءتها لنبيه وعباده ويجزي الأفاكين، الذين آذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله والمؤمنين. قال أبو بكر ابن العربي: ((كل من سب عائشة - رضي الله عنها - بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله، فهو كافر، وهذا قول مالك، وهو أمر واضح لأهل البصائر)) (1) . وقال القاضي أبو يعلى: ((من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر، بلا خلاف)) . وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم. فروي عن مالك: من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن؛ لأن الله - تعالى - قال: {يَعِظِكُم اللهُ أَن تَعُودُواْ لِمثلِهِ أَبَدَاً إِن كُنتُم مُؤمِنينَ} . وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل ابن إسحاق: أتي أمير المؤمنين بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة، والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم عائشة، وترك الآخر، فقال إسماعيل، ما حكمهما إلا أن يقتلا؛ لأن الذي شتم عائشة رد القرآن، وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم، من أهل البيت وغيرهم.   (1) ((أحكام القرآن)) (3/135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 وقال أبو السائب القاضي: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي، وكان بحضرته رجل، فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام، اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي – صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي – صلى الله عليه وسلم – خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه وأنا حاضر. رواه اللالكائي. وروى عن محمد بن زيد، أخي الحسن بن زيد، أنه قدم عليه رجل من العراق، فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا، ومن بني الآباء، فقال: هذا سَمّى جدي – يعني: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قرنان (1) . ومن سمى جدي: قرنان، استحق القتل، فقتله. وأما سب غير عائشة من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – ففيه قولان: أحدهما: أنه كَسَابّ غيرهن من الصحابة. والثاني: وهو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين، فهو كقذف عائشة – رضي الله عنها -. وذلك لأن هذا فيه غضاضة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأذي له أعظم من أذاه بنكاحهن بعده، وهذا ظاهر (2) . ((وأن الله يبرئني)) أي: أنها على علم ويقين بأن الله – تعالى – سيظهر براءتها لنبيه، بأمر يطلعه عليه، إما رؤيا يريها إياه، أو غير ذلك، غير أنها ما كانت تنتظر أن ينزل في شأنها وحيا من كلامه تعالى يتلى إلى يوم القيامة، كما وقع؛   (1) قال الليث: القرنان: نعت سوء في الرجل، الذي لا غيرة له، قال الأزهري: ((هذا من كلام حاضرة العراق، ولم أر البوادي لفظوا به، ولا عرفوه)) ((تهذيب اللغة)) (9/93) . (2) من ((الصارم المسلول)) (565-567) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 لأنها في نفسها أقل قدرا من أن تتطلع إلى هذا الأمر العظيم. فأنزل الله – عز وجل – في براءتها بضعة عشر آية. والمقصود قولها: ((والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى)) ، فبينت أن التلاوة غير المتلو المنزل، فالتلاوة فعل العباد، والإنزال والإيحاء والتكلم فعل الله وصفته، كما قال المؤلف في ((خلق أفعال العباد)) : ((فبينت بقولها: ((ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى)) إن الإنزال من الله، وإن الناس يتلونه)) (1) . قال العيني: ((مطابقته للترجمة في قوله: ((بأمر يتلى)) أي: بالأصوات في المحاريب والمحافل)) (2) ، وتقدم شرح الحديث في باب قوله تعالى:: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِلُواْ كَلاَمَ اللهِ} . ***** 170- قال: ((حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن عدي بن ثابت، أراه عن البراء، سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ في العشاء:: {وَالتِينِ وَالزَّيتُونِ} فما سمعت أحدا أحسن صوتا – أو قراءة – منه)) . ذكر هذا الحديث في كتاب الصلاة، وفيه أنه كان في سفر، وذكر الحافظ في شرحه أن في رواية النسائي: أنها في الركعة الأولى، وذكر في تفسير سورة {وَالتِينِ} أن في كتاب الصحابة لأبي علي ابن السكن في ترجمة زرعة بن خليفة، رجل من أهل اليمامة، أنه قال: سمعنا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فأتيناه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة بـ {وَالتِينِ وَالزَّيتُونِ} و {إِنَّاَ أَنزَلنَاهُ فِي لَيلةِ القَدرِ} .   (1) ((خلق أفعال العباد)) (ص86) . (2) ((عمدة القاري)) (25/193) ، وأخذه من الكرماني، انظر شرحه (25/234) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ثم قال: ((فيمكن أن تكو هي الصلاة التي عين البراء بن عازب أنها العشاء، ويقوي ذلك أنا لا نعرف في خبر أنه قرأ بالتين، إلا في حديث البراء بن عازب، ثم حديث زرعة المذكور)) (1) . وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقرأ في الصلاة أحيانا بقصار المفصل. وفيه استحباب تحسين الصوت بالقرآن في الصلاة وغيرها. والمقصود قوله: ((فما سمعت أحدا أحسن صوتا – أو قراءة – منه)) فجعل الصوت والقراءة له، فدل على أن الصوت والقراءة ليست هي المصوت به، المقروء، وهو واضح، والإمام البخاري – رحمه الله – يكرر ذلك، وينوع عليه الأدلة؛ لأنه قد خفي على بعض العلماء، ولأنه قد ابتلي بمن يقول: إن القراءة هي المقروء، والتلاوة هي المتلو، ونسب إليه زورا أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وهو برئ من ذلك. 171- قال: ((حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – متواريا بمكة، وكان يرفع صوته، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن، ومن جاء به، فقال الله – عز وجل – لنبيه: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهَا} . تقدم شرح هذا الحديث، والشاهد منه هنا: قوله: ((يرفع صوته، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن)) وقوله: {وَلاَ تَجهَر بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِت بِهَا وَابتغِ بَينَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ويعني بالصلاة: القراءة، فالصوت له – أي للقارئ – ورفعه وخفضه وصف للصوت، وهو الذي إن شاء رفعه، وإن   (1) ((الفتح)) (2/250) و (8/713-714) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 شاء خفضه، فلذلك فعله، وهو فعله مخلوق، أما القرآن الذي يُسِرُّ به صوته، أو يخافت به، أو يبتغي به بين ذلك سبيلا، فهو كلام ربه غير مخلوق، بل هو وصف له. ***** 172- قال: ((حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -)) . ((تحب الغنم والبادية)) محبته للبادية تابعة لمحبة الغنم؛ لطلب المراعي لها، وذلك لا يكون إلا في البادية غالباً، والبادية خلاف الحاضرة التي فيها البناء والمدن. وهي مأخوذة من البدو والظهور؛ لأنها ليس فيها ما يسترها من المباني والحيطان، فهي صحراء، لا عمارة فيها. ((فأذنت للصلاة)) الأذان هو: الإعلام بدخول وقت الصلاة، وطلب حضور المصلين لأدائها جماعة، ولا يسمى أذانا إلا إذا كان برفع الصوت. قال تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَذِن فِي النَّاسِ بِالحَجِ} (2) ، ولما نزل قول الله – تعالى - {وَأَذَانٌ   (1) الآية 70 من سورة يوسف. (2) الآية 27 من سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (1) أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برفع الصوت بهذه البراءة في ذلك اليوم، قال أبو هريرة: كنت مع علي بن أبي طالب حيث بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة ببراءة، فكنا ننادي: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فإن أجله - أو مده - إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك، قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي)) (2) ، أي: بحّ صوته؛ لشدة رفعه. ((فارفع صوتك بالنداء)) أي: اجتهد في رفع صوتك، ولا تألو، وإلا فأصل الأذان لا يكون إلا برفع الصوت. قال الحافظ: ((فيه إشعار بأن أذان من أراد الصلاة كان متقررا عندهم؛ لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين. واستدل به الرافعي على استحباب الأذان للمنفرد، وهو الراجح عند الشافعية)) (3) . ((فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن، ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)) . مدى الصوت: نهايته، وأقصى ما يبلغه، والمعنى: أن كل من سمع صوته من عاقل وغيره، من البهائم والجمادات - فإن لها سماعا يعلمه الله - تعالى - فإنها تشهد للمؤذن بالتوحيد عند الله يوم القيامة، وهذه فضيلة عظيمة   (1) الآية 3 من سورة براءة. (2) ((مسند الإمام أحمد)) (2/299) . (3) ((الفتح)) (2/88) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 للأذان، فينبغي أن يحافظ على ذلك ويحرص عليه. وفي ((سنن)) أبي داود والنسائي عن أبي هريرة: ((المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس)) ، قال الخطابي: ((المعنى أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة، إذا بلغ الغاية من الصوت، وقيل: المعنى: لو قدر أن المكان الذي يصل إليه صوته لو كان له ذنوب تملؤه لغفرت)) (1) . ((وقال النوربشتي: المراد من هذه الشهادة: اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، كما يفضح بالشهادة قوما، فكذلك يكرم بالشهادة آخرين)) (2) . وقال الكرماني: ((رفع الصوت بالقرآن، أحق بالشهادة، وأولى)) (3) . يعني: أن ذلك مراد البخاري من الحديث. والظاهر أن مراده: أن أصوات العباد من أفعالهم التي يثابون عليها، أو يعاقبون، ومن ذلك القراءة، والتلاوة، فهي فعل التالي الذي يثاب عليه. ***** 173- قال: ((حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أمه، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرأ القرآن، ورأسه في حجري، وأنا حائض)) . ترجم لهذا الحديث في الحيض: باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض. وكان أبو وائل يرسل خادمه، وهي حائض، إلى أبي رزين فتأتيه بالمصحف، فتمسكه بعلاقته، ثم ذكر الحديث بلفظ: ((كان يتكئ في حجري، وأنا   (1) ((معالم السنن)) (1/354) ، و ((النسائي)) (2/13) . (2) ((الفتح)) (2/89) . (3) انظر شرحه للبخاري (25/235) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 حائض، ثم يقرأ القرآن)) وفعل أبي وائل يدل على جواز حمل الحائض المصحف، ولكن من وراء حائل، وكذا أبو رزين لو كان ذلك غير جائز عنده لم يمكنها من حمله، إلا أن يقال: إنه لم يعلم بحالها، والحجر بفتح الحاء وسكون الجيم وكسرها، هو: حضن الإنسان ما بين يديه من ثوبه. قال ابن دقيق العيد: ((فيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قولها: ((فيقرأ القرآن)) إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منعه، ولو كانت قراءة القرآن للحائض جائزة، لكان هذا الوهم منتفياً، أعني: توهم قراءة القرآن في حجر الحائض، ومذهب الشافعي الصحيح: امتناع قراءة الحائض القرآن)) (1) . والمقصود من الحديث هنا أن القراءة غير القرآن، إذ لو كانت القراءة هي القرآن، لما جاز أن يقرأ ورأسه في حجر عائشة وهي حائض. ((قال ابن المنير: ظن الشارح (2) أن غرض البخاري: إثبات جواز قراءة القرآن بتحسين الصوت، وليس كذلك. وإنما غرضه الإشارة إلى ما تقدم من وصف التلاوة بالحسن، والتحسين، والترجيع، والرفع، والخفض، ومقارنة الحالات البشرية، كقولها: ((يقرأ القرآن في حجري وأنا حائض)) . فكل ذلك يحقق: أن القراءة فعل القارئ، وأنها متصفة بما تتصف الأفعال به، ومتعلقة بالظروف المكانية، والزمانية)) (3) .   (1) ((شرح العمدة)) (1/127) . (2) هو ابن بطال. (3) ((الفتح)) (13/519) ، وانظر المنواري لابن المنير (ص431) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 قال: ((باب قول الله – تعالى -: {فَاقرَأُوا مَا تَيَسَرَ مِنهُ} . أمر الله – تعالى – عباده أن يقرءوا ما تيسر من القرآن، وهذا من اليسر عليهم، إذ قيد ذلك بما تيسر، ولم يكلفهم قراءته كله. والقراءة التي أمر الله عباده بها هي فعلهم، ومعلوم أنهم يتفاوتون في القراءة، وفي الحفظ والتحصيل، وفي جودتها والمهارة في القرآن، وفي الفهم ومعرفة المراد من الخطاب، وغير ذلك. وهذا كله فعلهم وعملهم، الذي يجازون عليه ويثنى عليهم به، ويمدحون، وهذا مراد البخاري – رحمه الله تعالى – من ترجمته بالآية، وسواء أريد بالقراءة الصلاة، أو نفس القراءة فإن القراءة ركن في الصلاة، وقد يعبر عن الشيء بركنه. قال الخازن: ((فيه قولان: أحدهما: أن المراد بهذه القراءة: القراءة في الصلاة؛ لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل. الثاني: أن المراد بما تيسر منه دراسته، وتحصيل حفظه، فيقرأ ما سهل عليه حفظه)) (1) . وقال الحافظ: ((المراد بالقراءة: الصلاة؛ لأن القراءة بعض أركانها)) (2) . قال ابن جرير: ((يقول: فاقرأوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم، وهذا تخفيف من الله – عز وجل – عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم، بقوله: {قُمِ الَّليلَ إِلا قَلِيلاً {2} نِصفَهُ أَوِ انقُص مِنهُ قَلِيلاً} )) (3) . وقال القرطبي: ((فيه قولان: أحدهما: أن المراد نفس القراءة، أي: فاقرأوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم.   (1) ((تفسير الخازن)) (7/170) . (2) ((الفتح)) (13/520) . (3) ((تفسير الطبري)) (29/141) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 والثاني: ((فاقرأوا ما تيسر منه)) أي: فصلوا ما تيسر عليكم، والصلاة تسمى قرآنا، كقوله: {وَقُرآنَ الفَجرِ} أي: صلاة الفجر)) (1) . 174- قال: ((حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن عبد القاري حدثاه، أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال: ((أرسله، اقرأ يا هشام)) فقرأ القراءة التي سمعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((كذلك أنزلت)) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأ يا عمر)) ، فقرأت، فقال: ((كذلك أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه)) . هشام بن حكيم بن حزام الأسدي، هو وأبوه صحابيان، ممن أسلم يوم الفتح، له فضائل جمة، وكان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فلذلك كان   (1) ((الجامع لأحكام القرآن)) (19/53-54) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 عمر – رضي الله عنهما – إذا بلغه الشيء المكروه يقول: أما ما عشت أنا وهشام فلا يكون ذلك. قال الحافظ: ((تأخر موته إلى خلافة علي بن أبي طالب، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر، وتوفي قبل والده رضي الله عنهما، وعن جميع صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - (1) ، قال ابن سعد: توفي أول خلافة معاوية)) (2) . قوله: ((فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة)) الخ، يعني: أن قراءة هشام تختلف عما قرأه عمر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ألفاظ كثيرة، فلذلك ظن عمر رضي الله عنه أن ذلك غلط من هشام. ((فكدت أساوره)) بالسين المهملة، أي: أواثبه وأجرره، قال النابغة: فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع أي: واثبتني، وفي رواية مالك: ((أن أعجل عليه)) . ومعنى كدت: قربت من أن أفعل فيه ذلك. ((فتصبرت)) أي: حملت نفسي على الصبر، حتى ينتهي من صلاته، وفي رواية مالك: ((ثم أمهلت حتى انصرف)) يعني: من صلاته، كما قال هنا: ((حتى سلم)) . ((فلببته بردائه)) أي: أدرت رداءه على رقبته، وجمعت طرفيه عند لبته، وأمسكته خشية أن ينفلت، ولهذا قال: ((فانطلقت به أقوده)) يعني: بردائه، ((فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟)) ظن عمر – رضي الله   (1) انظر ((الفتح)) (9/25) . (2) ((سير أعلام النبلاء)) (3/52) وانظر ((الاستيعاب)) (ص1538) ، و ((الإصابة)) : الترجمة رقم (8965) ، و ((أسد الغابة)) ... (5/398) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 عنه – أن هشاما أخذ هذه السورة عن غير رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأخطأ الذي أقرأه، أو أنه لم يتقنها فوقع في مخالفة ما تلقاه عمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا لما قال هشام: أقرأنيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال له عمر: كذبت، أقرأنيها على غير ما قرأت)) وكان عمر رضي الله عنه شديدا في أمر الله – تعالى -، ولهذا ذهب به يقوده بردائه حتى دخل به على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فقال له: ((إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان)) إلى آخره، وقد علم أن من قرأ القرآن على غير ما أنزله الله – تعالى – فقد ارتكب جرما يستحق العقاب عليه، وهذا هو الذي حمل عمر على ما فعله رضي الله عنه. ((فقال: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ القراءة التي سمعته)) يؤخذ من هذا مشروعية التثبيت في الأمور، ووقوف الحاكم بنفسه على الحقائق, وإن كان المخبر موثوقا به. ((فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كذلك أنزلت)) يعني: أنزلت من عند الله على ما قرأه هشام، ولم يكن مخطئا كما ظنه عمر – رضي الله عنه -. ((ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: اقرأ يا عمر، فقرأت، فقال: كذلك أنزلت)) . يعني: أن الله أنزل هذه السورة على ما قرأه عمر، فعمر وهشام كلاهما مصيب في قراءته؛ لأن القرآن نزل على أكثر من حرف، بل على سبعة أحرف. وأما قول الحافظ: ((وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قديما، ثم لم يسمع ما أنزل فيها، بخلاف ما حفظه وشاهده. ولأن هشام من مسلمة الفتح، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – أقرأه ما نزل أخيرا فنشأ اختلافهما من ذلك)) (1) . ففيه نظر، إذ لو كان الأمر على ما ذكره لقال   (1) ((الفتح)) (9/26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 الرسول - صلى الله عليه وسلم – لعمر: إن هذه الأحرف التي سمعتها من هشام نزلت بعد ما قرأت هذه السورة، ولكنه قال بعد ما سمع قراءة كل واحد منهما: ((كذلك أنزلت)) ، فتبين أن كلا من الحروف التي قرأها هشام، والحروف التي قرأها عمر، نزلت من عند الله. وليس في قراءة هشام زيادة عما عند عمر في الآيات، وإنما هناك اختلاف في الحروف فقط، ومن أجل ذلك قال لكل واحد منهما بعد ما سمع قراءته: ((كذلك أنزلت)) ويوضح ذلك قوله: ((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه)) أي: لا تتكلفوا التزام حرف واحد، فإن الله – تعالى – قد أوسع عليكم، ويسر لكم قراءة القرآن على سبعة أحرف، رحمة منه وفضلاً، فله الحمد والمنة. قال الجزري: ((نزل القرآن على سبعة أحرف؛ للتخفيف على هذه الأمة واليسر بها، والتهوين عليها؛ شرفا لها وتوسعة ورحمة؛ لأن العرب الذين نزل القرآن بلغاتهم، لغاتهم مختلفة، ويعسر على أحدهم انتقاله من لغته إلى غيرها، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك، ولا بالتعليم والعلاج، ولا سيما الشيخ والمرأة الكبيران، ومن لا يقرأ كتاباً، كما أشار إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ الفاني، والعجوز الكبيرة)) (1) . ومعنى الحرف كما قال أهل اللغة: حرف كل شيء طرفه وحافته، وأحد حروف التهجي، كأنه قطعة من الكلمة (2) . وقد اختلف العلماء في تعيين الحروف السبعة اختلافاً كثيراً، وأشكل ذلك على كثير من العلماء.   (1) النشر (1/71-72) ملخصاً. (2) سيأتي معنى الحرف أيضا في كلام ابن قتيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 فقيل: الحروف السبعة سبع لغات من لغات العرب مفرقة في القرآن، ورد هذا القول ابن جرير، وابن عبد البر، وغيرهما، ودل على عدم صحته هذا الحديث؛ لأن هشاماً وعمر كلاهما قرشي، فلغتهما واحدة، ولا يعقل أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعلم الرجل القرآن بغير لغته. وقيل: المراد بها: تأدية المعنى الواحد باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن هشاماً وعمر لغتهما واحدة، وقد اختلف قراءتهما. اختار هذا القول ابن جرير الطبري، وابن عبد البر، وقال: إنه قول أكثر العلماء، وهذا هو الصواب، كما يأتي بيانه. ((وقال الداني: معنى نزول القرآن على سبعة أحرف يحتمل وجهين: أحدهما: أنه نزل على سبعة أوجه من اللغات متغايرة في القرآن. الثاني: أنها قراءات سميت أحرفاً؛ لعادة العرب في تسمية الشيء باسم ما هو منه. وقد أجمع العلماء على أنه لم يقصد أن كل حرف يقرأ على سبعة أوجه، إذ لا يوجد ذلك إلا في كلمات معدودة، نحو ((أف)) و ((جبريل)) و ((أرجه)) و ((هيهات)) و ((هيت)) . كما أجمعوا أنه ليس المراد بالأحرف السبعة: قراءات القراء السبعة الذين اشتهروا بذلك؛ لأن أول من جمع قراءاتهم ابن مجاهد في أثناء المائة الرابعة. وأكثر العلماء على أنها لغات، كما قال أبو عبيد: إنها سبع لغات متفرقة في القرآن (1) . وهذا خلاف ما قاله ابن عبد البر: إن أكثر أهل العلم على أن المراد تأدية   (1) النشر (1/74-75) ملخصاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 المعنى الواحد بألفاظ مترادفة، وإن كان ذلك في لغة واحدة كما سبق قريباً، وتقدم أن هذا الحديث يؤيد صحة هذا القول، ويرد ما قاله الداني: إنه قول أكثر العلماء. قال الجزرى: - رحمه الله – ((ما زلت أستشكل هذا الحديث، وأفكر فيه، وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة، حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله – تعالى -، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها، وضعيفها، ومنكرها، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف، لا يخرج عنها. (1) إما في الحركات بلا تغير فى المعنى والصورة، نحو ((البخل)) بأربعة، و ((يحسب)) بوجهين. (2) أو بتغير في المعنى فقط، نحو: (فَتَلَقَّى آدَمَ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٌ) (1) ، {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} و ((أمه)) (2) . (3) وإما في الحروف بتغير المعنى، لا الصورة، نحو ((تبلوا)) و ((تتلوا)) (نُنَحِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) ، {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} (3) . (4) أو عكس ذلك [أي بتغير الحروف مع اتفاق المعنى] نحو ((بصطة)) و ((بسطة)) و ((الصراط)) و ((السراط)) (5) أو بتغيرهما نحو ((أشد منكم)) و ((أشد منهم)) ، و ((يأتل)) و ((يتأل)) و (فامضوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) و {فَاسعَواْ إِلَى ذِكرِ اللهِ} .   (1) يعني: بنصب آدم، ورفع كلمات، عكس القراءة المشهورة. (2) بالتاء المربوطة، وبالهاء. (3) الأولى بالحاء المهملة، والثانية بالجيم المشددة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 (6) أو بالتقديم والتأخير نحو {فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ} و (وَيُقْتَلُونَ فَيَقْتُلُونَ) ، و {وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِ} و (جَاءَتْ سَكْرَةُ الحَقِّ بالْمَوْتِ) . (7) أو في الزيادة والنقصان، نحو ((وأوصى)) و ((وصى)) و {وَمَا خَلَقَ الذَكَرَ وَالأُنثَى} و ((والذكر والأنثى)) . وأما اختلاف الإظهار والإدغام، والروم والإشمام، والتفخيم والترقيق، والمد والقصر، والإمالة والفتح، والتخفيف والتسهيل، والإبدال والنقل، ونحو ذلك مما يعبر عنه بالأصول، فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى)) (1) . وقال ابن قتيبة – رحمه الله – ((وقد غلط في تأويل هذا الحديث قوم، فقالوا: السبعة الأحرف: وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج. وقال آخرون: هي سبع لغات في الكلمة، وليس شيء من ذلك لهذا الحديث بتأويل. ومن قال: فلان يقرأ بحرف ((أبي عمرو)) (2) . أو بحرف ((عاصم)) (3) ، فإنه لا يريد شيئاً مما ذكر، وليس يوجد في كتاب الله – تعالى – حرف قرئ على سبعة أوجه يصح، فيما أعلم. وإنما تأويل قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((نزل القرآن على سبعة أحرف)) : على سبعة أوجه من اللغات، متفرقة في القرآن، يدلك على ذلك قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:   (1) النشر (1/77-78) . (2) هو: أبو عمرو بن العلاء بن عمار المازني، المقرئ، أحد الأئمة السبعة، توفي سنة (154هـ) . (3) هو عاصم بن أبي النجود، المقرئ المشهور، توفي سنة (127هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ((فاقرءوا كيف شئتم)) ، وقصة عمر مع هشام، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه)) . فمن قرأه، قراءة عبد الله بن مسعود، فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة أُبيّ بن كعب، فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة زيد بن ثابت، فقد قرأ بحرفه. والحرف يطلق على أحد حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، وعلى الكلام المؤلف في معنى، أو معان كثيرة، كما يقال: قال الشاعر في كلمته – يعني: قصيدته -. وقال الله -تعالى -: {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَلزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقوَىَ} (2) ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} (3) ، أراد سبحانه وتعالى: من يعبد الله على الخير يصبه، من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطائه السؤال، فهو مطمئن ما دام ذلك له. وإن امتحنه الله تعالى باللأواء في عيشه، والضراء في بدنه وماله، كفر به. فهذا عَبَدَ الله على وجه واحد، وهو معنى الحرف، ولو عَبَد الله على الشكر للنعمة، والصبر للمصيبة، والرضا بالقضاء، لم يكن عبد الله على حرف. وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات، فوجدتها سبعة أوجه: أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتابة، ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ   (1) الآية 74 من سورة التوبة. (2) الآية 26 من سورة الفتح. (3) الآية 11من سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 أَطهَرُ لَكُم} و (أَطْهَرَ لَكُمْ) (1) ، {وَهَل نُجازِي إِلاَّ الكَفُورَ} (وَهَل يجازي إِلاَّ الْكَفُورَ) ، و {وَيأمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخِلِ} والبَخَلِ (2) {فَنَظِرةُ إِلَى مَيسَرَةٍ} ((وميسرة)) (3) . الوجه الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة، وحركات بنائها بما يغير معناها، ولا يزيلها عن صورتها في الكتابة، نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِد بَينَ أَسفَارِنَا} و ((رَبُّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)) (4) ، وقوله تعالى: {إِذ تَلَقَّونَهُ بِأَلسِنَتكُم} و (تَلِقُونَه) (5) و {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} و ((أمه)) (6) 0) . الوجه الثالث: أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغير معناها، ولا يزيل صورتها، نحو قوله تعالى: {وَانظُر إِلَى العِظَامِ كَيفَ نَنشِرُهَا} ، وننشرها، وقوله: {حَتَّىَ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِم} وفرغ. الوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتابة، ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: {إِن كَانَت إِلاَّ صَيحَةً وَاحِدَةً} وقوله: ((إلا زقية واحدة)) وقوله: {كَالعِهنِ المَنفُوشِ} و ((كالصوف المنقوش)) . الوجه الخامس: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها، ومعناها، ونحو قوله: ((وطلع منضود)) في موضع، و {وَطَلِحٍ مَّنضُودٍ} في موضع آخر.   (1) الثانية بنصب الراء. (2) بفتح الخاء. (3) بضم السين. (4) الأولى بفتح الباء على صورة الدعاء، والثانية بضم الباء وفتح العين والدال، خبر. (5) بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف، من الولق، وهو الكذب. (6) أي: بعد النسيان له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 الوجه السادس: أن يكون الاختلاف في التقديم، والتأخير، نحو {وَجَاءَت سَكرَةُ المَوتِ بِالحَقِ} وفي موضع آخر ((وجاءت سكرة الحق بالموت)) . الوجه السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة، والنقصان، نحو قوله تعالى: {وَمَا عَمِلَتهُ أَيدِيهِم} وقوله: {إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُ الحَمِيدُ} و ((إن [الله] الغني الحميد)) . وكل هذه الحروف كلام الله – تعالى – أنزل به الروح الأمين، على رسوله – صلى الله عليه وسلم – وكان يعارضه في كل سنة، في شهر رمضان، وفي السنة التي توفي فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عارضه مرتين، فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره أن يقرئ كل قوم من العرب بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم. فالهذلي يقرأ ((عتى حين)) يريد {حَتَّىَ حِينٍ} ؛ لأنه هكذا ينطق بها. والأسدي يقرأ ((تِعْملون)) و ((تِعلم)) و ((يَسْوَدُّ وجوه)) و ((ألم إعْهَدْ إليكم)) . والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، فلو أمر كل واحد أن يلتزم لغة غيره لصعب عليه مفارقة ما جرت عليه عادته، وما نشأ عليه، ولم يمكنه ذلك إلا بمشقة، وبعد رياضة طويلة. فأراد الله رحمة منه، ولطفاً بعباده، أن يجعل لهم متسعاً في لغاتهم يناسب تيسيره عليهم في الدين. فإن قيل: أليس هذا اختلافاً، وقد قال الله – تعالى -: {وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللهِ لَوجَدُواْ فِيهِ اختِلافاً كَثِيراً} . قيل: الاختلاف نوعان: اختلاف تضاد، وهو الذي نفاه الله – تعالى – عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 كتابه، مثل أن ينهى عن شيء، ويأمر به في مكان آخر، أو ينفي الشيء، ويثبته في مكان آخر، ونحو ذلك، وهذا لا وجود له في كتاب الله – تعالى -. الثاني: اختلاف تنوع وتغاير، وهو جائز في الكلام، وكثير؛ لأن كل واحد لا ينافي الآخر، وذلك نحو قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بفتح التاء من ((علمت)) وضمها؛ لأن موسى – عليه السلام – خاطب فرعون بهذا، وهذا، فأنزل الله المعنيين جميعاً. ومثلها قوله تعالى: ((ننشرها)) و ((ننشزها)) فالانتشار، الإحياء، والإنشاز: هو التحريك، والحياة حركة، فلا فرق بينهما. وكذلك ((فزع عن قلوبهم)) و ((فرغ)) ؛ لأن فزع: خفف عنها الفزع، وفرغ: أزيل، وأخليت منه، وكل ما في القرآن من تقديم وتأخير، أو زيادة أو نقصان، فعلى مثل هذه السبيل. فإن قيل: هل يجوز أن نقرأ بجميع هذه الأوجه؟ قيل: كل ما كان منها موافقا لرسم المصحف [وقرأ به الأئمة، ونقل نقلاً متواتراً] جاز لنا أن نقرأ به؛ لأن الصحابة قد أجمعوا على ما فعله أمير المؤمنين، وحرقوا ما خالف المصحف الإمام، فلا يجوز لأحد أن يخالف المصحف الذي أجمع عليه الصحابة، رضوان الله عليهم، كما لا يجوز أن نكتب مصحفاً مخالفاً له (1) . وقال الحافظ: ((اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة، أبلغها أبو حاتم ابن حبان إلى خمسة وثلاثين قولاً. وقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} ، يدل على التوسعة في القراءة،   (1) ((تأويل مشكل القرآن)) (ص34-42) ببعض التصرف والتلخيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 والتيسير، وهذا يقوي قول من يقول: المراد بالأحرف: تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة؛ لأن هشاماً وعمر لغتهما واحدة، ونقل ابن عبد البر عن أكثر أهل العلم أن هذا هو المراد بالأحرف السبعة. وذهب أبو عبيد وآخرون إلى أن المراد: اختلاف اللغات، واتفقوا على أنه ليس المقصود أن كل كلمة تقرأ بسبع لغات. ولا يقصد أن التوسعة في القراءة تقع بالتشهي حسب مراد المتكلم، إذا أراد أن يغير الكلمة بمرادفها، بل لا بد في ذلك من السماع من الرسول – صلى الله عليه وسلم -. ولهذا جاء أن كل واحد من المختلفين الذين على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: أقرأني النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإن كان وجد من كان يقرأ بذلك، وإن لم يكن مسموعاً من النبي – صلى الله عليه وسلم -، مثل قراءة ابن مسعود (عَتَّى حِين) بلغة هذيل، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكتب إليه: ((إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل)) وهذا قبل أن يجمع أمير المؤمنين عثمان- رضي الله عنه – الناس على مصحف واحد، بقراءة واحدة. وحاصل ذلك أن معنى قوله: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) أنه أنزل موسعاً على القارئ أن يقرأه على سبعة أوجه، بأن يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من الآخر، وذلك لتسهيل قراءته، إذ لو أخذوا بأن يقرأوه على حرف واحد لشق عليهم)) (1) . وقال ابن عبد البر: ((وفي حديث عمر مع هشام رد لقول من قال: إنها سبع لغات؛ لأن عمر قرشي عدوي، وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما أنه محال أن يقرئ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واحداً   (1) ((الفتح)) (9/30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 منهما بغير ما يعرفه من لغته. والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا. وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجه من المعاني، المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو أقبل، وتعال، وهلم، وعليَّ. وعلى هذا الكثير من أهل العلم)) (1) . وهذا هو الصحيح، والأخبار الصحيحة والآثار عن علماء الأمصار تدل على صحة هذا القول، وأنه الصواب، مثل ما رواه الإمام أحمد، وابن جرير، وابن عبد البر، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((قال جبريل: اقرأوا القرآن على حرف، فقال مكائيل: استزده، فقال: على حرفين، حتى بلغ ستة أو سبعة أحرف، فقال: كلها شاف كاف، ما لم يختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، كقولك: هلم، وتعال)) ، وفي رواية ابن عبد البر: ((فقال مكائيل: استزده، حتى بلغ إلى سبعة أحرف، فقال: اقرأه فكل شاف كاف، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، وعلى نحو: هلم، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجل)) (2) . وروى الإمام أحمد، والطبري، من حديث أبي هريرة، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، غفورا رحيما، عزيزا حكيما، عليما حكيما)) وربما قال: ((سميعا بصيرا)) (3) ، قال ابن عبد البر:   (1) ((التمهيد)) (8/281) . (2) ((المسند)) (5/51) ، والطبري (1/23) ، والتمهيد (8/290) . (3) ((المسند)) (2/332) ، و ((تفسير الطبري)) (1/22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 ((وقوله: سميعا عليما، وغفورا رحيما، وعليما حكيما، أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، وأنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى، وضده، وما أشبه ذلك، وهذا كله يعضد قول من قال: إن معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه، نحو: هلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وانظر، وأخر)) (1) . وذكر عن الزهري أنه قال: ((إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد، ليس تختلف في حلال، ولا حرام)) (2) . وذكر عن أُبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَواْ فِيهِ} ((مروا فيه، سعوا فيه)) ، كل هذه الأحرف كان يقرؤها أُبيّ بن كعب، فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث)) (3) . وروى ابن جرير أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية: (إِنَّ نِاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَصْوَبُ قِيلاً) فقال بعض القوم: يا أبا حمزة، إنما هي ((وَأَقْوَمُ)) فقال: أقوم، وأصوب وأهيأ، واحد)) (4) . وروي عن سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر الله – تعالى ذكره – أنه قال: {إِنَّمَا يُعَلمُهُ بَشَرُ} إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكا يملي عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: سميع عليم، أو عزيز حكيم، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فيقول: أعزيز حكيم؟ أو سميع عليم؟ أو عزيز عليم؟ فيقول له رسول الله   (1) ((التمهيد)) (8/284) . (2) ((التمهيد)) (8/291) . (3) المصدر نفسه. (4) ((تفسير ابن جرير)) (1/52) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 – صلى الله عليه وسلم -: أي ذلك كتبت، فهو كذلك، ففتنة ذلك، فقال: إن محمداً وَكَلَ ذلك إليَّ، فاكتب ما شئت. وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة (1) . ومما يسأله عنه، هل هذه الحروف السبعة موجودة في المصحف الذي بين أيدي المسلمين؟ أو أنها كانت زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم، والخليفتين بعده، وصدرا من خلافة عثمان – رضي الله عنهم – ثم لما جمع عثمان الناس على مصحف واحد، تركت الحروف الستة، أو بعضها؟ قال الحافظ: ((قال أبو شامة: وقد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، هل هي مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم، أو ليس فيه إلا حرف واحد منها؟ مال ابن الباقلاني إلى الأول، وصرح الطبري وجماعة بالثاني، وهو المعتمد. وقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف، عن أبي الطاهر بن أبي السرح، قال: سألت ابن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين: هل هي الأحرف السبعة؟ قال: لا، وإنما الأحرف السبعة مثل: هلم، وتعال، وأقبل، أي ذلك قلت أجزاك)) قال: وقال لي ابن وهب مثله. والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله، المقطوع به، المكتوب بأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – وفيه بعض الأحرف التي اختلف فيها من الأحرف السبعة، لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ} في آخر براءة، وفي غيره بحذف ((من)) .   (1) ((تفسير ابن جرير)) (1/54) تحقيق محمود شاكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار في عدة واوات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابته لواحد، أو اثنين، [وعلمه بعض الصحابة] ، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم، فهو مما كانت القراءة جائزة به توسعة على الناس، وتسهيلاً، فلما آل الأمر إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان – رضي الله عنه – وكفَّر بعضهم بعضاً، اختار الصحابة – رضي الله عنهم – الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار على حرف واحد، كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة؛ لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة، لم يكن على سبيل الإيجاب، بل على سبيل الرخصة. قلت: ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} وقال أبو العباس ابن عمار: أصح ما عليه الحذاق: أن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها، لا كلها، [فما وافق رسم المصحف من تلك الحروف جازت القراءة به مع التواتر] ، وما خالفه مثل: ((أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج)) ، ومثل: ((إذا جاء فتح الله والنصر)) فهو من تلك القراءات التي تركت، إن صح سندها، ولا يكفي صحة سندها في إثبات كونها قرآناً، ولا سيما والكثير منها مما يحتمل أن يكون من التفسير الذي قرن إلى التنزيل، فصار يظن أنه منه)) (1) . وقال البغوي في ((شرح السنة)) : ((المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فأمر عثمان – رضي الله عنه – بنسخه في المصاحف، وجمع الناس عليه، وأذهب ما سوى ذلك؛ قطعاً لمادة الخلاف،   (1) ((الفتح)) (9/30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ، والمرفوع، كسائر ما نسخ، ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم)) (1) . قال ابن عبد البر: المصحف الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد، وعليه أهل العلم. ثم ذكر عن مالك أنه سئل عمن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب: ((فامضوا إلى ذكر الله؟ فقال: ذلك جائز، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا منه ما تيسر)) ، مثل ((تعلمون، ويعلمون، لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأساً. ثم قال: قال ابن وهب: أخبرني مالك بن أنس، قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ {43} طَعَامُ الأَثِيمِ} فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال ابن مسعود: طعام الفاجر، فقلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟ قال: نعم، أرى ذلك واسعاً. قال: معناه عندي: أن يقرأ به في غير الصلاة (2) ، وإنما ذكرنا عن مالك تفسيراً لمعنى الحديث، وإنما لم نجز القراءة به في الصلاة؛ لأن ما عدا مصحف عثمان فلا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن، التي نقلها الآحاد، لكن لا يقدم أحد على القطع في رده. وذكر عن ابن القاسم أنه قال: أرى أن على الإمام أن يمنع من يبيع مصحف ابن مسعود، وأن يضرب من قرأ به، ويمنعه.   (1) ((الفتح)) (9/30) ، وانظر ((شرح السنة)) (4/511) ، وقد تصرف الحافظ فيه. (2) الظاهر أن ابن مسعود أراد أن يفسر الأثيم، ويبين معناه له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 وقد قال مالك: من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود، أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف، لم يصل وراءه. وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوماً شذوا، لا يعرج عليهم. وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها إلا حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان – رضي الله عنه – المصحف. وذكر بسنده إلى أبي الطاهر، قال: سألت سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين، والعراقيين، هل تدخل في السبعة الأحرف؟ فقال: لا. وإنما السبعة الأحرف كقولهم: هلم، أقبل، تعال، أي ذلك قلت أجزأك. قال أبو طاهر: وقاله ابن وهب. قال أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ: معنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين، والمدنيين، حرف واحد، من الأحرف السبعة، وبه قال محمد بن جرير الطبري. وقال أبو جعفر الطحاوي: كانت هذه السبعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها؛ لأنهم أميين، لا يكتبون إلا القليل منهم، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له، إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متفقاً، فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقرأوا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرأوا بخلافها. وبان بما ذكرناه أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد)) (1) . فإن قيل: هذه الأحرف أنزلها الله، وعلمها الرسول – صلى الله عليه وسلم – الصحابة، فثبتت لديهم من كلام الله، وتركها وعدم الاعتناء بها وحفظها ونقلها يكون تفريطاً من الأمة بما كلفت بحفظه. قيل: الأمر كذلك أن الله أنزلها قرآناً، والرسول – صلى الله عليه وسلم – علمها الصحابة، وحفظهم إياها، ولكن الأمة لم تفرط بحفظها، ولم تضيع ما كلفت به، وإنما جعل الأمر إليها، فخيرت في قراءة القرآن بأي حرف من الأحرف السبعة شاءت، مثل تخييرها في كفارة اليمين بين ثلاثة الأشياء، المذكورة في الآية، إما عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فلو أجمعوا على التكفير بواحدة من الثلاث دون حصر التكفير بأي واحدة من الثلاث شاء المكفر لكان ذلك صواباً، مؤدياً للواجب من حق الله – تعالى -. فكذلك مسألة الأحرف السبعة، فإن الله خيرهم فيها توسعة لهم وتسهيلاً عليهم، فإذا رأت الأمة الاقتصار على حرف واحد، من الأحرف السبعة؛ لأمر أوجب ذلك، من خوف الاختلاف، والكفر الذي قد يكون من بعضهم لبعض بسبب القراءة بالأحرف السبعة، كان الصواب – بل الواجب – هو الاقتصار على حرف واحد منها، مع أمن الاختلاف، والتفرق. وهذا ما أدركه الخليفة الثالث، ووافقه عليه أصحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – فكان فيه الخير، والرشد، والهدى، وقد أوضح ذلك الإمام ابن جرير في مقدمة التفسير (2) . ومقصد البخاري: قوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} فأسند القراءة إليهم، مما يدل على أنها فعلهم، ولما فيها من وصف التيسير، فإنهم يختلفون في ذلك،   (1) ((التمهيد)) (8/291-24) . (2) انظر (1/58) بتحقيق محمود شاكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 فمنهم من ييسر له أكثر مما ييسر لغيره، ولما فيه من اختلاف قراءتهم، فكل واحد منهم قرأ بغير قراءة الآخر، فالاختلاف وصف لقراءتهم، لا للقرآن، وهذا كله يدل على أن ذلك فعلهم، وهو المقصود. ***** قال: باب قول الله تعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مُيَسر لِمَا خُلِقَ لَهُ)) يقال: ميسر: مهيأ. وقال مجاهد: يسرنا القرآن بلسانك، هونا قراءته عليك. وقال مطر الوراق: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قال: ((هل من طالب علم فيعان عليه) . قال العيني: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي: سهلناه للادكار والاتعاظ. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} متعظ، وأصل ((مدكر)) مفتعل من الذكر، قلبت التاء دالاً، ثم أدغمت في الأخرى (1) . قال ابن جرير: ((يقول تعالى ذكره: ولقد سهلنا القرآن، بيناه، وفصلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر، ويعتبر، ويتعظ، وهوناه. ثم روى عن مجاهد أنه قال: هوناه، وعن ابن زيد، قال: بيناه. ثم قال: وقال بعضهم: هل من طالب علم، أو خير، فيعان، وهو قريب المعنى مما قلناه)) (2) . وقال ابن كثير: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي: سهلنا لفظه، ويسرنا معناه، لمن أراده ليتذكر الناس، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ   (1) ((عمدة القاري)) (25/195) . (2) ((تفسير الطبري)) (27/96) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} ِ (1) وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} ِ (2) ، وقال مجاهد، يعني: هونا قراءته. وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن. وقال الضحاك: عن ابن عباس: ((لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل)) (3) . {فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} استفهام أريد به الحض على التذكر، ولا بد قبل التذكر من التعلم، فالله - تعالى - قد سهل طرق حفظ القرآن، وفهمه، وثمرة ذلك: العمل به، والاتعاظ بمواعظه. قال ابن كثير: {فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} أي: فهل من متذكر بهذا القرآن الذي يسر الله حفظه ومعناه؟ وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟ (4) . وقال القسطلاني: ((ولقد سهلناه للحفظ، وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه، ويروى أن كتب أهل الأديان كالتوراة والإنجيل، لا يتلوها أهلها إلا نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن)) (5) . وقول مجاهد، تقدم أن ابن جرير رواه بسنده عنه، وقال الحافظ: رواه الفريابي في تفسيره بسنده.   (1) الآية 29 من سورة ص. (2) الآية 97 من سورة مريم. (3) ((تفسير ابن كثير)) (7/453) . (4) المصدر نفسه. (5) ((إرشاد الساري)) (10/469) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 وقوله: ((هونا قراءته عليك)) لا يريد اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فإن ظاهر الآية يدل على العموم، ولهذا قال: {فَهَل مِن مُّدَّكِرٍ} وإنما يريد تهوين قراءته على كل من أقبل عليه صادقاً، ويدخل في ذلك فهم معانيه، فإن الله - تعالى - قد يسرها لمن تدبره. وقول مطر الوراق، سبق أن ابن جرير رواه بسنده، وقال: إنه قريب المعنى مما قلناه، يعني: فصلناه، وبيناه، لمن أراد الفهم والتذكر، والاتعاظ، وذلك لما في لفظ التيسير مما يدل على التسهيل، والإعانة، وما يدل عليه الاستفهام من إرادة ذلك، والله أعلم. ومقصود البخاري: أن حفظ كتاب الله وفهمه، والتذكر به والاتعاظ، وكذلك تلاوته وقراءته، كل ذلك عمل العبد الذي يطلب من ربه أن يعينه عليه، ويسهله له، وقد وعد بذلك جل وعلا. أما المفهوم المحفوظ المتلو فهو غير فعل العبد المخلوق، بل هو كلام الله وصفته. 175- قال: ((حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا يزيد، حدثني مطرف بن عبد الله، عن عمران، قال: قلت: يا رسول الله، فيما يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له)) . هذا السؤال تكرر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدد من أصحابه، فبين لهم أن الله - تعالى - قد علم أهل الجنة وأهل النار قبل وجودهم، وأنه تعالى قد كتب ذلك في الأزل، ونهاهم - صلى الله عليه وسلم - أن يتكلوا على ذلك الكتاب، ويدعوا العمل. وكأنه عرض لهم أنه إذا كان أهل الجنة قد عملوا، وكتبوا، وكذلك أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 النار، فلا فائدة في العمل، والاجتهاد، فإنه لا بد من حصول المكتوب، فأجابهم عن ذلك بقوله: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) ، يعني: أن الذي كتب من أهل الجنة سوف يهيئ الله له أسباب عمل أهل الجنة، وييسرها له فيعملها، فتكون سبباً لدخوله الجنة. وكذلك الذي كتب من أهل النار، لابد أن يعمل عملاً يستحق به دخول النار، وقد أوضح ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – إيضاحا تاما. ففي سنن أبي داود، والترمذي، أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سئل عن هذه الآية: {وَإِذ أَخَذَ رَبُكَ مِن بَنِي آَدَمَ مِن ظُهُورِهِم ذُرِيَّتَهُم} ؟ فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عنها فقال: ((إن الله – عز وجل – خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون)) . فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله – عز وجل – إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار)) (1) . وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين   (1) انظر ((السنن)) لأبي داود (5/79-80) ، والترمذي (5/266) رقم (3075) وقال: حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. ورواه الإمام أحمد في ((المسند)) (1/44، 45) ، وابن وهب في ((كتاب القدر)) (ص73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)) (1) . وفيه أيضاً عن أبي الأسود الدِّئِليّ، قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشي قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله، وملك يده، فلا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا حرز عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشي قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: ((لا، بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، وتصديق ذلك كتاب الله – عز وجل -: {وَنَفسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَألهَمَها فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا} (2) . وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي يده كتابان، فقال: ((هل تدرون ما هذان الكتابان؟)) فقلنا: لا، إلا أن تخبرنا يا رسول الله، فقال للذي بيده اليمنى: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وأجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً)) .   (1) انظر (4/2044) رقم (2653) . (2) ((صحيح مسلم)) (4/2041) رقم (2650) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، وأجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)) . فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله؟ إن كان الأمر قد فرغ منه؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل)) . ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيديه، فنبذهما، ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير)) (1) . والأحاديث في هذا كثيرة، ففي ذلك أن الله – تعالى – علم أهل الجنة وكتبهم، وأرادهم كوناً من أهلها، وكذلك أهل النار، قبل وجودهم بزمن طويل جداً، وقبل أن يعملوا ما يستحقون عليه دخول الجنة أو النار، وهذا من كمال علم الله – تعالى -، وهو مما يجب الإيمان به، وقد نص الأئمة على كفر من جحده. قال اللالكائي: ((روي عن مالك بن أنس، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن العنبري: يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا. وعن سعيد بن جبير: القدرية يهود، وعن الشعبي: القدرية نصارى. وعن نافع مولى ابن عمر: القدرية يقتلون، وحكى المزني عن الشافعي: أنه كفرهم، وعن إبراهيم بن طهمان: القدرية كفار.   (1) رواه الترمذي (4/249) ، وابن وهب في كتاب القدر (83-87) والآجري في الشريعة (ص173) ، وابن جرير في ((التفسير)) من طريق ابن وهب (25/9) ، وهذان الكتابان اللذان أخذهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليسا هما الكتابان اللذان كتب الله فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار، وإنما ذلك تمثيل من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتقريب إلى أفهام الناس بأن الله – تعالى – علم كل شيء مما سيكون وما يصير إليه العباد، وكتبه تأكيداً لعلمه تعالى، فلا يتغير ولا يتبدل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 وعن أحمد بن حنبل مثل قول مالك)) (1) . وفي هذه الأحاديث بيان أن كل أحد لا بد له من عمل يكون سبباً لدخوله الجنة أو النار. فالنبي – صلى الله عليه وسلم – بين أن الله – تعالى – علم أهل الجنة، وأهل النار، وأنه كتب ذلك ونهى الناس أن يتكلوا على ما سبق في الكتاب عليهم، ويدعوا العمل، كما يفعله الملحدون، وقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأهل السعادة سوف تتهيأ لهم من الأسباب ما تمكنهم من عمل أهل السعادة. وكذلك أهل الشقاء، لا بد أن يعملوا الأعمال التي يشقون بها، ويستحقون النار عليها. فالله – تعالى- يعلم كل شيء على ما هو عليه، وقد جعل لكل شيء سبباً، وجعل العبد قادراً على العمل الذي كتب عليه، فيفعله مختاراً، راغباً غير مجبر عليه، ولا ملزم به. ولهذا يجب على العبد، مع الإيمان بالقدر: الاجتهاد في العمل، والأخذ بأسباب النجاة، والالتجاء إلى الله – تعالى – بأن ييسر له أسباب السعادة، وأن يعينه عليها. والله – تعالى – مع غناه عن الخلق كلهم، خلقهم، وأرسل إليهم الرسل تبين لهم ما يسعدهم، وما فيه شقاؤهم، وهدى عباده المؤمنين لما خلقوا له، وهداهم لما اختُلِف فيه من الحق، فمنَّ عليهم أن حبب إليهم الإيمان، والعمل الصالح، ويسر ذلك لهم، وأعانهم عليه، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم ضده من الكفر والمعاصي، والفسوق، وجعلهم راشدين، وكل ذلك فضل منه   (1) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/706-707) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 وكرم من غير استحقاق لهم عليه، فإيجادهم من العدم فضل منه، وإرسال الرسل إليهم تدلهم على الحق فضل منه، وهدايته لهم فضل منه، وجميع ما ينالون به الخير من قواهم وغيرها بفضله، وكذلك إثابته لهم على أعمالهم الصالحة فضل منه وكرم، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرم على نفسه الظلم، قال تعالى: {كَتبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ} وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلينَا نَصرُ المُؤمِنينَ} ، فهو واجب بإيجابه ووعده، وهو لا يخلف وعده، وكل ذلك بفضله ومنته، والخلق لا يوجبون على الله شيئاً، ولا يحرمون عليه شيئاً، بل هم أعجز من ذلك، وأقل. فكل ما يصيب الخلق من النعم فهي من فضل الله، وكرمه، وكل ما يصيبهم من النقم فهي بعدل، وهم يستحقونها جزاء لأعمالهم، ويعفو الله عن كثير. ولا بد للعبد أن يجمع بين أمر الله وقدره، ووعده، ووعيده؛ لأن من أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد، معتمداً على القدر، فهو ضال، ومن حاول القيام بالأمر والنهي، وأعرض عن القدر، فهو أيضا ضال، ولهذا أمر الله عباده أن يعبدوه مستعينين به على ذلك، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ} . فيعبدون اتباعا لأمره، ويستعينونه إيماناً بالقدر، وذلك أنه لا يقع شيء إلا بعد مشيئته، وهو الخالق لكل شيء، ومن ذلك أفعال العباد، وإن كانت تقع باختيارهم وقدرتهم، فهو الخالق لها، ولا تقع إلا إذا شاء، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالِمينَ} (1) ، وإذا لم يعن الله العبد على الفعل لم يستطعه.   (1) الآية آخر سورة التكوير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته، كما تزعم القدرية المجوسية فهو جاحد لقدرة الله التامة، ومشيئته الشاملة لكل شيء، وخلقه لكل شيء. ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محموداً، محبوباً، سواء وافق ذلك الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب كتبه ورسله، ووعده، ووعيده، واستوجب غضب الله وعقابه، وصار من الذين قال الله عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} (1) . قوله: ((فيم يعمل العاملون؟)) أي: أعمال العباد، هل قدرها الله عليهم وسبق علم الله بها، وكتابته لها، فهم يعملون في أشياء قضاها الله وفرغ منها، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما قدره، وقضاه؟ وهذا هو الواقع. أو أنهم يعملون في شيء لم يقدر، ولم يكتب عليهم، بل هو موكول إليهم؟ وذكر هذا الحديث في القدر بلفظ: ((قال رجل: يا رسول الله، أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له، أو لما ييسر له)) (2) . فقوله: ((فيم يعمل العاملون؟)) مرتب على قول النبي – صلى الله عليه وسلم – إنه قد علم أهل الجنة، من أهل النار، فكأنه وقع في نفسه أنه ما دام قد فرغ من ما يصير إليه العباد، وعلم الله أهل السعادة، وأهل الشقاء، قبل وجودهم، فلماذا العمل، والإنسان لا بد أن يصير إلى ما كتب عليه، فهي أمور منتهية، ولابد من حصولها؟   (1) الآية 148 من سورة الأنعام. (2) ((البخاري)) (8/104) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 فأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم – بما أزال هذا الإشكال بقوله: (كل يعمل لما خلق له)) ، يعني أن أهل الجنة لا بد أن يعملوا أعمالاً يستحقون بها دخول الجنة، وأهل النار لا بد أن يعملوا أعمالاً يستحقون بها دخول النار. وقد علم الله أن من يكون من أهل الجنة يعمل عملهم، وييسر ذلك له، ويتفضل عليه، فيحبب إليه الإيمان، ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله راشداً مطيعاً مهتدياً، وهذا كله فضل الله ومنته، وهو معنى تيسيره لليسرى، وأما أهل النار فقد علم الله – تعالى – أنهم يكفرون، ويبغضون الإيمان، ويأبونه، ويفعلون ذلك اختياراً منهم، وحباً له، بعكس أهل الإيمان، وهو معنى تيسيرهم للعسرى، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل ميسر لما خلق له)) . ووجه الاستدلال من الحديث: أن قوله: ((كل ميسر لما خلق له)) يدل على أن العبد له عمل ييسر له فيعمله، فيستحق عليه الجزاء، وذلك الجزاء هو الذي خلق العبد له، إما الجنة وإما النار، فالعبد فاعل على الحقيقة، فهو المؤمن، والمصلي، والعامل، حقيقة، وهو الكافر، والمنافق، والعاصي، والسارق، والزاني، حقيقة، ولذلك استحق العذاب، أو الثواب. وكذلك هو القارئ إذا قرأ كتاب الله – تعالى -، فالقراءة فعله، وكسبه، وعمله، والمقروء: كتاب الله وصفته الذي تكلم به، وقاله، وأنزله على رسول – صلى الله عليه وسلم -، وقد يسر الله القرآن للذكر، فإذا تذكره العبد، وقرأه، وعمل به، فذلك عمله، يضاف إليه، ويجزى عليه. قال الإمام البخاري - رحمه الله -: ((ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف، ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 إن ما ذكره الله في القرآن من الجن، والإنس، والملائكة، والمدائن، ومكة، والمدينة، وغيرها، وإبليس، وفرعون، وجنودهما، والجنة، والنار، عاينتهم بأعيانهم في المصحف؛ لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب فيه. ويلزمك أكثر من ذلك، حين تقول: الله في المصحف، وهذا أمر بيَّن؛ لأنك تضع يديك على هذه الآية، وتراها بعينك: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} هو قرآن، فالقرآن قول الله – عز وجل – والقراءة، والكتابة، والحفظ للقرآن، هو فعل المخلوق؛ لقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنهُ} وقوله: {فَاقرَءُواْ مَا تَيَسَرَ مِنَ القُرآَنِ} . والقراءة فعل الخلق، وهي طاعة الله، والقرآن ليس هو بطاعة، إنما هو الأمر بالطاعة، ودليله قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (1) ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} (2) ، وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (3) ، وقال عز وجل: {يَأَيُهَا الرَّسُولُ بَلِغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِكَ} ، فلذلك كله مما أمر به، ولذلك قال: {أَقِيمُواْ الصَّلاةَ} ، والصلاة بجملتها طاعة لله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان. والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ، وحفظ، وكتب، ليس   (1) الآية 106 من سورة الإسراء. (2) الآية 29 من سورة فاطر. (3) الآية 17 من سورة القمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 بمخلوق، ومن الدليل عليه: أن الناس يكتبون ((الله)) ويحفظونه، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه، والخالق الله بصفته)) (1) 176- قال: ((حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندور، حدثنا شعبة، عن منصور والأعمش، سمعا سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان في جنازة، فأخذ عوداً فجعل ينكت في الأرض، فقال: ((ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة، أو من النار)) قالوا: ألا نتكل؟ قال: ((اعملوا، فكل ميسر، {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الآية)) . ((أنه كان في جنازة)) قال الأزهري: ((قال أبو العباس: الجنازة بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت، وقال الليث: الإنسان الميت، والشيء الذي قد ثقل على قوم، واغتموا به، هو جنازة، عن الأصمعي: الجنازة – بالكسر – هو الميت نفسه)) (2) . وفي ((المصباح)) : ((جنزت الشيء، أجنزه – من باب ضرب -: سترته، ومنه اشتقاق الجنازة، وهي بالفتح والكسر، والكسر أفصح، وقال الأصمعي وابن   (1) ((خلق أفعال العباد)) (188-190) . (2) ((تهذيب اللغة)) (10/622) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 الأعرابي: بالكسر: الميت نفسه، وبالفتح: السرير، وروى أبو عمر الزاهد، عن ثعلب عكس هذا، فقال: بالكسر: السرير، وبالفتح: الميت نفسه)) (1) . ((فأخذ عوداً فجعل ينكت في الأرض)) أي: يضرب فيها بذلك العود، ويكون ذلك عادة من فعل المفكر المهموم. ((فقال: ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار)) الخطاب وإن كان موجهاً إلى الحاضرين، فالمقصود به عموم الخلق من الإنس والجن. ومعنى كتابة مقعده: أن الله علم مصيره، ومستقره في الجنة أو في النار، وكتبه، وذلك قبل وجوده، كما سبقت الإشارة إليه. ((قالوا: ألا نتكل؟)) أي: ندع العمل اعتماداً على ما كتب لنا، وقدر، فإننا لا بد صائرين إليه، فلا يكون في العمل تغيير لما كتب، وهذا الإشكال يعرض لكثير من الناس، وقد أزاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: ((اعملوا فكل ميسر)) أي: ميسر لما خلق له من الجنة أو النار، فإن كان العبد خلق للجنة والسعادة، فسوف يهيئ الله له من أسباب السعادة، وييسرها له ويسهلها عليه، حتى يتمكن من العمل الذي يكون سبباً لذلك، وإن كان من أهل الشقاء، فلا بد أن يقيّض له من الأسباب ما يتمكن به من العمل للشقاء. فالله – تعالى – لا يظلم أحداً، وقد حرم الظلم على نفسه – تعالى – وجعله بين عباده محرماً، ولكن لكمال قدرته خلق العبد فاعلاً مختاراً، فإما   (1) ((المصباح المنير)) (1/153) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 أن يختار طريق الهدى، أو طريق الردى، وكل واحد من الفريقين يجد نفسه غير مدفوع إلى ذلك، بل يفعله عن رغبة منه، واختيار، ولو حيل بينه وبين ما يريده لربما قاتل من يحاول أن يصده عن مراده، والله – تعالى – ييسر للعبد من العمل ما يستحق به ما كتب عليه وقدر، قبل أن يخلق، ولهذا قرأ النبي – صلى الله عليه وسلم – قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى {5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى {6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى {7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى {8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى {9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . وتقدم وجه الدلالة من الحديث لمراد البخاري في الحديث الذي قبله، وهو أن التيسير يدل على أن العبد الذي يسر له العمل عامل حقيقة، ويدخل في ذلك قراءة القرآن، فهي عمل القارئ، وأما المقروء فهو كتاب الله – تعالى – كما سبق. قال ابن المنير: ((ما ذكره البخاري في هذا الباب راجع إلى ما تقدم من وصف القراءة بالتيسير، وهذا يدل على أنها فعل [العبد] ، ويشهد [له] قوله: كل ميسر لما خلق له، ومما خلق له التلاوة، والله أعلم)) (1) . قوله: ((ومما خلق له التلاوة)) يعني: أنها عمل الإنسان الذي يترتب عليه مصيره الذي كتب له، كما مر في الحديث. ذكر شيخ الإسلام أن الجهمية افترقت على ثلاث فرق، فرقة تقول: القرآن مخلوق، وفرقة تقول: كلام الله، وتسكت، وفرقة تقول: ألفاظنا   (1) ((المتواري)) (ص432) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وتلاوتنا للقرآن مخلوقة. وحقيقة قول هؤلاء: أن القرآن الذي نزل به جبريل على محمد مخلوق لم يتكلم الله به، وشبهتهم: أن أفعالنا وأصواتنا مخلوقة، ونحن إنما نقرؤه بحركاتنا وأصواتنا. ثم قابل هؤلاء قوم أرادوا رد باطلهم، فوقعوا في باطل آخر، حيث قالوا: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة (1) ؛ لأن هذا هو القرآن، وهو غير مخلوق. ولم يفرقوا بين الاسم المطلق، والاسم المقيد بالدلالة، فأنكر الإمام أحمد على هؤلاء وبَدّعهم، وأحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقاً، حروفه أو معانيه، وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله، كما ينكرون على من يجعل شيئاً من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق. وكلام أحمد في مسألة التلاوة، والقراءة، والإيمان، من نمط واحد، منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق؛ لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق، ولما فيه من الذريعة، ومنع أيضاً إطلاق القول بأنه غير مخلوق؛ لما فيه من البدعة والضلال. وذلك أن التلاوة، والقراءة، واللفظ، قد يراد به مصدر: تلا يتلو تلاوة، وقرأ يقرأ، قراءة، ولفظ، يلفظ، لفظاً، ومسمى المصدر هو فعل العبد، وحركاته، وذلك مخلوق، ليس هو القول المسموع المتلو. وقد يراد بالتلاوة، والقراءة، واللفظ: المتلو، المقروء، المتلفظ به، وهو المسموع، وهذا هو كلام الله – تعالى – ليس بمخلوق.   (1) ممن يقول بذلك محمد بن داود المصيصي، وأبو حاتم الرازي، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو نصر السجزي، وأبو عبد الله بن منده، وأبو إسماعيل الهروي، وأبو العلاء الهمداني، وأبو الفرج المقدسي: انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/361) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وقد يراد مجموع الأمرين، فلا يجوز إطلاق القول بأنه مخلوق، ولا نفي الخلق عن الجميع (1) . ***** قال: ((باب قول الله -تعالى -: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} . أي: ليس الأمر، كما قال المكذبون لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ما يقوله شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين اكتتبها، ليس الأمر كذلك، بل هو قرآن مجيد)) قال البغوي: كريم، شريف، كثير الخير، ليس كما زعم المشركون، أنه شعر، أو كهانة. {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قرأ نافع بالرفع، على أنه نعت للقرآن، فإن القرآن محفوظ من التبديل والتغيير، والتحريف؛ قال الله – تعالى -: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقرأ الباقون بالجر، على أنه نعت للوح، وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، ومنه تنسخ الكتب، محفوظ من الشياطين، ومن الزيادة فيه، والنقصان)) (2) . و ((المجيد)) الكريم، واسع الخير، كثير الصفات الحميدة. قال ابن القيم: ((المجد مستلزم للعظمة، والسعة والجلال، كما يدل عليه موضوعه في اللغة، فهو دال على صفات العظمة والجلال)) (3) . والقرآن عظيم، واسع المعاني، كثير الخير، وفيه الهدى والنور، وهو جليل القدر؛ إذ هو كلام رب العالمين.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/359-374) ملخصاً. (2) ((تفسير البغوي على هامس الخازن)) (7/232) . (3) ((جلاء الأفهام)) (ص216) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 قوله: {وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} ، قال قتادة: مكتوب)) . قال ابن كثير – رحمه الله -: ((يقسم تعالى بمخلوقاته، الدالة على قدرته العظيمة، أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع له عنهم، فالطور هو: الجبل، الذي يكون فيه أشجار، مثل الذي كلَّم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى، وما لم يكن فيه شجر، لا يسمى طوراً، وإنما يقال له: جبل. {وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} قال قتادة: مكتوب، قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة، التي تقرأ على الناس، جهاراً، ولهذا قال: {فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} (1) . قال البخاري – رحمه الله -: ((وقال إسحاق بن إبراهيم: فأما الأوعية، فمن يشك في خلقها؟ قال الله – تعالى -: {وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ {2} فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} ، وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ذكر أنه يحفظ، ويسطر. قال: {وَمَا يَسطُرُونَ} . ثم روى عن قتادة قال: {وَالطُّورِ {1} وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ} قال: المسطور: المكتوب، {فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} : وهو الكتاب، وروى عن مجاهد: (كتاب مسطور) : وصحف مكتوبة، (في فِي رَقٍ مَّنشُورٍ) : في صحف)) (2) . ((قال أبو عبد الله: فأما المداد، والرق، ونحوه، فإنه خلق، كما أنك تكتب ((الله)) ، فالله في ذاته هو الخالق، وخطك واكتسابك من فعلك خلق؛ لأن كل شيء، دون الله، صفة، وهو خلق، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ   (1) ((تفسير ابن كثير)) (7/403) . (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص43) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيراً} وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِ الكِتَابِ لَدَينَا لَعَلِيٌ حَكِيم} ، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (1) . قوله: {يَسطُرُونَ} : يخطون)) . تفسير لقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} . قال ابن كثير: {وَالقَلَمِ} الظاهر أنه جنس القلم، الذي يكتب به، كقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، فهو قسم منه تعالى، وتنبيه لخلقه، على ما أنعم به عليهم، من تعليم الكتابة، التي بها تنال العلوم. ولهذا قال: {وَمَا يَسطُرُونَ} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: وما يكتبون، وقال أبو الضحى: عن ابن عباس {وَمَا يَسطُرُونَ} أي: وما يعملون، وقال السدي: {وَمَا يَسطُرُونَ} يعني: الملائكة، وما تكتب من عمل العباد)) (2) . قوله: {فِي أُمِّ الْكِتِابِ} : جملة الكتاب وأصله)) . قال ابن كثير: ((قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتِابِ لَدَينَا لَعَلِيٌ حَكِيمُ} يبين شرفه، في الملأ الأعلى، ليشرفه ويعظمه، ويتبعه أهل الأرض، فقال تعالى: {وَإِنَّهُ} أي: القرآن: {فِي أُمِّ الْكِتِابِ} أي: اللوح المحفوظ، قاله ابن عباس، ومجاهد {لَدَينَا} أي: عندنا، قاله قتادة وغيره، {لَعَلِيٌ} أي: ذو مكانة عظيمة، وشرف، وفضل، قاله قتادة. {حَكِيمٌ} أي: محكم، بريء من اللبس والزيغ، وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله)) (3) .   (1) المصدر نفسه (ص44) . (2) ((تفسير ابن كثير)) (8/212-213) . (3) المصدر المذكور (7/205) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 (( {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} : ما يتكلم من شيء إلا كتب عليه. وقال ابن عباس: يكتب الخير والشر)) . قال الله – تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) . قال ابن كثير:: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} يعني: الملائكة، أقرب إلى الإنسان، من حبل وريده، ومن تأوله على العلم؛ فإنما فر لئلا يلزم حلول، أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع، تعالى الله وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، كما قال في المحتضر: {وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِنكُم وَلَكِن لاَّ تُبصِرُونَ} ، يعني: ملائكته، وكما قال: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فالملائكة نزلت بالذكر، وهو القرآن، بإذن الله – عز وجل – وكذلك الملائكة، أقرب إلى الإنسان من حبل وريده، بإقدار الله لهم على ذلك. {إِذ يَتَلَقَّى المُتَلَقّيَانِ} يعني: الملكين، اللذين يكتبان عمل الإنسان. {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ قَعِيدُ} أي: واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، مترصد لما يقوله أو يفعله. {مَّا يَلفِظُ} أي: ابن آدم {مِن قَولٍ} أي: ما يتكلم بكلمة، {إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبُ عَتِيدُ} إلا ولها من يراقبها، معتد لذلك فيكتبها، ولا يترك له كلمة، ولا حركة إلا كتبها)) (2) . وقول ابن عباس، يفيد أنهما لا يكتبان إلا لحسنات والسيئات، وظاهر   (1) الآيات من 16-18 من سورة ق. (2) ((تفسير ابن كثير)) (7/376) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 الآية أنهما يكتبان، كل ما نطق به الإنسان أو عمله؛ لأنه قال: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} . قال مجاهد: الذي يكتب الحسنات عن يمينه، والذي يكتب السيئات عن شماله. وقال أيضاً: مع كل إنسان ملكان، ملك عن يمينه، وملك عن يساره. قال: ((فأما الذي عن يمينه، فيكتب الخير، وأما الذي عن يساره، فيكتب الشر)) . وقال قتادة: تلا الحسن: {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِمَالِ قَعِيدُ} فقال: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك، فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك، فيحفظ سيئاتك، فاعمل بما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت، طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فيقال لك: {اقرَأ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيباً} ، عدل والله فيك من جعلك، حسيب نفسك)) (1) . (( {يحرِّفُونَ} : يُزيلون: وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله - عز وجل - ولكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله)) . قال الحافظ: ((لم أر هذا موصولاً من كلام ابن عباس، من وجه ثابت، مع أن الذي قبله، من كلامه، وكذا الذي بعده، وهو قوله: ((دراستهم: تلاوتهم)) ، وما بعده، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم، وتقدم في باب قوله   (1) روى هذه الآثار ابن جرير في ((تفسيره)) (26/159) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 {كُلَّ يَومٍ هُوَ فِي شَأنٍ} عن ابن عباس، ما يخالف ما ذكر هنا، وهو تفسير {يحرِّفُونَ} بقوله: يزيلون. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن، في قوله: {يحرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} قال: يقلبون ويغيرون. وقال الراغب: ((التحريف: الإمالة، وتحريف الكلام: أن يجعله على حرف من الاحتمال، بحيث يمكن حمله على وجهين، فأكثر)) (1) . وقال: ((صرح كثير من أصحابنا، بأن اليهود، والنصارى بدلوا التوراة، والإنجيل. وذكر بعض الشراح، أن في هذه المسألة، أربعة أقوال: أحدها: أنها بدلت كلها، وينبغي حمل هذا الإطلاق على أكثرها؛ لأن الآيات والأخبار الكثيرة، تدل على بقاء شيء منها لم يبدل، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (2) ، ومنه قصة رجم اليهوديين، وفيها وجود آية الرجم، في التوراة، ويؤيد ذلك، قوله تعالى: {قُل فَأَتُوْ بِالتَّورَاةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} . الثاني: أن التبديل وقع في معظمها، وأدلة ذلك كثيرة، وينبغي حمل القول الأول عليه. الثالث: وقع التبديل في اليسير منهما، ومعظمهما باق على حاله، قال: ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الجواب الصحيح.   (1) ((الفتح)) (13/523) . (2) الآية 157 من سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 الرابع: ((إنما وقع التبديل والتغيير، في المعاني، لا في الألفاظ، وهو ما ذكره البخاري هنا)) (1) . والصحيح: أن التبديل والتحريف، وقع في كثير من ألفاظهما، ومعانيهما، كما قال الله – تعالى - {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) ، وقال تعالى: {يحرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (3) . قال شيخ الإسلام: ((علماء المسلمين، وعلماء أهل الكتاب، متفقون على وقوع التحريف في معاني وتفسير الكتب السابقة، وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني. وأما ألفاظ الكتب، فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظهما لم تبدل، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب. وذهب كثير من علماء المسلمين، وأهل الكتاب إلى إنه بدل بعض ألفاظها. وهذا هو المشهور عن كثير من علماء المسلمين وقاله أيضاً كثير من علماء أهل الكتاب، حتى في صلب المسيح، ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه لم يصلب، وإنما صلب الذي شبه بالمسيح، كما أخبر به القرآن، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب، ظنوا أنه هو المسيح، أو تعمدوا الكذب. ثم هؤلاء، منهم: الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل.   (1) ((الفتح)) بتصرف (13/523-524) . (2) الآية 78 من سورة آل عمران. (3) الآية 46 من سورة النساء، والآية 13 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 ومنهم: من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيراً منهما، وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما، لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر، وأظهر منه في التوراة. ومن هؤلاء، من يسرف، حتى يقول: إنه لا حرمة لشيء منهما، بل يجوز الاستنجاء بهما. ومنهم من يقول: الذي بدلت ألفاظه، قليل منهما، وهذا أظهر، والتبديل في الإنجيل أظهر، بل كثير من الناس يقول: هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله، إلا القليل، والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل. والصحيح: أن هذه التوراة، والإنجيل، الذي بأيدي أهل الكتاب، فيه ما هو حكم الله، وإن كان قد بدل وغيِّر بعض ألفاظهما؛ لقول الله – تعالى -:: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} (1) فعلم: أن التوراة التي كانت موجودة، بعد خراب بيت المقدس، بعد مجيء بختنصر، وبعد مبعث المسيح، وبعد مبعث محمد – صلى الله عليه وسلم – فيها حكم الله. والتوراة التي كانت عند يهود المدينة، على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإن قيل: إنه غيِّر بعض ألفاظها بعد مبعثه، فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لنا، وهو متعذر، بل يمكن تغيير كثير من النسخ، وإشاعة ذلك عند الاتباع، حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غُيِّر، ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب، وإنما تختلف في اليسير من ألفاظها.   (1) الآيات 41- 43 من سورة المائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ، بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم – ممكن، لا يمكن أحدٌ أن يجزم بنفيه، ولا يقدر أحد من اليهود، والنصارى، أن يشهد بأن كل نسخة في العالم من الكتابين، متفقة الألفاظ؛ إذ لا سبيل إلى علم ذلك. وذلك أن اليهود قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى عهده، وبعده، منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وعندهم نسخ كثيرة من التوراة. وكذلك النصارى، ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها، ولو كان هذا ممكناً، وواقعاً، لكان من الوقائع العظيمة، التي تتوافر الدواعي على نقلها. ومثل التوراة، الإنجيل، قال الله – تعالى -: {وَليَحكُم أَهلُ الإِنجِيلِ بِما أَنَزَلَ اللهُ فِيهِ} (1) فعلم، أن في الإنجيل حكماً، أنزله الله – تعالى – لكن الحكم من باب الأمر والنهي، ولا يمتنع أن يكون التغيير والتبديل في باب الإخبار، وهو الذي وقع فيه التبديل لفظاً. وأما الأحكام التي في التوراة، فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها (2) . وبهذا يتبين: أن ما ذكره البخاري- رحمه الله – أحد أقوال العلماء، وهو أن ألفاظ كتب الله السابقة للقرآن، لم تغير ولم تبدل، وإنما حرفت معانيها، وأولت على غير تأويلها، فيكون معنى التحريف، الذي ذكره الله – تعالى – عنهم: هو تحريف المعاني، وصرفها عن مراد الله بها، إلى ما تهوى نفوسهم، وما يريدون حسب رغباتهم.   (1) الآية 47 من سورة المائدة. (2) ((الجواب الصحيح)) (1/379-381) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 ولكن يبقى أن يقال: هل التوراة والإنجيل التي بأيدي اليهود، والنصارى، هي التي أنزل الله على موسى وعيسى، لم يذهب منهما شيء ولم يزد عليهما شيء؟ هذا الذي لا يستطيع أحد أن يجزم به، فالصحيح: أنه حصل في ألفاظهما التبديل والتغيير، وأن بعض ألفاظها أزيل، ووضع بدله غيره، لا كما يقول البخاري – رحمه الله -. فإن كانت التوراة هذه، الموجودة اليوم بأيدي الناس، فلا شك في تغيير وتبديل بعض ألفاظها حسب الترجمة العربية. فقد جاء في الإصحاح التاسع عشر، من سفر التكوين، من التوراة، قوله: ((صعد لوط من زغر، وسكن في الجبل، وابنتاه معه، إذ خاف من المقام في زغر، وسكن في مغارة هو وابنتاه معه، فقالت الكبيرة للصغيرة، أبونا شيخ، وإنسان، ليس في الأرض للدخول علينا كسبيل كل الأرض، تعالي نسقي أبانا خمراً وننضجع معه، ونبقي من أبينا نسلاً، فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة)) (1) إلى آخر الكلام، وهو باطل قطعاً، وقد نزه الله نبيه لوطاً – عليه السلام _ أن يقع على ابنتيه، فتحبلان منه، وإنما هذا من وضع اليهود أعداء الله – تعالى -. فقوله: ((وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله – عز وجل -)) غير مسلم، بل بدل بعض ألفاظها، كما سبق في كلام شيخ الإسلام أنه الصحيح. ((قال الزركشي: اغتر بعض المتأخرين، بما قاله البخاري، فقال: إن في تحريف التوراة خلافاً، هل هو في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط؟ ومال إلى الثاني، ورأى جواز مطالعتها، وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا، وبدلوا،   (1) انظر التوراة السامرية (ص59) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 والاشتغال بنظرها، وكتابتها، لا يجوز بالإجماع، وقد غضب النبي – صلى الله عليه وسلم – حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: ((لو كان موسى حياً، ما وسعه إلا اتباعي)) ولولا أنه معصية ما غضب. ونظَّر الحافظ بهذا الكلام، وقال: ((الظاهر: أنه مكروه كراهة تنزيه، وقال: الأولى، التفرقة بين من لم يتمكن، ويصر من غير الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك، بخلاف الراسخين، فيجوز لهم، ولا سيما عند الاحتجاج، ويدل على ذلك نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة)) (1) . وتحريف معانيها وتفسيرها بغير المراد، فهذا ظاهر جداً، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، وكثير من آيات القرآن صريحة في هذا، وهو مراد البخاري بقوله: ((ولكنهم يحرفونه: ويتأولونه عن غير تأويله)) أي: يحرفون معانيه، ويفسرونه بما لم يرده المتكلم، اتباعاً لأهوائهم. قال ابن القيم: ((التأويل: تفعيل من آل يؤول إلى كذا: إذا صار إليه، فالتأويل التصيير، وأولته تأويلاً: إذا صيرته إليه)) (2) . وتسمى عاقبة الشيء تأويلاً؛ لأن الأمر يصير إليها، وكذلك حقيقة الشيء المخبر به، كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (3) . وعند المتأخرين، التأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، إلى ما هو أخفى منه؛ لدليل يقترن بذلك، والدليل قد يكون عقلياً، وقد   (1) ((الفتح)) (13/525) . (2) انظر ((الصواعق)) (1/77) . (3) الآية 53 من سورة الأعراف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 يكون شرعياً، ويسمى التفسير تأويلاً. قوله: (( {دراستهم} : تلاوتهم)) . قال الحافظ: وصله ابن أبي حاتم، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (1) . وهذا جزء من قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (2) . وفي ((اللسان)) : ((درست الكتاب، أدرسه، درساً، أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه عليَّ)) (3) ، والمقصود أن الدراسة هي التلاوة، وهي فعل التالي. قوله: (( {واعية} : حافظة)) . قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلَنَاكُم فِي الجَارِيَةِ {11} لِنَجعَلَهَا لَكُم تَذكِرةً وَتَعَيِهَا أًذُنُ وَاعِيَةُ} والجارية هي: السفينة، التي صنعها نبي الله نوح – صلى الله عليه وسلم – وهو أبو البشر الثاني، لأن الله – تعالى – يقول: {وَجَعَلنَا ذُرِيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} فتكون السفينة، تذكرة لما وقع لقوم نوح، لما عصوا رسولهم، فيبتعد المتذكر عن معصية الله؛ لئلا يصيبه ما أصابهم، وهذه العظة والتذكرة تعيها الأذن الواعية، المتيقظة، المتنبهة. ومراده: أن الحفظ والفهم فعل العبد الذي يقرأ، ويحفظ، ويفهم. قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ} : يعني: أهل مكة ومن بلغ هذا القرآن، فهو له نذير)) .   (1) ((الفتح)) (13/525) . (2) الآية 156 من سورة الأنعام. (3) ((لسان العرب)) (1/968) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 الوحي من الله – تعالى – وهو: الإعلام بخفية، والإنذار فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم - وإنذاره بالقرآن: أن يقرأه على الناس، وقراءته هي فعله، وهو وفعله مخلوق، وهذا وجه الاستدلال من الآية. ((ومن بلغ)) أي: من بلغه هذا القرآن، فهو له نذير، والذي يبلغه، يسمعه من المبلغ له بصوت ذلك المبلغ، والصوت من فعل المبلغ، وهو مخلوق، والقرآن المبلغ بالصوت كلام الله – تعالى – غير مخلوق. وقد أكثر البخاري – رحمه الله – من الاستدلال لهذه المسألة، لأنه قد بلي بمن يقول: القراءة هي المقروء، ونسب إليه، أنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. وهو برئ من ذلك. قال الحافظ: ((هذا الذي ذكره البخاري، هو قول ابن عباس، رواه ابن أبي حاتم عنه، وقال: أخرج ابن أبي حاتم في كتاب ((الرد على الجهمية)) ، عن عبد الله بن داود الخرسي قال: ما في القرآن آية أشد على أصحاب جهم من هذه الآية {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ، فمن بلغه القرآن، فكأنما سمعه من الله – تعالى -)) (1) . ****** 177- قال: ((وقال لي خليفة بن خياط: حدثنا معتمر، سمعت أبي، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لما قضى الله الخلق كتب كتابا عنده: غلبت – أو قال: سبقت – رحمتي غضبي. فهو عنده فوق العرش)) . 178- ((حدثني محمد بن أبي غالب، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا   (1) ((الفتح)) (13/526) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 معتمر، سمعت أبي يقول: حدثنا قتادة، أن أبا رافع حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش)) . الكتابة هي: إثبات الكلام المكتوب، في محل الكتابة، والله سبحانه، كتب ذلك الكتاب في شيء تثبت فيه الكتابة، ويثبت الكلام في ذلك الشيء بالكتابة، سواء كان اللوح المحفوظ أو غيره، فالمقصود إثبات الكتابة للكلام، وأن كون الكلام في الكتاب، ليس ككون الماء في الإناء، والعرض بالجوهر، والرجل في البيت، بل هو قسم غير هذا، وهو معقول يدركه الناس، ويفهمون معنى كون الكلام في الكتاب ، وهذا الحديث تقدم شرحه، وغرضه من الطريق الأخرى، تصريح أبي رافع وقتادة بالتحديث، فيزول احتمال التدليس. وقوله: ((قبل أن يخلق الخلق)) لا يعارض قوله في الرواية قبلها: ((لما قضى)) ؛ لأنه يجوز أن يراد بالخلق: التقدير والفراغ منه، وهو غير الإيجاد، ومعلوم أن خلق الله - تعالى - لا نهاية له. وتبين أن مقصود البخاري - رحمه الله - بهذا الباب، أن يبين معنى كون القرآن في المصحف؛ أنه مكتوب مسطور فيه، مثل ما أن اسم الله في المصحف، فإن القرآن كلام الله، والكلام يقوم بالمتكلم صفة له، قال شيخ الإسلام: ليس معنى قول السلف: القرآن كلام الله، منه بدأ، ومنه خرج، أنه فارق ذاته، وحل في غيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به، لا يفارق ذاته، ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: {كَبُرَت كَلِمَةً تَخرُجُ مِن أَفوَاهِم إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 فقد أخبر، أن الكلمة تخرج من أفواهم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم (1) . فالقرآن كلام الله، ويحفظ في القلوب، كما يحفظ الكلام، ومذكور بالألسنة كما يذكر الكلام بالألسنة، وهو مكتوب في المصاحف، والأوراق، كما أن الكلام يكتب في الكتاب والورق. والكلام هو مجموع اللفظ والمعنى، فاللفظ يطابق المعنى ويدل عليه. ولا يجوز أن يقال: إن القرآن محفوظ، كما أن الله معلوم، وهو متلو، كما أن الله مذكور، ومكتوب، كما أن الرسول مكتوب، فهذا خطأ، وضلال. فليس وجود الأعين القائمة بأنفسها، كوجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها، والفرق ظاهر بين قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ، وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} ، وبين قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} فإن القرآن، لم ينزل على نبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما الذي في زبر الأولين ذكره، والخبر عنه، كما أن محمداًً - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم في التوراة، والإنجيل فالله ورسوله معلوم بالقلوب، مذكور بالألسنة مكتوب في المصحف، كما أن القرآن معلوم لأهل الكتاب قبلنا، مكتوب عندهم، وذلك ذكره والخبر عنه. ولكن الذي في المصحف عندنا، هو نفس القرآن. ولهذا يجب أن يفرق بين قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبرِ} وبين قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَّسطُورٍ {2} فِي رَقٍ مَّنشُورٍ} فإن كون الأعمال   (1) ((مجموع الفتاوى)) (12/517-518) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 في الزبر، مثل كون القرآن، والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - في زبر الأولين. وأما الكتاب المسطور في الرق المنشور، فهو كما يكتب الكلام نفسه في الكتاب. فأين هذا من هذا؟ وذلك أن كل شيء له في الوجود أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في الكتاب. والكلام وجوده في اللسان، وليس بينه وبين المحل المكتوب فيه، مرتبة أخرى، بل نفس الكلام يثبت في الكتاب، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} ، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ {21} فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} ، وقال تعالى: {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ، وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ {11} فَمَن شَاء ذَكَرَهُ {12} فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ {13} مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} ، وقال تعالى: {وَلَو نَزَلنَا عَلَيَكَ كِتَابَاً فِي قِرطَاسٍ} . وليس في المصحف من الأعيان إلا ذكرها، ووصفها، والخبر عنها. والكلام في الكتاب، ليس هو فيه، كما تكون الصفة بالموصوف، والعرض بالجوهر، والجسم بالمكان، وما هو بمنزله الدليل على المدلول، كالمخلوق الدال على الخالق. بل هو قسم آخر، معقول بنفسه، والناس بفطرهم يفهمون معنى كون كلام الله في المصحف، وأن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره، ويعلمون أن الذي في المصحف ليس مجرد دليل على معنى قائم في نفس الله، بل الذي في المصحف كلام الله، مطابق للفظه، ولفظه مطابق لمعناه، ومعناه مطابق لما في الخارج، وهو كلام الله حقيقة لا مجازاً. وهذه مسألة عظيمة، ضل فيها طوائف من الناس، والبخاري - رحمه الله - ممن ابتلي فيها بمن لم يفهم الحق فيها؛ فارتكب شططاً، ونسب البخاري فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 إلى الباطل، ولهذا أكثر من البيان لها كما سبق، ومنشأ الاختلاف فيها، يعود إلى أصلين (1) . أحدهما: مسألة تكلم الله - تعالى - بالقرآن، وغيره. والثاني: تكلم العباد بكلام الله، وقد حاولت بيان الحق، في كلا المسألتين فيما سبق، قدر ما أوتيت من بيان، والله المستعان. ***** قال: باب قول الله - تعالى -: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} . يريد - رحمه الله - بهذا الباب بيان أن الله - تعالى - هو الخالق لكل شيء، وحده لا شريك له في ذلك، فيدخل فيه: أعمال العباد وأفعالهم، والآية نص فيه: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} سواء كانت ((ما)) موصولة أو مصدرية، فعلى التقديرين، فالآية دالة على أن أفعال العباد مخلوقة؛ لأن آلهتهم التي يعبدونها صارت على شكل معين، وهيئة خاصة بعملهم وصنعهم. وقد أطالوا الكلام في إعراب ((ما)) في هذه الآية، وادعى بعضهم إجماع أهل السنة على أنها مصدرية، وشنعوا على المعتزلة، في دعواهم: أنها موصولة، ظانين أنها إذا كانت موصولة، صارت دليلاً على أن العباد يخلقون أفعالهم. والصواب، أنها موصولة، وأنها لا تدل على أن العباد يخلقون أفعالهم، كما زعم القدرية من المعتزلة. قال الإمام ابن جرير: ((وفي قوله: ((وما تعملون)) وجهان: أحدهما: أن يكون ((ما)) بمعنى المصدر، فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم وعملكم.   (1) لخصت هذا الفصل من المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 والآخر: أن يكون بمعنى ((الذي)) فيكون معنى الكلام حينئذ: والله خلقكم والذي تعملونه، وذكر عن قتادة أنه قال: والله خلقكم وما تعملون بأيديكم (1) ، فهذا يدل على أنها موصولة عنده. وقال شيخ الإسلام: قال الله – تعالى -: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} ((فما)) بمعنى ((الذي)) ، ومن جعلها مصدرية، فقد غلط، ولكن إذا خلق [الله] المنحوت، كما خلق المصنوع، والملبوس، والمبني، دل على أنه خالق كل صانع وصنعته (2) . والمعنى: أن الآية فيها التصريح، بأن أصنامهم من مخلوقات الله، وإن كان شكلها، ووضعها، على صفة معينة من صنعهم، فإن الله هو الذي أقدرهم على ذلك، ويسر لهم أسبابه، ولهذا أخبر تعالى بأنه هو الذي خلق الفُلْك، وهي مصنوعة لبني آدم، قال تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (3) ، وقال تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (4) وهذه كلها مصنوعة لبني آدم، وهذا يبين وجه دلالة الآية، المترجم بها، على أن الله هو خالق أفعال بني آدم، فهم وأفعالهم من خلق الله – تعالى -. وإن كانت ((ما)) في الآية موصولة، فلا داعي للتعسف والتكلف لجعلها مصدرية، حتى لا يكون فيها متعلق للقدرية المعتزلة، القائلين بأن العبد يخلق فعله بنفسه، فهذا قول ظاهر البطلان، وكل باطل لا يؤيده كتاب الله – تعالى -، بل يدل على بطلانه.   (1) ((تفسير الطبري)) (23/75) . (2) ((مجموع الفتاوى)) (8/98) . (3) الآية 42 من سورة يس. (4) الآية 80 من سورة النحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 فقد ضل من أخرج أفعال العباد عن مخلوقات الله – تعالى -، كما ضل من قابلهم، وقال: إن العباد مجبورون على أعمالهم، فلا اختيار لهم ولا قدرة. والحق وسط بين هاتين الضلالتين، وهو أن الله – تعالى – خلق العباد، وخلق لهم قدرة واختياراً بهما يفعلون ما يريدون فعله، ويتركون ما يريدون تركه. وسبب الضلال في هذه المسألة: عدم التفريق بين خلق الله ومخلوقه. ((فخلق الله: صفته التي يخلق بها الخلق، وأما مخلوقه فهو أثر الصفة، وهو مفعوله، وخلق الله – تعالى – لمخلوقاته، ليس هو نفس مخلوقاته، بل خلقه فعله المتصف به، ومخلوقاته مفعولاته التي يفعلها ويوجدها إذا شاء، وأفعال العباد مخلوقه له تعالى كسائر المخلوقات، ومن جملة مفعولاته، وليست هي نفس فعل الرب، بل هي نفس فعل العبد، فالكذب والظلم، ونحوهما من القبائح، يتصف بها من كانت فعلاً له، قائمة به، ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له؛ لأنه – تعالى – جعلها صفة لغيره، كما أنه – تعالى – لا يتصف بما خلقه في غيره، من الطعوم، والألوان، والروائح، والأشكال، وغير ذلك. فإذا خلق الإنسان أبيض، أو أسود، لم يكن ذلك اللون وصفاً له، وكذلك إذا خلق هذا الشيء مُرّاً، أو حلواً، أو على صورة قبيحة مذمومة، لم يكن تعالى متصفاً بذلك، بل المتصف بها من قامت به وفعلها (1) . وقال أيضاً: ((القرآن دل على أن مفعولات العباد، الخارجه عن أنفسهم، مصنوعة لهم، وما كان مصنوعاً لهم، فهو من فعلهم، ومقدورهم بالضرورة، والاتفاق.   (1) ((مجموع الفتاوى)) (8/123) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 قال الله – تعالى – لنوح – عليه السلام -: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَيَصنَعُ الْفُلْكَ} (2) ، وقد أخبر – تعالى – أن الفلك مخلوقة من مخلوقاته، مع كونها مصنوعة لبني آدم، وجعلها، من آياته، فقال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (3) ، وقال تعالى: {أ َلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (4) ، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} (5) ، وقال تعالى: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} . فجعل الأصنام معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم، فإن ((ما)) ها هنا بمعنى الذي، والمراد: خلق ما يعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقاً للمعمول، وفيه أثر فعلهم، دل على أنه خالق لأفعال العباد. وأما قول من قال: إن ((ما)) مصدرية فضعيف جداً (6) . وفي قوله تعالى: {قَالَ أَتَعبُدُونَ مَا تَنحِتُونُ {95} وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} تنبيه لعبَّاد الأصنام، على فساد ما صاروا إليه من عبادتها، مع نحتهم إياها بأيديهم، فكيف تعبدون أصناماً تعملونها بأيديكم؟ والله خالقكم وما تعملونه، فأوجدكم، بعد أن لم تكونوا شيئاً، وخلق لكم ما تصلح به حياتكم، وخلق ما تنحتونه، فهو الخالق لكل شيء، فالواجب عليكم أن تعبدوه، وحده لا شريك له، فهو المتفرد بالخلق، والمالك لكل شيء، فمن   (1) الآية 37 من سورة هود عليه السلام. (2) الآية 38 من سورة هود عليه السلام. (3) الآية 41 من سورة يس. (4) الآية 65 من سورة الحج. (5) الآية 12 من سورة الزخرف. (6) ((مجموع الفتاوى)) (8/16-17) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 السفاهة: أن تعبدوا تلك الصور، التي نحتموها بأيديكم، ثم سميتموها كذباً وبهتاناً: آلهة، وقد علمتم: أنها ما صارت صوراً، إلا بنحتكم إياها وعملكم، والله هو الذي أقدركم على عملها، ومكنكم من ذلك، فهو الخالق لكم ولما تعملونه بأيديكم. قال ابن القيم: ما المصدرية وما الموصولة، يتعاقبان غالباً، ويصلح أحدهما في الموضع الذي يصلح فيه الآخر، وربما احتملهما كلام واحد، ولا يميز بينهما إلا بنظر وتأمل، فإذا قلت: يعجبني ما صنعت، فهي صالحة لأن تكون مصدرية، أو موصولة، وكذلك: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} {وَاللهُ بَصِيرُ بِمَا يَعمَلُونَ} فتأمله تجده كذلك. ولدخول إحداهما على الأخرى؛ ظن كثير من الناس؛ أن قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُونَ} أنها مصدرية، واحتجوا بها على خلق الأعمال، وليست مصدرية، وإنما هي موصولة. والمعنى: والله خلقكم، وخلق الذي تعملونه وتنحتونه من الأصنام، فكيف تعبدونها، وهي مخلوقة من مخلوقات الله – تعالى-؟ ولو كانت مصدرية، لكان الكلام إلى أن يكون حجة لهم (1) أقرب من أن يكون حجة عليهم؛ إذ يكون المعنى: أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وخلق عبادتكم لها، فأي معنى في هذا؟ وأي حجة عليهم؟ (2) . وقوله تعالى: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ} . يخبر تعالى عباده، أن كل شيء خلقه، وحده لا شريك له، فلا خالق   (1) أي: القدرية الذين ينكرون خلق الله لأفعال العباد. (2) ((بدائع الفوائد)) (1/162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 غيره، وأنه خلقه، بقدر قدره وقضاه، فلا يتعداه ولا يقتصر دونه، فيدخل في هذا العموم أفعال العباد، فهي داخلة في خلقه وتقديره. قال ابن جرير: ((يقول – تعالى ذكره -: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه، وفي هذا بيان، أن الله – جل ثناؤه – توعد هؤلاء المجرمين، على تكذيبهم بالقدر، مع كفرهم به. ثم روى عن ابن عباس أنه كان يقول: إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} ؛ لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، وإني لا أراهم، فلا أدري: أشيء كان قبلنا، أم شيء فيما بقي؟ (1) . وذكر آثاراً بهذا المعنى. وقال ابن كثير: ((وقوله: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ} ، كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيراً} ، وكقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى {1} الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى {2} وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي: قدر قدراً، وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله، السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها، من الأحاديث الثابتة، على الفرقة القدرية، الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة)) (2) ثم ذكر جملة من الأحاديث المثبتة للقدر، والتي فيها وعيد من أنكره. قوله: (( (ويقال للمصورين: أحيوا ما خلقتم)) . يقال لهم ذلك يوم القيامة، تبكيتاً وتعذيباً لهم، بتكليفهم ما لا يقدرون عليه، حيث كانوا في الدنيا، يضاهئون الله فيما يختص به، وهو الخلق   (1) ((تفسير الطبري)) (27/11) . (2) ((تفسير ابن كثير)) (3/422) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 والتصوير. وسيأتي ذلك – إن شاء الله تعالى -. قوله تعالى: {} إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . المقصود من الآية هنا: التفرقة بين الخلق والأمر، فإن الخلق هو أثر الأمر، الكائن به الخلق، فإن الله – تعالى – إذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون، فالقول وصفه – تعالى – والخلق الذي هو المخلوق مفعوله المكون المخلوق الموجد بالقول، ولهذا قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ} فعطف الأمر على الخلق؛ لأنه غيره، وهو – تعالى – مختص بذلك وحده، فلا أحد يشاركه فيهما، وكلاهما عام شامل، فلا يخرج عن خلقه تعالى مخلوق، ومن ذلك أفعال العباد. وأمره – تعالى – يتناول الأمر القدري، والأمر الديني الشرعي. قال ابن كثير – رحمه الله تعالى – ((يخبر – تعالى – بأنه خلق هذا العالم: سماواته، وأرضه، وما بين ذلك، في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن. والستة أيام هي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم. قوله: {يُغشِى الَّليلَ النَهَارَ يَطلبُهُ حَثِيثاً} أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، أي: سريعاً، لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا (1) .   (1) ((تفسير ابن كثير)) (3/422) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 فالليل بأثر النهار، والنهار يطرد الليل دائماً، حتى يأذن الله بانقضاء هذا العالم، وهناك يبدأ اختلال توازنه، بطلوع الشمس من مغربها. {وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٍ بِأَمرِهِ} أي: أنها مخلوقة لله، مقهورة مسخرة، لا تخالف أمر خالقها، الذي سخرها لكم، فاعبدوه، فإنه هو المستحق للعبادة دون سواه، وهو الذي له الخلق والأمر وحده. {تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} قال ابن الأنباري: ((تبارك)) فيه قولان: أحدهما: أن معناه: تقدس، أي: تطهر، والقدس عند العرب: الطهر، والماء المقدس: هو ماء المطر، والقدوس: الذي طهر من الأولاد، والشركاء، والصاحبة. والثاني: تفاعل من البركة، أي: البركة تكتسب، وتنال بذكر اسمه تعالى (1) . وقال الأزهري: ((أخبرني المنذري، عن أبي العباس، أنه سئل عن تفسير {تَبَارَكَ اللهُ} فقال: ارتفع، والمتبارك المرتفع. وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة. وقال: تبارك: تعالى وتعاظم. وقال ابن الأنباري: تبارك الله، أي: يتبرك باسمه في كل أمر. ومعنى تبارك: تقدس، أي: تطهر، والمقدس: المطهر. وقال الليث: تبارك: تمجيد وتعظيم)) (2) . وهذه الأقوال متقاربة، وكلها حق، يدل عليه هذا اللفظ، فهو – تعالى – عال على خلقه، في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وهو القدوس المتنزه عن كل عيب أو نقص يلحق خلقه، أو لا يليق بعظمته، وكبريائه،   (1) ((الزاهر)) (1/147) . (2) ((تهذيب اللغة)) (10/230) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 وهو الذي يبارك على ما يشاء من خلقه، فيجعله مباركاً، وبذكر اسمه يكثر الخير، وتحل البركة، وهو أهل المجد والتعظيم. قوله: ((قال ابن عيينة: بين الله الخلق من الأمر، لقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} . قال الحافظ: ((روى هذا الاثر ابن أبي حاتم، موصولاً، في الرد على الجهمية. ولفظه: قال: كنا عند سفيان بن عيينة، فقال: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} فالخلق: هو المخلوقات، والأمر: هو الكلام. وفي رواية من طريق حماد بن نعيم: ((سمعت سفيان بن عيينة، وسئل عن القرآن: أمخلوق هو؟ فقال: يقول الله – تعالى - {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} ألا ترى كيف فرق بين الخلق، والأمر فالأمر: كلامه، فلو كان كلامه مخلوقاً لم يفرق)) (1) . وقال البخاري -: ((والقرآن كلام الله غير مخلوق؛ لقول الله – تعالى -: {إَِنَ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِى الَّليلَ النَهَارَ يَطلبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتُ بِأَمرِهِ} ، فبين أن الخلائق، والطلب الحثيث، والمسخرات بأمره، ثم شرح فقال: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} ، قال ابن عيينة: قد بيَّن الله الخلق من الأمر، بقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} ، فالخلق بأمره، كقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (2) ، كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) .   (1) ((الفتح)) (13/532-533) . (2) الآية 4 من سورة الروم. (3) الآية 82من سورة يس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 وكقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (1) ، ولم يقل بخلقه)) (2) . والأدلة كثيرة، في التفرقة بين الخلق والأمر، والمخلوقات وجدت بالأمر، كما أشار إلى ذلك الإمام البخاري، بما استدل به من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، فبين أن تكوين الأشياء وإيجادها، بقوله: {كُن} ، وأنه يوجد عقب قوله: {كُن} . وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} ، فالسماء والأرض، مخلوقات بأمره، الذي هو قوله لها: ((كوني)) ، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} (3) ، وكل شيء غير الله، مخلوق، بقوله – تعالى – ومن ذلك أفعال العباد، فمن أخرج أفعال العباد من خلق الله، فقد ضل وأشرك في ربوبية الله – تعالى -. قال عبد العزيز الكناني: ((قال الله – تعالى -: {إِنَّمَا قَولُنَا لِشَىءٍ إِذَا أَرَدناه َ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (4) ، وقال سبحانه: {قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (5) ، فدل – عز وجل – بهذه الأخبار، وأشباهٍ لها في القرآن كثيرة، على أن كلامه، ليس كالأشياء، وأنه غير الأشياء، وأنه خارج عن الأشياء، وأنه يكوَّن الأشياء، ثم أنزل – عز وجل – خبراً مفرداً، ذكر فيه خلق الأشياء كلها، فلم يدع منها شيئاً، إلا ذكره، وأدخله في خلقه،   (1) الآية 25 من سورة الروم. (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص37-38) . (3) الآية 11 من سورة فصلت. (4) الآية 40 من سورة النحل. (5) الآية 47 من سورة آل عمران. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 وأخرج كلامه وأمره من جملة الخلق، وفصله منها؛ ليدل على أن كلامه غير الأشياء المخلوقة، وخارج عنها، فقال: {ُ إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَات وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَامٍ} الآية. فجمع في قوله: {أَلاَ لَهُ الخَلَقُ وَالأَمرُ} جميع ما خلق، فلم يدع شيئاً، ثم قال: {وَالأَمرُ} ، يعني: والأمر، الذي كان به الخلق خلقاً، فرقاً بين خلقه، وأمره، فجعل الخلق خلقاً، والأمر أمراً، وجعل هذا غير هذا)) (1) . قوله: ((وسمى النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان عملاً)) . يعني: في جوابه – صلى الله عليه وسلم – السائل: ((أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله)) كما سيأتي، فالإيمان، هو عمل القلب وتصديقه، وقول اللسان، والعمل بالبدن التابع لذلك من الصلاة، والحج، والصوم، والجهاد في سبيل الله، وامتثال أوامر الله – تعالى -، والانتهاء عما نهى عنه، فهذا كله هو الإيمان بالله، وهو عمل الجوارح الباطنة والظاهرة. قال في ((خلق أفعال العباد)) : ((وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل حين سأله عن الإيمان قال: ((تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله)) . قال: ((فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟)) قال: ((نعم)) . ثم قال: ((ما الإسلام؟)) قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)) ... فذكره قال: ((إذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟)) قال: ((نعم)) . فسمى الإيمان والإسلام، والشهادة، والإحسان، والصلاة بقراءتها، وما فيها، من حركات الركوع والسجود: فعلاً للعبد)) (2) .   (1) ((الحيدة)) (ص26-27) . (2) (ص60) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 وقال في ((الصحيح)) : ((باب من قال: إن الإيمان هو العمل؛ لقول الله -تعالى -: {وَتِلكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعمَلُونَ} ، وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِكَ لَنَسئلَنَّهُم أَجمَعِينَ {92} عَمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ} : عن قول: لا إله إلا الله. ثم ذكر حديث أبي هريرة الآتي. وإطلاق العمل على الإيمان، وكون الإيمان يشمل التصديق، والقول، والعمل، الأدلة عليه كثيرة، وكلام السلف فيه كثير واضح، والخلاف فيه واقع من أهل البدع، كالمرجئة من الجهمية وغيرهم. قال: ((قال أبو ذر، وأبو هريرة: ((سئل النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟)) قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) . ذكر حديث أبي هريرة، موصولاً في كتاب الإيمان (1) ، وفي كتاب الحج بأتم مما هنا، وذكر حديث أبي ذر في العتق، ولفظه: ((سألت النبي – صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟)) قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) ، قلت: ((فأي الرقاب أفضل؟)) قال: ((أغلاها ثمنا)) . وهو صريح في أن الإيمان يسمى عملاً؛ لأنه صادر من العبد، وعمل العبد مخلوق، وهذا هو مراد البخاري، وقد تقدم مراراً، الفرق بين عمل العبد، وكلام الله – تعالى – إذا قرأه العباد. ولا يدل عطف الجهاد على الإيمان، أن الجهاد ليس منه، بل الأعمال الصالحة، المعطوفة على الإيمان، داخلة فيه، وعطفها عليه، إما من عطف الخاص على العام أو لأن الأعمال لازمة للإيمان، فإذا لم يأت بها العبد، دل ذلك على أنه ليس عنده إيمان؛ لأن انتفاء اللازم، يقتضي انتفاء الملزوم. ولذلك صارت الأعمال، في عرف الشرع، داخلة في اسم الإيمان.   (1) انظر كتاب الإيمان من ((الصحيح)) (1/18) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 وأيضاً فعطف الأعمال على الإيمان، لرفع توهم أن مجرد الإيمان، بدون الأعمال اللازمة له، يوجب الثواب الموعود به في الآخرة، وهو الجنة بلا عذاب، فعطفت عليه تخصيصاً، وتنصيصاً؛ ليعلم ذلك. هذا هو قول أهل السنة، وهو الذي دلت عليه نصوص كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. بقي أن يقال: إذا كان الإيمان من عمل العباد، وأعمال العباد مخلوقة، كما تبين لنا، فهل الإيمان مخلوق؟ فالجواب: أنه لا بد من التفصيل، والبيان في ذلك؛ لأن هذا السؤال فيه إجمال وإيهام، فإن أريد بالإيمان، أعمال العباد، وتصديقاتهم، فأعمال العباد كلها مخلوقة. وإن أريد بالإيمان، شيء من صفات الله وكلامه، وشرعه الذي هو أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وقدره الذي هو علمه ومشيئته وكلامه، فهو غير مخلوق. وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها، والمقدرات من الآجال، والأرزاق، والأعمال، فهي مخلوقة محدثة. قال شيخ الإسلام: ((إذا قال: الإيمان مخلوق، أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئاً من صفات الله وكلامه، كقوله: لا إله إلا الله، وإيمانه الذي دل عليه اسمه ((المؤمن)) ؟ فهو غير مخلوق. أو تريد شيئاً من أفعال العباد، وصفاتهم؟ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم، وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق، صفة قديمة غير مخلوقة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 ولا يقول هذا من يتصور ما يقول، فإذا حصل التفصيل ظهر الهدى، وبان السبيل)) (1) . وقال أيضاً: ((الشرع الذي هو أمر الله ونهيه غير مخلوق، وأما الأفعال المأمور بها، والمنهي عنها، فلا ريب أنها مخلوقة، وكذلك القدر، الذي هو علمه ومشيئته وكلامه غير مخلوق، وأما المقدرات من الآجال، والأرزاق، والأعمال، فكلها مخلوقة)) (2) . واتفق أئمة المسلمين، على أن جميع أفعال العباد مخلوقة، كما ذكر البخاري – رحمه الله – عن يحيى بن سعيد القطان، قال: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة (3) . قوله: ((وقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعمَلُونَ} )) . العمل الذي جوزوا عليه الجنة، يشمل الطاعات كلها، واجتناب المناهي كلها، فدخل فيه الإيمان، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة، وأداء الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. و ((ما)) في قوله: ((بما)) يجوز أن تكون موصولة، أي: بالذي كنتم تعملونه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: بعملكم. والباء سببية، أي: دخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة، وأما الحديث   (1) ((مجموع الفتاوى)) (7/664) . (2) ((مجموع الفتاوى)) (7/661) . (3) ((خلق أفعال العباد)) (ص42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 ((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)) فالباء فيه للعوض والمقابلة، فالجنة ليست عوضاً للعمل، وإنما هي فضل من الله، والأعمال الصالحة سبب لدخولها، كما هو قول أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، أهل القياس الفاسد، فإنهم يرون الجنة عوضاً للعمل. والمقصود: أن الآية تدل على أن العمل، الذي أدخل المؤمنون بسببه الجنة، فعل لهم يتعلق باختيارهم، ولهذا جوزوا عليه، والعباد وأعمالهم خلق الله – تعالى -. قوله: ((وقال وفد عبد القيس للنبي – صلى الله عليه وسلم -: مرنا بجمل من الأمر، إن عملنا بها دخلنا الجنة، فأمرهم بالإيمان، والشهادة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فجعل ذلك كله عملاً)) . سيأتي الحديث بطوله، والدلالة منه ظاهرة؛ لأنهم قالوا: ((نعمل بها)) فأمرهم بالإيمان، والشهادة، إلى آخر ما ذكر، فدل، على أن المذكور كله، عمل لهم، ومعلوم أنهم مخلوقون، فكذلك عملهم مخلوق، وهو المراد. ***** 179- قال: ((حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، والقاسم التميمي، عن زهدم، قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء، فكنا عند أبي موسى الأشعري، فقرب إليه الطعام، فيه لحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم الله، كأنه من الموالي، فدعاه إليه، فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته، فحلفت لا آكله، فقال: هلم فلأحدثك عن ذلك، إني أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – في نفر من الأشعريين نستحمله، قال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم، فأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – بنهب إبل، فسأل عنا، فقال: أين النفر الأشعريون؟ فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 ثم انطلقنا، قلنا: ما صنعنا؟ ! حلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يحملنا، وما عنده ما يحملنا، تغفلنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمينه، والله لا نفلح أبداً. فرجعنا إليه، فقلنا له، فقال: لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم، إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منه، وتحللتها)) . ((زهدم)) هو ابن مضرب – تشديد الراء – الجرمي، نسبه إلى جرم بن زياد بطن من قضاعة، ((والأشعري)) نسبة إلى الأشعر بن سبأ، أبي قبيلة من اليمن. ((ود وإخاء)) الود: صافي الحب، وأما الإخاء: فمن الأخوة، والمصاحبة، المقتضية للعطف، والود، والنصرة. وهذا تعليل لقوله: ((فكنا عند أبي موسى الأشعري)) ؛ لأن زهدم من جرم. ((فقرب إليه الطعام)) : يؤخذ منه ما كان عليه الصحابة، ومن سلك طريقهم، من عدم التكلف لمن يحضر مجالسهم، وأنهم إذا حضر وقت طعامهم، قدم على ما هو عليه، سواء كثر الحضور أو قلوا، وفيه تهيئة الطعام وإعداده لصاحب البيت، وفيه دخول الرجل على صديقه، وعرض الطعام على من حضره، ولو كان قليلاً. ((فيه لحم دجاج)) قال الحافظ: ((الدجاج: اسم جنس مثلث الدال، والواحدة دجاجة، دخلتها الهاء للوحدة، قاله الجوهري. سمي بذلك؛ لإسراعه في الإقبال والإدبار)) (1) . وفيه جواز أكل الدجاج، وأن الحيوان إذا كان في جنسه ما يأكل الجلة،   (1) من ((الفتح)) ملخصاً (9/645) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 لم يلتفت إلى ذلك. ((وعنده رجل من بني تيم الله، كأنه من الموالي)) بيَّن الحافظ أن هذا الرجل هو زهدم، وذكر رواية الترمذي، وفيها: ((عن زهدم، قال: دخلت على أبي موسى، وهو يأكل دجاجاً، فقال: ادن فكل، فإني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأكله)) . وفي رواية البيهقي، عن زهدم، قال: رأيت أبا موسى يأكل دجاجاً، فدعاني، فقلت: إني رأيته يأكل نتناً، قال: ادن فكل)) (1) . ومن أجل ذلك، جزم الحافظ بأنه زهدم الراوي، لكن كيف يقول عن نفسه: ((كأنه من الموالي)) . ويعني بذلك: العجم، أطلق عليهم ((موالي)) ؛ لأن من أسلم على يديه أحد، دعوه مولىً له، وهم أسلموا على أيدي الصحابة – رضي الله عنهم -. ((فدعاه إليه)) أي: إلى الأكل. ((فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته)) أبهم المأكول؛ لكراهة ذكره، كما هي عادتهم في ما هو مستقذر، يكنون عنه. ومعنى ((قذرته)) : استقذرته، فصار عندي قذراً. ((فحلف لا آكله)) أي: من أجل ما رأى؛ لأنه كرهه. ((هلم فلأحدثك عن ذلك)) هلم: أقبل، وتعال، أخبرك عن حلفك، وأنه لا يمنع من أكله؛ لأن الله – تعالى – جعل له كفارة، تخرج بها من حرج اليمين. ((إني أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين)) النفر: هم الجماعة من   (1) ((الفتح)) (9/ 646، 647) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 الناس القليلة، من الثلاثة إلى العشرة، لا واحد له من لفظه. ((نستحمله)) أي: نطلب منه أن يحملنا، أي: يعطينا من الإبل ما يحملنا، ويحمل متاعنا، وذلك في غزوة العسرة ((غزوة تبوك)) . قال: ((والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم)) جاء في رواية في ((الصحيح)) : قال: ((فوافقته وهو غضبان)) ولهذا أخبره بأنه لا يحملهم، وأكد ذلك بالقسم؛ لأنه بنى على الحال التي هو فيها، ولم يكن عنده شيء يحملهم عليه، ولهذا قال: ((وما عندي ما أحملكم)) . ((فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بنهب إبل)) النهب: الغنيمة، وهو مصدر، بمعنى المنهوب، كالخلق بمعنى المخلوق. ((فسأل عنا، فقال: ((أين النفر الأشعريون)) ؟: فأمر لنا بخمس ذود)) . الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهو لفظ مؤنث، لا واحد له من لفظه. ((غر الذرى)) أي: بيض الأسنمة، فذروة البعير: سنامه؛ لأنه أعلى ما فيه، إما أنه أراد أنها سمان، في أسنمتها الشحم الأبيض، أو أن شعور أسنمتها بيض. ((ثم انطلقنا، فقلنا: ما صنعنا؟ حلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لا يحملنا، وما عنده ما يحملنا، ثم حملنا)) يعني: أن صنعنا هذا ليس من البر، بل هو مما يخاف عقباه، حيث حملنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على مخالفة ما حلف عليه، فأوقعناه في الحنث، ولهذا قال: ((والله لا نفلح أبداً)) أي: لا يحصل لنا الفلاح، وهو الفوز بالخير والسعادة الدنيوية والأخروية. ((تغفلنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمينه)) ، أي: أخذنا ما أعطانا في حالة غفلته عن يمينه ونسيانه لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 ((فرجعنا إليه فقلنا له، فقال: لست أنا أحملكم، ولكن الله حملكم)) هذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد، فإن الله – تعالى – هو المتصرف في عباده، وعملهم يقع بخلقه – تعالى – ومشيئته، فكما أنه – تعالى – خالق العبد، فهو خالق أفعاله. ولهذا أسند النبي – صلى الله عليه وسلم – حملهم إلى الله، مع أنه الذي أعطاهم الإبل؛ لأن إعطاءهم إياها، بعد إرادة الله وخلقه. ((وقال الماوردي: معناه: أن الله – تعالى – آتاني ما أحملكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه (1) . قال الحافظ: ((المراد منه نسبة الحمل إلى الله – تعالى – وإن كان الذي باشر ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو كقوله: {وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَ اللهَ رَمَى} (2) . ((إني والله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير منه وتحللتها)) ، في هذا دلالة، على أن من حلف على فعل شيء أو تركه، فرأى أن مخالفة يمينه، خير له في دينه أو دنياه، فإن المشروع في حقه أن حقه أن لا يمضي في يمينه، بل يفعل الذي هو خير، ويكفر عن يمينه. ***** 180- قال: ((حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا أبو جمرة الضبعي، قلت لابن عباس: فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم، فمرنا بجمل من الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليها من وراءنا،   (1) ((شرح مسلم)) للنووي (11/110) . (2) ((الفتح)) (13/534) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 قال: ((آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: لا تشربوا في الدباء، والنقير، والظروف المزفتة، والحنتمة)) . قوله: ((قلت لابن عباس)) لم يذكر مقول القول، وقد بينه في آخر ((المغازي)) في باب: وفد عبد القيس (1) وفيه: ((عن أبي جمرة، قلت لابن عباس – رضي الله عنهما -: إن لي جرة ينتبذ لي نبيذ فأشربه حلواً في جرة، إن أكثرت منه فجالست القوم، فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم)) إلى آخره. قال الحافظ: في قوله: ((خشيت أن أفتضح)) أي: لأني أصير في مثل حال السكارى (2) . ويجوز أن يحدث له تسهيلاً، أو رياحاً في بطنه، ويخشى أن يغلبه شيء من ذلك فيفتضح. والله أعلم. والوفد: الجماعة المختارة للقاء العظماء، وعبد القيس قبيلة كبيرة، كانت مساكنهم في شرق الجزيرة العربية، قرب الأحساء، والقطيف، وكانت تسمى البحرين (3) ، قال الحافظ: ((الذي تبين لنا، أنه كان لعبد القيس وافدتان: أحدهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا: بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك إما في سنة خمس أو قبلها، وكان عددهم ثلاثة عشر رجلاً.   (1) انظر ((صحيح البخاري)) (5/138) . (2) ((الفتح)) (8/86) . (3) قال ياقوت: ((البحرين: اسم جامع لبلاد على ساحل بحر النهر بين البصرة وعمان)) . ((معجم البلدان)) (1/347) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 وثانيهما: كانت سنة الوفود، وكان عددهم أربعين رجلاً (1) وذكر أدلة ذلك. ومضر أبو القبيلة المشهورة، وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ((فقالوا: إن بيننا وبينك المشركين من مضر)) يعني: أن بلادهم بعيدة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وفي طريقهم إليه المشركون الذين هم أعداء لهم، فإذا تمكنوا منهم قتلوهم، وهم بحاجة إلى التعلم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالوا: ((فمرنا بجمل من الأمر)) وفي الرواية الأخرى: ((بأمر فصل)) أي: بين جامع، لا نحتاج معه إلى غيره، وفاصل بين الحق والباطل، ولهذا قالوا: إن عملنا به دخلنا الجنة. ((وندعو إليها من وراءنا)) أي: الأوامر التي تأمرنا بها، نعمل بها، وندعو قومنا إلى العمل بها. ((وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم)) دليل على تعظيم الأشهر الحرم، حتى عند المشركين، حيث لا يتعرضون لأعدائهم في الأشهر الحرم. وقد نوه الله – تعالى – عن حرمتها في كتابه، حين قال: {مِنهَا أَربَعَةُ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظلِمُواْ فِيهنَّ أَنفُسَكُم} . ((قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع)) أي: أربع جمل، كما في سؤالهم، أو أربع خصال ((آمركم بالإيمان بالله)) ثم فسر ذلك بقوله: ((وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله)) أي: أن تشهدوا أن الله هو الإله الحق، المستحق أن يؤله، ويعبد وحده، وأن تفعلوا ذلك مخلصين له التألة، وأن تشهدوا أن كل مألوه غيره باطل وضلال، من توجه إليه بالعبادة، فهو   (1) ((الفتح)) (8/85) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 من أصحاب النار، الذين لا يخرجون منها أبداً، إذا ماتوا على ذلك. هذه الكلمة أصل وأساس ما بعدها، بل هي أصل الإسلام، فلا يدخل الإسلام أحد إلا بها، وبمعرفتها والعمل بها، تتفاوت درجات الناس عند الله تعالى، وهي تشمل معرفة القلب وعمله، وعمل الجوارح، ولهذا جعلها النبي – صلى الله عليه وسلم – الإيمان، وأما الإشكالات التي ذكرها الحافظ عن شراح هذا الحديث، والتقديرات المبنية عليها (1) ، فهي غير واردة على الحديث أصلاً. ومن تلك الإيرادات: أن ذكر الشهادة للتبرك، وليست مرادة لنفسها، وعليه فأول الخصال: الأمر بالصلاة، وذلك أن القوم كانوا مؤمنين، مقرين بالشهادتين، فلا وجه لذكرها. وهذا من الكلام الباطل لمخالفته لنص الحديث، والذي حملهم عليه: مذهبهم بأن الإيمان مجرد التصديق والمعرفة، وهو مخالف لنصوص الكتاب والسنة، فإذا لم يقترن بالتصديق عمل صالح، فلا اعتبار له في الشرع، كما أن الإيمان يتجدد، ويزداد، والأعمال من الإيمان، بها يزيد، وبتركها أو نقصها ينقص. ((وإقام الصلاة)) أي: تصلون الصلوات الخمس مقيمين لها، بأن تأتوا بها قائمة غير ناقصة، بشرائطها، وواجباتها، وما يلزم لها. ((وإيتاء الزكاة)) أي: أن تؤتوها من فرضها الله لهم، ممتثلين أمر الله، خائفين من عقابه لو منعتموها، راجين ثوابه في أدائها، طيبة بها نفوسكم، محبين لذلك مغتبطين به. ((وتعطوا من المغنم الخمس)) أي: خمس ما غنمتم فإنه لله ورسوله، وهو بمنزلة الزكاة في الوجوب، فتعطوه من هو له، ممتثلين أمر الله في ذلك، كما في الزكاة.   (1) انظر ((الفتح)) (1/132) وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وهذه الأوامر الأربع: وهي الإيمان، وفسره بشهادة أن لا إله إلا الله. وأما النواهي: فهي أن لا يشربوا في الدباء، وهي: ثمر اليقطين إذا يبس، فإنه يكون كالجرار، وإذا وضع فيه نبيذ التمر، أو غيره أسرع إليه الغليان، فيكون خمراً، وكذلك بقية الأوعية المذكورة. والنقير: وعاء يتخذ من جزوع النخل، ينقر وسطه حتى يصير شبه الجرة. والمزفت: هو المطلي بالزفت، وهو المقير. وأما الحنتم فقال في ((النهاية)) : هي جرار مدهونة خضر، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم توضع فيها، فقيل للخزف كله: حنتم، واحدتها حنتمة. وإنما نهى عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها. وقيل: لأنها كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر، فنهى عنها ليمتنع من عملها، والأول أوجه)) (1) بل هو المتعين. والمراد من الحديث قوله: ((فمرنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو إليها من وراءنا، قال: آمركم بأربع)) فعملهم الذي بسببه يدخلون الجنة، هو فعل لهم، يضاف إليهم حقيقة، وهم يباشرونه، ويعملونه حقيقة باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك هو من خلق الله – تعالى -، فهو داخل في عموم خلقه، وعموم إرادته ومشيئته، لأنه تعالى هو خالقهم وخالق أعمالهم، كما في الحديث الذي رواه البخاري في ((خلق أفعال العباد)) حيث قال: ((فأما أفعال   (1) ((النهاية)) (1/448) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 العباد: فحدثنا علي بن عبد الله، حدثنا مروان بن معاوية، حدثننا أبو مالك، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يصنع كل صانع وصنعته)) فأخبر أن الصناعات، وأهلها مخلوقة. حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة - رضي الله عنه -: ((إن الله خلق كل صانع وصنعته، إن الله خالق صانع الخزم، وصنعته)) (1) . حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((العجز والكيس من القدر)) ، وذكر أحاديث بهذا المعنى ثم قال: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة. قال أبو عبد الله: حركاتهم، وأصواتهم، واكتسابهم، وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين، المثبت في المصحف، فهو كلام الله ليس بخلق)) (2) . 181- قال: ((حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن نافع، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) . 182- ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي   (1) قال الأزهري: قال ابن الأعرابي: الخزم: الخرازون. ثم ذكر هذا الحديث (7/217) ((تهذيب اللغة)) . (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص41-42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 – صلى الله عليه وسلم -: ((إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) . قال في ((اللسان)) : ((في أسماء الله الحسنى: ((المصور)) ، وهو الذي صور جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة، وهيئة مفردة بها، على اختلافها وكثرتها – قال: ((والصورة في الشكل)) (1) . وفي ((متن اللغة)) : ((الصورة: الشكل، والهيئة، والحقيقة)) (2) . وتقدم أن ((المصور)) من أسماء الله الحسنى، وأن التصوير، بمعنى إعطاء كل شيء شكله، الذي هو عليه، من خصائص الله – تعالى -، ولهذا من تشبه به تعالى في ذلك، وصور صور الأحياء، فإن الله يعذبه أشد العذاب. وقد تكاثرت النصوص الدالة على شدة عذاب المصورين، كما في هذين الحديثين. قال عكرمة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنهُمُ اللهُ فِي الدُّنيَا وَالأَخِرَة وَأَعَدَّ لَهُم عَذَاباً مُهِيناً} نزلت في المصورين (3) . وفي ((الصحيحين)) من حديث عبد الله بن مسعود، قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورين)) (4) ، وفي رواية لمسلم: ((إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذاباً المصورين)) . وروى مسلم إلى ابن عباس، قال: جاءه رجل، فقال: إني رجل أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال له: ادن مني، فدنا منه، ثم قال: ادن مني،   (1) ((لسان العرب)) (4/473) . (2) ((متن اللغة)) (4/514) . (3) رواه ابن جرير في ((تفسيره)) (22/44) . (4) انظر: ((الفتح)) (10/382) ، و ((مسلم)) (3/1670) رقم (2109) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 فدنا حتى وضع يده على رأسه. قال: أنبئك بما سمعت من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((المصور في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفساً فتعذبه في جهنم)) (1) . وفي رواية له: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ)) والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة. قوله: ((ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) يقال لهم ذلك تعجيزاً لهم وتعذيباً، يعني: أوجدوا فيه الروح، التي بها الحياة، وليس ذلك بطاقة أحد غير الله – جل وعلا – وهذا لأنهم ذهبوا يتشبهون بالله – تعالى – في التصوير والخلق، فطعنوا بذلك وجاوزوا حدَّهم؛ لأن الله – تعالى – وحده، هو المصور الذي يصور كل حي، ويوجد فيه الروح، فصار جزاء هؤلاء: أن يعذبوا بما لا يطاق، ولا يستطاع، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. والمقصود من الحديث، نسبة الخلق إليهم في قوله: ((أحيوا ما خلقتم)) فالتصوير فعلهم وعملهم، الذي استحقوا عليه العقاب؛ لأنهم فعلوه بطوعهم، واختيارهم، فهو فعلهم حقيقة، والله خالقهم، وخالق أفعالهم، كما تقدم، ومن أجل أن ذلك فعلهم حقيقة جوزوا عليه. ****** 183- قال: ((حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، سمع أبا هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((قال الله – عز وجل – ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو شعيرة)) .   (1) انظر: ((صحيح مسلم)) (3/1671) الحديث رقم (2110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 هذه من الأحاديث القدسية التي يرويها النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – جل وعلا – عن طريق الإلهام، أو المنام، أو بواسطة الملك، وهي مضافة إلى الله – تعالى – قولاً له، ويختلف عنها القرآن، بأنه كلام الله المنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – نزل به الروح الأمين، المتحدى به، أو بسورة منه، المتعبد بتلاوته. قوله: ((ومن أظلم)) يعني: أن فاعل ذلك، ظالم ظلماً لم يبلغه أحد، فهو استفهام يفيد كثرة الظلم، وعظمه، وإنكاره. ومعنى ((ذهب)) : قصد وفعل ذلك. وقوله: ((كخلقي)) يعني: في الصورة فقط، وإلا فلا أحد من الخلق، يقدر أن يوجد حياة فيما يصوره، مهما أوتي من الفكر، والإمكانيات المادية، وغيرها، فلن يستطيع ذلك، ولهذا قال: ((فليخلقوا ذرة)) أي: ليوجدوا فيها الحياة أو ليوجدوها من العدم، وليجعلوا فيها روحاً تحيا بها، وليس هذا بمقدور الخلق ولو اجتمعوا له. ثم انتقل بهم إلى ما هو أسهل من ذلك، وهو الحبة التي تكون بها حياة النبات، فإذا وضعت في الأرض، وسقيت بالماء نبتت بإذن الله، ولن يستطيع المصورون أن يخلقوا تلك الحبة، بل ذلك ليس في مقدور الخلق كلهم. ثم قال: ((وليخلقوا شعيرة)) ، والشعيرة أقل قيمة من الحبة، ولكن فيها من الحياة ما في الحبة، فإذا كان المصورون، وغيرهم الذين يضاهئون الله في خلقه، عاجزين عن خلق الحبة والشعيرة، فضلاً عما فيه روح، فكيف يذهبون يصورون الصور التي فيها مضاهاة لخلق الله – تعالى؟ ولعظيم جرمهم، استحقوا من العذاب، ما لا يكون لسائر أهل الكبائر. والمقصود بالأمر في قوله: ((فليخلقوا ذرة)) إلى آخره، التعجيز وإذلالهم لذلك، وتعذيبهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 ومراد البخاري – رحمه الله – نسبة الخلق إليهم فعلاً لهم حقيقة، مع أنهم مخلوقون لله – تعالى – فالله خالقهم، وخالق أفعالهم، ولكنه جعلهم فاعلين قادرين على فعلهم، باختيارهم وقدرتهم التي خلقها الله فيهم، ولهذا عذبهم على ذلك، ولو لم يكن فعلاً لهم حقيقة ما عذبوا عليه. قال الحافظ: ((الذي يظهر: أن مناسبة ذكر حديث المصورين، لترجمة هذا الباب، من جهة أن من زعم أنه يخلق فعل نفسه، لو صحت دعواه لما وقع الإنكار على هؤلاء، فلما كان أمرهم بنفخ الروح فيما صوروه، أمر تعجيز، ونسبة الخلق إليهم، إنما هي على سبيل التهكم والاستهزاء، دل على فساد قول من نسب خلق فعله إليه استقلالاً)) (1) . والصواب ما تقدمت الإشارة إليه من مراد البخاري – رحمه الله – أن الأفعال المسندة إليهم، أفعال لهم حقيقة، وهي مخلوقة لله – تعالى – فإن الله خالق كل فاعل وفعله، وهو خالق كل شيء، فلا يكون العباد خالقين لأفعالهم استقلالاً وإيجاداً، وإنما هم فاعلون لها، بجعل الله لهم فاعلين، وإقداره لهم على ذلك، فجعل القدرة لهم على فعلها، وأوجد فيهم الإرادة لها والاختيار، فصاروا فاعلين لها بذلك، حيث باشروا الفعل بأنفسهم، فهو فعلهم حقيقة، ولذلك استحقوا عليها الثواب أو العقاب. وقال الكرماني: ((لعل غرض البخاري، في تكثير هذا النوع، في هذا الباب وغيره، بيان جواز ما نقل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن مخلوق – إن صح عنه -)) (2) . قال الحافظ: ((قلت: قد صح عنه أنه تبرأ من هذا الإطلاق، فقال:   (1) ((الفتح)) (13/535) . (2) ((شرح الكرماني)) (25/244) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 ((كل من نقل عني أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق، فقد كذب عليّ، وإنما قلت: أفعال العباد مخلوقة. أخرج ذلك غنجار، في ترجمة البخاري، من تاريخ بخارى، بسند صحيح إلى محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، أنه سمع البخاري يقول ذلك)) (1) ومن طرق أخرى. قال ابن القيم – بعدما ذكر ما ذكره البخاري -: (وقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن. يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر، ولا أقدر، وتعلم، ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فيسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، قال: ويسمي حاجته)) قال الترمذي، هذا حديث حسن صحيح (2) . فقوله: ((إذا هم أحدكم بالأمر)) صريح في أنه في الفعل الاختياري، المتعلق بإرادة العبد، وإذا علم بذلك، فقوله: ((أستقدرك بقدرتك)) أي: أسألك أن تقدرني على فعله، بقدرتك، ومعلوم أنه لم يسأله القدرة المصححة [للفعل] ، التي هي سلامة الأعضاء، وصحة البنية. وإنما سأل القدرة التي توجب الفعل، فعلم أنها مقدرة لله، ومخلوقة له.   (1) ((الفتح)) (13/535) . (2) هو مخرج في ((الصحيحين)) ، وتقدم في هذا الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وأكد ذلك بقوله: ((فإنك تقدر ولا أقدر)) أي: تقدر أن تجعلني قادراً، فاعلاً، ولا أقدر أن أجعل نفسي كذلك، وكذلك قوله: ((تعلم ولا أعلم)) أي: حقيقة العلم بعواقب الأمور، ومآلها، والنافع منها والضار عندك، وليس عندي. وقوله: ((يسره لي)) أو ((اصرفه عني)) ، فإنه طلب من الله تيسيره إن كان له فيه مصلحة، وصرفه عنه إن كان فيه مفسدة، وهذا التيسير والصرف متضمن إلغاء داعية الفعل في القلب، أو إلقاء داعية الترك فيه، ومتى حصلت داعية الفعل، حصل الفعل، [وإذا حصل] داعية الترك امتنع الفعل. وعند القدرية: ترجيح فاعلية العبد على الترك، ليس للرب فيه صنع، ولا تأثير، فطلب هذا التيسير منه لا معنى له عندهم، فإن تيسير الأسباب التي لا قدرة للعبد عليها موجودة، ولو لم يسألها العبد. وقوله: ((ثم رضني به)) يدل على أن حصول الرضا، وهو فعل اختياري من أفعال القلوب،، - أمر مقدور للرب تعالى – وهو الذي يجعل نفسه راضية. وقوله: ((فاصرفه عني، واصرفني عنه)) صريح في أنه سبحانه هو الذي يصرف عبده عن فعله الاختياري، إذا شاء صرفه عنه، كما قال تعالى في حق يوسف: {لِنَصرِفَ عَنهُ السُّوءَ وَالفَحشَاءَ} وصرف السوء والفحشاء: هو صرف دواعي القلب، وميله، فينصرفان عنه بصرف دواعيهما. وقوله: ((واقدر لي الخير حيث كان)) يعم الخير المقدور للعبد من طاعته، وغير المقدور له. فعلم أن فعل العبد للطاعة والخير، أمر مقدور لله – تعالى -، إن لم يقدره الله لعبده، لم يقع من العبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 ففي هذا الحديث الشفاء في مسألة القدر، وأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – الداعي به أن يقدم بين يدي هذا الدعاء ركعتين، عبودية منه بين يدي نجواه، وأن يكونا من غير الفريضة؛ ليتجرد فعلهما لهذا الغرض المطلوب. ولما كان الفعل الاختياري متوقفاً على العلم، والقدرة، والإرادة، لا يحصل إلا بها، توسل الداعي إلى الله – تعالى – بعلمه، وقدرته، وإرادته التي يفعل بها من فضله. وأكد هذا المعنى بتجرده، وبراءته من ذلك، فقال: ((إنك تعلم، ولا أعلم، وتقدر، ولا أقدر)) ، وأمر الداعي أن يعلق التيسير بالخير، والصرف بالشر، وهو علم الله – سبحانه – تحقيقاً للتفويض إليه، واعترافاً بجهل العبد بعواقب الأمور كما اعترف بعجزه. ((ففي هذا الدعاء إعطاء العبودية حقها، وإعطاء الربوبية حقها، والله المستعان)) (1) . **********   (1) ((شفاء العليل)) (ص110-111) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 قال: ((باب قراءة الفاجر، والمنافق، وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم)) . الفاجر هو: الخارج عن الطاعة، فيشمل الكافر والفاسق. وأما المنافق، فهو: الذي يظهر خلاف ما يبطن، وأعظم ذلك الكفر والتكذيب، فمن أبطن الكفر والتكذيب، فهو المنافق النفاق الأكبر، وإن تنوع ذلك. وقوله: ((وتلاوتهم)) مبتدأ، وخبره جملة: ((لا تجاوز حناجرهم)) والجملة من المبتدأ والخبر حال. وهذا الباب كسابقه مما مر ذكره، يريد به التفرقة بين التلاوة والمتلو، وأن التلاوة من عمل التالي، وعمل العباد متفاوت، فمنه المقبول المرفوع إلى الله - تعالى -، ومنه المردود الذي لا يجاوز فم قائله، وعمل البر المتقي ليس كعمل الفاجر، والمنافق، وعمل الشيطان الذي يسترق السمع من الملائكة، وأخيه الكاهن ليس كعمل الملك. فهذا التفاوت يدل على أنه عملهم، وعملهم كله مخلوق، ولهذا قال - رحمه الله - في ((خلق أفعال العباد)) : وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة المنافقين والفجار، فبين ما يتآكلون بقراءتهم، فلا يرتابن أحد في خلق المنافقين وأصحاب الجحيم وأعمالهم. حدثنا عبيد الله - هو أبو قدامة - ابن سعيد، حدثنا حماد بن زيد، قال: من قال: كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر. حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثني بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس التجيبي حدثه، أنه سمع أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يخلف قوم من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غياً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 ثم يكون خلف يقرءون القرآن، لا يعدو تراقيهم. ويقرأ ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر)) . فقال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به)) . ثم قال: ((ومما يدل على أصوات العباد)) (1) : قول النبي – صلى الله عليه وسلم – وأكثر منافقي أمتي قرآؤها)) . فعد قراءة المعطلة، والجهمية، وأهل الأهواء، وغيرهم. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يقرأ القرآن رجال، يمرقون من الدين، لا يجاوز حلوقهم، هم شر الخلق والخليقة)) . وقال: ((يتعجلونه، ولا يتأجلونه)) (2) . وهذا يبين مراده من هذا الباب هنا. قال الحافظ: ((التلاوة متفاوتة بتفاوت التالي، فيدل على أنها من عمله)) (3) . ***** 184- قال: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس، عن أبي موسى – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، والذي لا يقرأ كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها)) .   (1) يعني: أنها مخلوقة لله – تعالى – مثل سائر المخلوقات. (2) ((خلق أفعال العباد)) (ص193-194) . (3) ((الفتح)) (13/536) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 ضرب الأمثال يراد به تقريب المعنى إلي الفهم. والمقصود بالمثل هنا: الوصف والحال, فالمؤمن طيب في نفسه, وما من عمل يكون طيبا, فلهذا جعل - صلى الله عليه وسلم – مذاقه طيبا، ورائحته التي تتعدى إلى من حوله طيبة, وإن كان المقصود بهذا الحديث من يحمل القرآن ويقرؤه, فغير القراءة من الأعمال يلتحق بها. فإذا كان حامل القرآن مؤمنا, عاملا به, صادف محلا قابلا, فأثمر. والأترجة, تجمع طيب المذاق, وطيب الرائحة ,وحسن المنظر ,وطيب نكهتها ,وجودة الهضم ,وفيها منافع أخرى, فناسب تمثيل المؤمن القارئ للقرآن بها. قال الحافظ: ((وقع في رواية شعبة، عن قتادة: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به)) وهي زيادة مفسرة للمراد، وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن، ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر، ونهي، لا مطلق التلاوة)) (1) . قوله: ((والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها)) يعني بالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن: هو الذي لا يحفظه، ولا يتلوه، فالإيمان بالله ورسله وما جاءت به طيب، ومذاقه حلو، ولكن إذا آمن بالقرآن، وعمل به، وهو لا يقرؤه، فاتته الرائحة الطيبة، والله – تعالى – يجمع الطيبين فيسكنهم دار الطيبات، كما يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه فيجعله في جهنم. قال الحافظ: ((قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة)) (2) .   (1) ((الفتح)) (9/67) . (2) ((الفتح)) (9/66) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 قوله: ((ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر)) . الفاجر أصله ومذاقه مر خبيث، وإذا قرأ القرآن كان ما يصدر منه من القراءة طيب، ولكن مصدر القراءة خبيث، ومثل القراءة بالرائحة التي يدركها من حوله، فلما كان هذا العمل طيباً، صار مثل الرائحة الطيبة، الصادرة من محل خبيث، مؤذ، ضار، وإن كان ينتفع برائحته. قوله: ((ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها)) يعني: اجتمع فيه خبث الأصل، وخبث العمل، فلا نفع فيه لنفسه ولا لغيره، بل هو ردىء مؤذ في نفسه، ولا علم له ينتفع به. قال النووي: ((فيه فضيلة حافظ القرآن، واستحباب ضرب الأمثال لإيضاح المقاصد)) (1) . والمقصود بقارئ القرآن، من حفظه، وتعاهده بكثرة التلاوة؛ للوقوف على أسرار معانيه، والعمل بأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لا مجرد الحفظ والتلاوة. وكلام الله – تعالى – له تأثير في باطن العبد، وظاهره، إذا كان مؤمناً به، والعباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك، وهو المؤمن المتقي التالي له، ومنهم من لا نصيب له البتة، وهو المنافق، ومن تأثر ظاهره دون باطنه فذلك المرائي)) (2) . والمراد منه للباب: أن هذا التفاوت، في وصف المؤمن القارئ، وغير القارئ، والفاجر والمنافق، يدل على أن ذلك عملهم، تفاوت بالإيمان مع   (1) ((شرح مسلم)) (6/83) . (2) ((مكمل إكمال الإكمال)) ملخصاً (2/415) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 القراءة وعدمها، وبالفجور والنفاق مع القراءة وعدمها، فإذا كان ذلك بعملهم، فأعمالهم كلها مخلوقة، كما تقدم إيضاح ذلك. ******** 185- قال: ((حدثنا علي، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري. ح. وحدثني أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة رضي الله عنه: سأل أناس النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكهان؟ فقال: ((إنهم ليسوا بشيء)) فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً، قال: فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه، كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة)) . قوله: ((سأل أناس النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الكهان)) جاء في ((صحيح مسلم)) ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا، قال: ((تلك الكلمة الحق، يخطفها الجني، فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة)) (1) . فالسؤال وقع عما يخبرون به، فلهذا قال: ((ليسوا بشيء)) أي: أخبارهم باطلة وكذب، ليست شيئا واقعا، فلما قالوا: إنهم يصدقون أحيانا، أخبر أن ذلك الصدق، هو القليل الذي يخطفه الشيطان، المسترق للسمع، من الملك الذي يتكلم بالوحي، فيلقيه في أذن وليه من الإنس، الذي هو الكاهن، ويكذب معها مائة كذبة.   (1) انظر ((صحيح مسلم)) (4/1750) رقم (2228) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 ويجوز أنهم سألوا عن حكمهم، وعن إتيانهم، كما في ((صحيح مسلم)) أن معاوية بن الحكم قال: يا رسول الله، كنا نأتي الكهان، قال: ((فلا تأتوا الكهان)) (1) . والكهان هم: الذين يخبرون عن المستقبل غالباً، استناداً إلى أسباب خفية، من اتصالهم بالجن، الذين يسترقون السمع من الملائكة، وهو الأصل عندهم، وقد تكون أخبارهم وهمية. ويطلق اسم الكاهن على كل من يتعاطى علم الغيب، أو يحكم بغير ما أنزل الله (2) . وفي كليات أبي البقاء: ((الكاهن هو: من يخبر بالأحوال الماضية، والعراف: من يخبر بالأحوال المستقبلة)) (3) . وقال الخطابي: ((الكهنة: قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية؛ فألفتهم الشياطين؛ لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل إليه قدرتهم. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية، خصوصاً في العرب؛ لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف. منها: ما يتلقونه من الجن، فإن الجن يركب بعضهم بعضاً، إلى أن يسمع أعلاهم شيئا من كلام الملائكة، كما وصف ذلك في الحديث، وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جداً، كما في أخبار شق، وسطيح، وغيرهما من كبار الكهان، وأما في الإسلام، فقد ندر ذلك جداً حتى يكاد يضمحل. ومنها: ما يخبر الجني به من يواليه، مما غاب عن غيره، مما لا يطلع عليه الإنسان غالباً، أو يطلع عليه من قرب منه.   (1) المصدر المذكور (4/1749) رقم (2227) . (2) انظر ((الفتح)) (10/216) . (3) ((كليات أبي البقاء)) (4/129) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 ومنها: ما يستند إلى التجربة، والعادة، فيستدل على الحادث، بما وقع قبل ذلك، وقد يكون ذلك بنوع من السحر، أو بنوع يضاهي السحر، مثل: الزجر، والطرق، والنظر في النجوم. ومنها: ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وقد يبتلي الله – تعالى – بهذا النوع بعض الناس، فيقع له ما ظنه، فيكون ذلك فتنة له، ولغيره مع كثرة الكذب فيه (1) . قوله: فقالوا: يا رسول الله. فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً)) أي: إن الكهان يخبرون بالأمر، فيقع مثل ما أخبروا به. فالحق: هو الخبر المطابق للواقع، يعني: الصدق. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – جواباً على هذا الإيراد: ((تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني)) أي: أن الحق الذي يقع في خبر الكاهن، يكون مما خطفه الجني، الذي هو الشيطان مسترق السمع، من الملائكة الذين يكونون في السحاب، فيتحدثون بينهم فيما أوحاه الله إليهم، فيخطف الجني الكلمة منهم. ((فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة)) أي: يرددها مثل ترديد الدجاجة صوتها، بترجيع، وزمزمة، ولهذا صارت أخبار الكهان كذلك. وهو يرددها لتستقر في ذهنه ويحفظها، هذا إذا لم يصبه الشهاب، الذي يرسله الله عليه، فأحياناً يقتله الشهاب، وقد يذهب بعقله، وقد يسلم. وسمى الكاهن ولياً للشيطان؛ لأنه يطيعه ويتولاه، أو أراد العموم في الكاهن والمنجم، والعراف، ونحوهم ممن يتولى الشياطين. قال الخطابي: ((يبين – صلى الله عليه وسلم – أن إصابة الكاهن أحياناً، إنما هي لأن الجني   (1) ((الفتح)) مع بعض التصرف (10/217) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 يلقى إليه الكلمة، التي يسمعها استراقا من الملائكة، فيزيد عليها أكاذيب، يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادراً، وخطؤه الغالب)) (1) . ((فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة)) أي: الشياطين يخلطون مع الكلمة الواحدة من الحق، التي سمعوها من الملائكة، أكثر من مائة كذبة، ومع ذلك يصدقهم الناس، من أجل أنهم يصيبون في واحد من أخبارهم، البالغة أكثر من مائة، والباقي كله كذب، وهذا من العجائب، ومما يدل على حب النفوس للباطل، وإلا كيف يصدق، وهو إذا صدق مرة واحدة، كذب أكثر من مائة مرة؟! قال الحافظ: ((والذي يظهر لي من مراد البخاري: أن تلفظ المنافق بالقرآن كما يتلفظ به المؤمن، فتختلف تلاوتهما، والمتلو واحد، فلو كان المتلو عين التلاوة، لم يقع فيه تخالف، وكذلك الكاهن، في تلفظه بالكلمة من الوحي، التي يخبره بها الجني، مما يختطفه من الملك تلفظه بها، وتلفظ الجني مغاير لتلفظ الملك؛ فتفاوتا)) (2) . قلت: هذا بعض ما أراده البخاري – رحمه الله -، وتمامه: أن هذا التفاوت المذكور بينهم، يدل على أن التلفظ عمل لهم، وهم وأعمالهم مخلوقون، كما تقدم إيضاح ذلك، والله أعلم. 186- قال: ((حدثنا أبو النعمان، حدثنا مهدي بن ميمون، سمعت محمد بن سيرين يحدث، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون   (1) ((الفتح)) (10/220) . (2) ((الفتح)) (13/536) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه)) . قيل: ما سيماهم؟ قال: ((سيماهم التحليق – أو قال: التسبيد -)) . هذا الحديث تقدم في باب قوله تعالى: {تَعرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليهِ} ، وتقدم شرحه هنا، إلا أن هذه الرواية فيها ما ليس في تلك، فنبين ما لم يتقدم، فمن ذلك قوله: ((يخرج ناس من قبل المشرق)) . المراد: مشرق المدينة، وهو العراق أو قربه، وقد خرجوا فيه كما هو معلوم، وقاتلهم علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه – وقتل معظمهم، ولكنهم لم يزل يخرج منهم طوائف، حتى صار لهم أسوأ الأثر على الأمة الإسلامية. ومن ذلك قوله: ((ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه)) أي: المكان الذي خرج منها لما رمي به، ومعنى ذلك: أنهم لا يعودون إلى الإسلام أبداً، وهذا شأن أهل الأهواء، والبدع؛ لأنهم يرون أن ما هم عليه هو الحق، ومن عداهم فهو على الباطل؛ فهم الذين زين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنة. وقوله: ((سيماهم التحليق)) أي: علامتهم أنهم يحلقون رؤوسهم. ((والتسبيد)) : هو التحليق، أو المبالغة فيه، وقيل: هو ترك غسل الشعر ودهنه، وقال الكرماني: هو: استئصال الشعر)) (1) . وقد ذكروا، أن السلف لم يكونوا يحلقون رؤوسهم إلا في النسك، أو الحاجة. ولا يلزم أن يكون الحلق علامة على الخوارج في جميع الأزمنة، فإن عادات   (1) انظر شرحه (25/248) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 الناس تتغير، وتختلف. والمراد من الحديث: أن قراءة هؤلاء لا تجاوز تراقيهم، والترقوة: هي العظم الناتئ في أعلى الصدر، وأسفل الرقبة، ولكل واحد ترقوتان. والمعنى: أن القرآن لا يصل إلى قلوبهم، فلا يفقهونه، ولا يؤثر فيهم، مع أنهم يحفظونه، ويتلونه فتلاوتهم لا تنفعهم، بخلاف المؤمنين المتقين، فإنهم إذ تلوا آيات الله زادتهم إيماناً، فهم يزدادون إيمانا بعملهم، ثم يجزيهم الله على ذلك أفضل الجزاء؛ لأن ذلك عملهم، أما المذكورون في هذا الحديث، فلم ينتفعوا بفهم كتاب الله، فيدخل الإيمان في قلوبهم، وإنما يتلونه بألسنتهم ولا يصل إلى القلوب، فلم يتأثروا بآيات الله تقى، ولا علماً، ولا إيماناً، فعملهم مردود؛ لأنه لا أثر له في نفوسهم، فلم يمتثلوا أمر الله وما أريد منهم، ولم ينتفعوا بعملهم، وهذا يدل على أن التلاوة التي انتفع بها المتقون، ولم تنفع هؤلاء، أنها عملهم الذي يجزون عليه، وأعمالهم مخلوقة لله من سائر المخلوقات، وهذا المطلوب. ****** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 قال: ((باب قول الله تعالى: {وَنضَعُ المَوازِينَ القِسطَ لِيَومِ القِيامَةِ} وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن)) . معنى وضع الموازين: إحضارها، والقسط: العدل. قال الكرماني: ((القسط: مصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، أي: الموازين العادلات. وجمع باعتبار العباد، وأنواع الموزونات. {لِيَومِ القِيامَةِ} أي: في يومها. وقال الزجاج: أي: نضع الموازين ذوات القسط، وفائدة ذلك إظهار العدل، والمبالغة في الإنصاف، والإلزام، قطعاً لأعذار العباد)) (1) . وقال الخازن: {وَنضَعُ المَوازِينَ القِسطَ} أي: ((ذوات العدل، وصفها بذلك؛ لأن الميزان قد يكون مستقيماً، وقد يكون بخلافه، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل)) (2) . ((وقال الزجاج: المعني: ونضع الموازين ذوات القسط، والقسط العدل، وهو مصدر يوصف به، يقال: ميزان قسط، وميزانان قسط، وموازين قسط)) (3) . قال ابن كثير: ((الأكثر على أنه ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة)) (4) . قال الحافظ: ((اختلف في ذكر الميزان بلفظ الجمع، هل المراد: أن لكل شخص ميزاناً، أو لكل عمل ميزان؟ فيكون الجمع على ظاهره، أو ليس هناك   (1) ((شرح الكرماني)) (25/248) . (2) ((تفسير الخازن)) (4/296) . (3) ((الفتح)) (13/538) . (4) ((تفسير ابن كثير)) (5/339) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 إلا ميزان واحد، والجمع باعتبار تعدد الأعمال، والأشخاص؟ والذي يترجح، أنه ميزان واحد، ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله؛ لأن أحوال يوم القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا)) (1) . ((قال أبو إسحاق الزجاج، أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان، وكفتان، ويميل بالأعمال. وأنكرت المعتزلة الميزان. وقالوا: هو عبارة عن العدل. فخالفوا الكتاب، والسنة؛ لأن الله - تعالى - أخبر أنه يضع الموازين، لوزن الأعمال؛ ليرى العباد أعمالهم ممثلة، ليكونوا على أنفسهم شاهدين)) (2) . قلت: وإنكار المعتزلة ونحوهم للميزان، وأن الأعمال توزن يوم القيامة، هو سبب النص، على وجوب الإيمان به، في عقائد أهل السنة، وإلا فهو من جملة ما اشتمل عليه اليوم الآخر، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، لا يتم لأحد إيمان إلا به. قوله: ((وأن أعمال بني آدم وقولهم يوزن)) يعني: أن كل ما يصدر من بني آدم، ويترتب عليه الجزاء، فهو يوزن؟ لأنهم متعبدون لله مكلفون بما أراده منهم، فراقبهم الله على ذلك، فإذا حضروا لديه يوم القيامة، جازاهم أتم الجزاء، وأظهر عدله في حكمه عليهم، حتى يعذروا من أنفسهم. ومراد البخاري - رحمه الله - أن أعمال بني آدم وأقوالهم، مخلوقة لله   (1) ((الفتح)) (13/537-538) . (2) ((الفتح)) (13/538) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 - تعالى -؛ فلهذا توزن، فيجازون عليها، ومن ذلك قراءتهم القرآن، وذكرهم لله - تعالى - بالتسبيح والتحميد والتهليل، كما يأتي في الحديث. قال ابن المنير: ((جمع البخاري في هذه الترجمة بين فوائد: منها: وصف الأعمال بالوزن. ومنها: إدراج الكلام في الأعمال، لأنه لما وصف الكلمتين بالخفة على اللسان والثقل في الميزان، دل على أن الكلام عمل يوزن. ومنها: أنه ختم كتابه بهذا التسبيح، وقد ورد في الحديث ما يدل على استحباب ختم المجالس بالتسبيح، وأنه كفارة لما لعله يتفق في أثناء الكلام، مما ينبغي هجره، وهذا نظير كونه بدأ كتابه بحديث ((الأعمال بالنيات)) فكأنه تأدب في فاتحته وخاتمته، بآداب السنة والحق. فالأدب في الابتداء: إخلاص القصد والنية، وفي الانتهاء: مراقبة الخواطر ومناقشة النفس على الماضي، والاعتماد في تكفير ما لعله يحتاج إلى تكفير، بما جعله الشرع مكفراً للهفوات (1) . قال الحافظ: ((الظاهر أن أعمال بني آدم وأقوالهم كلها توزن، لكن خص من ذلك طائفتان: الأولى: الكفار الذين ليس لهم حسنات، فهم يقعون في النار من غير حساب ولا ميزان، كما قال تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيامَةِ وَزناً} (2) . الثانية: المؤمنون الذين لا سيئات لهم، ولهم حسنات كثيرة، فهم يدخلون الجنة بغير حساب، كما في حديث السبعين ألفا، وهم الذي يمرون على الصراط كالبرق الخاطف، أو كلمح البصر، أو كالريح (3)   (1) ((المتواري)) (ص432-433) . (2) الآية 105 من سورة الكهف. (3) ((الفتح)) (13/538) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 قوله: ((وقال مجاهد: القسطاس: العدل، بالرومية)) . يعني: أن هذه عربت فصارت عربية، وأنكر بعض العلماء أن يكون في القرآن شيء من غير العربية، وهذا حق؛ لأن ما عرب، وأدخل في اللغة، يكون منها. قال الإمام الطبري: ((كل ما ذكر عن أهل التفسير من الكلمات، أنها بلسان الحبشة، أو الروم، أو الفرس، أو غيرهم، معناه: اتفاق اللسانين فيها)) (1) . ((ويقال: القسط: مصدر المقسط، وهو العادل)) . قال الأزهري: ((قال الليث، القسط بكسر القاف: العدل، والفعل منه: أقسط، بالألف. والقسط: بفتح القاف: الجور. يقال: قسط يقسط قسطاً، وقسوطاً. والقسط بكسر القاف: النصيب، وقال الله – تعالى -: {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} ، قال الفراء: هم الجائرون، الكفار. وأما المقسطون: [فهم] العادلون، المسلمون)) (2) . قال الحافظ: ((وقد اعترض على البخاري في قوله: ((القسط مصدر المقسط)) ؛ لأن مصدر المقسط: الإقساط، قال ابن بطال، والكرماني: إنه أراد بالمصدر ما حذفت زوائده كقول الشاعر: وإن أهلك فذلك قدري. يقصد: تقديري، فرد إلى أصله)) (3) .   (1) انظر مقدمة تفسيره. (2) ((تهذيب اللغة)) (8/388) ، وانظر ((معاني القرآن)) للفراء (3/193) . (3) ((الفتح)) (13/540) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 وقيل: إن القسط من الأضداد، أي: يأتي للعدل، وللجور. ((وأما القاسط فهو الجائر)) . تقدم كلام الفراء فيه. ***** 187- قال: ((حدثنا أحمد بن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) . والمراد بالكلمتين: الجملتان، ((فسبحان الله وبحمده)) جملة تامة، و ((سبحان الله العظيم)) كذلك، ففيه إطلاق الكلمة على الكلام، وهو كثير. وقوله: ((حبيبتان إلى الرحمن)) فيه: أن الله تعالى يحب بعض الكلام، وبعض العمل أكثر من غيره، ومحبة الله من صفاته، التي يجب أن تثبت له، على ما يليق بعظمته، ولا يجوز تأويل محبته، وتحريف الكلم فيها عن مواضعه، كفعل أهل البدع. وقد مضى القول في ذلك. ((خفيفتان على اللسان)) أي: عند النطق بهما لا تثقلان اللسان، ولا تكلفه؛ لسهولة حروفهما، وخفتهما على اللسان، مع ما فيهما من الثواب العظيم، ومحبة الرحمن – عز وجل – لهما، فخليق بالعبد أن يكثر منهما، وهذا يوضح مراد المؤلف – رحمه الله – وهو: أن تكلم العبد، وتلفظه، ونطقه بالكلام، من عمله الذي يجزى عليه، وعمله كله مخلوق، مع أنه لا يجوز أن يقال: إن هاتين الكلمتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 ((سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) أنهما مخلوقتان، وإنما المخلوق فعل العبد وعمله، وكذا تلاوة التالي، هي فعله وعمله، يجازى عليها، وتوضع في الميزان، أما المتلو، فهو كتاب الله وكلامه، وهو غير مخلوق. فهاتان الكلمتان توزنان، ويثقل بهما الميزان، وهذا دليل واضح، على أن تكلم العبد بالذكر وبالقرآن، عمل له يثاب عليه، ويوضع في ميزانه، ليعطيه الله أجره عليه وافراً غير منقوص، ونحن نردد هذا المعنى ونكرره؛ لأن المؤلف – رحمه الله – صنع ذلك، كما سبق أن ذكرناه. وقد أجمع السلف على أن أعمال العباد مخلوقة، كما سبق، وهذا هو المقصود من الحديث الذي أراده المؤلف؛ لأن ما يوضع في الميزان فهو مخلوق؛ لأنه من عمل العبد، وما يتلمس من مقاصد غير هذا، هي تابعة لهذا، وليست مقصودة لذاتها. قوله: ((ثقيلتان في الميزان)) قال الحافظ: ((هو موضع الترجمة؛ لأنه مطابق لقوله: ((وأن أعمال بني آدم توزن)) (1) ، وما يوزن، فهو عمل للعبد وهو مخلوق. ((سبحان الله وبحمده)) قال الأزهري: ((قال الليث: سبحان الله، تنزيه لله، عن كل ما لا ينبغي له أن يوصف به [ونصب على المصدر] ، تقول: سبحت الله تسبيحاً، أي: نزهته تنزيها، وكذلك روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم -. قال الزجاج: ((سبحان)) في اللغة: تنزيه لله – عز وجل – عن السوء. قلت: وهذا قول سيبويه. يقال: سبحت الله تسبيحا وسبحانا، بمعنى واحد، فالمصدر ((تسبيح)) ، والاسم ((سبحان)) يقوم مقام المصدر.   (1) ((الفتح)) (13/540) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 قلت: ومعنى تنزيه الله من السوء: تبعيده منه، وكذلك تسبيحه: تبعيده، من قولك: سبحت في الأرض: إذا أبعدت فيها. ومنه قوله – جل وعز -: {كُلُُُُُ ُ فِي فَلَكٍ يَسبَحُونَ} ، وكذلك قوله: {وَالسَابِحَاتِ سَبحاً} هي: النجوم تسبح في الفلك، أي تذهب فيه بسطاً، كما يسبح السابح في الماء. وكذلك السابح من الخيل، يمد يديه في الجري سبحاً، كما يسبح السابح في الماء. وجماع معناه: بعده تبارك وتعالى عن أن يكون له مثل أو شريك أو ضد، أو ند)) (1) . وقال الحافظ: ((معنى التسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص. فيلزم نفي الشريك، والصاحبة، والولد، وجميع الرذائل، ويطلق التسبيح، ويراد به جميع ألفاظ الذكر. ويطلق، ويراد به صلاة النافلة. و ((سبحان)) : اسم مصدر منصوب على أنه واقع موقع المصدر، لفعل محذوف، تقديره: سبحت الله سبحاناً، كسبحت الله تسبيحاً، ولا يستعمل غالبا إلا مضافاً)) (2) . قوله: ((وبحمده)) . قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبح الله متلبساً بحمدي له، من أجل توفيقه. وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبح الله، وأتلبس بحمده، ويحتمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم، والتقدير: وأثني عليه بحمده، فتكون ((سبحان الله)) جملة مستقلة، ((وبحمده)) جملة أخرى. قال الخطابي في حديث: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك)) أي: بقوتك   (1) ((تهذيب اللغة)) (4/338-339) . (2) ((الفتح)) (11/206) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 التي هي نعمة، توجب عليّ حمدك، سبحتك، لا بحولي، وقوتي)) (1) . قوله: ((سبحان الله العظيم)) أعاد التسبيح للتكرير والمبالغة في تنزيهه تعالى، والإكثار من ذكره تعالى، وهو من أفضل الأعمال. ووصفه بالعظمة؛ ليستحضر أنه أهل التسبيح ومستحقه دائماً، وأن العبد لن يؤدي حقه، مهما أكثر من تسبيحه، وعبادته. ((قال ابن بطال: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر، إنما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال، كالطهارة من الحرام والمعاصي العظام، فلا تظن أن من أدمن الذكر، وأصر على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله – تعالى – وحرماته، أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم، بكلام أجراه على لسانه، ليس معه تقوى، ولا عمل صالح)) (2) . قال الكرماني: ((هذا الكلام من جوامع الكلم، وفيه امتثال لقوله تعالى: {فَسَبِح بِحَمدِ رَبِكَ} ، وتفسير له، ولما كان ذلك مندوبا إليه، عند أواخر المجالس، جعل البخاري – رحمه الله تعالى كتابه كمجلس علم؛ فختم به. وذكر هذا الباب هنا ليس مقصوداً بالذات، بل هو لإرادة أن يكون آخر كلامه تسبيحاً وتحميداً)) (3) . قلت: بل الظاهر: أنه مقصود بالذات، مع ما أشار إليه الكرماني، وتقدم بيان ذلك.   (1) ((الفتح)) (13/541) . (2) ((الفتح)) (13/541) . (3) ((شرح الكرماني)) (25/251) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 قال الحافظ نقلا عن شيخه البلقيني: ((لما كان أصل العصمة أولاً وآخراً، هو توحيد الله - تعالى - ختم بكتاب التوحيد، وكان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر: ثقل الموازين وخفتها، جعله آخر تراجم الكتاب، فبدأ بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) وذلك في الدنيا، وختم بأن الأعمال توزن يوم القيامة، وأشار إلى أنه إنما يثقل منها، ما كان بالنية الخالصة لله - تعالى -. وفي الحديث الذي ذكره، ترغيب وتخفيف، وحث على الذكر المذكور، لمحبة الرحمن له. والخفة بالنسبة لما يتعلق بالفعل، والثقل بالنسبة لإظهار الثواب. وجاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم، وهو أن حب الرب سابق، وذكر العبد وخفة الذكر على لسانه تال، ثم بين ما فيها من الثواب العظيم، النافع يوم القيامة)) انتهى (1) . قال الحافظ: ((والذي يظهر: أنه قصد ختم كتابه بما دل على وزن الأعمال؛ لأنه آخر آثار التكليف، فإنه ليس بعد الوزن، إلا الاستقرار في إحدى الدارين، إلى أن يريد الله - تعالى - إخراج من قضى بتعذيبه من الموحدين، فيخرجون من النار بالشفاعة، كما تقدم. قال الكرماني: وأشار أيضاً، إلى أنه وضع كتابه قسطاساً، وميزاناً يرجع إليه، وأنه سهل على من يسره الله - تعالى - عليه. وفيه إشعار بما كان عليه المؤلف في حالتيه، أولاً وآخراً، تقبل الله - تعالى - منه، وجزاه أفضل الجزاء)) (2) .   (1) ((الفتح)) (13/542) . (2) ((الفتح)) (13/542) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 قلت: كل هذه الأمور، إن كانت مقصودة للبخاري - رحمه الله تعالى - فإنها جاءت تبعاً لما ذكر، من أن مراده: بيان خلق أفعال العباد، وأصواتهم وكلامهم، فإنها توزن، فيجازون عليها، وأن تلفظهم بالقرآن، والذكر والتسبيح، من أعمالهم، والعباد وأعمالهم من مخلوقات الله - تعالى - فإنه خالق كل شيء. والله أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين. **** الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704