الكتاب: التعريف بعلم العلل المؤلف: هشام بن عبد العزيز الحلاف.   المعيد في قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.   السبت 23/ 3/1424هـ   [الكتاب مرقم آليا] ---------- التعريف بعلم العلل هشام الحلاف الكتاب: التعريف بعلم العلل المؤلف: هشام بن عبد العزيز الحلاف.   المعيد في قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.   السبت 23/ 3/1424هـ   [الكتاب مرقم آليا] التعريف بعلم العلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فإن علوم السنة النبوية من أجل العلوم قدراً، وأعظمها شرفاً وذكراً، وأكثرها ثواباً وأجراً. وأجل علومها فائدة ونفعاً علم (علل الحديث) ، لأن من شروط صحة الحديث انتفاء علله القادحة فيه. قال الخطيب البغدادي: (معرفة علل الحديث أجلّ أنواع علم الحديث) . ولأهمية هذا العلم وعظيم فائدته فقد أحببت التعريف به _ وقد كنت وعدت بذلك سابقاً والحمد لله على تيسيره _. وسيشمل التعريف بهذا العلم على جل مباحثه، ومعظم مسائله، إن شاء الله تعالى. وسيقسم على هيئة فصول، وكل فصل قد يجمع مسألة أو أكثر. أسأل الله أن ينفع بهذا البحث كاتبه وقارئه، وأن يجعل ذلك في موازين حسناتنا أجمعين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. كتبه أخوكم: هشام بن عبد العزيز الحلاف. المعيد في قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. السبت 23/3/1424هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 الفصل الأول: تعريف العلة. المسألة الأولى: تعريف العلة في اللغة. ذكر أهل اللغة في كتبهم معنى العلة، وجلهم يذكر أنها بمعنى المرض. لكن وجدت أشمل من ذكر معانيها وأوضح مبانيها هو ابن فارس في كتابه معجم مقاييس اللغة، فإنه قال: (عل: العين واللام أصول ثلاثة صحيحة: أحدها: تكرار أو تكرير. والثاني: عائق يعوق. والثالث: ضعف في الشيء. فالأول: العلل هو الشربة الثانية، ويقال: علل بعد نهل، ويقال: أعل القوم إذا شربت إبلهم عللا، قال ابن الأعرابي في المثل: "ما زيارتك إيانا إلا على سوم عالة"، أي مثل الإبل التي تعل، وإنما قيل هذا لأنها إذا كرر عليها الشرب كان أقل لشربها الثاني. والثاني: العائق يعوق، قال الخليلي: (العلة حدث يشغل صاحبه عن وجهه، ويقال: اعتله عن كذا أي إعتاقه، قال فاعتله الدهر وللدهر علل) . والثالث: العلة المرض، وصاحبها معتل، قال ابن الأعرابي: (علّ المريض: يعل فهو عليل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 المسألة الثانية: تعريف العلة في اصطلاح المحدثين. تبين لي من خلال النظر في كتب العلل واستعمال الأئمة لها وتعاريفهم إياها أن مصطلح العلة يُستعمل عندهم باستعمالين: عام وخاص. العلة بالمعنى الخاص: فأما العلة بمعناها الخاص فهي سبب خفي يقدح في صحة الحديث. وأول من وجدته قد أبان عن هذا المعنى بوضوح هو أبو عبد الله الحاكم، حيث قال في معرفة علوم الحديث _في النوع السابع والعشرين منه _: (وإنما يُعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واهٍ، وعلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فيخفى عليهم علمه فيصير معلولاً) . وهذا هو معنى قول عبد الرحمن بن مهدي: (لئن أعرف علة حديث عندي أحب إلي من أكتب عشرين حديثاً ليس عندي) . ثم جاء بعده ابنُ الصلاح _ وقد حررَّ كلامَ الحاكم السابق _ فقال في مقدمته: (وهي (أي العلة) عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه، فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها) . قال ابن حجر: (فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع _مثلاً _ معلولاً، ولا الحديث الذي راويه مجهول أو مضعف معلولاً، وإنما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك مع كونه ظاهر السلامة من ذلك. وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود) . وقال ابن حجر _ أيضاً _: (وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيداً في تعريف المعلول، فقرأت في المقنع للشيخ سراج الدين ابن الملقن قال: ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث أن المعلول: أن يروي عمن لم يجتمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه، أو تختلف جهتهما كأن يروي الخراساني مثلاً عن المغربي ولايُنقل أن أحدهما رحل عن بلده. قلت (أي ابن حجر) : وهو تعريف ظاهر الفساد، لأن هذا لا خفاء فيه، وهو بتعريف مدرك السقوط في الإسناد أولى) . وكل من جاء بعد ابن الصلاح _ممن عرف الحديث المعلول _ هو على ما قاله ابن الصلاح، وعندهم أن الحديث المعلول يُشترط فيه شرطين: الأول: أن تكون العلة في الحديث خفية غامضة. الثاني: أن تكون العلة قادحة في صحة الحديث. ولذا قال الذهبي في الموقظة: (فإن كانت العلة غير مؤثرة، بأن يرويه الثبت على وجه، ويخالفه واه، فليس بمعلول. وقد ساق الدارقطني كثيراً من هذا النمط في كتاب العلل فلم يصب، لأن الحكم للثبت) . وقال ابن حجر معقباً على تعريف ابن الصلاح للحديث المعلول: (وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود) . قلت: ولاشك في خطأ قصر تعريف الحديث المعلول على ما ذكره ابن الصلاح، لأنني وجدت الأئمة المتقدمين قد أطلقوا العلة بمعنى أعم مما سبق _كما سيأتي _، وقد اقرّ بهذا ابن الصلاح كما سنورد كلامه بعد قليل. وإنما أراد الحاكم في تعريفه للحديث المعلول بيان أدق صوره وأغمض أنواعه _ وعلى هذا المعنى وردت عبارات للأئمة ذكروا فيها صعوبة هذا العلم وغموضه ودقته _ ولذلك أورد الحاكم بعد تعريفه السابق قول عبد الرحمن بن مهدي: (لئن أعرف علة حديث عندي أحب إلي من أكتب عشرين حديثاً ليس عندي) . العلة بالمعنى العام: والناظر في كلام أئمة الحديث _ والمتقدمين منهم خاصة _ يجدهم يطلقون العلة في الحديث بمعنى أعم مما تقدم فالعلة عندهم هي كل سبب يقدح في صحة الحديث سواء كان غامضاً أو ظاهراً، وكل اختلاف في الحديث سواء كان قادحاً أو غير قادح. قال ابن الصلاح بعد أن عرف العلة بالمعنى الخاص: (ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث، المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل. ولذلك تجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ ونحو ذلك من أنواع الجرح. وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث. ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف، نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط، حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول! ، كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ! . والله أعلم) . قال ابن حجر متعقباً كلام ابن الصلاح السابق: (مراده بذلك أن ما حققه من تعريف المعلول قد يقع في كلامهم ما يخالفه، وطريق التوفيق بين ما حققه المصنف وبين ما يقع في كلامهم أن اسم العلة إذا أُطلق على حديث لا يلزم منه أن يسمى الحديث معلولاً اصطلاحاً. إذ المعلول ما علته قادحة خفية، والعلة أعم من أن تكون قادحة أو غير قادحة، خفية أو واضحة. ولهذا قال الحاكم: " وإنما يعل الحديث من أوجه ليس فيها للجرح مدخل) . قلت: وقول ابن حجر: (أن اسم العلة إذا أُطلق على حديث لا يلزم منه أن يسمى الحديث معلولاً اصطلاحاً) بعيد، وإلا فماذا يسمى حينئذ؟! وكلام ابن الصلاح صحيح، والأمثلة كثيرة جداً على ما ذكره ابن الصلاح من وجود أنواع من الجرح في كتب العلل. وقد يذكرون الحديث في كتب العلل لا لوجود جرح في أحد رواتها! وإنما من أجل عدم سماع راو من آخر،كما في علل ابن أبي حاتم: (138) . بل وجدت ابن أبي حاتم أورد في كتابه العلل أحاديث لأغراض أخرى! فأورد أحاديث من أجل الاستفهام عن أحد الرواة الواردين في الإسناد من هو؟! : (295، 660، 693، 1108 وغيره) . أو للسؤال عن نسب راو: (1718، 2593) . أو لأجل تعيين مبهم: (2740) . بل أعجب من هذا إدخاله حديثاً من أجل ما أشكل فيه من جهة العقيدة وما المراد به! : (2118) . أو لأجل استنباط حكم فقهي قد يكون غريباً: (1217) !! ولذا قال الصنعاني بعد أن ذكر تعريف ابن الصلاح: (وكأن هذا تعريف اغلبي للعلة، وإلا فإنه سيأتي أنهم قد يعلون بأشياء ظاهرة غير خفية ولا غامضة، ويعلون بما لا يؤثر في صحة الحديث) . وقد حاول السخاوي أن يخرج وجود العلل التي ليست بخفية في كتب العلل فقال: (ولكن ذلك منهم (أي من أصحاب كتب العلل الذين يذكرون ما ليس بخفي) بالنسبة للذي قبله قليل، على أنه يُحتمل أيضاً أن التعليل بذلك من الخفي، لخفاء وجود طريق آخر ينجبر بها ما في هذا من ضعف، فكأن المعلل أشار إلى تفرده) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فائدتان: الفائدة الأولى: في قول ابن الصلاح: (وسمى الترمذي النسخ علة) . قلت: وقد أخذه ابن الصلاح من قول الترمذي في علله الصغير: (جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به ما خلا حديثين، وقد بينا (علة) الحديثين جميعاً في الكتاب) . قال ابن رجب في شرحه لهذه الجملة: (فإنما بين ما قد يُستدل به للنسخ لا أنه بين ضعف إسنادهما) . وقال الزركشي: (لعل الترمذي يريد أنه علة في العمل بالحديث، لا أنه علة في صحته، لاشتمال الصحيح على أحاديث منسوخة، ولا ينبغي أن يجري مثل ذلك في التخصيص) . وقال ابن حجر: (مراد الترمذي أن الحديث المنسوخ مع صحته إسناداً ومتناً طرأ عليه ما أوجب عدم العمل به وهو الناسخ، ولا يلزم من ذلك أن يسمى المنسوخ معلولاً اصطلاحاً كما قررته) . قلت: وقد تقدم ما في كلام ابن حجر من نظر في حصره للحديث المعلول بما وقعت فيه العلة على اصطلاح المتأخرين. وفي كلام ابن الصلاح السابق ما يشير إلى تفرد الترمذي بتسمية النسخ علة، وليس الأمر كذلك! فقد وجدت ابن أبي حاتم أورد في كتابه العلل حديثين ليس فيهما علة سوى النسخ! وانظر: (رقم 114، 246) . الفائدة الثانية: أفرد المتأخرون ممن كتبوا في علوم الحديث أبواباً ومصطلحات حديثية، وهي في حقيقة الأمر داخلة في العلل، كالاختلاف في الوصل والإرسال والرفع والوقف والمقلوب والمدرج والمضطرب وزيادة الثقة والشاذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 المسألة الثالثة: علاقة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي. هناك علاقة بين المعنيين تظهر لنا فيما يلي: فعلاقة المعنى الاصطلاحي بالمعنى اللغوي الأول وهو التكرار ظاهرة، لأن الحديث المعلول لا يتبين فيه سبب الضعف إلا بعد تكرار النظر فيه، لأنه _كما سبق _ فيه خفاء، ولذا لا بد من تكرار النظر في الحديث حتى تتبين سلامته من العلل الخفية. وأما علاقة المعنى الاصطلاحي بالمعنى اللغوي الثاني وهو العائق يعوق، فإن الحديث المعلول عاقته العلة عن تصحيحه والعمل به. وأما علاقة المعنى الاصطلاحي بالمعنى اللغوي الثالث وهو المرض فهي علاقة ظاهرة أيضاً، وذلك أن العلة إذا طرأت في الحديث أوجبت ضعفه. والظاهر مما سبق إيراده أن أقرب هذه المعاني إلى اصطلاح المحدثين هو المعنى الثالث. إلا أن للمعنيين الآخرين علاقة بالعلة عند المحدثين، فالمعنى اللغوي الأول يدخل في وسيلة تحصيل العلة، والمعنى الثاني هو نتيجة وثمرة وجود العلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 المسألة الرابعة: ما هو القياس في الحديث الذي طرأت عليه العلة؟ القياس في الحديث الذي طرأت عليه علة (بمعنى المرض) أن يسمى (مُعَلّ) لأنه اسم مفعول من الفعل أعلّ. إلا أن المحدثين استعملوا (معلول) ، وممن استعملها منهم: 1_ البخاري في قصته المشهورة مع مسلم لما سأله عن علة حديث كفارة المجلس، وانظر مثالاً آخر في: علل الترمذي (1/206) . 2_ والترمذي في سننه: (1/163) (3/427) . 3_ وأبوداود في رسالته لأهل مكة (34) . 4_ وابن خزيمة كما في السنن الكبرى للبيهقي (3/198) . 5_ والعقيلي في ضعفائه (1/252) (2/83، 139) (3،81) . 6_ وابن حبان في صحيحه (3/408) (4/483) (5/180،342) (6/428) (8/302) . 7_ والحاكم في معرفة علوم الحديث (59، 115) . 8_ وأبونعيم في مستخرجه على صحيح مسلم: (1/48) . 9_ والخليلي في الإرشاد (1/157،322، 378) (2/809) . 10_ وابن عبد البر في التمهيد (16/237) . 11_ والبيهقي في سننه الكبرى (1/197) (4/143) (10/257) . وقد اختلف أهل اللغة في جواز هذا الاستعمال: فذهب بعضهم إلى منعه، وممن منعه من أهل اللغة: _ ابن سيده (ت 458هـ) صاحب المحكم حيث قال: (والعلة: المرض. علّ يعِل واعتل، وأعله الله، ورجل عليل. وحروف العلة والاعتلال: الألف والياء والواو، سميت بذلك للينها وموتها. واستعمل أبو إسحاق لفظة المعلول في المتقارب من العروض … .) . ثم قال: (والمتكلمون يستعملون لفظة المعلول في هذا كثيراً، وبالجملة فلست منها على ثقة ولا ثلج، لأن المعروف إنما هو أعله الله فهو معل. اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم: مجنون ومسلول من أنه جاء على جَنَنتُه وسَلَلته، وإن لم يُستعملا في الكلام استغني عنهما بأفعلت، قال: وإذا قالوا: جُن وسُلَّ فإنما يقولون جعل فيه الجنون والسل كما قالوا: حُزِن وفُسِل) . _وقال الحريري (ت 516هـ) _ كما في درة الغواص في أوهام الخواص _: (ويقولون للعليل: هو معلول، فيخطئون فيه، لأن المعلول هو الذي سقي العَلَل وهو الشرب الثاني، والفعل منه علَلْتُه، فأما المفعول من العلة فهو مُعَلَّ، وقد أعلّه الله تعالى) . _وقال الفيروزأبادي: (العلة _ بالكسر _: المرض، علّ يَعِلّ، واعتل وأعله الله تعالى فهو مُعَلّ وعليل، ولا تقل: معلول، والمتكلمون يقولونها، ولست منه على ثلج) . وتبعهم بعضُ المحدثين في تخطئة من يقول (معلول) : _قال ابن الصلاح في معرفة أنواع علم الحديث _ المشهور بمقدمة ابن الصلاح _: (النوع الثامن عشر: الحديث المعلل، ويسميه أهل الحديث المعلول، وذلك منهم ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس: (العلة والمعلول) = مرذول عند أهل العربية واللغة) . وتبعه النووي والعراقي والأبنوسي والسيوطي. وذهب بعض أهل اللغة إلى جواز استعمال (معلول) في اللغة: قال الزركشي: (والصواب أنه يجوز أن يُقال: علّه فهو معلول، من العلة والاعتلال، إلا أنه قليل. ومنهم من نص على أنه فعل ثلاثي وهو ابن القوطية في كتاب الأفعال، فقال: (علّ الإنسان علة مرض، والشيء أصابته العلة) انتهى. وكذلك قاله قطرب في كتاب فعلت وأفعلت، وكذلك الليلي، وقال أحمد صاحب الصحاح: (علّ الشيء فهو معلول من العلة) . ويشهد لهذه العلة قولهم: عليل، كما يقولون قتيل وجريح، وقد سبق نظير هذا البحث في المعضل. وظهر بما ذكرناه أن قول المصنف (مرذول) أجود من قول النووي في اختصاره (لحن) لأن اللحن ساقط غير معتبر البتة بخلاف المرذول) . وقال العراقي: (واعترض عليه (أي على ابن الصلاح) بأنه قد حكاه جماعة من أهل اللغة، منهم: قطرب فيما حكاه اللبلي، والجوهري في الصحاح، والمطرزي في المغرب) . وقال البلقيني: (فائدة: لا يُقال ليست مرذولة، حكاها صاحب الصحاح والمطرزي وقطرب، ولم يترددوا، وتبعهم غير واحد. لأنا نقول: المستعمل عند المحدثين والفقهاء والأصوليين إنما يقصدون به أن غيره أعله، لا أنه عُلّ بنفسه. والذي ذكره الجوهري: (عُلّ الشيء فهو معلول، وما ذكره في أول المادة من أن علّه الثلاثي يتعدى فذاك في السقي (أي بمعنى سقاه) ، وحينئذ فصواب الاستعمال: المعلل إذا كان من أُعلّ) . والذي يظهر لي هو جواز استعمال (معلول) في وصف الحديث الذي طرأت عليه العلة، وذلك لأمور: الأول: أنه قد أجاز هذا الاستعمال بعض كبار أئمة اللغة كقطرب والجوهري والمطرزي وابن القوطية وغيرهم، ولذا لم يجزم ابن سيده بخطأ هذا الاستعمال. ولذا قال السخاوي: (إلا أن مما يساعد صنيع المحدثين ومن أشير إليهم استعمال الزجاج اللغوي له، وقول صاحب الصحاح: علّ الشيء فهو معلول يعني من العلة، ونص جماعة كابن القوطية في الأفعال على أنه ثلاثي … ) . الثاني: أن له مخرجاً لغوياً. قال الفيومي في المصباح المنير: (العلة: المرض الشاغل، والجمع عِلل مثل سدرة وسدر، وأعله الله فهو معلول، قيل: من النوادر التي جاءت على غير قياس، وليس كذلك فإنه من تداخل اللغتين، والأصل أعله الله فهو معلول، أو من علّه فيكون على القياس، وجاء معل على القياس لكنه قليل الاستعمال) . الثالث: أن المحدثين استعملوا (معلول) والذي هو اسم مفعول لـ (علّ) بمعنى التكرار = استعملوه اسماً مفعولاً لـ (أعلّ) بمعنى المرض _ والتي لا يصح عند أهل اللغة استعمال معلول منها _. ولعل هذا جائز نظراً لأن أصل الكلمتين واحد، ولوجود علاقة بين معنى الكلمتين، فإن معنى الكلمة الأولى وهو التكرار هو وسيلة لكشف العلة المأخوذ تعريفها من المعنى الثالث وهو المرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فائدة: أيهما أولى استعمال معلول أو معلل؟ استعمال (معلول) أولى من استعمال بعض المحدثين (كابن الصلاح ومن جاء بعده) لـ (معلل) ، إذ أن (معلل) اسم مفعول لـ (عَلَّلَ) وهو بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به، وهذا لا يناسب المعنى الذي أراده المحدثون إلا بتجوز. ولذا انتقد هذا الاستعمال بعض المحدثين، وممن انتقده: الزركشي حيث قال: (وأما قول المحدثين: علله فلان بكذا، فهو غير موجود في اللغة، وإنما هو مشهور عندهم بمعنى ألهاه بالشيء وشغله، من تعليل الصبي بالطعام. لكن استعمال المحدثين له في هذا المعنى على سبيل الاستعارة) . وقال العراقي: (والأحسن أن يقال فيه: معل بلام واحدة، لا معلل، فإن الذي بلامين يستعمله أهل اللغة بمعنى ألهاه بالشيء وشغله به، من تعليل الصبي بالطعام، وأما بلام واحدة فهو الأكثر في كلام أهل اللغة، وفي عبارة أهل الحديث أيضاً، لأن أكثر عبارات أهل الحديث في الفعل أن يقولوا: أعله فلان بكذا، وقياسه معل، وتقدم قول صاحب المحكم أن المعروف إنما هو أعله الله فهو معل، وقال الجوهري: لا أعلك الله أي لا أصابك بعلة) . وتبعهما على ذلك السخاوي وزكريا الأنصاري والصنعاني وطاهر الجزائري. ولولا خشية الإطالة لذكرت كلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الفصل الثاني: طرق معرفة العلة. لما كانت العلة سبباً خفياً غامضاً كان لا بد من وجود طرق ترشد إلى وجودها، ووسائل تعين على الوقوف عليها، ومن خلال كلام العلماء في هذا العلم وممارستي له تبين لي أنه لا بد من عدة خطوات حتى يمكن معرفة سلامة الحديث من العلة أو وجودها فيه. وإليك هذه الخطوات: أولاً: جمع طرق الحديث: وقد كان المحدثون يهتمون بذلك ويؤكدون عليه: قال أحمد: (الحديث إذا لم تُجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً) . وقال علي بن المديني: (الباب إذا لم تُجمع طرقه لم يتبين خطؤه) . وقال عبد الله بن المبارك: (إذا أردت أن يصح لك الحديث فاضرب بعضه ببعض) . ولهذا قال يحيى بن معين: (اكتب الحديث خمسين مرة، فإن له آفات كثيرة) . وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه) . وقال أيضاً: (لو لم نكتب الحديث من مائة وجه ما وقعنا على الصواب) . وقال أبوحاتم الرازي: (لو لم يُكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه) . وكان بعض الحفاظ يقول: (إن لم يكن الحديث عندي من مائة طريق فأنا فيه يتيم) . وللمحدثين في ذلك الأخبار الكثيرة، ومن ذلك: قال ابن حبان: (سمعت محمد بن إبراهيم بن أبي شيخ الملطي يقول: جاء يحيى بن معين إلى عفان ليسمع منه كتب حماد بن سلمة، فقال له: سمعتها من أحد؟ قال: نعم، حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد بن سلمة، فقال: والله لا حدثتك. فقال: إنما هو درهم وانحدر إلى البصرة وأسمع من التبوذكي، فقال: شأنك. فانحدر إلى البصرة وجاء إلى موسى بن إسماعيل، فقال له موسى: لم تسمع هذه الكتب من أحد؟! قال: سمعتها على الوجه من سبعة عشر نفساً وأنت الثامن عشر! . فقال: وماذا تصنع بهذا؟ فقال: إن حماد بن سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطأه من خطأ غيره، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء علمت أن الخطأ من حماد نفسه، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم بخلافه، علمت أن الخطأ منه لا من حماد، فأميز بين ما أخطأ هو بنفسه وبين ما أخطئ عليه) . ثانياً: الموازنة بين الطرق: وفي هذه الخطوة يتم المقارنة بين طرق الحديث بعد جمعها، فإن اتفقت الطرق ولم يوجد بينها اختلاف علمنا حينئذ سلامة الحديث من العلة. قال ابن حجر: (السبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف (أي ابن الصلاح) عن الخطيب: أن يُجمع طرقه، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته، وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف) . قلت: وإن وجد اختلاف بين هذه الطرق (كالاختلاف بين الوصل والإرسال والوقف والرفع ونحوه) فلابد حينئذ من تحديد الراوي الذي اختلف عليه ومعرفة الأوجه التي رويت عنه، ثم يكون الترجيح بين هذه الطرق بقرائن كثيرة لا يمكن حصرها. قال العلائي: (ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن، الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده، والله أعلم) . وقال ابن الصلاح: (ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه) . وهناك أحاديث ليس فيها اختلاف في طرقها، وإنما تدرك علتها بأمور أخرى: قال ابن رجب: (حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك. وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه إلى أهله، إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الفصل الثالث: أقسام العلة وأنواعها. يمكن تقسيم العلة بعدة اعتبارات: أ_ تقسيم العلة بحسب تأثيرها. فالعلة بحسب تأثيرها على قسمين: 1_علة قادحة: وهي العلة التي يُضعّف الحديث من أجلها. 2_وعلة غير قادحة: وهي العلة التي لا يُضعف بها الحديث. ب_ تقسيم العلة بحسب محلها. فالعلة بحسب محلها على قسمين أيضاً: 1_ علة في الإسناد: وهي العلة التي تقع في إسناد الحديث. 2_ علة في المتن: وهي العلة التي تقع في متن الحديث. وسيأتي أمثلة للتقسيمين السابقين في التقسيم الثالث. ج_ تقسيم العلة بحسب تأثيرها ومحلها معاً. من خلال التقسيمين السابقين يمكن لنا ظهور هذا التقسيم الثالث، وهذا التقسيم هو الذي ذكره ابن حجر في نكته على ابن الصلاح فإنه قال: (إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح وقد لا تقدح، وإذا قدحت فقد تخصه وقد تستلزم القدح في المتن. وكذا القول في المتن سواء. فالأقسام على هذا ستة: _ فمثال ما وقعت العلة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً: ما يوجد مثلاً من حديث مدلس بالعنعنة، فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله، فإذا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها بالسماع تبين أن العلة غير قادحة. وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته، فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أن تلك العلة غير قادحة. _ ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المتن: ما مثّل به المصنف من إبدال راو ثقة براو ثقة، وهو بقسم المقلوب أليق. _ فإن أبدل راو ضعيف براو ثقة وتبين الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة. _ ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما: ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين إذا أمكن رد الجمع إلى معنى واحد، فإن القدح ينتفي عنها. _ ومثال ما وقعت العلة فيه في المتن واستلزمت القدح في الإسناد: ما يرويه راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ والمراد بلفظ الحديث غير ذلك، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي فيعلل الإسناد. _ ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد: ما ذكره المصنف (أي ابن الصلاح) من أحد الألفاظ الواردة في حديث أنس وهي قوله (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها) فإن أصل الحديث في الصحيحين، فلفظ البخاري (كانوا يفتتحون بالحمدلله رب العالمين) ، ولفظ مسلم في رواية له نفي الجهر، وفي رواية أخرى نفي القراءة) . انتهى ما ذكره الحافظ ابن حجر باختصار يسير. د_ تقسيم العلة بحسب صورها. وقد قسمها أبوعبد الله الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث (113) إلى عشرة أقسام، ولم يذكر تعريفاً لكل نوع وإنما اكتفى ببيان أمثلة لكل نوع. وجاء السيوطي بعده في تدريب الراوي (1/258) وذكر هذه الأنواع باختصار معرفاً لكل نوع منها، فقال: (وقد قسم الحاكم في علوم الحديث أجناس المعلل إلى عشرة، ونحن نلخصها هنا بأمثلتها. أحدها: أن يكون السند ظاهره الصحة وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه. كحديث موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك واتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك. فروى أن مسلما جاء إلى البخاري وسأله عنه فقال هذا حديث مليح إلا أنه معلول حدثنا به موسى بن إسمعيل ثنا وهيب ثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله وهذا أولى لأنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل. الثاني أن يكون الحديث مرسلاً من وجه رواه الثقات الحفاظ، ويسند من وجه ظاهره الصحة. كحديث قبيصة بن عقبة عن سفيان عن خالد الحذاء وعاصم عن أبي قلابة عن أنس مرفوعاً أرحم أمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر الحديث. قال فلو صح إسناده لأخرج في الصحيح، إنما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة مرسلاً. الثالث أن يكون الحديث محفوظاً عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته كرواية المدنيين عن الكوفيين. كحديث موسى بن عقبة عن أبي إسحق عن أبي بردة عن أبيه مرفوعا إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة. قال هذا إسناد لا ينظر فيه حديثي إلا ظن أنه من شرط الصحيح، والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين زلقوا، وإنما الحديث محفوظ عن رواية أبي بردة عن الأغز المزني. الرابع: أن يكون محفوظاً عن صحابي فيروي عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته بل ولا يكون معروفا من جهته. كحديث زهير بن محمد عن عثمان بن سليمان عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. قال أخرج العسكري وغيره هذا الحديث في الوحدان وهو معلول، أبو عثمان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا رآه، وعثمان إنما رواه عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، وإنما هو عثمان بن أبي سليمان. الخامس: أن يكون روى بالعنعنة وسقط منه رجل دل عليه طريق أخرى محفوظة. كحديث يونس عن ابن شهاب عن علي بن الحسين عن رجل من الأنصار أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرمى بنجم فاستنار الحديث. قال وعلته أن يونس مع جلالته قصر به، وإنما هو عن ابن عباس حدثني رجال، هكذا رواه ابن عيينة وشعيب وصالح والأوزاعي وغيرهم عن الزهري. السادس: أن يختلف على رجل بالإسناد وغيره ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد. كحديث علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال قلت يا رسول الله مالك أفصحنا؟ الحديث. قال وعلته ما أسند عن علي بن خشرم حدثنا علي بن الحسين بن واقد بلغني أن عمر فذكره. السابع: الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله. كحديث الزهري عن سفيان الثوري عن حجاج بن فرافصة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم. قال وعلته ما أسند عن محمد بن كثير حدثنا سفيان عن حجاج عن رجل عن أبي سلمة فذكره. الثامن: أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع منه لكنه لم يسمع منه أحاديث معينة فإذا رواها عنه بلا واسطة فعلتها أنه لم يسمعها منه. كحديث يحيى ابن أبي كثير عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيت قال أفطر عندكم الصائمون الحديث. قال فيحيى رأى أنسا وظهر من غير وجه أنه لم يسمع منه هذا الحديث، ثم اسند عن يحيى قال حدثت عن أنس فذكره. التاسع: أن تكون طريقه معروفة يروي أحد رجالها حديثاً من غير تلك الطريق فيقع من رواه من تلك الطريق بناء على الجادة في الوهم. كحديث المنذر بن عبد الله الحزامي عن عبد العزيز بن الماجشون عن عبد الله دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال سبحانك اللهم الحديث. قال أخذ فيه المنذر طريق الجادة، وإنما هو من حديث عبد العزيز حدثنا عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي. العاشر: أن يروي الحديث مرفوعاً من وجه وموقوفاً من وجه. كحديث أبي فروة يزيد بن محمد حدثنا أبى عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا من ضحك في صلاته يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. قال وعلته ما أسند وكيع عن الأعمش عن أبي سفيان قال سئل جابر فذكره. قال الحاكم وبقيت أجناس لم نذكرها وإنما جعلنا هذه مثالا لأحاديث كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الفصل الرابع: أهمية علم علل الحديث. إن علم علل الحديث هو أجل علوم الحديث شرفاً وذكرا، وأعظمها فخراً وخطرا، وأرفعها منزلةً وقدرا، وأهمها في بيان درجة الحديث صحةً وضعفاً. قال الخطيب البغدادي: (معرفة علل الحديث أجلّ أنواع علم الحديث) . وقال ابن كثير: (وهو فن خفي على كثير من علماء الحديث! ، حتى قال بعض حفاظهم: (معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل) . وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة النقاد منهم، يميزون بين صحيحه وسقيمه، ومعوجه ومستقيمه، كما يميز الصيرفي البصير بصناعته بين الجياد والزيوف، والدنانير والفلوس، فكما لا يتمارى هذا، كذلك يقطع ذاك بما ذكرناه، ومنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث، وذوقهم حلاوة عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس) . وقال ابن حجر: (وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غايضاً واطلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك) . قلت: وذلك لأن من شروط صحة الحديث وسلامته انتفاء العلل القادحة فيه، فالقوادح الظاهرة البينة يدركها كل أحد، أما الخفي منها فلا يُدرك إلا لمن آتاه الله ملكة قوية في الفهم وإتقاناً في الحفظ. فميدان علم العلل هو تمحيص أحاديث الثقات، وكشف ما يعتريها من وهم وخطأ ـ إذْ ليس يسلم من الخطأ أحد ـ. أما أحاديث الضعفاء والمتروكين فأمرهم هّين، ووضوح خطئهم بّين. قال الحاكم: (وإنما يُعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له على فيخفى عليه علمهم فيصير الحديث معلولاً) . ومما يدلك على أهمية هذا العلم وصعوبته: أنه ربما توقف الناقد في حديث ما لخفاء علته فلا يقف عليها إلا بعد مدة طويلة. قال الخطيب البغدادي: (فمن الأحاديث ما تخفى علته، فلا يُوقف عليها إلا بعد النظر الشديد ومضي الزمن البعيد) ، ثم أسند عن علي بن المديني أنه قال: (ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة!!) . _بل ربما خفيت هذه العلة على إمام ناقد وأدركها إمام آخر: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن حنبل وفضل الأعرج عن هشام بن سعيد أبي أحمد الطالقاني عن محمد بن مهاجر عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمى ـ وكانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سموا أولادكم أسماء الأنبياء، وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة، وارتبطوا الخيل، وامسحوا على نواصيها وقلدوها ولا تقلدوها الأوثان) . قال أبي: سمعت هذا الحديث من فضل الأعرج وفاتني من أحمد، وأنكرته في نفسي، وكان يقع في قلبي أنه أبو وهب الكلاعي ـ صاحب مكحول ـ وكان أصحابنا يستغربون، فلا يمكنني أن أقول شيئاً لما رواه أحمد. ثم قدمت حمص فإذا قد حدثنا ابن المصفى عن أبي المغيرة قال حدثني محمد بن مهاجر قال حدثني عقيل بن سعيد عن أبي وهب الكلاعي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي حاتم: وحدثنا به أبي مرة أخبرني قال: حدثنا هشام عن عمار بن يحيى بن حمزة عن ابن وهب عن سليمان بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال أبي: فعلمت أن ذلك باطل، وعلمت أن إنكاري كان صحيحاً. (ثم ذكر أبو حاتم أن أباوهب الكلاعي يروي عن التابعين) ثم قال: فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل كيف خفي عليه؟! فإني أنكرته حين سمعت به قبل أن أقف عليه … ) . ولأجل هذا كان الناقد منهم يفرح إذا ظفر بعلة حديث. قال عبد الرحمن بن مهدي: (لأن أعرف علة حديث هو عندي أحب إلّي من أكتب عشرين حديثاُ ليس عندي) . بل ربما تحمل المشاق والمصاعب من أجل معرفة علة حديث واحد! قال نصر بن حماد: كنا بباب شعبة نتذاكر الحديث فقلت: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر قال: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتناوب رعاية الإبل، فرحت ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه فسمعته يقول: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل المسجد فصلى ركعتين واستغفر الله غفر الله له) . قال: فما ملكت نفسي أن قلت: بخٍ بخٍ، قال: فجذبني رجل من خلفي فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا ابن عامر الذي قال قبل أن تجيء أحسن، قلت: ما قال فداك أبي وأمي؟ قال: قال: من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فتحت له ثمانية أبواب من الجنة من أيها شاء دخل) . قال: فسمعني شعبة فخرج إليّ فلطمني لطمة!! ثم دخل ثم خرج، فقال: ما له يبكي؟! فقال عبد الله بن إدريس: لقد أسأت إليه، فقال: أما تسمع ما يحدث عن إسرائيل عن أبي اسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر! وأنا قلت لأبي اسحاق: أسمع عبد الله بن عطاء من عقبة بن عامر؟ قال: لا. وغضب، وكان مسعر بن كدام حاضراً فقال لي مسعر: أغضبت الشيخ، فقلت: ما له ليصححن لي هذا الحديث أو لأسقطن حديثه! فقال مسعر: عبد الله بن عطاء بمكة، فرحلت إليه ولم أرد الحج إنما أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته، فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، فقال لي مالك بن أنس: سعد بن إبراهيم بالمدينة لم يحج العام، فدخلت المدينة فلقيت سعد ابن إبراهيم فسألته، فقال: الحديث من عندكم، زياد بن مخراق حدثني، فقلت: أي شيء هذا الحديث! بينا هو كوفي صار مكياً صار مدنياً صار بصرياً!! فدخلت البصرة، فلقيت زياد بن مخراق فسألته، فقال: ليس هذا من بابتك، قلت: بلى قال: لا تريده، قلت: أريده، قال: شهر بن حوشب حدثني عن أبي ريحانة عن عقبة بن عامر، قال: فلما ذَكر لي شهراً قلت: دمّر على هذا الحديث! لو صحّ لي هذا الحديث كان أحبّ إلّي من أهلي ومن مالي ومن الدنيا كلها!!) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ولخفاء هذا العلم وغموضه، وصعوبة الخوض فيه لغير أهله المتخصصين فيه = كان نقاد الحديث يصرحون دائما بأن خفايا علمهم ودقائق فنهم لا تدركها كثير من الأفهام: قال عبد الرحمن بن مهدي: (معرفة الحديث إلهام، لو قلت للعالم يُعَلِّل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة) . قال ابن نمير: (صدق لو قلت من أين؟ لم يكن له جواب) . قال السخاوي بعد أن نقل عبارة ابن مهدي (لم يكن له حجة) : (يعني يعبر بها غالباً، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والرفض) . ويقول عبد الرحمن بن مهدي ـ أيضاً ـ: (إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة) . وقال أبو داود السجستاني: (وربما أتوقف عن مثل هذه ـ أي عن بيان العلل ـ لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا) . ولهذا كانوا يشبهون معرفتهم بهذا العلم ـ لمن هو ليس من أهله ـ بمعرفة الصيرفي للذهب: قال الخطيب البغدادي: (المعرفة بالحديث ليست تلقيناً، وإنما هو علم يحدثه الله في القلب. ثم قال: أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا يعرف جودة الدينار والدراهم بلون ولا مس ولا طراوة ولا دنس ولا نقش ولا صفةٍ تعود إلى صغر أو كبر ولا إلى ضيق أو سعة، وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البَهرج والزائف والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه عِلم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به) . قال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول: (معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم) . وقال أحمد بن صالح: (معرفة الحديث بمنزلة الذهب ـ وأحسبه قال: الجوهر ـ إنما يُبصره أهله، وليس للبصير فيه حجة إذا قيل له: كيف قلت إن هذا بائن يعني جيداً أو رديئاً) . وقال علي بن المديني: أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة _ لا أسميه _ حديثاً، قال: فغضب له جماعة، قال: فأتوه فقالوا: يا أبا سعيد، من أين قلت هذا في صاحبنا؟ قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال انتقد لي هذا، فقال: هو بهرج، فيقول له: من أين قلت لي إنه بهرج؟ الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم) . وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى رحمه الله يقول: (جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم ومعه دفتر فعرضه عليّ. فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ، قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت: وفي بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح. فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو! ، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب. فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب. قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلتَ؟ قلت: نعم. قال هذا عجب. فأخذ فكتب في كاغذ ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث، فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: هو كذب. قلت: الكذب والباطل واحد. وما قلت: إنه كذب، قال أبو زرعة: هو باطل. وما قلت: إنه منكر، قال هو: منكر، كما قلت. وما قلت إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح. فقال: ما اعجب هذا تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما!! فقلت: فقد (كذا!) ذلك أنالم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا. والدليل على صحة ما نقوله بأن دينار نبهرجاً يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار هو جيد. فان قيل له: من أين قلت إن هذا نبهرج، هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلت إن هذا نبهرج؟! قال: علماً رُزقت. وكذلك نحن رُزقنا معرفة ذلك. قلت له: فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين، فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت. فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج وأن هذا ياقوت، هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟! قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رُزقت. وكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بان هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر، إلا بما نعرفه. قال أبو محمد (وهو ابن أبي حاتم) : تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويُعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه بالماء والصلابة عُلم أنه زجاج. ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله اعلم) . قال السخاوي _ بعد أن ذكر القصة السابقة _: (وهو كما قال غيره، أمر يهجم على قلبهم لا يمكنهم رده، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا يُنكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يُطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة! ، هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعنى، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت، مع الفهم وجودة التصور، ومدوامة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضع = يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية، ولا قوة إلا بالله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ولصعوبة هذا العلم ودقته ربما قصرت عبارة المعلل فلا يستطيع أن يعبر عما في نفسه! قال ابن حجر: (وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء) . ولهذا كله لم يتكلم في هذا العلم إلا قلة من فحول المحدثين، وندرة من النقاد المبرزين: قال ابن حجر: (ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك) . بل كان النقاد في أزهى عصور السنة يشتكون من قلة من يحسن هذا العلم ويجيده! : قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنتُ اذكر أحاديث خطأ وعللها، وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم قلَّ من يفهم هذا، ما أعز هذا، إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا، وربما أشك في شيء أو يتخالجنى شيء في حديث فإلى أن التقي معك، لا أجد من يشفينى منه. قال أبي: وكذلك كان أمري) . قال أبو محمد: قلت لأبي: محمد بن مسلم؟ قال: (يحفظ أشياء عن محدثين يؤديها ليس معرفته للحديث غريزة!) . وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وجرى عنده معرفة الحديث فقال: (أبو عبد الله الذي يحدث عنه محمد بن جابر، والذي يحدث عن سعيد بن جبير، وعن مصعب بن سعد، وعن زاذان هو مسلم الجهني، ومسلم البطين أيضاً: يكنى أبا عبد الله، غير أنه لا يحتمل أن يكون مسلم الملائي: يحدث عن مصعب بن سعد وعن زاذان. ثم قال: ذهب الذي كان يحسن هذا _ يعني أبا زرعة _ وما بقى بمصر ولا بالعراق أحد يحسن هذا!! قلت: محمد بن مسلم؟ قال يفهم طرفاً منه!) . فإذا تبين بعد هذا كله رفيع قدر، وجليل مكانته، وصعوبة الخوض فيه إلا لأهله الذين اختصهم الله بذلك، وأنه لم يتكلم فيه إلا أكابر النقاد = علمتَ حينئذ أنه لا بد من أخذ كلامهم في هذا العلم والتسليم لهم بذلك فيه: قال العلائي: (الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة و … وكذلك إلى زمن الدارقطني والبيهقي، ممن لم يجيء بعدهم مساوٍ لهم، بل ولا مقارب! ، فمتى وجد في كلام أحد من المتقدمين الحكم على حديث بشيء كان معتمداً، لما أعطاهم الله من الحفظ العظيم والاطلاع الغزير، وإن اختلف النقل عنهم عُدل إلى الترجيح) . وقال ابن كثير: (أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف رجل أو كونه متروكاً أو كذاباً أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم، ولهذا يقول الإمام الشافعي في كثير من كلامه على الأحاديث: (لا يثبته أهل العلم بالحديث) ويرده ولا يحتج به بمجرد ذلك) . وقال ابن حجر: (فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه. وهذا الإمام الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه، فيقول: (وفيه حديث لم يثبته أهل العلم بالحديث) . وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرح بإثبات العلة، فأما إن وُجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما. وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى ترجيح، والله أعلم) . وقال أيضاً: (وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الفصل الخامس: مصنفات العلماء في علل الحديث. نظراً لقيام بعض الباحثين بتتبع المصنفات المؤلفة في علل الحديث الموجود منها والمفقود (1) ، فإنني سأكتفي ببيان المطبوع منها: 1ـ علل الحديث ومعرفة الرجال لعلي بن المديني (ت 234هـ) ـ رواية ابن البراء ـ له طبعتان، الأولى: بتحقيق: الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، والثانية: بتحقيق محمد مصطفى الأعظمي. 2ـ العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) رواية ابنه عبد الله ـ تحقيق: الدكتور وصي الله عباس. 3ـ العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد بن حنبل ـ رواية المروذي وغيره ـ له طبعتان، الأولى: بتحقيق الدكتور وصي الله عباس، والثانية بتحقيق صبحي البدري السامرائي. 4ـ التمييز الإمام مسلم بن الحجاج ـ تحقيق الدكتور محمد الأعظمي. 5ـ علل الترمذي الكبير ـ بترتيب أبي طالب القاضي ـ (ت 279هـ) ، تحقيق حمزة ديب مصطفى. 6ـ علل الأحاديث في كتاب الصحيح لأبي الفضل ابن عمار الشهيد (ت 317 هـ) ، تحقيق: علي حسن علي عبد الحميد الحلبي. 7ـ علل الحديث لابن أبي حاتم (ت 327 هـ) ، تحقيق: محب الدين الخطيب وقد شرح جزءً منه ابن عبد الهادي، وقد طبع قريباً. 8ـ العلل للدارقطني (ت 385 هـ) ، تحقيق: الدكتور: محفوظ الرحمن زين الله السلفي. 9ـ المنتخب من العلل للخلال لابن قدامة، تحقيق: طارق عوض الله. 10ـ علة الحديث المسلسل في يوم العيدين للحافظ أبي محمد الجرجاني (ت 489هـ) ، تحقيق: الدكتور محمد التركي. 11ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي (ت 597هـ) ، تحقيق: إرشاد الحق الأثري. 12ـ شرح علل الترمذي لابن رجب (ت 795هـ) ، له ثلاث طبعات، الأولى: تحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، والثانية: تحقيق الدكتور نورالدين عتر، والثالثة: بتحقيق صبحي السامرائي. وهناك كتب هي مظان للأحاديث المعلة وفيها نقولات عن أئمة العلل، فمنها: أـ كتب الأحاديث المسندة، مثل: ـ السنن الكبرى للنسائي (ت 313هـ) ـ المسند للبزار (ت 292هـ) . ـ معاجم الطبراني (ت 360هـ) . ب ـ كتب التراجم، مثل: ـ تواريخ البخاري (ت 256هـ) . ـ الضعفاء للعقيلي (ت 321هـ) . ـ الكامل لابن عدي (ت 365هـ) . ج ـ كتب السؤالات، مثل: ـ سؤالات تلامذة أحمد له، كابنه صالح وعبد الله، وكأبي داود والمروذي وابن هانئ وغيرهم. ـ سؤالات تلامذة الدارقطني له، كالبرقاني والسهمي ويحي بن بكير والحاكم وغيرهم. د ـ كتب التواريخ، مثل: ـ التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة (ت 279هـ) وهو مخطوط، وطبع منه قسم أخبار المكيين. ـ تاريخ بغداد للخطيب (ت 463هـ) . ـ تاريخ دمشق لابن عساكر (ت 571هـ) . هـ ـ كتب الأفراد والغرائب، مثل: ـ الأفراد للدار قطني، وقد وصلنا مرتباً على الأطراف لابن القيسراني. الكتب المعاصرة في العلل: قام بعض الباحثين المعاصرين بالكتابة حول هذا العلم والتعريف به، واختلفت مناهجهم فيه، فبعضهم كتب تنظيراً له، وبعضهم قام بدارسة بعض الأحاديث المعلة، إلا أن هذا العلم مازال يحتاج إلى جهود متضافرة لإبراز أهميته وتوضيح معالمه. وإليك ما وجدته: 1ـ الحديث المعلل، إعداد: الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر. 2ـ العلل في الحديث، دراسة منهجية في ضوء شرح العلل لابن رجب، مع ترجمة ضافية لابن رجب، للدكتور: همام عبد الرحيم سعيد. 3ـ الحديث المعلول قواعد وضوابط، للدكتور حمزة عبد الله مليباري. 4ـ علم علل الحديث من خلال كتاب بيان الوهم والإيهام لابن القطان الفارسي، للدكتور إبراهيم بن الصديق الغماري. 5ـ شرح علل الحديث مع أسئلة وأجوبة في مصطلح الحديث، تأليف: أبي عبد الله مصطفى ابن العدوي. وهو كتاب للمبتدئين. 6ـ أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء، تأليف: د/ ماهر ياسن فحل. 7ـ مرويات الزهري المعلة، للدكتور عبد الله دمفو. 8ـ أحاديث معلة ظاهرها الصحة، للشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمة الله.   (1) ذكر الدكتور محفوظ الرحمن في مقدمة تحقيقه لعلل الدارقطني (1/47) خمسين كتاباً، أما الدكتور وصي الله عباس فذكر في مقدمة تحقيقه لمعرفة العلل لأحمد (1/39) ستة وخمسين كتاباً، ثم من جاء بعدهما حاول أن يضيف عليهما، فأضاف الدكتور عبد الله دمفو في مقدمة كتابه مرويات الزهري المعلة (1/86) ثمانية كتب، وأضاف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التويجري في مقدمة تحقيقه للقسم الأول من علل ابن أبي حاتم سبعة كتب، وأضاف الدكتور إبراهيم بن الصديق الغماري في مقدمة كتابه علم علل الحديث من خلال كتاب بيان الوهم والإيهام ثمانية كتب، وأضاف الدكتور محمد التركي في مقدمة تحقيقه لقسم من علل ابن أبي حاتم (1/47) ثمانية كتب. وفي بعض ما ذكروه تكرار، وفي بعضه نظر: لأن بعضهم ذكر بعض الكتب وإنما هي من مظان العلل وليست مخصصة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 هذا ما تيسر كتابته حول علم العلل، ولعل الله أن ييسر كتابة مسائل أخر حول علم العلل أيضاً تجلي بعض جوانبه وتوضح بعض غوامضه. أسأل الله أن ينفع بهذا البحث كاتبه وقارئه، وأن يجعل ذلك في موازين حسناتنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أخوكم: هشام بن عبد العزيز الحلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15